إن لم يأت ليجالسهم ويصاحبهم، فقد جاء يريد حاجة، فما شأن من جاء رغبة منه وحباً للصالحين وإن كان خطاء مقصراً.
الوقفة الرابعة عشرة: الانشغال بما يفيد وما يعني:
حين استيقظ الفتية تساءلوا، (كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) إنه سؤال من الطبيعي أن يصدر منهم في هذا الوقت، فتساءلوا عنه، ثم أدركوا أن النقاش في هذا الأمر لا يفيد، فهم أمام قضية يجب أن ينشغلوا بها ويعتنوا بشأنها، فهم يحتاجون إلى الطعام فليذهب أحدهم إلى المدينة ويختار الطعام المناسب ويأتي به.
وفي التعقيب على هذه القصة يقول تعالى :(سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحداً).
ومع أن هذه الآيات –بل السورة - تؤكد على الانشغال بالقضايا الجادة، وترك الجدل فيما لا يفيد إلا أنك تجد من يستطرد في كلام أسمائهم ولون كلبهم، واسم غارهم، مما لم يتعبدنا الله عز وجل به، إنما علينا أن نعتبر ونتعظ، فالأمر سيان والعبرة واحدة، سواء أكان الكهف هنا أم هناك.
والانشغال بهذه الجوانب التي استأثر الله بعلمها يصرف المرء عن الجانب المهم ألا وهو الاقتداء والاتعاظ والاعتبار.
الوقفة الخامسة عشرة: لقد كانوا أثرياء:
حين استيقظ أهل الكهف أرسلوا أحدهم بالورق –وهو النقد من الفضة- وهذا استنبط منه بعض المفسرين أنهم أبناء طبقة ثرية، ويشهد لذلك أنهم اختاروا الطعام الطيب، وهو في الغالب لا يختاره إلا فئة اعتادت عليه وألفته، وليسوا من الطبقة الفقيرة أو المعدمة، وهذا لا يعني هؤلاء على أولئك.
لكن في القصة عجب، ألا وهو أن هؤلاء الذين يختارون الطعام الطيب الزكي، أين أووا؟ لقد شعروا أن الأرض ضاقت بهم فأووا إلى كهف خشن ضيق قائلين (ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً) كأن هذا الكهف أصبح واسعاً رحباً.
إنه دليل على عظم التضحية والبذل لدى هؤلاء الفتية، وانظر إلى نموذج آخر يتمثل في مصعب ابن عمير رضي الله عنه كان من أعطر فتيان مكة، وكان صاحب ثراء ونعمة، وحين مات لم يجدوا شيئاً يكفنونه به إلا بردة، هي كل ما يملك، ومع ذلك فهذه البردة لم تكن كافية لتغطي جسده كله، يصفها عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه – بقوله: إن غطينا رأسه بدت قدماه، وإن غطينا قدميه بدا رأسه.
إن الدين والإيمان يدفع صاحبه للتضحية، والأمر لايعني بالضرورة أن يذهب الإنسان ليبحث عن حياة الشقاء والنكد، لكن حين يتطلب الأمر ذلك فليكن على استعداد لهه
الوقفة السادسة عشرة: الحذر فيما يستوجب ذلك:
حين أرسل الفتية صاحبهم إلى القرية أمروه بالحذر والتوقي قائلين له (وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً) معللين ذلك بقولهم (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً).
وأشار الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله إلى هذا المعنى فقال: "ومنها -فوائد القصة-الحث على التحرز والاستخفاء والبعد عن مواطن الفتن في الدين واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين".
وفي ذلك دروس أولها: أن المسلم ينبغي له أن يفر من الفتن ويبتعد عنها،فإذا جاءت صبر وثبت، ولا يجوز له يبحث عن الفتنة ويسعى إليها؛ فذلك دليل على ثقة الإنسان بنفسه واتكاله عليها، وهذا قد يكون سببا لأن يوكل الإنسان إلى نفسه، وإذا وكل إلى نفسه ضاع.
وفي قصة أصحاب الأخدود قال الراهب للغلام: إنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي، لكن لما عذب الغلام لم يستطع الكتمان فدل على الراهب، حينها ثبت الراهب، والغلام حين عذب ولم يستطع دل على الراهب، لكنه عذب على دينه فما تركه وما تخلى عنه.
والفتنة قد لاتكون تعذيبا وإيذاء ، بل سائر فتن الشهوات والشبهات يشرع للمسلم أن يفر منها فحين تقع فليثبت وليصبر.
لكن الفرار من الفتن لا يجوز أن يدعو المرء إلى أن يرتكب ما حرم الله، أو يدع ما أوجبه والنظرة المتكاملة لهذه القضية تمنع الإنسان من الشطط هنا أو هناك، من الغلو في النظرة إلى الجانب الآخر وثقته وإفراطه بنفسه أو من الغلو من مسألة الفرار من الفتن فيرتكب من الحرام مالا يسوغ له بحجة الفرار من الفتن.
الوقفة السابعة عشرة: الشح بالدين والحرص عليه:
لقد كان الفتية حريصين على دينهم وشحيحين به، لذا فروا من قومهم واختفوا في هذا الكهف، وأرسلوا واحداً فقط من أصحابهم ليكون أبلغ في التخفي، وأوصوه بالتلطف والحذر. والحرص على الدين والشح به مما عده الحافظ البيهقي من شعب الإيمان.(/7)
فينبغي للمسلم أن يشح بدينه، وأن يكون حريصا عليه، والأمر لايقف عند هذه الصورة القريبة فقط، فالشاب الذي يشعر أن التطلع إلى صورة عارية، أو إلى مجال فيه سفور وتبرج، أوصحبة لفلان من الناس، الذي يشعر أن هذا قد يسبب له فتنة في دينه فشحه بدينه وحرصه عليه ينبغي أن يدفعه ترك هذه المؤثرات والبعد عنها
الوقفة الثامنة عشرة: العواقب لا يعلمها إلا الله:
لقد كان هؤلاء الفتية يحذرون من عثور قومهم عليهم، ويعتقدون أن هذا الأمر ليس خيراً لهم، لكن حين عثر عليهم قومهم صار الأمر غير ذلك؛ فالعواقب لا يعلمها إلا الله.
إن الواجب على المسلم أن يأخذ الأسباب ويتعامل مع الأمور الظاهرة الواضحة، ثم يكل الأمر إلى الله ويسلمه إليه، فكثيراً ما يحرص المرء على أمر عاقبته ليست خيراً له، أو يقلق على ما تكون عاقبته حميدة من حيث لا يشعر، كما قال عز وجل :(وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم) وقال: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً).
وهاهو سراقة بن مالك لما لحق النبي r وصاحبه وهما مهاجرين، خشي أبو بكر - رضي الله عنه – من لحوقه بهم، وكان يتمنى ألا يدركهم، لكن حين أدركهم أصبح يصد الناس عنهم؛ فمن لقيه في طريقه قال له: لقد كفيتم ما هاهنا، فكان أول النهار طالبا لهم عين لهم وآخر النهار صاداً؛ فصار لحوقه بهم خيراً لهم في حين كانوا يظنون خلافه.
والنموذج الآخر في صلح الحديبية، فقد اعترض المسلمون على شروط الصلح، وأشد ما اعترضوا عليه منه: اشتراط إعادة من فر من المسلمين إلى المشركين، وثبت فيما بعد أن هذا الصلح كان خيراً للمسلمين، وكان هذا الشرط بالأخص خيراً للمستضعفين من المسلمين وسبباً في نجاتهم، وجاء المشركون يطلبون من النبي rملحين عليه أن يتنازل عن هذا الشرط.
والنموذج الثالث في قصة عائشة رضي الله عنها حينما قذفت بالفرية العظيمة، ولم يدر في خلدها رضي الله عنها أن الأمر خير لها، بل لم يكن أحد يظن أن قذف عائشة رضي الله عنها ستكون عاقبته خيرا لها.
ثم نزلت براءتها في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وفيها قوله تعالى :(لاتحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم) وأجمع أهل العلم بعد ذلك أن من قذف عائشة رضي الله عنها، فقد كفر وكذَّب الله عز وجل.
الوقفة التاسعة عشرة: عبرة في زوال الدنيا:
حين استيقظ الفتية تساءلوا عن لبثهم، فقالوا يوماً ثم استدركوا قائلين: بعض يوم، وهذه حقيقة الدنيا فهي كلها بما فيها ستتحول يوم القيامة إلى ساعة من نهار، وسيكون منطق أهلها حين يبعثون كمنطق الفتية حين استيقظوا (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم).
هذه بعض الوقفات وهي -كما قلت - ليست تفسيراً لهذه السورة ولا لهذه الآيات، إنما هي إشارات وعبر، وكلما قرأنا هذه الآيات ووقفنا عندها سوف نستنبط منها دروساً وعبراً أعجب وأعظم مما يبدو لنا، وهذا من عجائب القرآن الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يمل منه الإنسان، وكل يوم يتدبر فيه ويتلوه يستنبط فوائد جديدة لم يكن يستنبطها من ذي قبل، وهذا كلام الله عز وجل لا يمكن أبداً أن يقاس بكلام خلقه.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم جميعاً وأن يهدينا وإياكم إلى صراط مستقيم إنه سميع مجيب هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد(/8)
إنهم يخططون لإحراق المنطقة كلها
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
استنجد الحاقدون في العراق بالطاغية الأمريكي، فأنجدهم بجيشه الذي ملأ به البر والبحر والجو، وبعد أسبوعين أدخلهم الطاغية بغداد، وأسكنهم في قصور رئيس النظام السابق، ونصبهم حكاما على شعبٍ أبَى على مدار التاريخ أن يقبل في جسمه عضوا أجنبيا أو ينحني بالتحية لأجنبي، فتعاون جنود الطاغية مع قادة الحرس الثوري ومريديهم الذي تدربوا على أيديهم استعدادا لإخراج العراق عن هويته العربية، وعقيدته الإسلامية الصافية التي لا تشوبها قومية أجنبية تتقمص قميص يوسف المصبوغ بدم كذب!
وكانوا قد أغروا المعتدي المحتل بأنه سيستقبله العراقيون بالزغاريد وينشروا على دباباته أنواع الورود، وحققوا له ذلك ليلة أسقط تمثال الرئيس السابق، فتظاهر عدد قليل من الصبيان السفهاء، مرحبين بدبابات العدو المحتل، فظنوا السراب أنهارا من الماء الزلال.
ولكنهم وجدوا العراق كعادته، مهما تفوق عدوه عَدَداً وعُدَّةً لا يستسلم بل يرفض ويلقن المحتلين وأولياءهم دروسا قاسية، فزلزل رجال الجهاد والمقاومة الأرض تحت أقدام العدو وأوليائه ولا زالوا، فاشتد حقدهم جميع، فزاد حقدهم وأخذوا يحرقون مدن العراق وقراه الأخضر منه واليابس، وتعنتروا [كلمة منحوتة من عنترة بن شداد المشهور بالشجاعة]بقوتهم المادية الصليبية ولا زالوا يتعنترون، ولكن العراق لا زال على أصالته وإبائه أن يبيت على ضيم.
وهاهو العدو وأولياؤه بعد ثلاث سنين يستنجدون بدولة مجاورة، ليضربوا بها المجاهدين المقاومين العراقيين نصرا للطائفة الموالية لتلك الدولة، وتخفيفا على قوات العدو المحتل، وليبقي قواعده المسيطرة على آبار البترول والحامية للعدو اليهودي، بعيدة عن ميادين الحرب.
وهدف العدو الأجنبي أبعد من إيجاد وكيل عنه في العراق، فهو يريد إحداث اضطرابات في كل البلدان المجاورة للعرق، لأن التدخل الطائفي من الدولة المجاورة المنجدة سيثير إخوان الطائفة المعتدى عليها في العراق، وسيكون الشعب العراقي والدول المجاورة لها ساحات للاضطرابات والمعارك بصورة أشد مما هي عليه الآن.
وستختلط حدود العراق مع حدود الدول المجاورة عندما تصبح الحرب أهلية وستصعب السيطرة عليها، لأن حدودها كلها طويلة كما هو معلوم.
وإذا حقق العدو هذا الهدف فقد نجح - برغم خسائره الفادحة – لأنه بذلك يتمكن من إشعال المنطقة بالحروب والاضطرابات، وهو ما يريده طغاة اليهود الذين ترتعد فرائصهم من وحدة الشعوب الإسلامية وبخاصة العربية منها.
وعلى الدول العربية المجاورة أن تعي الخطر وتصحو من سباتها وتتخذ الوسائل الواقية منه قبل وقوعه:
مَحَضْتُهُمُ نُصْحِي بِمُنْعَرجِ اللِّوَا،،،،، فَلَمْ يَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلاَّ ضُحَى الْغَدِ(/1)
إنى اتجهت إلى الإسلام في بلدٍ *** تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
الحمد لله السميع البصير، اللطيف الخبير، أحاط بكل شيء علمًا، ووسع كل شيء رحمة وحلمًا، هو الحليم الشكور، العزيز الغفور، قائم على كل نفس بما كسبت، يحصي على العباد أعمالهم، ثم يجزيهم بما كسبت أيديهم، ولا يظلم ربك أحدًا، هو العلي القدير، العليم بذات الصدور. أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، صاحبُ النهج الرشيِد والقول السديد، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد، فيا إخوة الإسلام: اتّقوا الله واخشَوه، ومن يَخْش اللّهَ وَيَتَّقه فأولئك همُ الْفائِزون.
إن المتأمل لواقع المسلمين اليوم وما آل إليه من الضعف والذل والهوان ليدرك صدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : 'يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: كلا بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت'.
بهذا الحديث والذي يعد علمًا من أعلام النبوة، وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم وبدقة متناهية واقعنا المرير الذي تحياه أمة الإسلام في هذا الزمان، فعلى الصعيد الخارجي ها هي أمم الكفر من اليهود والصليبيين قد تداعت علينا، كل يريد أكل نصيبه من قصعة الإسلام، والتي أصبحت حلاً مستباحًا لكل من هب ودب من أعداء الله، ففي الوقت الذي ما زال فيه لقد التهم الأكلة أكثر ما في القصعة ، حتى لم يبق فيها شيء للأيتام .
بالأمس البعيد أكلوا الأندلس والهند، وبالأمس القريب أكلوا فلسطين وكشمير وإثيوبيا واريتريا والفلبين والشيشان وجمهوريات القوقاز وبورما وغيرها ، واليوم يأكلون أفغانستان والعراق، أما غدا فلا نعلم ما يخبئه لنا المجرمون من اليهود والصليبيين، ووكلاؤهم وعملاؤهم.
وصدق الرسول – صلى الله عليه وسلم – أيضا عندما قال: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة".
نعم قد افترقت، والله، وقد رأينا الشيعة والخوارج والمرجئة والنصيرية والإسماعيلية والبهائية والقادينية، وغيرهم وغيرهم .
ويبرز من هذا الركام فرقة واحدة هي ما عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه وهى " أهل السنة والجماعة"، وأعداء الإسلام عندما يصوبون سهامهم للأمة لا يقصدون إلا هذه الفرقة ، أضحوا كلأ مباحا لكل آكل ، وطمع فيهم حتى أرذل الخلق ، وهم هدف حتى للفرق الأخرى التي تنتمي للأمة ولا حول ولا قوة الا بالله ، مابين أنياب الأكلة من الخارج والأكلة من الداخل وقع أهل السنة ، وقعوا بين اليهود والنصارى والهندوس والسيخ والبوذيين ومالا دين لهم من ناحية ، ومن ناحية أخرى وقعوا بين الشيعة والنصيرية والدروز والإسماعيلية والأباضية والعلمانيين اللادينيين . فالكل اجتمع عليهم هم لا غيرهم ، وعلى الصعيد الداخلي: فالمأساة أقوى وأشد، فقد انحرفت جماهير الأمة عن شرع الله تعالى، انتشر الفساد وخربت الأخلاق، وعرفت الشعوب في حب الشهوات والملذات، وعطلت أحكام الله تعالى، دب الوهن في قلوب المسلمين، وتخلفوا عن ركب الحضارة والتقدم، انتشر الجهل والتخلف أصبحنا في ذيل الأمم، نتقوت على فتات الحضارة الغربية، بعد أن كنا أساتذة النهضة والمدنية، ساد فينا نموذج العاجز الكسلان بعد أن كنا فرسان الإنجاز والفاعلية، ضاع منا زمام القيادة بعد أن كنا قد:
ملكنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدود خالدونا
وسطرنا صحائف من ضيا فما نسي الزمان ولا نسينا
ولكن
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر .. أين المسلمونا؟
ويقف المؤمن الحر أمام هذا الواقع متفكرًا أين المخرج؟
ما السبيل إلى عودة هذه الأمة لتسلم لواء السيادة الذي أوجب الله عليها حمله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
ما الطريق إلى تبوأ أمتنا لهذه المكانة العلية؟ واعتلائها لذري المجد والسؤدد والحضارة والتقدم، والعزة والتمكين، والجواب أن هذا الطريق الشاق يبدأ منك أنت أخي المؤمن، بهذا أخبرنا الله تعالى في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].(/1)
إن الطريق إلى بناء الأمة يبدأ من بناء الفرد المؤمن، ولكنه البناء الكامل الشامل وحده الذي يمكن أن يحدث النهضة، إننا نريد نموذج المؤمن الفعال لا المؤمن العاجز السلبي ذلك أن مهمة النهوض بهذه الأمة من كبوتها الحالية مهمة شاقة عسيرة لا يكفي للقيام بها عاجز ضعيف الشخصية، ناقص القدرات والمهارات حتى لو كان على قدر كبير من الصلاح والتقوى، إننا نخطئ كثيرًا حينما لا نفصل بين منزلة الإنسان عند ربه والتي معيارها التقوى والطاعة، وبين صلاحية هذا الإنسان لتولي زمام القيادة، ومهمة التغيير، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول في أبي ذر رضي الله عنه: 'ما أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر'.
ومع ذلك يمنعه صلى الله عليه وسلم من تولي القيادة فقال له: 'يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا فلا تولين إمرة اثنين'. وما ضر ذلك أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ ولا نقص من قدره شيئًا بعد أن انتصب أستاذًا في الزهد، وتربية المسلمين بالقدوة واللسان الدعوى الناطق، ولكن لكل مهمة مقوماتها، ولكل دور رجاله، وكل ميسر لما خلق له.
ومجتمعاتنا اليوم تنوء بأثقال السلبية والتخلف تترك آثارها ولا شك على كل مؤمن، ولذلك لا بد أن نعلم أن المؤمن التقي الصالح الذي يفتقد الشخصية القوية المؤثرة، ذات المهارات والقدرات قد لا يستطيع أن ينهض بحمل الأمانة، والقيام بالمسئولية، من أجل ذلك فيجب أن نعمل في هذه الأيام على بناء المؤمن القوي الفعال الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف'.
وفي طريق البناء المنشود نحتاج إلى منهج واضح لبناء هذا النموذج الفذ ولا بد أن يقوم هذا المنهج على ركيزتين أساسيتين:
ـ بناء الإيمان.
2ـ بناء القوة في الشخصية عبر إتقان فنون التأثير والفاعلية.
(أقول) أيها الإخوة: يجب أن نحتكم إلى ديننا وأصالتنا، وإلى ذاتنا الخاضعة لمنهج الله تبارك وتعالى، علينا أن نقابل الخطة بالخطة، والمنهج بالمنهج، والعمل بالعمل.
تصنيف دقيق فهمه أعدائنا ولا نريد أن نفهمه نحن ، فمازال منا من يدعوا إلى التقريب بين المذاهب - بين السنة والشيعة – ولم يعتبروا إلى ما حدث في العراق حين جاء الحلف " الصهيوانجلوامريكى" الأنجلو ساكسونى بقضه وقضيضه وحده وحديده جاءوا يرمون أهل السنة عن قوس واحدة ، جاءوا يدكون عراقنا بأقذر ماأنتجت حضارتهم وعرفته البشرية من قنابل ذكية وغبية وممنوعة ، أتوا بأم القنابل وأبناءها وأحفادها ليبسطوا سجادتهم الذكية على أرض العراق حتى يبيدوا الأخضر واليابس والإنس والجن ، ولاحظوا معى أن كل ما عندهم أشياء ذكية خططهم وقنابلهم ورجالهم حتى حصارهم وكأن الذكاء نصيبهم هم فقط حتى فى أسلحتهم !!! اللهم نصرك المؤزر.
فلما أراد أخواننا فى العراق أن يأووا إلى ركن شديد تحول هذا الركن إلى فسيفساء خالية لا لون ولا طعم ولا رائحة ، بل لا شكل ولا أثر ، اختفى البعث الحاقد المرتد ، وهكذا القوميون العرب لا تراهم وقت المحن والأزمات ، أما في غيرها فتراهم يملأون الدنيا ضجيجا بإنجازاتهم وانتصاراتهم وحكمتهم التي ليس لها وجود ، وهم سبب ما حل ويحل بالأمة من مصائب . فدورهم هو تحطيم مقدراتها وقوتها منذ ثورة كبيرهم الخائن حسين، وعمله بمساندة أسيادة البريطانيين على إسقاط الخلافة العثمانية، مرورا بعبد الناصر الذي ألقى شعبه في البحر وترك اليهود يمرحون ويفرحون بتوسيع الأرض التي احتلوها ، إنتهاءا بصدام البعثي القومي الذي سلم هو ورجاله العراق للتتار الجدد .
فلم يفق إخواننا المجاهدون من العراقيين والعرب إلا والأمريكان من أمامهم يدكونهم ، والشيعة من خلفهم يجهزون علي من بقى منهم ـ هكذا هم دائما يستغلون الفرص ولا يضيعونها منذ ابن السوداء "ابن سبأ " ، مرورا بابن العلقمي ونصير الدين الطوسي إنتهاءا بشيعة العراق اليوم ، الجلبي وعبد المجيد الخوئي ومحمد باقر الحكيم وغيرهم ،
فماذا ننتظر منهم غير هذا .
هذا الواقع المرير لا لنقف أمام الأطلال نبكى على اللبن المسكوب ، ونظل نولول كما النساء ، وإلا ظللنا نبكى إلى قيام الساعة ، لأن مسلسل المآسي بدأ ولن ينتهي حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا ، مصداقا لتحذيره تعالى لنا في كتابه : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ....) البقرة / 120 .
نحن فى أمس الحاجة لأن يقوم العلماء بدورهم فى قيادة الأمة فى هذه الأيام بالذات التى يعانى فيها المسلمون فراغا عظيما فى القيادة والتوجيه ، وأعتقد أن الأمة لن تتوانى عن الالتفاف حول هذه القيادة إذا أحست فيها الإخلاص والمسئولية .
الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا(/2)
فيا علماء الأمة هذا هو طريق الأنبياء وأتباعهم هذا هو طريق محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه - رضوان الله عليهم - قادوا أممهم وقت الشدائد والملاحم ، وهذا هو طريق التابعين طريق ابن المبارك وابن جبير وابن المسيب وأحمد بن نصر الخزاعى ، وطريق الإمام مالك وأحمد بن حنبل وابن تيميه والعز بن عبد السلام ، كما أنه طريق محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع .
يا علماءنا إن لم تنهضوا الآن فمتى تنهضون ؟ وإن لم تهبوا أنتم فمن غيركم ؟
وتكون المهمة الأساسية:
1ـ تصحيح عقيدة ومفاهيم المسلمين ، وتجميع الأمة على عقيدة أهل السنة والجماعة ، ورفع الالتباسات التي وقعت فيها الأمة ، وإنقاذها من جراثيم الإرجاء والعلمانية ، وإحياء الربانية وتعظيم شعائر الله في نفوس أبنائها ، وإصلاح أخلاقهم وسلوكياتهم وعبادتهم .
2- تحذير الأمة من الشركيات والكفر والبدع والخرافات والخزعبلات التى ملأت حياة الناس وأصبحت ديدنهم، وصرفتهم عن المحاجة البيضاء .
3ـ تعليم المسلمين أمور دينهم وتفقيههم وهذا ديدن العلماء والمصلحين فى كل عصر يتصدروا لتعليم الناس ما ينفعهم فى حياتهم وبعد مماتهم ، كما يعملون على توحيد مصدر الفتاوى الشرعية والرجوع إليهم عند الملمات والنوازل .
4- توحيد كلمة أهل السنة ولم شملهم وتجميع شتاتهم ، وإحياء العزة والشجاعة فى نفوسهم وقيادتهم لتحرير أراضيهم ومقدساتهم من أيدى الطغاة ، ووضع حد لمآسيهم فى كل مكان .
5- قيادة الأمة وتوجيهها للعمل على إعادة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة ، وإقامة شرع الله فى الأرض ، فقد تعددت مناهج التغيير ولا بديل عن توجيه العلماء وقيادتهم .
6- إحياء روح الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في الأمة ، وإيقاظها من ثباتها ورقدتها ، لتعمل عل تغيير واقعها والنهوض به واستشراف مستقبلها ،
7- فضح مخططات أعداء الإسلام والمنافقين المتعاونين معهم ، ودورهم فى تدمير دولة الخلافة وتحطيم مقدرات الأمة.
8- العمل على رد الشبهات التي تلقى في وجه الإسلام ، وتصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلام أمام غير المسلمين ، ومواجهة الهجمة الشرسة التي تطعن في الإسلام , وفى الرسول – صلى الله عليه وسلم – وفى صحابته رضوان الله عليهم .
هل ننتظر حتى يسحق العلوج دولة أخرى من دول المسلمين ، حتى يستبيحوا حرماتنا ومقدساتنا ، حتى يدنسوا أعراضنا .
هل ننتظر حتى يهدم الأقصى .
ماذا ننتظر وقد لفوا الحبل حول أعناقنا جميعا ولم يبق غير شد أحد طرفيه .
أيها الأحبة الأمر ليس صعبا ولا مستحيل لكن يحتاج إلى مجهود شاق ، فالأمة التي أنجبت مثل أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وابن المبارك وابن حنبل وابن تيميه وابن القيم والعز بن عبد السلام وصلاح الدين وقطز ، وأنجبت مثل محمد بن عبد الوهاب والصنعاني والشوكاني وعبد الله عزام وسفر الحوالى وخطاب ، لن تعجز عن انجاب غيرهم من الأفاضل الذين يأخذون بأيديها إلى بر الأمان
لم يبق إلا أن نعزم العزمة ونمضى وعلى الله التوفيق والسداد .
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(/3)
إني لأشمت بالجبار
للشاعر الكبير: بدوي الجبل
يا سَامِرَ الحَيَّ هَلْ تَعنيكَ شَكوانا رَقَّ الحَديدُ وما رَقُّوا لبَلوانا
خَلِّ العِتابَ دُموعاً لا غَناءَ بها وعاتِبِ القَومَ أشلاءً ونيرانا
آمنتُ بالحِقدِ يُذْكِي مِنْ عَزائمِنا وأبْعَدَ اللهُ إشفاقاً وتَحْنانا
ويلَ الشُعوبِ التي لَمْ تَسْقِ من دَمِها ثاراتِها الحُمْرَ أحقاداً وأضغانا
تَرَنَّحَ السَوطُ في يُمنى مُعَذِّبها رَيَّانَ من دَمِها المَسفوحِ سَكرانا
تُغضِي على الذُلِّ غُفراناً لظالِمها تأنَّقَ الذُلُّ حتى صارَ غفرانا
ثاراتُ يَعْرُبَ ظَمأى في مَراقِدِها تَجاوزتها سُقاةُ الحَيِّ نِسيانا
ألا دَمٌ يَتَنزَّى في سُلافَتِها أستغفِرُ الثأرَ بلْ جَفَّت حُميّانا
لا خالدُ الفَتحِ يَغزو الرُومَ منتصراً ولا المُثنّى على راياتِ شَيْبانا
أمّا الشآمُ فلمْ تُبْقِ الخُطوبُ بها رَوحاً أحبَّ منَ النَُعمى وَرَيحانا
ألمَّ والليلُ قد أرخَى ذَوائِبَهُ طَيفٌ منَ الشَامِ حيّانا فأحْيَانا
حَنا علينا ظِماءً في مناهِلِنا فأترعَ الكأسَ بالذكرى وعاطانا
تُنضِّرُ الوردَ والرَيحانَ أدمعُنا وتَسكُبُ العِطرَ والصَهباءَ نَجوانا
السامِرُ الحلوُ قدْ مرَّ الزمانُ بهِ فمزَّقَ الشَملَ سُمَّاراً ونُدمانا
قدْ هانَ من عهدِها ما كنتُ أحسَبُهُ هَوى الأحبًّةِ في بغدادَ لا هَانا
فمَنْ رأى بنتَ مروانَ انحنتْ تَعَباً من السَلاسِلِ يَرحَمْ بنتَ مَروانا
أحنو على جُرحِها الدامِي وأمسحُهُ عِطراً تَطيبُ بهِ الدنيا وإيمانا
أزكى منَ الطِيبِ رَيحاناً وغاليةً ما سالَ منْ دَمِ قتلانا وجَرحانا
هلْ في الشآمِ وهلْ في القُدسِ والدةٌ لا تشتكي الثُكل إعْوالاً وإرنانا
تلكَ القُبورُ فَلَو أنّي ألِمُّ بها لمْ تَعدُ عَينايَ أحباباً وإخوانا
يُعطي الشَهيدُ فلا واللهِ ما شَهدَتْ عَيني كإحسانِهِ في القَومِ إحسانا
وغاية الجود أن يسقي الثرى دمه عندَ الكفاحِ ويَلقى اللهَ ظمآنا
والحقُّ والسيفُ من طَبعٍ ومن نَسَبٍ كلاهُما يتلقَّى الخَطبَ عُريانا
* * *
قُلْ للأُلى استعبُدوا الدُنيا لسيفهمُ مَنْ قسَّمَ الناسَ أحراراً وعُبْدانا
إنّي لأشمَتُ بالجبّارِ يَصرعُهُ طاغٍ ويُرهقُهُ ظُلماً وطُغيانا
لعلّه تبعثُ الأحزانُ رحمتَهُ فيُصبحُ الوحشُ في بُردَيْهِ إنسانا
والحُزنُ في النّفْسِ نبعٌ لا يمرُّ بهِ صادٍ منَ النفسِ إلا عادَ رَيّانا
والخيرُ في الكونِ لو عَرَّيتَ جوهرهُ رأيتَهُ أدمعاً حَرّى وأحزانا
سمعتُ باريسَ تشكُو زَهوَ فاتِحها هلاً تذكرتِ يا باريسُ شكوانا
والخيلُ في المسجدِ المحزونِ جائلةٌ على المصلّينَ أشياخاً وفتيانا
والآمنينَ أفاقوا والقصورُ لَظَىً تَهوي بها النارُ بُنياناً فبُنيانا
رَمى بها الظالمُ الطاغي مُجلجلةً كالعارضِ الجَونِ تَهداراً وتَهتانا
أفدي المخدَّرةَ الحسناءَ رَوَّعَها منَ الكرى قَدَرٌ يشتدُّ عَجلانا
تَدورُ في القصرِ عَجلى وهيَ باكيةٌ وتَسحبُ الطيبَ أذيالاً وأردانا
تُجيلُ والنومُ ظِلٌّ في مَحاجرها طَرفاً تُهدهدُهُ الأحلامُ وسنانا
فلا تَرى غيرَ أنقاضٍ مُبعثرةٍ هَوينَ فناً وتاريخاً وأزمانا
تلكَ الفضائِحُ قد سميتها ظَفَراً هَلا تكافأ يومَ الرَوعِ سَيفانا
نُجابهُ الظُلمَ سكرانَ الظُبى أشِراً ولا سلاحَ لنا إلا سَجايانا
إذا انفجرتِ مِنَ العُدوانِ باكيةً لطالما سُمتِنا بَغياً وعُدوانا
عِشرينَ عاماً شَربنا الكأسَ مُترعةً من الأذى فتَمَلّيْ صِرفَها الآنا
ما للطواغيت في باريسَ قدْ مُسِخوا على الأرائكِ خُدّاماً وأعوانا
اللهُ أكبرُ هذا الكونُ أجمَعُهُ للهِ لا لكِ تَدبيراً وسُلطانا
ضَغِينةٌ تتنزّى في جَوانِحِنا ما كان أغناكمُ عنها وأغنانا
* * *
تَفدي الشُموسُ بضَاحٍ من مشارقِها هلالَ شعبانَ إذْ حيّا بشعبانا
دوّتْ بهِ الصرخةُ الزهراءُ فانتفضتْ رمالُ مكةَ أنجاداً وكُثبانا
وسالَ أبطَحُها بالخيلِ آبيةً على الشَكيمِ تُريدُ الأُفقَ مَيدانا
وبالكتائبِ من فهرٍ مُقنّعةً تُضاحكُ الشمسَ هِنديّاً ومُرّانا
تَملْمَلَ الفاتحونَ الصيدُ وازدلفُوا إلى السيوفِ زُرافاتٍ ووْحدانا
وللجيادِ صهيلٌ في شَكائِمها تكادُ تَشربُهُ الصحراءُ ألحانا
ألسابِقاتُ وما أَرخَوا أعِنتَّها والحاملاتُ المَنايا الحُمرَ فُرسانا
سِفرٌ من المجدِ راحَ الدهرُ يكتُبُهُ ولا يَضيقُ بهِ جَهْراً وإمعانا
قرأتُ فيه الملوكَ الصيدَ حاشيةً والهاشميينَ طُغراءً وعُنوانا
شَدَّ الحُسينُ على الطغيانِ مُقتحماً فزلزلَ اللهُ للطغيانِ بُنيانا
نورُ النبوّةِ في مَيمونِ غُرَّتِهِ تكادُ تَرشفُهُ الأجفانُ فُرقانا
لاثَ العِمامةَ للجُلَّى ولستُ أرى إلا العمائمَ في الإسلامِ تيجانا
ياصاحب النصرِ في الهيجاءِ كيف غدا نصرُ المعاركِ عندَ السِلمِ خِذلانا
ترى السياسةَ لوناً واحداً ويَرى لها حليفُكَ أشكالاً وألوانا
لا تسألِ القَومَ أيماناً مُزوّقةً فقدْ عَيينا بهمُ عَهداً وأيمانا(/1)
أكرمتُ عن عَتبٍ هَمَمْتُ بهِ لو شئتُ أوسعتُهُ جَهراً وتبيانا
* * *
ما للسفينةِ لم تَرفعْ مَراسيها ألمْ تُهيّئ لها الأقدارُ رُبّانا
شُقّي العَواصِفَ والظَلماءَ جاريةً باسمِ الجزيرةِ مَجرانا ومُرسانا
ضُمّي الأعاريبَ من بَدو ومن حضَرٍ إني لألمحُ خلفَ الغيمِ طُوفانا
يا من يُدِلُّ علينا في كتائبهِ نظارِ تطلعْ على الدنيا سَرايانا(/2)
إنّ الحسنات يذهبن السيئات
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد ..
فهذا عرض لبعض الأعمال اليسيرة والتي يترتب عليها بإذن الله الأجور الكثيرة بفضل من الله، وتلك الأعمال يغفل عنها كثير من الناس ويتهاونون بها، مع ما فيها من الثواب العظيم والأجر الجزيل، ومن تلك الأعمال:
1 - الإكثار من الصلاة في الحرمين الشريفين :
روى جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه » [رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني]، وصلاة المرأة في بيتها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي.
2 - الصلاة في مسجد قباء :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من خرج حتى يأتي هذا المسجد ـ مسجد قباء ـ فصلى فيه كان له عدل عمرة » [رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني].
3 - المواظبة على صلاة الضحى :
وأفضل وقت لأدائها عند اشتداد الحر وارتفاع الضحى، فقد قال صلى الله عليه وسلم : « صلاة الأوابين حين ترمض الفصال » [رواه الإمام مسلم].
4 - الاستغفار المضاعف :
وهو مثل قولك: ( اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ). قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة » [رواه الطبراني].
5 - قيام ليلة القدر :
هل تعلم أن ثواب قيامها أفضل من ثواب العبادة لمدة ثلاث وثمانين سنة وثلاثة أشهر تقريبا .. { إنا أنزلناه في ليلة القدر ، وما أدراك ما ليلة القدر ، ليلة القدر خير من ألف شهر ، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ، سلام هى حتى مطلع الفجر } [القدر:1- 5].
6 - التسبيح المضاعف :
وهو مثل قولك : ( سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ).
7 - قول دعاء دخول السوق عند دخول السوق :
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « من دخل السوق فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير" كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف الف درجة » وفي رواية: « وبنى له بيتا في الجنة » [ رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر].
8 - الاعتمار في رمضان :
فالعمرة في رمضان تعدل حجة كما قال صلى الله عليه وسلم لأم سنان « فإذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرة فيه تعدل حجة » أو قال: « حجة معي » [متفق عليه].
9 - التحلي ببعض آداب الجمعة :
فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها » [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن ماجه وصححه الألباني].
10 - الصيام :
حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإكثار من صوم النفل طوال أيام السنة ، فرغب في صيام أيام الاثنين والخميس، وأيام البيض، وشهر شعبان، وصيام ست من شوال، وشهر الله المحرم، وعشر ذي الحجة، وصيام يوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء
قال صلى الله عليه وسلم : « من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا » [رواه البخاري ومسلم].
11 - تفطير الصائمين :
فقد قال صلى الله عليه وسلم : « من فطّر صائما كان له مثل أجره غيرأنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا » [رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وصححه الألباني].
12 - الإكثار من قول ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) :
فإنها « كنز من كنوز الجنة » ، كما ورد في الحديث المتفق عليه عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
13 - قضاء حوائج الناس :
فقد قال صلى الله عليه وسلم ( في حديث طويل ) : « ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا » [رواه الطبراني وحسنه الألباني].
14 - صلاة ركعتين بعد الشروق :
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة »
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تامة تامة تامة » [رواه الترمذي وحسنة الألباني].
15 - كفالة الأيتام :
عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى » [رواه البخاري]، وباستطاعتك فعل ذلك عن طريق المؤسسات والمبرات الخيرية.
16 - الحرص على صلاة الجنازة :
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين » [متفق عليه].(/1)
17 - الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :
فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا، ويكون أولى الناس به يوم القيامة، وقد وكل الله سبحانه وتعالى ملائكة سياحين يحملون صلاة الأمة إلى نبيهم .
18 - صلاة العشاء والفجر في جماعة :
فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله » [رواه مسلم].
19 - التسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين :
ثم قول: « لا إله إلا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير » ، فذلك فضله عظيم كما ورد في حديث فقراء المهاجرين الذي رواه أبو هريرة ( حديث طويل متفق عليه ) يرجع له في باب الأذكار الواردة عقب الصلوات المفروضة.
20 - الدعوة إلى الله والنصح للآخرين :
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا » [رواه مسلم]
فالنصح للآخرين في الاتجاه إلى الله يجري عليك بأجره مادام ينتفع به إلى يوم القيامة ومن ذلك نشر الخير كنشر هذه الرسالة التي بين يديك فلك أجر من عمل بها إلى يوم القيامة بإذن الله.
21 - صلاة أربع ركعات قبل العصر :
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا » [رواه أبو داود والترمذي] وتكون الأربع ركعات بتسليمتين بعد أذان العصر وقبل الإقامة.
22 - عيادة المريض :
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة ، قيل يارسول الله وما خرفة الجنة؟ قال صلى الله عليه وسلم : جناها » [رواه مسلم].
« ويستغفر لك سبعون ألف ملك » ( كما في حديث طويل رواه الترمذي ).
23 - الصيام واتباع الجنازة وعيادة المريض وإطعام المسكين :
إذا اجتمعت في مسلم في يوم دخل الجنة بفضل الله ( كما حصل لأبي بكر ) حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة ( حديث طويل ) : « ما اجتمعن في امريء إلا دخل الجنة » [رواه مسلم].
24 - الإصلاح بين الناس :
قال الله تعالى: { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } [النساء:114]
وقد ورد في ذلك فضل عظيم في أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتسع المجال لذكرها.
25 - الإكثار من قول :
« سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .. فهي أفضل مما طلعت عليه الشمس » ، كما ورد في ( حديث أخرجه مسلم ) عن النبي صلى الله عليه وسلم ..
وهي « أحب الكلام إلى الله » كما في الحديث الصحيح.
26 - تكرار قراءة سورة الإخلاص :
فإنها تعدل ثلث القرآن في الأجر والمعنى لما تحويه من توحيد الله وتعظيمه وتقديسه فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن » [رواه الطبراني وصححه السيوطي والألباني]
( وليس معنى كونها تعدل في الفضل أنها تجزىء عنه... فتنبه ).
27 - الصدقة الجارية :
كالمساعدة في بناء مسجد أو بئر أو مدرسة أو ملجأ أو تربية الأطفال على الدين الصحيح والآداب الإسلامية وتربية الولد على الصلاح، فإنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ومنها ولد صالح يدعو له، وكذلك نشر وطباعة الكتب ونسخ الأشرطة المفيدة وتوزيعها ودعم ذلك ماديا عن طريق مكاتب الدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات والمؤسسات الخيرية وغيرها.
28 - صلاة أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها :
عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار » [رواه أبو داود والترمذي]. وتكون الأربع القبلية بتسليمتين بعد أذان الظهر وقبل الإقامة، وتكون الأربع البعدية بتسليمتين.
29 - قيام الليل وإفشاء السلام وإطعام الطعام :
عن عبدالله بن سلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام » [رواه الترمذي].
30 - الترديد خلف المؤذن :
قال صلى الله عليه وسلم : من قال حين يسمع النداء: « اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة » [رواه البخاري].
31 - الإكثار من تلاوة وحفظ القرآن الكريم :
قال الله تعالى:{ إنّ الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور } [فاطر:29]
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: ألم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف » [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].
32 - الإكثار من ذكر الله تعالى :(/2)
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا : بلى قال : ذكر الله تعالى » [رواه الترمذي].(/3)
{إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}
دارت بنا الدنيا، تفطَّرت نفوسنا، وتزلزلت الأرض من تحت أقدامنا. الغضب يملأ قلوب المسلمين في المشرق والمغرب، كبارهم وصغارهم، رجالهم ونساءهم، صالحيهم وفساقهم.. أوَ يتجرؤون على مقام النبوة؟!
أوَ يستهزئون بسيد ولد آدم..؟!
يا لله.. أتدرون بمن تسخرون..؟!
ويحكم أتدرون من هو محمد -صلى الله عليه وسلم-..؟!
ألَمٌ شديد هزَّ كيان الأمة وصدَّع أركانها، وجعلها تنتفض، تستنفر خفافاً وثقالاً، تغضب.. ترفع صوتها بكل حميَّة: (إلا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)..!
والذي زاد من هول الواقعة ذلك الصلف والتعالي والمكابرة، أخذتهم العزة بالإثم، فأبوْا أن يتراجعوا، بل تسارعوا للتناصر.. {وَإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202].
وزادها فجيعةً أنَّ مِن بني جلدتنا سمَّاعين لهم، فراح بعض الصحفيين في بعض البلاد العربية والإسلامية يعيد نشر تلك الصور الآثمة لحجج تافهة باردة، ونظر بعض أهل الأهواء ومن يسمون أنفسهم بالليبراليين نظرة لا مبالاة للحدث واثَّاقلوا عن نصرة نبيهم، بل اجتهدوا في التهوين منه، وتفيهقوا علينا بالدعوة السمجة إلى الصفح والتسامح..!!
لكن الرد على هؤلاء جميعاً من أرض الحرمين، من مصر والسودان، من الجزائر والمغرب، من أندونيسيا والباكستان، من نيجيريا والسنغال.. من كل أرض ينادَى فيها بنداء التوحيد.. جاء الرد بعفوية مذهلة وبفطرة صادقة بعيدة عن الشعارات السياسية أو المزايدات الإعلامية، قال الناس بصوت واحد: {إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3].
هذه المشاعر تدل على فطرة صالحة، وأرض خصبة تستحث الدعاة لتأسيس محبة صادقة، واتِّباع مخلص لسيِّد الأولين والآخرين، إنها فرصة لنتجاوز خطابات الإدانة والشجب لندعو إلى التعظيم والاتِّباع والاستسلام لأمره ونهيه.
إنها فرصة تاريخية لنقول للمسلمين: هذا هو نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- عليكم بتعزيره وتوقيره والاهتداء بهديه والذب عن دينه.
إنها فرصة تاريخية لنقول فيها للعالم أجمع بعد أن بدأ الناس يتساءلون من هو محمد: إن رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- لكم جميعاً، جاءت لتخلصكم من رهق الضلالات والأهواء البشرية.. جاءت تدعوكم بدعاية الإسلام أسلموا تسلموا: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
حدث آخر له دلالته وأبعاده في المنطقة: إنه الفوز الكاسح لحركة المقاومة الإسلامية حماس في الانتخابات الفلسطينية. انتصار مذهل قلب المعادلة السياسية، وأربك صناع القرار في الدولة العبرية وحلفائها.
وها نحن في ^ نقدم عدداً خاصاً يحتوي على ملفين فقط، ونعتذر لقرائنا الكرام عن تأجيل بقية المواد والزوايا التي ينتظرونها على أمل أن نعود إليها ـ بإذن الله ـ في العدد القادم. ... مقالات الملف
يا أدعياء التسامح والديمقراطية من يكره من التحرير(/1)
إنْ لمْ تكنْ شجاعاً..فلا تكن جباناً..
هناء الحمراني 8/8/1426
12/09/2005
تخيّل نفسك مع زميل لك في العمل..أنت الآن في حالة من الغضب الشديد إثر خلاف وقع بينك وبين المدير..
يداك تتحرّكان في الهواء..ثم لا تلبث أن تقع بقبضتك على المكتب بعصبيّة..
حاجباك معقودان..ونظراتك حادة..وصوتك عالٍ لدرجة كافية تعبّر فيها عن غضبك واحتجاجك.. وحينما تشعر بخطوات أقدام ينخفض صوتك تلقائياً لكي(لا يسمع صوتك شخص آخر)..
بعيداً عن الأفكار الجاسوسية..وعمليات التنصّت التي يمارسها البعض..ولنستبعد إمكانية أن يكون زميلك الذي تتحدث إليه نمّاماً..تخيّل..أقول: تخيّل أنك في تنفيسك الذي نعتّ فيه المدير بأسوأ الألفاظ التي تسمح به أخلاقك..تخيّل أنّ المدير يدخل عليك في تلك الأثناء..بصراحة..رجاء..كن صريحاً..
ما هي ردة فعلك آنذاك؟
كرد فعل طبيعي..قد تنتفض مرعوباً، وكأنك ترى مصّاص دماء..ثم يصبح وجهك أصفر اللون بعد أن كان محمرًّا من شدة الغضب..هممم..وماذا أيضاً؟ ستحشر رأسك بين أوراقك..والله وحده يعلم ما هي ردة فعل زميلك الذي ربما يكون أجبن منك؛ فيحشر رأسه في سلة المهملات، وكأنه يبحث عن ورقة سقطت سهواً..وربما يكون نذلاً؛ فينظر إليك بسخرية (لقد وقعت في الفخ)...
هل نجحت في وصف المشهد؟
ربما أجد من بينكم من يعترض على هذه الصورة..وتأبى نفسه إلا أن يصف ردود فعل أخرى.. كأن تحملق بعينيك وتركزهما في عيني مديرك، وكأنك تتحداه.. فالمسألة(خربانة..خربانة) وما دام أن الأمر وصل إلى هذا الحد..فلا يضر الشاة السلخ بعد الذبح. ومع هذا أيضاً..فلا أزال أصر أن فقرة(الرعب والقشعريرة) هي أول عرض يصيبك عند دخول المدير..ولو لجزء من الثانية..
***
لأقف عن التحدث بأسلوب المخاطب..ولنستبدل (أنت) بـ(هو)..لأن السيد (هو) سيحتمل الكلام الذي سيُقال الآن..ولكن السيد والسيدة(أنت) لن يُكملا المقالة مع بدء توجيه الاتهام الذي سأوجهه الآن..
***
سيداتي وسادتي: إن السيد(هو)- وكثير منا ربما يكون الـ(هو) هذا- حينما يمارس مثل هذا التصرف..أعني فرد العضلات والتهديد..والشتم..وإلقاء التهم على الطرف الآخر، والذي يكون غائباً عن هذه (المصارحة)..ليس إلا جباناً..
تخيّل أنك أنت زميل السيد (هو) وأنك تمارس الإنصات بكل إخلاص.. كيف ستكون نظرتك إليه حينما يتقوقع ويصمت خوفاً عند مقابلة خصمه..؟ ربما أكون مجحفة نوعاً ما حينما أقوم بالإجابة عنكم، وأصدر حكما بأنكم ستشعرون بالاحتقار إزاءه..
أو على الأقل الشعور بالرثاء من أجله؛ لأنكما تشتركان في ذات المعاناة..
***
لماذا يتجه (هو) إلى هذا النوع من التنفيس؟ قد يبدو السؤال ذا إجابة تلقائية.. فنحن أحياناً لا نمتلك القدرة على أن نكون صرحاء..بمعنى أوضح لا نمتلك الشجاعة لنفصح عن رأينا..ونفضل أن نلعن الظلام بدلاً من أن نوقد الشمعة..
وأحياناً أخرى قد تودي بنا الصراحة إلى مدارك سيئة إذا كنا ضعفاء..ولذلك أيضاً-وللأسف- نهرب إلى الخفاء لنصرخ..ونشجب..ونستنكر..
ولكننا أيضاً..لا يمكننا أن نعتبر هذا السلوك حميداً..بل إنه مزرٍ..ودنيء..وهو لا يغيّر في الوضع شيئاً..هذا إذا لم يزدد الأمر سوءاً..
لست ممن يطالب بالصمت..والتقوقع..ولكن..هذا السلوك قد تكون نتيجته الاكتئاب..استهلاك كمية كبيرة من الجهد الذي يمكن أن يصنع شيئاً مفيداً..وضياع الحسنات ..
***
السيدة (هي)..امرأة اضطرها توتر العلاقة بينها وبين جارتها الكبيرة في السن إلى أن تمارس التنفيس في الخفاء..ففي اجتماعها مع أسرتها..تشتمها..وتمسح بخيالها أرضية المجلس..وتحاول الحطّ من قدرها أمام الآخرين..
لم تكن لتستطيع مواجهتها وتوجيه الصفعات إليها؛ لأنها لا تريد أن تكون تلك المرأة الوقحة التي تتعدى على امرأة كبيرة في السن..
ولم تكن أيضاً قادرة على الصمت..فهي لا تزال تجرحها..وتبحث عما يغيظها في كل مرة تتقابلان فيها..
إلا أن هذا كله كان يهدر في صدرها حتى شعرت بأنها يجب أن تتكلم..وعندما بدأت بممارسة الحديث في الظلام..وبشكل أقرب إلى الإدمان..أُصيبت بالاكتئاب..
(لا يمكنني احتمال هذا كله..لست جرذاً..يجب أن تنتهي مأساتي..ولا بد أن هناك طريقة ما لإنهائها..نهاية جيدة)..
كان أول شيء اقترحته عليها عندما عزمت على حل المشكلة..هو مواجهتها أو الانقطاع عن الغيبة والطعن في ظهرها..حتى تجد حلاً لإصلاح علاقتها معها..
أما الخيار الأول فكان مرفوضاً من جانبها..واعتبرت الخيار الثاني واجباً دينياً يحافظ على حسناتها المتطايرة..قبل أن تعتبره حلاً مبدئياً للمشكلة..
بداية الصمت..البحث عن موضوع آخر للانهماك فيه..كان ذلك صعباً..ولكن كانت النهاية رائعة..(/1)
بعد أن وجدت صعوبة في الصمت..ومحاولة الترفع عن ذلك السلوك المشين..وجدت نفسي أدور في مجلسي حائرة..ما البديل؟..ربي..ما البديل؟..كيف أستريح؟..وعندها..وجدت نفسي أردّد ذلك الدعاء الموروث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قضاء الدين (اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمّن سواك) وماذا بعد ذلك؟ وبعيداً عن العواطف..وجدت نفسي تهدأ..وتتقبل ما قد مضى..بل إن علاقتي بدأت تتحسن مع جارتي تلك..ووجدت شجاعة قوية في أن أمنعها من مضايقتي فيما بعد..وقرّرت ألاّ أكون جبانة إن لم أكن شجاعة...
***
هل يضايقك زميلك بالتدخين في مكتبك؟ هل تزعجك زميلتك عندما تأخذ قلما من درجك دون استئذان؟ هل يصرّ جارك على أن يلقي بالمهملات أمام بابك؟
لا تتذمر..كن شجاعاً..وصارحه بما يزعجك..فليس له الحق في أن يضايقك..وإن لم تكن شجاعاً....
أكرّر مرة أخرى..
فلا تكن جباناً.(/2)
إهانة الإسلام في نمو مطرّد!
محمد عبد الله السمان 27/1/1427
26/02/2006
حين دخل اللورد البريطاني اللّنبي بيت المقدس في الحرب العالمية الأولى، قال: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، ربما كان يعني "العسكرية" لتظل الحرب النفسية والسياسية تعمل على الدوام؛ فهو واثق من أن العالم الإسلامي سيظل مهيض الجناح.
والجنرال الفرنسي (غورو) الذي ذهب بعد انتهاء موقعة عيساوي بسوريا إلى قبر صلاح الدين الأيوبي وركله بقدمه، وقال: قم يا صلاح الدين، ها نحن قد وصلنا". إلا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 م كشفت أن الحرب الصليبية لم تنته، بعد أن هدد أبرهة العصر الحديث بوش بأنه سيعلنها حرباً صليبية جديدة، وقد وفى بما هدد، فاحتل أفغانستان المسلمة ودمرها، ثم احتل العراق المسلم ودمره بمسوّغات صدق كذبها، وما زال الاحتلال ينفق مليارات من الدولارات شهرياً، وعلى الرغم من معارضة كثرة من الشعب الأمريكي، وبخاصة أسر القتلى الذين تصل توابيتهم في الظلام.
وما هو جدير بالذكر: أن الاستشراق والتنصير لون من ألوان الحرب الصليبية يتمتعان بأوفر قسط من رواسب الحرب الصليبية، وبعض دول الغرب الصليبي يعتمد جزءاً من الميزانية العامة للإنفاق على مهمة التنصير في العالم الإسلامي، وفي حماية أمريكا بمالها من نفوذ وأوروبا، بل إن مراكز التنصير من خلال مؤسساته: الجامعات والمعاهد والمدارس، تتمتع بحصانة وامتيازات لا حصر لها. بينما لا تتمتع به المؤسسات الوطنية التي أصبحت تحت هيمنة أجهزة الأمن السرية.
كان الهجوم على الإسلام فيما مضى يكاد يكون قاصراً على النشر، لكن بعد هذا التطور الإعلامي ووسائل الاتصال ازداد السّعار في الهجوم على الإسلام ونبي الإسلام، بحر لجّي من الوقاحة، نقابله نحن باستحياء، ولكن مما يدعو إلى الأسى المرير، هو أن هذا الهجوم ليس قاصراً على الأفراد، بل تجاوزه إلى هيئة لها مكانتها تتبع هيئة الأمم المتحدة، هيئة اليونسكو؛ ففي أحد مجلدات الحضارة الصادرة عنها، ست عشرة صفحة عن الإسلام، وفي البداية:"الإسلام دين ملفق من اليهودية والنصرانية والوثنية" أول القصيدة كفر. وقد لفت الأنظار إلى هذه الجريمة الدكتور عبد العزيز كامل وزير الأوقاف المصري الأسبق ـ رحمه الله.
كنت مع الأخ حسين عاشور ـ صاحب "دار المختار الإسلامي" في لقاء مع الشيخ خلف أمين عام مجمع البحوث الإسلامية يومئذ، قال لي: جئت في الوقت المناسب: وقص عليّ قصة ما جاء في مجلدات الحضارة. قال: ولقد عرضت الموضوع على كلية الشريعة منذ فترة. ولم تردّ، ويبدو أنها لن تردّ. وأنت لها لترد عليها في كتاب ما رأيك؟ قلت: على الرحب والسعة، قال أخي الأستاذ حسين: وأنا مستعد لنشر الكتاب للرد على اليونسكو، قال: على بركة الله.
ومما يؤسف له: أنني أهديت الكتاب إلى العديد من الصحف، ولم تشر إليه، حتى مجلة الأزهر، وكتب صديقي الكاتب الإسلامي الأستاذ عبد الرحمن علي البنقلاح في جريدة (أخبار الخليج) في الصفحة الدينية التي يشرف عليها مقالاً ثم قامت هيئة اليونسكو بالرد عليه.. اعتذرت: أنها أحالت ما نُشر عن الإسلام على بعض المتخصصين، واتضح فيما بعد أن الذين كتبوا البحث، لم يُوفّقوا، وأننا سوف نصحح هذا الخطأ في الطبعة القادمة.. وكفى، وفي الطبعة الثانية من كتابي سجلت ما تم، وبعد صدور الكتاب بأيام معدودة أخبرني جاري في المسكن الدكتور محمد يحيى الأستاذ بكلية آداب القاهرة أن إذاعة إسرائيل أذاعت عن الكتاب وهاجمتني؛ قلت: هذا شرف لم أسعَ إليه!
فمن المؤكد أن جريمة صحف الدنمرك لن تكون الأخيرة..أجل لن تكون هذه الجريمة البشعة الأخيرة، وستظل تحديات القوى المعادية للإسلام في عرض مستمر، دون أن تبالي بردود الفعل من العالم الإسلامي الباهتة، ولا ترقى هذه الردود إلى المستوى الرسمي (الحكومات) تكاد تكون قاصرة على بعض الأقلام والألسنة ـ وعلى استحياء. وفي دول عربية وإسلامية عديدة، لا تسمح بالرد على الهجوم حرصاً على مصالحها.. ومصالحها تتصل بالأباطرة.. وهي مصالح مادية وسياسية، ولو على حساب كرامة الدين والوطن والشعب.
إن أي مساس بالصهيونية ولو طفيفاً يقيم دنيا الغرب ولا يقعدها، وقد نجحت الصهيونية في نفوذها على العالم وبخاصة أمريكا والغرب. وأصبح التحرش بهذه الصهيونية معاداة للسامية يجرمه القانون الدولي. إن هناك مهازل مثيرة للسخرية، حسبي أن أذكر مهزلتين:
1 ـ تقدمت إلى الرقابة بكتاب لي "محمد الرسول البشر" عام 1958، صدّرته على الغلاف بحديث نبوي صحيح في مسلم وغيره:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله؟ وأصر الرقيب على رفع الحديث، وذكرت ذلك في لقاء مع العالم الجليل الدكتور محمد عبد الله دراز ـ رحمه الله ـ فأشار عليّ أن أكتب: "لا تطروني ... إنما أنا عبد ... فقولوا: عبد الله ورسوله" وبعد إلحاح وافق الرقيب.(/1)
2 ـ في برنامج إذاعي كان المذيع يجري حواراً مع طلبة الجامعة عن طريق أسئلة للإجابة عنها، سأل طالبة بكلية الآداب اسمها (فاطمة): ماذا تعرفين عن ساعة نحس يوم الجمعة؟ فأجابت: إنها الساعة التي صُلب فيها السيد المسيح. قال المذيع: برافوا: وإذا كان موجّه السؤال جاهلاً جهلاً مطبقاً، فإن الطالبة المسلمة التي أجابت قد نطقت كفراً.. وللمأساة ذيل.
كتبت كلمة موجزة تعقيبا، قلت: ليس في يوم الجمعة ساعة نحس ـ كما فهم المذيع، فضلّ وأضلّ، بل ساعة من رضا الله كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرةـ رضي الله عنه ـ قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يوم الجمعة، فقال: فيها ساعة لا يوافقها عبد وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه".
أعطيت التعقيب للأستاذ صلاح عزام المحرر بالجمهورية ـ رحمه الله ـ ولما لم ينشر ذهبت إليه أعتب عليه ـ فابتسم وأخرج من درج مكتبه الورقة عليها توقيع الرقيب بعدم النشر، ولما سألته قال: إحنا مش ناقصين إثارة فتنة. وضحكت وشر البلاء ما يضحك.
ونعود من حيث بدأنا:
إن ظاهرة الإساءة إلى الإسلام ـ مردّها ـ رواسب الحروب الصليبية، هذه الرواسب جعلت الإساءة ممتزجة بالحقد الأسود، فانتشار ظاهرة الإساءة للإسلام في المجتمعات الغربية وأمريكا، هي رد فعل لفلول التعصب الباقية في هذه الدول التي أدهشها انتشار المد الإسلامي في دول الغرب وأمريكا قبل أحداث 11 سبتمبر، حيث كان الإسلام ينتشر بقوة وعمق، ليصبح في معظم دول أوروبا الديانة الثانية للدولة، وبدأت أغلبية من المثقفين في كوادر علمية كبيرة يقبلون على الإسلام، فأصبحت جحافل التعصب التي تمنع انتشار الإسلام فلولاً وبقايا ـ ظلت موجودة في مراكز السياسة وصنع القرار هناك لتجد من أحداث 11 سبتمبر ذريعة لمحاربة الإسلام، ثم إن هناك جامعات إسلامية في هذه الدول، تهتم بتدريس الأديان بموضوعية، وبخاصة في الدول الاسكندينافية؛ لأنها تنبهت لما يشكله الدين من قوة إيجابية، ولذلك تحاول قوى التعصب فيها محاربة الإسلام بشراسة وجرأة ..
ومما هو جدير بالذكر أن الجريمة لم تقف عند حد نشر الكاريكاتير الوقح في صحيفة (بولاندز بوستن) الدنمركية، بل إن هناك صحفاً أخرى أوروبية نشرت الكاريكاتير تضامناً مع الصحيفة الدانمركية الوقحة، ومنها صحف ألمانية وفرنسية على سبيل المثال ـ والكفر ملة واحدة .. والعجيب: أن الغرب الصليبي يمارس أبشع صور التعصب العفن، ويتهم الإسلام بالتعصب، ليعدّ الهجوم على الإسلام سماحة والدفاع عن العدوان تعصباً، وينطبق على الغرب مقولة:"رمتني بدائها وانسلت"!(/2)
إياكم و محدثات الأمور
الحمد لله الغني الحميد ، اللطيف الخبير . تفرد بالعز والبقاء ، وتفرد بالملك والتدبير . أحمده سبحانه ، حمد عبد كبلته ذنوبه ، وأحاطته من كل عيوبه ، فاعترف بالعجز والتقصير . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، بيده الملك وهو على كل شيء قدير . والذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، من استغنى بغير كتابه أو سنته فهو الفقير ، ومن اقتفى أثره ، وترسم هديه فاز بالجنة تجري من تحتها الأنهار ، ذلك الفوز الكبير . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، حققوا اتباعه ، ونقلوا منهجه ، وعملوا بسنته ، فكان الله مولاهم ، نعم المولى ونعم النصير . وسلم تسليما . أما بعد ، فاتقوا الله عباد الله ، وتمسكوا بسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . أيها المسلمون : إن من عجب الأحداث في زمننا الحاضر أن يبتدع السلفي ، ويشرع المتبع ، ويحدث في دين الله من اقتفى الأثر . وإن مما يجب أن يحذر منه المسلم السلفي ، متبع أثر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يجب عليه أن يحذر أشد الحذر أن يبتدع في دين الله من حيث لا يشعر ، بل أن يظن أنه بفعله ذلك يتقرب إلى الله تعالى . ومعلوم عند كل مسلم متبع أن العبادة أمر توقيفي ، لا بد لكل جزء منها من دليل ثابت صحيح . وإن مما يعجب منه من ترسم هدي السلف ، واتبع منهجهم ، ما استحدثه بعض الناس في زمننا هذا ، بجهل محض ، أو بجهل مشوب بنية صالحة ، وكل ذلك لا يغني عنهم من الله شيئا . قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : ونهض إبليس يلبس ويزخرف ، ويفرق ويؤلف ، وإنما يصح له التلصص في ليل الجهل ، فلو قد طلع عليه صبح العلم افتضح . ا هـ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد . متفق عليه . وفي رواية لمسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد . فكل عمل يتقرب به العبد إلى الله تعالى يجب أن يكون صوابا ، على سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه . أيها المسلمون : إن مما استحدث - حتى من قبل من يظن بهم خيرا - لما اختلطت عليهم الأمور ، والتبس الحق بالباطل عندهم ، ولو دققوا النظر لما ترددوا في نبذها ، والتحذير منها ، من تلكم المحدثات التهنئة بالعام الجديد ، فيتبادلون التهاني والتبريكات ، وربما جاوز الأمر أكثر من مجرد التهنئة إلى الاحتفال بذلك ، وهذا خطر عظيم ، وشر جسيم ، لم يرد فيه عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه أو أتباعه رضي الله عنهم فيه أثر أو يصح في النقل عنهم فيه خبر . ويلبس الشيطان على السلفي من حيث لا يشعر ، فيوهمه أن نهاية العام وقت مشروع لمحاسبة النفس ، ومناقشة حال العمر فيما مضى . والنظر في صفحات العمر ، ومحاولة فتح صفحة جديدة مع الله فيما زعم . ولا ريب أن محاسبة النفس مشروعة ، مطلوبة ولكن أن يجعل آخر العام لها سببا فذلك من المحدثات . فليس لآخر العام ، ولا لبدايته مزية عن أي يوم آخر من أيام السنة كلها . وجعل ذلك عيدا ، أو سببا لعبادة ما ، يحتاج المرء فيه إلى دليل من كتاب الله تعالى ، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم . ودون ذلك خرط القتاد . ولقد انتشر في الهاتف الجوال رسائل تفيد طلب العفو والمسامحة من الإخوان ، والعفو عن الزلل ، وفتح صفحة جديدة مع الأصدقاء ، أو مع الله تعالى ، بل قد تعدى الأمر أكبر من ذلك أيضا فزعموا أن الله تعالى يطوي صفحة العام ، ولا يعيد نشرها إلى يوم القيامة ، فسألهم : من أين لكم هذا ، ومن أنبأكم بهذا ؟ أتقولون على الله ما لا تعلمون ؟ معاشر المسلمين : إن المعلوم عند أهل العلم أن ليلة القدر هي التي تقدر فيها المقادير للعام ، كما قال قتادة رحمه الله : تقضى فيها الأمور ، وتقدر الآجال والأرزاق ، كما قال تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم . قال ذلك عند تفسير قوله جل وعلا : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر . وأما آخر العام أو أوله، أو أوسطه فليس فيه نص من كتاب أو سنة ، وليس عليه دليل من فعل من سلف من صالح هذه الأمة ، أو قرونها الثلاثة المفضلة . وقد ذكر أهل العلم قيودا لكي يحكم على الشيء بالبدعية ، وهي : أن يكون هذا الأمر محدثا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : من أحدث . وأن يضاف هذا المحدث إلى الدين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : في أمرنا هذا . وأن لا يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي خاص أو عام ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ما ليس منه . وكل هذه القيود مندرجة في التهنئة ببداية العام الجديد . ألا وإن الشيطان المريد ، قد يوهم بعض الناصحين أو الغيورين أن لهذه البدعة فوائد جمة ، وأن فيها من المصالح ما يوجب العمل بها ، وهذا من تلبيسه ، ومكايده ، وإلا فإن البدعة لا يشترط أن تكون شرا محضا بل قد يكون فيها منافع ومصالح(/1)
وفوائد . وليست القضية في ذكر الفوائد والمنافع ، ولكن القضية التي يجب أن يوقف عندها هي : ما هو دليلها ؟ وإياك ثم إياك أن يغررك تعليلها . ففرق بين الدليل والتعليل . ولن تجد بدعة إلا ولها تعليل ، ولكنها خالية أو بعيدة كل البعد عن الدليل . وقد تستند البدعة إلى شبهة دليل ، أو دليل موهوم ، كما يفعل أصحاب الموالد ، فيستدلون بقوله تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . فيجعلون ولاية الله للمؤمنين ، سببا لدعائهم والنذر لهم واتخاذهم أربابا من دون الله . كما أن البدعة لا يشترط فيها أن تفعل على سبيل المداومة عليها ، وبعضها لا يشترط فيه قصد الابتداع أو المخالفة ، كالتشبه بالكافرين . وكثير من البدع يختلط فيه حب الخير ، وحسن القصد . وهذا لا يخرجها من البدعة . وكم من مريد للخير لم يصبه . وقد تكون البدعة مستندة إلى دليل عام ، وإنما تخصيصها بسبب أو زمان أو مكان أو عدد أو هيئة أو كيفية هو الذي يجعلها بدعة ، لا أصل الفعل . وهذا مستفاد من اللفظ الآخر للحديث ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد . فقد يكون أصل العمل مشروعا ، وإنما ورد الابتداع في سببه أو زمانه أو مكانه أو صفته أو هيئته ، كما لو استدل أحدهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة . فهذا مما نعتقده ، وندين الله به ، ولكن المبتدع يتخذ هذا سببا فيسأل النبي نفسه أن يشفع له ، وهذا بدعة شركية ، والحق أن يسأل الله تعالى أن يدخله في الشفاعة ، أو أن يشفع فيه نبيه وأولياءه . والفرق بين الأمرين واضح فتنبه . ولهذا قال الشاطبي رحمه الله تعالى : كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها لا بد له من تكلف في الاستدلال بأدلتها ، على خصوصيات مسائلهم وإلا كذب اطراحها دعواهم . عباد الله : كل عبادة لا تستند إلى كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهي بدعة ضلالة ، وإن استدل صاحبها واستمسك بأدلة يظنها أدلة ، وهي عند الراسخين في العلم : بيت العنكبوت . قال الطرطوشي : شيوعة الفعل وانتشاره لا يدل على جوازه ، كما أن كتمه لا يدل على منعه . وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري ومسلم قال : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبضه بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا . قال رحمه الله : فتدبر هذا الحديث ، فإنه يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم ، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم ، فيؤتى الناس من قبله . وقد صرف عمر هذا المعنى تصريفا فقال : ما خان أمين قط ، ولكنه أؤتمن غير أمين فخان . ونحن نقول : ما ابتدع عالم قط ، ولكنه استفتي من ليس بعالم فضل وأضل . إخوة الدين والعقيدة : إن من القواعد التي تعرف بها البدع أن لا يفعل ذلك الفعل أحد من السلف ، من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم ، ولم ينقلوها ، ولم يدونوها في كتبهم ، و لم يتعرضوا لها في مجالسهم ، فلا ريب في كون ذلك الأمر بدعة . ووالله لو كان خيرا لسبقونا إليه . فكل فعل لم يؤثر عن سلفنا الصالح فليس بدين ، وإن اجتهد المعللون بتعليليه ، وتنافس الضلال بتحليله ، فما لم يكن في القرون المفضلة دينا ، لا يكون في من بعدهم دينا أبدا . اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا . معاشر المسلمين : ومما انتشر في زمننا هذا وهو بدعة ضلالة ، أو شكت أن تنزل بالمسلمين نازلتها ، وأن تصيبهم قارعتها ، ألا وهي ما يسمى عند الكافرين بعيد الحب ، وانقاد المسلمون خلف سنن أعدائهم حد القذة بالقذة ، فتهادوا الورود الحمراء ، ولبسوا الفنائل الحمراء ، أو القبعات الحمراء ، وتبادلوا التهاني ، برسائل الهاتف ، أو ببطاقات التهنئة ، أو بالمشافهة . وبعده بقليل يأتي ما يسمونه بعيد شم النسيم ، أو الربيع ، كما احتفوا بعيد الميلاد وعيد رأس السنة الميلادية . ومن البدع أيضا ما يحدثه بعض المنتسبين إلى الإسلام في عاشوراء من لطم وضرب وصياح ونياح ، وغير ذلك ، وليس المشروع فيه عن الحبيب صلى الله عليه وسلم ومن سلف من صالحي أمته إلا الصيام . فلا تفضل ليلته بقيام ، ولا نهاره بشيء من العبادة غير الصيام كالاغتسال أو التوسعة على الأهل والعيال . فاتقوا الله عباد الله ، وعليكم بوصية الحبيب صلى الله عليه وسلم ، فقد أوصاكم بتقوى الله ، وقال : عليكم بسنتي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم . بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ... الخطبة الثانية : الحمد لله على إحسانه ،،، أما بعد ،(/2)
فاتقوا الله عباد الله ، وقفوا حيث وقف السلف ، فهم عن علم وقفوا ، وخذوا من حيث أخذوا ، فهم عن علم أخذوا ، واتركوا ما تركوا ، فهم عن علم تركوا . ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ، نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا . عباد الله : إن مما يدمي القلب أن أكثر المسلمين في عالمنا اليوم لا يعلمون عن هجرة نبيهم شيئا ، وهم يحتفلون بها ، ويتغنون بأنشودتها ، ثم لا يعرفون صاحب الهجرة ، ولا يدرسون سنته ، ولا يتبعون منهجه ، وهم أبعد ما يكونون عن سبب هجرته ، وجهاده ودعوته ، فلم هاجر ، صلى الله عليه وسلم ؟ ولم جاهد ؟ وإلى ماذا كان يدعو ؟ وما جعلت الهجرة تقويما للمسلمين إلا لما فيها من دروس وعبر ، غفل عنها المحتفون بها ، وتناساها المغيرون لمنهجها ، المبتعدون عن هديها ، المستبدلون تأريخهم بتأريخ أعدائهم ، بئس للظالمين بدلا . وإن تعجب فعجب أمرهم ، يحتفلون بالهجرة ، وهم يصرحون بأن ليس في عالمنا اليوم ما يسمى بدار الإسلام ودار الكفر . فالعالم أصبح قرية واحدة . بل هم يحاربون الولاء والبراء بحجة فهم سقيم . يحتفلون بالهجرة ، ويؤرخون لأحداثهم بميلاد المسيح عليه السلام . يحتفلون بالهجرة وقد هجروا القرآن ، وحاربوا السنة ، وشغلتهم مهرجانات الأغاني وأمسيات الشعر فهم غافلون . يحتفلون بالهجرة وهم لا يتبعون سنة صاحبها ، ولم يقفوا موقف صاحبه منه ، فيسلمون له ، ولم يضحوا مثل ابنته ، ذات النطاقين ، لحماية دينه ، ونصرة شريعته ، بل لم يقفوا حتى موقف ذلك المشرك فكان للهادي دليلا في دنياه ، ولم يفعلوا فعل سراقة إذ تبين له الحق ، فعمى المشركين عن طريق الحبيب صلى الله عليه وسلم . فعجب أمر قوم يحتفلون بما بأحوالهم هم له ينكرون . وبأفعالهم هم عنه معرضون ، وبأقوالهم هم فيه يترددون ، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين . وصدق وهو كذوب حين قال : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم . أيها المسلمون : في الهجرة درس غفل عنه حتى بعض طلبة العلم ، في عصرنا هذا ، حين رأوا تكالب العدو يمنة ويسرة ، يحيطون بالمسلمين من كل جانب ، من فوقهم ومن أسفل منهم ، وعظمت في أعينهم قوتهم ، وأعشت أبصارهم بارجاتهم وصواريخهم وعددهم وعدتهم ، فقالوا إنا لمدركون ، وعزب عن علمهم : لا تحزن إن الله معنا . معنا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى . تدبر هذا المعنى وأنت تسمع كلمات الصديق يقولها خوفا على الدين وحامل الدين ، صلى الله عليه وسلم ، يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا فيقول له بكل ثقة وإيمان ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما . نعم ، لن يستطيع الكافر أن يحرك عينه ، أو أن يرخي طرفه إلا بإذن الله ، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ، وهذا وعد ممن إذا وعد وفى ، وقد وعدنا فقال : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون . ومن أصدق من الله قيلا ؟ وعد الله لا يخلف الله الميعاد . فأنا أقول ، وكلي ثقة وإيمان ، والله ليتمن الله هذا الأمر ، حتى ما يبقى بيت وبر ولا مدر إلا دخله ، بعز عزيز ، وذل ذليل ، عزا يعز الله به الإسلام وأهله ، وذلا يذل الله به الكفر وأهله . فعليكم بسنته فانصروها ، وبدعوته فانشروها ، وبطاعته فالزموها ، وبشريعته فحكموها ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن ، إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم . أيها الأحبة : إن الله وملائكته(/3)
إيرادت الأوقاف الإسلامية ووظيفتها في إشباع الحاجات العامة[1]
د. أحمد مجذوب أحمد*
مقدمة
أـ استهلال:
الحمد لله رب العالمين معين من استعان به وناصر من استنصر به، المعبود في كل مكان والمذكور على كل لسان، الآمر بالإنفاق مما استخلف فيه العباد، وأفاء عليهم به من خزائن رحمته. شرع الصدقات وجعلها من أبواب القربات حتى تتحرر بها النفوس من الركون إلى الدنيا وتتعلق بالمعاني السامية.
والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد البشر أجمعين، الهادي إلى الحق والمرشد إلى الطريق المستقيم، الدال على البر والآمر بفعل الخير. زهد في الدنيا ولم يتعلق بها فمات ودرعه مرهون عند يهودي. تأسى به صحابته فسلكوا طريقه والتزموا هديه وخرجوا عن بعض أموالهم تقرباً إلى الله تعالى، وإسهاماً في حل مشاكل مجتمعهم، فما من صحابي إلاّ وكان له وقف تجري عليه حسناته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ملتزمين في كل ذلك سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث كان هو أول من وقف الأموال وحبسها في شأن المسلمين ومصالحهم العامة.
أصلي عليه وعلى أصحابه صلاة دائمة تامة، وأدعو الله أن يكتب لنا السداد والهداية والرشاد فعليه التوكل وإليه الإنابة.
ب ـــ مدخل:
في هذه الصفحات تجد أيها القارئ الكريم بعض القضايا والأفكار، طرحتها في هذه الندوة، علها تجد من العلماء الأجلاء والباحثين الكرام وأهل الخبرة وطلبة العلم نقاشاً واسعاً مستفيضاً يرتقي بما جاء بها من أفكار ويعالج ما حوته من موضوعات حتى يتضح مجملها ويبين مشكلها وتتكامل رؤاها وينظم عقدها.
وتجييء هذه المعالجة لهذه الأفكار والقضايا في وقت أصبح فيه الاتجاه العام هو البحث عن وظيفة المجتمع في قيامه بحاجاته معتمداً على المبادرات الفردية، والمساهمات الطوعية، حتى اتضح هذا الأمر في السودان، خاصة بعد أن التزمت الدولة المنهج الإسلامي في توجهها، وحرصت على أن تبني مؤسساتها على شرع الله والهدي النبوي الشريف، فتحيي ما اندثر منها وترعى ما شب وتمكن ما رشد.
ولما كانت الأوقاف الإسلامية من المؤسسات ذات الشأن الكبير في تاريخ المسلمين، حيث كانت تمثل مصدراً تمويلياً لعدد من الأنشطة التي تقوم بها الدولة في عصرنا الراهن، رأيت أن أطرح هذه الموضوعات على مائدة البحث لتكون بداية لمزيد من البحث والتدقيق.
وعليه فقد استهللت هذه الورقة بشرح لمفهوم الحاجات العامة في الفكر الرأسمالي، وضوابط هذا المفهوم في الفكر الإسلامي، ومن ثم وضحت مفهوم الأوقاف الإسلامية من حيث قيامه على الأموال المدرة للدخل، وتعلقة بصور متنوعة لنفقات، عامة كانت أو خاصة، وبعد ذلك انتقلت للحديث بشيء من التفصيل عن طبيعة الأموال الموقوفة، حتى تبين معالمها في عالم اقتصاديات المالية العامة. وتمت هذه الورقة بذكر أبواب بعض النفقات التي كانت تمول من إيرادات الأموال الموقوفة، باعتبارها المؤشر الأساسي الذي يؤكد أن مؤسسة الوقف لو وجدت الاهتمام الكافي لقامت بكفاية المجتمع من بعض حاجاته إن لم نقل معظمها. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
2 ـــ تعريف الحاجات العامة:
يعرف مصطلح الحاجات العامة (PUBLIC NEEDS ) بأنها الحاجات الجماعية التي يتولى النشاط العام إشباعها. ويراد بالنشاط العام هنا نشاط الدولة أو القطاع العام. والملاحظ في هذا التعريف أنه قيد الحاجات العامة بالحاجات التي تهم مجموع أفراد المجتمع. وقد عرفها أحد الباحثين بأنها:" تلك الخدمات التي تقوم السلطات العامة بتأدتيها بناءً على قرار سياسي من جانب أفراد المجتمع لحاجتهم إليها، نتيجة للتضامن الاجتماعي، ورغبتهم في التمتع بمظاهر المدنية وتحقيق أعلى مستوى ممكن من الرفاهية الاقتصادية "[3] . واستخدم كذلك بعض الباحثين مصطلح ( الحاجات الاجتماعية ) للتعبير عن ذات المعنى[4] .
وقد وضع الاقتصاديون الذين عالجوا هذا الموضوع وفقاً للتعريف الأول للحاجات العامة عنصرين لتوضيح ذلك المفهوم هما:
• أن تكون عامة أي ليست خاصة .
• أن تتولى الدولة أوإحدى مؤسساتها إشباع هذه الحاجة.
وقد عبر بعض الاقتصاديين بصورة أدق عن الحاجة العامة بكونها التي يتوفر فيها شرطان:
الشرط الأول: ألاّ يكون عليها تنافس سوقي، أي أن تكون من السلع التي لا يقدمها القطاع الخاص لعدم وجود تنافس عليها بسبب أن إضافة أي مستهلك جديد لاستهلاك السلعة لا تزيد تكاليف الإتناج ولا تقلل من استهلاك الآخرين لها، فالمنطق الاقتصادي يقضي بأن يكون سعر استهلاك السلعة للمستهلك الجديد مساوياً للنفقة الحدية الناتجة من استهلاكه، ويلاحظ أن النفقة الحدية بالنسبة لهذا المستهلك تساوي صفراً، وعليه ينبغي ، أن يكون سعر استهلاكها مساوياً لنفقتها، أي ينبغي أن تقدم مجاناً لهذه المستهلك. ولا توجد جهة يمكن أن تقدم هذه الخدمات بالمجان وعلى سبيل الإلتزام سوى الدولة بحكم مسئوليتها عن رعايتها وقوامتها على شئون المجتمع .(/1)
الشرط الثاني: عدم القدرة على استبعاد الآخرين عند استهلاك السلعة.
ويقصد بذلك أن السلعة التي يستطيع المستهلك الحصول عليها بعد دفع ثمنها يكون قد حرم المستهلكين الآخرين من استهلاكها، حيث يكون أثر حصوله على هذه السلعة هو استبعاد الآخرين عن الانتفاع بها، وعملية الاستبعاد هذه تدفع القطاع الخاص لإنتاج هذه السلع حيث يؤدي الاستبعاد إلى إحداث تنافس سوقي على الانتفاع، وبموجب ذلك يتحدد حجم الطلب ويتأثر السعر.
أما السلع التي لا يستطيع الفرد استبعاد الآخرين عند استهلاكها بحيث لا يؤثر انتفاعه بها على انتفاع الآخرين، فإن السوق لا يستطيع أن ينتجها، لعدم وجود تنافس عليها يحدد حجم الطلب، ويعكس كلفته الإنتاج، ويحدد السعر[5].
وقد أضاف بعض الاقتصاديين الرأسماليين الذين عالجوا هذا الموضوع شرطاً آخر غير هذين الشرطين في تحديد معنى الحاجات العامة التي ينبغي على الدولة تقديمها، وهو أن تقرير الدولة القيام بهذه الخدمة، لا لعدم التنافس السوقي عليها، ولا لعدم تطبيق مبدأ الاستبعاد عليها، ولكن لأن المصلحة العامة اقتضت أن تقوم بتقديمها الدولة استجابة لرغبة الأفراد في ذلك عن طريق التصويت السياسي[6].
هذه الإضافة عبر عنها التعريف الثاني الذي قدمناه في مستهل هذه الورقة حيث ذكرنا أن الحاجات العامة هي تلك الحاجات التي تقوم الدولة بتقديمها اعتماداً على قرار يصدر من المؤسسات التي تمثل المجتمع من مجالس شورى وغيرها . ويرتكزالمجتمع في إصداره هذه القرار على مبادئ التضامن الاجتماعي، والمسئوليات العامة، وتحقيق الرفاهية الاقتصادية لأفراده[7] .
وعليه فإن الحاجات العامة التي تقوم الدولة بإشباعها، وتدخل تحت التعريفات السابقة تشمل المجالات التالية:
• حاجات الأمن والدفاع ( القوات المسلحة، قوات الأمن) .
• حفظ النظام العام ( القضاء، الشرطة، الحسبة،....الخ ) .
• العلاقات الخارجية .
• الصحة والتعليم
• المرافق العامة( الجسور، الطرق، القنوات، صحةالبيئة ...الخ).
وبعد، فإذا كان هذا هو مفهوم الحاجات العامة في الإقتصاد الرأسمالي، فما هو مفهوم الحاجات العامة في الاقتصاد الإسلامي؟
تختلف الحاجات العامة في الاقتصاد الإسلامي عنها في الاقتصاد الرأسمالي لاختلاف أهداف الدولة الإسلامية عن الدولة الرأسمالية.فالدولة الإسلامية دولة تقوم على الربط بين الحياة الدنيا والآخرة [8] بينما الدولة الرأسمالية دولة علمانية لا تعرف للدين ولا للآخرة مكاناً فيها، ومفهوم الحاجات العامة التي سنبحث عن وظيفة الأوقاف الإسلامية في إشباعها هو المفهوم الإسلامي المرتبط بوظائف وأهداف الدولة الإسلامية في المجتمع.
3 ـ مفهوم الحاجات العامة في الاقتصاد الإسلامي:
يرتبط مفهوم الحاجات العامة في الدولة بالوظائف المطلوب من الدولة تحقيقها في المجتمع " حيث أن المطلوب الشرائع من الخلائق على تفنن الملل والطرائق، والاستمساك بالدين والتقوى والاعتصام بما يقربهم إلى الله زلفى، والتتثمير لا بتغاء ما يرضي الله تقديس وتعالى، والاكتفاء ببلاغ من هذه الدنيا، والندب إلى الانكفاف عن دواعي الهوى والانحجاز عن مسالك المنى"[9].
وبتعبير آخر" إن الغرض استيفاء قواعد الإسلام طوعاً أو كرهاً.والمقصد والمقصد الدين ولكنه لما استمد استمراره من الدنيا كانت هذه القضية مرعية"[10].إلاّأن المطلوب من الولاة في الدولة الإسلامية هو حراسة الدين وسياسة الدنيا.
إذن الحاجات العامة بالمفهوم الشرعي تتعلق بتمويل نفقات تكليفين هما:
• التكليف المتعلق بنشر الإسلام.
• الإجراءات الدنيوية المرتبطة بتنفيذ التكليف الاول.
وإذا أردنا أن نعود إلى الحاجات العا مة التي كانت الدولة الإسلامية تقوم بها في عهدها الأول ( عصر المثال) فنجدها تشمل الآتي:
• تأسيس الدولة بإقامة الولاة وأعوانهم في المجالات الإدارية والمالية والقضائية والأمنية وغيرها من المجالات المتعلقة بتحقيق أهداف الدولة الإسلامية.
• نشر الدعوة الإسلامية ببسط العلوم الشرعية والعربية والعلوم التي يتوقف عليها قيام الدولة الإسلامية.
• إعدادالمجاهدين.
• تحقيق التكافل الاجتماعي.
• إقامة المرافق التي تتحقق بها مصالح المسلمين كإقامة الجسور وإصلاح الطرق وحفر القنوات وبناء المساجد...الخ)
• إقامة فروض الكفاية[11].
وفي ضوء هذه المؤشرات التي تحدد أنواع الحاجات العامة التي كانت تقوم بها الدولة الإسلامية يمكن أن نخرج ببعض العناصر كضوابط لتعريف الحاجات العامة التي تقوم بها الدولة الإسلامية وتلك العناصر هي:
• الحاجات العامة التي دلت الأحكام الشرعية على قيام الدولة بها، مثل نشر الدعوة الإسلامية, والجهاد في سبيل الله، وتحقيق الأمن، وتعليم العلم الضروري، وإشباع الحاجات الأساسية للفقراء والمساكين في المجتمع.
• الحاجات التي تحقق بها مصالح المسلمين كالمرافق العامة من طرق وجسور وقنوات...الخ.(/2)
• الحاجات التي يعجز جهاز السوق عن تقديمها لواحد من الأسباب التالية:
• الحاجات التي يؤدي تقديم السوق لها إلى إلحاق الضرر بالمسلمين، كالصناعات الاستراتيجية.
• الحاجات التي ليس عليها تنافس سوقي ولاتدخل ضمن الحاجات السابقة ولايمكن تطبيق مبدأ الاستبعاد فيها لتعذره أو لعدم الرغبة في تطبيقة.
• الحاجات التي يرى أهل الشورى في الدولة الإسلامية قيام الدولة بها.
• الحاجات التي تختلف منافعها وتكاليفها الفردية عن المنافع والتكاليف الجماعية، منظوراً إليها من وجهة نظر المصلحة العامة الشرعية بضوابطها ودرجاتها المعروفة.
• الحاجات العامة التي تندرج تحت مسمى الفروض الكفائية، كالصناعات المختلفة، والتي لم يقم القطاع الخاص بها وتحتاج إلى دعم وتنسيق الدولة[12] .
هذا هو الإطار الذي يحدد نوع الحاجات العامة التي يتعين على الدولة الإسلامية إيجاد مصادر التمويل لها والقيام بإشباعها لأنها من الواجبات الأساسية حيث ترتبط بوظيفة الدولة التي لا يتسنى لها القيام بها ما لم تقم بإشباع هذه الحاجات. وعليه تدخل هذه الحاجات تحت قاعدة( مالا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب).
4ــ مفهوم الأوقاف الإسلامية:
اقتضت طبيعة المال أن يكون قابلاً للتبادل بين الناس تحقيقاً لمعاني الانتفاع الكامل، فاقتضى مفهوم التملك حرية التصرف في المال بمختلف الوجوه الناقلة للملكية،سواء تمت هذه التصرفات عن طريق عقود المعاوضات، أو عقود التبرعات، أو غيرها من العقود الناقلة للملكية[13]. والملك هو اختصاص الشخص بشيء يخوله شرعاً الانتفاع والتصرف فيه وحده ابتداءً، إلاّ لمانع[14].
والوقف هو: " حالة من الحالات الاستثنائية التي ترد على المال كمحل للملك، وتخرجه من قابليته للتداول، حيث يظل ممنوعاً من التداول والانتقال من يد ليد، محبوساً على جهة معينة تستفيد من ريعه بصورة تفيد الاستمراروالدوام، دون أن تملك هذه الجهة حق التصرف في أصل المال"[15]. والوقف هو :" منع التصرف في رقبة العين التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها وجعل المنفعة لجهة من جهات الخير ابتداء وانتهاء"[16].
والأوقاف بهذا المعنى تتعلق بالمال، والمال عند جمهور الفقهاء هو: " كل ما له قيمة مادية بين الناس وجاز الانتفاع به شرعاً في حالة السعة والاختيار" [17].
وقد تم شرح هذا التعريف على النحو التالي:
• ما يشمل جميع الأشياء الأعيان والمنافع، المادية والمعنوية.
• ما له قيمة مادية بين الناس ــ وهذا الجملة وردت كقيد أخرجت به الأعيان والمنافع التي لا قيمة لها بين الناس ـــ
• ما جاز الانتفاع به شرعاً، وهذا قيد آخر أخرجت بها الأعيان والمنافع التي لها قيمة بين الناس ولكن الشريعة لم تعتبر له هذه القيمة حيث منعت الانتفاع بها كالخمر ولحم الخنزير ولحم الميتة، وغيرها من الأشياء المحرمة.
• في حالة السعة والاختيار، وهذا قيد أخرج جواز الانتفاع المشروع في حالة الضرورة التي تبيح المحرم شرعاً، وكون جواز الانتفاع بها لضرورة لا يجعلها أموالاً معتبرة شرعاً لأن هذا الانتفاع عارضاً وليس اصيلاً[18].وعليه فإن الأموال التي يصح وقفها تشمل جميع الأعيان والمنافع التي لها قيمة مادية بين الناس، وجاز الانتفاع بها شرعاً في غيرضرورة ولاحاجة.
ومن ثم يجوز وقف جميع الأعيان كالعقارات والأشجار والزروع، كما يجوز وقف المنافع كحقوق طبع الكتب والنشر، وسكنى الدار طالما قام بناؤها، حيث تعود في ملك صاحبها بعد خرابها، ويجوز وقف النقود[19]، وعلى الجملة فقد أجازبعض الفقهاء وقف أي مملوك كالمالكية [20] . وإن كان هناك من الفقهاء من يرى أنه لا يجوز وقف المنقول إلاّ ما ورد له استثناء كالمتصل بالعقار اتصال قرار ، وماهو ثابت مثل المباني والأشجار، أو الأشياء التي خصصت لخدمة العقار، كالمحاريث والأبقار ، والغلمان الذين يخدمون فيها[21].
والوقف يمثل أحد أبواب الإنفاق الطوعي وقد نادت به الشريعة الإسلامية وحثت عليه حيث يقول تعالى{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} البقرة (267). ويقول تعالى ( وأنفقو مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصاحين) المناقون ( 10) . ويقول تعالى أيضاً ( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ) الحديد ( 7) .(/3)
والوقف وإن كان يدخل في باب الإنفاق العام والصدقات الطوعية التي حث عليها الإسلام إلا أنه يتميز بأنه يتصف بالدوام، لأن الوقف يشترط فيه كما ذكرت في التعريف بقاء أصل عين المال والتصديق بالمنفعة، فهو لهذا يدخل في مصطلح الصدقة الجارية التي لا ينقطع ثوابها عن صاحبها حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)[22] . والصدقة الجارية هي التي تتجدد منافعها للمستفيدين منها، كسكن الدار أو شراب ماء البئر أو ركوب الدابة، وغيرها من المنافع المستمرة. فالوقف بهذا المعنى يمثل تدفقاً مباشراً كري الأرض او أجره الدار أو ثمار المزرعة، يذهب للموقوف عليهم، أو تدفقاً نقدياً غير مباشر كالانتفاع بسكنى الدار ، أو ركوب الدابة، أو شرب ماء البئر، أو أكل ثمار المزرعة الموقوفة، وهي منافع يمكن تقويتها بالنقود بحيث يمثل هذا الانتفاع غير المباشر تخفيضاً للمصروفات النقدية التي كان من المفترض أن يدفعها الموقوف عليه.
• مفهوم الأموال الموقوفة :
أ. مال الوقف مال نام أوقبل للنماء:
يجيئ هذا من اشترط بعض الفقهاء أن الوقف لا يصح إلاّ في الأموال التي تمثل أصلاً رأسمالياً يبقى بقاء متصلاً، أو الأموال التي يجوز الانتفاع بها مع بقاء عينها [23]. أي أن المال الموقوف هو مال يتصف بالاستمرار، لأن القصد الوقف هو إيجاد مصدر له ريع أو عائد متجدد يمكن المستفيد منه ( الموقوف عليه) من استمرار الانتفاع به على وجه يشبع حاجاته، وفي الأغراض التي حددها صاحب الوقف أو المنشئ له. ولهذا فإن وقف السلع التي تنفي باستهلاكها كالأطعمة والمشروبات لا يصح، لأنها تنتهي عند أول انتفاع بها فهي إذن تدخل في باب الصدقة بمفهومها العام وليس في باب الوقف .
ومن هنا يتضح أن المال الموقوف هو مال نام أو قابل للنماء، لأن الاشياء التي لا تنمو أو لا تكون قابلة للتنمية لا يتحقق منها عائد ينتفع به من وقف عليه المال. قال الشيخ يوسف اسحق حمدالنيل :" الموقوف هو العين التي حبست، من أرض زراعية وعقار كالمنازل والحوانيت والمساجد والآبار والطرق والقناطر والمنقولات من أوان وغيرها ، وليس منه الطعام لأنه مستهلك ) [24] .
والنمو أو القابلية للنمو التي نتحدث عنها تتوقف على أمرين هما:
• استمرارية الأصل الموقوف أياً كانت الاستمرارية، مطلقة كالأرض، أو مؤقتة كالآلات الحربية، أو معدات المصانع.
• وجود منافع للموقوف متعددة ، أياً كانت هذه المنافع ، كربح المال المستثمر ، أو أجره الدار أو ثمار الاشجار ، أو خراج الأرض المزروعة ،وما في حكم هذه الأشياء.
مصرف أموال الأوقاف هو جهات البر المختلفة :
عرفنا عند تعريفنا للمال الموقوف أنه ما وقف على جهة من جهات البر ابتداء وانتهاءً، وبهذه فإن مصارف أموال الوقف تشمل جهات البر والخير المختلفة، ويظهر هذا المعنى من فهم الصحابة رضوان الله عليهم للقرآن الكريم، وتأكيد المصطفى صلى الله عليه وسلم لذلك الفهم. فعندما نزل قوله تعالى ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ، بادر أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال(" إن الله يقول ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ، وإن أحب أموالي إلى بيرحاء، إنها صدقة لله تعالى . وبيرحاء حائط كان يستقبل المسجدوكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخله ويشرب من ماء فيه طيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم( أجعلها في قرابتك ، في حسان بن ثابت وابي بن كعب)[25].
وتشمل أبواب البر المشار إليها في الآية الإنفاق على الاقربين كما هو ظاهر من حديث أبي طلحة ، ويشمل الفقراء وابن السبيل وفي الرقاب والضعيف كما في قصة عمر بن خطاب رضي الله عنه : فعن ابن عمر رضي الله عنه عنها " أن أصاب أرضاً من أرض خيبر فقال : يا رسول الله أصبت مالاً بخيبر لم أصب قط مالا خيراً منه ، فما تأمرني؟ فقال: ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ، غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث) قال ابن عمر: فتصدق بها عمر على ألا تباع ولا توهب ولا تورث ، في الفقراء وذوي القربى وفي الرقاب والضعيف وابن السبيل ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول"[26] .
وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أن البر هو الانفاق في سبيل الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات [27] . ولذلك يشترط الإمام أحمد بن حنبل أن يكون الوقف على بر أو معروف ، فقد نقل أبو زهرة من الشرح الكبير عن المقنع في فقه الحنابلة ، ( أن الوقف لا يجوز إلا في بر أو معروف ، كولده وأقاربه والمساجد والقناطر وكتب الفقه والعلم والقرآن والسقيات والمقابر وفي سبيل الله وإصلاح الطرق ونحو ذلك من القرب)[28] .
ج . الأموال الموقوفة تتمتع بحماية قانونية تضمن لها الاستمرار والدوام :(/4)
أن أموال الوقف تستمد حمايتها من الاسم الذي سميت به في الإسلام ، فهي وقف لايخرج عن حاله و حكمه. وعندما أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف أرضه التي نالها بخيبر في الحديث الذي أشرت إليه فيما تقدم، وضع له شروطاً معينة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا يباع أصلها ـــ أي أصل الأرض ــ ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث). فالرسول صلى الله عليه وسلم عطل جميع التصرفات المرتبطة بملك الإنسان لماله في المال الموقوف لأنه يخرج عن ملك صاحبه، وفي ذلك حماية للموقوف عليهم وضمان لاستمرار النفع العائد من الوقف عليهم ولا تؤثر في هذه الحماية آراء الفقهاء الذين قالوا بجواز تأقيت الوقف، حيث من المعلوم أن الفقهاء في هذه المسألة على فريقين:
• جمهورالفقهاء قال بأن الوقف لا يجوز إلاّ على سبيل التأبيد، حيث ذهب إلى ذلك الشافعية والحنابلة والحنفية.
• أما الإمام مالك فقال بجواز أن يؤقت الوقف.[29]
وكلا الفريقين يقول بأن المال طالما كان موقوفاً سواء وقفاً مؤبداً أو مؤقتاً فلا يجوز إخراجه عن حالة الوقف، طالما كان يتمتع بهاعلى صفة التأبيد أو لمدة التأقيت.
ولهذا فقد منع الفقهاء بيع الوقف واستبداله إلاّ وفق شروط دقيقة حدّدوها.
د. منفعة الأموال الموقوفة هي ملك عليهم:
يمثل الوقف ملكاً للمنفعة دون العين، فمنافع الوقف مملوكة للموقوف عليهم دون خلاف بين جميع الأئمة في ذلك، وقد علمنا فيما تقدم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وجه أبا طلحة إلى أن يحعل صدقته في قرابته، حسان بن ثابت وأبي بن كعب، بعد أن أراد أبو طلحة أن يجعلها صدقة عامة لله تعالى، يوزع الحاكم منافعها في الوجوه التي يراها. وكذلك علمنا أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ملك منافع أرضه التي وقفها بخيبر، للفقراء وذوي القربى وفي الرقاب والضيف ابن السبيل، فكل من دخل تحت جنس من هذه الأجناس استحق الانتفاع مما يخرج من هذه الأرض.
وفي الجملة فإن الجهات التي يحددها الواقف هي الجهات التي تملك منافع الوقف. فإن وقف على الطلاب لا يصح إخراج المنافع عنهم، وإن وقف المسجد لا يصح صرف منافع وقفه في غيره، إن وقف شخص ماله على ذريته لا يصح إعطاء من لا يستحق منهم، وهكذا الحال في كل وقف حدد صاحبه أبواب صرف ريعه.
ولا نريد أن نتحدث عن اختلاف الفقهاء في كل من ملك المنفعة وملك الانتفاع[30]، لأننا بحديثناهذا نعالج موضوعاً معيناً وهو أن مالكاً وقف جزءاً من ماله، عقاراً كان أو غيره، على جهة من الجهات البر، فهذه الجهة تملك المنفعة والانتفاع بما يخرج من هذا المال سواءً كان رابحاً أو أجرةً أو سكناً أو غير ذلك، تمشياً مع رأي الفقهاء من أن المنفعة تملك بواسطة عقد مملك، ومن بين العقود المملكة الإجارة والإعارة والوصية بالمنفعة والوقف كما وضحنا في مطلع هذا الموضوع، حيث ذكرنا أن الوقف هو ملك منفعة.
هـ . المال الموقوف ليس مالاً خاصاً ولاعاماً بالمعنى المطلق:
يتبادر إلى ذهن كل باحث ومطلّع السؤال التالي:
هل المال الوقوف هو مال خاص أم مال عام أم هو غير ذلك؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أصل المال الموقوف، فأصل المال الموقوف هو مال مملوك ملكية خاصة، حيث اتفق الفقهاء على أن الوقف لا يصح إلاّ في عين مملوكة لصاحبها ملكاً تاماً، وأن تكون معرفة تعريفاً كاملاً ولو على سبيل الشهرة[31]، ذلك أن المال صدقة من الصدقات التي حثت عليها الشريعة الإسلامية, والصدقة لا تكون إلا من طيب المال المملوك وغير المملوك لا تصح فيه التصرفات لأن غير المالك لا يقدر على التصرف في غير مال غيره. ولو تصرف فضولي في مال غيره فإن تصرفه يتوقف على موافقة المالك، إن أمضاه بقي وإن ألغاه انتهى.
فالوقف حالة استثنائية ترد على المال المملوك فتخرج منفعته عن ملك صاحبها حيث هو أصله مال مملوك ملكية خاصة خرج بالوقف عنها، كما يرى أهل العلم، إلى واحدة من الحالات التالية:
• يبقى المال الموقوف في ملك صاحبه ولكنه ملك مقيد لا يملك فيه صاحبه كل التصرفات، قال بذلك مالك وأيده الكمال بن الهمام من الحنفية.
• المال الموقوف يخرج من ملك الواقف إلى ملك الموقوف عليهم، قال بذلك بن حنبل في أرجح الروايات.
• المال الموقوف يخرج من ملك الواقف ويكون الملك فيه على حكم ملك الله تعالى[32].
والفقهاء لم ينتبهوا في خلافهم هذا إلى البحث عن طبيعة هذا المال بعد أن طرأ عليه هذا الحكم وهو الوقف.
فالحديث عن أن المال مازال باقياً في ملك صاحبه حديث غير مقبول لأن من شروط الملك حرية التصرف وهي غير متحققة هنا. ومن شروط الصدقة خروج المال المتصدق به ابتغاء القربة لله تعالى، إلى المتصدق عليه وهو غير متحقق هنالأن التي تخرج عن صاحبها هي الصدقة المستهلكة التي لا تبقى بعد الانتفاع بها، وعليه فإنه لامجال للحديث عن ملك الموقوف لأن الأصل في الوقف هو التصدق بمنفعته وبالتالي فإن ملك الموقوف عليهم يتعلق بالمنافع.(/5)
والقول الذي يمكن أن يكون مقبولاً من هذه الأقوال هو أن المال الموقوف يخرج من ملك الواقف إلى ملك الله تعالى. والفقهاء لم ينتبهوا إلى أمر هام وهو ضرورة وجود جهة لها ذمة يضاف إليها الملك وتقوم بتحمل الالتزامات و التبعات الناتجة عن هذا الملك، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وكان الأجدر لهؤلاء أن ينسبوا المال الموقوف إلى ملكية الدولة التي ترعى شئون العباد وتقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا، وهي المكلفة بتنفيذ الأحكام الشرعية. وكان يمكنهم أن يقيسوا مال الوقف على مال الزكاة الذي يخرج عن ملك صاحبه ويصبح مالاً عاماً قبل أن يوزع على مستحقيه فيملكونه ملكية خاصة.
فالقول بأن المال الموقوف مال عام على وجه الإطلاق لا يصح لأن الدولة هي القائمة على المال العام وليست لها مطلق التصرف فيه لأنها مقيدة بشرط الواقف. فأنسب تعبير يمكن أن نصف بها مال الأوقاف هو أنه مال عام مخصص لمصرف.وهوبهذا المعنى مال خاص ولكنه يختلف عن المال الخاص بمعناه المطلق، فلا تجري عليه أحكام المال الخاص ولا العام على إطلاقهما.
وبعض الباحثين( أبو زهرة) يفرق، إذ يتناول بالبحث عن طبيعة ملكية أموال الأوقاف، بين أنواع الوقف المختلفة، حيث يرى أن الأراضي الموقوفة على جماعة المسلمين( على جميع أفراد المجتمع دون تحديد لنوع منهم) كأراضي بني النضير وفدك ونصف أرض خيبر التي رصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجماعة من المسلمين، أنها أموال عامة وتعتبر جزءاً من الملكية العامة، بينما تعتبر الأوقاف الخيرية الأخرى الموقوفة على جماعة من الأمة الإسلامية غير معروفة بأشخاصها صورة من صور الملكية العامة.
ويرد على هذا الرأي بأن الملكية العامة تعطي حرية التصرف للدولة كجهة مسئولية عن حفظ المصالح العامة، وهي وإن كانت حرة التصرف في النوع الأول من الأوقاف العامة لجماعة المسلمين التي أشار إليها الباحث، فهي ليست كذلك في النوع الثاني، والسبب في ذلك أن هذا النوع لا ينطبق عليه تعريف الوقف على إطلاقه، وإنما يعتبر مالاً عاماً أصدر إمام المسلمين قراراً في شأنه وطريقة التصرف فيه مرتكزاً على ولايته العامة والتصرف المنوط بالمصلحة.
ويدعم هذا الرأي أن هنالك من الفقهاء من قال إن معنى الوقف هنا عدم قسمة الأرض بين الجنود الفاتحين، وإقرارها على حالها، وضرب الخراج في رقبتها، وليس معناه الوقف المانع من نقل الملك[33] .
6ــ الحاجات العامة التي يمكن تمويلها من إيرادات الأوقاف كما ورد في النصوص:
وضحنا في مطلع هذه الورقة مفهوم الحاجات العامة في الاقتصاد الإسلامي، والضوابط الحاكمة لنوع الخدمات العامة التي تتولى الدولة الإسلامية إشباعها وكذلك الضوابط الحاكمة لحجم تلك الخدمات ومستواها. وحتى يتضح لنا بجلاء ما يمكن أن تقوم به إيرادات الأوقاف، من إسهام في تحمل هذه الخدمات.
وفي هذا الجزء من البحث نتعرف على دور الأوقاف في إشباع الحاجات العامة من خلال استعراض بعض مجلات صرف إيرادات الأوقاف التي وردت في النصوص.
أ ــ المجالات العامة:
يدل الحديث الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثالث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)[34] على أن الوقف يصح أن يكون عاماً، فالصدقة الجارية التي هي الوقف يمكن أن لا تقيد بصرف بعينه، بل يمكن أن تشمل جميع القربات، وتشبع بها جميع حاجات الإنسان.
ب ـــ مجالات الدفاع والأمن:
روى الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة)[35]. ففي هذا الحديث يحث الرسول صلى لله عليه وسلم أصحابه، ومن بعدهم عامة المسلمين على وقف أموالهم في سبيل الله، حماية للأرض، ودفاعاً عن العرض، وإقامة لأمر الدين.
وقدقال صلى الله عليه وسلم عن خالد بن الوليد رضي الله عنه:( أما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله)[36]، وقد قال ذلك على سبيل المدح عندما تحدث الناس عن منع خالد للصدقة. وهو بهذا الحديث يفتح للناس باب الإنفاق على معدات الجهاد على مصراعيه ليلج منه كل إنسان بما يستطيع وما يناسب زمانه ومكانه.
ج ــ مجالات الفقراء والمساكين وأبناء السبيل (أصحاب الحاجات):
هذا من أوسع المجلات التي وقفت عليها الأموال في الإسلام. فقد ورد عن ابن عمرضي الله عنهما حديث رسول الله صلى الذي سبقت الإشارة إليه في هذا البحث حول وقف الأرض التي أصابها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخيبر، كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بأن يقف منفعتها على الفقراء، وذوي القربى، وفي الرقاب ، والضيف ، وابن السبيل [37] .(/6)
وبهذه النص نقف على أن عمراً قد أمر بأن يجعل ريع أرضه الموقوفة لأصحاب الحاجات من المسلمين أياً كان نوعهم ، في ذوي قرباه، أو عتق العبيد أو فك الأسرى ، أو إكرام الضيف ، أو سد حاجة ابن السبيل.
وكذلك نستدل على جواز الوقف على ذوي القربى في حديث أبي طلحة المتقدم ذكره إذ يخبر أبو طلحة رسول الله عليه وسلم بأن أحب أمواله إليه بيرحاء ، وأنه يريد أن يجعلها صدقة يرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فيجيبه الرسول الكريم عليه أفضل الصلاه والتسليم : ( بخ! ذلك مال رابح ، قد سمعت ما قلت فيها وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) . فيقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه[38] .
والملاحظ هنا أن الخيار كان للصحابي في أن يخصص ريع هذا الوقف لأي جهة أراد ولكنه استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه بأنه يرى أن يجعلها في الأقربين ، فدل هذا على أن الأقربين من بين أبواب الخير التي يخصص لها ريع الوقف.
د. مجالات توفير مياه الشرب:
يأتي هذا الباب من أبواب الأموال الموقوفة في مطلع الحاجات التي اهتمت بها الشريعة الإسلامية وحثت الناس عليها . فقد روى البغوي أن هنالك لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة . وكان يبيع منها القربة[39] بمد ، فقال له صلى الله عليه وسلم ( أتبيعينها بعين في الجنة ؟ فقال يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها ، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه ، فاشترها بخمسة وثلاثين ألف درهم ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أجعل لي مما جعلت له؟ قال (نعم) ، قال ( أي قال عثمان) : قد جعلتها للمسلمين .
وفي رواية للبخاري عن عثمان بن عفان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من حفر بير رومة فله الجنة) قال فحفرتها[40]
ومن هاتين الروايتين يتضح لنا حث الرسول صلى الله عليه وسلم على وقف موارد المياه وهو باب لا تخفي الحاجة إليه في كل زمان ومكان.
ونكتفي بهذه الإشارة لبيان بعض المجالات صرف إيرادات الأوقاف لإشباع حاجات المسلمين، حيث تأكد من خلال استعراض هذه النصوص أن الإنسان مخير في تخصيص إيراد وقفه لأية جهة من جهات البر تتحقق بها مصالح المسلمين، وما ورد إنما هو على سبيل المثال لا الحصر.
7ــ الحاجات العامة التي كانت تمول من ريع الأوقاف عبر التاريخ الإسلامي:
نستعرض هنا بعض النماذج للحاجات العامة التي كانت تمول من إيرادات الأوقاف، ونؤكد أيضاً أن ذلك ليس على سبيل الحصر والإحاطة وإنما على سبيل التمثيل:
أـ مجال نشر الدعوة الإسلامية :
تعتبر المساجد هي القلاع التي تنطلق منها دعوة الإسلام، ولهذا نجد أن معظم الأوقاف قد ارتبطت بها واتصلت بنشاطها عمارة لها وقياماً بنفقة العاملين فيها، وقد حفظ لنا التاريخ نماذج لهذه المساجد نذكر منها:
• أوقاف الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة حيث يوجد الكثير من الأوقاف التي خصص ريعها لصيانة وتعمير هذه المساجد، ودفع نفقات الأئمة والعلماء والمؤذنين العاملين فيها.
• أوقاف الجامع الأزهر، وهو يعد من القلاع الحصينة التي انطلق منها الإسلام، وآوى إليها الدعاة من كل حدب وصوب. قامت أوقافه بكفاية الأئمة والعلماء والدعاة وطلاب العلم وأصحاب الحاجات، ولازال بعضها شامخاً حتى الآن.
• أوقاف المسجد الأقصى التي تقوم عليها إدارة منفصلة ترعاها وتنظم شئونها.
• أوقاف مساجد دمشق والقيروان وبغداد وغيرها من المساجد.
ويجئ الاهتمام بالمساجد لأنها قبلة المسلمين، والمكان الذي يتعبدون فيه، ويتلقون فيه العلوم الشريعة، ويناقشون فيه أمور حياتهم وهموم دعوتهم ، وهم يتأسون في ذلك بمنهج المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث كان أول ما فعله في المدينة أن بنى المسجد، فالتف أصحابه حوله فيه، وانطلقوا يدعون منه.
ب ــ مجال التعليم:
ظل الوقف على المساجد مرتبطاً ارتباطاً كاملاً بالتعليم، لأن المؤسسة الأولى التي انطلق منها العلم هي المسجد، وبعداتساع نشاط العلماء، وازدياد عدد الطلاب وتنوع المعارف الإسلامية، بدأ الناس في تخصيص مواقع معينة لتلقي العلوم، وسكن العلماء والطلاب.
وللتأكيد أنّ هذا الباب من أبواب الإنفاق قد لاقي عناية الواقفين، نقتطف بعض النصوص الواردة في كتاب:{ رحلة ابن جبيرة}، وهو يصف المدن الرائعة المشاهد التي رآها.
يقول ابن جبيرة معبراً عن إعجابه بحجم الأوقاف المخصصة للتعليم التي رآها في دمشق:" فمن شاء الفلاح من نشأة مغربناـ أي من أبناء المغرب ـــ فليرحل إلى هذه البلاد ويتغرب في طلب العلم، فيجد الأمور المعينات كثيرة فأولها فراغ البال من أمر المعيشة. والمخاطب كل ذي همة يحول طلب المعيش بينه وبين مقصده في وطنه من الطلب العلمي[41]".(/7)
ويصف جامع دمشق فيقول عنه:" فيه حلقات للتدريس، للطلبة وللمدرس فيها إجراء واسع.. ومرافق هذا الجامع المكرم للغرباء وأهل الطلب كثيرة واسعة وأغرب ما يحدث به أن سارية من سواريه.. لها وقف معلوم يأخذه المستند إليها للمذاكرة والتدريس... وللصبيان أيضاً على قرائنهم جراية معلومة .. وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير يأخذ منه المعلم لهم ما يقوم به، وينفق منه على الصبيان ما يقوم به وبكسوتهم"[42].
وقال ابن جبير أيضاً عن الإسكندرية وهو يعدد مناقبها ومفاخرها العائدة على سلطانها:" المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطلب والتعبد يفدون من الأقطار النائية فليقى كل واحد منهم مسكناً يأوى إليه الناس يعلمه الفن الذي يريد تعلمه، وإجراء يقوم به في جميع أحوال. ولهذا كله أوقاف من قبله ــ أي من قبل السلطان ـــ"[43] .
أما عن بغداد فقد قال ابن جبيروهو يصفها:" المدارس بها نحو الثلاثين وما منها مدرسة إلاّ وهي يقصر البديع عنها وأعظمها وأشرفها النظامية (أي المدارس النظامية)... ولهذا المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محبسة تتغير إلى الفقهاء المدرسين بها ويجرون بها على طلبة وما يقوم بهم"[44] .
ويتضح من الاستعراض لما ذكره ابن جبير عن أوقاف التعليم أنها تشمل المصروفات التالية:
• كلفة تشييد المدارس والمعاهد.
• الرواتب.
• إعاشة طلاب العلم.
• إنشاء المساكن للطلاب.
• المكتبات التي تحتاج إليها المعلم والمتعلم.
وعليه فإن هذا الباب من أبواب الإنفاق إذا نظرنا إليه في عصرنا الراهن نجد أنه يمثل قدراً لا يستهان به من مصروفات الدولة السنوية.
ج ــ مجال الرعاية الصحية:
يعد مجال الرعاية الصحية من المجالات التي خصصت لها إيرادات الأوقاف حيث نجد أن أول مستشفى في الإسلام كان وقفاً أسس في عهد الوليدبن عبد الملك وخصص هذا المستشفى لعلاج المجذوبين، وبه أطباء متخصصون، وتجرى على المرضى فيه الأرزاق ورواتب العاملين[45].
ووقفت المستشفيات للمدارس أيضاً خدمة طلبة العلم والعلماء وأهل المدينة أو القرية التي فيها المدرسة يقول ابن جبير بعد حديثه عن المدارس و والتسهيلات التي ألحقت بها في مدينة الإسكندرية للغرباء والدارسين:" واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين ... ونصب لهم مارستاناً لعلاج المرضى منهم ووكل لهم أطباء يتفقدون أحوالهم" [46].
وتوسعت أوقاف المجال الصحي حتى أصبح في مدينة قرطبة وحدها خمسون مستشفى بل وأنشئت المستشفيات المتخصصة وألحقت بها الصيدليات، كما عمل ابن طولون في مسجده الشهير بمصر، حيث ألحق به أجزخانة شراب، فيها كل أنواع الأشربة والأدوية، وفيها طبيب يحضر كل يوم جمعة لمعالجة المرضى.
وتنوعت التخصصات فصار كل مستشفى يعني بفئة من المرضى، فقامت المستشفيات لأمراض العقل والجراحة والكسور والعيون والامراض الباطنية كل الحميات والإسهلات .
ومن أشهر المستشفيات التي ورد ذكرها في التاريخ المستشفى المنصوري الكبير ، حيث كان داراً لأحد الأمراء وحوّله إلى مستشفى عام683هـ ،وجعل له أوقافاً يصرف منها لمن خرج معافى كسوة ، وعلى كفن وتجهيز من مات . وعيّن في هذا المستشفى الأطباء المتخصصين والعمال الذين يخدمون المرضى وينظفون ملابسهم وقد كان من شروط الوقف لهذا المستشفى ومرضاه أن يقدم الغذاء لكل مريض في إناء خاص به لا يستخدم غيره، تحرياً للصحة ومنعاً لانتقال الأمراض[47] .وكذلك من المستشفيات الشهيرة المستشفى النوري الكبير وقد اسسه السلطان العادل الشهير نور الدين في عام 549هـ ، ووقفه على الفقراء والمساكين [48] . وسمح للأغنياء باستخدام الدواء فيه عند حال الاضرار.
وهكذا يجد المتأمل لتاريخ الإسلام وحضارته الزاهرة أنشطة واسعة كانت تمول من ريع الأموال الموقوفة ، ونكتفي بهذه القدر لأننا نريد أن نؤكد الوظيفة التي يمكن أن تؤديها الأوقاف في إشباع الحاجات في المجال الصحي .
8. استخدام إيرادات الأوقاف لإشباع الحاجات العامة في السودان:
السودان كبلد إسلامي عرف الأوقاف منذ أن دخله الإسلام ، وقد وافقت أهداف الوقف طبيعة أهله من سماحة وكرمٍ وسخاءٍ وجود فهم الذين عرفوا شتى صور التكافل والتعاون على البر في( النفير ) ، و( الفزعة) ، و( المروة) ، و( التكية) ، و( المسيد) و( الخلوة) ، و( السبيل ) ، و( الحفير ) ، و( الديوان)[49] .
وعليه فقد عرف السودانيون الأوقاف وخصصوا إيراداتها للعديد من الأنشطة ، وفيما يلي نذكر بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر.
أ. أوقاف الدعوة الإسلامية:(/8)
عرفت الأوقاف المخصصة للدعوة الإسلامية بصورة متكاملة في عهد مملكة سنّار الإسلامية التي اهتم حكامها بالعلماء والدعاة، وخصصوا لهم الأوقاف وأجروا عليهم الرواتب ، ومنحوهم الأعطيات ، وتفرغ هؤلاء لتبليغ الدعوة ونشر العلم وتربية الناس على منهج الذكر والشكر[50]. وارتبطت هذه الأوقاف بالبيوت الدينية والمساجد الكبرى التي اهتم أهلها بتحفيظ القرآن وإرشاد الناس إلى الخلق القويم ، وهي من الوضوح بما لا يحتاج إلى تفصيل . وسوف نتعرض لها بشيء من التفصيل عند الحديث عن أوقاف التعليم
ب. أوقاف التعليم والنشر:
ارتبط التعليم في السودان في بدايته بالمساجد ، وكان تعليماً دينياً يتمثل في تحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه، وبعض العلوم الأخرى كالحديث والفقه والسيرة . ولهذا ارتبطت الأوقاف الخاصة بالتعليم بالمساجد والخلاوي المشهورة ونذكر منها على سبيل المثال:
• أوقاف خلاوي الغبش ببربر بالمسجد الذي تلقى فيه الإمام محمد أحمد المهدي [51] قدراً من العلوم الشرعية ، وللمسجد مزارع خصص ريعها لمصروفاتها ومصروفات الخلاوى الملحقة به.
• أوقاف مسجد وخلاوي ومعاهد العلم بكدباس وهي قريه بشمال السودان ، يتبع أهلها الطريقة القادرية ، وقد أسسوا عدداً من الخلاوي ، لتحفيظ القرآن الكريم ، ومعاهد متوسطة وثانوية للعلوم الشرعية ، ولهم أوقاف زراعية واسعة وبعض العقارات في مدينة عطبرة ، يصرف من ريعها وما يجود به المحسنون من محبى الطريقة وشيخها على طلاب العلم.
• أوقاف مسجد وخلاوي أم ضواًبان شرق الخرطوم ، وهذا المسجد وخلاويه من أعرق المؤسسات التعليمية بالسودان ، وله مشروعات زراعية خصص ريعها للصرف على طلاب العلم . بالخلاوي والدعاة والعاملين بالمسجد.
• أوقاف معهد أم درمان العلمي العالي ، وهو الأساس الذي قامت عليه جامعة أم درمان الأسلامية ، والمنارة التعليمية التي كانت تماثل الأزهر في السودان ، وفيه درس معظم قادة الدولة السابقين من سياسيين وإدارايين ومثقفيين . ولهذا المعهد أوقاف عديدة تشمل العقارات التجارية والمنازل السكنية ، يصرف ريعها حتى الآن على طلاب أم درمان الإسلامية .
ولازال هنالك معهد متوسط ملحق بمسجد أم درمان الكبير،ومعهد ثانوي يعد للدخول للجامعة أيضاً ، ولهذا الموافق التعليمية أوقاف خاصة بها وأ وقاف مشتركة مع جامعة أم درمان الأسلامية[52] .
• أوقاف البغدادي، وهي مجموعة عقارات تجارية ومنازل سكنية وقفها الشيخ الفاضل البغدادي لطلاب الطب بجامعة الخرطوم[53].
• أوقاف عبد المنعم، وهو من رواد الوقف بالسودان، أسس مسجداً وله عدد من المعاهد، والأوقاف العقارية التي خصص جزء من ريعها للصرف على هذه المعاهد.
• أوقاف شروني، وتشمل مسجداً ومعهداً لتعليم علوم القرآن الكريم وعقارات تجارية وسكنية خصص جزء من دخلها للصرف على المعهد وطلاب العلم بالخلاوي.
• الأوقاف السنارية بالمدينة المنورة، وهي مجموعة عقارات وقفها حكام مملكة سنار الإسلامية في القرن العاشر الهجري، لصالح المنقطعين للعلم والعبادة في مدينة المصطفى صلىالله عليه وسلم من أفراد مملكتهم، ولمن يخدمون المسجد النبوي الشريف.
وفي التاريخ المعاصر قامت هيئة الأوقاف الإسلامية السودانية بدعم عدد من الأنشطة التعليمية، ومن ذلك دعم جامعة إفريقيا العالمية، وهي مؤسسة تعليمية تعني بتعليم أبناء إفريقيا المسلمين. كما أن خطط الهيئة تعني ببعض المشروعات المتصلة بالعلم مثل:
• مشروع وقف طالب العلم، وهو مشروع مخطط للقيام به بالتنسيق مع الصندوق القومي لدعم الطلاب بالسودان. وبالفعل بدأ إنشاء عدد من المساكن في ساحات بعض المساجد، ولا زال الطريق طويلاً أمام هذا المشروع.
• مشروع جائزة الأوقاف السنوية، وهو مشروع استهدف تنشيط الحركةالعلمية في مختلف مجالات المعارف الإسلامية وغيرها ولم يبدأ بعد في تنفيذ هذا المشروع .
• مشروع دار الأوقاف للطباعة والنشر والتوزيع ، وهو من المشروعات التي تعني بطباعة القرآن الكريم، وبالكتاب الإسلامي، وبنشر وسائل الإعلام المختلفة من مجلة وصحيفة وشريط وغيرها، وهو مشروع ما زال تحت الدراسة.
ج. أوقاف الرعاية الصحية:
عرف المجتمع السوداني الأوقاف المخصصة للرعاية الصحية في وقت متأخر، وكان بداية ذلك المراكز الصحية التي أنشأها المرحوم عبد المنعم محمد في أماكن متعددة بالخرطوم وأم درمان، يضاف إليها المستشفى الذي بناه المحسن البلك، ومستوصف أبي زيد الملحقة بأوقاف مسجده بمدني، ويضاف إليها عدداً من المراكز الصحية والعيادات الملحقة بالمساجد، والتي تقدم خدماتها إما مجاناً للفقراء أو بأسعار رمزية احتساباً لله تعالى .(/9)
ومن المحاولات الجادة في هذا المجال مشروع الصيدليات الشعبية الذي تبنته هيئة الأوقاف الإسلامية السودانية في كل من بور تسودان والخرطوم بالتنسيق مع عدد من المنظمات المشابهة ويجري الآن التشاور مع وزارة الصحة بولاية الخرطوم لإنشاء أوقاف خاصة بالرعاية الطبية ولا زال المشروع قيد الدراسة.
هذا بالإضافة إلى المساهمات التي تقدمها هيئة الأوقاف الإسلامية لتحسين خدمات المستشفيات ومساعدة المرضى والمحتاجين للعلاج.
د. الأوقاف العامة :
توافقاًَ مع سياسة الدولة الرامية إلى توسيع دائرة العمل التطوعي، بدأت هيئة الأوقاف الإسلامية بالتنسيق مع بعض المحافظات والمجالس في السودان في إنشاء أوقاف عامة يخصص جزء من دخلها للمرافق العامة التي يحتاج إليها المسلمون ، ولتمويل نفقات التكافل والخدمات الأخرى التي لا تجد تمويلاً من إيرادات الدولة ولقد أنشئت لهذا الغرض الأوقاف التالية:
• السوق التجاري للأوقاف بمدينة عطبرة الذي خصص نصف ريعه للأنشطة العامة.
• السوق التجاري للأوقاف بمدينةالدويم والذي لم يخصص دخله لجهة بعينها وإنما أعطى القائمون عليه مرونة كاملة في تحديد أوجه صرف إيراداته حسب الأولويات في كل موازنة سنوية.
• سوق عبد الله بن مسعود بمدني وهو مجمع تجاري كبير خصص جزء كبير ريعه لمقابلة الأنشطة العامة أيضاً .
هذه بعض الإشارات أوردناها لنبين أنه وفقاً للنصوص الشرعية ومن واقع التاريخ الإسلامي وفي التطبيق السوداني، قامت إيرادات الأوقاف بإشباع عدد من الحاجات العامة، فوفرت لها الإيراد المتدفق الذي ضمن للمستفيدين منها كفايتهم وسد حاجتهم . ومهما كان فإن ما يحدث ليس هو كل الطموح وغاية المنتهى وإنما في ذلك عبرة للمعتبرين ، للتعرف على الإمكانات الكامنة في مؤسسة الوقف التي تمثل ركيزة من ركائز النهضة الحضارية التي يتحرر فيها الإنسان من حب المادة والارتهان لها.
9. خاتمة:
وبعد، فقد وجد القارىء في هذه الورقة بعض الإشارات التي قصد منها إضاءة الطريق للباحثين في وظيفة الأوقاف ودورها في إشباع الحاجات العامة، فقد تطرقنا إلى ماهية الحاجات العامة وضوابطها في الاقتصاد الإسلامي، وتعرفنا على خصائص الأموال الموقوفة، ووقفنا على المجالات التي يصرف عليها من إيرادات الأوقاف وفقاً للنصوص الشرعية الحاثة على الوقف، وذلك من خلال استعراض التاريخ الإسلامي الواسع الذي سجل وظيفة الأوقاف في تحقيق النهضة الحضارية، وذكرنا بعض الأمثلة من واقع التجربة السودانية. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل .
{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} البقرة( 286) .
----------
[1] ــ هذا البحث قدم إلى ندوة " دور الأوقاف الإسلامية في المجتمع الإسلامي المعاصر التي انعقدت في الخرطوم في العام 1415هـ 1994م
[3] ــ رفعت المحجوب : الماليه العامة، مكتبة النهضة العربية، بيروت، (لبنان) 1982م،ص7.
[4] ـــ أحمد حافظ الجعويني: اقتصاديات المالية العامة، ط2، 1974، ص56.
5 ــ راجع رسالة الباحث للدكتوراه عن السياسة المالية في الاقتصاد الأسلامي، قسم الاقتصاد الأسلامي، جامعة أم القرى بمكة المكرمة ، ص53ــ 56.
[6] ــ المرجع السابق، ص56.
[7] ــ راجع رسالة الباحث للدكتوراه، مرجع سابق.
[8]ــ راجع إمام الحرمين الجوني في كتابه الغياثي،ط2، 1401هـ ص 22 من التحقيق
[9] ــالمرجع السابق، ص180من التحقيق.
[10]ــ المرجع السابق ص183.
[11] ــ راجع رسالة الباحث للدكتواه، مرجع سابق،ص59.
[12] ــ رسالة الباحث للدكتوراه،مرجع سابق،ص59ــ 60.
[13] ــ حسن عبد الله الأمين: الوقف في الفقه الإسلامي، بحث منشورضمن وقائع ندوة[إدارة وتثميرممتلكات الأاوقاف ]، البنك الإسلامي للتنمية ــ جدة، ص93.
[14] ــ عبد السلام داودالعبادي: الملكية في الشريعة الإسلامية، مكتبة الأقصى ــ عمان ( الأردن)، الجزء الأول ص150.
[15] ـــ حسن عبد الله الأمين، مرجع سابق، ص93.
[16] ـــ محمد أبو زهرة، محاضرات في الوقف، دار الفكر، ص7.
[17] ــ عبد السلام داودالعبادي، مرجع سابق، الجزء الأول، ص179.
[18] ـــ المرجع السابق، ص179.
[19] ــ ملخص آراء الفقهاء حول وقف النقود كما يلي:
أولاً:الحنفية يجيزون وقفها، انظربرهان الدين، الإسعاف، مرجع سابق، ص26.
ثانياً : المالكية : يجيزون وقفها للسلف كما هو في مذهب المدونة ويمنعونها إن كانت لغير السلف بل لبقاء ينها، انظر الزرقاني، شرح مختصر خليل، ج7، ص57.
ثالثاً: الشافعية: على خلاف حولها فمن أجاز إجارتها أجاز وقفها ومن لم يجز الأجارة لم يجز الوقف.(/10)
رابعاً : الحنابلة: ذهب صاحب المغني إلى أن لا ينتفع به إلاّ بالإتلاف مثل الذهب والورق المأكول فوقفه غير جائزوأوضح بأن المراد بالذهب والفضةهو الدراهم والدنانير وما ليس بحلي. انظر ابن قدامة، المغني مع الشرح الكبير، ج6، ص35 ـــ ( المحرر).
[20] ــ حسن عبد الله الأمين، مرجع سابق، ص115.
[21] ــ المرجع السابق، ص116.
[22] ــ رواه مسلم وأبو داود وغيرهما: انظر صحيح مسلم، مرجع سابق، ج2، كتاب الوصية.سنن أبي داود، ج2، ص300(المحرر ).
[23] ــ حسن عبد الله الأمين، مرجع سابق ص115.
[24] ــ يوسف إسحق حمد النيل، مفتاح الدرايا لأحكام الوقف والعطايا، إدارة الأوقاف لدولة الإمارات العربية المتحدة، ص18 ـــ19
[25]ـــ انظر البخاري ، صحيح اليخاري، مرجع سابق، ج2، كتاب الزكاء، باب الزكاء على الأقارب، ص530 .
[26]ــ انظر : البخاري ، صحيح البخاري، مرجع سابق ، ص70.(المحرر).
[27] ــ يوسف إسحق حمد، مرجع سابق، ص19.
[28]ــ محمد أبو زهرة، مرجع سابق، ص79.
[29] ــ محمد أبو زهرة، المرجع السابق، ص62ــ 63.
[30] ــ امتلاك الانتفاع: يعني أن الشخص يمتلك الحق في الانتفاع بالشيء بنفسه فقط، أما امتلاك المنفعة فهو أعم ويعني أن الشخص يملك الحق في الانتفاع بنفسه مباشرة أو تمكين غيره من الانتفاع بعويض كالإجارة أو بغير عويض كالعارية.
انظر القرافي، الفروق، دار المعرفة (بيروت)، ج1، ص187 ( الفرق الثلاثون). (المحرر).
[31] ـــ عبد السلام داود العبادي، مرجع سابق، ص236ــ 237.
[32] ـــ للوقوف على آراء الفقهاءحول هذه المسألة راجع : شهاب الدين القرافي ، الذخيرة( تحقيق سعيد عراب). دار الغرب العربي ( بيروت)، ج6، ص327ــ 328. ( المحرر).
[33] ـــ محمد أبو زهرة، المرجع السابق، ص89ــ 92.
[34] ـــ انظر الحاشية في ص210.
[35] ــ البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق،ج3، كتاب الجهاد، باب من احتبس فرساً، ص216 (المحرر).
[36] ـــ انظر الحاشية رقم (1) ص9
[37] ـ أنظر الحاشية رقم( )
[38] ـ أنظر الحاشية رقم ( )
[39] القربة هي جلد الشاة يدبغ ويخاط ليحمل فيه الماء
[40] ــ حديث بئر رومه أورده الزيلعي برواية الباحث الأولى انظر : نصب الراية الأحاديث الهداية، الزيلعي، دار المأمون، ط1،ج3 ص477. أما عن الرواية الثانية فقد ورد في البخاري" عن أبي عبد الرحمن أن عثمان رضي الله عنه حيث حوصر أشرف وقال: أنشدكم ولا أنشد إلاّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفر رومة فله الجنة) ، فحفرتها.
انظر صحيح البخاري، مرجع سابق،ج3، كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضاً أو بئراً، ص198.( المحرر).
[41] ــ رحلة ابن جبيرة، ص200.
[42] ـــ المرجع السابق ، ص191.
[43] ـــ المرجع السابق،ص46.
[44] ـــ المرجع السابق، ص164.
[45] ــ معتصم الفداني: الأبعاد الاجتماعية للأوقاف ودورها في التنمية ص9.
[46] رحلة ابن جبير ، ص46.
[47] معتصم الفادني ، مرجع سابق ، ص9ـ 10.
[48] معتصم الفادني ، المرجع السابق ، ص 12.
[49] في العامية السودانية: النفير: كلمة يشار إلى حال الناس عندما يتنفروا لعمل ما. والفزعة: هي معاونة الآخرين في أعمالهم . والمروة: يراد بها المورءة . والتكية: هي مكان الذي بأتي إليه الفقراء من طلبة العلم في المساجد ويقدم الطعام فيه مجاناً للعلماء وطلاب العلم والفقراء والضيوف . والمسيد: يطلق على المسجد الذي تلحق به معاهد تحفيظ القرآن ومساكن الطلاب ويؤدي فيه أهل التصوف الذكر. والخلوة وجمعها خلوة : تطلق عل المكان المخصص للضيوف على مكان تحفيظ القرآن: والسبيل ك هوالمكان الذي يوضع فيه الماء لشرب الإنسان . الحفير.: مكان يحفر في الأرض لتتجمع فيه المياه لشرب الإنسان والحيوان . والديوان : مكان استقبال الضيوف. وكما يلاحظ القاريء الكريم فإن معظم هذهالألفاظ لصيغتها الفصحى.
[50] حسن مكي محمد : مضامين الثقافة السنارية ، مجلة دراسات إفريقية، جانعة إفريقيا العالمية، العدد 8، ديسمبر1991م .
[51] قائد حركة الإصلاح الديني بالسودان إبان العهد التركي والتي عرفت بالثروى المهدية وقد توفي في عام 1885م بعد أن أسس الدولةالمهدية بالسودان والتي استمرت حتى بداية العهدالإنجليزي المصري في عام 18898م. ( المحرر) .
[52] راجح صكوك هذه الأوقاف بقسم الملكية العقارية بهيئة الأوقاف الإسلامية السودانية، وبإدارة جامعة أم درمان الإسلامية.
[53] ــ راجع المعلومات المتعلقة بهذه الأوقاف وما يليها في هذا الجزء ن البحث، في الصكوك المحفوظةب قسم الملكية العقارية بهيئة الأوقاف الإسلامية السودانية.
* عضو مجمع الفقه الإسلامي - الخرطوم(/11)
إياك و سوف
" أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك "
قال كعب بن مالك -رضي الله عنه- يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- في غزوة تبوك 000
لم أتخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزاة غزاها قط إلا غزاة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر، ولم يعاتب أحد تخلف عنها، وإنما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة حين تواثقنا على إلا سلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وان كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر000
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتها في تلك الغزاة000
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز، واستقبل عددا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وجهه الذي يريد، والمسلمون مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ (الديوان) 0 قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه، ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل 0وغزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال، وأنا والله أصعر (أميل للبقاء)، فتجهز اليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك ان أردت !00فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس بالجد، فأصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غاديا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، وقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه !00فغدوت بعدما فصلوا (خرجوا) لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو (فات وقته)، فهممت أن ارتحل فألحقهم، وليت اني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا (متهما) في النفاق، أو رجلا ممن عذره الله عز وجل ، ولم يذكرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك:( ما فعل كعب بن مالك ؟!)000فقال رجل من بني سلمة:( حبسه يا رسول الله براده والنظر في عطفيه )000فقال معاذ بن جبل:( بئسما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ) فسكت الرسول -صلى الله عليه وسلم-(/1)
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي، وطفقت أتذكر الكذب وأقول:( بماذا أخرج من سخطه غدا؟!) وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أظل قادما زاح عني الباطل، عرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه. فأصبح الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فيقبل منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علانيتهم، ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت 0 فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: (تعال !)0فجئت أمشي حتى جلست بين يديه،فقال لي: (ما خلفك ! ألم تكن قد اشتريت ظهرا ؟!)0فقلت: ( يا رسول الله، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك اليوم بحديث تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل 0 ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك )0قال: فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:( أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك) فقمت وقام إلي رجال من بني سلمة وأتبعوني فقالوا لي: (والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت إلا تكون اعتذرت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك )000قال: فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، قال: ثم قلت لهم:( هل لقي هذا معي أحد ؟)000قالوا:( نعم، لقيه معك رجلان، قإلا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك )0فقلت:( فمن هما ؟)000قالوا:( مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي )0 فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا، لي فيهما أسوة قال: فمضيت حين ذكروهما لي000ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي إلا رض، فما هي بإلأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم: فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بإلأسواق فلا يكلمني أحد00وآتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم، وأقول في نفسي أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟!00 ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي فإذا التفت نحوه أعرض عني0حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام فقلت له:( يا أبا قتادة، أنشدك الله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟)000قال: فسكت000قال: فعدت له فنشدته00فسكت00فعدت له فنشدته فسكت0 فقال:( الله ورسوله أعلم) قال: ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول:( من يدل على كعب بن مالك؟)0 قال:فطفق الناس يشيرون له إلي، حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه:( أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وأن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك )0قال: فقلت حين قرأته وهذا أيضا من البلاء 0قال: فيممت به التنور فسجرته به حتى إذا ما مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا برسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتيني يقول: (يأمرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تعتزل امرأتك)0 قال: فقلت: (أطلقها أم ماذا أفعل ؟)0فقال:( بل اعتزلها ولا تقرنها ) 0قال: وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك قال: فلبثنا عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا(/2)
قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا:قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي إلارض بما رحبت، سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته:( أبشر يا كعب بن مالك )000 قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا 000فأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرسا، وسعى ساع من "أسلم" وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك يومئذ غيرهما 0واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بتوبة الله، يقولون:( ليهنك توبة الله عليك)0 حتى إذا دخلت المسجد، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد والناس حوله، فقام إلي طلحة بن عبد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، فلما سلمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال (وهو يبرق وجهه من السرور):( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك )0قال: قلت:( أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله ؟)0قال:( لا، من عند الله) قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت:( يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله والى رسوله)0قال: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك )0قال: فقلت:( فاني أمسك سهمي الذي بخيبر ) 0 وقلت:( يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق، وان من توبتي إلا أحدث إلا صدقا ما بقيت )00 قال: فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن مما أبلاني الله تعالى، ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا، واني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقى )0وأنزل الله تعالى:( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين وإلأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم انه بهم رءوف رحيم، وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم،سورة التوبة (117-119)000(/3)
إيقاظ وتنبيه من الشيخ الهدار
الشيخ محمد الهدار
الحمد لله ذي الطول والإنعام والصلاة والسلام على خير الأنام أما بعد :
لقد أطلعتنا وسائل الإعلام في الأيام السابقة على ما قامت به صحيفة دنماركية من إساءة لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس غريبا من أعداء الإسلام حيث أن الله قال عنهم " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " بل وقال سبحانه " وما تخفي صدورهم أكبر ".
لكن الغريب هو عدم تنادي مؤسسات العالم الإسلامي والعربي إلى اجتماعات طارئة لتوحيد مواقفهم تجاه هذا العدوان السافر ، لم نسمع بالدعوة لاجتماع طارئ لرابطة دول العالم الإسلامي ، لم نسمع بالدعوة لاجتماع طارئ لجامعة الدول العربية ، وهذا يعد نوعا من أنواع التخاذل ن نوعا من أنواع الهوان، نوعا من أنواع الضعف ، يعد نوعا من أنواع الاستكانة .
فإذا كانت مثل هذه الإساءات لم تؤدي على توحيد الصف وجمع الكلمة واتخاذ المواقف الرادعة فمتى تتوحد الأمة ؟..
والله وبالله وتالله لو كنا متمسكين بديننا حق التمسك على المستوى الرسمي والشعبي كما كان حال السلف لأعلنت حالة النفير و جيشت الجيوش لمثل هذه الإساءات لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما حصل من الصحيفة الملعونة يجب أن يوحد صف الأمة ويجمع كلمتها ، يجب أن يجعلنا أكثر حرصا على ديننا ، يجب أن يجعلنا أكثر تمسكا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، يجب أن يوقظ شبابنا الذين بهرتهم حضارة الغرب المزيفة ، ويسارعوا على نبذ تقاليدهم فيما ابتدعوه لهم من لباس وموضات وثقافة مادية تهتم بإشاعة الفاحشة ونبد الفضيلة وتؤدي إلى إماتة الضمير وقتل الحياء .
إنما حصل من إساءة لشخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من قبل الصحافة الكافرة ليس غريبا كما قلت لكم لكن الغريب أن يساء لدين الإسلام من قبل أبناء المسلمين والإسلام ، فكم من شاب من شباب المسلمين يسب الدين ويسب الجلالة والعياذ بالله في ملاعب الكرة وفي الأسواق وفي الجامعات والمدارس كذلك للأسف دون رادع من أخلاق دون رادع من ضمير وخوف من الله دون رادع من المسؤولين عن تنفيذ القانون ، وهذا يحتم على الآباء والمدرسين والوعاظ والخطباء ومسؤولي الآداب ووسائل الإعلام يحتم على الجميع أن تتكاتف الجهود لبيان خطورة ذلك وأخذ التدابير اللازمة للحد من انتشار هذه الظواهر الهدامة والقضاء عليها .
أيها الفاضل : لقد طالب البعض بمقاطعة البضائع الدنماركية ، وهذا أقل شيء تواجه به الإساءة التي صدرت من هذه الدولة ، لكن ينبغي أن نعلم أن البضائع الموجودة عند التجار قبل صدور الإساءة لا تدخل في حيز المقاطعة لأن وجودها عند التجار يعني أنهم مالكون لها وبالتالي المقاطعة لها في هذه الحالة تعتبر خسارتها راجعة على هؤلاء التجار ، وليس على الدولة الدنماركية ، وهذا ظلم لهؤلاء التجار ولا خسارة فيه لتلك الدولة وعليه يجب التفريق بين البضاعة الموجودة عند التجار قبل صدور الإساءة ، ولا تقاطع إلا البضائع التي تم استيرادها بعد الإساءة في حال وجودها ؛ إذ أنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ...
ولا يفوتني في هذا المقام أن أثمن عاليا موقف الجماهيرية المشرف وذلك حين قامت بقفل مكتب العلاقة مع دولة الدنمارك بعد صدور الإساءة المشؤومة كما أنها قامت برد باخرة ملئ بالبضائع من تلك الدولة فهذا موقف شجاع ومسؤول يدل على الغيرة والنخوة...
الأخوة الأعزاء ، لا خوف على الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، لأن الله حافظ دينه وحافظ وناصر رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " وقال سبحانه " إلا تنصروه فقد نصره الله " إنما الخوف علينا نحن الأتباع عن تخلينا عن ديننا ولم ندافع عنه بكل ما نملك ، إنا الخوف علينا نحن الأتباع إن ابتعدنا عن سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم وأبدلناها ببدع ما أنزل الله بها من سلطان إنما الخوف علينا نحن الأتباع إن لم نسعى لتوحيد صفوفنا وجمع كلمتنا إنما الخوف علينا إن لم ننتبه لمخططات الأعداء وكشفها والأعداد للقضاء عليها ، إنما الخوف علينا نحن الأتباع إن لم نترك الأنانية والتعصب للأشخاص ، التعصب الذي يؤدي للانقسامات ، ويؤدي إلى الحقد والغل إنما الخوف علينا نحن الأتباع إن لم نستبدل الغل والحقد بالمحبة والأخوة الصادقة ، إن لم نستبدل التعصب للأشخاص في المسائل الاجتهادية بالسعة والمرونة والعذر ، إن لم نستبدل الأنانية بالإيثار والبذل والعطاء ،،
أسأل الله أن يوحد صفنا
وأن يجمع كلمتنا
ويلم شعثنا
ويجبر كسرنا
ويعلي كلمة الحق والدين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/1)
إيقاع طلاق الجاهل بآثاره
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ فقه الأسرة/ الطلاق /مسائل متفرقة
التاريخ ... 08/04/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أصحاب الفضيلة: نرجو منكم إفادتنا في واقعة تقع كثيراً، وهي: أن كثيراً ممن أسلم حديثاً -أو من التزم في إسلامه- تقع منهم تصرفات (كالطلاق جهلاً)، ولا ندري كيف نتصرّف تجاه شكواهم. فهل من قاعدة عامة تندرج تحتها فروع شتى من مسائل (متى يعذر الجاهل). فمثلاً طلق أحد الشبان زوجته، وأطلق عبارات تفيد ذلك، والآن جاء يشتكي بأنه لم يعرف آثار تلك الكلمات، وإن كان لديه بعض المعلومات المشوهة حول هذه القضية؟.
وآخر أفطر في نهار رمضان عن جهل، حيث كان يعتقد أن صيام هذا الشهر ليس فرضاً قاطعاً، بل يستطيع الإنسان أن يأخذ راحته أحياناً، بحيث يصوم يوما ويفطر يوماً، والآن بعدما بلغه الخبر اليقين فهو في حيرة: هل عليه كفارة أم يكفي التوبة؟ وهكذا.وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
يجب على المسلمين والهيئات والمراكز الإسلامية في كل بلد في العالم يوجد فيه مسلمون جدد، أو حديثو عهد بالإسلام، يتعين على هؤلاء كلهم بذل كل ما يستطيعون في تعليم حدثاء العهد بالإسلام أحكام الإسلام الضرورية، كأداء الصلوات الخمس، وصوم رمضان بالإمساك عن الطعام والشراب، والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتعليمه الأحكام الضرورية، والأمور التي عليه اجتنابها، كالزنا، وشرب الخمر، والربا، والظلم، وأكل الحرام، وألا يجمع الرجل في عصمته أكثر من أربع زوجات، ونحو ذلك من الأحكام الضرورية والظاهرة، وما يتعلّق بالعقيدة من مظاهر الشرك التي تخرج صاحبها من دائرة الإسلام ونحو ذلك من الأحكام، أما غير ذلك من الأحكام الجزئية، والمعاملات المالية، وبعض الأحوال الشخصية، فتعالج كل قضية أو مسألة بعينها في حينها، فمن أفطر في رمضان – كما في السؤال- أمر بالتوبة والاستغفار وبقضاء ما أفطره من أيام، وعدم العود لمثله.
أما من طلق جاهلاً – كما في السؤال- فيعذر بالجهل؛ فلا ينفذ طلاقه مراعاة لجهله وحداثة دخوله في الإسلام؛ حفاظاً على الرابطة الأسرية ومراعاة لحاله، ويلزم تعليمه حكم الطلاق وآثاره ولوازمه؛ حتى لا يعود إليه مرة أخرى. والله أعلم.(/1)
إِشراقة الحج
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
الشهادتان والشعائر أركان الإسلام الخمسة ، هي الأساس الذي تقوم عليه سائر التكاليف الربانية ، لتؤلف هذه التكاليف الربانيّة والأساس الذي تقوم عليه بناء الإسلام كله ، بناء متيناً وأساساً متيناً ، فلا يُقبل من عبد عملٌ إلا إذا قام على الأركان الخمسة ، على هذا الأساس .
ولقد فرض الله سبحانه وتعالى هذه الشعائر رحمة منه سبحانه وتعالى بعباده . فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان عبثاً ولم يتركه سدى . فقد خلقه ليوفي بمهمة في الحياة الدنيا ، وهي محور مسؤوليته ، وأساس محاسبته يوم القيامة بين يدي الله . خلقه الله لمهمة يؤديها في الحياة الدنيا من خلال ابتلاء وتمحيص ، فلا يخرج الإنسان من هذه الدنيا إلا وقد استكمل رزقه وأجله وتمحيصه في الدنيا :
( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير . الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور )
[ تبارك : 1 ، 2 ]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
( هو الذي خلقكم من طين ثمَّ قضى أجلاً وأجلٌ مسمى عنده ثم أنتم تمترون )
[ الأنعام : 2 ]
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيها الناس ! اتقوا الله وأجملوا في الطلب ، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها ، وإن أبطأ عنها . فاتقوا الله و أجملوا في الطلب ! خذوا ما حلّ ودعوا ما حرّم "
[ رواه ابن ماجه ] 1
ووفّر الله للإنسان نِعَمَهُ التي لا تحصى ، فضلاً منه سبحانه وتعالى ، لتعين الإنسان على الوفاء بالمهمّة التي خُلِقَ لها . ومن أهم هذه النعم الشعائر التي فرضها الله سبحانه وتعالى رحمة منه بعباده ، لتكون متماسكة فيما بينها ومتماسكة مع التكاليف الربانيّة الأخرى التي تقوم عليها . وبغير هذه الشعائر لا يستطيع الإنسان الوفاء بالمهمة التي خلق لها :
( وآتاكم مِن كُلِ ما سألتُمُوه وإِن تَعُدُّوا نِعمت الله لا تُحصُوهَا إِن الإنسان لظلوم كفارٌ )
[ إبراهيم : 34 ]
وكذلك قوله تعالى :
( ألم تروا أن الله سخّر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نِعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب مُنيرٍ )
[ لقمان : 20 ]
هذه الشعائر كلها مصدر طاقة تمدُّ الإنسان بالعزيمة والقوة ليوفي بعهده مع الله ، وعبادته وأمانته ، وخلافته في الأرض ، وعمارتها بالإِيمان والتوحيد ، وليوفي بسائر التكاليف الربانيّة التي تقوم على هذا الأساس المتين : الشهادتان والشعائر .
وكلّ شعيرة يؤديها المؤمن تمدّه بالطاقة والقوة ، وتغسل عنه ذنوبه وأخطاءه ، ويزيد هذا المدد بالطاقة حين تعمل الشعائر كلها في حياة المؤمن ، مرتبطة بالشهادتين ، مصدر الإيمان والتوحيد وصفاء النية وإخلاصها لله سبحانه وتعالى .
إِن أهمية النيّة وإخلاصها وارتباطها بالشعائر وبكل عمل يقوم به المؤمن تنجلي حين ندرك أن النيّة الواعية يقظة في القلب وجمال في النفس . وتستكمل النيّة هذه اليقظة والجمال ، حين تُحَدِّد للمؤمن هدفه وغايته والدرب الذي يوصل إلى الغاية والهدف .
بهذا التصور يقبل المؤمن على الحج بالنيّة الواعية اليقظة ، وهو يدرك أن الحج شعيرة ترتبط بسائر الشعائر وبالنية وإخلاصها ، وأنها فرض فرضه الله سبحانه وتعالى نعمة منه ورحمة ، لتعين الإنسان على الوفاء بالأمانة والعبادة والمهمة التي خلقه الله من أجلها :
( ... ولله على الناس حج البيت من استطاع إِليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غنيّ عن العالمين )
[ آل عمران : 97 ]
وبذلك يصبح إنكار فريضة الحج كفراً . وإنه إنكار يذهب بالطاقة التي يحتاجها الإنسان ليوفي بمهمته وأمانته . فكل شعيرة مصدر طاقة ضرورية للإنسان ، وفريضة الحج مصدر طاقة عظيمة للمؤمنين .
لقد كانت الشعائر كلها ماضية مع الأنبياء والمرسلين ، فدينهم جميعاً دين واحد هو الإسلام . وكانوا يُقِبلون هم والمؤمنون على الحج ليستمدوا منه قوّة وعزماً ، وليبتغوا منه فضلاً ، وليشهدوا منافع لهم ، وليذكروا الله ، وليدعوا ويلحّوا بالدعاء ، ليمدّهم ذلك كله بالقوة والطاقة في مسيرة الحياة ، يوفون بعهد وأمانة وعبادة وخلافة ، لا يستطيعون الوفاء بها إلا بهذه الطاقة والقوة .
ولنستمع إلى نداء الله سبحانه وتعالى إلى إبراهيم عليه السلام : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير )
[ الحج : 27 ، 28 ](/1)
هكذا يجمع الحج الناس في مختلف مستوياتهم ، متساويين أمام الله ، يعطف غنيهم على فقيرهم فيصبح الفقير في ذمة المسلمين جميعاً ، يحفظون حقوقه ، فيأكلون ويُطعِمون البائس الفقير ، ليمتد هذا التواصل مع المسيرة كلها ، لا ينقطع بعد انتهاء الحج . دروس ومواعظ في الحج لا تكاد تنتهي . وتعرض الآيات الكريمة في سورة الحج نعم الله على عباده المؤمنين وهم في ظلال المغفرة وأنداء الرحمة :
( ذلك ومن يُعظِم حُرُمات الله فهو خيرٌ له عند ربه وأُحِلَّت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرِجس من الأوثان واجتنبوا قول الزّور )
[ الحج : 30 ]
ثم تعرض السورة الكريمة خصائص المؤمنين الذين يقبلون بها على فريضة الحج :
( الذين إذا ذُكر الله وجِلَت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمى الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )
[ الحج : 35 ]
وفي سورة البقرة :
( الحج أشهرٌ معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خيرِ يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتَّقونِ يا أولى الألباب )
[ البقرة : 197 ]
خصائص لا بدّ أن تكون مغروسة في القلب ليجنوا ثمار الحج وبركته ، وثمار الشعائر كلها . ولا بد للحجيج أن يتزودوا بكل ما يحتاجونه ، وخير زاد لهم التقوى :
( ... وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى واتقّون يا أولى الألباب )
[ البقرة : 197 ]
ومن آيات الحج في سورة البقرة وآل عمران والحج ندرك كيف ترتبط فريضة الحج بسائر الشعائر وبالشهادتين ، لتكون كلها مصدر طاقة عظيمة للإنسان المؤمن لا غناء له عنها ، نعمة عظيمة من الله تمده بالعزيمة والقوة لينهض للوفاء بالمهّمة التي خُلِقَ لها ، بالتكاليف الربانيّة التي تقوم على هذه الأركان : الشهادتين والشعائر . وهكذا كان دور الحج في بناء النفوس والقلوب والعزائم أيام النبوة الخاتمة . واليوم نحتاج إلى أن تعود عمليّة البناء متكاملة لتبني الجيل المؤمن بخصائصه الربانيّة ، عسى أن ينزل الله نصره علينا .
إِن واقعنا اليوم يفرض علينا أن نجعل من الحج وسائر الشعائر قوة إِيقاظ ، حتى يعلم المسلم أنه لا يُقصد من أداء الشعائر الوقوف عندها ، ثم الانطواء في البيت أو الجري اللاهث وراء الدنيا ، غافلاً عن التكاليف الربانيّة التي تقوم على هذه الشعائر .
فكثير من الحجيج إذا أَدوا فريضته ، مضوا فشغلتهم الدنيا بأهوائها وفتنتها ، ناسين المهمة التي خُلِقوا للوفاء بها :
أين الحجيج وكل قلب ضارع ومشارف الدنيا له آذان
نزعوا عن الساحات وانطلقت بهم سبُلٌ وفرّق جمعهم بُلدان
وطوتهم الدنيا بكل ضجيجها وهوى يمزّق شملهم وهوان
ومضى الحجيج كأنهم ما ضمّهم عرفاتُ أو حرمٌ له ومكان
يقبل المؤمنون على الحج ليكونوا أمّة واحدة في الحج وبعد الحج . فمن فرض منهم الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال ، رحمات تنزّل على العباد ، ذكر ودعاء !
إننا ننظر في واقع المسلمين اليوم ، لندرك أنه من واجبنا تحريك النيّة لتكون يقظة ووعياً وجمالاً ، ولتكون وعياً لحقيقة الحج ولأهدافه المرجوة ، ليكون مصدر طاقة وقوة ، تُذَكِّر الإنسان بمسؤوليته التي سيحاسَب عليها يوم القيامة ، ولتطهر الإنسان من آثامه وأخطائه :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم :" من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه "
[ صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم : 6197 ]
الحج مصدر طاقة بناء وتربية وإعداد ، وطاقة تطهير وتنقية للنفس ، وطاقة دعوة وبلاغ وتذكير . الحج إِعداد للمسلم لينطلق فيوفي بمسؤولياته لا ليركن ويستريح وتطويه الدنيا بزخرفها .
ما بال بعض المسلمين اليوم ، إذا أدّوا شعيرة عادوا إلى بيوتهم أو إلى دنياهم ، نسوا التكاليف التي عليهم ، وتركوا الميادين مفتحة لأعداء الله . ثم يأخذهم التلاوم عند حلول النكبات والفواجع ، قدراً من عند الله بما كسبت أيدي الناس .
الحج فرصة عظيمة يسرّها الله للمؤمنين ، تلتقي جموعهم لقاء خير ، لينظروا في أنفسهم و واقعهم ومسؤولياتهم ، لينظر العلماء والدعاة فهم أولى الناس بالنظر ، فهم النموذج المرتجى ، ليوفوا بالأمانة التي وضعها الله في أعناقهم ، في هذه اللحظات القاسيّة التي تعاني الأمة فيها من قوارع الفرقة والمزلة والهوان . هم أولى الناس ليقولوا قولة الحق التي تجمع الأمة على الحق ، ليرشدوا الناس إلى الصراط المستقيم الذي أمر الله باتباعه ، إلى الأهداف الربانيّة والتكاليف الربانيّة التي تقود إليها ، والتي نصّ عليها الكتاب والسنة .
ولينظر الأدباء في رسالتهم وكم أوفوا بالأمانة ليساهموا في حماية الأمة ونصرة دين الله ، ولينظر رجال الفكر والسياسة والاقتصاد ، ورجال الميادين المختلفة ، فلينظروا جميعاً كم أوفوا بالأمانة وبعهدهم مع الله .(/2)
من بين الآلام والدماء والأشلاء في فلسطين وكثير من أرض الإسلام ، تنطلق إشراقة الحج لتهب القلوب يقظتها ، وتهب النفوس عزيمتها ، وتهب الأمة لحمتها لحمة الأخوة في الله تجمع وتحنو ، ولا تفرّق وتمزّق .
أيها المسلمون ! أنتم أمة واحدة ، تحملون رسالة واحدة وأمانة واحدة ستحاسَبون عليها بين يدي الله يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون .
ليت المسلم يقف اليوم وقفة محاسبة إيمانيّة قبل فوات الفرصة . فالحياة الدنيا هي الفرصة الأخيرة للإنسان ليصلح ويتوب . ليت المسلمين يقفون هذه الوقفة الإيمانية ، مع أيام الحج المباركة ، يراجعون أنفسهم ، يدرسون واقعهم من خلال منهاج الله ، فيعرفون أخطاءهم ، فيعالجونها ويتوبون . فالحج موعظة وتذكير لمن يريد الله له الهداية .
( ... وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون )
[ النور : 31 ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) سنن ابن ماجه ـ تحقيق د. الأعظمي : ( رقم : 216 ) . صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( رقم : 2742 ) .(/3)
ابتعاث الأسطورة مؤامرة جديدة تواجه الفكر الإسلامي
الأستاذ أنور الجندي
هناك حصيلة ضخمة من الأساطير والخرافات تتمثل في قصص وملاحم. وتتخذ من المعتقدات الوثنية موضوعاً لها، وهي تفسر أحداث الحياة وظواهر الطبيعة على ضوء هذه المعتقدات وتنسبها إلى تدخل الآلهة وأنصاف الآلهة في شئون البشر ولقد كان لليونان أساطيرهم وكان للعرب في الجاهلية أساطيرهم والغالب أن الإغريق والعرب في الجاهلية اشتقوا معتقداتهم الأسطورية من الفرعونية الوثنية القديمة.
هذا التراث من الأساطير والخرافات، المتصل بطوالع النجوم وأفلاك البروج، وأسرار الأرقام ومجموع التعاويذ الخاصة بطرد الأرواح الشريرة، كان بمثابة تجارة للكهنة القدامى في الحضارات المصرية والآشورية والبابلية القديمة ولقد كان اليهود هم حملة لواء هذه الأساطير والخرافات بالإضافة إلى فن السحر الذي يخصصوا فيه.
هذه الحصيلة يجرى تجديدها في العصر الحديث على نحو من الاهتمام الواسع، والتركيز الشديد على أفق الفكر الإسلامي بعد أن جاء الإسلام فحطم هذا التراث كله، وقضى عليه وذلك حين قدم صحاح الأخبار والصور والعقائد فيما يتعلق بمختلف شئون الغيب، وأجاب عن كل الأسئلة التي جاءت بها هذه الأساطير والخرافات بمثابة محاولات بشرية ضالة مضلة إزاء هذه الأمور.
عالم الغيب:
لقد أعطى الإسلام منهجاً كاملاً للميتا فيزيقا أو ما يسمونه عالم الغيب، فكشف عن حقائق عالم الجن والملائكة ورسالات الأنبياء والوحي، وخلق السموات والأرض والرياح والبحار والكواكب والأقمار، وأوضح علاقة الإنسان بها، ودعا الإنسان إلى أن يعبد خالق هذه الكواكب، وأن لا يسجد للشمس ولا للقمر. وأن يعرف أنه تبارك وتعالى هو رب (الشعري) اليمانية التي كان يعبدها العرب في الجاهلية. كذلك فقد دعا الإنسان إلى عبادة الله الواحد الخالق، وحرره من عبادة الأصنام والأوثان والصور، وعلمه أن هذه كلها لا تملك له نفعاً ولا ضراً، كما كشف الله تبارك وتعالى سنن الخلق وتصريف الرياح، وإنشاء السحب وسوقها إلى حيث يأمرها بأن تمطر فيصيب بهذا الغيث من يشاء ويصرفه عمن يشاء.
لكل دار دواء إلا الموت:
وبذلك قضى على الأساطير العديدة التي كانت تتحدث عن الشياطين التي تسوق الرياح، كذلك دعا إلى التداوي من الأمراض، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تبارك وتعالى خلق لكل داء إلا السام (أي الموت).
وبذلك قضى على ما كان يقوم به كهنة بابل من بعض الطقوس لشفاء المرضى أو طرد الأرواح الشريرة أو ما كانوا يصفونه لالتهاب العين من انتزاع أحشاء ضفدع صفراء.
كذلك دعا الإسلام إلى دحض ما يسمى طوالع النجوم وأفلاك البروج وتأثيرها على خطوط البشر وأسرار الأرقام، فإن هذه كلها لا تملك لنفسها شيئاً ولا تستطيع أن تقدم للإنسان أي دليل على غيب، فالغيب كله لله تبارك وتعالى.
المنهج التجريبي:
وكانت دعوة الإسلام إلى البشرية أن تنظر إلى خلق السموات والأرض، وإلى كيف بدأ الله الخلق، والتأمل في هذا الكون الذي هدى المسلمين إلى بناء المنهج العلمي التجريبي الذي نشأت عليه الحضارة الحديثة. والذي إدعاه القس روجر بيكون وفرانسيس بيكون ومن ذهب مذهبهم.
وبذلك تحرر العقل البشري من الأساطير والوثنيات والخرافات القديمة، وانسحق هذا الركام كله تحت أقدام الحقائق، وتحت أضواء نور العلم الحقيقي.
غير أننا نرى الآن أن هناك محاولة مستميتة لإحياء هذا الركان، وإعادة إذاعة هذه الخرافات التي سادت في العصور القديمة من جديد بعد أن حطمها الإسلام، وأقام مفهوماً أصيلاً لكل ما يتصل بعالم الغيب ولما يتصل بخلق الكون والسموات والأرض.
عودة إلى الأساطير:
هذا الركام الوثني والبشري تجرى إعادة صياغته في أساليب براقة وكتب فاخرة، وتحمله إلى الناس صحف ومجلات راقية الطباعة، ويحمل لواء الدعوة إليه كتاب لهم شهرة ذائعة، حيث يجد إعجاباً وإقبالاً وافتناناً من الشباب المسلم، الذي لم تتشكل له خلفية أساسية من مفهوم الإسلام، تحميه من تقبل هذه السموم. ولا ريب أن بعض البلاد الإسلامية قد خضعت لهذه الأفكار الزائفة، عندما ضعف مفهومها الإسلامي في مرحلة التخلف، ولكنهم وقد عادوا اليوم ينفضون عنهم غبارها، عليهم أن يتحرروا منها، وأن الصورة التي سجلها مثل أدوار لين في كتابه (المصريون المحدثون) لا تمثل إلا مرحلة الضعف التي سيطرت فيها مفاهيم باطلة، حيث تسربت الخرافات والأساطير مرة أخرى إلى المجتمعات تحت أسماء التمائم والتطير، وتقمص الأرواح، قد كتب لين ذلك في نفس الوقت الذي كان الإمام محمد بن عبد الوهاب يجاهد في الجزيرة العربية ونجد لتطهير الإسلام من هذه الخرافات.
بين الفك والتنجيم:(/1)
ومن عجب أن تذيع بعض المجلات كتباً مسمومة تحت اسم "علم الأساطير" لتخدع المسلمين عن حقائق دينهم، للبشر، وفي هذا ارتداد إلى مجاهل التنجيم وشعوذة المنجمين، مما يتناقض مع مفهوم الإسلام الأصيل، ومع منهج البحث العلمي الصحيح، ولاريب أن وراء هذه الأهواء قوى تغريبية وتلمودية خطيرة تحاول أن تفرض هذه المفاهيم المسمومة الزائفة، بحيث تقول أن هناك صلة بين وجود الكواكب في أبراج معينة وبين الأحداث، أي أن مواليد برج معين تتميز شخصياتهم بظواهر معينة تختلف عن مواليد الأبراج الأخرى.
ولقد حرى العلماء المسلمون علم الفلك الحديث من خرافات التنجيم القديمة وفرقوا بين التنجيم وبين دراسة الأفلاك ومواقع النجوم، ولكن دعاة التلمودية يحاولون إعادته مرة أخرى إلى الأساطير.
والحق أنه لا صلة مطلقاً بين الكواكب وبين ميول المواليد، أو شخصياتهم ولا توجد أي إشعاعات خاصة نابعة من هذا الكوكب أو ذاك تؤثر على الناس.
خلط العلوم بالأساطير:
بل إن بعض الباحثين في علوم النفس والأخلاق، يعتمدون على بعض الأساطير القديمة الزائفة، في إقرار أوضاع معينة على أنها حقائق – كما فعل فرويد في تحليل أسطورة أوديب – التي أقام عليها نظريته، وقد اختار الرموز الأصلية لنظرياته في العقل الباطن والغريزة الجنسية من واقع هذه الأساطير وكذلك فعل سارتر.
ولقد تبين أن معظم أساطير الأولين هي من صنع خيال السومريين والبابليين وأنها قد وضعت لتفسير الخليقة والتكوين وأحوال الآلهة التي هي في صراع مع الإنسان، وإيضاح حادثات الكون الكبرى وفكرة الجان والشياطين والروح والنفس. وقد انتشرت حتى بلغت الجزيرة العربية، ومنها ما رواه هيردوت اليوناني وتيودور الصقلي وما ورد في العهد القديم.
وكلها كما قلنا محاولات لسد الفراغ النفسي لدى الإنسان إزاء الجوانب التي يخشاها ولا يعرف مصدرها، ولا ريب أن هذا كان بضاعة الوثنيين وما زال صناعة الكارهين لدين الله الحق، ذلك أن دين الله منذ أول البشرية قد قام لمعتنقيه الإجابات الكاملة لكل هذه التساؤلات وهدي نفوس البشر إلى الحق والهدى، وقد قاومت الأديان كلها الكهانة والعرافة (الكهانة تعني استطلاع المستقبل بينما تعني العرافة استرجاع الماضي) والقاسم المشترك بينهما هو استطلاع الغيب والتنبؤ.
ولا ريب أن لدين الله الحق موقف مضاد للكهانة وهو يعتبرها قد انتهت بعد النبوة "لا كهانة بعد النبوة" وقد أكد الإسلام أن الغيث ملك لله تبارك وتعالى وحده وأن من قصد عرافاً فصدقه لا تقبل صلاته أربعين يوماً.
الوسائل:
وجملة القول في هذا أن الأسطورة هي بديل الحقيقة، وعندما تختفي الحقيقة تنشأ القصة الخيالية والحقيقة هي الوحي.. ولقد جرت في السنوات الأخيرة محاولة واسعة لإعادة طرح الأساطير اليونانية والعربية القديمة، عن طريق الأدب: "الشعر والقصة" وأعيد عرض هذه الخرافات الوثنية بأساليب جديدة عن طرق فنون المسرح والشعر الملحمي، والنقد الأدبي، وحشدت أسماء كثيرة لإعادة كتابة تاريخ الأسطورة في الآداب العالمية، وكل هذا ولاشك يرمي إلى تحقيق هدف خطير هو شغل الأذهان بأهواء البشرية وضلالاتها في مرحلة طفولتها، ودفع ذوي الأغراض إلى الأسطورة التي تمثل طفولة الإنسان في مرحلة إنحرافه عن الدين الحق، إلى أن تصبح مصدراً من مصادر المعرفة، وتوجه نحوها دراسات نفسية واجتماعية بقصد إحياء الوثنية القديمة الممثلة في بروميثوس، وجلجامش، وأوزيريس، وعشتروت، وزينوس.
هذه الأساطير التي تحاول أن تعارض الإله الواحد والدين الحق، وتقدم مفهوماً زائفاً عن العلاقة بين الله تبارك وتعالى وبين الإنسان بما تحمل من تعدد في الآلهة، بتقديم القرابين تارة، وما تصوره من صراع دائم بين الإنسان وبين الآلهة تارة أخرى، هذه الآلهة الظامئة إلى الشر والانتقام وما يكون دائماً من هزيمة الإنسان أمام الآلهة.
مفهوم الدين الحق:
وهذا في جملته غير صحيح في النظر العلمي الصحيح، وفي مفهوم الدين الحق، الذي يتمثل فيه الله تبارك وتعالى إلهاً واحداً رحيماً يقبل التوب ويغفر الذنب وهو بعباده غفور رحيم، وكيف أن العلاقة بين الإنسان وخالقه علاقة عبودية وإيمان وتسليم (إيمان بالبعث والجزاء وتسليم بالقضاء والقدر) وتقبل كامل لعطاء الله كله وأمره كله، فليس هناك ما يومئ من قريب أو بعيد إلى هذا الذي يصورونه زيف باسم الصراع بين الإنسان المسلم وجهه لربه وبين الخالق الرحيم، ولقد زيف الدين الحق مفاهيم الأساطير ورجال اللاهوت حين ردوا الأمراض إلى عوامل خفية، منها حقد الشيطان وغضب الله، وما يتصل بذلك من مفاهيم زائفة في السجن والجن والخوارق، حتى ردوا الأوبئة والزوابع والقحط وكسوف الشمس وخسوف القمر إلى الشياطين.(/2)
كذلك فقد فرق الدين الحق بين الألوهية والنبوة، وبين النبوة والإنسان على نحو يحول جون هذا الخلط الذي تقع فيه الأساطير بين آلهة وإنصاف الآلهة وبين الأبطال، وبذلك دحض فكرة أن يكون هناك آلهة لكل عالم من العوالم كآلهة الجبال والأمطار والرياح والحرب والخمر والجمال، او أن يكون هناك أنصاف آلهة من الأبطال القادة: وسجل هذا سيدنا يوسف على قومه من وقت بعيد حيث قال:
{أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يوسف: 39، 40.
وهكذا جاءت أديان السماء، لتنسخ هذا الزيف جيلاً بعد جيل، فعلى لسان كل نبي كانت الدعوة إلى تحرير البشرية من هذه الوثنية ومن عبادة الأوثان والأصنام والتماثيل.
خرافات الإلياذة والأوديسة:
والمعروف أن هذه الآلهة المدعاة لم تكن إلا بشراً، أعطى من القداسة قدراً أخرجه عن طبيعة البشر فوصف بمثل هذه الصفات الزائفة على النحو الذي نراه في ملاحم الإغريق وكملحمة الأوديسة والإلياذة، من أن الآلهة عند الإغريق حاقدون على البشر، وإنها قاسية على الكائنات الأخرى يغضبون فيحولونهم إلى حيوانات أو نباتات أو أحجار أو مياه وقد وصفها الشاعر "أوفيد" بأنها ينابيع النار والدمار والهوان لكل الآداب العالمية.
ويرجع وصف الآلهة بالقسوة إلى ما أوردته التوراة بأقلام الأحبار من وصف لله {جل وعلا عما يقولون علواً كبيراً} بالإله المنتقم القاسي.
المترجمون المسلموت أهملوا ترجمة الأساطير:
ترجمت إلى اللغة العربية في العصور الأخيرة إعداد من الملاحم والأساطير اليونانية والفارسية، وقد غفل القائمون على هذه الأعمال عن أن العرب في إبان نهضة الترجمة تنكبوا ترجمة الملاحم والقصة والشعر بقصد واضح، هو أنها تمثل "عواطف" و "مشاعر" أمم تختلف عن العرب في عقائدها وعاداتها وتقاليدها، ولكن ترجمة هذه الأساطير في العصور الأخيرة، جاء في مرحلة ضعف العرب والمسلمين عن مواجهة تيار الترجمة الخطير، الذي قادته قوى التغريب والغزو الثقافي، بهدف طرح سموم الوثنية في أفق الفكر الإسلامي.
ذلك أن الملاحم إنما تقوم على تصور أحداث غير صحيحة في طبيعتها، وإنما هي موضوعة على طريقة التهويل والإثارة وتضخيم الأحداث، وتدافع الخيال في أمواج من الخوارق التي تتنافى مع طبيعة النفس العربية والإسلامية ومع واقع الحياة نفسها، وقد قصد بإنشاء هذه الملاحم والأساطير في بيئاتها تغيير وجهة الناس وتفكيرهم عن واقعهم المرير، إلى أجواء من الوهم والخيال، ومن هنا فقد أعرضت الطبيعة العربية الإسلامية القائمة على الفطرة والبساطة والواقع والصدق عن هذه الملاحم، هذه الطبيعة التي تستمد مقوماتها من خصائص مختلفة عن هذه الأحقاد والأهواء والمطامع والقتل والتدمير، فالنفس العربية الإسلامية تستمد خصائصها من الشهامة والكرامة والفروسية بكل مقومات المروءة وحماية الذماء والدفاع عن الجار وصفات الكرم والشجاعة وإغاثة الملهوف.
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي * * * حتى يواري جارتي مأواها
هذه الخصائص العربية الإسلامية بعيدة عن المبالغة والعنف وصناعة الوقائع الأسطورية، مرتفعة عن الخوارق عازفة عن الأهواء المضلة، هذه الطبيعة في الحقيقة استمدها العرب والمسلمون من ميراث الأديان والنبوة بدءا الحنيفية الإبراهيمية السمحاء ومتصلة بالنبوة المحمدية الكريمة، ولذلك فقد رفضوا هذا اللون من الملاحم والأساطير وأعرضوا عنها، خاصة وقد قدم لهم القرآن الواقعة الصحيحة والتاريخ الصحيح لكل ما حاولت الأساطير تصويره بالخداع والباطل: من أمثال الطوفان وأهل الكهف وسليمان الحكيم وذي القرنين {نحن نصقص عليك نبأهن بالحق}، {ننح نقص عليك أحسن القصص}.
نزعات لا يقبلها الإسلام:(/3)
وإذا كانت الأسطورة – كما تقول مصادر البحث الأدبي العالمية – تمثل الصراع بين الإنسان والقوى الإلهية، فإن هذه النزعة وثنية طابعها، ولم يكن من الممكن أن ينقلها الإسلام أو يقرها، ذلك – وكما قال أحد كبار الباحثين الغربيين "جوستاف فون جرنبوم" – أن مفهوم الإنسان في الإسلام يمنع وقوع أي صراع درامي. ومن هنا فإن عزوف الأدب العربي والإسلامي عن التمثيل والقصص والملاحم يرجع إلى طبيعته الأصيلة القائمى على الواقعية والوضوح، أن هذه النزعة – نزعة الصراع بين الإنسان والقوى الإلهية نزعة وثنية في طابعها لا يعرفها الإسلام، ولا تتمثل في نتاجه الأدبي أو الفكري، فلماذا هذه المحاولات الضخمة، التي يقدم بها بعض الشعراء والقصاصون – التابعون للتغريب والغزو الثقافي – على طرح هذه الصور القاتمة في أفق الفكر الإسلامي والأدبي العربي الذي لا يتقلبها ويرفضها كما يرفض الجسم العنصر الغريب، فضلاً عن أن هذه الروايات والملاحم تغلب عليها روح الزندقة والإلحاد، وهي تتسم بفهم سيء لعلاقات الرجل والمرأة، فهي مكشوفة إباحية هي في مجموعها تصدر عن معين مسموم، وهي توصل أذى السم إلى قارئها فتفسد نفوساً ذكية وأرواحاً طاهرة.
وما الهدف؟
ولاشك أن الهدف من هذا هو نفس الهدف الذي ترمي إليه دعوة التغريب: من إفساد عقليات الشباب المسلم وعواطفه فضلاً عن خلق مفهوم منحرف عن مفهوم الأصالة والفطرة التي جاء بها الإسلام.
وحين نراجع ذلك الركام الذي ترجم في السنوات الأخيرة من أمثال قصص توفيق الحكيم "بيجماليون"، "أهل الكهف"، "الملك سليمان" وما نشره على محمود طه من شعر في ديوانه "أرواح وأشباح" نجد هذا الالتقاء بين أساطير اليونان والمسيحية والفراعنة، وتراث بابل وآشور والإسرائيليات اليهودية، في محاولة لاحتواء الفكر الإسلامي والأدب العربي اللذين هما بطبيعتهما يتعارضان مع هذا التيار الخيالي المغرق في المبالغة الوثني الاتجاه، بما أعطى الإسلام هذا الفكر وهذا الأدب من طابع الوضوح والصراحة والطبيعة المشرقو "ليلها كنهارها" وحيث لا يعرف الإسلام في باب القصة إلا القصة إلا القصة الواقعية الصادقة البعيدة عن الزيف، المتحررة من التفاصيل الوهمية، الهادفة إلى تقديم العبرة الخالصة بعيداً عن التخيل والمبالغة والتأثير الخطابي.
ولاريب أن هذه المحاولة الجديدة التي اقمت بها قوى التغريب تستهدف ما عجزت عنه هذه القوى في الماضي حين رفض المسلمون ترجمة الملاحم والأساطير، ولذلك فإنه يجب التنبه لها ودحضها ومدفاعتها بكل قوة وكيف يمكن أن يقبل هذا أهل الإسلام، وقد جاء الإسلام لينهي طفولة البشرية وليعلن دخولها في مرحلة الرشد الفكري، هذا اللون من الأدب أو القصة، وقد أعلن الباحثون في العصر الحديث أن الأسطورة من مخلفات طرائق في السلوك والتفكير وعادات مندرسة، حافظت على تفسير ساذج للعالم الخارجي.
لا حاجة بنا إلى هذا اللون:
ولا أعتقد أنه بعد أن تحدد هذا المؤقف العلمي وبعد أن أعطى المسلمون منهجاً كاملاً للميتافيزيقا (عام من وراء المادة) أن يكونوا في حاجة إلى إعادة هذا اللون من مخلفات الجاهلية الوثنية القديمة، التي فضل الإسلام بين البشرية وبينها بأضوائه السلطعة، وليس أدل على تخبط الغرب من أنه في الوقت الذي يعلن فيه أن ينطلق في أبحاثه من النهج العلمي، أن يقبل هذه الأساطير لتقييم عليها نظريات وفروض ويعيد العالم من جديد إلى عصر الأسطورة والغابة {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}. البقرة: 257.
ولعل من أخطر الدعوات التي يروج لها التلموديون هي محاولة إجراء المقارنات بين الأساطير وبين الأديان وقولهم أن الأديان القديمة ما هي إلا مجموعة من الأساطير التي لا تصلح إلا للتلهية وإمتاع الخيال، ومن وراء ذلك القول المسموم هدف مبيت ترمي به اليهودية إلى إثارة التشكيك في دين الله الحق الذي صاحب البشرية منذ نشأتها الأولى وهداها جيلاً بعد جيل إلى الحق.(/4)
وبالجملة فإن القرآن الكريم، حين نزل وهو ما يزال وسيظل هدي للبشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قد ألغى تراث الأسطورة كله، وقدم بدلاً منه تقريراً صادقاً حقاً، في كل ما يتعلق بحوادث التاريخ ووقائعه القديمة التي وصفت بأنها أساطير، وزيفت في العرض في العهد القديم، وخاصة فيما يتعلق بنشأة الحياة والطوفان وغيره "سفر التكوين" وقد أعلن القرآن – صادقاً – أن ما يقدمه هو الحق الذي لا مرية فيه. كذلك فإن الأدب العربي لم يكن في حاجة إلى الأسطورة، لأنه قام على الحقيقة نفسها، ذلك أن الأسطورة لم تكن في عرف أصحابها إلا محاولة لملء فراغ الخيال بالنسبة لأمور غائبة، وقد قامت على معنى متوهم، بأن هناك فراغاً بين الإنسان وقوى الغيب وليس هذا صحيحاً وقد جاءت الأديان السماوية – ديناً بعد دين – لتنفيه وتكذبه – وقد أكد الإسلام حين طبقت تعاليمه أن ما بين الإنسان وربه هي رابطة العبودية بين المخلوق وخالقه، ورابطة التكامل بين الإنسان والكون، فهي رابطة العطاء المذلل للإنسان.
{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه}. الملك: 15.
ولم يعرف المسلمون الأساطير في تاريخهم كله لأن الحقائق التي جاءتهم من رسالة السماء كانت كافية ومقنعة.(/5)
ابتهالات
للشاعر الكبير: بدوي الجبل
"مهداة إلى قبور حبيبة في بغداد ودمشق وحلب وحمص واللاذقية"
لا الغوطتان ولا الشبابُ أدعو هَوايَ فلا أُجابُ
أين الشآمُ من البُحيرةِ والمآذن والقِبابُ
وقبورُ إخواني وما أبقى من السيفِ الضِرابُ
الصامتاتُ وللطيور على مشارفها اصطخابُ
الغافيات فلم تَرُع منها الزماجرُ والوِثابُ
أشتاقُ أحضنُها وألثمها وللدمع انسكابُ
تحنو الدموع على القبور فتورق الصمُّ الصِلابُ
ولها إلينا لهفةٌ ولطول غُربتنا انتحابُ
يا شام: يا لِدَةَ الخلود وضمَّ مجدَكما انتسابُ
من لي بنزر من ثراك وقد ألحَّ بيَ اغترابُ
فأشمُّه وكأنه لعسُ النواهد والملاب
وأضمُّهُ فترى الجواهرُ كيف يُكْتَنَزُ الترابُ
هذا الأديم شمائل غرٌّ وأحلامٌ عِذابُ
وأمومةٌ وطفولة ورؤى كما عبر الشهاب
وتحيّة مسكيّة من سالفين هَوَوا وغابوا
ومن الأبوّة والجُدود لأهل ودِّهم خِطاب
هذا الأديم أبي وأمي والبداية والمآبُ
ووسائدي وقلائدي ودمى الطفولة والسِخاب
ودَدٌ يُباع له الوفاء ولا ندامةَ والصوابُ
أغلى عليَّ من النجوم ولا أُلام ولا أُعاب
الروحُ من غيبِ السماء ومنكِ قد نُسج الإهابُ
أشتاقُ شَمْسَكِ والضحى أنا والبُحيرةُ والضبابُ
ومضفّراتٌ بالثلوج كأنما نَصَلَ الخِضابُ
تَعوي الرياح فما القساورُ في الفَلاة وما الذئابُ
والثلجُ جُنَّ فلم تَبِنْ سُيُلٌ ولم تُعْرَفْ شِعابُ
أخفى المعالِمَ لا السُفوح هي السفوح ولا الهضابُ
يا شمسُ غِبتِ فكيف تمَّ – ولا طلوعَ لكِ – الغياب
إن كنتِ مُسلمة الهوى فتألَّقي رُفِعَ الحجابُ
ملَّّ السحابُ من السماء وقرَّ في الأرض السحابُ
وكأنَّ ملءَ الأُفقِ أسورةٌ غِضابُ
حُسْنٌ يُهابُ وما سَما حُسنٌ يُحَبُّ ولا يُهابُ
* * *
دَوْحَ البُحيرةِ أينَ سامِرُكِ المُعطَّرُ والشَرابُ
بيني وبينَ الدَوْح في أحزانهِ النَسَبُ القُرابُ
من كلِّ مُوحشةٍ فأينَ الطِيبُ والوَهَجُ المُذابُ
وغداً يعودُ لكَ الشبابُ ولن يعودَ ليَ الشبابُ
الدَّهرُ ملكُ يمينه والشمسُ من يُسراهُ قابُ
لَهفي عليهِ فطالما أشقاهُ لومٌ واغتيابُ
نَعِمَ الملائكُ بالشباب فما لنعمته استلابُ
ويزُورُنا لَمعُ البُروقِ فما للامِعِهِ اصطحابُ
والعُمرُ أيامٌ قدِ اختُصِرَتْ وآمالٌ رِحابُ
عُدْ يا شبابُ ولن أُطامِنَ من جِماحِكَ يا شبابُ
* * *
في غُربةٍ أنا والإباءُ المُرُّ والأدبُ اللُبابُ
كالسيفِ حَلَّتْهُ الفُتوحُ وربما بَلِيَ القرابُ
طَودٌ أَشَمُّ فكيف تَرشقُني السِهام ولا أصابُ
يَخفى البُغاثُ فلا تُلِمُّ به ولا يخفى العُقَابُ
الكِبْرُ عِندي للعظيم إذا تَكبَّرَ لا العِتابُ
عِندي له زُهدٌ يُدِلُّ على الكواكبِ واجتِنابُ
أغلى المروءة شِيمةٌ طُبعتْ وأَرخصها اكتساب
* * *
أنا ما عَتبتُ على الصِحابِ فليسَ في الدنيا صِحابُ
خُرسٌ ولكنْ قد تفاصحَتِ الخَواتمُ والثيابُ
عَقِمتْ مُروءتهم وتطمعُ أن يُدغدغَها احتِلابُ
وأعِفُّ عن سَبِّ اللئيمِ وربما نَبُلَ السِبابُ
حيَّا فبشرُ سَلامِهِ نَزْرٌ وبسمتُهُ اغتصابُ
يا من يَمنُّ بِودِّهِ والشَهْدُ – حين يُمَنُّ – صَابُ
أنا كالمسافِرِ لاحَ لي أيكٌ وأغرتْني قِبابُ
وتفتَّحتْ حولي الرياضُ الخُضر واصطفَقَ العُبابُ
ووثقتُ أنَّ النهرَ مِلْكُ يَدي ففاجأني السَرابُ
* * *
أنا لا أُرجِّي غيرَ جبّارِ السماء ولا أَهابُ
بيني وبينَ اللهِ من ثِقَتي بلطفِ اللهِ بابُ
أبداً ألوذُ به وتعرفُني الأرائِكُ والرِحابُ
لي عندهُ من أدمعي كَنزٌ تَضيق به العِيابُ
* * *
يا ربِّ: بابُكَ لا يَرُدُّ اللائِذينَ به حِجابُ
مِفتاحُهُ بيدي يَقينٌ لا يُلِمُّ به ارتيابُ
ومحبّةٌ لكَ لا تُكدَّرُ بالرياءِ ولا تُشابُ
وعبادةٌ لا الحشرُ أملاها عليَّ ولا الحسابُ
وإذا سألتَ عن الذنوبِ فإنَّ أدمعي الجَوابُ
هيَ في يميني حينَ أبسُطُها لرحمتكَ الكِتابُ
إنّي لأغبِطُ عاكفينَ على الذنوبِ وما أنابوا
لو لم يكونوا واثقين بعَفوِكَ الهاني لتابوا
منهم غداً لكنوزِ رحمتكَ اختِطافٌ وانتِهابُ
ولهم غداً بيقينهم من فيءِ سِدرَتكَ اقترابُ
وسَقَيتُ جنَّتكَ الدموعَ فروَّتِ النُطَفُ العِذابُ
وسَكبتُ في نيرانكَ العَبَراتِ فابتَرَدَ العَذابُ
تنهلُّ في عَدنٍ فنَوَّرَ كوكبٌ ونَمَتْ كَعابُ
قرَّبتُها زُلفى هَواكَ فلا الثوابُ ولا العِقابُ
أنتَ المرجَّى لا تناخُ بغيرِ ساحتِكَ الرِكابُ
الأُفقُ كأسُكَ والنجومُ الطافياتُ به حَبابُ
أنا من بِحارِكَ قطرةٌ مما تحمَّلَهُ الرَبابُ
ألقَى بها بَعدَ السِفارِ فضمَّها قفرٌ يَبابُ
البحرُ غايتُها فلا وادٍ يَصدُّ ولا عُقابُ
يا دمعةَ المُزنِ اغتربتِ وشَطَّ أهلُكِ والجَنابُ
حُثِّي خُطاكِ فللفروعِ إلى أرُومتِها انجذابُ
حُثِّي خُطاكِ فشاهِقٌ يُرقى وموحشةٌ تُجابُ
البحرُ معدِنُكَ الأصيلُ وشوق روحِكِ والحُبابُ
وغداً للجَّتِهِ وإنْ بَعُدتْ يَتِمُّ لكِ انسيابُ
* * *
أنا لا أُطيلُ إذا ابتهلتُ وقد تحدَّتني الصِعابُ(/1)
لا أشتكي وبمهجتي ظُفُرٌ يُمزَّقُها ونَابُ
مَسَحَ الحياءُ على الدموعِ وأكرمَ الشكوى اقتِضابُ
تكفي ببابِكَ وقفةٌ وأسىً تجمَّلَ واكتئابُ
* * *
يا شامُ عِطرُ سَريرتي حُبٌّ لجمرتِهِ التهابُ
أنتِ اللُبانَةُ في الجواحِ لا النَوارُ ولا الرَبابُ
لكِ مُهجتي وقَبولُها منكِ الهديَّةُ والثوابُ
والنورُ في عَيني ولا مَنٌّ عليكِ ولا كِذابُ
أنا مَنْ عَرفتِ: تجلُّدٌ زَحَمَ النوائِبَ واحتِسابُ
ولئنْ عَثَرتُ فربَّما عَثَرتْ مُجلِّيةٌ عِرابُ
يَعيا بحقك مَن يُسوِّفهُ ولا يَعيا الطِلابُ
غالبتُ أشواقي إليكِ ويُضرِمُ الشَوقَ الغِلابُ
وَوَدِدْتُ لو عَمَرتْ رُباكِ وألفُ عامرةٍ خَرابُ
أنا طَيرُكِ الشادي وللأنغامِ من كَبدي انسِرابُ
سُكبَتْ أغاريدي وللأمواجِ زأرٌ واحترابُ
فصغَتْ لتسمَعَها الرياحُ وقرَّ في الموجِ اضطرابُ
* * *
أنا والربيعُ مُشرَّدانِ وللشَذا مَعَنا ذَهابُ
لا الأيكُ بعدَ غِيابِنا غَرِدُ الطُيوبِ ولا الرَبابُ
والنورُ يسألُ والخَمائِلُ والجَمالُ متَى الإيابُ
جنيف 22 شباط 1964
من قصيدة للشاعر من ديوانه: 72-87.(/2)
ابتهالٌ من تحت الأنقاض
إلهي ملَّ شكْوايَ القريبُ *** و قرَّحَ مُهجَةَ الحُرِّ النحيبُ
فقد حلَّتْ بساحتنا كُروبٌ ***يَحارُ لِهَولِ ما تُلقيْ الأريبُ
و قد ألقَتْ بأعباءٍ ثِقالٍ ***ينوءُ بهِنَّ شُبَّانٌ و شيبُ
*******
تداعت نحو أمَّتنا جموعٌ *** يُؤّجِّجُ حِقْدَها الحِقدُ الرهيبُ
لتورِدَنا المهالِكَ في ديارٍ *** بها الإسلام ريَّانٌ خصيبُ
و تُضرِمَ في مآثِرِنا جحيماً *** لها في هذه الدُّنيا لهيبُ
*******
فكم من مسجِدٍ قد شِيْدَ صَرحاً *** يُوَحَّدُ في نواحيه الرقيبُ
أحال البغيُ صُفَّته هشيماً *** على أنقاضِهِ رُفِعَ الصليبُ
و في مِحرابهِ شيخٌ مسجىً *** يئِنُّ لِهَولِ ما دَهَتِ الخُطوبُ
و يشكو للمُهيمِن في ابتهالٍ *** صُروفَ الدهرِ يدفعُها الهبوبُ
و كم دَهتِ الطفولةَ من خُطوبٍ *** و كم طفلٍ تغشَّاهُ المشيبُ
و كم طفلٍ قضى مَيْتاً ذبيحاً *** بأيْد الوغد إذ غابَ الرقيبُ
و كم ثَكْلى من اللوعات يجري *** على وَجنَاتها الدمع السكيبُ
تَجندَلَ نجلُها في القَيْد قهراً *** و ما أنجاهُ من فتكٍ قريبُ
تناديه الأُمومة و هيَ ثَكْلى *** بُنيَّ إلَيَّ يا نِعمَ الحبيبُ
فَيَرْمُقُها بطَرْفٍ ثُمَّ يَقضي *** شهيداً نَحْو فِرْدِوسٍ يؤوبُ
و كم عَذْراء مُحصنةٍ رزانٍ *** يُراود طُهرَها الوغدُ الغريبُ
و قد عَبَثُوا بعِفَّتها مراراً *** و لا مُنجٍ يَثُورُ و لا غَضُوبُ
و كم وَأَدوا مِنَ الأحياء حِقداً *** و كم فتكوا و لَيْسَ لهُم مُعيبُ
و قد عَفَت الدِّيار و كان فيها *** لأَهل الحقِّ ميدانٌ رحيبُ
فألبَسها الطُّغاةُ لِباسَ ذُلٍّ *** و دمَّر صرحَها القصف الرهيبُ
و قَـ د خَلَف الأكابرَ من بَنيها *** غُرابٌ حائِمٌ و له نَعيبُ
*******
بَني الإسلام صَرْخَتُنَا أنينٌ *** فقد أعيا حناجِرَنا الصخيبُ
تُرَدِّدُها الثَّكالى مُكرَهاتٍ *** و شيخٌ مُنْهَكٌ و فتىً سغيبُ
فإنْ طَرَقَت مسامِعَكُم بياتاً *** فقوموا أو نهاراً لا تهابوا
فإن في الأرضِ ناصِرُنا فأنتُم *** و إلاّ ؛ فالإله المُستجِيبُ
*******
أيُهدَرُ حقُّنا بِيَدِ الأعادي *** و تَصْرعُنا المآسي و الخطوبُ
و أنتم أهلُ نُصرَتِنَا و فيكُم *** لنا عَونٌ و لَسْنا نَستَريبُ
*******
أَمَا سَمِعَتْ بِصَرختنا البرايا *** و إن سمِعت فأينَ هو المُجيبُ(/1)
ابن الفوارس
للشاعر جرير: يمدح المهاجر بن عبد الله
إنَّ المُهاجِرَ حينَ يَبسُطُ كَفَّهُ
سَبْطُ البَنانِ طَويلُ عَظمِ iiالسَّاعِدِ
قَرْمٌ(1) أغَرُّ إذا الجُدُودُ تَواضَعتْ
سَامى مِنَ البَزَرَى (2) بجدٍّ صَاعِدِ
يا ابنَ الفُروعِ يَمُدّها طِيبُ iiالثَّرى
وابنَ الفَوارسِ والرئيسِ iiالقائدِ
حَامٍ يَذودُ (3) عَنِ المحارمِ iiوالحِمى
ولقدْ حكمتَ فكان حكمُكَ iiمَقنَعاً
وإذا الخُصومُ تَبادَروا iiأبوابَهُ
والمُعتدونَ إذا رأوكَ iiتَخشَّعوا
أُثني عليكَ إذا نزلتَ iiبأرضهِمْ
أعطاكَ ربّي منْ جَزيلِ iiعَطائهِ
آباؤكَ المُتخيِّرونَ أُولو iiاللَّهى
تركَ العُصاةَ أذلّةً في iiدينِهِ
مُستبصرٍ فيها على دينِ iiالهُدى
أبلى ببُرْجَمةَ (7) المَخُوفِ بها الرّدى
كمْ قدْ جَبَرتَ ونِلتَني بكرامةٍ
لوْ يقدُرُونَ بغيرِ ما iiأبليتَهُمْ
يا قاتِلَ الشَّتواتِ عنّا iiكُلّما
... لا تَعْدَمُنَّ ذيَادَة منْ ذائِدِ
وخُلقتَ زَينَ مَنابرٍ iiومَساجدِ
لَمْ ينسَ غائبَهُمْ لخَصمٍ iiشاهدِ
يَخشونَ صَولةَ ذي لُبودٍ (4) حارد
وإذا رحلتَ ثَناءَ جارٍ iiحامدِ
حتى رَضيتَ فطالَ رَغمُ الحاسِدِ
وَرِيَتْ زنادُهُمُ (5) بكَفيْ ماجدِ
والمُعتدينَ، وكُلَّ لصٍّ ماردِ ii(6)
أبشرْ بمنزلةِ المُقيمِ iiالخالدِ
أيامَ مُحتَسبِ البَلاءِ مُجاهِدِ
وذَببتَ (8) عَنَّي منْ عَدُوّ iiجاهدِ
لسُقيتَ سُمَّ أراقمٍ (9) وأساوِدِ ii(10)
بَرَدَ العَشيُّ منَ الأصيلِ iiالباردِ
(1) قرم: سيد كريم شجاع (2) البزرى: العدد الكثير (3) يذود: يحمي
(4) ذو اللبود: الأسد (5) الزناد: المعونة (6) المارد: الذي تجرد من الخير
(7) برجمة: من قلاع الروم (8) ذبَّ: دافع (9 -10) الأراقم والأساود: أخبث أنواع الحيّات.(/1)
ابن المقفع
(من كليلة ودمنة)
فارسي الأصل، كان يدعى في مجوسيته روزبه بن دازويه، ولما أسلم سمي عبد الله بن المقفع.
نشأ في البصرة نشأة عربية متأثرة بالثقافة الفارسية وكتب لبعض الولاة من أمويين وعباسيين، لأنه من مخضرمي الدولتين.
قتله والي البصرة سفيان بن معاوية بإيعاز من المنصور، متهماً إياه بالزندقة سنة 142هـ.
كان ابن المقفع عميق الثقافة في لغته الفارسية، مالكاً ناصية الفصاحة والبلاغة في العربية.
ترجم كتباً ورسائل كثيرة من الفارسية إلى العربية، منها: كليلة ودمنة، والأدب الصغير، والأدب الكبير، والراجح أنه تصرف فيها، وزاد بعض الفصول والأبواب، فأصبحت مزيجاً من الترجمة والتأليف، وجاءت عبارته سلسلة رشيقة، قريبة المتناول ولكنها لا تخلو أحياناً من الاضطراب والغموض. ومع ذلك يبقى لابن المقفع فضل الارتقاء بالفن الإنشائي إلى درجة عالية.
ومن كتابه (كليلة ودمنة) نورد الباب التالي:
الحمامة والثعلب ومالك الحزين (وهو مثل الذي يرى الرأي لغيره، ولا يراه لنفسه).
زعموا أن حمامة كانت تُفرخ في رأس نخلة طويلة، ذاهبة في السماء، فكانت الحمامة تشرع في نقل العش إلى رأس تلك النخلة، فلا يُمكنها ما تنقل من العش، وتجعله تحت البيض إلا بعد شدة وتعب ومشقة، لطول النخلة وسحقها(1)، فإذا فرغت من النقل باضت ثم حضنت بيضها، فإذا فقست(2) وأدرك فراخها(3) جاءها ثعلب قد تعهّد ذلك منها لوقت قد علمه، ريثما ينهض فراخها، فيقف بأصل النخلة فيصيح بها ويتوعدها أن يرقى إليها، أو تلقي إليه فراخها، فتلقيها إليه.
فبينما هي ذات يوم، وقد أدرك لها فرخان، إذ أقبل مالك الحزين(5) فوقع على النخلة، فلما رأى الحمامة كئيبة حزينة شديدة الهم، قال لها:
- يا حمامة، مالي أراك كاسفة البال سيئة الحال؟
فقالت له: يا مالك الحزين، إن ثعلباً دُهيتُ به(6) كلما كان لي فرخان، جاءني يتهددني ويصيح في أصل النخلة، فأفرق منه(7) فأطرح إليه فراخي.
قال لها مالك الحزين:
- إذا أتاك ليفعل ما تقولين فقولي له: لا أُلقي إليك فرخيّ، فارْقَ إليّ وغرّرْ بنفسك(8)، فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخيّ، طرتُ عنك ونجوت بنفسي.
فلما علّمها مالك الحزين هذه الحيلة، طار فوقع على شاطئ نهر، وأقبل الثعلب في الوقت الذي عرف إدراك فرخيها، فوقف تحت النخلة ثم صاح، كما كان يفعل. فأجابته الحمامة بما علّمها مالك الحزين. فقال لها:
- أخبريني من علّمك هذا؟
قالت: علّمني مالك الحزين.
فتوجّه الثعلب حتى أتى مالكاً الحزين، على شاطئ النهر فوجده واقفاً، فقال له الثعلب:
يا مالك الحزين، إذا أتتك الريح عن يمينك فأن تجعل رأسك؟
قال: عن شمالي.
قال: فإذا أتتك عن شمالك، فأين تجعل رأسك؟
قال: أجعله عن يميني أو خلفي.
قال: فإذا أتتك الريح من كل مكان وكل ناحية، فأين تجعله؟
قال: تحت جناحيّ.
قال: وكيف تستطيع أن تجعله تحت جناحيك؟ ما أراه يتهيأ لك(9).
قال: بلى.
قال: فأرني كيف تصنع؟ فلعمري، يا معشر الطير، لقد فضّلكن الله علينا! إنكنّ تدرين في ساعة واحدة، مثل ما ندري في سنة، وتبلُغن مالا نبلغ، وتُدخلن رؤوسكنّ تحت أجنحتكنّ من البرد والريح، فهنيئاً لكّ، فأرني كيف تصنع؟
فأدخل الطائر رأسه تحت جناحيه، فوثب عليه الثعلب مكانه، فأخذه، فهمزه همزة دقّ فيها عنقه(10) ثم قال:
- يا عدو نفسه، ترى الرأي للحمامة، وتعلّمها الحيلة لنفسها، وتعجزُ عن ذلك لنفسك، حتى يتمكن منك عدوّك؟
ثم قتله وأكله(11).
الهوامش
(1) السُّحق: العلو.
(2) فقس الطائر بيضه: أخرج ما فيها.
(3) أدرك: بلغ.
(4) تفقّد وعرف.
(5) مالك الحزين: من طيور الماء.
(6) بُليت به وأصبت منه بشر.
(7) أخاف، وهو مضارع، ماضيه: فَرَقَ.
(8) غرّر فلان بنفسه: عرّضها للهلاك.
(9) ما أظنك تستطيع ذلك.
(10) ضغطه ودفعه وضربه.
(11) كسرها.
(12) كليلة ودمنة – بيروت 1933 – صححها وعلق حواشيها: أحمد حسن طبارة. (ص 285 – 287)(/1)
ابن باز لا يزال حياً!
9/2/1423
أ.د.ناصر بن سليمان العمر- المشرف العام على موقع المسلم
* كنت قد بدأت في إعداد مقال الشهر الذي سبق أن التزمت به لموقع الإسلام اليوم، وكان هذا المقال هو آخر مقال حسب الاتفاق مع أخي المشرف على الموقع، وفي أثناء إعداد ذلك المقال وقع في يدي كتاب (جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز- رحمه الله) رواية الشيخ محمد الموسى؛ مدير مكتب -بيت- سماحة الشيخ، وإعداد الشيخ محمد الحمد، نشر دار ابن خزيمة.
وبدأت في قراءة الكتاب، وأصابني نَهَمٌ، تعطلت بعضُ الأعمال التي كنتُ أقوم بها، مع أنه جاء في ظروف عصيبة، وما مضى إلا وقت يسير حتى أنهيتُ قراءته، علماً أنه فوق (600) صفحة، ولقد تأثرتُ به تأثراً بالغاً أثناء وبعد قراءتي لهذا الكتاب، وظهر التأثر على عملي وعلاقتي بمن حولي، ومع أن معرفتي بسماحة الشيخ بدأت قرابة (1390هـ)، وتوثّقتْ في السنوات الأخيرة، وبخاصة بعد مشاركتي في التوعية في الحج ابتداء من عام 1404هـ، وازدادت هذه العلاقة بعد بدء لقاءات المشايخ وطلاب العلم من أنحاء المملكة معه منذ عام 1411هـ، حتى رمضان عام 1415هـ، وهو آخر لقاء مع سماحته، حيث كانت خلوتي التي استمرت عدة سنوات، ولم تنتِهِ تلك الخلوة إلا بعد وفاته بشهر ونصف عام 1420هـ.
أقول: ومع هذا كله، فقد رأيتُ في هذا الكتاب عجباً، وكأني أعرف الشيخ لأول مرة، حيث كشف عن صفحات مطوية من حياته لا يعلمها إلا القليل ممن لازم الشيخ ملازمة خاصة، كراوي هذا الكتاب ومن نقل عنهم من الملازمين للشيخ- رحمه الله-.
ونظراً لتلك الدرر التي وقفت عليها، وحيث إن عدداً من قراء هذه المقالة لا يتيسّر لهم الاطلاع عليه نظراً لمحدودية النسخ التي طبعت في الطبعة الآولى وتوزيعها في الداخل، بينما عدد من محبي الشيخ في أقطار الأرض، ولما للقدوة من تأثير عجيب في حياة الناس، حيث إن قصة واحدة أفضل من عشرات الدروس والمحاضرات، لذلك كله فقد اخترتُ عدداً من الحقائق التي ذكرها الراوي، ورأيتُ عدم التعليق عليها، لأنها ناطقة بمرادها، وتحمل قوتها في ذاتها، وتحاشيت ما ورد من قصصٍ سبق أن ذُكرتْ في التعريف بالكتاب، ونشر هذا التعريف في موقع الإسلام اليوم قبل عدة أسابيع.
وهذه الحقائق لا تغني عن قراءة الكتاب، والسعي الحثيث للحصول عليه، وأنصح كذلك بنشره وقراءة مختارات منه على العامة والخاصة.
وستجد أن هذا الكتاب يكشف عن أنموذج فريد قد تمر عشرات السنين، بل مئات السنين قبل أن يتكرر مثله،- رحمه الله رحمة واسعة وعوض الأمة عنه خيراً.
وهلمّ بنا إلى بعض تلك الدرر والفرائد والفوائد: -
إذا كان في مهمة عمل خارج المكتب سواء كان في الديوان الملكي، أو في اجتماع في مكان آخر، أو كان في مراجعة للمستشفى، أو كان في محاضرة في بعض القطاعات، ثم انتهى من مهمته– سأل عن الساعة.
فإذا قيل – مثلاً -: الساعة الثانية أو أكثر أو أقل قال: نذهب إلى المكتب، فإذا قيل له: ضاق الوقت، وما بقي إلا القليل، ولا يستحق أن يُذهب لأجله قال: ولو، نقضي بعض الأعمال في هذا الوقت.
وفي عامه الأخير بدأ الانتداب إلى مكة المكرمة في 1/12/1419هـ حتى 21/12/1419هـ، ولكنه مكث في الرياض بسبب مشورة الأطباء؛ لأنه لم يتحمل الذهاب للحج.
ولما سئل عن المدة التي مكثها في الرياض؛ لتحسب له، قال: لا تحسب لي انتداباً؛ لأنني لم أذهبْ!!
وقد ذكر لي أنه يتصل على أحد عشر رقماً؛ لإيقاظهم للصلاة، وإذا ردّ عليه أحد منهم، سلم عليه سماحةُ الشيخ، وقال: الحمد الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور
ولما أخبر بأن الموظفين الذين كانوا معه ليس لديهم مانع من السفر إلى مكة، ولكنهم جلسوا؛ مراعاة لمصلحته، أبى أن تحسب لهم انتداب تلك المدة.
فلما ألحوا عليه، قال: نعطيهم من عندنا.
إذا سمع سماحته الأذان بادر إلى متابعته، وترك جميع ما في يده من الأعمال، وإذا كان أحد يحادثه، أو يهاتفه قال: يؤذن؛ ليشعر من يحادثه أو يهاتفه بأنه سيتابع المؤذن.
وإذا أذّن المؤذن وسماحته في مكالمة مهمة من خارج المملكة، أو مع شخص كبير الشأن ثم انتهى من المكالمة أعاد متابعة الأذان ولو بعد انتهاء المؤذن.
كان -رحمه الله- هو الذي ينبه أولاده، والعاملين لديه في بيته لصلاة الفجر.
وقد ذكر لي أنه يتصل على أحد عشر رقماً؛ لإيقاظهم للصلاة، وإذا ردّ عليه أحد منهم، سلم عليه سماحةُ الشيخ، وقال: الحمد الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور.
في يوم من الأيام كان سماحة الشيخ على موعد بعد صلاة الفجر، فلم يصلِّ في المسجد، وبعد أن علم أن الناس قد صلوا صلى، وقال للأخوين الزميلين الشيخ عبد الرحمن العتيق، والأخ حمد بن محمد الناصر: هذه أول مرة تفوتني صلاة الفجر، وهذه الحادثة أفادتنا أن سماحة الشيخ –رحمه الله- كان شديد المحافظة على صلاة الجماعة؛ إذ كيف لا تفوته صلاة الفجر مع الجماعة طيلة عمره المديد إلا مرة واحدة؟!(/1)
وربما لا ينام طيلة اليوم والليلة في رمضان إلا أربع ساعات.
وكان من عادة سماحته في كل موسم حجّ أنه يحجّ معه أعداد كثيرة من الرجال والنساء، وأغلب هؤلاء من الفقراء وغير السعوديين؛ فكل من طلب من سماحته الصحبة، أو أوصى من يستأذنه فيها قال: حياه الله، ولا يسأل عمن سيذهب معه، ولا عن عددهم، ولا عن ضيق المكان، ولا عن سعته.
وكان عدد الذي يحجون مع سماحته، ويرافقونه في مخيمه ومقر إقامته في الحجّ- يقدر بـ800 حاجّ.
وكان عدد الرجال والنساء الذين يُقدّم لهم الطعام في منى وعرفة يتراوح ما بين 800 إلى 1000 حاجّ.
وليس العجب من هذا، وإنما العجب أن يكفيهم طعام أُخذ فيه حساب 500 شخص، ولكن البركة في طعامه ظاهرة للعيان، يشهد بذلك من وقف عليه؛ وكلما زاد العدد ظننا أنه لن يكفيهم، ومع ذلك يكفيهم ويبقى منه شيء.
أما عدد الذين يتناولون طعام الغداء مع سماحته في مكة فيتراوح عددهم ما بين 300 إلى 400.
والله ثم والله، ثم والله إنني لم أكتب في حياتي كتاباً إلا وأريد بذلك وجه الله
فإذا قلنا لسماحته: يا سماحة الشيخ! كل يرغب في الحج معكم، سواء من داخل البلاد أو خارجها، وأنتم تعلمون أن السيارات لا تكفي، وأن المكان المخصص لكم لا يكفي- قال: الله المستعان، ما هي إلا ساعات وينتهي كل شيء، اصبروا، واحتسبوا، وأبشروا بالأجر الجزيل، وما يدريكم لعلنا لا نحجّ بعد عامنا هذا، ستتيسّر الأمور، وينتهي كل شيء على ما يرام.
لا فرق عند سماحته بين الفقير والغني، والشريف والوضيع، والسفير والوزير؛ فهم يجتمعون جميعاً على المائدة، وكل من أكل مع سماحته جعل يلتفت هنا وهناك ينظر في وجوه الناس على تباينهم، واختلاف ألسنتهم، ومراتبهم، وألوانهم فهذا عربي، وهذا أعجمي، وهذا أسود، وهذا أبيض، وهذا من قريب، وهذا من بعيد.
وفي أحد الأيام قال له أحد الحاضرين ممن يعرف سماحة الشيخ: يا شيخ بعض هؤلاء لا يعرفون أدب الأكل، ولا يحسن الجلوس معهم؛ فلو انفردتَ عنهم، وأرحت نفسك من هؤلاء؛ فقال سماحة الشيخ –رحمه الله-: أنا الذي وضعتُ الطعام لهم، وهم جاؤوا إليّ، وراحتي بالأكل معهم، والرسول- صلى الله عليه وسلم - كان يأكل مع أصحابه ومع الفقراء حتى مات، ولي فيه أسوة حسنة، وسوف أستمرّ على هذا إلى أن أموت، والذي لا يتحمل ولا يرغب الجلوس معهم نسامحه، ويذهب إلى غيرنا.
وإليك هذا المثال: في عيد الفطر عام 1404 هـ؛ حيث لم ينم سماحته ليلة العيد؛ فقد كان يصلي القيام؛ إذ لم يأت خبر العيد إلا متأخراً، ثم استقبل الناسَ بعد الصلاة، فلما أُذِّن بالفجر قام للصلاة، ثم رجع إلى منزله، واستعدّ للعيد، ثم ذهب لصلاة العيد، وبعد الصلاة واصل نهار العيد كله حتى بعد العشاء لا يفتر، ولا ينقطع؛ فتارة مع الهاتف على اختلاف المتصلين وحاجاتهم، وتارة مع سائل أو مستفتٍ، وتارة مع المهنّئين بالعيد، وتارة مع شكاوى الناس ومشكلاتهم، وطلباتهم، وشفاعاتهم، وهكذا.
ومع ذلك لا نراه يضجر أو يملّ، أو يكهر، أو ينهر.
بل يقابل الناسَ كلهم بالبشاشة، والترحاب ولا فرق في ذلك عنده بين أمير، أو وزير، أو قريب، أو بعيد، أو من يعرفه، أو لا يعرفه.
تدفُّقُ كفٍّ بالسماحة ثرَّة ٍوإسفارُ وجْهٍ بالطلاقة مشرقِ
كل ذلك مع كبر سنه، وقلة نومه ذلك اليوم؛ فهذا هو منهجه، وديدنه، وخلقه؛ فهو منهج رائع فريد لمن أراد التأسي بالعلماء العاملين الصالحين المؤْثِرين أخراهم على دنياهم.
ومما يحسن ذِكْرُهُ في هذا الصدد أن سماحة الشيخ يرى أن ليلة الجمعة، وعصر الجمعة مثل بقية الأيام في إلقاء الدروس، وقراءة بعض الأحاديث، خلافاً لما يراه بعض الناس، حيث يتركون الدروس، والتحديث ليلة الجمعة، أو بعد صلاة العصر من يوم الجمعة.
ولا أذكر أنه طالبَ أحداً له حق عليه.
وأذكر أن أحد المسؤولين الكبار عرض على سماحته الخروج للنزهة في وقت الربيع، فقال سماحة الشيخ: أنا لا أرغب الخروج، وليس من عادتي.
فقال له المسؤول: النفس تحتاج إلى الراحة، وتغيير الجو، وشمّ الهواء.
فقال سماحة الشيخ- ممازحاً-: الذي يرغب تغيير الجو، وشمّ الهواء النظيف يخرج إلى السطح ويكفيه ذلك.
وقد حسبت له بعد المغرب في يوم من الأيام ستين إجابة لستين سؤالاً، كل ذلك في جلسة بعد المغرب، مع أنه لم يكن متفرغاً للإجابة وحدها، بل عن يمينه وشماله اثنان من الكتّاب يتعاقبان القراءة عليه، والناس يتوالون للسلام عليه، والهاتف لا يقف رنينه إلى غير ذلك مما مرّ ذكْرُه في وصف مجلسه.
وفي يوم من الأيام قرأتُ عليه بعد صلاة الفجر أربعين معاملة في ساعة ونصف الساعة.
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن دايل: أنتم ما أدركتم نشاط سماحته؛ إذ كان في المدينة لا ينام بعد العشاء إلا متأخراً، وكان لا ينام بعد الفجر، ولا الظهر، ولا العصر.(/2)
وأذكر أنه قبل سنتين من وفاته كان في الطائف، وزاره بعض الشباب من الزلفي، وكانوا طلاّباً في كلية الشريعة، وبعضهم لم يرَ الشيخَ قبل ذلك، وكان غاية ما يتمنون أن يروا سماحته في زيارتهم تلك.
فلماّ دخلوا مجلسه بعد المغرب حياهم، وأدناهم، وألحّ عليهم بالعشاء، فقالوا: نحن لا نريد سوى رؤياك والسلام عليك.
فقال: لا بدّ من العشاء، فوافقوا.
وكان في مجلسه بعد المغرب يلتفت إليهم، ويباسطهم، ويسألهم عن المشايخ في الزلفي، فلما صلينا العشاء دخلتُ مع سماحته في المختصر؛ لأقرأ عليه بعض الأوراق والمعاملات ريثما يتم إعداد العشاء.
وكان الشباب الزائرون في المجلس ينتظرون.
فلما شرعتُ بالقراءة على سماحته رأيته منصرفاً عني، ثم قال: أبا موسى! فقلتُ: نعم، فقال: تركنا الضيوف، فقلتُ: عفا اللهُ عنك، هؤلاء أبناؤك، وقد جلسوا معك بعد المغرب، وسيجلسون معك بعد قليل على العشاء؛ فماذا يريدون غير ذلك؟ ائذن لي بإكمال ما شرعنا بقراءته.
ثم شرعتُ بالقراءة، فقال: أبا موسى، ضيوفنا؟ فقلتُ: لا بأس عليهم، فقال: في ذمتك يا أبا موسى؟ فقلتُ: لن يلحق ذمتي شيء إن شاء الله، فقال: لندع القراءة الآن، هيا إلى المجلس، فتركنا القراءة، وجلس معهم يباسطهم، ويجيب على أسئلتهم.
فلما تناولوا طعام العشاء مع سماحته استأذنوا فقال: ما نسمح لكم، لا بدّ أن تبيتوا عندنا، فقالوا: عندنا مكان سنبيت فيه، فألحّ عليهم، وقال: نحجز لكم في الفندق، إن أردتم؛ لأنه- رحمه الله- ظن أنهم مستحيون، فقالوا: جزاك الله خير الجزاء، وغفر لك، وجعلك ذخراً للإسلام والمسلمين، لقد أعطيتنا من وقتك ومجلسك فوق ما نستحق، وفوق ما تصورنا؛ فودّعهم، وحمّلهم السلامَ لمن أمامهم.
مع أن الشيخ ليّن العريكة، سمح، هين إلا أنه سرعان ما ينقلب أسداً هصوراً لا يلوي على شيء، وذلك إذا علم أن المطلِّق يريد نقضَ الحكم.
الشيخ قليل النوم، فلا يأوي إلى فراشه إلا بعد منتصف الليل فما فوق، ولم يكن ينام بعد الفجر، ولا أعلم أنه نام بعد الفجر، وربما يرتاح بعد الشمس قليلاً.
قال في يوم من الأيام بحضرة أكثر من عشرين من طلبةالعلم: والله ثم والله، ثم والله إنني لم أكتب في حياتي كتاباً إلا وأريد بذلك وجه الله. (قلتُ: وقد حضرتُ ذلك المجلس في بيته بالرياض).
حدّثني الشيخ علي العتيق أن شخصاً جاء إلى سماحة الشيخ قبل وفاته بأربعين سنة، وشكا عليه الحال، فأمر له سماحة الشيخ بخمسين ريالاً، فأخذ ذلك الرجلُ الورقةَ التي كتب فيها الأمر، وغير الكتابة من خمسين إلى خمسمائة ريال، وذهب إلى مأمور الصرف، وألحّ عليه بسرعة صرفها، وادّعى أنه سوف يسافر، فتردد مأمور الصرف، وقال: لا يوجد مبلغ يفي بهذا الطلب، ولم تجر العادة بمثل هذا المبلغ؛ لأن السيولة في ذلك الوقت قليلة جداً.
فلما راجع المأمورُ سماحةَ الشيخ، قال: لم آمر إلا بمبلغ خمسين ريالاً، ثم أطرق سماحته رأسَه مليّاً، وقال: اصرفوها له؛ لعله محتاج.
وإذا جاءه أحد من الناس، وقال: إن الشيخ فلان بن فلان قد قال: كذا وكذا مما لا يليق- نهَره سماحة الشيخ، وقال: هو أوثق عندنا منك، أفنصدقك ونكذب الشيخ فلاناً؟ ونحو ذلك.
وأذكر مرة أن أحد الطلاب سأل سماحة الشيخ عن مقادير الديات، وقال: يا شيخ الدية الآن فيها ظلم للمسلم؛ فإنها تحدد بمئة ألف، وأصلها مئة من الإبل؛ فلو أن الإبل المذكورة في دية المسلم عرضت في السوق للبيع لبلغت قيمتها أكثر من مئة ألف؛ فلو أُعيد النظر في تقدير الدية.
فردّ عليه سماحة الشيخ بشدة، وقال: الذي قدّر الدية علماء أعرف منك، وأنت تعترض، وأنت في بداية الطريق؛ فيجب عليك أن تتأدب وتترك الكلام الذي لا يعنيك.
ومع ذلك فإن الرفق والتحمل هو دأب الشيخ، ولكنه يتقصد تربية الطلاب حتى يكونوا على منهج سويّ، وخلُقٍ فاضل.
وآخر درس ألقاه كان في يوم الإثنين 17/1/1420هـ، وقد استمر في الدرس حتى الساعة الثامنة صباحاً أي أن مدة الدرس استمرت قريباً من ثلاث ساعات.
وأذكر أنه سألني بعد الدرس عن الساعة فقلت:الساعة الآن الثامنة، فقال: تأكد لعلها السابعة؛ فقلتُ: بل هي الثامنة يا سماحة الشيخ، فقال: ما ظننتُ أنها ثمان، القراء كثيرون، والوقت يمضي دون أن ندري؛ فهذا آخر درس ألقاه-رحمه الله-.
وبعدُ:
ما إنْ أنهيتُ قراءةَ الكتاب حتى قمتُ بزيارة لأخي الشيخ محمد الموسى راوي هذا الكتاب، وشكرته وأخاه محمد الحمد على ما قاما به من جهد، وقلتُ له: ما سرّ هذه الشخصية العجيبة؟ فقال: كان الشيخ قد وضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أمام عينيه، وركّز بصره وفكره على هديه وسنته، يحرص ألا يلتفت عنها يمنة أو يسرة، فهو قدوته وإمامه، فلذلك كانت هذه الشخصية التي بهرت القريب والبعيد، العدو والصديق، فلله دره من إمام، قلّ أن يتكرر في الزمان مثله.
ونسأل الله له الرحمة والغفران، وأن يعوض أهله وأمة المسلمين عنه خيراً.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،(/3)
----------------------------
* نشر في موقع الإسلام اليوم بتاريخ 9/2/1423(/4)
ابن كثير ومنهجه في التفسير
إسماعيل بن عمرو بن كثير، الدمشقي، الفقيه الشافعي. إمام جليل، وحافظ عليم، ومفسر قدوة، طار صيته في الآفاق، ونال القبول في الحياة قبل الممات، تلقى العلم عن أكابر علماء عصره، ومن بينهم ابن تيمية الذي لازمه فترة، وامتحن بسببه، وكان ميالاً إلى كثير من آرائه واجتهاداته.
كان - رحمه الله - على مبلغ من العلم عظيم، وعلى مكان من العقل وفير، شهد له أهل العلم بذلك؛ فهذا ابن حجر يصفه بأنه " كان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، وطارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته "، أما الإمام الذهبي فيقول في وصفه: " الإمام المفتي، المحدث البارع، فقيه متفنن، محدث متقن، مفسر نقَّال، له تصانيف مفيدة ". ومهما قال القائلون فيه، فإن شخصية ابن كثير العلمية تتجلى بوضوح لمن يقرأ "تفسيره" أو "تاريخه" وهما من خير ما ألَّف، وأجود ما أَخرج للناس، فقد أجاد فيهما وأفاد.
فتفسيره - وهو موضوع حديثنا - المسمى " تفسير القرآن العظيم" يُعدُّ من أشهر ما دُوِّن في موضوع التفسير بالمأثور، وهو بهذا الاعتبار يأتي بعد تفسير الطبري.
ومما امتاز به هذا التفسير سهولة عبارته، وإيجاز صياغته؛ فقارئه لا يحتاج إلى كثير عناء لتحصيل المعنى المراد، وهو أيضًا ليس بالطويل الممل، ولا بالوجيز المخِلَّ، بل كان طريقًا وسطًا، بين بين.
وقد صدَّر ابن كثير "تفسيره" بمقدمة هامة ضمَّنها كثيرًا من الأمور ذات الصلة بالقرآن الكريم وتفسيره، واعتمد في ذلك على كلام شيخه ابن تيمية - رحمه الله - في مقدمته التفسيرية.
أما عن منهج ابن كثير في "تفسيره" فيمكن حصره في خطوات ثلاث:
الأولى: اعتماده تفسير القرآن الكريم على المأثور؛ فهو أولاً يفسر الآية بآية أخرى، وهو في هذا شديد العناية، وبارع إلى أقصى غاية في سرد الآيات المتناسبة في المعنى الواحد. ثم بعد ذلك يشرع في سرد الأحاديث المتعلقة بالآية المراد تفسيرها، ويبين ما يُقبل من تلك الأحاديث وما لا يُقبل. ثم يشفع هذا وذاك بذكر أقوال الصحابة والتابعين، ومَن بعدهم من أهل العلم، ويرجِّح ما يراه الأرجح، ويُعْرِض عن كل نقل لم يصح ثبوته، وعن كل رأي لم ينهض به دليل.
الثانية: ومن منهجه - وهو مما امتاز به - أن ينبِّه إلى ما في التفاسير من منكرات المرويات الإسرائيلية؛ فهو مثلاً عند تفسيره لقصة البقرة، وبعد أن يسرد الروايات الواردة في ذلك نجده يقول: "... والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها، ولكن لا تصدق ولا تكذب، فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا... " وقد حدد موقفه من الروايات الإسرائيلية، فقال: " وإنما أباح الشارع الرواية عنهم، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (... وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج... ) فيما قد يُجوِّزه العقل، فأما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه فليس من هذا القبيل".
أما الخطوة الثالثة من منهجه، فتظهر من خلال التعرف على موقفه من آيات الأحكام، إذ نجده ينقل أقوال أهل العلم في مسائل الأحكام، مشفوعة بأدلة كل منهم، ثم يُرجِّح من أقوالهم ما يرى أن الدليل يدعمه، أو أن السياق يؤيده؛ وهو في كل ذلك مقتصد غير مسرف، ومعتدل غير مفرط.
وعلى الجملة... فإن تفسير ابن كثير من أخير التفاسير بالمأثور وأنفعها، وأقومها سبيلاً، يُنْبِئُكَ بهذا قبول الناس له قديمًا وحديثًا، ويكفيك في هذا ما قاله الإمام السيوطي - رحمه الله - في حق هذا التفسير: " بأنه لم يؤلَّف على نمطه مثله ".
وبعد... يشار أخيرًا إلى أن هذا التفسير قد طُبع أكثر من طبعة، وقام على تحقيقه وتخريج أحاديثه عدد من العلماء، المشهود لهم بالخير والصلاح، وقد قدموا بعملهم هذا خدمة جليلة لهذا التفسير، الذي لا يزال يحظى برضى الجميع من الخاصة والعامة.
نسأل المولى الكريم رب العرش العظيم، أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعل علمنا وعملنا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يلهمنا الصواب والسداد في الأمر كله. والحمد لله بداية ونهاية، وسلام على عباده الذين اصطفى.
30/05/2004
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
ابن مغيث
اسمه ونسبه وكنيته
هو ا لإمام العلامة الفقيه المحدث، قاضي القضاة بالأندلس بقية الأعيان، شيخ الأندلس، ; يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث بن محمد بن عبد الله بن الصفار ، القرطبي . يكنى بأبي الوليد .
ولادته
ولد الإمام، أبو الوليد ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاث مائة .
طلبه للعلم وأبرز مشايخه
عرف بطلب العلم والرحلة في طلبه والاعتناء بالسنة إلى جانب الاهتمام بالفقه فمن شيوخه أبو بكر محمد بن معاوية المرواني المعروف بابن الأحمر وعنه وعن غيره أخذ سنن النسائي وحدث بها كما تتلمذ على أبي الليثي راوية الموطأ ، وإسماعيل بن بدر ، وأحمد بن ثابت التغلبي ، وتميم بن محمد القروي ، ومحمد بن إسحاق بن السليم القاضي ، وتفقه بالقاضي أبي بكر بن زرب ، وروى أيضا عن خلق منهم : أبو بكر بن القوطية ، ويحيى بن مجاهد ، وأبو جعفر بن عون الله ، وعني بالحديث جدا ، وأجاز له من مصر الحسن بن رشيق ، ومن العراق أبو الحسن الدارقطني .
أعماله
ولِيَ خطابة مدينة الزهراء مدة ، ثم ولي القضاء والخطابة بقرطبة مع الوزارة ، ثم عزل ، فلزم بيته ، ثم ولي قضاء الجماعة والخطابة سنة تسع عشرة وأربع مائة حتى مات .
علمه وبراعته وصفاته ومنتجاته العلمية
كان بليغ الموعظة ، وافر العلم ، ذا زهد وقنوع ، وفضل وخشوع ، قد أثر البكاء في عينيه ، وعلى وجهه النور ، وكان حُفَظَةً لأخبار الصالحين .حفظا لكتاب الله عالما بالقراءات والأحكام
صنف كتبا نافعة منها : كتاب "محبة الله" وكتاب "المستصرخين بالله" ، وكتاب "المتهجدين" نشره للعلم وأشهر تلاميذه
تصدى للتعليم وتتلمذ على يديه خلق ومنهم أئمة القراءات والحديث وكبار الفقهاء وأئمة الاجتهاد فقد حدث عنه : مكي بن أبي طالب ، وأبو عبد الله بن عابد ، وأبو عمرو الداني ، وأبو عمر بن عبد البر ، وابن حزم ، ومحمد بن عتاب ، وأبو الوليد الباجي، وحاتم بن محمد ، وأبو عمر بن الحذاء ، ومحمد بن فرج الطلاعي ، وخلق كثير .
وفاته
مات (رحمه الله) في رجب سنة تسع وعشرين وأربع مائة ، وشيَّعه خلق لا يحصون .
مصادر الترجمة
• أنوار البروق في أنواع الفروق
• مواهب الجليل في شرح مختصر خليل
• البحر المحيط
• حاشية الدسوقي على الشرح الكبير
• منح الجليل شرح مختصر خليل(/1)
ابنتي والموضة!!
اهتم الإسلام بزينة المرأة المسلمة اهتمامًا كبيرًا، ورخص لها من الزينة أكثر مما رخصه للرجل كالحرير والذهب، لأن الزينة أمر فطري بالنسبة لها، وتلبية لنداء الأنوثة لديها، ومع اهتمام الإسلام بالزينة فإنه لم يتركها عبثًا، ولكن وضع القيود، والشروط، والقواعد، والضوابط في اللباس والحلي والطيب ونحو ذلك.
ولكن الذي يؤسف له اليوم أن بعض فتياتنا المسلمات لم يعدن متقيدات بتعاليم الإسلام في موضوع الزينة واللباس، وأصبحت قضية التقليد للكافرات والفاسقات طريقًا سارت عليه تحت مسمى 'الموضة' فتعالي معي ابنتي نضع الموضة في الميزان وتحت المجهر.
[1] عوامل انتشار الموضة:
1ـ وسائل الإعلام لها دور كبير في انتشار الموضة بين الفتيات وإبراز المشاهير فيها على أنهم أهل للاقتداء بما في ذلك ملابسهم.
2ـ هناك جزء من المسئولية يقع على التجار وأصحاب المحلات في تسلل أزياء الموضة إلى بلاد المسلمين.
3ـ الترف والبذخ الذي تعيشه بعض المجتمعات وسذاجة عقول بعض النساء اللواتي لا يهمهن إلا اسم الماركة.
4ـ كما تلعب التنشئة الاجتماعية دورًا مهمًا في بلورة شخصية الفتاة واختياراتها واتجاهاتها، فالأسرة التي تهمل الفتاة وتترك لها الباب مفتوحًا على مصراعيه والأسرة التي تعتمد الكتب والقهر أسلوبًا في التربية يدفعان الفتاة إلى التعويض عبر المؤثرات الخارجية، وتصبح مجرد تابع ومقلد، وتختلط لديها المعايير السلوكية فتؤثر على اتجاهاتها النفسية وبالتالي على أفكارها وآرائها.
5ـ إذا تحول الاهتمام لدى الفتاة من المهم إلى الثانوي، ومن الجوهري إلى الشكلي فإنها تجري وراء الموضة.
[2] الموضة .. ومرض التقليد للكافرات وحكم الشرع في ذلك:
أصبحت قضية التقليد للكافرات والفاسقات طريقًا سارت عليه بعض الفتيات تحت مسمى الموضة، ولقد زحفت هذه الموضة لتمتد على مناحي الحياة لتشمل الأزياء والأحذية وتصفيفات الشعر وماكياج الوجه.
ليس هذا فقط بل بدأت الموضة ترتبط بالحمية وتخسيس الجسم بين الفتيات لتقليد عارضات الأزياء اللاتي تظهرن في مجلات الموضة في منتهى الرشاقة،مما يثير في نفسية الفتاة الإحساس بالعجز عن التشبه بهن.
ـ ومن مواصفات الزي الشرعي الذي يجب أن تتعود عليه الفتاة ألا يشبه لباس الرجال أو لباس الكافرات، ومن أسوأ الفتن التي تهدد مجتمعات المسلمين التشبه بالكفار, حيث إن التشبه الظاهري يتسرب تدريجيًا إلى القلب والعياذ بالله ـ فيكون كبيرة، والتشبه بالكافرات يدل على ضعف الهوية، وعدم الثقة بالنفس، ورؤية أن ما عند الكفار من الدنيا خير وهو ليس كذلك.
وقد نهانا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن التشبه فقال: 'من تشبه بقوم فهو منهم'.
ـ ومن مواصفات الزي الشرعي أيضًا ألا يكون لباس شهرة، وثوب الشهرة هو الثوب الذي يقصد بلبسه الاشتهار بين الناس كالثوب النفيس الغالي الذي يلبسه صاحبه تفاخرًا بالدنيا وزينتها.
يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : [[من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة]]. [حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم 3399].
ـ وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ عضو هيئة كبار العلماء عن المجلات التي تعرض آخر صيحات موضات الأزياء فأفتى بأنها مجلات تنشر الخلاعة والبذاءة والسفور، وهذه المجلات هدامة للأخلاق مفسدة للأمة بعيدة عن الحياء والفضيلة، ولا يشك عاقل فاحص ماذا يريد مروجوها بمجتمع إسلامي محافظ.
ـ فلا بد أن تعي الفتاة المسلمة خطورة هذا الأمر، وأن تراعي عند اختيارها ملابسها ألا تكون غريبة الألوان، غالية الأثمان، لافتة للأنظار، وكذلك في اختيار القصات والتسريحات, فتختار ما يناسب أذواق المسلمين وعاداتهم، لأن مخالفة ملبوس الناس يدعو إلى التعجب، فيجعل اللباس لباس شهرة.
[3] الموضة وتفسير الطب النفسي..
ـ يفسر الدكتور على الحرجان اختصاصي الطب النفسي شغف النساء بالموضة بأنه نابع من حس داخلي بقيم الجمال والأشياء الجديدة، لكنه قد يتحول إلى خلل عند رغبة بعض النساء في مواكبة الموضة واقتناء كل ما هو جديد وعصري دون أن تمتلك السيولة المادية، وهذه تعرف بالشخصية 'النرجسية' التي تحب أن تكون حديث الآخرين.
ـ وهناك بعض النساء يشعرن بالنقص ويندفعن وراء الموضة بشكل مرضي لتغطية هذا النقص، فيقضين ساعات طويلة في السوق للتبضع والشراء وتغطية لبعض الجوانب في شخصيتها.(/1)
ـ وتفسر الاختصاصية الاجتماعية فوزية العقيل التسابق المحموم بين الفتيات لمسايرة الموضة بأنهن يجدن في الموضة وما يصاحب عارضات الأزياء من وهج الأضواء طموحًا يسعيه للانتماء إليه، ونموذجًا مثاليًا يشبع حاجات لديهن، كما لا نستطيع أن نغفل عامل الغيرة والتنافس بين النساء الذي يدفع المرأة إلى تقليد امرأة أخرى تحظى بالإعجاب والإطراء من الناس، وأحيانًا كثيرة تتجاوز التقليد إلى الابتكار والبحث عن كل ما هو غريب ولافت للنظر أكثر. [مجلة الأسرة ـ العدد 109].
[4] الموضة .. والهزيمة النفسية:
من يتتبع أمر هذه الموضة من مبدئها إلى منتهاها يجدها شرًا في شر، وأن الهدف منها هو تحطيم المرأة ماديًا عن طريق استنزاف أموالها، وإضاعة وقتها فيما لا يضر ولا ينفع, وتحطيمها معنويًا وذلك لغير القادرات واللاتي لا يملكن من المال ما يحقق رغباتهن في الجري وراء الموضة فيصبن بالإحباط والعقد النفسية.
فضلاً عن أن فيها نوعًا من العبودية لغير الله ـ تعالى ـ لأنها تقود صاحبتها عند الإسراف فيها إلى عبودية شهواتها، وتقديس جسدها وهذا له أثر مدمر على الأسرة والمجتمع.
ـ وهذا التشبه يدفع إلى فتنة الحياة الدنيا ومظاهرها، ويقعد المنافسين وراء عادات الأجنبي وأزيائه وأخلاقه عن كثير من الواجبات الدينية، والمسئوليات الاجتماعية، وهو أيضًا من العوامل التي تحطم الشخصية وتستأصل فضيلة الشرف والعفاف لما يؤدي إليه من تفلت للغرائز، وانطلاق للشهوات والملذات.
[5] الموضة .. وإفساد المجتمع وعلاقة اليهود بذلك:
وإن معركة الموضة من أعتى وأشرس المعارك التي تخوضها المجتمعات، لأنها معركة تخاض بقفازات حريرية، وبعناوين مخادعة، فكل حركاتنا وسكناتنا باتت تخضع لسلطة الموضة ومصممي الأزياء الذين يصممون لنا الملابس، ويحددون وزن الجسم، ويقررون لون الشعر وشكل الأنف، وسماكة الشفاة، وطول الأظافر.
ـ وها هي دور الأزياء تنتشر في كثير من بلادنا وينظر إليها على أنها سمة للرقي والتطور، وتتهافت الكثير من النساء على تلك الدور للمتابعة ولاقتناء ما لا يتناسب مع معتقداتهم ودينهم وهنا يأتي السؤال: من الذي يصنع هذه الموضة؟
اليهود وهم الذين يسيطرون على بيوت الأزياء التي تصنع الموضة، ويسيطرون أيضًا على منابع الإعلام العالمي, ومن خلاله يمارسون عملية غسيل مخ للنساء، ويصنعون عندهم إحساسًا بأنهم ناقصات، متخلفات، وقبيحات إذا لم يسايرن صيحات الموضة.
ـ وقد عمل اليهود أيضا على السيطرة على معامل الملابس، والمساحيق والعطور وما سواها من مستلزمات الموضة، هم بذلك يتوصلون إلى تحقيق الغرضين: السيطرة على المال وإفساد الدين والأخلاق.
ـ ومما يؤثر له أن وسائل الإعلام في أكثر الدول العربية تسير على نهج بيوت الأزياء العالمية، وتقلدها تقليد الأعمى، فنجد معظم مجلات المرأة العربية تتبارى في تقديم آخر صيحات الموضة، وتقدم عارضات الأزياء على أنهن النموذج الأرقى في الأناقة والرشاقة والقدوة المثلى.
ـ واتباع خطوات الموضة فيه إفساد للمجتمع وإضاعة للمال والوقت.
* أما عن إضاعة المال:
لقد امتن الله على عباده بالمال وجعله قيامًا لمصالحهم، ووضع الضوابط لاستعمال هذا المال، وقد وضع القيود في إنفاقه، قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء /29].
وفي اتباع خطوات الموضة وقوع في براثن الإسراف والخيلاء الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: [[كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة]]. [أخرجه البخاري ـ معلقًا، ك/ اللباس، ب/ قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ...}.
وأما عن إضاعة المال:
فالمسلمة مطالبة بحفظ وقتها، ويجب أن تحفظ عمرها فيما يعود عليها بالنفع في الدين والدنيا، وإضاعة الساعات الطوال أمام المرآة وتسريح الشعر، والجري وراء الموضات، والتسكع بين محلات الأزياء، كل هذا مضيعة للوقت والعمر نهى الشارع عنه لأن الإسلام جعل الزينة وسيلة وليست غاية، وسيلة لتلبية نداء الأنوثة في المرأة، وللظهور أمام زوجها بالمظهر الذي يجلب المحبة ويديم المودة.
ـ والجري وراء الموضة يدفع إلى فتنة الحياة الدنيا ومظاهرها ويقعد المنافسين وراء عادات الأجنبي وأزيائه وأخلاقه عن كثير من الواجبات الدينية والمسئوليات الاجتماعية، وهي أيضًا من العوامل التي تحطم الشخصية وتستأصل فضيلة الشرف والعفاف، لما يؤدي إليه من تفلت للغرائز وانطلاق للشهوات والملذات.
6- الموضة ... والفرق بين الجمال والأناقة:
الجمال الطبيعي هو البساطة الإنسانية والفطرة كما خلقها الله تعالى, والجمال لا علاقة له بالملابس والماكياج، والجمال المرهف العذب زهيد الثمن تملكه كل فتاة دون أن تضيع وقتها في أسواق الملابس، والتصفح في مجلات الأزياء.(/2)
إنه جمال ينبع من الروح الكبيرة المستوعبة، والذهن المرن والقلب النابض الرقيق، وهو جمال الخلق الكريم والعذوبة والخشوع لله والنزاهة.
* أما التأنق فهو الجمال المصنوع بالوسائل الآلية المصطنعة، فبدلاً من أن تعتمد الفتاة على مرونة ذهنها وسعة ثقافتها، وجمال روحها، تجدها تعتمد على كثرة ملابسها والتصنع في شعرها ولبس الملابس القصيرة التي تبرز أعضاء الجسم.
ـ وقد تظن المرأة أن تبرجها شيء ظاهري لا يمس عقلها ـ وهي في هذا مخطئة ـ فإن لكل عمل يقوم به الإنسان آثارًا فكرية وروحية بعيدة المدى، فإذا لم يتحكم العقل في سلوكنا تحكم سلوكنا في عقلنا.
ـ فالتأنق يذل المرأة ويقتل كبريائها، ويشعر المرأة بأن الجمال هو الشيء الذي ينقصها لا الشيء الذي تملكه، فإذا أرادت أن تكون جميلة وجب عليها أن تكافح وتعمل ليل نهار في استكمال ذاتها الناقصة.
ـ فمبدأ التأنق يقوم على الإقرار بأن المرأة لا تملك جمالاً، وإنما هي ناقصة وعليها أن تصنع الجمال صنعًا.
ـ فالتأنق إكمال لنقص بخلاف الجمال الذي هو فيض من السحر والعذوبة يتدفق ويغمر الحياة كلها. فالتأنق نقص والجمال فيض وطبيعة.
ـ ومبدأ التأنق يحرم نساء الطبقة الفقيرة أن يكن جميلات، وبذلك يصبح الجمال حكرًا تملكه الطبقة المرفهة وحدها، فهو ضرب من الطبقية الاجتماعية، بينما الجمال مشاع يملكه الكل ولا يشترى بالمال، والأناقة أيضًا تقضي على الوقت والمال.
ـ إن الإسلام رفع ذوق المجتمع الإسلامي، وطهر إحساسه بالجمال فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب بل الطابع الإنساني المهذب، وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان، أما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف الذي يرفع الذوق الجمالي ويجعله لائقًا بالإنسان، ويحيط بالنظافة والطهارة في الحس والخيال.
ـ ونلخص من كل ما سبق أن الموضة والأناقة المصطنعة هي عدو الجمال. [الأسرة ـ العدد 109].
[7] كيف نواجه طوفان الموضة:
1ـ تذكري أيتها الفتاة أن التقوى خير لباس. قال تعالى: {يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}. [الأعراف: 26].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: 'ولباس التقوى هو الإيمان بالله وخشيته والعمل الصالح والسمت الحسن'. [تفسير ابن كثير 2/ 407 باختصار]
2ـ تزيني التزين المباح كالتحلي بالذهب والملابس الحسنة الجميلة والعناية بالشعر وتصفيفه وتزيينه بما لا يشتمل على محظور شرعي.
3ـ اشغلي أوقاتك بما يفيد وخاصة بقراءة الكتب النافعة والاستماع للتسجيلات والأشرطة النافعة.
4ـ لا داعٍ مطلقًا لتعدد الملابس والفساتين بتكرار المناسبات وتذكري أنك ستسألين يوم القيامة عن قيمة ذلك الفستان من أين أتيت بها؟ وفيم أنفقتها؟
وتذكري أن هناك من المسلمين والمسلمات من لا يجدون ما يكسون به أجسادهم، فتصدقي لعل الله أن يكسوك من حرير الجنة، وتذكري وأنت تشاهدين أزياء الموضة أن الناس سيخرجون من الدنيا بزي موحد واحد وهو الكفن.
5ـ العلاج المبكر لما يسمونه بالعصرية والانطلاق والتمرد للفتيات في سن المراهقة، وذلك عن طريق الصداقات مع ذات الأخلاق والدين والأمانة، وتعيش الفتاة مع صديقاتها حياة تتسم بالطاعة، وفي الوقت نفسه حياة كلها انطلاق ومرح مباح، وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال: 'المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل'.
6ـ أن تعيش الفتاة معنى الآية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}.
فالموضوع ليس مشكلة ملابس على الموضة، الموضوع أعمق من هذا، فعلى الأم أن تتفهم طبيعة المرحلة التي تمر بها الفتاة، وبأسلوب الأم الحنون تفهم ابنتها أننا نعيش حياتنا لغرض وهدف وغاية ألا وهي خلافة الله في الأرض، وكل ما يصب في هذا الهدف مما شرعه الله هو طاعة، فالمأكل الحلال طاعة، والملبس الجميل المتناسق في ألوانه وشكله طاعة.(/3)
ابني عنيد ماذا أفعل ؟
الدكتور حسان شمسي باشا
كثيرا ما يشكو الآباء والأمهات من عناد أبنائهم ويتجلى ظهور العناد واضحا في سن الخامسة من عمر الطفل ، أو سن الرابعة عشرة . ففي سن الخامسة من عمر الطفل يحس الطفل بوجود الآخرين ، ويخشى أن يضيع وسطهم ، ولذا فإنه يسعى ليؤكد شخصيته فيظهر العناد .
وفي سن الرابعة عشرة يكون الفتى قد تجاوز عالم الطفولة ، وشرع يدخل في عالم الكبار والمراهقين ، وفي كلتا الحالتين لا خشية من ظهور العناد ، مع العلم أنه عناد مؤقت ، وإذا واجهناه مواجهة ناجحة بترفق ، ولم نحاول المواجهة بعنف ، فإنه سوف يتلاشى ويذوب من نفسه .
وقد يظهر العناد بتأثير مرور الطفل بإشكالات تتعلق بدراسته أو موقف زملائه ، أو بتأثره من فشل ألم به ، أو ظهور من يسعى ليتطاول عليه . وقد نكون نحن السبب في ظهور العناد ، فنطلب من أولادنا طلبات متعجلة دون إيضاح ، أو طلبات متعددة في آن واحد ، أو نطلب طلبات غامضة مبهمة أو غير ضرورية ، ولا نسمح لهم أن يشرحوا مبرراتهم .
- حذار حذار من أن يتحول العناد إلى تمرد .
- حذار من تعدد الطلبات في وقت واحد .
- حاول أن تكتشف أسباب التمرد ( من رفاق السوء ، أو وعكة صحية ، أو فشل معنوي عند الطفل وغيرها ) .
- لا تلجأ إلى التدليل المفسد أو الرشوة .
- لا ترضخ لمطالب الطفل المتمرد وتستسلم له .
لماذا يعصي الأطفال أوامر والديهم أحيانا ؟
- إن كثيرا من أوامر الآباء ونواهيهم لا تتفق مع ميول ورغبات الطفل ، كعدم اللعب والقفز ، والسباحة وغيرها .
- وقد يرفض الطفل أوامر أبويه دلالا وعنادا ، وذلك بسبب الدلال المفرط الذي أعطي لذلك الطفل .
- وكثيرا ما تكون أوامر الأبوين مبهمة ، كقولنا له : " لا توسخ ثيابك " ، و" أطع أبويك " ، والأولى أن نقول له : " ضع الوعاء على الطاولة ، واشتغل به بعيدا عن ثيابك " مثلا .
لا طاعة عمياء :
إذا أردت من ابنك الاجتهاد فكرر على سمعه : " من جد وجد ، ومن زرع حصد " هيا يا بني لنجد ونجتهد .
إن إجبار الطفل على الطاعة العمياء بصورة دائمة يخمد نفسه ويقتل شخصيته ، ويعوده على عدم الثقة بالنفس .
فإذا كنت ترغب في غرس عادة الطاعة في نفوس أبنائك فحاول أن تروض نفسك على الأمور التالية :
- لا تعط أوامر كثيرة دفعة واحدة .
- لا تلجأ إلى أسلوب الصرامة والقسوة والتهديد .
- لا تسمح مرة بما تنهى عنه مرة أخرى
- لا تبالغ في تعجيل طفلك في عمل شيء ، وتجنب قول : " أسرع .. " .
- تذكر أن الطلب بلطف أعظم تأثيرا من التأنيب والتوبيخ .
للمزيد من التفاصيل راجع كتابنا : " كيف تربي أبناءك في هذا الزمان ؟ "
وهو من منشورات دار البشير بجدة
هاتف وفاكس : 6608904(/1)
اتباع الشهوات.. والفرقة بين المسلمين 29/11/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
يقول الله _عز وجل_: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"
وإن من أعظم الفساد فساد ذات البين الناجم عن اتباع الشهوات أوالشبهات.
إن الأهواء والشهوات تدفع إلى ظلم الغير في سبيل تحصيل الشهوة فيقع الخلاف وينشأ الافتراق "فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيس للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع "الذات"في كفة، والحق في كفة وترجيح الذات على الحق ابتداء!.. ومن ثم جاء هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة.. إنه من عمليات "الضبط"التي لا بد منها في المعركة.." "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ".
وأما الشبهات والتأولات الفاسدة، فتبعد الناس عن الحق إلى أقوال وآراء متباينة، ومن أظهر ذلك الافتراق الذي وقع في الأمة بانحراف ثنتين وسبعين فرقة عن الجادة.
كما أن اتباع الشهوات والشبهات سبب لعدد من الآفات الكفيلة بتمزيق الصف وتفريق الأمة، ولعل من أهما ما يلي:
أولاً: البغي
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو صاحب تجربة واسعة مع المخالفين، قال _رحمه الله_ (الفتاوى 14/482-483):"وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات و القرآن محنة أحمد و غيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به وهو الإسراف المذكور في قولهم: "ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا".
ثانياً: الغرور بالنفس
فالغرور بالنفس يولد الإعجاب بالرأي، والكبر على الخلق، فيصر الإنسان على رأيه، ولو كان خطأ، ويستخف بأقوال الآخرين، ولو كانت صواباً، فالصواب ما قاله، والخطأ ما قاله غيره، ولو ارعوى قليلاً واتهم نفسه، وعلم أنها أمارة بالسوء، لدفع كثيراً من الخلاف والشقاق، ولكان له أسوة بنبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله - تعالى - له: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (آل عمران: من الآية159)، وإذا كانت صفة التواضع ولين الجانب من أوائل صفات المؤمنين، فإنها في حق من انتصب للعلم والدعوة والفتوى والتعليم أوجب وأكثر ضرورة وإلحاحاً.
ثالثاً: سوء الظن بالآخرين
فهو ينظر لجميع الناس بالمنظار الأسود، فأفهامهم سقيمة، ومقاصدهم سيئة، وأعمالهم خاطئة، ومواقفهم مريبة، كلما سمع من إنسان خيراً كذبه، أو أوَّله، وكلما ذُكر أحد بفضل طعنه وجرحه، اشتغل بالحكم على النيات والمقاصد، فضلاً عن الأعمال والظواهر، والمصادرة للآخر قبل معرفة رأيه، أو سماع حجته. ثم هو لا يتوقف عند هذا الحد، بل لسانه طليق في أعراض إخوانه، بسبهم، واتهامهم، وتجريحهم، وتتبع عثراتهم، فإن تورع عن الكلام في أعراض غيره من الفضلاء، سلك طريق الجرح بالإشارة، أو الحركة، بما يكون أخبث وأكثر إقذاعاً، مثل: تحريك الرأس، وتعويج الفم، وصرفه، والتفاته، وتحميض الوجه، وتجعيد الجبين، وتكليح الوجه، والتغير، والتضجر. "وأنت ترى هؤلاء الجراح القصاب، كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم (ذبيحاً) فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة، تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإنه من شعب الإيمان!"
رابعاً: حب الظهور بالجدل والمماراة
ويكون دافع ذلك في الغالب هوى مطاعاً، وقد يكون قلة الفقه أوالفراغ وترك الاشتغال بما ينفع.
وقد روى الإمام أحمد وغيره عن أبي أمامة قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: "ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون".(/1)
قال الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة _رحمهما الله_: "الخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة. لو كانت فضلاً لسبق إليها أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأتباعهم، فهم كانوا عليها أقوى ولها أبصر، وقال الله _تعالى_: "فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن" [آل عمران:20]، ولم يأمره بالجدل، ولو شاء لأنزل حججاً، وقال له: قل كذا وكذا".
وقال ابن قتيبة _رحمه الله_ يصف الحال في أيام السلف _عليه الرحمة والرضوان_: "كان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لا يقع وفيما قد انقرض.. وصار الغرض فيه إخراج لطيفة، وغوصاً على غريبة، ورداً على متقدم...
وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى، فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات، قد تشعبت بهم الطرق، قادهم الهوى بزمام الردى..".
فلما وقع الناس في الجدل تفرقت بهم الأهواء، قال عمرو بن قيس:" قلت للحكم بن عتبة: ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات".
وقد روي عن أبي قلابة –وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.
قال معن بن عيسى: "انصرف مالك بن أنس _رضي الله عنه_ يوماً من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبوالحورية، كان يتهم بالإرجاء، فقال: ياعبدالله! اسمع مني شيئاً أكلمك به، وأحاجك وأخبرك برأيي.
قال: فإن غلبتني؟
قال: إن غلبتك اتبعني.
قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟
قال: نتبعه!
فقال مالك _رحمه الله_: يا عبدالله بعث الله _عز وجل_ محمداً _صلى الله عليه وسلم_ بدين واحد وأراك تنتقل من دين إلى دين".
وقال عمر بن عبدالعزيز: "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل".
وجاء رجل إلى الحسن فقال: "يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه"!
وإذا كان الجدل والمراء والخصومة في الدين مذمومة على كل حال فإنها تتأكد في حق المقلدة والجهال.
ويتأكد ترك المراء والجدل في كل مالا طائل من ورائه كملح العلوم والنوادر، وما لا يثمر عملاً غير السفسطة والتلاسن.
أسأل الله أن يجنبنا وإياكم فتن الشهوات والشبهات، وأن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يؤلف بين قلوبنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/2)
اتباع الهوى
يتناول الدرس تعريف اتباع الهوى وحقيقته في ميزان الشرع، والأسباب التي تدعو إلى ذلك، وما هي مظاهر اتباع الهوى وآثاره على الشخص نفسه ثم أثره على العمل الإسلامي، وكيفية التغلب على الهوى .
اتباع الهوى هو اتباع شهوة النفس دون حكم الشرع . وقد ورد ذم هذا الهوى في نصوص منها :
ـ] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[135][ سورة النساء .
ـ ] يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [26][ سورة ص .
ـ] وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى[40]فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[41] [ سورة النازعات .
ـ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ] أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد .
أسباب إتباع الهوى
1-عدم التعويد على ضبط الهوى منذ الصغر .
2-مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم ، فعن أبي قلابة رضي الله عنه قال : [ لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم ، فإني لا آمن أن يغمسوكم في صلاتكم أو يلبسوا عليكم ماكنتم تعرفون] أخرجه الدارمي ، وعن الحسن وابن سيرين أنهما قالا : [ لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم ، ولا تسمعوا منهم أخرجه الدارمي .
3-ضعف المعرفة الحقة بالله والدار الآخرة ، قال الله تعالى : ] وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ...[91][ سورة الأنعام .
4-تقصير الآخرين في القيام بواجبهم نحو صاحب الهوى ، قال تعالى : ] أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا[63][ سورة النساء ، ويقول سبحانه أيضاً : ] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[104][ سورة آل عمران ، وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت : اعْتَلَّ بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَبَ : [ أَعْطِيهَا بَعِيرًا ] ، فَقَالَتْ : أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَهَجَرَهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَبَعْضَ صَفَرٍ. أخرجه أبو داود وأحمد .
5-حب الدنيا والركون إليها مع نسيان الآخرة ، قال الله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ[7]أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[8][ سورة يونس .
6-الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى .
آثار اتباع الهوى
أولاً : آثار اتباع الهوى على العاملين
1-نقصان بل تلاشي الطاعة من النفس .
2-مرض القلب ثم قسوته وموته ، فعن حُذَيْفَةُ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: [ تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ] أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد .
3-الاستهانة بالذنوب والآثام ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ قَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَارَ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي .(/1)
4- ] فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[50][ سورة القصص .
5- الابتداع في دين الله ، فعن حماد بن سلمة قال : [ حدثني شيخ لهم تاب – يعني الرافضة – قال : كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئا جعلناه حديثا ، وعن جابر بن عبدالله قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا خطب : [ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد.
6- التخبط وعدم الهداية إلى الطريق المستقيم : قال تعالى : ] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[23][ سورة الجاثية .
7- إضلال الآخرين وإبعادهم عن الطريق : قال تعالى : ] ...وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ[119[ [ سورة الأنعام .
8- الصيرورة إلى الجحيم وبئس المصير : قال تعالى : ] فَأَمَّا مَنْ طَغَى[37]وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[38]فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى[39][ سورة النازعات .
ثانياً : آثار اتباع الهوى على العمل الإسلامي
1- ضعف بل تلاشي كسب الأنصار .
2- تفريق أو تمزيق وحدة الصف .
3- الحرمان من العون و التأييد الإلهي .
علاج إتباع الهوى
1-التذكير بعواقب اتباع الهوى .
2-الانقطاع عن مجالسة ومصاحبة أهل الأهواء ، واصطحاب أهل الصلاح .
3-التعريف بالله حق المعرفة .
4-الوقوف على سير أصحاب الأهواء وعاقبتهم .
5-حياطة الآخرين ورعايتهم لصاحب الهوى سواء بالكلام أو الفعل أو العتاب أو التوبيخ أو الهجر أو القطيعة .
6-الوقوف على سِيَر من عُرِفوا بمجاهدة نفوسهم وأهوائهم .
7-التحذير من الركون إلى الدنيا والاطمئنان بها مع الربط الشديد بالآخرة .
8-الاستعانة الكاملة بالله تعالى ، ففي الحديث القدسي : [يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ] أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة من حديث أبي ذر.
9-مجاهدة النفس .
10-التذكير بأن السعادة والراحة والطمأنينة في إتباع المشروع ] ... فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى[123][ سورة طه . ] فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [38][ سورة البقرة .
للدكتور / السيد محمد نوح(/2)
اتباع الهوى
يتناول الدرس تعريف اتباع الهوى وحقيقته في ميزان الشرع، والأسباب التي تدعو إلى ذلك، وما هي مظاهر اتباع الهوى وآثاره على الشخص نفسه ثم أثره على العمل الإسلامي، وكيفية التغلب على الهوى .
مفهوم اتباع الهوى :
لغة : هو السير وراء ما تهوى النفس، وما تشتهي، بل ما تحب وتعشق .
اصطلاحا : المراد باتباع الهوى في الاصطلاح الشرعي والدعوي: هو السير وراء ما تهوى النفس وتشتهي، أو النزول على حكم العاطفة من غير تحكيم العقل، أو رجوع إلى شرع، أو تقدير لعاقبة.
حقيقة اتباع الهوى في ميزان الإسلام:
اتباع الهوى المذموم في نظر الإسلام- وهو المذكور في المعنى الاصطلاحي- هو الذي عناه:
قول الله:} فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [135]{ [سورة النساء] وقوله:} وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [26]{ “سورة ص” وقوله:} وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى[3]إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[4]{ [سورة النجم] } وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى[40]فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[41]{ [سورة النازعات] وقوله:} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [176]{ [سورة الأعراف] وقوله:}وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [50]{ [سورة القصص] .. وآيات أخرى كثيرة.
كما عناه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: [ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ] رواه الترمذي وابن ماجه . وقوله: [...وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ] رواه مسلم وأحمد.
أسباب اتباع الهوى :
1- عدم التعويد على ضبط الهوى منذ الصغر : ذلك أن الإنسان قد يلقى من أبويه منذ الصغر حباً مفرطاً، بحيث يطغى هذا الحب على تنمية الضوابط الفطرية والشرعية التي لابد منها لتنظيم الرغائب أو الدوافع، فيكبر هذا الإنسان، ويكبر معه الانسياق وراء العواطف والرغائب، حتى لو كانت مخالفة للمشروع، إذ من شبّ على شيء شاب عليه، إلا من رحم الله، قال في'منهج التربية الإسلامية':'والأم التي ترضع طفلها كلما بكى، لكي يسكت، أو لأنها لا تطيق أن تسمعه يبكي، تضره بذلك؛ لأنها لا تعينه على ضبط رغباته، ولا تعوده على ذلك الضبط في صغره، فلا يتعوده في كبره، ومن منا تتركه ظروف الحياة لرغباته يشبعها كما يشاء؟! وذلك فضلاً عن أن المسلم بالذات ينبغي أن يتعلم الضبط، ويتعوده منذ باكر عمره ؛ لأن الجهاد في سبيل الله لا يستقيم في النفس التي لا تستطيع ضبط رغباتها، فتنساق معها، وكيف يمكن الجهاد بغير ضبط للشهوات والرغبات، حتى إن كانت في دائرة المباح الذي لا إثم فيه في ذاته، ولكنه يصبح إثماً حين يشغل عن الجهاد في سبيل الله:} قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[24]{ [سورة التوبة]. فكل ما ذكرته الآية ليس محرماً في ذاته، ولكنه صار فسقاً وحراماً حين أصبح سبباً في القعود عن الجهاد في سبيل الله، وحين رجحت كفته في ميزان القلب على حب الله ورسوله، والجهاد في سبيله! فما الوسيلة للاستقامة على ميزان الله إلا ضبط هذه الرغبات، والاستغناء عنها حين تحول بين الإنسان وبين سبيل الله! والضبط مقدرة يتدرب الإنسان عليها، وعادة يتعلمها، وكلما تدرب عليها وهو صغير كان أقدر عليها، وأكثر تمكناً منها، فيجدها حاضرة في أعصابه حين تفجؤه الأحداث' .
2- مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم : ذلك أن العواطف تنمو بالمجالسة وطول الصحبة، وعليه فمن لازم مجالسة أهل الأهواء، وأدام صحبتهم؛ فلابد من تأثره بما هم عليه، لاسيما إذا كان ضعيف الشخصية، عنده قابلية التأثر بغيره من أولئك الناس..وقد وعى السلف هذا السبب، فأكثروا من التحذير من مجالسة أهل الأهواء، بل والتعامل معهم، فعن أبى قلابة قال:'... لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون' . وأُثِرَ عن الحسن، وابن سيرين قولهما:'ولا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم' .(/1)
3- ضعف المعرفة الحقة بالله والدار الآخرة : ذلك أن من ضعفت معرفته بالله، وأنه وحده له الحكم، وإليه المرجع والمآب، وهو أسرع الحاسبين، كما قال سبحانه عن نفسه:} أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ[62]{ [سورة الأنعام]، من كان كذلك لا يقدر ربّه حق قدره، وبالتالي يفعل ما يفعل غير مبال بما إذا كان ذلك يرضي الله أو يغضبه، ينجيه أو يهلكه. وقد لفت الحق سبحانه النظر إلى ذلك، وهو يتحدث عن الضالين والمكذبين، مبيناً أن السبب في ضلال هؤلاء وتكذيبهم إنما يعود إلى عدم معرفتهم بالله حق المعرفة، وبالتالي عدم تقديرهم له حق قدره، إذ يقول سبحانه: }وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [91]{ [سورة الأنعام] }يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ[73]مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[74]{ “سورة الحج” }قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ[64]وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[65]بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ[66]وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[67]{ [سورة الزمر].
4- تقصير الآخرين في القيام بواجبهم نحو صاحب الهوى : فصاحب الهوى إذا رأى ممن حوله استحساناً لما هو عليه، أو سكوتاً وعدم إنكار بأي من وسائل الإنكار، فإنّه يمضي ويتمادى فيما هو عليه، حتى يتمكن الهوى من قلبه، ويسيطر على كل سلوكياته وتصرفاته. ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على مقاومة المنكرات، وعدم السكوت عنها ولكن بالأسلوب المناسب، ومع التكرار؛ نظراً لأن غالبها ناشئ عن اتباع الهوى؛ إذ يقول الحق سبحانه: }وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[104]{ [سورة آل عمران] ويقول: }ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [125]{“سورة النحل” ويقول: }وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا[63]{[سورة النساء].
ولعله السر كذلك في حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مجانبة من لمح فيهم ميلًا إلى الهوى، وعدم رحابة الصدر لهم، لعلهم يتوبون أو يذكرون: فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ: اعْتَلَّ بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَبَ: [ أَعْطِيهَا بَعِيرًا] فَقَالَتْ أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَجَرَهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَبَعْضَ صَفَرٍ . رواه أبوداود وأحمد. وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى أَهْلِي وَقَدْ تَشَقَّقَتْ يَدَايَ فَخَلَّقُونِي بِزَعْفَرَانٍ فَغَدَوْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ وَقَالَ اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ] رواه أبوداود وأحمد.
5- حب الدنيا والركون إليها مع نسيان الآخرة : ذلك أن من أحب الدنيا، وركن إليها، ونسي الآخرة يتولد عنده سعي حثيث لتلبية كل ما يفرضه هذا الحب وذلك الركون- حتى وإن كان مخالفاً لمنهج الله- وذلك بعينه هو اتباع الهوى. وقد لفت المولى النظر إلى هذا السبب في قوله: }إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ[7]أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[8]{ [سورة يونس].كما لفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم النظر في حديث: [ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ] رواه الترمذي وابن ماجه .(/2)
6- الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى : فإن من جهل عواقب محظور من المحظورات؛ وقع في هذا المحظور دون أدنى اهتمام أو مبالاة. ولعل هذا هو السر في اهتمام الشارع الحكيم بالتذكير بالعواقب المترتبة على المأمورات والمنهيات، كما أشرنا إلى ذلك غير مرة فيما تقدم من آفات.
آثار اتباع الهوى على العاملين:
1- نقصان بل تلاشي الطاعة من النفس: فمتبع لهواه يعزّ عليه، ويكبر في نفسه أن يطيع غيره: خالقاً كان هذا الغير أو مخلوقاً؛ بسبب أن هذا الهوى قد تمكّن من قلبه، وملك عليه أقطار نفسه، فصار أسيراً لديه ودافعاً له إلى الغرور والتكبّر، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فإمّا أن يطيع ربّه، وإمّا أن يطيع نفسه وهواه، وشيطانه، وهو ليس بمطيع ربّه، فلم يبق إلا أن يكون مطيعاً لهواه.
2-مرض القلب ثم قسوته وموته : فصاحب الهوى غارق في المعاصي والسيئات، وهذه لها آثار خطيرة على القلب؛ إذ إنها تنتهي به إلى المرض، ثم القسوة أو الموت، كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ }كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[14]{ [سورة المطففين] رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد . وإذا مات القلب، فماذا بقي لهذا الإنسان؟! وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ]رواه مسلم وابن ماجه وأحمد .
3-الاستهانة بالذنوب والآثام : وذلك لأن المتبع لهواه قد قسا قلبه ومات، ويوم تقسو القلوب وتموت؛ تكون الاستهانة والاستهتار بالذنوب والآثام، والاستهانة بالذنوب والآثام هي عين الهلاك والبوار، والخسران المبين.
4- عدم جدوى النصح والإرشاد : لأن المتّبع لهواه قد ركب رأسه، وصار عبداً لشهواته، وأنى لهذا أن يستجيب لنصح، أو ينفع فيه توجيه وإرشاد؟! ولا خير في قوم لا يتناصحون ولا يقبلون النصيحة }فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُم [50]{ [سورة القصص].
5- الابتداع في دين الله : وذلك لأن صاحب الهوى يميل كغيره من البشر إلى إثبات ذاته ووجوده، وهو لا يرضى منهج الله طريقاً لتحقيق هذا الميل، فلم يبق إلا أن يبتدع منهاجاً يوافق أهواءه وشهواته، يقول حمّاد بن سلمة: 'حدّثني شيخ لهم تاب - يعني الرافضة - قال: كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئاً، جعلناه حديثاً'. والابتداع هو الضلال، وكل ضلال في النار، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ]رواه أبوداود والترمذي-بنحوه- وابن ماجه وأحمد والدارمي .
6- التخبّط وعدم الهداية إلى الطريق المستقيم : فصاحب الهوى بعبوديته لشهواته وميوله، قد أعرض عن مصدر الهداية والتوفيق، فمن أين يأتيه التوفيق، والهداية إلى الصراط المستقيم؟! وصدق الله سبحانه إذ يقول: }أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[23]{ [سورة الجاثية].
7- ضلال الآخرين وإبعادهم عن الطريق : ولا تقتصر هذه الآثار الضارة على صاحب الهوى، بل كثيراً ما تتعداه إلى الآخرين- لاسيما والسقوط، أو البعد عن الطريق سهل مرغوب فيه- وقد لفت سبحانه وتعالى النظر إلى ذلك في قوله:} وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ[119]{[سورة الأنعام].
8- الصيرورة إلى الجحيم وبئس المصير : فإن من عوقب بكل الآثار التي قدمنا، فإنما مأواه الجحيم، وصدق الله العظيم:} فَأَمَّا مَنْ طَغَى[37]وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[38]فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى[39]{ [سورة النازعات].
آثار اتباع الهوى على العمل الإسلامي :
1- ضعف بل تلاشى كسب الأنصار : وذلك أن العمل الإسلامي إذا قام على أكتاف، أو كان في صفه من عرف باتباع الهوى، فإنه بذلك يسد الباب في وجه الأنصار الجدد، إذ ليس فيه حينئذ أسوة أو قدوة تغري بالالتحاق به، وبذْل الغالي والرخيص في سبيل نصرته، والمضي به قدماً إلى الأمام، وهذا بدوره يؤدي إلى طول الطريق مع كثرة التكاليف.
2- تفريق أو تمزيق وحدة الصف : وذلك أن صف العمل الإسلامي إذا اشتمل على أصحاب الأهواء، فإنهم ينتهون به إلى التمزيق والفرقة، نظراً لضعف أو تلاشي مبدأ الطاعة عندهم.(/3)
3- الحرمان من العون والتأييد الإلهي : فسنة الله في خلقه مضت أنه لا يمنحهم العون أو التأييد إلا إذا كانوا أهلاً لذلك، حتى إذا مكن لهم يكونون كما قال سبحانه: }الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر [41]{ [سورة الحج].
ولعمري فإن صاحب الهوى بمعصيته لربه ولرسوله، يكون سبباً في حجب هذا العون وذلك التأييد الإلهي للعمل الإسلامي.. وما زالت وصايا عمر لأمراء الجيوش الإسلامية وجندها، إبان الفتوحات الإسلامية ترن في الآذان؛ إذ قال لسعد بن أبى وقاص حين أمّره على العراق:' يا سعد لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربّهم، وهم عباده يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا عليه فالزمه، فإنه الأمر، هذه عظتي إياك، إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك، وكنت من الخاسرين' .
علاج اتباع الهوى :
1- التذكير بعواقب اتباع الهوى سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي: فإن ذلك له دور كبير في تخليص النفس من أهوائها وشهواتها، مادامت مخالفة لمنهج الله ورسوله.
2- الانقطاع عن مجالسة ومصاحبة أهل الأهواء : مع الارتماء في أحضان أهل الصلاح والاستقامة، فإن ذلك يعين على تحرير النفس من وقوعها أسيرة الأهواء والشهوات.
3- التعريف بالله - عز وجل - حقّ المعرفة: فإن ذلك يولد في النفس حبّه وإجلاله، والنزول على حكمه في كل ما أمر به، وفي كل ما نهي عنه، بل ويربّي فيها كذلك مراقبته وخشيته، والطمع في جنته، ورضوانه، والخوف من ناره وعقابه.
4-حياطة الآخرين ورعايتهم لصاحب الهوى : تارة بالنصيحة المقرونة بآدابها وشروطها، وتارة بإيقاع السلوك الأمثل أمامه، وتارة بالعتاب، وتارة بالتوبيخ والتأنيب، وتارة بالهجر والقطيعة، إلى غير ذلك من أساليب، ووسائل الحياطة والرعاية.
5- الوقوف على سير أصحاب الأهواء وعاقبتهم : سواء كانوا من هذه الأمة أم من الأمم الأخرى؛ فإن ذلك يولد في النفس نفوراً من اتباع الهوى، لئلا تكون حديث كل لسان، ولئلا ينزل بها من العقاب مثلما نزل بهؤلاء.
6- الوقوف على سير وأخبار من عرفوا بمجاهدة نفوسهم وأهوائهم : وإلزامها بحدود الله مثل عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن مبارك، وغيرهم، فإن ذلك يحمل على معنى الاقتداء والتأسي، أو على الأقل المحاكاة والمشابهة.
7- التحذير من الركون إلى الدنيا والاطمئنان بها: مع الربط الشديد بالآخرة بحيث يبتغي المسلم فيما آتاه الله الدار الآخرة، ولا ينسى نصيبه من الدنيا إن أمكن، وإلا آثر الآخرة عن الأولى.
8- الاستعانة الكاملة بالله عز وجل : فإنه سبحانه يعين من لجأ إليه،، ولاذ بحماه، وطلب العون والتسديد منه، وصدق الله إذ يقول في الحديث القدسي: [ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ] رواه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد .
9- مجاهدة النفس، وحملها قسراً على التخلص من أهوائها وشهواتها: من قبل أن يأتي يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا، والأمر يومئذ لله.
10- التذكير بأن السّعادة والراحة والطمأنينة والفوز: إنما هي في اتباع المشروع، لا في اتباع ما تملي النفس وما تهوى، وصدق الله إذ يقول:} فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى[123] {[سورة طه] وقال سبحانه: } فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[38] {[سورة البقرة] .
تمت
من كتاب:'آفات على الطريق' للدكتور/ السيد محمد نوح(/4)
الفصل الأول
قواعد وأسس في السنة والبدعة
المبحث الأول
الحث على اتباع السنة والتحذير من البدعة
وبيان أسباب الابتداع
أولاً : الآيات الكريمات التي تأمر بالاتباع وتنهى عن الابتداع :
1. قال الله تعالى :( وأن هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(1).
قال القرطبي :[ هذه آية عظيمة ... فإنه لما نهى وأمر وحذر هنا عن اتباع غير سبيله فأمر فيها باتباع طريقه ](2).
فالصراط المستقيم المذكور في الآية الكريمة هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السنة والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع والأهواء (3).
2. وقال الله تعالى :( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (4).
قال الراغب الأصفهاني :[ والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله ] (5).
وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال :[ سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول - صلى الله عليه وسلم - . فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد . فقال : لا تفعل . قال : فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر . قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة . فقال : وأي فتنة هذه ؟ إنما هي أميال أزيدها . قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصَّر عنها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إني سمعت الله يقول :( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ] (6).
3.وقال الله تعالى:( وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (7)
4. وقال الله تعالى :( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) (8). فأمر الله سبحانه وتعالى برد المتنازع فيه إلى قوله جل جلاله وإلى قول الرسول- صلى الله عليه وسلم - .
5. وقال الله تعالى :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (9).
قال الإمام مالك رحمه الله :[ ومن أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - خان الدين لأن الله تعالى يقول :
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً] (10).
ولأن الله سبحانه وتعالى أخبر بأن الشريعة قد كملت قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يتصور أن يجيء إنسان ويخترع فيها شيئاً لأن الزيادة عليها تعتبر استدراكاً على الله سبحانه وتعالى وتوحي بأن الشريعة ناقصة وهذا يخالف ما جاء في كتاب الله (11).
6. وقال تعالى :( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبونَ اللَّهَ فَاتَّبعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(12).
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي :[ تنبيه : يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هي اتباعه - صلى الله عليه وسلم - فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر إذ لو كان محباً له لأطاعه ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة ومنه قول الشاعر :
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع ](13).
7. وقال تعالى :( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) (14).
ثانياً : الأحاديث النبوية التي تأمر بالاتباع وتنهى عن الابتداع :
1. عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه - قال :( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم . ويقول : بعثت أنا والساعة كهاتين ، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى . ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) رواه مسلم (15).
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153 .
(2) تفسير القرطبي 7/137 .
(3) انظر الإبداع ص 92-93 .
(4) سورة النور الآية 63 .
(5) المفردات في غريب القرآن ص 156 .
(6) الاعتصام 1/132 .
(7) سورة الحشر الآية 7 .
(8) سورة النساء الآية 59 .
(9) سورة المائدة الآية 3 .
(10) الاعتصام 2/53 .
(11) الموسوعة الفقهية 8/23 .
(12) سورة آل عمران الآية 31 .
(13) أضواء البيان 1/217 ، وانظر تفسير المنار 3/284 .
(14) سورة الشورى الآية 21 .
(15) صحيح مسلم بشرح النووي 2/464 .(/1)
وفي رواية عند النسائي :[ وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ] وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني (1).
2. وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه - قال :[ خطَّ لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يوماً خطاً ثم قال : هذا سبيل الله ثم خطَّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ :( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) الآية ، رواه الدارمي وأحمد والنسائي وقال الألباني : حديث صحيح (2).
3. وعن أبي نجيح العرباض بن سارية- رضي الله عنه - قال :( صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر ثم وعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل :
يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا . فقال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح ورواه أحمد وابن حبان ، وهو حديث صحيح صححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي (3).
4. وعن عائشة رضي الله عنهما قالت :( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) رواه البخاري ومسلم (4).
وفي رواية لمسلم :( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ ) (5).
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي :[ وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام كما أن حديث " الأعمال بالنيات " ميزان للأعمال في باطنها وهو ميزان للأعمال في ظاهرها فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء ] (6).
5. وعن بلال بن الحارث- رضي الله عنه - قال :( سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من أحيا سنة قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن ابتدع بدعة لا ترضي الله ورسوله فإن له مثل إثم من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئاً ) رواه الترمذي وابن ماجة . وقال الترمذي : هذا حديث حسن . وقال البغوي : هذا حديث حسن . وصححه الشيخ الألباني (7).
6. وعن أبي شريح الخزاعي قال :( خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ قالوا : بلى . قال : إن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً ) رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد وقال الشيخ الألباني : صحيح (8).
7. وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع فقال : إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه ] رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد. وقال الشيخ الألباني: حسن... وله أصل في الصحيح (9).
8. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال :( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته ) رواه الطبراني وإسناده حسن وصححه الألباني (10).
ثالثاً : الآثار الواردة عن السلف في لزوم السنة وذم البدعة :
1. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :[ كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة ] رواه البيهقي في المدخل وقال الشيخ الألباني : صحيح الإسناد (11).
__________
(1) سنن النسائي 3/188-189 ، صحيح سنن النسائي 1/346 .
(2) كتاب السنة ص 13 ، مشكاة المصابيح 1/59 ، سنن الدارمي مع شرحه فتح المنان 2/241 .
(3) عون المعبود 11/234 ، تحفة الأحوذي 7/365 ، صحيح ابن حبان 1/178 ، الفتح الرباني 1/188 ، المستدرك 1/288 .
(4) صحيح البخاري مع الفتح 6/230 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 3/379 .
(5) صحيح مسلم مع شرح النووي 3/380 .
(6) جامع العلوم والحكم ص 81 .
(7) سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 10/106-107 ، سنن ابن ماجة 1/76 ، شرح السنة 1/233 ، صحيح سنن ابن ماجة 1/41-42 .
(8) صحيح الترغيب والترهيب ص 20-21 .
(9) المصدر السابق ص 21 ، المستدرك 1/284 .
(10) المصدر السابق ص 25-26 .
(11) إصلاح المساجد ص 13 ، وانظر البدعة وأثرها السيء في الأمة ص 42 .(/2)
2. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال :[ الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة ] رواه الدارمي والبيهقي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه الألباني (1).
3. وعنه أيضاً قال :[ اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ] رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي ورواه الدارمي (2).
4. وعنه أيضاً قال :[ اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلاله ] رواه أبو خيثم في كتاب العلم وقال الشيخ الألباني هذا إسناد صحيح (3).
5. وعنه أيضاً قال :[ أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول ] رواه الدارمي وصححه الحافظ ابن حجر وابن رجب الحنبلي (4).
6. وعنه أيضاً قال :[ تعلموا العلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب أهله ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع وعليكم بالعتيق ] رواه الدارمي ومعمر في الجامع وابن عبد البر في جامع بيان العلم (5).
7. وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال :[ يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقاً بعيداً فإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً ] رواه البخاري .
قال الحافظ :[ قوله يا مشعر القراء : المراد بهم العلماء بالقرآن والسنة العبّاد ] (6).
8. وعنه - رضي الله عنه - قال :[ كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تتعبدوا بها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً فاتقوا الله يا معشر القرآء خذوا طريق من كان قبلكم ] رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة ، ومحمد بن نصر في السنة ، وأبو نعيم وابن عساكر وذكره أبو شامة في الباعث وعزاه لأبي داود وكذلك فعل السيوطي وغيره وقال الشيخ الألباني لم أجده في السنن (7).
9. وقال أبو العالية : [ عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يفترقوا ] ذكره ابن الجوزي وذكره السيوطي ورواه معمر في الجامع (8).
10. وقال الأوزاعي :[ اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم وقل بما قالوا وكف عما كفوا عنه واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم ] ذكره ابن الجوزي والسيوطي (9).
11. وقال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - :[ سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق بكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها . من عمل بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً ] رواه ابن عبد البر وذكره الشاطبي في الاعتصام وقال إنه كان يعجب مالكاً جداً (10).
قال الشاطبي :[ وبحق وكان يعجبهم فإنه كلام مختصر جمع أصولاً حسنة من السنة منها ما نحن فيه لأن قوله : ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها . قطع لمادة الابتداع جملة . وقوله : من عمل بها فهو مهتد . مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك ، وهو قول الله سبحانه وتعالى
:( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )] (11).
12. وقال عمر بن عبد العزيز يوصي رجلاً :[ أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته ... فعليك بلزوم سنته فإنها لك بإذن الله عصمة ...] رواه أبو داود ، وقال الشيخ الألباني : صحيح مقطوع (12).
13. وعن الفضيل بن عياض رحمه الله قال :[ اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين ] ذكره الشاطبي والسيوطي (13).
__________
(1) الباعث ص 13 ، الأمر بالاتباع ص 48 ، صحيح الترغيب والترهيب ص 21 ، سنن الدارمي مع شرحه فتح المنان 2/288 .
(2) مجمع الزوائد 1/181 ، سنن الدارمي مع شرحه فتح المنان 2/258 .
(3) كتاب العلم ص 122 .
(4) سنن الدارمي مع شرحه فتح المنان 2/184 ، الأمر بالاتباع ص 59-60 .
(5) سنن الدارمي مع شرحه فتح المنان 2/115 ، المصنف لعبد الرزاق 11/252 ، جامع بيان العلم وفضله 1/152، وانظر الأمر بالاتباع ص 59 .
(6) صحيح البخاري مع الفتح 17/15 .
(7) الباعث ص 15-16 ، الاتباع ص 62 ، إصلاح المساجد ص 12 ، السلسلة الضعيفة 1/374 .
(8) تلبيس إبليس ص 8 ، الأمر بالاتباع ص 49 ، المصنف لعبد الرزاق 11/367 .
(9) تلبيس إبليس ص 9 ، الأمر بالاتباع ص 49 .
(10) جامع بيان العلم وفضله 2/187 ، الاعتصام 1/87 .
(11) الاعتصام 1/87 .
(12) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 12/238-239 ، صحيح سنن أبي داود 3/873 .
(13) الاعتصام 1/83 ، الأمر بالاتباع ص 152 .(/3)
14. وعن عثمان الأزدي قال :[ دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما فقلت له أوصني . فقال : عليك بتقوى الله والاستقامة ، اتبع ولا تبتدع ] ذكره الخطيب في الفقيه والمتفقه ، والبغوي في شرح السنه ، وأبو شامة في الباعث ، والسيوطي في الأمر بالاتباع (1).
المبحث الثاني
تعريف البدعة لغة واصطلاحاً
أولاً : تعريف البدعة لغة :
قال ابن منظور : بدع الشيء يبدعه بدعاً وابتدعه أنشأه وبدأه ... البديع، والبدع : الشيء الذي يكون أولاً ، وفي التنزيل :( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) أي ما كنت أول من أرسل وقد أرسل قبلي رسل كثير .
والبدعة : الحدث وما ابتدع من الدين بعد الإكمال ، وأبدع وابتدع وتبدع : أتى ببدعة قال الله تعالى :( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ) وبدَّعه نسبه إلى البدعة .
واستبدعه : عده بديعاً . والبديع المحدث العجيب . والبديع : المبدع وأبدعت الشيء اخترعته لا على مثال . والبديع : من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها ... ] (2).
وقال الراغب الأصفهاني :[ الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء ... والبديع يقال للمبدع نحو قوله :( بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ). وقوله تعالى :( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) قيل معناه مبدعاً لم يتقدمني رسول ... والبدعة في المذهب إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدمة وأصولها المتقنة ] (3).
وقال أبو البقاء الكفوي :[ البدعة كل عمل عُمل على غير مثال سبق فهو بدعة ] (4).
ثانياً : تعريف البدعة اصطلاحاً :
اختلفت أنظار العلماء في تعريف البدعة وتحديد مفهومها فمنهم من حصر البدعة في باب العبادات فضيق مفهومها فقصرها على الابتداع في باب العبادات اصطلاحاً .
ومنهم من وسع مفهومها فأطلقها على كل محدث من الأمور وجعلها تنقسم إلى أقسام خمسة : فهي إما واجبة أو مندوبة أو مباحة أو مكروهة أو محرمة (5).
وقد سار على أحد هذين المنهجين علماء أجلاء وعلماء أعلام لكل وجهة هو موليها وكل منهم يقصد الوصول إلى ما اعتقد أنه الحق والصواب وكل منهم اجتهد فله أجران إن أصاب وأجر واحد إن خالف قوله الصواب وسأذكر المنهجين وأدلتهما وأبين ما أرى أنه الراجح مع الاستدلال .
مناهج العلماء في تعريف البدعة :
المنهج الأول في تعريف البدعة :
يرى جماعة من أهل العلم منهم الإمام عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء وابن الجوزي وأبو شامة المقدسي والنووي والعيني وابن الأثير والقرافي والحافظ ابن حجر والسيوطي وغيرهم (6) أن البدعة تطلق على كل محدثة لم توجد في كتاب الله سبحانه وتعالى ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - سواء أكانت في العبادات أم العادات وسواء أكانت محمودة أو مذمومة.
ويرى هؤلاء العلماء أن البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة فإن وافقت السنة فهي حسنة محمودة وإن خالفت السنة فهي سيئة مذمومة .
وبناء على هذا الأساس قالوا إن البدعة تنقسم إلى الأقسام الخمسة فهي إما أن تكون واجبة أو مندوبة أو مباحة أو مكروهة أو محرمة .
قال الإمام النووي :[ البدعة بكسر الباء في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة .
__________
(1) الفقيه والمتفقه 1/173 ، شرح السنة 1/214 ، الباعث ص 15 ، الأمر بالاتباع ص 61
(2) لسان العرب مادة بدع 1/341-342 .
(3) المفردات ص 38-39 .
(4) الكليات ص 226 .
(5) انظر مسالك العلماء في تعريف البدعة في المصادر الآتية : قواعد الأحكام 2/172 ، الاعتصام 1/37 ، تهذيب الأسماء واللغات 3/22 ، الباعث ص 13 ، اقتضاء الصراط المستقيم ص 270 ، الأمر بالاتباع ص 81 ، تلبيس إبليس ص 16 ، فتح الباري 5/156 ، جامع العلوم والحكم ص 335 ، الفروق 4/202 ، تهذيب الفروق 4/217 ، الإبداع ص 26 ، البدعة ص 195 ، إصلاح المساجد ص 14 ، إتقان الصنعة ص 7 ، السنة والبدعة ص 195 ، السنن والمبتدعات ص 15 ، كلمة علمية هادئة في البدعة وأحكامها ص 12 ، فتاوى العقيدة ص 611 ، فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 2/321 ، الموسوعة الفقهية 8/21.
(6) قواعد الأحكام 2/172 فما بعدها ، فتاوى العز بن عبد السلام ص 328 ، تلبيس إبليس ص 16-17 ، تهذيب الأسماء واللغات 3/22-23 ، الباعث ص 28 ، الفروق 4/202-205 ، النهاية 1/106 ، عمدة القاري 8/245 ، فتح الباري 5/156-157 ، الأمر بالاتباع ص 89 ، الإبداع ص 31 .(/4)
قال الشيخ الإمام - المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته - أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله في آخر كتاب القواعد : البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة ، قال والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة أو في قواعد التحريم فمحرمة أو الندب فمندوبة أو المكروه فمكروهة أو المباح فمباحة وللبدع الواجبة أمثلة منها الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله تعالى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب ولا يتأتى حفظها إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. الثاني حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة . الثالث تدوين أصول الدين وأصول الفقه . الرابع الكلام في الجرح والتعديل وتمييز الصحيح من السقيم وقد دلت قواعد الشريعة على أن حفظ الشريعة فرض كفاية فيما زاد على المتعين ولا يتأتى ذلك إلا بما ذكرناه . وللبدع المحرمة أمثلة منها : مذاهب القدرية والجبرية والمرجئة والمجسمة والرد على هؤلاء من البدع الواجبة . وللبدع المندوبة أمثلة منها إحداث الربط والمدارس وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول ومنها التراويح والكلام في دقائق التصوف وفي الجدل ومنها جمع المحافل للاستدلال إن قصد بذلك وجه الله تعالى . وللبدع المكروهة أمثلة كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف . وللبدع المباحة أمثلة منها المصافحة عقب الصبح والعصر ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن ولبس الطيالسة وتوسيع الأكمام وقد يختلف في بعض ذلك فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة ويجعله آخرون من السنن المفعولة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما بعده وذلك كالاستعاذة في الصلاة والبسملة هذا آخر كلامه ] (1).
ومن أشهر ما اعتمد هؤلاء العلماء عليه ما يلي :
1. قول عمر - رضي الله عنه - الذي رواه الإمام البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن عبد بن عبد القاري أنه قال :[ خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل ، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله ] (2) وقوله أوزاع أي جماعة متفرقون .
قال الحافظ ابن حجر :[ في بعض الروايات نعمت البدعة بزيادة تاء ] (3).
2. عن مجاهد قال :[ دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة وإذا أناس يصلون في المسجد صلاة الضحى ، قال : فسألناه عن صلاتهم فقال : بدعة ... ] رواه البخاري ومسلم (4).
وقال ابن أبي شيبة :[ حدثنا ابن علية عن الجريري عن الحكم بن الأعرج قال : سألت محمداً - كذا - عن صلاة الضحى وهو مسند ظهره إلى حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : بدعة ونعمت البدعة ] (5).
وقد ذكره الحافظ ابن حجر وعزاه لابن أبي شيبة وفيه : سألت ابن عمر ... الخ . قال الحافظ : إسناده صحيح (6).
قلت : ولعل ما في سند ابن أبي شيبة من قوله " محمداً " خطأ من النساخ .
وقال الحافظ: روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سالم عن أبيه قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها وما أحدث الناس شيئاً أحب إلي منها ] (7).
وهو في المصنف كما قال الحافظ (8).
قالوا إن ابن عمر سمى صلاة الضحى جماعة في المسجد بدعة واستحسنها (9).
3. واحتجوا بالأحاديث التي تفيد انقسام البدعة إلى حسنة وسيئة فمن ذلك :
أ. حديث بلال بن الحارث - رضي الله عنه - قال :( سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول : من أحيا سنة قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن ابتدع بدعة لا ترضي الله ورسوله فإن له مثل إثم من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئاً ) رواه الترمذي وحسنه وقد مضى تخريجه .
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات 3/22-23 ، وانظر كلام العز بن عبد السلام الذي ذكره النووي في قواعد الأحكام 2/172-174 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 5/155-156 .
(3) فتح الباري 5/156 .
(4) صحيح البخاري مع الفتح 4/439 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/381-382 .
(5) مصنف ابن أبي شيبة 2/405 .
(6) فتح الباري 3/295 .
(7) فتح الباري 3/295 .
(8) مصنف عبد الرزاق 3/78-79 .
(9) انظر البدعة ص 205 ، البدعة والمصالح المرسلة ص 92 ، الموسوعة الفقهية 8/22 .(/5)
ب. حديث المنذر بن جرير عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) رواه مسلم (1).
ج. وفي رواية أخرى لحديث جرير قال : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - :( من سن سنة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئاً ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزرها ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئاً ) رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح (2).
د. وعن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( من سن سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك ومن سن سنة سيئة فعليه إثمها حتى تترك ومن مات مرابطاً جرى عليه عمل المرابط حتى يبعث يوم القيامة ) رواه الطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به كما قال الحافظ المنذري ، وقال الشيخ الألباني : حسن (3).
قالوا إن هذه الأحاديث تدل على انقسام البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة . بل إن الإمام النووي يرى أن حديث جرير بن عبد الله :( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ... الخ ) يعتبر تخصيصاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة (4).
كما أنهم قد استدلوا بأدلة أخرى يطول المقام بذكرها .
المنهج الثاني في تعريف البدعة :
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن البدعة مخالفة للسنة ومذمومة شرعاً لأنها محدثة لا أصل لها في الشرع وعلى هذا الإمام مالك والبيهقي والطرطوشي وشيخ الإسلام ابن تيمية والزركشي وابن رجب والشُّمَنِي الحنفي وغيرهم ، واختاره جماعة من العلماء المعاصرين (5).
وأساس هذا المنهج هو تعريف البدعة بالمحدث المخالف للسنة الذي جعل ديناً قويماً وصراطاً مستقيماً وعلى هذا مشى الشاطبي في أحد تعريفيه للبدعة حيث قال :[ فالبدعة إذا عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه . وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة وإنما يخصها بالعبادات ] (6).
وقال الشاطبي :[ فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم .
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم - فمنها ما له أصل في الشريعة ومنها ما ليس له أصل فيها - خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين وسائر العلوم الخادمة للشريعة . فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع ] (7).
وقوله [ تضاهي الشرعية ] أي تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك بل هي مضادة لها من أوجه متعددة :
منها وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد ضاحياً لا يستظل والاختصاص في الانقطاع للعبادة ... ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد واتخاذ يوم ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - عيداً .
ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته .
وقوله :[ يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى ] هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها .
وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك لأن الله تعالى يقول :( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف ... وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية ] (8).
استدل العلماء القائلون بذم البدعة بما يلي :
__________
(1) صحيح مسلم مع شرح النووي 3/84-85 .
(2) سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 10/103 .
(3) صحيح الترغيب والترهيب ص 30 .
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 3/86 .
(5) الفروق 4/202 ، تهذيب الفروق 4/229 ، الحوادث والبدع ص 21 ، اقتضاء الصراط المستقيم ص 270-271 ، جامع العلوم والحكم ص 335 ، البدع والمصالح المرسلة ص 103-107 .
(6) الاعتصام 1/37 .
(7) المصدر السابق 1/37 .
(8) المصدر السابق 1/37-41 .(/6)
أولاً : إن الله سبحانه وتعالى قد أكمل هذا الدين قبل وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال سبحانه وتعالى :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (1).
فلا يقبل من أي إنسان أن يزيد على الدين أو يخترع فيه شيئاً لأن هذه الزيادة والاختراع تعتبر استدراكاً على الله تبارك وتعالى وتوحي بأن الشريعة ناقصة وبأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ الرسالة تبليغاً كاملاً (2).
قال الإمام مالك بن أنس :[ من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة لأن الله يقول : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً (3).
ولأن الزيادة على الشريعة فيها إظهار الاستظهار على الشارع وهو قلة أدب معه لأن شأن العظماء إذا حددوا شيئاً وقف عنده وعدَّ الخروج عنه قلة أدب (4).
ثانياً : قالوا إن الأحاديث الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في البدعة كلها على سبيل الذم ، فمن ذلك ما تقدم في حديث جابر قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم . ويقول : بعثت أنا والساعة كهاتين ، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول : أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) رواه مسلم ، وقد مضى .
وفي رواية للنسائي :( وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ).
وكذلك ما جاء في حديث العرباض بن سارية وفيه: ( صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر ثم وعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا . فقال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي وهو حسن صحيح كما سبق .
قالوا إن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( كل بدعة ) كلية عامة شاملة مسورة بأقوى أدوات الشمول والعموم " كل " والذي نطق بهذه الكلية صلوات الله وسلامه عليه يعلم مدلول هذا اللفظ وهو أفصح الخلق وأنصح الخلق للخلق لا يتلفظ بشيء لا يقصد معناه (5).
قال عبد الله بن عمر :[ كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة ]
وقد مضى .
وقال الإمام أبو حنيفة :[ عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك وكل محدثة فإنها بدعة ] ذكره ابن قدامة المقدسي في ذم التأويل (6).
وقال الإمام أحمد :[ أصول السنة عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة ] ذكره ابن قدامة المقدسي في ذم التأويل (7).
وقال ابن رجب الحنبلي :[ قوله - صلى الله عليه وسلم - :( كل بدعة ضلالة ) من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين وهو شبيه بقوله - صلى الله عليه وسلم - :( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ ) فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه ] (8).
وقال الحافظ ابن حجر بعد قوله - صلى الله عليه وسلم - :( كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) قال :[ هذا قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها ، أما منطوقها فكأن يقال ، حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان وأنتجتا المطلوب ] (9).
وأجاب الإمام الشاطبي عندما سئل :[ هل كل بدعة حسنت أو قبحت ضلالة لعموم الحديث أم تنقسم على أقسام الشريعة ؟ فأجاب : إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( كل بدعة ضلالة محمول عند العلماء على عمومه لا يستثنى منه شيء ألبتة وليس فيها ما هو حسن أصلاً إذ لا حسن إلا ما حسنه الشرع ولا قبيح إلا ما قبحه الشرع فالعقل لا يحسن ولا يقبح وإنما يقول بتحسين العقل وتقبيحه أهل الضلال ] (10).
ثالثاً : واحتجوا بما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) رواه البخاري ومسلم وقد سبق .
__________
(1) سورة المائدة الآية 3 .
(2) انظر البدعة والمصالح المرسلة ص 111 .
(3) الاعتصام 2/53 .
(4) تهذيب الفروق 4/218 .
(5) انظر الإبداع في كمال الشرع ص 12 .
(6) مجلة الحكمة عدد 11 ص159 .
(7) المصدر السابق .
(8) جامع العلوم والحكم ص 336 .
(9) فتح الباري 17/11 .
(10) فتاوى الشاطبي ص 180-181 نقلاً عن مجلة الحكمة عدد 11 ص 160 .(/7)
وفي رواية لمسلم :( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ ) قال الحافظ ابن رجب الحنبلي :[ وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام كما أن حديث " الأعمال بالنيات " ميزان للأعمال في باطنها وهو ميزان للأعمال في ظاهرها فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء ] (1).
وقال الإمام الشوكاني : ( وهذا الحديث من قواعد الدين لأنه يندرج تحته من الأحكام ما لا يأتي عليه الحصر وما أصرحه وأدله على إبطال ما فعله الفقهاء من تقسيم البدع إلى أقسام وتخصيص الرد ببعضها بلا مخصص من عقل ولا نقل فعليك إذا سمعت من يقول هذه بدعة حسنة بالقيام في مقام المنع مسنداً له بهذه الكلية وما يشابهها من نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - :( كل بدعة ضلالة ) طالباً لدليل تخصيص تلك البدعة التي وقع النزاع في شأنها بعد الاتفاق على أنها بدعة فإن جاءك به قبلته وإن كاع كنت قد ألقمته حجراً واسترحت من المجادلة . ومن مواطن الاستدلال لهذا الحديث كل فعل أو ترك وقع الاتفاق بينك وبين خصمك على أنه ليس من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخالفك في اقتضاءه البطلان أو الفساد متمسكاً بما تقرر في الأصول من أنه لا يقتضي ذلك إلا عدم أمر يؤثر عدمه في العدم كالشرط أو وجود أمر يؤثر وجوده في العدم كالمانع فعليك بمنع هذا التخصيص الذي لا دليل عليه إلا مجرد الاصطلاح مسنداً لهذا المنع بما في حديث الباب من العموم المحيط بكل فرد من أفراد الأمور التي ليست من ذلك القبيل قائلاً هذا أمر ليس من أمره وكل أمر ليس من أمره رد فهذا رد وكل رد باطل فهذا باطل فالصلاة مثلاً التي ترك فيها ما كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فعل فيها ما كان يتركه ليست من أمره فتكون باطلة بنفس هذا الدليل سواء كان ذلك الأمر المفعول أو المتروك مانعاً باصطلاح أهل الأصول أو شرطاً أو غيرهما فليكن منك هذا على ذكر ] (2).
رابعاً : واحتجوا بما ورد عن السلف في ذم البدعة وأنهم قد فهموا من الأحاديث الواردة في ذم البدعة الإطلاق والعموم كقول ابن عمر :
[ كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة ] وقد مضى .
وقول ابن مسعود :[ اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ] وقد مضى أيضاً ،
وقول حذيفة :[ كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تتعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً فاتقوا الله يا معشر القرآء وخذوا طريق من كان قبلكم ] وقد مضى أيضاً .
وقول ابن عباس :[ عليك بتقوى الله والاستقامة ، اتبع ولا تبتدع ] وقد مضى أيضاً وغير ذلك من الآثار .
وبناء على ما تقدم فهؤلاء العلماء يرون أن كل بدعة في الدين ضلالة فلا تنقسم البدعة في الدين إلى حسنة وسيئة بل هي قسم واحد وهي البدعة السيئة وأن البدع لا تكون إلا قبيحة مذمومة .
كما أنهم قد استدلوا بأدلة أخرى يطول المقام بذكرها .
المنهج المختار في تعريف البدعة :
بعد إجالة النظر في أقوال العلماء واستعراض أدلتهم التي اعتمدوا عليها مما ذكرته في هذا البحث ومما لم أذكره واطلعت عليه في كتبهم ولم أنقله خشية الإطالة فإني أرجح قول الفريق الثاني من العلماء وهو حصر البدعة في باب العبادات والذي رجح هذا القول عندي ما يلي :
1. إن القول بأن البدعة في الدين تنقسم إلى حسنة وسيئة مما لا أصل له في الشرع فلا دليل عليه من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد لفظ البدعة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا على سبيل الذم .
وأما قول عمر - رضي الله عنه - : ( نعمت البدعة هذه ) فليس فيه ما يفيد أن لفظ البدعة بمجرده يطلق في الشرع على ما هو حسن وإنما يقصد بقول عمر - رضي الله عنه - البدعة بمعناها اللغوي فهي التي تنقسم إلى حسنة وسيئة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل فعل ابتداء من غير مثال سابق وأما البدعة الشرعية فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي ] (3).
وقال الإمام الشاطبي مجيباً ومعلقاً على قول عمر نعمت البدعة :[ بأن صلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد فقد قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - واجتمع الناس خلفه .
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص 81 .
(2) نيل الأوطار 2/89 .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم ص 276 .(/8)
فخرج أبو داود عن أبي ذر قال : ( صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان فلم يقم شيئاً من الشهر حتى بقي سبع ، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا ؟ فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلنا : يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة ؟ قال ، فقال : إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة . قال : فلما كانت الرابعة لم يقم ، فلما كانت الثالث جمع أهله ونسائه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح . قال ، قلت : وما الفلاح ؟ قال السحور . ثم لم يقم بنا بقية الشهر ) ونحوه في الترمذي وقال فيه: حسن صحيح.
لكنه - صلى الله عليه وسلم - لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس . ثم صلى القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبح قال : ( قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن يفرض عليكم ) وذلك في رمضان وخرجه مالك في الموطأ .
فتأملوا ففي هذا الحديث ما يدل على كونها سنة فإن قيامه أولاً بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقاً لأن زمانه كان زمان وحيٍ وتشريع فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس بالإلزام : فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع الأمر إلى أصله وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له .
وإنما لم يقم ذلك أبو بكر- رضي الله عنه - لأحد أمرين : إما لأنه رأى أن قيام الناس آخر الليل وما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل، ذكره الطرطوشي ، وإما لضيق زمانه - رضي الله عنه - عن النظر في هذه الفروع مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح .
فلما تمهد الإسلام في زمن عمر - رضي الله عنه - ورأى الناس في المسجد أوزاعاً - كما جاء في الخبر - قال : لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان أمثل فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم آخر الليل أفضل ثم اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره والأمة لا تجتمع على ضلالة .
وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي .
فإن قيل : فقد سماها عمر - رضي الله عنه - بدعة وحسنها بقوله : نعمت البدعة هذه وإذا ثبت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع .
فالجواب : إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر - رضي الله عنه - لا أنها بدعة في المعنى فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه ؟
لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه فقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها :( إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم )] (1).
وقال ابن حجر المكي :[ وقول عمر - رضي الله عنه - في التراويح نعمت البدعة هي ، أراد البدعة اللغوية وهي ما فعل على غير مثال كما قال تعالى :( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) وليست البدعة شرعاً فإن البدعة الشرعية ضلالة كما قال - صلى الله عليه وسلم - ] (2).
2. قال الشاطبي :[ إن هذا التقسيم - تقسيم البدعة خمسة أقسام - أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي بل هو في نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثمَّ بدعة وكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها أو المخير فيها ... ] (3).
3. إن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( كل بدعة ضلالة ) عام في كل بدعة أحدثت بعده - صلى الله عليه وسلم - للتقرب بها إلى الله عز وجل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وهؤلاء المعارضون يقولون : ليست كل بدعة ضلالة ، والجواب : أما أن القول :( أن شر الأمور محدثاتها وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) والتحذير من الأمور المحدثات : فهذا نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع ومن نازع في دلالته فهو مراغم - أي مكابر معاند - وأما المعارضات : فالجواب عنها بأحد جوابين .
إما بأن يقال : ما ثبت حسنه فليس من البدع ، فيبقى العموم محفوظاً لا خصوص فيه .
وإما أن يقال : ما ثبت حسنه فهو مخصوص من هذا العموم فيبقى العموم محفوظاً لا خصوص فيه .
__________
(1) الاعتصام 1/193-195 ، وانظر الحوادث والبدع ص 51-52 ، الإبداع ص 78-80
(2) الفتاوى الحديثية ص 281 .
(3) الاعتصام 1/191-192 .(/9)
وإما أن يقال : ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص ، فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص وإن كان ذلك العموم اللفظي المعنوي موجباً للنهي .
ثم المخصص : هو الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع نصاً واستنباطاً وأما عادة بعض البلاد أو أكثرها وقول كثير من العلماء أو العباد أو أكثرهم ونحو ذلك : فليس مما يصلح أن يكون معارضاً لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يعارض به .
ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها فهو مخطئ في هذا الاعتقاد ، فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة ولا يجوز دعوى إجماع بعمل بلد أو بلاد من بلدان المسلمين فكيف بعمل طوائف منهم ؟ وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا عليهم عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك بل رأوا السنة حجة عليه كما هي حجة على غيرهم مع ما أوتوه من العلم والإيمان فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادت أكثر من اعتادها عامة أو من قيدته العامة أو قوم مترئسون بالجهالة لم يرسخوا في العلم ولا يعدون من أولي الأمر ولا يصلحون للشورى ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل عن غير روية أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها : أن يكونوا فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين ؟
والاحتجاج بمثل هذه الحجج والجواب عنها معلوم أنه ليس طريقة أهل العلم لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس حتى من المنتسبين إلى العلم والدين وقد يبدو لذوي العلم والدين فيها مستند آخر من الأدلة الشرعية والله يعلم أن قوله بها وعلمه لها ليس مستنداً آخر من الأدلة الشرعية وإن كان شبهة وإنما هو مستند إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ولا عن رسوله من أنواع المستندات التي يستند إليها غير أولي العلم والإيمان وإنما يذكر الحجة الشرعية حجة على غيره ودفعاً لما يناظره .
والمجادلة المحمودة : إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل : فنوع من النفاق في العلم والجدل والكلام والعمل .
وأيضاً فلا يجوز حمل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كل بدعة ضلالة ) على البدعة التي نهى عنها بخصوصها لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث ، فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي قد علم بذلك النهي ، أنه قبيح محرم سواء كان بدعة أو لم يكن بدعة ، فإذا كان لا منكر في الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه سواء كان مفعولاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لم يكن وما نهى عنه فهو منكر سواء كان بدعة أو لم يكن : صار وصف البدعة عديم التأثير ، لا يدل وجوده على القبح ولا عدمه على الحسن بل يكون قوله : ( كل بدعة ضلالة ) بمنزلة قوله :( كل عادة ضلالة ) أو :( كل ما عليه العرب والعجم فهو ضلالة ) ويراد بذلك : أن ما نهى عنه من ذلك فهو الضلالة .
وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد ليس من نوع التأويل السائغ وفيه من المفاسد أشياء .
أحدها : سقوط الاعتماد على هذا الحديث فإن ما علم أنه منهى عنه بخصوصه فقد علم حكمه بذلك النهي وما لم يعلم يندرج في هذا الحديث فلا يبقى في هذا الحديث فائدة مع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب به في الجمع ويعده من جوامع الكلم .
الثاني : أن لفظ البدعة ومعناها يكون اسماً عديم التأثير فتعليق الحكم بهذا اللفظ أو المعنى تعليق له بما لا تأثير له كسائر الصفات العديمة التأثير .
الثالث : أن الخطاب بمثل هذا إذا لم يقصد إلا الوصف الآخر - وهو كونه منهياً عنه - كتمان لما يجب بيانه وبيان لما لم يقصد ظاهره فإن البدعة والنهي الخاص بينهما عموم وخصوص إذ ليس كل بدعة جاء عنها نهي خاص وليس كل ما جاء فيه نهي خاص بدعة فالتكلم بأحد الاسمين وإرادة الآخر تلبيس محض لا يسوغ للمتكلم إلا أن يكون مدلساً كما لو قال " الأسود " وعنى به الفرس أو " الفرس " وعنى به الأسود .
الرابع : أن قوله :( كل بدعة ضلالة وإياكم ومحدثات الأمور ) إذا أراد بهذا ما فيه نهي خاص كان قد أحالهم في معرفة المراد بهذا الحديث على ما لا يكاد يحيط به أحد ولا يحيط بأكثره إلا خواص الأمة ومثل هذا لا يجوز بحال .
الخامس : أنه إذا أريد به ما فيه النهي الخاص كان ذلك أقل مما ليس فيه نهي خاص من البدع فإنك لو تأملت البدع التي نهى عنها بأعيانها وما لم ينه عنها بأعيانها وجدت هذا الضرب هو الأكثر واللفظ العام لا يجوز أن يراد به الصور القليلة أو النادرة .(/10)
فهذه الوجوه وغيرها توجب القطع بأن هذا التأويل فاسد لا يجوز حمل الحديث عليه سواء أراد المتأول أن يعضد التأويل بدليل صارف أو لم يعضده فإن على المتأول بيان جواز إرادة المعنى الذي حمل الحديث عليه من ذلك الحديث ثم بيان الدليل الصارف له إلى ذلك .
وهذه الوجوه تمنع جواز إرادة هذا المعنى بالحديث .
فهذا الجواب عن مقامهم الأول .
وأما مقامهم الثاني فيقال : هب أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح فهذا القدر لا يمنع أن يكون هذا الحديث دالاً على قبح الجميع لكن أكثر ما يقال أنه إذا ثبت أن هذا حسن يكون مستثنى من العموم وإلا فالأصل أن كل بدعة ضلالة .
فقد تبين أن الجواب عن كل ما يعارض به من أنه حسن وهو بدعة إما بأنه ليس ببدعة وإما بأنه مخصوص فقد سلمت دلالة الحديث .
وهذا الجواب إنما هو عما ثبت حسنه .
فأما أمور أخرى قد يظن أنها حسنة وليست بحسنة أو أمور يجوز أن تكون حسنة ويجوز أن لا تكون حسنة فلا تصلح المعارضة بها بل يجاب عنها بالجواب المركب .
وهو إن ثبت أن هذا حسن فلا يكون بدعة أو يكون مخصوصاً وإن لم يثبت أنه حسن فهو داخل في العموم .
وإذا عرفت أن الجواب عن هذه المعارضة بأحد الجوابين فعلى التقديرين الدلالة من الحديث باقية لا ترد بما ذكروا ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلية وهي قوله :( كل بدعة ضلالة ) بسلب عمومها وهو أن يقال : ليست كل بدعة ضلالة فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل ] (1).
4. ويضاف إلى ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية أن قول الرسول
- صلى الله عليه وسلم - : ( كل بدعة ضلالة ) كلية عامة شاملة مسوَّرة بأقوى أدوات الشمول والعموم " كل " والذي نطق بهذه الكلية وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم مدلول هذا اللفظ وهو أفصح الخلق وأنصح الخلق للخلق لا يتلفظ إلا بشيء يقصد معناه (2).
5. لا تعارض بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) رواه مسلم ، وبين قوله- صلى الله عليه وسلم - : ( كل بدعة ضلالة ) ، فإنه لا يمكن أن يصدر عن الصادق المصدوق قول يكذب قولاً آخر له ولا يمكن أن يتناقض كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبداً وبيان دفع التعارض بين الحديثين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول :( من سن في الإسلام ) والبدع ليست من الإسلام ، ويقول :( حسنة ) والبدعة ليست بحسنة وفرق بين السن والابتداع .
ويمكن أن يقال إن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - :( من سن ) أي من أحيا سنة كانت موجودة فعدمت فأحياها وعلى هذا فيكون " السن " إضافياً نسبياً كما تكون البدعة إضافية نسبية لمن أحيا سنة بعد أن تركت .
ويمكن أن يقال أيضاً إن سبب ورود الحديث :( من سن ) وهو قصة النفر الذين وفدوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا في حالة شديدة من الضيق فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التبرع لهم فجاء رجل من الأنصار بصرة من فضة كادت تثقل يده فوضعها بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهلل من الفرح والسرور وقال :( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فهنا يكون معنى " السن " سن العمل تنفيذاً وليس سن العمل تشريعاً فصار معنى ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) من عمل بها تنفيذاً لا تشريعاً لأن التشريع ممنوع (3).
وأما الجواب عن تسمية ابن عمر لصلاة الضحى جماعةً بدعة فيقال:( إنما أنكر ابن عمر ملازمتها وإظهارها في المسجد وصلاتها جماعةً لا أنها مخالفة للسنة فصلاة الضحى ثابتة في السنة لا شك في ذلك ولا ريب (4).
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 270-274 .
(2) الإبداع في كمال الشرع ص 18 .
(3) المصدر السابق ص 18-20 بتصرف .
(4) فتح الباري 3/295 ، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 2/343 ، 3/382 .(/11)
إذا تقرر هذا فإن البدعة هي التعبد لله بما لم يشرعه الله سبحانه وتعالى ولا جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يأت عن الخلفاء الراشدين وهذا لا يكون إلا في العقائد والعبادات فالبدعة التي تعد بدعة في الدين هي البدعة في العقيدة أو العبادة قولية أو فعلية كبدعة نفي القدر وبناء المساجد على القبور وإقامة القباب على القبور وقراءة القرآن عندها للأموات والاحتفال بالموالد إحياء لذكرى الصالحين والوجهاء والاستغاثة بغير الله والطواف حول المزارات فهذه وأمثالها كلها ضلال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) لكن منها ما هو شرك أكبر يخرج من الإسلام كالاستغاثة بغير الله فيما هو من وراء الأسباب العادية والذبح والنذر لغير الله إلى أمثال ذلك مما هو عبادة مختصة بالله ومنها ما هو ذريعة إلى الشرك كالتوسل إلى الله بجاه الصالحين والحلف بغير الله وقول الشخص ما شاء الله وشئت ولا تنقسم البدع في العبادات إلى الأحكام الخمسة كما زعم بعض الناس لعموم الحديث :( كل بدعة ضلالة )] (1).
وأما الأمور العادية والدنيوية فالمحدث منها لا يسمى بدعة شرعاً وإن سمي بدعة لغة فلا تعد المحدثات الجديدة بدعاً في الدين مثل الطائرات ووسائل الاتصالات ومكبرات الصوت ... الخ .
وكذلك ما يعد من الوسائل كتعلم العلوم المختلفة كعلم النحو وكذا طبع المصحف وحفظه بوسائل الحفظ الحديثة كالأشرطة المسجلة والحاسوب ونحوها فهذه الوسائل لها أحكام الغايات والمقاصد فإذا كانت الغايات مشروعة كانت وسائلها المؤدية إليها مشروعة وليست من البدع في شيء.
المبحث الثالث
الأصل في العبادة الاتباع
إن الأصل في باب العبادات هو اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدون زيادة ولا نقصان فليس لأحد مهما كان أن يزيد في العبادة شيئاً ولا أن ينقص منها شيئاً وقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديثين صحيحين مشهورين بالالتزام بالعبادة كما فعلها هو عليه الصلاة والسلام .
أولهما : قوله - صلى الله عليه وسلم - :( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وهذا بعض حديث رواه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي قلابة قال : حدثنا مالك - هو ابن الحويرث - رضي الله عنه - - قال :( أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيماً رفيقاً فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه . قال : ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها وصلوا كما رأيتموني أصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم ) (2).
فهذا الحديث الصحيح الصريح يقرر هذا الأصل وهو لزوم الاتباع في الصلاة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي . فنؤدي الصلاة كما وردت عن رسول - صلى الله عليه وسلم - بلا زيادة ولا نقصان .
ثانيهما : قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( خذوا عني مناسككم ) وهو حديث صحيح رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم بألفاظ متقاربة (3).
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي الزبير أنه سمع جابراً يقول: ( رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ) (4).
قال الإمام النووي في شرحه للحديث : ( وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لتأخذوا مناسككم ) فهذه اللام لام الأمر ومعناه خذوا مناسككم وهكذا وقع في رواية غير مسلم ، وتقديره هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس .
وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج وهو نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - :( صلوا كما رأيتموني أصلي )] (5).
ولفظ رواية النسائي :( رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة وهو على بعيره وهو يقول يا أيها الناس خذوا عني مناسككم فإن لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا ) (6).
فهذان الحديثان يدلان على أن الأصل في العبادات هو التوقيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يثبت شيء من العبادات إلا بدليل من الشرع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وجماع الدين أصلان أن لا يعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بالبدع ، كما قال تعالى :
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة 2/321 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 2/252 .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 3/419 ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 5/310 ، سنن النسائي 5/270 ، سنن ابن ماجة 2/1006 .
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 3/419 .
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 3/420 .
(6) سنن النسائي 5/270 .(/12)
( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) (1).
وذلك تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله ، ففي الأولى : أن لا نعبد إلا إياه .
وفي الثانية : أن محمداً هو رسوله المبلغ فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره وقد بين لنا ما نعبد الله به ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة ، قال تعالى :( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )] (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً :[ إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان عبادات يصلح بها دينهم وعادت يحتاجون إليها .
فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع .
وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى .
وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن تكون مأموراً بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور ؟ ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون : إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى :
( أم لهم شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ )](3).
وقال العلامة ابن القيم :[ ... ولا دين إلا ما شرعه الله فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر .
والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم .
والفرق بينهما أن الله سبحانه وتعالى لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه. وأما العقود والشروط والمعاملات فهو عفو حتى يحرمها .
ولهذا نعى الله سبحانه وتعالى على المشركين مخالفة هذين الأصلين وهو تحريم ما لم يحرمه والتقرب إليه بما لم يشرعه ... ] (4).
ومما يؤيد هذا الأصل ويدل عليه وقوف الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف عند ما حدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك :
1. ما ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :( أنه قبل الحجر الأسود وقال : إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ) متفق عليه (5).
قال الإمام النووي :[ وأما قول عمر - رضي الله عنه - :( لقد علمت أنك حجر وإني لأعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع ) فأراد به بيان الحث على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تقبيله ونبه على أنه لولا الاقتداء به لما فعله .
وإنما قال :( وإنك لا تضر ولا تنفع ) لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها رجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها وكان العهد قريباً بذلك ، فخاف عمر - رضي الله عنه - أن يراه بعضهم يقبله ويعتني به فيشتبه عليه فبين أنه لا يضر ولا ينفع بذاته وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع بالجزاء والثواب ... ] (6).
2. وثبت عن عمر - رضي الله عنه - في حادثة تقبيل الحجر الأسود وما قال فيه أنه قال بعد ذلك :( فما لنا وللرمل ؟ إنما كنا راءينا المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال : شيء صنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا نحب أن نتركه ) رواه البخاري(7).
ومعنى قوله ( رائينا ) من الرؤية أي أريناهم بذلك أنا أقوياء قاله الحافظ ابن حجر (8).
وجاء في رواية أخرى عن عمر - رضي الله عنه - قوله :( فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد أظهر الله الإسلام ونفى الكفر وأهله ؟ ومع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) رواه ابن ماجة بنحوه ورواه أحمد(9).
3. وعن يعلى بن أمية قال :( طفت مع عمر بن الخطاب فلما كنت عند الركن الذي يلي الباب مما يلي الحجر أخذت بيده ليستلم فقال : أما طفت مع رسول الله ؟ قلت : بلى . قال : فهل رأيته يستلمه قلت لا ؟ قال : فأبعد عنه فإن لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة ) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني في الأوسط كما قال الهيثمي ، ورواه البيهقي أيضاً (10).
4. وفي رواية عند الإمام أحمد أن يعلى بن أمية قال :
__________
(1) سورة الكهف الآية 110 .
(2) العبودية ص 170-171 .
(3) القواعد النورانية ص 78-79 .
(4) إعلام الموقعين 1/344 .
(5) صحيح البخاري مع الفتح 4/217 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/396 .
(6) شرح النووي على صحيح مسلم 3/397 .
(7) صحيح البخاري مع الفتح 4/217 .
(8) فتح الباري 4/217 .
(9) سنن ابن ماجة 2/984 ، الفتح الرباني 12/20 .
(10) مجمع الزوائد 3/240 ، الفتح الرباني 12/32 ، سنن البيهقي 5/77 .(/13)
( طفت مع عثمان ... ) فذكر نحو الحديث السابق ، قال الساعاتي : [ فلعل القصة وقعت ليعلى بن أمية مرتين مرة مع عمر ومرة مع عثمان . ورواه أبو يعلى بإسنادين أحدهما رجاله رجال الصحيح وسند الإمام أحمد فيه راوٍ لم يسمَّ ] (1).
5. وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه طاف مع معاوية- رضي الله عنه - بالبيت فجعل معاوية يستلم الأركان كلها فقال له ابن عباس :( لم تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمهما ؟ فقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجوراً . فقال ابن عباس : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) فقال معاوية : صدقت ) رواه أحمد والترمذي ، وقال : ( حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن لا يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني ) ورواه البخاري تعليقاً (2).
قال الشيخ الساعاتي معلقاً على كلام ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم : [ يعني - أي معاوية - أنها كلها أركان البيت فلا نستلم البعض ونترك البعض .
يريد ابن عباس أننا لم نترك استلام الركنين هجراً للبيت ولكننا رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك ففعلنا مثله ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) فرجع معاوية إلى قول ابن عباس رضي الله عنهم حينما ظهر له الدليل وقال صدقت . وهكذا شأن المؤمن إذ ظهر له الحق وكان مخالفاً لرأيه طرح رأيه واتبع الحق والرجوع إلى الحق فضيلة ] (3).
قال الحافظ ابن حجر :[ وأجاب الشافعي عن قول من قال ليس شيء من البيت مهجوراً بأنا لم ندع استلامهما هجراً للبيت وكيف يهجره وهو يطوف به ؟ ولكن نتبع السنة فعلاً أو تركاً ولو كان ترك استلامهما هجراً لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجراً ولا قائل به ] (4).
6. وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال :( كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم ) وقد مضى .
7. وقد ورد عن نافع أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر فقال :[ الحمد لله والسلام على رسول الله . قال ابن عمر : وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، علمنا أن نقول : الحمد لله على كل حال ] رواه الترمذي والحاكم وقال الحاكم : صحيح الإسناد غريب ووافقه الذهبي وحسنه الشيخ الألباني (5).
8. وورد عن سعيد بن المسيب أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يكثر فيهما الركوع والسجود فنهاه فقال :[ يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة ؟! قال : لا ولكن يعذبك على خلاف السنة ] رواه البيهقي وعبد الرزاق والخطيب (6).
9. وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال :[ سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - . فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد . فقال : لا تفعل . قال : فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر . قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة .
فقال : وأي فتنة هذه ؟ إنما هي أميال أزيدها . قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصَّر عنها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ؟ إني سمعت الله يقول : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ] ذكره الخطيب البغدادي والشاطبي (7).
10. قال الشيخ الألباني :[ روى الطبراني بسند صحيح عن طلحة بن مصرف قال :[ زاد ربيع بن خيثم في التشهد وبركاته :" ومغفرته "! فقال علقمة نقف حيث عُلِّمنا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته .
وعلقمة تلقى هذا الاتباع من أستاذه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فقد ثبت عنه أن كان يعلم رجلاً التشهد فلما وصل إلى قوله :" أشهد أن لا إله الله " قال الرجل : وحده لا شريك له . فقال عبد الله : هو كذلك ولكن ننتهي إلى ما عُلِّمنا أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح ] (8).
__________
(1) مجمع الزوائد 3/240 ، الفتح الرباني 12/32 .
(2) الفتح الرباني 12/41 ، تحفة الأحوذي 3/505 ، صحيح البخاري مع الفتح 4/219-220 .
(3) الفتح الرباني 12/41 .
(4) فتح الباري 4/220 .
(5) سنن الترمذي 5/76 ، المستدرك 5/377 ، صحيح سنن الترمذي 2/353 .
(6) سنن البيهقي 2/466 ، مصنف عبد الرزاق 3/52 ، الفقيه والمتفقه 1/147 .
(7) الفقيه والمتفقه 1/148 ، الاعتصام 1/132 .
(8) انظر صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 145 هـ 2 .(/14)
11. وعن علي - رضي الله عنه - قال :( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه ) رواه أبو داود والدارمي وصححه الحافظ ابن حجر والألباني (1).
وبناء على هذا الأصل المهم فإنه يشترط في العبادات الاتباع ولا يجوز الابتداع وحتى يكون الاتباع صحيحاً لا بد أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الأمور الستة التالية : [ الأول : السبب فإذا تعبد الإنسان لله عبادة مقرونة بسبب ليس شرعياً فهي بدعة مردودة على صاحبها مثال ذلك أن بعض الناس يحيي ليلة السابع والعشرين من رجب بحجة أنها الليلة التي عرج فيها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالتهجد عبادة ولكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة لأنه بنى هذه العبادة على سبب لم يثبت شرعاً وهذا الوصف -موافقة العبادة للشريعة في السبب- أمر مهم يتبين به ابتداع كثير مما يظن أنه من السنة وليس من السنة .
الثاني : الجنس فلا بد أن تكون العبادة موافقة للشرع في جنسها فلو تعبد إنسان لله بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة مثال ذلك أن يضحي رجل بفرس فلا يصح أضحية لأنه خالف الشريعة في الجنس فالأضاحي لا تكون إلا من بهيمة الأنعام الإبل ، البقر ، الغنم .
الثالث : القَدْر فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة فنقول : هذه بدعة غير مقبولة لأنها مخالفة للشرع في القدر ومن باب أولى لو أن الإنسان صلى الظهر مثلاً فصلى خمساً فإن صلاته لا تصح بالاتفاق .
الرابع : الكيفية فلو أن رجلاً توضأ فبدأ بغسل رجليه ثم مسح رأسه ثم غسل يديه ثم وجهه فنقول: وضوؤه باطل لأنه مخالف للشرع في الكيفية.
الخامس : الزمان فلو أن رجلاً ضحى في أول أيام ذي الحجة فلا تقبل الأضحية لمخالفة الشرع في الزمان وسمعت أن بعض الناس في شهر رمضان يذبحون الغنم تقرباً لله تعالى بالذبح وهذا العمل بدعة على هذا الوجه لأنه ليس هناك شيء يتقرب به إلى الله بالذبح إلا الأضحية والهدي والعقيقة أما الذبح في رمضان مع اعتقاد الأجر على الذبح كالذبح في عيد الأضحى فبدعة وأما الذبح لأجل اللحم فهذا جائز .
السادس : المكان فلو أن رجلاً اعتكف في غير مسجد فإن اعتكافه لا يصح وذلك لأن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد ولو قالت إمرأة أريد أن أعتكف في مصلى البيت فلا يصح اعتكافها لمخالفة الشرع في المكان . ومن الأمثلة لو أن رجلاً أراد أن يطوف فوجد المطاف قد ضاق ووجد ما حوله قد ضاق فصار يطوف من وراء المسجد فلا يصح طوافه لأن مكان الطواف البيت ، قال الله تعالى لإبراهيم الخليل :( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ )] (2).
فائدة لطيفة : قال الشيخ تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي :[ وجدت بخط الوالد - رضي الله عنه - -يقصد والده وهو الإمام علي بن عبد الكافي السبكي - : فكرت عند الاضطجاع في قول المضطجع : باسمك اللهم وضعت جنبي وباسمك أرفعه ، فأردت أن أقول : إن شاء الله تعالى ، في " أرفعه " لقوله تعالى :( وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) ثم قلت في نفسي : إن ذلك لم يرد في الحديث في هذا الذكر المنقول عند النوم ولو كان مشروعاً لذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أوتي جوامع الكلم فتطلبت فرقاً بينه وبين كل ما يجريه الإنسان من الأمور المستقبلة المستحب فيها ذكر المشيئة .
ولا يقال : إن " أرفعه " حال ليس بمستقبل لأمرين : أحدهما : أن لفظه وإن كان كذلك لكنا نعلم أن رفع جنب المضطجع ليس حال اضطجاعه .
والثاني : أن استحباب المشيئة عام فيما ليس بمعلوم الحال أو المضي . وظهر لي أن الأولى الاقتصار على الوارد في الحديث في الذكر عند النوم بغير زيادة وأن ذلك ينبه على القاعدة ويفرق بها بين تقدم الفعل على الجار والمجرور وتأخره عنه فإنك إذا قلت : أرفع جنبي باسم الله كان المعنى بالإخبار الرفع وهو عمدة الكلام وجاء الجار والمجرور بعد ذلك تكملة وإذا قلت : باسم الله أرفع جنبي كان المعنى الإخبار بأن الرفع كائن باسم الله وهو عمدة الكلام .
فافهم هذا السر اللطيف وتأمله في جميع موارد كلام العربية تجده يظهر لك به شرف كلام المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وملازمة المحافظة على الأذكار المأثورة عنه عليه أفضل الصلاة والسلام ] (3).
المبحث الرابع
لا يجوز إثبات نوع من العبادات
لدخوله تحت الدليل العام بل لا بد من دليل خاص
وهذه مسألة مهمة ينبغي التنبيه عليها لأن كثيراً من المبتدعين يزعمون أن الدليل العام يؤيد بدعتهم فمثلاً يقولون إن تلاوة القرآن في المآتم
__________
(1) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 1/192 ، سنن الدارمي مع شرحه فتح المنان 4/264 التلخيص الحبير 1/ 160 ، صحيح سنن أبي داود 1/33 .
(2) الإبداع في كمال الشرع ص 20-23 .
(3) طبقات الشافعية 10/287 .(/15)
" الختمة " تدخل تحت الأدلة العامة التي تحض على قراءة القرآن الكريم.
ويقولون مثلاً إن الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان - كما يفعله كثير من المؤذنين بحيث أنهم يجعلونها جزءً من الأذان - مشروعة لأنها داخله تحت عموم قوله تعالى :( يا أيُها الذَينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (1).
والجواب على هذه المقولة إنه لا بد من دليل خاص للعبادات حتى تكون صحيحة وموافقة لما جاء به النبي- صلى الله عليه وسلم - ولا يكفي الاستدلال بعموم الأدلة وكونها داخلة في هذا العموم فمثلاً لو قال شخص عندما رأى المصلين في المسجد يصلون سنة الفجر أشتاتاً في أنحاء المسجد فقال : يا جماعة هلا اجتمعتم وصلينا سنة الفجر في جماعة لأنه صح في الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يد الله على الجماعة ) ، أو لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس أو سبع وعشرين درجة ).
فاستدلال هذا الرجل بالأدلة العامة لا يقبل ولا يصح ولا يجوز أن تدخل سنة الفجر في هذه العمومات ولو لم يثبت لدينا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لا تصلوا سنة الفجر في جماعة . حيث لا يوجد لدينا حديث بهذا المعنى ، فصلاة سنة الفجر في جماعة بدعة وإن كان الشرع قد حث على الجماعة وعلى صلاة الجماعة وأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد (2).
فقد يكون الفعل طاعة وعبادة في وقت ولا يكون كذلك في وقت آخر قال الحافظ ابن رجب الحنبلي :[ وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقاً . فقد رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - : ( رجلاً قائماً في الشمس فسأل عنه ، فقيل : إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل وأن يصوم فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقعد ويستظل وأن يتم صومه ) فلم يجعل قيامه وبروزه في الشمس قربة يوفى بنذرهما وقد روى أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي- صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر فنذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ما دام النبي- صلى الله عليه وسلم - يخطب إعظاماً لسماع خطبة النبي- صلى الله عليه وسلم - ولم يجعل النبي- صلى الله عليه وسلم - ذلك قربة يوفى بنذره مع أن القيام عبادة في مواضع أخرى كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة والبروز للشمس قربة للمحرم فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن وإنما يتبع في ذلك كله ما وردت به الشريعة في مواضعها وكذلك من تقرب بعبادة نهى عنها بخصوصها كمن صام يوم العيد أو صلى وقت النهي ] (3).
وقال الحافظ المقدسي - أبو شامة - :[ وأما القسم الثاني : الذي يظنه معظم الناس طاعة وقربة إلى الله تعالى وهو بخلاف ذلك أو تركه أفضل من فعله فهذا الذي وضعت هذا الكتاب لأجله وهو ما قد أمر الشرع به في صورة من الصور في زمان مخصوص أو مكان معين كالصوم بالنهار والطواف بالكعبة أو أمر به شخص دون غيره كالذي اختص به النبي- صلى الله عليه وسلم - من المباحات والتخفيفات فيقيس الجاهل نفسه عليه فيفعله وهو منهي عن ذلك ويقيس الصور بعضها على بعض ولا يفرق بين الأزمنة والأمكنة ويقع ذلك من بعضهم بسبب الحرص على الآثار من إيقاع العبادات والقرب والطاعات فيحملهم ذلك الحرص على فعلها في أوقات وأماكن نهاهم الشرع عن إيجاد تلك الطاعات فيها .
ومنها ما هو محرم ومنها ما هو مكروه ويورطهم الجهل وتزيين الشيطان في أن يقولوا هذه طاعات قد ثبتت في غير هذه الأوقات فنحن نفعلها أبداً فإن الله تعالى لا يعاقبنا على طاعة قد أمرنا بها وحثنا عليها وندبنا إلى الاستكثار منها وهذا مثل صلواتهم في الأوقات المكروهة للصلاة وهي خمسة أوقات أو ستة معلومة عند الفقهاء . ثبت نهي الشرع عن الصلاة فيها وكصومهم في الأيام المنهي عن الصوم فيها كصوم يومي العيد ويوم الشك وأيام منى التشريق وكوصالهم في الصيام الذي هو من خصائص المصطفى- صلى الله عليه وسلم - وقد اشتد نكيره- صلى الله عليه وسلم - على من تعاطى ذلك فهؤلاء وأمثالهم متقربون إلى الله تعالى بما لم يشرعه بل نهى عنه :( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ).
وما أحسن ما قال ولي الله أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى : ليس لمن ألهم شيئاً من الخير أن يعمل به حتى يسمعه من الأثر فإذا سمعه من الأثر عمل به وحمد الله تعالى حين وافق ما في قلبه . وقال أيضاً - رحمه الله - : ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين : الكتاب والسنة .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56 .
(2) انظر فتاوى الألباني ص 49-50 .
(3) جامع العلوم والحكم ص 82-83 .(/16)
وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب " الإحياء " : من توجه عليه رد وديعة في الحال فقام وتحرم بالصلاة التي هي أقرب القربات إلى الله تعالى عصى به فلا يكفي في كون الشخص مطيعاً كون فعله من جنس الطاعات ما لم يراع فيه الوقت والشرط والترتيب واغتر بعض الجهال المتعلمين منهم بقوله تعالى :( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ). وظن أن هذا يقتضي عموم السجود في جميع الأوقات وان كل سجود على الإطلاق يحصل به القرب من الله تعالى وهو قرب الكرامة واعتضد بما جاء قبل ذلك من التعجيب والإنكار في قوله تعالى :( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى ) وغفل عن أن السجود المقرب إلى الله تعالى هو السجود المأذون فيه وهو المشروع لا كل سجود من حيث الصورة .
والإنكار في الآية وقع على من نهى عن الصلاة المأذون فيها وهي المشروعة فتلك لا ينبغي لأحد أن ينهى عنها أما إذا صلى العبد صلاة قد علمنا نهي الشارع عنها فإنه يجب على كل أحد علم به نهيه عنها فإن الشارع هو الذي نهاه وقد ثبت : ( أن النبي- صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ) أخرجاه في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
وقال عقبة بن عامر :( ثلاث ساعات كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ينهى أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا : حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيّف الشمس للغروب حتى تغرب ) أخرجه مسلم .
وفيه من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - قال : ( قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) زاد بعض الرواة -وليس في كتاب مسلم-( قيل : يا رسول الله : ولا ركعتي الفجر ، قال : ولا ركعتي الفجر ).
وفي رواية أن رجلاً قال :( يا رسول الله ! أي من ساعات الليل والنهار تأمرني أن لا أصلي فيها ؟ فقال : نعم إذا صليت الصبح فأقصر عن الصلاة ... ) الحديث ، وهو في السنن الكبير .
وفيه وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها :( أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد العصر وينهى عنها ويواصل وينهى عن الوصال ) .
وفي صحيح البخاري وغيره أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان :( ينهى عن الركعتين بعد العصر ويضرب الناس عليهما ! وقال ابن عباس : كنت أضرب الناس مع ابن الخطاب رضي الله عنهما عليهما ) .
وقال أيضاً : ( كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة فجذبني النبي- صلى الله عليه وسلم - وقال : أتصلي الصبح أربع ).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما :( أنه رأى رجلاً يصلي بعد الجمعة ركعتين في مقامه فدفعه ). وفي رواية :( أنه أبصر رجلاً يصلي ركعتين في مقامه فدفعه ).
وفي رواية :( أنه أبصر رجلاً يصلي الركعتين والمؤذن يقيم فحصبه وقال: أتصلي الصبح أربعاً ) أخرجهن البيهقي في السنن الكبير .
وقد جاء في الصحيح هذا اللفظ مرفوعاً من حديث عبد الله بن مالك بن بجينة .
قال البيهقي : روينا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان إذا رأى رجلاً يصلي وهو يسمع الإقامة ضربه .
قلت : أيجوز لمسلم أن يسمع هذه الأحاديث والآثار ثم يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى الناس عن الصلاة من حيث هي صلاة وإن عمر وابن عباس رضي الله عنهما داخلان تحت قوله :( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى ) وأن يقال لهما جواباً عن نهيهما : ( كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) فكذلك كل من نهى عما نهى الشرع عنه لا يقال له ذلك ولا يستحسنه من قائله ويسطره متبجحاً به إلا جاهل محرف لكتاب الله تعالى مبدل لكلامه قد سلبه الله تعالى لذة فهم مراده من وحيه وإن كان هذا من أوضح المواضع فكيف مما يدق معانيه وتلطف إشاراته !! ورده على الناهي عن ذلك ممتثلاً بقوله تعالى :( كَلَّا لَا تُطِعْهُ) يتضمن الرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه هو الذي نهى وأمرنا بإنكار المنكر والله حسيب من افترى .
اللهم اجعلنا ممن يدخل في عموم ما روي عن رسولك - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ومرفوعاً من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وغيرهما :( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين )] (1).
ونقل السيوطي كلام أبي شامة المقدسي في كتابه الأمر بالاتباع وأقره عليه (2).
وقال الحافظ تقي الدين بن دقيق العيد :[ وقد اختلفت الأحاديث في أعداد ركعات الرواتب فعلاً وقولاً ، واختلفت مذاهب الفقهاء في الاختيار لتلك الأعداد والرواتب ، والمروي عن مالك : أنه لا توقيت في ذلك . قال ابن القاسم صاحبه : وإنما يوقت في هذا أهل العراق .
__________
(1) الباعث ص 38-43 .
(2) الأمر بالاتباع ص 153-166 .(/17)
والحق - والله أعلم - في هذا الباب - أعني ما ورد فيه أحاديث بالنسبة إلى التطوعات والنوافل المرسلة - أن كل حديث صحيح دل على استحباب عدد من هذه الأعداد أو هيئة من الهيئات أو نافلة من النوافل : يعمل به في استحبابه . ثم تختلف مراتب ذلك المستحب . فما كان الدليل دالاً على تأكده - إما بملازمته فعلاً أو بكثرة فعله وإما بقوة دلالة اللفظ على تأكد حكمه وإما بمعاضدة حديث آخر له أو أحاديث فيه - تعلو مرتبته في الاستحباب . وما يقصر عن ذلك كان بعده في المرتبة . وما ورد فيه حديث لا ينتهي إلى الصحة فإذا كان حسناً عمل به إن لم يعارضه صحيح أقوى منه ، وكانت مرتبته ناقصة عن هذه المرتبة الثانية أعني الصحيح الذي لم يدم عليه أو لم يؤكد اللفظ في طلبه . وما كان ضعيفاً لا يدخل في حيز الموضوع فإن أحدث شعاراً في الدين : منع منه . وإن لم يحدث فهو محل نظر يحتمل أن يقال : إنه مستحب لدخوله تحت العمومات المقتضية لفعل الخير واستحباب الصلاة ويحتمل أن يقال : إن هذه الخصوصيات بالوقت أو بالحال والهيئة والفعل المخصوص : يحتاج إلى دليل خاص يقتضي استحبابه بخصوصه وهذا أقرب والله أعلم .
وهاهنا تنبيهات :
الأولى : أنا حيث قلنا في الحديث الضعيف : إنه يحتمل أن يعمل به لدخوله تحت العمومات فشرطه : أن لا يقوم دليل على المنع منه أخص من تلك العمومات مثاله : الصلاة المذكورة في أول ليلة جمعة من رجب : لم يصح فيه الحديث ولا حسن فمن أراد فعلها - إدراجاً لها تحت العمومات الدالة على فضل الصلاة والتسبيحات - لم يستقم لأنه قد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام ) وهذا أخص من العموميات الدالة على فضيلة مطلق الصلاة .
الثاني : أن هذا الاحتمال الذي قلناه - من جواز إدراجه تحت العمومات - نريد به في الفعل لا في الحكم باستحباب ذلك الشيء المخصوص بهيئته الخاصة ، لأن الحكم باستحبابه على تلك الهيئة الخاصة : يحتاج دليلاً شرعياً عليه ولا بد ، بخلاف ما إذا فعل بناء على أنه من جملة الخيرات التي لا تختص بذلك الوقت ولا بتلك الهيئة. فهذا هو الذي قلنا باحتماله .
الثالث : قد منعنا إحداث ما هو شعار في الدين . ومثاله : ما أحدثته الروافض من عيد ثالث سموه عيد الغدير . وكذلك الاجتماع وإقامة شعاره في وقت مخصوص على شيء مخصوص لم يثبت شرعاً وقريب من ذلك : أن تكون العبادة من جهة الشرع مرتبة وجه مخصوص فيريد بعض الناس : أن يحدث فيها أمراً آخر لم يرد به الشرع زاعماً أنه يدرجه تحت عموم . فهذا لا يستقيم . لأن الغالب على العبادات التعبد ومأخذها التوقيف . وهذه الصورة : حيث لا يدل دليل على كراهة ذلك المحدث أو منعه. فأما إذا دل فهو أقوى في المنع وأظهر من الأول. ولعل مثال ذلك ، ما ورد في رفع اليدين في القنوت فإنه قد صح رفع اليد في الدعاء مطلقاً فقال بعض الفقهاء : يرفع اليد في القنوت لأنه دعاء . فيندرج تحت الدليل المقتضي لاستحباب رفع اليد في الدعاء وقال غيره : يكره لأن الغالب على هيئة العبادة التعبد والتوقيف . والصلاة تصان عن زيادة عمل غير مشروع فيها فإذا لم يثبت الحديث في رفع اليد في القنوت : كان الدليل الدال على صيانة الصلاة عن العمل الذي لم يشرع : أخص من الدليل الدال على رفع اليد في الدعاء .
... والتباين في هذا يرجع إلى الحرف الذي ذكرناه وهو إدراج الشيء المخصوص تحت العمومات أو طلب دليل خاص على ذلك الشيء الخاص. وميل المالكية إلى هذا الثاني . وقد ورد عن السلف الصالح ما يؤيده في مواضع ألا ترى أن ابن عمر رضي الله عنهما قال في صلاة الضحى : ( إنها بدعة ) لأنه لم يثبت عنده فيها دليل . ولم ير إدراجها تحت عمومات الصلاة لتخصيصها بالوقت المخصوص . وكذلك قال في القنوت الذي كان يفعله الناس في عصره :( إنه بدعة ) ولم ير إدراجه تحت عمومات الدعاء . وكذلك ما روى الترمذي من قول عبد الله بن مغفل لابنه في الجهر بالبسلمة :( إياك والحدث ) ولم ير إدراجه تحت دليل عام وكذلك ما جاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - فيما أخرجه الطبراني في معجمه بسنده عن قيس بن أبي حازم ، قال :( ذكر لابن مسعود قاص يجلس بالليل ويقول للناس : قولوا كذا وقولوا كذا ، فقال : إذا رأيتموه فأخبروني . قال : فأخبروه . فأتاه ابن مسعود متقنعاً . فقال : من عرفني فقد عرفني . ومن لم يعرفني فأنا عبد الله بن مسعود . تعلمون أنكم لأهدى من محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعني أو إنكم لمتعلقون بذنب ضلالة ) وفي رواية : ( لقد جئتم ببدعة ظلماء أو لقد فضلتم أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم - علماً ) ، فهذا ابن مسعود أنكر هذا الفعل مع إمكان إدراجه تحت عموم فضيلة الذكر على أن ما حكيناه في القنوت والجهر بالبسملة من باب الزيادة في العبادات ] (1).
المبحث الخامس
تقسيم السنة النبوية إلى فعلية وتركية
وأثر الجهل بهذا الأصل في الابتداع
__________
(1) إحكام الإحكام 1/199-202 .(/18)
من المعلوم عند الأصوليين أن السنة النبوية هي : ما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير .
وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - جزء من السنة النبوية باعتبارها مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أقسام :
منها الأفعال الجبلية التي صدرت عن الرسول عليه الصلاة والسلام بمقتضى خلقته وجبلته وطبيعته كلباسه وقعوده ونومه فهذه وأمثالها لا يجب على الأمة اتباعها .
ومن الأفعال ما كان خاصاً به - صلى الله عليه وسلم - كزواجه أكثر من أربعٍ من النساء فهذه لا تشاركه فيها الأمة بالاتفاق .
ومن الأفعال التي صدرت عنه ما كان بياناً لمجمل كبيانه للصلاة والصيام والزكاة فهذا بالاتفاق بين أهل العلم يكون البيان تابعاً للمُبَين في الحكم من وجوب أو ندب أو إباحة .
والأفعال التي صدرت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلمت صفة الفعل فجمهور العلماء على الاقتداء به على تلك الصفة فإن كان الفعل واجباً فالاقتداء به واجب وإن كان مندوباً فالاقتداء به مندوب وإن كان مباحاً فالاقتداء به مباحٌ .
وأما الأفعال التي صدرت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجهلت صفة حكمها أواجبة هي أو مندوبة أو مباحة فهي محل خلاف عند الأصوليين (1).
وهناك أفعال تركها الرسول- صلى الله عليه وسلم - ولم يفعلها وهذه على نوعين :
الأول : أفعال تركها الرسول- صلى الله عليه وسلم - لعدم توفر الدواعي لفعلها كجمع المصحف وتضمين الصناع ونحوها قال الشاطبي :[ أحدهما أن يسكت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقدر لأجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها . وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها . فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعاً بلا إشكال فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل ] (2).
والثاني : أفعال تركها الرسول- صلى الله عليه وسلم - مع توفر الدواعي لفعلها ومع ذلك لم يفعلها فدل على أن المشروع فيها هو الترك لا الفعل كترك الأذان للعيدين وتركه صلاة ليلة النصف من شعبان وتركه التلفظ بالنية وتركه أن يقول للمأمومين قبل بدء الصلاة استحضروا النية وغير ذلك .
قال الشوكاني :[ تركه - صلى الله عليه وسلم - للشيء كفعله له في التأسي به فيه ].
وقال ابن السمعاني :[ إذا ترك الرسول- صلى الله عليه وسلم - شيئاً وجب علينا متابعته فيه ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ُقدم إليه الضب فأمسك عنه وترك أكله أمسك الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم : إنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه وأذن لهم في أكله وهكذا تركه- صلى الله عليه وسلم - لصلاة الليل جماعة خشية أن تكتب على الأمة ] (3).
وقال الشاطبي ما ملخصه :[ إن سكوت الشارع عن الحكم الخاص أو تركه أمراً وموجبه المقتضي له قائم وسببه في زمان الوحي موجود ولم يحدد فيه الشارع أمراً زائداً على ما كان من الدين فهذا القسم باعتبار خصوصه هو البدعة المذمومة شرعاً لأنه لما كان الموجب لشريعة الحكم موجود ثم لم يشرع كان صريحاً في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة مخالفة لقصد الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حدّ هنالك بلا زيادة ولا نقصان منه ] (4).
قال الشيخ الألباني :[ ومن المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادة مزعومة لم يشرعها لنا رسول الله بقوله ولم يتقرب هو بها إلى الله بفعله فهي مخالفة لسنته، لأن السنة على قسمين : سنة فعلية وسنة تركية، فما تركه - صلى الله عليه وسلم - من تلك العبادات فمن السنة تركها ، ألا ترى مثلاً أن الأذان للعيدين ودفن الميت مع كونه ذكراً وتعظيماً لله عز وجل لم يجز التقرب به إلى الله عز وجل ، وما ذلك إلا لكونه سنة تركها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وقد فهم هذا المعنى أصحابه - صلى الله عليه وسلم - فكثر عنه التحذير من البدع تحذيراً عاماً كما هو مذكور في موضعه حتى قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - :( كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها ) وقال ابن مسعود- رضي الله عنه - : ( اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ، عليكم بالأمر العتيق )] (5).
__________
(1) أصول السرخسي 2/86 ، كشف الأسرار 3/200 ، حاشية التفتازاني على شرح العضد 2/22 ، فواتح الرحموت 2/180 ، شرح الكوكب المنير 2/178 .
(2) الموافقات 2/409 .
(3) إرشاد الفحول ص 42 .
(4) الاعتصام 1/361 .
(5) حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 100-101 .(/19)
وقال العلامة القسطلاني :[ وتركه - صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة فليس لنا أن نسوي بين فعله وتركه فنأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذي فعله ] (1).
وقال ابن النجار الحنبلي :[ التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلك كما فعل لأجل أنه فعل وأما التآسي في الترك فهو أن تترك ما ترك لأجل أنه ترك ] (2).
وقال العلامة ابن القيم :[ فصل نقل الصحابة ما تركه - صلى الله عليه وسلم - وأما نقلهم لتركه - صلى الله عليه وسلم - فهو نوعان وكلاهما سنة . أحدهما : تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله ، كقوله في شهداء أحد : ولم يغسلهم ولم يصل عليهم . وقوله في صلاة العيد : لم يكن أذان ولا إقامة ولا نداء . وقوله في جمعه بين الصلاتين : ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما . ونظائره .
والثاني : عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله فحيث لم ينقله واحد منهم البتة ولا حدث به في مجمع أبداً علم أنه لم يكن وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة أو تركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائماً بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات وتركه رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من الركوع الثانية ، وقوله : اللهم اهدنا فيمن هديت . يجهر بها ويقول المأمومون كلهم : آمين . ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغير ولا كبير ولا رجل ولا امرأة البتة وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يخل به يوماً واحداً وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة ولرمي الجمار ولطواف الزيارة ولصلاة الاستسقاء والكسوف .
ومن هاهنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة فإن تركه- صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق .
فإن قيل : من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم ؟
فهذا سؤال بعيد جداً عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ولو صح هذا السؤال وقبل لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح وقال : من أين لكم أنه لم ينقل ؟ واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة ، وقال : من أين لكم أنه لم ينقل ؟ واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة يرحمكم الله ورفع بها صوته وقال : من أين لكم أنه لم ينقل ؟
واستحب لنا آخر لبس السواد والطرحة للخطيب وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه . ورفع المؤذنين أصواتهم كلما ذكر الله واسم رسوله جماعة وفرادى وقال : من أين لكم أن هذا لم ينقل ؟ واستحب لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب وقال : من أين لكم أن إحياءهما لم ينقل ؟ وانفتح باب البدعة وقال كل من دعا إلى بدعة من أين لكم أن هذا لم ينقل ؟] (3).
وقال الشاطبي :[ والثاني أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجوداً ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه كان ذلك صريحاً في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ومخالفة لما قصده الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه ] (4).
وقال الشاطبي أيضاً :[ وتقرير السؤال أن يقال في البدع مثلاً إنها فعل ما سكت الشارع عن فعله أو ترك ما أذن في فعله ، أو تقول : فعل ما سكت الشارع عن الأذن فيه أو ترك ما أذن في فعله أو أمر خارج عن ذلك . فالأول كسجود الشكر عند مالك حيث لم يكن ثم دليل على فعله والدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات والاجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفه في غير عرفات والثاني كالصيام مع ترك الكلام ومجاهدة النفس بترك مأكولات معينة والثالث كإيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة . وهذا الثالث مخالف للنص الشرعي فلا يصح بحال فكونه بدعة قبيحة بيّن.
__________
(1) الإبداع ص 36 .
(2) شرح الكوكب المنير 2/196 .
(3) إعلام الموقعين 2/389-391 .
(4) الموافقات 2/410 .(/20)
وأما الضربان الأولان وهما في الحقيقة فعل أو ترك لما سكت الشارع عن فعله أو تركه فمن أين يعلم مخالفتهما لقصد الشارع أو أنهما مما يخالف المشروع ؟ وهما لم يتواردا مع المشروع على محل واحد بل هما في المعنى كالمصالح المرسلة والبدع إنما أحدثت لمصالح يدعيها أهلها ويزعمون أنها غير مخالفة لقصد الشارع ولا لوضع الأعمال أما القصد فمسلم بالفرض وأما الفعل فلم يشرع الشارع فعلاً نوقض بهذا العمل المحدث ولا تركاً لشيء فعله هذا المحدث كترك الصلاة وشرب الخمر بل حقيقته أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع والمسكوت من الشارع لا يقتضي مخالفة ولا يفهم للشارع قصداً معيناً دون ضده وخلافه فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالاً للمصالح المرسلة وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالاً للمصالح أيضاً وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحات إعمالاً للمصالح المرسلة أيضاً .
فالحاصل أن كل محدثة يفرض ذمها تساوي المحدثة المحمودة في المعنى فما وجه ذم هذه ومدح هذه ؟ ولا نص يدل على مدح ولا ذم على الخصوص .
وتقرير الجواب ما ذكره مالك وأن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا - إذا وجد المعنى المقتضي للفعل أو الترك إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان . وهو غاية في هذا المعنى قال ابن رشد : الوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين - يعني سجود الشكر - لا فرضاً ولا نفلاً إذ لم يأمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا فعله ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه قال : واستدلاله على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل ، صحيح إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ ، قال : وهذا أصل من الأصول ... وهو أصل صحيح إذا اعتبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع وما ليس منها ودل على أن وجود المعنى المقتضى مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجوداً قبل ، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل (1).
ومن أوضح الأمثلة التي ساقها شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا القسم وهو ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قيام المقتضى له الأذان للعيدين فينبغي تركه وإن كان فيه مصلحة ظاهرة وهي دعوة الناس للصلاة وإعلامهم بها فهو غير مشروع ما دام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تركه رغم دخوله تحت بعض العمومات كما وضحه شيخ الإسلام بقوله :[ الأذان في العيدين فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة فلو لم يكن كونه بدعه دليلاً على كراهته وإلا لقيل هذا ذكر لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله فيدخل في العمومات كقوله تعالى :( اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) وقوله تعالى :( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ) أو يقاس على الأذان في الجمعة فإن الاستدلال على حسن الأذان في العيدين أقوى من الاستدلال على حسن أكبر البدع بل يقال : ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم - له مع وجود ما يعتقد مقتضياً وزوال المانع سنة كما أن فعله سنة .
فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة فليس لأحد أن يزيد في ذلك بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة وأعداد الركعات أو الحج فإن رجلاً لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال : هذا زيادة عمل صالح لم يكن له ذلك ... وليس له أن يقول : هذه بدعة حسنة ، بل يقال له : كل بدعة ضلالة ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهياً خاصاً عنها أو أن نعلم ما فيها من المفسدة .
فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضى له وزوال المانع لو كان خيراً ، فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع هذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس .
ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدعة بتفريط من الناس تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة واعتذار من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضون قبل سماع الخطبة وكانوا على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لا ينفضون حتى يسمعوا أو أكثرهم فيقال له : سبب هذا تفريطك فإن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم وأنت تقصد إقامة رياستك وإن قصدت صلاح دينهم فلست تعلمهم ما ينفعهم فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى بل الطريق في ذلك أن تتوب إلى الله وتتبع سنة نبيه وقد استقام الأمر وإن لم يستقم فلا يسألك الله عز وجل إلا عن عملك لا عن عملهم .
__________
(1) الموافقات 2/411-414 .(/21)
وهذان المعنيان من فهمهما انحل عنه كثير من شبه البدع الحادثة ) (1).
إن الجهل بهذا الأصل المهم أوقع كثيراً من الناس في البدع فانظر إلى البدع التي يفعلها الناس اليوم ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تركها مع أن الدواعي لفعلها كانت موجودة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فانظر إلى تلفظ كثير من المصلين بالنية فتسمع الواحد منهم يقول بصوت مرتفع : نويت أن أصلي أربع ركعات فرض صلاة الظهر مقتدياً ... الخ ولم يؤثر مثل ذلك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا علمه لأحد من أصحابه كما في حديث المسيء صلاته حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قمت إلى الصلاة فكبر ..الخ رواه أصحاب السنن وهو حديث صحيح . ولم يقل قل نويت أن أصلي كذا وكذا فلو كان ذلك مشروعاً لعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك الرجل فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو معلوم عند الأصوليين .
وكذلك قراءة القرآن الكريم على القبور رحمة بالميت تركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قيام المقتضي للفعل وهو الشفقة على الميت وعدم المانع منه فتركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة .
وكيف يعقل أن يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئاً نافعاً يعود على أمته بالرحمة ؟ وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم . فهل يعقل أن يكون هذا باباً من أبواب الرحمة ويتركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - طوال حياته ولا يقرأ على ميت مرة واحدة ؟
وكذلك الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - تركه ولم يفعله وكذا تركه الصحابة الأجلاء مع توفر الدواعي لفعله فإن يوم ميلاده كان يتكرر كل عام ومع ذلك لم يحتفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمولده ولا أمر أحداً من الصحابة بالاحتفال بذكرى مولده كما أمرهم بالصلاة والسلام عليه كما هو معروف فدل تركه ذلك على أن الاحتفال بمولده غير مشروع .
إذ لو كان الاحتفال بالمولد مشروعاً لبينه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولفعله .
ولو كان الاحتفال بمولده- صلى الله عليه وسلم - مشروعاً لسبقنا إليه الصحابة رضي الله عنهم فوالله لقد كانوا أشد حباً لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأكثر أدباً مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من المسلمين الذين يحتفلون بالمولد .
ثم إن بدعة الاحتفال بالمولد حدثت بعد مئات السنين على الإسلام فأين كان المسلمون طوال هذه السنوات الطويلة ؟ فقد قيل إن أول من احتفل بالمولد هو صاحب إربل الملك العظيم مظفر الدين كوكبرى الذي توفي سنة 630 هجري .
والسؤال أين كان العلماء والعباد والمسلمون طوال ستمائة عام ؟ لماذا لم يحتفلوا بالمولد ؟ وأين كان أهل القرون الثلاثة الأولى ؟ وقد شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية في قوله : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم ) رواه البخاري ومسلم واللفظ له (2).
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي :[ ... فأما ما اتفق السلف على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل ] (3).
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز لأحد أن يأتي بعبادة لم يفعلها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كما قال حذيفة : ( كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها ) ومعنى كلام حذيفة- رضي الله عنه - أي لا تتقربوا بها إلى الله عز وجل ذلك لأنها ليست عبادة أنتم تظنونها عبادة ولكن الدليل على أنها ليست عبادة لأنها لو كانت عبادة لجاء بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - (4).
المبحث السادس
تقسيم البدعة إلى حقيقية وإضافية
قسم الإمام الشاطبي البدعة إلى قسمين :
الأول : البدعة الحقيقية .
الثاني : البدعة الإضافية .
أما البدعة الحقيقية فهي التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل (5).
فالابتداع في البدعة الحقيقية من جميع وجوهها فهي بدعة محضة ليست فيها جهة تندمج بها في السنة فهي خارجة عن الشرع من كل وجه (6).
ومن أمثلة البدعة الحقيقية :
1. اختراع عبادة ما أنزل الله بها من سلطان مثل الطواف بمقامات الأولياء والصالحين كما يزعم الزاعمون .
فإن الطواف المشروع في الإسلام هو الطواف بالكعبة المعظمة فقط لأنه الذي قامت عليه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم - فلذا فإن طواف بعض الجهلة من العوام بمسجد قبة الصخرة باطل شرعاً .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 279-281 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 6/187 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 6/68 .
(3) فضل علم السلف على الخلف ص 31 نقلاً عن البدعة وأثرها السيء ص 18 .
(4) انظر فتاوى الألباني ص 188 .
(5) الاعتصام 1/286 .
(6) الإبداع ص55 .(/22)
وقد رأيت بعض النساء يطفن بمسجد قبة الصخرة في يوم جمعة من شهر رمضان في إحدى السنوات وهذا منكر عظيم ويبدو أنه وجد منذ عهد بعيد حيث ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن من البدع المحدثة والمنكرة الطواف بالصخرة فقال :[ ... ثم فيه أيضاً مضاهاة للحج إلى المسجد الحرام وتشبيه له بالكعبة ولهذا قد أفضى إلى ما لا يشك مسلم في أنه شريعة أخرى غير شريعة الإسلام وهو ما قد يفعله بعض الضلال من الطواف بالصخرة ... ] (1).
2. ما زعمه الدجالون من المتصوفة من القول بسقوط التكاليف الشرعية عند الوصول إلى مرتبة معينة من مراتب التصوف فلا تجب عليهم صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج . وتباح لهم المحرمات كالزنا واللواط وشرب الخمر وغيرها (2).
وهذا كله من الدجل والخرافات والأباطيل ومن تلبيس إبليس على هؤلاء الضالين المضلين .
3. بناء الأضرحة والنصب على القبور كما يشاهد الآن من إقامة نصب للشهداء فيبنون على القبر بناءً مرتفعاً بالحجارة والرخام على أشكال مختلفة ويكتبون عليه الآيات القرآنية بالخط المذهب الجميل ويجعلون حول هذه الأضرحة الهياكل المعدنية على أشكال القباب ونحوها .
وكل ذلك غير مشروع لما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي الهياج الأسدي قال : [ قال لي علي بن أبي طالب ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته] رواه مسلم (3).
4. تحريم الحلال أو تحليل الحرام اعتماداً على شبهات واهية ضعيفة فمن تحريم الحلال ما جاء في الحديث عن عبد الله بن عباس أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت عليَّ اللحم فأنزل الله :( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ) ) (4). رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب . وقال الشيخ الألباني : صحيح (5).
ومن تحليل الحرام ما يقوله أدعياء العلم من علماء السلاطين من اعتبار فوائد البنوك الربوية من الحلال ضاربين بعرض الحائط النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم - الواردة في تحريم الربا (6).
وأما البدعة الإضافية فهي التي لها شائبتان إحدهما لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة والأخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية وهي البدعة الإضافية أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لأنها مستندة إلى دليل وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو غير مستندة إلى شيء .
والفرق بينهما من جهة المعنى أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة (7).
وخلاصة قول الإمام الشاطبي في البدعة الإضافية أن الأمر يكون مشروعاً في الأصل وقامت الأدلة على مشروعيته ولكن الكيفية أو الهيئة التي يؤدى بها ليست مشروعة فمن هنا سميت هذه البدعة إضافية لأنها لم تتخلص لأحد الطرفين المخالفة الصريحة أو الموافقة الصريحة (8).
ومن الأمثلة على البدعة الإضافية ما يلي :
1. الأذان للعيدين ولصلاة الكسوف فالأذان في أصله مشروع ولكن الأذان للعيدين والكسوف لم يثبت عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - .
2. ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصاً كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات أو بصدقة كذا أو كذا أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك (9).
3. ختم الصلاة على الهيئة المعروفة التي يفعلها كثير من الأئمة فإنه من جهة كونه قرآناً وذكراً ودعاءً مشروع ومن جهة ما عرض له من رفع الصوت في المسجد ومن جهة كونه لم يفعله الرسول- صلى الله عليه وسلم - غير مشروع (10).
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 309-310 .
(2) انظر الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة ص 62،686 ، البدعة ص 323 .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 3/32 .
(4) سورة المائدة الآيتان 87-88 .
(5) سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 8/329 ، صحيح سنن الترمذي 3/46 .
(6) راجع كتاب د. يوسف القرضاوي " فوائد البنوك هي الربا الحرام " .
(7) انظر الاعتصام 1/286-287 .
(8) البدعة ص 324 .
(9) الاعتصام 2/12 .
(10) الإبداع ص 59 .(/23)
4. الصلاة والسلام على النبي- صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان بحيث تجعل جزءً من الأذان كما هو المعهود في كثير من المساجد فمن جهة فالصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشروعان ثابتان . ومن جهة أخرى من حيث جعلهما جزءً من الأذان غير مشروعين . ولذا قال الشيخ ابن حجر المكي لما سئل عن الصلاة والسلام على النبي- صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان كما يفعله المؤذنون اليوم فأجاب بأن الأصل سنة والكيفية بدعة (1) كما سيأتي تفصيل كلامه في الفصل الثاني .
5. رفع الصوت بالأذكار في الجنازة فالذكر من حيث الأصل مشروع وثابت ولكن باعتبار ما عرض له أنه في الجنازة مخالف لهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأن السنة في الجنازة المشي بصمت وسكوت للتفكر في حال الموت .
6. تخصيص زمان معين بعبادة معينة والمداومة على ذلك ، فإن ذلك بدعة إضافية ومثاله ما ورد عن أبي البختري قال : أخبر رجل ابن مسعود - رضي الله عنه - أن قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب فيهم رجل يقول :[ كبروا الله كذا وسبحوا الله كذا وكذا واحمدوه كذا وكذا . قال عبد الله : فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني فأخبرني بمجلسهم ، فلما جلسوا أتاه الرجل فأخبره فجاء عبد الله بن مسعود فقال : والذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماً أو قد فضلتم أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم - علماً. فقال عمرو بن عتبة : نستغفر الله . فقال : عليكم الطريق فالزموه ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً ] رواه عبد الرزاق والدارمي بإسناد جيد وهو أثر صحيح بمجموع طرقه (2).
ويظهر أن ابن مسعود أنكر على هؤلاء القوم واعتبر عملهم بدعة مع أن الذي فعلوه ما هو إلا تكبير وتسبيح وتحميد ولكن لما خصوا ذلك بزمان معين بدون دليل شرعي أنكره عليهم .
المبحث السابع
حكم البدعة
إن البدعة مذمومة شرعاً لأنها إما زيادة في الدين أو نقص منه أو تغيير فيه فهي تقع في دائرة النهي ولا تخرج عنها ، قال الشاطبي يرحمه الله في بيان حكم البدعة ما نصه :[ ... ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة نخرج عنها الثلاثة فيبقى حكم الكراهية وحكم التحريم فاقتضى النظر انقسام البدع إلى القسمين فمنها بدعة محرمة ومنها بدعة مكروهة وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات - وهي - لا تعدو الكراهة والتحريم فالبدع كذلك ] (3).
وليس المقصود بالكراهة في كلام الشاطبي الكراهة التنزيهية وإنما الكراهة التحريمية ، لأن الكراهة التنزيهية اصطلاح للمتأخرين لم يعرف عن المتقدمين من السلف فلم يقولوا فيما لا حرج فيه إنه مكروه ولم يكن من شأنهم أن يقولوا فيما لا نص فيه ، هذا حلال وهذا حرام لئلا يكونوا ممن قال الله تعالى فيهم :( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) (4).
قال الشاطبي :[ فإذا وجدت في كلامهم - أي السلف - في البدعة أو غيرها " أكره هذا ولا أحب هذا وهذا مكروه " وما أشبه ذلك فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه ؟ ] (5).
ويقرر الشاطبي أنه لا يصح أن يراد بالبدعة المكروه تنزيهاً من حيث أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلاً على العفو اللازم فيه ورفع الحرج الثابت في الشريعة فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب وأيضاً فليس عقده الإيماني بمتزحزح لأنه يعتقد المكروه مكروهاً كما يعتقد الحرام حراماً وإن ارتكبه فهو يخاف الله ويرجوه والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان .
فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل وأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه ويود لو لم يفعل فلا يزال إذا تذكر منكسر القلب طامعاً في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا .
ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال فإنه يَعُدُ ما دخل فيه حسناً بل يراه أولى مما حدَّ له الشارع فأين مع هذا خوفه أو رجاؤه؟ وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلاً ونحلته أولى بالاتباع ؟ (6)
ويدل على أن البدعة لا تكون مكروهة تنزيهاً قوله- صلى الله عليه وسلم - :( من رغب عن سنتي فليس مني ) وقد جاء هذا القول النبوي رداً على من قال من الصحابة :( أما أنا فأقوم الليل ولا أنام ) وعلى من قال :( أما أنا فلا أتزوج النساء ) وعلى من قال : ( أما أنا أصوم الدهر ولا أفطر ) وهذا قد ورد في حديث النفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي- صلى الله عليه وسلم -ا
الذي رواه البخاري ومسلم (7).
__________
(1) الفتاوى الفقهية الكبرى 1/131 ، الإبداع ص 59 .
(2) المصنف 3/221-222 ، سنن الدارمي مع شرحه فتح المنان 2/247 ، الأمر بالاتباع ص 84 .
(3) الاعتصام 2/36-37 .
(4) سورة النحل الآية 116 .
(5) الاعتصام 2/55 .
(6) الاعتصام 2/56 .
(7) صحيح البخاري مع الفتح 11/5 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 3/525 .(/24)
فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه العبارة وهي أشد شيء في الإنكار ولم يكن ما التزم به هؤلاء الثلاثة من الصحابة إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر .
ويدل على ذلك أيضاً ما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام :( رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : نذر ألا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مره فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صومه ) رواه البخاري (1).
قال الإمام مالك :[ وقد أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتم ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية ] (2).
ويدل على ذلك أيضاً ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن قيس بن أبي حازم قال :[ دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب بنت المهاجر فرآها لا تكلم ، فقال : مالها لا تكلم ؟ قالوا : حجت مصمتة . قال لها : تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية … ] (3).
فتأمل كيف جعل القيام في الشمس وترك الكلام من المعاصي مع أنهما من المباحات ولكن لما أجريت مجرى المشروعات صارت معصية لله عند الإمام مالك كما في الأول وعند أبي بكر- رضي الله عنه - في الثاني .
فالبدعة معصية لله تعالى لأنها مضادة للشارع الحكيم ومراغمة له حيث نصب المبتدع نفسه منصب المستدرك على الشريعة وهذا لا يصح أبداً .
وكذلك فإن كل بدعة وإن قَلَّت تشريع زائد أو ناقص أو تغيير للأصل الصحيح سواء أكانت البدعة منفردة عن المشروع أو ملحقة بالمشروع فكل ذلك يكون قادحاً في المشروع (4).
وما دامت البدعة معصية فهي محرمة ويؤيد هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - :( كل بدعة ضلالة ) . وكذلك كل ما ورد في ذم البدع مما يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد. وهذا من خصائص المحرم في الشرع ، فالبدعة محرمة ولكن وكما هو معلوم فليس جميع المحرمات في رتبة واحدة بل متفاوتة ، فقتل النفس بغير حق محرم والكذب محرم ولكن بينهما تفاوت فليس من يقتل بريئاً كمن يكذب ، وكذلك فإن البدعة محرمة وهي متفاوتة ومنقسمة إلى صغيرة وكبيرة والكبيرة ليست في درجة واحدة بل متفاوتة أيضاً .
فأما البدعة الصغيرة فهي البدعة الجزئية الواقعة في الفروع الجزئية بشرط أن تكون مبنية على شبهة تخيل أنها شرع ودين ، فإنها إذا كانت كذلك لا يتحقق دخولها تحت الوعيد بالنار الوارد في شأن البدعة وإن دخلت تحت الوصف بالضلال كما لا يتحقق ذلك في سرقة لقمة أو التطفيف بحبة وإن كان داخلاً تحت وصف السرقة بل المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كمن سرق نصاباً موجباً للقطع (5).
ويرى الإمام الشاطبي أن البدعة لا تكون صغيرة إلا إذا توفرت فيها الشروط التالية :
الشرط الأول : أن لا يداوم عليها فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه ، لأن ذلك ناشىء عن الإصرار عليها والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ، ولذلك قالوا لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار .
الشرط الثاني : أن لا يدعو إليها فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه فإنه الذي أثارها وسبَّب كثرة وقوعها والعمل بها فإن الحديث الصحيح قد أثبت أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً .
الشرط الثالث : أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس أو المواضع التي تقام فيها السنن وتظهر فيها شعائر الدين لأن إظهارها في مثل تلك الأماكن دعوة للعوام للاقتداء بالمبتدع فإن العوام أتباع كل ناعق لا سيما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس والتي للنفوس في تحسينها هوى وإذا اقتدى بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه لأن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها فعلى حسب كثرة الاتباع يعظم عليه الوزر .
كما وأن إظهار البدع في الأماكن التي تظهر فيها السنن كالمساجد يؤدي إلى الظن أنها من السنن لأن العوام يظنون ذلك .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح 14/401 .
(2) الاستذكار 15/49 .
(3) صحيح البخاري مع الفتح 8/148 ، وقد نسب الشيخ علي محفوظ هذا القول إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو خطأ انظر الإبداع ص 145 .
(4) انظر الاعتصام 2/60-61 .
(5) الإبداع ص 147 .(/25)
وحكى ابن وضاح قال :[ ثوب المؤذن بالمدينة في زمان مالك فأرسل إليه مالك فجاءه فقال له مالك : ما هذا الذي تفعل ؟ فقال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا . فقال له مالك : لا تفعل ، لا تحدث في بلدنا شيئاً لم يكن فيه ، قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا ، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه ، فكف المؤذن عن ذلك وأقام زماناً ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر فأرسل إليه مالك فقال له : ما الذي تفعل ؟ قال : أردت ان يعرف الناس طلوع الفجر . فقال له : ألم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم يكن ؟ فقال : إنما نهيتني عن التثويب . فقال له : لا تفعل ، فكف زماناً . ثم جعل يضرب الأبواب . فأرسل إليه مالك فقال: ما هذا الذي تفعل ؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر . فقال له مالك : لا تفعل لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه .
قال ابن وضاح : وكان مالك يكره التثويب - قال - وإنما أحدث هذا بالعراق . قيل لابن وضاح : فهل كان يعمل به بمكة أو المدينة أو مصر أو غيرها من الأمصار ؟ فقال : ما سمعته إلا عند بعض الكوفيين والأباضيين .
فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شأنه عند الناظر فيه ببادي الرأي وجعله أمراً محدثاً وقال في التثويب : إنه ضلال وهو بين لأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب . لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنة كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوف أن يكون حدثاً أحدثه ] (1).
الشرط الرابع : أن لا يستصغرها ولا يستحقرها - وإن فرضناها صغيرة - فإن ذلك استهانة بها والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب لأن الإنسان إذا استعظم هذا الذنب من نفسه صغر هذا الذنب عند الله تعالى وكلما استصغره كبر عند الله تعالى لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب عنه وكراهته له وذلك النفور يمنع من شدة تأثره به واستصغاره يصدر عن الألف به (2).
وأخيراً أذكر ما قاله الشيخ الألباني في حكم البدعة :
[ يجب أن نعلم أن أصغر بدعة يأتي بها الرجل في الدين هي محرمة بعد تبين كونها بدعة وليس في البدع - كما يتوهم البعض - ما هو في رتبة المكروه فقط ] (3).
المبحث الثامن
أسباب الابتداع
وقد أرجع الشيخ الألباني أسباب الابتداع إلى عدة أمور :
الأول : أحاديث ضعيفة لا يجوز الاحتجاج بها ولا نسبتها إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - ومثل هذا لا يجوز العمل به عندنا على ما بينته في مقدمة " صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " وهو مذهب جماعة من أهل العلم كابن تيمية وغيره .
الثاني : أحاديث موضوعة أو لا أصل لها خفي أمرها على بعض الفقهاء فبنوا عليها أحكاماً هي من صميم البدع ومحدثات الأمور !
قلت : وهذان السببان يعودان إلى الجهل بالسنة النبوية عامة ، والجهل بعلم مصطلح الحديث خاصة فكثير ممن يقعون في البدع لا يفرقون بين ما يصح الاستدلال به من الأحاديث وبين ما لا يصح فلا يعرفون الحديث الصحيح من الضعيف والموضوع . ويأخذون الحديث من أي مصدر كان حتى من كتب الموضوعات ، كمثل ذلك الخطيب الذي كان يخطب الجمعة فقال في خطبته : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الموضوع كذا وكذا ... ، ولا يعرف هذا المسكين ما هو الحديث الموضوع ؟!
مع أن أهل العلم متفقون على أنه لا يجوز العمل بالحديث الموضوع لأنه كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومن المعلوم أن كثيراً من البدع استندت إلى أحاديث موضوعة متهافتة (4).
الثالث : اجتهادات واستحسانات صدرت من بعض الفقهاء خاصة المتأخرين منهم لم يدعموها بأي دليل شرعي ، بل ساقوها مساق المسلمات من الأمور ، حتى صارت سنناً تتبع ! ولا يخفى على المتبصر في دينه أن ذلك مما لا يسوغ اتباعه، إذ لا شرع إلا ما شرعه الله تعالى ، وحسب المستحسن - إن كان مجتهداً - أن يجوز له هو العمل بما استحسنه ، وأن لا يؤاخذه الله به ، أما أن يتخذ الناس ذلك شريعة وسنة فلا ثم لا . فكيف وبعضها مخالف للسنة العملية ... .
رابعاً : عادات وخرافات لا يدل عليها الشرع ولا يشهد لها عقل وإن عمل بها بعض الجهال واتخذوها شرعة لهم ولم يعدموا من يؤيدهم ولو في بعض ذلك ممن يدعي العلم ويتزيا بزيهم (5).
__________
(1) الاعتصام 2/69-70 . والتثويب الذي كرهه الإمام مالك هو ما أحدثه بعض المؤذنين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أذن المؤذن فاستبطأ القوم قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح فهذا هو التثويب الذي كرهه أهل العلم ، انظر سنن الترمذي مع شرحه التحفة 1/507 ، وما قاله الشاطبي في الموضع المذكور أول هذا الهامش .
(2) الاعتصام 2/65-72 .
(3) حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 103 .
(4) انظر البدع الحولية ص 51-52 .
(5) مناسك الحج والعمرة ص 44-45 .(/26)
ويضاف إلى ما قاله الشيخ الألباني أن من أسباب البدع أيضاً تحيكم العقل في النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - الواردة في العبادات مع أن العقل لا مدخل له في هذا الباب لأنه لا يستطيع أن يدرك أسرار التشريع في العبادات فلو سأل أعقل الناس نفسه لماذا نصلي المغرب ثلاث ركعات ولماذا نصلي العشاء أربعاً لما وجد جواباً مقبولاً عقلاً .
ولو سأل آخر نفسه لماذا نصلي التراويح جماعة ولا نصلي سنة العشاء جماعة ؟ مع أن كلاً منهما سنة .
ولو قلنا لماذا نقرأ القرآن في الصلاة حال القيام ولا نقرأه حال الركوع والسجود ؟ والقرآن هو القرآن .
فالأصل في هذا الباب أن لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع ولا بد من الوقوف عند موارد النصوص ، فإن الله سبحانه وتعالى جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه ولم يجعل لهاء سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب كما قال الشاطبي (1).
ويمكن اعتبار أسبابٍ أخرى للبدع فيها مجال للنظر (2).
المبحث التاسع
أسباب انتشار البدع
يمكن إرجاع انتشار البدع للأسباب الآتية :
1. سكوت كثير من أهل العلم والمنتسبين للعلم الشرعي كأئمة المساجد وأساتذة العلم الشرعي في الجامعات عن البدع لأنهم كما يزعمون لا يريدون إثارة العامة عليهم . ومن باب المحافظة على القديم وإبقائه على قدمه ؟!
2. عمل الكثير من أهل العلم والمنتسبين للعلم الشرعي وخاصة في بلادنا بالبدع وتأييدهم لها وعملهم على انتشارها لموافقتها أهوائهم أو مشاربهم الحزبي الضيقة فتقلدهم العامة لثقتها بهم فيقولون قال الشيخ الفلاني قال كذا وكذا وفعل كذا فيحتجون على صحة موقفهم بأقوال المشايخ وأفعالهم مع أنه لا دليل في ذلك ما لم يكن موافقاً للشرع .
3. تبني الحكام والمسؤولين للبدع وتشجيعها لموافقتها لأهوائهم ولخدمتها لأغراضهم كما هو مشاهد في حفلات الموالد والهجرة والإسراء والمعراج وغير ذلك من المواسم المنسوبة إلى الدين زوراً وبهتاناً كما سيأتي في الفصل الثاني .
4. نظراً لمضي مدة على انتشار البدع وتناقل الناس لها جيلاً بعد جيل صار مغروساً في أذهان العامة أن هذه البدع من الدين وصار اعتبار البدع من الدين قضية مسلمة فأصبح من الصعوبة بمكان وقف انتشارها إلا بجهود كبيرة وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى (3).
الفصل الثاني
البدع المنتشرة بين الناس في المساجد وغيرها
المبحث الأول
البدع المتعلقة بالأذان
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قراءة القرآن قبل الأذان للصلوات الخمس وقبل الأذان للجمعة :
اعتاد كثير من المؤذنين أن يبثوا قراءة آيات من القرآن الكريم بواسطة آلة التسجيل عبر مكبرات الصوت قبل الأذان للصلاة بوقت يسير كعشر دقائق أو أقل أو أكثر .
وصارت هذه العادة التزاماً يومياً بحيث إن المؤذن لو أخل بذلك قوبل بالإنكار من بعض المصلين .
وهذا الأمر بدعة غير مشروعة مخالفة لهدي المصطفى- صلى الله عليه وسلم - فما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المؤذن أن يقرأ شيئاً من القرآن الكريم قبل الأذان ولا نقل مثل ذلك عن الصحابة والتابعين لهم .
ومن المقرر عند أهل العلم أنه لا يجوز تخصيص عبادة بوقت معين بدون دليل شرعي .
وقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن سؤال متعلق بحكم قراءة القرآن قبل الأذان ونصه :[ ما حكم الإسلام في قراءة القرآن يوم الجمعة قبل صلاة الظهر بمكبرات الصوت . إذا قلت هذا أمر غير وارد يقول لك تريد أن تمنع قراءة القرآن . وما رأيكم في الابتهالات الدينية تسبق أذان الفجر بقليل بمكبرات الصوت إذا قلت هذا أمر ليس له دليل يقول لك هذا عمل خير يوقظ الناس لصلاة الفجر .
الجواب : لا نعلم دليلاً يدل على وقوع ذلك في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم أحداً من الصحابة عمل به وكذلك الابتهالات التي تسبق الأذان للفجر بمكبرات الصوت فكانت بدعة وكل بدعة ضلالة وقد ثبت أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) (4).
المسألة الثانية : الأذان بواسطة شريط مُسجَلٌ عليه الأذان :
__________
(1) الاعتصام 2/318 .
(2) انظر أسباباً أخرى للبدع في البدع الحولية ص 37 فما بعدها .
(3) انظر البدع الحولية ص 71-75 .
(4) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 3/353 ، وانظر فتاوى إسلامية 1/381 .(/27)
بعض المؤذنين وأئمة المساجد يعجبون بأصوات مؤذنين مشهورين فيسجلون أذانهم على شريط ثم عندما يحين وقت الأذان يبثون الأذان بواسطة مكبرات الصوت وهذا أمر مبتدع مخالف لهدي المصطفى- صلى الله عليه وسلم - حيث ثبت في الحديث عن مالك بن الحويرث قال : ( أتيت الرسول- صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومي فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رحيماً رفيقاً فلما رأى شوقنا إلى أهلينا قال : إرجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكبركم ) رواه البخاري ومسلم (1).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - :( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً ) رواه البخاري ومسلم (2).
جاء في قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يلي :
[ إن الاكتفاء بإذاعة الأذان في المساجد عند دخول وقت الصلاة بواسطة آلة التسجيل ونحوها ولا يجوز في أداء العبادة ولا يحصل به الأذان المشروع وإنه يجب على المسلمين مباشرة الأذان لكل وقت من أوقات الصلاة في كل مسجد على ما توارثه المسلمون من عهد نبينا ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن والله الموفق ] (3)
وأجابت الهيئة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على سؤال يتعلق بالموضوع بقولها :
[ إنه لا يكفي في الأذان المشروع للصلوات المفروضة أن يأذن من الشريط المسجل عليه بل الواجب أن يؤذن المؤذن للصلاة بنفسه لما ثبت من أمره عليه الصلاة والسلام بالأذان والأصل في الأمر الوجوب ] (4).
المسألة الثالثة : الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان بحيث تكون جزءً منه :
اعتاد كثير من المؤذنين أن يصلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أذانهم وصارت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - جزءاً من الأذان وهذا الأمر الأصل فيه سنة والكيفية بدعة وبيان ذلك بما يلي :
إن الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة بعد الأذان لا فرق في ذلك بين مؤذن وغيره ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ فإنه من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة ) رواه مسلم (5).
ومن المعلوم أن ألفاظ الأذان وكلماته توقيفية لا يصح أن يزاد عليها أو ينقص منها شيء وكلمات الأذان تبدأ بقول المؤذن : ( الله أكبر ، الله أكبر ) ، وتنتهي بقوله : ( لا إله إلا الله ) فهذا هو المأثور من لدن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وكان عليه الصحابة والتابعون وأهل القرون الثلاثة الأولى المشهود لهم بالخيرية .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح 2/251 ، صحيح مسلم بشرح النووي 2/302 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 2/236- 237 ، صحيح مسلم بشرح النووي2/118 .
(3) انظر القول المبين ص 176 .
(4) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 6/66-67 .
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 2/66 .(/28)
وبناء على ما سبق أقول إن الصلاة والسلام على رسول الله لا يصح أن تجعل جزءً من ألفاظ الأذان فإن جعلت جزءً منه كما يفعل كثير من المؤذنين فهي من هذا الوجه وبهذه الكيفية بدعة وإن كان الأصل فيها سنة فالمطلوب من المؤذن بعد انتهاء الأذان أن يصلي ويسلم على النبي- صلى الله عليه وسلم - فإن فعل ذلك فقد أصاب السنة . وأما إذا جهر بالصلاة والسلام وجعلها جزءً من الأذان فقد ابتدع وأحدث حدثاً لم يكن على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف الصالح من أئمة المسلمين وقد بين الشيخ علي محفوظ تاريخ هذه البدعة فقال :[ ومن البدع المختلف في حسنها وذمها الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب الأذان جهراً ما عدا الصبح والجمعة اكتفاء بما يقع قبلهما وما عدا المغرب لضيق وقتها والذي أحدث ذلك هو محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله البرلسي وأمر به في مصر وأعمالها ليلة الجمعة فقط ثم صار ذلك عاماً على يد نجم الدين الطنبدي لسبب مذكور في كتب التاريخ ففي خطط المقريزي : وأما مصر فلم يزل الأذان بها على مذهب القوم " الفاطميين " إلى أن استبد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بسلطنة ديار مصر وأزال الدولة الفاطمية سنة سبع وستين وخمسمائة وكان ينتحل مذهب الإمام الشافعي- رضي الله عنه - وعقيدة الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله فأبطل من الأذان ( حي على خير العمل ) وصار يؤذن في سائر إقليم مصر والشام بأذان أهل مكة وفيه تربيع التكبير وترجيع الشهادتين فاستمر الأمر على ذلك إلى أن بنت الأتراك المدارس بديار مصر وانتشر مذهب أبي حنيفة- رضي الله عنه - في مصر فصار يؤذن في بعض المدارس التي للحنفية بأذان أهل الكوفة وتقام الصلاة أيضاً على رأيهم وما عدا ذلك فعلى ما قلنا إلا أنه في ليلة الجمعة إذا فرغ المؤذنون من التأذين سلموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وهو شيء أحدثه محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسي بعد سنة ستين وسبعمائة فاستمر إلى أن كان في شعبان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ومتولي الأمر بديار مصر الأمير منطاش القائم بدولة الملك الصالح المنصور أمير حاج المعروف بحاج ابن شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون فسمع بعض الفقراء الخلاطين سلام المؤذنين على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في ليلة الجمعة وقد استحسن ذلك طائفة من إخوانه فقال لهم : أتحبون أن يكون هذا السلام في كل أذان ؟ قالوا نعم فبات تلك الليلة ، وأصبح متواجداً يزعم أنه رأى رسول الله في منامه وأنه أمره أن يذهب إلى المحتسب ويبلغه عنه أن يأمر المؤذنين بالسلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في كل أذان فمضى إلى محتسب القاهرة وهو يومئذ نجم الدين محمد الطنبدي وكان شيخاً جهولاً سيء السيرة في الحسبة والقضاء متهافتاً على الدرهم ولو قاده إلى البلاء ، لا يحتشم من أخذ البرطيل والرشوة ولا يراعي في مؤمن إلاً ولا ذمة . قد ضرى على الآثام وتجسد من أكل الحرام . يرى أن العلم إرخاء العذبة ولبس الجبة ويحسب أن رضاء الله سبحانه في ضرب العباد بالدرقة وولاية الحسبة لم تحمد الناس قط أياديه ولا شكرت أبداً مساعيه بل جهالاته شائعة وقبائح أفعاله ذائعة . وقال له : رسول الله يأمرك أن تتقدم لسائر المؤذنين بأن يزيدوا في كل أذان قولهم الصلاة والسلام عليك يا رسول الله كما يفعل في كل ليالي الجمع .
فأعجب الجاهل هذا القول وجهل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر بعد وفاته إلا بما يوافق ما شرعه الله على لسانه في حياته وقد نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن الزيادة في شرعه حيث يقول : ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إياكم ومحدثات الأمور ) فأمر بذلك في شعبان من السنة المذكورة وتمت هذه البدعة واستمرت إلى يومنا هذا في جميع ديار مصر وبلاد الشام وصارت العامة وأهل الجهالة ترى أن ذلك من جملة الأذان الذي لا يحل تركه وأدى ذلك إلى أن زاد بعض أهل الإلحاد في الأذان ببعض القرى السلام بعد الأذان على شخص من المعتقدين الذين ماتوا فلا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون ] (1).
وقال العلامة ملا علي القاري :[ ... فما يفعله المؤذنون الآن عقب الأذان من الإعلان بالصلاة والسلام مراراً أصله سنة والكيفية بدعة لأن رفع الصوت في المسجد ولو بالذكر فيه كراهة سيما في المسجد الحرام لتشويشه على الطائفين والمصلين والمعتكفين ] (2).
وبيَّن الحافظ ابن حجر أن ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة ومن الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم - ليس من جملة الأذان لا لغةً ولا شرعاً (3).
__________
(1) الإبداع ص 172-174 ، وانظر حاشية ابن عابدين 1/390 .
(2) مرقاة المفاتيح 2/349-350 .
(3) فتح الباري 2/232 .(/29)
وقال ابن الحاج :[ وكذلك ينبغي أن ينهاهم - أي المؤذنين - عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي- صلى الله عليه وسلم - عند طلوع الفجر وإن كانت الصلاة والتسليم على النبي- صلى الله عليه وسلم - من أكبر العبادات وأجلها فينبغي أن يسلك بها مسلكها فلا توضع إلا في مواضعها التي جعلت لها .
ألا ترى أن قراءة القرآن من أعظم العبادات ومع ذلك لا يجوز للمكلف أن يقرأه في الركوع ولا في السجود ولا في الجلوس أعني الجلوس في الصلاة لأن ذلك ليس بمحل للتلاوة .
فالصلاة والتسليم على النبي- صلى الله عليه وسلم - أحدثوها في أربعة مواضع لم تكن تفعل فيها في عهد من مضى والخير كله في الاتباع لهم رضي الله عنهم ... والصلاة والتسليم على النبي- صلى الله عليه وسلم - لا يشك مسلم أنها من أكبر العبادات وأجلها وإن كان ذكر الله تعالى والصلاة والسلام على النبي- صلى الله عليه وسلم - حسناً سراً وعلناً لكن ليس لنا أن نضع العبادات إلا في مواضعها التي وضعها الشارع فيها ومضى عليها سلف الأمة ] (1).
وقال الشيخ ابن حجر المكي :[ قد أحدث المؤذنون الصلاة والسلام عقب الأذان للفرائض الخمس إلا الصبح ... ولقد استفتي مشايخنا وغيرهم في الصلاة والسلام عليه- صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان على الكيفية التي يفعلها المؤذنون فأفتوا بأن الأصل سنة والكيفية بدعة وهو ظاهر ... ] (2).
وأشار الشيخ ابن حجر المكي إلى أن الصلاة والسلام على النبي- صلى الله عليه وسلم - قبل الأذان ليست سنة فمن أتى ذلك معتقداً سنيته في ذلك المحل المخصوص نهي عنه ومنع منه لأنه تشريع بغير دليل ومن شرع بلا دليل يزجر عن ذلك وينهى عنه (3).
وسئل الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية عن الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب الأذان ؟ فأجاب :[ أما الأذان فقد جاء في - الفتاوى - الخانية أنه ليس لغير المكتوبات وأنه خمس عشرة كلمة وآخره عندنا لا إله إلا الله وما يذكر بعده أو قبله كله من المستحدثات المبتدعة ابتدعت للتلحين لا لشيء آخر ولا يقول أحد بجواز هذا التلحين ولا عبرة بقول من قال : إن شيئاً من ذلك بدعة حسنة لأن كل بدعة في العبادات على هذا النحو فهي سيئة … ] (4).
وقال الشيخ سيد سابق :[ الجهر بالصلاة والسلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عقب الأذان غير مشروع بل هو محدث مكروه ] (5).
وأجاب العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي الديار السعودية على سؤال حول الصلاة والسلام على النبي- صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان فأجاب :[ هذا المقام فيه تفصيل فإن كان المؤذن يقول ذلك بخفض صوت فذلك مشروع للمؤذن وغيره ممن يجيب المؤذن لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال :( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ فإنه من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً ثم اسألوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة ) أخرجه مسلم في صحيحه .
وروى البخاري في صحيحه ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - :( من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة ) .
أما إن كان المؤذن يقول ذلك برفع صوت كالأذان فذلك بدعة لأنه يوهم أنه من الأذان والزيادة في الأذان لا تجوز لأن آخر كلمة:( لا إله إلا الله ) فلا يجوز الزيادة على ذلك . ولو كان ذلك خيراً لسبق إليه السلف الصالح بل لعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته وشرعه لهم وقد قال عليه الصلاة والسلام :( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) أخرجه مسلم في صحيحه وأصله في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها . وأسأل الله سبحانه أن يزيدنا وإياكم وسائر إخواننا في الفقه في دينه وأن يمن علينا جميعاً بالثبات عليه إنه سميع قريب ] (6).
__________
(1) المدخل 2/255-256 .
(2) الفتاوى الكبرى الفقهية 1/131 .
(3) المصدر السابق 1/131 .
(4) الإبداع ص175 .
(5) فقه السنة 1/122 .
(6) فتاوى إسلامية 1/240-241 .(/30)
وقال الشيخ محمد عبد السلام الشقيري :[ ثم اعلم أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد النداء لم تكن بهذه الكيفية المعلومة الآن قطعاً بل كانت سراً وباللفظ الوارد الذي علمَّه لهم النبي- صلى الله عليه وسلم - حينما سألوه بقولهم : قد علمنا السلام عليك فكيف نصلي ؟ فقال لهم- صلى الله عليه وسلم - قولوا اللهم صل على محمد ) الحديث ، فهذه الكيفية مبتدعة محدثة لم يأمر بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولم تفعل في حياته ولا مرة واحدة . ولم يفعلها بلال في جميع تأذيناته بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا مرة واحدة . ولا أحد من جميع مؤذني النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تفعل في عهد الخلفاء الراشدين أصلاً ولا في عصر سائر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين ولا الأئمة الأربعة المعتبرين ، وإنما حدثت في عصر الملك صلاح الدين على يد رجل من الجاهلين المتصوفين وأنكرها بعض أهل العلم العاملين وهي لا تزال تنكرها قلوب العارفين بشرع الأمين حتى يأذن الله بإبطالها وإعادتها إلى أصلها على يد عبد من عباده الصالحين ] (1).
وزعم بعضهم أن الصلاة والسلام على النبي- صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان وبالكيفية التي يفعلها المؤذنون ليست بدعة لأنها تدخل في عموم قول الله تعالى :
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (2).
وعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( من صلى عليَّ مرة صلى الله عليها بها عشراً ) رواه مسلم ، فهذا عام يشمل جميع الأوقات ويدخل في عمومه الصلاة والسلام بعد الأذان (3).
والجواب عن ذلك من وجهين :
الوجه الأول : إنه لا يصح الاستدلال بهذه النصوص العامة وتخصيصها بأفعال عامة الناس الذين ابتدعوا هذه البدعة .
ولا بد من دليل شرعي يخصص هذه العمومات ويقيد المطلق منها ولم يوجد .
الوجه الثاني : إن هذه الصلاة والتسليم على النبي- صلى الله عليه وسلم - ما عرفت إلا في عصور متأخرة وابتدعت على يد بعض الجهلة من العامة فأين كان عنها الصحابة والتابعون وأهل القرون الثلاثة المفضلة .
فلو كانت مشروعة لسبقونا إليها وكل الخير في اتباع من سلف .
وخلاصة الأمر أن علينا اتباع السنة وهي كما وردت بها الأحاديث وهي الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرط أن لا تجعل جزءً من الأذان فنقول للمؤذن إذا انتهيت من الأذان فصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك ولا تجعلها جزءً من أذانك .
المسألة الرابعة : الذكر قبل أذان الفجر وقبل أذان العشاء ليلتي الإثنين والجمعة .
اعتاد بعض المؤذنين على التذكير قبل أذان صلاة الفجر وخاصة في شهر رمضان المبارك ومن هذه الأذكار :
- أن يتلو المؤذن قول الله تعالى :( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ) (4).
- ومنها قول المؤذن قبل الأذان : سبحان الواحد الأحد سبحان الفرد الصمد ، سبحان الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .
ومن الأذكار التي يقولها بعض المؤذنين قبل أذان العشاء ليلة الجمعة :
[( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ).
أكرم مثوانا يا رب بحرمة ليلة الجمعة ، وأكرم مثوانا ببركة ليلة الجمعة ، فاطمة الزهراء هللت وكبرت بنبوؤة والدها المصطفى وحق ليلة الجمعة .
وخلقت لنا عقولاً . وأرسلت لنا رسولاً .
فمال عبادك يا الله لا يولون جهداً في الحصول عل ثواب ليلة الجمعة .
أنزلت لنا القرآن وحياً واقياً من لدن حكيم عليم ، فما تجاهلت !؟حتى أنزلت سورة سميتها سورة الجمعة .
يا رب ... قدس الأقداس سطعت أنوارها من أقصاها .
نور الأقصى من نور المصطفى فأكثروا يا زوار الأقصى من الصلاة على المصطفى ليلة الجمعة .
لا حول ولا قوة إلا بك يا الله عند ضعفي إن كنت قد حرمت من دخول المسجد الأقصى في ليلة الجمعة .
إلهي ومولاي ، أنت ربي ، أنت حسبي ، فأعطني الشهادة في سبيلك بحق حرمة ليلة الجمعة .
ذرفت عيوني دمعاً من خشيتك يا الله فامنحني يا مولاي صبراً إذا حرمت من ذكرك في أقصاك (5) ليلة الجمعة .
موسى بشر محبي المصطفى وعيسى هتف في محبي المصطفى فاقسم الله لمحمد أن يكون هو البادي ليلة الجمعة .
يا مالك الكون إليك المرتجى والمنتهى .
فاجعل نهايتنا يا الله فاتحة خير بحق حرمة ليلة الجمعة .
__________
(1) السنن والمبتدعات ص 234 .
(2) سورة الأحزاب الآية 56
(3) انظر إتقان الصنعة ص 49-50 .
(4) سورة الإسراء الآية 111 .
(5) قوله أقصاك بالإضافة إلى كاف المخاطب والمقصود بها الله جل جلاله وهي إضافة غير صحيحة لأن المعني يصير أقصاك أي أبعدك .(/31)
أيها الأقصى منك شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأبشر يا مسجد الله أن لا متسع في جنباتك إلا لمؤمن هتف بحرمة ليلة الجمعة .
كيف لا أقصد أبوابك يا الله من مكان طهارة الإسلام ومسرى محمد خير الأنام .
وأنت أنزلت يا مولاي على حبيبي محمد :( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ) اشفع لنا يا بحر علم الله .
قصدت باب الرجاء والناس قد رقدوا وبت أشكو إلى مولاي ما أجد وقلت يا أملي في كل نائبة عليك من بكشف الضر اعتمد .
أشكو إليك يا رب اشكوا إليك أموراً أنت تعلمها ما لي على حملها صبر ولا جلد .
وقد مددت إليك يدي بالذل سائلة يا خير من مدت إليه يد
فلا تردنها إليك يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد ].
وغير ذلك من الأذكار ، وهذه الأذكار وغيرها كلها من الأمور المبتدعة التي يجب تركها اقتداءً بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن الجوزي :[ ... ومنه أنهم يخلطون أذان الفجر بالتذكير والتسبيح والمواعظ ويجعلون الأذان وسطاً فيختلط ، وقد كره العلماء كل ما يضاف إلى الأذان ... وكل ذلك من المنكرات ](1).
وبيَّن الحافظ ابن حجر أن ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة ليس من جملة الأذان لا لغة ولا شرعاً (2).
قال في شرح العمدة من كتب الحنابلة :[ يكره قول المؤذن قبل الأذان : ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ) الآية وكذلك إن وصله بعد بذكر لأنه محدث .
ويكره قوله قبل الإقامة: اللهم صل على محمد، ونحو ذلك من المحدثات .
وفي الإقناع وشرحه من كتبهم أيضاً : وما سوى التأذين قبل الفجر من التسبيح والنشيد ورفع الصوت بالدعاء ونحو ذلك في المآذن فليس بمسنون . وما أحد من العلماء قال إنه يستحب بل هو من جملة البدع المكروهة لأنه لم يكن في عهده- صلى الله عليه وسلم - ولا عهد أصحابه وليس له أصل فيما كان على عهدهم يردّ إليه فليس لأحد أن يأمر به ولا ينكر على من تركه ولا يعلق استحقاق الرزق به لأنه إعانة على بدعة ولا يلزم فعله ولو شرطه واقف لمخالفته السنة ] (3).
وقال الشيخ سيد سابق تحت عنوان ما أضيف إلى الأذان وما ليس منه : [ الأذان عبادة ومدار الأمر في العبادات على الاتباع فلا يجوز لنا أن نزيد شيئاً في ديننا أو ننقص منه وفي الحديث الصحيح :( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أي باطل . ونحن نشير إلى أشياء غير مشروعة درج عليها الكثير حتى خيل للبعض أنها من الدين وهي ليست منه في شيء ، من ذلك ... التسبيح في الفجر ] ثم نقل كلام صاحب الإقناع وشرحه المتقدم (4).
المسألة الخامسة :
قراءة سورة الإخلاص ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ثلاثاً قبل إقامة الصلاة وكذلك قراءة ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) وقراءة ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) ثم يدعو المؤذن بقوله : [ لأمواتنا ولأمواتكم وللمسلمين الفاتحة ] ثم يقرؤها وبعد ذلك يقيم الصلاة . وهذه الصيغة يحافظ عليها بعض المؤذنين خاصة في صلاة الفجر وهي بدعة مخالفة لهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
قال الشيخ القاسمي :[ قراءة سورة الإخلاص ثلاثاً قبل إقامة الصلاة إعلاناً بأنه ستقام الصلاة فهي بدعة لا أصل لها ولا حاجة لها ] (5).
وهذه بدعة لأنها لم ترد عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولا أمر أحداً من المؤذنين أن يفعلها قبل إقامة الصلاة . ولأن فيها تشويشاً على المصلين في المسجد وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشويش على المصلين ولو كان ذلك بقراءة القرآن الكريم كما ورد في الحديث :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال : إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن ) رواه مالك في الموطأ وروى مثله أبو داود وأحمد والبيهقي وصححه الشيخ الألباني (6).
المبحث الثاني
البدع المتعلقة بالنية
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الجهر بالنية :
اعتاد كثير من المصلين أن يتلفظوا بالنية جاهرين بها فتسمع أحدهم يقول قبل أن يحرم بصلاة الظهر : نويت أصلي أربع ركعات فرض صلاة الظهر جماعة مقتدياً بهذا الإمام مستقبلاً الكعبة الشريفة .
__________
(1) تلبيس إبليس ص137 .
(2) فتح الباري 2/232 .
(3) نقلاً عن إصلاح المساجد ص 133-134 .
(4) فقه السنة 1/121-122 .
(5) إصلاح المساجد ص 105-106 .
(6) موطأ مالك 1/90 ، المنهل العذب المورود 7/262 ، صحيح سنن أبي داود 1/247 ، وانظر الاستذكار 4/161-162 .(/32)
وهذا التلفظ جهراً بالنية بدعة سيئة مذمومة مخالفة لهدي الرسول- صلى الله عليه وسلم - وتوضيح ذلك بما يلي :
أولاً : إن النية من عمل القلب وليست من عمل اللسان لذلك فإن كثيراً من أهل العلم يعرفون النية بأنها عزيمة القلب أو قصد القلب .
قال الإمام الخطابي :[ النية قصدك الشيء بقلبك وتحري الطلب منك له . وقيل عزيمة القلب ] (1).
وقال الإمام القرافي :[ هي قصد الإنسان بقلبه ما يريده بفعله ] (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ والنية هي القصد والإرادة والقصد والإرادة محلهما القلب دون اللسان باتفاق العقلاء ] (3).
وقال العلامة ابن القيم :[ النية عمل القلب ] (4).
وقال أبو إسحاق الشيرازي :[ لأن النية هي القصد بالقلب ] (5).
وقال التيمي هي :[ وجهة القلب ] (6).
وقال البيضاوي :[ النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالاً أو مآلاً ] (7). وغير ذلك من التعريفات .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ والنية محلها القلب باتفاق العلماء فإن نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه أجزأته النية باتفاقهم ] (8).
وقال شيخ الإسلام أيضاً :[ محل النية القلب دون اللسان باتفاق أئمة المسلمين في جميع العبادات ] (9).
وقال السيوطي :[ محلها القلب في كل موضع ] (10).
وقال الشيخ أحمد الشويكي الحنبلي :[ ومحلها القلب ] (11). وهذا الذي عليه المحققون من العلماء (12).
ثانياً : إن الأصل في العبادات التوقيف على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كما قررته سابقاً ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تلفظ بالنية وكذلك لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علَّم أحداً من الصحابة التلفظ بالنية ولو كان التلفظ مشروعاً لنقل إلينا كما نقلت إلينا أدق أعمال الصلاة وغيرها .
قال العلامة ابن القيم :[ كان- صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة قال :( الله أكبر ) ولم يقل شيئاً قبلها ولا تلفظ بالنية البتة ولا قال : أصلي لله صلاة كذا مستقبل الكعبة أربع ركعات إماماً أو مأموماً . ولا قال : أداءً ولا قضاءً ولا فرض الوقت وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة منها البتة . بل ولا عن أحد من أصحابه ولا استحسنه أحد من التابعين ولا الأئمة الأربعة ] (13).
وقال العلامة القسطلاني :[ وبالجملة فلم ينقل أحد أنه - صلى الله عليه وسلم - تلفظ بالنية ولا علم أحداً من أصحابه التلفظ بها ولا أقره على ذلك بل المنقول عنه في السنن أنه قال :
[ مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ].
وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - لما علم المسيء صلاته قال له :( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ) فلم يأمره بالتلفظ بشيء قبل التكبير ] (14).
وقال العلامة القسطلاني أيضاً :[ ... ولقد صلَّى- صلى الله عليه وسلم - أكثر من ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال : نويت أن أصلي صلاة كذا وكذا وتركه- صلى الله عليه وسلم - سنة ، كما أن فعله سنة فليس لنا أن نسوي بين ما فعله وتركه فنأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذي فعله ... ] (15).
ونقل ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية قوله :[ ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه واحدة منها فيقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم نويت أصلي صلاة الظهر فريضة الوقت أداء لله تعالى إماماً أو مأموماً أربع ركعات مستقبل القبلة ، ثم يزعج أعضاءه ويثني جبهته ويقيم عروق عنقه ويصرخ بالتكبير كأنه يكبر على العدو ، ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من أصحابه شيئاً من ذلك لما ظفر به إلا أن يجاهر بالكذب البحت ، فلو كان في هذا خيرٌ لسبقونا إليه ولدلونا عليه فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال ] (16).
__________
(1) مقاصد المكلفين ص 24 .
(2) الذخيرة 1/240 ، وانظر الأمنية في إدراك النية للقرافي أيضاً ص 17 .
(3) مجموع الفتاوى 22/236 .
(4) بدائع الفوائد 3/192 نقلاً عن مقاصد المكلفين ص 30 .
(5) المهذب مع المجموع 3/276 .
(6) مقاصد المكلفين ص 30 .
(7) المرجع السابق ص 31 .
(8) مجموع الفتاوى 18/262 .
(9) مجموع الفتاوى 22/217-218 .
(10) الأشباه والنظائر ص 76 .
(11) التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح 1/233 .
(12) انظر فتح الباري 1/14 ، مرقاة المفاتيح 1/94 ، الفروع 1/139 ، الإنصاف 1/142 ، زاد المعاد 1/201 ، دليل الفالحين 1/54 ، المواهب اللدنية 1/72 ، الهداية مع شرح فتح القدير 1/232 .
(13) زاد المعاد 1/201 .
(14) المواهب اللدنية 4/72 .
(15) المصدر السابق 4/73 ، وانظر مرقاة المفاتيح 1/97 .
(16) إغاثة اللهفان 1/138-139 .(/33)
كما أنه ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتلفظ بالنية بل كان يبدأ الصلاة بالتكبير كما صح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت :( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين ) رواه مسلم (1).
وثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء صلاته عندما قال له :( علمني يا رسول الله ، قال له : إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ... ) رواه البخاري ومسلم (2) .
وقال العلامة ملا علي القاري :[ وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قام إلى الصلاة فكبر فلو نطق بشيء آخر لنقلوه . وورد في حديث المسيء صلاته أنه قال له : ( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ) فدل على عدم وجود التلفظ ] (3).
ثالثاً : لم يقل أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من العلماء الكبار بالتلفظ بالنية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ والجهر بالنية لا يجب ولا يستحب باتفاق المسلمين بل الجاهر بالنية مبتدع مخالف للشرع إذا فعل ذلك معتقداً أنه من الشرع فهو جاهل ضال ... ] (4).
وقال شيخ الإسلام أيضاً: [ إن التلفظ بالنية لا يجب عند أحد من الأئمة ] (5).
وقال الشيخ ابن أبي العز الحنفي :[ فإنه لم يقل أحد من الأئمة الأربعة لا الشافعي ولا غيره باشتراط التلفظ بالنية وإنما النية محلها القلب باتفاقهم ... ] (6).
وقال القاضي جمال الدين أبو الربيع سليمان بن عمر الشافعي :[ وأما الجهر بها وبالقراءة خلف الإمام ليس من السنة بل مكروه . فإن حصل به تشويش على المصلين فحرام ، ومن قال بأن الجهر بلفظ النية من السنة فهو مخطىء ولا يحل له ولا لغيره أن يقول في دين الله تعالى بغير علم .
ومنهم أبو عبد الله محمد بن القاسم التونسي المالكي ، قال : النية من أعمال القلوب فالجهر بها بدعة مع ما في ذلك من التشويش على الناس .
ومنهم الشيخ علاء الدين بن العطار عفا الله عنه قال : ورفع الصوت بالنية مع التشويش على المصلين حرام إجماعاً ومع عدمه بدعة قبيحة فإن قصد به الرياء كان حراماً من وجهين كبيرة من الكبائر والمنكر على من قال بأن ذلك من السنة مصيب ومصوبه مخطئ . ونسبته إلى دين الله اعتقاداً كفر وغير اعتقاد معصية .
ويجب على كل مؤمن تمكّن من زجره زجره ومنعه وردعه ولم ينقل هذا النقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه ولا عن أحد ممن يقتدى به من علماء الإسلام .
ومنهم الشيخ العلامة أبو عبد الله محمد بن الحريري الأنصاري ، قال في هذه المسألة : ما كان النبي- صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه رضي الله عنهم ولا أحد من الأئمة الأربعة ولا علماء المسلمين يفعل مثل ذلك ... فإن زعم الفاعل لذلك أن هذا هو دين الله تعالى فقد كذب على الله تعالى وعلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأدخل في دين الله ما ليس منه يستتاب بعد التعريف وتزاح عنه الشبهة التي عرضت له فإن تاب وإلا قتل بذلك ] (7).
رابعاً : نسب بعض الشافعية وهو أبو عبد الله الزبيري للإمام الشافعي أنه يوجب التلفظ بالنية تعلقاً بأن الشافعي قال في كتاب " المناسك " ولا يلزمه إذا أحرم بقلبه أن يذكره بلسانه وليس كالصلاة التي لا تصح إلا بالنطق ، فتأول ذلك على وجوب النطق بالنية .
قال الماوردي :[ وهذا فاسد وإنما أراد - الشافعي - وجوب النطق بالتكبير ثم مما يوضح فساد هذا القول حجاجاً : أن النية من أعمال القلب فلم تفتقر إلى غيره من الجوارح كما أن القراءة لما كانت من أعمال اللسان لم تفتقر إلى غيره من الجوارح ] (8).
وقال الإمام النووي مخطئاً كلام الزبيري :[ قال أصحابنا غلط هذا القائل وليس مراد الشافعي بالنطق في الصلاة هذا بل مراده التكبير ] (9).
خامساً : قول من قال باستحباب التلفظ بالنية ليساعد اللسان القلب (10)، لا دليل عليه من الشرع ولم يقل بالاستحباب أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من الأئمة السابقين بل المنصوص عن الإمامين مالك وأحمد أنه لا يستحب التلفظ بالنية كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية (11).
وقد سأل أبو داود - في مسائل أحمد - الإمام أحمد فقال :[ يقول المصلي قبل التكبير شيئاً ؟ قال : لا ] (12).
ويجاب على قولهم باستحباب التلفظ بالنية بوجوه :
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 2/159 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 3/383 ، صحيح مسلم بشرح النووي 2/82 .
(3) مرقاة المفاتيح 1/95 .
(4) مجموع الفتاوى 22/218 .
(5) المصدر السابق 22/221 .
(6) الاتباع ص 62 .
(7) مجموعة الرسائل الكبرى 1/254-256 ، وانظر مقاصد المكلفين ص 123-124 .
(8) الحاوي الكبير 2/91-92 .
(9) المجموع 3/277 ، وانظر مجموع الفتاوى 22/221 ، زاد المعاد 1/201 ، الاتباع ص 62 ، مقاصد المكلفين ص 125 .
(10) مغني المحتاج 1/343 .
(11) مجموع الفتاوى 22/221 ، وانظر مقاصد المكلفين ص 126 .
(12) مسائل أحمد ص 31 نقلاً عن الأمر بالاتباع ص 295 .(/34)
الأول : إن الاستحباب حكم شرعي لا يكون إلا بدليل ، ولا دليل . قال الإمام الأذرعي :[ ولا دليل للندب ] (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ ولو كان مستحباً لفعله النبي- صلى الله عليه وسلم - ولعظمه المسلمون ] (2).
وقال شيخ الإسلام أيضاً :[ وكل ما يحدث في العبادات المشروعة من الزيادات التي لم يشرعها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فهي بدعة بل كان- صلى الله عليه وسلم - يداوم في العبادات على تركها ، ففعلها والمداومة عليها بدعة وضلالة من وجهين : من حيث اعتقاد المعتقد أن ذلك مشروع مستحب أي يكون فعله خير من تركه مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يفعله البتة فيبقى حقيقة هذا القول إنما فعلناه أكمل وأفضل مما فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم - .
وقد سأل رجل مالك بن أنس عن الإحرام قبل الميقات فقال : أخاف عليك الفتنة . فقال له السائل : أي فتنة في ذلك ؟ وإنما زيادة أميال في طاعة الله عز وجل .
قال : وأي فتنة أعظم من أن تظن في نفسك أنك خصصت بفضل لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد ثبت في الصحيحين أنه قال :( من رغب عن سنتي فليس مني ) فأي من ظن أن سنة أفضل من سنتي فرغب عما سنيته معتقداً أنما رغب فيه أفضل مما رغب عنه فليس مني ، لأن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ) كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخطب بذلك يوم الجمعة .
فمن قال : إن هدي غير محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من هدي محمد فهو مفتون بل ضال ، قال الله تعالى - إجلالاً له وتثبيت حجته على الناس كافة - :
( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
أي : وجيع .
وهو - صلى الله عليه وسلم - قد أمر المسلمين باتباعه ، وأن يعتقدوا وجوب ما أوجبه واستحباب ما أحبه وأنه لا أفضل من ذلك فمن لم يعتقد هذا فقد عصى أمره ، وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :( هلك المتنطعون - قالها ثلاثاً - ) أي المشددون في غير موضع التشديد ، وقال أبي بن كعب وابن مسعود : اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة ] (3).
الوجه الثاني : ثبت أنه عليه الصلاة والسلام لم يتلفظ بالنية كما سبق وقد ذكرت أدلة ذلك تحت قولي ثانياً .
الوجه الثالث : إن المتلفظ بالنية يفعل ويداوم على فعل لم يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يداوم عليه وهذا بدعة واضحة عند أهل العلم .
الوجه الرابع : لا مدخل للتلفظ بالنية في حصولها في القلب والتلفظ بها عبث والقصد أمر ضروري لفعل الفاعل :
لقد ظن القائلون بالاستحباب أن للتلفظ مدخلاً في تحصيل النية بأن يؤكد عزيمة القلب وهذا خطأ فإن القائل - إذا قال نويت صلاة الظهر أو نويت رفع الحدث - إما أن يكون مخبراً أو منشئاً فإن كان مخبراً فإما أن يكون إخباره لنفسه أو لغيره وكل ذلك عبث لا فائدة فيه ، لأن الإخبار إنما يفيد إذا تضمن تعريف المخبر ما لم يكن عارفاً وهذا محال في إخباره لنفسه ، وإن كان إخباراً لغيره بالنية فهو عبث محض وهو غير مشروع ولا مفيد وهو بمثابة إخباره بسائر أفعاله من صومه وصلاته وحجه وزكاته بل بمنزلة إخباره له عن إيمانه وحبه وبغضه بل قد يكون في هذه الأخبار فائدة وأما إخبار المأمومين أو الإمام بالنية فعبث محض .
ولا يصح أن يكون ذلك إنشاءً فإن اللفظ لا ينشئ وجود النية وإنما إنشاؤها إحضار حقيقتها في القلب لا إنشاء اللفظ الدال عليها .
والذي يوجد حقيقتها في القلب العلم الذي يتقدمها ويسبقها فالنية تتبع العلم فمن علم ما يريد فعله لا بد أن ينويه ضرورة كمن قدم بين يديه طعام ليأكله فإذا علم أنه يريد الأكل فلا بد أن ينويه وكذلك الركوب وغيره .
ولو كلف العباد أن يعملوا بغير نية كلفوا ما لا يطيقون فإن كل أحد إذا أراد أن يعمل عملاً مشروعاً أو غير مشروع فعلمه سابق إلى قلبه وذلك هو النية وإذا علم الإنسان أنه يريد صلاة أو صوماً أو طهارة فلا بد أن ينويه - إذا علمه - ضرورة وإنما يتصور عدم النية إذا لم يعلم ما يريد مثل من نسي الجنابة واغتسل للنظافة أو للتبرد أو من يريد أن يعلّم غيره الوضوء ولم يرد أن يتوضأ لنفسه أو من لا يعلم أن غداً من رمضان فيصبح ناوياً للصوم وأما الذي يعلم أن غداً من رمضان وهو يريد الصوم فهذا لا بد أن ينويه ضرورة ولا يحتاج أن يتكلم به (4).
الوجه الخامس : إن القول بوجوب التلفظ أو استحبابه له آثار سيئة فقد أوقع كثيراً من الناس في الوسوسة في الصلاة وغيرها .
__________
(1) مغني المحتاج 1/343 .
(2) مجموع الفتاوى 22/222 .
(3) المصدر السابق 22/223-224 .
(4) مقاصد المكلفين ص 132-133 .(/35)
قال ابن الجوزي :[ واعلم أن الوسوسة في نية الصلاة سببها خبل العقل وجهل بالشرع ، ومعلوم أن من دخل عليه عالم فقام له وقال : نويت أن أنتصب قائماً تعظيماً لدخول هذا العالم لأجل علمه مقبلاً عليه بوجهي ، سفه في عقله فإن هذا قد تصور في ذهنه منذ رأى العالم ، فقيام الإنسان إلى الصلاة ليؤدي الفرض أمر يتصور في النفس في حالة واحدة لا يطول زمانه وإنما يطول زمان نظم هذه الألفاظ والألفاظ لا تلزم والوسواس جهل محض ، وإن الموسوس يكلف نفسه أن يحضر في قلبه الظهرية والأدائية والفرضية في حالة واحدة مفصلة بألفاظها وهو يطالعها وذلك محال ،
ولو كلف نفسه ذلك في القيام للعالم لتعذر عليه فمن عرف هذا عرف النية] (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ بل التلفظ بالنية نقص في العقل والدين ، أما في الدين فلأنه بدعة وأما في العقل فلأنه بمنزلة من يريد يأكل طعاماً فيقول : نويت بوضع يدي في هذا الإناء أني أريد آخذ منه لقمة فأضعها في فمي فأمضغها ثم ابلعها لأشبع . مثل القائل الذي يقول : نويت أصلي فريضة هذه الصلاة المفروضة علي حاضر الوقت أربع ركعات في جماعة أداء لله تعالى ، فهذا كله حمق وجهل وذلك أن النية بليغ العلم ، فمتى علم العبد ما يفعله كان قد نواه ضرورة ، فلا يتصور مع وجود العلم بالعقل أن يفعل بلا نية ولا يمكن مع عدم العلم أن تحصل نية .
وقد اتفق الأئمة على أن الجهر بالنية وتكريرها ليس بمشروع بل من اعتاد ذلك فإنه ينبغي له أن يؤدب تأديباً يمنعه عن ذلك التعبد بالبدع وإذاء الناس برفع صوته لأنه قد جاء الحديث :( أيها الناس كلكم يناجي ربه فلا يجهرن بعضكم على بعض بالقراءة ) فكيف حال من يشوش على الناس بكلامه بغير قراءة ؟ بل يقول : نويت أصلي ، أصلي فريضة كذا وكذا ، في وقت كذا وكذا من الأفعال التي لم يشرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] (2).
وقال ابن الحاج :[ وما تقدم من أن النية لا يجهر بها فهو عام في الإمام والمأموم والفذ فالجهر بها بدعة على كل حال إذ أنه لم يرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء ولا الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين جهروا بها فلم يبق إلا أن يكون الجهر بها بدعة ] (3).
وهذا الحكم وهو عدم جواز التلفظ بالنية وأنه بدعة يعم جميع العبادات من الطهارة والصلاة والصيام والاعتكاف والحج وغيرها .
المسألة الثانية : طلب الإمام من المأمومين أن يستحضروا النية :
اعتاد كثير من أئمة المساجد بعد إقامة الصلاة وقبل أن يكبروا تكبيرة الإحرام أن يقولوا للمصلين استحضروا النية .
وهذا الأمر باستحضار النية بدعة مخالفة لهدي الرسول- صلى الله عليه وسلم - وما فعله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه .
والنية تكون في قلب الإنسان حاضرة ولا تحتاج إلى استحضار فهي حاصلة في قلبه وتحصيل الحاصل محال .
فالمصلون حينما تقام الصلاة ويقفون في الصفوف ويسمعون الإمام يأمر بتسوية الصفوف لا شك أن نياتهم حاصلة في قلوبهم فهم يوقنون أنهم سيصلون تلك الصلاة التي أقيمت فمن العبث أن يقال لهم استحضروا النية كما أنه من العبث أن يقال لمن وضع الطعام أمامه ليأكل قيل له استحضر نية الأكل فهذه النية موجودة في القلب ويستقبح القول باستحضارها لأنها حاضرة .
ويضاف إلى ذلك أنه لم ينقل عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه أمر الصحابة باستحضار النية وكان - صلى الله عليه وسلم - يؤمهم في كل يوم خمس مرات وصلى بهم إماماً آلاف الصلوات فلو وقع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - لنقله لنا الصحابة كما نقلوا لنا دقائق الأمور في صفة صلاته وغيرها من الأعمال والثابت أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بتسوية الصفوف ثم يكبر تكبيرة الإحرام وقد ورد في ذلك عدة أحاديث منها :
1. عن أنس - رضي الله عنه - قال :( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول ، تراصوا واعتدلوا ) رواه البخاري ومسلم (4).
2. عن النعمان بن بشير قال :( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى رأى أنا قد عقلنا عنه ثم خرج يوماً فقام حتى كاد يكبر فرأى رجلاً بادياً صدره من الصف فقال : عباد الله لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله وجوهكم ) رواه مسلم (5).
3. وفي رواية أخرى عن النعمان قال :( كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يسوي يعني صفوفنا إذا قمنا للصلاة فإذا استوينا كبر ) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني صحيح (6).
ومثل ذلك ورد عن الصحابة رضي الله عنهم فقد روى مالك بإسناده عن نافع أن عمر ابن الخطاب كان يأمر بتسوية الصفوف فإذا جاؤوه فأخبروه أن قد استوت كبر .
__________
(1) تلبيس إبليس ص 138-139 .
(2) مجموع الفتاوى 22/231-232 .
(3) المدخل 2/282 .
(4) صحيح البخاري مع الفتح 2/349 ، صحيح مسلم بشرح النووي 2/117 .
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 2/117 .
(6) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 2/259 ، صحيح سنن أبي داود 1/131 .(/36)
وروى مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه انه قال :[ كنت مع عثمان بن عفان فقامت الصلاة وأنا أكلمه في أن يفرض لي فلم أزل أكلمه وهو يسوي الحصباء بنعليه حتى جاءه رجال قد كان وكلهم بتسوية الصفوف فأخبروه أن الصفوف قد استوت، فقال لي: استو في الصف ثم كبر ] (1).
فهذه الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في صفة ما كانوا يفعلون قبل تكبيرة الإحرام من تسوية الصفوف والأمر بها ثم تكبيرة الإحرام ولم ينقل أنهم كانوا يقولون للمصلين استحضروا النية. وهذا واضح الدلالة لكل منصف أن هذا القول بدعة ينبغي تركها .
المبحث الثالث
ختم الصلاة الجماعي
اعتاد كثير من أئمة المساجد والمصلين بعد التسليم من صلاة الجماعة أن يستقبل إمام المسجد المصلين ثم يبدؤون بقراءة الأذكار المأثورة وغير المأثورة على هيئة الاجتماع ورفع الصوت .
فيسبحون ويحمدون ويكبرون ثم يقرؤون بعض السور بشكل جماعي ثم يدعو إمام المسجد وهم يؤمنون على دعائه ثم يختمون ذلك بقراءة الفاتحة لأرواح أموات المسلمين .
وهذه الهيئة المسماة ختم الصلاة بدعة غير مشروعة ومخالفة لما كان عليه الهدي النبوي كما سأبينه بعد قليل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ أما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلاة فهو بدعة لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ] (2).
وقال الشيخ علي محفوظ :[ ومن البدع المكروهة ختم الصلاة على الهيئة المعروفة من رفع الصوت به وفي المسجد والاجتماع له والمواظبة عليه حتى اعتقد العامة أنه من تمام الصلاة وأنه سنة لا بد منها مع أنه مستحب انفراداً سراً فهذه الهيئة محدثة لم تعهد عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ولا عن الصحابة وقد اتخذها الناس شعاراً للصلوات المفروضة عقب الجماعة وقد صرح كثير من الفقهاء بأن إحداث الشعار في الدين مكروه ولذا قال الإمام ابن الصلاح بكراهة ما يفعله الناس بعد فراغهم من السعي بين الصفا والمروة من صلاة ركعتين على متسع المروة وكيف يجوز رفع الصوت به والله تعالى يقول في كتابه الحكيم :( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) والتضرع من الضراعة وهي الذلة والخشوع والاستكانة والخفية بضم الخاء وكسرها الإسرار به فإنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء وانتصابهما على الحال أي ادعوه متضرعين بالدعاء مخفين له مسرين به ثم علل ذلك بقوله :( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) في الدعاء بترك ما أمروا به من التضرع والإخفاء كما لا يحب الاعتداء في سائر الأشياء والاعتداء تجاوز الحدود فيها فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء فقد اعتدى والله لا يحب المعتدين ولا يشملهم برحمته وإحسانه وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولاً أولياً وحسبك في تعيين الإسرار بالدعاء اقترانه بالتضرع في هذه الآية الكريمة فالإخلال به كالإخلال بالتضرع في الدعاء وإن دعاءً لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا إسرار ولا وقار ] (3).
وقال العلامة ابن القيم :[ وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين فلم يكن ذلك من هديه- صلى الله عليه وسلم - ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن ] (4).
وختم الصلاة بهذه الطريقة غير معروف عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - بل كان هديه- صلى الله عليه وسلم - بعد الصلاة كما يلي :
قال الإمام النووي :[ وروينا في صحيح مسلم عن ثوبان - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام .
قيل للأوزاعي وهو أحد رواة الحديث : كيف الاستغفار ؟ قال : تقول أستغفر الله أستغفر الله .
وروينا في صحيحي البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من الصلاة وسلَّم قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد .
وروينا في صحيح مسلم عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان يقول دبر كل صلاة حين يسلّم : لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة وله الفضل ، وله الثناء الحسن لا إله إلا الله ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون .
قال ابن الزبير : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلل بهن دبر كل صلاة ] (5).
__________
(1) الموطأ 1/146-147 ، وانظر مصنف عبد الرزاق 2/47 ، الاستذكار 6/187 ، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 2/16 .
(2) مجموع الفتاوى 22/519 .
(3) الإبداع ص 283-284 .
(4) زاد المعاد 1/257 .
(5) الأذكار ص 58 .(/37)
وقال العلامة ابن القيم :[ فصل : فيما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة الانتقال منها وما شرعه لأمته من الأذكار والقراءة بعدها .
كان إذا سلّم استغفر ثلاثاً وقال : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام . ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك بل يسرع الانتقال إلى المأمومين . وكان ينفتل عن يمينه وعن يساره وقال ابن مسعود : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ينصرف عن يساره .
وقال أنس : أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه والأول في الصحيحين والثاني في مسلم .
وقال عبد الله بن عمرو : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة. ثم كان يقبل على المأمومين بوجهه ولا يخص ناحيةً منهم دون ناحية وكان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس] (1).
ثم ذكر نحو كلام النووي السابق ثم قال :[ وندب أمته إلى أن يقولوا في دبر كل صلاة : سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله كذلك والله أكبر كذلك . وتمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .
وفي صفة أخرى : التكبير أربعاً وثلاثين فيتم به المائة .
وفي صفة أخرى : خمساً وعشرين تسبيحة ومثلها تحميدة ومثلها تكبيرة ومثلها لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .
وفي صفة أخرى : عشر تسبيحات وعشر تحميدات وعشر تكبيرات ] (2).
وقال الشيخ علي محفوظ :[ وغير خاف عليك أن ختم الصلاة على الحالة المعلومة من البدع الإضافية التي هي مثار الخلاف بين أنصار السنة والبدعة فإنه مشروع باعتبار غير مشروع باعتبار آخر فإنك إذا نظرت إليه من جهة كونه قرآناً وذكراً ودعاءً وجدته مشروعاً وإذا نظرت إليه من ناحية ما عرض له من الهيئة برفع الصوت ، واجتماع المستغفرين ، وفي المسجد والمواظبة عليه وجدته غير مشروع فما أكثر التباس الباطل بالحق على كثير من الناس اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه إنك رب التوفيق والهداية يا رحمن ] (3).
المبحث الرابع
بدعة المصافحة بعد الصلاة
وقول المصلي للآخر : تقبل الله منا ومنكم
كثير من المصلين وبمجرد انتهاء الإمام من التسليم يمدون أيديهم لمن هم على أيمانهم وشمائلهم لمصافحتهم قائلين : تقبل الله منَّا ومنكم .
وهذه بدعة مخالفة لهدي النبي- صلى الله عليه وسلم - وبيان هذا من وجوه :
الأول : إن المصافحة من السنن المتفق عليها عند لقاء المسلم مع أخيه المسلم .
فقد روى الإمام البخاري بإسناده عن قتادة قال- رضي الله عنه - :( قلت لأنس - رضي الله عنه - أكانت المصافحة في أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : نعم ) (4).
وجاء في الحديث عن البراء بن عازب- رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يتفرقا ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وقال الشيخ الألباني : صحيح (5).
ووردت أحاديث أخرى في المصافحة ، ويؤخذ من هذه الأحاديث أن المصافحة سنة عند كل لقاء بين مسلمين .
الثاني : إن ما اعتاده الناس من المصافحة بعد الصلوات لا أصل له في الشرع على هذا الوجه بل هو بدعة لأن المصافحة مشروعة عند القدوم واللقاء ويستثنى من هذا من قدم إلى الصلاة ولم يجتمع بمن يصافحه قبل الصلاة فالمصافحة في حقهما مشروعة حينئذ .
وما قاله بعض العلماء من أن المصافحة عقب الصلوات بدعة مباحة فقد أجاب عليه الحافظ ابن حجر بقوله :[ قلت : وللنظر فيه مجال فإن أصل صلاة النافلة سنة ومع ذلك فقد كره المحققون تخصيص وقت بها دون وقت ، ومنهم من أطلق تحريم مثل ذلك كصلاة الرغائب التي لا أصل لها](6).
__________
(1) زاد المعاد 1/295-297 .
(2) المصدر السابق 1/298-299 ، وانظر عمل اليوم والليلة ص 180 فما بعدها .
(3) الإبداع ص 285 .
(4) صحيح البخاري مع الفتح 13/294 .
(5) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 14/80 ، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 7/429 سنن ابن ماجة 2/1220 ، صحيح سنن الترمذي 2/353 ، السلسلة الصحيحة 2/44 .
(6) فتح الباري 13/294 .(/38)
وأجاب على ذلك أيضاً العلامة علي القاري فقال :[ إن إتيان السنة في بعض الأوقات لا يسمى بدعة مع أن عمل الناس في الوقتين المذكورين ليس على وجه الاستحباب المشروع فإن محل المصافحة المشروعة أول الملاقاة وقد يكون جماعة يتلاقون من غير مصافحة ويتصاحبون بالكلام ومذاكرة العلم وغيره مدة مديدة ثم إذا صلوا يتصافحون فأين هذا من السنة المشروعة ؟ ولهذا صرح بعض علمائنا بأنها مكروهة حينئذ وأنها من البدع المذمومة ، نعم لو دخل أحد في المسجد والناس في الصلاة أو على إرادة الشروع فيها فبعد الفراغ لو صافحهم لكن بشرط سبق السلام للمصافحة فهذا من جملة المصافحة المسنونة بلا شبهة ] (1).
إذا تقرر هذا فأقول إن المصافحة عقب الصلاة بدعة وليس لها دليل من سنة ولا أثر والالتزام بها هدي لم يدل عليه الشرع فيكون بدعة (2).
وقد نص على بدعتيها كثير من أهل العلم قال العز بن عبد السلام : [ المصافحة عقيب الصبح والعصر من البدع إلا لقادم لم يجتمع بمن يصافحه قبل الصلاة فإن المصافحة مشروعة عند القدوم ] (3).
وقال التركماني :[ وأما المصافحة في الصلاتين بعد صلاة العصر وبعد صلاة الصبح فبدعة من البدع التي استوى طرفاها لا أصل لها في الشرع واختار بعض العلماء تركها لأنها زيادة في الدين ] (4).
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن المصافحة عقيب الصلاة هل هي سنة أم لا ؟ فأجاب : الحمد لله ، المصافحة عقيب الصلاة ليست مسنونة بل هي بدعة ] (5).
ونقل ابن عابدين عن بعض فقهاء الحنفية قوله :[ تكره المصافحة بعد أداء الصلاة بكل حال لأن الصحابة رضي الله عنهم ما صافحوا بعد أداء الصلاة ولأنها من سنن الروافض ] (6).
وقال ابن الحاج :[ وينبغي ... أن يمنع ما أحدثوه من المصافحة بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر وبعد صلاة الجمعة بل زاد بعضهم في هذا الوقت فعل ذلك بعد الصلوات الخمس وذلك كله من البدع وموضع المصافحة في الشرع إنما هو عند لقاء المسلم لأخيه لا في أدبار الصلوات الخمس وذلك كله من البدع فحيث وضعها الشرع نضعها فينهى عن ذلك ويزجر فاعله لما أتى من خلاف السنة ] (7).
وقال اللكنوي :[ إنهم قد اتفقوا على أن هذه المصافحة ليس لها أصل في الشرع ثم اختلفوا في الكراهة والإباحة والأمر إذا دار بين الكراهة والإباحة ينبغي الإفتاء بالمنع فيه لأن دفع مضرّة أولى من جلب مصلحة فكيف لا يكون أولى من فعل أمر مباح على أن المصافحين في زماننا يظنونه أمراً حسناً ويشنعون على مانعه تشنيعاً بليغاً ويصرون عليه إصراراً شديداً وقد مرّ أن الإصرار على المندوب يبلغه إلى حدّ الكراهة فكيف إصرار البدعة التي لا أصل لها في الشرع وعلى هذا فلا شك في الكراهة وهذا هو غرض من أفتى بالكراهة مع أن الكراهة إنما نقلها من نقلها من عبارات المتقدمين والمفتين فلا يوازيها روايات مثل صاحب " جمع البركات "
و" السراج المنير " و" مطالب المؤمنين " من تساهل مصنفيها في تحقيق الروايات أمر مشهود وجمعهم كل رطب ويابس معلوم عند الجمهور والعجب من صاحب " خزانة الرواية " حيث قال فيها في عقد اللآلئ ، قال عليه السلام :( صافحوا بعد صلاة الفجر يكتب الله لكم بها عشراً ) وقال عليه الصلاة والسلام :( صافحوا بعد العصر تؤجروا بالرحمة والغفران ) ولم يتفطن أن هذين الحديثين وأمثالهما موضوعان وضعهما المصافحون فإن لله وإن إليه راجعون ] (8).
الثالث : إن قول المصلي لمن هو على يمينه وشماله عند مصافحته " تقبل الله " بدعة أيضاً [ ولم نعلم عن أحد من الصحابة أو السلف الصالح رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا فرغوا من صلاتهم التفت أحدهم عن يمينه وشماله مصافحاً من حوله مباركاً له بقبول الصلاة ولو فعل ذلك أحد منهم لنقل إلينا ولو بسند ضعيف ولنقله لنا أهل العلم الذين خاضوا في كل بحر فغاصوا في أعماقه واستخرجوا منه أحكامه الكثيرة ولم يفرطوا في سنة قولية أو فعلية أو تقريرية أو صفة ] (9).
الرابع : إن هذه المصافحة وقولهم تقبل الله منا ومنكم تقطع على كثير من المصلين تسبيحهم وذكرهم المشروع ولا ينبغي للمسلم أن يقطع تسبيح أخيه المسلم إلا بسبب شرعي وهذه المصافحة ليست كذلك (10).
الخامس : إن كثيراً من المصلين الذين يداومون على هذه البدعة يتركون في مقابلها سنة ثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنراهم يصافحون من حولهم من المصلين ثم بعد ذلك يقومون إلى صلاة السنة البعدية ثم يخرجون من المسجد ويتركون سنة التسبيح والأذكار الواردة بعد الصلوات المفروضات فهؤلاء أساؤوا حيث إنهم التزموا البدعة وتركوا السنة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
المبحث الخامس
__________
(1) مرقاة المفاتيح 8/458 .
(2) معجم المناهي اللفظية ص 206 .
(3) فتاوى العز بن عبد السلام ص 389 .
(4) اللمع في الحوادث والبدع 1/283 .
(5) مجموع الفتاوى 23/339 .
(6) حاشية ابن عابدين 6/381 .
(7) المدخل 2/223 .
(8) القول المبين ص 296 .
(9) القول المبين ص 293 .
(10) المصدر السابق ص 296 .(/39)
بدع محدثة في دعاء القنوت
ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في الفجر بعد الركوع شهراً ثم ترك القنوت وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في النوازل وترك القنوت عند عدمها وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قنت في الوتر وتركه أحياناً أخرى (1).
وجاء في الحديث أن النبي علّم دعاء القنوت لابن بنته الحسن بن علي رضي الله عنهم ، قال الحسن - رضي الله عنه - : علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة (2).
وفي رواية عند البيهقي زيادة :( ولا يعز من عاديت ) بعد قوله :( ولا يذل من واليت ) (3).
وزاد النسائي في آخر الدعاء :( وصلى الله على النبي محمد ) وقال النووي : وإسناده حسن أو صحيح (4). وقال الترمذي :[ هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي واسمه ربيعة بن شيبان . ولا نعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت شيئاً أحسن من هذا ] وصححه الشيخ الألباني (5).
وقد أحدث الناس بدعاً كثيرة في القنوت أذكر منها :
أولاً : تقليب اليدين عند الدعاء وقول المأمومين بعض الكلمات عند دعاء الإمام كقولهم : حق ، حق ، أشهد ، ونحو ذلك .
وهذا التقليب للكفين لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعاء القنوت لا في قنوت الفجر ولا في قنوت الوتر وإنما ورد تقليب الكفين في دعاء الاستسقاء خاصة ولعل الحكمة في الإشارة بظهر الكفين في الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقليب الحال كما قيل في تحويل الرداء كما أفاده الشوكاني (6).
ولم يرد عن الصحابة رضي الله عنهم حال القنوت في الصلاة إلا التأمين وأما زيادة هذه الألفاظ نحو : حق ، وأشهد فليس لها مستند ، بل هي بدعة لأن الدعاء من العبادة والأصل في العبادة التوقيف (7).
ولو فعله الصحابة رضي الله عنهم لنقل إلينا كما نقل أنهم كانوا يؤمنون على دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :[ قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة يدعو على أحياء من بني سليم ويؤمن من خلفه ] رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح كما قال الإمام النووي (8).
ثانياً : مسح الوجه والبدن في دعاء القنوت :
إن مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من دعاء القنوت أمر مشهور بين عامة الناس ولكن هذا الأمر مع شهرته وانتشاره وعمل كثير من الناس به لا سند له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن السلف الصالح رضي الله عنهم وإن قال به بعض الفقهاء .
قال الإمام النووي رحمه الله عند حديثه عن هذه المسألة إن فيها وجهين: الأول أنه يستحب وذكر جماعة من الفقهاء الذين قالوا بذلك ثم قال النووي : والثاني لا يمسح وهذا هو الصحيح صححه البيهقي والرافعي وآخرون من المحققين (9).
ثم ذكر كلام البيهقي التالي وأنقله من سننه رحمه الله حيث قال :[ فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظ عن أحد من السلف في دعاء القنوت وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث ضعيف وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة .
وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس ، فالأولى أن لا يفعله ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة وبالله التوفيق ] (10).
وأقول جزى الله أئمتنا وعلمائنا خيراً فإنهم وقَّافون عند موارد النصوص فإن الخير كل الخير في الاتباع وإن الشر كل الشر في الابتداع .
__________
(1) انظر زاد المعاد 1/271 فما بعدها .
(2) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 4/211 ، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 4/460-461 ، سنن النسائي 3/248 ، سنن ابن ماجة 1/370 .
(3) سنن البيهقي 2/209 .
(4) سنن النسائي 3/248 ، الخلاصة 1/455 .
(5) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 4/461 ، إرواء الغليل 2/172 .
(6) نيل الأوطار 4/10 .
(7) انظر السنن والمبتدعات ص 62 ، القول المبين ص 132 ، المسجد في الإسلام ص 247
(8) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 4/224 ، الخلاصة 1/461 .
(9) المجموع 3/501 ، وانظر روضة الطالبين 1/360 .
(10) السنن الكبرى 2/212 .(/40)
وأما الحديث الذي أشار إليه البيهقي فهو ما رواه أبو داود في سننه بسنده عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم ) قال أبو داود روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية وهذا الطريق أمثلها وهو ضعيف أيضاً(1).
وقد علق الشيخ الألباني على هذه الرواية :( فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم ) فقال :[ وعلى ذلك فهذه الزيادة منكرةٌ ولم أجد لها حتى الآن شاهداً ... ] ثم قال :[ ... لا يصلح شاهداً للزيادة حديث ابن عمر مرفوعاً :( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه ) لأن فيه متهماً بالوضع - أي الكذب - وقال أبو زرعة : حديثٌ منكرٌ أخاف أن لا يكون له أصل ] (2).
وروى البيهقي بسنده عن علي الباشاني قال : سألت عبد الله بن المبارك عن الذي إذا دعا مسح وجهه ، قال : لم أجد له ثبتاً أي مستنداً (3).
[ وسئل الإمام مالك عن الرجل يمسح بكفيه وجهه عند الدعاء ، فأنكر ذلك وقال : ما علمت ] (4).
وقال المروزي : [ وأما أحمد بن حنبل ، فحدثني أبو داود قال : سمعت أحمد وسئل عن الرجل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ من الوتر ، فقال : لم أسمع فيه بشيء . ورأيت أحمد لا يفعله ] (5).
وأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن سؤال حول مسح الوجه عند الدعاء فقال : [ وأما رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه في الدعاء فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة . وأما مسح وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان لا يقوم بهما حجة ] (6).
وقال العز بن عبد السلام :[ ولا يمسح وجهه بيديه عقب الدعاء إلا جاهل ] (7).
وأما مسح غير الوجه بعد الدعاء كالصدر فلم يؤثر فيه شيء من حديث أو أثر كما قال د. بكر أبو زيد فقد حقق مسألة مسح الوجه وما يتعلق بها تحقيقاً موسعاً وأجاد فيه وأفاد (8).
وقال الإمام النووي : [ قلت : لا يستحب مسح غير وجهه قطعاً ، بل نص جماعة على كراهته ] (9).
المبحث السادس
بدع الجمعة
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أذان الجمعة :
ومن البدع ما يفعله المؤذنون من الصلاة والسلام على رسول الله قبل أذان الجمعة الثاني الذي يكون بين يدي الخطيب حيث إن المؤذن يبدأ بقراءة الآية الكريمة :( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (10) وبعد ذلك يشرع في الأذان .
وهذه بدعة وتشريع بغير دليل ولم ينقل ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أمر بذلك أحداً من مؤذنيه ولم يفعله أئمة الهدى من الصحابة والتابعين وقد نص الحافظ ابن حجر العسقلاني بأن ما أحدث قبل أذان الجمعة من الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس من جملة الأذان وليس كذلك لا لغة ولا شرعاً (11).
وقال ابن الحاح : [ وينبغي له - أي الإمام - أن ينهى المؤذنين عما أحدثوه من أن الإمام إذا خرج على الناس في المسجد يقوم المؤذنون إذ ذاك ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكررون ذلك مراراً حتى يصل إلى المنبر وإن كانت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل العبادات ] (12).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : [ والسنة في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي عليه سراً كالدعاء ، أما رفع الصوت بها قدام بعض الخطباء فمكروهٌ أو محرمٌ اتفاقاً ] (13).
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل مؤذن يقول عند دخول الخطيب إلى الجامع :( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... ) فقال رجل : هذا بدعة فما يجب عليه ؟
فأجاب : جهر المؤذن بذلك كجهره بالصلاة والترضي عند رقي الخطيب المنبر أو جهره بالدعاء للخطيب والإمام ونحو ذلك لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين ولا استحبه أحدٌ من الأئمة ، وأشدُ من ذلك الجهر بنحو ذلك في الخطبة وكل ذلك بدعة والله أعلم ) (14) .
وذكر الشيخ ابن حجر المكي أن الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الأذان ليس من السنة ومن أتى بها معتقداً بسنيتها في ذلك المحل المخصوص ينهي عنه ويمنع منه
__________
(1) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 4/251 .
(2) السلسلة الصحيحة 2/146 .
(3) السنن الكبرى 2/212 .
(4) كتاب الوتر للمروزي ص 236 نقلاً عن الأجزاء الحديثية ص 83 .
(5) كتاب الوتر ص 236 ، نقلاً عن الأجزاء الحديثية ص 84.
(6) مجموع الفتاوى 22/ 519 .
(7) فتاوى العز بن عبد السلام ص392 .
(8) الأجزاء الحديثية ص 43-103.
(9) روضة الطالبين 1/360 ، وانظر الفتح الرباني 3/316 .
(10) سورة الأحزاب الآية 56 .
(11) فتح الباري 2/232 ، وانظر الإبداع ص 168 .
(12) المدخل 2/424 .
(13) الاختيارات العلمية ص 48 .
(14) الفتاوى الكبرى 1/129 .(/41)
لأنه تشريع بغير دليل ومن شرع بلا دليل يزجر عن ذلك وينهى عنه (1) .
المسألة الثانية : نداء المؤذن بين يدي خطيب الجمعة بالحديث النبوي : ( إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ):
من البدع المنتشرة في كثير من المساجد يوم الجمعة أن المؤذن بعد انتهائه من الأذان الثاني - وهو الذي يكون بين يدي الخطيب - ينادي بالحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ) وهذا الحديث ثابت وصحيح فقد رواه البخاري ومسلم (2)، ولكن مناداة المؤذن به في كل جمعة بدعة ليس لها مستند من الشرع . فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أحداً من مؤذنيه أن ينادي بهذا الحديث بين يديه - صلى الله عليه وسلم - ولو فعل ذلك لنقل وكذا لم ينقل عن أئمة الهدى من الصحابة والتابعين .
وتسمى هذه البدعة وما قبلها الترقية قال الشيخ الألباني عند ذكره لبدع الجمعة :
[ الترقية ، وهي تلاوة آية :( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...) ثم حديث ( إذا قلت لصاحبك ... ) يجهر بذلك المؤذنون عند خروج الخطيب حتى يصل إلى المنبر ] (3).
قال الشيخ علي محفوظ :[ ومن البدع ما يقع عقب هذا الأذان عند المنبر مما يسمى بالترقية وهو تلاوة آية :( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...) ثم حديث :( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغوت ) رواه البخاري ، ولا شك أنه من البدع المذمومة ، ففي الدر المختار أنها بدعةٌ مكروهةٌ تحريماً عند أبي حنيفة لا عند أبي يوسف ومحمد ، وأما التأمين عند الدعاء والترضي عن الصحابة والدعاء للسلطان فمكروهٌ اتفاقاً . وفي البحر : اعلم أن ما تعورف من أن المرقي للخطيب يقرأ الحديث النبوي وأن المؤذنين يؤمنون عند الدعاء ويدعون للصحابة بالترضي وللسلطان بالنصر إلى غير ذلك فكله حرام على مقتضى مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، وأغرب منه أن المرقي ينهى عن الأمر بالمعروف بمقتضى الحديث الذي يقرؤه ثم يقول : أنصتوا رحمكم الله ، ولم أرَ نقلاً في وضع هذا المرقي في كتب أئمتنا .
وفي كتب السادة المالكية : ومن البدع المكروهة التي ابتدعها أهل الشام وهم بنو أمية الترقية وما يقوله المرقي من : صلوا عليه ، وآمين ، ورضي الله عنهم ، فهو مكروه وكذا قوله الحديث عند فراغ المؤذن قبل الخطبة ] (4).
وقال ابن الحاج : [ وينهى ... عما أحدثه من ندائه عند إرادة الخطيب الخطبة بقوله للناس : أيها الناس صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :( إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت ) أنصتوا رحمكم الله ] (5).
وقد يقول قائل إن ما يقوم به المؤذن من المناداة بهذا الحديث هي من باب تذكير المصلين حتى يكفوا عن الكلام أثناء خطبة الجمعة .
والجواب : إن المناداة بهذا الحديث صارت من شعائر صلاة الجمعة ، بحيث إن المؤذن يحافظ عليها محافظة شديدة وقد اعتقد أكثر العامة أنه جزء من صلاة الجمعة وأذكر أن أحد خطباء الجمعة أنكر في مستهل خطبة الجمعة على المؤذن مناداته بالحديث بين يدي ذلك الخطيب فما كان من المصلين إلا أن أنكروا على الخطيب اعتراضه مع أن الخطيب هو المصيب والمتبع للسنة والمؤذن هو المخطئ والمبتدع .
ويقال أيضاً إن تذكير المصلين لا يكون باتخاذ هذا الحديث شعاراً ينادى به في كل جمعة والتذكير والتعليم يقوم بهما إمام الجمعة في خطبة الجمعة فإنه إن رأى أحداً يتكلم أثناء الخطبة طلب منه السكوت وذكر للناس الحكم الشرعي في الكلام أثناء الخطبة .
وقد قال جمهور أهل العلم بمنع جميع أنواع الكلام أثناء خطبة الجمعة لهذا الحديث ولغيره من الأحاديث التي تنهى عن الكلام أثناء الخطبة (6).
قال الإمام النووي :[ قال القاضي : قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وعامة العلماء يجب الإنصات للخطبة ... ] (7).
المسألة الثالثة : دعاء المؤذن عند جلوس الخطيب بين الخطبتين :
__________
(1) الفتاوى الكبرى الفقهية 1/131 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 3/65 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 2/453 .
(3) الأجوبة النافعة ص 67 .
(4) الإبداع ص 168-169 .
(5) المدخل 2/425 .
(6) فتح الباري 3/66 .
(7) شرح النووي على صحيح مسلم 2/453 .(/42)
قال الشيخ القاسمي : [ ومن المقرر في الفروع أن الخطيب إذا ارتقى المنبر فلا تبتدأ صلاة ولا يجهر بدعاء وذلك تأهباً لسماع الخطبة وإجلالاً للمقام ، وتخشعاً لهذه العبادة الأسبوعية ، وهذا معلوم من موضوع الاحتفال لأداء فريضة الجمعة وقد اتفق الفقهاء على الحظر من الجهر بالذكر أو الاستغفار أو الدعاء أو النداء في تلك الحالة اتفاقاً لا خلاف فيه استدلالاً بما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت ). فأثبت له اللغو بذلك مع أنه ينهى عن منكر فكيف بمن لا يكون قوله كذلك لا جرم أنه أشد منه لغواً وإثماً . إذا تحقق ذلك تبين أن ما يقوله بعض المؤذنين يوم الجمعة بين يدي الخطيب إذا جلس من الخطبة الأولى : غفر الله لك ولوالديك ولنا ولوالدينا والحاضرين ... الخ منكر يلزم إنكاره لأنه ذكر غير مشروع في وقت هو وقت الصمت أو التفكر القلبي للاتعاظ فتفريق جمعية قلوب الحاضرين برفع الصوت بذلك والجرأة على الجهر به في هذا الموضوع الرهيب لا يختلف فقيه في نكارته فلذلك يلزم الخطيب ومن قدر على إزالته أن ينهى عنه أسوة كل منكر والله أعلم ] (1).
المسألة الرابعة : رفع الخطيب يديه عند الدعاء في الخطبة :
الدعاء خلال خطبة الجمعة من السنة فيدعو الخطيب للمسلمين والمسلمات ويستغفر لهم (2) ، فقد روي في الحديث عن سمرة بن جندب :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات كل جمعة ) رواه الطبراني في الكبير والبزار بإسناد ضعيف كما قال الهيثمي ، وقال الحافظ ابن حجر : رواه البزار بإسناد لين (3).
ولكن رفع الخطيب يديه أثناء الدعاء ليس من السنة بل هو بدعة عند كثير من أهل العلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يشير بإصبعه إذا دعا ] (4).
وقال العلامة ابن القيم :[ وكان - صلى الله عليه وسلم - يشير بإصبعه السبابة في خطبته عند ذكر الله سبحانه وتعالى ودعائه ] (5).
ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث أن عمارة بن رؤيبة رأى بشر بن مروان رفع يديه في الخطبة فقال :[ قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يزيد أن يقول بيده هكذا وأشار بإصبعه المسبِّحة ] رواه مسلم(6).
قال الإمام النووي :[ هذا فيه أن السنة أن لا يرفع اليد في الخطبة ] (7).
وقال الشيخ خليل السهارنفوري :[ وحاصله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يخطب على المنبر ما يشير إلا بإلإصبع السبابة وما يشير بيديه فالإشارة باليدين خلاف السنة فهو مكروه ] (8).
وقال أبو شامة المقدسي : [ وأما رفع أيديهم عند الدعاء فبدعة قديمة ] (9).
وقال جلال الدين السيوطي : [ ... ورفع أيديهم عند الدعاء فبدعة قبيحة ] (10).
المبحث السابع
بدع العيدين
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قول المؤذن عند المناداة لصلاة العيد العبارة التالية : [ الصلاة جامعة على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان يا أمة الهادي عليه السلام ] ويكررها ثلاثاً :
وهذا النداء بدعة ، وتوضيح ذلك من وجوه :
الأول : من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العيدين بدون أذان ولا إقامة فقد صح في الحديث عن ابن جريح قال أخبرني عطاء عن جابر وابن عباس رضي الله عنهم قالا :( لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى ) رواه البخاري ومسلم (11).
وزاد مسلم :[ ثم سألته بعد حين فأخبرني قال : أخبرني جابر بن عبد الله الأنصاري أن لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج ولا إقامة ولا نداء ولا شيء ، لا نداء يومئذ ولا إقامة ].
وأما المناداة لصلاة العيدين بقولهم :( الصلاة جامعة ) فلم تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بخبر مرسل وهو ما رواه الشافعي عن الزهري أنه قال : وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر في العيدين المؤذن أن يقول : الصلاة جامعة ) وذكره البيهقي عن الشافعي أيضاً وهو مرسل ضعيف كما قال النووي (12).
وقال الإمام النووي بعد أن ذكره :[ ويغني عن هذا الحديث الضعيف القياس على صلاة الكسوف فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة فيها :
__________
(1) إصلاح المساجد ص 70 ، وانظر الأجوبة النافعة ص 69.
(2) انظر المجموع 4/521 .
(3) مجمع الزوائد 2/ 190-191 ، سبل السلام 2/57 ، وانظر إعلاء السنن 8/75.
(4) الاختيارات العلمية ص 48 .
(5) زاد المعاد 1/428
(6) صحيح مسلم بشرح النووي 6/162 .
(7) شرح النووي على صحيح مسلم 6 /162 .
(8) بذل المجهود 6/106 .
(9) الباعث ص 142 .
(10) الأمر بالاتباع ص 247 .
(11) صحيح البخاري مع الفتح 3/105 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 2/482 .
(12) الأم 1/235 ، معرفة السنن والآثار 5/64 ، المجموع 5/14 .(/43)
منها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال :( لما كسفت الشمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودي بالصلاة جامعة ) سيوفي رواية :( أن الصلاة جامعة ) رواه البخاري ومسلم .
وعن عائشة رضي الله عنها :( أن الشمس خسفت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث منادياً الصلاة جامعة ) رواه البخاري ومسلم .
ويستحب أن يقال الصلاة جامعة لما ذكرناه من القياس على الكسوف ...](1).
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكره :[ وهذا مرسل يعضده القياس على صلاة الكسوف لثبوت ذلك فيها ] (2).
وقد أجاب العلماء على هذا الاستحباب بأن الحديث مرسل ضعيف كما ذكره الإمام النووي ، وبأنه لم يثبت ذلك من هدي الرسول- صلى الله عليه وسلم - .
قال الإمام مالك إنه سمع غير واحد من علمائهم يقول : لم يكن في عيد الفطر ولا في الأضحى نداء ولا إقامة منذ زمان رسول الله إلى اليوم ، قال مالك :[ وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا ] (3).
وقال ابن القيم :[ وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول : الصلاة جامعة ، والسنة أنه لا يفعل شيء من ذلك ] (4).
وقال الشيخ ابن قدامة :[ وقال بعض أصحابنا : ينادى لها : الصلاة جامعة وهو قول الشافعي ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع ] (5).
وقال الشيخ محمود خطاب السبكي :[ وما روي من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن أن يقول الصلاة جامعة فهو مرسل عن الزهري ضعيف كما ذكره النووي فلا تقوم به حجة .
وما قيل من أنه يقال فيها ذلك قياساً على الكسوف لا يعول عليه لأن محل القياس مسألة لم يعلم فيها نص ، وصلاة العيد تكررت منه - صلى الله عليه وسلم - في مجمع من الصحابة ، ومثل هذا تتوفر الدواعي على نقله تواتراً فلا محل للقياس فيه . وروى مسلم عن عطاء عن جابر قال : ( أخبرني جابر أن لا أذان لصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا ما بعد يخرج ولا إقامة ولا شيء) وهو بعمومه يشمل نفي قولهم الصلاة جامعة ونحوها ] (6).
ولم يرتض الصنعاني هذا القياس فقال :[ وأما القول بأنه يقال في العيد عوضاً عن الأذان " الصلاة جامعة " فلم ترد به سنة في صلاة العيدين . قال في الهدى النبوي : وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة : أي صلاة العيد من غير أذان ولا إقامة ولا قول الصلاة جامعة ، والسنة أن لا يفعل شيء من ذلك ، وبه يعرف أن قوله في الشرح : ويستحب في الدعاء إلى الصلاة في العيدين وغيرهما مما لا يشرع فيه أذان كالجنازة : الصلاة جامعة ، غير صحيح إذ لا دليل على الاستحباب ولو كان مستحباً لما تركه - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون من بعده ، نعم ثبات ذلك في صلاة الكسوف لا غير ، ولا يصح فيه القياس ، لأن ما وجد سببه في عصره - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله ففعله بعد عصره بدعة فلا يصح إثباته بقياس ولا غيره ] (7).
وقال الشيخ الصاوي :[ تنبيه لا ينادى الصلاة جامعة أي لا يندب ولا يسن بل مكروه أو خلاف الأولى لعدم ورود ذلك فيها فبالكراهة صرح في التوضيح وقال : ابن ناجي وابن عمر إنه بدعة وما ذكره الخرشي من أنه جائز هنا فغير صواب بل ما ورد ذلك إلا في صلاة الكسوف ومحل كونه مكروهاً أو خلاف الأولى إن اعتقد مطلوبية ذلك وأما مجرد قصد الإعلام فلا بأس به ] (8) وما قاله أخيراً غير مسلّم .
ونقل الحطاب عن ابن ناجي في شرح الرسالة قوله :[ الذي تلقيناه من مشايخنا أن مثل هذا اللفظ بدعة لعدم وروده ] (9).
ويمكن أن يقال إن صلاة الكسوف قد ثبتت المناداة لها بالصلاة جامعة حيث إن الكسوف يحدث فجأة فيحتاج إلى مناداة الناس وتنبيههم إلى الصلاة .
وأما صلاة العيد فوقتها معلوم والناس يجتمعون لها فلا حاجة فيها لهذا النداء والله أعلم .
الثاني : إن قول المؤذن بأن الصلاة تقام على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بدعة ما أنزل الله بها من سلطان وهذا التقييد للصلاة بأنها على مذهب أبي حنيفة تقييد باطل ما جاء به الشرع فلم يعهد عن أبي حنيفة ولا عن غيره من الأئمة المتبوعين أنهم يقييدون الصلاة بأن تكون على مذهبهم ولا أعتقد أن أبا حنيفة لو كان حياً يرضى بذلك .
والأصل أن الصلاة تكون كما كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - القائل :[ صلوا كما رأيتموني أصلي ] رواه البخاري (10) .
ومن المعلوم أن أبا حنيفة وغيره من الأئمة هم أتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليس النبي - صلى الله عليه وسلم - تابعاً لواحد منهم .
__________
(1) المجموع 5/14 ، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 2/483 .
(2) فتح الباري 3/104 .
(3) موطأ مالك 1/160 .
(4) زاد المعاد 1/442 .
(5) المغني 2/281 .
(6) المنهل العذب المورود 6/325 .
(7) سبل السلام 1/123 .
(8) بلغة السالك 1/175 .
(9) مواهب الجليل 2/570 .
(10) صحيح البخاري مع الفتح 2/252 .(/44)
ومن العجيب الغريب أنهم يزعمون أن الصلاة على مذهب أبي حنيفة ثم يخالفونه في مسألة مشهورة وهي الجهر بالبسملة في الصلاة وقد صليت أكثر من مرة في مسجد كبير ينادى فيه لصلاة العيد بالعبارة المذكورة ثم صلى إمام المسجد صلاة العيد وخالف مذهب أبي حنيفة فجهر بالبسملة في أربعة مواضع من صلاة العيد قبل قراءة الفاتحة وقبل السورة في الركعة الأولى وكذلك فعل في الركعة الثانية .
مع أنه من المعلوم أن مذهب أبي حنيفة الإسرار ببسم الله الرحمن الرحيم في هذه المواضع .
قال صاحب المختار :[ ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ويخفيها ثم إن كان إماماً جهر بالقراءة في الفجر والأوليين من المغرب والعشاء وفي الجمعة والعيدين ] (1).
الثالث : إن الالتزام بأداء صلاة العيد على مذهب أبي حنيفة والذي ينص على أن التكبيرات الزوائد ثلاث في الأولى بعد تكبيرة الإحرام ثم يقرأ الفاتحة وسورة وفي الركعة الثانية يبدأ بالقراءة ثم يكبر التكبيرات الثلاث الزوائد وتكبيرة للركوع (2).
إن هذه الكيفية مرجوحة عند المحققين من العلماء والراجح هو مذهب جمهور أهل العلم أنه يكبر سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية وتكون التكبيرات الزوائد قبل القراءة في الركعتين ويدل على ذلك ما يلي :
1. عن عائشة رضي الله عنها :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمس ) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني : صحيح (3).
2. وعن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة وفي الآخرة خمساً قبل القراءة ) رواه الترمذي ثم قال :[ حديث جد كثير حديث حسن وهو أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه عمرو بن عوف المزني ، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهكذا روي عن أبي هريرة أنه صلى بالمدينة نحو هذه الصلاة وهو قول أهل المدينة وبه يقول مالك بن أنس والشافعي وأحمد وإسحاق ] (4).
وصححه الشيخ الألباني (5).
3. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :( التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما ) رواه أبو داود ، وقال الإمام النووي :[ رواه أبو داود وآخرون بأسانيد حسنة فيصير بمجموعها صحيحاً . قال الترمذي في كتاب العلل : سألت البخاري عنه فقال : هو صحيح ) (6) وقال الشيخ الألباني : هو صحيح (7).
وغير ذلك من الأحاديث .
قال ابن القيم :[ وكان - - صلى الله عليه وسلم - - يبدأ بالصلاة قبل الخطبة فيصلى ركعتين يكبر في الأولى سبع تكبيرات متوالية بتكبيرة الافتتاح ... فإذا فرغ من القراءة كبر وركع ثم إذا أكمل الركعة وقام من السجود كبر خمساً متوالية فإذا أكمل التكبير أخذ في القراءة فيكون التكبير أول ما يبدأ به في الركعتين والقراءة يليها الركوع ] (8).
وهذا هو مذهب أكثر العلماء فقد نقل عن جماعة من الصحابة كعائشة وعمر وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وجابر وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ونقل عن غيرهم أيضاً .
وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز والزهري والمزني والأوزاعي وإسحاق ومكحول والليث (9).
وقال الحافظ ابن عبد البر :[ وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كبر في العيدين سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية من طرق حسان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ... ومن حديث جابر ... ومن حديث عائشة ... ومن حديث عمرو بن عوف ... ومن حديث ابن عمر ... ومن حديث أبي واقد الليثي كلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ] (10).
وقال الشيخ المباركفوري بعد أن ذكر ما احتج به الحنفية :[ ... فلا يصلح هذا الحديث للاستدلال وليس في هذا حديث مرفوع صحيح في علمي والله تعالى أعلم ... فالأولى للعمل هو ما ذهب إليه أهل المدينة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم لوجهين :
الأول : أنه قد جاء فيه أحاديث مرفوعة عديدة وبعضها صالح للاحتجاج والباقية مؤيدة لها .
وأما ما ذهب إليه أهل الكوفة فلم يرد فيه حديث مرفوع غير حديث أبي موسى الأشعري وقد عرفت أنه لا يصلح للاحتجاج .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 1/50 .
(2) الاختيار لتعليل المختار 1/86 .
(3) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 4/5 ، صحيح سنن أبي داود 1/213 ، إرواء الغليل 3/107 .
(4) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 3/65-67 .
(5) صحيح سنن الترمذي 1/166 .
(6) الخلاصة 2/831 .
(7) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 4/6 ، صحيح سنن أبي داود 1/213 .
(8) زاد المعاد 1/443-444 .
(9) المجموع 5/16 ، المغني 2/282 ، فتح المالك 3/347 ، عون المعبود 4/10 ، نيل الأوطار 3/339-340 .
(10) فتح المالك 3/346-347 .(/45)
والوجه الثاني : أنه قد عمل به أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقد تقدم في كلام الحافظ الحازمي أن أحد الحديثين إذا كان عمل به الخلفاء الراشدون دون الثاني فيكون آكد وأقرب إلى الصحة وأصوب بالأخذ... ] (1). ثم ذكر قول الحنفية ثم قال :[ ليس يروى عن النبي- صلى الله عليه وسلم - من وجه قوي ولا ضعيف مثل قول هؤلاء ... ] . ويضاف إلى ما سبق أن الأخذ بمذهب الحنفية في هذه المسألة يوقع كثيراً من المصلين في الخطأ أثناء الصلاة وذلك في الركعة الثانية حيث إن الإمام يبدؤها بالقراءة فيقرأ الفاتحة ثم سورة ثم يكبر التكبيرة الأولى من التكبيرات الثلاث الزوائد فيظن كثير من المصلين أنها تكبيرة الركوع فيركعون وعندما يكبر الإمام التكبيرة الثانية من الزوائد يعلمون أنها لم تكن للركوع فيرفعون . فيحدث بسبب ذلك أخطاء في الصلاة وبلبلة في صفوف المصلين .
وأخيراً يقال إن الناس معتادون في هذه البلاد على تقليد مذهب الشافعي في جميع الصلوات وأئمة المساجد ملتزمون بهذا التقليد فتراهم في صلاة الفجر يقنتون كما هو مذهب الشافعي فلماذا في صلاة العيد ينتقلون لمذهب أبي حنيفة ؟! إنها التقاليد الموروثة منذ زمن الدولة العثمانية .
المسألة الثانية : فرقة التكبير وما تقوم به من أمور مبتدعة :
وتوضيح ذلك أن مجموعة من المؤذنين والقراء يجلسون على شكل حلقة ثم يبدؤون بالتكبير الجماعي ويرددون بعض الأذكار ثم يصيح أحدهم في نهاية كل وصلة تكبير بصوت مرتفع الفاتحة ، وهكذا يعيدون الكرة مرة بعد مرة ثم ينقطعون فيتلو أحد القراء آيات من القرآن الكريم ثم يعودون إلى التكبير ويصيح أحدهم الفاتحة وهكذا دواليك وتستمر المجموعة في الزعق والصياح إلى أن يحين موعد الصلاة فيقوم أحدهم وينادي بقوله :[ الصلاة جامعة على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان يا أمة الهادي عليه السلام ].
وهذه الأمور مبتدعة وبيان ذلك فيما يلي :
إن أصل التكبير مشروع في العيدين وهو من السنن الثابتة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - وهو نوعان عند أهل العلم .
الأول : التكبيرات الزوائد في صلاة العيد .
الثاني : التكبير في غير صلاة العيد وهو قسمان :
القسم الأول : التكبير المرسل أو المطلق وهو الذي لا يتقيد بحال بل يؤتى به في المنازل والمساجد والطرق ليلاً ونهاراً وفي غير ذلك .
القسم الثاني : المقيد وهو الذي يقصد الإتيان به في أدبار الصلوات وهو مشروع في عيد الأضحى دون عيد الفطر لأنه لم ينقل عن النبي- صلى الله عليه وسلم - (2).
ومن الأحاديث الثابتة في التكبير ما جاء في الحديث عن محمد بن أبي بكر الثقفي قال : ( سألت أنساً ونحن غادون من منى إلى عرفات عن التلبية كيف كنتم تصنعون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : كان الملبي يلبي لا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه ) رواه البخاري (3).
وعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت :( كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها حتى نخرج الحيض فيكنَّ خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته ) رواه البخاري ومسلم (4).
قال الإمام النووي :[ وقولها :( يكبرن مع الناس ) دليل على استحباب التكبير لكل أحد في العيدين وهو مجمع عليه ] (5).
وقال الإمام البخاري :[ باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة وكان عمر - رضي الله عنه - يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً ، وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه وتلك الأيام جميعاً وكانت ميمونة تكبر يوم النحر وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد ] (6).
إذا ثبت هذا فإن التكبير في جملته مشروع فأما قراءة القرآن بين كل وصلة من التكبيرات فلم يرد في ذلك أثر وإنما كان الصحابة يقتصرون على التكبير فقط وما كانوا يقولون بعد انتهاء وصلة التكبير ( الفاتحة )،
فإن هذه بدعة فليس هذا المقام محلاً لقراءة الفاتحة وسيأتي تفصيل الكلام على هذه البدعة عند الكلام على البدع المتعلقة بقراءة القرآن الكريم.
المبحث الثامن
بدع الجنائز
تشييع الجنازة واتباعها وحضور دفنها من السنن الثابتة عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : ( حق المسلم على المسلم خمس ، ردُّ السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس ) رواه البخاري ومسلم (7).
__________
(1) تحفة الأحوذي 3/71 .
(2) المجموع 5/31-32 .
(3) صحيح البخاري مع الفتح 3/114-115 .
(4) صحيح البخاري مع الفتح 3/115 ، صحيح مسلم بشرح النووي 2/485 .
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 2/485 .
(6) صحيح البخاري مع الفتح 3/114 .
(7) صحيح البخاري مع الفتح 3/356 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/319-320 .(/46)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ).
ويقول :( والذي نفسي بيده ما توادَّ اثنان فيفرَّق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ).
وكان يقول :( للمسلم على المسلم ست يشمته إذا عطس ويعوده إذا مرض وينصحه إذا غاب أو شهد ويسلّم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه ويتبعه إذا مات ) رواه أحمد بإسناد حسن كما قال الشيخ الألباني (1).
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
( خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة ، من عاد مريضاً وشهد جنازة وصام يوماً وراح إلى الجمعة وأعتق رقبة ) رواه ابن حبان وقال الشيخ الألباني صحيح (2).
وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه كان قاعداً عند ابن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال : يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة ؟ يقول : إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها واتبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر كل قيراط مثل أحد ومن صلَّى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد ).
فأرسل ابن عمر خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره بما قالت وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول فقال : قالت عائشة صدق أبو هريرة فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يديه الأرض ثم قال : لقد فرطنا في قراريط كثيرة ) . رواه مسلم (3).
وعن ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من صلى على جنازة فله قيراط وإن شهد دفنها فله قيراطان ، القيراط مثل أحد ) رواه مسلم (4).
وجاء في الحديث أيضاً عن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل : وما القيراطان ، قال : مثل الجبلين العظيمين ) رواه البخاري ومسلم (5).
وينبغي للمسلم الذي يحضر الجنازة عند تشييعها ودفنها ، أن يستذكر مصيبة الموت وأن يتعظ ويتفكر في هذا الميت ، وأن حال هذا المشيع سيصير إلى مثل ما صار إليه الميت ، وهذا التذكر يدفع الإنسان إلى محاسبة النفس والنظر والتفكر في أحواله ، فإن كان محسناً ازداد إحساناً وإن كان مسيئاً رجع وثاب إلى الرشد ، وهذا التفكر والاتعاظ مقصود من حضور الجنائز فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكّركم الآخرة ) رواه أحمد وابن حبان وصححه وقال الهيثمي : رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات (6)1)، وقال الشيخ الألباني : إسناده حسن (7)2).
وقد روي في الحديث :( أنه عليه الصلاة والسلام ، كان إذا اتبع جنازة أكثر الصمت ، ورؤي عليه الكآبة وأكثر حديث النفس ) رواه وكيع في الزهد وابن المبارك في الزهد أيضاً والطبراني وذكره السيوطي (8)3)، وله شاهد صحيح . فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال :( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فانتهينا إلى القبر فجلس كأن على رؤوسنا الطير ) رواه ابن ماجة ، وقال الشيخ الألباني : صحيح (9).
وقال الفضيل بن عياض :[ كانوا إذا اجتمعوا في جنازة يعرف فيهم ثلاثة أيام ]. ورأى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - رجلاً يضحك في جنازة فقال :
[ أتضحك مع الجنازة ! لا أكلمك أبداً ].
وكره العلماء أن يتكلم أحد في الجنازة ولا بقول القائل : استغفروا لأخيكم ، فقد سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً في جنازة يصيح ويقول : استغفروا لأخيكم ، فقال ابن عمر : لا غفر الله لك.
وسُئل سفيان بن عيينة عن السكوت في الجنازة وماذا يجيء به ؟ قال :
[ تذكر به حال يوم القيامة ، ثم تلا قوله تعالى : ( وَخَشَعَتْ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) ] (10).
وقال قتادة :[ بلغنا أن أبا الدرداء - رضي الله عنه - نظر إلى رجل يضحك في جنازة فقال له : أما كان فيما رأيت من هول الموت ما يُشغلك عن الضحك ].
وكان مطرف يلقى الرجل من خاصة أهله في الجنازة فعسى أن يكون غائبا فما يزيده على السلام ثم يعرض عنه اشتغالاً بما هو فيه .
__________
(1) صحيح الترغيب والترهيب 3/369 .
(2) صحيح الترغيب والترهيب 3/369 .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 3/16-17.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 3/16-17.
(5) صحيح البخاري مع الفتح 3/440-441 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/14-15 .
(6) الفتح الرباني 19/162 ، صحيح ابن حبان 7/221 ، مجمع الزوائد 3/29 .
(7) أحكام الجنائز ص 67 .
(8) الزهد لابن المبارك ص 82 ، مجمع الزوائد 3/29 ، الأمر بالاتباع ص 252 .
(9) انظر صحيح سنن ابن ماجة 1/259 ، وانظر المشكاة 15/537 .
(10) سورة طه الآية 108 .(/47)
ذكر هذه الآثار السيوطي (1) ثم قال :[ فهذا خوف هؤلاء السادات من الموت فأما اليوم فغالب من تراه يشهد الجنازة يلهون ويضحكون ، وما يتكلمون إلا في ميراثه وما خلفه لورثته ](2).
وقال الإمام النووي رحمه الله :[ يستحب له - أي الماشي مع الجنازة - أن يكون مشتغلاً بذكر الله تعالى والفكر فيما يلقاه وما يكون مصيره وحاصل ما كان فيه ، وأن هذا آخر الدنيا ومصير أهلها ، وليحذر كل الحذر من الحديث بما لا فائدة فيه ، فإن هذا وقت فكر وذكر يقبح فيه الغفلة واللهو والاشتغال بالحديث الفارغ ، فإن الكلام بما لا فائدة فيه منهيٌ عنه في جميع الأحوال فكيف هذا الحال .
واعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف رضوان الله عليهم السكوت في حال السير مع الجنازة ، فلا يرفع صوتاً بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك ، والحكمة فيه ظاهرة وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال ، فهذا هو الحق ولا تغترنّ بكثرة من يخالفه ، فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض - رضي الله عنه - ما معناه : الزم طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين ] (3).
وبعد أن بينت ما هي السنة في تشييع الجنازة أذكر بعض البدع والمخالفات التي تقع في الجنائز وفي ذلك مسائل :
المسألة الأولى : رفع الصوت بالذكر أثناء تشييع الجنازة :
كقول أحدهم : وحدوا الله . فيجيبه المشيعون بقولهم : لا إله إلا الله .
وكقول بعضهم : استغفروا لأخيكم ، ونحو ذلك من العبارات وهذه بدعة لأن هذه الأذكار ليس محلها حال تشييع الجنازة وقد كرهها كثير من العلماء .
ذكر أبو شامة المقدسي عن سعيد بن المسيب أنه قال في مرضه :[ إياي وحاديهم هذا الذي يحدو لهم يقول : استغفروا لأخيكم ] وكرهه الحسن والنخعي وابن جبير وأحمد وإسحاق وقال البيهقي :[ وروينا عن سعيد والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي أنهم كرهوا أن يقال في الجنازة استغفروا له غفر الله لكم ] (4).
وقال الشيخ علي محفوظ :[ ومن البدع السيئة الجهر بالذكر أو بقراءة القرآن أو البردة أو دلائل الخيرات ونحو ذلك .
وكل هذا مكروه للإجماع على أن السنة في تشييع الجنازة السكوت وجمع الفكر للتأمل في الموت وأحواله وعليها عمل السلف رضوان الله عليهم](5).
ويلحق بهذه البدعة ما تعارف عليه كثير من الناس في زماننا هذا أثناء نقل الميت بسيارة مخصصة لنقل الموتى من قراءة القرآن الكريم بواسطة آلة تسجيل في السيارة مع تركيب جهاز مكبر للصوت وقراءة آيات مخصوصة من القرآن الكريم .
كما وأنهم اعتادوا على أن يكتبوا آيات معينة من القرآن الكريم على السيارات الخاصة بنقل الموتى .
وأما تشييع الجنائز على أنغام الموسيقى الحزينة ورفع الأعلام وحمل أكاليل الورود وحمل صور الميت وحمل بعض الأموات على عربة مدفع فكل ذلك من الأمور الممنوعة شرعاً .
المسألة الثانية : بدعة التلقين بعد الدفن :
بعد دفن الميت وتسوية القبر عليه يقوم رجل ويلقن الميت بقوله :[ كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، الموت باب وكل الناس داخله الموت كأس وكل الناس شاربه واعلم يا عبد الله وابن أمته أنك مت وأن الموت حق وأن دخول القبر حق وأن الجنة حق وأن النار حق وأن سؤال الملكين حق ، فإذا جاءك الملكان الموكلان بك وبالناس أجمعين فلا يزعجاك ولا يرعباك واعلم أنهما خلق من خلق الله كما أنت خلق من خلقه، فإذا سألاك ما ربك ، وما قبلتك ، وما دينك ، وما منهاجك ، وما الذي عشت ومت عليه ؟ فقل لهما بلسان طلق لبق من غير تلجلج ولا وجل ولا خوف منهما ولا جزع فقل لهما الله ربي حقاً ، الله ربي حقاً ، الله ربي حقاً ، ومحمد نبيي صدقاً ، وإبراهيم الخليل أبي وملته ملتي والكعبة قبلتي ، وعشت ومت على قول لا إله إلا الله ، محمد رسول الله فإذا عادا وسألاك ثانيةً ماذا تقول في الرجل المبعوث فينا وفيكم وفي الخلق أجمعين فاعلم أنهما يعنيان النبي محمد- صلى الله عليه وسلم - فقل لهما هو نبينا وشفيعنا ورسولنا محمد أتانا بالحق دين الهدى فاتبعناه وآمنا برسالته وصدقناه آمين آمين آمين ، يا مؤنس كل وحيد ويا حاضراً لست تغيب آنس اللهم وحدته وارحم غربته ولقنه حجته وعرِّفه نبيه .
__________
(1) الأمر بالاتباع ص253-255 .
(2) الأمر بالإتباع ص 255 .
(3) الأذكار ص 136 وانظر يسألونك 3/41-43 .
(4) الباعث ص 150 ، وانظر الأمر بالاتباع ص 253-254 ، سنن البيهقي 4/74 .
(5) الإبداع ص 222 .(/48)
اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته اللهم أبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله ونقه من خطاياه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس واغسله بالماء والثلج والبرد ووسع مدخله وأكرم نزله اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده ، واغفر لنا وله وللمسلمين ] ثم يقول الملقن للناس : انصرفوا مأجورين والتعزية من السنة يرحمكم الله .
وهذا التلقين مبتدع وليس له سند من السنة عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - وقد نص على أنه بدعة طائفة من أهل العلم ، قال العز بن عبد السلام :[ لم يصح في التلقين شيء وهو بدعة وقوله - صلى الله عليه وسلم - :( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) محمول على من دنا موته ويئس من حياته ] (1).
ونُقِل عن الإمام مالك القول بكراهة التلقين بعد الموت (2).
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي :[ فأما التلقين بعد الدفن فلم أجد فيه عن أحمد شيئاً ولا أعلم فيه للأئمة قولاً سوى ما رواه الأثرم قال : قلت لأبي عبد الله : فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت : يقف الرجل ويقول : يا فلان ابن فلان اذكر ما فارقت عليه شهادة أن لا إله إلا الله ؟! فقال : ما رأيت أحداً فعل هذا إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة جاء إنسانٌ فقال ذلك ، قال : وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه ... ] (3).
وقال الشيخ المرداوي بعد أن ذكر أن مذهب الحنابلة إثبات التلقين بعد الدفن : [ ... والنفس تميل إلى عدمه ... ] (4).
وقال شمس الحق العظيم آبادي :[ والتلقين بعد الموت قد جزم كثير أنه حادث ] (5).
وقال العلامة ابن القيم :[ ولم يكن يجلس - أي الرسول - صلى الله عليه وسلم - - يقرأ عند القبر ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم ] (6).
وقد احتج المثبتون للتلقين بعد الدفن بما روي في الحديث عن جابر بن سعيد الأزدي قال :[ دخلت على أبي أمامة وهو في النزع فقال لي : يا أبا سعيد إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصنع بموتانا فإنه قال : إذا مات الرجل منكم فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه فليقل : يا فلان ابن فلانة ! فإنه يستوي قاعداً فليقل : يا فلان ابن فلانة فإنه سيقول أرشدني رحمك الله فليقل : اذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا : شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول له ما نصنع عند رجل قد لقن حجته ؟ فيكون الله حجيجهما دونه ] قال الشيخ الألباني : منكر ، أخرجه القاضي الخلعي في الفوائد 55/2 . قلت - أي الألباني -:[ وهذا إسناد ضعيفٌ جداً لم أعرف أحداً منهم غير عتبة بن السكن . قال الدار قطني : متروك الحديث . وقال البيهقي : واهٍ منسوبٌ إلى الوضع . والحديث أورده الهيثمي وقال :[ رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده جماعة لم أعرفهم ].
فالعجب من قول الحافظ في التلخيص بعد أن عزاه للطبراني : وإسناده صالح .... فأنى لهذا الإسناد الصلاح والقوة وفيه هذا الرجل المجهول ؟! بل فيه جماعة آخرون مثله في الجهالة … ثم ذكر الشيخ الألباني أن النووي وابن الصلاح والحافظ العراقي وابن القيم قد ضعفوا الحديث (7).
وقال العلامة ابن القيم بعد أن ساق الحديث :[فهذا حديث لا يصح رفعه] (8). وذكر ابن علان قول الحافظ ابن حجر بعد تخريج حديث أبي أمامة: [ هذا حديث غريب وسند الحديثين من الطريقين ضعيفٌ جداً ] (9).
وقال الصنعاني :[ ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف والعمل به بدعة ولا يغتر بكثرة من يفعله ] (10).
وقال الشيخ الألباني :[ واعلم أنه ليس للحديث ما يشهد له ، وكل ما ذكره البعض إنما هو أثر موقوف على بعض التابعين الشاميين لا يصلح شاهداً للمرفوع بل هو يعله وينزل به من الرفع إلى الوقف وفي كلمة ابن القيم السابقة ما يشير إلى ما ذكرته عند التأمل ، على أنه شاهد قاصر إذ غاية ما فيه : أنهم كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره : يا فلان قل لا إله إلا الله ، قل أشهد أن لا إله إلا الله " ثلاث مرات " قل : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد .
__________
(1) فتاوى العز بن عبد السلام ص 427 .
(2) نقله صاحب كفاية الطالب الرباني نقلاً عن الآيات البينات للألوسي ص 63 .
(3) المغني 2/377 .
(4) الإنصاف 2/549 .
(5) عون المعبود 8/268 .
(6) زاد المعاد 1/522 .
(7) السلسلة الضعيفة 2/64-65 .
(8) زاد المعاد 1/523 .
(9) الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 4/196 .
(10) سبل السلام 2/234 .(/49)
فأين فيه الشهادة على بقية الجمل المذكورة في الحديث مثل "ابن فلانة " و"أرشدني " وقول الملكين "ما نصنع عند رجل " ... وجملة القول أن الحديث منكر عندي إن لم يكن موضوعاً .... ولا يرد هنا ما اشتهر من القول بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال فإن هذا محله فيما ثبت مشروعيته بالكتاب أو السنة الصحيحة ، وأما ما ليس كذلك فلا يجوز العمل فيه بالحديث الضعيف لأنه تشريع ولا يجوز ذلك بالحديث الضعيف لأنه لا يفيد إلا الظن المرجوح اتفاقاً فكيف يجوز العمل بمثله ؟! فليتنبه لهذا من أراد السلامة في دينه فإن الكثيرين عنه غافلون نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق ] (1).
وقد احتج المثبتون للتلقين بما جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) رواه مسلم (2).
وهذا الحديث ليس فيه التلقين بعد الموت وبعد الدفن وإنما هو في التلقين عند الاحتضار .
قال الإمام النووي :[ قوله :( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) معناه من حضره الموت والمراد ذكروه لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه كما في الحديث :( من كان آخر كلامه لا إله الله دخل الجنة ) والأمر بهذا التلقين أمر ندب وأجمع العلماء على هذا التلقين ] (3).
وسبق كلام العز بن عبد السلام أن هذا الحديث محمولٌ على من دنا موته ويئس من حياته .
وقال صاحب الهداية الحنفي :[ ولُقن الشهادتين لقوله - صلى الله عليه وسلم - :( لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله ) والمراد الذي قرب من الموت ] (4).
ومما يؤيد تفسير الميت بالمحتضر كما ذهب إليه كثير من أهل العلم ما ورد في الحديث عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ) رواه أبو داود والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وحسنه الشيخ الألباني (5).
ومما يؤيد ذلك أيضاً ما جاء في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فإنه من كان آخر كلمته لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه) رواه ابن حبان والبزار وقال محقق صحيح ابن حبان : حديث صحيح (6).
والمشروع عند الانتهاء من دفن الميت هو الاستغفار للميت والدعاء له ، قال العلامة ابن القيم : [ وكان - أي الرسول- صلى الله عليه وسلم - - إذا فرغ من دفن الميت قام على قبره هو وأصحابه وسأل له التثبيت وأمرهم أن يسألوا له التثبيت ] (7).
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عثمان- رضي الله عنه - قال : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال النووي إسناده جيد وصححه الألباني أيضاً (8).
فيجوز الوقوف عند قبر الميت بعد دفنه وإهالة التراب عليه للاستغفار والدعاء له بل ذلك مستحب كما دل عليه الحديث السابق ولم يرد في بيان صفة الاستغفار والدعاء للميت بعد الدفن حديث يعتمد عليه فيما نعلم وإنما ورد الأمر بمطلق الاستغفار والدعاء له بالتثبيت فيكفي في أمثال هذا الأمر أي صفة استغفار ودعاء له كأن يقول : اللهم اغفر له وثبته على الحق ونحو ذلك (9).
المسألة الثالثة : قراءة الختمة للأموات :
من البدع المنتشرة في أيامنا هذه ما يفعله عامة الناس بعد دفن ميتهم إذ يجلسون بعد صلاة العصر في يوم الوفاة ويومين بعده فيقرؤون السور الأخيرة من القرآن الكريم ابتداءً من سورة الضحى إلى سورة الناس ثم يقرؤون سورة الفاتحة وفواتح سورة البقرة وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة وبعض الآيات الأخرى ثم يأتون ببعض الأذكار ويهللون مئة مرة ونحو ذلك .
وهنالك بعض المشايخ المتخصصين في القراءة على الأموات الذين يحترفون هذا العمل فيحضرونهم ومعهم مكبرات الصوت فيقرؤون الختمة بأجر متفق عليه وبعد الانتهاء يأكلون ما أعد لهم من طعام أو حلويات ويشربون القهوة والشاي وغيرها ، ويفعلون هذه البدعة ثلاثة أيام اعتباراً من يوم الدفن ، ثم يفعلونها ثلاثة أيام خميس تالية ثم في الأربعين وبعضهم يفعلها في ذكرى مرور سنة على وفاة الميت وبعضهم يزيد على ذلك .
وهذه كلها من البدع المخالفة لهدي الرسول- صلى الله عليه وسلم - وبيان ذلك فيما يلي :
__________
(1) سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/65 .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 2/519 .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 2/519 .
(4) الهداية 2/68 .
(5) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/267 ، المستدرك 2/175 ، إرواء الغليل 3/149
(6) صحيح ابن حبان 7/272 .
(7) زاد المعاد 1/522 .
(8) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 9/30 ، سنن البيهقي 4/56 ، المستدرك ؟؟ ، المجموع 5/292 ، صحيح سنن أبي داود 2/620 .
(9) فتاوى إسلامية 1/308 .(/50)
أولاً : لم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه رضوان الله عليهم فعل مثل ذلك فهذه الختمة طريقة مبتدعة في قراءة القرآن وفي الذكر .
ثم إن تخصيص هذه الأوقات وهي ثلاثة أيام من يوم الدفن وثلاثة أيام خميس ويوم الأربعين ، بهذه الختمة وهذه الأذكار لم يقم عليه دليل من الشرع ولا يصح عند العلماء تخصيص زمان معين بعبادة معينة إلا بدليل شرعي ولا دليل على ذلك .
ثانياً : إن أهل العلم متفقون على أنه لا يجوز التكسب بالقرآن الكريم وهذا التكسب واضح في الأجور التي تدفع لجماعة المقرئين والذين يحددون الأسعار بناء على حالة الميت وأهله من حيث الغنى والفقر فهذه الأموال التي يأخذها هؤلاء الذين يتكسبون بالقرآن محرمة عليهم ويدل على ذلك ما يلي :
1. ما جاء في الحديث عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال :( علمت ناساً من أهل الصفة القرآن والكتاب فأهدى إليَّ رجل منهم قوساً فقلت : ليست بمال وأرمي بها في سبيل الله ، لآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأسألنه فأتيته ، فقلت : يا رسول الله رجل أهدى إليَّ قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله تعالى قال : إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها ) رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقي وصححه الشيخ الألباني (1).
وجاء في رواية أخرى عند أبي داود أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : ( جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها ) (2).
2. وعن عمران بن حصين أنه مرَّ على قارئ يقرأ ثم سأل ، فاسترجع ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن ، وحسنه الشيخ الألباني (3).
3. وعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال :( خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً ونحن نقترئ فقال : الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض وفيكم الأسود اقرؤه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوَّم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله ) رواه أبو داود ولأحمد نحوه ، وقال الشيخ الألباني : حسن صحيح (4).
وقوله يقيمونه كما يقوم السهم أي يبالغون في القراءة كمال المبالغة لأجل الرياء والسمعة والمباهاة والشهرة (5).
وهذه الأحاديث تدل على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على مجرد قراءة القرآن وقد نص أهل العلم على ذلك ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وأما الاستئجار لنفس القراءة والإهداء فلا يصح ذلك ... فلا يجوز إيقاعها إلا على وجه التقرب إلى الله تعالى وإذا فعلت بعروض لم يكن فيها أجر بالاتفاق لأن الله تعالى إنما يقبل من العمل ما أريد به وجهه لا ما فعل لأجل عروض الدنيا ... وأما إذا كان لا يقرأ إلا لأجل العروض فلا ثواب لهم على ذلك وإذا لم يكن في ذلك ثواب فلا يصل إلى الميت ... ] (6).
ونقل ابن عابدين عن الفتاوى التاترخانية أن دفع الأجرة للقارئ باطل (7).
وذكر ابن عابدين أيضاً عن بعض الحنفية قوله :[ يمنع القارئ للدنيا والآخذ والمعطي آثمان ] (8).
ونقل أيضاً عن بعض الحنفية :[ وبالجملة الممنوع بيع الثواب ونية القراءة لأجل المال غير صحيحة بل هو رياء لقصده أخذ العوض في الدنيا .
ثم قال : والحاصل أن ما شاع في زماننا من قراءة الأجزاء بالأجرة لا يجوز لأن فيه الأمر بالقراءة وإعطاء الثواب للآمر والقراءة لأجل المال فإذا لم يكن للقارئ ثواب لعدم النية الصحيحة فأنى يصل الثواب إلى المستأجر ولولا الأجرة ما قرأ أحدٌ لأحدٍ في هذا الزمان بل جعلوا القرآن العظيم مكسباً ووسيلةً إلى جمع الدنيا إنا لله وإنا إليه راجعون … ] (9).
المسألة الرابعة : إحياء ذكرى الأربعين :
من البدع المنتشرة في بلادنا وغيرها إحياء ذكرى الأربعين أي أربعون يوماً على موت فلان ففي يوم الأربعين يجددون الأحزان ويعلنون عن ذلك اليوم للملأ وأحياناً يتم الإعلان بالصحف ويدعون الناس للحضور ويعملون ختمة للميت ثم يتناولون ما لذ وطاب من الطعام ، وهذه الأمور من البدع المنكرة .
__________
(1) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 9/203 ، سنن ابن ماجة 2/730 ، سنن البيهقي 6/125 ، صحيح سنن أبي داود 2/655 .
(2) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 9/205 .
(3) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 8/189 ، صحيح سنن الترمذي 3/10 .
(4) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 3/42 ، الفتح الرباني 15/126 ، صحيح سنن أبي داود 1/157 .
(5) عون المعبود 3/42 .
(6) مجموع الفتاوى 24/315-316 .
(7) رسالة شفاء العليل ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين 1/168 .
(8) المصدر السابق 1/175 .
(9) المصدر السابق 1/180 .(/51)
[ والأصل الأصيل لهذه المآتم أنها من مخترعات قدماء المصريين بل هو من أهم معتقداتهم فقد كانوا إذا مات فيهم أحدٌ دفنوه ثم يعودون إليه بعد أربعين يوماً لينظروا حال جسده فإن كانت الأرض قد أثرت في جسده فأبلته ظنوا أن روحه قد حلت في شيء حقير وذلك لسوء عمله وإذا لم تؤثر الأرض في جسده ظنوا أن روحه قد حلت في شيء عظيم فيصنعون عنده الطعام والشراب اعتقاداً منهم بعودته إلى الحياة مرة أخرى ومما لا شك فيه أن هذا المعتقد باطل من جهة الشرع والعقل ] (1).
وينبغي أن يعلم أنه ليس من منهج الإسلام تجديد الأحزان مرة بعد مرة بل إن بعض العلماء قد كرهوا التعزية بعد ثلاث ، قال الإمام النووي : [ قال أصحابنا وتكره التعزية بعد الثلاثة لأن المقصود منها تسكين قلب المصاب والغالب سكونه بعد الثلاثة فلا يجدد له الحزن ] (2).
كما أن أهل الميت يتكلفون إعداد الطعام والشراب لهؤلاء الناس المجتمعين في الأربعين وهذا قد يكلفهم كثيراً من المال وقد يؤدي ذلك إلى ضياع أموال الأيتام مما هو مخالف للشرع .
وقد نص كثير من العلماء على بدعية هذه الأربعين وذكرى مرور سنة أو أكثر على وفاة الميت ، وقد بين الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقاً بدعية ذلك فقال :[ إن إقامة مأتم ليلة الأربعين بدعة سيئة مذمومة شرعاً وإن عامة الناس يحرصون على إقامة مأتم ليلة الأربعين فيعلنون عنه في الصحف ويستأجرون القراء ويفد المعزون ولا سند لشيء من ذلك في الشريعة الغراء فلم يكن من هدي النبوة ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم ولا من المأثور عن التابعين إقامة هذا المأتم بل لم يكن معروفاً عند جمهور المسلمين وإنما هو أمر استحدث أخيراً ابتداعاً لا اتباعاً وفيه من الابتداع ما نُهي عنه شرعاً وفيه إضاعة الأموال في غير سبيلها المشروع وفيه مع ذلك تجديد الحزن وتكرير العزاء وهو مكروه شرعاً ](3).
وقال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي الديار السعودية جواباً على سؤال حول أصل الذكرى الأربعينية ما نصه :[ الأصل فيها أنها عادة فرعونية كانت لدى الفراعنة قبل الإسلام ثم انتشرت عنهم وسرت في غيرهم وهي بدعة منكرة لا أصل لها في الإسلام يردها ما ثبت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ )] (4).
المسألة الخامسة : بدعة التأبين :
من البدع المنتشرة في بلادنا إقامة حفلات التأبين للميت وخاصة إذا كان الميت ذا مكانة رفيعة في المجتمع فيعين يوم للاحتفال بتأبينه وتوزع رقاع الدعوة فإذا حانت ساعة الاحتفال استهله قارئ بتلاوة آيات من الذكر الحكيم وفي أحيان أخرى استهلوه بالوقوف دقيقة لذكرى الميت أو قراءة الفاتحة على روحه ، ثم تلقى الكلمات والخطب .
وهذا الاحتفال بدعة تدور بين الكراهة والحرمة والغالب عليها التحريم لما يقع فيها من المخالفات الشرعية والكذب في وصف حال الميت ومدح الفسقة تاركي الصلاة ووصفهم بأوصاف عظيمة ويزداد الأمر سوءاً عندما يكون المؤبن المادح من المنتسبين للعلم الشرعي المتزيين بزي المشايخ فيذكرون في الميت من الأوصاف جلها من الكذب الصراح وفيها تزوير للحقائق كقولهم إن الأمة قد خسرت بموته خسارة لا تعوض وأن العلم قد تيتم وأنه قد قضى حياته في أعمال البر والتقوى ويعددون من المحاسن ما هو كذب وافتراء محض فالناس يعلمون أن الميت كان على العكس من ذلك فقد كان معلوماً من أمره ترك الصلوات وما دخل المسجد وإلا وهو في النعش (5).
وذكر الشيخ علي محفوظ أنه لما توفي الخليفة ببغداد أيام الملك الصالح عمل الملك له عزاءً جمع فيه الأكابر والأعيان والقراء والشعراء فأنشد بعض الشعراء في مرثيته:
مات من كان بعض أجناده الموت ومن كان يختشيه القضاء
فأنكر عليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى وأمر بتأديبه وحبسه وأقام بعد التعزير في الحبس زماناً طويلاً ثم استتابه بعد شفاعة الأمراء والرؤساء فيه وأمره أن ينظم قصيدة يثني فيها على الله تعالى كفارة لما تضمنه شعره من التعرض للقضاء بقوله : من كان بعض أجناده الموت ، تعظيماً لشأن هذا الميت ، وأن مثله ما كان ينبغي أن يخلو منه منصب الخلافة ومتى تأتي الأيام بمثل هذا ونحو ذلك .
وقوله : يختشيه القضاء ، يشير إلى أن الله تعالى كان يخاف منه وهذا كفرٌ أو قريبٌ منه ، رحم الله الشيخ فهكذا تكون الرجال وهكذا تكون العلماء وحسبك أن الله تعالى وصف الشعراء بقوله :( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ) هي أودية الهجاء المحرم ونحوه مما لا يحل قوله ] (6).
__________
(1) الأربعين والخمسين والذكرى السنوية ص 12 .
(2) المجموع 5/306 .
(3) فتاوى شرعية 2/262-263 باختصار .
(4) فتاوى إسلامية 1/312 ، وانظر الإبداع ص 230 .
(5) انظر الإبداع ص 242-243 .
(6) الإبداع ص 243 .(/52)
والتأبين بدعة سواء كان قبل الدفن حيث يقف المشيعون على المقبرة فيقوم المؤبنون بإلقاء الكلمات أو كان التأبين بعد الدفن مباشرة أو في ذكرى الأربعين أو غير ذلك .
كما أن افتتاح الاحتفال بالوقوف دقيقة حداداً على الميت أمر غير جائز شرعاً وقد أجاب العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي الديار السعودية عن سؤال يتعلق بالوقوف حداداً مع الصمت تحيةً للأموات فأجاب : [ ما يفعله بعض الناس من الوقوف زمناً مع الصمت تحية للشهداء أو الوجهاء أو تشريفاً وتكريماً لأرواحهم من المنكرات والبدع المحدثة التي لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد أصحابه ولا السلف الصالح ولا تتفق مع آداب التوحيد ولا إخلاص التعظيم لله بل اتبع فيها بعض جهلة المسلمين بدينهم من ابتدعها الكفار وقلدوهم في عاداتهم القبيحة وغلوهم في رؤسائهم ووجهائهم أحياءً وأمواتاً وقد نهى النبي- صلى الله عليه وسلم - عن مشابهتهم .
والذي عرف في الإسلام من حقوق أهله الدعاء لأموات المسلمين والصدقة عنهم وذكر محاسنهم والكف عن مساويهم إلى كثير من الآداب التي بينها الإسلام وحث المسلم على مراعاتها مع إخوانه أحياءً وأمواتاً وليس منها الوقوف حداداً مع الصمت تحية للشهداء أو الوجهاء بل هذا مما تأباه أصول الإسلام ] (1).
المسألة السادسة : وضع جريد النخيل والزهور والورود على القبور :
اعتاد كثير من الناس أن يضعوا جريد النخيل على القبور وخاصة في يومي العيد عند زيارتهم للقبور وبعضهم يضع أكاليل الزهور والورود على القبور في يومي العيد وفي غيرهما كما اعتاد كثير من الناس أن يحملوا أكاليل الورود في الجنازة ثم بعد الدفن توضع على القبر .
وبعضهم وخاصة من الحكام وأتباعهم يذهبون إلى ما يسمى نصب الجندي المجهول أو نصب زعيم أو كبير فيضعون عليه أكاليل الزهور ، وهذه كلها من البدع والمحدثات وبيان ذلك بما يلي :
إن حمل أكاليل الورود في الجنازات ووضعها على القبر بعد الدفن ما هو إلا تقليد أعمى لغير المسلمين وكذلك وضع الأكاليل على ما يسمى نصب الجندي المجهول أو نصب الشهداء أو قبور الزعماء هو تقليد لغير المسلمين وقد نهينا عن تقليدهم .
وقد يستدل بعضهم على جواز وضع الجريد على القبور بما جاء في الحديث عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( أنه مر بقبرين يعذبان فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ثم غرز في كل قبر واحدة فقالوا : يا رسول الله لم صنعت هذا ؟ فقال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) رواه البخاري ومسلم (2).
والاستدلال بهذا الحديث على أن وضع الجريد على القبور مشروع غير مسلم ، قال الإمام الخطابي :[ وأما غرسه - - صلى الله عليه وسلم - - شق العسيب على القبر وقوله ( ولعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي ودعائه بالتخفيف عنهما وكأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل مدة بقاء النداوة فيهما حداً لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنها وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنىً ليس في اليابس والعامة في كثير من البلدان تفرش الخوص في قبور موتاهم وأراهم ذهبوا إلى هذا وليس لما تعاطوه من ذلك وجه والله أعلم ] (3).
وما قاله الخطابي يدل على أن وضع الجريد على القبر خاص بالنبي- صلى الله عليه وسلم - لأن الله سبحانه وتعالى أعلمه أن الميتين يعذبان في قبرهما ولا أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم هل الأموات يعذبون في قبورهم أم ينعمون ؟ لأنه لا وحي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال ابن الحاج :[ فالجواب عن قوله عليه الصلاة والسلام :( لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) راجع إلى بركة ما وقع من لمسه عليه الصلاة والسلام لتلك الجريدة وقد نص على ذلك الإمام الطرطوشي رحمه الله في كتاب " سراج الملوك " له ، لمَّا ذكر هذا الحديث فقال عقبه : وذلك لبركة يده عليه الصلاة والسلام وما نقل عن واحد من الصحابة رضي الله عنهم فلم يصحبه عمل باقيهم رضي الله عنهم إذ لو فهموا ذلك لبادروا بأجمعهم إليه ولكان يقتضي أن يكون الدفن في البساتين مستحباً ] (4).
وذكر صاحب عون المعبود أن مما يؤيد ما ذهب إليه الخطابي :[ ما ذكره مسلم في آخر الكتاب في الحديث الطويل حديث جابر في صاحبي القبر فأحببت بشفاعتي أن يرفع ذلك عنهما ما دام العودان رطبين ] (5).
__________
(1) فتاوى إسلامية 1/311 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 3/468 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 1/532 .
(3) معالم السنن 1/18 .
(4) المدخل 3/294-295 .
(5) عون المعبود 1/25 .(/53)
وقال الشيخ أحمد محمد شاكر معقباً على كلام الخطابي المذكور سابقاً : [ وصدق الخطابي وقد ازداد العامة إصراراً على هذا العمل الذي لا أصل له وغلوا فيه خصوصاً في بلاد مصر تقليداً للنصارى حتى صاروا يضعون الزهور على القبور ويتهادونها بينهم فيضعها الناس على قبور أقاربهم ومعارفهم تحيةً لهم ومجاملةً للأحياء وحتى صارت عادة شبيهة بالرسمية في المجاملات الدولية فتجد الكبراء من المسلمين إذا نزلوا بلدةً من بلاد أوروبا ذهبوا إلى قبور عظمائها أو إلى قبر من يسمونه الجندي المجهول وضعوا عليها الزهور وبعضهم يضع الزهور الصناعية التي لا نداوة فيها تقليداً للإفرنج واتباعاً لسنن من قبلهم ولا ينكر ذلك عليهم العلماء أشباه العامة بل تراهم أنفسهم يصنعون ذلك في قبور موتاهم ولقد علمت أن أكثر الأوقاف التي تسمى أوقافاً خيريةً موقوفٌ ريعها على الخوص والريحان الذي يوضع في القبور وكل هذه بدع ومنكرات لا أصل لها في الدين ولا مستند لها من الكتاب والسنة ويجب على أهل العلم أن ينكروها وأن يبطلوا هذه العادات ما استطاعوا ] (1).
وقال الشيخ أحمد محمد شاكر أيضاً :[ والصحيح أن وضع الجريدة كان خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وخاصاً بهذين القبرين بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها إلا هذه المرة ولم يفعلها أصحابه لا في حياته ولا بعده وهم أفهم للدين وأحرص على الخير ] (2).
وقال الشيخ محمود خطاب السبكي :[ ولم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام فعل هذا الوضع على قبر أحد غير هذين فدل ذلك على أنها واقعة حال وشفاعة خاصة وليست سنة عامة ويدل على ذلك أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة غير بريدة ولا سيما الخلفاء الراشدين أنه وضع جريداً ولا غيره على القبور ولو كان ذلك سنة ما تركه أولئك الأئمة وقد قال- صلى الله عليه وسلم - :
( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ) الحديث رواه المصنف - أي أبو داود - وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والترمذي وقال حديث حسن صحيح .
وحجة بريدة - رضي الله عنه - ليست حجة على غيره كما هو معلوم فما قاله الخطابي ومن ذكر معه هو الأولى ولا سيما أن غالب الناس اعتقد في وضع الجريدة ونحوه اعتقاداً تأباه الشريعة المطهرة كما هو معروف من حالهم ونطقهم ] (3). وأثر بريدة الذي أشار إليه السبكي هو ما ذكره البخاري تعليقاً : [ وأوصى بريدة الأسلمي أن يجعل في قبره جريدتان ] (4).
قال الحافظ ابن حجر :[ وقد وصله ابن سعد من طريق مورق العجلي ... وكأن بريدة حمل الحديث على عمومه ولم يره خاصاً بذينك الرجلين قال ابن رشيد :[ ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما فلذلك عقبه بقول ابن عمر إنما يظله عمله ] (5).
وذكر الإمام العيني أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يرى أن وضع الجريد على القبرين خاص بهما (6).
وقال الشيخ محمد رشيد رضا عن حديث الجريدتين [ فإنه واقعة حال في أمرٍ غيبي غير معقول المعنى والظاهر أنه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - ] (7).
وقال الشيخ الألباني :[ لو كانت النداوة مقصودة بالذات لفهم ذلك السلف الصالح ولعملوا بمقتضاه ولوضعوا الجريد والآس ونحو ذلك على القبور عند زيارتها ولو فعلوا لاشتهر ذلك عنهم ثم نقله الثقات إلينا لأنه من الأمور التي تلفت النظر وتستدعي الدواعي نقله فإذ لم ينقل دل على أنه لم يقع وأن التقرب به إلى الله بدعة ... ] (8).
وأجابت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على السؤال المتعلق بوضع الجريد على القبور ونصه :[ قال ابن عباس : مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال :( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة . ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة ، قالوا : يا رسول الله : لم فعلت ؟ قال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) رواه البخاري .
فهل يصح لنا الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ؟ وهل يجوز وضع ما شابه الجريدة من الأشياء الرطبة الخضراء قياساً على الجريدة أو يجوز غرس شجرة على القبر لتكون دائمة الخضرة لهذا الغرض ؟
__________
(1) تعليق الشيخ أحمد شاكر على سنن الترمذي 1/103 .
(2) تعليق الشيخ أحمد شاكر على إحكام الأحكام 1/107 .
(3) المنهل العذب المورود 1/83-84 .
(4) صحيح البخاري مع الفتح 3/465 .
(5) فتح الباري 3/466 .
(6) عمدة القاري 6/252 .
(7) تفسير المنار 8/264 .
(8) أحكام الجنائز ص 201 .(/54)
الجواب : إن وضع النبي- صلى الله عليه وسلم - الجريدة على القبرين ورجاءه تخفيف العذاب عمن وضعت على قبرهما واقعة عين لا عموم لها في شخصين أطلعه الله على تعذيبهما وأن ذلك خاص برسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأنه لم يكن منه سنة مطردة في قبور المسلمين وإنما كان مرتين أو ثلاثاً على تقدير تعدد الواقعة لا أكثر ولم يعرف فعل ذلك عن أحد من الصحابة وهم أحرص المسلمين على الاقتداء به- صلى الله عليه وسلم - وأحرصهم على نفع المسلمين إلا ما روي عن بريدة الأسلمي : أنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان ولا نعلم أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم وافق بريدة على ذلك ، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ] (1).
ويجب أن يعلم أنه ليس من منهج الإسلام في إكرام الشهداء الذين يستشهدون في سبيل الله إقامة ما يسمى بنصب الشهداء أو نصب الجندي المجهول أو نحو ذلك من المسميات فهذه أمور مبتدعة ووافدة إلى ديار الإسلام .
المسألة السابعة : زيارة القبور يومي العيدي :
جرت عادة كثير من الناس زيارة القبور يومي العيد ويكون ذلك بعد انتهاء صلاة العيد فيخرجون من المساجد - حيث إنهم يصلون العيد في المساجد والسنة أن تصلى في مصلى العيد وهو غير المسجد - فيذهبون إلى المقابر لزيارتها رجالاً ونساءً ويحملون معهم الحلويات والقهوة والشاي والزهور والورود ويضعون جريد النخل على القبور ويختلط الرجال بالنساء وتنتهك الحرمات ويهان الأموات بالجلوس على القبور وكل ذلك على خلاف السنة النبوية وبيان ذلك فيما يلي :
إن الأصل في زيارة القبور أنها سنة مشروعة ثابتة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت في الحديث عن بريدة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) رواه مسلم (2).
وفي رواية لأبي داود :( نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها تذكرة ) قال الشيخ الألباني : صحيح (3).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( زوروا القبور فإنها تذكر الموت ) رواه مسلم (4)، وغير ذلك من الأحاديث .
فزيارة القبور سنة ثابتة ولكن الشارع الحكيم لم يخصص زماناً معيناً لزيارتها فتخصيص يومي العيد لزيارتها بدعة مكروهة لأنه تخصيص للعبادة بوقت معين بدون دليل شرعي . وقد تكون حراماً إذا رافقتها الأمور المنكرة التي تقع في أيامنا هذه من خروج النساء متبرجات واختلاطهن بالرجال ويضاف إلى ذلك انتهاك حرمات الأموات من الجلوس على القبور ووطئها بالأقدام .
قال ابن الحاج :[ ومن عادته الذميمة - أي إبليس - أنه لا يأمر بترك سنة حتى يعوض لهم عنها شيئاً يخيل إليهم أنه قربة عوَّض لهم عن سرعة الأوبة زيارة القبور قبل أن يرجعوا إلى أهليهم يوم العيد وزين لهم ذلك وأراهم أن زيارة القبور من الموتى في ذلك اليوم من باب البر وزيادة الود لهم وأنه من قوة التفجع عليهم إذ فقدهم في مثل هذا العيد .
وفي زيارة القبور في غير هذا اليوم من البدع المحرمات ما تقدم ذكره في زيارة القبور فكيف به في هذا اليوم الذي فيه النساء يلبسن ويتحلين ابتداء ويتجملن فيه بغاية الزينة مع عدم الخروج فكيف بهن في الخروج في هذا اليوم فتراهن يوم العيد على القبور متكشفات قد خلعن جلباب الحياء عنهن فبدل لهم موضع السنة محرماً ومكروهاً ... ] (5).
قلت رحم الله ابن الحاج إذا كان هذا ما وصفه في زمانه من أحوال النساء فكيف لو رأى ما يحصل في زماننا من تهتك وعري وانحلال وفساد فإنا لله وإنا إليه راجعون. ويضاف إلى ذلك أن النساء ممنوعات من زيارة القبور على الراجح من أقوال أهل العلم فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( لعن الله زائرات القبور ) رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وابن حبان وقال محققه إسناده حسن ، وقال الشيخ الألباني : صحيح (6).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :( لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان وقال محققه إسناده صحيح ، وقال الشيخ أحمد شاكر : حسن (7).
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 3/326-327 .
(2) صحيح مسلم مع رشح النووي 3/40 .
(3) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 9/41 ، صحيح سنن أبي داود 2/623 .
(4) صحيح مسلم مع شرح النووي 3/40 .
(5) المدخل 1/280 .
(6) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 4/136 ، سنن ابن ماجة 1/502 ، الفتح الرباني 8/161 ، صحيح ابن حبان 7/452 ، إرواء الغليل 3/232 .
(7) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 9/41 ، سنن الترمذي 2/136 ، سنن النسائي 4/95 ، صحيح ابن حبان 7/454 .(/55)
وعن علي- رضي الله عنه - قال :( خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، فإذا نسوة جلوس فقال : ما يجلسكن ؟ قلن : ننتظر الجنازة ، قال : هل تغسلن ؟ قلن : لا ، قال هل تدلين فيمن يدلي ؟ قلن : لا ، قال : فارجعن مأزورات غير مأجورات ) رواه البيهقي وابن ماجة وفي سنده اختلاف (1).
وغير ذلك من الأحاديث التي دلت على تحريم زيارة النساء للقبور ، فهذه أحاديث صريحة في معناها ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن النساء على زيارة القبور ، واللعن على الفعل من أول الدلائل على تحريمه ، ولا سيما وقد قرنه في اللعن بالمتخذين عليها المساجد والسرج .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :[ فإن قيل فالنهي عن ذلك منسوخ، كما قال أهل القول الآخر ، قيل هذا ليس بجيد ، لأن قوله ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) هذا خطاب للرجال دون النساء فإن اللفظ لفظ مذكر وهو مختص بالذكور ، أو متناول لغيرهم بطريق التبع فإن كان مختصاً بهم فلا ذكر للنساء وإن كان متناولاً لغيرهم كان هذا اللفظ عاماً وقوله: ( لعن الله زوَّارات القبور ) خاص بالنساء دون الرجال ، ألا تراه يقول ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )، فالذين يتخذون عليها المساجد والسرج لعنهم الله ، سواء أكانوا ذكوراً أو إناثاً وأما الذين يزورون فإنما لعن النساء الزوارات دون الرجال ، وإذا كان هذا خاصاً ولم يعلم أنه متقدم على الرخصة كان متقدماً على العام عند عامة أهل العلم كذلك لو علم أنه كان بعدها ] (2).
قال الشيخ أحمد محمد شاكر :[ وقد تأول بعضهم هذا الحديث في لعن زائرات القبور ، فقال الترمذي فيما سيأتي في الجنائز :" وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا قبل أن يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور ، فلماء رخص دخل في رخصته الرجال والنساء . وقال بعضهم إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن " ويشير الترمذي بذلك إلى حديث :( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) رواه مسلم وأبو داود والنسائي . قال في عون المعبود (ج3ص212) " الأمر للرخصة أو للاستحباب وظاهره الإذن في زيارة القبور للرجال. قال الحافظ في الفتح : واختلف في النساء ، فقيل : دخلن في عموم الأذن وهو قول الأكثر ومحله ما إذا أمنت الفتنة ، وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة ، وقيل : الإذن خاص بالرجال ولا يجوز للنساء زيارة القبور ، انتهى ". قال العيني :" وحاصل الكلام أن زيارة القبور مكروهة للنساء بل حرام في هذا الزمان ، ولا سيما نساء مصر ، لأن خروجهن على وجه الفساد والفتنة ، وإن ما رخصت الزيارة لتذكر أمر الآخرة وللاعتبار بمن مضى وللتزهد في الدنيا انتهى ".
هذا قول العيني في منتصف القرن التاسع فماذا يقول لو رأى ما رأينا في منتصف القرن الرابع عشر وإنا لله وإنا إليه لراجعون . والقول الصحيح الذي نرضاه تحريم زيارة القبور على النساء مطلقاً فإن النهي ورد خاصاً بهن والإباحة لفظها عام والعام لا ينسخ الخاص ، بل الخاص حاكم عليه ومقيد له ] (3).
المسألة الثامنةُ : قراءة القرآن على القبور :
يقصد كثير من الناس القبور لزيارتها في يومي العيد كما سبق ويجلسون حول القبر ومعهم المصاحف فيقرؤون ما تيسر من القرآن الكريم وخاصة سورة " يس " .
وقراءة القرآن على القبور من البدع المنتشرة وليست عبادة مشروعة على الصحيح من أقوال أهل العلم حيث إنها لم تثبت عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة رضي الله عنهم .
__________
(1) سنن البيهقي 4/77 ، سنن ابن ماجة 1/503 وانظر ما قاله في الزوائد عن الحديث .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 24/361-360 ، وانظر يسألونك 3/ 46-47 .
(3) تعليق الشيخ أحمد محمد شاكر على سنن الترمذي 2/137-138 .(/56)
قال الشيخ علي محفوظ :[ ومن هذا الأصل العظيم تعلم أن أكثر أفعال الناس اليوم من البدع المذمومة كقراءة القرآن الكريم على القبور رحمة بالميت : تركه النبي- صلى الله عليه وسلم - وتركه الصحابة مع قيام المقتضي للفعل وهو الشفقة بالميت وعدم المانع منه ، فعلى هذا الأصل المذكور يكون تركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة - وكيف يعقل أن يترك الرسول- صلى الله عليه وسلم - شيئاً نافعاً يعود على أمته بالرحمة وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم ، فهل يعقل أن يكون هذا باباً من أبواب الرحمة ويتركه الرسول طول حياته ولا يقرأ على ميت مرة واحدة مع العلم بأن القرآن الحكيم ما نزل للأموات وإنما نزل للأحياء نزل ليكون ترغيباً للمطيع وترهيباً للعاصي ، نزل لتهذيب نفوسنا وإصلاح شؤوننا أنزل الله عز وجل القرآن كغيره من الكتب السماوية ليعمل على طريقه العاملون ويهتدي بهديه المهتدون ، كما قال تعالى :( إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَثبيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) فهل سمعتم أن كتاباً من الكتب السماوية قرئ على الأموات أو أخذت عليه الأجور والصدقات ،
والله يقول لنبيه :( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) لهم أن يتصدقوا على موتاهم لكن لا ثمناً للقرآن ](1).
ومذهب جمهور العلماء على أن القراءة على القبور غير مشروعة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية عنه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ ولا يحفظ عن الشافعي في هذه المسألة كلام لأن ذلك كان عنده بدعة وقال مالك ما علمت أحداً يفعل ذلك فعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه ] (2).
جاء في الشرح الكبير :[ وكره قراءة بعده أي بعد موته وعلى قبره لأنه ليس من عمل السلف ].
وقال الدسوقي معلقاً عليه :[ قوله لأنه ليس من عمل السلف أي فقد كان عملهم التصدق والدعاء لا القراءة ] (3) .
ولم يصح شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قراءة القرآن على القبر بخلاف ما ذكره بعض العلماء في الاستدلال على جواز القراءة عند القبر فمما ذكروه :
1. ما ذكره ابن عابدين عند تعليقه على قول صاحب الدر : قوله " ويقرأ يس "
لما ورد :( من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات ) (4).
فهذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أخرجه الثعلبي في تفسيره من طريق محمد بن أحمد الرياحي ... الخ السند .
وبين الشيخ الألباني أن هذا الإسناد مظلم هالك مسلسل بالعلل ثم بين حال رواته (5).
وتكلم على الحديث أيضاً الحافظ السخاوي وقال إنه لا يصح (6).
2. ما روي في الحديث :( من مرَّ بالمقابر فقرأ :( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) إحدى عشرة مرة ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات ) ، فهذا الحديث قال عنه الشيخ الألباني :[ موضوع أخرجه أبو محمد الخلال في " فضائل الإخلاص " والديلمي في مسند الفردوس … وذكره السيوطي في ذيل الأحاديث الموضوعة ] (7).
وقال الشيخ الألباني أيضاً :[ وأما حديث ( من مرَّ بالمقابر فقرأ :( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) إحدى عشرة مرة ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات ) فهو حديث باطل موضوع ، رواه أبو محمد الخلال في القراءة على القبور والديلمي عن نسخة عبد الله بن أحمد بن عامر عن أبيه عن علي الرضا عن آبائه وهي نسخة موضوعة باطلة لا تنفك عن وضع عبد الله هذا أو وضع أبيه كما قال الذهبي في الميزان وتبعه الحافظ ابن حجر في اللسان ثم السيوطي في ذيل الأحاديث الموضوعة وذكر له هذا الحديث وتبعه ابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة ] (8).
3. ما روي في الحديث ( من زار قبر والديه كل جمعة فقرأ عندهما يس غفر له بعدد كل آية وحرف ).
قال الشيخ الألباني :[ موضوع رواه ابن عدي وأبو نعيم ... وقال ابن عدي : باطل ليس له أصل بهذا الإسناد ... ولهذا أورده ابن الجوزي في الموضوعات من رواية ابن عدي فأصاب ] (9).
__________
(1) الإبداع ص 44 .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم ص 380 ، وانظر الإنصاف 2/557-558، الفروع 2/302.
(3) حاشية الدسوقي 1/423.
(4) حاشية ابن عابدين 2/242-243.
(5) سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/397-398 .
(6) الأجوبة المرضية 1/170 .
(7) سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/452-453 ، وانظر الأجوبة المرضية 1/170 .
(8) أحكام الجنائز ص 193 .
(9) سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/66-67 ، وانظر الأجوبة المرضية 1/171 .(/57)
إذا ثبت هذا فإن المشروع عند زيارة القبور هو السلام على الأموات وتذكر الآخرة والدعاء والاستغفار وأما قراءة القرآن فلا ويدل على ذلك ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هديه - صلى الله عليه وسلم - لزيارة القبور .
قال العلامة ابن القيم :[ فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور ، كان إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم وهذه هي الزيارة التي سنها لأمته وشرعها لهم وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية ) (1).
وهذا الحديث الذي ذكره ابن القيم رواه مسلم عن بريدة ولفظه :( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول - في رواية أبي بكر - : السلام على أهل الديار ).
وفي رواية زهير :( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية ) (2).
وصح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد ) (3) وغير ذلك من الأحاديث .
فإن قيل إنه قد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أوصى إذا دفن أن يُقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها كما ذكره جماعة من أهل العلم في قصة منقولة عن الإمام أحمد (4).
قال العلامة ابن القيم :[ وقال الخلال في الجامع ، كتاب القراءة عند القبور أخبرنا العباس بن محمد الدوري حدثنا يحيى بن معين حدثنا مبشر الحلبي حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال : قال أبي إذا أنا مت فضعني في اللحد وقل : بسم الله وعلى سنة رسول الله وسُنَّ عليَّ التراب سناً واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة فإني سمعت عبد الله بن عمر يقول ذلك ، قال عباس الدوري: سألت أحمد ابن حنبل قلت : تحفظ في القراءة على القبر شيئاً ؟ فقال : لا وسألت يحيى بن معين فحدثني بهذا الحديث .
قال الخلال : وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق حدثني علي بن موسى الحداد وكان صدوقاً ، قال : كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر فقال له أحمد : يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة ، فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي ؟ قال : ثقة ، قال : كتبت عنه شيئاً ، قال : نعم ، فأخبرني مبشر عن عبد الحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها وقال : سمعت ابن عمر يوصي بذلك ، فقال له أحمد فارجع وقل للرجل يقرأ ] (5).
قال الشيخ الألباني :[ فالجواب عنه من وجوه :
الأول : أن في ثبوت هذه القصة عن أحمد نظر ، لأن شيخ الخلال الحسن بن أحمد الوراق لم أجد له ترجمة فيما عندي الآن من كتب الرجال وكذلك شيخه على بن موسى الحداد لم أعرفه وإن قيل في هذا السند أنه كان صدوقاً فإن الظاهر أن القائل هو الوراق هذا وقد عرفت حاله .
الثاني : أنه إن ثبت ذلك عنه فإنه أخص مما رواه أبو داود عنه ، وينتج من الجمع بين الروايتين عنه أن مذهبه كراهة القراءة عند القبر إلا عند الدفن .
الثالث : أن السند بهذا الأثر لا يصح عن ابن عمر ولو فرض ثبوته عند أحمد وذلك لأن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج معدود في المجهولين، كما يشعر بذلك قول الذهبي في ترجمته من الميزان : ما روى عنه سوى مبشر هذا ، ومن طريقه رواه ابن عساكر ... وأما توثيق ابن حبان إياه فمما لا يعتد به لما اشتهر به من التساهل في التوثيق ولذلك لم يعرج عليه الحافظ في التقريب ، حين قال في المترجم : مقبول ، يعني عند المتابعة وإلا فلين الحديث كما نص عليه في المقدمة ومما يؤيد ما ذكرنا أن الترمذي مع تساهله في التحسين لما أخرج له حديثاً آخر وليس له عنده غيره سكت عليه ولم يحسنه !
الرابع : أنه لو ثبت سنده عن ابن عمر فهو موقوف لم يرفعه إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - فلا حجة فيه أصلاً ] (6).
المبحث التاسع
بدعة الاحتفال بموسم النبي موسى عليه السلام
من البدع القديمة والمتجددة الاحتفال بما يسمى بموسم النبي موسى ويكون ذلك في أواخر فصل الشتاء من كل عام وتستمر الاحتفالات أسبوعاً كاملاً .
__________
(1) زاد المعاد 1/526 .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 3/39 .
(3) المصدر السابق 3/35-36 .
(4) المغني 2/422 ، الروح ص 10 .
(5) الروح ص 10 .
(6) أحكام الجنائز ص 192-193 ، وانظر السلسلة الضعيفة 1/67 .(/58)
وكانت الاحتفالات في السابق تأخذ صفة الاحتفال الرسمي إذ كان ولاة الدولة العثمانية يشاركون ويشرفون على هذه الاحتفالات ويحافظون على الأمن والنظام كما أن مفتي القدس الذي كانت تعينه الدولة العثمانية كان له دور واضح في هذه الاحتفالات (1).
وسأنقل وصفاً للاحتفال بموسم النبي موسى كتبه من حضر تلك الاحتفالات في عدة أعوام ، قال د. كامل العسلي تحت عنوان : وصف الاحتفالات بموسم النبي موسى في القرن العشرين " :[ كان موسم النبي موسى عيداً شعبياً عاماً اشترك فيه سكان المدن والقرى في فلسطين وخاصة من مناطق القدس ونابلس والخليل وقرى الجبال وكان هناك برنامج زمني للاحتفالات نظن أنه وضع في جزء منه على الأقل في القرن الأخير بعد أن اشتد التنافس بين أهالي منطقتي نابلس والخليل خاصة في الاشتراك في الاحتفالات وأيهما يكون له مكان السبق والصدارة فيها فتم ترتيب مواعيد لقدوم الزوار ولا نعرف تاريخاً دقيقاً لوضع برنامج الزيارة والمشاركة لمختلف الجهات ولكننا نقول بصورة عامة إن أسبوع موسم النبي موسى كان يحدد وفق عيد الفصح عند المسيحيين الأرثوذكس وكان يأتي في الأسبوع الذي يسبق أسبوع عيد الفصح في كل عام ... ذكرنا هذا لنبين أن موسم النبي موسى يختلف من سنة لأخرى تبعاً لموعد عيد الفصح المتغير بحيث يبدأ قبل أسبوع واحد من يوم الجمعة الحزينة التي تسبق عيد الفصح بيومين ولو أردنا أن نضع بعد ذلك جدولاً زمنياً لاحتفالات النبي موسى لقلنا إن الاحتفالات تبدأ يوم الخميس قبل الجمعة الحزينة بثمانية أيام بقدوم موكب أهالي نابلس وفي يوم الجمعة يبدأ الاحتفال الرسمي بزفة العلم من الحرم الشريف !! إلى النبي موسى ويوم الأحد يصل موكب أهل الخليل وقراها ويوم الإثنين تغادر أعلام القدس ونابلس والخليل إلى النبي موسى وتمتد زيارة النبي موسى من يوم الجمعة إلى يوم الخميس التالي أي سبعة أيام وفي يوم الخميس يعود الموكب إلى القدس باحتفال كبير كذلك وفي يوم الجمعة الذي يطلق عليه اسم ( جمعة العليمات ) تعاد الأعلام إلى أماكنها علم النبي موسى وعلم المسجد الأقصى وعلم النبي داود في احتفالات تقام لذلك خصيصاً وتبدأ الوفود بمغادرة القدس على الأثر ] (2).
ثم قال د. العسلي:[ موسم النبي موسى كما يصفه الدكتور توفيق كنعان :
يبدأ الموسم نفسه يوم الجمعة الذي يسبق يوم الجمعة الحزينة عند كنسية الروم الأرثوذكس وينتهي يوم الخميس التالي ويسمى هذا اليوم ( جمعة النزلة ) بينما يطلق على يوم الجمعة الذي يسبقه اسم ( جمعة المناداة ) لأن المناداة على الموسم أو الإعلان رسمياً عن أن موسم النبي موسى يبدأ يوم الجمعة التالية تبدأ في هذا اليوم وتسمى ليلة الخميس السابقة لجمعة النزلة ( ليلة الوقفة ) وكل من ينوي الاشتراك في الموسم يتأهب للأيام القادمة ... تبدأ الزفة بإحضار علم النبي موسى من المكان الذي يحفظ فيه طوال السنة ... وفي هذا المكان يجتمع الوجهاء وكثير من الموظفين ويسلم العلم إلى المفتي على طبق وبعد قراءة الفاتحة ينشر المفتي العلم ثم يثبت في الزانة ... تتحرك الزفة ببطء إلى الحرم الشريف وتدخل إليه من باب الحبس ... وكان يصاحب الزفة زمن الأتراك فرقة موسيقى عسكرية وحرس شرف وبعد صلاة الظهر تترك الزفة الحرم ... ويمضي المفتي الأكبر وحملة الأعلام وخدام النبي موسى الآخرون قدماً إلى خارج الحرم ... وفي هذه الأثناء تكون الطريق غاصة بجماهير النظارة وكذلك الشرفات والشبابيك والمقبرة والبساتين الواقعة على طرف الطريق ... وفيه يتجمع الشباب في مجموعات فمنهم من يعزف ومنهم من يرقص أو يغني في الطريق ويحمل الجمهور أعلاماً كثيرة تمثل الأولياء المختلفين في المدينة والقرى المجاورة وكل علم له أتباعه ... وحالما يصبحون على مرمى النظر من مقام النبي موسى يعيدون ترتيب صفوفهم ويرفعون العلم ويبدأ الموكب الرسمي من جديد ويشرعون أولاً في عمل أكوام صغيرة من الحجارة كقناطر - وتسمى أيضاً شواهد لأنها تشهد يوم الدين للذين قاموا بالزيارة - ويقرؤون الفاتحة ويرسل الدرويش الذي يكون على رأس الموكب أحد أتباعه ليعلن قدومهم للدراويش الآخرين الذين سبقوا إلى النبي موسى ويدعى هذا الرسول بالنجاب ويربط الشيخ الذي يرسله منديلاً حول رقبته لا يفكه إلا الشيخ الذي يستقبل في المقام ويركض النجاب إلى المقام مباشرة وهو يضرب طول الوقت على نقارته ... ويقوم أكبر الدراويش سناً بفك المنديل المربوط حول عنقه وهو يتلو الفاتحة ... أما ترتيب مواكب الزفة فيكون عادة على الوجه التالي :
__________
(1) انظر موسم النبي موسى في فلسطين ص 94،96،98-99 .
(2) موسم النبي موسى في فلسطين ص101-102 .(/59)
يسير حامل العلم أولاً ويتبعه الموسيقيون ويليهم بعض شباب المجموعة يحيطون بقائدهم ويرقصون حسب الإيقاع الذي يحدده وكل رقصة تكون مصحوبة بالغناء يغني قائد المجموعة مقطعاً فيكرره الآخرون ويلوح بسيف أو عصا أو بمنديل في الهواء ويرقص معهم وهكذا يحدد لهم الإيقاع ويكون الموسيقيون أحياناً كلهم أو بعضهم في الحلقة وفي أثناء الغناء والرقص يصفق أعضاء المجوعة بأيديهم وفق إيقاع ثابت ... ويتقدم هؤلاء ببطء إلى أن يبلغوا المقام وترحب بعض النساء من النظارة بالقادمين بالزغاريد أو بالأغاني القصيرة التي تنتهي بقرقعة حادة بالألسنة ومن الممتع أن نلاحظ أن الغناء والرقص والتصفيق واستعمال الآلات الموسيقية ومشاركة جميع الطبقات هي اليوم مثل ما كانت عليه قبل آلاف السنين ].
ثم ذكر أنواع الرقصات التي كانت تؤدى في الموسم وأسماء الآلات الموسيقية ثم قال :[ والإيقاع الذي يحدثه الطبل والكاسات يكون له دائماً تقريباً معنى محدد مثل
الله الله الله حي
آآآ- آآآ
دا-يم دا-يم
-آ-آ
قي-وم قي-وم -آ-آ ].
ثم ذكر بعض العبارات التي كانت على الأعلام ومنها :[ مددك يا سيدي أحمد البدوي . سيدي أحمد الرفاعي ولي الله ].
ثم قال :[ وباستثناء نساء المدن اللاتي يلزمن الغرف معظم الوقت أو يقفن على الشرفة المكشوفة في الطابق الأول فإن جميع الزائرات الأخريات يشاركن الرجال النشاطات المختلفة ويختلطن بهم باستمرار ... وهكذا ينقضي الأسبوع بالألعاب والأغاني والاحتفالات بصورة ممتعة ] (1).
بعد هذا الوصف الذي كتبه د. توفيق كنعان وهو رجل نصراني يظهر لنا أن هذا الاحتفال في لبه ولحمته وسداه مخالف لدين الله سبحانه وتعالى ولسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه ترتكب فيها المخالفات الشرعية الكثيرة باسم الدين وأن الإسلام بريء من هذه الاحتفالات التي تنسب إلى الدين زوراً وبهتاناً .
فالذي يظهر من هذا الوصف أنه كان موسم رقص وطرب واختلاط بين النساء والرجال بل إن النساء كن يرقصن في الحلقات أمام الرجال وأن هذا الموسم كان عليه مسحة من الصوفية المنحرفة .
ولبيان بدعية الاحتفال بموسم النبي موسى لا بد من بيان الأمور التالية :
أولاً : أين دفن موسى عليه السلام ؟
قال الإمام البخاري في صحيحه :" باب وفاة موسى وذكره بعد " ثم ساق بإسناده إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :( أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام فلما جاءه صكَّه فرجع إلى ربه فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت . قال : ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال : أي رب ؟
ثم ماذا ؟ قال : الموت . قال : فالآن . قال : فسأل الله أن يدينه من الأرض المقدسة رمية بحجر ، قال أبو هريرة : فقال رسول الله : لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر ] ورواه مسلم أيضاً (2).
قال الحافظ ابن حجر :[ وقوله فيه :( رمية حجر ) أي قدر رمية حجر أي أدنني من مكان الأرض المقدسة هذا القدر أو أدنني إليها حتى يكون بيني وبينها هذا القدر وهذا الثاني أظهر وعليه شرح ابن بطال وغيره ... حكى ابن بطال عن غيره أن الحكمة في أنه لم يطلب دخولها ليعمى قبره لئلا تعبده الجهال من ملته ] (3).
وقال الإمام العيني :[ واختلف أهل السير في موضع قبره فقيل بأرض التيه وهارون كذلك ولم يدخل موسى الأرض المقدسة إلا رمية حجر رواه الضحاك عن ابن عباس وقال : لا يعرف قبره ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبهم ذلك بقوله ( إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر ) ، ولو أراد بيانه لبيَّن صريحاً وقال ابن عباس لو علمت اليهود قبر موسى وهارون لاتخذوهما إلهين من دون الله .
وقيل : بباب لد بالبيت المقدس .
وقيل : قبره بين عالية وعويلة عند كنيسة توماء .
وقيل : بالوادي في أرض ماء بين بصرى والبلقاء .
وقيل : قبره بدمشق ذكره ابن عساكر عن كعب الأحبار .
والأصح أنه بالتيه قدر رمية حجر من الأرض المقدسة ] (4).
وقال الحافظ ابن حجر :[ وزعم ابن حبان أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبيت المقدس وتعقبه الضياء بأن أرض مدين ليست قريبة من المدينة ولا من بيت المقدس. قال - أي الضياء -: وقد اشتهر عن قبر بأريحاء عنده كثيب أحمر أنه قبر موسى وأريحاء من الأرض المقدسة ] (5). قلت وظاهر حديث أبي هريرة السابق يرد القول المشهور الذي ذكره الضياء لأن أريحا من الأرض المقدسة وظاهر الحديث أنه لم يدخل الأرض المقدسة وإنما سأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة .
قال الحافظ ابن كثير :[ وقد زعم بعضهم أن موسى عليه السلام هو الذي خرج بهم من التيه ودخل بهم الأرض المقدسة .
__________
(1) موسم النبي موسى ص 101-119 بتصرف واختصار .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 3/450 ، 7/251-252 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/512 .
(3) فتح الباري 3/450 .
(4) عمدة القاري 11/141 .
(5) فتح الباري 7/252 .(/60)
وهذا خلاف ما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين ، ومما يدل على ذلك قوله : لما اختار الموت : رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر وحانت وفاته عليه السلام أحب أن يتقرب إلى الأرض التي هاجر إليها وحث قومه عليها ولكن حال بينهم وبينها القدر ، رمية بحجر ولهذا قال سيد البشر ورسول الله إلى أهل الوبر والمدر : فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر ] (1).
وقال مجير الدين الحنبلي :[ ومات موسى ولم يعرف أحد من بني إسرائيل أين قبره ولا أين توجه ] (2).
وقال القسطلاني معلقاً على الحديث السابق :[ وهذا ليس صريحاً في الإعلام بقبره الشريف ومن ثم حصل الاختلاف فيه فقيل بالتيه وقيل بباب لد ببيت المقدس أو بدمشق أو بواد بين بصرى والبلقاء أو بمدين بين المدينة وبيت المقدس أو بأريحا وهي من الأرض المقدسة ] (3).
ونقل الشيخ عبد الغني النابلسي عن رسالة لمحمد بن طولون سماها " تحفة الحبيب فيما ورد في الكثيب " ذكر فيها أن قبر موسى عليه السلام في مسجد القدم قبالة الكثيب الأحمر في دمشق الشام . ونقل عن ابن عساكر أن قبر موسى عليه السلام في مسجد القدم ونقل عن ابن جبير أن قبر موسى عليه السلام في مسجد القدم .
ونقل عن أبي إسحاق الفزاري الشافعي مثل ذلك وذكر أن له رسالة اسمها :[ تبيين الأمر القديم المروي في تعيين قبر موسى الكليم ] جزم فيها بأن قبر موسى في دمشق الشام في مسجد القدم المذكور (4).
وبعد هذا العرض الموجز لما قاله العلماء في بيان موضع قبر موسى عليه السلام يظهر للباحث المنصف أنه لا يعرف على وجه التحديد محل قبر موسى عليه السلام وكل ما ذكر في تحديد موضع قبره ظنون ضعيفة ليس لها مستند صحيح ثابت وحديث الصحيحن لا يحدد موضع قبره عليه السلام ، قال الرحالة الهروي : [ ... والصحيح أن قبره لا يعرف والله أعلم ] (5).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وأما قبور الأنبياء فالذي اتفق عليه العلماء هو قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن قبره منقول بالتواتر وكذلك قبر صاحبيه وأما قبر الخليل فأكثر الناس على أن هذا المكان المعروف هو قبره وأنكر ذلك طائفة ، وحكي الإنكار عن مالك وأنه
قال : ليس في الدنيا قبر نبي يعرف إلا قبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - ... ] (6).
ثانياً : شد الرحال إلى القبور والمقامات :
لو سلمنا جدلاً أن قبر موسى عليه السلام معلوم وأنه في المكان المعروف اليوم بمقام النبي موسى فيحرم شد الرحال إليه لما ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي قال :( لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسجد الأقصى ] رواه البخاري ومسلم (7).
قال الحافظ ابن حجر :[ قوله :( لا تشد الرحال ) بضم أوله بلفظ النفي والمراد النهي عن السفر إلى غيرها . قال الطيبي : هو أبلغ من صريح النهي كأنه قال : لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به ] (8).
وكذلك فإنه يحرم شرعاً اتخاذ القبور مساجد سواء أكانت قبور أنبياء أو غيرهم فلا يجوز أن تبنى المساجد والمقامات على القبور وتتخذ محلاً للصلاة ومحلاً للزيارة والدعاء وغير ذلك . فقد جاء في الحديث عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما صنعوا . رواه البخاري ومسلم (9).
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) رواه البخاري ومسلم (10).
وثبت في الحديث عن جندب قال :( سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول : إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك ) رواه مسلم (11).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معقباً على هذه الأحاديث :[ ولهذا اتفق السلف على أنه لا يستلم قبراً من قبور الأنبياء وغيرهم ولا يتمسح به ولا يستحب الصلاة عنده ولا قصده للدعاء عنده أو به لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان ] (12).
__________
(1) البداية والنهاية 1/296 .
(2) الأنس الجليل 1/199 .
(3) إرشاد الساري 2/494 .
(4) الحضرة الأنسية 2/546-550 .
(5) الإشارات للهروي ص 13 نقلاً عن موسم النبي موسى ص 19.
(6) مجموع الفتاوى 27/444 .
(7) صحيح البخاري مع الفتح 3/306 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/517 .
(8) فتح الباري 3/306 .
(9) صحيح البخاري مع الفتح 2/78 ، صحيح مسلم بشرح النووي 2/184-185 .
(10) صحيح البخاري مع الفتح 2/79 ، صحيح مسلم بشرح النووي 2/184 .
(11) صحيح مسلم بشرح النووي 2/185 .
(12) مجموع الفتاوى 27/31 .(/61)
وقال شيخ الإسلام أيضاً :[ ولا تستحب الصلاة لا الفرض ولا النفل عند قبر نبي أو غيره بإجماع المسلمين بل ينهى عنه وكثير من العلماء يقول هي باطلة لما ورد في ذلك من النصوص وإنما البقاع التي يحبها الله ويحب الصلاة والعبادة فيها هي المساجد التي قال الله تعالى فيها :
( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ )
وقال تعالى :( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( أي البقاع أحب إلى الله ؟ قال : المساجد . قيل: فأي البقاع أبغض إلى الله ؟ قال : الأسواق ) . وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً كلما غدا أو راح ) .وقال - صلى الله عليه وسلم - :( إن العبد إذا تطهر فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة كانت خطوتاه إحداهما ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة ) .
فدين الإسلام هو اتباع ما بعث الله به رسوله من أنواع المحبوبات واجتناب ما كرهه الله ورسوله من البدع والضلالات وأنواع المنهيات ] (1).
وروى الحافظ ابن وضاح القرطبي بإسناده عن الأعمش قال :[ حدثني مروان بن سويد الأسدي قال : خرجت مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من مكة إلى المدينة فلما أصبحنا صلَّى بنا الغداة ثم رأى الناس يذهبون مذهباً فقال: أين يذهب هؤلاء ؟ قيل : يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم يأتون يصلون فيه . فقال : إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا يتبعون آثار أنبيائهم فيتخذونها كنائس وبيعاً من أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يعتمدها ] (2).
وذكر رواية أخرى عن المعرور بن سويد قال :[ خرجنا حجاجاً مع عمر بن الخطاب فعرض لنا في بعض الطريق مسجد فابتدره الناس يصلون فيه. فقال عمر : ما شأنهم ؟ فقالوا : هذا مسجد صلَّى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر : أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعاً ، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض ... ] ثم قال ابن وضاح :[ وكان مالك ابن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي- صلى الله عليه وسلم - ما عدا قباء وحده . قال ابن وضاح : وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها وكذلك فعل غيره ممن يقتدى به ، وقدم وكيع أيضاً مسجد بيت المقدس فلم يَعْدُ فعل سفيان ] (3).
ثالثاً : متى حدث الاحتفال بموسم النبي موسى :
إن موسم النبي موسى أحدث في العصور المتأخرة ولم يكن معروفاً قبل ذلك وإنما ابتدعت هذه البدعة بعد إنشاء المقام في المكان المعروف بالنبي موسى وأول من أقام قبة وبنى مسجداً في ذلك المكان هو الظاهر بيبرس سنة 668 هـ عند عودته من الحج وزيارة بيت المقدس ثم زيد على البناء سنة 875 هـ ثم كملت عمارته سنة 885 هـ (4).
وقد زعم بعض الكاتبين أن السلطان صلاح الدين الأيوبي هو أول من أنشأ موسم النبي موسى لمواجهة التجمعات الصليبية التي كانت تقام في عيد الفصح (5).
ولكن هذا الزعم ليس عليه دليل صحيح ، يقول الدكتور كامل العسلي :[ وعلى أية حال فإنه من المهم أن نؤكد أننا لم نجد في الكتب القديمة التي وضعت في العصر ألأيوبي ومنها كتاب العماد الأصفهاني وابن واصل والبهاء ابن شداد وأبي شامة المقدسي أي إشارة إلى الموسم ولا إلى علاقة صلاح الدين الأيوبي أو ورثته بالموسم كما أنه ليس في الكتب التي وضعت زمن الأيوبيين ولا في الكتب التي وضعت زمن المماليك أو العثمانيين حسب علمنا ما يشير إلى أن الاحتفال بالنبي موسى كان ذا صبغة سياسية . ومع الأسف فلا توفر لنا المادة التاريخية صورة واضحة مفصلة للاحتفال نستطيع أن نتبين فيها أهدافاً سياسية بل بالعكس فإن القليل الذي وصل إلينا في الكتب يدل على أن طابع الاحتفال كان طابعاً دينياً وترويحياً ولا علاقة له بالسياسة .
__________
(1) المصدر السابق 27/62-63 .
(2) البدع والنهي ص 48 .
(3) المصدر السابق ص 49-50 .
(4) الأنس الجليل 1/199-200 ، طبقات الأولياء والصالحين في الأرض المقدسة 2/69-70 بلادنا فلسطين 2/576 .
(5) المفصل في تاريخ القدس ص 176-177 ، موسم النبي موسى ص 86 .(/62)
إن أول إشارة لموسم النبي موسى وقعنا عليها في الكتب ، وردت في " إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى " لشمس الدين السيوطي المتوفى بعد سنة 880 هـ ... وقد دون السيوطي كتابه هذا سنة 875 هـ والإشارة الثانية وجدناها في مخطوط " الدر النظيم في أخبار سيدنا موسى الكليم " لأبي البقاء نجم الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة المتوفى بعد سنة 901 هـ ... أما الإشارة الثالثة بحسب الترتيب الزمني فنجدها عند مجير الدين الحنبلي الذي يحدد لنا لأول مرة موعد الزيارة ومدتها في كتابه " الأنس الجليل " الذي كتبه سنة 900-901 هـ ... ويلاحظ أن هؤلاء الكتاب الثلاثة لم يشيروا إلى هدف للزيارة سوى الزيارة والتبرك والأكل والشرب ... إن المقتطفات التي أوردناها هي أهم ما وقعت أيدينا عليه عن تطورات الموسم في عهد المماليك والمعلومات الواردة فيها نزرة وليس فيها كبير غناء ولم نجد في كتابات القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي أية إشارة إليه ومع ذلك فيبدو أن زيارة النبي موسى اكتسبت أهمية متزايدة بعد بناء المقام في القرن السابع/الثالث عشر ووصلت شعبية المقام ذروتها في عصر المماليك في القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الهجري ... ] (1).
وهذا الكلام يؤكد لنا أن موسم النبي موسى أمر مبتدع ليس له أصل صحيح ولا يجوز شرعاً إضفاء أية قدسية عليه فليس له أي مستند لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
المبحث العاشر
البدع المتعلقة بالمسجد الأقصى
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : بدعة تسمية المسجد الأقصى حرماً :
شاعت تسمية المسجد الأقصى المبارك بالحرم عند عامة الناس في ديار فلسطين وعند بعض الكاتبين المعاصرين فنجدهم يطلقون على المسجد الأقصى الحرم أو الحرم الشريف (2).
وهذه التسمية غير صحيحة لأن المعلوم عند أهل العلم أنه لا يوجد عند المسلمين إلا حرمان وهما حرم مكة وحرم المدينة وهذا باتفاق أهل العلم وعند الشافعية أضافوا ثالثاً وهو وادي وج بالقرب من الطائف وإليك تفصيل ذلك :
أولاً : قال الله تعالى : ( وَقَالُوا إِنْ نتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا ءَامِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )(3) .
والمقصود بالحرم في هذه الآية الكريمة هو حرم مكة المكرمة (4).
وقال تعالى :(أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ) (5).
والمقصود أيضاً بالحرم في هذه الآية الكريمة هو حرم مكة المكرمة (6).
وثبت في الحديث عن عبد الله بن زيد- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( أن إبراهيم حرّم مكة ودعا لها وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة ) متفق عليه (7).
وحرم مكة وحرم المدينة ثابتان بالأدلة الصحيحة واتفق أهل العلم على ذلك وأما وادي وج بالقرب من الطائف فقد اعتبره الشافعية حرماً وخالفهم بقية العلماء (8).
واحتج الشافعية بما ورد في حديث الزبير- رضي الله عنه - قال :( لما أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لية حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طرف القرن الأسود حذوها فاستقبل نخباً ببصره وقال : مرة واديه ووقف حتى اتقف الناس كلهم ثم قال : إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره لثقيف) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي (9).
وقوله :( من لية ) هو جبل قرب الطائف ، ( وطرف القرن ) جبل قرب الطائف أيضاً وقوله :( فاستقبل نخباً ) هو واد بالطائف وقوله :( اتقف ) أي حتى وقف الناس وقوله :( وعضاهه ) هو كل شجر فيه شوك (10).
وهذا الحديث ضعيف ضعفه جماعة من أهل العلم .
قال البخاري : لا يصح . ونحوه قال الأزدي وذكر الخلال أن أحمد ضعّفه، وضعّفه ابن حبان وضعّفه النووي (11).
والراجح من أقوال أهل العلم أن " وج " ليس بحرم لضعف الحديث كما سبق .
__________
(1) موسم النبي موسى ص87-89 .
(2) انظر على سبيل المثال الحضرة الأنسية 1/289،484،485،491 وغيرها والعناوين من عمل محقق الكتاب .
(3) سورة العنكبوت الآية 67 .
(4) انظر تفسير القرطبي 13/300 .
(5) سورة القصص الآية 57 .
(6) انظر تفسير القرطبي 13/363 .
(7) صحيح البخاري مع الفتح 5/250 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/491 .
(8) المجموع 7/483 ، زاد المعاد 3/508 .
(9) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 6/9 ، سنن البيهقي 5/200 ، الفتح الرباني 23/300 .
(10) عون المعبود 6/9 .
(11) المجموع 7/480 ، التلخيص الحبير 2/280 ، الجوهر النقي 2/200 ، زاد المعاد 3/508 بذل المجهود 9/378 .(/63)
وبناءً على ما تقدم لا يصح إطلاق اسم الحرم إلا على الحرمين حرم مكة وحرم المدينة ولا يجوز شرعاً إطلاق اسم الحرم على المسجد الأقصى المبارك ولا على المسجد الإبراهيمي في الخليل وتسميتهما حرماً بدعة لا أصل لها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وليس ببيت المقدس مكان يسمى حرماً ولا بتربة الخليل ولا بغير ذلك من البقاع إلا ثلاثة أماكن أحدها : هو حرم باتفاق المسلمين وهو حرم مكة شرفها الله تعالى والثاني حرم عند جمهور العلماء وهو حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - من عير إلى ثور بريد في بريد فإن هذا حرم عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وفيه أحاديث صحيحة مستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والثالث " وج " وهو واد بالطائف فإن هذا روي فيه حديث رواه أحمد في المسند وليس في الصحاح وهذا حرم عند الشافعي لاعتقاده صحة الحديث وليس حرماً عند أكثر العلماء وأحمد ضعف الحديث المروي فيه فلم يأخذ به وأما ما سوى هذه الأماكن الثلاثة فليس حرماً عند أحد من علماء المسلمين فإن الحرم ما حرّم الله صيده ونباته ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجاً عن هذه الأماكن الثلاثة ] (1).
وقال شيخ الإسلام أيضاً :[ ... والأقصى اسم للمسجد كله ولا يسمى هو ولا غيره حرماً وإنما الحرم بمكة والمدينة خاصة . وفي وادي وج بالطائف نزاع بين العلماء ] (2).
ولم تثبت تسمية المسجد الأقصى حرماً عن أحد من العلماء المحققين ولما تكلم الإمام بدر الدين الزركشي عن الأحكام المتعلقة بالمسجد الأقصى لم يذكر منها شيئاً في تسميته حرماً وإنما سماه المسجد الأقصى كما هو شأن بقية العلماء (3).
كما أن الشيخ مجير الدين الحنبلي لم يستعمل كلمة الحرم في وصف المسجد الأقصى في كتابه " الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل " وكذلك الشيخ عبد الغني النابلسي في كتابه " الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية ".
المسألة الثانية : بدع الصوفية في المسجد الأقصى والأناشيد الدينية والفرق المنشدة :
اعتادت بعض فرق الصوفية القدوم إلى المسجد الأقصى بجماعات كثيرة العدد وهم يعلقون مسابح كبيرة الحجم في رقابهم ويعقدون ما يسمونه مجالس ذكر أو مديح للرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعض هؤلاء يستعملون الدفوف في إنشادهم داخل المسجد الأقصى .
كما وأن بعض فرق الإنشاد والتي يسمونها زوراً وبهتاناً - فرق الإنشاد الديني - ينشدون أناشيدهم باستعمال الدفوف مع رفع الأصوات ويردد عوام المصلين معهم ويتحول المسجد الأقصى إلى ما يشبه جوقة غنائية كبيرة .
وهذه المظاهر تشاهد في المسجد الأقصى عند عقد الاحتفالات التي يسمونها دينية كما في احتفالهم بالإسراء والمعراج والمولد النبوي وذكرى الهجرة وغيرها .
وهذه الأمور كلها من البدع المخالفة لهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأولي العلم والتحقيق .
وتظهر معالم هذه البدع فيما يلي :
أولاً : أنه لم يثبت أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قد اتخذ سبحة فضلاً أن يجعلها في رقبته ولا ثبت هذا التعليق عن الصحابة ولا عن التابعين وإنما تعليق السبحات في الأعناق من المبتدعات ومن التشبه برجال الدين من الملل الأخرى .
قال الشيخ علي محفوظ :[ ومن بدعهم - أي الصوفية - وضع السبحة في العنق أو اليد بدون الذكر فهو من فعل المرائين الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ويعرفوا من طريق الوهم والتضليل والطريق إلى الله عز وجل هي متابعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وما سوى ذلك ضلال نعوذ بالله منه ] (4).
ثانياً : إن هذا الإنشاد الديني كما يسمونه لا يجوز فعله في المساجد لأن المساجد لها آدابها وأحكامها التي يجب المحافظة عليها .
قال السيوطي :[ ومن ذلك - أي من البدع - الرقص والغناء في المساجد وضرب الدف أو الرباب أو غير ذلك من آلات الطرب فمن فعل ذلك في المسجد فهو مبتدع ضال مستحق للطرد والضرب لأنه استخف بما أمر الله بتعظيمه .
قال الله تعالى :( في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) أي تعظم ( وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ) أي يتلى فيها كتابه وبيوت الله هي المساجد قد أمر الله بتعظيمها وصيانتها عن الأقذار والأوساخ ... والغناء والرقص فمن غنى أو رقص فهو مبتدع ضال مضل مستحق للعقوبة ] (5).
وإذا كان رفع الصوت بقراءة القرآن منهي عنه في المسجد فما بالك بهذه الأناشيد التي ترافقها الدفوف وما بالك بفعلها قبل صلاة الجمعة بمناسبة الاحتفالات التي يسمونها دينية ، حيث يكون المسجد ممتلئاً بالمسلمين الذين ينتظرون صلاة الجمعة فيشوش هؤلاء المنشدون على عباد الله .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 27/14- 15 .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم ص 434 .
(3) إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 191 فما بعدها .
(4) الإبداع ص 324 ، وانظر السنن والمبتدعات ص 256 ، السلسلة الضعيفة 1/117 .
(5) الأمر بالاتباع ص 275 .(/64)
قال الشيخ علي محفوظ :[ ومنها إقامة حلقات الذكر المحرف في المساجد أيام المولد مع ارتفاع أصوات المنشدين مع التصفيق الحاد من رئيس الذاكرين ( بل الراقصين ) وقد يضربون على البازة أو السلامية أثناء الذكر وفي المسجد وكل ذلك غير مشروع بإجماع العلماء ولم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الصحابة والتابعين ولا عهد الأئمة الأربعة المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين ] (1).
كما أن في هذا الإنشاد تشبهاً بالنصارى الذين يفعلون شبهه في كنائسهم.
ثم إن هذا الإنشاد الديني ليس له أصل صحيح يعتمد عليه فليس من جملة القرب الشرعية .
وقد سئل العز بن عبد السلام عن مثل ذلك :[ ما يقول سيدنا في جماعة من أهل الخير والصلاح والورع يجتمعون في وقت فينشد لهم منشد أبياتاً في المحبة وغيرها ، فمنهم من يتواجد فيرقص ومنهم من يصيح ويبكي ومنهم من يغشاه شبه الغيبة عن إحساسه فهل يكره لهم هذا العمل أم لا ؟ فأجاب :
الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل ولا يصلح إلا للنساء ] (2).
ونص الفقهاء على أنه لا يجوز شغل المساجد بالغناء والرقص (3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي وهو سماع المشركين قال الله تعالى :
( وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ) قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهما من السلف " التصدية " التصفيق باليد والمكاء مثل الصفير فكان المشركون يتخذون هذا عبادة وأما النبي- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك ، والاجتماعات الشرعية ولم يجتمع النبي- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على استماع غناء قط لا بكف ولا بدف ولا تواجد ولا سقطت بردته بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه .
وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقون يستمعون وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول لأبي موسى الأشعري : ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون ومرًّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له :( مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك فقال : لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً ) أي لحسنته لك تحسيناً كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :( زينوا القرآن بأصواتكم ) وقال - صلى الله عليه وسلم - :( لله أشهد أذناً أي استماعاً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ) وقال - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود :( اقرأ عليَّ القرآن فقال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال : إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى انتهيت إلى هذه الآية :( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) قال : حسبك فإذا عيناه تذرفان من البكاء .
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكره الله في القرآن فقال :( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) وقال في أهل المعرفة : ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى :( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) وقال تعالى :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ).
__________
(1) الإبداع ص 253-254 .
(2) فتاوى العز بن عبد السلام ص 318-319 .
(3) مجموع الفتاوى 4/16 .(/65)
وأما السماع المحدث سماع الكف والدف والقصب فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقاً إلى الله تبارك وتعالى ولا يعدونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة حتى قال الشافعي : خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك ، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيباً وافراً ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم ] (1).
المسألة الثالثة : بدعة الطواف بمسجد قبة الصخرة :
بدعة الطواف بالصخرة بدعة قديمة ذكرها عدد من العلماء المتقدمين وما زالت موجودة إلى وقتنا الحاضر وقد شاهدت بأم عيني عندما كنت طالباً في المدرسة الثانوية الشرعية مجموعة من النسوة يطفن بمسجد الصخرة وكان ذلك في شهر رمضان وفي يوم جمعة .
والطواف بالصخرة محرمٌ شرعاً وبدعة منكرةٌ فالإسلام لم يشرع لنا إلا الطواف ببيت الله الحرام بمكة المكرمة فقط وكل طواف بما سواه منكر ومحرم شرعاً .
قال الشيخ ابن الحاج :[ وليحذر مما يفعله بعضهم من هذه البدعة المستهجنة وهو أنهم يطوفون بالصخرة كما يطوفون بالبيت العتيق ] (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ والعبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من سائر المساجد إلا المسجد الحرام فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد بالطواف بالكعبة واستلام الركنين اليمانيين وتقبيل الحجر الأسود وأما مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى وسائر المساجد فليس فيها ما يطاف به ولا فيها ما يتمسح به ولا ما يقبل فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين ولا بصخرة بيت المقدس ولا بغير هؤلاء كالقبة التي فوق جبل عرفات وأمثالها بل ليس في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة ومن اعتقد أن الطواف بغيرها فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة ] (3).
ووصف السيوطي الطواف بالصخرة بأنه من فعل أهل الضلال (3).
المسألة الرابعة : بدعة التمسح بالصخرة :
معلوم أن مسجد قبة الصخرة أقيم على الصخرة التي قيل إن النبي- صلى الله عليه وسلم - عرج منها إلى السموات العلى وزعم بعض الناس أنه يوجد على الصخرة أثر قدمه الشريف- صلى الله عليه وسلم - (4).
وهذا الكلام ليس بثابت بل هو من أوهام العوام لأنه لا يعلم على وجه القطع المحل الذي عرج منه النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى السماء وإنما المعروف أنه عرج به - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الأقصى والمسجد الأقصى يطلق على كل المكان المعروف (5).
كما أن الزعم بوجود أثر قدمه الشريف- صلى الله عليه وسلم - على الصخرة ما هو إلا محض كذب وافتراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وما ساقه الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته حول ذلك (6) ما هو إلا دجل وخرافات ليس لها أصل علمي صحيح تقوم عليه لا بخبر أحاد ولا بالتواتر كما زعم الشيخ المذكور حيث إنه زعم أن ذلك ثابت بطريق التواتر (7) بل ذلك مجرد شائعات اكتسبت شهرة عند العامة ولا أصل لكل هذه الخرافات فهي كذب مختلق (8).
وقد نص المحققون من العلماء والحفاظ على إنكار صحة آثار القدم النبوية على الأحجار وإن من علامات زيف آثار القدم ما قرره صاحب كتاب الآثار النبوية - أحمد تيمور باشا - حين قابل بين المعروف من تلك الآثار حيث قال :[ المعروف الآن من هذه الأحجار سبعة أربعة منها بمصر وواحد بقبة الصخرة ببيت المقدس وواحد بالقسطنطينة وواحد بالطائف وهي حجارة سوداء إلى الزرقة في الغالب عليها آثار أقدام متباينة في الصورة والقدر لا يشبه الواحد منها الآخر ] (9).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وما يذكره بعض الجهال فيها
- أي في الصخرة - من أن هناك أثر قدم النبي وأثر عمامته وغير ذلك فكله كذب ] (10).
وقد روي في فضل الصخرة أحاديث كثيرة وكلها باطلة مكذوبة موضوعة، قال العلامة ابن القيم :[ وكل حديث في الصخرة فهو كذب مفترى والقدم الذي فيها كذب موضوع مما عملته أيدي المزوريين الذين يروجون لها ليكثر سواد الزائرين ] (11).
ومن هذه الأحاديث :
__________
(1) مجموع الفتاوى 11/295-298 .
(2) المدخل 4/256 .
(3) مجموع الفتاوى 27/10 . (3) الأمر بالاتباع ص 183.
(4) الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية 1/347 ، الأنس الجليل 2/54 .
(5) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص 273 ، زاد المعاد 3/42 ، بيت المقدس ص 375 .
(6) الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية 1/355-367 .
(7) المصدر السابق 1/359 .
(8) التبرك أنواعه وأحكامه ص 353 .
(9) المصدر السابق ص 353 .
(10) مجموع الفتاوى 27/13 ، وانظر اقتضاء الصراط المستقيم ص 317-318 .
(11) المنار المنيف ص 87 .(/66)
1. ما روي عن عبادة - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال :( صخرة بيت المقدس على نخلة والنخلة على نهر من أنهار الجنة وتحت النخلة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران تنظمان سموط أهل الجنة إلى يوم القيامة) ذكره المنهاجي السيوطي ومجير الدين الحنبلي وعبد الغني النابلسي(1).
قال العلامة محدث العصر الشيخ الألباني يرحمه الله إنه حديث موضوع ونقل عن الذهبي أن راوي الحديث محمد بن مخلد حدث بالأباطيل ثم ذكر هذا الحديث (2).
وقال الهثيمي بعد أن ذكر الحديث :[ وفيه محمد بن مخلد الرعيني وهذا الحديث من منكراته ] (3).
2. وما روي عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( سيدة البقاع بيت المقدس وسيد الصخور صخرة بيت المقدس ) ذكره المنهاجي السيوطي ومجير الدين الحنبلي (4). وهذا الحديث تفوح منه رائحة الكذب .
3. وما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( الأنهار كلها والسحاب والرياح من تحت صخرة بيت المقدس ) ذكره مجير الدين الحنبلي وعبد الغني النابلسي (5).
وفي رواية أخرى ( المياه العذبة والرياح اللواقح من تحت صخرة بيت المقدس ) (6)
4. ومن الخرافات العجيبة ما ذكره عبد الغني النابلسي أن الصخرة معلقة في السماء لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض ... الخ (7) وهذا عين الكذب والافتراء .
5. ومن الخرافات ما ذكره عبد الغني النابلسي أيضاً أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لما صعد إلى السماء من الصخرة ليلة المعراج صعدت الصخرة خلفه فأمسكتها الملائكة فوقفت بين السماء والأرض (8).
وهذا كذب ودجل بلا خجل ولا يصدقه إلا من في عقله خبل .
قال الشيخ علي محفوظ بعد أن ذكر هذه الخرافة :[ وهذا من الأكاذيب المشهورة ولا أصل له في الدين ] (9).
6. ومن الخرافات أيضاً ما نقله الشيخ عبد الغني النابلسي عن عطاء قال : [ وكانت صخرة بيت المقدس طولها في السماء اثني عشر ميلاً ويقال إنه ليس بينها وبين السماء إلا ثمانية عشر ميلاً وكان أهل أريحا يستظلون بظلها وكان عليها ياقوتة تغزل نساء البلقان على ضوئها بالليل . قال : ولم تزل كذلك حتى غلبت عليها الروم بعد أن خربها بختنصر ] (10).
وهذا عين الكذب والإفتراء المحض . وغير ذلك من الخرافات والأحاديث الباطلة .
وقد شاعت هذه الأحاديث والأقاويل بين عامة الناس وعند من كتبوا في فضائل بيت المقدس والمسجد الأقصى مما أثر في نفوس العامة فصاروا يتمسحون بالصخرة أو يقبلونها ويقدسونها وكل ذلك من البدع المنكرة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ فصخرة ببيت المقدس لا يسن استلامها ولا تقبيلها باتفاق المسلمين بل ليس للصلاة عندها والدعاء خصوصية على سائر بقاع المسجد والصلاة والدعاء في قبلة المسجد الذي بناه عمر بن الخطاب للمسلمين أفضل من الصلاة والدعاء عندها ] (11).
ومن المعلوم عند العلماء المحققين أنه لا يشرع تقبيل أي شيء من الجمادات إلا الحجر الأسود لما ثبت في الصحيحين أن عمر- رضي الله عنه - قال : ( والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك ) (12).
وقد سبق أنه لم يثبت شيء في فضل الصخرة على وجه الخصوص وإنما الثابت ما ورد في فضائل المسجد الأقصى فمن ذلك :
قوله تعالى :( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (13).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي قال :( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسجد الأقصى ) رواه البخاري ومسلم (14).
وقد وردت بعض الأحاديث في مضاعفة الصلاة في المسجد الأقصى فمن ذلك :
1. عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة ) رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات وفي بعضهم كلام وهو حديث حسن كما قال الهيثمي (15). ورواه البزار وقال إسناده حسن (16).
__________
(1) إتحاف الأخصا 1/130 ، الأنس الجليل 1/357 ، الحضرة الأنسية 1/318.
(2) السلسلة الضعيفة 3/406-407 .
(3) مجمع الزوائد 9/218 .
(4) إتحاف الأخصا 1/132 ، الأنس الجليل 1/357 .
(5) الأنس الجليل 1/352 ، الحضرة الأنسية 1/314 .
(6) الأنس الجليل 1/352 .
(7) الحضرة الأنسية 1/329-330 .
(8) المصدر السابق 1/332 .
(9) الإبداع ص 330 .
(10) الحضرة الأنسية 1/333 .
(11) مجموع الفتاوى 27/135-136 .
(12) صحيح البخاري مع الفتح 4/208 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/396 .
(13) سورة الإسراء الآية 1 .
(14) صحيح البخاري مع الفتح 4/306 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 3/517 .
(15) مجمع الزوائد 4/7 .
(16) فتح الباري 4/309 .(/67)
وذكر المنذري الحديث وقال رواه الطبراني في الكبير وابن خزيمة في صحيحه وذكر أن البزار قال : إسناده حسن ، وعقب المنذر على ذلك بقوله : كذا قال (1).
والذي يظهر من كلام الشيخ الألباني على الحديث أنه يميل إلى تضعيفه (2). وقال الشيخ صالح آل الشيخ :[ وتحسين إسناده عندي مشكل لأن سعيد بن بشير ليس ممن يحتج بحديثه وقد تفرد به ] (3).
وقال د.صالح الرفاعي :[ والخلاصة أن حديث أبي الدرداء حديث حسن إلا قوله : ( وفي مسجد بيت المقدس خمسمئة صلاة ) فإن هذه الجملة ضعيفة ] (4).
2. وعن ميمونة مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت :( قلت يا رسول الله ! أفتنا في بيت المقدس . قال : أرض المحشر والمنشر إئتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره . قلت أرأيت إن لم نستطع أن أتحمل إليه ! قال : فتهدي له زيتاً يسرج فيه فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه ) رواه ابن ماجة وأحمد والطبراني وغيرهم قال الذهبي : هذا حديث منكر جداً (5).
وتراجع الشيخ الألباني عن تصحيح هذا الحديث حيث كان قد صححه في فضائل الشام ثم قال :[ ثم بدا لي أنه غير جيد السند فيه علة تقدح في صحته ] (6).
وقال الشيخ الألباني في موضع آخر :[ وأما حديث إن الصلاة في بيت المقدس بألف صلاة فهو حديث منكر كما قال الذهبي ... ] (7).
3. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة وصلاته في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة ) رواه ابن ماجة وقال البوصيري في الزوائد : إسناده ضعيف (8). وقال العلامة ابن القيم :[ وهو حديث مضطرب " إن الصلاة فيه بخمسين ألف صلاة " وهذا محال لأن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل منه والصلاة فيه تفضل على غيره بألف صلاة ] (9).
وقال الذهبي [ هذا منكر جداً ] (10).
4. وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال :( تذاكرنا ونحن عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أيهما أفضل أمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم بيت المقدس ؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى هو وليوشكن لأن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه ببيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً ) رواه الحاكم والطبراني والطحاوي وغيرهم . وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي (11). وقال الهيثمي :[ رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح ] (12). وصححه الشيخ الألباني بل قال عنه إنه أصح ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الأقصى (13).
وقال د. صالح الرفاعي :[ والحديث في إسناده قتادة وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث ... فيخشى أن يكون دلسه لا سيما أن في متنه غرابة كما قال المنذري فالحديث ضعيف الإسناد ولأن قتادة لم يصرح بالتحديث ] (14).
وقد بين الشيخ الألباني أن للحديث طريقان آخران فلذا صححه (15).
وقد وردت أحاديث أخرى ضعيفة في مضاعفة الصلاة في المسجد الأقصى (16).
والذي يظهر لي أن أحسنها حالاً الحديث الأخير حديث أبي ذر ثم الحديث الأول وهو حديث أبي الدرداء وقد قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية :[ ... وأما في المسجد الأقصى فقد روي أنها بخمسين صلاة وقيل بخمسمائة صلاة وهو الأشبه ] (17).
وقال ابن القيم :[ وقد روي في بيت المقدس التفضيل بخمسمائة وهو أشبه ] (18).
المبحث الحادي عشر
بدعة الاحتفال بالمولد النبوي
من البدع المنتشرة في بلاد العالم الإسلامي وفي بلادنا بدعة الاحتفال بالمولد النبوي بل أصبح يوم المولد النبوي عيداً رسمياً تعطل فيه الدوائر والمؤسسات الرسمية والمصانع أعمالها ويسمونه عيد المولد النبوي .
__________
(1) الترغيب والترهيب 2/175 .
(2) إرواء الغليل 4/342-343 ، تمام المنة ص 293 .
(3) التكميل ص 48-49 .
(4) الأحاديث الواردة في فضائل المدينة ص 409 .
(5) سنن ابن ماجة 1/451 ، الفتح الرباني 23/293 ، ميزان الاعتدال 2/90 نقلاً عن الأحاديث الواردة في فضائل المدينة ص 423 .
(6) انظر فضائل الشام ص 15 ، تحذير الساجد ص 198 .
(7) تمام المنة ص 294 .
(8) سنن ابن ماجة 1/353 .
(9) المنار المنيف ص 92-93 .
(10) ميزان الاعتدال 4/520 نقلاً عن المصدر السابق .
(11) المستدرك 5/712 .
(12) مجمع الزوائد 4/7 .
(13) تحذير الساجد ص 198 ، تمام المنة 294 ، السلسلة الصحيحة 6/2/954 .
(14) الأحاديث الواردة في فضائل المدينة ص 422-423 .
(15) السلسلة الصحيحة 6/2/954-955 .
(16) انظر إعلام الساجد ص 201-202 ، تحذير الساجد ص 197 .
(17) مجموع الفتاوى 27/8 .
(18) المنار المنيف ص 93 .(/68)
وتقام الاحتفالات وتلقى الخطابات وتعقد حلقات الإنشاد وتقرأ قصة المولد وقد يصاحب ذلك بعض المنكرات كاختلاط الرجال بالنساء وما يتبع ذلك من الرقص والتصفيق والتبرج وعزف الفرق الموسيقية داخل ساحات المسجد .
إن هذه الاحتفالات بدعة ولا يجوز فعلها ولا يصح اعتبار المولد عيداً من أعياد المسلمين ويدل على عدم جواز كل ذلك ما يلي :
أولاً : إن هذا العمل ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة ولم يفعله السلف الصالح بل ذلك من [ البدع المحدثة في الدين لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله على الجميع ولا التابعون لهم بالإحسان في القرون المفضلة وهم أعلم الناس بالسنة وأكمل حباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتابعة لشرعه ممن بعدهم وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أي مردود عليه وقال في حديث آخر :( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها وقد قال الله سبحانه في كتابه المبين :( وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) وقال عز وجل :( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) وقال سبحانه :( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) وقال تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) وقال تعالى :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلامَ دِينًا ) والآيات في هذا المعنى كثيرة وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله وهذا بلا شك فيه خطر عظيم واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة ] (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن المولد :[ فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منَّا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له منَّا وهم على الخير أحرص ] (2).
وقال الشيخ تاج الدين الفاكهاني :[ لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين ] (3).
وقال الونشريسي تحت عنوان " التحبيس - الوقف - على إقامة ليلة المولد ليس بمشروع " :[ وسئل الأستاذ أبو عبد الله الحفار عن رجل حبس أصل توت على ليلة مولد سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم مات المحبس فأراد ولده أن يتملك أصل التوت المذكور فهل له ذلك أم لا ؟
__________
(1) التحذير من البدع ص 3-4 .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم ص 295 .
(3) عمل المولد ص 20-21 نقلاً عن التبرك أنواعه وأحكامه ص 362 ، وانظر الحاوي 1/190-191 فقد نقل كلام الفاكهاني .(/69)
فأجاب : وقفت على السؤال فوقه وليلة المولد لم يكن السلف الصالح وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون لهم يجتمعون فيها للعبادة ولا يفعلون فيها زيادة على سائر ليالي السنة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ُيعظم إلا بالوجه الذي شرع فيه تعظيمه ، وتعظيمه من أعظم القرب إلى الله لكن يتقرب إلى الله جل جلاله بما شرع ، والدليل على أن السلف لم يكونوا يزيدون فيها زيادة على سائر الليالي أنهم اختلفوا فيها، فقيل إنه - صلى الله عليه وسلم - ولد في رمضان ، وقيل في ربيع ، واختلف في أي يوم ولد فيه على أربعة أقوال ، فلو كانت تلك الليلة التي ولد في صبيحتها تحدث فيها عبادة بولادة خير الخلق - صلى الله عليه وسلم - لكانت معلومة مشهورة لا يقع فيها اختلاف ، ولكن لم تشرع زيادة تعظيم ألا ترى أن يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس وأفضل ما يفعل في اليوم الفاضل صومه وقد نهى النبي- صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة مع عظيم فضله فدل هذا على أنه لا تحدث عبادة في زمان ولا في مكان إلا إن شرعت ، وما لم يشرع لم يفعل ، إذ لا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما أتى به أولها ولو فتح هذا الباب لجاء قوم فقالوا : يوم هجرته إلى المدينة يوم أعز الله فيه الإسلام فيجتمع فيه ويتعبد ، ويقول آخرون الليلة التي أسري به فيها حصل له من الشرف مالا يقدر قدره فتحدث فيها عبادة ، فلا يقف ذلك عند حدّ ، والخير كله في اتباع السلف الصالح الذين اختارهم الله له فما فعلوا فعلناه وما تركوا تركناه فإذا تقرر هذا ظهر أن الاجتماع في تلك الليلة ليس بمطلوب شرعاً بل يؤمر بتركه ووقوع التحبيس عليه مما يحمل على بقاءه واستمراره ما ليس له أصل في الدين فمحوه وإزالته مطلوب شرعاً ] (1).
وقال الونشريسي أيضاً :[ وسئل سيدي أحمد القباب عما يفعله المعلمون من وقد الشمع في مولد النبي- صلى الله عليه وسلم - واجتماع الأولاد للصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم - ويقرأ بعض الأولاد ممن هو حسن الصوت عشراً من القرآن وينشد قصيدة في مدح النبي- صلى الله عليه وسلم - ويجتمع الرجال والنساء بهذا السبب ...
فأجاب بأن قال: جميع ما وصفت من محدثات البدع التي يجب قطعها ومن قام بها أو أعان عليها أو سعى في دوامها فهو ساعٍ في بدعة وضلالة ، ويظن بجهله أنه بذلك معظم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - قائم بمولده ، وهو مخالف سنته مرتكب لمنهيات نهى عنها- صلى الله عليه وسلم - ، متظاهر بذلك محدث في الدين ما ليس منه ، ولو كان معظماً له حق التعظيم لأطاع أوامره فلم يحدث في دينه ما ليس منه ، ولم يتعرض لما حذر الله تعالى منه حيث قال : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )] (2).
ثانياً : إن الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً فيه تشبه بأهل الكتاب فالنصارى يحتفلون بعيد مولد عيسى عليه السلام كما يزعمون في نهاية كل عام ميلادي ، وكذلك اليهود يحتفلون بأعياد زعموها لأنبيائهم فإذا احتفل المسلمون بعيد المولد النبوي غير المشروع فقد تشبهوا بأهل الكتاب وقد نهينا عن التشبه بهم ، قال العلامة ابن القيم :[ ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات كيوم الميلاد ويوم التعميد وغير ذلك من أحواله ] (3).
ثالثاً : إن الاحتفال بالمولد أمر محدث لم تعرفه القرون الأولى الفاضلة وأول من أحدث هذه البدعة أحد خلفاء الدولة الفاطمية من الرافضة وهو المعز لدين الله وذلك سنة 362 هـ بالقاهرة فقد أحدث ستة موالد وهي : المولد النبوي ومولد الإمام علي ومولد فاطمة ومولد الحسن والحسين ومولد الخلفية المعاصر وبقيت هذه الموالد إلى أن أبطلها الأفضل أمير الجيوش بن بدر الجمالي سنة 488 هـ ثم أعيد الاحتفال بها سنة في خلافة الآمر بأحكام الله سنة 524 هـ ، وكان أول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي بالعراق صاحب إربل الملك أبو سعيد كوكبوري في القرن السابع الهجري (4).
والسؤال أين كان المسلمون خلال عدة قرون عن هذا الاحتفال لو كان مشروعاً؟ وأين كان الصحابة والتابعون وسلف الأمة عن هذا الاحتفال لو كان مشروعاً ؟
والله لو كان الاحتفال بالمولد النبوي مشروعاً لسبقونا إليه فإنهم أشد حباً لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ممن جاء بعدهم وهم أشد اتباعاً ممن خلفهم .
رابعاً : إن يوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -ليس معلوماً على الوجه القطعي فقد اختلف العلماء في تعيين يوم مولده فمنهم من قال ولد يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول وهذا القول هو المشهور .
__________
(1) المعيار المعرب 7/99-100 .
(2) المعيار المعرب 12/48-49 .
(3) زاد المعاد 1/59 .
(4) الإبداع ص 251 ، التبرك أنواعه وأحكامه ص 360-361 ، وانظر البدع الحولية ص 137 فما بعدها .(/70)
وقيل في الثاني منه وقيل في الثامن منه وقيل في العاشر وقيل في السابع عشر منه وقيل في الثامن عشر منه .
ورجح بعض العلماء المحدثين أنه - صلى الله عليه وسلم - ولد في التاسع من ربيع الأول وحسب ذلك فلكياً (1).
وبناء على هذا الاختلاف فإن جعل الاحتفال بالمولد في الثاني عشر من ربيع الأول لا أصل له من الناحية التاريخية فهو تحكم بدون مستند (2).
ووقوع هذا الخلاف في يوم مولده يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم لم يروا أن لذلك اليوم شعاراً خاصاً به لأنهم لو كان يعلمون أن لهذا اليوم شعاراً خاصاً لعينوه واهتموا به ولصار معلوماً مشهوراً ولما لم يكن ذلك دل على عدم مشروعية الاحتفال من أصله .
خامساً : إن احتفال كثير من المحتفلين بالمولد النبوي يتضمن في الغالب مفاسد ومنكرات عديدة منها :
أ. إن كثيراً من القصائد والمدائح التي يُتَغَنى بها في المولد لا تخلو من ألفاظ الشرك وعبارات الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في قصيدة البوصيري :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي صفحاً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فمثل هذه الأوصاف لا تصح إلا الله عز وجل فكيف تكون الدنيا والآخرة من جود النبي- صلى الله عليه وسلم - ؟ وكيف يكون علم اللوح والقلم من علم النبي- صلى الله عليه وسلم - ؟ وماذا أبقى هذا الشاعر لله تعالى ؟!! (3)
لا شك أن هذا من الغلو وقد نهى النبي- صلى الله عليه وسلم - عن الغلو بقوله :( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله ) رواه البخاري (4).
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :( إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان وهو حديث صحيح صححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه النووي والألباني وغيرهم (5).
ب. ومن البدع القبيحة التي تقع في بعض الاحتفالات بالمولد النبوي قيام الحاضرين تعظيماً وإكراماً عند ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم - وخروجه إلى الدنيا لأنهم يعتقدون حضور الرسول - صلى الله عليه وسلم - لاحتفالهم كما زعموا .
قال العلامة الشيخ عبد العزيز باز في إبطال هذه البدعة :[ ومن ذلك أن بعضهم يظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحضر المولد ولهذا يقومون له محيين ومرحبين وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل فإن الرسول- صلى الله عليه وسلم - لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ولا يتصل بأحد من الناس ولا يحضر اجتماعاتهم بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة كما قال الله تعالى في سورة المؤمنين :
( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وأنا أول شافع وأول مشفع ) عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث كلها تدل على أن النبي- صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به ] (6).
المبحث الثاني عشر
بدعة الاحتفال بعيد الميلاد
من البدع المنكرة التي انتشرت بين الناس إقامة حفلات عيد الميلاد لأبنائهم وبناتهم فكلما مرّ عام على موعد ولادة الشخص ابناً كان أو بنتاً أو زوجاً أو زوجة يقيمون له حفلة عيد ميلاد فيصنعون الحلوى وما يسمى بكعكة عيد الميلاد ويضعون عليها الشموع بعدد سنوات العمر التي مضت وينشدون أنشوده مخصوصة لهذا الاحتفال باللغة الإنجليزية ، وهي :
Happy birth day to you ...
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في المواهب اللدنية 1/140-142 ، شرح الزرقاني على المواهب 1/246-248 ، لطائف المعارف ص 184-185 .
(2) انظر فتاوى العقيدة ص 621 .
(3) فتاوى العقيدة ص 619-620 ، التبرك أنواعه وأحكامه ص 365-366 .
(4) صحيح البخاري مع الفتح 7/300 .
(5) الفتح الرباني 12/169 ، سنن النسائي 5/268 ، سنن ابن ماجة 2/1008، صحيح ابن حبان 9/183 ، المستدرك 2/120 ، المجموع 8/171، السلسلة لصحيحة 3/278 .
(6) التحذير من البدع ص 6 .(/71)
وهذا الاحتفال بدعةٌ ومنكرٌ وتشبهٌ بالنصارى فإن أصل فكرة عيد الميلاد نبتت من النصارى الذين يحتفلون بعيد ميلاد عيسى عليه السلام في كل عام ، فتقام له الاحتفالات في الكنائس في أواخر الشهر الأخير من العام الميلادي عند بعض طوائف النصارى وتحتفل طوائف أخرى به في أوائل الشهر الأول من العام ومما يؤسف له أن بعض المسلمين يشاركون في هذه الاحتفالات معهم في كنائسهم ، وآخرون من المسلمين يقيمون حفلات الرقص والغناء في هذه الأيام ويتخلل هذه الاحتفالات كثير من المنكرات أقلها اختلاط الرجال بالنساء المتبرجات ويتخللها الرقص وشرب الخمور وأمور أخرى يخجل الإنسان من ذكرها فنسأل الله العفو والعافية.
وقد حذر العلماء منذ عهد بعيد من مشاركة المسلمين لأهل الكتاب في احتفالاتهم الدينية وشعائرهم ويظهر من استقراء الكتب التي تحدثت عن هذه المسألة أن بعض العوام من المسلمين ممن ضعف إيمانهم وكثر جهلهم بأحكام الإسلام كانوا يشاركون النصارى احتفالاتهم أو يظهرون مظاهر عيدهم فقد حذر الإمام أبو بكر الطرطوشي المتوفى سنة 530 هـ المسلمين من المشاركة في هذه الاحتفالات (1).
وكذلك فعل شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ وتلميذه العلامة ابن القيم والشيخ إدريس التركماني وكذلك فعل جلال الدين السيوطي وغيرهم (2).
وقد اتفق أهل العلم على تحريم حضور أعياد أهل الكتاب والتشبه بهم فيها وقد نص على ذلك فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم (3).
ومن نصوص العلماء في ذلك ما يلي :
1. ما ورد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال :( لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم ) رواه عبد الرزاق والبيهقي وإسناده صحيح كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم (4).
2. وعن عمر أيضاً أنه قال : ( اجتنبوا أعداء الله في دينهم ) رواه البيهقي (5).
3. وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال :( من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة ) رواه البيهقي (6).
4. وقد ورد عن جماعة من التابعين في تفسير قوله تعالى :( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) (7). أن ذلك أعياد المشركين ، فقد ورد عن محمد بن سيرين أنه قال في تفسير الزور بأنه الشعانين - وهو عيد للنصارى - .
وورد عن مجاهد أنه قال :[ هو أعياد المشركين ونحوه ورد عن الربيع بن أنس والضحاك وأبي العالية وطاووس ] (8).
5. قال أبو القاسم هبة الله بن الحسين الطبري الفقيه الشافعي :[ ولا يجوز للمسلمين أن يحضروا أعيادهم لأنهم على منكر وزور وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير الإنكار عليهم كانوا كالراضين به المؤثرين له فنخشى من نزول سخط الله على جماعتهم فيعم الجميع نعوذ بالله من سخطه ] (9).
6. وقال أبو الحسن الآمدي :[ لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود ، نص عليه أحمد في رواية مهنا . واحتج بقوله تعالى :( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال : الشعانين وأعيادهم (10).
7. وقال الشيخ إدريس التركماني :[ ومن قلة التوفيق والسعادة ما يفعله المسلم الخبيث في يوم يعرف بالميلاد فيشتري لأولاده القصب والشمع والقفص ... فيقع في البدع ويخرج عن طريق النبي المختار صلوات الله عليه وسلامه آناء الليل وأطراف النهار وفي فعلته هذه قد تشبه بالكفار ... ] (11).
8. وقال الشيخ إدريس التركماني أيضاً :[ وقد أجمع الأئمة على ما شرط عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وسائر الصحابة أن أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم وشعائرهم في بلاد المسلمين فإذا منعهم الشرع فمن لم ينكر عليهم في إظهار ذلك وشاركهم في شيء من أفعالهم أو ساعدهم بإعارة شيء أو كثر سوادهم حشر معهم ] (12).
__________
(1) الحوادث والبدع ص 150 .
(2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم ص 180 فما بعدها ، أحكام أهل الذمة 2/156 ، اللمع في الحوادث والبدع 1/293 فما بعدها ، الأمر بالاتباع ص 144 فما بعدها .
(3) انظر أحكام أهل الذمة 2/156 ، التشبه المنهي عنه ص 335 .
(4) السنن الكبرى 9/234 ، مصنف عبد الرزاق 1/411 ، اقتضاء الصراط المستقيم ص 199 أحكام أهل الذمة 2/156 .
(5) السنن الكبرى 9/234 .
(6) السنن الكبرى 9/234 .
(7) سورة الفرقان الآية 72 .
(8) اقتضاء الصراط المستقيم ص 181 ، تفسير ابن كثير 3/328-329 .
(9) أحكام أهل الذمة 2/156 .
(10) اقتضاء الصراط المستقيم ص 201 ، أحكام أهل الذمة 2/157 .
(11) اللمع في الحوادث والبدع 1/293 .
(12) المصدر السابق 1/296-297 .(/72)
9. وقال جلال الدين السيوطي :[ ومما يفعله كثير من الناس في أيام الشتاء ويزعمون أنه ميلاد عيسى عليه السلام فجميع ما يصنع أيضاً في هذه الليالي من المنكرات مثل : إيقاد النيران وإحداث طعام وشراء شمع وغير ذلك فإن اتخاذ هذه المواليد موسماً هو دين النصارى ليس لذلك أصل في دين الإسلام ولم يكن لهذا الميلاد ذكر في عهد السلف الماضين بل أصله مأخوذ عن النصارى وانضم إليه سبب طبيعي وهو كونه شتاء المناسب لإيقاد النيران ] (1).
وقال السيوطي أيضاً :[ ومن ذلك أعياد اليهود أو غيرهم من الكافرين أو الأعاجم والأعراب الضالين لا ينبغي للمسلم أن يتشبه بهم في شيء من ذلك ولا يوافقهم عليه .
قال الله تعالى لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم - :( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الامْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ). وأهواء الذين لا يعلمون هو : ما يهوونه من الباطل فإنه لا ينبغي للعالم أن يتبع الجاهل فيما يفعله من هوى نفسه .
قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) . فإذا كان هذا خطابه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فكيف حال غيره إذا وافق الجاهلين أو الكافرين وفعل كما يفعلون مما لم يأذن به الله ورسوله !! ويتابعهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم!! وترى اليوم كثيراً من علماء المسلمين الذين يعلمون العلم الظاهر وهم منسلخون منه في الباطن يصنعون ذلك مع الجاهلين في مواسم الكافرين بالتشبه بالكافرين ] (2).
10. وقال السيوطي أيضاً :[ واعلم أنه لم يكن على عهد السلف السابقين من المسلمين من يشاركهم في شيء من ذلك فالمؤمن حقاً هو السالك طريق السلف الصالحين المقتفي لآثار نبيه سيد المرسلين المقتدي بمن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين جعلنا الله منهم بمنه وكرمه إنه جواد كريم ولا ينظر الرجل إلى كثرة الجاهلين الواقعين في مشابهة الكافرين والعلماء الغافلين وموافقتهم فقد قال السيد الجليل الفضيل بن عياض - رضي الله عنه - : عليك بطريق الهدى وإن قلَّ السالكون واجتنب طريق الردى وإن كثر الهالكون . اللهم اجعلنا من المهتدين المتبعين لآثار سبيل الصالحين ولا تجعلنا من الهالكين المتبعين لآثار سبيل الكافرين الضالين بمنك وكرمك إنك جواد كريم ] (3).
11. وسئل الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :[ عن حكم تهنئة الكفار بعيد الكريسمس ؟ وكيف نرد عليهم إذا هنؤونا بها ؟ وهل يجوز الذهاب إلى أماكن الحفلات التي يقيمونها بهذه المناسبة ؟ وهل يأثم الإنسان إذا فعل شيئاً مما ذكر بغير قصد ؟ وإنما فعله إما مجاملةً أو حياءً أو إحراجاً أو غير ذلك من الأسباب ؟ وهل يجوز التشبه بهم في ذلك ؟
__________
(1) الأمر بالاتباع ص 145 .
(2) المصدر السابق ص 146 .
(3) المصدر السابق ص 152 .(/73)
فأجاب فضيلته بقوله : تهنئة الكفار بعيد الكريسمس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق كما نقل ذلك ابن القيم - يرحمه الله - في كتابه " أحكام أهل الذمة " حيث قال : وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول : عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثماً عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه . وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ولا يدري قبح ما فعل فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه . انتهى كلامه - يرحمه الله - . وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراماً وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم لأن فيها إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر ورضى به لهم وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو يهنئ بها غيره لأن الله تعالى لا يرضى بذلك كما قال الله تعالى :( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) وقال تعالى :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا . وإذا هنئونا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك لأنها ليست بأعياد لنا ولأنها أعياد لا يرضاها الله تعالى لأنها إما مبتدعة في دينهم وإما مشروعة لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمداً- صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الخلق وقال فيه :( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها لما في ذلك من مشاركتهم فيها .
وكذلك يحرم على المسلمين التشبه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة أو تبادل الهدايا أو توزيع الحلوى أو أطباق الطعام أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( من تشبه بقوم فهو منهم ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " : مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء . انتهى كلامه - يرحمه الله - ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملةً أو تودداً أو حياءً أو لغير ذلك من الأسباب لأنه من المداهنة في دين الله ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم .
والله المسئول أن يعز المسلمين بدينهم ويرزقهم الثبات عليه وينصرهم على أعدائهم إنه قوي عزيز ] (1).
المبحث الثالث عشر
بدعة الاحتفال بالإسراء والمعراج
جرت عادة المسلمين في هذه الديار وغيرها على الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج في السابع والعشرين من شهر رجب من كل عام وفي هذا اليوم تعطل الدوائر والمؤسسات والمدارس والجامعات وتقام الاحتفالات في المساجد وقبل بيان بدعية هذه الاحتفالات أقول إن حادثة الإسراء والمعراج حق وصدق لا شك في ذلك ولا ريب وقد ثبت ذلك بكتاب الله سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأشارت إلى ذلك أول آية من سورة الإسراء حيث يقول الله تعالى :( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (2).
وأما أنه - صلى الله عليه وسلم - أسري به في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب فلم يثبت ذلك بسند صحيح فقد اختلف العلماء في وقت الإسراء والمعراج على أقوال كثيرة ، قال الحافظ ابن حجر :[ وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث ثم اختلفوا فقيل قبل الهجرة بسنة قاله ابن سعد وغيره وبه جزم النووي وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه وهو مردود فإن في ذلك اختلافاً كثيراً يزيد على عشرة أقوال ] (3).
ثم ذكر الحافظ هذه الأقوال وهي :
1. قبل الهجرة بثمانية أشهر .
2. قبل الهجرة بستة أشهر .
3. قبل الهجرة بسنة .
4. قبل الهجرة بأحد عشر شهراً .
5. قبل الهجرة بسنة وشهرين .
6. قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر .
7. قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً .
8. قبل الهجرة بثلاث سنوات .
9. قبل الهجرة بخمس سنوات .
وكما أنهم اختلفوا في تحديد السنة التي حدثت فيها حادثة الإسراء والمعراج فكذلك اختلفوا في الشهر الذي وقعت فيه ، فقيل :
__________
(1) فتاوى العقيدة ص 246-248 .
(2) سورة الإسراء آية 1 .
(3) فتح الباري 8/201 .(/74)
كان ذلك في السابع والعشرين من رجب . وقيل في شهر رمضان . وقيل في شهر شوال . وقيل في شهر ربيع الأول . وقيل في شهر ربيع الثاني . وقد ذكر هذه الأقوال كلها الحافظ ابن حجر (1).
وقال الإمام أبو الخطاب ابن دحية :[ وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب . قال الإمام أبو إسحاق الحربي : أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الأول ] (2).
وقد بحث المسألة أيضاً الإمام القرطبي في تفسيره وذكر الاختلاف الكبير في تحديد وقت الإسراء والمعراج وزاد أنه قد روي أن الإسراء كان بعد مبعثه بخمس سنين (3).
وأضاف الحافظ ابن كثير أن من العلماء من يرى أن الإسراء والمعراج وقع قبل الهجرة بستة عشر شهراً وكان ذلك في شهر ذي القعدة وذكر أن بعض الناس ادعى أن ذلك كان أول ليلة جمعة من شهر رجب وعقب على ذلك بأنه لا أصل (4).
وقال العلامة أبو شامة المقدسي :[ وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب ] (5) ، وهذه العبارة سبقت في كلام ابن دحية .
وقال الإمام النووي :[ وكان الإسراء سنة خمس أو ست من النبوة وقيل سنة اثنتي عشرة منها وقيل بعد سنة وثلاثة أشهر منها وقيل غير ذلك . وكان ليلة السابع والعشرين من شهر ربيع الأول ] (6).
وقال العلامة ابن القيم ناقلاً عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية :[ ولم يقم دليل معلوم لا شهرها ولا على عشرها ولا على عينها بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ليس فيها ما يقطع به ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره ] (7).
وقال العلامة ابن القيم أيضاً:[ ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها لا سيما على ليلة القدر ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت وإن كان الإسراء من أعظم فضائله ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية بل غار حراء الذي ابتدأ فيه بنزول الوحي وكان يتحراه قبل النبوة لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها ولا خص المكان الذي ابتدأ فيه بالوحي ولا الزمان بشيء ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات كيوم الميلاد ويوم التعميد وغير ذلك من أحواله وقد رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جماعة يتبادرون مكاناً يصلون فيه فقال : ما هذا ؟ قالوا : مكان صلَّى فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - . فقال : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، فمن أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض ] (8) وقد ذكر محققا الكتاب أن أثر ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وسنده صحيح (9).
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي :[ وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة ولم يصح شيء من ذلك فروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد في أول ليلة منه وأنه بعث في السابع والعشرين منه وقيل في الخامس والعشرين ولا يصح شيء من ذلك وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي- صلى الله عليه وسلم - كان في سابع وعشرين من رجب وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره وروي عن قيس بن عباد قال: في اليوم العاشر من رجب ] (10). وبعد هذا العرض للأقوال الواردة في وقت حادثة الإسراء والمعراج أقول إنه لم يثبت بحديث صحيح ولا خبر صحيح عن صحابي توقيت هذه الحادثة لا في السابع والعشرين من رجب ولا غيره وبناء على ذلك ، فإن تحديد السابع والعشرين من رجب على أنه وقتها غير صحيح وينقصه الدليل الثابت وقد رأينا أن أهل العلم لم يثبتوا تلك الروايات الواردة في تعيين وقت هذه الحادثة وحتى لو سلمنا جدلاً أن وقت حادثة الإسراء والمعراج معلوم لا يجوز للمسلمين الاحتفال بهذه المناسبة لأن ذلك لم يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز لهم أن يعتبروها عيداً من أعياد المسلمين تتعطل فيه الأعمال وتقام فيه الاحتفالات لأن ذلك زيادة في الدين وشرع لم يأذن به الله .
__________
(1) فتح الباري 8/280 .
(2) أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين في رجب ص 53-54 .
(3) تفسير القرطبي 10/210 .
(4) البداية والنهاية 3/107 .
(5) الباعث ص 116 .
(6) فتاوى الإمام النووي ص 28 .
(7) زاد المعاد 1/57 .
(8) زاد المعاد 1/58-59 .
(9) المصدر السابق 1/59 .
(10) لطائف المعارف ص 233 .(/75)
قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز :[ وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بالحديث ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات فلم يجز لهم أن يحتفلوا بها لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم لم يحتفلوا بها ولم يخصوها بشيء ولو كان الاحتفال بها أمراً مشروعاً لبينه الرسول- صلى الله عليه وسلم - للأمة إما بالقول أو الفعل ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر ولنقله الصحابة رضي الله عنهم إلينا فقد نقلوا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء تحتاجه الأمة ولم يفرطوا في شيء من الدين بل هم السابقون إلى كل خير فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعاً لكانوا أسبق الناس إليه والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أنصح الناس للناس وقد بلَّغ الرسالة غاية البلاغ وأدى الأمانة فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الإسلام لم يغفله النبي- صلى الله عليه وسلم - ولم يكتمه فلما لم يقع شيء من ذلك علم أن الاحتفال بها وتعظيمها ليس من الإسلام في شيء وقد أكمل الله لهذا الأمة دينها وأتم عليها النعمة وأنكر على من شرع في الدين ما لم يأذن به الله قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين من سورة المائدة :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلامَ دِينًا ) ، وقال عز وجل في سورة الشورى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة التحذير من البدع والتصريح بأنها ضلالة تنبيهاً للأمة على عظم خطرها وتنفيراً لهم من اقترافها ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنه - عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال :( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وفي رواية لمسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) وفي صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال :( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته يوم الجمعة : أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد- صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )] (1).
وقال الشيخ علي محفوظ :[ ومنها ليلة المعراج التي شرف الله تعالى هذه الأمة بما شرع لهم فيها وقد تفنن أهل هذا الزمان بما يأتونه في هذه الليلة من المنكرات وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروباً كثيرة كالاجتماع في المساجد وإيقاد الشموع والمصابيح فيها وعلى المنارات مع الإسراف في ذلك واجتماعهم للذكر والقراءة وتلاوة قصة المعراج وكان ذلك حسناً لو كان ذكراً وقراءة وتعليم علم لكنهم يلعبون في دين الله فالذاكر على ما عرفت والقارئ على ما سمعت فيزيد فيه ما ليس منه وينقص منه ما هو فيه وما أحسن سير السلف فإنهم كانوا شديدي المداومة على ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخرجون عن الثابت قيد شعرة ويعتقدون الخروج عنه ضلالة لا سيما عصر الصحابة ومن بعدهم من أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير رضي الله عنهم أجمعين ] (2).
المبحث الرابع عشر
بدعة الاحتفال بالهجرة
ومن البدع المحدثة بدعة الاحتفال بذكرى هجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم - في اليوم الأول من شهر محرم من كل عام حيث يتخذ هذا اليوم عيداً وعطلةً رسميةً وهو بدعةٌ . وأول من احتفل برأس السنة الهجرية هم الفاطميون في مصر كما اشر إلى ذلك المقريزي حيث قال :[ موسم رأس السنة : وكان للخلفاء الفاطميين اعتناء بليلة أول محرم في كل عام لأنها أول ليالي السنة وابتداء أوقاتها ... ] (3).
ومن المعلوم لدى أهل الحديث والسيرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - هاجر من مكة إلى المدينة في أوائل شهر ربيع الأول من السنة الثالثة عشرة لبعثته- صلى الله عليه وسلم - حيث وصل إلى قباء إحدى ضواحي المدينة النبوية لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين كما قال الحافظ ابن كثير (4).
وقال العلامة القسطلاني :[ وجزم ابن إسحاق أنه خرج أول يوم من ربيع الأول فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوماً وكذا جزم الأموي في المغازي عن ابن إسحاق فقال : كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال . قال : وخرج لهلال ربيع الأول ، وقدم المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ] (5).
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 3/45 .
(2) الإبداع ص 272 .
(3) الخطط والآثار للمقريزي 1/490 نقلاً عن البدع الحولية ص 397 .
(4) البداية والنهاية 3/188 .
(5) المواهب اللدنية 1/288 ، وانظر شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 2/101-102 .(/76)
ولم تكن هجرته- صلى الله عليه وسلم - في الأول من المحرم كما يظن كثير من الناس وإنما حدث في عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - أن اتخذ التاريخ واختار الصحابة- رضي الله عنه - التأريخ بهجرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم - ، قال الإمام البخاري في الصحيح :
( باب التاريخ من أين أرخوا ؟) ثم روى بسنده عن سهل بن سعد قال : [ ما عدّوا من مبعث النبي- صلى الله عليه وسلم - ولا من وفاته ما عدُّوا إلا من مقدمه المدينة] وقال الحافظ ابن حجر :[ وإنما أخروه - التاريخ - من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم فناسب أن يجعل مبتدأ . وهذا أقوى ما وقفت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم ] (1).
وبناءً على ما تقدم فإن الأول من المحرم هو بداية السنة الهجرية وليس هو موعد هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى كلا الحالين لا يجوز اتخاذ الأول من المحرم عيداً وتخصيصه بنوع من العبادة أو الذكر لأن هذا الأمر بدعة لم يفعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعلها أحد من خلفائه ولا من صحابته فلا يصح اتخاذه عيداً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ إذ الأعياد شريعة من الشرائع فيجب فيها الاتباع لا الابتداع وللنبي - صلى الله عليه وسلم -خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة مثل يوم بدر وحنين والخندق وفتح مكة ووقت هجرته ودخول المدينة وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ مثال تلك الأيام أعياداً وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعياداً أو اليهود وإنما العيد شريعة فما شرعه الله اتبع وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه ] (2).
ويستدل أيضاً على عدم شرعية الاحتفال بذكرى الهجرة بما يلي :
1. إن ما جرى في الزمان من الأحداث والوقائع كالهجرة النبوية وليلة الإسراء والمعراج وغزوات النبي- صلى الله عليه وسلم - وغيرها من الأحداث العظيمة لا يوجب ذلك أن تتخذ ذكريات هذه المناسبات مواسم وأعياداً يحتفل بها أو تعظم على غيرها وتخصص ببعض العبادات وذلك لأنها لم تعظم أو تخصص من قبل الشرع .
2. من القواعد الشرعية المعروفة أن العبادة توقيفية كما قال تعالى :( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الامْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (3).
وقال نبيه - صلى الله عليه وسلم - :( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ولا ريب أن الأعياد والمواسم الدينية من مسائل العبادة وكذا طلب البركة والخير والأجر في زمان معين وليس في الشريعة الإسلامية ما يجيز التبرك أو الاحتفال بتلك المواسم ولذا لم يؤثر ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته ولا عن التابعين لهم بإحسان . ففعل ذلك من البدع التي أحدثها الناس في الدين مع ما فيها من التشبه بأهل الكتاب ومع ما قد تتضمنه من المفاسد .
3. إذا كانت إقامة الاحتفالات والأعياد بهذه المناسبات من باب شكر الله تعالى أو تعظيم نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما يدعي بعضهم ، فالجواب على هذا : أن شكر الله تعالى إنما يكون بطاعته وعبادته عز وجل على وفق شرعه سبحانه وتعالى كما أن تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - واحترامه يكون بطاعته أيضاً ومحبته والصلاة عليه واتباع سنته عليه أفضل الصلاة والسلام وعدم الابتداع في الدين .
4. ليس المقصود من الاقتداء بالرسول- صلى الله عليه وسلم - والاتعاظ بسيرته والانتفاع بأحداثها وما فيها من دروس وعبر أن يكون ذلك مجرد ذكريات فقط تقام لها الاحتفالات والخطب في أيام محددة من السنة ثم تنسى إنما المطلوب أن يكون النظر في سيرته- صلى الله عليه وسلم - والانتفاع بما وقع فيها من أحداث ووقائع شريفة واستخراج الدروس والعبر منها أن يكون ذلك طوال أيام السنة ولياليها على الوجه الشرعي فلا يختص بأوقات محددة ] (4).
المبحث الخامس عشر
بدع موسمية أخرى
__________
(1) فتح الباري 8/270 .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم ص 294 .
(3) سورة الجاثية الآية 18 .
(4) التبرك أنواعه وأحكامه ص 379 .(/77)
وهنالك بدع موسمية أخرى منتشرة تعطل فيها الأعمال والجامعات والمدارس وفي ذلك تعطيل لمصالح الناس وضرر يعود على طلاب العلم بسبب هذه الأعياد المزعومة كعيد رأس السنة الميلادية وهو اليوم الأول من شهر كانون الثاني من كل عام حيث إنه يوم عيد وعطلة رسمية في كثير من البلاد وكذلك عيد العمال ويقع في اليوم الأول من شهر أيار من كل عام وكذلك عيد الأم في الحادي والعشرين من آذار من كل عام وعيد الاستقلال وعيد الشجرة وعيد الحب الذي هو مظهر من مظاهر الفسق والفجور وغير ذلك من الأعياد ، فهذه الأعياد كلها مبتدعة لا يجوز للمسلم أن يحتفل بها أو أن يلقي لها بالاً وقد صح في الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) وليس الاحتفال بهذه المناسبات من عمله - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم ولا من عمل سلف الأمة بل هو تشبه بأهل الكتاب وغيرهم من الناس (1). والمسلمون عندهم عيدان شرعيان فقط يحتفل بهما وهما عيد الفطر وعيد الأضحى فقد ورد في الحديث عن أنس- رضي الله عنه - قال :( قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال : ما هذان ؟ قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول- صلى الله عليه وسلم - : إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر ) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا إسناد على شرط مسلم وصححه الشيخ الألباني (2).
المبحث السادس عشر
البدع المتعلقة بقراءة القرآن الكريم
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ما يتعلق بسورة الفاتحة :
اعتاد كثير من الناس على قراءة سورة الفاتحة عند الانتهاء من إلقاء درس أو موعظة وعند الانتهاء من قراءة سورة من القرآن فعندما يختم القارئ قراءته يقول للسامعين الفاتحة وكذلك عند عقد الزواج وعند الانتهاء من الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان وعند المرور بالقرب من المقبرة وعند ختم الصلاة وعند الاتفاق على صفقة بيع أو شراء ، وعند إتمام صلح بين متخاصمين يقرؤون الفاتحة وغير ذلك من المواضع.
ولا شك أن سورة الفاتحة هي أعظم سورة في القرآن الكريم وهي السبع المثاني كما قال تعالى :(َوَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ ) (3).
قال القرطبي :[ سميت بذلك لأنها تثنى في كلى ركعة ] (4).
وقد ثبت فضل سورة الفاتحة في عدة أحاديث منها :
عن أبي سعيد بن المعلى - رضي الله عنه - قال:( مرَّ بي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت . ثم أتيت فقال : ما منعك أن تأتي ؟ فقلت : كنت أصلي ، فقال : ألم يقل الله ( يا أيها الذين آمنوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) ثم قال : ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد . فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخرج فذكرته فقال : الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) رواه البخاري (5).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :( بينما جبريل قاعد عند النبي- صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل إلا اليوم، فسلَّم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته ) رواه مسلم (6). وغير ذلك من الأحاديث .
وقراءة الفاتحة وغيرها من سور القرآن الكريم عبادة من العبادات والأصل في العبادات التلقي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولم ينقل عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ الفاتحة بعد وعظه وإرشاده ولا بعد صلاة الجنازة ولا عند الزواج ولا في المناسبات التي شاع فيها قراءة الفاتحة في زماننا هذا .
وكل ذلك من الأمور المبتدعة المخالفة لهدي المصطفى- صلى الله عليه وسلم - ، قال الشيخ محمد رشيد رضا :[ فاعلم أن ما اشتهر وعمَّ البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد في حديث صحيح ولا ضعيف فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية ولكنه صار بِسُكُوتِ اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو الفرائض المحتمة ] (7).
__________
(1) انظر فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 3/59 .
(2) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 3/341 ، سنن النسائي 3/179 ، الفتح الرباني 6/118-119 ، اقتضاء الصراط المستقيم ص 184 ، صحيح سنن أبي داود 1/210 .
(3) سورة الحجر الآية 87 .
(4) تفسير القرطبي 1/112 .
(5) صحيح البخاري مع الفتح 9/453 .
(6) صحيح مسلم بشرح النووي 2/416-417 .
(7) تفسير المنار 8/268 .(/78)
وقال الشيخ الألباني :[ … ومما سبق تعلم أن قول الناس اليوم في بعض البلاد :" الفاتحة على روح فلان " مخالفٌ للسنة المذكورة فهو بدعةٌ بلا شك ] (1).
وقراءة الفاتحة بنية قضاء الحاجات وتفريج الكربات وهلاك الأعداء بدعة لم يأذن بها الدين … وقراءة الفاتحة عند خطبة الزواج واعتقاد الناس أن قراءتها عهد لا ينقض بدعة واعتقاد فاسد جاهل (2).
وأجابت اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن سؤال حول حكم القول : الفاتحة على روح فلان ، أو الفاتحة إن الله ييسر لنا ذلك الأمر وبعد ذلك بعد الميلاد يقرؤون سورة الفاتحة أو بعد أن يقرأ القرآن وينتهي من قراءته يقول الفاتحة ويقرؤها الحاضرون ، وكذلك جرى العرف على قراءة الفاتحة قبل الزواج فما حكم ذلك ؟ فأجابت اللجنة :
[ قراءة الفاتحة بعد الدعاء أو بعد قراءة القرآن أو قبل الزواج بدعة لأن ذلك لم يثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من صحابته- رضي الله عنه - وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ )] (3).
المسألة الثانية : ما يتعلق باستماع القرآن الكريم:
يقول الله تعالى :( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (4).
فالمطلوب من السامعين للتلاوة الإنصات والتدبر والتفكر في الآيات المتلوة ، ولكن كثيراً من السامعين يخلون بهذا الأدب فتراهم يجلسون أمام قارئ القرآن ويتحدثون فيما بينهم وإذا استمعوا فتسمعهم يقولون للقارئ عند قراءته آية : الله الله . الله يفتح عليك . ما شاء الله . تبارك الله . اللهم صلِ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وغير ذلك من الألفاظ وكل هذا من سوء الأدب مع كتاب الله سبحانه وتعالى ومن الأمور المبتدعة ، قال العز بن عبد السلام :[ الاستماع للقرآن والتفهم لمعانيه من الآداب المشروعة المحثوث عليها والاشتغال عن ذلك بالتحدث بما لا يكون أفضل من الاستماع ، سوء أدب على الشرع ] (5).
وقال السيوطي :[ يسن الاستماع لقراءة القرآن وترك اللغط والحديث بحضور القرآءة قال الله تعالى :( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )] (6).
وقد صح في الحديث عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( اقرأ عليَّ . قلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : نعم . فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية :( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ) قال : حسبك الآن ، فالتفت فإذا عيناه تذرفان ) رواه البخاري (7).
وفي رواية لمسلم قال عبد الله: ( فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل )(8).
ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة ، أما ما يفعله كثير من الناس اليوم في مجال القرآن فهو أمرٌ منكرٌ مبتدع (9).
قال الشيخ محمد عبد السلام :[ وقولهم لقارئ القرآن السيط : الله الله ، كمان ، كمان يا أستاذ ، هيه هيه ، الله يفتح عليك . حرمه الله بقوله : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) والحق أنهم لم يلتذوا بألفاظ القرآن لأنهم لم يفقهوا لها معنى بل ما كانت لذتهم إلا من حسن نغمة القارئ والدليل على ذلك أنه لو قرأ قارئ ليس حسن الصوت، السورة بعينها ، التي كانت تتلى عليهم لانفضوا من حوله سابين لاعنين له ولمن جاء به قائلين : جايب لنا فقي حسه زي حس الوابور .
ولقد وصف الله المؤمنين من عباده بأنهم :( إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ) وقال فيهم أيضاً :( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )] (10).
فهرس المحتويات
الموضوع ... رقم الصفحة
أقوال في الاتباع والابتداع ... 4
المقدمة ... 5
الفصل الأول : قواعد وأسس في السنة والبدعة ... 9
المبحث الأول : الحث على اتباع السنة والتحذير من البدعة وبيان أسباب الابتداع ... 11
أولاً : الآيات الكريمات التي تأمر بالاتباع وتنهى عن الابتداع ... 11
__________
(1) أحكام الجنائز ص 33 .
(2) السنن والمبتدعات ص217 ، انظر يسألونك 4/267-268 .
(3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 2/384 .
(4) سورة الأعراف الآية 204 .
(5) فتاوى العز بن عبد السلام ص 485-486 ، وانظر التبيان في آداب حملة القرآن ص 49.
(6) الإتقان 1/145 .
(7) صحيح البخاري مع الفتح 10/471 .
(8) صحيح مسلم بشرح النووي 2/413 .
(9) انظر اللمع في الحوادث والبدع 1/57 ، بدع القرآء ص 22 ، الإبداع ص 231 .
(10) السنن والمبتدعات ص 219-220 .(/79)
ثانياً : الأحاديث النبوية التي تأمر بالاتباع وتنهى عن الابتداع ... 14
ثالثاً : الآثار الواردة عن السلف في لزوم السنة وذم البدعة ... 17
المبحث الثاني : تعريف البدعة لغة واصطلاحاً ... 21
أولاً : تعريف البدعة لغة ... 21
ثانياً : تعريف البدعة اصطلاحاً ... 22
مناهج العلماء في تعريف البدعة ... 23
المنهج الأول في تعريف البدعة ... 23
أدلة القائلين بالمنهج الأول ... 25
المنهج الثاني في تعريف البدعة ... 28
أدلة القائلين بالمنهج الثاني ... 30
المنهج المختار في تعريف البدعة ... 35
المبحث الثالث : الأصل في العبادة الاتباع ... 45
الأدلة من السنة على هذا الأصل ... 45
الأدلة من آثار الصحابة على هذا الأصل ... 48
المبحث الرابع : لا يجوز إثبات نوع من العبادات لدخوله تحت الدليل العام بل لا بد من دليل خاص ... 56
المبحث الخامس : تقسيم السنة النبوية إلى فعلية وتركية وأثر الجهل بهذا الأصل في الابتداع ... 65
المبحث السادس : تقسيم البدعة إلى حقيقية وإضافية ... 74
البدعة الحقيقية ... 74
البدعة الإضافية ... 76
المبحث السابع : حكم البدعة ... 79
المبحث الثامن : أسباب الابتداع ... 86
المبحث التاسع : أسباب انتشار البدع ... 88
الفصل الثاني : البدع المنتشرة بين الناس في المساجد وغيرها ... 89
المبحث الأول : البدع المتعلقة بالأذان ... 91
المسألة الأولى : قراءة القرآن قبل الأذان للصلوات الخمس وقبل الأذان للجمعة ... 91
المسألة الثانية : الأذان بواسطة شريط مسجل عليه الأذان ... 93
المسألة الثالثة : الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان بحيث تكون جزءً منه ... 95
المسألة الرابعة : الذكر قبل أذان الفجر وقبل أذان العشاء ليلتي الإثنين والجمعة ... 103
المسألة الخامسة : قراءة سورة الإخلاص قبل إقامة الصلاة ... 107
المبحث الثاني : البدع المتعلقة بالنية ... 108
المسألة الأولى : الجهر بالنية ... 108
المسألة الثانية : طلب الإمام من المأمومين أن يستحضروا النية ... 119
المبحث الثالث : ختم الصلاة الجماعي ... 121
المبحث الرابع :بدعة المصافحة بعد الصلاة وقول المصلي للآخر تقبل الله منا ومنكم ... 126
المبحث الخامس : بدع محدثة في دعاء القنوت ... 131
تقليب اليدين عند الدعاء ... 132
مسح الوجه والبدن في دعاء القنوت ... 133
المبحث السادس : بدع الجمعة ... 136
المسألة الأولى : الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أذان الجمعة ... 136
المسألة الثانية : نداء المؤذن بين يدي خطيب الجمعة بحديث الإنصات ... 138
المسألة الثالثة : دعاء المؤذن عند جلوس الخطيب بين الخطبتين ... 141
المسألة الرابعة : رفع الخطيب يديه عند الدعاء في الخطبة ... 142
المبحث السابع : بدع العيدين ... 144
المسألة الأولى : قول المؤذن عند المناداة لصلاة العيد ( الصلاة جامعة ) ... 144
المسألة الثانية : فرقة التكبير وما تقوم به من أمور مبتدعة ... 152
المبحث الثامن : بدع الجنائز ... 154
المسألة الأولى : رفع الصوت بالذكر أثناء تشييع الجنازة ... 158
المسألة الثانية : بدعة التلقين بعد الدفن ... 160
المسألة الثالثة : قراءة الختمة للأموات ... 166
المسألة الرابعة : إحياء ذكرى الأربعين ... 170
المسألة الخامسة : بدعة التأبين ... 172
المسألة السادسة : وضع جريد النخيل والزهور والورود على القبور ... 175
المسألة السابعة : زيارة القبور يومي العيد ... 181
المسألة الثامنة : قراءة القرآن على القبور ... 185
المبحث التاسع : بدعة الاحتفال بموسم النبي موسى عليه السلام ... 191
وصف الاحتفال ... 191
أولاً : أين دفن موسى عليه السلام ... 195
ثانياً : شد الرحال إلى القبور والمقامات ... 199
ثالثاً : متى حدث الاحتفال بموسم النبي موسى ... 202
المبحث العاشر : البدع المتعلقة بالمسجد الأقصى ... 204
المسألة الأولى : بدعة تسمية المسجد الأقصى حرماً ... 204
المسألة الثانية : بدع الصوفية في المسجد الأقصى والأناشيد الدينية والفرق المنشدة ... 208
المسألة الثالثة : بدعة الطواف بمسجد قبة الصخرة ... 213
المسألة الرابعة : بدعة التمسح بالصخرة ... 214
خرافات متعلقة بالصخرة ... 215
المبحث الحادي عشر : بدعة الاحتفال بالمولد النبوي ... 222
الأدلة على بدعيته ... 226
المبحث الثاني عشر : بدعة الاحتفال بعيد الميلاد ... 230
المبحث الثالث عشر : بدعة الاحتفال بالإسراء والمعراج ... 237
المبحث الرابع عشر : بدعة الاحتفال بالهجرة ... 243
الأدلة على عدم شرعيته ... 245
المبحث الخامس عشر : بدع موسمية أخرى ... 247
المبحث السادس عشر : البدع المتعلقة بقراءة القرآن الكريم ... 248
المسألة الأولى : ما يتعلق بسورة الفاتحة ... 248
المسألة الثانية : ما يتعلق باستماع القرآن الكريم ... 251
فهرس الآيات ... 253
فهرس الأحاديث ... 259
فهرس الآثار ... 265(/80)
فهرس المصادر والمراجع ... 269
فهرس الموضوعات ... 286
انتهى(/81)
اتباع منهج أهل السنة والجماعة فرض عين على كل مسلم
بقلم؛ إبراهيم بن عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال: فضيلة الشيخ حفظك الله تعالى: أشرت في بعض دروسك إلى وجوب اتباع أهل السنة والجماعة في العقيدة والمنهاج ، إلا أنك لم تفصل المسألة ولم تذكر أدلة على ذلك، فما هو الدليل الشرعي على وجوب اتباع سبيل أهل السنة والجماعة جزاك الله خيراً ونفع بعلمك آمين؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فإن اتباع سبيل أهل السنة والجماعة واجب بدلالة الكتاب والسنة وإجماع العلماء المعتبرين خلفاً عن سلف ، وكل من يخالف ذلك عقيدة أو منهاجاً فهو آثم خارج عن الفئة المنصورة إلى يوم الدين.
قال تعالى : ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ) . (115) النساء
فهذه الآية الكريمة تبين بياناً واضحاً لا يحتمل أدنى تأويل وجوب اتباع سبيل المؤمنين ، وقد قرن الله سبحانه بين مشاققة الرسول ، وبين اتباع غير سبيل المؤمنين ، فكل من يتبع غير سبيل المؤمنين يكون مشاققاً للرسول ، وقد توعد الله سبحانه كل من خالف سبيل المؤمنين بجهنم وساءت مصيراً أعاذنا الله منها ، والمقصود بسبيل المؤمنين الذي يجب على كل مسلم أن يتبعه ، هو سبيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، قال تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) . (100) التوبة
فهذه الآية الكريمة إخبار من الله سبحانه يتضمن المدح الدال على الوجوب ، فقد امتدح الله سبحانه طائفتين من الناس ، الطائفة الأولى وهم المهاجرون والأنصار ، وقد جاء السياق في مدحهم مطلقاً ، والطائفة الثانية وهم الذين اتبعوهم بإحسان ، وقد جاء المدح مقيداً بقيدين اثنين ،أولهما : الاتباع ، ثانيهما : وصف الاتباع وهو الإحسان ، وهذا دليل واضح على أن المقصود بسبيل المؤمنين هو سبيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم .
ومما يدلنا أيضاً على وجوب اتباع سبيل الصحابة قوله تعالى : ( فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) . (137) البقرة
وهذه الآية تضمنت شرطاً ترتبت عليه حقيقة، أي إن كان إيمان الناس مثل إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد اهتدوا ، وهذا مفهوم موافقة للفظ المتضمن مفهوم مخالفة للمعنى ، أي إن لم يؤمنوا بمثل ما آمنتم به ، فقد ضلوا ، فعلق المولى سبحانه وتعالى الهداية على متابعة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وقد اتفقت هذه الآية بالمعنى مع الآية السابقة : (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ) . (115) النساء
فانظر يرحمك الله تعالى إلى تطابق اللفظين في كلتا الآيتين ، ( يشاقق ) ( الهدى ) فالآية الأولى بينت أن من يخالف إيمانه إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فهو في شقاق ، أي في منازعة للحق ، وكذلك الآية الثانية تبين أن من يتبع غير سبيل المؤمنين فإنما هو في شقاق ، ولا ريب أن مشاققة الحق خروج عن الهدى فتأمل ذلك .
وعلى ما سبق تعلم أخي الحبيب أن اتباع سبيل المؤمنين ، الذي هو اتباع الصحابة رضي الله تعالى عنهم واجب ، ويعتبر كل من خالفه مخالفاً للحق مشاققاً له .
ويعزز هذا المعنى ما جاء في الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال : وعظنا رسول الله يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل: إن هذه موعظة مودّع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بسند صحيح .
ويشتمل الحديث على فوائد جمة يحتاج إليها طالب الحق الباحث عنه ونستخلص منها :(/1)
1 : الربط بين سنة الرسول ، وسنة الخلفاء الراشدين وذلك من خلال قوله : ( فعليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين ) وهذا أمر دال على الوجوب ، فكما أن اتباع سنة الرسول واجبة ، فكذلك اتباع سنة الخلفاء الراشدين ، حيث عطف الرسول اتباع سنة الخلفاء الراشدين على اتباع سنته فاقتضى ذلك المشاركة في الحكم .
2 : إن سنّة الخلفاء الراشدين ،هي سنة الرسول ، وذلك من خلال تفريد الضمير في قوله : (عضّوا عليها ) والأصل أن يقال: عضّوا عليهما حيث ذكر سنتين لا سنة واحدة ، ومبنى هذا الأمر على موافقة الخلفاء الراشدين لسنة المصطفى لذا وصفوا بالراشدين المهديين ، ولن يكونوا راشدين مهديين إلا باتباع الحق الذي دلهم عليه رسول الله .
3 : تعلق الضلالة بمخالفة سبيلهم وذلك من قوله : ( وإياكم ومحدثات الأمور ) . فقد جاء هذا اللفظ بعيد الأمر بالتمسك بسنة الخلفاء الراشدين ، وعليه يكون المخالف لسنة الخلفاء الراشدين مخالفاً في حقيقة الأمر لسنة الرسول ، مما يؤدي به ذلك إلى الوقوع في المحدثات التي هي من الضلال المبين.
4 : إن وقوع الخلاف في الأمة من الأمور التي تؤدي إلى فشلها وهلاكها ، وإن سبيل الخروج منها هو اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين ،لذا شدد الرسول في هذه المسألة ، وأمر بالتمسك بسنة الخلفاء الراشدين بكل ما يستطيعه المسلم من قوة حتى ولو كان ذلك بنواجذه .
ومفهوم الحديث بعموم ، أن المجتمع المسلم سوف يشهد اختلافات كثيرة ، واضطرابات فكرية بحيث يصبح المسلم غارقاً في متاهات اجتهادية يصل إلى درجة لا يعرف بها طريق الحق الذي يجب أن يكون عليه ، ومن تمام ديننا الحنيف ، بين ما يجب أن يكون عليه المسلم في هذه المتاهات الكثيرة ، وهو اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين ، فهو طريق الحق ، وهو سبيل النجاة في الدنيا والآخرة ، والشاهد من الحديث أن الخلفاء الراشدين لا يتصفون بهذا الوصف إلا إن كانوا متبعين لسنة الرسول التي عليها الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، إذ سنة الخلفاء الراشدين لا تنفصل عن سنة الصحابة .
ومن أدلة السنة على وجوب اتباع سبيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال : ( تفترق أمتي على ثلاث و سبعين ملة ، كلهم في النار إلا ملة واحدة ، قالوا : و من هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه و أصحابي ) . أخرجه الترمذي و غيره بإسناد حسن.
وهذا الحديث موافق لما دلت عليه النصوص السابقة من الكتاب والسنة ، ففيه إشارة واضحة إلى وجوب اتباع الصحابة رضي الله تعالى عنهم في العقيدة والمنهاج ، ووجه ذلك فيما يلي :
1 : الإشارة إلى افتراق المسلمين إلى فرق كثيرة تكون جميعها هالكة إلا جماعة واحدة ، وهي التي تكون موافقة لما كان عليه الرسول وأصحابه ، وهذا دليل واضح على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا على الحق باعتبار من وافقهم من اتباع الفرقة الناجية .
2 : جاء الحديث بصيغة الإخبار المتضمن للتحذير والمدح للدلالة على شيئين منفصلين ، فأما التحذير فمن خلال قوله صلى الله عليه وسلم ( كلها في النار) وأما المدح فمن خلال قوله ( إلا واحدة ) مما يدلنا ذلك على أن الفرقة المستثناة من الهلاك هي الفرقة الموافقة لما كان عليه الرسول وأصحابه ، على خلافها من الفرق التي شملها الذم تضمناً .
3 : قوله : ( إلا واحدة ) فهذا اللفظ دال على أن أهل الحق جماعة واحدة ، وليسوا جماعات متفرقة ، لأن المعنى – إلا فرقة واحدة من بين هذه الفرق ليست هالكة – وقد جاء وصف هذه الفرقة أي الناجية ، أنها تكون على مثل ما يكون عليه الرسول وأصحابه .
4 : ما تضمنه الحديث من وجوب اتباع الصحابة رضي الله تعالى عنهم باعتبارهم الفرقة الناجية .
وعليه يكون اتباع الصحابة واجباً ، وأما من ذهب إلى تضعيف الحديث فلا يعتد بقوله فالحديث صحيح متناً وسنداً ، والأدلة القاطعة آنفة الذكر تدل على معناه .
ومن أدلة السنة على وجوب اتباع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما جاء في الحديث المتفق على صحته عند أئمة الحديث عن معاوية بن أبي سفيان وغيره أنه قال :سمعت رسول الله يقول: ( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس ).
ومن الفوائد التي تضمنها الحديث الشريف :
1 : وجود طائفة ظاهرة على الحق ، وهي باقية ما بقيت السماوات والأرض ، وهي طائفة واحدة لا تتعدد إذ دل اللفظ على طائفة واحدة لا طوائف متعددة ، وهذا الحديث من حيث المعنى يتفق مع الحديث قبله في المعنى ، فقوله : ( إلا واحدة ) يتفق مع قوله : ( لا تزال طائفة ) وعليه يكون أهل الحق متوحدين متعاضدين لا متفرقين .(/2)
2 : دل سياق الحديث على أن الطائفة موجودة على عهد رسول الله ، وهي باقية إلى قيام الساعة ، مما يدلنا ذلك بوضوح على أن الصحابة هم طليعة هذه الطائفة ، فهم على الحق الذي من خالفهم عليه يكون ممن خذلهم وأعرض عن منهجهم الحق .
3 : إن أصحاب الحق امتداد للطائفة المنصورة ، فلا يكونون منقطعين عنها أو مخالفين لها ،بل هم اتباع لهذه الطائفة يقولون بما قالوا به ، ويفعلون ما فعلوه ، وهذا خلاف واقع الجماعات إذ هي قائمة على أفكار اجتهادية مرجعها إلى أفهام أشخاص قد يصيبون وقد يخطئون .
4 : إن هذه الطائفة موافقة للحق قائمة عليه ، فهي غير اجتهادية أو هوائية ، بل هي طائفة تجعل اتباع الرسول منهجها وسبيلها لعبادة الله سبحانه ، ولم تقم جماعة على وجه البسيطة تعرف باتباع الرسول سنة سنة إلا الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ومن كان على نهجهم .
ومن الأدلة أيضاً على وجوب اتباع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما جاء في الحديث عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن النبي أنه قال: (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) رواه مسلم.
وهذا الحديث دليل واضح على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم هم الطائفة المنصورة التي يجب على المسلمين اتباعهم ، فكما دل الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمنة أصحابه، كذلك دل الحديث على أن الصحابة هم أمنة الأمة فيتفق اللفظ مع اللفظ ، والحكم مع الحكم.
وكذلك ما جاء في الحديث الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ( خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) . قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة- متفق عليه.
والحديث صريح الدلالة بوجوب اتباع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، إذ وصفهم بخير الناس ، ولا يستحقون هذه الوصف إلا لموافقتهم للحق الذي كان عليه الرسول ، فهم خير الناس ، ولم تأت هذه الخيرية لمجرد الصحبة بل لما قاموا به من جهود جبارة لخدمة هذا الدين ، وبذل النفس والنفيس في سبيله ، ومن المعلوم ضرورة أن الله سبحانه لا يقبل العمل إلا بشرطين ، الإخلاص والصواب ، ووصفه صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالخيرية يقتضي قبول أعمالهم الدالة على صحة وسلامة منهجهم الذي كانوا عليه .
وقد جاءت هذه الأدلة المتعددة من الكتاب والسنة صريحة الدلالة على وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهم ، وعلى أن مخالفتهم أثم عظيم يستحق المخالفون لهم عذاب الله سبحانه في الدنيا والآخرة ، وهنالك أدلة أخرى تدل على هذا الأمر تضمناً منها :
أولاً : المدح المطلق ، قال تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) . (29) الفتح
وقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) . (100) التوبة
وقوله تعالى : (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . (9) الحشر
وغيرها من الآيات الدالة على مدح الله المطلق لأصحاب محمد رسول الله ، مما يدلنا ذلك على موافقة الصحابة للحق الذي يريده الله سبحانه ، وإلا لما استحقوا هذا المدح .
ثانياً : الثناء على مواقفهم وأعمالهم ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . (23) الأحزاب(/3)
وقوله سبحانه : (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) .(10) الفتح
ثالثاً : الدلالة الصريحة على فضلهم وعدم مساواة الآخرين لهم ، كما في قوله تعالى : (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) . (10)الحديد
وقوله تعالى :(الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) . (20)التوبة
وإن كانت الآية عامة فيمن اتصف بتلك الصفات إلا أن دخول الصحابة في هذه الآية من باب أولى .
ومما ذكرنا من الآيات الكريمات المشتملة على ثناء الله سبحانه على صحابة رسوله العام الشامل لإيمانهم، وأعمالهم، وأخلاقهم ، لدليل على صحة معتقدهم ومنهجهم، ولولا موافقتهم للحق واتباعهم له لما استحقوا كل هذا الفضل والثناء ، وقد جاءت السنة صريحة ببيان فضل الصحابة وعدم مساواة الناس لهم بالفضل والأجر كما في الحديث المتفق على صحته عند أئمة الحديث أن الرسول قال : (لا تسبوا أصحابِي فوالذي نفسي بِيده لو أَن أحدكم أَنفق مثل أحد ذهبًا ما أَدرك مد أَحدهم ولا نصيفه ) .
فهذه الأدلة قاطعة بوجوب اتباع سبيل المؤمنين ، وهو سبيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهذا المنهج هو المنهج الذي عرف بمنهج أهل السنة والجماعة التي يجب على كل مسلم أن يكون فيه ، وهذه التسمية ليست تسمية محدثة بل هي تسمية عرفت زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما جاء ذلك في تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنمها لقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) .(106) آل عمران قال: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل الفرقة والضلالة وقد نقل ابن كثير رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسوّد وجوه أهل البدعة والفرقة، قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما.
وهذا الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صحيح ، وقد درج العلماء قديماً وحديثاً على تسمية أهل الحق بأهل السنة والجماعة .
وتقوم هذه التسمية على أصلين عظيمين :
أولاً : أهل السنة ، وهذا من باب المضاف والمضاف إليه ، فأهل السنة إذن هم اتباعها الذين لا يخرجون عنها ، فلا يكون أهل الحق إلا متبعين للسنة ، وعليه فكل مخالف للسنة لا يعتبر من أهل الحق ، فاتباع السنة ضابط من الضوابط التي يميز بها أهل الحق عن غيرهم .
ثانياً : الجماعة ، فقد جاء وصف أهل الحق بأنهم أهل جماعة إذ عطف لفظ الجماعة على لفظ أهل السنة ، فكما أن أهل الحق معروفون باتباعهم للسنة ، كذلك هم معروفون باجتماعهم عليها ، فلا يكون أهل السنة متفرقين بل مجتمعين ، وعليه فهذان وصفان ثابتان لأهل الحق ، وهما اتباع السنة والاجتماع عليها ،وأهل الحق متصفون بهاتين الصفتين ، فإن فقدوا إحدى الصفتين خرجوا عن كونهم أهل سنة وجماعة ، وهذان الأصلان قائمان على أدلة قطعية لا يخالف فيها مسلم ، وإن كان كثير من المسلمين يخالفون هذين الأصلين بأقوالهم وأفعالهم إما جهلاً ، وإما اتباعاً للهوى عافانا الله سبحانه .
1 : الأدلة على وجوب الاتباع :
الأدلة على وجوب الاتباع كثيرة معلومة ، بل هي من لوازم التوحيد ، فكلمة التوحيد مشتملة على حقيقتين ، الأولى تفريد الله سبحانه بالعبادة ، فلا معبود بحق سواه ، الثاني ، تفريد الرسول بالاتباع ، فلا متبوع بحق إلا الرسول .
أدلة وجوب اتباع الرسول من القرآن :
قال تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) . (32) آل عمران
وما يستفاد من هاتين الآيتين الكريمتين :
1 : أن محبة الله سبحانه لا تكون إلا من خلال متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك لتضمنها للشرط ، أي إن كان حبكم لله حباً صادقاً فإنه يحملكم على اتباع النبي ، وما يفهم في مقابل هذا اللفظ ، أن عدم متابعتكم للرسول دليل على عدم محبتكم لله سبحانه .(/4)
2 : وجوب اتباع الرسول لحتمية وجوب محبة الله سبحانه، فحب الله من الإيمان الواجب الذي ينتفي الإيمان بانتفائه قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ). (165) البقرة
واتخاذ الأنداد من دون الله ومحبتهم مع الله شرك ، فكيف إذا خلا قلب العبد من محبة الله ؟ وبما أن محبة الله لا تتحقق إلا بمتابعة الرسول كان اتباعه واجباً .
3 : محبة الله لمن يتبع رسوله ، إذ علق الله سبحانه وتعالى محبته للعباد باتباعهم للرسول ،وحب الله دليل على المدح المتضمن للوجوب ، أي يجب على المسلم أن يسلك السبل التي يتوصل من خلالها إلى حب الله له ، ومن أعظم هذه السبل متابعة الرسول مما دلنا ذلك على الوجوب .
4 : ما تضمنته الآية الكريمة من كون التولي عن طاعة الله والرسول من صفات الكفر التي لا يحبها الله سبحانه ، ولا شك بأن أهل الحق لا يتصفون بصفات يبغضها الله سبحانه ويذم عليها.
دليل آخر على وجوب الاتباع قال تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) . (63)النور
وهذه الآية الكريمة اشتملت على تحذير شديد لمن خالف أمر الرسول ، بل جاءت نتائج المخالفة واضحة وهي إحدى أمرين : ( أن تصيبهم فتنة ) أو : ( يصيبهم عذاب أليم ) . وهذا التحذير المتضمن للوعيد الشديد الدال على الذم والتحريم لدليل صريح على وجوب متابعة الرسول في كل ما أمر به ونهى عنه وفق ما هو مقرر عند العلماء .
دليل آخر : قال تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) . (7) الحشر
وهذه الآية الكريمة دالة على وجوب متابعة الرسول في كل شيء إذ – ما – اسم موصول دال على العموم ، مما يفهم من ذلك أن الرسول معصوم بكل ما يقوم به من أعمال تعبدية بدلالة إطلاق المتابعة في الأمر والنهي ، وإلا لما جاء الأمر بوجوب المتابعة بعموم ، وعليه يكون الأمر في هذه الآية الكريمة من صيغ الأمر واجب الاتباع .
أدلة من السنة الصحيحة على وجوب الاتباع :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) . رواه البخاري.
فهذا الحديث صريح الدلالة على وجوب متابعة الرسول في ما أمر به ، ونهى عنه ، إذ علق دخول الجنة على متابعته ، فكل من اتبعه فهو من أهل النجاة ، وعليه كل من خالفه فهو من أهل الهلاك ، ولا أدل من هذا السياق على فرضية اتباع الرسول .
حديث آخر : أخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله قال : ( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) .
وهذا الحديث الصحيح يربط ما بين طاعة الله سبحانه ، وطاعة رسوله ، ثم يرجع الطاعتين إلى طاعة واحدة ، وهي طاعة الله سبحانه وتعالى ، ولا خلاف في وجوب طاعة الله سبحانه .
وإن كانت هذه الأدلة بظاهرها تدل على وجب اتباع الرسول ، فهنالك أدلة آخرى تدل على حرمة مخالفته ومغايرة سبيله منها ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي أنه قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) . والإحداث في الدين هو كل عبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه عن غير طريق الرسول إما أصلاً أو كيفاً.
وكذلك ما جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي كان يقول في خطبة يوم الجمعة : ( أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ) .
والتحذير من المحدثات ما هو إلا إلزام باتباع الرسول بكل ما جاءنا به ، وهذا ما كان ظاهراً في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، والأمر في ذلك أوضح من أن يستدل عليه ، وما ينبغي التنبيه إليه هو أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانت متابعتهم للرسول أبرز أعمالهم التي أثنى الله عليهم لأجلها إذ قال سبحانه : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) . (23)الأحزاب(/5)
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم عرفوا باتباعهم الحقيقي للرسول فقد أخذوا أحكام الدين عنه دون أن يزيدوا أو ينقصوا فيه ، وهذا سبب فلاحهم ورضى الله سبحانه عنهم ، والشاهد في الآية الكريمة قوله تعالى : ( وما بدلوا تبديلاً ) فالصحابة رضي الله عنهم لم يبدلوا ولم يحرفوا إنما أخذوا الدين وفق ما جاءهم به النبي ، وقد جاء في الحديث الصحيح أن الإحداث في الدين من أبرز ما يرتب على المسلم حرمان الثواب والنجاة يوم القيامة قال : ( إني فرطكم على الحوض انتظر من يرد إليّ فوالله ليقتطعن دوني رجال فلأ قولن : أي رب مني ومن أمتي فيقول إنك لا تدري ما عملوا بعدك مازالوا يرجعون على أعقابهم ) . أخرجه مسلم .
ووجوب الاتباع ، وحرمة الابتداع قاعدة عامة من قواعد ديننا الحنيف ، بل إن العمل لا يقبل من أي عامل إلا من خلال الصحة والإخلاص لقوله تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) . (110) الكهف ،وأهل السنة هم أهل اتباع ، لذا سموا بأهل السنة ، أي بسبب اتباعهم للسنة وعدم مخالفتهم لها ، سموا بذلك ، أي بأهل السنة ، فلا يكون أهل الحق إلا متبعين للسنة الصحيحة .
2 : الأدلة على وجوب الاجتماع :
سبق الذكر بأن أهل السنة والجماعة يتصفون بصفتين أساسيتين لا تنفصل إحدهما عن الأخرى وهما الأولى : الاتباع ،ومضى القول فيه ، الثانية : الاجتماع ، وهي صفة لازمة لأهل الحق ، فأهل الحق من صفاتهم اللازمة اجتماعهم على الحق ، وعدم تفرقهم في الدين وقد جاءت الأدلة القاطعة على ذلك.
الأدلة من القرآن :
منها قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) . (103)آل عمران
وقوله تعالى : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . (105)آل عمران
وقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) . (4) الصف
فهذه الآيات دليل واضح على وجوب الاجتماع وحرمة الافتراق، وهذا ما تجسد في الصحابة رضي الله تعالى عنهم في عهد النبي ونزل القرآن مثبتاً له ، واصفاً المؤمنين بأعلى درجات الاجتماع والألفة من ذلك قوله تعالى : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) . (29)الفتح . وقوله سبحانه : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) . (63)الأنفال
فالله سبحانه يصف المؤمنين بأنهم متحابون متلاحمون متعاضدون، وهذا ما يجب أن يكون عليه المؤمنون كما جاء في الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . متفق عليه . وكل هذه المعاني تدل على اجتماع المسلمين وعدم تفرقهم على خلاف واقعهم في هذا الزمان ، وهذا خلاف الحق الذي يجب أن يكون المسلمون عليه ،فالمسلمون مطلوب منهم أن يجتمعوا على الحق ، واجتماعهم على الحق دليل واضح على موافقتهم له ، على خلاف تفرقهم فهو دليل بعدهم عن المنهج الحق الذي عليه أهل الحق ، أهل السنة والجماعة قال تعالى : (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) . (2) المائدة(/6)
وهذا خطاب عام من الله سبحانه لعباده المؤمنين ، يأمرهم من خلاله بالتعاون على البر والتقوى ،وينهاهم عن التعاون على الإثم والعدوان ، وهو أمر يدل على الوجوب لترتب الطلب والتحذير ، وهذا مسألة لا يختلف فيها المسلمون نظرياً ، بل الخلاف فيها عملياً ، أي من حيث الحكم فكل المسلمين متفقون على وجوب التعاون ، أما من حيث التطبيق - فالله المستعان –.
الأدلة من السنة :
ومن أدلة السنة على وجوب الاجتماع قوله : (عليكم بالجماعة، وإيَّاكم والفرقة ) . رواه أحمد الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
وورد في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي أنه قال : ( فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) . رواه أبو داود والنسائي والحاكم، وقال: هذا حديث صدوق رواته.
و في حديث حذيفة بن اليمان الشهير في الصحيحين، ومطلعه: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني إلى قوله : ( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ) .
وهذه الأحاديث مبينة لوجوب اجتماع المسلمين ،وهي مسألة أصلية يقوم عليها ديننا الحنيف ، لذا شدد الإسلام على كل ما يحول دون الاجتماع كالتفرق والاختلاف قال تعالى : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . (105) آل عمران
ومن أدلة السنة على حرمة التفرق والاختلاف ما رواه أبو داود وابن ماجه عن معاوية رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ( ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة ).
وكذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .
ومن منطلق الحفاظ على وحدة الأمة أوجب الله سبحانه تنصيب إمام واحد للمسلمين في شتى بقاع الأرض وشدد على الخروج عليه فقد جاء في الحديث الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنَّه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات مِيتةً جاهلية ) .
وما رواه مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخُدري عن رسول الله أنه قال: ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ) . وروى مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله يقول : ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ) .وروى مسلم أيضاً عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي ، قال: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم ) .
ما يستفاد من عموم الأدلة :
1 : أن المسلمين أمة واحدة ، متآلفة متراحمة .
2 : أن وحدة الأمة واجبة ، ويكون ذلك ضمن جماعة واحدة تحت راية واحدة ،بإمرة أمير واحد .
3 : أن كل ما يحول دون تحقق هذا الأمر يعتبر حراماً ومنه التفرق والاختلاف ومفارقة الجماعة .
4 : أن كل من فارق الجماعة يعتبر آثماً يجازى على فعله أسوء الجزاء .
ويستدل بعموم الأدلة على أن أهل الحق مجتمعين غير متفرقين ، وبهذا أخي الحبيب تعلم أن مصطلح أهل السنة والجماعة ليس مصطلحاً محدثاً ، بل هو مصطلح موجود معروف منذ زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وأنه دال على أصلين يعرف بهما أهل الحق من غيرهم ، وهما الاتباع والاجتماع ، وكل جماعة خرجت عن ذلك لا تعتبر من أهل السنة والجماعة التي يجب على كل مسلم أن يكون فيها .
حقيقتان تقومان على هذين الأصلين :
لقد عرفنا فيما سبق أن أهل السنة والجماعة ، أهل اتباع واجتماع ، وأن هاتين الصفتين من أبرز ما يتميز بهما أهل الحق عن غيرهم ، إلا أن في الأمة التباسات كثيرة تحول دون الوصول إلى الجماعة الحق نظراً لكثرة وقوع الخلاف فيها ، فما من فرقة إلا وتدعي أنها على الحق المبين ، وأنها الجماعة التي يجب على المسلمين أن يكونوا فيها أو يعملوا معها ، وأن من خالفها يعتبر آثما مخالفاً للحق المبين ، وما من فرقة من هذه الفرق إلا وتأتي بأدلة كثيرة على صحة مذهبها وبطلان من يخالفها ، مما أوقع كثيراً من الباحثين عن الحق في حيص بيص وأصبح الحليم فيهم حيراناً مما يتعين علينا بيان ذلك بياناً لا نبقي معه أدنى ريب لمن يريد الحق ، ولا يزيد الظالمين إلا خسارة .وهذا البيان قائم على الأصلين الذين يميزان سبيل أهل السنة عن غيره :(/7)
1 : الاتباع : والمقصود بالاتباع ، اتباع سبيل المؤمنين ، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، ولا يكون ذلك إلا من خلال ما أجمعوا عليه ، لا فيما اختلفوا فيه ،فالمقصود بالمتابعة متابعة الرسول فيما كان دليله دليلاً صريحاً ،أما ما كان دليله محتملاً غير مخالف لأصول الشريعة ،فهو واقع في دائرة الاجتهاد التي لا يعاب الناس عليه ، وعليه يجب على المسلم أن يكون متبعاً لما قام إجماع الأمة عليه ، فإن خالف إجماع الأمة فهو أحد الضالين الذين يعملون على إخراج الأمة عن سبيلها القويم ، وذلك لقوله تعالى : (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ) . (115) النساء
وقد مضى القول بأن المقصود بسبيل المؤمنين ، هو سبيل الصحابة رضي الله عنهم ،وهذا ما دلت عليه الأدلة القاطعة ، فكل من خالف سبيل الصحابة يعتبر مبتدعاً كالفرق الهالكة التي أصل هلاكها نابع من مخالفتها لسبيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم في العقيدة أو المنهاج ، فكل فكر لم يعرف في زمن الصحابة ، فهو فكر أجنبي عن المسلمين إلا أن يكون عليه دليل من الكتاب والسنة ، ومن الأفكار الدخيلة على الإسلام ما روج إليه أهل الكلام واعتبروه من عقائدهم ، كالقول بخلق القرآن ، ونفي صفات الله سبحانه أو تشبيهها ، والقول بعدم الإيمان بخبر الواحد ، وبوحدة الوجود ، وغيرها من الأفكار الكثيرة التي لم تعرف في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فإن عدم طرق الصحابة لهذه المواضيع وعدم خوضهم فيها وهم أصحاب الاتباع الحق، لدليل واضح على خروج أصحاب هذه الأقوال عن الاتباع الذي هو دليل على صحة المعتقد والمنهج .
2 : الاجتماع : الاجتماع هو الأصل الثاني التي يستدل من خلاله على معرفة أهل الحق من غيرهم ، فكل قول أو عمل يؤدي إلى تفرق الأمة يعتبر محرماً شرعاً لحيلولته دون اجتماع الأمة الواجب ، وهذا ما يقع فيه كثير من المسلمين ، فإننا نرى حتى أصحاب الدعوة إلى وحدة المسلمين متفرقين متعادين ،وهذا من التناقضات الظاهرة ، إذ كيف يدعو إلى وحدة المسلمين من هو أحد أسباب تفرقهم؟ ومرجع هذا التناقض إلى الخروج عن المنهج الحق ، فإن هؤلاء المفرقين للأمة الداعين إلى وحدتها ، إنما فرقوا الأمة بسبب دعوتهم للناس من أجل أن يتبنوا ما تبنوه هم من خلال الاجتهادات الخاصة ، وإلا فمن ضرورات توحيد الأمة أن يكون الداعون إلى ذلك قائمين على أسس مجمّعة غير مفرقة ، وهذا لا يكون إلا من خلال دعوة الناس إلى التمسك بالأصول التي لا يختلف فيها ، والإعراض عن كل ما هو اجتهادي ، لأن الأمة لن تجتمع على مذهب زيد وعمر ، ولكنها تجتمع على الأصول المتفق عليها وهي ما تكون أدلتها أدلة مقطوع بها ، ولا يتحقق ذلك إلا باتباع الأصول دون الفروع وبهذا جاءت الأدلة من الكتاب والسنة قال تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) . (7)آل عمران
يتبين من خلال هذا النص القرآني ، أن آيات القرآن الكريم تنقسم إلى قسمين ، القسم الأول : الآيات المحكمة ، القسم الثاني : الآيات المتشابهة ، فكلا الآيات المحكمة والمتشابهة من القرآن الكريم ، وكلا المتبعين لهما متبعون لآيات القرآن الكريم ، إلا أن المتبع للمتشابه من القرآن مائل عن الحق متبع للهوى ، على خلاف المتبع للمحكم ، فهو متبع للحق موافق له ، والفرق بين القسمين من الآيات ، أن القسم الأول وهو المحكم ، لا يختلف الناس فيه ، وعليه لا يتفرقون ، على خلاف القسم الثاني ، فإنه يكون سبباً لتفرق الأمة ، ويتفق مع هذا النص ما جاء في الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول : ( إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ـ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ـ ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ،وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) .متفق عليه.(/8)
والحديث بمدلوله العام ، يدل على أن الواجب على المسلم اتباع الحلال البين ، وهو الواضح الذي لا شبهة فيه ، وهو الذي لا يختلف على حله المسلمون ، وكذلك الواجب عليه اجتناب الحرام البين ، وهو الذي لا يختلف على تحريمه المسلمون ، وقد بين الرسول أن بين الحلال البين ، والحرام البين ، أمور مشتبه بها، أي ليست حلالاً بيناً ، أو حراماً بيناً ، فهي إذن تحتمل الوجهين ،وهذا القسم الذي يجب على المسلمين أن يتقوه ، وبناء على هذا الأصل فإن المسلمين لا يختلفون ، وبهذا يجتمعون ، أما إذا وقعوا في المتشابهات ، ومنها ما وقع الخلاف فيه بين المسلمين، فإنهم يقعون في الحرام البين الذي جاء النص دالاً عليه ، ولا يقال في هذا الموضع : إنه لا يجوز العمل بما اختلف فيه أهل العلم من أحكام شرعية مبناها الاجتهاد ، فهنالك من الناس من يعلم حقيقة المسائل التي بين الحلال البين ، والحرام البين كما بين ذلك الرسول بقوله : ( لا يعلمها كثير من الناس ) فقوله لا يعلمها كثير من الناس ، دليل واضح على أن بعض الناس يعلمون ما تشابه منه إن كان متعلقه بالأحكام الشرعية التي يتوصل إليها من خلال التتبع والاستقراء ، وقد اختلف أهل العلم في مسألة تقليد عالم فيما توصل إليه من خلال اجتهاده ، ولكن ما اتفق عليه أهل العلم المعتبرون خلفاً عن سلف ، هو حرمة اتباع عالم بعينه يقوم على شخصه الولاء والبراء ، أو الاعتقاد أنه على الحق المبين دون غيره من العلماء، وهذا عين ما نراه في مجتمعنا اليوم ، فكثير من المسلمين يعتقدون أن الحلال والحرام راجع إلى أقوال علمائهم ، فما قال علماؤهم قالوا به ، وما توقفوا عنه ، توقفوا عنه ، إلا فيما يتعلق بمسائل لا تعارض ما هم عليه ، وهذا هو ما حرمه الإسلام وعاب عليه ، إذ جعل أولئك مصادر تشريعاتهم أقوال علمائهم التي بنوها على غلبة الظن ، وفي كثير من الأحيان تكون مخالفة لما أجمع عليه أهل السنة والجماعة كما تقرر ذلك آنفاً ، قال تعالى : ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) . (31) التوبة
وقد جاء في تفسير هذه الآية ما جاء عن عدي بن حاتم رضي الله عنه الذي قال فيه رسول الله له:( ألم يحلوا لكم الحرام فأطعتموهم . قال عدي رضي الله عنه: بلى، قال : وحرموا عليكم الحلال فأطعتموهم . قال: بلى، قال صلى الله عليه وسلم فتلك عبادتكم إياهم ) . رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه .
وهكذا المسلمون إذا جعلوا مرجع تحليلهم وتحريمهم إلى أقوال علمائهم ، وأقاموا الولاء والبراء فيهم ، وقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل ، فسلكوا بذلك سبيل المغضوب عليهم والضالين ، ولن يكون في حال من الأحوال أهل الحق مشابهين لأهل الباطل في أي عمل قام الدليل على النهي عنه وورد الذم عليه ، ومن خلال هذين الأصلين الاتباع ، والمقصود به اتباع سبيل المؤمنين – الصحابة ومن تبعهم بإحسان – فيما أجمعوا عليه ، والاجتماع ، وهو اجتماع أهل الحق على إقامة هذا الدين نميز بين أهل الاتباع ، وأهل الابتداع ، وهذا ملخص ما دل عليه مصطلح –أهل السنة والجماعة – فأهل السنة هم أهل الاتباع القائم على الإجماع ،المجتمعون عليه .
فوائد لا بد من ذكرها :
أولاً : إن حكم اجتماع المسلمين يكون على المسائل التي دل عليها النص الصريح ، أو التي قام الإجماع عليها ، أما ما كان ظنياً ،فيجوز الاختلاف فيه شريطة أن لا يقوم الولاء والبراء فيه، أو يؤدي إلى تفريق الأمة ، وقد دلت على ذلك النصوص الشرعية لما جاء في الحديث عن النَّزال بن سبرة قال سمعت عبد الله بن مسعود قال: سمعت رجلا قرأ آية سمعت من النبي خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله فقال : ( كلاكما محسن فاقرآ ) قال شعبة – أحد رواة الحديث – أكبر علمي أن النبي قال : (فإن من كان قبلكم اختلفوا فأُهلكوا ) . رواه البخاري.(/9)
وكذلك حديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال النبي يوم الأحزاب : ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم). رواه البخاري ، وعليه لا يكون قولنا متعلقاً بالمسائل الاجتهادية المحتملة القائمة على النصوص الشرعية ، شريطة أن لا تكون مخالفة نصاً صريحاً ، أو إجماعاً معتبراً ، ولا يكون الولاء والبراء قائماً عليها كما ذكر ، فهذه أمور تحول دون اجتماع الأمة ، وقد تجلى الاجتماع في أعلى صوره في واقع الصحابة رضي الله تعالى عنهم رغم اختلافاتهم المتعددة في كثير من المسائل الفقهية وغيرها ، ومع ذلك لم يؤد هذا الاختلاف إلى التفرق والتباغض بينهم بل كانوا إخواناً بكل ما تحمل الكلمة من معنى قال تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) . (29)الفتح
ثانياً : إن الله سبحانه حرم على المسلمين ،التفرق والاختلاف ، وكل ما يؤدي إلى التفرق والاختلاف فهو محرم ، من ذلك التحزب ، فهو من أبرز ما يفرق بين الأمة الواحدة ، وقد جاء الأمر باعتزال الفرق كلها كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قال : ( كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنى ، فقلت : يا رسول الله إنا كنا فى جاهلية وشر وجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : " نعم " ، قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : " نعم وفيه دخن " ، قلت : وما دخنه ؟ قال : " قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر . " ، قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر قال : " نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها . " ، قلت : يا رسول الله صفهم لنا ، قال : " هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا . " قلت : فما تأمرنى إن أدركنى ذلك ؟ قال : " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم . " ، قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) .رواه البخاري
فهذا الحديث يدل بوضوح على وجوب التمسك بجماعة المسلمين وإمامهم ، واعتزال الفرق كلها في الحالة التي يكون المسلمون فيها من غير إمام أو جماعة ، ولكن الحديث لا يدل على اعتزال أهل الحق ، بل يدل على اعتزال الفرق المخالفة لأهل الحق ، ويدلنا على ذلك أمران :
أ : أن سياق الحديث يفصل بين الجماعة والإمام فقول حذيفة : ( فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ) يتبين منه أن الجماعة قد تكون من غير إمام ، أو الإمام من غير جماعة ، وإن كان الثاني بعيداً لقيام الأدلة على خلافه ، إلا أنه قد تنفصل الجماعة عن الإمام حتى في وجوده ، كأن يكون الإمام مخالفاً لسبيل المؤمنين ، متبعاً للبدع والضلالة ، وقد وقع هذا في المسلمين على الحقيقة ،على خلاف الاحتمال الأول فهو محتمل الوقوع ، أي قد توجد الجماعة ولا يوجد الإمام ، كما هو الحال في هذا الزمان .
ب : قيام الأدلة على بقاء أهل الحق الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة كما جاء في الحديث الصحيح عن الرسول قال : ( لا تزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) .
ومن المعلوم ضرورة أن الرسول لا ينهى عن اعتزال هذه الطائفة الناجية ، بل ينهى عن اتباع من يخالفها ، وبما أن الحديث صريح الدلالة ببقاء هذه الجماعة إلى أن يرث الله سبحانه الأرض وما عليها ، فيكون العمل ضمن هذه الطائفة من أفضل العبادات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه ، على خلاف العمل في الفرق المخالفة لها ، فهو من أكبر الكبائر ، وعليه تعلم أن المخالفين لهذه الطائفة المدعين للحق المبين ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
1 : المخالفون لها عقيدة ومنهاجاً : وهم الذين أعمى الله قلوبهم فضلّوا عن الصراط ، ومن أولئك الفرق المعادية لها الداعية إلى غير سبيلها .(/10)
2 : المعتزلون لها : وهؤلاء الذين آثروا العزلة على العمل خوفاً من الفتنة ، وإذ بهم قد وقعوا فيما هو أشد من ذلك ،وقعوا في التخاذل عن نصرة أهل الحق والعمل معهم ، فلا هم أظهروا الحق ، ولا ذادوا عنه ، بل دفنوا أنفسهم في العزلة أحياء ، وارتضوا بالذل والهوان ، وما حركهم إيمانهم للدفاع عن عقيدتهم ، وأمتهم التي هي أحوج ما تكون لكل مسلم يقودها إلى الصراط الحق المبين . وهؤلاء ممن رفع شعاره عالياً : اللهم نفسي ،اللهم نفسي ، فاعتزل الفرقة الناجية ، بل قد يكون مثبطاً عنها بتخاذله المتولد عن يأسه وجبنه عافانا الله سبحانه من ذلك .
3 : المدعون أنهم من الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة ، الرافعون شعار اتباع السلف الصالح ، وهم الذين تحزبوا أشد من تحزب المتحزبين ، وذلك من خلال قيامهم على قواعد هشة، هم أول من ينتقدها ، وهو الاتباع المذموم المتجسد بمعرفة الحق بالرجال ، فهم يقيمون ولاءهم وبراءهم في مشايخهم ، ولا يعرفون الحق إلا من أقوالهم ، أضف إلى ذلك تخذيلهم للعاملين واتهامهم لهم ، والدعوة إلى تثبيت عروش الظلمة والذود عنهم بكل ما أوتوا من قوة ، فهؤلاء من أبعد الناس عن المنهج الحق ، وقد بينا حقيقتهم برسالتنا ( احذروا أدعياء السلفية ) فلتراجع .
ثالثاً : إن ما يتميز به أهل السنة والجماعة عن غيرهم متابعة رسول الله ، واجتماعهم على المتابعة ، فهم مجتمعون غير متفرقين ، فالتفرق دليل عدم متابعة الرسول وأهل الحق ما وافقوا الحق إلا لحصول المتابعة ، ومن المتابعة الاجتماع ، وهذا ما دلت عليه النصوص الثابتة المبينة آنفاً ، فأهل السنة متعاضدون متراحمون ، مثلهم بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، ولا يكون هذا الوصف مع التفرق والاختلاف ، فاجتماع المؤمنين من أبرز الأدلة الدالة على صدقهم ، فلا يكون أهل الحق إلا مجتمعين ، وضابط الاجتماع عدم الاختلاف المؤدي إلى الفشل كما قال سبحانه : ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) . (46) الأنفال
لذا حرص الإسلام على عدم تفرق الأمة حفاظاً على قوتها ولحمتها ، وذلك من خلال الأمر بتنصيب إمام يكون المسلمون كلهم تحت إمرته ، ومن الأدلة على ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي أنه قال : ( من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ، مات ميتةً جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة ، أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل فقتلة جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها ، وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده ، فليس مني ولست منه ) .
فهذا الحديث الشريف يبين وجوب طاعة الإمام ، واعتبار من خالفه وخرج عنه من المتصفين بصفات الجاهلية ، أعاذنا الله من ذلك ، فالمسلمون يجتمعون تحت راية واحدة ، تحت نظام واحد ، تحت إمرة أمير واحد ، وإلا فالنتيجة التفرق والاختلاف ، وهذا ما ذمه الشارع ونهى المسلمين عنه ، فالمسلمون أين ما كانوا لا بد لهم من وجود نظام ينتظمون به يحافظ على وحدتهم وألفتهم ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن عمر أنه قال : ( إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا عليكم أحدكم ذا أمير أمره رسول الله ) . قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين.
وهذا الأثر ثابت صحيح له حكم الرفع ، ولا خلاف في ذلك ، والعلة من تأمير الأمير في السفر الحفاظ على وحدة الجماعة ، إذ المسافر منقطع عن الإمارة الحقيقية ، لذا جاء تقيد الإمارة في السفر دون غيره ، مما يدلنا ذلك على وجوب اجتماع المسلمين في الحضر والسفر ، أما في الحضر ، فمن خلال طاعتهم لإمام المسلمين ، وأما حال انقطاعهم عن إمارة الأمير العام ، كأن يكونوا في سفر ، فمن خلال أمير السفر ، والجماعة اليوم قائمة وستبقى قائمة إلى يوم القيامة ، واحتمال تفرقها قائم ، وعليه لا بد للجماعة من أمير ينظم شؤونها ، ويجمع بين أفرادها حتى يتحقق لها الاجتماع ، وهذا الأمر يحتاج إلى تفصيل أكبر ، فليس المجال مجال تفصيل .
خلاصة القول :(/11)
إن اتباع سبيل المؤمنين واجب ، وهو سبيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وهم المعروفون بأهل السنة والجماعة ، أي أهل الاتباع والاجتماع ، فلا يكون أهل الحق إلا متبعين مجتمعين ، غير مختلفين أو متفرقين ، فهم جماعة واحدة متصلة منذ عهده وستبقى باقية إلى قيام الساعة، لا يقومون على أفكار اجتهادية ، أو قواعد خلافية ، بل يتبعون النصوص المحكمة وما قام عليه الإجماع ، ولا يوالون ويعادون في أشخاص أو مذاهب أو أحزاب ، ولا يعتزلون أهل الحق ، أو يخذلون عنهم ، بل يعملون معهم ،ويبذلون في سبيل إقامة شرع الله النفس والنفيس ، ومع ذلك فهم متحابون متراحمون متعاضدون ، كمثل الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، وكل من خالف سبيلهم ، أو عمل بما يتناقض مع سبيلهم ، فهو من أهل الفرقة والضلالة المستحق لوعيد الله سبحانه ، ومن هذا المنطلق ، فإنني أدعو المسلمين جميعاً إلى التعرف على أهل السنة والجماعة ، والعمل معهم ، وعدم خذلانهم ليتحقق لهم النصر والتمكين ، وليكونوا من أهل الحق العاملين الفائزين بجنة عرضها السماوات والأرض أعدها الله لعباده المتقين ،هذا وبالله التوفيق وصلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وكتب : إبراهيم بن عبد العزيز بركات
18 محرم 1426 هـ
تم تنزيل هذه المادة من
شبكة أهل السنة الإسلامية
http://www.asunnah.net(/12)
اتفاق العمل الإسلامي ضرورة استراتيجية محمد خليفة صديق*
العمل الإسلامي بين الاتفاق والافتراق، هو عنوان لمؤتمر إسلامي يتداعى له مجموعة من كبار الدعاة والمفكرين من أجل وضع النقاط على الحروف في مستقبل العمل الإسلامي في ظل التحديات المعاصرة التي تواجه الإسلام والمسلمين، وفي ظل التصدع الذي أصاب بنيان التيار الإسلامي في كل مكان وتعدد واجهاته وجماعاته وفئاته.
ويحمد لقسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم مبادرته للقيام بهذه الخطوة ودعوة مجموعة من كبار الدعاة من خارج السودان لإثراء فعاليات المؤتمر وتبنيه لهذا المؤتمر الذي ينتظر أن يؤمه فضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق مشرف موقع الشبكة السلفية، والأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار، والشيخ عبد الرحمن المحمود، والشيخ أحمد الصويان، وغيرهم، وهؤلاء غير مشاركتهم في أعمال المؤتمر لا شك أنهم سيحيون عدداً من الندوات والمحاضرات ستساهم في بذل العلم النافع في فضاء الخرطوم.
ويحمد للجنة العلمية للمؤتمر التي يرأسها د. عبد الحي يوسف أنها وجهت الدعوة لكافة المجموعات الإسلامية بالسودان سيما رموزها الأكاديمية والفكرية إيمانا منها بضرورة إشراك كل من يحمل هم الدعوة والبلاغ، بقطع النظر عن جماعته أو حزبه؛ حتى لا يكون هناك إقصاء لأحد في مؤتمر يراد له أن يؤسس لاتفاق العمل الإسلامي.
ويلاحظ من مقترح أوراق المؤتمر تركيزها في وحدة العمل الإسلامي على تجارب جمعيات العلماء في عدد من الدول ولكن هناك تجارب لمجموعات إسلامية تجمعت على هدف واحد كما حدث في السودان في الجبهة الإسلامية للدستور التي جمعت الإخوان المسلمين وأنصار السنة والمتصوفة وكل الإسلاميين من أجل إقرار الدستور الإسلامي وهناك تجربة جبهة الميثاق الإسلامي وحديثا هناك تجربة التيار الإسلامي في جامعة الخرطوم.
كما أن هناك بعض الشخصيات التي يجتمع عليها الإسلاميون بمختلف اتجاهاتهم الفكرية وهي بذلك تساهم في وحدة العمل الإسلامي بملاحظاتها وفتاواها من أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ ناصر الدين الألباني رحمهم الله، وهذه تجارب شخصية بحاجة إلى دراسة متأنية لاستخراج مزاياها وفوائدها.
كما أن المؤتمر بحاجة لإقرار برنامج عملي تطبيقي واقعي يجعل من وحدة العمل الإسلامي نموذجاً ماثلاً للعيان، يلمسه الجميع ويحسون بوجوده، حتى لا يكون المؤتمر مجرد (طق حنك) وتوصيات توضع الأضابير والإدراج.(/1)
اتفاقية سيداو وخطرها على الأسرة وفقهها في الإسلام
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
أيها المسلمون تداركوا معقلكم الأخير
الكفار بقيادة أمريكا وأذنابها من الدول الأوربية يودون أن يسيطروا ويهيمنوا على العالم اجتماعياً، بعد أن سيطروا عليه اقتصادياً، وعسكرياً، وسياسياً، وإعلامياً، متخذين منظمات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وهيئة الصحة العالمية الهزيلة الضعيفة، والمنظمات الكنسية الأخرى، مظلات لتحقيق أغراضهم ومآربهم، وبث أحقادهم ضد الإسلام والمسلمين على وجه الخصوص، تحت شعارات ومصطلحات براقة، خادعة، كاذبة: حقوق الإنسان، ومحاربة الإرهاب، والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل – كما يزعمون – التي خدعوا بها السذج والمغفلين من المنتسبين إلى الإسلام، مستغلين في ذلك ومسخرين عملاءهم وجواسيسهم من الشيوعيين والمنافقين، قوام طابورهم الخامس في العالم، متخذين من المؤتمرات، والندوات، والمنظمات الكنسية، وسيلة لتحقيق هذه الأغراض الخبيثة التي ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب والدمار.
في مقدمة هذه الأمور معقل من معاقل الإسلام، وعروة من عراه، لم يتمكنوا من نقضها بالكلية كما نقضوا سابقاتها بعد، هذا المعقل هو الأسرة المسلمة: الأمهات، والأطفال، وفقهها الذي كان بمعزل من كيدهم ومؤامراتهم حيناً من الدهر، حيث كانت دائرة الأحوال الشخصية "فقه الأسرة"، هي الدائرة الوحيدة التي يحكم فيها شرع الله.
من أجل ذلك كثفوا عقد المؤتمرات والندوات: مؤتمر نيويورك، القاهرة، الذي توِّج بمؤتمر بكين بالصين، الذي نتج عنه اتفاقية "سيداو" المشؤومة، القائمة على أنقاض فقه الأسرة في الإسلام، حيث نقضت بنودها المتسترة في قضية القضاء على التمييز ضد المرأة، ورفع الظلم عنها، وإزالة كل أشكال التمييز بينها وبين الرجل، ضاربين عرض الحائط بالفروق الخلْقية، والنفسية، والشرعية، بين الرجل والمرأة، التي أقرها ربنا على لسان المرأة الصالحة والدة مريم: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى"، ورادين لقول الله عز وجل: "وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ".
ثم سعوا لحمل كل الدول الإسلامية لقبول بنود هذه الاتفاقية، والعمل على تنفيذها فوراً.الحامل للكفار للإقدام على هذا العمل الإجرامي الكبير أسباب، منها:
1. الحسد، فطالما أن الأسرة تفككت في أمريكا وأوربا فلماذا تبقى الأسرة المسلمة بمنأى عن ذلك؟
2. الحقد الدفين ضد الإسلام والمسلمين، الذي تبديه ألسنتهم أحياناً، وما تخفي صدورهم أكبر وأكبر.
3. انفراد أمريكا بالسيطرة والهيمنة على كل العالم، بعد أن قضت على النمر الورقي – روسيا، حيث أضحت هي وصنائعها من الشيوعيين يدورون في فلكها، وتحولوا بقدرة قادر إلى موالاة الإمبريالية من غير حياء ولا خجل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
حيث لم يبق أمامهم سوى الإسلام السني فقط، أما الزبد فيذهب جفاء، فلابد من دحره حتى يسهل لهم قياد العالم، وأنى لهم ذلك؟ خاب فألهم وكذبت نبوءتهم.
زعم الفرزدق أن سيقتل مِرْبَعاً *** فاهنأ بطول سلامة يا مِرْبَع
4. استكانة حكام المسلمين، وخضوعهم للهيمنة الأمريكية، وتنفيذهم مخططاتها، جرَّأ الكفار على الاستمرار في حربهم الصليبية على الإسلام والمسلمين في كل المسارات.
ومن العجيب أن نجد بعض الدول الإسلامية سبقت هذه الاتفاقية، حيث قلدتهم في ذلك وتشبهت بهم،وفي مقدمتها تونس.
وإن الجزائر الآن تسعى للبدء في تنفيذ هذه البنود، حيث قدم رئيسها مشروعاً لتعديل شرط الولاية في الزواج، ليكون من حق المرأة أن تلي أمر نفسها ومن يليها، رداً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل".
وهكذا نرى النتائج الخبيثة لهذه الاتفاقية شيئاً فشيئاً.
الذي يغيظ الكفار في فقه الأسرة الإسلامي، ويريدون تغييره وتبديله ليساير ما هم عليه ما يأتي:
1. إقرار المرأة في بيتها.
2. قوامة الرجال على النساء في الإمامة الصغرى (الصلاة)، والكبرى (الحكم)، وفي النكاح.
3. رعاية الوالدين لأولادهما ومسؤوليتهما الكاملة عنهم.
4. تشجيع الإسلام على الزواج المبكر، والحض على الإنجاب.
5. تمييز الذكر على الأنثى في التعصيب فقط في الميراث.
6. عدم مشاركة المحافظات من النساء في الانتخابات ونحوها.
7. حرمان غير المسلم والعدل من حضانة الأبناء.
8. إباحة تعدد الزواجات.
9. إلزام الرجال بالنفقة على من يعولون.
10. قصر الإسلام قضاء الوطر على الزوجة وما ملكت اليمين.
11. ختان الأنثى السني لأنه يعدل من شهوة المرأة.
ولهذا نجد أن بنود هذه الاتفاقية جاءت لتقضي على ذلك كله.(/1)
فقد جاء في الجزء الأول، المادة [2- أ] من الاتفاقية: (تجسيد مبدأ عدم التمييز بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية)، والله يقول: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى".وكذلك في المادة [2- ز]: (إلغاء جميع أحكام قوانين العقوبات)، ويعنون بذلك إبطال عقوبة جريمة الزنا، والإجهاض، ونحوهما.
وجاء في الجزء الثاني، المادة [7- أ، ب، ج] إعطاء المرأة جميع الحقوق السياسية، بحيث يمكن أن تلي الإمامة الكبرى.
وجاء في الجزء الثالث، المادة [10-ج] تشجيع الاختلاط، الذي يعتبر من العوامل الأساسية لإشاعة الفاحشة بين المؤمنين.
وفي الجزء الرابع، المادة [15-2]، حيث نص على أن تكون المرأة والية على نفسها ومن يليها.
هذه مجرد أمثلة، فالاتفاقية عموماً تقوم على أنقاض الإسلام، ورد ما هو معلوم من الدين ضرورة، ومعلوم أن حكم من رد ما هو معلوم من الدين ضرورة الكفر والخروج من دائرة الإسلام، إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.
وعليه نرجو من جميع حكام المسلمين رفض هذه الاتفاقية، والحذر من الأخذ بها، وعلى العلماء وطلاب العلم أن يبينوا للعامة مخالفة ذلك لما جاء به الشارع الحكيم، حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة.
ونرجو من إخواننا المخدوعين بها أن يعيدوا النظر في موقفهم هذا، وعليهم أن لا ينخدعوا بدعايات أعداء الإسلام، وعملائهم، وصنائعهم.
وليعلم الجميع أن الدين تم وكمل، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فوالله لن يضرن إلا نفسه، وأن ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً، كما قال مالك رحمه الله، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقد صلح أولها بالاعتصام بالكتاب، والسنة، وما أجمعت عليه الأمة.
وليتذكروا كذلك أن هذا الدين محفوظ بحفظ الله تعالى، وأن هذا العلم دين، فلينظر كل منا ممن يأخذ ويتلقى دينه.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الكفر، والفواحش، والآثام، وصلى الله وسلم على نبي الملحمة، الناهي عن التشبه بالكفار، المفضي إلى غضب الجبار، وعلى آله وأصحابه الأطهار، والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لا ينال سلامنا الكفار، والمنافقين، والفجار.(/2)
اتق الله يا شيخ حامد العلي
22-05-2004
لقد قرأت مقالتك العنترية ، المتعلقة بجامعة الدول العربية ، وكيف تصف قممهم بالغمم ، وأمجادهم بالنقم ، ألا تتقي الله يا ر جل ! ، هؤلاء العظماء ، يواصلون الليل والنهار ليدفعوا عن الأمة البلاء ، فها هم يتكبدون مشقة الأسفار ، ويقطعون لأجل الأمة البحار ، ولا يبالون بالأخطار ، بل اجتمعوا ليردعوا الأشرار ، ويعيش أبناء أمتهم أحراراً ، فأول ما يناقشونه الإرهاب ، ومن انحرف عنهم من الشباب ، وكيف يسدوا عليهم كل باب ، لتكون دعوتهم في تباب ، وبعد ذلك تصف قممهم بالغمم ، هذا شيء عجاب ! ما رعيت في وصفك لهم الآداب .
ثم هذه أعمالهم النافعة ، التي وصفتها بالخامعة ، منها إن كنت ناسياً ، كلماتهم القاصية ضد يهود ، فهم يصفونهم بأمة الجهود ، لأنهم لا يبالغون برشق الضعفاء بالبارود ، فيقتلوا منهم بلا حدود ، حتى يريحوا أنفسهم من قضية طغى عليها الجمود ، وأقلقتهم في كل قعود ، ثم بعد ذلك تصف قممهم بالغمم ، أليس هذا قولاً مليئاً بالسقم ؟
وبعد ذلك موقفهم من العراق ، الذي طلقوه طلاق فراق ، وقطعوا عنه كل وفاق ، وضربوا أهله فوق الأعناق ، وأعانوا الكافر على أحقاده ، ثم تباكوا على أمجاده . وبعد ذلك تصف قممهم بالغمم ، فعليك أن تبدي لذلك الندم .
فاعلم أنهم قوم أمجاد ، دوماً يحاربون الفساد ، ويدعون لإصلاح البلاد ، فهذه دعواتهم الصادقة في كل سفح وواد ، يريدون أن يخرجوا المسلمين من الجمود والعناد ، ويؤخذوا بأيديهم إلى تقليد أهل الكفر والإلحاد ، فهل في ذلك جرم أو فساد ؟ أم هو العدل والرشاد فاتق الله فيهم يا من تصفهم بالغمم فإنهم على الأمة نعم .
وها هم اليوم مجتمعون ، وعلى هموم الأمة متفقون ، وكلنا أمل بأن يخرجوا كما دخلوا كلا بل أسوء مما كانوا ولهذا أهديهم في تجمعهم هذه الأبيات الموزونة على البحر الضروس لتنطرب منه النفوس
تدق الدفوف وتصدي الكفوف ويرقص الجبناء
على أنغام تتغنى بأشلاء الشهداء
تدور الكؤوس وتنحني الرؤوس ويخطب الجاسوس
في قومه شامخاً مواعظ الشرفاء
أما آن لليل الظلم يا قوم
أن ينجلي ويتجلى للنهار ضياء
والله المستعان
وكتب : إبراهيم بن عبد العزيز(/1)
اتقاء خطر السحر
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الحبيب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
انطلاقا من قوله تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذريات:55) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (( من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل )) . أوجه إليك هذه الرسالة ، والتي أتمنى أن تصلك وأنت بكل خير وعافية .
وهي في بيان الأشياء التي يتقى بها خطر السحر قبل وقوعه والأشياء التي يعالج بها
بعد وقوعه من الأمور المباحة شرعاً انتقيتها لك من أقوال فضيلة الشيخ / عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله تعالى ، عسى أن تكون نافعة لمن قرأها في الدنيا والآخر ة .
أما النوع الأول : - وهو الذي يتقى به خطر السحر قبل وقوعه فأهم ذلك وأنفعه هو التحصن بالأذكار الشرعية والدعوات والتعوذات المأثورة ومن ذلك قراءة آية الكرسي خلف كل صلاة مكتوبة بعد الأذكار المشروعة بعد السلام ومن ذلك قراءتها عند النوم وآية الكرسي هو أعظم آية في القرآن وهي قوله سبحانه { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }(1) ومن ذلك قراءة { قل هو الله أحد } و { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } خلف كل صلاة مكتوبة وقراءة السور الثلاث ثلاث مرات في أول النهار وأول الليل ومن ذلك قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في أول الليل وهما قوله تعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } إلى آخر السورة(2) وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح ))(3) وصح عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه))(4) والمعنى والله أعلم كفتاه من كل سوء ومن ذلك الإكثار من التعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق في الليل والنهار وعند نزول أي منزل في البناء أو الصحراء أو الجو أو البحر لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : (( من نزل منزلاً فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك(5) )) ومن ذلك أن يقول المسلم في أول النهار وأول الليل ثلاث مرات : ( بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم )(6) لصحة الترغيب في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الأذكار والتعوذات من أعظم الأسباب في اتقاء شر السحر وغيره من الشرور لمن حافظ عليها بصدق وإيمان وثقة بالله واعتماد عليه وانشراح صدر لما دلت عليه وهي أيضاً من أعظم العلاج لإزالة السحر بعد وقوعه مع الإكثار من الضراعة إلى الله وسؤاله سبحانه أن يكشف الضرر ويزيل البأس ، ومن الأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك في علاج الأمراض من السحر وغيره وكان صلى الله عليه وسلم يرقي بها أصحابه (( اللهم رب الناس أذهب البأس اشف أنت الشافي لا شفاء إلاّ شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً ))(7) ومن ذلك الرقية التي رقى بها جبرائيل النبيّ صلى الله عليه وسلم وهي قوله ((بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو غين حاسد الله يشفيك بسم الله7(/1)
أرقيك ))(8) وليكرر ذلك ثلاث مرات . ومن علاج السحر بعد وقوعه أيضاً وهو علاج نافع للرجل إذا حبس عن جماع أهله أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر فيدقها بحجر أو نحوه ويجعلها في إناء يصب عليه من الماء ما يكفيه للغسل ويقرأ فيها آية الكرسي وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس وآيات السحر التي في سورة الأعراف وهي قوله سبحانه { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) }(9) والآيات التي في سورة يونس وهي { وقال فرعون ائتوني بكل سحر عليم (79) فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (80) فما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله - إن الله لا يصلح عمل المفسدين (81) ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون }(10) والآيات التي في سورة طه { قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى (65) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66) فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى (68) وألق ما يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى }(11) وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب بعض الشيء ويغتسل بالباقي وبذلك يزول الداء إن شاء الله وإن دعت الحادة لاستعماله مرتين أو أكثر فلا بأس حتى يزول الداء . ومن علاج السحر أيضاً وهو من أنفع علاجه بذل الجهود في معرفة موضع السحر في أرض أو جبل أو غير ذلك فإذا عرف واستخرج وأتلف بطل السحر . هذا ما تيسر بيانه من الأمور التي يتقي بها السحر ويعالج بها والله ولي التوفيق . وأما علاجه بعمل السحرة الذي هو التقرب إلى الجن بالذبح أو غيره من القربات فلا يجوز لأنه من عمل الشيطان بل من الشرك الأكبر فالواجب الحذر من ذلك وفق الله المسلمين للعافية من كل سوء وحفظ عليهم دينهم إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه .
________________________________________
(1) سورة البقرة آية 255.
(2) سورة البقرة آية 285.
(3) رواه البخاري في صحيحه..
(4) متفق عليه.
(5) رواه مسلم وغيره.
(6) رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم .
(7) متفق عليه .(/2)
اتقوا الله ما استطعتم
حين تطرح قضية من هموم المسلمين في أحد المجالس، ويتبادل الناس الحوار والحديث حولها يتحدث الناس عن قضايا كبار، كالتآمر العالمي على الدعوة، وتجفيف المنابع، ومواجهة الصحوة، وأن هذه المسائل تحتاج لحلول جذرية ربما تضيق عنها جهود أمم ودول، فضلاً عن فئات محدودة من الدعاة، وتربط كل قضية عملية تطرح أمام الناس بهذه القضايا الكبار.
وتبدو نتيجة النقاش أن هذه القضايا أكبر من جهد الأفراد وطاقتهم، ويقف الأمر عند هذا الحد، وحين تبحث عن جهود هؤلاء ودعوتهم لاترى شيئاً يذكر، فالطالب في جامعته، والمعلم في مدرسته، والموظف والعامل في قطاعه ليس لهم أثر في محيطهم، بل لايرون ذلك ضمن دائرة اهتمامهم.
وهي القضية التي تحدث عنها أحد التربويين من خلال (دائرة الاهتمام) و(دائرة التأثير)([1]).
وبغض النظر عن كون هذا المنطق من التفكير وسيلة لتبرير القعود والكسل، أو أنه نتاج اجتهاد واقتناع شخصي فالنتيجة العملية لذلك سيان.
ودون الدعوة لتسطيح الاهتمام وقصر التفكير على المحيط الشخصي المحدود، فإنه ينبغي أن يربى الناس على الاهتمام في الميادين العملية التي يجيدون التأثير فيها، بغض النظر عنها، وعن مدى ضآلة حجمها بالنسبة لقضايا الأمة الكبار.
ينبغي أن يكون هم الإنسان أن يعمل، وأن يؤدي جهده في نطاقه ومحيطه، منطلقاً من قوله تبارك وتعالى (فاتقوا الله مااستطعتم) وقوله (لايكلف الله نفساً إلا وسعها) وهي قاعدة شرعية عظيمة.
ويدل على هذا المعنى أيضاً قوله صلى الله عليه و سلم "اكلفوا من الأعمال ماتطيقون".
وتأمل قوله صلى الله عليه و سلم :"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه".
وأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يعيشون هم العمل، ويعنون بدرجة كبيرة به، دون أن يحلقوا في الخيال والتنظير، أو الإفراط في النظر للمشكلات وتضخيمها (وما أنا إلا نذير مبين) (إن عليك إلا البلاغ) ثم يسلمون أمرهم لخالقهم تبارك وتعالى يحكم بينهم وبين قومهم بما يشاء.
وحين يحقق المسلم هذا المعنى، ويقوم بهذه المهمة في محيطه، ينطلق بعد ذلك في التفكير فيما وراء هذا، والبحث عن وسائل تعينه على توسيع دائرة تأثيره.
فلنحقق التوازن في هذا الميدان بين علو الاهتمامات، والنظرة البعيدة العميقة، وبين الميادين العملية.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) انظر: التربية والتجديد لماجد عرسان الكيلاني (32-39)(/1)
اتقوا الله يا أكلة لحوم البشر !!!
الشيخ محمد الهدار- صحيفة أخبار بنغازي/ الشبكة
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى . وبعد ...
إن المتأمل والمتفحص لغالب مجالس الناس اليوم ذكورا وإناثا يجدها مليئة بفاحشة نكراء وجريمة بشعة وإثم شنيع ، يراه بعض العلماء من كبائر الذنوب ، وهو محرم بنص الكتاب والسنة والإجماع ،هذا الجرم هو أكل لحوم البشر والخوض في أعراضهم ، وتسمى هذه الحالة بالغيبة ، قال الله تعالى ( ولا يغتب بعضكم بعضا ) ، ثم بين شناعة هذه الجريمة ووصف حال فاعليها بقوله جل شأنه ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) ، قال الإمام القرطبى رحمه الله (مثل الله الغيبة بأكل الميتة ،لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه).وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة لأن أكل الميت حرام مستقذر ، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس ).
وقال قتاده رحمه الله : ( كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيا ). وقال الفقيه الشافعي ابن حجر الهيثمي رحمه الله : الغيبة والنميمة حرام بالإجماع، وإنما الخلاف في الغيبة هل هي كبيرة أو صغيرة ؟ ونقل الإجماع على أنها كبيرة ،وقال آخرون : (محله – أي الإجماع - إن كانت في طلبة العلم، وحملة القرآن، وإلا كانت صغيرة ) ،وقال القرطبي رحمه الله : (لا خلاف أن الغيبة من الكبائر ،وأن من اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى الله عز وجل )، قلت: وقد أمر الله في نهاية آيةتحريم الغيبة بما يساهم ويساعد في الإقلاع عن اقتراف هذا المنكر فقال سبحانه (واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) .
روى أحمد وأبو داوود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم ) .
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر منها أشد تحذير حيث روى أحمد وأبو داوود والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم ،تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته ، يفضحه ولو في جوف بيته ).
وعموما داء الغيبة قد استشرى بين أفراد المجتمع استشراء النار في الهشيم ، إلا من رحم ربي ، لدرجة أن بعض أهل العلم الشرعي تجده يمارسها مع من يمارسها من العوام ، و لله در أستاذنا وشيخنا الفاضل محمد سالم المزوغي حن قال :
وقل من تجده منها سلم *** أنظر تراها حتى بين العلماء
والغيبة قد عرفها الرسول صلى الله عليه وسلم خير تعريف كما جاء في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( هل تدرون ما الغيبة ؟ ) قالوا : الله ورسوله اعلم ، قال: ( ذكرك أخاك بما يكره ) قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : ( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته ) ،أي قلت فيه بهتان وهو أشد ظلما من الغيبة ؛ لأنه كذب وافتراء .وجاء في الموطأ مرسلا :أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الغيبة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع ) ،وقد شرح الإمام النووي – رحمه الله – معنى الغيبة .
وإليكم بعض ما قاله بتصرف ذكره بعض العلماء : الغيبة ذكر المرء بما يكره ؛ سواء كان ذلك في بدن الشخص، أو دينه ،أو دنياه ،أو نفسه ، أو خلْقِه ، أو في خُلُقه ، أو ماله ، أو ولده ، أو زوجه ،أو خادمه ، أو ثوبه ،أو حركته ، أو طلاقته ، أو عبوسته ، أو غير ذلك مما يتعلق به ، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز .
قلت : نسال الله السلامة والنجاة ، فالأمر إذا ليس هيناً ،وإن كان البعض يحسبه هينا ،لكنه عند الله عظيم ؛ روى أحمد وأبو داوود والترمذي ، أن عائشة رضي الله عنها قالت :قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا ، قال بعض الرواة تعني أنها قصيرة ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) .
ومما يؤسف له أن الغيبة أصبحت تطال حتى بعض علماء الأمة و صلحائها كالإمام مالك رضي الله عنه والإمام أبي حنيفة والإمام ابن حجر وغيرهم رضي الله عن الجميع ورحمهم رحمة واسعة، فتقرأ وتسمع عمن يقول عن الإمام مالك : الهالك ، ويقول عن الإمام أبي حنيفة : أبو جيفه ، وتسمع عمن يقول عن النووي وابن حجر أنهما أصحاب بدع ...الخ .(/1)
وهذا أمر خطير ومعول هدم للفقه الإسلامي المبارك ، إذ أن اغتياب الأئمة الأعلام ، يعني عدم احترامهم ، وبالتالي عدم احترام ما قدموه للأمة من علم ، وهذه هي الطامة والحالقة ،وهي بغي خطير يجلب لصاحبه العقوبة في الدنيا قبل الآخرة ، روى أبو داوود والترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم ) ، فغيبة العلماء والصلحاء والأتقياء خرق في الدين خطير حذر منه أهل العلم أشد تحذير ،فقال مالك ابن دينار رحمه الله : ( كفى بالمرء شرا أن لا يكون صالحا ، وهو يقع في الصالحين ) وقال الإمام أحمد بن الأذرعي رحمه الله : ( الوقيعة في أهل العلم لا سيما أكابرهم ، من كبائر الذنوب ) ، وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : ( لحوم العلماء مسمومة ، من شمها مرض ،ومن أكلها مات ) . ورحم الله من قال : ( إن العلماء هم عقول الأمة والأمة التي لا تحترم عقولها غير جديرة بالبقاء ).
فعجيب أمر من يسب العلماء ويطعن فيهم ويغتابهم ، أما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب الديك ، لأنه يدعو إلى الصلاة ، كما روى أحمد وأبو داوود ، فكيف يستبيح قوم إطلاق ألسنتهم في ورثة الأنبياء الداعين إلى الله عز وجل ؟!!! قال الله تعالى ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) ، فينبغي الذب عن عرض كل مسلم وخصوصا العلماء والصلحاء والأتقياء والدعاة ، وليبشر من كان هذا ديدنه بما رواه أحمد وغيره ،أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من ذب عن عرض أخيه بالغَيبة كان حق على الله أن يعتقه من النار ).
ويجب على كل مسلم بالغ عاقل ذكر أو أنثى أن يصن لسانه عن الغيبة وفحش الكلام ولا يتكلم إلا بخير وبما ينفع ، لما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) ، وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) ، وجاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعرى رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أي المسلمين أفضل ؟ قال : ( من سلم المسلمون من لسانه ويده ) . وجاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة ).
وجاء في كتاب الأذكار للإمام النووي رحمه الله قال : ( بلغنا أن قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا ، فقال أحدهم لصاحبه : كم وجدت في ابن آدم من العيوب ؟ فقال : هي أكثر من أن تحصى والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب ، ووجدت خصلة إن استعملها سترت العيوب كلها ، قال ما هي ؟ قال : حفظ اللسان ) . وإن الفضيل بن عياض رحمه الله قال : ( من عدَ كلامه من عمله قل كلامه في ما لا يعنيه ) .
ومما ينفع في هذا المقام كذلك ما قاله أحد الصالحين : ( والله ما يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرا بغير حق ، فكيف تؤذي مسلما ) . وأخرج مالك في الموطأ عن يحي بن سعيد أن عيسى بن مريم عليه السلام لقي خنزيرا بالطريق ، فقال له : (أنفذ بسلام ) ، فقيل له تقول هذا لخنزير ؟ فقال عيسى عليه السلام : ( إني أخاف أن أعود لساني النطق بالسوء ) . وقال يحي بن كثير رحمه الله : (خصلتان إذا رأيتهما في الرجل فاعلم أنما وراءهما خير منهما : إذا كان حابسا للسانه ، يحافظ على صلاته ) .
فعلى المرء أن يجاهد نفسه وينهها عن الغيبة وغيرها من الذنوب ، وليكن قائدنا في ذلك خوف الله وتقواه ، وليرغب كل واحد منا نفسه بما سبق من أدلة ، ويرغبها أيضا بمثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل ) والحديث رواه أبو نعيم في الحلية وهو صحيح عند بعض المحدثين ، وأختم هذه الكلمة بما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم ، لا يخونه ، ولا يكذبه ، ولا يخذله ، كل المسلم على المسلم حرام : عرضه وماله ودمه ، التقوى هاهنا - وأشارإلى صدره الشريف – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) .
فعلينا أن نحفظ هذا الحديث ، ونعمل بمقتضاه ، ونتذكره بين الحين والآخر ، ونُذكر به ، وعلى الأخوة أكلة لحوم البشر الميتة أن يتقو الله ربهم . وصلى الله وسلم على سيدنا محمد أعظم من علَم الناس الخير وعلى آله وصحابته وأتباعه ، والحمد لله أولا وآخرا ...(/2)
اتقوا النار ولو بشق تمرة
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
من الأدواء الخبيثة، والأمراض الخسيسة، أعني أمراض القلوب المعنوية التي هي أخطر وأشد من أمراض الأبدان الحسية، الغفلة، وطول الأمل، والتسويف، وحب الدنيا، وكراهية الموت.
حيث أضحى لا تنفع معها ذكرى، ولا تفيد بسببها موعظة ولا فكرة، ولا يؤثر في النفوس زجر ولا تخويف، ولا آية ولا حديث، لأن الغفلة بلغت مداها، والتسويف وطول الأمل غاية مناها.
هذا هو الفرق بيننا وبين سلفنا الأطهار وسادتنا الأخيار، كان أملهم في الدنيا قصير، وخوفهم من الله وأهوال الطامة وأن تحبط أعمالهم كبير، ولم يأمنوا مكر الله كما أمنا نحن، فالمؤمن يجمع بين العمل والخوف، والمنافق يجمع يبن الأمل والتقصير.
قال الحسن: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وإن الكافر جمع إساءة وأمناً.
يقول ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه.
وعندما سئل الحسن البصري رحمه الله: أتخاف من النفاق؟! قال: وما يؤمنني وقد خافه عمر رضي الله عنه.
وكان طاوس اليماني إذا مر ببائع الرؤوس وقد رآه يخرج رأساً مشوياً غشي عليه، ولم يتعش تلك الليلة.
وقال سفيان بن عيينة: خلق الله النار رحمة يخوِّف بها عباده لينتهوا.
وكان صهيب بن سنان رضي الله عنه إذا ذكر الجنة طال شوقه لها، وإذا ذكر النار طار نومه خوفاً منها، كما وصفته زوجه رضي الله عنها.
ذكرني شدة الحر في هذه الأيام قوله صلى الله عليه وسلم: "إن النار اشتكت إلى ربها سبحانه وتعالى قائلة: يا رب! أكل بعضي بعضاً؛ فجعل لها نَفَسَين، نَفَساً في الشتاء ونَفَساً في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها".
وقول ابن عمر رضي الله عنهما ناصحاً لإخوانه المسلمين ومحذراً لهم من نار الجحيم: "احذروا النار، فإن حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد"، أوكما قال.
إي وربي، فإن نار الآخرة التي هي سبعون ضعفاً من نار الدنيا حرها شديد، ولو كانت مثل نار الدنيا لكفت، ولزجرت أصحاب القلوب والنهى.
وهل تدري أخي المسلم أن قارون الذي خسف به منذ أمد بعيد لا زال يجلجل فيها لم يصل قعرها؟
وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟! قال: قلنا: الله ورسوله أعلم؛ قال: هذا حَجَر رمي في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار حتى انتهى إلى قعرها".
هذه النار التي وصفها لنا ربنا ورسولنا، ولا ينبئك مثل خبير، النار التي لا تفنى ولا تبيد، والتي لأهلها الخالدين فيها زفير وشهيق، النار التي لا تمتلئ بل تطلب المزيد، النار التي طعام أهلها الغسلين، وشرابهم الحميم، كشرب الهيم، الواجب على كل مسلم أن يقي نفسه ويسعى لوقاية أهلها منها، عملاً بوصية ربنا سبحانه وتعالى، اللطيف الرحيم بعباده، والناصح الكريم: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون".
واتقاء النار ليس بالأمر العسير لمن وفقه الله لذلك، فقد نجى الله بغياً من بغايا بني إسرائيل لسقيها كلباً كان يأكل الثرى من العطش، حيث تدلت في بئر وحملت له ماءً في موقها، فشكر الله لها هذا الصنيع، فغفر لها، وأدخلها الجنة، ونجاها من النار.
وقد أرشد رسولنا إلى ما هو أيسر من ذلك، إلى التصدق ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة، حيث قال: "من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل".
وعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة".
وزاد ابن حجر: "ولو بكلمة طيبة".
فالصدقة قليلة كانت أم كثيرة، إن كانت من صادق ومن كسب طيب، والله لا يقبل إلا طيباً، من أجل القربات، وهي تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، فعليك أخي المسلم أن لا تستحي من أن تتصدق بما تملك، شريطة أن تكون طيبة بذلك نفسك.
قال الإمام النووي في شرح الحديث السابق: (وفيه الحث على الصدقة وأنه لا يمتنع منها لقلتها، وأن قليلها سبب للنجاة من النار).(/1)
وقال المناوي: ("اتقوا النار" أي اجعلوا بينكم وبينها وقاية، أي حجاباً من الصدقة، ولو كان الاتقاء بالتصدق بشيء قليل جداً مثل شق تمرة، أي جانبها، أونصفها، فإنه يفيد، فقد يسد الرمق، سيما للطفل، فلا يحتقر المتصدق ذلك، فلو هنا للتقليل كما تقرر، وهو معدود من معانيها كما في المغني عن اللخمي وغيره، وقد ذكر التمرة دون غيرها كلقمة طعام لأن التمر غالب قوت أهل الحجاز، والاتقاء عن النار كناية عن محو الذنوب، "إن الحسنات يذهبن السيئات"، "أتبع السيئة الحسنة تمحها"، وبالجملة ففيه حث على التصدق ولو بما قلَّ.
إلى أن قال: ("بكلمة" أي فاتقوا النار بكلمة طيبة تطيِّب قلب السائل مما يتلطف به في القول والفعل، فإن ذلك سبب للنجاة من النار، وقيل: الكلمة الطيبة ما يدل على هدى، أويرد عن ردى، أويصلح بين اثنين، أويفصل بين متنازعين، أويحل مشكلاً، أويكشف غامضاً، أويدفع تأثيراً، أويسكن غضباً).
قلت: أعمال الخير كثيرة ومتنوعة، وأسباب دخول الجنة والنجاة من النار لا تحصى، وكل ميسر لما خلق له، فمن الناس من يسر لقضاء حوائج الناس، ومنهم من فتح له في الصلاة، أوالصيام، أونشر العلم، وهكذا، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
فالسعيد كل السعادة من زحزح عن النار وأدخل الجنة، والتعيس الشقي من حرم جنة عرضها السموات والأرض كما أخبر الصادق المصدوق: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في جهنم صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيتَ خيراً قط؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب؛ ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيتَ بؤساً قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيتُ شدة قط" الحديث.
اللهم إنا أطعناك في أحب الأمور إليك وهو التوحيد، ولم نعصك في أبغض الأمور إليك وهو الشرك، فاغفر لنا ما دون ذلك، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة، وصلى الله وسلم وبارك وعظم على النبي الأمي الكريم، وعلى صحابته والتابعين.(/2)
اتواصوا به
المحتويات
نماذج من سير الأنبياء:
من ثمرات دراسة هذا الموضوع
نماذج من سير الأنبياء
موسى عليه السلام
محمد صلى الله عليه وسلم
مريم عليها السلام
مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
عائشة رضي الله عنها
عثمان بن عفان رضي الله عنه
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
مع سائر السلف
الإمام البخاري
الإمام الشافعي
الإمام أحمد بن حنبل
ابن أبي عاصم
بقي بن مخلد
ابن قتيبه
محمد بن الفضل
الإمام البربهاري
أبو عثمان المغربي
الخطيب البغدادي
الشاطبي
ابن الجوزي
شيخ الإسلام ابن تيمية
محمد بن عبد الوهاب
الخلاصة
مقدمة الابتلاء طريق الأنبياء:
هذه المحاضرة وقفات حول قول الله عز وجل (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون).
ففي هذه الآية أخبر تعالى أن الأقوام الذين أرسل الله عز وجل إليهم الرسل قد اتفقوا كلهم جميعاً على اتهام المرسلين بالسحر، وأنى أن يكون ذلك وبينهم عصور وقرون متطاولة .
وهي أيضاً قضية نلحظها حينما نتعرض لقصص الأنبياء فنقرأ ما قال قوم نوح لنبيهم نوح، وما قال قوم عاد لهود، وما قالت ثمود لصالح، وما قاله سائر الأقوام المكذبين لأنبيائهم المصلحين، نجد أنها كلمة واحدة، حتى كأنهم قد تواصوا واتفقوا على هذا.
وسيكون حديثنا في ذكر بعض النماذج من اتهام المصلحين والطعن فيهم في أمر دينهم.
إن قضية الإصلاح تستوجب صراعاً مع أهل الباطل؛ ذلك أن المصلحين يرون واقعاً لا يرضي الله ورسوله فيسعون إلى تغيره، والمصلح لا يكون مصلحا ًإلا حين يرد إحقاق حق أو تغيير باطل، ولا شك أن مصالح أهل الباطل سوف تصطدم مع ما يدعو إليه هؤلاء المصلحون، فيسعى هؤلاء إلى تعويق إصلاحهم ودعوتهم من خلال تشويه سيرتهم، ويعلم هؤلاء أن الدين هو القضية التي يدعو إليها هؤلاء، ومن ثم فالطعن في معتقدهم وتشويهه خير وسيلة لتنفير الناس من دعوتهم.
إنها صورة واحدة من صور الابتلاء التي يتعرض لها المؤمنون، والابتلاء سنة ماضية سنة لمن آمن بالله عز وجل ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين .
ولذا كان الابتلاء سنة في حق المؤمنين؛ فكل من يؤمن فلابد أن يبتلى فما بالك بالمصلحين الذين يسعون إلى تغيير الواقع الذي يخالف شرع الله عز وجل؟ لاشك أنهم أكثر عرضة للابتلاء والامتحان .
وهذا الأمر نقرأه في سير الأنبياء وفي سير المصلحين، فكم عانى الأنبياء من أعدائهم المكذبين وهي صور شتى من التكذيب والتعويق والابتلاء، يسعى إليه المفسدون من أقوامهم ويتواصون به جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن.
ومن بعد الأنبياء كانت السنة كذلك نفسها للمصلحين، ويشعر المصلح الداعي إلى الله عز وجل أنه حين يختار لنفسه هذا الطريق فإنه يضع نفسه مع هذه القائمة ويسير مع هذا الركب، فلابد أن يصيبه ما أصابهم ويواجه بما ووجهوا به.
من ثمرات دراسة هذا الموضوع:
إن الحديث عن هذا الأمر له ثمرات عدة، منها:
أولاً: أن فيه تسلية لمن يتصدى للدعوة إلى الله عز وجل فيصيبه ما يصيبه من الفتنة والابتلاء، وربما تعرض إلى الطعن في شخصه ودينه، فقد كان أصدق الناس لهجة وأصفاهم سريره واتقاهم لله تعالى، وهم أنبياء الله يتهمون في دينهم وربما اتهموا في أعراضهم، فغيرهم من باب أولى.
ثانياً: حين يسمع الإنسان اتهاماً لأحد من المصلحين، سواء أكان ممن يعيش بين ظهرانيه، أو ممن مضى وسلف فلن يتسرع في تصديق ذلك وتلقيه.
ولنبدأ الحديث حول هذه النماذج من الابتلاء مقتصرين على اتهام المصلحين في دينهم، وحين نتحدث عن المصلحين فإن أول من يتصدر هذه القائمة هم رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، وقد واجهوا ما واجهوا من الطعن في دينهم واعتقادهم غير ما واجهوه من الابتلاء في أمور أخرى.
نماذج من سير الأنبياء
موسى عليه السلام:
لقد تعزى نبينا عليه الصلاة السلام بما أصابه فقال:"رحم الله أخي موسى فقد أوذي بأكثر مما أوذيت فصبر".
لقد جاء موسى عليه السلام والناس يؤلهون فرعون من دون الله، ويعتقدون أنه ربهم الأعلى فأرسله الله عز وجل ليخرج الناس من العبودية والذل لفرعون إلى العبودية والذل لله تبارك وتعالى . فشرق أولئك بهذه الدعوة، وشعر فرعون أن في هذا تحطيماً لألوهيته وجبروته وسلطانه على الناس، فلم يجد مبرراً أمام الناس إلا أن يتهم موسى في دينه، كما قال تعالى (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد .(/1)
وحين صار ما صار من المناظرة بين موسى والسحرة فحشر فرعون سحرته وجمع جبروته وسلطانه، وكان موعدهم يوم الزينة فاجتمعوا في هذا اليوم فألقى موسى عصاه، فأدرك السحرة الحق فآمنوا بالله وخروا سجداً، حينها اتهمهم بعدم الصدق في إيمانهم، وأن هذا الإيمان جزء من مؤامرة يُستهدف فيها فرعون ومجده (قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون).
واتهم موسى بأنه ساحر، وأنه هو الذي علم السحرة السحر (قال آمنتم له قبل أن آذن اكم إنه لكبيركم الذي علمك السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى)
ويحذر الله عباده المؤمنين مما فعله بنو اسرائيل مع موسى عليه السلام (ياأيها الذين آمنوا لاتكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما اتهمه به بنو إسرائيل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لايرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: مايستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص وإما أدْرَة، وإما آفة. وإن الله أراد أن يبرأه مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر. فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، فذلك قوله (ياأيها الذين آمنوا لاتكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها)"
محمد صلى الله عليه وسلم:
وهاهو محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة الخاتمة الذي اصطفاه تعالى على البشر، هاهو أيضاً يتهم في إخلاصه وفي دينه؛ فحين قسم صلى الله عليه وسلم قسمة لم ترق لبعض ضعاف الإيمان قال أحدهم:"إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله"- قال ابن مسعود - فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال:"يرحم الله موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" .
مريم عليها السلام:
وهاهي مريم ابنة عمران تتهم في عرضها؛إذ قذفها اليهود عليهم لعنة الله بالزنا والبهتان، حين أكرمها الله ونفخ فيها من روحه (فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئاً فرياً. ياأخت هارون ماكان أبوك امرء سوء وماكانت أمك بغيا) فأنطقه الله (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً) ومع هذه الآية الواضحة الخارقة حين نطق هذا الغلام وهو في المهد، مع ذلك كله لا يزال أولئك يصرون على هذه الجريمة البشعة؛ فيتهمون هذه المرأة الطاهرة التي يقول تبارك وتعالى عنها (إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين)
مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
عائشة رضي الله عنها:
وكأنما تواصى هؤلاء مع أوليائهم فتقذف عائشة رضي الله عنها بما قذفت به مريم، ويسير المنافقون وراء أولئك اليهود فيشيعون الفرية ضد عائشة، فتسمع عائشة ما يقال عنها وما تتهم به، ثم ترى من النبي صلى الله عليه وسلم ما ترى فتبقى حبيسة الألم وحبيسة هذه الفرية شهراً، والاتهام لعائشة لم يكن اتهاماً لعائشة وحدها بل كان اتهاماً قبل ذلك كله للنبي صلى الله عليه وسلم وطعناً في فراشه وفي أحب الناس إليه.
عثمان بن عفان رضي الله عنه:(/2)
عن عثمان بن عبدالله بن موهب رحمه الله قال: جاء رجل من أهل مصر يريد حج البيت، فرأى قوماً جلوساً، فقال من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ منهم؟ قالوا: عبدالله بن عمر، قال: يابن عمر، إني سائلك عن شيء فحدثني: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم، قال: هل تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله أكبر، وكأنما فرح هذا الرجل لأن يجد هذه النقيصة وهذه التهمة في خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كانت تستحي منه الملائكة، فلما قال ذلك قال ابن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد، فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر، فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان، فضربها على يده،كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خير من يد عثمان لعثمان وقال: هذه لعثمان، ولهذا قال بعضهم ثم قال ابن عمر: اذهب بها الآن معك" . والقصة في صحيح البخاري .
وعن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله، قال: فلعل ذلك يسوءك؟ قال: نعم، قال: فأرغم الله بأنفك. ثم سأله عن علي، فذكر محاسن عمله قال: هو ذاك، بيته أوسط بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: لعل ذلك يسوءك؟ قال: أجل، قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فاجهد علي جهدك" .
نعم إن هؤلاء يسوؤهم أن تذاع مناقب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كبر هذا الرجل حين أقر له ابن عمر رضي الله عنه بتلك التهم التي اتهم بها عثمان في دينه، وساءه حين برأه منها وذكر محاسنه.
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
وممن اتهم في دينه أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر، فقالوا: إنه لايحسن أن يصلي، فقال سعد: أما أنا، فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتي العشي لا أخرم منها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين، فقال عمر: ذاك الظن بك ياأبا إسحاق. أهل الكوفة يعلمون صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة؟ أهل الكوفة يتهمون صاحب رسول الله الذي فداه الرسول بأبيه وأمه، يتهمونه أنه لا يحسن أن يصلي؟ فبعث عمر رضي الله عنه رجالاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لايأتون مسجداً من مساجد الكوفة إلا قالوا خيراً، حتى أتوا مسجداً لبني عبس، فقال رجل يقال له أبو سعده: أما إذ نشدتمونا بالله (انظر إلى منطق هؤلاء حين نُشِد بالله فقد تعينت عليه كلمة حق يجب أن يقولها، وهؤلاء كما أخبر تعالى (ويشهد الله على ما قلبه وهو ألد الخصام) ) فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية، فقال سعد: اللهم إن كان كاذباً، فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، قال عبدالملك فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا سئل كيف أنت؟ يقول: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد .والقصة في البخاري .
وعن قبيصة بن جابر قال: قال ابن عم لنا يوم القادسية: ألم تر أن الله أنزل نصره وسعد بباب القادسية معصم فأبنا وقد أمت نساء كثيرة ونسوة سعد ليس فيهن أيم
فبلغ سعداً قوله، فقال: عيى لسانه ويده، فجاءت نشابة فأصابت فاه فخرس، ثم قطعت يده في القتال، فقال -أي سعد-: احملوني على باب، فخرج به محمولاً، ثم كشف عن ظهره وفيه قروح فأخبر الناس بعذره فعذروه، وكان سعد لا يجبن، وفي رواية يقاتل حتى ينزل الله نصره، وقال: وقطعت يده وقتل وهذا الخبر رواه الطبراني كما في المجمع وقال باسنادين رجاله أحدهما ثقات.
مع سائر السلف:
ونتجاوز ما قيل عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كثير إلى ما قيل عن الأئمة بعدهم:
الإمام البخاري: ها هو الإمام البخاري رحمه الله صاحب الصحيح أصح كتاب بعد كتاب الله، هاهو يتهم في عقيدته ودينه؛ فقد اتهم بأنه يقول بخلق القرآن في مسألة اللفظ المشهورة وممن اتهمه محمد بن يحيى
قال محمد بن يحيى: قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية، واللفظية عندي شر من الجهمية.
وحين قدم بخارى استقبله الناس، فكتب بعد ذلك محمد بن يحيى الذهلي إلى خالد بن أحمد أمير بخارى: إن هذا الرجل يعني البخاري قد أظهر خلاف السنة، فقرأ كتابه على أهل بخارى فقالوا: لانفارقه، فأمره الأمير بالخروج من البلد فأخرج رحمه الله .(/3)
وروى الحاكم عن محمد بن العباس الضبي قال: سمعت أبابكر بن أبي عمرو الحافظ البخاري يقول:كان سبب منافرة أبي عبدالله أن خالد بن أحمد الذهلي الأمير خليفة الطاهرية ببخارى سأل أن يحضر منزله فيقرأ الجامع والتاريخ على أولاده، فامتنع عن الحضور عنده فراسله بأن يعقد مجلساً لأولاده، لايحضره غيرهم، فامتنع وقال: لاأخص أحداً، فاستعان الأمير بحريث بن أبي الورقاء وغيره، حتى تكلموا في مذهبه، ونفاه عن البلد، فدعا عليهم، فلم يأت إلا شهر حتى ورد أمر الطاهرية، بأن ينادى على خالد في البلد، فنودي عليه على أتان، وأما حريث فإنه ابتلي بأهله، فرأى فيهم مايجل عن الوصف، وأما فلان فابتلي بأولاده وأراه الله فيهم البلايا. وبقي الإمام البخاري بعد ذلك إماماً عالماًَ يترحم الناس عليه
الإمام الشافعي: والإمام المجدد الشافعي رحمه الله اتهم بالتشيع لذا قال هذه الأبيات المشهورة التي حكاها عنه الربيع بن سليمان، قال: حججنا مع الشافعي، فما ارتقى شرفاً، ولاهبط وادياً، إلا وهو يبكي وينشد:- ياراكبا قف بالمحصب من منى واهتف بقاعد خيفنا والناهض سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي قال الذهبي: لو كان شيعياً وحاشاه من ذلك لما قال: الخلفاء الراشدون خمسة، بدأ بالصديق، وختم بعمر بن عبدالعزيز. وقال أحمد عن ذلك: اعلموا رحمكم الله أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئاً من العلم، وحرمه قرناؤه وأشكاله، حسدوه فرموه بما ليس فيه، وبئست الخصلة في أهل العلم. ولما دخل مصر أتاه جلة أصحاب مالك، وأقبلوا عليه، فلما رأوه يخالف مالكاً، وينقض عليه جفوه وتنكروا له، حتى حدث أبو عبدالله بن منده قال حدثت عن الربيع أنه قال: رأيت أشهب بن عبدالعزيز ساجداً يقول في سجوده: اللهم أمت الشافعي لايذهب علم مالك، فبلغ الشافعي فأنشأ يقول:- تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد ولهذا كان يقول الشافعي رحمه الله:رضى الناس غاية لاتدرك، وليس إلى السلامة منهم سبيل.
الإمام أحمد بن حنبل: والإمام أحمد رحمه الله محنته مشهورة، ابتلي واتهم بأنه قد ابتدع في دين الله ما ليس فيه، وضرب وأوذي، وكانت تهمته في دينه وأنه يفتري على الله تبارك وتعالى، ويبتدع ويتجرأ على الله عز وجل وقضيته مشهورة نتجاوزها.
ابن أبي عاصم: وممن اتهم في دينه الإمام أبي عاصم رحمه الله، قال عنه الذهبي: حافظ كبير، إمام بارع، مطيع للآثار، كثير التصانيف .
اتهم بالنصب، وأرسل له ليلى الديلمي غلاماً له ومخلاة وسيفاً، وأمره أن يأتيه برأسه فأتاه وهو في مسجده يحدث، فقال أن الأمير قد أمرني أن آتي برأسك، فوضع الكتاب الذي كان يقرأ فيه على رأسه ثم أتاه آت فقال: إن الأمير ينهاك عن ذلك.
والشاهد أن الإمام أبي عاصم إمام من أئمة أهل السنة يتهم بأنه ناصبي يبغض آل البيت.
بقي بن مخلد: قال عنه الذهبي: الإمام القدوة، شيخ الإسلام، أبو عبدالرحمن الأندلسي القرطبي، الحافظ صاحب التفسير والمسند اللذين لانظير لهما .
وكان إماماً مجتهداً صالحاً، ربانياً صادقاً مخلصاً، رأساً في العلم والعمل، عديم المثل، منقطع القرين، يفتي بالأثر، ولايقلد أحداً، قدم إلى الأندلس فأحيا فيها مذهب أهل الحديث، فشرق به أولئك.
قال ابن حزم: وكان حمد بن عبدالرحمن الأموي صاحب الأندلس محباً للعلوم عارفاً، فلما دخل بقي الأندلس بمصنف أبي بكر بن أبي شيبة، وقريء عليه أنكر جماعة من أهل الرأي مافيه من الخلاف واستبشعوه، ونشطوا العامة عليه، ومنعوا من قراءته، فاستحضره صاحب الأندلس محمد وإياهم، وتصفح الكتاب كله جزءاً جزءاً، حتى أتى على آخره، ثم قال لخازن الكتب: هذا كتاب لاتستغني خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا، ثم قال لبقي: انشر علمك، وارو ما عندك، ونهاهم أن يتعرضوا له.
ابن قتيبه: اتهمه سبط ابن الجوزي بأنه يميل إلى التشبيه، وأن كلامه يدل عليه، وأنه يرى رأي الكرامية.
قال عنه شيخ الإسلام:"ابن قتيبة من أهل السنة... وهو من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة. قال فيه صاحب التحديث بمناقب أهل الحديث: هو أحد أعلام الأئمة والعلماء الفضلاء، أجودهم تصنيفاً وأحسنهم ترصيفاً... وكان أهل المغرب يعظمونه ويقولون: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة، ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه فلا خير فيه، قلت -أي شيخ الإسلام-: ويقال هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة" .
هذه هي حال ابن قتيبة كما حكى شيخ الإسلام ومع ذلك يتهمه سبط ابن الجوزي في عقيدته بالتشبيه وبأنه يرى رأي الكرامية.(/4)
محمد بن الفضل: قال السلمي في محن الصوفية: لما تكلم محمد بن الفضل ببلخ في فهم القرآن وأحوال الأئمة، أنكر عليه فقهاء بلخ، وقالوا: مبتدع، وإنما ذاك بسبب اعتقاده مذهب أهل الحديث.
الإمام البربهاري: قال أبو الحسين الفراء: كان للبربهاري مجاهدات ومقامات في الدين، وكان المخالفون يغلظون قلب السلطان عليه، ففي سنة إحدى وعشرين (وثلاث مائة) أرادوا حبسه فاختفى، وأخذ كبار أصحابه، وحملوا إلى البصرة، فعاقب الله الوزير ابن مقلة، وأعاد الله البربهاري إلى حشمته وزادت، وكثر أصحابه، فبلغنا أنه اجتاز الجانب الغربي، فعطس فشمته أصحابه، فارتفعت ضجتهم، حتى سمعها الخليفة، فأخبر بالحال فاستهولها، ثم لم تزل المبتدعة توحش قلب الراضي حتى نودي في بغداد: لا يجتمع اثنان من أصحاب البربهاري؛ فاختفى وتوفي مستتراً في رجب سنة ثمان وعشرين وثلاث مائة.
أبو عثمان المغربي: ومنهم أيضاً أبو عثمان المغربي قال عنه الذهبي :الإمام القدوة شيخ الصوفية أبو عثمان سعيد بن سلاَّم المغربي القيرواني نزيل نيسابور.
قال السلمي: كان أوحد المشايخ في طريقته، لم نر مثل في علو الحال وصون الوقت، امتحن بسبب زور نسب إليه، حتى ضرب وشهر على جمل ففارق الحرم .
الخطيب البغدادي: قال محمد بن طاهر: حدثنا مكي بن عبدالسلام الرميلي، قال: كان سبب خروج الخطيب من دمشق إلى صور، أنه كان يختلف إليه صبي مليح، فتكلم الناس في ذلك، وكان أمير البلاد رافضياً متعصباً، فبلغته القصة، فجعل ذلك سبباً إلى الفتك به، فأمر صاحب شرطته أن يأخذ الخطيب بالليل فيقتله، وكان صاحب الشرطة سنياً، فقصده تلك الليلة في جماعة ولم يمكنه أن يخالف الأمير، فأخذه وقال: قد أمرت فيك بكذا وكذا، ولا أجد لك حيلة إلا أني أعبر بك عند دار الشريف ابن أبي الجن، فإذا حاذيت الدار اقفز وادخل فإني لا أطلبك، وأرجع إلى الأمير فأخبره بالقصة، ففعل ذلك، ودخل دار الشريف ابن أبي الحسن، فأرسل الأمير إلى الشريف أن يبعث به، فقال: أيها الأمير، أنت تعرف اعتقادي فيه وفي أمثاله، وليس في قتله مصلحة، هذا مشهور بالعراق، إن قتلته قتل به جماعة من الشيعة وخربت المشاهد، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن ينزح من بلدك، فأمر بإخراجه، فراح إلى صور وبقي فيها مدة .
وقال أبو القاسم بن عساكر: سعى بالخطيب حسين بن علي الدمنشي إلى أمير الجيوش، فقال: هو ناصبي يروي فضائل الصحابة وفضائل العباس في الجامع.
وليست هذه التهمة نهاية ما تعرض له الخطيب من التهم فمن عجائب ذلك ما اتهمه به النخشبي فقال في معجم شيوخه ومنهم أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب... حافظ فهم ولكنه كان يتهم بشرب الخمر، كنت كلما لقيته بدأني بالسلام، فلقيته في بعض الأيام فلم يسلم علي، ولقيته شبه المتغير، فلما جاز عني لحقني بعض أصحابنا، وقال لي: لقيت أبابكر الخطيب سكران! فقلت له قد لقيته متغيراً واستنكرت حاله، ولم أعلم أنه سكران.
قال ابن السمعاني: ولم يذكر من الخطيب رحمه الله هذا إلا النخشبي مع أني لحقت جماعة كثيرة من أصحابه.
الشاطبي: يقول عن نفسه مصوراً ما اتهم به: فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه؛ كما يعزي إلى بعض الناس؛ بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء -وذلك أن هذه البدعة قد انتشرت عند الناس كانوا يلتزمون أن يدعو الناس بعد الصلاة بصوت عالٍ فأنكر الإمام الشاطبي هذه البدعة لأنها لم تكن واردة عن سلف الأمة فاتهموه بأنه يرى أن الدعاء أي أن دعاء الله عز وجل لا ينفع- ثم قال :وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة -رضي الله عنهم - بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولاذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب. وتارة أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلىًّ إلا من عدم ذكرهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم.ثم ذكر جوانب أخرى اتهم فيها رحمه الله.
ابن الجوزي: قال الذهبي: وقد نالته محنة في أواخر عمره، وشوا به إلى الخليفة الناصر عنه بأمر اختلف في حقيقته.
شيخ الإسلام ابن تيمية: فقد امتحن وابتلي في عقيدته فاتهم بأنه ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين حين أفتى بتحريم شد الرجال إلى زيارة القبور وأصابه في ذلك ما أصابه .
واتهم أيضاً -حين أفتى في مسألة الطلاق- بخروجه عن إجماع الأئمة الأربعة وشذوذه، واتهم في عقيدته حين صنف العقيدة الواسطية وعقدوا له مجالس للمناظرة حكى أجزاء منها وهي موجودة في كتابه الفتاوى.(/5)
محمد بن عبد الوهاب: اتهم بتهم كثيرة، منها أنه ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : " اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا قالوا يارسول الله وفي نجدنا قال : اللهم بارك لنا في شامنا، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "نجد يطلع منها قرن الشيطان" قالوا : أن المقصود نجد التي خرج فيها محمد بن عبد الوهاب.
والمقصود ينجد هذه بلاد العراق حيث أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشرق، وقال حيث يطلع قرن الشيطان وذلك أن العراق في جهة المشرق وفعلاً منها الفتن والزلازل فالكثير من الفتن التي مرت بالأمة إنما جاءت من هناك .
واتهم ببغض النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان ينهى عن الصلاة عليه، واتهم بأنه صاحب مذهب خامس.
الخلاصة: الحديث حول هذه القضية حديث يطول لكن هذه هي صورة من صور الابتلاء التي يتعرض لها المصلحون وذلك لأسباب وعوامل منها :
1- أن هؤلاء المصلحين لابد أن يأتوا الناس بأمر لم يعهدوه، وإلا ما معنى الإصلاح؟ معنى الإصلاح أن يقول المصلح للناس إنكم تفعلون أمراً محرماً، أو تتركون واجباً؛ فيصعب على الناس ويشق عليهم أن يتركوا ما ألفوه وما اعتادوه؛ فيلجؤون إلى اتهامه في دينه ليبرروا موقفهم.
2 – قد يدفع لذلك الحسد حين يكتب للمصلح شهرة حسنة وقبول لدى الناس، وأكثر ما يقع ذلك من الأقران، وكما قيل: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه.
وحينئذ يتلقف الشبة والاتهام من كان في قلبه هوى، ومن كان يحمل الاستعداد من الداخل لأن يسئ الظن بإخوانه المسلمين .
أما الذين تربوا بتربية القرآن فيحكمهم قول الله عز وجل (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيراً) . (فلولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم).
ومما يلحظ في هذه المواقف أن هؤلاء المبطلين لا بد أن يزينوا باطلهم، ولا بد أن يلبسوه لباساً يقبله الناس؛ لهذا فهم يخرجون القضية كما يقال إخراجاً مقبولا؛ ذلك أنهم يستغلون موقفاً وقع فيه أولئك يمكن أن يصدقهم فيه الناس حين يتهمونهم، فموسى اتهم بالعيب في بدنه حين اغتسل بعيداً عن قومه، ومريم اتهمت بالسوء لما جاءت تحمل معها الغلام.
ولما جاءت عائشة رضي الله عنها مع صفوان قال ذاك الرجل الفاجر كلمة واحدة سارت بعد ذلك : امرأة نبيكم باتت مع رجل جاء بها يقودها فو الله لا نجت منه ولا نجا منها ? فسارت هذه الفرية .
والمقصود أنها سنة الله تبارك وتعالى سنة الله أن يكون الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل، وسنة الله أن يبتلي المصلحون؛ ولهذا فينبغي للمسلم أن لا يستجيب لما يسمع خاصة عن أهل العلم والمصلحين.
أسأل الله عز وجل أن يقيض لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ناصراً ومعينا؛ إنه سميع مجيب هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(/6)
اجتماع أهل القبلة...دعوة للإحياء
حسن عبد الحميد*
التفكير في المشاريع الكبرى، والأفكار الرائدة في ساعات العسرة والضيق يختلف عن التقرير في ذات الأمور في ساعات الرخاء، والسعة، والاستقرار..
وإذا كانت الحاجة أم الاختراع فإن الضرورة عند الفقهاء تبيح أمورا لا تباح في غير أوقات الضرورة؛ لذلك نستغرب كثيرا - والعدو يقف على الأبواب - من أنماط التفكير لدى البعض، ونزعات التنظير لدى البعض الآخر عندما يتعلق الأمر بموضوع كموضوع الوحدة الإسلامية في البلد الواحد لمواجهة أخطار يتفق الجميع على تشخيصها وضررها على مجمل أوضاع المسلمين في هذا البلد.
ومشروع اجتماع أهل القبلة الذي برز إلى الوجود في أكتوبر من العام 2004م كان من المشاريع الرائدة التي تنادي بالحد الأدنى من الاتفاق بين المسلمين: حاكمين ومحكومين، سلفيين وصوفية، أهل السياسة والجهاد، وأصحاب العلم والتربية، وهكذا مضت الأمور بسلاسة بين مختلف هذه التيارات التي تجاوبت للمضي قُدُما بالمشروع إلى نهاياته، وفعلا تمت تلاوة البيان التأسيسي في احتفال مهيب ضم ممثلين لكل هذه التيارات، وكان من أهداف هذا التجمع:
* اجتماع فئات المسلمين إزاء التحديات الكبرى، والتناصر والتعاون فيما بينهم، والتصدي للمخاطر الشاخصة التي تهدد أصول الإسلام، ووحدة البلاد، وتماسك المجتمع؛ مثل ما يحدث الآن في دارفور، وغيرها.
* التقليل من الاحتكاك الداخلي، والتنازع بين فئات المسلمين في ذاتها.
* بذل النصح إلى السلطان بالوسائل الشرعية.
* التوافق على وحدة المواقف الشرعية في الحوادث، والنوازل في إطار الضوابط الشرعية.
* تحديد قضايا الاتفاق، والبناء عليها، وقضايا الاختلاف، ومواصلة الحوار حولها.
* التواضع على ترتيب الضرورات، واتخاذها دليلا على أولويات العمل، والعمل على توظيف الطاقات والموارد في البرامج المشتركة.
* سعة الصف، ودقة التنظيم، وشموله.. ويقتضي ذلك التوافق أولا: على من يدعى ليلتحق بهذا العمل؛ آخذين في الاعتبار أن سعة الصف، وكثرة السواد أبلغ للغاية إن توفرت لها القيادة الحكيمة الحازمة.
ولكن منذ البداية وقف البعض موقف المتحفظ على هذا التجمع؛ بحجة أنه يضم هذا التيار، أو ذاك من طوائف المسلمين.. والبعض مضى خطوة أو خطوتين، ثم غادر لمّا لم تمضي الأمور على ما يشتهي.. ولكن الأمور مضت إلى لحظات تلاوة البيان التأسيسي، ولم تبقَ إلا الخطوة العملية المتمثلة في تكوين مجلس للتنسيق؛ يقود العمل التنفيذي لهذا الاجتماع، ويخطط لمشاريع هذا التجمع.. وفجأة وقف المشروع عند هذا الحد؛ ولم تفلح المحاولات التي بُذلت للمواصلة!!..
ولدي يقين قوى بأن البعض قد ألقى بهذا التجمع في (غيابت الجب)؛ حتى يخلو لهم وجه أبيهم.. وأسأل الله تعالى أن يقيض له بعض (السيارة) الذين يمضون به إلى آفاق (التمكين)؛ متجاوزين به فتنة بعض سكان (القصور)!!.(/1)
اجتماع سَكْرة الموت مع حَسْرَة الفوت
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
الحمد لله الذي كتب الموت على كل حي، ولم يستثن منهم أحب خلقه وعباده إليه، بل أذاقه رسله وأنبياءه، بل وأصفى أصفيائه وأحب أحبائه محمداً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، فقال عز من قائل: (إنك ميت وإنهم ميتون) ، وقال: ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متَّ فهم الخالدون). (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) ، وقال: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أوقتل انقلبتم على أعقابكم)، وصحَّ فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: ((وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد منه)).[رواه البخاري]
وبعد..
جاء في تفسير قوله تعالى: (والتفت الساق بالساق)، كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله عن كثير من السلف: "أن المراد بذلك اجتماع سكرة الموت مع حسرة الفوت"؛ فلا يسأل عن سوء حاله، ولا رداءة مآله.
فالسعيد من طاب للموت وطاب له الموت، فجعل يشتاق إلى لقاء ربه لاستعداده لذلك، وتوقعه لما هنالك، والشقي من اجتمعت عليه الحسرتان، وتطابقت عليه الشدتان، واستبان له الخسران، وواجه مغبة التسويف، والمماطلة، والنسيان.
اعلم أخي الكريم أن للموت سكرات وأي سكرات؟! قال تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد)؛ وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن للموت سكرات))؛ وروي: "إن الموت أشد من ضرب بالسيوف، ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض"؛ ولهذا قال عيسى عليه السلام: "يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهوِّن عليكم هذه السكرة"، وقال لحوارييه: "ادعوا الله أن يخفف عني الموت، فقد خفت الموت خوفاً أوقفني مخافة الموت على الموت"؛ وروي عنه أنه لما قبض إبراهيم عليه السلام قال له عز وجل: "كيف وجدتَ الموت؟ قال: يارب، كأن نفسي تنزع بالسَّلى؛ فقال: هذا وقد هونا عليك الموت"؛ وقال لموسى: "كيف وجدت طعم الموت؟ قال: وجدته كسفود أدخل في صوف فاجتذب؛ قال: هذا وقد هونا عليك الموت".
إذا كانت هذه حال أولي العزم عند الموت، وقد هونه الله عليهم، فكيف تكون حالنا نحن يا ترى؟!
إن كنا نحن أبناء الموتى، وأن الله نعى إلينا نبينا صلى الله عليه وسلم ونعانا إلى أنفسنا، فما منا من أحد إلا وهو يحمل أصل شهادة وفاته، وما يستخرج له من شهادة بعد وفاته إن هي إلا صورة من تلك الشهادة: "إنك ميت وإنهم ميتون"، "كل نفس ذائقة الموت"، التي هي توقيع بخراب الدنيا، كما قال الحافظ ابن الجوزي؛ نعى رجلٌ لرجلٍ أخاه وقد وجده يتغدى، فقال: ادنُ تغدَّ، فقد نُعِيَ إليَّ أخي من قبل؛ فتعجب الرجل، من نعاه إليه وهو أول قادم؟ فتلى عليه: (إنك ميت وإنهم ميتون)؛ وأرواحنا عارية في أجسادنا، ولابد لصاحب العارية من ردها وقبضها.
لهذا علينا أن نكثر من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومؤيم الأزواج والزوجات، ومنغص العيشات، وعلينا أن نستعد له بتجديد التوبات، والحرص على الطاعات، والبعد عن المحرمات، والاستعداد للممات، والحذر من اجتماع الحسرات، والانغماس في الشهوات، واغتنام الفرص، والاستفادة من الأوقات.
ألم تعلم أخي الكريم أن إسرافيل ملتقم بوقه للنفخة الأولى قبل حين؟ وأن الساعة كادت أن تسبق بعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ؟ وأن أعمار هذه الأمة تتراوح بين الستين والسبعين، وقليل من يجاوز ذلك؟ فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين، وقليل من يجاوز ذلك، وقال: ((أعذر الله إلى من بلَّغه ستين من عمره، وروي عنه أنه قال: ((معترك المنايا بين الستين إلى السبعين))، وفي حديث آخر: ((إن لكل شيء حصاداً، وحصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين))، وفي هذا المعترك قُبض النبي صلى الله عليه وسلم، قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ لنفسه كفناً.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة؛ قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ؛ فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ فقال الفضيل: من علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، وأنه مسؤول، فليعد للمسألة جواباً؛ فقال الرجل: ما الحيلة؟ قال: يسيرة؛ قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأتَ فيما بقي أخذتَ بما مضى وبقي.
وأنت أخي الشاب، لا تأمن مكر الله، ولاتأمن الموت، ولا تظن أنك في أمان منه، فقد يموت الصغير، ويعمر الشيخ الكبير، ويهلك الصحيح، ويصحُّ المريض؛ فكم من صغير دفنتَ، وشاب وشابة واريتَ؟ وكم من عروس قبرتَ؟ وشيخ عجوز عاصرتَ؟ فقد مات أبناء وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم قبله إلا فاطمة، ومات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قبله،ـ هذا على سبيل المثال لا الحصرـ.(/1)
ولله در الإمام أبي إسحاق الألبيري، حيث قال يعظ ابنه أبا بكر، ويحثه ويحضه على طلب العلم، والاستعداد للدار الآخرة، في قصيدته التي مطلعها:
قال مذكراً ابنه أن الموت ليس قاصراً على الكبار دون الصغار:
كان آخر خطبة خطبها العبد الصالح، والإمام العادل، والخليفة الراشد، عمر بن عبد العزيز رحمه الله، أن قال فيها: "إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تُتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحُرم جنة عرضها السموات والأرض، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتودعونه، وتدعونه في صدع من الأرض، غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنياً عما خلف، فقيراً عما أسلف، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت، وانقضاء مواقيته، وإني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه؛ ثم رفع طرف ردائه، وبكى حتى شهق، ثم نزل، فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه".
فالحذر الحذر أخي الكريم من الغفلة وطول الأمل، وحب الدنيا، وكراهية الموت، فهذه أدواء مضلة، وأمراض مذلة، وأماني مخلة.
فالعاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واعلم أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، واحرص أن لا يكون يقينك بوعد الله وبالمغيبات شبيهاً بالشك، سيما الموت.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت، موقنون أنه حق، ولكن لا يعملون له"؛ فمن كد وجد، ومن زرع حصد، ومن اجتهد نجح، ومن عمل أفلح.
واعلم أن دوام الحال من المحال، فاليوم في الدور وغداً في القبور، واتق ليلة فجرها يوم القيامة، واعمل لدار السلامة، ولا تعجز فتكون في دار الندامة، فليس هناك إلا داران.
قال القحطاني رحمه الله في نونيته:
فكن أخي الكريم من الكيّسين، عباد الله الفطنين، ولا تكن من المغرورين المخدوعين:
أقول كل هذا ولا أعلم أحداً عنده من الذنوب، وعليه من الوزر، ويحمل من التقصير، والتفريط، والتسويف أكثر مني، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه، فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
وأخيراً أقول كفى بالقرآن مذكراً، وبالرسول صلى الله عليه وسلم مبشراً ومنذراً، وبالموت واعظاً، وبالدهر مفرقاً.
اللهم يسرنا لليسرى، وانفعنا بالذكرى، واجعلنا ممن يخشاك في السر والنجوى، وممن يتقيك حق التقوى، وممن ختمتَ له بالحسنى، وجعلتَ عاقبته الفردوس الأعلى، وألحقت بهم أزواجهم، وذرياتهم، وذويهم، وأحبابهم، في الجنات العلى، وصلى الله وسلم وبارك على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، محمد، وعلى آله وصحبه السادات النجباء، والكرام الفضلاء، ما أقلت أرض وأظلت سماء.(/2)
اجتهاد السَّلف في طلب العلم
ولقد بلغ من حرصهم على الطَّلب الشيء العجيب , حتى هجروا الأوطان وفارقوا الأهل والخلان في طَلِب العلم .
قَالَ ابن عباس : ذَلَلْتُ طَالبًا فعززت مَطْلُوبًا .( 1)
وقال أيضًا : مَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ قَط حَدِيثًا فاستفهمته , فلقد كنت آتي باب أُبي بن كعب وهو نائم , فأقيل على بابه , ولو علم بمكاني لأحب أن يُوقَظَ لي ؛ لمكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولكني أكره أن أمله .(2 )
قَالَ يُونُسُ بْنُ يزيد : قَالَ لي ابن شهاب : يا يونس ! لا تكابر العِلْم , فَإِنَّ العلم أودية , فأيها أخذت فيه قَطَعَ بِكَ قَبْلَ أَنْ تبلغه , ولكن خُذْهُ مَعَ الأيامِ واللَّيالي , ولا تأخذ العِلْمَ جُمْلَة ؛ فَإِنَّ مَنْ رَامَ أَخْذَهُ جُمْلَة ذهب عنه جُمْلَة , ولَكِنَّ الشَّيءَ بَعْدَ الشَّيءِ مَعَ اللَّيالِي وَالأَيَامِ .(3 )
وقام رجل إلى ابن المبارك فقال : يا أبا عبد الرحمن في أَيّ شيء أجعل فَضْلَ يومي في تعلُّمِ القرآن , أو في طلب العلم , فقال : هل تقرأ من القرآن ما تُقِيمُ به صلاتك , قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَاجْعَلْهُ فِي طَلَبِ العِلْمِ الَّذي يُعْرَفُ بِهِ القُرْآن.(4 )
وعن فَرْقد إمام مسجد البَصْرة قَالَ : دَخَلُوا عَلَى سُفْيانَ الثَّوري في مَرَضِهِ الَّذِي مَات فِيه ؛ فَحدَّثه رَجُلٌ بِحَدِيثٍ فَأَعْجَبَهُ ؛ فَضَرَبَ يَدَهُ إِلى تَحْتَ فِرَاشِهِ فَأَخْرَجَ أَلْوَاحًا لَهُ فَكَتَبَ ذَلِكَ الحدِيث . فقالوا له : على هذه الحال منك ؟ فقال : إِنَّهُ حَسَنٌ , فَقَد سَمِعْتُ حَسنًا , وَإِنْ مِتُّ فَقَدْ كَتَبْتُ حَسنًا .(5 )
ذكر القرشي في ( 6) ترجمة إبراهيم بن الجراح التميمي مولاهم -تلميذ أبي يوسف وآخر من روى عنه- قَالَ: أتيته أَعُوده ، فوجدته مغمًى عليه ، فلمّا أفاق قَالَ لي: يا إبراهيم ! أيُّهما أَفْضَلُ في رَمْي الْجِمَارِ ، أَنْ يَرْميَها الرَّجُلُ رَاجِلًا أو رَاكبًا؟
فقلت : راكبًا. فقال: أخطأتَ!.
قلتُ : ماشيًا. قَالَ: أخطأتَ!.
قلت : قُلْ فِيها -يَرْضى الله عنك-.
قَالَ : أما ما يوقف عنده للدُّعاء ، فالأفضل أن يرميه راجلًا ، وأما ما كان لا يوقف عنده ، فالأفضل أن يرميه راكبًا(7 ).
قَالَ أبو حاتم : قَالَ لي أبو زرعة : ما رأيتُ أَحْرَصَ على طَلَبِ الحديث منك يا أبا حاتم ! فقلت : إن عبد الرحمن - يعني ولده - لحريص , فقال : مَنْ أشبه أباه فما ظَلَمَ , قَالَ الرَّقام - أحمد بن علي - سألتُ عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السَّماع له وسؤالاته من أبيه , فقال : ربما كان يأكل وأقرأ عليه , ويمشي وأقرأ عليه , ويدخل الخلاء وأقرأ عليه , ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه , قَالَ عَلِي بن إبراهيم : وبلغني أنه كان يَسْأَلُ أباه أبا حاتم في مرضه الذي توفي فيه عن أشياءَ مِنْ عِلْمِ الحديث وغيره ؛ إلى وقت ذهاب لسانه , فكان يشير إليه بطرفه : نَعَمٌ وَ لَا .(8 )
وذكر القاضي عياضٌ في ( 9) في ترجمة مسرَّة بن مسلم الحَضْرمي ت (373) -وكان من أهل العلم والزهد التام- أنه لما احْتُضِرَ ابتدأ القرآن ، فانتهى في "سورة طه" إلى قوله تَعَالَى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه/ 84]، ففاضت نفسه.
قَالَ المعافى النَّهْرَواني ( 10): وحكى لي بعض بني الفرات ، عن رجلٍ منهم : أنه كان بحضرة أبي جعفر الطَّبري -رحمه الله- قبل موته ، وتوفي بعد ساعة أو أقلّ منها ، فذُكِرَ له هذا الدعاء( 11) ، عن جعفر بن محمد -عليهما السلام- فاستدعى محبرة وصحيفةً فكتبها ، فقيل له : أفي هذه الحال ؟! فقال: يَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ أَنْ لَا يَدَع اقْتِبَاسَ العِلمِ حَتّى يَمُوت .اهـ.
وهذا البُخَارِيُّ , مَاتَ أَبُوه وَهُو صَغِيرٌ فَنَشَأَ فِي حجر أمه , فألهمه الله حفظ الحديث وهو في المكتب , وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشر سنة ؛ حتى قيل إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردًا , وحَجَّ وعمره ثماني عشرة سنة , فأقام بمكة يطلب بها الحديث ؛ ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرِّحلة إليها , وكتب عن أكثر من ألف شيخ , وروى عنه خلائق وأمم , وقد روى الخطيب البغدادي عن الفربري أنه قَالَ : سمع الصَّحِيح من البخاري معي نحو من سبعين ألفًا ؛ لم يبق منهم أحد غيري .(12 )
وعن عمر بن حفص الأشقر قَالَ : كنا مع البخاري بالبَصرة نكتب , ففقدناه أيامًا , ثم وجدناه في بيتٍ وهو عُرْيان وقد نفد ما عنده , فجمعنا له الدَّراهم حتى اشترينا له ثوبًا وكسوناه .( 13)
بل ربما تبسط لهم الدنيا بسطا فيسخروها ويطوعوها في طاعة الله سبحانه وتعالى .
فهذا يحي بن معين , كان والده على خراج الرَّي فمات , فخلف ليحيى ابنه ألف ألف درهم ؛ فانفقه كله على الحديث , حتى لم يبق له نعل يلبسه .( 14)
وإذا عجزوا عن إيجاد المال لم يتعنوا في طلب العلم بل طوعوا أشياء مما لا يعبأ بها النَّاس في الطَّلب .(/1)
فهذا الشّافِعي رحمه الله لم يكن له مَالٌ , قَالَ : فَكُنْتُ أَطْلُبُ العِلْمَ في الحدَاثَةِ , أذهب إلى الدِّيوان استوهب الظُّهور - أي ظهر الورق المكتوب فيه - أكتب فيها .( 15)
قَالَ الحاكم : وسألت محمد بن الفضل بن محمد عن جده - ابن خزيمة صَاحِبُ الصَّحِيح - فذكر : أنه لا يدخر شيئًا جهده ؛ بل ينفقه على أهل العلم , وكان لا يعرف سَنْجَةَ الوزن , ولا يميز بين العشرة والعشرين , ربما أخذنا منه العشرة ؛ فيتوهم أنها خمسة .(16 )
وكانوا يُكيفون أوضاعهم وأمورهم ؛ حتى ثيابهم لطلب العلم .
قَالَ ابْنُ دَاسّه : كان لأبي داود كُمٌّ وَاسِعٌ وَكُمٌّ ضَيِّقٌ , فقيل له في ذلك فقال : الواسِعُ لِلْكُتْبِ , والآخَرُ لا يُحْتَاجُ إِلَيه .(17 )
ولو نظر النَّاظر إلى حالهم في طلب العلم , وما بذلوه من غالٍ ونفيس , وما وقع لهم من صِعَابٍ لوجد العَجَبَ العُجَاب .
فهذا ابن خِراش : عبد الرحمن بن يوسف بن خِراش الحافظ يقول : شربت بولي في هذا الشأن - يعني الحديث - خَمْسَ مَرّات , قلت - أي الخطيب : أَحْسَبُه فَعَلَ ذَلِكَ في السَّفَرِ اضْطِرارًا ؛ عند عدم الماء - والله أعلم .( 18)
قَالَ الوخشي يوما : سمعت , ورحلت , وقاسيت المشاق , والذُّل , ورجعت إلى وخشٍ وما عرف أحد قدري , ولا فهم ما حصلته , فقلت : أموت ولا يَنْتَشِرُ ذِكْرِي , ولا يَتَرَحَّمُ أَحَدٌ عَلَيّ , فسَهَّل الله ووفق نظام الملك ؛ حتى بني هذه المدرسة فيها حتى أُحَدِّث , لقد كنت بعسقلان أسمع من ابن مصحِّح وغيره , فضاقت عَلَيَّ النَّفقة , وبقيت أيامًا بلا أكل , فأخذت لأكتب فعجزت , فذهبت إلى دُكّان خباز وقعدت بقربه لأشم رائحة الخبز , وأتقوى بها ثم فتح الله تَعَالَى على0(19 )
وقد بلغوا من الحرص درجةً عجيبةً حَتَّى أَنَّ أَحَدَهُم يَنْكَسرُ قَلَمُهُ ؛ فيشتري قلمًا بدينار .
فقد انكسر قلم محمد بن سلام البيكندي في مجلس شيخٍ له , فأمر أن ينادى قلم بدينار , فطارت إليه الأقلام .( 20)
قَالَ الليث بن سعد : وضع الطست بين يدي ابن شهاب , فتذكر حديثًا فلم تزل يده في الطست حتى طلع الفجر ؛ حتى صححه.( 21)
قَالَ الزُّهْرِي : خَدَمْتُ عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة , حتى أن كان خادمه ليخرج فيقول : مَنْ بالباب ؟ فتقول الجارية : غُلامك الأعيمش - فتظن أني غلامه - وإن كنت لأخدمه حتى لأستقي له وضوءه .( 22)
وكان ابن طاهر أحد الحفاظ , حسن الاعتقاد , جميل الطَّريقة , صدوقًا عالِمًا بالصَّحيح والسَّقيم , كثير التصانيف , لازمًا للأثر يقول : بُلت الدَّم في طلب الحديث مرتين , مرة ببغداد , ومرة بمكة , كنت أمشي حافيًا في الحرِّ ؛ فلحقني ذلك , وما ركبت دابة قط في طلب الحديث , وكنت أحمل كُتُبي على ظهري , وما سألت في حال الطَّلب أحدًا , كنت أعيش على ما يأتي . وقيل : كان يمشى دائمًا في اليوم والليلة عشرين فرسخًا , وكان قادرًا على ذلك .( 23)
قَالَ أبو طَاهِر السِّلفي : وقد كُتِبَ عَنِّي بأصبهان أول سنة اثنتين وتسعين وأربع مائة , وأنا ابن سبع عشرة سنة , أو أكثر أو أقل بقليل , وما في وجهي شعرة , كالبخاري رحمه الله - يعني لما كَتَبُوا عنه .
قَالَ الشَّيخ علم الدين السَّخاوي : سمعت يومًا أبا طاهر السِّلفي ينشد لنفسه ما قاله قديمًا :
أَنَا من أَهْلِ iiالْحَدِيثِ
وَهُمْ خَيْرُ iiفِئة
جُزْتُ تِسْعِينَ iiوَأَرْ
جُو أَنْ أَجُوزَنَّ الْمِائَة
فقيل له : قد حقَّق الله رجاءك , فعلمت أنه قد جاز المائة , وذلك في سنة إثنتين وسبعين وخمس مائة .(24 )
وعن ابن نَاصِر قَالَ : كان السِّلفي ببغداد كأنه شعلةُ نارٍ في التَّحصيل .( 25)
ففي ترجمة أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي ت (513) (26 ): -رحمه الله- أنه قَالَ: إني لأجدُ من حِرْصي على العلم ، وأنا في عَشْرِ الثمانين (27 )أشدّ مما كنت أجده وأنا ابنُ عِشرين سنة .
قَالَ ابن عَسَاكِر في ترجمة الفقيه سُلَيْم بن أيوب الرّازي( 28) : حُدِّثتُ عنه أنه كان يحاسِب نفسَه على الأنفاس ، لا يدع وقتًا يمضي عليه بغير فائدة ، إِمّا ينسخ أو يُدَرِّس أو يقرأ... ولقد حدثني عنه شيخُنا أبو الفراج الإسفراييني أنه نَزَلَ يومًا إلى داره ورجع ، فقال : قد قرأتُ جُزْءًا في طَرِيقي .
وقال: إنه كان يُحرِّك شَفَتَيه إلى أن يَقُطَّ القَلَم.
وعن أبي هلالٍ العَسْكري( 29) قَالَ: وحُكيَ عن ثعلب( 30) أنه كان لا يُفارقه كتابٌ يَدْرُسه ، فإذا دعاه رجلٌ إلى دعوةٍ ، شَرَطَ عليه أن يوسعَ له مِقدارَ مِسْوَرَةٍ يضعُ فيها كتابًا ويقرأ .
ولقد وصل بهم الحال إلى أن يكونوا عَجَائِب الزَّمان , وتندر الخلان , حتى يُقرن أحدهم بعجائب الدنيا التي لا تبليها الدُّهُور , ولا تؤثر فيها السُّنُون .
قَالَ يحيى بن معين : رأيت بمصر ثلاث عَجِائب : النيل , والأهرام , وسعيد بن عُفير(31 ), قَالَ الذهبي قلت : حسبك أن يحيى إمام المحدثين انبهر لابن عفير .( 32)(/2)
قَالَ العَبْاسُ التّرفقي : خرج علينا سفيان بن عيينة يومًا , فَنَظَرَ الى أصْحَابِ الحديث , فقال : أَفِيكُمْ أحدٌ مِنْ أَهْلِ مصر ؟ فقالوا : نعم , فقال : ما فَعَلَ فيكم اللَّيث بن سعد ؟ فقالوا : تُوفِّي , فقال : أَفِيكُمْ أحدٌ مِنْ أَهْلِ الرَّملة ؟ فقالوا : نعم , فقال : ما فعل ضَمْرة بن رَبِيعة الرَّملي ؟ قالوا : تُوفِّي , قَالَ : أَفِيكُمْ أحدٌ مِنْ أَهْلِ حِمْص ؟ قالوا : نعم , قَالَ : ما فعل بقية بن الوليد ؟ قالوا : تُوفِّي , قَالَ : أَفِيكُمْ أحدٌ مِنْ أَهْلِ دِمَشْق ؟ قالوا : نعم , قَالَ : ما فعل الوليد بن مُسْلِم ؟ قالوا : تُوفِّي , فقال : أَفِيكُمْ أحدٌ مِنْ أَهْلِ قَيْسَارِية ؟ قالوا : نعم , فقال : ما فعل محمد بن يوسف الفِرْيابي ؟ قالوا : تُوفِّي , قَالَ : فبكى طويلا , ثم أنشد يقول :
خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ iiمَسُودٍ
وَمِنْ الشَّقَاءِ تَفَرُّدِي بِالسُّودَدِ.(33 )
قَالَ الإمام ابن القيم ( 34): وحدَّثني شيخنا -يعني ابنَ تيمية- قَالَ: ابتدأني مرضٌ ، فقال لي الطَّبيب: إن مُطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض ، فقلت له : لا أصبر على ذلك ، وأنا أحاكمك إلى علمك ، أليست النَّفس إذا فرحت وسُرَّت وقَوِيت الطبيعةُ فدفعت المرضَ ؟ فقال : بلى ، فقلت له: فإن نَفْسِي تُسرُّ بالعلم فتقوى به الطبيعةُ فأجدُ راحةً ، فقال: هذا خارجٌ عن علاجنا... اهـ.
وذكر السَّخاوي (35 ) عن القاضي شمس الدين بن الديري يقول : سمعتُ الشّيخَ علاء الدين البِسْطامي -ببيت المقدس- يقول وقد سأله رجل : هل رأيت الشيخ تقيَّ الدين ابن تيميَّة ؟ فقال: نعم . قلتُ : كيف كانت صِفَتُه ؟ فقال :
هل رأيتَ قُبَّةَ الصَّخرة ؟ قلت: نعم . قَالَ: كان كقُبَّةِ الصَّخرة مُلأت كتبًا لها لسانٌ ينطق!! اهـ.
بل الأعج والأدهى الجد - أي جد شيخ الإسلام بن تيمية .
قَالَ ابن القيم -رحمه الله- ( 36) -وهو يتكلم عن عِشْق العلم-: وحدثني أخو شيخنا - يعني أحمد ابن تيمية - عبدُ الرحمن ابن تيمية ، عن أبيه (عبد الحليم) قَالَ: كان الجَدُّ (أبو البركات) إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأْ في هذا الكتاب وارْفَعْ صَوْتَك حتى أسمعُ . اهـ.
وقف بعضُ المتعلِّمين ببابِ عَالِمٍ ثُمَّ نَادَى : تَصَدَّقُوا عَلَيْنا بما لا يُتْعِبُ ضِرْسًا ولا يُسْقِمُ نَفْسًا , فأخرج له طعامًا ونفقة . فقال : فاقتي إلى كَلَامِكم أَشَدُّ مِنْ فَاقَتي إلى طَعَامِكم , إِنِّي طَالِبُ هُدَى لا سَائِلُ نَدَى . فأذن له العَالِم وأفاده من كُلِّ ما سَأَلَ عَنْهُ فخرج جذلًا فرحًا , وهو يقول : عِلْمٌ أَوْضَحَ لَبْسًا , خَيْرٌ مِنْ مَالٍ أَغْنَى نَفْسًا .( 37)
قَالَ أبو الوليد الباجي (38 ):
إِذَا كُنْتُ أَعْلَمُ عِِِلْمًا iiيَقِينًا
بِأَنَّ جَمِيعَ حَيَاتِي كَسَاعَهْ
فَلِمَ لَا أَكُونُ ضَنِنًا iiبِها
وأَجْعَلُها فِي صَلَاحٍ وَطَاعَهْ
[من كتاب "العبادة واجتهاد السلف فيها" للشيخ]
________________________________________
( 1) جامع بيان العلم (1/474)
(2 ) طبقات ابن سعد (2/371)
(3 ) جامع بيان العلم (1/431)
(4 ) تاريخ بغداد (10/165)
(5 ) ابو نعيم "الحلية" (7/64)
(6 ) الجواهر المُضِيَّة (1/ 76)
(7 ) انظر "المجموع": (8/ 168)، و "أضواء البيان": (5/ 308) وقال: وأظهر الأقوال في المسألة هو الاقتداء بالنبي r، وهو قد رمى جمرة العقبة راكبًا، ورمى أيام التشريق ماشيًا ذهابًا وإيابًا والله تَعَالَى أعلم اهـ.
( 8) تهذيب الكمال (24/387)
( 9) المدارك (6/ 271)
( 10) الجليس الصالح (3/ 222)
(11 ) وهو قوله: ((يا سابق الفوت، ويا سامع الصوت، ويا كاسي العظام لحمًا بعد الموت...)) ثم يدعو بمسألته.
(12 ) البداية والنهاية (11/25)
( 13) سير أعلام النبلاء (12/448)
( 14) سير أعلام النبلاء (11/77)
( 15) تهذيب الكمال (24/361)
( 16) سير أعلام النبلاء (14/370)
( 17) تذكرة الحفاظ (2/592)
( 18) تاريخ بغداد (10/280)
( 19) تذكرة الحفاظ (3/1173)
( 20) سير أعلام النبلاء (10/629)
( 21) أبو نعيم الحلية (3/361)
(22 ) أبو نعيم الحلية (3/362)
(23 ) تذكرة الحفاظ (4/1243)
(24 ) سير أعلام النبلاء (21/7)
( 25) تذكرة الحفاظ (4/1301)
(26 ) الذيل على طبقات الحنابلة (1/ 146)
( 27) أي: العشر التي فيها الثمانين (من 71 إلى 79).
( 28) تبيين كذب المفتري (263)
(29 )كتاب "الحث على طلب العلم" (77)
(30 ) أبو العباس اللغوي المعروف بثَعْلَب ت (291)
( 31) قَالَ الذهبي : هو الإمام الحافظ , العلامة الإخباري الثقة , أبو عثمان المصري
( 32) سير أعلام النبلاء (10/584)
(33 ) أبو نعيم "الحلية" (7/289)
( 34) روضة المحبِّين (70)
(35 ) (الجواهر والدرر(1/ 117)
( 36) روضة المحبين (70)
( 37) أدب الدنيا والدين (43)
(38 ) ترتيب المدارك: (8/125)(/3)
اجعات في خطاب الحركة السلفية.....الشيخ محمد شقرة ...
...
22-02-2004
- على السلفيين استبدال قمصهم البيضاء بأخرى سوداء!
- لا يصح ان يقال: إسلام سلفي، وإسلام غير سلفي.
- إن على الأمة كلها أن تعيد مفهوم الجهاد إلى واقع حياتها.
الشيخ (محمد إبراهيم شقرة) أحد أبرز رموز الحركة السلفية في العالم، وأينما شرّقت وغربت في ميادين الدعوة والمراكز الإسلامية في أرجاء المعمورة تسمع عن (الشيخ) وتجد عدداً من مؤلفاته•
أبو مالك، هو مرجع لأعداد كبيرة جداً من الشباب في الأردن، والرئيس الفخري لجمعية الكتاب والسنة السلفية الإصلاحية، وقد شغل عدداً من المناصب الرسمية الكبيرة، وله كم هائل من المؤلفات العلمية في صنوف مختلفة من العلوم الشرعية والفكر الإسلامي والدعوة•
طرحنا على الشيخ أسئلة أجاب عليها برؤية نقدية عميقة لواقع الحركة السلفية الأردنية وطبيعة خطابها الفكري، وطرح رؤية جديدة تعيد ترتيب أوراقها ، وتساهم في نقل الحركة إلى معمعة الحياة الثقافية والسياسية بخطاب إسلامي جديد•
كما أن الشيخ قرأ في مناقشته التالية وبلغته الرفيعة - التي يصعب أن يجاريه فيها أحد - ما في صدور وعقول الشباب المتعطش لهذا الكلام المنهجي•.. فإلى الحوار :
سؤال:كيف ترون وتقرأون – فضيلة الشيخ - واقع الصف السلفي الداخلي والخارجي ، وما هو تقويمكم للتيارات السلفية الموجودة، ومدى قدرتها على النهوض بالخطاب الإسلامي؟
جواب:إن الحديث عن الحركة السلفية هو حديث عن الإسلام العظيم في كل جوانبه وأصوله، وأحكامه؛ إذ الحركة السلفية في حقيقتها وذاتها هي الإسلام ذاته، فالواقع الصحيح يفرض هذا ويقتضيه، ولا يجوز عقلاً، ولا شرعاً، ولا تاريخاً، ولا تصوراً؛ أن يقال: إسلام سلفي، وإسلام غير سلفي، فتلكم تسمية باطلة مردودة، لا تصلح إلا في عقول الذين يلجون بالإسلام الصحيح موالج الفرق التي ذمّها الرسول - صلى الله عليه وسلم- بمثل قوله: (وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة) وهذه الفرقة الواحدة الناجية هي التي ظل أمرها قائماً على الطريقة التي أنشأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وثبتت على السبيل التي وضعها النبي الأعظم -عليه الصلاة والسلام-، وحتى لا تكون فتنة بين الأمة، فقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- التسمية للطائفة التي تبقى قائمة ثابتة على تلكم السبيل السوية له وحده فقال واصفها: (طوبى للغرباء) وهي ظاهرة في الأمة في كل قرن، تراها الأمة بعينها، وتعرفها بوصفها وهديها وسمتها•
والله - جلّ وعلا - سمى الأمة اسماً واحداً، ولم يأذن بغير هذا الاسم لها، وليس يصلح لها سواه فقال: (إنما المؤمنون إخوة) و(إنما) أداة حصر وتفيد القصر، وهي هنا في قصر الصفة (المؤمنون) على الموصوف (إخوة)، والكلام كلام الله – سبحانه-، والإيمان من وضعه –سبحانه- وهدايته وحكمه، فهل لأحد من الخلق أن يعدل عن هذا الاسم، فيختار غيره، بعذر أنه يجب تمييز أهل الحق من سواهم؟ فإن كان ولا بد من الاختيار، فيرجع الأمر إلى الله فيه فيقال: طائفة الغرباء، وبذلك يسلم لنا الاسم الذي سمّانا الله به، وهو (المؤمنون)، والوصف الذي وصفنا رسول الله به (الغرباء)•
فيقال: المؤمنون الغرباء، أو الغرباء المؤمنون، وبمثل هذا لا يكون حقّ لأحد من الناس أن ينازع الله في أمره•
لذا، فإن من ألزم الطاعة على الأمة لله، أن تنبذ هذه الأسماء، وأن تعفي على آثارها، وأن تتخلص من أوضار هذه الأسماء التي لم يأذن بها الله –سبحانه-، ومن شرها وسوئها التفرق في الدين، والاختلاف على أصوله وشرائعه كما جاء في قوله سبحانه: (وأن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)، وبذلك يكون الحكم لله وحده (إن الحكم إلا لله) حتى في الأسماء والأوصاف• وكنت من قبل نيف وعشرين عاماً كتبت مقالة نشرت في عدد من الصحف مرات بعنوان: (إن هي إلا أسماء فرّقت فدعوها) أرجو أن أجعلها أصلاً لبحث أخرجه للناس قريباً•
وأحسبني بهذه التقدمة قد أتيت على شيء من تقييم واقع الصف السلفي، وحسب من يريد الإنصاف في الحكم على الصف السلفي أن يبصر الواقع السيئ المتردي المتداعي الذي صار إليه السلفيون، فقد صاروا حزماً، ومزقاً، وفرقاً، ولست أخالهم إلا يقرؤون قول الله سبحانه: (فتقطّعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون)، نعم، هذه الآية أنزلها الله في ذم عصائب الكفر والشرك، وهل يريد الله بهذا الوصف إلا التحذير من عواقب التفرق؟ وهل كان التفرق بين المسلمين، وبخاصة الموصوفين بالسلفية منهم إلا باللهاث وراء السمعة، وحب الرياسة، واستحكام أغلال الأهواء، وإطباق الجهل بالتعالم، والتسافه برغائب الزور والإفك السافك، و(البرطعة) وراء التكسّب بانتهاب العلم وسرقة الكتب، والجور على السطور والأقلام•(/1)
فخير لمن يتوارون من بعيد أو من قريب (بالدعوة السلفية) أن يسارعوا إلى قمصهم البيضاء، فيلقوا بها في النار ليحرقوها، ويروا قمصاً سوداء غيرها بدلاً منها، حداداً عليها، فإنهم إن لم يسفكوا دمها، فقد أعملوا فيها كل حيلة بعجز عنها حتى الأشرار، والأعداء، ليوهنوها، ويقطعوا أنفاسها، ويضعفوا مرّتها، وكان ذلك منهم سراً وعلانية، وأخذ العهود على أنفسهم أن يكونوا عوناً للأشرار والأعداء على قطع الطريق على الطائفة التي بقيت من وراء رموزها الخالفين من بعد كهفها الواسع وثوبها السابغ، ولسانها الذرب الكاسح (ابن تيمية) -رحمه الله-، وأحسبهم قد نالوا مما يشتهون، وأنالوا الأشرار والأعداء أيضاً أزيد مما يشتهون ويريدون، فهل يكون منهم توبة، يفكرون من بعدها بعودة إلى مرابع دعوة الحق، بغربة إيمانية، يتفوقون بها على شهوات أنفسهم ويقصونها عن ركائب أهوائهم، ويعملون عقولهم بالنظر المتدبر. إن دعوة الحق الحق غنية - بحفظ الله لكتابه وسنة نبيه - عنهم، بل عن الملايين من أمثالهم، ويعزمون على الترفق بمن افتتن بهم، وصاروا على مشاقة بما زُين لهم من سوء القول والعمل•
وإني لفي عجب من العجب لا ينقضي وأنا أنظر في الأسباب التي أوقدت نار الفتنة والشقاق بين من تسموا بالسلفيين، أو نسبوا أنفسهم إلى السلفية وهم يرون الأمة تزداد وهناً على وهن في كل يوم، وذلاً إلى ذل في كل ساعة، وبلاء يحط بين ظهرانيها في كل دقيقة، وهم يزدادون إمعاناً في عداوة بعضهم بعضاً، واستكباراً على الحق الذي أتاهم بينهم ويظنون أنهم يحسنون صنعاً ثم يقولون في أنفسهم وعلى ملأ: إنهم على نهج محمد في اتباعه وإحياء سننه، ألا إنهم من إفكهم ليقولون: ألا إلى الله تصير الأمور•
وأمر الدعوة السلفية (أقول: الدعوة السلفية جرياً مع الواقع) في الخارج ليس بأحسن حالاً، أو أرجى منالاً منه في الداخل ، واسألوا المواقع الكثيرة من مواقع الإنترنت ودور النشر والطباعة، واسألوا الشباب الضائع على أيدي ما سميتموه : بالأطياف•••، أين هم من هذه الفواجع العلمية الأخلاقية التي يدعي كل واحد أنه بريء منها ومن آثارها اللعينة التي زادت من إضلال الشباب وحيرة أولي الألباب؟
أرجو أن يعلم أولئك الأطياف أن من لم يحط علماً بآداب العلم والتعلم، فهو عاجز بل أعجز جداً من أن يدرك شيئاً مما أخذ الله العهد به على أهل العلم، ولو كان بأدنى قدر من مسائل العلم في الدين•
ولقد كان حقاً على جموع السلفيين أن تكون منهم مباهلة، يقفون بها أنفسهم على الحق المرتضى لله –سبحانه-، بفهم صحيح لمعنى قوله –سبحانه-: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعدون)، وهل يكون من هذه المباهلة أن يُدَّعى أن الأمة في هذه الآية - أي الملة والدين - ليس دين الإسلام، أو أنه دين الإسلام ودين غيره، أو أنه يشاب الأمر فيه بشك؟ فإن كان شيء من مثل ذلك يكون؛ فهو اليقين بالكفر، ولا ينجيه منه إلا أن يؤوب بتوبة، يصدِّق فيها مباهله أنه لا إسلام إلا الإسلام الذي أنزله رب العالمين على قلب نبيه -عليه الصلاة والسلام-•
وإني لأخشى أن يصدق الظن في بعضهم - لا قدّر الله - بمثل شطر هذه المباهلة، وإلا، فلمَ الإصرار من بعض مدعي السلفية، الذين يزعمون أنهم قائمون على الأمر، وبالأمر، وفي الأمر، ومن الأمر، وعلى بينة من الأمر، وهم لا يزالون يلقون بحطب الفتنة على نارها، من غير ورع ولا خوف من عاقبة، وبإصرار على تدمير جسور المودة، وتقطيع أواصر المعروف، وهم بهذا وبمثله قائلون: (والعاقبة للظالمين !!) (ولا عدوان إلا على المتقين !!) إنه فقه الكفر، أو هو كفر الفقه•
سؤال:ما رأيكم في التسميات من نحو "التيار السلفي الجهادي" و " التيار السلفي العلمي"، وما مدى دقة هذه الأوصاف وصحة إطلاقها ؟
جواب:حسبك من شر سماعه، وأي شر أعظم من أن يطرق سمعك مثل هذا السؤال الذي يفضي بتفكيرك إلى صعدات مظلمة تحبس الدم عن قلبك، وتمنع الأنفاس عن صدرك، وتود إن بلغت نهاية الشوط أن يكون الله قد قضى عليك بالموت، وألا تكون قد سمعت ما سمعت، إذ ما يكاد يبلغ بك الظن أن تسمع أو أن يلقى إليك مثل هذا السؤال؛ فأي بلاء أشد من أن تقطع أواصر جماعة من المسلمين، فيصار بهم إلى أن يحمل فئة من المسلمين مسؤولية الجهاد، سواء أكان ذلك بدعوى من هذه الفئة نفسها، أم بإلصاق هذه الدعوى إلصاقاً ظنياً ظالماً أو صادقاً، من غيرها، ممن يتربصون بها الدوائر ويترقبون لها الفساد والسوء، وينتظرون أن تدور عليهم رحى الهلاك والفتنة•(/2)
فالجهاد شعبة من شعب الإيمان، وهو ذروة سنام الإسلام، وهو والهجرة ماضيان في الأمة إلى يوم القيامة، وقد استطاع أعداء الإسلام أن يجعلوا من الجهاد خطراً تحركه الأهواء المستطيرة بدافق الشر والرعب والخطر، يهدد الأمة المسلمة، وينذرها عواقب السوء، حتى في عقر دارها، ومعلوم أن الجهاد إحياء لموات الأمة، وإعلاء لكلمة الله في الأرض، وبعث لعزيمتها في نشر كلمة الحق، ودعوة التوحيد، ورفع الظلم عن المستضعفين، ووأد للفتنة في مهدها من قبل أن تشيع، وتوطيد لدعائم العدل، وكفٍّ لغوائل المكر السيئ والعدوان الباهظ، عن أن تنتقص بها حقوق المظلومين، إلى غير ذلك من كل ما يرتجى به تحقيق السعادة للعالم كله، وبالجملة فرسالة الجهاد والمجاهدين مجموعة في كلمة ربعي بن عامر: (نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة الناس إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)•
فشعبة الإيمان هذه - على ضخامتها، واتساع دائرتها، وتعدد أجزائها وشعبها، وبهاظة نفقاتها - ليس في وسع طائفة من الأمة القيام بها، وتصريف أمورها وشؤونها، وبخاصة إن كانت هذه الطائفة مترعة بالفقر، محاطة بانقطاع الرجاء، مثقلة بأغلال القهر والاستكبار والاستعباد المرعب•
إذاً: فإن يقال قول، أو إن ينطق بكلمة، تقطع به أو بها طائفة من الأمة عن الأمة، كما يقطع فرع من الشجرة عن جذعها؛ فذلك زيادة في ضعفها، وتفتيت لقوتها، وإذهاب لبأسها وشدّتها، وهو من قبل ذلك ومن بعده، تصديق لدعوى جديدة من الدعاوى الكثيرة، التي يذيعها أعداء الأمة، ويلصقونها بالإسلام والمسلمين، ولست بالقائل قولاً يزيد في باطل هذه الدعوى، بل إني قائل: إن على الأمة كلها أن تعيد مفهوم الجهاد إلى واقع حياتها، فيكون رجاء أو أملاً، يمضي بها أو يحملها على تحقيق ذاتها فتفوز فوزاً عظيماً، وتصل الناس بحبل الإسلام ورسالته وأصوله وأحكامه، وهذا جزء من رسالة المسلمين•
سؤال:كيف ترون مستقبل الحركات السلفية في ضوء التحديات التي تواجهها ؟
جواب:أحسبني بما أوردت في جوابي عن السؤال الأول كفاية وغنية عن جواب هذا السؤال، ويحسن أن يفقه من يسمون بالسلفيين وغيرهم الأخلاق النبوية التي ورثتها أمته، ليعودوا إلى ما كانوا عليه يوماً من رجاء فيهم أن يكونوا ممن قال الله فيهم: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) فهل يكون منهم ذلك، ليعلموا معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه) وإلا كان منهم استكبار ومكر سيئ، وإيغال في ظلام لا ينقطع سواد أكنافه، لا يظهر منه حتى بصيص من نور خافت•
سؤال:أفتيتم – فضيلة الشيخ – ببعض الفتاوى حول مؤتمر السلام والتطبيع ، وقد أثارت جدلاً واسعاً. هل لكم أن تبينوا موقفكم من هذا ؟
جواب:واقع صار المسلمون فيه إلى مثل ما يعلمون من حالهم المأساة الفادحة، بضعفهم المستخذي، وعجزهم المردي، وتفرقهم المزري، والفتن الدائرة برحاها، تأكل من أطرافهم، وتوردهم موارد البغضاء الصارفتهم عن دينهم، المذهبة لكرامتهم وعزتهم، التي أنستهم دينهم أو نسوا هم فيها دينهم بأنفسهم بهجرهم كتاب الله وسنة نبيه حكماً، وتحكيماً، وقضاءً، وتشريعاً، ودعوةً، وتعليماً، وصرفاً للفضائل وإعلاءً للرذائل، وإشاعة للفحشاء والمنكر، وإذاعة للسوء والفساد، وارتضاء للحرام واستغناء به عن الحلال•
وليس يخفى على ذي لب وبصيرة أن كثيراً من أفراد الأمة المسلمة اليوم أعلنوا الحرب على الله إما فعلاً وإما تركاً، أما بالترك فشرائع الله وأحكامه - وهي المقتضى الحق لكلمة التوحيد - مهجورة ملقاة من وراء الظهور، على علم منها أنها مهجورة•
وأما بالفعل فيكفي أن نستذكر قول ربنا –سبحانه-: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)، فهل يكون في وسع الأمة أن تمتنع من هزيمة شنعاء يوقعها الله –سبحانه- بنفسه عليها•
والعقلاء المؤمنون يعلمون أن الأمة وقد استبدلت هذا بذلك، أنه لا يجوز الاستفتاء في هذه الأمور وغيرها وقد باءت بإثم ما هي فيه من تحكيم شرع غير شرع الله، و واقعها ينبئ بما لم يعد خافياً أنها في منأى عن قول الله –سبحانه-: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، وقوله: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً)•
كل ذلك وسواه ليس فيه مكان أو موضع أو حتى مناسبة لأن يكون يوماً ما طمع حتى في أن يستفتى في هذه الطامات الراجفات المرجفات•(/3)
ثم ومن قبل أن يكون استفتاء فيها فهناك استفتاء فيما هو أهم وأعظم، فإذا ما كان جواب عليه حسن الاستفتاء فيها وهو: هل يجوز لأمة استأمنها الله على شريعته وحماية دينه، وإقامة حدوده، والحكم بكتابه وسنة نبيه، أن تعرض عنهما وتعطل الحكم بهما وتحكم شرائع الأرض، وتستبدل الذي هو أدنى (قوانين البشر) بالذي هو أعلى (دين الله)؟
لذا، فإنه لا يصلح الاستفتاء في مثل هذه الأمور (مؤتمر السلام)، (التطبيع)، من قبل أن يكون استفتاء في حكم تعطيل شرع الله، إذ إن تعطيل شرع الله هو السبب في نشوء الآثار السلبية السيئة كلها، ومنها هذه البلايا الطامات ولا أدري لم، ولا كيف، ولا بم يجيب الشقي المستضعف إن استفتي في شيء كان حقاً على الأمة كلها أن تجيب عنه، بتوحيد صفها واجتماع شملها، والإعداد الذي أمر الله به (وأعدوا)، ورفع راية الجهاد في سبيله، بمثل هذا يجاب عن هذا السؤال•
أما الجواب الذي يكون بالإخلاد إلى الترف المدمر، ونسيان مفهوم الجهاد، والرضى بالدون من الكرامة والتنصل من المسؤولية الخاصة والعامة، فسيكون الجواب ما قال ذلك الشاعر:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً
أبشر بطول سلامة يا مربع
والمسلمون في إثمهم بهذا الواقع على مراتب، لأنهم جميعاً رعاة لدين الله –سبحانه-• فالأعلون منهم - وهم طائفة الحكام والأمراء - أعلاهم إثماً• والمتوسطون منهم - وهم طائفة العلماء - آخذة بحظ من حظ الأعلين، وحظ أنفسهم أكبر من حظ الأولين• والأنزلين منهم - وهم عموم الأمة الذين لا سلطان بأيديهم ولا علم عندهم - هم أقلهم إثماً•
والله –سبحانه- (لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال)، (والله يحكم لا معقب لحكمه)، وهو يقضي بينهم يوم القيامة بالحق، فأين الهروب من نار جهنم؟ وأين الملاذ من سوء المصير؟ وأين الاختفاء من الوقوف بين يدي الله للحساب؟ يوم يعرض الناس على الله، (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين)•(/4)
اجمع شمل عزماتك!
د.خالد بن سعود الحليبي 29/11/1425
10/01/2005
كثيرون يتحدثون عن أهمية النجاح في تحديد الهدف؛ ليصح لهم البدء، وصدقوا.. ولكن كثيرين من هؤلاء -في الواقع- لم يحددوا أهدافهم كما ينبغي، فمنهم من اختلطت عليه الغايات، ومنهم أكثر من الأهداف فاختلطت عليه السبل، ومنهم من حدد هدفاً، وبعد سير يسير ذهب ببصره هدف آخر لاح له في الطريق فاستحسنه فترك الأول إلى الجديد، ثم لم يظفر بأي منهما.. حول هذه الإشكالية سوف تدور محاور هذه المقالة الضوئية..!
غير مختلف فيه: أن أهم قرار يجب اتخاذه هو: تحديد الهدف، وهو في ذاته يحمل قيمة عالية، وفاعلية كبيرة للانطلاقة، إذ تخيل أنك رأيت رجلاً يسير في الصحراء خلال تنزهك فرابك أمره فأوقفته وسألته : إلى أين أنت ذاهب؟ فأجاب: لا أدري، ترى هذا الإنسان هل سيصل إلى شيء.. حتما لا، إلا أن يحدد له هدفا وقد قيل " إذا لم تعلم إلى أين تذهب فكل الطرق تفي بالغرض"،
وإذا حددت هدفك فركز نظرك عليه..
هناك عوارض كثيرة سوف تتطاير أمام عينيك.. دعها..
هناك إغراءات سوف تعترض طريقك.. لا تلتفت إليها..
هناك رغائب سوف تطل بوجهها عليك.. أجِّلها بعد أن تحقق هدفك..
حكاية:
يحكى أن والياً أراد أن يختار أحد بنيه ليخلفه على سدة الحكم، فجاء بهم جميعاً أمام نهر جميل الشاطئ، تحوم النوارس حول حدائقه الجميلة، وتعود إلى الماء تقطف رزقها بكل عفوية وانسياب، وضع الوالي هدفاً أما أبنائه الثلاثة، وأعطى كل واحد كنانة وقوساً، وقال للكبير: ماذا ترى أمامك؟ فقال : الهدف، قال: وماذا مع الهدف؟ قال: هذه الحدائق الغناء، فقال له أبوه انصرف، ثم دعا الأوسط فسأله فأجاب: الهدف، فأردف ثم ماذا مع الهدف؟ فأجاب: هذه الطيور الرائعة الجمال، فأمره بالانصراف وسأل الأصغر فأجاب: أرى الهدف فقال له : وماذا مع الهدف؟ فأجاب: الهدف، قال ثم ماذا؟ قال: الصغير الهدف، فخلع تاجه ووضعه على رأسه.
إن التركيز على الهدف هو أسرع الطرق للوصول إليه، فهناك كثيرون يبذلون جهودا ضخمة وكثيرة ولكنها كما قال الشاعر:
ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا نجح ولا إخفاق
وبعض الناس لا يعطي فكرة الهدف التي تعن له حقها من التأمل والتفكير؛ بل تأخذه الحماسة للعمل السريع، فيبادر دون تخطيط، وما هو إلا أن يتوقف بعد خطوات من بدايته، ثم يكيل التهم للناس وربما لنفسه بأنه إنسان فاشل، يقول دافنشي : "إذا أردت أن تعمل فلا بد أن تهدأ"، وصدق؛ إذ كيف يمكن أن تنهض بالتفكير السوي وأنت هائج البحر، وزبد الأفكار يطفح فوق زرقة الماء، يخبئ اللآلئ. وقد قيل : "في داخلك منجم للإبداع فتش عنه ولكن قبل ذلك تعلّم التنقيب حتى لا تكسر الألماس".
إن الفشل في التخطيط تخطيط للفشل، وحين تختار هدفك؛ فليكن من سامي الأهداف وأعظمها، فالواجب ألاّ يبحث الإنسان عن أكبر لذة، بل عن أشرف لذة، وقد قيل: "إياك أن يفقدك الله حيث أمرك ويجدك حيث نهاك".
والسؤال المهم هنا هو : كيف يمكنك أن تحمي طريقك إلى هدفك؟
إن الذي يشكو الفراغ هو الذي فقد الهدف؛ فقد قيل:
"إن فراغ النفس من الأهداف العظيمة يؤدي إلى فراغ اليد من الأعمال الجليلة".
ولكننا نتساءل اليوم: كيف يمكن حماية الطريق إلى هذا الهدف؟
إن ذلك يقودنا إلى أسئلة عديدة هي:
* هل أنت مقتنع بهذا الهدف؟
* كيف سيؤثر هذا الهدف على حياتك سلباً وإيجاباً؟
* هل خططت للألفة مع من سيتعاونون معك لتحقيق هدفك، ومن سيتأثرون به سلباً؟
* هل جمعت جميع المعلومات والخبرات حول هدفك مما يشابهك أو يلتقي به؟
إذا أجبت عن كل هذه الأسئلة فاستخر واستشر وتوكل على الله الذي يقول:
( ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا (3)) [الطلاق 65/3 ].
إذا تعثر العمل فارجع خطوات باحثاً عن مواطن الخلل وتساءل:
* هل حددت ما تريد بطريقة إيجابية؟
* هل أخذت جميع الأحوال المختلفة بعين الاعتبار؟
* هل المعيار الذي وضعته لقياس نجاحك مناسب؟
* هل لديك أهداف مرحلية للنجاح؟
* كيف يمكن أن تحافظ على حصيلتك المؤقتة خلال انطلاقتك؟
* تحت أي ظروف لا تريد تحقيق أهدافك؟
* ما العقبة الكؤود التي أعاقتك الآن؟
* ما الخطوة الأولى التي ينبغي فعلها اليوم لتخطي هذه العقبة؟
* · كيف تصف حالتك الشعورية الآن خلال هذا التوقف المؤقت: كبوة جواد، أم استراحة محارب، أم إحباط شديد، أم الهزيمة النفسية؟ حدد كيف تتعامل مع هذا الواقع الجديد.
إنك خلال هذه الفترة تحتاج إلى أن تلعب أدواراً ثلاثة، تتقمص خلالها ثلاث شخصيات:
الأولى : الذات؛ فتحس بكل ما سألتك عنه سابقاً.
الثانية : المراقب؛ الذي يعنيه نجاحك أو فشلك؛ من مدير أو أب أو صديق ناصح أو حاسد، ثم تقوم بإعادة النظر إلى عملك لتقويمه من وجهة نظرهم.
الثالثة: المحايد ؛ حيث تنظر إلى عملك بصراحة دون أي ميل عاطفي.(/1)
إنك أيضاً في حاجة إلى أن تلبس قبعات (إدوار ديبونو) الست، التي تمنحك إمكانية التحول والمرونة في التعامل مع هدفك ومن يعينوك أو يرأسونك أو يستفيدون منه.
ذلك من طبيعة الناجحين أنهم يتمتعون بقدر كبير من المهارات والتشكل المرن مع المجالات المختلفة، فقد قيل: "إن قوة الخيزران في مرونته )، فهم يقبلون التغير، ويوظفونه لتحقيق أهدافهم العليا، من دون أن يحيدوا عن الطريق الذي حددوه.
والناجح حكيم يتعامل بمنتهى الدقة والتأمل مع ما يجد في طريقه، فقد قيل : "العالم يتريث والجاهل يقطع"، والناجح يحافظ على صداقاته، وبَر من لهم حق عليه:
إن الوظيفة لا تدوم لواحد ... ...
إن كنت تنكر ذا فأين الأول
فاعمل لنفسك في الحياة فضائلَ ... ...
فإذا عزلت فإنها لا تعزل
إن الذي يسعى لتحقيق أهدافه في نفسه وأولاده ومجتمعه وأمته -والأهداف أكثر من أن تحصر- ينبغي أن يكون متفائلاً وهو يواجه الحياة، يقول الأستاذ مصطفى السباعي: "لا تفكر إلا في كل جميل،... ولن تسعد إلا إذا رضيت عن نفسك فتطمئن وترتاح بالاً .. ولكن تفحص نفسك لن تجد دائماً كل ما يرضيك.. فما أكثر ما يجب أن تفعله.. وما أقل ما فعلته.. وسترى أن فيك صفات فريدة يجب أن تنميها لترضى عن نفسك".
نسأل الله تعالى أن يرضى عنا إنه سميع الدعاء.(/2)
احتضان التميز !
أحمد العبد الهادي 9/1/1425
29/02/2004
نظرة إلى التدافع القائم بين الخير والشر تصيب المرء بالذهول ، فالكنيسة اليوم تحوز أرقى الجامعات ومراكز البحث والترجمة وتبث باستمرار من المفكرين والساسة من يمسك أزمة العالم لصالحها! ، وتنفق "هوليود" ملايين الدولارات لتروج فيلمًا تشويهيًّا واحدًا !.
ورصدت مؤخرًا اثنين وستين مليون دولار مؤخراً لتكون ميزانية عام واحد لتشغيل قناة ناشئة تغزو العرب والمسلمين بلغتهم !! فماذا قدمنا نحن إزاء ذلك وغيره؟!
لا مبالغة -أيها القارئ- إن قلنا إن زوبعة الشر القادمة نذير يوحي بالخطر إن استمرت مقاومة الحق له نفخًا لا يرقى إلى مستوى التدافع. أموال طائلة .. و أوقات مبذولة .. وعقول مفكرة تقود طرح الفساد بقوة ليتسرب إلى نفوس الناس مع لحظات دهشتهم لتميز أسلوبه وإبداع طرحه!.
وأهل الصلاح في مقابل ذلك يملكون معهم الحق – والحق مادة البقاء – ويملكون بقية باقية من فطر سليمة في الناس جُبلت على الخير، ويملكون فوق هذا وذاك كوادر في الأمة تحمل طاقاتٍ هائلة متميزة لا تزال حتى الآن مدفونة في دواخلها، ولو شاء الله لكانت صرخة مدوية تخرس الناطقين بالضلالة، ولكانت سدًّا منيعًا ضد كل شرٍّ زاحف ، ولكانت نورًا يضيء بالحق ونارًا تحرق الباطل!
ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى كشف تلك الطاقات واحتضان تميُّزها وقذفها في محاضن تصنع مع الزمن قادة متخصصين يحملون لواء الخير باقتدار، ويقدمونه بأسلوب يجعل الحق في أعين الناس أكثر وضوحًا واستحسانًا، وليس ذلك ببعيد إن تهيأت لتلك المحاضن خطط مدروسة و برامج مميّزة و تنفيذ متقن ، يردفها دعم ممتد من المال والوقت والجهد والبصيرة النافذة والنفس العميق .
إن الحديث عن التميز في عصر "الانفجار المعلوماتي" حديث لا ينفك عن التخصص أبدًا، والتخصص الذي نعنيه لا يتعارض مع الشمول ولا يعني –بالضرورة- الإحاطة.
لقد مرت في تاريخنا نماذج فريدة جمعت بين التميز والإحاطة؛ فكان لها في كل ناحية سهم، لكن تعميم تلك النماذج على الناس مع تفاوتهم والمطالبة بمحاكاتها في تربيتنا أمر ربما ينزح للمثالية ويبدد الجهود، ذلك أن الإحاطة في حدّ ذاتها تميز آخر يصدق في حق أفراد منحهم الله إياها، ويبقى في حق الكثيرين قدرًا صعب المنال. إن غرس المتخصصين في شتى الجوانب يفتح لهم أولاً أبواب التميز فيها، ويمنحنا ثانيًا القدرة على دمج تلك التعددية "المتخصصة" في منظومة تكاملية تعمل بطريقة أذكى وتضيف للأمة رصيدًا من الجهد البناء والقوة الفاعلة.
إننا بغير ذلك لن نستطيع أن نقود هجومًا حقيقيًّا يئد الشر في مهده، وسنبقى دائمًا في موقف الضعيف الذي يلاقي الضربات الموجعة بدفاعٍ خائر العزمات.
وإننا بغير ذلك.. لن يتبوأ أهل الصدق المتميزون مكانهم الحقيقي في قيادة الأمة، وستنزوي طاقاتهم في أي مكان هنا وهناك ليقدموا جهدًا قليلاً – لا يتلاءم مع قدراتهم – إبراءً للذمة لا غير!
وإننا بغير ذلك سنبقى منهمكين في صنع " الكم" ، فنخرج كل حين مئات ومئات من الجنود لكنها تفتقر إلى واحدٍ يسعرها !
إن مصعبًا وعمارًا وأبا عبيدة وسعدًا، وابن عباس وخالدًا -رضي الله عنهم- لم يضيعوا في دهماء الناس وما خرجوا للناس صدفة، بل كانوا نتاج القائد الأول صلى الله عليه وسلم؛ فأسمعوا التاريخ كلمتهم وكان لهم فيه قدم صدق.
ولا يزال تاريخنا حافلاً بالنماذج الرائعة لاحتضان التميز ورعايته، وهل كان مالك –بعد توفيق الله- إلا جوهرة قدمتها يد ربيعة ، وهل كان الشافعي إلا صنع وكيع ... وابن القيم وصلاح الدين ونور الدين وغيرهم كثير رعتهم يد مخلصة نقلت إليهم إبداعها وقيادتها؛ فكانوا سلسلة من الأنوار بعضها من بعض.
إنها مسؤولية الأب والأم، والمعلم والشيخ، والتاجر والمربي، أن يقرأ التميز فيمن أمامه ويهبه من جهده ووقته ما يتناسب مع طاقاته ليجده بعد ذلك في كل ميدان يحمل راية الخير في حياته وبعد مماته.
والله غالب على أمره(/1)
احتفالاً بذكرى الإسراء والمعراج
أديب قبلان*
amiq90@hotmail.com
هلت علينا بقدومك الاحتفالات .... وسبحت مخلوقات الأنهار والبحيرات .... ونادت من بين الصخر العرج الكائنات .... أن ليلة الإسراء ليلة اليمن والبركات ........
مقدمة أولية :
نستقبل في هذه الأيام ليلة طالما مرت علينا عبر الأزمنة والعصور ، ومن تعبد فيها نال الجنة و ما فيها من قصور ، ليلة الإسراء سيد الأفعال والمعراج من كانت له الأقوال ، ليلة لطالما انتظرنا قدومها نعد أصناف الأقمار والنجوم ، ونبكي دموعاً مصفاةً من الأملاح والشحوم ، ولكن ... نحن تعساء الحظوظ ، نبني القيام على أساس من العصب المردوم ، فكانت هذه الليلة شيء من حزن ، وشيء من فرح ، وشيء من امتلاك المصدوم .
ليلة الإسراء والمعراج ليلة قيامها فيه أجر لهذه الشعوب الإسلامية التي تحتاج إلى ذرة من حفنة تراب يكون فيها جزء صغير من الحسنة ، هذه الشعوب تنتظر ليلة الإسراء والمعراج على جمر مشتعل ، تحتفل بها على أنها مناسبة دينية ثقافية ، تلقى فيها الكلمات والسطور وشيء من الأقلام و كتب موضوعة على رفوف .
ليلة الإسراء والمعراج هي حدث هام في حياة المرء المسلم ، يتأمل فيه هذا المسلم متذكراً أيام هذا الحدث العظيم وربما يبكي لأنه لم يحضر ذلك الحدث العظيم ، في مثل هذه الليلة كان من الله تعالى مكرمة أحب أن يقدمها إلى خير من طلعت عليه الشمس من بني آدم ، خير من وطأت قدماه ثرى هذه الدنيا ، حبيبي أنت يا رسول الله ، نعم هذه المكرمة رسالة من الله تعالى إلى عباده أجمعين خلد ذكراها لتبقى معجزة ربانية ، فكانت هذه المكرمة كما أرادها عز وجل .
كيفية الإسراء :
أيقظ جسد النبي الشريف محمد صلى الله عليه وسلم ، صوت الدابة التي تشرفت بحمله إلى بيت المقدس وهي البراق ، ثم وصل ، ولكنه وصف مشاهدات في الطريق فكانت على النحو التالي :
1_ الدنيا : رآها بصورة عجوز .(وذلك علامة على أنها تفتن المتعلقين بها وهي ليست على شيء)
2_ إبليس : رآه متنحياً عن الطريق .
3_ قبر ماشطة بنت فرعون وشمَّ منه رائحة طيبة . (وهي كانت عند فرعون وكانت على دين موسى الإسلام، وعلم فرعون بها وعذبها العذاب الشديد، والرسول مر على قبرها وشم الريح الطيبة منه وأخبره جبريل بأمرها)
4_ المجاهدون في سبيل الله : رآهم بصورة قوم يزرعون ويحصدون في يومين .
5_ خطباء الفتنة : رآهم بصورة أناس تُقْرَضُ ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من نار.(وهم الذين يخطبون بين الناس بالفتنة والكذب والغش)
6_ الذي يتكلم بالكلمة الفاسدة: رآه بصورة ثور يخرج من منفذ ضيق ثم يريد أن يعود فلا يستطيع .
7_ الذين لا يؤدّون الزكاة :رآهم بصورة أناس يَسْرَحون كالأنعام على عوراتهم رقاع .
8 _ تاركو الصلاة : رأى قوماً ترضخ رءوسهم ثم تعود كما كانت ، فقال جبريل : هؤلاء الذين تثاقلت رءوسهم عن تأدية الصلاة .
9_ الزناة : رآهم بصورة أناس يتنافسون على اللحم المنتن ويتركون الجيد .
10 شاربو الخمر: رآهم بصورة أناس يشربون من الصديد(وهو ماء كريه الريح )
11_الذين يمشون بالغيبة : رآهم بصورة قوم يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار نحاسية .
كما كان في رحلة المعراج أيضاً مشاهدات ، استغرب منها الرسول – عليه الصلاة والسلام – وسأذكرها على شكل بنود كما في التالي :
1_ مالك خازن النار.
2_ البيت المعمور : وهو بيت مشرف في السماء السابعة وهو لأهل السماء كالكعبة لأهل الأرض، كل يوم يدخُلُهُ سبعون ألف ملكٍ يصلون فيه ثم يخرجون ولا يعودون أبداً .
3 _ سدرة المنتهى : وهي شجرة عظيمة بها من الحسن ما لا يصفه أحد من خلق الله ، يغشاها فَراشٌ من ذهب ، وأصلها في السماء السادسة وتصل إلى السابعة ، وراءها رسول الله صلى اله عليه وسلم في السماء السابعة .
4_ الجنة : وهي فوق السموات السبع فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ على قلب بشر مما أعدّه الله للمسلمين الأتقياء خاصة ، ولغيرهم ممن يدخل الجنة نعيم يشتركون فيه معهم .
5 _ العرش : وهو أعظم المخلوقات ، وحوله ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله . وله قوائم كقوائم السرير يحمله أربعة من أعظم الملائكة ، ويوم القيامة يكونون ثمانية .والعرش هو سقف الجنة وهو مكان مشرف عند الله قال الأمام علي كرم الله وجه: إن الله خلق العرش إظهار لقدرته ولم يتخذه مكان لذاته.
6_وصوله صلى الله عليه وسلم إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام: انفرد رسول الله عن جبريل بعد سدرة المنتهى حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام التي تنسخ بها الملائكة في صحفها من اللوح المحفوظ .
7_سماعه صلى الله عليه وسلم كلام الله تعالى الذاتي الأزلي الأبدي الذي لا يشبه كلام البشر.(/1)
8_رؤيته صلى الله عليه وسلم لله عزّ وجلّ بفؤاده لا بعينه : مما أكرم الله به نبيه في المعراج أن أزال عن قلبه الحجاب المعنوي ،فرأى الله بفؤاده ، أي جعل الله له قوة الرؤية في قلبه لا بعينه ، لأن الله لا يرى بالعين الفانية في الدنيا ، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم :(( واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا )).
هذه ما ننبئكم به في مثل هذه الذكرى العطرة التي يشهد التاريخ بصدقها ، والتي شهد الإسلام بصحتها ، ولا نخفيكم أن رأيي أن الغرب هم من مسح هذه المعجزة من عالمهم .....
* أديب واعد عمره 16 سنة(/2)
احذر الإدمان وقت الأزمات ! نزار محمد عثمان*
في أوقات الكوارث والأزمات يصبح الهاجس الأكبر للكثيرين هو تتبع الأخبار عبر الفضائيات - التي ملأت الدنيا وشغلت الناس - فتجد الواحد ينفق الساعات الطوال متنقلاً من قناة إلى أخرى؛ يسمع ذات الأخبار، بل ربما يسمع الخبر الواحد من القناة الواحدة في الجلسة الواحدة أكثر من مرة!!.. ومع ذلك لا يشعر بالملل، ولا بإضاعة الوقت؛ لأنه يعتقد بأنه مشغول بأمر المسلمين - وقد لا يكون له من (أمر المسلمين) إلا المشاهدة!! -، كما يعتقد أنه بعيد عن أن يتأثر بالرسائل الخفية للوسيلة الإعلامية، وأنه مسيطر على الوضع!!، وقد لا يكون له من السيطرة على الوضع سوى حريته في ضغط زر الريموت كنترول؛ لينتقل من قناة لأخرى.
أحياناً كثيرة تختفي مشاكل إدمان متابعة التلفزيون في وقت الأزمات تحت غطاء الإيجابية المتمثل في أن مشاهدتها - فضلا عن كونها خيراً من كثير غيرها - تعني اهتماماً بأمر المسلمين، وفي ذلك بعض حقيقة؛ غير أن الذي لا يدركه كثيرون كذلك هو أنها تنطوي على كثير من المحاذير التي من أهمها أن المشاهدة هي أدنى درجات الاهتمام بأمر المسلمين، وقد لا تخلو في كثير من الأحيان من سلبية، وأنفع منها وأبلغ في الاهتمام أن نقلص وقت المشاهدة ونستبدله بالصلاة والدعاء للمنكوبين، وإعمال الفكر في كيفية دعمهم ومناصرتهم.
ومن المحاذير كذلك أن فلسفة الخبر الناجح عند المختصين تعنى بالإجابة على الأسئلة الخمسة (من، ماذا، متى، أين وكيف) وهذه لا تحوي السؤال الجوهري الذي يجعل لكل الأسئلة السابقة معنى؛ وهو: لماذا؟!.. وهذا هو الذي يحتاج للتأمل، وقارئ الخبر يتوفر له - من التأمل - أضعاف ما يتوفر لمشاهده..
كذلك من المحاذير أن الفضائيات العديدة المتوفرة للمشاهد العربي تقع تحت قسمين كبيرين أولهما القنوات الموجهة التي تريد أن تنشر فكراً معيناً؛ وهذه تنتقي الأخبار، وتفسح المجال للتحليلات التي تؤيد فكرتها.. وثانيهما القنوات التجارية التي تسعى للربح؛ فلا تعني لها الأخبار - التي يراها المشاهد (اهتماما بأمر المسلمين) - سوى مساحات زمنية مساعدة في ترويج الإعلانات لا أكثر؛ لذلك تسعى للإثارة على حساب الحقيقة.. ولا يهمها أن تزيد آلام المشاهد؛ بإجباره على البقاء في انتظار تفاصيل خبر الكارثة التي حلت بمسلمين عقب فاصل ماجن لعطر (هوجو) أو (أولويز بالأجنحة)!!..
لست أدعو لمقاطعة الأخبار؛ ولكني أحذر من إدمان مشاهدتها وقت الأزمات!!.. علينا أن نهتم بالمشاركة أكثر من المشاهدة، وأن نربي من حولنا على التفكير فيما نشاهد؛ وعدم أخذه كحقائق لا يتطرق لها الشك، وقبل هذا وبعده أن نقرأ ما كتب في نقد فلسفة الإعلام الأمريكي السائدة في العالم اليوم.(/1)
احذروا
حسن نصر الله وشيعته
د. عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيقول الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153(.
ويقول تبارك وتعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} (النساء : 115) . وحذر سبحانه من كتمان الحق ولبسه بالباطل لتضليل الناس فقال عز وجل: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة : 42)
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله)) [1]
وقال أيضاً: ((سيأتي على الناس سنوات خداعات يُصدَّق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة قيل: وما الرويبضة ؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة [2]
وهذه الآيات والأحاديث من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق.
والآيات والأحاديث الواردة في وجوب التمسك بما في كتاب الله عز وجل والسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بفهم الصحابة رضي الله عنهم كثيرة ومتنوعة، تارةً بالأمر بالتمسك بهما والانطلاق منهما في الولاء والبراء والمواقف والموازين، وتارة بالتحذير من اتباع ما سواهما من آراء الرجال وأهل الأهواء والشبهات في الولاء والبراء والمواقف والموازين.
وإن ما يجري اليوم من أحداث في بلاد الشام، من قتال بين اليهود ومن يسمون أنفسهم حزب الله أو المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان؛ لهو من الفتن والابتلاءات التي يختبر الله عز وجل فيها عقائد المسلمين ومدى ارتباطهم بموازين الكتاب والسنة وبما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
ولقد سقط في هذه الفتنة فئام كثير من الناس، وغرهم ما يسمعونه أو يرونه من مواجهات عنيفة مع اليهود يتزعمها الرافضي (حسن نصر الله وشيعته) وانخدع بذلك الذين يجهلون أو يتجاهلون حقيقة التوحيد والولاء والبراء في الإسلام وحقيقة عقيدة (حسن نصر الله وشيعته الرافضة).
ولأن الفتنة بهذا الحزب الرافضي الصفوي شديدة وكبيرة، كان لا بد لكل قادر من أهل العلم أن يتصدى لها ويكشف اللبس عن الأمة ويبين حقيقة القوم وما يدعون له ويهدفون إليه، ورضي الله عن عمر بن الخطاب حين قال: لست بالخَبِّ ولا يخدعني الخب أي: لست بالمخادع ولا يخدعني المخادع، ويعلق ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه المقولة فيقول: (فكان عمر رضي الله عنه أورع من أن يَخدَع، وأعقل من أن يُخدع) (الروح: 244)
ولكي ندرك خطورة ما يجري في وسائل الإعلام الماكرة من تلبيس وتضليل تجاوز خطره شريحة العوام إلى كثير من المثقفين بل وبعض المتدينين والدعاة؛ نطلع على ما يجري اليوم من قلبٍ للحقائق فيما يتعلق بالجهاد والمجاهدين، حيث نرى من يصف المجاهدين الذين يتصدون للكفرة الغزاة في بلاد الرافدين وأفغانستان والشيشان بأنهم إرهابيون ومفسدون!! بينما يرون القتال في جنوب لبنان بقيادة نصر الله الرافضي مقاومةً مشروعة وجهاداً في سبيل الله تعالى.. سبحانك هذا بهتان عظيم! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق والذي منه)) :إن وراءكم سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين... ((الحديث.
ولكشف ما يجري من تلبيس وفتنة على المسلمين بما يسمى حزب الله وأمينه الرافضي حسن نصر الله أسوق الوقفات التالية:
الوقفة الأولى
في ضوء الآيات والأحاديث التي سقتها آنفاً، يتبين لنا ضرورة أن يكون مصدر التلقي في الفهم والعقيدة والمواقف وتقويم الأفكار والرجال هو هذا الميزان والقسطاس المستقيم المستقى من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللذان من تمسك بهما وجعلهما النور الذي يمشي به في الناس فلن يضل أبداً، ولن تتقاذفه مضلات الفتن ذات اليمين وذات الشمال، وإني لأعجب من قوم معهم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة رضي الله عنهم.. كيف يتخلون عن ذلك كله ويستبدلون به العواطف وتلبيس الملبسين وأهواء الرجال؟!..
كالعيسِ في البيداء يقتلها الظما والماءُ فوق ظهورها محمولُ(/1)
والآن لنزن هذا الرجل المفتون وحزبه المغبون بميزان الكتاب والسنة ميزان التوحيد والشرك وميزان الهدى والضلال، لكي نعرفَ حقيقة هذا الرجل وحزبه.. هل هو على الحق الذي يحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ أم على الباطل الذي يدعو إليه الشيطان وحزبه؟! وبالتالي نعرف حقيقة جهاد هذا الرجل وحزبه وحقيقة عدائه لليهود.. هل هو في سبيل الله تعالى ؟ أم في سبيل الطاغوت ؟! فأقول وبالله التوفيق:
إن الله تعالى إنما أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن الكريم والنور المبين ليعبد الله وحده لا شريك له وعقد على ذلك الولاء والبراء.. الولاء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين الموحدين، والبراءة من الشرك والمشركين، وشرع الدعوة إلى التوحيد والتحذير والبراءة من الشرك، وأقام من أجل ذلك سوق الجهاد في سبيل الله تعالى، حتى لا تكون فتنة ـ أي شرك ـ ويكون الدين لله وحده لا شريك له .
فهل واقع ما يسمى (حزب الله) وأمينه (حسن نصر الله) هو ما دعا إليه القرآن وجاهد من أجله الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام؟!
إن الجواب على هذا السؤال يتطلب معرفة عقيدة هذا الرجل وحزبه وانتمائهم وحقيقة أهدافهم
من هو حسن نصر الله؟
ولد حسن نصر الله في 21/ أغسطس /1960 في لبنان. وسافر إلى النجف في العراق عام 1976 لتحصيل العلم الديني الجعفري، وعين مسؤولاً سياسياً في حركة أمل عند إقليم البقاع، وعضواً في المكتب السياسي عام 1982 ثم ما لبث أن انفصل عن الحركة وانضم إلى حزب الله وعين مسؤولاً عن بيروت عام 1985 ثم عضواً في القيادة المركزية وفي الهيئة التنفيذية للحرب عام 1987 ثم اختير أميناً عاماً على إثر اغتيال الأمين العام السابق عباس الموسوي عام 1992 مكملاً ولاية سلفه، ثم أعيد انتخابه مرتين عام 1993 و 1995 م.
وردت هذه الترجمة في مقدمة حواره مع مجلة الشاهد السياسي العدد 147 في 3/1/1999 م [3]
ومن هذه الترجمة المختصرة للرجل يتبين لنا أنه شيعي رافضي محترق، يدين بالمذهب الإثني عشري الجعفري السائد في إيران، ينصره ويدعو إليه، ولذا اشتهر (بخميني العرب) لأنه يريد إقامة دولة الرفض في بلاد العرب كما أقامها الخميني الهالك في بلاد الفرس، يقول مفتي جبل لبنان السني: (حزب الله بوابة إيران إلى البلدان العربية.
ويبقى التعريف بالرجل ناقصاً حتى نعرف أصول المذهب الإثني عشري الجعفري الذي يفتخر بالانتماء إليه والجهاد من أجل التبشير به ونشره..
يقوم هذا المذهب على أصول كفرية شركية لم تعد خافية على من له أدنى متابعة لكتب القوم في القديم والحديث، وكذلك من يتابع مواقعهم وما سجل عليهم من الوثائق المسموعة والمرئية في حسينياتهم ومناسباتهم السنوية[4] ومن أخطر أصول هذه النحلة التي ينتمي إليها حسن نصر الله وحزبه ما يلي:
1- اعتقادهم العصمة في أئمتهم الإثني عشر، وغلوهم فيهم حتى عبدوهم من دون الله، وصاروا يحجون إلى قبورهم ويطوفون بها ويستغيثون بمن فيها، ويعتقدون أنهم يعلمون الغيب وأن ذرات الكون خاضعة لتصرفهم كما صرح بذلك الخميني في (الحكومة الإسلامية).
2- اعتقادهم بتحريف القرآن ونقصانه وأن القرآن الصحيح غائب مع مهديهم المنتظر، وسيخرج مع خروجه وهم اليوم يقرءون القرآن الذي بين أيدي المسلمين حتى يخرج قرآنهم وذلك بأمر من علمائهم وآياتهم.
وقد يقول قائل : إنهم ينفون ما ينسب إليهم من القول بتحريف القرآن فنقول: إن هذا مثبت في كتبهم والتي هي مرجعياتهم ككتاب (الكافي) للكليني وكتاب الطبرسي (فصل الخطاب) وهما إمامان معتبران عند الرافضة، فإذا كانوا ينفون ما ينسب إليهم فليصرحوا ببراءتهم ممن يقول بتحريف القرآن الوارد في هذين الكتابين وغيرهما، وليحكموا بكفر من قال بهذا.. وهذا ما لم ولن يقولوه .!
3- سب الصحابة رضي الله عنهم وتكفيرهم وخاصة سادتهم وشيوخهم كأبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما وكذلك زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم الصديقة عائشة رضي الله عنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أنهم يكفرونها ويقذفونها بالزنا.. قاتلهم الله أنى يؤفكون!.
4- توليهم في تاريخهم القديم والحديث لليهود والنصارى ومظاهرتهم لهم على أهل الإسلام، ومساعدة الغزاة لتمهيد الطريق لهم إلى غزو بلاد المسلمين، وما أخبار ابن العلقمي وممالأته للتتار في غزوهم للعرق بخافية على أحد، وكذلك ما قاموا ويقومون به في هذا الزمان من التعاون مع الغزاة الأمريكان في احتلال العراق وأفغانستان، وما زالوا عيوناً للغزاة وحماةً لهم ومظاهرين لهم في قتل أهل السنة وتصفيتهم.(/2)
وهذه الأعمال والمعتقدات الآنفة الذكر لم تعد سراً وفي طي الكتمان كما كانوا يخفون من قبل، بل إنها أصبحت مفضوحةً سواء باعترافهم أنفسهم، أو بما حُصل عليه من الوثائق الدامغة التي تدمغ تقيتهم وتبين كذبهم.. هذا واقع الشيعة الرافضة الإثني عشرية التي ينتمي إليها ( حسن نصر الله وحزبه المخذول ) فهل بقي عذر لمن انخدع واغتر بالشعارات الكاذبة التي يرفعها هذا الرجل وحزبه؟! وأنه يدافع عن الأمة! ويقاتل اليهود نيابة عنها! ويضرب عمق الدولة اليهودية! ويجاهد في سبيل الله!!..
إن هذا الرجل بهذه المعتقدات الشركية التآمرية لو تمكن ( لا قدّر الله ) فإنه سيقيم دولة الرفض والتشيع التي تقوم على الشرك الأكبر وسب الصحابة رضي الله عنهم وتكفير أهل السنة وبالتالي استئصالهم وإبادتهم كما هو الحاصل في العراق اليوم: ((كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ)) (التوبة : 8(
ومع ذلك يوجد في أبناء المسلمين من يثق به ويعول عليه ويتمنى أن ينتصر!.. فمتى نفيق من غفلتنا يا قوم ؟ ومتى يكون ميزاننا في الولاء والبراء والحب والبغض وفي تقويم المواقف والرجال هو كتاب ربنا عز وجل ؟! ومتى نتخلص من موازين العواطف والشعارات الزائفة والدجل والتلبيس ؟ ..!
الوقفة الثانية
يقول بعض الناس: إن هذا الرجل وحزبه هو الذي ثبت اليوم أمام اليهود بعد أن خنع الجميع دولاً وأحزاباً، وهو الآن يلحق ضرراً شديداً بالعدو باعتراف اليهود أنفسهم، فكيف نعاديه وهو يضرب عدو الأمة ؟! ألا نفرح بإلحاق الضرر باليهود؟!. وهذه شبهة وفتنة لا شك، لكنها لا تنطلي إلا على من ينظر للأمر بنظرة سطحية وعاطفة متسرعة، متجاهلاً أصول القوم وعقائدهم وأهدافهم.
ولتفصيل الجواب على هذه الشبهة أقول وبالله التوفيق:
أولاً: إن أي ضرر يلحق باليهود في رجاله وعتاده يفرحنا بلا شك، لكنه لا يغرنا وينسينا ثوابتنا ، وننساق مع عواطفنا لنقول: إن من يضرب اليهود فهو أخونا وولينا!.. بل نفرق بين من يجاهد في سبيل الله تعالى ويريد نشر التوحيد والسنة كإخواننا المجاهدين في فلسطين فهذا نتولاه ونفرح بنصره، وأما من كان على غير التوحيد وعنده أهداف مبيتة، فلا نتولاه ولا ننصره، وإن كنا نفرح بضربه للعدو حتى يضعف، كما نفرح بضرب العدو له حتى لا يتمكن وينشر الشرك والرفض في الأرض، ولسان حالنا يقول: اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرج الموحدين من بينهم سالمين، وإذا قلنا: إننا نفرح بضرب العدو للرافضة؛ فإننا نقصد رموزهم ومواقعهم ولا نقصد العامة من المسلمين من الأطفال والنساء والأبرياء، فإن هذا يحزننا ولا يفرحنا.
ثانياً: هناك مؤامرة كبيرة في المنطقة ، ولعبة ماكرة تديرها إيران وسوريا اللتان تدعمان (حسن نصر الله وحزبه) وهما اللتان دفعتا به لهذه المواجهة، ومفاد هذه المؤامرة وملخصها: ((أن هناك مشروع صفوي شعوبي كبير يراد تنفيذه في المنطقة، وقد بدأ يأخذ مساراً تنفيذياً متسارعاً منذ بدء اجتياح العراق واحتلاله أمريكياً وصفوياً وصهيونياً، فقبل أشهر عدة أُعلن في دمشق عن انطلاق تحالف استراتيجي إيراني سوري ضم إليه حزب الله وبعض الفصائل الفلسطينية، وتتواطأ معهم الحركات الشيعية العراقية من منطلق طائفي مذهبي، فتحول هذا التحالف المشبوه الجديد إلى مشروع سرطاني شديد الخبث، يفوق خطره على أمتنا الإسلامية خطرَ الكيان اليهودي نفسه، ولكي يكون لهذا المشروع الخبيث غطاء مقبول لدى شعوب المنطقة المسلمة، فلا بد من تسريع خطاه وتمكينه من اللعب بعواطف الجماهير المسلمة، وليس هناك أفضل من قضية فلسطين واللعب بها وعليها وفيها حتى تتوارى خلفه النوايا الحقيقة لأصحاب هذا المشروع الصفوي الخطير الذي مر بنا أهم أصوله الاعتقادية الكفرية العدوانية آنفاً، وخلاصة أهداف هذا المشروع الخطير هو السيطرة على العالمين العربي والإسلامي بدأً من إخضاع منطقة الهلال الخصيب ( بلاد الشام والعراق ) وذلك باجتياحها (ديموغرافياً) ومذهبياً وتبشيرياً صفوياً ..
ثالثاً: أما لماذا جاءت هذه المواجهة بين (رافضة لبنان) واليهود في هذا الوقت فلعدة اعتبارات عند القوم أهمها:(/3)
1- اشتداد عمليات التطهير الإجرامي العرقي والمذهبي، التي تقوم بها الميليشيات الصفوية العراقية في العراق، بما في ذلك عمليات إبادة وحشية ضد السكان الفلسطينيين، وعمليات تهجير لأهل السنة من جنوبيّ العراق (البصرة لم يبق فيها إلا 7% من أهل السنة بينما كانوا أكثرية منذ عشرات السنين، ونسبتهم كانت 40% قبيل الاحتلال الأمريكي) !.. فضلاً عن انكشاف زيف شعارات الرئيس الإيراني (نجاد) الداعية لإزالة إسرائيل من الوجود !.. وجهاد الشيطان الأكبر (أمريكا) !! في الوقت الذي أثبت أهل السنة أنهم هم المجاهدون الصادقون الذين يقاومون الغزاة في أفغانستان والعراق والشيشان، وكذلك المقاومة الفلسطينية وهي سنية بطبيعة الحال خطفت الأضواء بأنها الوحيدة في ساحة الصدام مع الكيان الصهيوني، وذلك بعد عملية (الوهم المتبدد) وخلال عدوان (أمطار الصيف).. إذ وصل الكيان الصهيوني إلى طريق مسدود لتحقيق أهدافه ضد الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة!.. وهذا كله أدى إلى فضح الرافضة الصفويين وأنهم عملاء للغزاة المحتلين وخطف الأضواء عنهم، فكان لا بد من عمل يعيد لهم اعتبارهم ويغطي على فضائحهم.
2- انكشاف تواطؤ حزب الله ضمن تواطؤ حليفه الإيراني.. مع الاحتلال الأميركي ضد المقاومة العراقية ودخول الحزب في لعبة تشجيع الميليشيات الصفوية العراقية وتدريبها، وهي نفس الميليشيات التي تقوم بعمليات إبادة الفلسطينيين وأهل السنة في العراق ..!
3- بداية انتكاسات لحملات التشييع في سورية ولبنان، انعكاساً لانكشاف مواقف أركان الحلف الصفوي الشعوبي الداعم للصهاينة وللاحتلال الأميركي المرفوض شعبياً.. ثم بروز بوادر الاصطدام على النفوذ بين المشروعين: الأميركي، والفارسي الصفوي.. في العراق ..!
لذا كان لا بد من فعل يحرف الأضواء والأنظار عما يجري في العراق بحق أهل السنة والفلسطينيين على أيدي الصفويين الشعوبيين، ولا بد من خطف الأضواء من المقاومة الفلسطينية السنية التي كشفت عجز الجيش الصهيوني، ولا بد من استعادة الثقة بعمليات التبشير الشيعي في المنطقة، ولا بد من إعادة الاعتبار لأكذوبة ( نجاد ) بدعوته لإزالة إسرائيل ومقاومة الكيان الصهيوني، ولا بد من التغطية على تواطؤ حزب الله بالعمل ضد المقاومة العراقية، ولا بد من خلط الأوراق في لبنان لصالح الفوضى التي هدد بنشرها رئيس النظام السوري بشار الأسد.. لا بد من كل ذلك ولو على حساب لبنان.. كل لبنان. الرسمي والشعبي.. ولو أدى العبث واللعب إلى تدميره ..!
فلذلك.. ولتحقيق كل هذه الأهداف.. قام حزب الله ـ ثالث ثالوث المشروع الصفوي الفارسي بعمليته أو مغامرته الأخيرة ضد الكيان الصهيوني!..
هل نحن ضد عملية تنال من العدو الصهيوني؟!.. لا.. مطلقاً، نحن نفرح بكل عمل يؤذي الكيان الصهيوني الغاصب ويضعفه ويضع من هيبته!.. لكننا لا نقبل أن نُخدع ولا نقبل أن تندرج هذه العملية في مسلسل تحقيق أهداف المشروع الأخطر من المشروع الصهيوني في بلادنا، ولا نقبل أن يتاجر القائمون بهذه العملية بقضية فلسطين، في نفس الوقت الذي يذبحون فيه الفلسطينين ويستبيحون أرواحهم ودماءهم وأعراضهم وأموالهم في بغداد.. ولا نقبل مطلقاً أن يعبث الصفويون بأمن سورية ولبنان في سبيل تحقيق أهدافهم الدنيئة.. ولا نقبل أبداً أن يتم تدمير لبنان وتقتيل أبنائه وأطفاله ونسائه، بتحريض واستفزاز يمارسه أصحاب المشروع الصفوي الفارسي وينفذه أصحاب المشروع الصهيوني.. ولا نقبل أن يقوم الصفويون الجدد بالترويج لأنفسهم زوراً وتزييفاً، بأنهم أصحاب مشروع مقاوم، بينما هم يمالئون المشروعين الأميركي والصهيوني على رؤوس الأشهاد وفي وضح النهار.. ولا نقبل في أي وقت من الأوقات أن تنحرف الأنظار عن جرائم الصفويين بحق أهلنا وشعبنا المسلم في العراق.. ولا نقبل أن تستخدم مثل هذه العمليات المشبوهة، في كسب الوقت لبناء القنبلة النووية الإيرانية الصفوية، التي ستستخدم لخدمة المشروع الشرير ضد العرب والمسلمين، وضد أوطانهم وثرواتهم وأموالهم وأعراضهم!..
فتشوا في أوراق التاريخ كله، فلن تجدوا ما يفيد بأن إيران الفارسية قد دخلت حرباً أو معركة مع الصهاينة.. أو حتى مع (الشيطان الأكبر) أميركة؟!.. لن تجدوا في التاريخ حرفاً واحداً يفيد ذلك، بل سنجد أن إيران التي افتضح أمرها باستيراد السلاح الصهيوني والأميركي أثناء الحرب مع العراق (فضيحة إيران غيت).. هي نفسها إيران التي تقود الحلف الصفوي التوسعي الاستيطاني التبشيري الجديد، وهي نفسها إيران التي تمالئ أميركة وتعينها على استمرار احتلال العراق، وهي نفسها التي تستخدم حزب الله في استجرار تدمير لبنان وتهديد أمنه واستقراره، وهي نفسها التي ما تزال عينها على الخليج العربي، وهي نفسها التي تحتل الجزر الإماراتية العربية الثلاث، وهي نفسها التي تحول الحركات الفلسطينية إلى ورقة ولعبة تلعبها متى أرادت على حساب أمن المنطقة العربية والإسلامية كلها!..[5](/4)
الوقفة الثالثة
وأخصص هذه الوقفة بما ندفع به الإحباط واليأس عن نفوسنا وعن المسلمين، وذلك بالقول بأنه وإن كانت الأحداث موجعة ومدلهمة لكن لعلها مؤذنة بانبلاج الصبح، وذلك لما نشهده من انفضاح مستمر ومتزايد لسبيل المجرمين والمنافقين، وبيان لموقف الموحدين وثباتهم وصدقهم، وهذا أمر حتمي يسبق نزول نصر الله تعالى.. أي أن محق الكافرين وتمكين المؤمنين الصادقين؛ لا بد أن يسبقه فترة ابتلاء وتمحيص يتميز فيها المؤمنون الصادقون عن الكافرين والمنافقين ومن في قلبه مرض، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وهذا هو الذي يحدث الآن وقبل هذا التميز لا ينزل نصر الله عز وجل.
وشيء آخر يبث الأمل في النفوس ولا يجعلها في رعب وخوف من المجرمين وكيدهم ألا وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} الأنفال(36).
ولعل في هذه الأحداث التي أراد الرافضة أن تخدم مشروعهم الصفوي التوسعي في المنطقة أن ينقلب الأمر عليهم، وتكون بداية النهاية لهم والسحق لمشروعهم الإجرامي الكبير، وسنة الله عز وجل أن البقاء للحق وأهله، والباطل ذاهب زاهق، قال سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} ((الأنبياء: 18))
وقال سبحانه: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} الرعد (17)
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الحق وأنصاره وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليه ويذل فيه عدوه ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر والحمد لله رب العالمين .
-----
(1)أخرجه مالك في الموطأ في القدر باب النهي عن القول بالقدر بلاغاً وقال الأرناؤوط في جامع الأصول 1 /277 لكن يشهد له حديث ابن عباس عند الحاكم 1/93 بسند حسن فيتقوى به
(2) رواه ابن ماجه ( 4036 ) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3261 ).
(3) انظر لمعرفة المزيد عن ( حزب الله ) كتاب: ( حزب الله رؤية مغايرة ) للأستاذ: عبد المنعم شفيق.
(4) انظر موقع ( البينة ) في الشبكة العنكبوتية لترى الأدلة والوثائق الدامغة على أصولهم الشركية وتكفيرهم وسبهم للصحابة رضي الله عنهم.
(5) نقلاً عن المقال الرائع (تعانق المشروعين الأمريكي والصفوي في العراق والمنطقة وأهداف حزب الله) د. محمد بسام يوسف باختصار وتصرف يسير في 21/6/1427هـ(/5)
احذروا ستار أكاديمي وأخواتها...
الشيخ محمد الهدار ـ صحيفة أخبار بنغازي / الشبكة
عزيزي القارئ إن من المجمع عليه والمعلوم من الدين بالضرورة ، ومن الثوابت التي لم يختلف عليها اثنان، أن الزنا محرم تحريماً قطعياً ، إلى يوم القيامة ، بل كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الوقوع في هذه الجريمة المدمرة للإنسانية هو الآخر محرم ، قال الله تعالى : ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلا ( ، قال ابن كثير رحمه الله : ( يقول تعالى ناهيا عباده عن الزنا وعن مقاربته ، ومخالطة أسبابه ودواعيه ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً ) أي ذنباً عظيماً ) وساء سبيلا ) ، أي وبئس طريقاً ومسلكاً . وجاء في التحرير والتنوير لابن عاشور : ( والقرب المنهي عنه هو أقل الملابسة . وهو كناية عن شدة النهي عن ملابسة الزنا ) .
وقال السعدي في تفسيره : ( والنهي عن قربانه – أي الزنا – أبلغ من النهي عن مجرد فعله ، لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه ، فإن ( من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) خصوصاً هذا الأمر الذي في كثير من النفوس أقوى داعٍ إليه ) ، قلت ومما يؤكد ما سبق من التفسير ما جاء في الصحيحين ومسند الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمني وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) ، وقال الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه، ومسروق والشعبي رحمهما الله قالوا : ( زنا العينين النظر، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ، فإن تقدم بفرجه كان زانيا ، وإلا فهو اللمم ) ، ومعنى إن تقدم بفرجه كان زانياً المقصود به الزنا الذي يوجب الحد الشرعي ، ويجب منه الغسل ، ومعنى وإلا فهو اللمم ، أي الذنب الذي لا يوجب حداً شرعياً في الدنيا ، وتكفره التوبة وبعض العبادات ، وقد يوجب الغسل الشرعي إن ترتب على فعله خروج المني .(/1)
عزيزي القارئ : الفساد في الأرض إجرام ، نهى عنه ربنا جل وعلا ، وتتابعت رسل الله وأنبياؤه ينهون عن الفساد في الأرض ، والقرآن الكريم توجد به الكثير من الآيات التي تنهى عن الفساد في الأرض ، منها على سبيل المثال ، قوله تعالى : ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) ، والزنا من أشد أنواع الفساد ، وهو خلق يدل على الخسة واللؤم ، وصاحبه من الممقوتين عند الله سبحانه ، والفساد بصفة عامة من أخلاق أعداء الله اليهود الذين قال الله عنهم ( ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ) ، وإن من أخطر معاول المفسدين في هذه الأزمنة الإعلام عموماً ، وأخص من هذا العموم الإعلام المرئي المتمثل في القنوات الفضائية، و ( الإنترنت ) ، حيث توجد العديد من القنوات والمواقع الإباحية وشبهها ، كقناة (ستار أكاديمي ) ، وأخواتها ، هذه القنوات الملعونة التي تصرف عليها ملايين الدولارات أسست من أجل تعليم أولادنا وبناتنا كيفية ممارسة الدعارة والمجون ، ومحاولة إمالتهم للباطل عن طريق تزيينه وإظهاره في ثوب الحرية الشخصية ، وفي ثوب الفن ، نعم يريدون أن يميل أولادنا إلى باطلهم ميلاً عظيماً ، كما قال سبحانه : ( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً ) ، ميلاً عظيماً عبر برامج تسحق الفضيلة ، وتزين الرذيلة ، وتنسف الأخلاق والقيم ، وإن قناة (ستار أكاديمي ) برامجها كلها تساهم وتساعد على نزع الحياء لدى البنات والأولاد ، إذ أنها تقوم بإغراء الجميع على فعل الفاحشة ، عن طريق استدراجهم وتعويدهم على الاختلاط المريب ، الذي لا حياء فيه ، وعن طريق إغرائهم بالأغاني الماجنة مع الرقص على أنغام الموسيقى ، وكذلك دعوتهم إلى تبادل الأحاديث الغرامية ، في جلسات إغرائية تعرض فيها مفاتن أجسامهم عن طريق اللباس المغلظ للعورات ، وغير الساتر لها ، وكذلك تعويدهم على التفكير في الجنس وما يتعلق به ، من خلال تعليمهم كيفية التفكير في ذلك أثناء وجودهم على أسرة النوم في الغرف المراقبة بالكاميرات ، وهلم جرا من ألوان وأنواع الفساد الذي يهدم الأخلاق من أساسها ، ويجرئ على فعل الفاحشة بسهولة ويسر ، ولا يشك عاقل أن وراء هذه القنوات ، أعداء الإسلام ، من يهود ونصارى ومستشرقين وعلمانيين منبهرين بحاضرتهم ، انبهارا جعلهم يقبلونها بغثها وسمينها ، وصالحها وطالحها ، وهذا انسلاخ ومسخ خطير ، لأنه بعبارة أوضح قضاء على الأمة وإنهاء لها ، وليتهم عندما انبهروا ميزوا ، فأخذوا السمين الصالح ، وتركوا الغث الطالح ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال كما جاء في الصحيحين ( لتتبعن سنن من كان قبلكم ، حذوا القذة بالقذة ، شبراً بشر وذراعاً بذراع ، حتى ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ).
قال أحد الباحثين ( إن هذه الحرب الإعلامية غير الأخلاقية التي تشنها الفضائيات العربية على المشاهد العربي المسلم ، في عمقه الفكري والأخلاقي بدأت تأخذ منحى نوعياً لم يكن أشد المحذرين منها ومن خطورتها يتوقعه ، يتصل هذا التحول بالخلفيات والأسس التي تنطلق منها هذه الحرب الضروس ، خاصة في جانبها الأخلاقي ، فلم تعد مظاهر الغواية والعري والفحش والغناء الماجن والاختلاءات الآثمة والمشاهد الفضائحية إلى آخر العبث الأخلاقي ، لم تعد تعرض في سياق الاعتراف بمخالفتها الرعية الأخلاقية والتربوية ، وإنما باتت تعرض في سياق عكسي تماماً ، وهو سياق التسويغ والتبرير ) .
قلت : وهذا التسويغ والتبرير وإن كان بأسلوب جديد في أدواته وصورته ، إلا أنه من حيث الحقيقة فتنة خطيرة لكل مؤمن ومؤمنة وخصوصاً الشباب المراهق ، وكل مشارك في هذه الفتنة عليه أن يتوب إلى الله قبل أن يقع في عذاب جهنم وعذاب الحريق ، قال عز من قائل ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) .
أيها القارئ الكريم : إن دور هذه القنوات يعتبر كدور الوسيط أو الوسيطة بين الزاني والزانية ، و لاأظنكم تجهلون اسمه ، فكان الأحرى أن تسمى هذه القنوات بالاسم الذي يتكون من الحروف الآتية : ( ألف ولام وقاف مفتوحة ثم واو مشددة ومفتوحة وألف بعدها ثم دال مفتوحة وتاء مربوطة ) ، سامحوني أن طرقت أسماعكم بهذه الكلمة لكنها الحقيقة التي يجب إيضاحها .(/2)
فاحرصوا على مراقبة أولادكم وبناتكم من مثل هذه القنوات ، بل قوموا بإلغائها من أجهزتكم المرئية ، واعلموا أن البيت الذي توجد فيه هذه القنوات لا بركة فيه ، فعلموا من هم تحت ولايتكم خطورة هذه القنوات ، وحرضوهم على خوف الله وتقواه ، ورغبوهم في الصلاة وذكر الله وتلاوة القرآن الكريم ، بل وجهوهم ذكوراً وإناثاً إلى مراكز تحفيظ القرآن ، وهي بحمد الله منتشرة في هذه البلاد ، وموجودة في كل مسجد تقريباً ، وعليكم أن تثقفوا أولادكم بالثقافة الإسلامية عامة ، بينوا لهم مخططات أعداء الإسلام ، وبينوا لهم خطورة الغزو الثقافي ، ولا تتركوهم هملاً من دون رقابة ولا مناصحة ، ورغبوهم في الزواج وأعينوهم عليه ، واعلموا أن رسولكم صلى الله عليه وسلم قال ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ، ولا تغالوا في المهور ، وإياكم والإسراف والتبذير في الزواج، فيسروا هذه الأمور ولا تعسروها، ومن لا يستطيع الزواج فرغبوه بترغيب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء ) ، أي وقاية.
وينبغي أن تتكاتف الجهود لمواجهة أخطار هذه القنوات، فعلى المحاضرين في الجامعات أن يقوموا بدورهم، وعلى المدرسين والمدرسات في المدارس الثانوية والمعاهد أن يقوموا بدورهم، وعلى الخطباء والوعاظ في المساجد أن يقوموا بدورهم ، وعلى الإعلاميين في وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب أن يقوموا بدورهم ، وعلى الآباء والأمهات في البيوت أن يقوموا بدورهم ، لأن أبناءنا وبناتنا هم عماد الوطن والأمة ، وهم أولاً وآخراً أمانة في أعناقنا ، وإننا لمسؤولون عنها يوم القيامة أمام الله ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .(/3)
احذروا الحاضر المقلد!
ناصح أمين المانسهري
في سن مبكرة يكون الطفل على استعداد لتقليد أبويه أو إخوته، وتقمص شخصيتهم، إذ إن الفترة التي يقضيها في هذه السن وسط أسرته تخوله فهم أشياء والقدرة على ترديد بعض الكلمات، مما يسهل عليه نطقها، كما يستطيع تقليد بعض حركات الكبار، وفي الغالب تبدو السنة الثالثة من عمر الطفل مناسبة للتقليد، وفهم بعض الكلمات، بل والتمييز بين الأشياء والمعانى، الأمر الذي يسهل على الطفل تقليد كل ما يراه مما يروق له أو يستحسنه، ولا بد له في هذا التقليد أن يكون ناقلاً بصدق ومقلداً بانفعال.
ومن هنا تكون عملية التقليد مقيدة بما يراه ويسمعه، إن صدقاً أو كذباً، إن خيراً أو شراً، فهو لا يملك قدرة الاختيار بين ما هو صدق، من أقوال الآخرين أو كذب، كما أنه لا يستطيع التمييز بين ما هو خير أو شر، بل يبدو منفعلاً بما يرى ويبصر. والأسرة كلها في هذه الحالة المبكرة لابد أن تلاحظ في طفلها هذا التطور وعليها بالتالي أن تحسن التعامل معه، بحيث لا تلقي إليه من التوجيهات إلا ما هو طيب، وألا تعمل معه أو بحضوره إلا الحسن من القول والسلوك، فهو وإن كان لا يدرك الحقيقة الكاملة لما يسمع او يبصر أو يفعل، إلا أنه شديد الحساسية والتأثر قوي الذاكرة والتسجيل لما يدور حوله.
ذاكرة الطفل تبدأ في التقبل والتسجيل مبكراً، ولذلك يحثنا التوجيه النبوي الكريم على إسماع الوليد منذ يومه الأول صيغة الأذان بصوت رقيق، لتكون صيغة الشهادة هذه على رأس القائمة في شريط ذاكرة الطفل، ولتكون له حصناً من الزيغ وخواطر الشر والضلال في أيامه المقبلة ووسط معترك الحياة العامة. إن ذاكرة الطفل تنمو وهي مستعدة كالشريط الفارغ لقبول ما ينقل إليه وحفظ ما يدس فيه، وقد يصاحب الصوت والصورة طعم أو رائحة، وكثير من الناس أدركوا بالتجربة أن كثيراً من الأماكن والصور ارتبط في أذهانهم بروائح وطعوم محددة، ولعل المثل العربي السائر "الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر" خير دليل على ما سطرناه.
إذن، لا بد في السن المبكرة للطفل من تقدير واحتساب ما يقال أو يعرض لدى الأطفال باعتبارهم شركاء في الجلسات يقوون على فهم بعض ما يدور وإدراك ما يطرح من صور أو معانٍ.
إن عين الطفل تبصر الأشياء تماماً كما يبصرها الكبار، وتسجلها كما يسجلها الكبار، غير أن الاختلاف يبدو في فهم معاني الصورة القريبة والبعيدة، فالطفل لا يملك قدرة الإدراك وسعة الإحاطة كما يملكها الكبار، لكنه يسجلها ويحتفظ بها مخزنة إلى وقت الحاجة حتى يعطيها أبعادها ومعانيها الخاصة.
إن رصيد الطفولة من الأصوات والصور والروائح يتراكم في الذاكرة، فالكلمات التي انتقشت في الصفحة النظيفة لن تتلاشى بسهولة، ولن تغادر الذاكرة بالسرعة المتوقعة، بل تتفاعل مع المستجد من الصور والمعاني وهي ترتقي وتتطور مع الأيام ومع حصيلة التعليم وازدياد الثقافة.
أطفالنا مرآة عاكسة لما نبديه نحن الكبار في حياتنا من أقوال وأفعال نشركهم بطريقة أو بأخرى في سماعها والتعامل معها، فالآباء يرون نتيجة هذه الشراكة وتأثير أقوالهم وأفعالهم في حياة أطفالهم، وقد يعجبهم هذا التأثر وهذا الانفعال فيبدون لأطفالهم مشاعر الإعجاب بهذه الكلمة التي حفظها الطفل واستطاع ترديدها بطريقة "طفلية" ولحن مميز يثير الضحك والسرور في نفوس السامعين!
والكل يعلم ما لدى الطفل من قدرة مبكرة على الانفعال بما يرى ويسمع، ومع ذلك يغفل كثير من الآباء والأمهات عن أهمية وضرورة تحديد ما يجب أن يسمع الطفل ويشهد.
إنهم يغفلون عن ضرورة حماية الطفل من الكلمة السيئة والفعل المشين، وينسون أهمية هذه الحماية في صناعة الطفل وتوجيهه تربوياً الوجهة السليمة الطيبة، متعذرين بأنه طفل وعندما يكبر سوف يعلم ويدرك الخير والشر، وأن أيام طفولته يجب أن يعيشها كما يجب وكيفما اتفق!!
هناك حدود مميزة توضح الصحيح من الخطأ، وتميز بين الخير والشر، بين ما هو مناسب ومقبول، وما هو غير مناسب ومرفوض، هذه الحدود والفواصل هي ما يجب أن يحرص الآباء والأمهات على توضيحه لأطفالهم لتنطبع في الذاكرة كفكرة، وتصاحب الفعل كعمل معروف غير منكر.=>(/1)
احذروا السحر والسحرة
احذروا السحر والسحرة
والرد على من زعم أن معية الله للخلق ذاتية
بقلم فضيلة الشيخ/
ناصر بن سليمان العلوان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والسلام على من لانبي بعده.
أما بعد: فإن خير الجهاد وأفضله القيام على أعداء الدين والوقوف في نحورهم كالسحرة والكهان والمشعوذين فقد استطار شررهم وعظم أمرهم وكثر خطرُهم فآذوا المؤمنين وأدخلوا الرعب على حرماتهم غير مبالين وقد توعد الله المجرمين بسقر وما أدراك ما سقر فقد أخبر الله في كتابه العزيز أن الساحر كافر فقال: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}.
وإلى كفر الساحر وخروجه من الدين ودخوله في سلك أصحاب الجحيم ذهب جماهير العلماء من فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – أن السحر أحد نواقض الإسلام وقال: ومنه الصرف والعطف.
والصرف عمل السحر لصرف من يحب إلى بغضه. والعطف عمل السحر لعطف من يبغض إلى حبه من زوج وغيره ويسمية أهل الفجور دواء الحب وهو في الحقيقة الهلاك والعطب.
فالحذر الحذر من السحرة والكهان والمنجمين والعرافين وأهل لشعوذة المخالفين لما بعث الله به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم يفسدون ولا يصلحون ويضرون ولا ينفعون.
ومن ثم اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتل الساحر والساحرة لعظم شرهم وكثرة خطرهم وبُعدهم عن الإيمان وقُربهم من الشيطان فعند أبي داود بسند صحيح من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن بجالة بن عبدة قال جاءَ نا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنةِ (( اقتلوا كل ساحر.... )).
وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها. رواه عبد الله بن الإمام أحمد من حديث ابن عمر.
وصح قتل الساحر أيضاً عن جندُب.
ولا يُعلم لهؤلاء مخالف، فكان قتل الساحر كالإجماع بين الصحابة رضي الله عنهم وقد كثر السحر في هذا العصر وتساهل الكثير في الذهاب إليهم وطلب الشفاء على أيديهم ويزعمون أن هذا من فعل الأسباب وهذا منكر عظيم وخطر مدلهم كبير يخلخل العقائد ويزعزع الإيمان.
وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله وسلم قال: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)).
والساحر بمنزلة الكاهن فمن سأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة وأما إن صدقه بما يقول فهذا كافر بما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما روى الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقة فيما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)).
وعند البزار بسند صحيح عن أبن مسعود موقوفاً قال: ((من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقة بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)).
وأما زعم بعض الناس بأن هذا سببب فهذا غلط لأن السبب غير شرعي ومخالف للثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء عند أبي داود بسند حسن من طريق عقيل ابن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يحدث عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن النشرة، فقال: (( هي من عمل الشيطان)).
والنشرة حل السحر عن المسحور فإذا كان حله عن طريق السحر فالحديث صريح بالمنع ويالله العجب كيف يجوز حل السحر عند السحرة وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم فالمسلم مأمور بقتل السحرة ولم يؤذن له بالتداوي عندهم وأما إن كان حل السحر عن طريق الرُقى الشرعية بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والأدوية المعروفة فهذا مشروع لقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}. و { مِنْ } هنا بيانية فالقرآن كله شفاء ودواء لكل داء فمن آمن به وأحل حلاله وحرم حرامة انتفع به انتفاعاً كبيراً ومن صَدَقَ الله في قصدِه وإرادتهِ شفاه الله تعالى وعافاه من دائه وعلى المبتلى به ملازمة الدعاء والتضرع لرب الأرض والسماء وتحري أوقات الإجابة كثُلث الليل الآخر والسجود وبين الأذان والإقامة فهذه الأوقات أحرى في الإجابة من غيرها وهذا دواء من ابتُلي بالسحر.(/1)
وأما من عافاه الله منه ولم يُصَب به فعليه بالاحتراز منه واتقاء شره بالأذكار المأثورة الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم والمحافظة عليها صباحاً ومساء وقراءَةِ المعوذتين وآية الكرسي دبر كل صلاة وإن تيسر التصبح بسبع تمرات من تمر العجوة فهذا سبب شرعي وحصن حصين من كل ساحر مريد ففي الصحيحين وغيرهما من حديث عامر بن سعد عن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تصبح بسبع تمرات من تمر العجوة لم يُصبه سُم ولا سحر)). وقد اشترط كثير من أهل العلم في التمر أن يكون من العجوة على ماجاء في الخبر ولكن ذهب آخرون من أهل العلم إلى أن لفظ العجوة خرج مخرج الغالب فلو تصبح بغير تمر العجوة نفع وهذا قول قوي وإن كنت أقول إن تمر العجوة أكثر نفعاً وتأثيراً وبركة إلا أن هذا لا يمنع التأثير في غيره.
والله المسئول أن ينصر دينه ويعلى كلمته وأن يبعث لدينه ناصراً يأخذ على أيدي السحرة والكهان والمنجمين وغيرهم من المفسدين في الأرض وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
كتب في 21\1\ 1417 هـ
آخر مراجعة في 9\1\1421هـ(/2)
احذروا الشرك الخفي: الرياء
الحمد لله وكفي والصلاة والسلام على من اصطفي...أما بعد:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ ) فقلنا بلى يا رسول الله ! قال ( الشرك الخفي، أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل) حسن الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم 27
الرياء قناع خداع يحجب وجها كالحا ونفسا لئيمة وقلبا صدئا صلدا، والرياء طلاء رقيق يخفي سوءات بعضها فوق بعض، والرياء زيف كاسد في سوق تجارة، قال وهب بن منبه: "من طلب الدنيا بعمل الآخرة نكس الله قلبه وكتب اسمه في ديوان أهل النار"، وقال أبو العالية: " قال لي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،: لا تعمل لغير الله فيكلك الله إلى من عملت له". وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف على نفسه من النفاق"، وقال الربيع بن خثيم: " كل ما لا يبتغى به وجه الله يضمحل". وقال: " السرائر السرائر اللاتي تخفين من الناس وهن لله تعالى بواد التمسوا دواءهن".
ومن علم شدة حاجته إلى صافي الحسنات غدا في يوم القيامة، غلب على قلبه حذر الرياء وتصحيح الإخلاص بعمله حتى يوافي الله تعالى يوم القيامة بالخالص المقبول؛ إذ عُلم أنه لا يخلص إلى الله جل ثناؤه إلا ما خلص منه ولا يقبل يوم القيامة إلا ما كان صافيا لوجهه لا تشوبه إرادة شيء بغيره، قال أبو عبد الله الأنطاكي: "من طلب الإخلاص في أعماله الظاهرة وهو يلاحظ الخلق بقلبه فقد رام المحال؛ لأن الإخلاص ماء القلب الذي به حياته والرياء يميته"، وكتب يوسف بن أسباط إلى حذيفة: "إن لنا ولك من الله مقاما يسألنا فيه عن الرمق الخفي وعن الخليل الجافي ولست آمن أن يكون فيما يسألني ويسألك عنه وساوس الصدور ولحاظ الأعين وإصغاء الأسماع".
اعلم أن مما يوصف به منافقو هذه الأمة أنهم خالطوا أهل الدين بأبدانهم وفارقوهم بأهوائهم ولم ينتهوا عن خبيث أفعالهم، كثرت أعمالهم بلا تصحيح فأحرمهم الله الثمن الربيح. والرياء مشتق من الرؤية، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس برؤيتهم خصال الخير ويجمعه خمسة أقسام وهي جوامع ما يتزين به العبد للناس:
1. الرياء بالبدن: ويكون بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد في العبادة، وعظم الحزن على أمر الدين، وغلبة خوف الآخرة، قال الربيع بن خثيم: "لا يغرنك كثرة ثناء الناس من نفسك فإنه خالص إليك عملك". وقال يحيى بن معاذ: " لا تجعل الزهد حرفتك لتكتسب به الدنيا ولكن اجعله عبادتك لتنال الآخرة وإذا شكرك أبناء الدنيا ومدحوك فاصرف أمرهم على الخرافات".
2. الرياء بالهيئة والزى: بتشعيث شعر الرأس وإطراق الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه، وتحري لبس الثياب الخشنة أو لبس المرقعات، عن محمد بن عبد الله الحذاء قال: " وقفنا للفضيل بن عياض على باب المسجد ونحن شباب علينا الصوف فخرج علينا فلما رآنا قال: وددت أني لم أركم ولم تروني. أتروني سلمت منكم أن أكون ترسا لكم حيث راءيتكم وتراءيتم لي! لأن أحلف عشرا أني مراء وأني مخادع أحب إلي من أن أحلف أني لست كذلك".
3. الرياء بالقول: كرياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار لاستعمالها في المحاورة وإظهارا لغزارة العلم وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس وإظهار الغضب للمنكرات والأسف على مقارفة الناس للمعاصي. وفي ذلك يقول مطرف رحمة الله عليه: "إن أقبح ما طلبت به الدنيا عمل الآخرة".
4. الرياء بالعمل كمراءاة المصلي بطول القيام والركوع والسجود وكذلك بالصوم والغزو والحج والصدقة
5. الرياء بالأصحاب والزائرين كالذي يتكلف أن يستزير عالما أو عابدا ليقال إن فلانا قد زار فلانا وكالذي يكثر زيارة الشيوخ ليرى أنه لقي شيوخا كثيرة واستفاد منهم ويتباهى بشيوخه عند المخاصمة.
* وأصل الرياء حب الجاه، والجاه هو قيام المنزلة في قلوب الناس، وهو اعتقاد القلوب نعتا من نعوت الكمال في هذا الشخص، إما لعلم أو عبادة أو نسب أو قوة أو حسن منظر أو غير ذلك مما يعتقده الناس كمالا، فبقدر ما يعتقدون له من ذلك تذعن قلوبهم لطاعته ومدحه وخدمته وتوقيره.
ومن غلب على قلبه حب هذا صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفا بالتردد إليهم والمراءاة لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتا إلى ما يعظم منزلته لديهم، وذلك بذر النفاق وأصل الفساد؛ لأن من طلب هذه المنزلة في قلوب العباد اضطر أن ينافقهم بإظهار ما هو خال عنه ويجر إلى المراءاة بالعبادات واقتحام المحظورات والتوصل إلى اقتناص القلوب
وهذا باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله العارفون به المحبون له وإذا فصل رجع إلى ثلاثة أصول:
حب لذة الحمد، والفرار من الذم، والطمع فيما في أيدي الناس(/1)
كتب خالد بن صفوان إلى عمر بن عبد العزيز: "يا أمير المؤمنين إن أقواما غرهم ستر الله وفتنهم حسن الثناء فلا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك أعاذنا الله وإياك أن نكون بالستر مغرورين وبثناء الناس مسرورين وعما افترض الله علينا متخلفين ومقصرين وإلى الأهواء مائلين. فبكى عمر ثم قال: أعاذنا الله وإياك من إتباع الهوى".
* والرياء منه الجلي ومنه الخفي
فالرياء الجلي: هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه
أما الرياء الخفي: فهو الذي لا يحمل على العمل بمجرده إلا أنه يخفف مشقة العمل على النفس كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف تنشط للقيام وخف عليه. ومن الرياء الخفي كذلك أن يخفي العبد طاعته ولكنه مع ذلك إذا رأي الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان فإن قصر مقصر ثقل ذلك على قلبه كأنه يتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها.
ومن الرياء الخفي أن الإنسان يذم نفسه بين الناس يريد بذلك أن يرى أنه متواضع عند نفسه فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، قال مطرف ابن عبد الله: " كفى بالنفس إطراء أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها وذلك عند الله سفه". وقال الحسن البصري :" من ذم نفسه في الملأ فقد مدحها وذلك من علامات الرياء".
روى َالْحَاكِمُ: (أَوَّلُ النَّاسِ يَدْخُلُ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، يُؤْتَى بِالرَّجُلِ، فَيَقُولُ: رَبِّ عَلَّمْتَنِي الْكِتَابَ فَقَرَأْتُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَيْ سَاعَاتِهِمَا رَجَاءَ ثَوَابِك، فَيَقُولُ: كَذَبْتَ إنَّمَا كُنْتَ تُصَلِّي لِيُقَالَ: إنَّك قَارِئٌ مُصَلٍّ وَقَدْ قِيلَ، اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ؛ ثُمَّ يُؤْتَى بِآخَرَ، فَيَقُولُ: رَبِّ رَزَقْتَنِي مَالا فَوَصَلْتُ بِهِ الرَّحِمَ وَتَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَحَمَّلْتُ بِهِ ابْنَ السَّبِيلِ رَجَاءَ ثَوَابِك وَجَنَّتِك، فَيُقَالُ: كَذَبْتَ إنَّمَا كُنْتَ تَتَصَدَّقُ وَتَصِلُ لِيُقَالَ: إنَّهُ سَمْحٌ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ، اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ، ثُمَّ يُجَاءُ بِالثَّالِثِ فَيَقُولُ: رَبِّ خَرَجْتُ فِي سَبِيلِك فَقَاتَلْتُ فِيك غَيْرَ مُدْبِرٍ رَجَاءَ ثَوَابِك وَجَنَّتِك فَيُقَالُ: كَذَبْتَ إنَّمَا كُنْتَ تُقَاتِلُ لِيُقَالَ: إنَّك جَرِيءٌ وَشُجَاعٌ فَقَدْ قِيلَ، اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ). وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ: (( مَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعْ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَاءِ يُرَاءِ اللَّهُ بِهِ: وَمَنْ كَانَ ذَا لِسَانَيْنِ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ لِسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
** أقسام الرياء من حيث القبح:
أ ـ َأَقْبَحُهَا الرِّيَاءُ فِي الإِيمَانِ:
وهو شأن المنافقين الذين أكثر الله من ذمهم في كتابه العزيز: (إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ)
ب ـ وَيَلِيهِمْ الْمُرَاءُونَ بِأُصُولِ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ:
كأن يعتاد تركها في الخلوة ويفعلها في الملأ خوف المذمَّة، وهذا أيضًا عظيم عند اللَّهِ تعالى لإنبائه على غاية الجهل وأدائه إلى أعلى أنواع المقتِ.
ج ـ وَيَلِيهِمْ الْمُرَاءُونَ بِالنَّوَافِلِ:
كأن يعتاد ذلك فيها وحدها خوف الاستنقاص بِعدم فعلها في الملإ، وإيثارًا للكسل وعدم الرَّغبة في ثوابها في الخلوةِ.
د ـ وَيَلِيهِمْ الْمُرَاءُونَ بِأَوْصَافِ الْعِبَادَاتِ:
كتحسيِنها وإطالة أركانها، وإظهار التَّخشُّعِ فِيهَا، والاقتصار في الخلوةِ على أدنى واجباتها، فهذا محظورٌ أيضًا؛ لأنَّ فيه كالَّذي قبله تقديم المخلوقِ على الخَالِقِ.
4 ـ وَلِلْمُرَائِي لأَجْلِهِ دَرَجَاتٌ:
أ ـ فأقبحها أن يقصدَ التَّمكُّن من معصيةٍ كمن يظهر الورع والزُّهد حتَّى يعرف به فيولَّى المناصبَ وَالوَصَايَا، وَتُودَعَ عندهُ الأموالُ، أو يفوَّض إليه تفرقة الصَّدَقَاتِ وَقَصده بِكلِّ ذلك الخيانة فيه.
ب ـ ويليها من يتَّهم بمعصيةٍ أو خيانةٍ فيظهر الطَّاعة والصَّدقة قصدًا لدفعِ تلك التُّهمة.
ج ـ ويليها أن يقصدَ نيل حظٍّ مباحٍ من نحوِ مال أو نكاحٍ، أو غيرهما من حظُوظِ الدُّنيا.
د ـ ويليها أن يقصد بإظهار عبادته وورعه وتخشعه ونحو ذلك أن لا يحتقر وينظر إليه بِعين النَّقص، أو أن يعدَّ من جملة الصَّالحين وفي الخلوة لا يفعل شيئًا من ذلك،.
قال الغزالي: وجميعهم تحت مقت اللَّهِ تعالى وغضبه وهو من أشدِّ المهلكات.
من مظاهر الرياء عند طلبة العلم التي ينبغي الحذر منها:
أولاً ــ الجرأة على الفتوى وتعجل التدريس:
وهذه للأسف الشديد هي سمة الكثيرين من طلبة العلم من أهل هذا العصر.
قال الله تعالى: ( آلله أذن لكم أم على الله تفترون) [ يونس/59 ](/2)
ومن تأمل سير السلف يعرف حقًا كيف كان هؤلاء الأكابر أكثر الناس علمًا وورعًا، فكانوا يهابون مما يقتحمه المتعالمون في هذه الأيام.
قال أبو داود في مسائله: ما أحصى ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول لا أدري. قال: وسمعته يقول ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه، كان أهون عليه أن يقول لا أدري.
وقال عبد الله ابنه في مسائله سمعت أبي يقول وقال عبد الرحمن بن مهدي سأل رجل الإمام مالك بن أنس عن مسألة فقال لا أدري فقال يا أبا عبد الله تقول لا أدري قال نعم فأبلغ من ورائك أني لا أدري.
وقال عبد الله: كنت أسمع أبي كثيرًا يسأل عن المسائل فيقول: لا أدري، ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثيرا ما كان يقول: سل غيري فإن قيل له من نسأل قال سلوا العلماء ولا يكاد يسمي رجلا بعينه.
يقول ابن القيم: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى.
قال عبد الرحمن ابن أبي ليلى: أدركت عشرين و مائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه.
فأين هؤلاء الأصاغر المتعالمون من أدب سلفنا الصالح في الفتيا والاستفتاء،فترى هؤلاء المتعالمين المتفيقهين يتعجل أحدهم الفتيا ويتعجل التدريس ويتعجل كل شيء، يظن بنفسه أنه محيي الدين يود أحدهم لو كان مفتي البلاد والعباد، ولكنها الشهوة الخفية، وأين هؤلاء من الشروط والأسس التي وضعها سلفنا لحفظ جناب الدين من المتفيقهين.
* قال الإمام أحمد: " لا ينبغي للرجل أن يعرض نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
إحداها: أن تكون له نية، أي أنْ يخلص في ذلك لله تعالى، ولا يقصد رياسة ولا نحوها، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور،إذ الأعمال بالنيات.
الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة، وإلا لم يتمكن من فعل ما تصدى له من بيان الأحكام الشرعية.
الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته، و إلا فقد عرض نفسه لعظيم.
الرابعة:: الكفاية و إلا أبغضه الناس، فإنه إذا لم تكن له كفاية احتاج إلى الناس، وإلى الأخذ مما في أيديهم فيتضررون منه.
الخامسة: معرفة الناس
فحذار حذار من فتنة التصدر، وطلب الشهرة والجاه، فإنها عمار للنار، قتالة للقلب، مفسدة له، دالة على سوء النوايا، وإنما من ابتلي بذلك صبر، ومن استراح من هذا شكر لو تعلمون.
ثانياً ــ الاشتغال بفرض الكفاية عن فرض العين:
فتجد هذا المتعالم والمتفيقه بلا عقيدة صحيحة، ولا معرفة صادقة بأسماء الله وصفاته، ولا إلمام بتصحيح العبادات الظاهرة والباطنة، ومع ذلك هو عاكف على علوم الآلات، ويهجم على النصوص ويستنبط ويرجح بين الأقوال، ويرد على العلماء ويتعصب، ويغضب لنفسه ورأيه، لا لدين الله عز وجل، فهذا هو الخذلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال في مختصر منهاج القاصدين: "وأنت تجد الفقيه يتكلم في الظهار واللعان والسبق والرمي، ويفرع التفريعات التي تمضي الدهور ولا يحتاج إلى مسألة منها، ولا يتكلم في الإخلاص، ولا يحذر من الرياء، وهذا عليه فرض عين؛ لأنَّ في إهماله هلاكه، والأول فرض كفاية، ولو أنَّه سئل عن علة ترك المناقشة للنفس في الإخلاص والرياء لم يكن له جواب ) [ مختصر منهاج القاصدين ص (27)].
ثالثاً ــ حب المناظرة، وحب الجدل و كثرة الكلام: ( يهرف بما لا يعرف )
قال الله تعالى: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) [ الكهف /54]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ في رَبَضِ الْجَنّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقاّ، وَبِبَيْتٍ في وَسَطِ الْجَنّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كان مَازِحاً، وَبِبَيْتٍ في أعْلَى الْجَنّةِ لِمَنْ حَسّنَ خُلُقَهُ ) [ أخرجه أبو داود (4800) ك الأدب، باب في حسن الخلق، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (4015)].
قال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل.
قال معروف الكرخي: إذا أراد الله بعبد خيرًا فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرًا فتح له باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل.
وقال بعض السلف: إذا رأيت الرجل لجوجًا مماريًا معجبًا برأيه فقد تمَّت خسارته.(/3)
وإنما يعطى الجدل الفتانون، فما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل، وما يشتهي المناظرة إلا الباحثون عن أعراض الدنيا الزائلة، وإنما كان الرجل من السلف لا يقع في المناظرة إلا اضطرارًا، وما زلَّ من زلَّ في هذا الباب إلا بسبب الرياء والسمعة، وإنما كان همُّ الأوائل الأعمال لا الأقوال، وصار قصارى همّ بعضنا الآن الكلام طلبًا للظهور.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فان من ورائكم أياما الصبر فيهن القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم."[ أخرجه الترمذي (3058) التفسير، باب ومن سورة المائدة، وقال: حسن غريب].
وهذه وصية نبوية غالية، تشير إلى أمراض خطيرة: ( شح مطاع، هوى متبع، دنيا مؤثرة، عجب وإعجاب بالرأي ) فيا لها من أمراض قتَّالة، وأوبئة فتَّاكة، تفتك بالدين، وتقتل الإخلاص، وإنَّما المرض العضال الحامل على كل هذا والمؤدي إليه: ( حب الظهور، وشهوة التصدر، والرغبة في الشهرة، والعلو على الأقران ) فنسأل الله العافية من أمراض القلوب، ونسأله هو العلي القدير أنْ يرزقنا الإخلاص، وأنْ يجمعنا على الصالحين من عباده في الدنيا والآخرة.
عن عبد الله بن المبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا ؟!! قال: لأنَّهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق.
قال أبو قلابة لأيوب السختياني: يا أيوب إذا أحدث الله لك علمًا فأحدث لله عبادة، ولا يكونن همك أن تحدث به الناس.
قال الحسن البصري: همة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرواية.
فإذا لم تجد القول موافقًا للعمل فاعلم أنه نذير النفاق.
قال عبد الله بن المعتز: علم المنافق في قوله، وعلم المؤمن في عمله.
وحكى الذهبي عن أبى الحسن القطان قوله: ( أُصبت ببصري، وأظن أنى عوقبت بكثرة كلامي أيام الرحلة )، ثم قال الذهبي: " صدق والله، فقد كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون من الكلام، وإظهار المعرفة. واليوم يكثرون الكلام مع نقص العلم، وسوء القصد ثم إن الله يفضحهم، ويلوح جهلهم وهواهم واضطرابهم فيما علموه فنسأل الله التوفيق والإخلاص. أهـ( من سير أعلام النبلاء ).
وعن معمر بن راشد قال: إنَّ الرجل يطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء:( نعم يطلبه أولاً، والحامل له حب العلم، وحب إزالة الجهل عنه وحب الوظائف، ونحو ذلك، ولم يكن عَلِم وجوب الإخلاص فيه، ولا صدق النية، فإذا علم حاسب نفسه، وخاف من وبال قصده، فتجيئه النية الصالحة كلها أو بعضها، وقد يتوب من نيته الفاسدة، ويندم، وعلامة ذلك أنه يُقْصِر من الدعاوى وحب المناظرة، ومن قَصْدِ التأثير بعلمه، ويُزْري على نفسه، فإن تَكَثَّر بعلمه، أو قال أنا أعلمُ من فلان فبعداً له).
رابعاً ــ الولع بالغرائب والبحث عن المهجور من الأقوال:
فترى من ابتلي بهذه الشهوة الخفية ألا وهي الرياء يتصيد الغرائب ويتصيد المهجور من أقوال العلماء، فبمجرد أن يتصيد مسألة من هنا أو هناك، سمعها في مجلس، أو من شريط، أو قرأها في صحيفة، أو في كتاب، يوالي ويعادى على تلك المسألة.، وأكثر الناس اليوم لا علم له إلا ببعض المسائل، وليتها بالنافعة، وإنما شواذ المسائل، وغريب الآراء، والمهجور من الأقوال، وكأن الشعار "خالف تُعرف" فالخلاف عنده أشهى من الاتفاق.
حتى وجدنا بعض المتعالمين من يشغل العامة بالمسائل النادرة الحدوث والمختلف عليها والتي هي أصلاً ليست أهلاً لطرقها على المنابر من أمثال ( الحجامة ) فتراه يصطنع عليها خطباً متكررة متنوعة، إنما الشذوذ والغرابة والبحث عن المهجور من الأقوال ساقه إليها، وكان الأولى شغل الناس والعامة بعوالي الأمور والمهمات الجسيمة التي ترقى بهم وبإيمانهم.
فالولع بالغريب والشاذ من الأقوال، وإحياء المسائل المهجورة والتي حسمها أهل العلم منذ زمن بعيد، كل ذلك ـ إن كان عن عمد ـ يدل على خلل واضح، وسوء قصد بيِّن، لا سيما إذا كان الأمر زلَّ فيه عالم من العلماء، ومن هنا حذر أهل العلم من تتبع هذه المسائل التي أسموها بـ (( الطبوليات )) إذ قيل: ( زلة العالم مضروب لها الطبل) [حلية طالب العلم ص (7) للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد].
خامساً ــ الشغب على المخالف والزهو بالمتبع.(/4)
فإنك تراه يشاغب على من خالفه، ويعاديه، وينفر منه، ويفرح بالمدح، ويزهو بكثرة الأتباع، وبالضد تتميز الأشياء، وتلك من نتاج العصبيات والحزبيات، لعدم تحقيق عقيدة الولاء والبراء فيصير الولاء للمتبع، والبراء من المخالف، وما كان هذا هدي السلف في الخلاف، لا سيما في الفروع،وكم من مجر للخلاف على ألسنة الناس لمجرد الشغب عليه لمخالفته إياه، أو الزهو بمن اتبعه، ومن أهم علامات الصادق استواء المدح والذم عنده، فإن لم يكن كذلك فليتهم نفسه.
قال الإمام الذهبي في [سير أعلام النبلاء (7/393 )]: عن عبد الرحمن بن مهدى عن طالوت: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: ما صدق الله عبد أحب الشهرة.
ثم قال الذهبي: علامة المخلص الذي قد يحب الشهرة، ولا يشعر بها، أنه إذا عوتب في ذلك لا يحرد، ولا يبرئ نفسه، بل يعترف ويقول: رحم الله من أهدى إلىَّ عيوبي، ولا يكن معجباً بنفسه، لا يشعر بعيوبها، بل يشعر أنه لا يشعر، فإن هذا داء مزمن " أهـ
وما أغلاه من كلام، وصدق من قال: الذهبي ذهبي الكلام، حقاً إنه كلام أغلى من الذهب، فالمخلص إذا اتهم لم يكابر، لم يشمخ بأنفه، ولم تأخذه العزة بالإثم فيقول: أنا.. أنا.. أنا، وإنما يخضع ويذعن، ويخاف ويخشى، ويتهم نفسه، ويسيء الظن بها، ويقول: ويلى، وويل أمي، إنْ لم يرحمني ربى.
وعن الفضيل بن عياض قال: يا مسكين، أنت مسيء وترى أنَّك محسن، وأنت جاهل وترى أنَّك عالم، وتبخل وترى أنَّك كريم، وأحمق وترى أنَّك عاقل، أجلك قصير، وأملك طويل.
قال الذهبي: ( قلت: إي والله صدق، وأنت ظالم وترى أنَّك مظلوم، وآكل للحرام وترى أنَّك متورع، وفاسق وتعتقد أنَّك عدل، وطالب العلم للدنيا وترى أنَّك تطلبه لله ) [سير أعلام النبلاء (8/440)].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من تعلم علما يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة )) رواه أبو داود بسند صحيح.
فهذا هو الرِّياء
من الأدواء المهلكة، والأمراض الفاتكة، والخسائر الفادحة الرياء، حيث فيه خسارة الدين والآخرة، ولهذا حذر منه المتقون، وخافه الصالحون، ونبه على خطورته الأنبياء والمرسلون، ولم يأمن من مغبته إلا العجزة، والجهلة، والغافلون، فهو الشرك الخفي، والسعي الرديء، ولا يصدر إلا من عبد السوء الكَلَِّ المنكود.
الرياء كله دركات، بعضها أسوأ من بعض، وظلمات بعضها أظلم من بعض، وأنواع بعضها أخس وأنكد من بعض، فمنه الرياء المحض، وهو أردأها، ومنه ما هو دون ذلك، ومنه خطرات قد أفلح من دفعها وخلاها، وقد خاب من استرسل معها وناداها.
فالعمل لغير الله أنواع وأقسام، كلها مذمومة مردودة، ومن الله متروكة، فالله سبحانه وتعالى أغنى الشركاء، وأفضل الخلطاء، فمن أشرك معه غيره تركه وشركه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".
وفي رواية لابن ماجة: "فأنا منه بريء وهو للذي أشرك".
والأنواع هي:
1. الرياء المحض
وهو العمل الذي لا يُراد به وجه الله بحال من الأحوال، وإنما يراد به أغراض دنيوية وأحوال شخصية، وهي حال المنافقين الخلص كما حكى الله عنهم:
"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً".4
"ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله".5
"فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون".6
وهذا النوع كما قال ابن رجب الحنبلي يكون في الأعمال المتعدية، كالحج، والصدقة، والجهاد، ونحوها، ويندر أن يصدر من مؤمن: (فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة).
2. أن يراد بالعمل وجه الله ومراءاة الناس
وهو نوعان:
أ . إما أن يخالط العملَ الرياءُ من أصله
فقد بطل العمل وفسد والأدلة على ذلك بجانب حديث أبي هريرة السابق:
• عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدَّق يرائي فقد أشرك، وإن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئاً، فإن جدة عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني".
وعن أبي سعيد بن أبي فضالة الصحابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل فليطلب ثوابه من عند غير الله عز وجل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك".
وخرج الحاكم من حديث ابن عباس: "قال رجل: يا رسول الله: إني أقف الموقف وأريد وجه الله، وأريد أن يُرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً".(/5)
قال ابن رجب: (وممن روي عنه هذا المعنى، وأن العمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلاً: طائفة من السلف، منهم عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحسن، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.
ومن مراسيل القاسم بن مُخَيْمِرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله عملاً فيه مثقال حبة من خردل من رياء".
ولا نعرف عن السلف في هذا خلافاً، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين).
ب. وإما أن يطرأ عليه الرياء بعد الشروع في العمل
فإن كان خاطراً ماراً فدفعه فلا يضرُّه ذلك، وإن استرسل معه يُخشى عليه من بطلان عمله، ومن أهل العلم من قال يُثاب ويُجازى على أصل نيته.
قال ابن رجب: (وإن استرسل معه، فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يُجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره.
ويستدل لهذا القول بما خرجه أبو داود في "مراسيله"11 عن عطاء الخرساني أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن بني سَلَمَة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم الشهيد؟ قال: كلهم، إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا".
وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله، كالصلاة، والصيام، والحج، فأما ما لا ارتباط فيه، كالقراءة، والذكر، وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية.
وكذلك روي عن سليمان بن داود الهاشمي12 أنه قال: ربما أحدث بحديث ولي نية، فإذا أتيت على بعضه تغيرت نيتي، فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات.
ولا يرد على هذا الجهاد، كما في مرسل عطاء الخرساني، فإن الجهاد يلزم بحضور الصف، ولا يجوز تركه حينئذ فيصير كالحج).
3. أن يريد بالعمل وجه الله والأجر والغنيمة
كمن يريد الحج وبعض المنافع، والجهاد والغنيمة، ونحو ذلك، فهذا عمله لا يحبط، ولكن أجره وثوابه ينقص عمن نوى الحج والجهاد ولم يشرك معهما غيرهما.
خرج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الغزاة إذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئاً تمَّ لهم أجرُهم".13
وروي عن عبد الله بن عمرو كذلك قال: "إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقاً، فلا بأس بذلك، وأما أن أحدكم إن أعطي درهماً غزا، وإن مُنع درهماً مكث، فلا خير في ذلك".
وقال الأوزاعي: إذا كانت نية الغازي على الغزو، فلا أرى بأساً.
وقال الإمام أحمد: التاجر، والمستأجر، والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزاتهم، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره.
وقال أيضاً فيمن أخذ جعلاً على الجهاد إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس أن يأخذ، كأنه خرج لِدِينه، فإن أعطي شيئاً أخذه.
وقال ابن رجب: (فإن خالط نية الجهاد نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة، أوأخذ شيء من الغنيمة، أوالتجارة، نقص بذلك أجر جهادهم، ولم يبطل بالكلية..
وهكذا يقال فيمن أخذ شيئاً في الحج ليحج به، إما عن نفسه، أوعن غيره، وقد روي عن مجاهد أنه قال في حج الجمَّال، وحج الأجير، وحج التاجر، هو تمام لا ينقص من أجورهم شيء، وهو محمول على أن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب.
4. أن يبتغي بعمله وجه الله فإذا أثني عليه سُرَّ وفرح بفضل الله ورحمته فلا يضره ذلك إن شاء الله. فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير، ويحمده الناس عليه، فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن".
وفي رواية لابن ماجة: "الرجلُ يعمل العمل لله فيحبُّه الناس عليه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيُسِِرُّه، فإذا اطلع عليه، أعجب، فقال: "له أجران: أجر السر وأجر العلانية".
قال ابن رجب: (وبالجملة، فما أحسن قول سهل بن عبد الله التُستري: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.
وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر.
وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرِّف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما تبتُ إليك منه، ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي، ثم لم أفِ لك به، وأستغفرك مما زعمتُ أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمتَ).
ورحم الله القائل:
أستغفرُ الله من أستغفر الله من كلمة قلتها خالفتُ معناها
اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم، وصلى الله وسلم على إمام المتقين وسيد المتوكلين المخلصين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين.(/6)
احذروا الصحف الخليعة
القسم : إملاءات > مقالات
لقد أصيب العالم الإسلامي عامة وسكان الجزيرة العربية خاصة بسيل من الصحف التي تحمل بين طياتها أشكالا كثيرة من الصور الخليعة ، المثيرة للشهوات ، الجالبة للفساد ، الداعية للدعارة ، الفاتنة للشباب والشابات ، وكم حصل في ضمن ذلك من أنواع الفساد لكل من يطالع تلك الصور العارية وأشباهها ، وكم شغف بها من الشباب من لا يحصى كثرة ، وكم هلك بسمومها من شباب وفتيات استحسنوها ومالوا إليها وقلدوا أهلها ، وكم في طيات تلك الصحف من مقالات إلحادية تنشر الأفكار المسمومة والقصائد الباطلة وتدعو إلى إنكار الأديان ومحاربة الإسلام ، وإن من أقبح تلك الصحف وأكثرها ضررا : المصور ، وآخر ساعة ، والجيل ، وروز اليوسف ، وصباح الخير ، ومجلة ( العربي ) . . فالواجب على حكومتنا- وفقها الله- منع هذه الصحف منعا باتا لما فيها من الضرر الكبير على المسلمين في عقائدهم وأخلاقهم ودينهم ودنياهم ، ولا ريب أن ولاة الأمر أول مسئول عن حفظ دين الرعية وأخلاقهم ، ولا شك أن هذه الصحف مما يفسد الدين والأخلاق ، ويضر المسلمين ضررا ظاهرا في الدين والدنيا ويزلزل عقائدهم ويحدث الشكوك والمشاكل الكثيرة بينهم والله سبحانه وتعالى يقول : {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر}[1] ويقول تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[2] ولا ريب أن القضاء على هذه الصحف ومنع دخولها البلاد من أعظم نصر الله وحماية دينه ، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته" وقال صلى الله عليه وسلم : ((ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة)) رواه مسلم .
فيا ولاة أمر المسلمين اتقوا الله في المسلمين وحاربوا هذه الصحف الهدامة وخذوا على أيدي السفهاء ، وأغلقوا أبواب الفساد تفوزوا بالنجاة والسعادة وتنتشلوا بذلك جما غفيرا من الفتيان والفتيات من وهدة هذا التيار الجارف وحمأة هذه الصحف الخبيثة المدمرة ، ويا معشر المسلمين حاربوا هذه الصحف الخبيثة المدمرة ، ولا تشتروها بقليل ولا كثير ، فإن بيعها وثمنها حرام ، وإنما الواجب إتلافها أينما وجدت دفعا لضررها وحماية للمسلمين من شرها ، أراح الله منها العباد والبلاد ووفق ولاة أمر المسلمين لما فيه صلاح دينهم ودنياهم وسلامة عقائدهم ، وأخلاقهم ، إنه على كل شيء قدير .
----------
[1] - سورة الحج الآيتان 40-41.
[2] - سورة محمد الآية 7.(/1)
احذروا سرطان الأعمال ( 2 - 3 )
الشيخ توفيق علي
أولاً: أسباب حبوط الأعمال في القرآن الكريم:
أولاً: كراهة ما أنزل الله
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم} [سورة محمد: 9].
قال سيد قطب رحمه الله: " وهو تصوير لما يعتمل في قلوبهم ويختلج في نفوسهم من الكراهية لما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه. وهذا هو الذي يدفع بهم إلى الكفر والعناد والخصومة والملاحاة. وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة التي تكره بطبعها ذلك النهج السليم القويم، وتصادمه من داخلها، بحكم مغايرة طبيعتها لطبيعته. وهي نفوس يلتقي بها الإنسان كثيراً في كل زمان وفي كل مكان، ويحس منها النفرة والكراهية لهذا الدين وما يتصل به ; حتى إنها لتفزع من مجرد ذكره كما لو كانت قد لذعتها العقارب! وتتجنب أن يجيء ذكره أو الإشارة إليه فيما تسمع حولها من حديث! ولعلنا نشاهد في هذه الأيام حالة من هذا الطراز لا تخفى على الملاحظة!
وكان جزاء هذه الكراهية لما أنزل الله، أن أحبط الله أعمالهم. فالحبوط انتفاخ بطون الماشية عند أكلها نوعاً من المرعى سام. ينتهي بها إلى الموت والهلاك. وكذلك انتفخت أعمالهم وورمت وانبعجت..ثم انتهت إلى الهلاك والضياع! إنها صورة وحركة، ونهاية مطابقة لحال من كرهوا ما أنزل الله ثم تعاجبوا بالأعمال الضخام.المنتفخة كبطون الأنعام، حين ترعى من ذلك النبت السام " [في ظلال القرآن، (ج 6/ 3289)].
ثانياً: إتباع ما أسخط الله
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد: 28].
قال ابن عاشور رحمه الله: " واتباعهم ما أسخط الله: هو اتباعهم الشرك. والسخط مستعار لعدم الرضى بالفعل. وكراهتهم رضوان الله: كراهتهم أسباب رضوانه وهو الإسلام.
والجمع بين الإخبار عنهم باتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه مع إمكان الاجتزاء بأحدهما عن الآخر للإيماء إلى أن ضرب الملائكة وجوه هؤلاء مناسب لإقبالهم على ما أسخط الله، وأن ضربهم أدبارهم مناسب لكراهتهم رضوانه لأن الكراهة تستلزم الإعراض والإدبار.
فكان ذلك التعذيب مناسباً لحالي توقيهم في الفرار من القتال وللسببين الباعثين على ذلك التوقي.
وفرع على اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه قال "فأحبط أعمالهم" فكان اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه سبباً في الأمرين: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند الوفاة، وإحباط أعمالهم " [التحرير و التنوير، (ج17/4044)].
" فهم الذين أرادوا لأنفسهم هذا المصير واختاروه. هم الذين عمدوا إلى ما أسخط الله من نفاق ومعصية وتآمر مع أعداء الله وأعداء دينه ورسوله فاتبعوه. وهم الذين كرهوا رضوان الله فلم يعملوا له، بل عملوا ما يسخط الله ويغضبه.. فأحبط أعمالهم.. التي كانوا يعجبون بها ويتعاجبون ; ويحسبونها مهارة وبراعة وهم يتآمرون على المؤمنين ويكيدون. فإذا بهذه الأعمال تتضخم وتنتفخ. ثم تهلك وتضيع! " [في ظلال القرآن، (ج 6/ 3298)].
ثالثاً: الكفر و الصد عن سبيل الله و مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة التوبة: 69].
" أولئك حبطت أعمالهم أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب ".
و عن ابن عباس في قوله كالذين من قبلكم الآية قال ابن عباس ما أشبه الليلة بالبارحة" كالذين من قبلكم" هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم لا أعلم إلا أنه قال والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه".
و قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد: 32].
قال ابن كثير رحمه الله: " يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله وخالف الرسول وشاقه، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى أنه لن يضر الله شيئاً، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها، وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير، بل يحبطه ويمحقه بالكلية كما أن الحسنات يذهبن السيئات " [تفسير القرآن العظيم، (ج4/195)].(/1)
و قال سيد قطب رحمه الله: " إنه قرار من الله مؤكد، ووعد منه واقع: أن الذين كفروا، ووقفوا في وجه الحق أن يُبَلغ إلى الناس ; وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع أو أية وسيلة من الوسائل، وشاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته بإعلان الحرب عليه، والمخالفة عن طريقه، والوقوف في غير صفه. أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه والمتبعين لسنته والقائمين على دعوته. وذلك {من بعد ما تبين لهم الهدى}.. وعرفوا أنه الحق ; ولكنهم اتبعوا الهوى، وجمح بهم العناد وأعماهم الغرض، وقادتهم المصلحة العاجلة.
قرار من الله مؤكد، ووعد من الله واقع أن هؤلاء {لن يضروا الله شيئاً}.. وهم أضأل وأضعف من أن يُذكروا في مجال إلحاق ضرر بالله سبحانه وتعالى. فليس هذا هو المقصود إنما المقصود أنهم لن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته. ولن يُحدِثوا حدثاً في نواميسه وسننه. مهما بلغ من قوتهم، ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقت؛ فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها ; وليست ضراً حقيقيا لناموس الله وسنته ونظامه ونهجه وعباده القائمين على نظامه ونهجه. والعاقبة مقررة: {وسيحبط أعمالهم}.. فتنتهي إلى الخيبة والدمار. كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام! " [في ظلال القرآن، (ج6/ 3300 )].
رابعاً: رفع الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [سورة الحجرات: 2].
قال ابن عاشور: " ظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون حبط جميع الأعمال إلا في حالة الكفر لأن من الأعمال الإيمان فمعنى الآية: أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر.
قال ابن عطية: أي يكون ذلك سبباً إلى الوحشة في نفوسكم فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فحبط الأعمال.
وأقول: لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توفير الرسول صلى الله عليه وسلم من النفس وتتولى من سيء إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر. وهذا معنى {وأنتم لا تشعرون} لأن المنتقل من سيء إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملي من السوء بحكم التعود بالشيء قليلاً حتى تغمره المعاصي وربما كان آخرها الكفر حين تضرى النفس بالإقدام على ذلك.
ويجوز أن يراد حبط بعض الأعمال على أنه عام مراد به الخصوص فيكون المعنى حصول حطيطة في أعمالهم بغلبة عظم ذنب جهرهم له بالقول، وهذا مجمل لا يعلم مقدار الحبط إلا الله تعالى " [التحرير و التنوير، (ج17/4090)].
ففي قوله {وأنتم لا تشعرون} تنبيه إلى مزيد الحذر من هذه المهلكات حتى يصير ذلك دربة حتى يصل إلى ما يحبط الأعمال، وليس عدم الشعور كائنا في إتيان الفعل المنهي عنه لأنه لو كان كذلك لكان صاحبه غير مكلف لامتناع تكليف الغافل ونحوه.
{يا أيها الذين آمنوا}.. ليوقروا النبي الذي دعاهم إلى الإيمان.
{أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}.. ليحذروا هذا المزلق الذي قد ينتهي بهم إلى حبوط أعمالهم، وهم غير شاعرين ولا عالمين، ليتقوه!
أثر هذا النداء في نفوس الصحابة:
ولقد عمل في نفوسهم ذلك النداء الحبيب، وهذا التحذير المرهوب، عمله العميق الشديد:
قال البخاري: عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا.. أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ؛ رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم في السنة التاسعة من الهجرة، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع أي ليؤمره عليهم وأشار الآخر برجل آخر. قال نافع: لا أحفظ اسمه "في رواية أخرى أن اسمه القعقاع بن معبد" فقال: أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ما أردت إلا خلافي. فقال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك. فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}. قال ابن الزبير رضي الله عنه: فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه! وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لما نزلت هذه الآية: قلت: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار "يعني كالهمس! ".
منقبة عظيمة لثابت بن قيس رضي الله عنه:(/2)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته، منكسا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، وهو من أهل النار. فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى بن أنس: فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: (اذهب إليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة). [صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم الحديث (3417)].
قال أنس رضي الله عنه: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة.
قال النووي: في هذا الحديث:
منقبة عظيمة لثابت بن قيس رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من أهل الجنة.
وفيه أنه ينبغي للعالم وكبير القوم أن يتفقد أصحابه ويسأل عمن غاب منهم.
فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب، وذلك التحذير الرعيب ; وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون. ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم! ولكن هذا المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم، فخافوه واتقوه!
ونوه الله بتقواهم، وغضهم أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعبير عجيب:
{إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}.
فالتقوى هبة عظيمة، يختار الله لها القلوب، بعد امتحان واختبار، وبعد تخليص وتمحيص، فلا يضعها في قلب إلا وقد تهيأ لها، وقد ثبت أنه يستحقها. والذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد اختبر الله قلوبهم وهيأها لتلقي تلك الهبة. هبة التقوى. وقد كتب لهم معها وبها المغفرة والأجر العظيم.
إنه الترغيب العميق، بعد التحذير المخيف. بها يربي الله قلوب عباده المختارين، ويعدها للأمر العظيم. الذي نهض به الصدر الأول على هدى من هذه التربية ونور.
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال: أتدريان أين أنتما ? ثم قال: من أين أنتما ? قالا: من أهل الطائف. فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا!
وعرف علماء هذه الأمة وقالوا: إنه يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته صلى الله عليه وسلم احتراماً له في كل حال.
ثم أشار إلى حادث وقع من وفد بني تميم حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام التاسع. الذي سمي "عام الوفود".. لمجيء وفود العرب من كل مكان بعد فتح مكة، ودخولهم في الإسلام، وكانوا أعرابا جفاة، فنادوا من وراء حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم المطلة على المسجد النبوي الشريف: يا محمد. اخرج لنا. فكره النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجفوة وهذا الإزعاج. فنزل قوله تعالى:
{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم}.
فوصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون. وكره إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وحرمة رسول الله القائد والمربي. وبين لهم الأولى والأفضل وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم. وحبب إليهم التوبة والإنابة، ورغبهم في المغفرة والرحمة.
وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل أستاذ وعالم. لا يزعجونه حتى يخرج إليهم ; ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم.. يحكى عن أبي عبيد العالم الزاهد الراوية الثقة أنه قال: "ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه" [في ظلال القرآن، (ج 6 / 3340 )].
خامساً: الردة
قال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة: 217].
قال القرطبي رحمه الله: " استظهر علماؤنا بقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [سورة الزمر: 65]:
قالوا: وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته; لأنه عليه السلام يستحيل منه الردة شرعاً.
وقال أصحاب الشافعي: بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة، وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله; فكيف أنتم! لكنه لا يشرك لفضل مرتبته.
وقال علماؤنا: إنما ذكر الله الموافاة شرطاً ها هنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء; فمن وافى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى.
فهما آيتان مفيدتان لمعنيين، وحكمين متغايرين. وما خوطب به عليه السلام فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه.(/3)
و قال السعدي – رحمه الله: " دلت الآية بمفهومها، أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام، أنه يرجع إليه عمله و كذلك من تاب من المعاصي، فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة " [تفسير السعدي، (ص106)].
قال ابن عاشور – رحمه الله: " والمقصد منه التحذير، لأنه لما ذكر حرص المشركين على رد المسلمين عن الإسلام وعقبه باستبعاد أن يصدر ذلك من المسلمين، أعقبه بالتحذير منه، وجيء بصيغة يرتدد وهي صيغة مطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قدر حصوله لا يكون إلا عن محاولة من المشركين فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلا بعناء" [التحرير و التنوير، الطاهر ابن عاشور، (ج3/603)].
" ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه ; تحت مطارق الأذى والفتنة مهما بلغت هذا مصيره الذي قرره الله له.. حبوط العمل في الدنيا والآخرة. ثم ملازمة العذاب في النار خلوداً.
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه، لا يمكن أن يرتد عنه ارتداداً حقيقيا أبداً. إلا إذا فسد فساداً لا صلاح له. وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة. فالله رحيم. رخص للمسلم حين يتجاوز العذاب طاقته أن يقي نفسه بالتظاهر، مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان. ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي، وفي الارتداد الحقيقي، بحيث يموت وهو كافر.. والعياذ بالله..
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان.. ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه، ويرتد عن إيمانه وإسلامه، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه.. وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله. والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به، ويصبرون على الأذى في سبيله. فهو معوضهم خيراً: إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة " [في ظلال القرآن، (ج1/ 222)].
سادساً: الكفر بآيات الله و قتل النبيين و الذين يأمرون الناس بالقسط
قال تعالى: {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [سورة آل عمران: 22].
" فهذا هو المصير المحتوم: عذاب أليم. لا يحدده بالدنيا أو بالآخرة. فهو متوقع هنا وهناك. وبطلان لأعمالهم في الدنيا والآخرة في تعبير مصور.. وهكذا أعمال هؤلاء قد تنتفخ وتتضخم في الأعين. ولكنه الانتفاخ المؤدي إلى البطلان والهلاك! حيث لا ينصرهم ناصر ولا يدفع عنهم حام! " [في ظلال القرآن، (ج1/ 375376)].
سابعاً: النفاق:
قال تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [سورة الأحزاب: 19].
" فهذه هي العلة الأولى. العلة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشة الإيمان، ولم تهتد بنوره، ولم تسلك منهجه. {فأحبط الله أعمالهم}.. ولم ينجحوا لأن عنصر النجاح الأصيل ليس هناك " [المصدر السابق].
وقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} [سورة المائدة: 53].
" لقد جاء الله بالفتح يوماً، وتكشفت نوايا، وحبطت أعمال، وخسرت فئات. ونحن على وعد من الله قائم بأن يجيء الفتح، كلما استمسكنا بعروة الله وحده ; وكلما أخلصنا الولاء لله وحده. وكلما وعينا منهج الله، وأقمنا عليه تصوراتنا وأوضاعنا. وكلما تحركنا في المعركة على هدى الله وتوجيهه. فلم نتخذ لنا ولياً إلا الله ورسوله والذين آمنوا " [في ظلال القرآن، (ج 2/917)].
ثامناً: التكذيب بآيات الله و لقاء الآخرة
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [سورة الأعراف: 147].
" وإن الإنسان ليصادف هذا الصنف من الخلق بوصفه هذا وسمته وملامحه، فيرى كأنما يتجنب الرشد ويتبع الغي دون جهد منه، ودون تفكير ولا تدبير! فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه، وينشرح لطريق الغي ويتبعه! وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله لا يراها ولا يتدبرها ولا تلتقط أجهزته إيحاءاتها وإيقاعاتها! وسبحان الله! فمن خلال اللمسات السريعة في العبارة القرآنية العجيبة ينتفض هذا النموذج من الخلق شاخصاً بارزاً حتى ليكاد القارئ يصيح لتوه: نعم. نعم. أعرف هذا الصنف من الخلق.. إنه فلان!!! وإنه للمعنيّ الموصوف بهذه الكلمات!!!(/4)
وما يظلم الله هذا الصنف من الخلق بهذا الجزاء المردي المؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.. إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله ويغفل عنها، ويتكبر في الأرض بغير الحق، ويتجنب سبيل الرشد حيثما رآه، ويهرع إلى سبيل الغي حيثما لاح له! فإنما بعمله جوزي ; وبسلوكه أورد موارد الهلاك " [في ظلال القرآن، (ج3/ 1372)].
" وحبوط الأعمال مأخوذ من قولهم: حبطت الناقة.. إذا رعت نباتاً ساماً، فانتفخ بطنها ثم نفقت.. وهو وصف ملحوظ فيه طبيعة الباطل الذي يصدر من المكذبين بآيات الله ولقاء الآخرة. فهو ينتفخ حتى يظنه الناس من عظمة وقوة! ثم ينفق كما تنفق الناقة التي رعت ذلك النبات السام!
وإنه لجزاء كذلك حق أن تحبط وتهلك أعمال الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة.
ولكن كيف تُحبط هذه الأعمال ؟
" من ناحية الاعتقاد: نحن نؤمن بصدق وعيد الله لا محالة، أياً كانت الظواهر التي تخالف هذه العاقبة المحتومة. فحيثما كذب أحد بآيات الله ولقائه في الآخرة حبط عمله وبطل، وهلك في النهاية وذهب كأن لم يكن.
ومن ناحية النظر: نحن نجد السبب واضحاً في حياة البشر.. إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور، أو آياته المصاحبة للرسالات، أو التي يحملها الرسل ; ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر.. إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المؤمن المسلم ونواميسه.. لا تربطه بهذا الكون رابطة. وهو منقطع عن دوافع الحركة الصادقة الموصولة بغاية الوجود واتجاهه. وكل عمل يصدر عن مثل هذا المسخ المقطوع هو عمل حابط ضائع، ولو بدا أنه قائم وناجح. لأنه لا ينبعث عن البواعث الأصيلة العميقة في بنية هذا الوجود ; ولا يتجه إلى الغاية الكبيرة التي يتجه إليها الكون كله. شأنه شأن الجدول الذي ينقطع عن النبع الأول ; فمآله إلى الجفاف والضياع في يوم قريب أو بعيد!
والذين لا يرون العلاقة الوثيقة بين تلك القيم الإيمانية وحركة التاريخ الإنساني ; والذين يغفلون عن قدر الله الذي يجري بعاقبة الذين يتنكرون لهذه القيم.. هؤلاء إنما هم الغافلون الذين أعلن الله سبحانه عن مشيئته في أمرهم، بصرفهم عن رؤية آياته، وتدبر سننه.. وقدر الله يتربص بهم وهم عنه غافلون..
والذين يخدعهم ما يرونه في الأمد القصير المحدود، من فلاح بعض الذين يغفلون عن تلك القيم الإيمانية ونجاحهم ; إنما يخدعهم الانتفاخ الذي يصيب الدابة وقد رعت النبت السام ; فيحسبونه شحماً وسمنة وعافية وصحة.. والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط! " [في ظلال القرآن، (ج313731372 / )].
تاسعاً: إرادة الحياة الدنيا و زينتها
قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلََئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ إِلاّ النّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [سورة هود: 1617]
قال ابن كثير – رحمه الله: " عن ابن عباس في هذه الآية: إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يظلمون نقيراً يقول من عمل صالحاً التماس الدنيا صوماً أو صلاة أو تهجداً بالليل لا يعمله إلا التماس الدنيا يقول الله تعالى: أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا وهو في الآخرة من الخاسرين".
و قال مجاهد وغيره: " نزلت في أهل الرياء، وقال قتادة: من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطىَ بها جزاء وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة " [تفسير القرآن العظيم، (ج2/ 455)].
و عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها) [صحيح مسلم، باب: جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا، (ج1/97)، رقم (2808)].
و عن أنس بن مالك أيضاً أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته) [صحيح مسلم، (ج1/98)].(/5)
" إن للجهد في هذه الأرض ثمرته. سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته المحدودة. فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها، فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا ; ويتمتع بها كما يريد في أجل محدود ولكن ليس له في الآخرة إلا النار، لأنه لم يقدم للآخرة شيئاً، ولم يحسب لها حساباً، فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا. ولكنه باطل في الآخرة لا يقام له فيها وزن وحابط [من حبطت الناقة إذا انتفخ بطنها من المرض] وهي صورة مناسبة للعمل المنتفخ المتورم في الدنيا وهو مؤد إلى الهلاك!
ونحن نشهد في هذه الأرض أفراداً اليوم وشعوباً وأمما تعمل لهذه الدنيا، وتنال جزاءها فيها، زينة، ولدنياها انتفاخ! فلا يجوز أن نعجب ولا أن نسأل: لماذا ? لأن هذه هي سنة الله في هذه الأرض: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون}.
ولكن التسليم بهذه السنة ونتائجها لا يجوز أن ينسينا أن هؤلاء كان يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه ونفوسهم تتطلع للآخرة وتراقب الله في الكسب والمتاع فينالوا زينة الحياة الدنيا لا يبخسون منها شيئاً، وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى " [في ظلال القرآن، (ج4/ 18621863 )].
" إن العمل للحياة الأخرى لا يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا. بل إنه هو هو مع الاتجاه إلى الله فيه. ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره ولا تنقص من آثاره ; بل تزيد وتبارك الجهد والثمر، وتجعل الكسب طيباً والمتاع به طيباً، ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة. إلا أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات الحرام. وهذه مردية لا في الأخرى فحسب، بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين. وهي ظاهرة في حياة الأمم وفي حياة الأفراد. وعبر التاريخ شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون" [في ظلال القرآن، (ج4 / 1863)].
عاشراً: الشرك
قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة التوبة: 17].
فأعمالهم باطلة، و فاسدة أصلاً، ومنها عمارة بيت الله التي لا تقوم إلا على قاعدة من توحيد الله.
إن العبادة تعبير عن العقيدة ; فإذا لم تصح العقيدة لم تصح العبادة ; وأداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد الإيماني الصحيح، وبالعمل الواقع الصريح، وبالتجرد لله في العمل والعبادة على السواء " [في ظلال القرآن، (ج 3/ 1614)].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [سورة الزمر: 65].
والله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أوحى إليك كما أوحى إلى النبيين من قبلك أن الشرك يحبط العمل ويفسده، ويئول في النهاية إلى الخسران، الخسران الأكبر في الآخرة بدخول النار والعياذ بالله.
و قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [سورة الفرقان: 23].
" هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي:
إما الإخلاص فيها.
وإما المتابعة لشرع الله.
فكل عمل لا يكون خالصاً وعلى الشريعة المرضية فهو باطل فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين وقد تجمعهما معا فتكون أبعد من القبول حينئذ.
ولهذا قال تعالى: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً".
قال مجاهد والثوري "وقدمنا" أي عمدنا وكذا قال السدي. وبعضهم يقول أتينا عليه.
وقوله تعالى: "فجعلناه هباء منثورا" قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله: "هباء منثورا" قال شعاع الشمس إذا دخل الكوة.
وكذا قال الحسن البصري هو الشعاع في كوة أحدكم ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع.
و عن ابن عباس: "هباء منثوراً " قال هو الماء المهراق.
و عن علي: "هباء منثوراً ". قال الهباء وهج الدواب.
وقال قتادة في قوله: "هباء منثوراً "، قال أما رأيت يبس الشجر إذا ذرته الريح؟ فهو ذلك الورق. وعن عبيد بن يعلى قال: وإن الهباء الرماد إذا ذرته الريح.
" وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها على شيء فلما عرضت على الملك الحكم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحداً إذا إنها لا شيء بالكلية وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية ".
إن الناس فى الجاهلية المعاصرة قد انتفخوا من كثرة ما أعطاهم الله استدراجاً عن طريق التقدم العلمى من سيارات وثلاجات وطائرات وصواريخ وقنابل ذرية ونووية وأموال وخيرات من كل الأنواع.(/6)
انتفخوا بكل ذلك حتى وصلت بهم ((النفخة)) إلى الاستكبار على الله، يقول الله عن أمثالهم: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} [سورة غافر: 83].
ولكنه انتفاخ كانتفاخ الناقة الحابطة بالغذاء المسموم 0
فاستثمار خيرات الأرض وصل حالياً إلى حد لم يبلغه في التاريخ، والفقر الجاثم على كثير من ربوع الأرض ليس له كذلك مثيل في التاريخ!
وتقدم الطب بلغ درجة لم يصلها من قبل قط، ونسبة المرض كذلك في تزايد مستمر، وتنشأ أمراض جديدة لا عهد للبشرية بها من قبل، وآخرها مرض نقص المناعة المكتسبة المسمى بالإيدز 0
والتنادى بالحريات السياسية والحريات الإنسانية يشبه الدوى فى برلمانات الأرض، وصحفها ووسائل إعلامها، والعبودية التي يعيش الناس فيها في أكثر بقاع الأرض أبشع عبودية في التاريخ0
ووسائل المتاع التي اخترعها البشر ليتناولوا بها أكبر قسط من متاع الأرض لا مثيل لها في كثرتها وتنوعها واستغراقها لحياة الناس، ودرجة الشقاء التي يحسها الناس من أول الاضطرابات النفسية إلى الجنون لا مثيل لها كذلك في كل التاريخ! " [ركائز الإيمان، محمد قطب، (ص126)]
18/ 09/ 2005
http://islameiat.com المصدر:(/7)
احذروا سوسو التكفيري ...
26-02-2005
لا بد للحق أن يقال، فإن كثيراً من الناس وإن لم يلتزموا ببعض أحكام الإسلام، ويخرجون عن بعضها الآخر، يحبون الإسلام ويغارون على أمتهم، وهذا معتقد مترسخ في قلوبهم، فهم جزء من الأمة، يصيبهم ما يصيبها، يحزنون لحزنها، ويفرحون لفرحها، كذلك الحال مع صاحبنا سوسو المطرب، فهو وإن كان مولعاً بالغناء والعزف، إلا أنه يعيش بين ظهراني الأمة، يسمع ويرى ما يحل بها من نكبات وأزمات، فما من يوم يمر عليها إلا وفيه قتل ـ وقصف، واحتلال، ونهب وسلب، وغير ذلك مما تعانيه الأمة، وكل هذا يجري تحت ذريعة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وما إلى ذلك، التي هي في حقيقتها تتناقض مع أبسط حقوق الإنسان المزعومة فهي خروج عن كل قيم وأخلاق، منسلخة عن أي شرع وعقل وفطرة، مما أثار ذلك حفيظة سوسو، وطفح عنده الكيل، وبلغ في نظره السيل الزبى، فأخذ سوسو يبحث عن طريق يضع من خلاله حداً لأزمات الأمة ونكباتها، فأخذ يفكر ويفكر، ماذا بوسعه أن يفعل؟ كيف يفعل؟ ومتى يفعل؟ وأين يفعل: أسئلة كثيرة تطرق فكر سوسو ولا يجد لأيها جواباً، فاحتار الرجل في أمره، ولم يجد أمامه إلا شيخ السلطان، فهو العالم الذي يرجع إليه في الخلاف، ويصدر الناس عن رأيه.
سوسو ذهب إلى شيخ السلطان قائلاً: يا شيخ أنت تعلم ما يحل بالأمة، وتعلم جيداً ما تعانيه من كيد أعدائها بها، فأعداؤها يتربعون على صدرها يسومونها سوء العذاب، وأمتنا شيخنا الفاضل، هي خير أمة أخرجت للناس، وأعز أمة عرفها التاريخ، وصل حالها إلى ما ترى، فما هو الواجب علينا اتجاه أمتنا لنعيدها إلى سابق عهدها؟
شيخ السلطان يقول متنهداً: آه يا سوسو آه، ما تقوله صحيح ، صحيح ، نسأل الله العفو والعافية، ولكن يا سوسو أنت ترى أحوالنا، فالعين بصيرة ، واليد قصيرة ، وما لنا إلا الصبر، وطاعة السلطان، فكلنا ثقة به.
سوسو: ولكن يا سيدي، أليس الجهاد فرضاً على كل مسلم، ولا يجوز لأي مسلم التخلف عنه ؟
شيخ السلطان: بلى يا سوسو، ولكن الجهاد مشروط بإذن مولانا السلطان، والسلطان لم يأذن لنا بعد - شيخ السلطان يقول بصوت منخفض ( ولن يأذن أبداً الحمد لله ) -
سوسو: السلطان لم يأذن! وكيف يأذن السلطان يا شيخنا وهو ممن يعينون الكافرين على تحقيق أهدافهم الخبيثة في أمتنا؟
شيخ السلطان وقد بدأ الغضب يعلوه: يا سوسو، إن غيبة السلطان لا تجوز، يتولد عنها فتنة عظيمة يا سوسو، فالسلطان تجب طاعته، السلطان يا سوسو تجب طاعته، هل فهمت؟
سوسو : ولكن يا سيدي، هل نبقى هكذا تحت سطوة الكفر إن لم يأذن لنا السلطان بالدفاع عن عقيدتنا وأنفسنا؟
شيخ السلطان: يا سوسو، قلت لك: إن طاعة السلطان واجبة، والتكلم في السلطان فتنة عظيمة، إنها الفتنة يا سوسو.
سوسو: الفتنة! وأي فتنة أعظم من فتنة الكفر؟
شيخ السلطان: إنك يا سوسو تتحدث بأمور عظيمة، لا يعرفها إلا أهل العلم الكبار، وقد أوصانا علماؤنا بعدم التدخل في شؤون السياسة، لأنهم يقولون: إن السياسة تياسة، وما عليك يا سوسو إلا الاهتمام بشؤونك، وعدم التدخل بشؤون العامة، فهذا ليس من شأنك، فقد جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من حسن إيمان المرء تركه ما لا يعنيه ).
سوسو: وهل التفكر في واقع المسلمين، وما آل إليه حالهم، والعمل على إخراجهم مما هم فيه مسألة لا تعنيني ؟
شيخ السلطان: بالطبع يا سوسو، بالطبع، فأنت فنان تفهم في الغناء والرقص، ولا دخل لك بما يجري في واقع الأمة، فهذا ليس من اختصاصك.
سوسو: ولكني يا سيدي جزء من هذه الأمة يهمني ما يهمها، وما يجب عليها يجب علي.
شيخ السلطان: يا سوسو قلت لك، هذه مسائل كبيرة، ليست من شأنك، إن هذه المسائل من شأن السلطان، فالسلطان وحده هو الذي يقرر ما يفعله، فهو أدرى بمصلحة الأمة مني ومنك يا سوسو.
سوسو: ولكن يا سيدي، أنت ترى ما يحل بالأمة، وما هي مواقف السلطان منها، إنه يا سيدي ينظر إلى الأمة تقتل ولا يحرك ساكناً، وإن حرّكه ففي مصلحة أعدائها، فكيف نوكل أمورنا إليه؟
شيخ السلطان يزداد به الغضب: يا بني إن طاعة السلطان واجبة ، فهي من دعائم هذا الدين الحنيف، وإن معصيته من أكبر الكبائر، فلا يجوز بأي حال الخروج عن طاعته وسلطانه إلا أن نرى منهم كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان.
سوسو: ولكن يا سيدي لقد ظهر من السلطان ما يدل على الكفر البواح، فها هو لا يحكمنا بالقوانين الربانية، ولا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة، يوالي أعداء الأمة، ويعادي من يواليها، ووووو . . . ، أوليس ذلك من الكفر البواح؟
شيخ السلطان : بلى يا سوسو ، ولكنها تبقى إن لم يعتقد السلطان حلها معاصيَ لا تؤثر بولاية السلطان علينا ، ولا تبرر خروجنا عليه .
سوسو: ولكن يا سيدي أليس السلطان جنة يقاتل من ورائه، ويتقى به ؟ فما هي الفائدة من وجود السلطان إن عمل على خلاف ذلك؟(/1)
شيخ السلطان : قلت لك يا سوسو مراراً وتكراراً: ما دام السلطان لم يعتقد حل ما يفعله، تبقى طاعته واجبة ، والخروج عن طاعته من أكبر الكبائر التي يستحق الخارج عليها القتل .
سوسو: وكيف لنا أن نعلم كفر السلطان؟
شيخ السلطان: أحسنت يا سوسو، إننا لا يجوز لنا أن نكفر السلطان إلا إذا اعتقد جواز ما حرم الله، والاعتقاد مسألة قلبية لا يعلمها إلا الله، إذن فلا سبيل لنا إلى معرفة الكفر إلا إن يصرح السلطان هو بذلك، وأنا على يقين بأن السلطان لن يصرح بذلك أبداً، إذن فلا سبيل للخروج عليه.. ههههههههههه.
سوسو: إذن يا مولانا الشيخ لا سبيل لنا للخروج على السلطان ، فماذا نفعل؟
شيخ السلطان: قلت لك يا سوسو، نصبر على السمع والطاعة.
سوسو بغضب: إلى متى نصبر على الكفر والزندقة ، هل الله يرضى بذلك ويأمر به، أم يريد تطهير العباد والبلاد من الشرك والكفر؟
شيخ السلطان وقد عاوده غضبه: ماذا تقول، معاذ الله من قولك، بل الله يريد تطهير العباد والبلاد من الشرك والكفر يا سوسو .
سوسو: إذن نعمل على إزالة السلطان لأن إرادته تخالف إرادة الله سبحانه.
شيخ السلطان - وقد أحمر وجهه غضباً: نخرج على السلطان، هذا منكر عظيم مخالفة لإرادة الله، بل الواجب علينا أن نطيع السلطان ، فطاعة السلطان إرادة الله يا سوسو .
سوسو: سيدي الشيخ كيف تقول : إن طاعة السلطان إرادة الله، وما بعث الله به رسله هو دعوة الناس إلى التوحيد، والكفر بكل ما سواه، والسلطان يعمل على خلاف ذلك، وهل أوجد الله السلطان إلا لإقامة شرعة والذود عنه، واحتضان المسلمين تحت راية واحدة؟
شيخ السلطان: هذا صحيح يا سوسو ، ولكن لا نستطيع الخروج على السلطان إنها الفتنة يا سوسو الفتنة .
سوسو : وأي فتنة يا شيخ وقد أمرنا الله سبحانه بالعمل لإعلاء كلمة الحق؟
شيخ السلطان مضطرباً: الدماء، الدماء يا سوسو، الدماء .
سوسو: هل الواجب علينا يا شيخنا هو بذل نفوسنا وأموالنا في سبيل الله، أم الواجب هو تضييع دين الله حفاظاً على أنفسنا وأموالنا؟
شيخ السلطان : الواجب علينا أن نبذل أنفسنا وأرواحنا في سبيل الله، ولكن ............
سوسو: لا عذر لك يا سيدي أمام الله، لا عذر لك بدفاعك عن الظلم وأنت تعلم الحق، الواجب عليك هو حث المسلمين على إقامة دينهم الحق، لا حثهم على الصبر على الكفر والنفاق الذي جاء الإسلام لدحرهما.
شيخ السلطان مرتبكاً مترقباً: اسكت يا سوسو اسكت، لا يسمعك السلطان .
سوسو : هذا ما خرجت به، حسبتك ستقول الحق وتصدع به !!!
شيخ السلطان : أقول الحق وأصدع به ويلي، ويلي من بطش السلطان، أي مصيبة هذه التي وقعت فيها، النجاة، النجاة .
شيخ السلطان دافعاً الشبه عن نفسه يصيح بأعلى صوته: احذروا سوسو التكفيري، احذروا سوسو التكفيري !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
وكتب: إبراهيم بن عبد العزيز
17 محرم 1426 هـ(/2)
احذري الذئاب
أيتها الفاتنة ""
إن طبيعتك الضعيفة قد منحها الله قوة في التأثير على الرجال فجعلك شهوة وفتنة وجعل منك جمالا وأنوثة وسحرا وجعل فيك رقة تنخلع لها القلوب لهذا تريد الكلاب الضالة أن تتمردي على الحصن الذي حماك الله به .
يريدونك عارية سافرة كي يتمتعوا بجسدك و أنوثتك
أختي المسلمة إذا كان الذئاب لا يريد من نعجة إلا لحمها فالذي يريده منك الرجل أعز عليك من اللحم على النعجة وشر عليك من الموت عليها .
أي والله :
أحلف لك مرة ثانية ولا تصدقي ما يقوله بعض الرجال من أنهم لا يرون في البنت إلاخلقها وأدبها كذب والله لو سمعت أحاديث الشباب في خلواتهم لسمعت كلاما مهولا مرعباولا يقدم لك خدمة إلا وهي عنده تمهيد لما يريد
تشتركان في لذة ساعة ثم ينسى هو وتظلين انت تتجرعين غصصها يغفر له هذا المجتمع الظالم و يقول شاب ضل ثم تاب وتبقين انت في حمأة الخزي و العار طول الحياة لا يغفر لك المجتمع أبدا(/1)
احسموا أمركم قبل فوات الأوان يا سنة العرق واحذروا الطعم القاتل يا أهل السنة!
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
إخواننا أهل السنة في العراق: أحاط بكم الأعداء من الصليبيين واليهود والطوائف التي نصبها العدو على كراسي الحكم في بلادكم، ومن يسندها من دول الجوار، وكلها تُحضِّر مناشيرها لتقطيع أوصالكم.
وخذلكم كثير ممن سيكون مستقبلهم مثل مستقبلكم إذا استمروا في خذلانكم، فالمخطط اليهودي الصليبي الطائفي الحزبي شامل في عدوانه ومحاولة سيطرته على المنطقة كلها لا يخص العراق وحده، ولم يعد ذلك خافيا على من عنده ذرة من عقل وهذا يحزننا كثيرا.
ولكنا نريد إيصال رسالة خاصة بكم، لأنكم أنتم الذين تذوقون الفتنة وتحترقون في أتونها، وغيركم ليس بعيدا عنها، ولكنه لا زال يغط في سباته الذي لايسمع معه جرس الإنذار ولا يرى دخان النار التي يشبها العدو المشترك للقضاء على ضرورات حياته من دين ونفس ونسل وعقل ومال وعرض.
أما أنتم فقد اصطليتم بتلك النار المشبوبة على ضرورات حياتكم، والذي يصطلي بالنار أقرب إلى الاعتبار ممن لم يلامسها بعد.
لذا أوجه لكم هذه الرسالة، لأني غير قادر على سواها:
أولا: وحدتكم واعتصامكم بحبل الله هما سفينة نجاتكم من أعدائكم، فاتحدوا فيما بينكم واعتصموا بحبل الله.
ثانيا: اختلافكم في هذه الظروف القاسية عليكم يجر حتما إلى ضعفكم ويؤدي إلى فشلكم، وأنتم وحدكم الذين تتسببون في استمرار المصائب التي تنزل بكم والفتن التي تحيط بكم، ما دمتم متفرقين فيما بينكم.
ثالثا: الإغراءات التي قد تجعل بعضكم يفارق بعضا باسم المصلحة ما هي إلا طُعم من أعدائكم ليأكل كل سمكة منكم حتى رأسها على حدة، ويفترس ثور بأي لون كان منفردا، ويجعلكم تصيحون كما صاح الثور الأسود: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"!
رابعا: تعلمون أن العدو المشترك الأجنبي وأولياءه يشنون عليكم الغارة بأسلحتهم الفتاكة برا وجوا في كل لحظة من ليل ونهار، وبخاصة عند اجتماع كلمتكم ويخافون من نجاحكم في الانتخابات أو إقرار الدستور، ولا نريد تذكيركم بذلك في الفلوجة عند الانتخابات الماضية، والقائم وغيره من محافظاتكم عند الاستفتاء على الدستور.
خامسا: دنا وقت الانتخابات الثانية التي سيترتب عليها مصيركم ومصير بلادكم، تشريعا وتنفيذا، واختلاف وجهات النظر التي تفرق كلمتكم قد تقضي على ما بقي من آمالكم وتذهب ريحكم.
فاحرصوا على وحدتكم واحسموا أمركم، واتخذوا الأسباب التي تجعل أهل السنة كلهم صفا واحدا، فإنهم كلهم هدف للعدو القريب والبعيد، لا يفرق بين حزب وهيئة ولا عالم وجاهل ولا قبيلة وعشيرة.
ولا إسلامي وليبرالي. ولا إخواني وتحريري، ولا سلفي وصوفي:
فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم:
((يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين)) [الأنفال: 1].
واعتصموا بحبل ربكم، واذكروا نعمته عليكم:
((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )) [آل عمران (103)]
((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) [الأنفال (46)]
وحافظوا على سفينتكم، وانبذوا من يريد خرقها بالفرقة والشذوذ:
(مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)
[صحيح البخاري (2/882)]
احذروا الطعم القاتل يا أهل السنة!
لقد أعنتم الأعداء الذين تربصوا ولا زالوا يتربصون بكم على أنفسكم بأمرين:
الأمر الأول: اختلافكم في حسم أمركم بحيث تكونون صفا واحدا في الدخول في الانتخابات أو عدمه.
الأمر الثاني: تعدد مرجعياتكم، والمفروض أنكم أنشأتم من أول الغزو الصليبي مجلسا من أهل الحل والعقد عندكم، يدرس شئونكم وتصدرون في نشاطكم ضد الغزو عن توجيهاته، ولهذا تعددت اجتهاداتكم فشتت شمل أتباعكم.
ومن هنا اغتنم أعداؤكم فرصة تفرقكم، واجتمع ما يسمى بالتحالف الغربي، والتحالف الشيعي، ورموكم عن قوس واحد، بثلاثة أمور:
الأمر الأول: تدميركم بحرب السلاح، الذي يكف عنكم يوما من الأيام، وبخاصة في الأوقات الحاسمة، مثل أوقات الانتخابات والاستفتاء على الدستور.(/1)
الأمر الثاني: تحقيق كل طرف مصالح للآخر، لا تمس جوهر مصالحه، ولكنها تجمعهم على انتهاك حقوقكم، وقد يوهمون فاقدي الوعي السياسي، بأنهم يختلفون على بعض القضايا، وهو إيهام كاذب في واقع الأمر.
إن الحقد الطائفي عليكم يا أهل السنة حقد متأصل في نفوس أصحابه، وإن ما يخططونه للقضاء عليكم إذا استتب لهم الأمر أكبر مما يظهرونه اليوم.
لهذا يصرون على أن يعضوا بنواجذهم على النصر الذي حققتها لهم القوات الأمريكية، لأنهم يعلمون أنه كان بعيد المنال بدون تلك القوات، ولهذا يكررون نفي إعادة الانتخابات بعزم وإصرار.
ولكنهم قد يرسلون لكم طعما قاتلا يسلونكم به إن استطاعوا، وهو إظهار تقاسم السلطة بمنحكم بعض الوزارات التي يسكتونكم بها مع بقاء الأصل الذي يستطيعون به التحكم في مصيرهم وهو الأغلبية المريحة في الجمعية الوطنية، التي يسلبونكم فيها بالتصويت أي مصلحة من مصالحكم، ومنه الوزارات، فيصبح الوزير كما يقول أهل اليمن بعد فترة فاقد الواو (زيرا)
هذا مع العلم أن أمريكا لن تسحب جيشها من العراق، مهما قدمت من وعود، لأن الوحش الجائع الذي ركض بعد فريسته لا يمكن أن يفلتها، والقيادة الأمريكية قيادة مستبدة (دكتاتورية) لا تأبه للاحتجاجات ولو من شعبها، وإرضاء اليهود عندها أولى من إرضاء شعبها، وأساس غزو العراق ومحاولة الهيمنة على دول المنطقة هو اليهود، ولا يمكن أن تخرج القوات الأمريكية بدون مقاومة جهادية تصبر وتصابر، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
لهذا يجب على جميع من يسكن في العراق أن يستمروا في المقاومة الجهادية بكل وسيلة ممكنة، فلا حل سواها، فاحذروا الطعم القاتل الذي قد يرسلونه في آلة الاصطيا(/2)
احذروا
السحر والسحرة
بقلم فضيلة الشيخ
سليمان بن ناصر العلوان
حفظه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والسلام على من لانبي بعده .
أما بعد : فإن خير الجهاد وأفضله القيام على أعداء الدين والوقوف في نحورهم كالسحرة والكهان والمشعوذين فقد استطار شررهم وعظم أمرهم وكثر خطرُهم فآذوا المؤمنين وأدخلوا الرعب على حرماتهم غير مبالين وقد توعد الله المجرمين بسقر وما أدراك ما سقر فقد أخبر الله في كتابه العزيز أن الساحر كافر فقال : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} .
وإلى كفر الساحر وخروجه من الدين ودخوله في سلك أصحاب الجحيم ذهب جماهير العلماء من فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – أن السحر أحد نواقض الإسلام وقال : ومنه الصرف والعطف .
والصرف عمل السحر لصرف من يحب إلى بغضه . والعطف عمل السحر لعطف من يبغض إلى حبه من زوج وغيره ويسمية أهل الفجور دواء الحب وهو في الحقيقة الهلاك والعطب .
فالحذر الحذر من السحرة والكهان والمنجمين والعرافين وأهل لشعوذة المخالفين لما بعث الله به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم يفسدون ولا يصلحون ويضرون ولا ينفعون .
ومن ثم اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتل الساحر والساحرة لعظم شرهم وكثرة خطرهم وبُعدهم عن الإيمان وقُربهم من الشيطان فعند أبي داود بسند صحيح من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن بجالة بن عبدة قال جاءَ نا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنةِ (( اقتلوا كل ساحر .... )) .
وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها . رواه عبد الله بن الإمام أحمد من حديث ابن عمر .
وصح قتل الساحر أيضاً عن جندُب .
ولا يُعلم لهؤلاء مخالف ، فكان قتل الساحر كالإجماع بين الصحابة رضي الله عنهم وقد كثر السحر في هذا العصر وتساهل الكثير في الذهاب إليهم وطلب الشفاء على أيديهم ويزعمون أن هذا من فعل الأسباب وهذا منكر عظيم وخطر مدلهم كبير يخلخل العقائد ويزعزع الإيمان .
وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله وسلم قال : ((( من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ))) .
والساحر بمنزلة الكاهن فمن سأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة وأما إن صدقه بما يقول فهذا كافر بما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما روى الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((( من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقة فيما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ))) .
وعند البزار بسند صحيح عن أبن مسعود موقوفاً قال : ((( من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقة بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ))) .
وأما زعم بعض الناس بأن هذا سببب فهذا غلط لأن السبب غير شرعي ومخالف للثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء عند أبي داود بسند حسن من طريق عقيل ابن معقل قال : سمعت وهب بن منبه يحدث عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن النشرة ، فقال : (( هي من عمل الشيطان )) .
والنشرة حل السحر عن المسحور فإذا كان حله عن طريق السحر فالحديث صريح بالمنع ويالله العجب كيف يجوز حل السحر عند السحرة وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم فالمسلم مأمور بقتل السحرة ولم يؤذن له بالتداوي عندهم وأما إن كان حل السحر عن طريق الرُقى الشرعية بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والأدوية المعروفة فهذا مشروع لقوله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } . و { مِنْ } هنا بيانية فالقرآن كله شفاء ودواء لكل داء فمن آمن به وأحل حلاله وحرم حرامة انتفع به انتفاعاً كبيراً ومن صَدَقَ الله في قصدِه وإرادتهِ شفاه الله تعالى وعافاه من دائه وعلى المبتلى به ملازمة الدعاء والتضرع لرب الأرض والسماء وتحري أوقات الإجابة كثُلث الليل الآخر والسجود وبين الأذان والإقامة فهذه الأوقات أحرى في الإجابة من غيرها وهذا دواء من ابتُلي بالسحر .(/1)
وأما من عافاه الله منه ولم يُصَب به فعليه بالاحتراز منه واتقاء شره بالأذكار المأثورة الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم والمحافظة عليها صباحاً ومساء وقراءَةِ المعوذتين وآية الكرسي دبر كل صلاة وإن تيسر التصبح بسبع تمرات من تمر العجوة فهذا سبب شرعي وحصن حصين من كل ساحر مريد ففي الصحيحين وغيرهما من حديث عامر بن سعد عن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((( من تصبح بسبع تمرات من تمر العجوة لم يُصبه سُم ولا سحر ))) . وقد اشترط كثير من أهل العلم في التمر أن يكون من العجوة على ماجاء في الخبر ولكن ذهب آخرون من أهل العلم إلى أن لفظ العجوة خرج مخرج الغالب فلو تصبح بغير تمر العجوة نفع وهذا قول قوي وإن كنت أقول إن تمر العجوة أكثر نفعاً وتأثيراً وبركة إلا أن هذا لا يمنع التأثير في غيره .
والله المسئول أن ينصر دينه ويعلى كلمته وأن يبعث لدينه ناصراً يأخذ على أيدي السحرة والكهان والمنجمين وغيرهم من المفسدين في الأرض وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
كتب في 21 \ 1 \ 1417 هـ
آخر مراجعة في 9\1\1421هـ(/2)
احذرواالسحروالسحرة
الحمد لله وحده والسلام على من لا نبي بعده .
أما بعد :
فإن خير الجهاد وأفضله القيام على أعداء الدين والوقوف في نحورهم كالسحرة والكهان والمشعوذين فقد استطار شررهم وعظم أمرهم وكثر خطرُهم فآذوا المؤمنين وأدخلوا الرعب على حرماتهم غير مبالين وقد توعد الله المجرمين بسقر وما أدراك ما سقر فقد أخبر الله في كتابه العزيز أن الساحر كافر فقال : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} .
وإلى كفر الساحر وخروجه من الدين ودخوله في سلك أصحاب الجحيم ذهب جماهير العلماء من فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – أن السحر أحد نواقض الإسلام وقال : ومنه الصرف والعطف .
والصرف عمل السحر لصرف من يحب إلى بغضه . والعطف عمل السحر لعطف من يبغض إلى حبه من زوج وغيره ويسمية أهل الفجور دواء الحب وهو في الحقيقة الهلاك والعطب .
فالحذر الحذر من السحرة والكهان والمنجمين والعرافين وأهل لشعوذة المخالفين لما بعث الله به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم يفسدون ولا يصلحون ويضرون ولا ينفعون .
ومن ثم اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتل الساحر والساحرة لعظم شرهم وكثرة خطرهم وبُعدهم عن الإيمان وقُربهم من الشيطان فعند أبي داود بسند صحيح من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن بجالة بن عبدة قال جاءَنا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنةِ (( اقتلوا كل ساحر .... )) .
وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها . رواه عبد الله بن الإمام أحمد من حديث ابن عمر .
وصح قتل الساحر أيضاً عن جندُب .
ولا يُعلم لهؤلاء مخالف ، فكان قتل الساحر كالإجماع بين الصحابة رضي الله عنهم وقد كثر السحر في هذا العصر وتساهل الكثير في الذهاب إليهم وطلب الشفاء على أيديهم ويزعمون أن هذا من فعل الأسباب وهذا منكر عظيم وخطر مدلهم كبير يخلخل العقائد ويزعزع الإيمان .
وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله وسلم قال : ((( من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ))) .
والساحر بمنزلة الكاهن فمن سأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة وأما إن صدقه بما يقول فهذا كافر بما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما روى الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((( من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقة فيما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ))) .
وعند البزار بسند صحيح عن أبن مسعود موقوفاً قال : ((( من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقة بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ))) .
وأما زعم بعض الناس بأن هذا سببب فهذا غلط لأن السبب غير شرعي ومخالف للثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء عند أبي داود بسند حسن من طريق عقيل ابن معقل قال : سمعت وهب بن منبه يحدث عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن النشرة ، فقال : (( هي من عمل الشيطان )) .
والنشرة حل السحر عن المسحور فإذا كان حله عن طريق السحر فالحديث صريح بالمنع ويالله العجب كيف يجوز حل السحر عند السحرة وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم فالمسلم مأمور بقتل السحرة ولم يؤذن له بالتداوي عندهم وأما إن كان حل السحر عن طريق الرُقى الشرعية بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والأدوية المعروفة فهذا مشروع لقوله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } . و { مِنْ } هنا بيانية فالقرآن كله شفاء ودواء لكل داء فمن آمن به وأحل حلاله وحرم حرامة انتفع به انتفاعاً كبيراً ومن صَدَقَ الله في قصدِه وإرادتهِ شفاه الله تعالى وعافاه من دائه وعلى المبتلى به ملازمة الدعاء والتضرع لرب الأرض والسماء وتحري أوقات الإجابة كثُلث الليل الآخر والسجود وبين الأذان والإقامة فهذه الأوقات أحرى في الإجابة من غيرها وهذا دواء من ابتُلي بالسحر .(/1)
وأما من عافاه الله منه ولم يُصَب به فعليه بالاحتراز منه واتقاء شره بالأذكار المأثورة الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم والمحافظة عليها صباحاً ومساء وقراءَةِ المعوذتين وآية الكرسي دبر كل صلاة وإن تيسر التصبح بسبع تمرات من تمر العجوة فهذا سبب شرعي وحصن حصين من كل ساحر مريد ففي الصحيحين وغيرهما من حديث عامر بن سعد عن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((( من تصبح بسبع تمرات من تمر العجوة لم يُصبه سُم ولا سحر ))) . وقد اشترط كثير من أهل العلم في التمر أن يكون من العجوة على ماجاء في الخبر ولكن ذهب آخرون من أهل العلم إلى أن لفظ العجوة خرج مخرج الغالب فلو تصبح بغير تمر العجوة نفع وهذا قول قوي وإن كنت أقول إن تمر العجوة أكثر نفعاً وتأثيراً وبركة إلا أن هذا لا يمنع التأثير في غيره .
والله المسئول أن ينصر دينه ويعلى كلمته وأن يبعث لدينه ناصراً يأخذ على أيدي السحرة والكهان والمنجمين وغيرهم من المفسدين في الأرض وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
بقلم فضيلة الشيخ
سليمان بن ناصر العلوان - حفظه الله تعالى
كتب في 21 \ 1 \ 1417 هـ - آخر مراجعة في 9\1\1421هـ(/2)
احفظ الله يحفظ .. "1"
د. محمد بن عبد العزيز العلي
دراسة عقدية في حديث احفظ الله يحفظك
عن أبي العباس عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما– قال: كنت خلفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا فقال: (يا غلامُ إني أُعَلِّمُك كلمات: احفظِ الله يحفظك، احفظِ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف) [3].
وفي رواية: (احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك،واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرً).
وفي رواية: (يا فتى ألا أهب لك ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنه قد جف القلم بما هو كائن، واعلم بأن الخلائق لو أرادوك بشيء لم يردك الله به لم يقدروا عليه، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرً) [4].
مكانة الحديث:
حديث ابن عباس هذا حديث عظيم، وكل أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عظيمة وشريفة، فهو أمر نبوي كريم بحفظ الدين، وبيان لنتيجة ذلك، وهو نصر الله وتأييده وحفظه لمن حفظ دينه، وقد اشتمل هذا الحديث على مسائل عقدية تعد أصولًا عظيمة ، من الإيمان بالله والإخلاص له بالعبادة والتوكل عليه والاستعانة به ، والقضاء والقدر ، والاتباع لما جاء به رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ومما يدل على مكانته اختيار النووي (ت 676ه) له أن يكون ضمن الأربعين حديثًا التي جمعها، وكان رقمه التاسع عشر، وذكر سبب اختياره لها بقوله: «وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثًا …، ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب، وكلها مقاصد صالحة، رضي الله عن قاصديها، وقد رأيت جمع أربعين أهم من هذا كله، وهي أربعون حديثًا مشتملة على جميع ذلك، وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين، قد وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه، أو هو نصف الإسلام، أو ثلثه، أو نحو ذلك… ، وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات، وذلك ظاهر لمن تدبره» [5].
كما اختاره النووي أيضًا ليكون ضمن كتابه القيم (رياض الصالحين)، ووضعه في الباب الخامس، باب المراقبة، من الكتاب الأول، فكان رقمه الثاني والستين من جملة الأحاديث التي بلغت 1896 حديثًا، وقد قال في مقدمتها: «فرأيت أن أجمع مختصرًا من الأحاديث الصحيحة، مشتملًا على ما يكون طريقًا لصاحبه إلى الآخرة، ومحصلًا لآدابه الباطنة والظاهرة، جامعًا للترغيب والترهيب، وسائر أنواع آداب السالكين، من أحاديث الزهد، ورياضات النفوس، وتهذيب الأخلاق، وطهارات القلوب وعلاجها، وصيانة الجوارح، وإزالة اعوجاجها،وغير ذلك من مقاصد العارفين» [6].
وقد وجد هذان الكتابان قبولاً عظيمًا عند العلماء، وطلبة العلم بعد النووي، إذ كثر انتشارهما، واعتني بهما بالشرح والتعليق.
وقد اعتنى العلماء بهذا الحديث خاصة، وشرحوه، وبينوا منزلته، ومن ذلك ما ذكره ابن رجب الحنبلي (ت 795ه) حيث قال: « هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة،وقواعد كلية من أهم أمور الدين، وأجلِّها، حتى قال الإمام أبو الفرج في كتابه (صيد الخاطر): تدبرت هذا الحديث، فأدهشني، وكدت أطيش، فوا أسفي من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه» [7].
وقال ابن حجر الهيتمي (ت 974ه): بأن هذا الحديث اشتمل على «هذه الوصايا الخطيرة القدر، الجامعة من الأحكام والحكم والمعارف ما يفوق الحصر» [8].
وقال ابن عثيمين: «فهذا الحديث الذي أوصى به عبد الله بن عباس ينبغي للإنسان أن يكون على ذكر له دائمًا، وأن يعتمد على هذه الوصايا النافعة، التي أوصى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما» [9].
شرح الحديث إجمالاً:
قوله: (كنت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-) أي راكبًا معه، ورديفه.
قوله: (فقال: يا غلام…) قال له: (يا غلام)؛ لأن ابن عباس -رضي الله عنهما- كان صغيرًا، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- توفي وعمر ابن عباس ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة سنة [10].
قوله: (إني أعلمك كلمات) ذكر له ذلك قبل ذكر الكلمات، ليكون ذلك أوقع في نفسه، وجاء بها بصيغة القلّة؛ ليؤذنه أنها قليلة اللفظ؛ فيسهل حفظه [11].
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (احفظ الله) أي احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره ونواهيه.(/1)
وحفظ ذلك يكون بالوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله.
وأعظم ما يجب حفظه التوحيد، وسلامة العقيدة، فهي الأصل والأساس لبقية أركان الإيمان والإسلام، التي يجب حفظها، بالإيمان بها قولًا وعملًا واعتقادًا، إخلاصًا لله تعالى، واتباعًا لما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال ابن دقيق العيد ( ت 702ه) في معنى (احفظ الله): « ومعناه كن مطيعًا لربك، مؤتمرًا بأوامره، منتهيًا عن نواهيه» [12].
وكذلك من حفظ الله أن يتعلم المسلم من دينه ما يقوّم به عباداته ومعاملاته، ويدعو به إلى الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقوله: (يحفظك) يعني أن من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه حفظه الله، في الدنيا من الآفات والمكروهات، وفي الآخرة من أنواع العقوبات، جزاء وفاقًا. فكلما حفظ الإنسان دين الله حفظه الله.
وحفظ الله لعبده الحافظ لدينه، يكون في أمرين:
الأول: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرّمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفّاه على الإيمان.
هذا هو الأمر الأول، وهو أعظمهما وأشرفهما، وهو أن يحفظ الله عبده من الزيغ والضلال؛ لأن الإنسان كلما اهتدى زاده الله هدى، وكلما ضل ازداد ضلالًا.
الثاني: حفظ الله للعبد في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتّعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله [13].
إذن من حفظ حدود الله حفظه الله في دينه، وفي بدنه وولده وأهله وماله.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (احفظ الله تجده تجاهك) أي احفظ الله أيضًا، بحفظ حدوده وحقوقه، وشريعته بالقيام بأمره واجتناب نهيه.
(تجده تجاهك)، وفي رواية: (أمامك)، ومعناهما واحد، أي من حفظ حدود الله وجد الله تجاهه وأمامه، في كل أحواله حيث توجه، يحوطه وينصره ويوفقه ويسدده، كما قال تعالى: ?إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونٌَ? [14].
نعم من حفظ الله وجد الله أمامه يدله على كل خير، ويذود عنه كل شر، ولا سيما إذا حفظ الله بالاستعانة به؛ فإن الإنسان إذا استعان بالله، وتوكل على الله كان الله حسبه وكافيه، ومن كان الله حسبه؛ فإنه لا يحتاج إلى أحد بعد الله، فلن يناله سوء. [15]
يقول ابن دقيق العيد في شرح هذه العبارة: « أي اعمل له بالطاعة، ولا يراك في مخالفته؛ فإنك تجده تجاهك في الشدائد» [16].
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا سألت فاسأل الله) سؤال الله تعالى هو دعاؤه والرغبة إليه، فدل هذا التوجيه النبوي الكريم على أن يسأل الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يسأل غيره، فسؤال الله -صلى الله عليه وسلم- دون خلقه هو المتعين؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضرر، وجلب المنافع، ودفع المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده.
والله سبحانه يحب أن يُسأل، ويُلَحّ في سؤاله، والمخلوق بخلاف ذلك، يكره أن يُسأل، ويحب أن لا يسأل؛ لعجزه وفقره وحاجت [17].
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وإذا استعنت فاستعن بالله) دل هذا الحديث على أن يستعان بالله دون غيره، وأن لا يعتمد على مخلوق، فالاستعانة هي طلب العون، ولا يطلب العون من أي إنسان « إلا للضرورة القصوى، ومع ذلك إذا اضطررت إلى الاستعانة بالمخلوق فاجعل ذلك وسيلة وسببًا، لا ركنًا تعتمد عليه …» [18].
يقول ابن رجب: « وأما الاستعانة بالله -صلى الله عليه وسلم- دون غيره من الخلق؛ فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا لله -صلى الله عليه وسلم-، فمن أعانه الله فهو المعان…، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات» [19].
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك). المراد أن كل ما يصيب الإنسان في دنياه، مما يضره أو ينفعه، فهو مقدر عليه، فلا يصيب الإنسان إلا ما كتب له من ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعًا.
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يخبر في هذا الحديث أن الأمة لو اجتمعت كلها على نفع أحد لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإذا وقع منهم نفع له فهو من الله تعالى؛ لأنه هو الذي كتبه، وكذلك لو اجتمعوا على أن يضروا أحدًا بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه [20].
ولهذا جاء في الحديث: (إنَّ لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه) [21].(/2)
قوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف) هذا إخبار من الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن تقدّم كتابة المقادير، وأن ما كتبه الله فقد انتهى ورفع، والصحف جفّت من المداد، ولم يبق مراجعة، فما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك [22].
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرً) يعني أن ما أصاب العبد من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه، إذا صبر عليها نصره الله، وجعل في صبره خيرًا كثيرًا.
يقول صاحب شرح رياض الصالحين في شرح هذا الحديث: « يعني اعلم علم اليقين أن النصر مع الصبر، فإذا صبرت، وفعلت ما أمرك الله به من وسائل النصر ؛ فإن الله تعالى ينصرك .
والصبر هنا يشمل الصبر على طاعة الله ، وعن معصيته ، وعلى أقداره المؤلمة» [23].
قوله: (وأن الفرج مع الكرب) أي كلما اشتدت الأمور واكتربت وضاقت؛ فإن الفرج من الله قريب ، يقول ابن حجر الهيتمي: « … (وأن الفرج) يحصل سريعًا (مع الكرب) فلا دوام للكرب ، وحينئذ فيحسن لمن نزل به أن يكون صابرًا، محتسبًا، راجيًا سرعة الفرج مما نزل به، حسن الظن بمولاه في جميع أموره، فالله -صلى الله عليه وسلم- أرحم به من كل راحم، حتى أمه وأبيه، فهو -صلى الله عليه وسلم- أرحم الراحمين» [24].
وقوله: (وأنَّ مع العسر يسرً) أي أن كل عسر فإن بعده يسرًا، بل إن العسر محفوف بيُسرَيْن، يُسر سابق، ويُسر لاحق، لقوله تعالى: ?فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًاٌ?فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [25]. فالعسر لا يدوم لمن احتسب وصبر، وعلم أن ما أصابه بمقدور الله تعالى، وأنه لا مفر له من ذلك، واستقام كما أمر ربه؛ إخلاصًا وحسن اتباع [26].
المبحث الأول
في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (يا غلام: إني أعلمك كلمات)
مما يؤخذ من هذا الجزء في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأمور التالية:
1- وجوب تعليم الناس العقيدة الصحيحة، وتربيتهم عليها، وعلى العلم النافع، ويكون ذلك بأسلوب مختصر، وكلم جامع واضح، فلو تأملت هذا الحديث لوجدته جامعًا لمسائل عقدية كثيرة بأسلوب موجز.
2- الحرص على تربية الناشئة على العلم النافع، ويبدأ بتربيتهم على العقيدة الصافية الخالصة؛ فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجه هذه الكلمات النافعات إلى ابن عباس وهو صغير؛ إذ قال له: (يا غلام: إني أعلمك كلمات)؛ ليتربى الشاب المسلم على معرفة الله وتوحيده، وحفظ حدوده، يلجأ إلى الله في الرخاء والشدة، ويسأله ويستعين به، ويتوكل عليه -صلى الله عليه وسلم-، فيصبح شجاعًا مقدامًا؛ لأنه يعلم أنه لا يملك أحد من البشر له نفعًا ولا ضرًا إلا بإذن الله تعالى، ولأن الله معه ينصره ويؤيده وييسر له أموره، ما دام متمسكًا بشرع الله إخلاصًا واتباعًا.
فعلى الجميع الحرص على غرس الإيمان في نفوس الأبناء، وتربيتهم على فهم أصول الإيمان، والعمل بأحكام الإسلام، وتعويدهم على المراقبة والمحاسبة منذ الصغر، قبل أن تصلهم الفلسفات الإلحادية والشبهات البدعية والشهوات المغرضة، وغير ذلك مما تشنه تلك الحملات المسعورة من حرب ضروس ضد شباب الأمة ذكورًا وإناثًا، مرة باسم التثقيف، وباسم التسلية والترفيه مرات أخرى.
3- استحباب تشويق المتعلم، وتهيئته بلطف العبارة، وتنبيهه إلى أهمية ما يلقى إليه، وإشعاره بسهولة حفظه ووعيه ليسهل عليه تلقيه واستيعابه، وبالتالي حفظه ووعيه، وبخاصة المسائل العقدية التي يحتاج إلى دقة في حفظها ونقلها، ويؤخذ هذا من فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما قال لابن عباس مقدمًا له هذه المسائل: (يا غلام: إني أعلمك كلمات).
4- ومما يؤخذ من هذا الحديث حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على توجيه الأمة، وتنشئة الجيل المسلم على العقيدة الصحيحة والشرع القويم، وقد قال الله تعالى في وصفه -صلى الله عليه وسلم-: ?لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌٌ? [27]، أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته، ويشق عليها، حريص على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم [28]، ولهذا ورد عن أبي ذر -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: تركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علمًا، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّن لكم) [29].
المبحث الثاني
في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (احفظ الله)
وممَّا يؤخذ في هذا الجزء ما يلي:(/3)
1- إثبات صفة الحفظ لله تعالى، أخذًا من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (احفظ الله يحفظك)، فهنا أثبت أن الله -صلى الله عليه وسلم- متصف بأنه يحفظ عباده الذين يحفظون حدوده، فدل على إثبات صفة الحفظ لله تعالى، وأنها تتعلق بإرادته ومشيئته، وهذه الصفة ثابتة لله -عزَّ وجل- في القرآن الكريم ، لقوله تعالى: ?فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينٌ? [30]، وقوله سبحانه: ?إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ? [31].
وقد ذكر العلماء أنَّ من أسماء الله تعالى (الحافظ) و(الحفيظ)؛ أخذًا من الآيتين السابقتين، ومن المعلوم أنَّ باب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة، وأسماء الله تعالى إن دلت على وصف فقد تضمنت ثلاثة أمور:
أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله -عزَّ وجل-.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله -عزَّ وجل-.
الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاه [32].
مثال ذلك: (الحافظ) يتضمن إثبات (الحافظ) اسمًا لله تعالى، وإثبات الحفظ صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه سبحانه يحفظ عباده، الذين يحفظونه.
ومن الأدلة أيضًا على تسمية الله بالحفيظ قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٌٍ? [33]، وقوله: ?وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ? [34].
يقول صالح البليهي (ت 1410ه): « الحفيظ من أسماء الله الحسنى، واشتقاقه من الحفظ، والحفظ لغة هو الحراسة والصيانة والحياطة، والله جل وعلا سمى نفسه حفيظًا … فالله تقدّس اسمه هو الحافظ والحفيظ، هو تعالى على كل شيء حفيظ، أي شاهد وحافظ، يحفظ على عباده أقوالهم وأفعالهم، فيجازي كلًا بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر …، والله تعالى من فضله ولطفه ورحمته وإحسانه يحفظ عباده المؤمنين، وهو خير الحافظين، يحفظهم من كل شر، ومن كل محنة وبلاء، يحفظهم تعالى ?وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ? يحفظهم بشرط أن يحافظوا على ما أوجب الله عليهم في شريعة الإسلام، وبشرط أن يحفظوا جوارحهم عن كل ما حرم الله…، ودعاء الله بأسمائه مشروع، وكيفيته يا غفور اغفر لي، يا رحمن ارحمني، يا رزاق ارزقني، يا معافي عافني، ونحو ذلك، فالله تعالى هو الحافظ والحفيظ … اللهم يا حافظ ويا حفيظ احفظنا وأنت خير الحافظين» [35].
2 - وجوب حفظ العقيدة، والحرص على سلامتها مما قد يشوبها، وأن ذلك أعظم أسباب حفظ الله للعبد، كما يجب حفظ الشريعة، وذلك بالعمل بها، والدعوة إليها، والدفاع عنها.
فإذا كان قوله -صلى الله عليه وسلم-: (احفظ الله) يعني حفظ حدوده، وحقوقه ، وأوامره ونواهيه، فإن أعظم حقوقه توحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، واتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، المصدرين لتلقي العقيدة، والحذر من الانزلاق مع الهوى، أو تقديم العقل على النص الشرعي مما أوقع كثيرًا من الفرق والنحل في الشرك والبدع والمخالفات.
وحفظ العقيدة يكون بتعلمها والإيمان بها والعمل بمقتضاها،وتعليمها والدعوة إليها.
فقوله: (احفظ الله) أمر بحفظ توحيده، وأوامره ونواهيه، وحقوقه وحدوده، كما أنه أمر بحفظ الجوارح كالسمع والبصر واللسان والبطن والفرج.
ولهذا يقول الله تعالى: ?وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٌٍ? [36] يقال للمتقين على وجه التهنئة: ?هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أواب حفيظٌ? أي هذه الجنة وما فيها، هي التي وعد الله لكل أواب ، أي رجاع إلى الله ، في جميع الأوقات ، بتوحيده وذكره ، وحبه ، والاستعانة به، (حفيظ) أي محافظ على ما أمر الله به، من توحيده وشرعه ، على وجه الإخلاص، والإكمال له على أتم الوجوه، حفيظ لحدوده [37].
وخصت بعض الأعمال بالتنصيص على حفظها اعتناء بشأنها، ومن ذلك قوله تعالى: ?حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَىٌ? [38]. وقوله تعالى: ?قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمٌْ? [39]، وقوله: ?وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًٌ? [40]، وقوله: ?وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونٌ? [41]، وقوله: ?وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمٌْ? [42]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من حفظ ما بين لحييه ورجليه دخل الجنة) [43]، وفي رواية: (من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة ) [44]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ( ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) [45].(/4)
إذن من فعل الواجبات وترك المحرمات فقد حفظ حدود الله تعالى، ومن ثم فقد حفظ الله، وأعظم ما أوجبه الله على عباده، توحيده، وعبادته سبحانه إخلاصًا له ، ومتابعة لما جاء به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فهي الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، قال تعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونٌ? [46].
فمن آمن بذلك وعمل به فهو من الحافظين لحدود الله تعالى، الذين أثنى الله عليهم سبحانه بقوله: ?الْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينٌَ? [47]، وقوله سبحانه: ?هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٌٍ? [48].
ومن الأدلة على حفظ الجوارح ما جاء في حديث ابن مسعود المرفوع: (الاستحياء من الله حق الحياء: أن يحفظ الرأس وما وعى، ويحفظ البطن وما حوى ) [49].
وحفظ الرأس وما وعى: يدخل فيه حفظ اللسان من الكذب والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والقول الحرام، وحفظ السمع عن الأصوات المحرمة، وحفظ البصر عن النظر إلى ما حرم الله تعالى النظر إليه، ونحو ذلك.
وحفظ البطن وما حوى: يدخل فيه حفظ القلب عن الاعتقاد الباطل، والإصرار على المحرم، وحفظ البطن من إدخال ما حرم الله من المأكولات والمشروبات الممنوعة شرعً [50].
قال تعالى: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًٌ? [51]؛ أي: ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبّت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك، فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسؤول عما قاله وفعله، وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته أن يُعدّ للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله تعالى، وإخلاص الدين له، وكفها عما يكرهه الله جل وعل [52].
«وكما هو معروف الجزاء من جنس العمل فمن حفظ الله حفظه الله، وحفظ الله لا يحصل إلا بفعل الواجبات وترك المحرمات، فمن فعل جميع ما أوجب الله عليه، وترك جميع ما حرم الله عليه حفظه الله بما يحفظ به عباده الصالحين، ومن المعروف أن هذه الحياة في غالب الأزمان تموج بالشرور والفتن، والحروب الطاحنة، ولكن من حفظ الله حفظه الله» [53] .
ومما يلزم التنبيه عليه أن « الله عزوجل ليس بحاجة إلى أحد حتى يحفظه، ولكن المراد حفظ دينه وشرعه، كما قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمٌ? [54]، وليس المعنى تنصرون ذات الله؛ لأن الله I غني عن كل أحد، ولهذا قال في آية أخرى: ?ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمٌ? [55]، ولا يعجزونه ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضٌ? [56]» [57].
وهذا الفهم الخاطئ قد يفهمه الجهلة أو يثيره الأعداء، فإن اليهود عندما سمعوا قول الله تعالى: ?مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةٌ? [58]، قالوا: يا محمد: افتقر ربك فسأل عباده القرض، ما بنا إلى الله من حاجة، وإنه إلينا لفقير، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيًا ما استقرض منا – كما نُقل ذلك عنهم [59] – فأنزل الله -عزَّ وجل- قوله: ?لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُوٌ? [60].
المبحث الثالث
في قوله -صلى الله عليه وسلم- (يحفظك)
إذا حفظ العبد توحيده، وراعى حقوق ربه، فعندئذ يحفظه الله؛ في دينه، وفي بدنه وماله وأهله.
وأعظم هذه الأمور حفظ الله تعالى دين العبد، بأن يسلّمه من الزيغ والضلال، والانحراف، لأن الإنسان كلما حرص على حفظ توحيده، وسلامة عقيدته من البدع والخرافات والضلالات، حفظ الله عليه عقيدته وتوحيده، وكلما التزم الهداية زاده الله هدى، قال تعالى: ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمٌ? [61]، وكلما ضل الإنسان، والعياذ بالله، فإنه يزداد ضلالًا، ولهذا قال الله تعالى عن المنافقين: ?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمٌْ? [62]، أي: ختم على قلوبهم، وسد أبواب الخير التي تصل إليه بسبب اتباعهم أهواءهم، التي لا يهوون فيها إلا الباطل [63].
ولهذا جاء في الحديث: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء؛ فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: ?كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونٌَ?) [64].(/5)
يحفظ الله -عزَّ وجل- عبده الحافظ لدينه في حياته، وعند موته، فيتوفاه على الإيمان، إذ الجزاء من جنس العمل، ومنه قوله تعالى: ?وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمٌْ? [65]، وقوله تعالى: ?فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمٌْ? [66]، وقوله: ?إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمٌ? [67]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا قام أحدكم عن فراشه ثم رجع إليه فلينفضه بصَنِفة إزاره ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري ما خلفه عليه بعده، وإذا اضطجع فليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) [68].
فمن حفظ الله في حياته، بإخلاص العبادة له سبحانه، وحسن الاتباع لرسوله -صلى الله عليه وسلم- حفظه الله بالإسلام ونصره وأيده؛ وقد علّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر بن الخطاب t أن يقول: (اللهم احفظني بالإسلام قائمًا، واحفظني بالإسلام قاعدًا، واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تشمت بي عدوًا ولا حاسدًا، اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك ) [69].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من أراد أن يسافر فليقل لمن يخلِّف: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه) [70].
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول للرجل إذا أراد سفرًا: ادنُ منِّي أودعك كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يودّعنا، فيقول: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك) [71].
وجاء في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ( إن الله إذا اسْتُودع شيئًا حفظه) [72].
فالله -عزَّ وجل- يحفظ العبد الحافظ لدينه، المخلص في عبادته، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه من مفسدات الشبهات والشهوات، من البدع والخرافات، وأنواع المغريات، فيحفظه الله منها بأنواع الحفظ، قد يخفى بعضها عليه؛ إذ يكون في ظاهرها بلاء، وفي حقيقتها صرف السوء عنه، كما قال تعالى في قصة يوسف -عزَّ وجل-: ?كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينٌ? [73].
يقول السعدي (ت 1376ه) في حديثه عن قصة يوسف -عزَّ وجل-: «فصبر عن معصية الله مع وجود الداعي القوي فيه، لأنه قد هم فيها همًا تركه لله، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، ورأى برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف عن هذه المعصية الكبيرة، (قال معاذ الله) أي: أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح؛ لأنه مما يسخط الله، ويبعد عنه …، والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله، ومراعاة سيده، الذي أكرمه، وصيانة نفسه عن الظلم، الذي لا يفلح من تعاطاه، وكذلك ما من الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه، يقتضي منه امتثال الأوامر، واجتناب الزواجر، والجامع لذلك كله: أن الله صرف عنه السوء والفحشاء؛ لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم، الذين أخلصهم الله، واختارهم واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم المكاره، ما كانوا به من خيار خلقه» [74].
وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونٌَ? [75].
روي عن ابن عباس أنه قال: « يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان» [76].
فمن حافظ على سلامة توحيده من الشبهات والانحرافات، وقام بحقوق الله عليه؛ فإن الله يحفظه بحفظ جميع مصالحه في الدنيا والآخرة، فمن أراد أن يتولى الله حفظه في أموره كلها فليراعِ حقوق الله عليه، وأعظمها حق توحيده، وإفراده بالعبادة، والعمل بشريعته، اتباعًا لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد أخبر الله تعالى بأنه ولي المؤمنين وكافيهم وحسبهم، قال تعالى: ?اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرٌ? [77]، وقال تعالى: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمٌْ? [78]، وقال سبحانه: ?وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهٌ? [79]، وقال: ?أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهٌُ? [80].
فالحافظ لدينه يحفظه الله في دينه ودنياه، ويحييه حياة طيبة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ?لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهٌِ? [81] روى الطبري (ت 310ه) عن ابن عباس قوله بأن المعقبات « هم ملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه» [82].
وروى الطبري أيضًا، عن مجاهد ( ت 104ه) قوله: « ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما من شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءك، إلا شيئًا يأذن الله فيه فيصيبه» [83] .(/6)
وقال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: (اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي ، ومن فوقي ، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) [84].
ويقول الله -عزَّ وجل-: ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونٌَ? [85]، فهذه الآية « وعد من الله تعالى لمن عمل صالحًا، وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، من ذكر أو أنثى، من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، أن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه الله بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت» [86]، وذلك بأن يوفق الله عبده إلى ما يرضيه، ويرزقه العافية والرزق الحلال [87].
فلو أن الأمة رعاة ورعية حفظوا شرع الله تعالى، واحتكموا إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وحكموهما في جميع مجالات الحياة، لسلمت الأمة من كثير من الأخطار والفتن والابتلاءات كالجوع والخوف والغزو ونحو لك؛ إذ إن ما أصابها من تشتت وفرقة هو بسبب تهاونها في حفظ حدود الله تعالى والقيام بشرعه.
وإنَّ انتصار الأمة مرهون بنصرها دين الله تعالى، بالعمل به والدعوة إليه، والدفاع عنه، يقول تعالى: ?وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌٌ? [88] ففي هذه الآية الكريمة يبين الله تعالى «أنه أقسم لينصرن من ينصره، ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ونصرة رسله واتباعهم، ونصرة دينه، وجهاد أعدائه، وقهرهم، حتى تكون كلمته هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى، ثم إن الله جل وعلا بيّن صفات الذين وعدهم بنصره؛ ليميزهم عن غيرهم، فقال مبينًا من أقسم أنه ينصره ؛ لأنه ينصر الله جل وعلا: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرٌ? [89] الآية، وفي قوله: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضٌِ? دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر إلا مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر، فالذين يمكن الله لهم في الأرض، ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فليس لهم وعد من الله بالنصر؛ لأنهم ليسوا من حزبه، ولا من أوليائه، الذين وعدهم بالنصر، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه ، فلو طلبوا النصر من الله بناء على أنه وعدهم إياه فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه، ثم يطلب الأجرة، ومن هذا شأنه فلا عقل له» [90].
وخلاف ذلك، من كفر بأنعم الله تعالى وضيّع حدوده، فقد عرّض نفسه للهلاك، يقول تعالى: ?وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونٌَ? [91]. قال الشنقيطي (ت 1393ه) بعد تفسيره هذه الآية: « وعلى كل حال، فيجب على كل عاقل أن يعتبر بهذا المثل، وألا يقابل نعم الله بالكفر والطغيان؛ لئلا يحل به ما حل بهذه القرية المذكورة، ولكن الأمثال لا يعقلها عن الله إلا من أعطاه الله علمًا؛ لقوله -عزَّ وجل-: ?وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونٌ? [92]» [93].
« ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه لله في حال كبره، وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله» [94].
ذكر ابن كثير (ت 774ه) أنَّ أبا الطيب طاهر بن عبد الله الطبري الشافعي (ت 450ه)، قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله، فوثب يومًا وثبة شديدة، فعوتب في ذلك فقال: « هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر» [95].
وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخًا يسأل الناس، فقال بأن هذا الشيخ لم يحفظ الله في صغره، فلم يحفظه الله في كبره [96](/7)
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته، في ذريته، بدليل قوله تعالى: ?وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكٌ? [97].
قال ابن كثير: « وقوله: ?وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًٌ? فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا، والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم» [98].
وروي عن ابن عباس أنه قال: « حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحًا» [99].
وقال السعدي في تفسير الآية السابقة: « أي: حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما؛ لكونهما صغيرين عدما أباهما، وحفظهما الله أيضًا بصلاح والدهما» [100].
وذكر ابن رجب أنَّ سعيد بن المسيب قال لابنه: « لأزيدن في صلاتي من أجلك ؛ رجاء أن أُحفظ فيك» [101] ثم تلا هذه الآية ?وكان أبوهما صالحًٌ?.
ونقل عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: « ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه» [102].
وقال أبو نعيم (ت430ه) بأن ابن المنكدر (ت130ه) قال: « إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده، وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر» [103].
وجاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كانت امرأة في بيت فخرجت في سرية من المسلمين، وتركت ثنتي عشرة عنزًا، وصيصيته [104] كانت تنسج بها، قال: ففقدت عنزًا لها وصيصيتها، فقالت: يا رب ، إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه ، وإني قد فقدت عنزًا من غنمي وصيصيتي ، وإني أنشدك عنزي وصيصيتي) قال: وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر شدّة مناشدتها ربها تبارك وتعالى ، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فأصبحت عنزها ومثلها، وصيصيتها ومثله) [105].
ومن حفظ الله تعالى لعبده الحافظ لحدود الله أن يجعل الحيوانات المؤذية، حافظة له من الأذى، كما حدث لسفينة مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث كسر به المركب، وخرج إلى جزيرة، فرأى أسدًا، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق، فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه، ثم رجع عنه [106].
ومن ضيع حدود الله واتبع الشبهات أو غرق في الشهوات، ولم يحفظ الله، لم يحفظه الله، وكان عرضة لعقاب الله وسخطه، ودخل عليه الضرر والأذى، وربما أصابه ذلك ممن كان يرجو نفعه من أهله وماله، كما نقل عن الفضيل بن عياض (ت 187 ه) أنه قال: « إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي» [107].
ـــــــــــ
[1] جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد 1/ 408، و1/ 437. وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/472 ح 1483.
[2] سورة النحل، الآية 36.
[3] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب 59، ح 2516، والإمام أحمد 1/ 293، 303، وأخرجه الطبراني في الكبير ح 1298، وأبو نعيم في الحلية 1/ 314. وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير 2/ 1318 ح 7957.
[4] الروايتان في مسند الإمام أحمد 1/ 293، و1/ 303،307 وعند أبي يعلى 2/ 665، والحاكم في مستدركه 3/ 541، والطبراني في المعجم الكبير 3/ 121. وصححه الألباني: انظر كتاب السنة لابن أبي عاصم، تخريج الألباني 1/ 138،139، ورياض الصالحين بتحقيق الألباني ص 63، وسلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 496، 497 ح 2382.
[5] متن الأربعين النووية ص 11- 12.
[6] رياض الصالحين ص 28.
[7] جامع العلوم والحكم ص 462.
[8] فتح المبين لشرح الأربعين ص 172.
[9] شرح رياض الصالحين ص 456.
[10] انظر مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 10/ 53.
[11] انظر فتح المبين لشرح الأربعين ص 171.
[12] شرح الأربعين حديثًا النووية ص 55.
[13] انظر جامع العلوم والحكم ص 248، 249. وشرح رياض الصالحين 2/ 451.
[14] سورة النحل، الآية 128.
[15] انظر جامع العلوم والحكم ص251، وشرح رياض الصالحين 2/ 451، 452.
[16] شرح الأربعين حديثًا النووية ص 55.
[17] انظر جامع العلوم والحكم ص 256، 257.
[18] انظر شرح رياض الصالحين 2/ 425، 453.
[19] جامع العلوم والحكم ص 257.
[20] انظر جامع العلوم والحكم ص 258، وشرح رياض الصالحين 2/ 454.
[21] رواه الإمام أحمد في مسنده 6/ 441، وابن أبي عاصم في السنة ح 246. وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير ح 2150.
[22] انظر شرح رياض الصالحين 2/ 455.
[23] المصدر السابق 2/ 455.
[24] فتح المبين لشرح الأربعين ص 177.
[25] سورة الشرح، الآيتان 5،6.
[26] انظر قواعد وفوائد من الأربعين النووية ص 178.
[27] سورة التوبة، الآية 128.
[28] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 385.
[29] رواه أحمد 5/ 153، و162، والبزار ح 147، والطيراني في المعجم الكبير ح 1647، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/ 416 ح 1803.
[30] سورة يوسف، الآية 64.
[31] سورة هود، الآية 57.(/8)
[32] انظر القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى ص 10، 15، 21.
[33] سورة الشورى، الآية 6.
[34] سورة سبأ، الآية 21.
[35] عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين 2/ 37 – 41.
[36] سورة ق ، الآيات 31- 33.
[37] انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، ص 1364.
[38] سورة البقرة، الآية 238.
[39] سورة النور، الآية 30.
[40] سورة الأحزاب، الآية 35.
[41] سورة (المؤمنون)، الآية 5.
[42] سورة المائدة، الآية 89.
[43] رواه الحاكم في المستدرك 4/ 357، وصححه، ورواه الترمذي وحسنه ح 2409، وصححه ابن حبان ح 5703، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/ 23.
[44] رواه الترمذي 2/ 66، وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/ 22 ح 510.
[45] رواه أحمد في المسند 5/ 282، والدارمي 1/ 168، وصححه ابن حبان ح 1037، وصححه الألباني، انظر صحيح الترغيب والترهيب ح 192، 1/ 86.
[46] سورة الذاريات، الآية 56.
[47] سورة التوبة، الآية 112.
[48] سورة ق~، الآية 32.
[49] رواه أحمد في المسند 1/ 387، والترمذي ح 2458 في كتاب صفة القيامة باب (24)، والحاكم 4/ 323، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي ح 2000.
[50] انظر: نور الاقتباس ص 10.
[51] سورة الإسراء، الآية 36.
[52] انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 409.
[53] عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين 2/ 38.
[54] سورة محمد، الآية 7.
[55] سورة محمد، الآية 4.
[56] سورة فاطر، الآية 44.
[57] انظر شرح رياض الصالحين 2/ 450، 451.
[58] سورة البقرة، الآية 245.
[59] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 410، وأسباب النزول ص 98، 99.
[60] سورة آل عمران، الآية 181.
[61] سورة محمد، الآية 17.
[62] سورة محمد، الآية 16.
[63] انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 731.
[64] رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ح 3334 في كتاب التفسير، وابن ماجه، كتاب الزهد ح 4244، وأحمد في مسنده 2/ 297.
[65] سورة البقرة، الآية 40.
[66] سورة البقرة، الآية 152.
[67] سورة محمد، الآية 7.
[68] رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب السؤال بأسماء الله تعالى 11/ 107، ورواه مسلم، كتاب الذكر، باب ما يقول عند النوم ح 2714.
[69] رواه الحاكم في المستدرك 1/ 525، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ح 1540.
[70] رواه أحمد 2/ 403، وابن ماجه ح 2825 في كتاب الجهاد، باب تشييع الغزاة ووداعهم، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، ح 16.
(71) رواه الترمذي ، كتاب الدعوات ، باب 45 ، ح 3439 ، وأحمد 2/7 و 25 و 38 ، وصححه ابن حبان ، ح 2376 ، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، ح 14 .
[72] رواه أحمد في المسند 2/87 ، وابن حبان 3376 ، وصححه الألباني ، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/21.
[73] سورة يوسف، الآية 24.
[74] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 351، 352.
[75] سورة الأنفال، الآية 24.
[76] ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 285، وقال: رواه الحاكم في مستدركه موقوفًا. وانظر المستدرك 2/ 328.
[77] سورة البقرة، الآية 257.
[78] سورة محمد، الآية 11.
[79] سورة الطلاق، الآية 3.
[80] سورة الزمر، الآية 36.
[81] سورة الرعد، الآية 11.
[82] انظر جامع البيان في تفسير القرآن 13/ 77.
[83] انظر المصدر السابق ص 78.
[84] رواه أبو داود، في الأدب ح 5074، وابن ماجه، في الدعاء ح 3871، والحاكم في مستدركه 1/ 517، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 2/ 332.
[85] سورة النحل، الآية 97.
[86] تفسير القرآن العظيم 2/ 566.
[87] انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 3/ 352- 355.
[88] سورة الحج، الآية 40.
[89] سورة الحج، الآية 41.
[90] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 5/ 703، 704.
[91] سورة النحل ، الآيتان 112 ، 113 .
[92] سورة العنكبوت، الآية 43.
[93] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 3/377.
[94] انظر جامع العلوم والحكم ، ص 466 .
[95] انظر البداية والنهاية 12/85 ، وسير أعلام النبلاء 17/668 – 671 ، وجامع العلوم والحكم ، ص 466.
[96] انظر جامع العلوم والحكم ، ص 466.
[97] سورة الكهف، الآية 82.
[98] تفسير القرآن العظيم 3/ 97.
[99] انظر المصدر السابق، وذكر هذا الأثر ابن المبارك في الزهد (332)، والطبري في جامع البيان في تفسير القرآن 16/ 7، والحاكم 2/ 369
[100] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 432.
[101] جامع العلوم والحكم ، ص 467.
[102] المصدر السابق ، الصفحة نفسها .
[103] الحلية 3/ 148، ورواه ابن المبارك في الزهد (330)، والحميدي (373)، وانظر جامع العلوم والحكم.
[104] الصيصية: هي الصنّارة التي يغزل بها وينسج. انظر لسان العرب 2/ 501، والنهاية في غريب الحديث والأثر ص533.(/9)
[105] رواه الإمام أحمد في المسند 5/ 67، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 277 وقال: رجاله رجال الصحيح.
[106] رواه الطبراني في الكبير (6432)، وصححه الحاكم 3/ 606، وانظر الحلية 1/ 369.
[107] حلية الأولياء 8/ 109، وجامع العلوم والحكم ص 468.(/10)
احفظ الله يحفظك[1]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فمعنا اليوم حديث جليل يربي المسلم منذ صغره على الإيمان بالله تعالى والاعتماد عليه, وهو ما أخرجه أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: ياغلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك , احفظ الله تجده تجاهك , إذا سألت فاسأل الله , وإذا استعنت فاستعن بالله , واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك , ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك , رُفعت الأقلام وجفت الصحف .
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ([1]) .
وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل وزاد فيه " تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" وزاد أيضا " واعلم أن في الصبر على ماتكره خيرا كثيرا , وأن النصر مع الصبر , وأن الفرج مع الكرب, وأن مع العسر يسرا " ([2]) .
وقوله " احفظ الله يحفظك" أي احفظ الله تعالى في دينه يحفظك في دنياك وأخراك, وحفظ الدين يكون بفهمه كما جاء من عند الله تعالى وتطبيقه على النفس تطبيقا كاملا .
ومما جاء في حفظ الله تعالى عباده المؤمنين ما أخرجه الحافظ الطبراني من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل إن من عبادي من لايُصلِح إيمانه إلا الفقر ولو بسطْتُ عليه أفسده ذلك , وإن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك , وإن من عبادي من لايُصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك , وإن من عبادي من لايُصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك , وإن من عبادي من يطلب بابا من العبادة فأكفه عنه لكيلا يدخله العُجْب , إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم, إني عليم خبير" ذكره الحافظ ابن رجب ([3]) .
وفي هذا المعنى يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " إن العبد ليهمُّ بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له , فينظر الله إليه فيقول للملائكة : اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار فيصرفه الله عنه , فيظل يتطير بقوله سبني فلان وأهانني فلان , وماهو إلا فضل الله عز وجل" ذكره الحافظ ابن رجب ([4]) .
قال ابن رجب : وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته كما قيل في قوله تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً)[الآية :الكهف :82] أنهما حُفظا بصلاح أبيهما , قال سعيد بن المسيب لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك , ثم تلا هذه الآية , وقال ابن المنكدر : إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله , فما يزالون في حفظ من الله وستر .
قال : ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى, كما جرى لسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر خبره مختصرا ([5]) .
وقد ذكر خبره الحافظ الطبراني من خبر محمد بن المنكدر أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها فركبت لوحا من ألواحها فطرحني اللوح في أجَمة فيها الأسد فأقبل إليَّ يريدني فقلت : يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطأطأ رأسه وأقبل إليَّ فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووضعني على الطريق, وهَمْهم, فظننت أنه يودعني فكان ذلك آخر عهدي به .
وأخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي ([6]) .
وهذا يدل على قوة توحيد أبي عبد الرحمن سفينة رضي الله عنه حيث شعر حال رؤيته الأسد بأنه هو وأياه في قبضة الله تعالى , وأنه جل وعلا الذي أودع في الأسد القوة والشراسة باستطاعته أن يحوِّله حَمَلاً وديعا يتذلل لذلك الرجل الصالح , بل أبلغ من ذلك أن الأسد قام بما يقوم به الإنسان العاقل من دلالة سفينة على الطريق الموصل إلى الأمان .
ولقد كان أول ماتبادر إلى ذهن سفينة رضي الله عنه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قام به من خدمته فتوسل إلى الله تعالى بهذا العمل الصالح .
وسفينة قد اختلف في اسمه اختلافا كثيرا , وذلك لأنه ألغى اسمه القديم واكتفى بالاسم الذي سماه به رسول الله صلى الله عليه وسلم , كما ذكر ابن الأثير أنه كان إذا قيل له ما اسمك؟ يقول: ما أنا بمخبرك سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة فلا أريد غيره , وذكر أن أصل تسميته بذلك أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر , فكلما أعيا بعض القوم ألقى عليه سيفه وترسه ورمحه حتى حمل من ذلك شيئا كثيرا , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنت سفينة ([7]) .
وقوله " احفظ الله تجده تجاهك" أي احفظ الله تعالى في دينه تجده أمامك في كل أمر تُقْدم عليه في حياتك, والمقصود بذلك أن الله سبحانه يكون مع أوليائه المؤمنين بحفظه ونصره وتأييده .(/1)
ومما جاء في هذا المعنى قول الله عز وجل لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام:
( لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه :46] , وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء : 62] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وهما في الغار "ماظنك باثنين الله ثالثهما , لاتحزن إن الله معنا" .
وقال الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل : 128 ) ، قال قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى : من يتق الله يكن معه , ومن يكن معه فمعه الفئة التي لا تُغلب والحارس الذي لا ينام والهادي الذي لا يضل . ذكره ابن رجب وقال: كتب بعض السلف إلى أخ له: أما بعد فإن كان الله معك فمن تخاف , وإن كان عليك فمن ترجو ([8]) ؟
وقوله " إذا سألت فاسأل الله" السؤال نوعان : أحدهما في الأمور التي لايقدر عليها إلا الله تعالى , فلا يجوز سؤال غيره فيها لأن ذلك من الشرك الأكبر , مثل سؤال دخول الجنة والنجاة من النار والشفاء من الأمراض وطلب الرزق .
والثاني : في الأمور التي يقدر عليها البشر كطلب المساعدة في المال أو الجسم أو الشفاعة في أمر دنيوي فهذا جائز مع مراعاة الاعتقاد بأن البشر وسطاء تجري على أيديهم الأسباب التي مكَّنهم الله جل وعلا منها وأنه تعالى هو الخالق الرازق النافع الضار .
وقوله " وإذا استعنت فاستعن بالله" الاستعانة هي طلب المعونة من الغير في قضاء الحوائج وتفريج الكربات , وهي أيضا على قسمين :
الأول : طلب المعونة في الامور التي لايقدر عليها إلا الله تعالى , فهذا لا يطلب إلا من الله جل وعلا , وطلبه من غيره يُعدُّ من الشرك الأكبر .
والثاني : طلب المعونة في الأمور التي يقدر عليها البشر فهذا يجوز أن يطلب من البشر مع ملاحظة الاعتقاد بأن البشر وسطاء تجري على أيديهم الاسباب التي مكَّنهم الله تعالى منها, وأن المعين الحقيقي هو الله جل وعلا وحده
------------------------------
([1] ) سنن الترمذي , رقم 2516 , صفة القيامة (4/667) .
([2] ) مسند أحمد 1/307 .
([3] ) جامع العلوم والحكم /164 .
([4] ) جامع العلوم والحكم /163 .
([5] ) المرجع السابق /163 .
([6] ) معجم الطبراني الكبير 7/94 رقم 6432 , المستدرك 3/606 .
([7] ) أسد الغابة 2/334 .
([8] ) جامع العلوم والحكم /164 .(/2)
احمِ نفسك من جلطة القلب
20/08/2001
حسان شمسي باشا
لا تكاد تمر دقيقة واحدة، إلا ويصاب في أمريكا ثلاثة أشخاص بجلطة في القلب، وواحد من هؤلاء يلقى حتفه قبل أن يصل إلى المستشفى؛ لتناول العلاج .. وتودي جلطة القلب بحياة نصف مليون أمريكي سنويًّا، كما تودي بحياة 150 ألف إنجليزي في العام الواحد!! وللأسف الشديد، نجد تزايدًا مريعًا في حدوث هذا المرض في بلادنا العربية.
ما هي جلطة القلب Myocardial Infarction :؟
تنجم جلطة القلب (احتشاء العضلة القلبية) عن انسداد في أحد شرايين القلب التاجية، ويؤدي ذلك الانسداد إلى موت جزء من عضلة القلب كان يُروى بذلك الشريان، ويشكو المريض حينئذ من ألم شديد جدا في الصدر يصاحبه عرق وغثيان.
أما الذبحة الصدرية Pectoris Angina فهي ألم في منتصف الصدر يحدث عند الجهد، ويزول عادة بالتوقف عن الجهد، وتنجم عن ضيق (وليس انسداد) الشرايين التاجية.
ما هي العوامل المهيئة للإصابة بمرض شرايين القلب؟
تقسم عوامل الخطر التي تهيئ للإصابة بهذا المرض إلى عوامل لا يمكن التحكم فيها؛ كالعمر والجنس والوراثة.
وعوامل يمكن التحكم فيها والسيطرة عليها كالتدخين وارتفاع كولسترول الدم وارتفاع ضغط الدم ومرض السكر والسمنة، وعدم القيام بالرياضة البدنية والضغوط النفسية، وتكمن الوقاية من هذا المرض في التحكم في عوامل الخطر الأخيرة والسيطرة عليها أو تجنبها.
تعاليم الرسول تقي من جلطة القلب
ارتفاع كولسترول الدم والبدانة:
ينجم ارتفاع الكولسترول غالبا عند الإفراط في تناول الدهون الحيوانية؛ من لحوم وقشدة وزبدة وجبنة وسمن وغيرها، وقد يكون هناك استعداد عائلي لهذا الارتفاع.
وليس هناك أدنى شك في أنه كلما ارتفع كولسترول الدم زاد احتمال الإصابة بمرض شرايين القلب.
أما البدانة فتؤهل لحدوث مرض "السكر وارتفاع ضغط الدم"، كما أنها تؤهل لحدوث مرض شرايين القلب، وخصوصا عند الرجال في أواسط العمر، ونحن نعلم جيدًا أن البدانة تنجم غالبا عند الإفراط في الطعام وقلة الحركة، ويوصي خبراء التغذية الآن بتناول غذاء فقير بالدهون المشبعة والكولسترول، وبالمحافظة على الوزن المثالي للجسم.
فكيف تستطيع ذلك؟
لقد حث رسول الله على الاعتدال في الطعام، وتجنب التخمة؛ فعن ابن عمر (رضي الله عنه) قال: "تجشأ رجل عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: "كف عنا جشاءك؛ فإن أكثرهم شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة" رواه الترمذي وابن ماجة.
وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع؛ فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، وضعفت قلوبهم، وجمحت شهواتهم" رواه البخاري.
ولقد أوصانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ألا نأكل كل ما تشتهيه الأنفس؛ فقد روي عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "من الإسراف أن تأكل ما اشتهيت" رواه ابن ماجة.
وإذا كنا بحق نريد اجتناب السمنة وما فيها من مشاكل على القلب والرئتين والمرارة ومرض السكر؛ فما علينا إلا أن نتذكر، ونطبق قول رسول الله عند كل طعام : "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه؛ بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه؛ فإن كان لا محالة؛ فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" رواه الترمذي.
ولقد جمع الله تعالى علم الصحة والغذاء في آية من ثلاثة كلمات، قال تعالى : "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ".
وتوصي المنظمات الصحية الأمريكية بأن يشكل زيت الزيتون ما لا يقل عن ثلث الدهون المتناولة يوميا؛ فقد أثبتت الأبحاث العلمية الحديثة فائدة زيت الزيتون في خفض كولسترول الدم، كما أن الدراسات قد أظهرت أن بلدان حوض البحر المتوسط هي من أقل البلدان إصابة بمرض شرايين القلب بسبب كثرة تناول سكانها من زيت الزيتون.
هذا الزيت الذي أوصانا رسول الله (عليه السلام) بتناوله؛ حيث قال: "كلوا الزيت، وادَّهنوا به؛ فإنه من شجرة مباركة".
وهي الشجرة التي ذكرها الله تعالى في قرآنه؛ حيث يقول: "يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ".
ويوصي خبراء التغذية وأطباء القلب في العالم بتناول وجبتين من السمك في الأسبوع على الأقل، والرسول (عليه السلام) قد لفت النظر إلى نعمة السمك، فقال: "أول طعام أهل الجنة زيت كبد الحوت". والسمك والحوت سيان .. فزيت السمك الذي ينصح به الأطباء كعلاج لارتفاع الغليسريدات الثلاثية Triglyceries (وهي إحدى دهون الدم) يستخلص من كبد الحوت نفسه! وتناول السمك لا يفيد في الوقاية من مرض شرايين القلب وارتفاع دهون الدم فحسب؛ بل إن له فوائد أخرى في علاج صداع الشقيقة ومرض المفاصل نظير الرئوي وغيرها كثير.
الرياضة البدنية:(/1)
أكدت مقالة نشرت في مجلة B.M.T الشهيرة أنه للوقاية من مرض شرايين القلب والجلطة القلبية يجب على الإنسان أن يمارس نوعا من أنواع الرياضة البدنية كالمشي السريع، أو الجري، أو السباحة لمدة 20 – 30 دقيقة مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل.
ولهؤلاء نقول: لم يحثنا رسول الله (عليه السلام) على المشي إلى المساجد مرتين أو ثلاثًا في الأسبوع؛ بل خمس مرات في اليوم الواحد، وقد يكون المسجد على بعد عشر دقائق أو يزيد.
أليس في هذا رياضة للبدن ووقاية للقلب؟! روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله قال: "أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى، فأبعدهم والذي ينتظر الصلاة يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام " .
ويؤكد الأطباء على ضرورة أن يكون المشي سريعا وقويا لا متواصلا ومتهاديا . أليست هذه هي مشية المسلم الحقيقي الذي يقتدي برسول الله في كل أعماله؟
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : كان رسول الله عليه السلام إذا مشى تكفأ تكفؤا، وكان أسرع الناس مشيا…
الامتناع عن التدخين :
أجمعت الدراسات العلمية قاطبة على أن خطر مرض شرايين القلب عند المدخنين يبلغ ثلاثة أضعاف ما هو عليه عند غير المدخنين، ولا يخفى على أحد ما في التدخين من أضرار على القلب والرئتين وغيرهما من أعضاء الجسم.
وقد أقر العديد من الفقهاء بتحريم التدخين عملا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " . والمسلم الحق لا يدخن، ويأبى أن تهدر الملايين من الدولارات سنويًّا من أموال المسلمين على ما يؤذيهم ولا ينفعهم.
معالجة ارتفاع ضغط الدم ومرض السكر :
من المؤكد أن السيطرة على ارتفاع ضغط الدم ومعالجة مرض السكر تساهم في الوقاية من مرض شرايين القلب، ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتداوي حيث قال: "تداووا عباد الله ، فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم" .
مواجهة الضغوط النفسية :
أكدت الدراسات العلمية أن التعرض للضغوط النفسية والكروب أو الانفعالات الشديدة يمكن أن يثير نوبة ذبحة صدرية، وهناك دلائل علمية حديثة تشير إلى أن الذين يغضبون بشدة هم أكثر عرضة للإصابة بمرض شرايين القلب. وكلنا نعلم حديث رسول الله عليه السلام المشهور ، وهو يوصي رجلا جاء يسأله .. يا رسول الله أوصني، فقال له النبي: "لا تغضب" . وحديثه صلى الله عليه وسلم: "إذا غضب أحدكم وهو قائم؛ فليجلس فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع" .
وقد علمنا الإسلام الصبر على الشدائد والمصائب، " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيرا له" .
فكيف لا يسلم المؤمن أمره لخالق الأرض والسماء!!.(/2)
اختلاف الاقتصاد بين الإسلام والرأسمالية
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
لقد وضع الإسلام الأسس الكفيلة لقيام نظام اقتصادي غير ربويّ يُحقِّق مصلحة الناس في واقعهم المادي في الحياة الدنيا ، ويعين على نجاتهم في الدار الأخرى . لا نستطيع أن نطرق جميع الأسس الاقتصادية في الإسلام ولكننا نورد هنا الآيات المتعلقة بالربا من سورة البقرة :
(( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرّم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * يمحق الله الربا ويربى الصدقات والله لا يحبَ كلّ كفار أثيم * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله * وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون * وإن كان ذو عُسرةٍ فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون * واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثمّ توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون )) [ البقرة : 275 ـ 281 ]
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه " ( 1 )
إِن هذا التحريم للربا هو أشدّ أَنواع التحريم التي وردت في كتاب الله . وتأكَّد التحريم في آيات أخرى ، وكذلك في الأحاديث النبوية ، نذكر منها هنا حديثين شريفين :
فعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لعن الله الربا ، وآكله ، وموكله وكاتبه ، وشاهده وهم يعلمون ، والواصلة ، والمستوصلة ، والواشمة والمستوشمة ، والنامصة والمنمّصة " ( 2 )
وكذلك في خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، حيث قال : " ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع عنكم كله ، لكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمون . وأول ربا موضوع هو ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله " [ رواه ابن أبي حاتم ] (3)
ولم يكن تحريم الربا في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقط ، وإنما كان التحريم في الإسلام في رسالة جميع الأنبياء وخاصة في رسالة موسى ورسالة عيسى عليهما السلام ، حيث أشار القرآن الكريم إلى ذلك :
(( وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً ))
[ النساء : 161 ]
إن هذا التحريم للربا وامتداد التحريم قروناً طويلة جداً مع الأنبياء والرسل ، لدليل واضح على شدة خطورة الربا وشدة إفساد في الحياة البشرية ، وفساد النظام الاقتصادي القائم على الربا .
لقد مارس المسلمون أيام النبوة الخاتمة ، وما تلاها من عصور ، نظاماً اقتصادياً خالياً من الربا في واقعهم البشري . والمسلمون مكلفون بممارسة نفس النظام بقواعده العامة في كل واقع جديد ، على أن يضعوا تفصيلات النظام من منهاج الله ومن حاجة الواقع الجديد الذي يُفَهَم من خلال منهاج الله .
والربا هو صورة من صور أكل أموال الناس بالباطل . فالتحريم من حيث الأساس هو تحريم لأكل أموال الناس بالباطل في جميع صوره وأشكاله .
والنظام الرأسمالي والشيوعي صورتان مفزعتان لأكل أموال الناس بالباطل . فقد دخلت انكلترا الهند متسللة بالحركات التنصيرية والشركات التجارية ، ثم احتلتها عسكرياً . فنهبت الهند وكنوزها وخيراتها وشعبها ، وما خرجت من الهند إلا وقد تركت الشعب فقيراً ممزّقاً ، والبلاد متأخرة متخلفة . وقس على ذلك سائر الدول الرأسمالية التي دخلت أقطار العالم الإسلامي الغنيّة في ثرواتها وخيراتها ، فما تركتها إلا وهي فقيرة ممزّقة متخلفة . لقد أكلت الدول الرأسمالية أموال العالم الإسلامي بالباطل أكلاً حراماً ، وأنشأت النظام الرأسمالي فيه على نفس الأُسس من الظلم والعدوان ونهب الثروات وأكل المال الحرام ، حتى أصبح العالم الإسلامي يسمىّ العالم الثالث المتخلف .
ولم يأكل العالم الرأسمالي أموال العالم الإسلامي وحده بالباطل ، بل أكل أموال شعوبه بالباطل أيضاً ، حتى تكوّنت طبقات على أُسس غير عادلة ولا أمينة ، وحتى كثرت البطالة وتوالت الأزمات الاقتصادية ، وتنافست الدول الرأسمالية في صراع محموم من أجل أكل الأموال بالباطل . وأقامت هذه الدول الرأسمالية مؤسساتها على نفس الأسس من أكل المال بالباطل ، مهما اختلفت أسماءها وأشكالها وأنظمتها .
وقد وصف القرآن الكريم لنا هذا النشاط الماليّ الحرام يقوم به كثير من الأحبار والرهبان وصفاً جلياً :(/1)
(( يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ))
[ التوبة : 34، 35 ]
وهكذا بيّن الله سبحانه وتعالى أساس التعامل الحرام بالمال . إنه أكل أموال الناس بالباطل ، والربا باب من أبوابه ، أو أنه يجمع الأبواب كلها . وبيّن الإسلام أبواب الكسب الحلال وحثّ عليها ، وبيّن أبواب الكسب الحرام وما يحرم من البيوع فنهى عن ذلك كله .
وارتبط أكل المال بالباطل في الآية السابقة بكنز الذهب والفضّة ، وبعدم إنفاقها في سبيل الله . فجعل الإسلام للكسب الحلال شروطاً وقواعد ، وجعل للإنفاق الحقّ شروطاً وقواعد . وذلك كله لصلاح الإنسان على الأرض ، وصلاح الشعوب كلها إذا التزمت وتعاونت على ممارسة قواعد الإيمان .
فالنظام الرأسمالي ومؤسساته لا يقع المال الحرام فيه من باب واحد ، ولكن من أبواب متعددة تجمعها كلمة " أكل أموال الناس بالباطل " " وكنز الأموال وعدم إنفاقها في سبيل الله " . فأصبحت المؤسسات الرأسمالية تجمع الحرام من ناحيتين : من أكل أموال الناس بالباطل من جميع أبوابه وسبله الحرام ، ومن الإنفاق في غير سبيل الله ، من الإنفاق على الصدّ عن سبيل الله ، والإِنفاق على الفتنة والفساد والكبائر كلها ، حتى أَصبح هذا النظام ومؤسساته معجوناً بالربا والحرام عجناً .
ولقد غزا هذا النظام الشعوب كلها وغزا العالم الإسلامي ، يقوده علوم وتقنية ، ونظم إدارية متطورة تحميه وتحمي رجاله المتحكمين ، وهيئات ومؤسسات تعمل ليل نهار ، لتوفّر هذه العلوم والتقنية والإدارة والمؤسسات وسائل نهب الشعوب ، وسائل الكسب الحرام والإنفاق الحرام ، ويحمي هذا النظام الاقتصادي سياسة ونظام سياسي وقوة عسكرية نامية مدمرة .
وكان من أهم آثار ذلك انتشار الأزمات الاقتصادية وانتشار البطالة ، وانتشار الفتنة والفساد والجرائم ، والحروب التي لا تكاد تتوقف ، والمؤامرات في جوف الليل وفي وضح النهار ، حتى ظهر الفساد في البّر والبّحر والجو .
وغزا هذا كله العالم الإسلاميّ كالطوفان . والمسلمون متفرّقون متخلّفون أنهكهم الصراع بينهم حتى استفاد عدوهم من ذلك . وامتدت المؤسسات الماليّة الرأسمالية إلى العالم الإسلامي ، واضطرب المسلمون وحاروا كيف يتعاملون مع هذه المؤسسات ، وصدرت فتاوى هنا وفتاوى هناك ، فتاوى يناقض بعضها بعضاً .
وأول ملاحظة لنا على ذلك هو أنه كانت تآخذ القضية الجزئية الواحدة معزولة عن نظامها الكلي ، فلا تبدو الصورة عندئذ على حقيقتها ، ولا تبرز الجريمة في هذه الجزئية أو تلك بعد أن عُزِلت ثم زُخْرِفت بوسائل شتى من وسائل التجميل لإزالة القبح الكبير المتخفِّي . وقد لا يبدو وجه " الحرام " في هذه الجزئية بعد عزلها وإخفاء ارتباطها بالنظام الكلّي الذي نَبَعَتْ منه وحملت معها منه أشكالاً متعددة من الحرام ! .
لذلك اضطرب الرأي حول " الفائدة " التي تقدمها المؤسسات المالية . ولقد كان الرأي الأول أن يضع المسلم ماله فيها في " الحساب الجاري " الذي لا تُؤخذ معه الفائدة التي تُعْتَبر حراماً ومالاً خبيثاً . وصارت القناعة لدى عامة الناس أنهم إن فعلوا ذلك تجنَّبوا الحرام ، وأنَّ تعاملهم مع المؤسسة المالية أصبح حلالاً لا إثم فيه ولا معصية . وغاب عن بال هؤلاء أنه لا فرق في عمل المؤسسات المالية مع الأموال بين حساب جارٍ وحساب غير جارِ إلا في الدفاتر أو في بعضها . أما الأموال عامة فتدخل في نشاط المؤسسة دون تفريق ، ويكون لهذا الحساب " فائدة " ولذلك الحساب " فائدة " والفرق الوحيد أن " المودع " تَبَّرع بالفائدة عملياً للمؤسسة ويُعْتَبَرُ مال المودَع قد دخل في المعاملات التي استحقت " الفائدة " . فإن كانت الفائدة حراماً فقد دخل في الحرام كمن وضع ماله في حساب الفائدة ، لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الإثم واللعنة على آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه . والمودِعُ شاهد على الأقل ، وإذا ادّعى الجهل فهذا جهل لا يُعِذَر فيه ، لأنه أمر عام عليه أن يستوضح قبل التورّط . وغاب عن بال هؤلاء ، أنهم إذا اعتبروا الفائدة رباً حراماً ، فلا يكون الإثم متوقفاً على قبض الفائدة وتسلمها ، ولكن الإثم يبتدئ بالتعامل مع مؤسسة هو يعتبرها ربويّة .
ورأي آخر يقول إِن أخذ " الفائدة " وهي رباً في نظره ومال خبيث ، أفضل من أن يتركها للبنك . ولكن لا يُنْفِقُها على نفسه وأهله ، بل يتصدّق بها ، وليس له أجر على ذلك من عند الله ، لأنها مال خبيث ، وليس له إلا رأس ماله يبقي طيباً لقوله سبحانه وتعالى :
(( .. فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون )) .(/2)
ونعتقد أن هذا الرأي وقع في أخطاء . أولها أنه ليس لأحد من الخلق أن يطلق الأجر من عند الله أو يمنعه ، فالله وحده يجزي كما يشاء من يشاء على ميزان عادل وحكمة بالغة لا يحيط بها الناس . فلا حاجة للتدخّل في هذا الأمر . وثانياً أنه إذا كانت " الفائدة " رباً ومالاً حراماً خبيثاً فلا يعني هذا أن رأس المال يظلّ على طهارته ، ولا يعني أن للناس رؤوس أموالهم حلالاً ، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى اشترط في نصّ القرآن لجواز أخذ رأس المال الذي يعمل في الربا ، اشترط أن يتوقف التعامل بالربا فوراً وأن يتوب المسلم توبة صادقة فلا يعود إلى الربا . فقد جاء النصّ في القرآن الكريم (( .. فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون )) . فالشرط هنا " فإن تبتم " أي إذا توّقفتم عن التعامل بالربا . أما إذا كان المال مستمراً في تعامله بالربا ، ولم تقع التوبة ، فإن رأس المال لا يكون طاهراً وقد عُجِن بالربا عجناً واستمَّر فيه .
والخطر من مثل هذا الرأي هو أن الناس تُقبل على التعامل مع مؤسسة يرون هم أنفسهم أنها ربوية ، ويظنّون أَنهم بسلوكهم هذا قد حَلّ لهم التعامل مع المؤسسة الربويَّة . ثم يعتاد الناس ذلك ويألفونه ، ويدعمونه ويصبحون قوة له ، وتتهاون العزائم عن السعي إلى الحل الأمثل ، وتصبح هذه الآراء أقرب للتخدير منها إلى التوعية . وإن إقامة النظام الاقتصادي الإسلامي البديل يفرض ممارسة منهاج الله بكامله في الواقع البشري ، ممارسة تقدّم النظام الاقتصادي الإسلامي البديل ليحلّ محل النظام الرأسمالي ، والنظام الإداريّ الإسلامي البديل ، والنظام الاجتماعي الإسلامي البديل ، والنظام السياسي الإسلامي البديل والعسكري الإسلامي ، وهكذا في مختلف شؤون الحياة ذلك لأنه يتعذّر تطبيق جانب من الإسلام وإهمال الجوانب الأخرى ..إن نجاح الممارسة الإيمانية لأيّ جانب من الإسلام في حياة الإنسان أو الأُمة يفرض الممارسة الإيمانية لسائر الجوانب دون إغفال أي جزء من الإسلام . إن الإسلام منهاج ربّني متكامل مترابط متناسق بعمل بكل أجزائه معاً .
(( .. أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عما تعملون )) [ البقرة : 85 ]
وكذلك :
(( وقل إني أنا النذير المبين * كما أنزلنا على المقتسمين * الذين جعلوا القرآن عضين * فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون )) [ الحجر : 89- 93 ]
إن محاولات التوفيق بين الإسلام والديانات الأُخرى التي خرجت منها العَلمانية ، أو التوفيق الإسلام والعَلمانية ، جهود ضائعة ، خير منها أن تُبْذَلَ الجهود لإقامة دين الله – الإسلام – في الأرض كلها ، من أجل سعادة الإنسان والشعوب كلها .
في واقع الشعوب اليوم مؤسسات ربوية واضحة ، مؤسسات تخلط الربا بغيره ، فيفسد العمل كله . وتواجه الشعوب اليوم هذا النظام الاقتصادي العالميّ الربَوي ، النظام الذي أقامه أهل الكتاب والعَلمانيون واليهود بخاصة ، والنظام العالمي يفرض بالقوة بكل وسائل نظامه الاقتصاديّ ، دون أن يكون بديل يحل محله . فكانت نتيجة المواجهة الاستسلام والعجز ومحاولات البحث عن مخرج بآراء ونظريات متناقضة متضاربة ، أو ردود فعل ارتجالية ميداناً عن ميدان ، وقضية عن قضية ، فيفقد كل ميدان قوى تسانده ، وتفقد كل قضية قوى تساندها .
إن بلوغ الحل الأمثل لا يمكن تحقيقه في واقعنا اليوم بين يوم وليلة . ولكنه فرض على المسلمين أن يسعوا إليه . وإن بلوغه يتطلب جهوداً واعية حقيقية ، ونهجاً وتخطيطاً ، وتعاوناً وبذلاً .
ولا يستطيع الفرد المسلم أن يجابه هذا الواقع وحده . ولكن كل مسلم يستطيع أن ينهض إلى مسؤولياته التي وضعها الله في عنقه وفرضها عليه حتى تجتمع الجهود وتصبّ كلها في مجرى واحد .
وخلال ذلك قد يجد المسلم الفرد أو الجماعة أو الأمة أنفسهم أمام واقع ، يضطرون فيه إلى التعامل مع مؤسسات ربوية . فتصبح القضية هي التعامل تحت ضغط الضرورة ، مع الإقرار بأن التعامل حرام لا يجوز إلا للضرورة ، ومع واجب القيام بالمسؤوليات الشرعية التي أمر الله بها ، والتي تسعى بتكاتفها إلى بلوغ الحل الأمثل .
إن تساؤل عن التعامل مع المؤسسات أَحلال أم حرام ، وفي الوقت نفسه لا يوفي المسؤوليات التي كلفه الله بها ، ولا يوفي الأمانة والعهد مع الله ، هو تساؤل عاجز يعطل مسيرة المؤمنين إلى الحل الأمثل .(/3)
والضرورة تعتبر ضرورة آنيّة مادامت الجهود متكاتفة من أجل رفعها . والضرورة في هذه الحالة قد تأخذ عِدة أَشكال : ضرورة فردية يكون الفرد المسلم مسؤولاً عنها ومحاسباً عليها بين يدي الله ، وعليه هو أن يُقدرّها ويقدّر مدى أهميتها وضغطها عليه . وضرورة قانونية قطرية لا يملك الفرد المسلم دفعاً لها ، وضرورة دولية لمن يتعرّض لها . والنظام الرأسمالي اليوم ممتد في الأرض تدعمه القوى العَلمانية وتغذّيه وتحميه ، وتفرضه حيناً بالقوة والقهر وحيناً بالفتنة والتضليل .
وحين حرّم الإسلام أكل أموال الناس بالباطل ، وحرّم الربا ، فإنه فرض الزكاة في المال ، تؤخذ من الأغنياء وتردّ على الفقراء ، وضع نظاماً مالياً متكاملاً يكفل حق المسلم في المال والرعاية والعمل والسعي ، وبنى جيلاً مؤمناً قوّياً يحمل رسالة الله إلى الناس كافّة ويوفي بعهده مع الله ، وينهض للتكاليف كلها ، ليحمي نهجه ودينه .
وحين يطبَّق نظام الإسلام في الكسب وفي الإنفاق بجميع جوانبه تطبيقاً إيمانياً في أمّة مؤمنة ، فإن مظاهر الظلم الاجتماعي تختفي إلا بمقدار ما يخالف الناس منهاج الله .
ولو أن الأغنياء كانوا يؤدّون ما فرض الله عليهم من زكاة وصدقات ، لما كنت تجد في الأرض جزعى ومحتاجين ومظلومين . فحين أعلن مؤتمر التغذية الذي عقد في روما مؤخراً أن عدد الجوعى ( 840 ) مليوناً من البشر ، فإن هذا يعني أن هنالك عدداً من المتخمين أخذوا حقوق غيرهم فأُتخموا وجاع الآخرون ، وهذا الظلم لا يقع إلا في جو عَلماني ونظام رأسمالي .
وهذه صورة موجزة عن الاختلاف في الاقتصاد بين الإسلام وبين العَلمانية ، وهذا الاختلاف يشير في الوقت نفسه إلى خلافات واسعة أخرى بين الإسلام والعَلمانية . فهناك اختلاف في النظرية السياسية ، فالعلمانية تبني السياسة على المصالح المادية وحدها ، والإسلام يضع أسساً أخرى تكفل البشرية تعاونها وتكفل حماية حقوق الشعوب كلها وتمنع الظلم والعدوان .
وينشأ خلاف آخر هام في الحياة الاجتماعية وتنظيم المجتمع ابتداء من حياة الفرد إلى الأسرة إلى الأُمة كلها . ونكتفي هنا بالإشارة إلى الاختلاف الأساسي ، حيث لا مجال للتفصيل هنا ، والتفصيل يحتاج إلى كتاب خاص .
ومن هذه الاختلافات كلها ينشأ اختلاف كبير بين حقوق الإنسان في العَلمانية وبينها في الإسلام .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1 ) صحيح الجامع الصغير وزيادته : (ط:3) ـ حديث رقم ( 4970 ) وقال : الطبراني في الكبير
( 2 ) ابن كثير في تفسير آيات الربا .
( 3 ) ابن كثير في تفسير آيات الربا .(/4)
اختلاف الفقهاء وأثره في اختلاف العاملين للإسلام
د. علاء الدين الأمين الزاكي*
المطلب الأول: تعريف الاختلاف
في اللغة: مصدر (خلف) يعني عدم الاتفاق، قال الفيروزآبادي: الاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو فعله، والخلاف أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين"([1]).
وفي الاصطلاح:
إن التعريف المشهور الذي ذكره أغلب العلماء هو: "أن يذهب كل عالم إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر في حالة"([2])، وقال آخرون: "أن ينهج كل شخص طريقاً مغايراً للآخر في حاله أو في قوله"([3]).
والناظر في هذين التعريفين يرى أنهما شاملان لنوعي الاختلاف المحمود والمذموم، ويشمل كذلك الجدل والشقاق، وذلك لأن الجدل هو ذهاب كل عالم خلاف ما ذهب إليه الآخر، ولكن بزيادة شدة؛ ولهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقال: ((أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً))([4]).
قال ابن القيم: "علم الجدل هو: علم يقتدر به على حفظ أي وضع يراد ولو باطلاً، وهدم أي وضع يراد ولو حقاً"([5]).
وكذا الشقاق مع وجود المخالفة، ولكن كما يقول العلواني: "أصله أن يكون كل واحد في شق من الأرض أي نصف منها، فكأن أرضاً واحدة لا تتسع لهما معاً"، كما قال تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما)([6]).
وبهذا يكون التعريف جامعاً لكل أنواع الاختلاف المحمود والمذموم، ولكن إذا رأينا الاختلاف الصحيح الذي نحن نريده لا بد، وأن يكون فيه قيد ليمنع دخول الجدل الممنوع والشقاق وغيرها، فبالتالي أري أن التعريف الصحيح يكون هو: أن يذهب كل عالم إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر بغية الوصول إلى الحق.
محترزات التعريف:
كلمة (عالم) احتراز من الجاهل فإن مخالفة الجاهل لا يلتفت إليها ولا يعتد بها. وكلمة (خلاف) احتراز من الاتفاق والإجماع.
وكلمة (بغية الوصول إلى الحق) تخرج الجدل والشِّقاق وغيرهما.
حقيقة وجود الخلاف:
لا ينكر أحد وجود الخلاف في الأمة، لا في سابق عهدها، ولا في واقعها المعاصر، وقد وقع في زمان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، كاختلافهم في غنائم بدر، واختلافهم بعد وفاته في غسله ودفنه ومن يكون الخليفة بعده وغير ذلك.
ولا تتوقع أن يتوقف الخلاف نهائياً؛ لأن الوقوع أظهر دليل على الجواز، ولكن نريد ترشيد هذا الخلاف ليكون خلافاً مثمراً، داعياً إلى البحث والتنقيب والوصول إلى الحق. والذي يجعل الخلاف أمراً حتمياً ما يلي:
(1) تفاوت الناس في أفهامهم وقدراتهم على تحصيل العلم؛ فالناس بحكم الخلقة يختلفون ويتفاوتون في الاستيعاب والنظر في المسائل وجمع أطرافها، وهذا يؤدي بالضرورة إلى وقوع الخلاف بحسب هذا التفاوت؛ وقد ضرب الله مثلاً لهذا النوع من التفاوت، فقال تعالى: (أنزل من السماء ماء فسألت أودية بقدرها)([7])، قال ابن كثير رحمه الله: "(أنزل من السماء ماء) أي مطراً، (فسالت أودية بقدرها) أي أخذ كل واد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيراً من الماء، وهذا صغير وسع بقدره، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها، فمنها ما يسع علماً كثيراً، ومنها ما لا يسع الكثير من العلوم بل يضيق عنها"([8]).
(2) وضرب كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً فقال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً: فكان منها طائفة قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله به الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه الله بما بعثني به، فعلم وعمل، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)). قال الحافظ: "قال القرطبي وغيره: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، وشبَّه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم، ومنهم الجامع للعلم غير أنه لم يعمل ولم يتفقه، ومنهم من يسمع ولا يحفظ ولا يعمل به"([9]).
(3) ويقع التفاوت كذلك في الفهم كما قال تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً)([10])، والصحابة كانوا يتفاوتون في الحفظ ودقة النظر لذلك وقع بينهم الخلاف.(/1)
كما جاء في جمع علي رضي الله عنه بين الآيتين: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً)([11])، وقوله تعالى: (وفصاله في عامين)([12])، أن أقل مدة للحمل ستة أشهر، وقد خفي هذا على عثمان رضي الله عنه. والتفاوت في الفهم جعل عدي بن حاتم رضي الله عنه يقول عند نزول آية: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض...): "إني لأضع تحت وسادتي عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فلا أزال آكل حتي أتبينهما"، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن وسادك لعريض، إنما هو بياض النهار وسواد الليل)).
(4) التفاوت في الحصيلة العلمية، وهذا أمر طبيعي؛ لأن الناس منهم الذي يفرغ جهده للعلم، ومنهم من يعطيه فضل وقته، وكل ينال بحسب جهده، وقد قالوا: العلم إن أعطيته كلك أعطاك بعضه. وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: "إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفْق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون"([13]).
لهذين السببين يمكن أن نقول بأن الخلاف لايُنكر وجوده ولا ينعدم حدوثه، زِدْ على ذلك أن الخلاف من طبيعة البشر، ولا يمكن التخلص منه في العادة، قال تعالى: (ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك)([14])، قال الشاطبي: "فتأملوا رحمكم الله كيف صار الاتفاق محالاً في العادة"([15]).
المطلب الثاني: هل كان الخلاف غاية؟
كان الصحابة رضوان الله عليهم أشد الناس حرصاً على الحق وتعلقاً به؛ فهو ضالة المؤمن التي ينشدها، لأنهم يقرءون قول الله تعالى: (فماذا بعد الحق إلا الضلال)([16])، ولم يكن الخلاف عندهم نزعة هوي، ولا غاية مقصودة، بل حرصاً على الحق، وحين يتبين لهم كانوا أسرع الناس رجوعاً إليه، ومن ذلك ما ورد في صحيح البخاري لما روي أبو هريرة حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صوم لمن أصبح جنباً))، وأمر مروان عبد الرحمن بالذهاب إلى عائشة رضي الله عنها وقالت: "كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع لا احتلام ويتم صومه"، ولما أخبروا أبا هريرة رضي الله عنه قال: "إنما اخبرني الفضل بن العباس، وأمهات المؤمنين أعلم بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم منا"([17])، وهذا ظننا بهم رضي الله عنهم.
ثم حمل العلم بعدهم التابعون وأتباعهم ووسِّد إليهم الأمر، فنسجوا على منوال الصحابة الأخيار، وما ورد عن أحدهم أنه ردَّ حقاً بعد ما تبين له، ثم جاء بعدهم الأئمة الأعلام. قال ابن تيمية: "وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كل الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا وجد للواحد منهم قول، قد جاء حديث صحيح بخلافة، فلا بد له من عذر في تركه"([18]).
وما ذاك إلا أنهم أيقنوا أن الحق يُتعرّف عليه من خلال النصوص التي هي مصدر هداية الأمة، فتبعوها، والنتيجة أن الخلاف لم يكن غاية في ذاته، بل كل واحد يطلب الحق بطرقه ووسائله، ويقع الخلاف لأي سبب من الأسباب، فلا بد للأمة أن تخلص النية في طلب الحق لتتفق عليه ولا تختلف.
وترتب على هذا أن الخلاف لم يكن يفسد للود قضية، ولم يكن سبباً في القطيعة والتدابر. قال الصرفي: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، إلا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة"([19]).
قال الذهبي: "هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه"([20])، وقال يحيى بن سعيد القطان: "ما برح أولوا الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه"([21]).
وقال: "أهل العلم أهل سعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، وأن المسألة لترد على أحدهم كالجبل، فإذا فتح لها بابها قال ما أهون هذه".
قال ابن تيمية: " قد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)([22])، وكان يتناظرون في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين.
نعم، من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يُعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع، وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شئ تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة"([23]).(/2)
ونقل الشاطبي عن بعض المفسرين قوله: "كل مسألة حدثت في الإسلام، ما اختلف الناس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة، علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة، علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء"([24])، فلو كان الغاية الحق ما رأيت تنازعاً وشقاقاً بين هذه الأمة، والله المستعان.
المطلب الثالث: أسباب اختلاف الفقهاء
إن المقرر المعلوم ــ الذي لا يخفي على أحد، ولا تخطئه عين ــ وقوع الخلاف بين الفقهاء، وكتب الفقه تعج بذلك، ويجب أن يُعلم أن هناك جملة من الأسباب اتفقت واجتمعت وأكدت حتمية وجود الاختلاف، ومهدت الطريق لحدوثه، ولم يكن مقصوداً لذاته كما بينا، وفي هذا المبحث نطرح هذه الأسباب كما ذكرها العلماء وهي كالآتي:
أولاً: اختلاف بسبب النصوص الشرعية:
ويظهر هذا في الآتي:
(أ) عدم وقوف بعض العلماء على بعضها: فقد يقف بعضهم على حديث لا يصل إليه الآخر، فيفتي برأيه، وقد يقع اجتهاده موافقاً للنص كما ورد في سنن النسائي وغيره: "أن ابن مسعود رضي الله عنه سئل عن أمرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها، فقال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي في ذلك؛ فاختلفوا عليه شهراً، وألحوا، فاجتهد برأيه وقضي بأن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأنه صلى الله عليه وسلم قضي بمثل ذلك في امرأة منهم، ففرح بذلك ابن مسعود رضي الله عنه فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام"([25]).
وربما وقع اجتهاده مخالفاً للنص كعثمان رضي الله عنه كان يفتي بأن المتوفي عنها زوجها لا تعتد في بيت الموت، ولم يكن له علم بحديث الفريعة بنت مالك رضي الله عنها لما توفي زوجها قال لها صلى الله عليه وسلم: ((امكثي في بيتك حتي يبلغ الكتاب أجله))([26]).
ونظائر هذا عند الصحابة كثيرة، وما ذاك إلا لأن الصحابة رضي الله عنهم ما زعم أحدهم لنفسه أنه استوعب السنة كاملة وكذا التابعون.
قال شيخ الإسلام: "هؤلاء كانوا أعلم الأمة وأفقهها وأتقاها وأفضلها، فمن بعدهم أنقص، فخفاء بعض السنة عليهم أولى، فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة، أو إماماً معيناً فهو مخطئ خطأ فاحشاً قبيحاً"([27]).
(ب) الاختلاف في ثبوت النصوص: يقول ابن تيمية: "وهو أن يكون قد بلغه الحديث، لكنه لم يثبت عنده"([28])، كأن يكون فيه علة توجب رده، وقد يكون مقبولاً عند غيره كحديث: ((لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)) ضعفه الحنفية وعمل به الجمهور لصحته عندهم.
(ج) وجوه قراءتها: فقد يقرأ بعض العلماء بقراءة ويقرأ آخرون بقراءة أخرى، وكل قراءة تؤدي إلى حكم شرعي. كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) قُرِأ ( أرجلكم) بالفتح وبالكسر، فأخذت كل طائفة بوجه.
(د) الاختلاف بسبب دلالة النصوص: وذلك لأن النصوص تدل على الأحكام بطريقتين:
الأول: المنطوق وهو الدلالة على الحكم في محل النطق.
الثاني:المفهوم بنوعيه الموافقة والمخالفة، وهو الدلالة على الحكم في محل النطق.
ويقول العلماء: إذا دلت النصوص على أي حكم من الأحكام بأي طريقة من طرق هذه الدلالة علمنا أنه مراد النص، وقد وقع الخلاف بسبب انكار الحنفية لمفهوم المخالفة وغيره من الدلالات.
وقد يكون المنطوق صريحاً أو غير صريح؛ وبسبب ذلك قد يقع الخلاف. وقد يكون النص ظاهراً أو نصياً أو محكماً أو مفسراً أو يكون خفي الدلالة.
وقد تكون الدلالة محتملة للوجهين كحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة))، وهو في الصحيحين، قال ابن تيمية: "بعضهم تمسك بعموم الخطاب فجعلوا صورة الفوات داخلة في العموم، والآخرون كان معهم من الدليل ما يوجب خروج هذه الصورة عن العموم، فإن المقصود المبادرة إلى الذين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم"([29]).
(هـ) اختلاف بسبب تعارضها، والمعلوم أنه لا تعارض بين النصوص في أصلها، وإنما التعارض ينشأ بنظر المجتهد في النصوص، وقد وقع خلاف بين العلماء عند ورود نصوص ظاهرها التعارض.
فذهب الجمهور([30]) مذهب الجمع بين النصوص، فهو عندهم أولى من الترجيح، وذهب الحنفية([31]) إلى تقديم الترجيح على الجمع وهذا له أثر على الفروع.
مثال التعارض بين النصوص: ما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في (رفع اليدين في الصلاة) في البخاري، وما عارضه عند الترمذي بإسناد حسن أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كان صلى الله عليه وسلم لا يرفع يده في الصلاة، فأخذ الحنفية والمالكية بالثانية والحنابلة والشافعية بالأولى.
(و) قد يرد النص لعالم ثم ينساه ويعني بخلافه وذلك لأن البشر معرض للسهو والنسيان.(/3)
مثاله: ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر، فلا يجد الماء؟ فقال: "لا يصلي حتي يجد الماء" فقال عمار بن ياسر رضي الله عنهما: "يا أمير المؤمنين، أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأجنبنا وأما أنا فتمرغت كما تمرغ الدابة، وأما أنت فلم تصلِّ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنما يكفيك هكذا)) وضرب بيديه الأرض، فمسح بهما وجهه وكفيه"؛ فقال عمر: "اتق الله يا عمار"، فقال: "إن شئت لم أحدث به"، فقال: "بل نوليك من ذلك ما توليت"([32]).
ثانياً: اختلاف بسبب اللغة:
اللغة العربية موضوعة للتخاطب، يعبر بها الإنسان عما يدور في نفسه من معان، يفهمها الآخر ففي اللغة هنالك الألفاظ المشتركة وهي "اللفظ الواحد الذي يحتمل معاني متعددة".
والمعروف أنه لا يحمل على أحدهما إلا بقرينة وقد يختلف الناس في هذه القرينة.
مثاله قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن لأنفسهن ثلاثة قروء)، فالقرء يطلق ويراد به الطهر، ويطلق ويراد به الحيض.
فحمله بعض العلماء([33]) على معني الطهر لقرينة تأنيث العدد (ثلاثة)، فلو كان المراد الحيض لذُكر مذكراً، وحمله على الحيض مستدلين بحديث: ((طلاق الأمة سنتان، وعدتها حيضتان))، وهذا يدل على أن المعتبر في العدد الحيض لا الطهر.
وكذا قد يستعمل اللفظ وفي غير ما وضع له لقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي وهو المعروف بالمجاز وغير ذلك.
ثالثاً: خلاف بسبب القواعد الأصولية:
والمراد بذلك القواعد الأصولية القواعد التي نصبها العلماء لضبط الاستدلال والاستنباط، وتسهيل الوصول إلى الأحكام الشرعية، وهذه القواعد وقع فيها خلاف بين العلماء تتيح بسببه خلاف في الفروع.
قال الأشقر: "وهذا الاختلاف من أهم أسباب الاختلاف"([34])، ويظهر الخلاف بسبب القواعد في الآتي:
(أ) الخلاف في أصل التأليف فيها، وطريقة التأليف عند جمهور المتكلمين تختلف عن طريقة الحنفية، فالجمهور قعدوا القواعد بالنظر إلى النصوص دون النظر إلى اجتهادات العلماء، وهي المعروفة بالطريقة النظرية. أما الحنفية فقعَّدوا القواعد بالنظر إلى اجتهادات علماءهم وهي الطريقة العملية، ولا شك أن ذلك يدفع إلى الخلاف في بعض المسائل.
(ب) الخلاف في ضبط بعض القواعد: فبعض العلماء بتوسع في القاعدة بغير ضوابط، فيقع بسبب ذلك خلل في المحتوى ومخالفة للآخرين، كالخلاف في قاعدة (الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال) فليس كل احتمال يبطل الدليل بل الاحتمال الصحيح.
وكالتأويل الذي تُصرف به النصوص عن ظاهرها وليس كل تأويل، كما فعل الحنفية في الشاة والكفارة واليمين وغيرها وصرف المرأة في حديث: ((إيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل))([35]) فقالوا المراد بها الأمة، ولما ردوا عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: ((ولها المهر بما استحل من فرجها))، أن المهر لا يكون للأمة عندهم عدلوا إلى المكاتبة.
(ج) وقد وقع الخلاف بسبب اختلاف العلماء في بعض القواعد كقاعدة (الأمر بعد الحظر)، (أو دلالة العام على الأحكام)، وغير ذلك.
(د) الاختلاف في حجية المصادر: كالاحتجاج بالقياس بين الجمهور والظاهرية، والمصالح المرسلة، وشرع من قبلنا، والاستحسان وسد الزرائع، وغير ذلك مما يؤدي إلى اختلاف في الفروع. هذه جملة من الأسباب التي أدت إلى وقوع الخلاف بين الفقهاء فيما سبق([36]).
المطلب الرابع: أثر خلاف الفقهاء على العاملين في الدعوة
ولا ينكر أحد ولا يخفى على صاحب أدنى بصيرة أن ما وقع من خلاف سابق كان له الأثر المباشر على خلاف العاملين، خاصة وقد اجتمع على عدة أسباب عمقت الخلاف ورفعت عجلته، وفي هذا المبحث نذكر بعض الآثار الإيجابية والآثار السلبية وبعض الأسباب التي عمقت الخلاف بين العاملين.
يقول العلواني: "ومن المسلم به أن أسباب الاختلاف تتباين بين الأعصار، وأن كل عصر يورث الأعصار التالية بعض أسبابه"([37]).
فإليك بعض هذه الآثار:
أولاً: آثار إيجابية:
هناك جملة من الآثار الإيجابية للخلاف على العاملين في حقل الدعوة نذكر منها ما يلي: التدقيق والتحرير للمسائل والبحث والتنقيب، والتصحيح والتضعيف وظهور العلم لأن الخلاف يبعث المتنازعين إلى تقوية أدلتهم وضبط مسائلهم، فكثير من هؤلاء تبين لهم بالبحث الحق فاتبعوه وارتفع الخلاف، وهذا المشاهد في الواقع هذه الأيام حيث تشهد رجوع عدد من الشيعة إلى السنة وعدد من المبتدعة إلى الحق خاصة أهل العلم المخلصين. ونشطت الحركة العلمية في وسط المجتمع.
ثانياً: ضبط الخلاف بقواعد متينة كان له الأثر في تضييق دائرة الخلاف، فالفقهاء رحمهم الله لما اختلفوا، ما تركوا الخلاف هكذا، إنما ضبطوه بقواعد لئلا يؤثر على المسلمين فيما بعد، ومن ذلك:(/4)
(أ) قاعدة: حكم الإمام يرفع الخلاف: وهذه القاعدة نص عليها القرافي([38])، وقال: "لو لم يرفع الإمام الخلاف لما استقرت الاحكام، ولبقيت الخصومات، وذلك يوجب التشاجر والتنازع وانتشار الفساد، وهذه تنافي الحكمة التي لأجلها نصب الحكام"([39]).
فمن إيجابيات الخلاف السابق هذه القاعدة التي حسمت كثيراً من المسائل الخلافية التي يختار فيها الحاكم قولاً يكون ملزماً للجميع خاصة في الخلاف السابق ذكره.
(ب) قاعدة: الخروج من الخلاف مستحب: ذكرها السيوطي([40])، قال العلماء: "إن أفضلية الخروج من الخلاف ليست بثبوت سنة خاصة فيه، بل لعموم الاحتياط للدين، وهو مطلوب شرعاً مطلقاً، فكان القول بأن الخروج من الخلاف أفضل ثابت من جهة العموم واعتماده من الورع المطلوب شرعا"([41]).
فكلما وجد العالم سبيلاً للخروج من الخلاف كان أفضل من التوسع فيه، كاجتناب استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة مع وجود الساتر خروجاً من القول بالجواز والعدم.
(ج) قاعدة: لا ينكر المختلف فيه: وهي قاعدة جليلة ذكرها عدد من العلماء ونصوا عليها، وذلك رفعاً للخلاف من بين علماء الأمة، وقد أثرت هذه القاعدة في تضييق دائرة الشقة، وضبطت أعظم أمر يمكن أن يقع الخلاف بسببه وهو إنكار المنكر.
(د) كل القواعد السابقة تم فيها تحديد الخلاف وذكر شروط مراعاته لئلا يفتح الباب على مصراعيه يقول السيوطي: "ولمراعاة الخلاف شروط، أحدها: ألا يوقع مراعاته في خلاف آخر، ومن ثم كان فصل الوتر أفضل من وصله ولم يراع خلاف أبي حنيفة لأن من العلماء أصلاً من يجيز الوصل، الثاني: ألا يخالف سنة ثابتة وهو واضح، الثالث: أن يقوى مدركه بحيث لا يُعدُّ هفوة، ومن ثم كان الصوم في السفر أفضل لمن قوي عليه"([42]).
(هـ) قاعدة ( التصويب والتخطئة) هذه القاعدة في الخلاف كانت ضابطة ومقيدة وأثرت كثيراً على العاملين في الدعوة إلى الله تعالى، إيجاباً وسلباً، إيجاباً لمن فهمها وسلباً على من جهلها.
يقول ابن تيمية: "ينقسم الخلاف في الأصل إلى قسمين:
الأول: اختلاف تنوع وهو على وجوه:
(أ) ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة حتي زجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كلاكما محسن))([43])، وكالاختلاف في وجوه الآذان والإقامة.
(ب) ومنه ما يكون كل من القولين هو معنى القول الآخر لكن العبارتين مختلفتان، كاختلاف الناس في ألفاظ الحدود وصيغ الأدلة، ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.
(ج) منه ما يكون المعنيان غيرين لكن لا يتنافيان فهذا صحيح وهذا صحيح كما في حديث بني قريظة المذكور آنفاً.
(د) ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان، ولرجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخري وكلاهما حسن في الدين، ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما.
الثاني: اختلاف التضاد فهو القولان المتنافيان، إما في الأصول وإما في الفروع"([44]).
وبعد التقسيم قال ابن تيمية: "القسم الذي أسميناه اختلاف التنوع كل واحد من المختلفين مصيب بلا تردد، ولكن الذم الواقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد الطائفتين إذا لم يحصل بغي، قال تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله)([45])، وكانوا قد اختلفوا في قطع الأشجار فقطع قوم وترك آخرون، أما اختلاف التضاد فالمصيب واحد ومن قال من العلماء: كل مجتهد مصيب فعنده هو من اختلاف التنوع"([46]).
وقد أثرت هذه المسألة وسابقتها على العاملين ما يلي:
(1) ظهور التيارات الإسلامية العلمية التي كان لها الأثر القوي على المجتمعات كما في الجزائر والسودان.
(2) حصول التعاون المثمر بعض الشئ بين الجماعات الإسلامية والذي ظهر في شكل برامج مشتركة كما في السعودية فترة من الزمن وباكستان وغيرها.
(3) إثراء الساحة الفكرية والعلمية والتصدي للأفكار الهدامة والآراء المنحرفة كوحدة الأديان وجبهة المؤمنين والحزب الإبراهيمي وغيرها.
(4) دعم حركات الجهاد المعاصرة وتأييدها والدعوة لها بالنصر والتمكين، كما في الفلبين والشيشان والبوسنة وأفغانستان وغيرها.
إلي غير ذلك من الثمار الطيبة والتي نرجو أن تزداد وتزدهر.
ثانياً: آثار سلبية:
كما أن لللاختلاف آثاراً إيجابية لكن آثاره السلبية أعظم وأكبر كما هو مشاهد في ساحات العمل الدعوي وبين الدعاة إلى الله تعالى، حتى أصبحوا أيدي سبأ، وذهبت ريحهم وتفرقت كلمتهم وتنازعوا في أمرهم وضعفت شوكتهم وصاروا كما قال الله تعالى: (كل حزب بما لديهم فرحون)، والله المستعان.
ومن أعظم هذه الآثار ما يلي:(/5)
(1) الاحتجاج بالخلاف ذريعة في محل الاختلاف: فكثير من الناس يجعل الخلاف ذريعة لتضييع الحق بقوله: هذه مسألة خلافية، وأحياناً الاستدلال بالقواعد السابقة بغير ضابط كقاعدة (الخروج من الخلاف مستحب)، وغيرها فيكون الخلاف حجة عند كثير من العاملين في حقل الدعوة، وخطر هذا القول يظهر في عدة أمور:
(أ) الزهد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم اتباع الدليل في محل الخلاف، مما يجعل العمل الدعوي يقوم بعيداً عن مصدر الهداية المبارك.
(ب) تمييع الأحكام الشرعية الذي ينعكس على الفكر الإسلامي.
(ج) ضياع الحق مع هذه المقولة سواء في العبادات أو المعاملات والخطر الأكبر وصلت إلى الأصول التي لا تقبل خلافاً ولا تحتمله.
(د) البحث عن شواذ المسائل وشواردها لتبرير الأخطاء.
(2) التعصب الذي حدث في بعض المذاهب الفقهية أثر سلباً على بعض اجتهادات العاملين في الدعوة، كل عامل يرجو من طلابه التعصب لرأيه وأن يكون قوله هو الفضل وهو الآمر الناهي، مما جعل بعض الناس يدعي العصمة لهم كما أورث التعصب الجماعي والحزبي، وجدير بالتعصب أن يكون للحق لا للاشخاص و التنظيمات؛ فلو كان كذلك لرأيت التعاون والتكاليف والتآلف بين العاملين بمختلف أحزابهم وتنظيماتهم.
قال الغزالي: "إن طالب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه ويري رفيقة معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرفه الخطأ أو أظهر له الحق"([47]).
وقال الشافعي: "ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ"([48]).
وقال: "ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه"([49]).
قال الشنقيطي: "إننا ننظر إلى ذات القول لا إلى قائله؛ لأن كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلامه صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن الحق حق ولو كان قائله حقيراً"([50]).
قال الصويان: "قد كان التعصب في التاريخ الإسلامي يتلبس بلباس المذهبية الفقهية، فأصبح في عصرنا الحاضر يتلبس بلباس الحزبية، التي درج عليها بعض العاملين في الإسلام وهي معول هدم يقتل الإبداع ويعطل عقل الإنسان"([51]).
والخطر في التعصب أنه يدفع الحق إن جاء من عند غيره، ذكروا أن رجلاً استدل عليه خصمه بدلالة صحيحة فكان جوابه أن هذه دلالة فاسدة ووجه فسادها أن شيخي لم يذكرها وما لم يذكرها الشيخ لا خير فيه([52]).
(3) من الآثار السلبية ـــ لاختلاف الفقهاء على العاملين في الدعوة، وهو متفرع عن سابقه ــ ظهور الغلو والتنطع ومحاوزة الحد في العبادة، بل قد يصل بعضهم إلى درجة يخرج إخوانه من الملة والعياذ بالله وبالتالي يهدر دمه.
وقد نهت الشريعة عن الغلو قال تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم)([53]).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتنطعون))([54]).
وظهور الغلو يدل على غياب الميزان الشرعي، فالذي يحمل الناس على العزائم في مقام الرخص لا يعرف قيمة الشرع، والذي يزيد على ما أمر به الشرع جاهل بمقاصده، غير ملتزم بتشريعه والأصل في العبادات التوقف.
(4) ومن آثار الاختلاف ظهور الفهم العقلاني المحض، وذلك بتقديم المعقول على المنقول.
قال الشهرستاني: "إن أول شبهة وقعت في الخليقة شبهة إبليس لعنة الله، مصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص واختياره الهوى في معارضة الأمر واستكباره بالمادة التي خلق منها وانشعبت من هذه الشبهة سبع شُعَب وسارت في الخليقة وسرت في أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدع وضلالة"([55]).
فالفكر العقلاني لا يدعو إلى فهم النصوص عند الاستدلال بها، وإنما يدعو إلى إعمال العقل في مقام النص، فتضيع النصوص ويتعبد الناس بالعقول ولا شك أنه الضياع والهلاك. وكما هو مقرر عند العلماء العقل الصحيح لا يعارض النقل الصريح لذلك يقول الله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)([56]).
فإذا صادم عقلك نصاً صريحاً فاتهم عقلك ولا تتهم النص و لا تبطله.
قال سهل بن حنيف: "يا أيها الناس، اتهموا رأيكم على دينكم ـ لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته"([57]).
بل وانتشرت مقولة (هذا نصي) (هذا حرفي) مما غيَّب عن الناس الفهم الصحيح وعمَّق الخلاف وسببه المباشر الذي يستند إليه هو الخلاف السابق.
(5) الانشقاقات في صفوف الجماعات، فالاختلاف في الآراء بدلاً من أن يكون مجالاً خصباً، وللتناصح وردِّ المتنازع فيه إلى الشرع أصبح سبباً في الانشقاقات، وتكونت بسببه خلايا سرطانية تخرج منها في كل يوم مجموعة تسمى نفسها اسماً جديداً حاملة معها حججاً وبراهين تدافع بها عن خروجها، وبعد فترة هي نفسها تفر من التشبيه وتقع في التعطيل وتنقسم على نفسها وهكذا.
المطلب الخامس: أسباب عمق الخلاف بين العاملين:(/6)
رغم آثار خلاف الفقهاء على العاملين في حقل الدعوة، اجتمعت عدة أسباب، عمقت الخلاف وجعلت من الصعوبة بمكان القضاء عليه ومن هذه الاسباب:
أولاً: قلة الضبط وتحرير المسائل وتحديد محل النزاع:
وهو الذي أثمر الفوضى الفقهية، وفتح الباب على مصراعيه لكل إنسان، فالضبط يقدم المعلومة الصحيحة التي تطمئن إليها النفس. فكثير من الخلاف المعاصر سببه عدم الضبط وتحرير المسائل. فإن النوازل التي تفرق الأمة، لا يقضى فيها دون بحث أو تنقيب وإلا كانت وبالاً عليها ولا تترك للأهواء والأغراض الشخصية والحزبية.
ثانياً: غياب الاستعمال الصحيح للمصطلحات والقواعد:
والمراد بالاصطلاح أنواعه الثلاثة الاصطلاح اللغوي والعرفي والشرعي، وأيها يقدم عند إطلاق اللفظ خاصة المصطلح الشرعي، وكذا القواعد خاصة قواعد التعامل مع النصوص والتعامل مع الخلاف المذكور سابقاً.
ثالثاً: عدم سلامة صدر العاملين وغلبة الهوى على النفس:
قال تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم)([58]). فالهوى داء خطير يعمي البصر فلا يرى حقاً إلا ما وافق هواه.
قال الجهني: "الخطاب الإسلامي يجب أن يتوجه من نبذ الخلاف إلى نبذ الهوى في الخلاف أو خلاف الهوى، وهذا بدوره سوف يؤدي إلى توسيع دائرة المتفق عليه على حساب دائرة المختلف فيه"([59]).
وقال: "ويبقى الجهل والهوى هو المحضن الخبيث لتفريخ بيض الخلاف في الأقوال: اعتداداً وغروراً، وخوضاً في الأعراض، وتمادياً في الإعراض، وفي الأعمال: هجراً وصدوداً، وإيقافاً لعجلة الخير ودفعاً لعجلة الشر"([60]).
المطلب السادس: حلول عاجلة
لا يمكن بأي حال القضاء على الخلاف مطلقاً، ولا يمكن التسليم له مطلقاً، بل لا بد من تدارك هذه الآثار السالبة، وهذا الواقع المخيف بإيجاد حلول شرعية عاجلة بها يندمل الجرح، ويقوى العود ويشتد الساعد ومن هذه الحلول:
أولاً: تصحيح بعض المفاهيم السائدة التي إن لم تفهم على حقيقتها لا يستقيم للأمة أمر، ومن هذه المفاهيم:
(أ) مفهوم التعاون:
لأنه أمر رباني كما قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)([61]).
وقد اختلف مفهوم التعاون وأصبح ضيقاً لا يحقق الفائدة العامة إلا نادراً.
قال السندي: "لا يعرف الناس إلا حالتين، أما التعاون الشامل والوحدة الكاملة أو التنازع والخصومة والمواجهة، وهذا التصور صورة من صور الجهل وضيق النظر وغياب الحكمة وقلة المعرفة بقواعد الشريعة وأحكامها"([62]).
وقد يحتج بعض الناس بعدم التعاون مع الآخرين بحجة أن فيه بدعة أو مخالفة شرعية أو مفهوم خاطيء، بل الصحيح أن يتعاون الناس في المتفق عليه، وأن يتناصحوا في المختلف فيه.
قال ابن تيمية: "فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مع تركها ترك ذلك الواجب كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل"([63]).
وقال الجهني: "إن كل خلاف في التنظير يجب أن يتحول إلى خلاف في التطبيق، مساحة التنظير أوسع من مساحة التطبيق، ومرونة الآراء أرحب من مرونة الأداء، وتبقى قضايا التنوع والراجح والمرجوح والفاضل والمفضول والحسن والأحسن أيسر من أن تترجم إلى مفاصلة عملية بين جزئين متضادين، فالتطاوع في الأعمال لا يعني التطابق في الأذهان، وإلا لما نيل التطاوع وإن طال الزمان"([64]).
(2) مفهوم موالاة المسلم:
هذا من المفاهيم التي يحب أن تصحح عند المسلمين، وهو أساس للفهم السابق، وذلك لأن الموالاة لم تعُد في الله وإنما في التنظيمات والأحزاب والجماعات، وأن المسلم أصبح إما أن يوالي جملة أو يعادي جملة، وهو المفهوم الذي جعل الشقاق بين الأمة سمة ظاهرة.
يقول البدري: "أن المسلمين في أمسِّ الحاجة إلى من يعيدهم إلى العمل بروح الأمة، وقيم الولاء للفكرة الإسلامية، والبعد عن العصبيات والأطراف الحزبية، والتي هي في حقيقة أمرها مقابر تدفن فيها أشلاء الأمة الإسلامية بعد أن قتلتها الفرقة"([65]).
والمفهوم الصحيح في الولاء أن المسلم يوالي بقدر ما فيه من الطاعة، ويعادي بقدر ما فيه من المعصية لا يوالي جملة ولايعادي جملة.
قال ابن تيمية: "إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فتجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، مجتمع له من هذا وهذا، وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة"([66]).
ولا شك أن كل مسلم يخطئ، وليس هناك جماعة مبرأة من كل عيب، فلو أننا فهمنا هذا المنهج الصحيح وعملنا به؛ لرأيت المسلمين يتوالون في الخير ويجتمعون، عليه والدين كله خير وإنما الخطأ في الفهم وبعض الممارسات.(/7)
وكان علماء الأمة في سابق عهدها على هذا المنهج، ولا أدل على ذلك مما قاله الذهبي في الميزان عندما ترجم الأبان الكوفي: "شيعي جلد، ولكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه تشيعه"([67])، مع العلم أنه من رجال البخاري.
(3) مفهوم العلاقة بين الأمر الكوني والقدري:
معلوم أن الله قال: (ولا يزالون مختلفين)([68]) ، وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفرق إلى ثلاث وسبعين فرقة([69])، فهذا أمر قدري كوني نسلم به ونصدق بوقوعه، ولكن أمرت الشريعة بالاتفاق وعدم الفرقة فقال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)([70]).
وقال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات)([71])، وهذا أمر شرعي والأمة مطالبة بالأمر الشرعي لا الكوني، فلا يجوز أن نقول بأن الاختلاف واقع ولا فرار منه ونسلم لذلك، والتسليم بهذه الحقيقة لا يعني التسليم لها، وهو عين مذهب الجبرية الذين احتجوا بالقدر على معاصيهم.
قال ابن تيمية: "والمعلوم أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لتصدق الرسل فيما أخبرت، وتطاع فيما أمرت، كما قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)، والإيمان بالقدر من تمام ذلك فمن أثبت القدر وجعل ذلك معارضاً للأمر فقد أذهب الأصل"([72]). فلا بد من تصحيح هذا الفهم لنخرج من نفق الخلاف.
ثانياً: من الحلول العاجلة إيجاد وحدة عملية أصولها الكتاب والسنة بين العاملين في حقل الدعوى وذلك بالآتي:
(1) رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة: لقول الله عز وجل: (يا أيها الذين أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)([73])، والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب، والرد إلى الرسول الرد إلى سنته([74]).
فإن الأمة الإسلامية تفخر بأن مصدر هدايتها موجود لم يعتريه تبديل ولا تحريف، ولو أنها التفّت حوله لحققت خيراً عظيماً ودفعت شراً مستطيراً.
(2) تعظيم الوحي المبارك القرآن والسنة، حتي تكون لا هيبة عند الناس.
وقد أخرج الترمذي عن أبي السائب قال: كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي:أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول: قال أبو حنيفة، أهو مثلة؟ قال الرجل فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: "الإشعار مثلة"، قال رأيت وكيعاً غضب غضباً وقال: أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال إبراهيم ما أحقك أن تحبس! ثم لا تخرج حتي تنزع عن قولك"([75]).
وقال ابن عباس رضي الله عنه: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقولون قال أبو بكر وعمر"([76]).
(3) تضييق دائرة الخلاف بتحرير محل النزاع: ويفسح المجال للعمل بالقواعد الخاصة بضبط الخلاف كقاعدة (الخروج من الخلاف مستحب)، (وحكم الإمام يرفع الخلاف)، (والإنكار في مسائل الخلاف)، وتحديد أنواع الخلاف السائغ والممنوع وتحديد شروط الخلاف، وكيفية الخروج منه إلى غير ذلك.
قال الوهيبي: (ليس المطلوب إزالة الخلاف أو إلغاؤه، فذلك غير ممكن، وإنما المطلوب فقط التقليل من دائرته والتعايش السوي السليم معه) ([77]).
ثالثاً: قيام التناصح المشروع بين العاملين في حقل الدعوة بشروطها، ليحصل الاتفاق، قال جرير بن عبد الله البجلي: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم".
فالمؤمن مرآة أخيه، يعكس له عيوبه، و يبدي له ما خفي عليه، فكلنا ذوو خطأ.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل بهذه المبدأ، فجمع الناس على كلمة سواء، من ذلك لما نزل قول الله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)([78])، قال الصحابة: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم)([79])، إنما هو الشرك))([80]).
فبيَّن لهم صلى الله عليه وسلم المراد، ولو أن الناس تعاهد بعضهم بعضاً بالبيان كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستقام الناس على الخير.
رابعاً: نشر آداب الاختلاف وأخلاقه من الورع والبعد عن الهوى والتعصب والسباب واحتقار الآخرين والحرص على انتقاء أطايب الحديث كما ينتقي أطايب الثمر، واحترام الآخرين.
ذكر القاضي عياضي في المدارك: "قال الليث بن سعد لقيت مالكاً في المدينة، فقلت له: إني أراك تمسح العرق عن جبينك قال: عرقت مع أبي حنيفة، أنه لفقيه يا مصري، قال الليث: ثم لقيت أبا حنيفة فقلت له: ما أحسن قول هذا الرجل فيك يشير إلى مالك، فقال أبو حنيفة: ما رأيت أسرع منه بجواب صادق ونقد تام"([81]). وأمثلة هذا كثير ونظائره جليلة.
أسأل الله تعالى أن يوفق الأمة إلى أحسن الأخلاق وأكرم الصفات، والله المستعان.
([1]) بصائر ذوي التمييز 2/562.
([2]) المصباح المنير ص179 فقه الخلاف ص 13.
([3]) انظر آداب الاختلاف ص21.(/8)
([4]) أخرجه أبو داود برقم (4800)، والترمذي برقم (1993).
([5]) أدب الاختلاف في الإسلام، ص 23.
([6]) مفتاح السعادة 2/599، دار الكتب الحديثة.
([7]) سورة الرعد آية (17).
([8]) تفسير ابن كثير 4/81.
([9]) أخرجه البخاري 1/175 برقم (79) مع الفتح (2) فتح الباري 1/17.
([10]) سورة الأنبياء 78ـــ79.
([11]) سورة الأحقاف: 15.
([12]) سورة لقمان: 14.
([13]) صحيح البخاري، كتاب الصيام، 40/111.
([14]) سورة هود: 118ــ119.
([15]) الموافقات في أصول الشريعة 3/764.
([16]) سورة يونس: 32.
([17]) صحيح البخاري، كتاب الصيام.
([18]) رفع الملام، ص 10.
([19]) سير أعلام النبلاء 10/16ــ17.
([20]) المرجع السابق.
([21]) المرجع السابق.
([22]) سورة النساء: 59.
([23]) مجموع الفتاوى 4/72ــ73.
([24]) الموافقات في أصول الشريعة 4/186.
([25]) سنن النسائي.
([26]) أخرجه أحمد في المسند 6/380، وأهل السنن وصححه الترمذي.
([27]) رفع الملام، ص 23.
([28]) المرجع السابق، ص 25.
([29]) رفع الملام ص 58.
([30]) روضة الناظر لابن قدامة.
([31]) كشف الأسرار.
([32]) أخرجه البخاري برقم (347)1/455 مع الفتح.
([33]) راجع الموطأ 2/2577، التاج الاكليل 4/145.
([34]) أصول الفقه أبو النور زهير.
([35]) أخرجه احمد ابو داود والترمذي وحسنه.
([36]) انظر هذه الأسباب، رفع الملام ص 9، ما بعدها الانصاف في بيان أسباب الخلاف ص 4، وما بعدها، وفقه الاختلاف ص 33، أدب الاختلاف في الإسلام ص 10 وما بعدها.
([37]) أدب الاختلاف في الإسلام ص 150.
([38]) الفروض للقرافي 2/103.
([39]) المرجع السابق 2/104.
([40]) الأشباه والنظائر، ص 136.
([41]) المرجع السابق.
([42]) الأشباه و النظائر ص 137.
([43]) أخرجه البخاري برقم (2410) مع فتح الباري.
([44]) اقتضاء الصراط المستقيم 1/149ــ151.
([45]) سورة الحشر 5.
([46]) انظر اقتضاء الصراط المستقيم 1/152.
([47]) إحياء علوم الدين للغزالي 1/57.
([48]) مناقب الشافعي للرازي ص 360.
([49]) الفقيه والمتفقه 2/26.
([50]) أضواء البيان.
([51]) أصول الحوار ص 47.
([52]) أدب الدنيا والدين ص 78.
([53]) آية سورة المائدة.
([54]) أخرجه مسلم رقم (2670).
([55]) الملل والنحل 1/16.
([56]) سورة النساء: 59.
([57]) أخرجه البخاري مع الفتح 13/289.
([58]) سورة الجاثية: 23.
([59]) مجلة البيان العدد (157) الصفحة (143).
([60]) المرجع السابق.
([61]) سورة المائدة: 2.
([62]) مجلة البيان العدد (116) صفحة (18).
([63]) مجموع الفتاوي 28/212.
([64]) البيان العدد (157) الصفحة (143).
([65]) البيان العدد (83) صفحة (39).
([66]) مجموع الفتاوى 27/209.
([67]) ميزان الاعتدال 1.
([68]) سورة هود: 118.
([69]) أخرجه الترمذي.
([70]) سورة آل عمران: 103.
([71]) سورة آل عمران: 105.
([72]) محموع الفتاوي 8/106.
([73]) سورة النساء: 59.
([74]) تفسير ابن كثير 1/531.
([75]) أخرجه الترمذي.
([76]) أخرجه البخاري.
([77]) البيان العدد (107) الصفحة (143).
([78]) سورة الأنعام: 82.
([79]) سورة لقمان: 63.
([80]) أخرجه البخاري.
([81]) المدارك.
* أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الخرطوم(/9)
اختلاف الفقهاء وأثره في اختلاف العاملين للإسلام
د. عبد الله الفقيه*
سيكون الكلام تحت هذا العنوان في مقدمة وفصلين وخاتمة، أما المقدمة فهي في تعريف الخلاف وظروف نشأته، وأما الفصلان فالأول منهما في ذكر أسباب خلاف الفقهاء، والثاني في ذكر أسباب خلاف العاملين للإسلام الآن، وأما الخاتمة فتوصيات.
المقدمة
الاختلاف لغة مصدر اختلف، والاختلاف نقيض الاتفاق، ويستعمل عند الفقهاء بمعناه اللفظي، وكذا الخلاف.
الفرق بين الخلاف والاختلاف:
للعلماء طريقتان في استعمال هذا الاصطلاح، فمنهم من يرى أنهما لفظان مترادفان يستعمل كل واحد منهما في الدلالة على نقيض الاتفاق سواء أنشأ ذلك عن دليل أم نشأ عن غير دليل، ومنهم من خص لفظ "الاختلاف" بما كان ناشئاً عن دليل، ولفظ "الخلاف" بما كان ناشئاً عن غير دليل([1]).
ولا شك أن هذا في مجرد الاصطلاح، أما أصل اللغة فلا يوجد فيه ما يشهد لهذا المنحى قطعاً.
ظروف نشأة الخلاف:
قبل الشروع في ذكر أسباب الخلاف لا بد أن نطل إطلالاً سريعاً على ظروف وملابسات نشأة هذا الخلاف، وإن اشتمل هذا الإطلال على ذكر بعض أسبابه فإن ذلك لمجرد التمثيل ليس إلا، لأننا سنتناول هذه الأسباب مرتبة، وذلك بحسب ما يسمح به الوقت ويتناسب مع المقام.
إن من نظر إلى ظروف نشأة هذا الخلاف في مسائل الفقه وجد أنه كان يحصل في مرات كثيرة، لكنه سرعان ما كان يزول ويرجع أحد أطرافه إلى رأي الطرف الآخر لتبيُّن أن قوله هو القول الحق، وذلك إما لكونه عارفاً بهذا الدليل ولكنه كان غائباً عن ذهنه، وإما لكونه غير عارف به أصلاً ولم يطلع عليه، ومن أمثلة الأول ما وقع لعمر، فقد نهى على المنبر ألا تزاد مهور النساء عن عدد ذكره ميلاً إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد عليه في مهور نسائه فقامت امرأة من جانب المسجد وذكَّرت عمر بقول تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [سورة النساء:20]، فترك عمر قوله: وقال كل أحد أعلم منك حتى النساء، وفي رواية أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ.
وقد كان يعلم الآية ولكنه نسيها.
وقد يذكر العالم المجتهد الآية أو السنة، ولكنه يتأول فيهما تأويلاً من تخصيص أو نسخ أو معنى ما.
أما عن الحال الثاني فنقول: كم فات كبار الصحابة ــ وهم أئمة الدين وأعلام الهدى ــ من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أسباب ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ذوي معايش يطلبونها، وكانوا في ضنك من القوت شديد، فمن تاجر يغادي الأسواق ويماسيها طلباً لقوته وقوت عياله وما يجهز به نفسه للغزوات الكثيرة، ومن منهمك في إصلاح نخله، وكانوا مع كل ما هم فيه من شدة وضيق حريصين كل الحرص على ألا يضيع أحد منهم فرصة في الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم والاستفادة منه، إذا وجد أدنى فراغ مما هو فيه.
وكان بعضهم أوفر حظاً في هذا الجلوس من بعض، وذلك لقلة مشاغله لكونه لا زوجة له ولا أولاد فكان أكثر سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء أبو هريرة فقد قال إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة ولولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً ثم يتلو: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة:159ــ160]، إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفْق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطنه ويحفظ ما لا يحفظون([2]).
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتى ويحضره فتواه بعض الناس دون بعض، وكان يقضي ويحضر قضاءه بعضهم دون بعض، وكان ربما أمر بأمر أو نهى عن أمر في غير حالي الفتوى والقضاء، ويحضر ذلك بعضهم دون بعض، فلا يعقل أن يحيط أحدهم بكل ما صدر منه صلى الله عليه وسلم.
وكانوا مدركين لهذه الحقيقة أعني حقيقة عدم الإحاطة.
ولهذا لما ولي أبو بكر الخلافة كان إذا نزلت به النازلة ليس عنده فيها نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل من حضر عنده من الصحابة فإن وجد عندهم نصاً قضى به، وإلا اجتهد في الحكم فيها، وقد ظلوا على هذا الحال طيلة خلافة أبي بكر، لا يكادون يختلفون اختلافاً في نازلة إلا رجع بعضهم إلى رأي الآخر، فانعقد إجماعهم أو كاد، هذا باستثناء النزر اليسير من المسائل التي ظل الخلاف فيها قائماً.
نقطة تحول كبرى:(/1)
وهي أنه لما مات أبو بكر وولي عمر بعده فتحت الأمصار وتفرق الصحابة في الأقطار، واستقر المقام بكل مجموعة منهم في مصر من الأمصار، وكانت تنزل النازلة بأهل مكة أو أهل المدينة أو أهل اليمن أو أهل العراق أو أهل الشام أو أهل مصر فيفتي فيها من نزلت بهم من الصحابة بما يحصل عندهم فيها، وربما كانت هذه الفتوى مستندة إلى عموم أو اجتهاد سائغ، لولا كون المسألة قد ورد فيها نص يخصها غاب عمن أفتى هذه الفتوى، فقد حضر المدني ما لم يحضر المصري وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وقد ظل الحال على هذا بعد انقراض عصر الصحابة فترة من الزمن، فقد كانت كل طائفة من التابعين يفتون بما استقر عند من أدركوا من الصحابة، ومن هنا طغت آراء ابن عمر على فتاوى من بالمدينة من التابعين، لأنها كانت محل إقامته، وقد كان من أطول (المكثرين) لبثاً فيها، وكذا الحال بالنسبة لأهل مكة مع ابن عباس وبالنسبة لأهل الكوفة مع ابن مسعود.. وهلم جرَّا..
فلم يكن أهل مصر يخرجون عن فتوى من رووا عنه إلا نادراً، وظل الحال على هذا عند ظهور من بعد التابعين كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة وابن جريج بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فقد جرى هؤلاء الأئمة على نفس طريقة من سبقوهم، فقد سلك كل واحد منهم مسلك من أخذ عنهم من التابعين وتابعي التابعين من أهل بلده.. إلخ.
تلكم كانت نبذة سريعة عن ظروف نشأة الخلاف وملابسات حصوله أول ما نشأ، وبعدها سننتقل إلى أسباب حصول الخلاف.
الفصل الأول
في أسباب حصول الخلاف عند الفقهاء
السبب الأول:
عثور البعض على دليل لم يعثر عليه الآخر، يقول ابن القيم وهو يتكلم عن أسباب حصول الخلاف:
"منها أن لا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلَّف أن يكون عالماً بموجبه، فإذا لم يبلغه وقد قال في تلك النازلة بموجب ظاهر آية أو حديث آخر، أو بموجب قياس أو استصحاب فقد يوافق الحديث المتروك تارة ويخالفه أخرى، وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفاً لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد، واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأحواله وخصوصاً الصديق الذي لم يكن يفارقه..."([3]).
السبب الثاني:
هو كون الحديث قد بلغه لكن لم يثبت عنده لضعف من رواه عنه لكونه مجهولاً أو سيء الحفظ أو متهماً، ويكون هذا الحديث بعينه قد ثبت عند غيره لكونه قد رواه له الثقات بالسند المتصل.
السبب الثالث:
اعتقاد أحدهم ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره، فقد يعتقد أحد الأئمة ضعف رجل ويعتقد آخر قوته ويكون الحق تارة مع المضعِّف لاطلاعه على سبب خَفِيَ على الموثق، ويكون تارة مع الموثق لعلمه بأن ذلك السبب غير قادح في روايته وعدالته، إما لأن جنس ذلك السبب غير قادح أصلاً، وإما لكونه له فيه عذر أو تأويل يرفع عنه الحرج بسببه.
وقد يكون للمحدث حالان حال استقامة وحال اضطراب فيحكم الموثق بأن الحديث صحيح ظناً منه أنه مما رواه في حال الاستقامة، ويحكم القادح بأنه ضعيف ظناً منه أنه مما رواه في حال الاضطراب وهنا يأتي دور أهل التحقيق والتدقيق.
السبب الرابع:
اشتراط بعضهم في خبر الواحد العدل شروطاً يخالفه فيها غيره كاشتراط بعضهم أن يكون الراوي فقيهاً إذا خالف ما رواه القياس، واشترط آخرون انتشار الحديث وشيوعه إذا كان مما تعم به البلوى.
السبب الخامس:
أن ينسى الحديث أو الآية كما نسي عمر: (وآتيتم إحداهن قنطاراً)، وآية (إنك ميت وإنهم ميتون).
السبب السادس:
عدم معرفته بمدلول بعض ألفاظ الحديث لكونه غريبا عنده: المزابنة، المحاقلة، المخابرة، الملامسة، المنابذة.. ونحوها من الكلمات الغربية التي اختلف العلماء في تأويلها، ومن هذا القبيل: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"، فمنهم من فسر الإغلاق بالإكراه، وهم أهل الحجاز، ومنهم من فسره بالغضب، وهم أهل العراق، ومنهم من فسره بجمع الثلاث في كلمة واحدة فإنه مأخوذ من غلق الباب أي أغلق عليه باب الطلاق جملة.
يقول ابن القيم: والصواب في لفظ الإغلاق أنه الذي يغلق صاحبه باب تصوره أو قصده كالجنون والسكر.
ومما يدخل تحت هذا السبب، وهو السبب السادس، الخلاف العارض من جهة كون اللفظ مشتركاً أو مجملاً أو متردداً بين حمله على معناه عند الإطلاق (الحقيقة) أو على معناه عند التقييد (المجاز) كمسألة القرء([4])، والخيط الأبيض من الخيط الأسود([5]).
السبب السابع:
أن يكون عارفاً بدلالة اللفظ وموضوعه، ولكن لا ينتبه لدخول هذا الفرد المعيَّن تحت اللفظ، إما لعدم إحاطته بحقيقة ذلك الفرد وأنه مماثل لغيره من الأفراد المشمولة باللفظ المذكور، وإما لعدم حضور ذلك الفرد بباله، وإما لاعتقاده اختصاصه بما يجعله خارجاً من اللفظ العام.
السبب الثامن:(/2)
اعتقاده أنه لا دلالة في اللفظ على الحكم المتنازع فيه.
السبب التاسع:
هو أنه لما ظهرت المذاهب الفقهية المعروفة اشتغل كل أتباع مذهب بجمع وتحرير أقوال إمام مذهبهم، ووضع أصول المذهب وتقعيد قواعده، واتسعت دائرة الخلاف إلى أن أصبحت مواطن الاتفاق قليلة جداً، وقد نشأ عن الاختلاف في القواعد اختلاف كبير في الفروع.
وما دامت كل قاعدة اختلف فيها ينشأ عن ذلك اختلاف في الفروع المتفرعة عنها فلك أن تتصور حجم الخلاف، وحتى القواعد الخمس الكبرى والتي عليها مبنى الفقه كله والتي يقال إنها سالمة من الاختلاف في الجملة فيها خمس وهي:
(1) الشك لا يرفع اليقين.
(2) الضرر ينفي.
(3) المشقة تجلب اليسر.
(4) العادة تَحكَّم حيث لا تجور.
(5) الأمور بمقاصدها.
وإلى هذا أشار من قال:
ــ نقول ــ حتى هذه القواعد لم تسلم في واقع الحال من الخلاف بل يزداد الأمر تعقيداً، ودائرة الخلاف اتساعاً إذا أدرك الباحث حقيقة وهي أن هذه القواعد الخمس والتي قلنا إن الاتفاق قد وقع بين الفقهاء عليها في الجملة –إن سلم لنا هذا القول- لا يكادون يتفقون على شيء ذي بال مما بني عليها من الفروع عند التطبيق والتخريج فما يكون ضرراً عند هؤلاء لا يكون ضرراً عند أولئك وما يعد مقصداً معتبراً للشارع عند قوم لا يعد مقصداً معتبراً له عند آخرين.. وقس على ذلك.
السبب العاشر:
هو المعاصرة والاحتكاك، وهذا لا تجد له ذكراً عند من يتكلمون في أسباب ورود الخلاف، والواقع أن ما ينشأ من الخلاف بين المتعاصرين أشد عمقا واتساعاً مما ينشأ بين غيرهم، وقد فطن لهذا الباب أهل الحديث فردوا قدح بعض المعاصرين في بعض يقول السيوطي في ألفيته:
واردد مقال بعض أهل العصر**في بعضهم عن ابن عبد البر
والسيوطي يشير هنا إلى ما ذكره ابن عبد البر في هذا المعنى، ومنه ما روي بإسناده إلى الحسن ابن أبي جعفر قال: "سمعت مالكاً بن دينار يقول: يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسداً من التيوس في الزريبة تنصب لهم الشاة الضارب فينب هذا من هنا وهذا من هاهنا"([6]).
وقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء قصة أشهب مع الشافعي وذكرها غيره أيضاً، وملخصها أن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: إنه سمع أشهب يدعو على الشافعي بالموت، وفي رواية أنه كان يدعو عليه في السجود، وأن الباعث له على ذلك خشيته من أن يضيع مذهب مالك، وقد بلغ الخبر الشافعي فقال:
ولهذا قال الشافعي أيضاً:
وقصة البخاري وقصة سيبويه مشهورتان، وقد مات كل واحد منهما غماً وكمداً من سوء ما تعرض له من معاملة قاسية من قرن من معاصريه، فمات البخاري طريداً مشرداً من الحافظ الذهلي، ومات سيبويه بعد أن تآمر عليه إمام القراء وإمام النحاة وهو قرن له وهو الكسائي.
وقد وجدت أثراً لهذه الظاهرة استرعى انتباهي وهو أن بعض المؤلفين يختمون كتبهم بما يؤذن بشعورهم بمرارة بسبب ما وقع من بعض معاصريهم، فقد أنشد السيوطي في خاتمة كتابه الإتقان أبياتاً قديمة مشهورة وهي:
وكذلك فعل ابن هشام النحوي في خواتم بعض كتبه فقد أنشد هو الآخر قول القائل:
ويقول الزمخشري:
ولئن كان المشتغلون بنقد الأسانيد قد تنبهوا لهذا الأمر فقد تنبه له بعض الفقهاء أيضاً، يقول خليل بن إسحاق المالكي وهو يعد المواطن التي لا تقبل فيها الشهادة لأجل العداوة يقول: "ولا عالم على مثله"، فمجرد كونهما عالمين متعاصرين يجعلهما في مظنة العداوة بحيث يكون ظن ذلك ظناً غالباً يمنع قبول شهادة أحدهما على الآخر.
وقال المواق في التاج والإكليل عند قول خليل المتقدم: "ولا عالم على مثله" قال ابن وهب: لا يجوز شهادة القارئ على القارئ يعني العلماء لأنهم أشد تحاسداً([8]).
ومن المعلوم أن ابن عرفة قد خالف ما ذهب إليه خليل وشراحه في هذه المسألة، ولا يهمنا هنا ما هو القول الراجح بل الذي يهمنا هو أن المعاصرة سبب من أسباب ظهور الخلاف قد لا يفطن له الكثيرون، فلا يكاد الناس يعرفون لعالم قدره إلا بعد أن يوارى جثمانه الثرى ولسان حاله معهم ينشد قول القائل:
لا ألفينك بعد الموت تندبني***وفي حياتي ما زودتني زادا
السبب الحادي عشر:
هو أن إنكار القياس والالتفات إلى العلل والمقاصد عند أهل الظاهر ومن على شاكلتهم يقابله توسع شديد في النظر إلى المقاصد والعلل عند آخرين، مما يجعل هوة الخلاف بينهما متسعة بشكل كبير حتى وصل الأمر ببعض العلماء ــ كالنووي ــ إلى عدم اعتبار أهل الظاهر في الإجماع بحيث يمكن أن يعد الإجماع منعقداً مع وجود المخالفين منهم.
ومما يدخل تحت هذا السبب القول بسد الذرائع المفضية إلى الحرام.
السبب الثاني عشر:
حول النسخ، وقد نشأ عن الخلاف في مسألة النسخ خلاف في فروع كثيرة لا تكاد تدخل تحت حصر، ومن أشهر مواطن هذا الخلاف هنا موطنان:(/3)
الأول: هل الزيادة على النص نسخ؟ فمذهب الأحناف أنها نسخ، ومن الأمثلة التي يظهر فيها الخلاف في هذه المسألة مسألة اشتراط أن تكون الرقبة في الظهار مؤمنة حملاً على الرقبة في كفارة القتل، فمذهب الأحناف أن الإيمان في رقبة كفارة الظهار ليس مشروطاً؛ لأن الله قال فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، ومقتضى الآية إجزاء الرقبة المطلقة فمن قيدها بالإيمان كان زائداً على النص، والزيادة على النص نسخ.
يقول إمام الحرمين في البرهان: ووجه ادعائهم كونها نسخاً أن مقتضى الخطاب يتضمن الإجزاء مع الإطلاق، والزائد يرفع الإجزاء في الإطلاق وهو متضمن الآية فاقتضت الزيادة رفع ما تضمنه الإطلاق من الإجزاء فكان ذلك نسخاً من هذه الجهة([9]).
الموطن الثاني: هو أن تكون الآية قد نسخت آيات كثيرة كآية السيف فقد زعم جماعة أنها نسخت ما يربو على مائة آية، ويعنون بذلك آيات الدعوة للكفار والحوار معهم والمهادنة والموادعة معهم، ولا شك أن هذا بعيد عن صوب التحقيق.
السبب الثالث عشر:
هو أن في كل مذهب من المذاهب مدرستين إحداهما تدعو إلى الأخذ بما قام عليه الدليل ولو لم يكن هو مشهور المذهب، والأخرى تدعو إلى الأخذ بما تسميه مشهور المذهب ولو خالف الدليل، ونرى أن هذا الخلاف ناشئ عن الخلفية العلمية لكل واحدة من المدرستين، فهنا من أتباع المذهب من اشتغلوا بالحديث والتفسير مع الاشتغال بفروع الفقه، وهنالك من شغلهم حفظ الفروع والتخريجات عن الاشتغال بالدليل.
ولا شك أن الطائفة التي تشتغل بالدليل من أتباع المذهب هي صاحبة التحقيق والتوفيق عند مواطن النزاع، ومن هذه الطائفة من الشافعية ابن حجر والنووي على سبيل المثال لا الحصر، وإليكم هذا المثال: يقول النووي بعد إيراده لحديث مسلم في نقض الوضوء بلحم الإبل: احتج أصحابنا ــ يعني الشافعية ــ بأنباء ضعيفة في مقابل هذين الحديثين، وكأن الحديثين لم يصحا عند الإمام الشافعي.
ولذا قال إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به، والصحيح في ذلك ــ والكلام لا يزال للنووي ــ ما ذهب إليه الإمام أحمد وعامة أصحاب الحديث.. إلى أن قال: الجديد المشهور لا ينقض وهو الصحيح عند الأصحاب والقديم أنه ينقض وهو ضعيف عند الأصحاب، لكنه هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل وهو الذي أعتقد رجحانه، وقد أشار البيهقي إلى ترجيحه واختياره والذب عنه([10]).
ومحل الشاهد عندي من هذا أن البيهقي والنووي من عظماء أئمة الشافعية، وهما من أئمة الحديث في نفس الوقت.
وقد ظهر الخلاف في المذهب المالكي بين المدرستين، مدرسة الدليل ومدرسة التقليد، أقول ظهر بينهما ظهوراً أشد من ظهوره بين غيرهم من أهل بقية المذاهب، ولم يخلُ ما جرى من ذلك بين هاتين المدرستين من نتف وطرائف.
ومن ذلك ما جرى بين منذر بن سعيد البلوطي من علماء الأندلس وبين معاصريه من الأندلسيين فقد قال مخاطباً لهم:
وسنتوقف عند هذا القدر من ذكر أسباب الخلاف بين المتقدمين، ولم نرد حصر هذه الأسباب ولا يتسنى ذلك في مثل هذا المقام، وإنما ذكرنا ما نرى أنه هو أشهر هذه الأسباب وأكثره التصاقاً بما نحن فيه.
الفصل الثاني
في أسباب اختلاف العاملين للإسلام الآن
(1) من هذه الأسباب ما يعود إلى الأسباب المتقدمة، ومن ذلك دعوى النسخ في بعض الآيات، يقول الأستاذ عمر عبيد حسنه: "لقد أدى مجرد الاستشهاد بالآيات والأحاديث وتنزيلها على غير محلها إلى الكثير من التناقض والتضاد، ودعا إلى التعسف في التعامل مع النصوص نسخاً وترجيحاً وما إلى ذلك؛ حيث ذهب بعض القائلين بالنسخ إلى اعتبار آية السيف ناسخة لما يربو على مائة آية من آيات الدعوة والحوار والمجادلة بالتي هي أحسن في حين أن المشكلة فيما نرى هي في فقه الحالة، وما يلائمها من الحلول الشرعية، ففي مرحلة وحالة قد يكون الحكم: (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)، وفي حالة قد يكون: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا)، وفي حالة التعبئة العامة: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة)، وفي حالة التعاهد والموادعة: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)"([11]).
ومما يدل على فساد القول بأن آية السيف نسخت ما يربوا على مائة آية أمران الأول: أن الأصل عدم النسخ، ولإثبات النسخ طرق معروفة، وليس مع أصحاب هذا القول ما يثبت النسخ بهذه الطرق.
الأمر الثاني: أن الخلفاء الراشدين وأمراء الجنود الإسلامية ظلوا يصالحون ويهادنون ويوادعون عملاً بمقتضى هذه الآيات، فلو كان حكمها منسوخاً ما ساغ لهم ذلك.
(2) المعاصرة وقد تقدم الكلام فيها.(/4)
(3) انتماء العاملين لمدارس فقهية مختلفة فهنالك منتمون لأهل الظاهر، وهناك منتمون لأهل المذاهب الأربعة، ومن هؤلاء من ينتمي لمدرسة الدليل، ومنهم من ينتمي لمدرسة التقليد، وهنالك أسباب أخرى لم تكن معروفة بحجمها التي هي به الآن عند المتقدمين أوجدتها ظروف جدَّت وأوضاع فرضت نفسها ومن هذه الأسباب:
أولاً: ترتيب الأولويات فمن الناس من يرى أن الأولى التركيز على جانب العقيدة..
ومنهم من يرى التركيز على فضح خطط أعداء الإسلام وتعريتها ووضع الخطة القادرة على دفعها..
ومنهم من يرى أن الأولى لم الشمل أولاً.
ثانياً: موضوع المشاركة في الانتخابات، فمنهم من يرى أن المشاركة فيها إقرار لمبدأ كون الحكم لغير الله.. ومنهم من يرى أنه وسيلة لإحقاق ما يمكن إحقاقه من الحق.
والذي نراه هنا أن موضوع المشاركة من المواضيع الخاضعة لمراعاة المصلحة التي ينبغي أن يترك الحكم فيها لأهل الحل والعقد من البلاد التي هي فيها، وهم من جمعوا بين علم السياسة وعلم الشرع، فهم أهل الذكر هنا والله جل وعلا يقول: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
الخاتمة
نرى أنه مما يعين على تجاوز هذه المحنة أمور:
الأول: إعداد ميثاق للعمل يشارك فيه جميع العاملين للإسلام من أهل القبلة وينص في هذا الميثاق على أمور:
الأول: ترتيب الأولويات، ويستعان في هذا بالكتاب والثابت من السنة، وبقواعد الفقه فإن فيها ما يفيد في هذا إذا هُذِّبت هذه القواعد ونُقِّحت وركز على ما يلامس الواقع منها دون غيره، ومن هذه القواعد على سبيل المثال لا الحصر: درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ومن مستندات هذه القاعدة تحريم الخمر والميسر مع التصريح بأن فيهما منافع قال تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) [سورة البقرة:219].
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم))([12]).
فقد قيَّّّّد الإتيان في المأمور به بالاستطاعة وأطلق في جانب المنهي عنه، ولم يقيد مع أن المرء غير مكلف باجتناب ما لا قدرة له على اجتنابه في الجملة، فلم يبق للتقييد بالاستطاعة في جانب المأمورات والإطلاق عن التقييد بها في جانب المنهيات ــ نقول ــ لم يبق لهذا فائدة غير بيان أن جانب المنهيات أعظم من جانب المأمورات إذا تعارضا.
ومنها قاعدة التدرج في الأمور ــ وهي تحتاج إلى تهذيب وتنقيح ــ ويستشهد لها بواقع حال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد مكث زماناً يدعوا إلى التوحيد، ثم انضاف إلى التوحيد الصلاة وبعض العبادة.. وظل التغيير في تدرج إلى أن وصل الأمر بالمجتمع إلى القمة في الالتزام بالدين، بل إن كل أمر جاء الشرع بتحريمه وكان أهل الجاهلية شديدي التمسك به لم يحرم إلا بالتدريج، وذلك كالخمر والربا، تقول عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري: ((إنما نزل أول ما نزل منه ــ يعني القرآن ــ سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل على محمد بمكة وإني لجارية ألعب: بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده)).
ويبين ذلك أيضاً قول الله جل وعلا: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [سورة النساء:77]، أي قيل لهم في مرحلة من المراحل الأولى للدعوة كفوا أيديكم عن القتال ولو كان لمجرد الدفع؛ فماتت سمية تحت التعذيب، ومات ياسر تحته، وفي المسلمين رجال أشداء ذوو نجدة وبأس لكن لمَّا يؤذن لهم بالدفاع في ذلك الوقت.
ويستشهد هنا أيضاً بحديث معاذ في بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله فإن هم أطاعوا بذلك فأخبرهم..)) الحديث المتفق عليه.
ووجه الشاهد منه واضح وهو التدرج في خطاب المدعوين والانتقال بهم بيسر وهدوء من حال إلى الحال التي فوقها، فلو أنهم أخذوا بالأمر كله مرة واحدة كان ذلك سبباً في صدهم.
ومنها قاعدة عدم الافتيات في أمور يدفع الجميع ثمنها ولسان حالهم قول القائل:
جررت على راج الهوادة منهم***وقد تلحق المولى العنود الجرائر(/5)
ويجب التنبه إلى أن الخلاف على ترتيب الأولويات قد يؤدي إلى كوارث غير محسوبة كما حصل يوم الجمل، وما تبع ذلك يوم صفين، وما نشأ عن ذلك من أمور ألقت فيها الفتن بظلالها وقد ظلت الأمة تدفع ثمنها إلى اليوم كظهور فكر الخوارج حينئذ، ومن تلك المآسي قتل الحسين وما نشأ عنه، وولاية الحجاج وما نشأ عنها، وهذا كله لمجرد التمثيل وإلا فالوقائع العظام هنا لا تحصى، هذا الأمر كان خلافاً على ترتيب الأولويات، فقد كانت عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم يرون أن أول ما يجب فعله هو أن يقتص من قتلة عثمان فيما كان علي يرى أن أول ما يجب فعله إخماد الفتنة ثم بعد ذلك القصاص، فلا معنى لإقامة حد والناس في هرج ومرج والدولة في تفرق وتشرذم وأركانها تتهاوى.
ومما يعين على ذلك أيضاً:
(1) تعويد الناس خصوصاً المهتمين منهم بالدعوة على أن يكون المرجع عند الاختلاف هو الاعتصام بالكتاب والسنة، وألا يترك ما ثبت من الدليل لقول أحد كائن من كان، ولكن ذلك يتم بحكمة وتريث.
(2) البعد عن الافتراق المذموم: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)، فالمطلوب أمران: التزام بما صح، وبعد عن التفرق، ولا يكون ذلك إلا بوضع مناهج تؤدي في النهاية إلى هذا الغرض، فلا يكفي مجرد التلقين.
(3) بدء التعاون فيما تم الاتفاق عليه، وإرجاء ما بقي معلقاً إلى مؤتمرات أخرى.
(4) التواصي على عدم التجريح والإطناب في الإنكار.
(5) توجيه الباحثين من طلاب الدراسات العليا وغيرهم إلى أن يكون ما يقومون به من إعداد الرسائل والبحوث العلمية صاباً في هذه القناة.
(6) الاستفادة من جهود وخبرات كل من تدرجوا في حل الخلافات التي كانت توجد بينهم من غير المسلمين فما كان بينهم من الخلافات أكبر بكثير مما هو حاصل بيننا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها))([13]).
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم)) والحديث في صحيح مسلم من رواية جدامة بنت وهب الأسدية رضي الله عنها، ومحل الشاهد منه هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي عرفنا منه أنه كان يحب مخالفة الكفار ويدعو إلى ذلك لم يجد أي حرج في أن يعلِّمنا في هذا الموطن أنه عدل عن النهي مستفيداً مما علمه من حالهم.
وبالجملة فإن عند المسلمين من عوامل الاجتماع ما ليس عند غيرهم والشاعر يقول:
ولم أر في عيوب الناس عيباً***كنقص القادرين على التمام
وإننا نرى الأمم الآن تتجمع وتتكتل لا يجمعها دين ولا عرق..
ونحن نزداد تشرذماً وتمزقاً وديننا واحد ووطننا واحد ممتد، وثرواتنا لا تحصى ونحن غثاء كغثاء السيل.
وهنا نقطة لا بد من تسجيلها وهي أن أزمة الأمة اليوم أزمة نُخَب وليست أزمة شعوب، فالشعوب أثبتت في مواطن كثيرة أنها مع هذا الدين، ولكنها لا تجد من هم قادرون على جرِّها إليه، وهذه حقيقة يجب أن يعترف بها وأن يبذل الوسع في سبيل تلافي ما يمكن تلافيه وتدارك ما يمكن تداركه، وتسخير جميع الوسائل في سبيل ذلك.
([1]) الموسوعة الكويتية (خلاف).
([2]) متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.
([3]) الصواعق:2/542 فما بعدها.
([4]) فمنهم من فسر الإقراء في قوله تعالى: ثلاثة قروء، بالإطهار ومن فسرها بالحيضات.
([5]) يقول ابن القيم: فهمت طائفة من الخيط الأبيض والخيط الأسود الخيطين المعروفين، وفهم غيرهم بياض النهار وسواد الليل. (الصواعق: 2/556).
([6]) جامع بين العلم وفضله 2/151.
([7]) السير: 10/72.
([8]) التاج والإكليل.
([9]) البرهان 1/290.
([10]) المجموع 2/70.
([11]) نظرات في فقه الخطاب ص: 52 ــ 53.
([12]) متفق عليه.
([13]) رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة.
* رئيس لجنة الفتوى بالشبكة الإسلامية- قطر(/6)
اختلاف المفسرين
أ.د. سعود بن عبد الله بن محمد الفنيسان 5/3/1426
14/04/2005
اشتمل هذا البحث على مقدمة تمهيد وثلاثة أبواب:
المقدمة: في أهمية الموضوع وأسباب اختياره وخطة البحث.
التمهيد: في نشأة التفسير وتاريخ تدوينه وكيف كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يفسر القرآن لصحابته، وهل فسر لهم القرآن كاملاً أو لا؟
الباب الأول: في الأسباب العامة لاختلاف المفسرين وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: اختلاف القراءات في القرآن ومقاييس ميولها.
الفصل الثاني: المباحث اللغوية والبيانية.
الفصل الثالث: دواعي النسخ والاختلاف فيها.
الفصل الرابع: مواقف المفسرين من القضايا بالعقلية وفهم المتشابه.
الباب الثاني: الأسباب الخاصة لاختلاف المفسرين وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: اختلاف مقاييس النقد لسند الروايات.
الفصل الثاني: اختلاف مقاييس النقد لمتن الروايات.
الفصل الثالث: الاختلاف في مصادر التشريع مما لا نص فيه.
الفصل الرابع: الانتماء العقدي.
الفصل الخامس: الانتماء المذهبي.
الباب الثالث: آثار الاختلاف بين المفسرين وفيه فصلان:
الفصل الأول: أثر اختلاف المفسرين في العقائد.
الفصل الثاني: أثر اختلاف المفسرين في الأحكام.
الخاتمة:
ولعل أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث ما يلي:
1- أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يفسر من القرآن إلا ما كانت تدعو الحاجة إلى تفسيره.
2-أن التفسير في عهد الصحابة والتابعين كانت التفسير يعتمد على الأثر والرواية أكثر من العقل والدراية،ولم يفسر القرآن كاملاً مرتباً، بل كان يقتصر على بيان ما غمض منه، ببيان مجملة أو كشف معنى لقوي بأخصر لفظ وأوجزه، فلم يتطرق إليه دخيل اللهم إلا في الروايات الإسرائيلية في آخر عهد التابعين التي هيئا الله لها نقده الحديث فبينوا الحق فيها.
3- أن التفسير في فترة الصحابة والتابعين كان يروي كرواية الحديث، حتى هيئا الله له مجموعة من العلماء جمعوه في كتب خاصة به، عرفت بكتب التفسير بالأثر، كتفسير ابن جرير الطبري ومحمد إبراهيم النيسابوري وابن ماجه.
4- أن الاعتماد في التفسير على المأثور- رغم ما شابه من ضعف في حلقة من حلقاته- التاريخية ظل هو السائد إلى أواسط العصر العباس حين انتشرت المذاهب الفقهية والعقدية و الطرق الصوفية والعلوم التخصصية فراح كل فريق يفسر القرآن بالرأي، وبعضهم راح يلوي عنق الآية حتى توافق مذهبه أو عقيدته ويزعم أن ما قاله هو تفسير للقرآن وتأويل له.
5- أن السمة الغالبة على التفسير الحديث الإنشائية والعلمية، مع العناية بالاكتشافات العلمية والظواهر الاجتماعية والنفسية، أكثر من عنايته بالأثر والدلالات اللغوية.
6- أن ضابط القراءة الصحيحة، أنها كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها.
7- أن قراءات القرآن ثلاثة أقسام:
أ- ما اجتمع فيه ثلاثة شروط، وهي صحة السند وموافقة العربية وخط المصحف، فيقطع بقرآنيته وكفر منكره.
ب- ما صح سنده ووافق العربية وخالف خط المصحف العثماني، فهذا لا يقرأ به، وإنما يعمل به لأنه من باب السنة لا من باب القرآن.
ج- مالم يصح سنده، فهذا لا يقبل ولو وافق العربية وخط المصحف.
8- أن سبب الاختلاف في القراءات نزول القرآن على سبعة أحرف.
9- أن الراجح أن الأحرف السبعة هي سبع لغات توقيفية معروفة كان الصحابة يقرأون بها في أول الأمر، ثم أجمعوا على مصحف عثمان.
10- أن كتابة القرآن بدأت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن بقي متفرقاً في الجريد والعسب، فلما كانت خلافة أبي بكر ووقعت المقتلة في الصحابة في اليمامة اقترح عمر على أبي بكر جمعه حتى لايذهب القرآن بذهاب القراء فأمر زيد بن ثابت الأنصاري بجمعه فجمعه من الجريد والعسب وصدور الرجال، فلما كانت خلافة عثمان وبدأ الصحابة ينتشرون في البلاد وظهر الخلاف بين القراء في الأمصار، وخشيت الفتنة بين الناس أقترح حذيفة بن اليمان على عثمان أن يجمع القرآن في مصحف واحد فكلف بذلك مجموعة من الصحابة برآسة زيد بن ثابت الأنصاري فكتبوا المصحف وأرسل منه ستة نسخ إلى أمصار الإسلام واحتفظ منه بنسخة واحدة سميت فيما بعد بالمصحف الإمام، فأخذ أهل كل مصر بمافي مصحفهم وفق القراءة التي أقرأهم بها الصحابة، وأجمع أهل كل مصر على صحة روايتهم وقبولها، ومن هنا نشأ علم القراءات، وظهر بسبب ذلك اختلاف كاد أن يجر الأمة إلى الفتنة حتى قيض الله العلماء فجمعوا الحروف والقراءات وعزوا الوجوه والروايات، وميزوا بين المشهور والشاذ والصحيح والضعيف، وكان أول من صنف في القراءات في كتاب واحد أبو عبيد القاسم بن سلام، ثم أحمد بن جبير الكوف ثم اسماعيل بن إسحاق المالكي، ثم جاء أبوبكر أحمد بن موسى المعروف بابن مجاهد وهو أول من اقتصر على قراءة القراء السبعة ثم تتابع التأليف.(/1)
11- أن مصحف عثمان- رضي الله عنه- اقتصر على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وهو ما كان في العرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل.
12- أن التواتر شرط لعد القراءة قرآنا، وليس شرطاً للعمل بها، بل يعمل بها إن كانت آحاداً.
13- أن تواتر القراءات نسبي فقد يتواتر عند أحد القراء مالم يتواتر عند الآخر، ولهذا لم يكفر بعضهم بعضا في إنكار ما ثبت عنده بالتواتر، ولم يثبت عند غيره.
14- أن الراحج أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا غيرها، وإنما كان يؤتى بها للفصل بين السور.
15- أن الأسباب العامة للخلاف في التفسير بين العلماء ترجع إلى الخلاف في الإعراب أحياناً كما ترجع إلى اشتراك الألفاظ، والقول بالمجاز والاختلاف في المخصِّص، والمقيِّد، والمبيِّن ودلالة الأمر والنهي واعتبار الناسخ أحياناً أخر.
16- أن مذهب أهل السنة والجماعة تقديم الشرع على العقل عند التعارض بخلاف المعتزلة الذين يقدمون العقل على الشرع، ومما ترتب على ذلك إنكار المعجزات والجن والسحر والإصابة بالعين.
17- أن الأسباب الخاصة لاختلاف المفسرين في التفسير ترجع إلى:
أ- اختلاف مقاييس النقد لسند الرواية.
ب- اختلاف مقاييس النقد لمتن الرواية.
ج- الاختلاق في مصادر التشريع فيما لا تنص فيه.
د- الانتماء العقدي.
هـ- الانتماء المذهبي الفقهي
اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره
أ.د. سعود بن عبد الله الفنيسان 27/1/1426
08/03/2005
اسم الكتاب: ... اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره
المؤلف: ... أ.د. سعود بن عبد الله الفنيسان
الناشر: ... مركز الدراسات والإعلام - دار اشبيليا
إن موضوع "اختلاف المفسرين وأثره" موضوع هام ودقيق؛ يعتمد على الجهد ودقة الاستنباط أكثر من اعتماده على جمع النصوص، وترتيب الأقوال. ولذا اقتصرت في بحثي على الأسباب الرئيسية والأساسية لاختلاف المفسرين؛ مع بيان أثر هذا الاختلاف بينهم في العقائد والأحكام.
ففي التمهيد: بينت نشأة التفسير، وتاريخ تدوينه، وكيف كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يفسر القرآن لصحابته، وهل فسر لهم القرآن كله كاملاً أو لا؟.
كما بينت طريقة الصحابة والتابعين في تفسير القرآن، مع توضيح ذلك بنماذج وأمثلة عديدة، وأوضحت – باختصار – مناهج المفسرين واتجاهاتهم في القديم والحديث.
وفي الباب الأول: "الأسباب العامة لاختلاف المفسرين"؛ تحدثت فيه عن:
(1) قراءات القرآن، وشروط قبولها، وكيف كانت سببا للاختلاف بين المفسرين، وثمرة هذا الاختلاف؛ كما بينت الاختلاف في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن مع ترجيح ما ظهر لي رجحانه. وبحثت مسألة: هل المصحف الذي بين أيدينا – اليوم – يقتصر على حرفٍ واحدٍ، أو هو شاملٌ للأحرف السبعة كلها؟ وبينت أيضاً بإيجاز تاريخ تدوين القراءات، وهل يشترط التواتر في القراءة أو لا؟.
(2) كما بينت كيف يكون إعراب الكلمة أو الاشتراك اللفظي سبباً للاختلاف بين العلماء، وأثر ذلك في تفسير القرآن، وبينت – أيضاً – أن حمل "الكلمة" على الحقيقة عند قوم، وعلى المجاز عند آخرين، تكون سبباً للاختلاف في تفسير الآية بين المفسرين؛ كما بينت أثر هذا في تأويل آيات الأسماء والصفات عند القائلين بالمجاز في القرآن، ورددت على أدلة المؤولين، وقررت عقيدة السلف، كما بينت – أيضاً أن عموم اللفظة عند قوم وخصوصها عند آخرين؛ هو أحد أسباب الاختلاف بين المفسرين، وبينت أثر هذا الاختلاف في أكثر من آية، وكذلك في الإطلاق والتقييد والبيان والإجمال.
(3) وكثيراً ما نسمع عن السلف: أن الآية منسوخة نسختها آية (كذا) فبينت معنى النسخ، وحقيقته عند السلف، ومن جاء بعدهم ومنشأ الخلاف وأثره في أكثر من آية.
(4) وأوضحت – أيضاً – معنى التشابه في القرآن وحقيقته، والخلاف فيه، وموقف المفسرين قديماً وحديثاً من التفسير بالرأي والعقل، وأثر هذا في تفسير آيات القرآن الكريم في مواضع كثيرة.
وفي الباب الثاني: تتبعت الأسباب الخاصة لاختلاف المفسرين، فتحدثت عن:
1. ما له صلة بسند الرواية – مما يفسر به القرآن – كوصول الحديث لمجتهد دون آخر، أو ثبوته عنده دون غيره، والخلاف في تخصيص الآية بالحديث، إذا أنكر الراوي روايته عنه، أو خصص في الآية بعمل الرواية إذا خالف روايته، أو كان راوي الحديث مستور الحال.
وقد سقت الخلاف بين العلماء في هذا كله، ورجحت ما بان لي رجحانه، وبينت أثر الاختلاف بين المفسرين في مواضع كثيرة من القرآن.
2. كما بينت – أيضاً – الأسباب الخاصة لاختلاف المفسرين – مما له صلة بمتن الرواية – مثل: التفاوت بين المفسرين في الفهم؛ نظراً لتفاوتهم في حفظ السنة النبوية، واللغة العربية، ودلالتهما على الحكم الشرعي، وأثر ذلك في تفسير القرآن، ومثل وجود التعارض – في الظاهر – بين أدلة الكتاب والسنة. وقد فصلت في هذا وبينت خلاف العلماء، ومنشأه، وأثر هذا الاختلاف في آيات القرآن الكريم .(/2)
ومثل: تخصيص الآية بالحديث الضعيف، وقد حكيت خلاف العلماء في ذلك، ومنشأه، وأثره في تفسير القرآن الكريم .
3. كما بينت الاختلاف في مصادر التشريع – التبعية – كالقياس والمصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قبلنا، والاحتجاج بمفهوم المخالفة، وتعليل الأحكام، وحكم الزيادة على النص. فبينت خلاف العلماء في هذا ومنشأه، وثمرته في تفسير القرآن الكريم في أكثر من آية.
4. ويعتبر الاختلاف في العقيدة سمة بارزة في كتب التفسير، فاخترت تفسيرين جعلتهما نموذجين للانحراف في العقيدة، هما: مجمع البيان[للطبرسي الشيعي]، وتفسير الكشاف [للزمخشري المعتزلي]، وقد أفضت – بعض الشيء – في هذا مع النقد والتوجيه لكل مسألة سقتها، سواء كانت في العقيدة أو الأحكام، وبينت خلاف المفسرين في هذا، ومنشأه وثمرته في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم.
(5) كما يعتبر الانتماء المذهبي من أبرز أسباب الاختلاف بين المفسرين؛ لذا فقد درست فيه نموذجين من التفسير، هما: تفسير القرطبي المالكي، وتفسير الجصاص الحنفي، وقد اخترتهما على غيرهما لظهور التعصب المذهبي فيهما أكثر من غيرهما ولشمولهما لأكثر الأحكام الفقهية، وقد سقت الخلاف في كل مسألة، وحررت محل النزاع وبينت أثره في آيات كثيرة.
وعقدت باباً – خاصاً- لبيان أثر الاختلاف بين المفسرين في العقائد والأحكام ففي العقيدة بحثت ثلاث مسائل:
الأولى: زيادة الإيمان ونقصانه.
الثانية: حكم الاستثناء في الإيمان، وتعليقه بالمشيئة.
الثالثة: الحسن والقبح والعقليان.
فبينت منشأ اختلاف العلماء، ودليل كل قول، وتحرير محل النزاع وبيان ثمرة الخلاف في آيات من القرآن الكريم. أما أثر الاختلاف في الأحكام الفقهية فقد اخترت آيات الأحكام في سورة الحج؛ لاشتمالها على أهم مناسك الحج، فبينت خلاف العلماء في هذا ومنشأه. وثمرته.
وأخيراً: إن هذا جهد المقل، فإن وفقت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وما توفيقي إلا بالله(/3)
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فبعدَ أنَّ تبينَ لنا في المقالةِ السابقةِ من هُم المقصود ون بالدعوة إلى الله عز وجل؟ نتعرفُ في هذهِ المقالةِ على مسألةٍ مهمةٍ تتعلقُ بالإخلاص في الدعوة إلى الله عز وجل، وهي مسألةٌ قلَّما نتنبّهُ إليها، أو ننبهُ عليها، وجُلُّ ما نفهمه من معنى الدعوةِ إلى الله عز وجل، هو أنَّ الداعيةَ إنَّما يدعو إلى ربهِ، وإلى سبيلهِ وتوحيدهِ وطاعته، وإلى أقامةِ دينهِ كما قال تعالى: (( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ )) (النحل: من الآية125)
وقوله تعالى : (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي )) (يوسف: من الآية108)
ولا شكَّ أنَّ هذا معنى صحيح، وهدفٌ أساس للدعوة إلى الله عز وجل، لكنْ هُناكَ معنى لطيف، ومسألةً عظيمةً يتضمنها مفهومُ الدعوة إلى الله تعالى، يتعلقُ بإخلاص الدعوة للهِ سبحانهُ، قَلَّما ننتبهُ إليهِ ،
وهو ما أشار إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمهُ الله- تعالى في ( مسائل باب الدعاءِ إلى شهادة أن لا إله إلا الله ) وهو من أبواب كتابِ التوحيد حيثُ يقول:
( المسألةُ الثانية: التنبيهُ على الإخلاص، لأنَّ كثيرًا لو دعا إلى الحقِّ فهو يدعو إلى نفسه).
يا لها من مسألةٍ عظيمةٍ يغفل عنها الكثير منّا، وإنَّها لمن الدقة واللطف، بحيث توجدُ عند البعض منَّا دون الشعور بوجودها.
وإن لم يُفتش الداعية عنها في نفسه، ويُبادر إلى التخلص منها، فإنَّها قد تكونُ سببًا في حبوطِ العمل، وضياعَ الجهد- عياذًا بالله- تعالى. ولإتمامِ الفائدةِ أسوقُ فيما يلي بعض العلامات والمظاهر التي يدُّلُ وجودها على تلوث القلب بهذه الآفة الخطيرة.
1- الحزبيّة المقيتة، التي تدفعُ بصاحبها إلى عقدِ المحبة والعداوة على الأسماءِ والأشخاصِ والطوائف.
2- حُبُّ الشُهرةِ والصدارة: والتفافُ الناس، وكراهية الدُعاة الآخرين، والانقباضُ والضيقُ من تجمعِ الناس حولهم، لا لشيءٍ إلاَّ لأنَّ في ذلك منافسةً وحسدًا في القلب.
3- التزهيدُ في أعمالِ بعضِ الدُعاة، وتحقيرها وتشويهها، حتى ولو كان هذا العملُ قد ظهر خيرهُ وصلاحه، فلا ترى صاحبُ القلب المريض الذي يدعو إلى نفسهِ وليس إلى الله تعالى، إلاَّ مُستَّاءً من ذلك .
ولو كان الأمرُ إليه لأوقفَ كل عمل خيرٍ يقومُ بهِ غيره، وهذا من علاماتِ الخذلان- عياذًا بالله- تعالى، لأنَّ العبدَ المخلصُ في دعوته إلى الله تعالى، يحبُّ كل داعيةٍ إلى الخير ولو لم يعرفه، أو لم يرهُ، ويدعو له بظهر الغيب، ويفرحُ بأيِّ بابٍ من الخير يفتحهُ الله تعالى على يدِ من كان من عباد الله، ويفرحُ بأيِّ بابٍ من الشَّر يُغلقُ على يدِ من كان ذلك، لأنَّ في ذلك صلاحًا للعباد، وإسهامًا في هدا يتهم وتعبيدهم لرب العالمين، وكفى بذلك هدفًا وثمرةً تُثلج صدر الداعية المخلص، سواءً تحقق ذلك على يدهِ، أو على يد غيره من الداعين إلى الله تعالى.
4- الوقوع في غيبةِ الدعاة، أو السعي بالنميمةِ والوشايةِ، لإلحاق الأذى بهم،أو إشاعة ما هم منه برءاء في الناس، حتى ينفضوا من حولهم ويلتفوا حوله.
وأكتفي بهذه العلاماتِ كأمثلةٍ سريعةٍ لهذا المرض، وإلاَّ فالأمثلةُ كثيرة، وكلُّ إنسانٍ أدرى بنفسه، وهو على نفسه بصيرة.
والمقصودُ التنبيه على هذه الآفات الخطيرة، التي تمحقُ بركةَ الأعمالِ في الدنيا، وتذهبُ بأجرها في الآخرة(/1)
ادعُ إِلى سبيل ربك
بالحكمة والموعظة الحسنة
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
( ادعُ إِلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربّك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )
[ النحل : 125 ]
يطلق كثير من المسلمين هذه الآية الكريمة حجّة لهم في موقع غير موقعها ليسوّغوا عجزاً أَو تنازلاً أو عدم تقدير حقيقي لعظمة هذه الآية الكريمة وشدة ارتباطها مع كامل منهاج الله في تناسق وإِعجاز مع يُسْر للناس في فهمها وتدبرها .
إن الآية الكريمة تمثّل حقّاً مطلقاً جاء من عند الله وحياً على محمد صلى الله عليه وسلم . وستظل هذه الآية الكريمة غنيّة الممارسة والتطبيق في كل واقع بشري . ولنفهم الآية الكريمة ونتدبرها يجب أن نفهم القضيّة التي تعالجها .
إن الآية تبتدئ بعرض القضية والموضوع : ( ادع إلى سبيل ربّك ... ) . هذه هي القضية التي تتحدث عنها هذه الآية الكريمة متناسقة مع جميع الآيات الأُخرى في القرآن الكريم ، الآيات التي تتحدث عن هذه القضية وأساليبها ووسائلها . إنها قضيّة الدعوة والإيمان والتوحيد ، إلى الله ورسوله ، إلى دين الله الحق ـ الإسلام ـ ، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، ومن عبادة العباد والأوثان والأهواء إلى عبادة الله الذي لا إله إلا هو . إن هذه القضية تمثل القضية الكبرى في الكون والحياة ، القضيّة التي من أجلها بعث الله الرسل والأنبياء الذين ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالقرآن الكريم الذي جاء مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه . إنها تمثل الهدف الرّبانيّ الثابت الأول في حياة المسلم وفي مسيرة الدعوة الإسلامية . ومن أجل هذه القضية تقوم الدعوة الإسلامية في الأرض لإنقاذ الناس من عذاب الدار الآخرة لمن يموت على الشرك أو الكفر ، ولإنقاذ الناس من فتنة الدنيا .
القضية التي تدور حولها الآية والآيات التي قبلها وبعدها هي قضية دعوة الناس إلى الإيمان والتوحيد . ومن أجل هذا الهدف العظيم تتحدّد علاقة المسلم بسائر الناس على ضوء قواعد ربّانية يفصّلها منهاج الله .
إن التوجيه في هذه الآية هو للداعية العامل ، الداعية المجاهد الذي عرف دربه وهدفه ، وعرف عهده مع الله ليكون الحافز الدائم ليمضي على الدرب يبلّغ رسالة الله .
فمن أجل ذلك جاء التوجيه الرباني ( .. بالحكمة والموعظة الحسنة .. ) . هذه هي القاعدة الأولى الهامة ، أن تكون الدعوة بالحكمة أولاً ، باختيار الأسلوب الأمثل المليء بالحكمة لتبليغ رسالة الله واضحة جليّة دون مواربة ولا تنازلات ولا مساومات . لا يحلّ للداعية المسلم أن يغيّر أو يبدل دين الله ، وفي الأساليب التي بيّنها منهاج الله ، ثم يقول : إن هذا التغيير أو التنازل هو من باب الحكمة .
والحكمة هي في بعض الآيات تعني ما أُنزل من عند الله ، وفي أخرى يكون معناها الجامع : فقه الموهبة المؤمنة والمسؤولية والأمانة .
وهنا يحاول بعض المسلمين أن يقرّب الإسلام من العلمانية مدّعياً أن تقريبهما هو من باب الحكمة ، أو ضرورات الواقع ، أو المصلحة العامة التي يتوهمها .
إن أسلوب الحكمة نستطيع أن نفهمه من كتاب الله نفسه ، ومن هذه الآية الكريمة بقوله سبحانه وتعالى : ( والموعظة الحسنة ) والموعظة هي أن تبيّن لهم عظمة الإسلام والإيمان وقوة ثباتك أيها الداعية المسلم عليه . والموعظة الحسنة هي : الوضوح في الكلمة المؤمنة الطيبة ، والصدق فيها ، حتى لا يكون هنالك مجال لسوء الفهم أو التغرير . إنها تتأكد بقوله سبحانه وتعالى ( ... وقولوا للناس حسناً ... ) [ البقرة : 83 ]
وبقوله تعالى : (.. وهدوا إلى الطيّب من القول وهدوا إلى صراط الحميد )
[ الحج : 24 ]
يجمع الله سبحانه وتعالى معاني ( قولوا حسناً ) ، ( الطيب من القول ) ، ( الموعظة الحسنة ) ، ( صراط الحميد ) ، وغير ذلك من الآيات الكريمة ، بقوله الجامع في آية جامعة :
( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ) [ فصلت : 23 ]
إنها آية جامعة لكل ما سبق ، مفصِّلة لمعنى : بالحكمة والموعظة الحسنة ، وغير ذلك مما ذكرناه سابقاً . إنها تجمع ذلك في ثلاث قضايا أو خطوات : أولاً : ( ... دعا إلى الله .. ) : أن تكون الدعوة إلى الله هي جوهر العلاقة دون تغيير ولا تبديل ، ودون تمويه ولا مماراة ، ودون ضعف أو تردد . ثانياً ( ... وعمل صالحاً .. ) ، حتى يرى الناس أن قولك مطابق لعملك ، وأنك ملتزم بما تقتضيه دعوة الناس إلى الله : كلمة ونهجاً وتطبيقاً ، ليروا الإسلام ليس في الكلمات ولكن ليروه في واقع الحياة حيّاً ناطقاً بالحق . ثالثاً ( ... وقال إِنني من المسلمين ) : إنه الوضوح والجلاء وإعلان الهُويَّة لمن تدعوه ، حتى يطمئنّ إلى صدقك واستقامتك ، وأنك تعلن الحق ولا تتنازل عن شيء منه أبداً ، وترفض الباطل ولا تقبل منه شيئاً .(/1)
إن اللحظة التي يتنازل فيها الداعية عن شيء من الحق ، أو يقبل فيها شيئاً من الباطل ، تكون دعوته قد انتهت وسقطت وخسر الموقف كله ، وفتح الباب لشياطين الإنس والجنّ أن تلج وتتسلل ، ثم تمتد وتقوى ، وإذا الداعية المسلم أصبح يدعو بدعوة هؤلاء تحت شعار ( الحكمة ) ! إذا به يدعو إلى الحداثة أو العلمانية أو الديمقراطية أو الاشتراكية ، كل ذلك بدعوى الحكمة والموعظة الحسنة .
الأمثلة على ذلك كثيرة : داعية مسلم يدعو في قلب أمريكا إلى الديمقراطية ، وداعية مسلم ينتقل من بلد إلى بلد ، يبذل جهده وماله ووقته ليبيّن للناس فضائل الديمقراطية ( لأنها المثل الذي يحتذى ) ، ولا يتطرّق إلى الإسلام ودعوته ، وداعية ينتقل ليبيّن للناس أنه ( لا خلاف بين مقصود الشريعة الإسلامية والعَلمانية ) ، وداعية مسلم يحتضن ( الاشتراكيين ) ويتنازل لهم ويسكت عن بعض مناهجهم المنحرفة ، فإذا هو راضٍ عنها أو داعية لها . ذلك لأَنّ الشيطان يُزيّن للإنسان سوء عمله حتى يراه حسناً دون أن يشعر أنه مخطئ . إنه أمر طبيعي ! إن الحق يرفض أن يُتنازل عنه أو عن شيء منه أو أن يتجزأ ، لأنه عزيز قوي من عند الله ، وإن الحق يرفض أن يُشرَك معه باطل ، لأن الحق من عند الله والباطل من الشيطان وأَعدائه .
ليس أمام الداعية المسلم إلا سبيل واحدة :
( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) [ يوسف : 108 ]
نعم : ( أدعو إلى الله ) ! ، وليس إلى غيره ، أبلغ رسالة الله إلى الناس ، نعم : ( على بصيرة ) ! ، على إيمان ويقين ، ونهج واضح ودرب جليّ ، وأهداف مشرقة لا انحراف عنها !
( أنا ومن اتبعني ) ! فالمؤمنون أمة واحدة تمضي على سبيل واحدة إلى أهداف واحدة ، تنزيهاً لله دون شرك أبداً .
إنه ليس من الحكمة ولا من الموعظة الحسنة أبداً أن لا تدعو إِلى الله ، أو أن تعطّل الدعوة إلى الله بالانشغال عنها بما هو أقل منها شأناً عند الله ، أو تُفرِّق الدعوة أجزاءً غير مترابطة لا تكون نهجاً متصلاً ولا سبيلاً ممتداً : ( قل هذه سبيلي ) ! فالأمر من الله جَليُّ حاسم : ( ادعُ إلى ربّك .. ) ! بلّغ رسالة الله إلى الناس !
إنه ليس من الحكمة ولا من الموعظة الحسنة أن تدعو إلى شيء من ( دون الله ) ، ولا إلى أمر من ( دون الله ) . فقد جاء النهي من الله عن ذلك جلياً حاسماً : ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين ) [ يونس : 106 ]
( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [ الجن : 18 ]
( قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً ) [ الجن : 20 ]
إنه ليس من الحكمة ولا من الموعظة الحسنة أن لا تبلّغ رسالة الله كاملة ، كما أُنْزلتْ من عند الله ، أو أن تخفي منها شيئاً ، مداراة لوهم قذفه الشيطان في نفسك ، أو ظنّاً منك أنك بإخفاء شيء من رسالة الله أو تحويره تبلغ هدفك ، فالله أعلم ولقد جاء أمره جلياًّ حاسماً :
( يا أيها النبي بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين ) [ المائدة : 67 ]
( وقل الحقُ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أَعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً ) [ الكهف : 29 ]
إنك أيها الداعية المسلم إن أخفيت شيئاً خسرت أمرين : خسرت احترام مَنْ تدعوه ، لأنه يعرف دينك الذي لا يؤمن هو به ، ويعرف أنك غيّرت وبدّلت وخسرت رضاء الله وعونه ونصره ، فما النصر إلا من عند الله .
إنه ليس من الحكمة ولا من الموعظة الحسنة أن تخالف أمر الله وما أوحى به إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، أن تخالف ذلك إلى هواك واجتهادك البشري على غير أساس من دين الله . فلقد جاء أمر الله جليّاً حاسماً :
(واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين )
[ يونس : 109]
( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنزُ أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل )
[ هود : 12 ]
ليس من الحكمة أن نُصَوِّر الإسلام أنه دين المسالمة والمساومة والتنازلات كي نركن إلى من لا يؤمن بالله ، أو انحرف عن دين الله ، أو دعا إلى غير الله ، أو افترى على الله كذباً وادَّعى باطلاً أو أخفى وبدَّل وغيَّر ، ولا هو من الحكمة أن نخفي ما فرضه الله نصاً صريحاً في الكتاب والسنة من عدم موالاة المشركين والكافرين والمنافقين ، أو نخفي ما أمر الله به من جهاد في سبيل الله . ليس من الحكمة أن نخفي ما بيّنه الله للناس ، ولا أن نركن إلى الظالمين ، فقد جاء الأمر من عند الله جلياًّ حاسماً في كل ذلك ، وأمر المؤمنين بالصبر على ما يلقونه في سبيل الله :(/2)
( فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك ولا تظغوا إنه بما تعملون بصير . ولا تركنوا إلى الذي ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير )
[ هود : 111،112 ]
وكذلك فإنه ليس من الحكمة أن يُتَّهم الإسلام بأنَّه دين العدوان والظلم ، بادعاء باطل يقوم على تأويل فاسد للجهاد في سبيل الله ، لإلصاق الجريمة بالمسلمين ، ويُخفَى بعد ذلك أن الإسلام دين الحقِّ والعدل ، ودين الرحمة والعزّة والقوة ، وأن الحقَّ والعدل والرحمة والعزَّة لا تحقّق في الأرض إلا بالجهاد في سبيل الله .
إنَّ أساس الحكمة والموعظة الحسنة أَن نبلّغ رسالة الله كما أُنزلتْ على محمد صلى الله عليه وسلم ، لا نخفي شيئاً ولا نبدّل ولا نغيّر . ذلك لأن الموازنة في كتاب الله معجزة كلّ الإعجاز ، لا نستطيع بلوغها إِلا باتباعها ، ولا نستطيع بلوغها إذا لم نبلّغ الإسلام بتكامله ووضوحه ، أو إذا بلّغنا جزءاً وحذفنا جزءاً ، أو إذا قبلنا باطلاً فذلك ما يسعى إليه المجرمون في الأرض ، منذ النبوة الخاتمة ليفتنوا المؤمنين عما أُوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم :
( وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً . ولولا أن ثبَّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذا لأذقناك ضعْفَ الحياة وضعف الممات ثمّ لا تجد لك علينا نصيراً ) [ الإسراء : 75 ]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) [ البقرة : 159 ]
وكذلك :
( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون . الحقُّ من ربّك فلا تكوننّ من الممترين )
[ البقرة : 146 ، 147 ]
إذن نستطيع أن نفهم ما هي الحكمة والموعظة الحسنة في طريق الدعوة إلى الله من كتاب الله ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . ولقد أتينا بقبسات فقط ، لأننا لا نستطيع أن نعرض هنا كل ما جاء في منهاج الله ، فلا بد للمسلم أن يعود إلى منهاج الله عودة صادقة ليرى الصورة الجليّة بتكاملها وترابطها وتناسقها .
ثم يأتي الأمر الثاني من عند الله : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) ! نعم ! يجب مجادلتهم بالتي هي أحسن ، ذلك والمسلم الداعية قائم بالدعوة إلى الله ، يبلغ رسالة الله بتكاملها ، يعرض الحق لا يتنازل عن شيء منه أبداً ، ويرفض الباطل ولا يقبل منه شيئاً أبداً . إذاً ، وهو في طريق الدعوة ، يدعو ويبلّغ ، قد يضطر إلى المجادلة ، ليعرض حجّته بأسلوب مشرق صادق واضح مقنع . الأسلوب الحسن في الجدال نفهمه كذلك من كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم ، كما بيّنا قبل قليل . الأسلوب الحسن هو الوضوح والجلاء ، والصدق والبيان ، والحجّة القويّة المقنعة ، تعرض الحقَّ وترفض الباطل ، وليطابق القول العمل ، وذلك كله بأدب وخلق ، بالكلمة الطيِّبة ، والعمل الصالح .
ويعلمنا القرآن الكريم جميع الجوانب ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) ، وحدودها وأسلوبها ، وبصورة عملية جليّة . فلنأخذ قبسات من ذلك :
( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون )
[ العنكبوت : 46 ]
هذه هي الحدود : ( .. إلا الذين ظلموا منهم .. ) والظالمون هم الذين يدعون إلى باطل ويصرّون عليه ، والذين يعتدون ويظلمون الناس ، والكافرون والمنافقون ، الذين يفسدون في الأرض .
وهذا هو الأسلوب الأحسن : ( .. وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) إنه الصدق والحق والوضوح ، بأدب عالٍ وبيان وخلق . ليس الأسلوب الأحسن أن نقول إننا عَلمانيون ، أو أن علمانيتكم قريبة من ديننا ، ولا ديمقراطيتكم هي من الإسلام ، والحداثة من الإسلام ، والاشتراكية من الإسلام ، وعدد ما شئت ، ثم تقول إن ذلك كله من الإسلام . ولو فعلنا ذلك لما عرفَ الناس عندئذ ما هو الإسلام في وسط هذا الخليط المضطرب ، ولا ما هي حقيقته ! وانظر كيف يعلمنا الله ممارسة الحكمة والموعظة الحسنة والجدال الأحسن :
( الحقُّ من ربك فلا تكن من الممترين . فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنه الله على الكاذبين . إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ) [ آل عمران : 60ـ 62 ]
فهل هنالك أبلغ من هذا الدرس العظيم ، إلا أن يكون درساً آخر من كتاب الله ، فاستمع إلى درس ثانٍ في قوله سبحانه وتعالى :
( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) [ آل عمران : 64 ](/3)
وضوح وجلاء ، وقول فصل حاسم ، بأعلى درجات الخلق والقول الحسن والحكمة والموعظة الحسنة والجدال الحسن . واستمع أيضاً إلى أدب الجدال الحسن في صورة تطبيقية عملية :
( يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلاَّ من بعده أفلا تعقلون . هاأنتم حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون . وما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين . إنَّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبيّ والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) [ آل عمران : 65ـ68 ]
وضوح وجلاء ، قول فصل حاسم ، حجّة بالغة تخاطب النفس والعقل ، لتبلِّغ الحقَّ لا باطل معه ولا شوائب . موقف حاسم لا مساومة فيه ولا محاولة لتقريب الحق من الباطل أو الباطل من الحق ، إذْ لا لقاء بينهما أبداً .
واستمع إلى هذه الآيات الكريمة تعرض لنا الحكمة والموعظة الحسنة والقول الحاسم عندما ينتهي دور الجدل والجدال :
( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير . ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربّنا إنك أنت العزيز الحكيم ) [ الممتحنة : 4،5 ]
مواقف كثيرة نتعلم منها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، كيف يجب أن نمضي في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد ، إلى الحقيقة الكبرى في الكون والحياة ، إلى الله ورسوله ، وكيف تكون الحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن .
إن هذه القواعد الربانيّة يجب التزامها لتكون نهجاً متصلاً واعياً في حياة المؤمن الداعية ، سواء أكان يدعو كافراً ومشركاً ، أو أحداً من أهل الكتاب ، أو رجلاً منتسباً إلى الإسلام فيه انحراف وضلالة في بعض جوانب فكره كما يبدو للناس . لابدّ من الوضوح والجلاء والقول الحاسم والحجة البالغة المقنعة ، ولابد للداعية أن يلتزم هو أولاً ما يدعو إليه ، ليكون قوله مطابقاً لموقفه وعمله .
قد يتسلّل إلى صفوف المؤمنين علمانيون واشتراكيون وديمقراطيون أو مشركون في حقيقتهم . ثم يُخْفون ذلك حتى تلوح لهم الفرصة فيكشفوا عن حقيقتهم ، ويبدؤوا ينشرون الفتنة بين المسلمين . ألم نر كيف أن حزباً أصولياً إسلامياً يعلن أن لا يدعى بإسلامي وأنه علمانيّ بكل معنى الكلمة ؟ ! إنها صدمة نفسيّة أن نرى هذا الحشد الذي كان منتسباً إلى الإسلام حتى اعتُبر من الأصوليين ، أعلن عن انتمائه العلماني وانتمائه إلى أوروبا ! وربما هناك آخرون ألبسوا علمانيّتَهم وشِرْكهم قطعة رقيقة من الإسلام ، شعاراً إسلامياً يخفي الحقيقة العلمانية أو الشرك . وقد يقول بعضهم إن هذا مجرد " تكتيك " ، ولكنه تكتيكاً لا ندري من يخدع به ، أي يخدع نفسه ، أم المسلمين ، أم العلمانيين ، أم كل أولئك ؟
لقد كشف واقعنا بالأمثلة الحيّة أن أيّ تنازل من الداعية عما يؤمن به ، وقبوله ببعض ما يرفضه مداراة للطرف الآخر ، بدعوى أنه قبول مرحليّ وتنازل مرحلي ، حتى يتألف القلوب ، إن أي تنازل مثل هذا فتح ثغرات واسعة في صفّ المسلمين ، تسلل منها الطرف الآخر بدعوته ورسالته ، فإذا المسلم الذي كان يرفض ( الحداثة ) مثلاً ، أصبح بعد تنازله يسكت عن أخطاء الحداثة ، ثم أصبح يألفها ، ثم أصبح يدعو لها ، بعد أن زيّن له الشيطان ذلك بالخطأ أو الانحراف :
( أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن زُيِّن له سوء عمله واتبعوا أهواءهم )
[ محمد : 14 ]
( أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون )
[ فاطر : 8 ]
وكذلك كان شأن من تنازل للديمقراطية عن حقائق الإسلام ، حتى أصبح داعية للديمقراطية في كل موطن باسم الإسلام ونسي أمر الله سبحانه وتعالى : ( ادعُ إلى سبيل ربك .. ) .
وكذلك صار بعض المسلمين يملؤون الندوات بالدعوة إلى الاشتراكية حين كانت أيام مواسمها ، وكذلك صار بعض الدعاة المسلمين دعاةً إِلى العلمانيّة بصورة ظاهرة واضحة ، في الندوات والمؤتمرات !
والذين أخذوا يُمارُون النصارى ودعاة النصرانيّة ويُوادّونهم ، فَيَسْمعون منهم دون أن يُسْمعوهم ، بحجة ( الحكمة ) دون الدعوة إلى الله ورسوله ، ودون الموعظة الحسنة ، فما لبث بعضهم أن وجد نفسه يألف ما يدعونه إليه من باطل ، ويغيب عنه الحق الأبلج في الإسلام ، ولا يجد حوله من يوقظه أو يعظه ، فإذا هو تارك لدينه ، مرتمٍ في شرك وضلالة أهلك نفسه بها .(/4)
إنها الخطوة الأولى دائماً ، ثم تتلوها الخطوات . الخطوة الأولى التي يزيِّنها الشيطان هي السكوت عما يؤمن به المسلم الداعية أو ما يدّعي أنه يؤمن به ، السكوت عما يؤمن أنه حق فلا يدعو ولا يبلغ ، وإنما يصمت ويستمع .
وتأتي الخطوة الثانية التي يزيّنها الشيطان حين يقبل المسلم بعض ما يدعو إليه الطرف الآخر بحجة الحكمة وتألف القلوب والاحتضان . وطرف يعلن رأيه بوضوح وقوة وتصميم غير عابي بودّك أيها الداعية المسلم ، أو يتظاهر بودك حينا ، وأنت صامت لا تبلّغ دعوتك ولا رأيك الحق ، فماذا تتوقع أن تكون النتيجة ؟ كيف تسكت والأمر من عند الله مدوٍّ في الكون كله :
وقل الحقٌّ من ربكم ... !
ادع إلى سبيل ربك ... !
أيها المسلمون ! قولوا الحق وادعوا إلى سبيل ربكم ، وبلّغوا رسالة الله إلى الناس كما أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ، افعلوا ذلك ثم تحدّثوا عن الحكمة والموعظة الحسنة !(/5)
ارض بما قسم الله لك
الدكتور حسان شمسي باشا
يقول علماء النفس إن كثيرا من الهموم والضغوط النفسية سببه عدم الرضا ، فقد لا نحصل على ما نريد ، وحتى لو حصلنا على ما نريد فقد لا يعطينا ذلك الرضا التام الذي كنا نأمله ، فالصورة التي كنا نتخيلها قبل الإنجاز كانت أبهى من الواقع .
وحتى بعد حصولنا على ما نريد فإننا نظل نعاني من قلق وشدة خوفا من زوال النعم . ومن هنا كان الدعاء المأثور " اللهم عرفنا نعمك بدوامها لا بزوالها " .
وقد خلق الإنسان .. وخلق معه القلق .. أو خلق القلق ثم خلق له الإنسان ليكابده .
وهناك نوعان من القلق : القلق الطبيعي والقلق المرضي .
والقلق الطبيعي هو الذي يمكن أن نطلق عليه القلق الصحي ، أو القلق الذي لا حياة بدونه ، أو الذي لا معنى للحياة بدونه . وإذا اختفى أصبح الإنسان مريضا متبلد الوجدان .
وهموم الحياة كثيرة : هموم العمل والمنزل ، مرض الآباء أو الأبناء ، ديون متراكمة أو خلافات عائلية، امتحانات أو مقابلات . وكلها حالات تبعث في النفس القلق ، وقد تجعلنا نفقد شهيتنا للطعام ، أو ربما نفقد السيطرة على أعصابنا لأتفه الأسباب . وقد نحرم لذة النوم الهانئ ، نتعذب بالانتظار والحيرة ، ونذوق مرارة الحياة . وتمر الأيام ، وتنقشع تلك المشاكل والهموم ، ونرضى بالأمر الواقع ، ويزول القلق ، وننعم بالسكينة والهدوء ، ثم تأتي مشكلة جديدة ونمر بتجربة أخرى ، وهكذا هي الحياة ..
أما القلق غير الطبيعي فهو _ كما يقول الدكتور عادل صادق _ إحساس غامض غير سار يلازم الإنسان . وأساس هذا الإحساس هو الخوف . الخوف من لا شيء ، الخوف من شيء مبهم .
وفي حالات القلق يزداد إفراز مادة في الدم تدعى الأدرينالين ، فيرتفع ضغط الدم ، ويتسرع القلب ، ويشكو الإنسان من الخفقان ، أو يشعر وكأن شيئا ينسحب إلى الأسفل داخل صدره .
ويظن بقلبه الظنون ، ويهرع من طبيب إلى طبيب ، وما به من علة في قلبه ، ولا مرض في جسده إلا أنه يظل يشكو من ألم في معدته واضطراب في هضمه ، أو انتفاخ في بطنه ، و اضطراب في بوله أو صداع في رأسه .
يقول ديل كارنجي : " عشت في نيويورك أكثر من سبع وثلاثين سنة ، فلم يحدث أن طرق أحد بابي ليحذرني من مرض يدعى ( القلق ) ، هذا المرض الذي سبب في الأعوام السبعة والثلاثين الماضية من الخسائر أكثر مما سببه الجدري بعشرة آلاف ضعف . نعم لم يطرق أحد بابي ليحذرني أن شخصا من كل عشرة أشخاص من سكان أمريكا معرض للإصابة بانهيار عصبي مرجعه في أغلب الأحوال إلى القلق !
ويتابع كارنجي القول : " لو أن أحدا ملك الدنيا كلها ما استطاع أن ينام إلا على سرير واحد ، وما وسعه أن يأكل أكثر من ثلاث وجبات في اليوم ، فما الفرق بينه وبين الفلاح الذي يحفر
الأرض ؟ لعل الفلاح أشد استغراقا في النوم ، وأوسع استمتاعا بطعامه من رجل الأعمال ذي الجاه والسطوة " .
ويقول الدكتور الفاريز : لقد اتضح أن أربعة من كل خمسة مرضى ليس لعلتهم أساس عضوي البتة ، بل مرضهم ناشئ من الخوف ، والقلق ، والبغضاء والأثرة المستحكمة ، وعجز الشخص عن الملاءمة بين نفسه والحياة " .
قال المنصور :
كن موسرا إن شئت أو معسرا لابد في الدنيا من الغم
وكلما زادك من نعمة زاد الذي زادك في الهم
والهموم تفتك بالجسم وتهرمه . قال المتنبي :
والهم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم
وقد قرأنا كيف أن بكاء يعقوب على ابنه أفقده بصره ، وكيف أن الغم بلغ مداه بالسيدة عائشة عندما تطاول عليها الأفاكون - فظلت تبكي حتى قالت : " ظننت أن الحزن فالق كبدي " .
وترى المهموم حزينا مكتئبا . قال أحمد بن يوسف :
كثير هموم القلب حتى كأنما عليه سرور العالمين حرام
إذا قيل : ما أضناك ؟ أسبل دمعه فأخبر ما يلقى وليس كلام
ومن الناس من يستطيع كتمان همومه ، ويبدي لله نفسا راضية . قال أسامة بن منقذ :
انظر إلى حسن صبر الشمع يظهر للرائين نورا وفيه النار تستعر
كذا الكريم تراه ضاحكا جذلا وقلبه بدخيل الهم منفطر
ولربما ضحك المهموم وأخفى همومه ، وفي أحشائه النيران تضطرم . قال الشاعر :
وربما ضحك المهموم من عجب السن تضحك والأحشاء تضطرم
وقد ذم الرسول صلى الله عليه وسلم التكالب على دنيا الهموم فقال :
" من جعل الهم واحدا كفاه الله هم دنياه ، ومن تشعبته الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك " رواه الحاكم .
ويهدف هذا التوجيه النبوي إلى بث السكينة في الأفئدة ، واستئصال شأفة الطمع والتكالب على الدنيا . وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
" من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه ، وجمع له شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة . ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرق عليه شمله ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ".رواه الترمذي .(/1)
وقال أيضا : " تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم ، فإنه من كانت الدنيا أكبر همه أفشى الله ضيعته وجعل فقره بين عينيه . ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله له أموره ، وجعل غناه في قلبه ، وما أقبل عبد بقلبه على الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة ، وكان الله إليه بكل خير أسرع " . رواه البيهقي .
وسمع النبي عليه الصلاة والسلام رجلا يقول : اللهم إني أسألك الصبر . فقال :
" سألت الله البلاء فسله العافية " . رواه الترمذي .
ولا شك أن علاج الهموم يمكن في الرضا بما قدر الله ، والصبر على الابتلاء واحتساب ذلك عند
الله ، فإن الفرج لا بد آت . قال الشاعر :
روح فؤادك بالرضا ترجع إلى روح وطيب
لا تيأسن وإن ألح الدهر من فرج قريب
وتذكر قصة موسى عليه السلام كما يصفها الشاعر :
كن لما لا ترجو من الأمر أرجى منك يوما لما له أنت راج
إن موسى مضى ليطلب نارا من ضياء رآه والليل داج
فأتى أهله وقد كلم اللـ ـه وناجاه وهو خير مناج
وكذا الأمر كلما ضاق بالنا س أتى الله فيه ساعة بانفراج
وتذكر قول الإمام الشافعي رحمه الله في قصيدة من أجمل قصائده :
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء
فلا حزن يدوم ولا سرور ولا عسر عليك ولا رخاء
ويقول أبو العلاء المعري :
قضى الله فينا بالذي هو كائن فتم ، وضاعت حكمة الحكماء
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه فيخرج من أرض له وسماء
فما من شدة إلا وبعدها فرج قريب كما يقول أبو تمام :
وما من شدة إلا سيأتي من بعد شدتها رخاء
وقال آخر :
دع المقادير تجري في أعنتها ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين غفوة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
والساخطون والشاكون لا يذوقون للسرور طعما . فحياتهم كلها سواد دامس ، وليل حالك .
أما الرضا فهو نعمة روحية عظيمة لا يصل إليها إلا من قوي بالله إيمانه ، وحسن به اتصاله .
والمؤمن راض عن نفسه ، وراض عن ربه لأنه آمن بكماله وجماله ، وأيقن بعدله ورحمته .
ويعلم أن ما أصابته من مصيبة فبإذن الله . وحسبه أن يتلو قول الله تعالى :
{ وما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم } التغابن 41 .
والمؤمن يؤمن تمام اليقين أن تدبير الله له أفضل من تدبيره لنفسه ، فيناجي ربه " بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " آل عمران 26 .
قال صفي الدين الحلي :
كن عن همومك معرضا وكل الأمور إلى القضا
أبشر بخير عاجل تنسى به ما قد مضى
فلرب أمر مسخط لك في عواقبه رضا
ولربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا
الله يفعل ما يشاء فلا تكن متعرضا
الله عودك الجميل فقس على ما قد مضى
وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس " رواه أحمد .
____________
( 1 ) سورة آل عمران 26 .(/2)
ارض بما قسم الله لك
الدكتور حسان شمسي باشا
يقول علماء النفس إن كثيرا من الهموم والضغوط النفسية سببه عدم الرضا ، فقد لا نحصل على ما نريد ، وحتى لو حصلنا على ما نريد فقد لا يعطينا ذلك الرضا التام الذي كنا نأمله ، فالصورة التي كنا نتخيلها قبل الإنجاز كانت أبهى من الواقع .
وحتى بعد حصولنا على ما نريد فإننا نظل نعاني من قلق وشدة خوفا من زوال النعم . ومن هنا كان الدعاء المأثور " اللهم عرفنا نعمك بدوامها لا بزوالها " .
وقد خلق الإنسان .. وخلق معه القلق .. أو خلق القلق ثم خلق له الإنسان ليكابده .
وهناك نوعان من القلق : القلق الطبيعي والقلق المرضي .
والقلق الطبيعي هو الذي يمكن أن نطلق عليه القلق الصحي ، أو القلق الذي لا حياة بدونه ، أو الذي لا معنى للحياة بدونه . وإذا اختفى أصبح الإنسان مريضا متبلد الوجدان .
وهموم الحياة كثيرة : هموم العمل والمنزل ، مرض الآباء أو الأبناء ، ديون متراكمة أو خلافات عائلية، امتحانات أو مقابلات . وكلها حالات تبعث في النفس القلق ، وقد تجعلنا نفقد شهيتنا للطعام ، أو ربما نفقد السيطرة على أعصابنا لأتفه الأسباب . وقد نحرم لذة النوم الهانئ ، نتعذب بالانتظار والحيرة ، ونذوق مرارة الحياة . وتمر الأيام ، وتنقشع تلك المشاكل والهموم ، ونرضى بالأمر الواقع ، ويزول القلق ، وننعم بالسكينة والهدوء ، ثم تأتي مشكلة جديدة ونمر بتجربة أخرى ، وهكذا هي الحياة ..
أما القلق غير الطبيعي فهو _ كما يقول الدكتور عادل صادق _ إحساس غامض غير سار يلازم الإنسان . وأساس هذا الإحساس هو الخوف . الخوف من لا شيء ، الخوف من شيء مبهم .
وفي حالات القلق يزداد إفراز مادة في الدم تدعى الأدرينالين ، فيرتفع ضغط الدم ، ويتسرع القلب ، ويشكو الإنسان من الخفقان ، أو يشعر وكأن شيئا ينسحب إلى الأسفل داخل صدره .
ويظن بقلبه الظنون ، ويهرع من طبيب إلى طبيب ، وما به من علة في قلبه ، ولا مرض في جسده إلا أنه يظل يشكو من ألم في معدته واضطراب في هضمه ، أو انتفاخ في بطنه ، و اضطراب في بوله أو صداع في رأسه .
يقول ديل كارنجي : " عشت في نيويورك أكثر من سبع وثلاثين سنة ، فلم يحدث أن طرق أحد بابي ليحذرني من مرض يدعى ( القلق ) ، هذا المرض الذي سبب في الأعوام السبعة والثلاثين الماضية من الخسائر أكثر مما سببه الجدري بعشرة آلاف ضعف . نعم لم يطرق أحد بابي ليحذرني أن شخصا من كل عشرة أشخاص من سكان أمريكا معرض للإصابة بانهيار عصبي مرجعه في أغلب الأحوال إلى القلق !
ويتابع كارنجي القول : " لو أن أحدا ملك الدنيا كلها ما استطاع أن ينام إلا على سرير واحد ، وما وسعه أن يأكل أكثر من ثلاث وجبات في اليوم ، فما الفرق بينه وبين الفلاح الذي يحفر
الأرض ؟ لعل الفلاح أشد استغراقا في النوم ، وأوسع استمتاعا بطعامه من رجل الأعمال ذي الجاه والسطوة " .
ويقول الدكتور الفاريز : لقد اتضح أن أربعة من كل خمسة مرضى ليس لعلتهم أساس عضوي البتة ، بل مرضهم ناشئ من الخوف ، والقلق ، والبغضاء والأثرة المستحكمة ، وعجز الشخص عن الملاءمة بين نفسه والحياة " .
قال المنصور :
كن موسرا إن شئت أو معسرا لابد في الدنيا من الغم
وكلما زادك من نعمة زاد الذي زادك في الهم
والهموم تفتك بالجسم وتهرمه . قال المتنبي :
والهم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم
وقد قرأنا كيف أن بكاء يعقوب على ابنه أفقده بصره ، وكيف أن الغم بلغ مداه بالسيدة عائشة عندما تطاول عليها الأفاكون - فظلت تبكي حتى قالت : " ظننت أن الحزن فالق كبدي " .
وترى المهموم حزينا مكتئبا . قال أحمد بن يوسف :
كثير هموم القلب حتى كأنما عليه سرور العالمين حرام
إذا قيل : ما أضناك ؟ أسبل دمعه فأخبر ما يلقى وليس كلام
ومن الناس من يستطيع كتمان همومه ، ويبدي لله نفسا راضية . قال أسامة بن منقذ :
انظر إلى حسن صبر الشمع يظهر للرائين نورا وفيه النار تستعر
كذا الكريم تراه ضاحكا جذلا وقلبه بدخيل الهم منفطر
ولربما ضحك المهموم وأخفى همومه ، وفي أحشائه النيران تضطرم . قال الشاعر :
وربما ضحك المهموم من عجب السن تضحك والأحشاء تضطرم
وقد ذم الرسول صلى الله عليه وسلم التكالب على دنيا الهموم فقال :
" من جعل الهم واحدا كفاه الله هم دنياه ، ومن تشعبته الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك " رواه الحاكم .
ويهدف هذا التوجيه النبوي إلى بث السكينة في الأفئدة ، واستئصال شأفة الطمع والتكالب على الدنيا . وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
" من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه ، وجمع له شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة . ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرق عليه شمله ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ".رواه الترمذي .(/1)
وقال أيضا : " تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم ، فإنه من كانت الدنيا أكبر همه أفشى الله ضيعته وجعل فقره بين عينيه . ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله له أموره ، وجعل غناه في قلبه ، وما أقبل عبد بقلبه على الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة ، وكان الله إليه بكل خير أسرع " . رواه البيهقي .
وسمع النبي عليه الصلاة والسلام رجلا يقول : اللهم إني أسألك الصبر . فقال :
" سألت الله البلاء فسله العافية " . رواه الترمذي .
ولا شك أن علاج الهموم يمكن في الرضا بما قدر الله ، والصبر على الابتلاء واحتساب ذلك عند
الله ، فإن الفرج لا بد آت . قال الشاعر :
روح فؤادك بالرضا ترجع إلى روح وطيب
لا تيأسن وإن ألح الدهر من فرج قريب
وتذكر قصة موسى عليه السلام كما يصفها الشاعر :
كن لما لا ترجو من الأمر أرجى منك يوما لما له أنت راج
إن موسى مضى ليطلب نارا من ضياء رآه والليل داج
فأتى أهله وقد كلم اللـ ـه وناجاه وهو خير مناج
وكذا الأمر كلما ضاق بالنا س أتى الله فيه ساعة بانفراج
وتذكر قول الإمام الشافعي رحمه الله في قصيدة من أجمل قصائده :
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء
فلا حزن يدوم ولا سرور ولا عسر عليك ولا رخاء
ويقول أبو العلاء المعري :
قضى الله فينا بالذي هو كائن فتم ، وضاعت حكمة الحكماء
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه فيخرج من أرض له وسماء
فما من شدة إلا وبعدها فرج قريب كما يقول أبو تمام :
وما من شدة إلا سيأتي من بعد شدتها رخاء
وقال آخر :
دع المقادير تجري في أعنتها ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين غفوة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
والساخطون والشاكون لا يذوقون للسرور طعما . فحياتهم كلها سواد دامس ، وليل حالك .
أما الرضا فهو نعمة روحية عظيمة لا يصل إليها إلا من قوي بالله إيمانه ، وحسن به اتصاله .
والمؤمن راض عن نفسه ، وراض عن ربه لأنه آمن بكماله وجماله ، وأيقن بعدله ورحمته .
ويعلم أن ما أصابته من مصيبة فبإذن الله . وحسبه أن يتلو قول الله تعالى :
{ وما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم } التغابن 41 .
والمؤمن يؤمن تمام اليقين أن تدبير الله له أفضل من تدبيره لنفسه ، فيناجي ربه " بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " آل عمران 26 .
قال صفي الدين الحلي :
كن عن همومك معرضا وكل الأمور إلى القضا
أبشر بخير عاجل تنسى به ما قد مضى
فلرب أمر مسخط لك في عواقبه رضا
ولربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا
الله يفعل ما يشاء فلا تكن متعرضا
الله عودك الجميل فقس على ما قد مضى
وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس " رواه أحمد .
____________
( 1 ) سورة آل عمران 26 .(/2)
ارفع رأسك إنك في الفلوجة
مدينة لا تنحني لا تستسلم مهما كانت قوّة الزلازل، مدينة لا تأكل من ثديها كما يقتات عبّاد المناصب، مدينة تعلمنا أن الحرية لا تستورد عبر فوهة المدافع، وأن التغيير لا يكون عبر الإنزال والاغتصاب وتهديم الجوامع، تعلمنا التمرّد والعصيان والتصدّي لكل غاصب، تعلمنا أن عبّاد الهزيمة لا مكان لهم إلا في المزابل، مدينة تعلمنا أن المعارضات المستوردة مثلها مثل أحذية العساكر، وأن المعارضات المدجّجة لا يمكن أن تكتسب الأصوات ولا الضمائر، تعلمنا أن المتحالفين مع الاحتلال مصيرهم مصير "
بقلم الطاهر العبيدي
مفردات صاحية تخترق صهيل المدافع وسعال الرشاش، حروف سمراء تدوس الهوان العربي وتنتفض على الزكام الرسمي، وتوخز السبات القومي وتتحدّى الغثاء السياسي، كلمات مفخّخة تؤرّخ الوعي القيميي وتنصّ على الشرف الإنساني، وتسجّل قمّة الانتماء الوطني وتنتصر للدم العراقي، عبارات انقلابية على كل التفاسير وكل التحاليل، وكل التهاليل وكل خطب العجز الجنائزي...
* "ارفع رأسك إنك في الفلوجة"
جملة فعلية تقدّم الفعل عن الكلام، وتنتصر على واقع الهزيمة والاستسلام، جملة فعلية ذات فعل متعدّي، يعلمنا كيف نكون وكيف يكون الرجال، تعلمنا كيف نعشق الحرية وكيف نتصدّى للغزاة وكل فنون القتال، جملة فعلية تعلمنا أن الصمت وتحمّل الذل رجس من "عمل الجبان"، تعلمنا أن النفوس الأبية ترفض الضيم، ترفض القهر وترفض الاحتلال، جملة فعلية تأبى التكتم عن القهر، عن الذل وعن طراوة اللسان، جملة فعلية توقظ النيام وعبّاد الهزيمة وقراصنة الكلام، جملة فعلية تفعّل النفوس الأبية، وتحوّل الغضب إلى بركان...
* "ارفع رأسك إنك في الفلوجة"
جملة فعلية تحوّل الأجساد إلى قنابل، لتوقظ تلك الشريحة القدرية التي تؤمن أن التفوق العسكري لا يقاوم، جملة فعلية ترجّ النفوس والضمائر، وتزرع بذور العربي المقاوم..
* "ارفع رأسك إنك في الفلوجة"
جملة اعتراضيه تعترض القنابل العنقودية، تعترض حكومة مزوّرة تماما كما العملة المزورة، تعترض حكومات مزيفة، تعترض وزراء ووزارات مؤنّثة، تعترض أنظمة منصّبة، تعترض معارضات كالذباب متكوّمة، تعترض مرجعيات روحية متفرّجة، تعترض سياسات وبرامج مشوّهة، تعترض انتخابات ستقام على أنقاض مجزرة..
* "ارفع رأسك إنك في الفلوجة"
عنوان كل تلك الجدران المنتفضة، عنوان الأزقّة والحارات والشوارع وكل الكلمات الملتهبة، عنوان الكرامة وعشق الأوطان والنفوس المحرّرة، عنوان الرضّع والأطفال والشيوخ والعجائز، والشباب والأرامل والجرحى، وكلّ تلك المدينة التي تتلقى صواريخ الحرية المدمرة..
* "ارفع رأسك إنك في الفلوجة"
مكتوبة على جدران الفلوجة، على أبواب المنازل، على أروقة الفنادق، على حيطان المطاحن، على حدود المزارع، على نواصي الأرامل، على خيام القبائل، على شفاه العشائر، في ساحات المساجد، وفي صوت المآذن، لتعلن لخفافيش الظلام أن الليل مهما طال فالفجر قادم.
* "ارفع رأسك إنك في الفلوجة"
ارفع رأسك تقول لك الفلوجة، ارفع رأسك لا تنحني، فالموت واحد، والعمر واحد، والوطن واحد، والموت واحد، والرب واحد، فعلى ماذا الذل وعلى ماذا الخوف، وما هذا التخاذل، وما هذا اليأس وهذا التشاؤم، وخذ كفنك وقاوم..
* "ارفع رأسك إنك في الفلوجة"
مدينة لا تنحني لا تستسلم مهما كانت قوّة الزلازل، مدينة لا تأكل من ثديها كما يقتات عبّاد المناصب، مدينة تعلمنا أن الحرية لا تستورد عبر فوهة المدافع، وأن التغيير لا يكون عبر الإنزال والاغتصاب وتهديم الجوامع، تعلمنا التمرّد والعصيان والتصدّي لكل غاصب، تعلمنا أن عبّاد الهزيمة لا مكان لهم إلا في المزابل، مدينة تعلمنا أن المعارضات المستوردة مثلها مثل أحذية العساكر، وأن المعارضات المدجّجة لا يمكن أن تكتسب الأصوات ولا الضمائر، تعلمنا أن المتحالفين مع الاحتلال مصيرهم مصير "الحركيين" في ثورة الجزائر، تعلمنا أن الانتخابات الحرّة لا تقام على أنقاض الإبادة والمقابر..
* "ارفع رأسك إنك في الفلوجة"
فهذي الحجارة والرمال والطيور والحصباء ترفض التخاذل، وهذي الليالي والأقمار والصوّان والجسور والسدود ترفض السقوط والتمايل.
* "ارفع رأسك إنك في الفلوجة"(/1)
ارفع رأسك عاليا وقل هذه الفلوجة أرض الشرف والمعارك، ارفع رأسك وقل هذه الفلوجة أرض وأجداد وتاريخ يقاتل، ارفع رأسك وقل هذي الفلوجة مدينة ترفض الركوع ترفض التنازل، ارفع رأسك وقل هذي الفلوجة مدينة الرمال والنخيل والمآذن، ارفع رأسك وقل هذي الفلوجة مدينة تكتب التاريخ بلا أقلام بلا ألواح بلا فضائيات، ولكن عبر الأجساد وعبر المساجد، ارفع رأسك وقل هذي الفلوجة أرض العزّة والمعارك، ارفع رأسك وقل هذي الفلوجة تتصدّى للدبابات للطائرات وتتحدى هذا الشبح الآفل، ارفع رأسك وقل هذه الفلوجة أرضك وأرضي، وأرض من كان يؤمن أن الطغيان مهما طغى زائل، ارفع رأسك وقل هذي بلادي وذاكم أجدادي، وتلك حضارتي وهؤلاء جنود غزاة، يودّون تحريف أسماء أولادي، يودون شرب آبار النفط، وتلويث الأنهار وتحوير معالم أجدادي..
* "ارفع رأسك إنك في الفلوجة"
ارفع رأسك يا مسلم، هذه الفلوجة تستشهد نيابة عن دمك ودمي، وتكتب للجرح قصص البطولة، نيابة عن صمتك ونيابة عن تلكأ قلمي، وتحكي للصغار حكايات الشرف المهدور في وطني..
* "ارفع رأسك إنك في الفلوجة"
لا لتقل أن الفلوجة ألقت بنفسها إلى التهلكة، ولكن قل أن الفلوجة رسمت لنا بداية المعركة، لا لتقل الفلوجة تسبّبت في مجزرة، ولكن قل الفلوجة سماد لأرض محرّرة..
* "ارفع رأسك إنك في الفلوجة"
ارفع رأسك سيدي القارئ، لا لتنظر إلى قنوات التفاهة والرقص، ولا إلى صحافة التفاهة والرجس، ارفع رأسك سيدي القارئ، لا لتنظر إلى أنظمة العبودية والفلس، ولا لتنظر إلى حكومات المؤتمرات وقمم الملاعق والصحون، ولكن لتنظر أن التاريخ لا يؤرّخ أصحاب الرداءات والبطون، ولكن يؤرّخ أصحاب الضمائر والهمم والعقول..
*****************************(/2)
ارفع رأسك .. أنت مستقيم !!
لما نظرت إلى حال بعض شباب الصحوة وجدتهم وللأسف .. قد أساءوا لأنفسهم وذلك باحتقارهم لذواتهم .. ذلك أنك ترى الواحد منهم في طريق أو مكانٍ ما .. يمشي على حافة الطريق بذلّة ومسكنة .. مطأطئاً رأسه وكأنه على ذنبٍ عظيم .. ويظن أن هذا من التواضع والخُلُق ..
فلماذا يا أخي كل هذا .. تُشعِر الناس أن أهل الخير والحق مغفلين ضعفاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً .. في حين ترى ذلك الشاب الفاسق يخرج متبختراً .. يمشي وقد رفع صوت الغناء .. بكل كبرٍ وغرور .. وكأنه على صواب .. وأهل الخير والصلاح على شرٍ عظيم ..
عجباً لحالك أيها الشاب .. تمشي بجانب المنكرات والمعاصي ثم تمرُّ مرّاً سريعاً مطأطئاً رأسك .. دون أن يحرك هذا المنكر في قلبك الضعيف شيئاً .. أو تأتي إلى ذلك السوق .. فتمرُّ بجانبك تلك المرأة المتبرجة .. ثم تطأطئ رأسك كالعادة وتمشي ولا تحرك ساكناً .
عجباً لك .. هل نسيت أنك مستقيم ؟.. ألست أنت ممن يدعي الاستقامة ؟ أين عزة الاستقامة التي تدّعيها ؟
أنا لا أريد منك إنكار المنكر بذلٍ وضعف .. فهذا فعل السفهاء والضعفاء .. , وأعيذك أن تكون منهم .. لا كثّرهم الله ..
لماذا لا تمشي وأنت ترفع رأسك .. تفتخر وتعتز بطاعتك لله .. تنكر ذلك المنكر أو تأمر بهذا المعروف ..
وتحمد الله أن سخرك أنت لتقوم بهذا .. ولم يجعلك مكان ذلك الرجل العاصي ..
ختاماً : هل تعرف جيداً أنك مستقيم ؟.. أرجو ذلك ..
وعذراً إن قسوت عليك .. ولكن اعلم أنني أحبك .. فلا تنساني من الدعاء ..
.........
عبدالرحمن السيد(/1)
استئجار الأملاك المصادرة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الغصب والإتلاف
التاريخ ... 08/11/1425هـ
السؤال
ما حكم الشرع في عمارة استولت عليها الدولة من صاحبها بحجة أن عليها ضرائب، ورفض صاحبها دفع الضرائب، وقد تحصَّل ابن أخي صاحب العمارة على محل لبيع مواد غذائية من العمارة التي استولت عليها الدولة بتخصيص وتمكين من الدولة، فهل يجوز له البقاء بالمحل أو التصرف بالبيع مثلاً؟
الجواب
لا يجوز لأحد فردًا أو دولة أن يستولي على أموال الغير بغير حق شرعي عليه دليل من كتاب الله أو سنة رسوله، وفاعل ذلك ظالم متعدٍّ، وآكل لأموال الناس بالباطل، والله يقول: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[البقرة:229]. ويقول: (يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)[النساء:429]. وعامة الضرائب التي تفرضها الحكومات في العصر
الحاضر على الناس هي من الظلم الذي حرمه الله على نفسه وعلى عباده، كما في الحديث القدسي: "يا عِبَادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفْسِي، وجعَلتُه بينَكم مُحرَّمًا فلا تَظَالَمُوا". رواه مسلم (2577). واستيلاء الدولة على هذه العمارة- كما في السؤال- حرام لا يجوز، وهي في حكم المغتصب، ولا يجوز لابن أخ صاحب العمارة هذه أن يستأجر دكانًا منها يضعه بقالة له إذا لم يرض مالكها الشرعي، فضلاً عن أن يتصرف فيها ببيع أو هبة أو تأجير؛ لأنه تصرف فيما لا يملك، وعلى المغتصب رد ما اغتصبه ونمائه.(/1)
استئجار عصابات المافيا والانتماء إليها
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 14/4/1424هـ
السؤال
فضيلة الشيخ: أفدنا جزاك الله خيراً، ما حكم دفع المال للمافيات الذين يحموننا، علماً بأنهم يستعملونها في شراء الخمر وشربه وليس لنا غنى عنهم. وما حكم انتماء المسلم للمافية ومشاركته في أعمالهم من غصب الأموال وإخراجها من الناس بطرق -تعتبر في قوانين روسيا- غير شرعية.
الجواب
دفع المال لمن يحميك أو يدفع عنك الأذى والظلم جائز سواء كان المدفوع له هذا المال – مسلماً أو كافراً، فإن الدخول مع الكفار في عقود إجارة أو معاوضة ونحوها جائز شرعاً، فقد استأجر الرسول – صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر الصديق - في الهجرة من مكة إلى المدينة- (عبد الله بن أريقط) ليدلهم على الطريق ويحميهم من عيون قريش، انظر ما رواه البخاري (2263)، من حديث عائشة – رضي الله عنها- ولا شيء على المسلم لو استعمل هذا الكافر أو الظالم كعضو (المافيا) المال في الحرام كالمخدرات ونحوها.
أما انتماء المسلم إلى منظمة (المافيا) أو عصاباتها فحرام لا يجوز، لأن في ذلك مشاركة في الظلم والتعدي على الناس وانتهاك حرماتهم وأكل أموالهم بغير حق، والله يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ" [النساء: من الآية29]، ويقول الله في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجلعته بينكم محرماً فلا تظالموا"، رواه مسلم (2577)، من حديث أبي ذر – رضي الله عنه- وفي الحديث الصحيح عن
عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه". رواه الترمذي (2416-2417) وغيره.(/1)
استئجار مكان لأداء صلاة الجمعة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 17/3/1423
السؤال
في كل صلاة جمعة نستأجر قاعة المؤتمرات والاحتفالات العائدة لبلدية المنطقة التي نسكن فيها ساعة واحدة كل أسبوع، من أجل إقامة خطبة وصلاة الجمعة، فما حكم الشرع في ذلك، وهل نصلي تحية المسجد عند دخولنا لهذه القاعة؟ علماً أن البلدية تقوم بتأجير هذا المكان لكل من يريد استئجاره لإقامة حفلات الفجور من الرقص وشرب الخمور وكل ما يغضب الله من المعاصي.
الجواب
ما دمتم في مثل هذا البلد (أستراليا) ولا تجدون مكاناً مناسباً لإقامة صلاة الجمعة فلا بأس باستئجاركم صالة احتفالات البلدية بالمنطقة، ولو كانت تستخدم من غيركم لحفلات تمارس فيها المعاصي والمحرمات.
وفعلكم هذا تؤجرون عليه –إن شاء الله- لإقامة شعيرة من شعائر الإسلام في بلاد الكفر وفعلكم هذا داخل في معنى قوله –تعالى-: "فاتقوا الله ما استطعتم" [التغابن:16]، وهذه القاعة عند استئجاركم لها لا تسمى مسجداً وإنما هي مصلى مؤقت، والمصلى لا يأخذ أحكام المسجد في الجملة، فلا تؤدى تحية المسجد عند الدخول لكونها غير مسجد، وإنما تصلى ركعتان أو أكثر لا بنيّة تحية المسجد وإنما سنة مطلقة؛ لحديث:"بين كل أذانين صلاة" البخاري (624) ومسلم (838)، أي ما بين الأذان والإقامة، كما تؤدى فيه أربع ركعات بعد صلاة الجمعة لأنها سنة تابعة للصلاة لا للمسجد، كما تؤدى سائر الطاعات من قراءة القرآن وتعليمه والصدقة.. إلخ، وفق الله الجميع إلى كل خير.(/1)
استثمار أموال الزكاة
الدكتور / محمد عثمان شبير
بسم الله الرحمن الرحيم
افتتاحية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه ، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. أما بعد ..
فإن قضية استثمار أموال الزكاة من القضايا المهمة في فقه الزكاة المعاصر، إذ إنها تثير اهتمام كثير من المؤسسات الزكوية والهيئات الخيرية في العالم الإسلامي، وهي من المسائل الملحة التي تحتاج إلى إجابة شافية. لقد بدأ بهذه القضية بعد تنوع أساليب العمل والإنتاج، وظهور المشاريع الاستثمارية الضخمة التي تدر أرباحا وفيرة على مالكيها فثار التساؤل التالي: هل يجوز توجيه بعض أموال الزكاة إلى إنشاء المشاريع الاستثمارية لتامين مورد مالي ثابت، ودائم للمستحقين الذين تتزايد حاجاتهم؟ هذا السؤال طرح بهذه الصيغة وبغيرها عدة مرات على مجامع فقهية وندوات علمية متخصصة وعلى كثير من لجان الفتوى في البلدان الإسلامية. ولما كانت الإجابات والأبحاث المقدمة مقتضبة وسريعة رأت الهيئة الشرعية العالمية للزكاة طرح هذا الموضوع ضمن موضوعات الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة بغية الحصول على مزيد من التعمق والتفصيل في هذا الموضوع.
فكتب هذا البحث للمشاركة في تلك الندوة المباركة لعلى أسهم في تحقيق أهداف تلك الندوة ولما كان البعد الفقهي هو الأساس في هذه الدراسة فقد اعتمدت على عدد كبير من المراجع والمصادر الفقهية التي تمثل اكبر المذاهب ذيوعا بالإضافة إلى كتب السنة وشروحها.
وقد قسمت هذه الدراسة إلى: ثلاث مباحث وخاتمة :
المبحث الأول: حقيقة استثمار أموال الزكاة
المبحث الثاني: حكم استثمار أموال الزكاة
المبحث الثالث: تكاليف استثمار أموال الزكاة
الخاتمة: ذكرت فيها نتيجة البحث .
والله أسال أن يتقبل منى هذا الجهد المتواضع ويجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون.
المبحث الأول
حقيقة استثمار أموال الزكاة ..
قبل الشروع في بيان استثمار أموال الزكاة لابد من بيان حقيقة استثمار أموال الزكاة كي يتسنى لنا إدراك الأحكام المتعلقة بهذه المسألة وفهمها. إذ بيان الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
أولاً: معنى الزكاة :
الزكاة لغة: النماء والزيادة وتطلق أيضا على التطهير والمدح (1) وهي في الاصطلاح: إخراج جزء مخصوص من مال مخصوص بلغ نصابا إن تم الملك وحال الحول (2) فهي تطلق شرعا على إخراج الزكاة كما تطلق على المخرج من المال، ولذلك عرفها ابن قدامة بأنها : حق يجب في المال (3).
ثانيا: معنى الاستثمار في الفقه الإسلامي:
الاستثمار لغة: طلب الثمر، فيقال أثمر الشجر إذا خرج ثمره وثمر الشيء إذا تولد منه شيء آخر، وثمر الرجل ماله تثميرا، أي كثرة عن طريق تنميته، ومعنى كثرة المال جاء في القران الكريم، ومنه _تعالى_:"وكان له ثمر فقال لصاحبة وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا" (4). أي مال كثير مستفاد كما قال ابن عباس ويقال لكل نفع يصدر عن شيء ثمرته: كقولك ثمرة العلم العمل الصالح وثمرة العمل الصالح الجنة (5).
وعلى هذا فان الاستثمار: هو طلب الحصول على الثمرة، استثمار المال: هو طلب الحصول على الأرباح .. والفقهاء يستعملون هذا اللفظ بهذا المعنى، حيث جاء في المنتقى شرح موطأ الأمام مالك في أول كتاب القراض: أن يكون لأبي موسى الأشعري النظر في المال بالتثمير والإصلاح (6) وجاء في تفسير الكشاف عند قوله _تعالى_: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" (7) السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي، ولا يقومون بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها (8).
ثالثا: الاستثمار في الاقتصاد المعاصر :(/1)
الاستثمار في اصطلاح علماء الدراسات الاقتصادية المعاصرة هو: ارتباط مالي بهدف تحقيق مكاسب يتوقع الحصول عليها على مدى مدة طويلة في المستقبل (9). فالاستثمار نوع من الأنفاق على أصول يتوقع منها تحقيق عائد على مدى فترة طويلة من الزمن . ولذلك يطلق عليه البعض إنفاق رأسمالي (10) تمييزا له عن المصروفات التشغيلية أو المصروفات الجارية، وهي التي تتم من يوم إلى يوم: مثل الأجور والمرتبات، والصيانة، وشراء المواد الخام. أما الأنفاق الرأسمالي فإنه يشمل كل المفردات الضرورية لتحقيق تقدم المشروع في الأجل الطويل: مثل بناء مصنع حديد، وشراء آلات وعدد لخط إنتاج جديد، والقيام ببحوث لتحسين سلع قائمة أو إخراج سلع مبتكرة (11). والأنفاق الرأسمالي نوع من إنفاق المال لتحقيق منافع مستقبلية، سواء كان ذلك من مشروعات جديدة أو استكمال مشروعات قائمة، أو تجديد وتحديث مشروعات قديمة، أو التجارة في سلع تجارية أو غير ذلك. والاستثمار بهذا المعنى يتفق مع الاستخدام العلمي الشائع له وهو توظيف الأموال بقصد الحصول على منافع في المستقبل ومع ذلك توجد عدة استخدامات للاستثمار في الواقع اليومي. ومن تلك الاستخدامات: توظيف النقود لأي أجل، والاستثمار بالنسبة للبنوك التجارية -توظيف النقود في أوراق مالية (أسهم وسندات) والاستثمار - بالنسبة للشركات- هو إنفاق استثماري تمييزا له عن الأنفاق الجاري . والاستثمار- بالنسبة للبعض -هو ارتباط بأية أصول خالية نسبيا عن المخاطرة أو الخسارة والاستثمار بالنسبة للبعض الأخر- توظيف الأموال بقصد الحصول على عائد جار. أو بقصد الحصول على قيمة أكبر في نهاية المدة، أي دون عائد جار. والاستثمار قد يكون ماديا بمعنى أن المكاسب يجب أن تكون مادية، وقد يشمل الاستثمار مكاسب غير مادية أي منافع أخرى. كما تستخدم كلمة استثمار بمعنى مشروع استثماري، أي مجرد اقتراح استثماري لم ينفذ بعد: كما قد تستخدم كلمة الاستثمار بمعنى توظيف فعلى للأموال (12). وقد تبنت الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية المفهوم الواسع للاستثمار هو: توظيف النقود لأي أجل، في أي أصل أو حق ملكية، أو ممتلكات أو مشاركات محتفظ بها للمحافظة على المال أو تنميته سواء بأرباح دورية أو بزيادات الأموال في نهاية المدة، أو بمنافع غير مادية (13).
ويلاحظ على هذا التعريف - مع ما فيه من الشمول - عدة ملاحظات منها :
1- انه عبر عن الاستثمار بالتوظيف، والتوظيف كلمة تحتمل عدة معان منها: تعيين الوظيفة، وهي ما يقدر للإنسان في اليوم أو في السنة أو الزمان المعين: من طعام أو رزق ونحوه. ومنها الإلزام، فيقال وظف الشيء على نفسه توظيفا الزمها إياه (14). ولا يقال وظف المال بمعنى زاده، وإنما يقال: نمى المال وثمره فالأولى استعمال تنمية بدلاً من توظيف.
2- انه اقتصر في استثمار الأموال على النقود (العملة). وأموال الزكاة لا تقف عند هذا الشكل من الأموال، بل تتعداه إلى المبالغ العينية، لأن مصادر الزكاة متنوعة الأشكال:
كالزروع والثمار، والحيوانات، وعروض التجارة، والمعادن وغير ذلك، فالأولى التعبير بالأموال .
وبناء على ذلك يمكن تعريف استثمار أموال الزكاة: "بأنه العمل على تنمية أموال الزكاة لأي أجل، وبأية طريقة من طرق التنمية المشروعة لتحقيق منافع للمستحقين.
رابعاً: الألفاظ ذات الصلة بالاستثمار :
يتصل بالاستثمار بعض الألفاظ كالاستغلال، والاستنماء، والانتفاع.
1- الاستغلال :
الاستغلال لغة : طلب الغلة والغلة هي كل عين حاصلة من ريع الملك .(15)
وهذا هو عين الاستثمار ، فما تخرجه الأرض هو ثمرة ، وهو غلة. وللحنفية تفرقة خاصة بين الثمرة والغلة في باب الوصية. فإذا أوصى بثمرة بستانه انصرف إلى الموجود خاصة ، وإذا أوصى بغلته شمل الموجود ، وما هو بعرض الموجود (16).
2- الاستنماء:
الاستنماء لغة: طلب النماء وهو الزيادة، فيقال: نما المال ينمي، ويقال ينمو بمعنى زاد (17) وهو عين الاستثمار ، فما يتولد من الحيوانات هو ثمرة ، وهو نماء .
3- الانتفاع :
الانتفاع لغة: من نفع ينفع نفعا ، والاسم المنفعة . وهو الاستفادة من الشيء (18).
4- الانتفاع:
الانتفاع في الاصطلاح : التصرف في الشيء على وجه يريد به تحقيق فائدة (19) والانتفاع أعم من الاستثمار، لأن الانتفاع قد يكون بالاستثمار وبغيره .
المبحث الثاني
حكم استثمار أموال الزكاة
استثمار أموال الزكاة قد يحصل من المستحقين للزكاة بعد قبضها، أو من المالك الذي وجبت عليه الزكاة، أو من الأمام أو نائبه الذي يشرف على جمع أموال الزكاة ولكل حالة حكمها.
المطلب الأول: حكم استثمار أموال الزكاة من قبل المستحقين :(/2)
نص الفقهاء على جواز استثمار أموال الزكاة من قبل المستحقين بعد قبضها؛ لأن الزكاة إذا وصلت أيديهم أصبحت مملوكة ملكا تاما لهم وبالتالي يجوز لهم التصرف فيها كتصرف الملاك في أملاكهم، فلهم إنشاء المشروعات الاستثمارية، وشراء أدوات الحرفة وغير ذلك .
جاء في كشاف القناع: من أخذ بسبب يستقر الأخذ به وهو الفقر، والمسكنة والعمالة والتالف صرفه فيما شاء ، كسائر أمواله ،لأن الله تعالى أضاف إليهم الزكاة بلام الملك .وإن أخذ بسبب لم يستقر الملك به صرفه فيما أخذه خاصة ،لعدم ثبوت ملكه عليه من كل وجه وإنما يملكه مراعي فان صرفه في الجهة التي استحق الأخذ بها، و إلا استرجع منه كالذي يأخذه المكاتب والغارم والغازي وابن السبيل (20). وجاء في مغنى المحتاج: أضاف الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك والأربعة الأخيرة بفي الظرفية للأشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى، وتقييده في الأربعة الأخيرة، حتى إذا لم يصل الصرف في مصارفها استرجع بخلافه في الأولى (21). وجاء في الأشباه والنظائر لأبن نجيم: أسباب التملك المعاوضات المالية، والأمهار والخلع، والميراث والهبات والصدقات، والوصايا والوقف والغنيمة، والاستيلاء على المباح والأحياء .. الخ (22). وبالرغم من أن الشافعية قالوا: أن الملك في الأصناف الأربعة الأخيرة مقيد بالصرف في تلك الجهات (وهي تحرير العبيد - وقضاء الدين - والجهاد في سبيل الله - ونفقات طريق ابن السبيل).
إلا أنهم أجازوا لهؤلاء المستحقين استثمار أموال الزكاة التي وصلت إلى أيديهم فقالوا: يجوز للعبد المكاتب أن يتجر فيما يأخذه من الزكاة طلبا للزيادة وتحصيل الوفاء. وهذا لا خلاف فيه (أي بين الشافعية)(23).
وقال النووي: "قال أصحابنا يجوز للغارم أن يتجر فيما قبض من سهم الزكاة، إذا لم يف بالدين ليبلغ قدر الدين بالتنمية"(24).
ما أجاز الشافعية وأحمد في رواية إعطاء الفقراء والمساكين من أموال الزكاة لاستثمارها، فيعطي من يحسن الكسب بحرفة ما آلاتها، بحيث يحصل له من ربحها ما يفي بكفايته غالباً. فإن كان نجاراً أعطى ما يشتري به آلات النجارة. سواء كانت قيمتها قليلة أو كثيرة بحيث تفي غلتها بكفايته.وإن كان تاجراً أعطى رأس مال يفي ربحه بكفايته، يراعي في مقدار رأس المال نوع التجارة التي يحسنها، وقد مثلوا لذلك بما يلي: البقلي يكفيه خمسة دراهم، والباقلاني يكفيه عشرة، والفكهاني يكفيه عشرون، والعطار ألف والبزاز ألفان، والصيرفي خمسة آلاف، والجوهري عشرة آلاف. وإن كان لا يحسن الكسب، ولا يقوى على العمل:كالمريض بمرض مزمن يعطي ما يشتري به عقاراً يستغله، بحيث تفي غلته حاجته، فيملكه ويورث عنه، ويراعي في العقار عمر الفقير الغالب وعدد عياله(25).
المطلب الثاني: حكم استثمار أموال الزكاة من قبل المالك:
إذا أخر المالك إخراج الزكاة عن وقت وجوبها بقصد استثمارها، فهل يجوز ذلك أم لا ؟ الإجابة على هذا السؤال تنبني على مسالة : هل تجب الزكاة على الفور أم على التراخي؟
أولاً: الزكاة تجب على الفور أم على التراخي:
اختلف الفقهاء في فورية إخراج الزكاة بعد وجوبها، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية- في المختار عندهم- والمالكية في أصل المذهب والشافعية والحنابلة إلى أن الزكاة تجب على الفور (26)
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- قوله _تعالى_: "وآتوا حقه يوم حصاده"(27) فالمراد الزكاة، والأمر المطلق يقتضي الفور (28).
2- قوله _صلى الله عليه وسلم_: "ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته"(29) فالحديث يدل على الفورية، لأن التراخي عن الإخراج مما لا يبعد أن يكون سبباً لإتلاف المال وهلاكه(30)
3- ما روي عن عقبة بن الحارث قال :"صلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ العصر فأسرع ، ثم دخل البيت، فلم يلبث أن خرج، فقلت أو قيل له: كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة، فكرهت أن أبيته فقسمته" (31). فالحدث يدل على فورية إخراج الصدقة قال ابن بطال: "الخير ينبغي أن يبادر به، فإن الآفات تعرض والموانع تمنع، والموت لا يؤمن، والتسويف غير محمود" وزاده غيره: "وهو أخلص الذمة للحاجة، وأبعد من المطل المذموم، وأرضى للرب تعالى، وأمحى للذنب " (32).
4- ولأن حاجة الفقراء ناجزة، فيجب أن يكون الوجوب على الفور.(33) وقال الكمال بن الهمام الأمر بالصرف إلى الفقير معه قرينة الفور، وهي أنه لدفع حاجة وهي معجلة(34).(/3)
5- ولأن الزكاة عبادة تتكرر في كل عام، فلم يجز تأخيرها إلى وقت وجوب مثلها: كالصلاة والصوم (35). وذهب الحنفية في قول اختاره أبو بكر الجصاص وغيره إلى أن وجوب الزكاة عمري : أي تجب على التراخي، ومعنى التراخي- عندهم - أنها تجب مطلقاً عن الوقت، ففي أي وقت أدى يكون مؤدياً للواجب، وبتعيين ذلك الوقت للوجوب إذا لم يؤد إلى آخر عمره بحيث يتضيق عليه الوجوب، بأن بقى من الوقت قدر يمكنه الأداء فيه، وغلب على ظنه أنه لو لم يؤد فيه يموت فيموت، فعند ذلك يتضيق عليه الوجوب، حتى إنه لو لم يؤد فيه حتى مات، يأثم. واستدلوا لذلك بما يلي:
1- الأمر بأداء الزكاة مطلق، والأمر مطلق يقتضي التراخي، فلا يتعين الزمن الأول لأدائها دون غيره، كما لا يتعين لذلك مكان دون مكان.
2- وقد استدل الجصاص لذلك بمن عليه الزكاة إذا هلك نصابه بعد الحول والتمكن من الأداء، أنه لا يضمن، ولو كانت واجبة على الفور لضمن، كمن أخر صوم شهر رمضان عن وقته، أنه يجب عليه القضاء (36). وقد أجيب عن اقتضاء الأمر المطلق الفورية أو عدم اقتضائها:
بأن المختار في أصول الفقه أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ولا التراخي ، بل يقتضي مجرد طلب الفعل المأمور به، والفورية تستفاد من القرائن. وأجيب عن قول الجصاص: عدم الضمان بهلاك النصاب بعد وقت الوجوب: بأن هذه المسألة خلافية، ومبنية على مسألة الأمر المطلق الفورية أو عدم اقتضائها فيضمن عند من يقول بالفورية، ولا يضمن عند من يقول بالتراخي (37) فلا يصلح هذا الدليل للاستدلال به. والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الزكاة تجب على الفور، لأوامر الشرع التي قامت القرائن على وجوب المبادرة بها، وللأحاديث التي ذكرتها، ولقوله تعالى: "واستبقوا الخيرات (38) وقوله _تعالى_: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين" (39).
وبناء على القول الراجح فلا يجوز للمالك تأخير الزكاة لغير عذر: كدفعها إلى من هو أحق من ذي قرابة أو ذي حاجة، أو لحاجته إليها. أما استثمارها فلا يعد عذراً من أعذار التأخير، فلا يجوز له تأخيرها بقصد الاستثمار، لعدم تحقق الإخراج المأمور به على الفور.
ثانياً: هل يشارك الفقير المالك بعد وجوب الزكاة إذا استثمر الأموال الزكوية في الأرباح؟
إذا أخرج المالك الزكاة،و استثمر المال الذي خالطته الزكاة، فهل يشارك المستحقون المالك في الربح والخاسرة؟ إجابة هذه المسالة مبنية على مسألة تعلق الزكاة بالعين أو بالذمة. اختلف الفقهاء في تعليق الزكاة، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية، والشافعي في الجديد وهو الصحيح في المذهب وأحمد في راية عليها المذهب إلى أن الزكاة تتعلق بالعين (المال) لا بالذمة(40)
واستدلوا لذلك فيما يلي:
قوله _صلى الله عليه وسلم_: "في أربعين شاة(41) وقوله _صلى الله عليه وسلم_: "فما سقت السماء العشر"(42) وغير ذلك من النصوص الوارد فيها حرف "في" وهي للظرفية. فالواجب جزء من النصاب.
وذهب الشافعية في القديم وأحمد في رواية اختارها الخرقي في مختصره إلى أن الزكاة تتعلق بالذمة لا بالعين، لأن إخراجها من غير النصاب جائز، فلم تكن واجبة فيه: كزكاة الفطر، ولأنها لو وجبت فيه لأمتنع تصرف المالك فيه، ولتمكن المستحقون من إلزامه أداء الزكاة من عينه، أو ظهر شيء من أحكام ثبوته فيها، وأسقطت الزكاة بتلف النصاب من غير تفريط: كسقوط أرش الجناية بتلف الجاني (43). والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الزكاة تتعلق بالعين، لا بالذمة للنصوص الواردة في ذلك، ولقوله تعالى:
"خذ من أموالهم صدقة" (44). وقوله _تعالى_: "والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" (45) وقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ لمعاذ: "فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم"(46). وأما جواز إخراجها من غير النصاب، فيجاب عنه بأنه أجازها رخصة، وتوسيعها على المالك، لكونها وجبت مجاناً على سبيل المواساة.
فبناء على القول بأن الزكاة تتعلق بالذمة، فإن ملك المالك لا يزول عن شيء من المال، ويصح تصرفه فيه بالبيع والاستثمار وغير ذلك، والربح في حال الاستثمار له، والخسارة عليه. وبناء على القول بأن الزكاة تتعلق بالعين، فإن الفقهاء اختلفوا بمشاركة المستحقين للمالك في ماله، وهي مبنية على الاختلاف في التكييف الفقهي لتعلق الزكاة بالمال بعد وجوب الزكاة فيه: هل هو تعلق شركة، أو تعلق رهن، أو تعلق أرش جناية الرقيق برقبته؟
اختلف الفقهاء في ذلك على عدة أقوال :(/4)
القول الأول: ذهب المالكية والشافعية في قول والحنابلة في قول إلى أن الزكاة تتعلق بعين المال تعلق شركة، فينتقل مقدار الزكاة إلى المستحقين بعد وجوبها، ويصيرون شركاء رب المال في قدر الزكاة، واستدلوا لذلك بظاهر قوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم" (47)… فإن اللام في الآية للتمليك، ولأن الواجب يتبع المال في الصفة من الجودة والرداءة، فتؤخذ الصحيحة من الصحاح، والمريضة من المراض، ولو امتنع المالك من إخراجها أخذها الأمام منه ، فهو كما يقسم المال المشترك إذا امتنع بعض الشركاء من قسمته ولهذا كان للفقير أن يأخذ مقدار الزكاة من المال إذا ظفر به (48).
القول الثاني: ذهب الحنفية والشافعية في قول والحنابلة في قول إلى أن الزكاة تتعلق بعين المال تعلق أرش (49) جناية العبد المملوك برقبته، فلا يزول ملك رب المال عن شيء منه إلا بالدفع للمستحق، لأن الزكاة تسقط بتلف المال قبل التمكن أو من غير تفريط، كسقوط أرش الجناية بتلف الجاني… (50)
القول الثالث:ذهب الشافعية في قول ثالث والحنابلة في قول ثالث إلى أن الزكاة تتعلق بعين المال تعلق الدين بالرهن، وبمال من حجر عليه لفلسه، فلا يصح تصرفه قبل وفائه أو إذن ربه… "(51). بناء على القول بأن الزكاة تتعلق بالعين تعلق شركة قال بعض العلماء: إن المستحقين يشاركون رب المال في الربح الحاصل من استثمار المال الذي خالطته الزكاة، فجاء في العروة الوثقى: "إذا اتجر بمجموع النصاب قبل أداء الزكاة كان الربح للفقير بالنسبة والخسارة عليه".(52). وجاء في كتاب الخمس: "فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن ولها "للزكاة" الربح، وإن نويت في حال ما عزلتها من غير أن تشغلها في تجارة فليس عليك شيء، فإن لم تعزلها في جملة مالك فلها بقسطها من الربح، ولا وضعية عليها" ويعتمد هذا القول على قاعدة "تبعية النماء للملك" (53). ولكن الشافعية الذين قالوا بتعلق الزكاة بالعين تعلق شركة لم يقولوا بذلك ولم يرتبوا عليه تلك النتيجة، ومقتضى قولهم: إن المستحقين لا يشاركون رب المال في الربح والخسارة، إذا استثمر المالك المال الذي خالطته الزكاة لأن التمليك في الزكاة للمستحقين ليس تمليكاً حقيقياً قبل قبضهم لها، فقد جاء في أحكام القرآن للألكيا الهراسي "وإنما لم يجعله تمليكاً حقيقياً من حيث جعله لوصف لا لعين، وكل عين لموصوف فإنه لا يملكه إلا بالتسليم، إلا أن ذلك لا يمنع استحقاق الأصناف لأنواع الصدقات حتى لا يحرم صنف".(54). وبناء على القولين: الثاني والثالث للذين جعلا تعلق الزكاة بالعين تعلق استيثاق كما في الرهن وأرش جناية العبد، فلا يشارك المستحقون رب المال في ربح ما استثمره من أموال خالطتها الزكاة، وقد صرح بذلك الحنابلة حيث جاء في الأصناف: "والتصرف فيه ببيع غيره بلا إذن الساعي، وكل النماء له (أي للمالك).(55).
والذي أراه أن المستحقين لا يشاركون صاحب المال في الربح الذي يحصل له من استثمار أمواله بعد وجوب الزكاة وقبل الأداء، لأن قول الحنفية ومن معهم من أن الزكاة تتعلق بالعين تعلق أرش جناية العبد برقبته أرجح الأقوال في المسألة، فلا يزول ملك رب المال عن شيء من أمواله إلا بالدفع إلى المستحقين، وأما ما ذهب إليه الشافعية ومن معهم من أن اللام في آية توزيع الصدقات للتمليك، فيجاب عنه بأن هذا المبدأ ليس محل اتفاق كما بينت في بحث: مبدأ التمليك ومدى اعتباره في صرف الزكاة"(56)… والتمليك بالنسبة لمن قالوا به ليس على الحقيقة قبل قبض الزكاة- كما بينت سابقاً - فالفقير ليس بمالك للزكاة حقيقة، ولكن له صلاحية أن تصرف إليه، ويستحق هذا القدر على صاحب المالك، وعلى معنى أنه إذا أراد الأداء يجب عليه أن يصرفه إلى الفقير دفعاً لحاجته، ولا يقال لما وجب الصرف إليه لفقره كان المال حقه، فيكون هو مستحقاً له حقيقة، لأنا نقول ما يجب لفقره رزقاً له على الله تعالى، لأنه تعالى هو الضامن للرزق دون العبيد إلا أن الله أمر بصرف هذا الواجب إليه.(57).
وإذا عزل المالك الزكاة عن أمواله فلا يجوز له استثمارها، إلا إذا منع من توصيلها للمستحقين مانع فلا بأس باستثمارها لحين توزيعها بحيث يضمن الخسارة.
المطلب الثالث: حكم استثمار أموال الزكاة من قبل الأمام أو من ينوب عنه:
إذا وصلت أموال الزكاة إلى يد الأمام أو نائبه فهل يجوز له استثمارها في مشاريع ذات ريع أم لا؟
أولاً: آراء العلماء المعاصرين في استثمار الأمام لأموال الزكاة:
اختلف العلماء المعاصرون في حكم استثمار الأمام لأموال الزكاة على قولين:
القول الأول: يرى بعض العلماء عدم جواز استثمار أموال الزكاة من قبل الأمام أو من ينوب عنه، وممن ذهب إلى ذلك الدكتور وهبه الزحيلي، والدكتور عبد الله علوان، والدكتور محمد عطا السيد، والشيخ محمد تقي العثماني(58).(/5)
القول الثاني: يرى كثير من العلماء المعاصرين جواز استثمار أموال الزكاة في مشاريع استثمارية سواء فاضت الزكاة أولا. وممن ذهب إلى هذا القول الأستاذ مصطفى الزرقا والدكتور يوسف القرضاوي والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والدكتور عبد العزيز الخياط، والدكتور عبد السلام العبادي، والدكتور محمد صالح الفرفور ، والدكتور حسن عبد الله الأمين، والدكتور محمد فاروق النبهان.
قال الأستاذ مصطفى الزرقا: "الاستثمار الذي هو تنمية المال.. أرى أن كل طرق الاستثمار بمعنى أن يوضع في طريق ينمو به مال الزكاة، فيصبح الواحد اثنين والاثنان ثلاثة…، على شرط أن تمارسها أيد أمينة، وأساليب وتحفظات مأمونة كل هذا جائز، سواء أكان عن طريق تجارة أم عن طريق الصناعة أم عن طريق أي شيء يمكن أن يستثمر. (59). وقال الدكتور يوسف القرضاوي: "بناء على هذا المذهب- أي مذهب إناء الفقير من الزكاة تستطيع مؤسسة الزكاة إذا كثرت مواردها واتسعت حصيلتها أن تنشأ مؤسسات تجارية أو نحو ذلك من المشروعات الإنتاجية الاستغلالية وتملكها للفقراء كلها أو بعضها، لتدر عليهم دخلا دورياً يقوم بكفايتهم كاملة، ولا تجعل لهم الحق في بيعها ونقل ملكيتها لتظل شبه موقوفة عليهم .(60). وقال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: "يجوز استثمار هذه الأموال "أموال الزكاة" بما يعود على المجاهدين الأفغان بالخير بهذه الطريقة المشروعة "المرابحة" وأنتم وكلاء في القبض ، فيمكن أن تكونوا وكلاء في التصرف، وأنتم في مقام المودع إذا أذن له في التصرف".(61).
وقال الدكتور محمد فاروق النبهان: "اقترح أن تنشأ وزارة خاصة يطلق عليها اسم وزارة الزكاة وتكون مهمتها جباية الأموال من الأغنياء، وتوزيعها على مستحقيها من الفقراء.. إليهم دون غيرهم"(62). وقال الدكتور عبد العزيز الخياط عميد كلية الشريعة بالجامعة الأردنية سابقاً: أرى ضرورة توظيف واستثمار بعض أموال الزكوات في المشروعات الخيرية والصناعية والتجارية لصالح جهات الاستحقاق"(63).
وقال الدكتور محمد صالح الفرفور: "أرى جواز استثمار أموال الزكاة استحساناً خلافا للقياس للضرورة أو الحاجة بإشراف ولي الأمر أو من يفوضه كالقاضي (64). وقد أفتى بجواز استثمار أموال الزكاة كثير من العلماء ولجان الفتوى في العالم الإسلامي - كما هو مبين في ملاحق الفتاوى والقرارات-
ثانياً: الأدلة:
يستند كل قول من القولين السابقين إلى حجج وأدلة، وفيما يلي أدلة كل فريق:
1- أدلة القائلين بعدم جواز الاستثمار.
استدل القائلون بعدم جواز استثمار أموال الزكاة بما يلي:
أ - استثمار أموال الزكاة في مشاريع صناعية أو زراعية أو تجارية يؤدي إلى تأخير توصيل الزكاة إلى المستحقين، إذ أن إنفاقها في تلك المشاريع يؤدي إلى انتظار الأرباح المترتبة عليها، وهذا مخالف لما عليه جمهور العلماء من أن الزكاة تجب على الفور. (65)
ب - إن استثمار أموال الزكاة يعرضها إلى الخسارة والضياع، لأن التجارة إما ربح وإما خسارة (66).
ت - إن استثمار أموال الزكاة يعرضها إلى إنفاق أكثرها في الأعمال الإدارية (67).
ث - إن استثمار أموال الزكاة يؤدي إلى عدم تملك الأفراد لها تمليكاً فردياً، وهذا مخالف لما عليه جمهور الفقهاء من اشتراط التمليك في أداء الزكاة، لأن الله تعالى أضاف الصدقات إلى المستحقين في آية الصدقات بلام الملك(68).
ج - لأن يد الأمام أو من ينوب عنه على الزكاة يد أمانة لا تصرف واستثمار(69).
2-أدلة القائلين بجواز الاستثمار:
استدل القائلون بجواز استثمار أموال الزكاة بما يلي:
(أ ) لأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ والخلفاء الراشدين كانوا يستثمرون أموال الصدقات من إبل وبقر وغنم ، فقد كان لتلك الحيوانات أماكن خاصة للحفظ والرعي والدر والنسل، كما كان لها رعاة يرعونها ويشرفون عليها، ويؤيد ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه أن أناساً من عرينة اجتووا المدينة(70)، فرخص لهم الرسول _صلى الله عليه وسلم_ أن يأتوا إبل الصدقة فشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي واستاقوا الذود فأرسل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، وتركهم بالحرة يعضون الحجارة"(71). وعن مالك عن زيد بن أسلم أنه قال: شرب عمر بن الخطاب لبناً فأعجبه، فسأل الذي سقاه من أين هذا اللبن، فأخبره أنه ورد على ماء قد سماه، فإذا نعم من نعم الصدقة، وهم يسقون، فحلبوا من ألبانها، فجعلته في سقاء فهو هذا، فأدخل عمر بن الخطاب يده فاستقاء(72).
(ب) الاستئناس بقول من توسع في مصرف: "في سبيل الله" وجعله شاملا لكل وجوه الخير: من بناء الحصون وعمارة المساجد، وبناء المصانع، وغير ذلك مما فيه للمسلمين كما نقله الرازي في تفسيره عن تفسير القفال عن بعض العلماء.
(73). فإذا جاز صرف الزكاة في جميع وجوه الخير، جاز صرفها في إنشاء المصانع والمشاريع ذات الريع التي تعود بالنفع على المستحقين.(/6)
(ت) الاستئناس بقول من أجاز للأمام- إذا اقتضت الضرورة أو الحاجة- إنشاء المصانع الحربية من سهم " في سبيل الله" وأن يجعل هذه المصانع كالوقوف على مصالح المسلمين. ويستند هذا الرأي إلى ما ذكره النووي في المجموع عن فقهاء خراسان: "إن الأمام بالخيار إن شاء سلم الفرس والسلاح والآلات إلى الغازي أو ثمن ذلك تمليكاً له فيملكه وإن شاء استأجر ذلك له، وإن شاء اشترى من سهم "في سبيل الله" أفراساً وآلات الحرب، وجعلها وقفاً في سبيل الله، ويعطيهم عند الحاجة ما يحتاجون إليه ثم يردونه إذا انقضت حاجتهم، وتختلف المصلحة في ذلك بحسب قلة المال وكثرته"(74). هذا بناء على قول من يرى عدم التوسع في مصرف في "سبيل الله" وقصره على الجهاد في سبيل الله ، فإذا جاز إنشاء المصانع الحربية ووقفها على مصالح الجيش الإسلامي من الزكاة جاز إنشاء المؤسسات الاستثمارية من أموال الزكاة إذا دعت الضرورة أو الحاجة ووقفها على المستحقين للزكاة.
(ث) الاستئناس بالأحاديث التي تحض على العمل والإنتاج واستثمار ما عند الإنسان من مال وجهد ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك قال: "أن رجلا من الأنصار أتى النبي _صلى الله عليه وسلم_، قال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى حلس(75) نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب (76) نشرب فيه الماء. قال: ائتني بهما، فأخذهما رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بيده وقال من يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثاً. فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالأخر قدوماً فائتني به، فشد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ عوداً بيده ثم قال: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب خمسة عشر درهماً فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "هذا خير لك من أن تجيء المسالة نكتة في وجهك يوم القيامة، وإن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع (77)، أو لذي غرم مفظع(78) أو لذي دم موجع (79)(80).فإذا جاز استثمار مال الفقير المشغول بحاجاته الأصلية جاز للأمام استثمار أموال الزكاة قبل شغلها بحاجاتهم.
(ج) القياس على استثمار المستحقين للزكاة بعد قبضها ودفعها إليهم بقصد الاستثمار- كما بينا سابقاً - فإذا جاز دفعها إليهم استثمارها لتأمين كفايتهم وتحقيق إغنائهم جاز استثمارها وإنشاء مشروعات صناعية أو زراعية تدر على المستحقين ريعاً دائماً ينفق في حاجة المستحقين، ويؤمن لهم أعمالا دائمة تتناسب مع إمكاناتهم وقدراتهم. والاستئناس بالأحاديث التي تحض على الوقوف والصدقة الجارية، ومن ذلك قوله _صلى الله عليه وسلم_: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو (81) فالصدقة الجارية هي الدائمة المتصلة كالوقوف المرصدة، فيدوم ثوابها للمتصدق مدة دوامها، ويعمل الناظر على تنميتها واستثمارها والتصرف فيها بما يحقق مصلحة الموقوف عليهم، فإذا جاز للناظر التصرف فيها وفق مصلحة المستحقين، جاز للأمام التصرف في أموال الزكاة واستثمارها.
(ح) القياس على جواز استثمار أموال الأيتام من قبل الأوصياء بدليل قوله _صلى الله عليه وسلم_ "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة"(82) فإذا جاز استثمار أموال الأيتام وهي مملوكة حقيقة لهم جاز استثمار أموال الزكاة قبل دفعها إلى المستحقين لتحقيق منافع لهم فهي ليست بأشد حرمة من أموال الأيتام.
(خ) العمل بالاستحسان في هذه المسألة خلافاً للقياس، فهذه المسألة وإن كان الأصل فيها عدم الجواز إلا أن الحاجة إليها في هذا العصر ماسة نتيجة لاختلاف البلاد والعباد واختلاف الدول وأنظمة العيش، وأنماط الحياة(83) ومن وجوه المصلحة في استثمار أموال الزكاة تأمين موارد مالية ثابتة لسد حاجات المستحقين المتزايدة.
ثالثاً: مناقشة الأدلة:
1ـ مناقشة أدلة القائلين بعدم جواز الاستثمار:(/7)
أ - القول إن استثمار أموال الزكاة ينافي الفورية التي عليها الجمهور يجاب عنه، بأن الفورية تتعلق بالمالك لا بالإمام، فإذا وصلت الزكاة إلى يد الأمام أو نائبه تحققت الفورية وجاز له- عند جمهور العلماء- تأخير قسمتها، واستدلوا لذلك بما روي أنس بن مالك قال: "غدوت إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه(84) فوافيته في يده الميسم (85) يسم إبل الصدقة(86) فهو يدل على جواز تأخير القسمة، لأنها لو عجلت لاستغنى عن الوسم"(87). كما يجوز للإمام تأخير الزكاة عند المالك لحاجة المالك نفسه أو المستحقين. فقال المالكية: "يجوز للإمام تأخير الزكاة إلى الحول الثاني، إذا أداه إليه اجتهاده، لأن الإمام وكيل المستحقين وهو مأمور بأن يتحرى المصلحة" (88). وقال الحنابلة "يجوز للإمام والساعي تأخيرها عند ربها لعذر قحط أو نحوه"(89)، وقال أبو عبيد :"وكذلك تأخيرها إذا رأى ذلك الأمام في صدقة المواشي، للأزمة تصيب الناس، فتجدب لها بلادهم، فيؤخرها عنهم إلى الخصب، ثم يقضيها منهم بالاستيفاء في العام المقبل، كالذي فعله عمر في عام الرمادة"(90).
ب - القول إن الاستثمار يعرض أموال الزكاة للخسارة يجاب عنه: بأن احتمال الخسارة في التجارة لا يمنع الاتجار بالأموال، لما فيه من تنمية المال وزيادته، وقد اعتبر ابن عبد السلام الاتجار من المصالح الدنيوية التي تدعو إليها الشريعة الإسلامية، حيث قسم المصالح الدنيوية إلى قسمين أحدهما: ناجز الحصول: كمصالح المآكل والمشارب، والملابس وحيازة المباح والاصطياد والاحتشاش والاحتطاب. والقسم الثاني: متوقع الحصول: كالاتجار لتحصيل الأرباح، وكذلك الاتجار في أموال اليتامى لما يتوقع فيها من الأرباح(91). وقد دعت الشريعة الإسلامية الولاة والحكام إلى حفظ أموال الأمة واستثمارها بما يحقق النفع للمسلمين، فجاء في كتاب الخراج: (فإذا اجتمعوا "أي أهل الخير" على أن في ذلك "رأي في حفر الأنهار" صلاحاً وزيادة في الخراج أمرت بحفر تلك الأنهار، وجعلت النفقة من بيت المال ولا تحمل النفقة على أهل البلد، وكل ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أرضهم وأنهارهم وطلبوا إصلاح ذلك لهم أجيبوا إليه إذا لم يكن فيه ضرر على غيرهم(92). وما ذكره أبو يوسف- رحمه الله- من ضرورة حفر الأنهار هو من قبيل التمثيل، لا الحصر كما يفهم من عبارته الأخيرة، "وكل ما فيه مصلحة لأهل الخراج.. أجيبوا إليه". واستثمار الأموال يخضع - في هذا الوقت- إلى دراسات اقتصادية دقيقة قبل الأقدام على أي مشروع استثماري: مثل دراسة فرص الاستثمار، ودراسة الجدوى الاقتصادية. ففي دراسة الفرص يتم تحليل إحصائيات عن الموارد المتاحة والمستخدمة، وعن طلب المستهلكين والعرض المتاح، وعن الحاجات الأساسية والمعروض منها، وعن الواردات والطلب عليها، وعن المنتجات المصنوعة ومدى الحاجة إليها، وعن رغبات التنوع والمناخ الاستثماري العام والتسهيلات المقدمة.(93).
ودراسة الجدوى الاقتصادية تتنوع إلى نوعين: دراسة جدوى مبدئية، ودراسة جدوى تفصيلية، فدراسة الجدوى المبدئية حلقة وسط بين دراسة الفرص ودراسة الجدوى التفصيلية، فإذا ثبت من دراسة الفرص أن الفكرة طيبة وتستحق الدراسة فإنه قد يكون من المرغوب فيه القيام بدراسة مبدئية تهتم بالهيكل العام ودراسة البدائل ولا تنشغل بالتفاصيل الفنية والهندسية، فإذا تبين من هذه الدراسة أن المشروع يستحق القيام به ويحتاج إلى دراسة الجدوى التفصيلية قام بها وهي تعتمد على بيانات تفصيلية في الجوانب الفنية والهندسية والتجارية والمالية والاقتصادية والاجتماعية، ففي الدراسة يتم تحليل أشياء كثيرة منها: الإنتاج والمنتجات، والموقع، والتكنولوجيا، والمدخلات والمخرجات، والأسعار والتسعير والمبيعات والإيرادات، والمصروفات وتكاليف الاستثمار، والتمويل وهيكل التمويل، والربحية المالية والاقتصادية والتجارية، والدراسة الحسابية للتغيرات والمخاطر وغير ذلك وكل جزئية من هذه الجزئيات يتم وضعها في إطار من التفاصيل الدقيقة التي يتم جمعها بأكبر دقة ممكنة دائماً مع عمل الافتراضات التي بنيت عليها الدراسة مثل الطاقة الإنتاجية والسياسية والحكومية …(94).
كل هذه الدراسات تتم قبل اتخاذ قرار الاستثمار، ومن قبل أهل الاختصاص والخبرة، وهي كفيلة بتضييق دائرة احتمال الخسارة في المشروع الاستثماري. وفيما يلي بيان بالمراحل التي تمر بها صناعة قرار الاستثمار بصفة عامة، ودراسة الجدوى الاقتصادية بصفة خاصة.
(ج) وأما القول: إن استثمار أموال الزكاة يؤدي إلى إضاعتها في الأعمال الإدارية فهو مناقض لنص الآية "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها…"(95) فقد جعل الله تعالى للقائمين عليها سهماً منها كما سيأتي تفصيله في تكاليف استثمار أموال الزكاة.(/8)
(د) وأما القول: إن استثمار أموال الزكاة مناف لمبدأ التمليك الذي اشترطه جمهور الفقهاء، فيجاب عنه بأن اشتراط التمليك محل نظر، فقد ذهب بعض العلماء إلى عدم اشتراطه إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ولذا أجاز كثير من العلماء صرف الزكاة بدون تمليك فردي في كثير من الصور، كصرف الزكاة في شراء العبيد وعتقهم، وصرف الزكاة لأبناء السبيل بدون تمليك فردي للمستحق.
وعلى فرض اشتراط التمليك فإن التمليك حاصل في إنشاء المشاريع الاستثمارية، وهي التمليك الجماعي للمستحقين، أو لبيت المال أو بيت الزكاة، وقد اعتبر الفقهاء بيت المال شخصية اعتبارية أو حكمية تملك وتملك.(96).
(هـ) وأما القول: أن يد الأمام على الزكاة يد أمانة لا تصرف واستثمار، فيجاب عنه بأنه غير مسلم، فقد أجاز الفقهاء التصرف في مال الزكاة لضرورة أو حاجة، ولذا أجاز المالكية والشافعية والحنابلة بيع الزكاة للضرورة، فقال الخرشي: "إذا قلنا بنقل الزكاة إلى البلد المحتاج واحتاجت إلى كراء يكون من الفيء .. فإن لم يكن في فيء أو كان ولا أمكن نقلها.. فإنها تباع في بلد الوجوب، ويشتري بثمنها مثلها في الموضع الذي تنقل إليها إن كان خيراً (97). وقال النووي: "لا يجوز للإمام والساعي بيع شيء من مال الزكاة من غير ضرورة، فإن وقعت الضرورة بأن يقف عليه بعض الماشية أو خاف هلاكه، أو كان في الطريق خطر، أو احتاج إلى رد جبران أو إلى مؤونة النقل، أو قبض بعض شاه وما أشبه جاز البيع ضرورة (98).
وقال ابن قدامة: "إذا أخذها الساعي فاحتاج إلى بيعها لمصلحة من كلفة نقلها ونحوها فله ذلك لما روي قيس بن أبي حازم أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء (99) فسأل عنها فقال المصدق: إني ارتجعتها بإبل(100) فالرجعة أن يبيعها ويشتري بثمنها مثلها أو غيرها(101).
2- مناقشة أدلة القائلين بجواز الاستثمار:
أ - القول بأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ والخلفاء الراشدين كانوا يستثمرون أموال الزكاة من إبل وغنم وبقر يجاب عنه بأنه غير مسلم، لأن ما حدث كان لمجرد حفظ الحيوانات لحين توزيعها على المستحقين لا للاستثمار، وما يحصل من توالد وتناسل ودر لبن فهو طبيعي غير مقصود، فلا يدل هذا الدليل على جواز إنشاء مشاريع إنتاجية طويلة الأجل، وإنما يدل على جواز استثمار أموال الزكاة في إحدى المصارف الإسلامية لحين توزعها أو توصيلها إلى المستحقين، فإن هذا الاستثمار للحفظ وتحقيق النفع للمستحقين من ريعها، فلا حرج فيه لقوله _صلى الله عليه وسلم_: " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل" (102).
ب - وأما التوسع في مصرف "في سبيل الله" حتى يشمل جميع وجوه الخير فهو غير مسلم ولا معتمد، لأنه ورد في بعض كتب التفسير لفقيه غير معروف، وهو قول مرجوح، والمختار عند الفقهاء والمحققين أن هذا المصرف يراد به الجهاد في سبيل الله ، لا جميع وجوه الخير(103).
ت - وأما القول بأنه يجوز للإمام- إذا اقتضت الضرورة - إنشاء المصانع الحربية من سهم " في سبيل الله" فصحيح، ومن وجوه الضرورة خلو بيت المال عن الأموال التي تفي بذلك، لأن عبء تجهيز الجيوش الإسلامية وتسليحها يقع على عاتق بيت المال من فيء وخراج وجزية، فإذا عجز بيت المال عن تجهيز المجاهدين فلا مانع من تجهيزهم من الزكاة.
ث - وأما حديث الحلس فعام في الحث على الاستثمار والإنتاج، وليس خاصاً باستثمار أموال الزكاة.
ج - القياس على استثمار المستحقين للزكاة أجيب عنه بأنه لا يصح، لأن شرط التمليك متحقق في دفع الزكاة للمستحقين بقصد الاستثمار، ولا يتحقق ذلك الشرط في إنفاق الزكاة في المشاريع الاستثمارية من قبل الأمام. ويجاب عن ذلك بما ذكرت عند مناقشة أدلة المانعين من أن شرط التمليك محل نظر، وأن التمليك الجماعي حاصل في إنشاء المشاريع الاستثمارية.
و- الاستئناس بحديث الصدقة الجارية (الوقوف) أجيب عنه بأنه لا يصح لأن من أركان الوقف أن يكون هناك واقف، وفي استثمار أموال الزكاة لا يوجد واقف، لأن أموال الزكاة قبل قبضها من قبل المستحقين ليست مملوكة لهم حقيقة حتى يقفوها، وهي ليست مملوكة للمزكين أيضاً ولا للإمام. ويجاب عن ذلك بأن هذه الحالة ذات شبه بالوقف من بعض الوجوه، وليست مطابقة له من كل الوجوه وما دام الأمر كذلك فليست بحاجة لتوفر أركان الوقف وشروطه (104).(/9)
ز- القياس على استثمار أموال الأيتام أجيب عنه، بأن هذا الاستثمار خاص بالأموال الزائدة عن حاجة اليتيم الأصلية بدليل وجوب الزكاة فيها "حتى لا تأكلها الصدقة" أما أموال الزكاة فلا تزيد عن حاجات المستحقين في الغالب، وإذا زادت في قطر تنقل إلى قطر آخر كما قال الجويني :" وأما الزكوات: إن انتهى مستحقوها إلى مقاربة الاستقلال واكتفوا بما نالوه منها فلا سبيل إلى رد فاضل الزكوات عليهم، فإن أسباب استحقاقهم ما اتصفوا به من حاجاتهم، فإذا زالت أسباب الاستحقاق وزال الاستحقاق بزوالها، فالفاضل عند هذا القائل إن تصور استغناء مستحقي الزكاة في قطر أو ناحية منقول إلى مستحقي الزكاة في ناحية أخرى، وإن بالغ مصور في تصوير شغور الخطة عن مستحقي الزكاة في ناحية أخرى، فهذا أخرق للعوائد وتصوره عسر. ولكن العلماء ربما يفرضون صوراً بعيدة وغرضهم بفرضها وتقديرها تمهيد حقائق المعاني. فإن احتملنا تصور ذلك - أي زيادة أموال الزكاة عن المستحقين - فالفاضل من الزكوات عن هؤلاء مردود إلى سهم المصالح العامة " (105).
فالجويني يستبعد زيادة أموال الزكاة عن حاجات المستحقين في زمنه ويعتبره خارقاً للعادة، فكيف بزماننا الذي شح فيه كثير من الأغنياء عن إخراج ما وجب عليهم من زكاة. فلا يصح قياس استثمار أموال الزكاة المشغولة بحاجات المستحقين على استثمار أموال الأيتام الزائدة عن حاجاتهم.
ح - العمل بالاستحسان أو بما هو خلاف الأصل للحاجة أو الضرورة ينبغي أن يقيد بضوابط وقيود تحمي أموال الزكاة من الضياع- كما سيأتي في القول المختار.
رابعاً: الرأي المختار:
بعد عرض آراء العلماء وأدلتهم ومناقشتها يتبين لي ما يلي:
1- الأصل في أموال الزكاة التي وصلت إلى يد الأمام، أو من ينوب عنه من السعادة أو المؤسسات الزكوية تعجيل تقسيمها بين المستحقين، ولا يجوز تأخيرها.
2- لكن إذا دعت الضرورة أو الحاجة إلى تأخير تقسيمها فلا بأس، وتحفظ حينئذ بالطريقة التي يراها الأمام أو من ينوب عنه، بحيث تؤدي تلك الطريقة إلى عدم ضياعها، وتحقيق المنافع للمستحقين: كحفظها في مصارف إسلامية على شكل ودائع استثمارية لحين الطلب.
3- ويستثنى من الأصل السابق أيضاً جواز تأخيرها للاستثمار، إذا دعت الضرورة أو الحاجة: كتأمين موارد مالية ثابتة للمستحقين وتوفير فرص عمل للعاطلين عن العمل من المستحقين فيجوز استثمارها في مشاريع إنتاجية
ويؤيد ذلك ما يلي:
أ - ما صمد من أدلة القائلين بجواز الاستثمار أمام المناقشة كالقياس على جواز استثمار المستحقين للزكاة بعد قبضها، ودفعها إليهم بقصد الاستثمار وجواز إنشاء المصانع الحربية من الزكاة للضرورة، والحاجة إلى الاستثمار.
ب - القياس على وقف الأرض المفتوحة عنوة بقصد استثمارها وتأمين مورد ثابت للدولة الإسلامية، فقد رأى عمر رضي الله عنه عدم تقسيم أراضي العراق ومصر والشام بين الفاتحين وتركها في أيدي أهلها من أهل الذمة يزرعونها بخراج معلوم. وقال في أهلها: "يكونون عمّار الأرض، فهم أعلم بها، وأقوى عليها"(106). ثم قال: "فكيف بمن يأتي من المسلمين، فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت، وورثت عن الآباء، وحيزت ما هذا برأي"(107).فإذا جاز للإمام وقف الأراضي المفتوحة عنوة لمصلحة جميع المسلمين للحاجة جاز له استثمار أموال الزكاة في مشاريع إنتاجية، ووقفا على المستحقين للحاجة.
ت - الاستئناس بحديث أصحاب الغار فقد روي البخاري وغيره عن ابن عمر _رضي الله عنهما_ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل فانحطت عليهم صخرة قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه.
فقال الثالث: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً بفرق من ذرة فأعطيته وأبى ذلك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقراً وراعيها ثم جاء، فقال يا عبد الله أعطني حقي، فقلت انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال أتستهزئ بي؟ قال فقلت ما أستهزئ بك، ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم"(108).
و في رواية "بفرق أرز" والفرق مكيال معروف بالمدينة. وفي هذا الحديث دليل على جواز استثمار مال الغير بغير إذن مالكه إذا أجازه المالك بعد ذلك (109).
هذا إذا كان المتصرف ليس له حق النظر والتصرف في المال، أما إذا كان له حق التصرف والنظر في المال كالإمام بالنسبة لأموال الزكاة جاز التصرف دون الحاجة إلى إجازة الفقراء.(110).
ث - الاستئناس بحديث عروة البارقي أن النبي _صلى الله عليه وسلم_: أعطاه ديناراً يشتري أضحية أو شاة، فاشترى شاتين، فباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه فكان لو اشترى تراباً لربح فيه".(/10)
وفي رواية عن حكيم بن حزام أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار وباعها بدينارين، فرجع فاشترى له أضحية بدينار، وجاء بدينار إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، فتصدق به النبي _صلى الله عليه وسلم_، ودعا له أن يبارك في تجارته(111).
في الحديث دلالة على أن عروة اتجر فيما لم يوكل بالاتجار به وكذلك حكيم بن حزام فهو يدل على جواز استثمار مال الغير بغير إذن مالكه، لأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أقرهما على ذلك، ودعا لكل واحد منهما بالبركة في بيعه، ففي دعائه لهما بالبركة دليل على أنه فعل مستحسن ومستحب، وبخاصة إذا كان يحقق الخير لصاحب المال(112).
فإذا جاز استثمار المال الخاص بدون إذن صاحبه جاز للإمام أو نائبه استثمار المال العام بدون إذن من له نصيب في هذا المال، لأن الأمام له حق النظر والتصرف بالمال بما يحقق المصلحة للمستحقين، ويدفع الضرر عنهم كولي اليتيم والناظر على الوقف، ولذلك قال عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_: "إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم"(113)…
وقال الإمام مالك: "الأمر عندنا في قسم الصدقات أن ذلك لا يكون إلا على وجه الاجتهاد من الوالي، فأي الأصناف كانت فيه الحاجة والعدد أوثر ذلك الصنف بقدر ما يرى الوالي(114).
وقال أبو عبيد: "الأمام مخير في الصدقة في التفريق فيهم جميعاً، وفي أن يخص بها بعضهم دون بعض إذا كان ذلك على وجه الاجتهاد، ومجانبة الهوى والميل عن الحق وكذلك من سوى الأمام، بل لغيره أوسع إن شاء الله".(115).
وقال ابن حجر: "للإمام أن يخص بمنفعة مال الزكاة دون الرقبة صنفاً دون صنف بحسب الاحتياج (116) وقد بينت عند مناقشة الأدلة أن للإمام حق التصرف في أموال الزكاة بالبيع للحاجة. فيجوز استثمارها إذا رأى الأمام المصلحة في ذلك … والله أعلم.
4- ضوابط استثمار أموال الزكاة من قبل الأمام أو من ينوب عنه.
إذا قلنا بجواز استثمار أموال الزكاة من قبل الأمام أو من ينوب عنه فلا بد من مراعاة الضوابط التالية:
أ - أن لا توجد وجوه صرف عاجلة لتلك الأموال: كسد الحاجات الضرورية للمستحقين من الحاجة إلى الطعام أو الكساء أو السكن، فإن وجدت تلك الحاجات العاجلة، فلا يجوز تأخير صرف الزكاة فيها بحجة الاستثمار، وإذا كانت أموال الزكاة على شكل أصول ثابتة: كالمصانع والعقارات فيجب بيعها وصرف أثمانها في تلك الوجوه.
ب - أن يتحقق من استثمار أموال الزكاة مصلحة حقيقية راجحة للمستحقين: كتأمين مورد دائم يحقق الحياة الكريمة لهم.
ت - أن تكون مجالات الاستثمار مشروعة: كالتجارة والصناعة والزراعة، ولذا فلا يجوز استثمار أموال الزكاة في مجال من المجالات المحرمة: كالربا والاتجار بالمحرمات وغير ذلك.
ث - أن تتخذ كافة الإجراءات التي تضمن بقاء تلك الأموال على أصل حكم الزكاة، بحيث لا يصرف ريعها إلا للمستحقين ولو احتيج إلى بيع الأصول الثابتة في المستقبل ترد أثمانها إلى مصارف الزكاة.
ج - أن يسبق قرار الاستثمار دراسات دقيقة من أهل الخبرة تتعلق بالجدوى الاقتصادية للمشروع الاستثماري، فإذا غلب على الظن تحقق الأرباح من ذلك المشروع باشر من في إنشائه.
ح - أن يسند أمر الأشراف والإدارة إلى ذوي الكفاءة والخبرة والأمانة.
خ - أن يعتمد قرار الاستثمار ممن له ولاية عامة كالإمام أو القاضي، أو أهل الحل والعقد.
---------------------
(1) المصباح المنير للفيومي، المفردات في غريب القرآن للأصفهاني مادة، زكا.
(2) جواهر الإكليل للأبي1/188
(3) المغني لأبن قدامة 2/572.
(4) آية: 34 من سورة الكهف.
(5) لسان العرب لأبن منظور، القاموس المحيط للفيروز آبادي، المفردات للأصفهاني، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي، أساس البلاغة، مادة: ثمر.
(6) المنتقي للباجي 5/150.
(7) آية 5 من سورة النساء
(8) الكشاف للزمخشري1/500.
(9) الاستثمار والتمويل للدكتور سيد الهواري ص43
(10) الموسوعة الاقتصادية لراشد الباروي ص17
(11) بتصرف من الاستثمار والتمويل للهواري ص43-44.
(12) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية- الاستثمار للسيد الهواري 6/28
(13) الموسوعة العلمية -6/16
(14) لسان العرب لأبن منظور، والقاموس المحيط ومختار الصحاح، مادة: وظف
(15) المصباح المنير للفيومي، القاموس المحيط ، مادة : غل
(16) فتح القدير للكمال بن الهمام 10/491
(17) المصباح المنير، القاموس المحيط، مادة:نما.
(18) القاموس المحيط مختار الصحاح للرازي، مادة : نفع
(19) معجم لغة الفقهاء للقلعجي وقنيبي ص91.
(20) كشاف القناع للبهوتي 2822/.
(21) المغني المحتاج للشربيني الخطيب 3/106
(22) الأشباه والنظائر لأبن نجيم ص346.
(23) المجموع للنووي 6/150
(24) المرجع نفسه 6/156.
(25) المجموع 6/139، مغني المحتاج 3/114، حاشية قليوبي 3/200.. ، نهاية المحتاج للرملي 6/162، حاشية البجيرمي 3/314. الأنصاف للمرداوي 3/238.(/11)
(26) البدائع 2/3، درر الحكام لملأ خسرو 1/174، حاشية الدسوقي 1/503، المجموع للنووي 5/286، مغني المحتاج 1/413، المبدع 2/399، المغني 2/684.
(27) آية : 141 من سورة الأنعام.
(28) المبدع 2/399.
(29) نيل الأوطار 4/167 وصعفه السيوطي في الجامع الصغير، وقال البيهقي: تفرد به محمد قال الذهبي في المهذب ضعيف، وفي الميزان عن أبي حاتم منكر الحديث. ثم عد من مناكيره هذا الخبر (فيض القديري للمناوي 5/443).
(30) نيل الأوطار 4/167.
(31) صحيح البخاري 2/118.
(32) فتح الباري 4/41، نيل الأوطار 4/168.
(33) المغني 2/684 ،المبدع 2/399
(34) فتح القدير للكمال بن الهمام 2/155.
(35) المغني لأبن قدامة 2/685.
(36) البدائع 2/3، درر الحكام لملأ خسرو 1/174
(37) البدائع 2/3
(38) آية :48 من سورة المائدة
(39) آية :133 من سورة آل عمران
(40) حاشية ابن عابدين 2/283، بداية المجتهد لأبن رشد 1/249، المجموع 5/323، رحمه الله 72، مغني المحتاج 1/419، المنثور في القواعد 1/466، حاشية الجمل 2/293، الأنصاف 3/35، الإفصاح 1/2.9، أحكام القرآن لأليكا الهراس 4/73، المغني 2/679.
(41) سنن أبي داود (2/97) والبيهقي، وقال: إسناده صحيح وكلهم ثقات.
(42) صحيح البخاري 2/133.
(43) المجموع 5/ 323، رحمة الأمة 72، المغني لأبن قدامة 2/679، الأنصاف 3/35.
(44) آية :103 من سورة التوبة.
(45) آية : 24 من سورة المعارج.
(46) صحيح البخاري 2/108.
(47) آية:60. من سورة التوبة.
(48) المعيار المعرب للونشريسي 1/399، المجموع 5/323، مغني المحتاج 1/419، حاشية قليوبي 2/47، حاشية الجمل 2/292، المنثور في القواعد 1/366 أحكام القرآن لأليكا الهراس 4/83 ، رحمة الأمة للدمشقي ص72، الأنصاف 3/38، القواعد لأبن رجب 207.
(49) الأرض: هو اسم للمال الواجب على ما دون النفس…
(50) حاشية ابن عابدين 2/283، المجموع 5/323، الأنصاف 3/38.
(51) المجموع 5/323، الأنصاف 3/38.
(52) العروة الوثقى للطبطبائي 2/39.
(53) الخمس للسيد عبد الكريم السيد علي خان ص118.
(54) أحكام القرآن للألكيا الهراس 4/83.
(55) الأنصاف للمرداوي 3/38.
(56) انظر: بحث: "مبدأ التمليك ومدى اعتباره في صرف الزكاة" للمؤلف.
(57) كشف الأسرار للبزدوي 4/137.
(58) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثالث ج1، ص335 -.406 أحكام الزكاة على ضوء المذاهب الأربعة لعبد الله علوان ص97. وقد أيد هذا القول بعض المشاركين في الدورة الثالثة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي مثل الشيخ تجاني صابون - المدرس بمدرسة المعلمين العليا بتشاد - حيث قال: "إن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحقين لا يمكن أن يتم إلا إذا وجد مستحقو الزكاة حقوقهم "يقصد حاجاتهم" وبقدر الكفاية المحددة لهم، لأنه لأبد أن يعطي الفقير القدر الذي يخرجه من الفقر إلى الغنى ، ومن الحاجة إلى الكفاية على الدوام… فإذا ما وجد كل ذي حق حقه من أموال الصدقة، وفاضت فيمكن بعد ذلك توجيهها إلى مثل هذا المشروع" (بحث توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق مجلة المجمع ج1، ص335). كما أيد هذا القول الشيخ آدم عبد الله علي- خطيب مسجد التضامن الإسلامي بمقديشو بالصومال حيث قال:"إن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحق غير جائز، لأنها تعرض المال للفائدة والخسارة، فربما يترتب عليها ضياع الأموال، ولأن توظيفها في المشاريع الإنمائية يؤدي إلى انتظار الفائدة المترتبة عليها، وهذا قد يأخذ وقتاً طويلا، فيكون سبباً لتأخير تسليم أموال الزكاة لمستحقيها بدون دليل شرعي، مع أن المطلوب التعجيل في أداء حقوقهم، ولأن أموال الزكاة أمانة في أيدي المسؤولين عنها حتى يسلموها إلى أهلها وشأن الأمانة الحفظ فقط (بحث توظيف الزكاة،مجلة المعجم ج1 ص354).
(59) مجلة مجمع الفقه الإسلامي- العدد الثالث، ج1، ص4.4.
(60) بحث: "آثار الزكاة في الأفراد والمجتمعات "للقرضاوي- منشور ضمن أعمال مؤتمر الزكاة الأول عام 1984 ص45، مجلة مجمع الفقه الإسلامي المشار إليها سابقاً.
(61) فتوى له منشورة في مجلة المجتمع الكويتية عدد (793) ص34.
(62) الاتحاد الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي للدكتور: محمد فاروق النبهان ص293،488.
(63) بحث: "توظيف أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق "للخياط - منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي- العدد الثالث، ج1 ، ص371، وبحث: "الزكاة وتطبيقاتها واستثمارها" للخياط مقدم لندوة" الزكاة واقع وطموحات" المنعقدة في أربد عام 1989 ص58.
(64) فتوى فقيهة في بحث: "توظيف أموال الزكاة مع عدم التمليك للمستحق" للدكتور الفرفور - منشور في مجلة الفقه الإسلامي العدد الثالث، ج1، ص358.
(65) أحكام الزكاة لعبد الله علوان ص 97.
(66) بحث: "توظيف أموال الزكاة "للشيخ آدم شيخ عبد الله، منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي، عدد3 ، ج1، ص354.
(67) المرجع نفسه.(/12)
(68) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، عدد3، ج1، ص388،406.
(69) بحث: "توظيف أموال الزكاة " للشيخ آدم، مجلة المجمع المشار إليها ص354.
(70) اجتووا المدينة : أي أصابهم الجوي، وهو مرض وداء الجوف إذا تطاول إذا لم يوافقهم هواؤها (النهاية لأبن الأثير 1/381)
(71) صحيح البخاري 2/137.
(72) الموطأ مع المنتقي 2/157، والبيهقي بإسناد صحيح كما قال صاحب مغني المحتاج (3/109).
(73) تفسير الرازي 16/115.
(74) المجموع للنووي 6/160..
(75) الحلس: كساء يجعل على ظهر البعير تحت رحله، وهو بساط يبسط في البيت- والجمع أحلاس (المصباح المنير).
(76) القعب: إناء ضخم كالقصعة، والجمع قعاب وأقعب (المصباح المنير)
(77) فقر مدقع: أي شديد يفضي بصاحبه إلى الدقعاء أي التراب (النهاية 2/127)
(78) غرم مفظع: أي شديد شنيع (النهاية 3/459).
(79) دم موجع: هو أن يتحمل دية، فيسعى فيها حتى يؤديها إلى أولياء المقتول فإن لم يؤدها قتل المتحمل عنه، فيوجعه (النهاية 5/157).
(80) سنن أبي داود 2/120 ، سنن الترمذي (3/522) وقال: حسن
(81) رواه مسلم في صحيحه 3/1255.
(82) رواه البيهقي في السنن الكبرى 4/107، وقال: إسناده صحيح، وله شواهد عن عمر _رضي الله عنه_ .
(83) بحث : "توظيف الزكاة…" للفرفور ص319.
(84) حنكة: أي مضغ ثمراً وذلك حنك الصغير، يقال حنك الصبي، وحنكه.
(85) الميسم: (بكسر الميم) الحديدة التي يكوى بها، وجمعه مياسم ومواسم، وأصله من السمة وهي العلامة. والوسم أثر الكيه.
(86) رواه البخاري 2/138.
(87) فتح الباري 4/109، عمدة القاري 9/106، نيل الأوطار للشوكاني 4/177.
(88) مواهب الجليل للحطاب 2/363.
(89) المبدع لأبن مفلح 2/400...
(90) الأموال لأبي عبيد 779.
(91) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/43.
(92) الخراج لأبي يوسف110..
(93) الموسوعة الاقتصادية والعلمية للبنوك الإسلامية 6/35.
(94) التمويل والاستثمار لسيد هواري ص81، الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 6/34.
• الاستثمار والتمويل لسيد هواري ص83 بتصرف عن إن بتصرف عن (Clifton & D.Fyffe Project Feasibility Analyses New York 5 John Wiley, 1977)
• الاستثمار والتمويل لسيد هواري ص85.
(95) آية:60. من سورة التوبة.
(96) لتفصيل ذلك انظر: بحث" مبدأ التمليك ومدى اعتباره في صرف الزكاة" للباحث.
(97) حاشية الخرشي 2/223.
(98) المجموع للنووي 6/120..
(99) كوماء : ناقة ضخمة السنام.
(100) مسند الأمام أحمد /349.
(101) المغني 2/674.
(102) رواه مسلم 4/1726.
(103) مجمع الأنهر 1/221، حاشية الخرشي 2/218، المجموع 6/158، كشاف القناع 2/283، الأموال لأبي عبيد801.
(104) بحث: "توظيف أموال الزكاة في مشاريع ريع بلا تمليك فردي للمستحق" للدكتور حسن عبد الله الأمين منشور ضمن مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد3 ، مجلد1، ص367.
(105) غياث الأمم في اجتياث الظلم للجويني 183-184.
(106) الخراج لأبي يوسف 141.
(107) المرجع نفسه ص24.
(108) صحيح البخاري 3/37-38، صحيح مسلم 4/2099 ،مسند احمد 2/116.
(109) عمدة القاري 12/26، صحيح مسلم بشرح17/58.
(110) نفس المرجع
(111) سنن أبي داود 3/256، سنن الترمذي 3/558، مسند أحمد 4/375، 376، قال المنذري والنووي: إسناده حسن صحيح وفيه كلام كثير، وقال ابن حجر: الصواب أنه متصل في إسناده مبهم "سبل السلام 3/31".
(112) سبل السلام 3/31، فتح العلام لشرح بلوغ المرام لصديق حسن خان2/24، معالم السنن للخطابي 3/90..
(113) الطبقات الكبرى لأبن سعد 3/276.
(114) الموطأ مع تنوير الحوالك 1/257.
(115) الأموال لأبي عبيد ص767.
(116) فتح الباري لأبن حجر 4/109.(/13)
استحواذ كامل .... في الملعب
ينتهي الشوط الأول والنتيجة التعادل بدون أهداف مع استحواذ الفريق الأول على الكرة في الملعب استحواذًا كاملاً.هكذا نطق المعلق على مباراة الكأس بينما نحن جلوس حول التلفاز، قام أحدنا ليغلق الجهاز لإنقاذنا من طوفان الإعلانات المسيء للعين والأذن حتى يأتي وقت الشوط الثاني.حقيقة: لست من هواة الاستمتاع بكرة القدم لكن التعبير لفت انتباهي ومدلول الكلمة 'الاستحواذ' صار واضحًا في ذهني بصورة لم أعمدها مسبقًا، إن الفريق المستحوذ على الكرة في أقصى صورة هو الذي لا يسمح للفريق المنافس بلمس الكرة فضلاً عن استلامها والأقل من ذلك درجة ألا يستطيع الفريق المنافس إذا استلم الكرة العبور بها من منتصف الملعب الخاص به.يقول الله ـ تعالى ـ في كتابه الكريم: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19].إن استحواذ الشيطان للعبد يلزم منه نسيان ذكر الله، فالعبد لا ينسى الله لكن ينسى ذكره، الذي هو فطرة خلق الإنسان باستحواذ الشيطان عليه، وما يعنينا هنا تأمل صورة من صور هذا الاستحواذ الشيطاني وصلت أقصاها في هذا الزمان والنظر إليها من هذه الصورة سيحل جزءًا كبيرًا من المشكلة.ولأجل ذلك نتأمل هذا المشهد الذي حدث على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين رجل وامرأة فقد روت كتب السير أن رجلاً من المهاجرين قد تزوج امرأة من الأنصار وكان هذا الحي من قريش يشرح النساء شرحًا منكرًا ولم تكن الأنصار تفعل ذلك، فاستنكرت الأنصارية من زوجها هذا الأسلوب فرفعت الأمر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.هذه الحادثة يستدل بها الأئمة والدعاة والعلماء دومًا لتأكيد أن من حق الرجل والمرأة الزوج والزوجة الاستمتاع على أي شكل كان ما دام الإيلاج في الفرج المباح بأي صورة كانت من الأمام أو من الخلف، ولكن في الحديث معان أخرى عميقة ترسم ملامح المجتمع المدني في العهد النبوي، هذه الملامح في العلاقة الخاصة بين الزوج والزوجة ونأخذ منها ملمحان رئيسيان:ـالأول: إن استنكار المرأة الأنصارية لفعل زوجها المهاجري يوحي أنه لم تكن هناك صور متعددة للمجتمع المدني في إتيان الرجل للمرأة دلالة على أن شهوة الجسد كانت تشغل من فكر وعقل الناس حيزًا محددًا، وحجمًا ضيقًا لا تتجاوزه، بما يوحى أن أشكال التعبير عن شهوة الجسد بسيطة فلا يحتاجون إلى تعددها وتغيرها فهي مشبعة لهم.ومن هنا يمكننا أن ننجح في تفهم المعادلة فالأصل أن شهوة الجسد تشغل في حياة الإنسان حجمًا محدودًا بحيث يضمن لهم السعادة والاستقرار والسكينة فإذا زاد الانشغال في التفكير والتأمل عن الحيز الطبيعي تظهر الحاجة إلى استحداث تعدد في الأشكال وعدم كفاية الصورة الطبيعية، ولن يفهم كلامي هذا حق الفهم إلا من انشغل عقله لفترة في تحقيق شهواته وملذاته فسيجد أن لا يشعب من صوره محددة بل يسعى لتحصيل المزيد من الصور واستحداثها لتحقيق الشبع، ولن يشبع العقل والذهن من مثل ذلك لأنه لم يخلق للتفكير في قضية الشهوة بهذا الحجم ولذا فبدلاً من الدعوة إلى زيادة ثقافية الجماع والعلاقة في الفراش بين الرجل والمرأة وإعادة اكتشاف الجسد ومواطن إثارة الشهوة لا بد من إعادة بناء الإنسان بصورته السليمة وعدم شغل الجزء الأكبر في التفكير بهذا الأمر، نعم المرض، أو من عانوا من انحرافات وشذوذات وغيرها لا بد من إعطائهم صورة تفصيلية للصورة السليمة بالتفصيل ودفعهم إلى تنفيذها في الصورة الواقعية المباحة، لكن ليس ديدننا أن نعلم شبابنا ثقافة الجسد وشهوته بكل صورها والإبداع فيها وإطلاق المجال للخيال للتنويع في صورها.نعم إن الناظر إلى واقع المجتمع ووسائل الإعلام من قنوات فضائية وانترنت وخلافه ليضحك من كلامنا ويراه غير مطابق للواقع، لكن واقع الشريعة يشهد أن الحدود إنما شرعت لحفظ المجتمع من ظهور الفاحشة فيه واستعلانها، وكذا شرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبل لا بد من تحديد الغرض من تعليم الناس الصورة التفصيلية للشهوة وهي إما إقبالهم على الزواج، أو وصول صور فاسدة مخالفة للفطرة إلى أذهانهم فلا بد من تصحيحها، ولكن لا بد من أن يراعي عند تصحيح هذه الصور بيان حجمها الحقيقي في ذهن الإنسان، وأن إعلاء قيمة الجسد هي حقيقة واقع الحضارة الغربية وهي أمر لا يناسب مجتمعاتنا، لقد أصبح الجسد عندهم مادة الاستهلاك والترويج، وأصبح الجسد نفسه مشكلة تؤرق أذهان الشباب المسلمين، فهو إما أن ينساق وراء شهوة هذا الجسد يبحث عن ريه وشبعه ولن يرتوي، وإما أن يئد هذه الشهوة ويقضي عليها.ويظهر الصنف الثالث الذي يظن نفسه أفضل من الأول والثاني، وهو الذي يمسك العصا من المنتصف وفقا لظنه عن طريق الاستمناء، في النهاية فالصور الثلاثة ما هي إلا علاقة لقيمة الجسد على الروح والنفس، والأصل في الشرع التوازن(/1)
بينهما.الملمح الثاني في الحديث: إن المرأة عندما رأت من زوجها فاستنكرته في أسلوب الجماع وطريقته سارعت بالاستنكار بل ورفعت الشكوى إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وها هنا ملمحان رئيسان:ـالأول: أن المرأة حقًا قادرة على منع زوجها من ارتكاب فعل محرم أثناء الاستمتاع بالعلاقة الشرعية أو ما تعتقد خطأه، حتى تتيقن من حكمه، فالمرأة كاملة الإرادة في هذا الأمر وليست مقهورة لزوجها بل هي شريكة في المسؤولية الشرعية، ولو لم توقف المرأة زوجها عن ارتكاب ما يخالف الشرع في عملية الاستمتاع فلن يوقفه أحد.والدليل الذي يؤكد ذلك هذا التحذير النبوي الشديد للزوجة أن تتأبى على زوجها عندما يدعوها إلى الفراش، وكيف أن الله يغضب عليها وتلعنها الملائكة حتى تصبح للدلالة والتنبيه أن المرأة قد تستغل مسألة الفراش في الضغط على الزوج لتحصيل طلباتها أو التعبير عن رضاها وغضبها عليه.إن استحواذ التفكير في الجسد والشهوة على العقول يجعل للجسد القيمة الأولى في المجتمع وعليه يدور التقسيم للبشر ومعاملتهم، إن حقيقة الاستحواذ الشيطاني تكمن في تضخيم قيمة الجسد وشهواته، وقيمة العقل وأهوائه، وتسعى لتقليل حجم الإنجاز الإيجابي في البناء والتعمير في الأرض والنفس البشرية.إن الفارق بين الحيوان والإنسان في مسألة الشهوة أن الإنسان عقله يقود شهوته، أما الحيوان فشهوته تقوده، لذا ففي الحيوان جعل الله للتناسل والزواج مواسم محددة بتاريخ فيها تثور الشهوة فتدفع للتناسل، أما في الإنسان فالشهوة توجد منذ البلوغ حتى الوفاة.فإذا تخلى الإنسان عن قيادة شهوته بعقله وجعل لها القيادة صار 'أولئك كالأنعام بل هم أضل'.سرحتُ بخيالي وفكري في الشوط الثاني وأنا أتأمل الفريق المستحوذ عليه قد استغل فرجه بين الصفوف وأدراك للخطة لمس الهدف والكرة، واخترق بها حاجز الاستحواذ ليدرك الهدف ويصل إلى الشباك، وتنقلب الدائرة إلى تملك حقيقي للفريق الفائز.فهل من خطة للتخلص من هذا الاستحواذ الشيطاني على حياتنا حتى يمكننا الفوز والنجاة من هذا الاستحواذ التام لحياتنا وأسلوب معيشتنا.(/2)
استخدام مولدات تركتها الأمم المتحدة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الحجر والإفلاس
التاريخ ... 28/06/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا أعمل كمدير للإدارة في إحدى المنظمات المحلية الحكومية العاملة في برنامج إزالة الألغام في العراق, وبعد رحيل الأمم المتحدة من العراق، بقيت مواد وأجهزة كثيرة في المخازن لا تستخدم في الوقت الحالي وتعتبر فائضاً، السؤال: هل يجوز استعمال ماكينة لتوليد الطاقة الكهربائية التابعة إلى هذه المنظمة الحكومية بغرض توفير الكهرباء للمنزل، بحيث نقوم بعمليات الصيانة والإدامة يومياً؟ والجدير بالذكر أن كل عامل في الفرع الرئيسي للمنظمة قد حصل على خط كهربائي من هذه المولدات وبشكل رسمي أيام تواجد الأمم المتحدة ومتواصل الآن, ومن المعلوم أن العراق يمر بأزمة شديدة من ناحية توفير الطاقة الكهربائية. جزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
نعم، يجوز لك استعمال ماكينة من هذه الماكينات التابعة لهذه المنظمة في، سواء كانت هذه المولدات الكهربائية من حكومة العراق سابقاً، أو من المنظمة الدولية ما دامت تعمل في العراق، وأنت أحد موظفيها فيجوز لك ولكل الموظفين في الشركة الاستفادة من الطاقة الكهربائية من هذه المولدات، ما دامت مخزونة ومعطَّلة في المستودعات والشعب بحاجة إليها. والله أعلم.(/1)
استراتيجية لدعم العلاقة الزوجية
'يا عائش' هكذا كان رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يداعب السيدة عائشة أم المؤمنين ويلاطفها بترخيم اسمها فيقول: 'يا عائش' كما جاء في رواية البخاري ومسلم.
استراتيجية اللطف في المعاملة
عليك أن تتبنى هذه الاستراتيجية السحرية في المعاملة مع شريك حياتك وهذه الاستراتيجية هي 'اللطف في المعاملة' واجعل تطبيق هذا يوميًا في قمة أولوياتك، ولتبدأ من المنزل حيث علاقتك مع شريك حياتك.
إن اللطف في المعاملة هو واحد من المكونات الرئيسية لنمو أي مشاعر دافئة بين شخصين وفي الحقيقة قد يكون اللطف في المعاملة هو مركز العلاقة الزوجية.
وللكرم في المعاملة فوائد كثيرة بداية من حرص الشريك على حميمية العلاقة مع شريكه واهتمامه به عندما تكون الأمور على ما يرام، وحتى حفظ المناقشات من التحول إلى شجار.
وليس معنى أن تكون لطيفًا في معاملتك، أن تبتسم حين لا تشعر بالميل للابتسام أو أن تتصرف بتفاؤل في حين أنك تشعر باكتئاب، ولكن اللطف في المعاملة هو أن 'تعامل شريكك بما تحب أن يعاملك به'.
وأفضل الطرق لتعليم الآخرين فن اللطف في المعاملة إنما يكون من خلال ابتدائهم باللطف أولاً فإن اللطف في المعاملة شأنه شأن العدوى ينتقل سريعًا بين الأشخاص.
ونحن نعجب أشد العجب عندما نرى الزوجة تتلطف مع كل خلق الله وهي مع زوجها صلبة قاسية كالحجارة، إنها فنانة مبدعة ولكن في التعامل مع الآخرين، ومع زوجها سليطة اللسان مثيرة للقلاقل مختلقة للنكد.
وأيضًا نعجب من الزوج تراه ألطف ما يكون وألين ما يكون مع جميع الناس إلا أهله وزوجته يمتلئ وجهه عبوسا وروحه ضيقا وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال فقال: 'خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي' [صحيح الجامع].
ووجه الخطاب للنساء فقال صلى الله عليه وسلم: 'لو كنت آمرًا عبدًا أن يسجد لعبد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها' [صحيح الجامع].
وما عليك إلا أن تبدأ بالأشياء الصغيرة:
إنه من الأهمية بمكان أن تعامل شريكك بنفس اللطف في المعاملة التي تعامل بها أعز أصدقائك وما عليك إلا أن تبدأ بالأشياء الصغيرة .. فكيف ذلك؟
1ـ بأن تستمع من القلب وأن تتسم بالاحترام والمراعاة لمشاعر الآخرين.
2ـ اللطف في المعاملة يعني أن تستأذن عندما يتطلب الأمر ذلك.
3ـ وأن تعتذر عندما تخطئ.
4ـ ويعني أيضًا التزام الأدب.
5ـ وأن تحاول معرفة شريكك ثم تسأل نفسك: ما الذي يمكن أن يدخل عليه السعادة الآن؟
وفي واقع الأمر فإن اللطف في المعاملة يرتبط في الأساس بالأشياء الصغيرة.
كيف تكون لطيفًا وأنت مشغول؟
ليست مهمة الزوج توفير الحياة المادية الكريمة للزوجة فحسب، وليس الزواج أداء للحقوق بطريقة فجة جامدة، وإنما الزواج تآلف وتآزر، ومحبة وود ورحمة ومعاشرة بالمعروف وملاطفة وممازحة، فالمرأة كما تحتاج إلى الطعام والشراب والمسكن وغيرها من الأمور المادية تحتاج إلى الكلمة الحانية والنظرة الرقيقة والقبلة العطوف، والمداعبة والمؤانسة.
ولنضرب مثالاً كيف يكون الرجل لطيفًا وهو مشغول:
رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم كثرة أعبائه الدعوية وازدحام أمور الدولة عليه إلا أنه كان يعطي كل ذي حق حقه، وكان يلاطفه أهله.
قال ابن كثير رحمه الله: 'وكان من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أنه جميل المعشر دائم البشر يداعب أهله ويتلطف بهم ويوفهم نفقتهم ويضاحك نساءه، حتى أنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يتودد إليها بذلك.
قالت رضي الله عنها: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعدما حملت اللحم فسبقني فقال: 'هذه بتلك'......
وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:2].' انتهى كلامه رحمه الله.
هكذا كان حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم رغم وقاره وهيبته وكثرة أعبائه إلا أنه كان صلى الله عليه وسلم رحيمًا بنسائه ضحوكًا معهن، متواضعًا أشد التواضع لطيف المعشر عطوفًا عليهن ممازحًا لهن.
وقد كثرت الأخبار عن مداعبته لعائشة ـ رضي الله عنها ـ لأنها كانت صغيرة السن، وكان يقدر حاجتها للعب واللهو والمداعبة وحسن الملاطفة وهذا من فطنته صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: 'كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في فيشرب وأتعرق العرق [أي اللحم المختلط بالعظم] وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في' [رواه مسلم].
فلم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم من هيبة النبوة ووقارها سدا منيعًا بينه وبين زوجاته رضي الله عنهن بل آنسهن بمرحه وملاطفته.(/1)
فالزوج المثالي هو الذي يداعب زوجته ويلاطفها ويعطيها حقها في اللهو والمرح البريئين، وذلك بوسائل متعددة تتماشى مع استطاعته وإمكاناته إما بسمر أو برحلة أو بزيارة أو بحضور مناسبة تتفق والمنهج الإسلامي.
وأعلم أيها الزوج الكريم أن من يزرع الود لا يجني إلا الورود.
والناس بمثابة المرآة لبعضهم البعض وغالبًا فإننا نحصد ما نزرعه، وعندما تجد من تحب ليس على ما يرام جرب القيام ببعض الأشياء المختلفة انظر إلى عينيه وابعث له ابتسامة تحمل رسالة مفادها 'لا عليك فأنا أحبك دائمًا حتى عندما تكون مكتئبًا'. وإذا فعلت هذا فغالبًا ما سيرد عليك شريكك بابتسامة أيضًا ونحن نعتقد أنك تتفق معنا أن اللطف في المعاملة حينما يكون سلوكًا يوميًا يكون عنصرًا أساسيًا لدعم علاقتك الزوجية على مدى الحياة.
وإذا قالت المرأة لزوجها:
يا مقيمًا في خاطري وجناني وبعيدًا عن ناظري وعياني
أنت روحي إن كنت لست أراها فهي أدنى إلي من كل داني
فسيرد عليها الزوج بأحسن منها ويقول:
خيالك في عيني وذكراك في فمي وهواك في قلبي فأين تغيبي
فلتتفنن المرأة وليتفنن الرجل في بث استراتيجية اللطف في المعاملة.
وعلي كل منكما أن تبدءا بالعمل بهذه الاستراتيجية لدعم علاقتكما الزو(/2)
استراحات رمضانية
1-صيام رمضان
2-قيام رمضان
3-أعمال يجب أن تستغلها في رمضان.
1 – صيام رمضان:
معنى الصوم: التعبد لله – تعالى- بالإمساك عن الطعام والشراب والجماع, وما يلحق بهما مما هو في حكمهما من طلوع الفجر إلى غروب الشمس خلال شهر رمضان.
وشهر رمضان أفضل الشهور وقد أنزل الله فيه القران الكريم, قال تعالى: ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ). (البقرة:185) , وفيه ليله خير من ألف شهر , قال تعالى ( إنا أنزلناه في ليله القدر(1) وما أدراك ما ليلة القدر(2) ليلة القدر خير من ألف شهر(3) (القدر).
والصائم يغفر له ما تقدم من ذنبه إذا كان صومه إيماناً واحتسابا كما صح من حديث أبى هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من صام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه , ومن قام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه , ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) (متفق عليه)
والواجب على الصائم أن يحفظ صيامه باجتناب الغيبة والنميمة والكذب والاستماع إلى الملاهي والحذر من سائر المحرمات , ويسن له الإكثار من قراءة القران ومن ذكر الله والصدقة والاجتهاد في العبادة وخاصة في العشر الأواخر .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
إن صيام رمضان أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام , قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ( 183 ) أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وان تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184) شهر رمضان الذي أُنزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ( 185 ) ( البقرة ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس , شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله , و إقام الصلاة , وإيتاء الزكاة , وحج البيت , وصوم رمضان ) وأجمع المسلمون على فريضة صوم رمضان إجماعاً قطعياً معلوماً بالضرورة من دين الإسلام , فمن أنكر وجوبه فقد كفر , فيستتاب فإن تاب وأقر بوجوبه وإلا قتل كافراً مرتداً عن الإسلام لا يُغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدعى له بالرحمة , ويدفن لئلا يؤذي الناس برائحته ويتأذى أهله بمشاهدته .
فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين , وكان فرض الصيام على مرحلتين :
المرحلة الأولى : التخيير بين الصيام والإطعام مع تفضيل الصيام عليه .
المرحلة الثانية : تعين الصيام بدون تأخير فعن سلمه بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت : ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) (البقرة 184 ) كان من أراد أن يفطر ويفتدي ( يعني فعل ) حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها , يعني بها قوله تعالى :فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ) (البقرة 185 ) فأوجب الله الصيام عيناً بدون تخير . ولا يجب الصوم حتى يثبت دخول الشهر , فلا يصوم قبل دخول الشهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم ) ( رواه البخاري ) – ( مجالس شهر رمضان , 15 – 16 ) .
الصيام وأسراره:
-للصيام فوائد وحكم معنوية ومادية فالصوم طاعة لله سبحانه تعالى قال تعالى : (يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صام رمضان إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)
-وينال الصائم رضا الله سبحانه وتعالى ويسعد الإنسان فيه بالدنيا والآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( للصائم فرحتان يفرحهما , إذا افطر فرح وإذا لقي ربه فرح ) .
-يتعلم المسلم بالصيام الصبر على العطش والجوع وتحمل المصاعب في سبيل الله . ويتدرب المسلم بالصوم على كبح جماح نفسه عن المفطرات والشهوات المباحة لمدة من الزمن .
-يشعر المسلم بإخوانه المسلمين من الفقراء والمحتاجين عندما يحرم من الطعام والشراب .وقد سئل بعض السلف لم شرع الصيام ؟ فقال ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع وذلك أن المسلم الجائع قد تمر عليه الأيام دون طعام أو شراب كما يحصل للإخوان المسلمين في كثير من بقاع الأرض.
-ينمي الصيام عند المسلم الانضباط ومحاسبة الذات فيلتزم الصائم الأخلاق الحميدة .(/1)
-يشعر المسلمون بالأخوة والتعاون والتكافل بين الأغنياء والفقراء في رمضان . وهذه بعض حكم الصيام وأسراره وفوائده وللصوم فوائد صحية كثيرة علاوة على فوائده الروحية والأخلاقية والاجتماعية أقر بها الطب قديماً وحديثاً , وذلك أن المرء عندما يخفف من الطعام والشراب بعض الوقت , كما إن الصوم يصفي القلوب ويغمرها بالإيمان والتقوى واليقين والنقاء ويقوي قلبه وتسمو نفسه وتسعد روحه عندما يمارس هذه العبادة طاعة لله واستجابة لأمره ورغبة في وعده .
فضل الصيام وما يتعلق به:
عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال الله عز وجل : كُلُ عمل ابن ادم له إلا الصيام , فإنه لي وأنا أجزي به . والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب, فإن سابه أحد أو قاتله, فليقل إني صائم. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك .
للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره, وإذا لقي ربه فرح بصومه).متفق عليه .
وهذا لفظ رواية البخاري وفي رواية له (يترك طعامه , وشرابه , وشهوته , من أجلي الصيام لي وأنا اجزي به , والحسنه بعشر أمثالها .
وفي رواية لمسلم ( كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . قال الله تعالى : إلا الصوم فإنه لي وأنا اجزي به : يدع شهوته وطعامه من اجلي . للصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه . ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك ).
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن في الجنة باباً يقال له الريان , يدخل منه الصائمون يوم القيامة , لا يدخل منه أحد غيرهم , يقال : أين الصائمون ؟ فيقومون فلا يدخل منه أحد غيرهم , فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد ) متفق عليه .
2-قيام رمضان ومشروعيته :
جمع رمضان أكثر فضائل الإسلام , ففيه الصوم والإكثار من الصلاة وزيادة
الإحسان وحفظ الجوارح وغيرها من الفضائل الإسلامية العامة , فهو بحق مدرسه تربوية متكاملة وليس هو امتناع عن الطعام والنكاح فحسب , فهذا الامتناع لا يجدي المنفعة المرجوة منه .
فالمسلم يكثر من القربات والعبادات في ليله ونهاره , لكنه في الليل يكثر , وذلك بعد أن يفطر فيقوى على العبادة أكثر .
ففي قيام رمضان يتحقق الكثير من خصال الخير وعظيم الأجر وجزيل الثواب وهو من خصال التقوى التي فرض الله سبحانه الصيام لتحقيقها وتكميلها , وتحصيل عواقبها الطيبة وآثارها المباركة فالصيام والقيام متلازمان في رمضان عند أهل الإيمان ,فقيام رمضان من الشعائر العظيمة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله , وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان , فعن أبي هريرة رضي الله عنه و أرضاه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة , أي من غير إيجاب فريضة , فيقول : من قام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقد من ذنبه)
فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم و الأمر على ذلك , أي ترك الجماعة في صلاة التراويح ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبو بكر وصدر من خلافة عمر (أخرجاه في الصحيحين ).
وعن عمرو بن مره الجهني – رضي الله عنه قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من قضاعة فقال يا رسول الله أريت إن شهدت أن لا اله إلا الله , وانك محمد رسول الله , وصليت الصلوات الخمس , وصمت الشهر ,وقمت رمضان , وآتيت الزكاة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء " فهذا الترغيب العظيم من رسول الله عليه الصلاة والسلام لمن أقام رمضان مصلياً وداعياً ومستغفراً وباكياً ونادماً , فما جزاؤه إلا أن يغفر ذنبه .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل وحده في رمضان وغيره , وحدث أن صلى ليله في المسجد في رمضان فأتم به نفر واستمر ليالي أخر فلاحظ كثرة الناس وراءه فامتنع عن المواصلة تخفيفاً عن الناس ورحمة بهم كي لا تفرض عليهم , فعن عائشة رضي الله عنها قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليله في جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته , فأصبح الناس فتحدثوا –أي اخبر بعضهم بعضا بصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم– فاجتمع أكثر منه فصلوا معه , فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة , فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلوا بصلاته , فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله – أي امتلأ- حتى خرج لصلاة الصبح – أي لم يخرج لقيام الليل حتى أذن الفجر – فلما قضى الفجر –أي صلاة الفجر – أقبل على الناس فتشهد ثم قال : أما بعد فإنه لم يخف عليه مكانكم , ولكنني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها " صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.(/2)
وهذا من شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وحرصه على عدم تكليفهم ما لا يطيقونه والحديث يدل على حرص الصحابة على الخير وتسابقهم إليه ’ وحبهم لقيام الليل وتسابقهم إلى السنة – رضي الله عنهم -.
وهكذا كان في خلافة أبي بكر , فلما كان عهد عمر بن الخطاب خرج إلى المسجد فرأى الناس يصلون فرادى فقال : لو جمعتهم على قارئ واحد وجماعه واحده , فجمعهم على إمامة أبي بن كعب فقال عمر : نعمت البدعة هذه , والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون . أي صلاتهم قرب الفجر أفضل من صلاة التراويح بعد العشاء , وكان عدد الركعات ثلاثاً وعشرين ركعة مع الوتر وهذا صحيح عن عمر .
ولا يصح الجدل في هذه المسألة , فمن أراد أن يتم عشرين أتم , ومن أراد أن يصلي أقل فليفعل , فإنما هي نافلة لا تستحق الكثير من الجدل , ولكن الذي ينبغي أن نهتم به هو كيفية هذه الصلاة , التي صار الكثير من الناس يتجادلون هل هي عشرون أو أقل أو أكثر , ويغفلون عن السكينة في الصلاة والخشوع فيها وتمامها , فيا ليتهم يصلونها ركعتين فقط كما أراد الله , فهو خير من الأعداد المستعجلة الخالية من معاني العبودية لله وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم
صلى ركعتين قرأ بالأولى بالبقرة والنساء وآل عمران قراءة متر سلة لا يمر بآية فيها ذكر عذاب إلا استعاذ بالله , ولا بآية ثواب إلا سأل الله من فضله وذلك في رمضان وهذا يدل على انتفاء تحديد العدد وتقيده بعدد معين ورفض ما سواه ,
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على قيام العشر الأواخر من رمضان وتلمس ليلة القدر فيها .
ففي الصحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم , وقال ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذبه ). وهذا من أدلة فضل قيام رمضان , وخاصة العشر الأواخر منه , فقد كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ,إحيائها تحريا لليلة القدر , وطلبا لما فيها من عظيم الأجر .
وقيام رمضان شامل للصلاة , في أوله وآخره , والتراويح من قيام رمضان , ففي السنن وغيرها عن أبي ذر –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم , أنه قال : (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) فينبغي الحرص عليها , والاعتناء بها , رغبة في الخير وطلباً للأجر , فيصلي المرء مع الإمام حتى ينصرف , ليحصل له أجر قيام ليلة.
وصلاة الجماعة في قيام رمضان فيها فضل كبير وفيه رفع لهذه الشعيرة المسنونة وتنشيط للمسلمين , وإعطاء رمضان خاصية وتميزا لا توجد في غيره فينبغي الحرص على صلاة التراويح مع المسلمين .
وإن أحب أن يصلي من آخر الليل , ما كتب له – فله ذلك – ليفوز بفضائل صلاة جوف الليل فإنها مشهودة مكتوبة يسمع فيها الدعاء ويستجاب , وتقضي المسألة ويغفر الذنب , إلى غير ذلك مما جاء في فضله وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في جوف الليل بمفرده في رمضان فإذا ائتم به أحد لم يمنعه بل يقره ويعلمه كما قد حصل لابن مسعود وحذيفة وابن عباس وفي ذلك دليل على جواز الجماعة في قيام الليل مطلقاً متى اتفق لأفراد الجماعة فيها لكن لا تتخذ سنة يدعى إليها وتقام طوال الشهور كما تقام في رمضان .
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم , أنه قال : ( صلاة الليل مثنى، مثنى ) فلم يقيد الصلاة بعدد , فيصلي ما شاء الله , غير انه لا يوتر إن كان أوتر مع الإمام أول الليل , لقوله , صلى الله عليه وسلم : (لا وتران في ليله ) .
والمقصود أن أوقات شهر رمضان أوقات شريفة مباركة , ينبغي للموفق أن يغتنمها في جليل القرب , والإلحاح على الله بالطلب لخيري الدنيا والآخرة , والتوفيق من الله , فإنه هو الرحمن المستعان وعليه التكلان , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , فهو حسبنا ونعم الوكيل .
صلاة التراويح وتعداد أئمتها :
هي صلاة قيام الليل في رمضان .
وهي وإن اختصت بشهر رمضان , فإنها داخلة في عموم قيام الليل , وقد جاءت نصوص تدخلها في عموم قيام الليل , ونصوص أخرى تخصها بقيام رمضان .
والتراويح : جمع ترويحة , وهي المرة الواحدة من الراحة, وسميت بهذا الاسم لأن المصلين كانوا يستريحون بين كل تسليمتين أو بعد كل أربع ركعات , وجمهور الأمة على أن عدد ركعاتها عشرون عدا الوتر , وعلى هذا استقر العمل في الحرمين الشريفين ومعظم بلاد الإسلام .
وصلاة التراويح سنة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله فرض عليكم صيام رمضان , وسننت لكم قيامه )
وأداؤها جماعة سنة أيضاً , لما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المسلمين في أوائل رمضان , وفي العشر الأواخر منه , عدة مرات كما تقدم .(/3)
أما توحيد صلاة التراويح , وجمع الناس فيها على إمام واحد ثم استمرار الناس عليه إلى يوم الناس هذا فإنه من فعل عمر وإحيائه للسنة لأن دعوته الناس إليها ينفي عنهم ما خشيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الوجوب وعمل عمر إحياء للسنة فعن عروة بن الزبير رحمه الله أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أخبرته , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مرة في جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته , فأصبح الناس يتحدثون بذلك , فاجتمع أكثر منهم فخرج في الليلة الثانية , فصلى فصلوا بصلاته , وأصبح الناس يتحدثون بذلك , وكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة حتى ضاق بهم المسجد , فلما كانت الليلة الرابعة لم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج لصلاة الفجر,فلما قضى الصلاة أقبل على الناس بوجهه ثم تشهد وقال ( أما بعد فإنه لم يخف علي شأنكم الليلة, لكني خشيت أن تفرض عليكم , فتعجزوا عنها . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغبهم في قيام رمضان من غير أن يوجبه عليهم ويقول : من قام رمضان إيمانا واحتسابا , غفر له ما تقد من ذنبه ) وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على هذا .
ثم كان الأمر على هذا في خلافة أبي بكر الصديق , وصدرٍ من خلافة عمر رضي الله عنهما .
ثم إن عمر رضي الله عنه خرج ليلة في رمضان فطاف في المسجد , وأهل المسجد جماعات متفرقون , يصلي الرجل لنفسه , ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط , فقال عمر : والله إني لأظن لو جمعنا هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل , ثم عزم على أن يجمعهم على قارئ واحد , فأمر أبي بن كعب رضي الله عنه أن يقوم بهم في رمضان . فخرج والناس يصلون بصلاة قارئهم فأعجبه ما رأى وقال: نعمت البدعة هذه.
ثم جعل عمر رضي الله عنه بعد ذلك لصلاة التراويح إمامين , يقومان في الليلة الواحدة بالتناوب , يبتدئ الثاني حيث ينتهي الأول , وذلك رفقاً بالإمام , وترويحاً للمأمومين , وتنشيطاً لهم .
وبعد ذلك كان عمر إذا دخل شهر رمضان , صلى المغرب , ثم تشهد بخطبة خفيفة , ثم قال : فإن هذا الشهر , شهر كتب الله عليكم صيامه , ولم يكتب عليكم قيامه , من استطاع منكم أن يقوم فإنه من نوافل الخير .
وهكذا فإن توحيد صلاة التراويح بإمام واحد إحياء لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم . والذي تركه خوفاً من أن يفرض على الأمة هي من سنن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي انطلقت من مسجد المدينة الشريف . وقد حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على التمسك بسنة الخلفاء الراشدين والتزامها , فقال ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي , عضوا عليها بالنواجذ ) وقال صلى الله عليه وسلم ( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ) فرضي الله عن أبي بكر وعمر ورضي الله عن سائر صحابة نبينا الكرام .
والصواب انه لا يجوز جمع صلاة التراويح كلها أو بعضها مع الوتر في سلام واحد بل ذلك مفسدة للصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صلاة الليل مثنى، مثنى " وحينئذ تكون على خلاف ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم به , وقد قال صلى الله عليه وسلم : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) أفاده شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمة الله في فتاويه .
عدد ركعات صلاة التراويح
وقد يسأل سائل فيقول : هل تصلى التراويح عشرون ركعة أم ثماني ركعات وهل تصح صلاة التراويح في البيت ؟
والجواب : إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رغب في قيام رمضان وحث عليه في أحاديث منها : حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان ... الحديث .
وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالصحابة في رمضان في عدة ليال في أوله وفي أخره كما ثبت ذلك عنه وقد صلى بهم في رمضان وفي العشر الأواخر ,ليلة ثلث الليل , وفي الليلة الأخرى حتى ذهب أكثر الليل وفي الليلة الثالثة قام بهم أغلب الليل حتى خافوا أن يفوتهم السحور كما سيأتي , وهذا دليل انه صلى بهم ركعات كثيرة دون معرفة العدد بل عدد مطلق ولا يجوز تقييده , لكن كان غالب فعله صلى الله عليه وسلم أنه يصلي إحدى عشرة ركعة كما ثبت ذلك عنه في حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة ) رواه البخاري ومسلم , وإنما قلنا غالب فعله ذلك لأنه قد ثبت من فعله ما يدل على أكثر من ذلك أو أقل فقد سئلت عائشة رضي الله عنها: بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر ؟ قالت : " كان يوتر بأربع وثلاث , وست وثلاث , وعشر وثلاث , ولم يكن يوتر بأنقص من سبع , ولا بأكثر من ثلاث عشرة " رواه أبو داود وأحمد وغيرهما.
ومنه ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم " الوتر حق فمن شاء فليوتر بخمس , ومن شاء فليوتر بثلاث , ومن شاء فليوتر بواحدة "(/4)
ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم المداومة على صلاة التراويح لأنه خشي أن تفرض على الأمة كما ثبت ذلك في الصحيحين . وتقدم ذكرنا له .
ومن هنا فقد اختلف أهل العلم في عدد ركعات صلاة التراويح فأكثر الفقهاء يرون أنها تصلى عشرون ركعة والوتر ثلاث ركعات , وهذا القول مشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث ورد أنه جمع الناس على إمام واحد يصلي بهم ثلاثاً وعشرين ركعة كما ورد في الحديث عن عبد الرحمن بن عبد القاري , قال : خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب , ثم خرجت معه ليله أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ، فقال عمر : نعمت البدعة هذه , والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون . يعني أخر الليل وكان الناس يقومون أوله " رواه البخاري.
وروى البيهقي بإسناد صحيح كما قال النووي عن السائب بن يزيد الصحابي رضي الله عنه قال : كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة وكانوا يقومون بالمئين .."المجموع 4/32.
ومن المنتسبين إلى العلم في عصرنا من يرى عدم زيادة صلاة التراويح عن إحدى عشرة ركعة لحديث عائشة السابق وغيره من الأحاديث الثابتة في هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وترى طائفة أخرى من أهل العلم عدم تحديد عدد معين من الركعات في صلاة قيام رمضان أي التراويح ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام لشوكاني , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه : " كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدد معين بل كان هو صلى الله عليه وسلم لايزيد في رمضان ولا غيرة عن ثلاث عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين و أوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن .
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره وهو الأفضل وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره , ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ , مجموع الفتاوى 23/272 وهذا رد صريح لمن يزعم عدم جواز الزيادة على إحدى عشر ركعة فكلام شيخ الإسلام هو الذي تدل عليه النصوص ويجمع بينهما , وكلام غيره في تحديد العدد بإحدى عشرة فقط , مخالفة للأمة في الحرمين وغيرهما وهي مخالفة غير مستندة على قوة دليل وقد كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن الإمام مالك يصلى فيه أكثر من عشرين ركعة.
مشروعية الجماعة في القيام :
تشرع الجماعة في قيام رمضان , بل هي أفضل من الانفراد , لإقامة النبي صلى الله عليه وسلم لها بنفسه , وبيانه لفضلها بقوله , كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان و فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل , فلما كانت السادسة لم يقم بنا , فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل , فقلت : يا رسول الله ! لو نفلتنا قيام هذه الليلة , فقال : إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة " فلما كانت الرابعة لم يقم , فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح , قال: قلت : وما الفلاح ؟ قال السحور , ثم لم يقم بنا بقية الشهر " حديث صحيح , أخرجه أصحاب السنن . وهذا يدل على عدم تقييد العدد فقد صلى بهم أغلب الليل وإنما لم يقم بهم عليه الصلاة والسلام بقية الشهر خشية أن تفرض عليهم صلاة الليل في رمضان ،فيعجزوا عنها كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين وغيرهما , وقد زالت هذه الخشية بوفاته صلى الله عليه وسلم بعد أن أكمل الله الشريعة , وبذلك زال المعلول , وهو ترك الجماعة في قيام رمضان , وبقي الحكم السابق وهو مشروعية الجماعة , ولذلك أحياها عمر رضي الله عنه كما في صحيح البخاري وغيره .
مشروعية الجماعة للنساء :(/5)
يشرع للنساء حضور صلاة القيام في المساجد كما في حديث أبي ذر السابق كما يجوز أن يجعل لهن إمام خاص بهن , غير إمام الرجال , فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على القيام , جعل على الرجال أبي بن كعب , وعلى النساء سليمان بن أبي حثمة , وعن عرفجة الثقفي قال :" كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأمر الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماما وللنساء إماما
, قال : فكنت أنا إمام النساء " .
قلت وهذا محله عندي إذا كان المسجد واسعاً , ولم يوجد في المسجد مكبر يوصل صوت الإمام إلى النساء كما هي الحال في غالب مساجد المسلمين اليوم ولله الحمد , لئلا يشوش أحدهما على الأخر . أو أن للنساء مصلى منفرداً، أما في وقتنا فإن سماعات الصوت توصل صوت الإمام لهن إلى مصلاهن فيستحب الاقتصار على إمام واحد أو إمامين يتناوبان الصلاة بينهما ويتعاونان , وقد كان شيخنا الشيخ العلامة حمود بن عبد الله التويجري يجمع أهله وأهل أولاده وما شاء من أقربائه من النساء ويصلي بهن في بيته وهذا عمل جليل وجميل رحمه الله رحمة واسعة .
القراءة في القيام لصلاة التراويح وغيرها:
وأما القراءة في صلاة الليل في قيام رمضان أو غيره , فلم يحد فيها النبي صلى الله عليه وسلم حداً لا يتعداه بزيادة أو نقص , بل كانت قراءته فيها تختلف قصراً أو طولاً , فكان تارة يقرأ في كل ركعة قدر " يا أيها المزمل" وهي عشرون أية , وتارة قدر خمسين أية , وكان يقول : " من صلى في ليلة بمائة أية لم يكتب من الغافلين " وفي حديث آخر : " .. بمائتي أية فإنه يكتب من القانتين المخلصين "
وقرأ صلى الله عليه وسلم في ليلة وهو مريض السبع الطوال , وهي سور: " البقرة " وآل عمران " والنساء " والمائدة " والأنعام " والأعراف " والتوبة " . وفي قصة صلاة حذيفة بن اليمان وراء النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة واحدة " البقرة " ثم " النساء " ثم " آل عمران " , وكان يقرأها مترسلاً متمهلاً .
ولما جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس على قراءة أبي بن كعب وأمره أن يصلي للناس في رمضان , كان أبي رضي الله عنه يقرأ بالمئين , حتى كان الذين خلفه يعتمدون على العصي من طول القيام , وما كانوا ينصرفون إلا في أوائل الفجر .
وصح عن عمر أنه دعا القراء في رمضان , فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ ثلاثين أية , والوسط خمسا وعشرين أية , والبطيء عشرين أية .
وعلى ذلك فإن صلى القائم لنفسه فليطول ما شاء , وكذلك إذا كان معه من يوافقه , وكلما أطال فهو أفضل , إلا أنه لا يبالغ في الإطالة حتى يحي الليل كله إلا نادرا . إتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم القائل : " وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم" , وأما إذا صلى إماماً فعليه أن يطيل بما لا يشق على من وراءه لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا قام أحدكم للناس فليخفف الصلاة , فإن فيهم الصغير والكبير وفيهم الضعيف , والمريض , وذا الحاجة , وإذا قام وحده فليطل صلاته ما شاء قال شيخنا الإمام المجتهد العلم عبد العزيز بن عبد الله بن باز في مراعاة أحوال المؤتمين ومراعاة حال الضعفاء من كبار السن ونحوهم في صلاة التراويح " هذا أمر مطلوب في جميع الصلوات , في التراويح والفرائض لقوله صلى الله عليه وسلم : أيكم أم الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والصغير وذا الحاجة " فالأمام يراعي المأمومين ويرفق بهم في قيام رمضان وفي العشر الأخيرة وليس الناس سواء , فالناس يختلفون فينبغي له أن يراعي أحوالهم ويشجعهم على المجيء وعلى الحظور فإنه متى أطال عليهم شق عليهم ونفرهم من الحظور , فينبغي عليه أن يراعي ما يشجعهم على الحظور ويرغبهم في الصلاة ولو بالاختصار وعدم التطويل , فصلاة يخشع فيها الناس ويطمئنون فيها ولو قليل خير من صلاة يحصل فيها عدم الخشوع ويحصل فيها الملل والكسل.. انتهى .
ولا بأس بقراءة الإمام في التراويح من المصحف وخاصة أن كثيراً من الأئمة لا يحفظون كثيراً من القرآن الكريم وقد يرغب الناس في تطويل القراءة في صلاة القيام في رمضان فإذا قرأ الإمام من المصحف فلا حرج في ذلك إن شاء الله . وقد قال الإمام البخاري في صحيحة : كانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف " رواه معلقا مجزوما به .
قال الحافظ بن حجر " وصله ابن أبي داود في كتاب المصاحف من طريق أيوب عن ابن أبي مليكه " أن عائشة كان يؤمها غلامها ذكوان من المصحف "
ووصلة ابن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبي بكر بن أبي مليكة عن عائشة : " أنها أعتقت غلاماً لها فكان يومها في رمضان في المصحف " .. قوله في المصحف استدل به على جواز قراءة المصلي في المصحف ( فتح الباري 2/326) والإسناد صحيح رجاله كلهم ثقات .
ولكن الأولى أن يقرأ الإمام من حفظة لما في ذلك من تقليل الحركة قي الصلاة والمحافظة على الخشوع.
صلاة الوتر:(/6)
وصلاة الوتر من السنن المؤكدة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ورد في فضلها أحاديث منها :
عن علي رضي الله عنه قال : الوتر ليس بحتم كالصلاة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القران ) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن .
وعن أبي سعيد الخدري رضي لله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أوتروا قبل أن تصبحوا ) رواه مسلم .
وتجوز صلاة الوتر بركعة واحدة وكذا بثلاث أو خمس أو سبع أو تسع ركعات فقد جاء في الحديث عن ابن عمر قال : قام رجل فقال يا رسول الله كيف صلاة الليل ؟؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلاة الليل مثنى، مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة ) رواه البخاري ومسلم .
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يسلم يبن الركعتين والركعة في الوتر حتى أنه كان يأمر ببعض حاجته , رواه البخاري .
وعن أم سلمه قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع أو خمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام ) . رواه النسائي وابن ماجه وأحمد .
وإذا صلى المسلم الوتر ثلاث ركعات فيجوز فيها هيئتان كما يلي :
الأولى : أن يصلي ركعتين ثم يسلم وبعدها يأتي بالثالثة .
الثانية : أن يصلي الركعات الثلاث متصلة ولا يجلس إلا بعد الثالثة وكل ذلك جائز إن شاء الله .
وأما الهيئة الثالثة : وهي أن يصلي ركعتين ثم يجلس بعد الثانية ثم يأتي بالثالثة كهيئة صلاة المغرب فقد قال بها بعض العلماء لكنه قول مرجوح .
أما القنوت في صلاة الوتر فهو سنة وليس بواجب فإذا تركه المصلي فلا شيء عليه والذي ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان أحياناً يقنت في الوتر وأحياناً أخرى لا يقنت, ويجوز القنوت قبل الركوع وبعده وهو الأفضل والأقوى.
وأفضل وقت لصلاة الوتر أخر الليل في حق من يغلب على ظنه الاستيقاظ في آخر الليل وإلا فيصلي الوتر بعد صلاة العشاء فقد ورد في الحديث عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر ثم ليرقد ومن وثق بقيام الليل فليوتر آخره فإن قراءة آخر الليل محظورة وذلك أفضل ) رواه مسلم .
ومن السنة في القراءة في الوتر إذا صلى ثلاثاً أن يقرأ في الركعة الأولى سورة الأعلى وفي الثانية سورة (الكافرون) وفي الثالثة سورة الإخلاص كما ورد في الحديث عن أبي بن كعب ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر سبح اسم ربك الأعلى وفي الركعة الثانية بقل يا أيها الكافرون وفي الثالثة بقل هو الله أحد ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه . كما يستحب أحياناً أن يقرأ في الثالثة بالإخلاص والمعوذتين فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله .
ومن صلى صلاة الوتر في أول الليل ثم رغب أن يصلي في آخر الليل يصلي ما يشاء لكنه لا يعيد الوتر .
فإذا قرأ غير ذلك صح , فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ مره في ركعة الوتر بمائة أية من سورة النساء .
وعلى ما تقدم جرى عمل الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه واستمر بعده كما تقدم , عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال " خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه , ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط , فقال والله إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل وذكر الحديث إلى قوله , وكان الناس يقومون أوله " وقال زيد بن وهب" كان عبد الله يصلي بنا في شهر رمضان فينصرف بليل "
دعاء القنوت في صلاة الوتر :
علم النبي صلى الله عليه وسلم سبطه الحسن بن علي رضي الله عنهما دعاء القنوت وهو : " اللهم اهدني فيمن هديت وعافني في من عافيت وتولني فيمن توليت , وبارك لي فيما أعطيت , وقني شر ما قضيت , فإنك تقضي ولا يقضى عليك , وإنه لا يذل من واليت , ولا يعز من عاديت , تباركت ربنا وتعاليت , لا منجا منك إلا إليك " ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً , لما يأتي بعده "
ولا بأس أن يزيد عليه من الدعاء المشروع والطيب الصحيح " .
ولا بأس من جعل القنوت بعد الركوع ومن الزيادة عليه بلعن الكفرة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للمسلمين في النصف الثاني من رمضان لثبوت ذلك عند الأئمة في عهد عمر رضي الله عنه فقد جاء في آخر حديث عبد الرحمن بن عبد القاري المتقدم :"وكانوا يلعنون الكفرة في النصف : اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ولا يؤمنون بوعدك وخالف بين كلمتهم وألق في قلوبهم الرعب وألقي عليهم رجزك وعذابك إله الحق) ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمسلمين ما استطاع من خير , ثم يستغفر للمؤمنين .(/7)