إرشاد الأسئلة
د. عبد الكريم بكار 21/9/1425
04/11/2004
كلمة (النهضة) من الكلمات الأكثر استخداماً في حياتنا المعاصرة. وحين يشيع استخدام كلمة على نطاق واسع فإنها تجتذب الكثير من المعاني والدلالات الفرعية، ويصبح العمل على لمّ شعث تلك الدلالات ومراجعتها من الأمور المهمة، حيث يتوقف على ذلك الكثير من الأشياء.
نحن في حاجة إلى طرح الأسئلة من أجل إعادة تحديد التعريفات والمصطلحات ومن أجل إضاءة حقول الممارسة الدعوية والإصلاحية.
وكل ذلك من أجل الشعور بأننا ما زلنا نعمل في المسار الصحيح.
إن الأسئلة هي وليدة التأمل العميق. التأمل هو التفكير في التفكير أي تسليط نور الوعي على ذاته كي يصبح على دراية أفضل بملاحظاته ومقولاته.
الفقر في الأسئلة سيعني قطعاً الفقر في الإجابات لأن السوية الذهنية المطلوبة لكل منهما واحدة. وأشعر أننا لا نميل إلى طرح الكثير من الأسئلة حول ما ننظِّر له خشية أن نجد أنفسنا وقد حوصرنا بأسئلة لا أجوبة لها. إن أي حقيقة هي ذات طبقات متعددة، وإن اجتراح أي طبقة وفهم كنهها وجوهرها يحتاج إلى معارف ومفاهيم أكثر تفصيلاً ودقة، وإن براعتنا في طرح الأسئلة تعني أننا بدأنا نتحسس الطبقات الأكثر عمقاً في مسائل التخلف والنهوض الحضاري.
وقد أدرك المثقلون بالهمِّ الدعوي والإصلاحي ذلك منذ وقت مبكر؛ فهذا الكواكبي يعقد مؤتمراً وهمياً في مكة المكرمة، حيث يتخيل قدوم وفود من كل أصقاع العالم الإسلامي من أجل التداول والتفاكر والتذاكر في الأزمة الحضارية التي يعاني منها المسلمون. وقد رأى المؤتمرون –كما سجل ذلك الرجل في كتابه (أم القرى)- أن تتركز مداولاتهم في العثور على أجوبة لسؤالين أساسيين هما:
السؤال الأول: ما العلل والأدواء التي تفتك بالأمة الإسلامية حتى انتهت إلى الوضعية التي هي فيها؟
أما السؤال الثاني فقد كان: ما الأدوية والعلاجات التي تحتاجها الأمة حتى تبرأ من أدوائها؟
وبالطبع فقد ذكر المؤتمرون –كما تخيل الكواكبي- الكثير من العلل، ووصفوا الكثير من العلاجات. والذي يبعث الأسى في النفس أن يظل معظم ما نطرحه اليوم من أسئلة، وما نقدمه من الأجوبة قريباً جداً مما ذكرته الوفود الإسلامية قبل ما يزيد على قرن من الزمان!!
هذا يعني أن قدرتنا على حسم الأسئلة والنزاع من كثير من الأجوبة ما زالت محدودة.
نحن هنا نريد أن نطرح بعض الأسئلة التي نظن أنها ستحرض الوعي لدينا على الانتقال من الإدراك العام إلى إدراك أكثر عمقاً وأكثر تفصيلاً:
- حين نتحدث عن نهضة الأمة الإسلامية وعن الدور الحضاري الذي يمكن أن تقوم به، فهل نريد أن نحسِّن مواقعنا داخل المنظومة الحضارية السائدة، فنتحول في إطار الأصول والشروط الحضارية التي وضعها الغرب من أمة تستهلك المنتجات الحضارية إلى أمة تسهم في إنتاجها، مما يعني تدعيم الحضارة الحالية وتعزيز استمرارها مع إنكارنا للقواعد التي قامت عليها وإنكارنا لأدبياتها ورمزياتها؟
- إذا كان هذا غير ملائم لنا لأنه يوقعنا في نوع من التناقض المنهجي، فهل نريد إذًا أن نؤسس حضارة جديدة تحاكي في أصولها ومنطلقاتها وأهدافها الحضارة الإسلامية التي وضع لبنتها الأولى نبينا –صلى الله عليه وسلم-؟
- إذا كان هذا هو المقصود، هل يتم هذا في ظل استمرار الحضارة الغربية، مما يعني إنشاء حضارة منافسة تستلهم عقائد ومبادئ ومثلاً مغايرة لما في الحضارة الغربية؟ أو أن المقصود هو دورة حضارية جديدة تعم العالم، يكون للعرب والمسلمين فيها دور الريادة والقيادة، مما يعني أن الحضارة التي نريد لها أن تقوم لن تقوم إلا على أنقاض الحضارة الغربية؟
- الخيار الأول يعني أن علينا أن ننشئ نظماً جديدة في المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية والتربوية والصناعية والإدارية؛ لأن ما لدينا من نظم تراثية موروثة في هذه المجالات غير كاف لتسيير دفة الحياة العصرية، وبعضه غير ملائم ولا صالح. فهل نملك الإمكانات للقيام بهذا العمل الكبير؟ ومن أين تكون البداية.
أما الخيار الثاني فإنه يعني أن المطلوب منا الآن هو العمل على هزيمة الحضارة الغربية وهدم أركانها تمهيداً لتشييد حضارة إسلامية تحل محلها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل مثل هذا العمل ممكن أم أنه من الأمور شبه المستحيلة بالنسبة إلينا وإلى غيرنا؟
- وفي كل الأحوال هل يمكن للعالم الإسلامي أن ينشئ حضارة منافسة أو بديلة عن الحضارة الغربية وهو مشرذم وموزع على ما يزيد على خمسين دولة؟ وبالتالي فهل يكون علينا أولاً أن نسعى إلى توحيد المسلمين وجمع كلمتهم قبل أن نفكر في إنشاء حضارة بديلة أو منافسة؟ وإلى أي حد يمكن القيام بهذا الأمر في ظل التخلف الموجود الآن وفي ظل الارتباطات الوثيقة القائمة بين معظم الدول الإسلامية والدول الغربية، حيث إن العلاقات التجارية بين الدول الإسلامية أضعف بكثير من العلاقات القائمة بينها وبين الدول الغربية؟(/1)
- علينا بعد هذا أن نتساءل: لماذا لم نستطع عبر قرن ونصف من الزمان استيعاب التطورات الحضارية والتقنية والصناعية التي حدثت في العالم من حولنا، وما العوامل التي أدت إلى بقائنا على هامش الحضارة عوضاً عن أن نكون في لجتها؟
هل كان ذلك بسبب بعدنا عن الإسلام؟ أو كان بسبب الاستعمار وتآمره علينا؟ أو كان بسبب عدم وقوفنا من الغرب موقف التلميذ النجيب كما فعلت اليابان؟ أو كان بسبب تمسكنا بعادات وتقاليد بالية وموروثة عن عصور الانحطاط؟
إذا كان الجواب إن واحداً منها هو السبب فكيف يتم التغلب عليه؟ وإذا كانت هذه الأسباب تقف مجتمعة وراء ما نحن فيه، فما وزن كل سبب منها في تعثر النهضة؟
في كل الأحوال كيف يمكننا أن نعمم هذه الأسئلة وأشباهها، وكيف يمكن إيصال ما يتبلور من أجوبة عليها على أمة تشكل اليوم أكثر من خمس سكان العالم؟
لم أرد من هذه التساؤلات بعث اليأس والدفع في اتجاه مغلق، وإنما أردت أن أوضح أن ما نظنه بدهياً وسهلاً لا يكون دائماً كذلك
إرشاد الأسئلة (2/2)
د. عبد الكريم بكار 5/10/1425
18/11/2004
ذكرت في المقالة السابقة أن في إمكاننا جعل الأسئلة التي نلقيها على أنفسنا مفاتيح للفهم وأدوات لإيقاظ الوعي. والحقيقة أن المسيرة العلمية والبحثية تعتمد دائماً على حركة جدلية مستمرة بين التحديات والاستجابة لها. التحديات كثيراً ما تتبدى في أشكال من الأسئلة والتساؤلات. والاستجابة لها تتبدى في محاولات اكتشاف الأجوبة الصحيحة لها. وإن كل خطوة يخطوها العلم نحو الأمام تنطوي في أعماقها على طرف من الأسئلة وطرف آخر من الأجوبة. وهكذا فبعد كل جواب هناك سؤال جديد. ومن خلال جدلية السؤال والجواب ترتقي المعرفة وتتكشف سنن الله –تعالى- في الخلق، ويتحسَّن الفهم في حركة حلزونية صاعدة.
المنطق يقضي أن نطرح أولاً الأسئلة الكبرى، ثم نتدرج نحو الأسئلة الصغرى. وفي مجال التخلف والنهوض هناك سؤالان كبيران –كما سبق أن أشرت- الأول هو: لماذا تخلف المسلمون؟ أو لماذا تخلَّف المسلمون، وتقدم غيرهم؟
والسؤال الثاني: ما الذي علينا أن نقوم به من أجل النهوض بالأمة؟ وفي إطار هذين السؤالين لدينا بحر من الأسئلة الصغيرة. وأعتقد أن علينا حتى ننعم بخيرات التساؤل فإن علينا أن نجعل منه عنصراً مهماً في تكوين الجو الأسري في البيوت والجو التعليمي في المدارس. وحتى يتم شيء من ذلك على نحو مقبول فإننا في حاجة إلى شيئين أساسيين:
1- قدر ملائم من الحرية الفكرية والعلمية، حيث تحاول جهات عديدة إضفاء نوع من الاتساق الشكلي على الواقع السائد، والإيحاء بالتالي على أن ما هو قائم طبيعي أو الإيحاء بأنه (ليس في الإمكان أبدع مما كان). والتساؤل يكسر ذلك الاتساق.
2- الشعور بعدم الاكتمال وأن الكمال شيء نرومه ونناهزه، وليس شيئاً نستحوذ عليه. والتساؤل أداة مهمة على طريق السعي نحو تلك المناهزة.
والآن لنطرح بعض التساؤلات الجزئية مع ذكر بعض ما يمكن أن يشكِّل إجابات لها:
- لماذا فقدت كلمة (الأخوة الإسلامية) رونقها إلى درجة تكاد تصبح معها خالية من أي مضمون؟!
هل لأن هذا هو الشيء الطبيعي في ظل تفتح الوعي على المصالح الخاصة؟ أو لأن تصويرنا لمعنى (الأخوة) كان يشتمل دائماً على نوع من المبالغة؟ أو أن هذا يحدث بسبب ضعف الرابطة الإسلامية على المستوى السياسي فانعكس على المشاعر والمواقف الشعبية؟ أو أن السبب الحقيقي يعود إلى الانكفاء على الذات القطرية الذي نشاهده اليوم على مستوى العالم الإسلامي؟ أو أن السبب يكمن في ضعف الإيمان وضعف الالتزام حيث لا معنى للأخوة الإسلامية في ظل وهن الأساس الذي تقوم عليه؟ أو أن حساسيتنا نحو التنوع الثقافي عالية، مما يسبب لنا النفور من بعضنا بسبب ما لدينا من خصوصيات وأنماط سلوكية؟
- لماذا نجد الفساد الإداري في معظم البلاد الإسلامية متفشياً إلى حد أنه أصبح وباء متوطناً؟ ولماذا تعجز معظم الدول الإسلامية عن إجراء انتخابات نزيهة تعكس إرادات الناس واختياراتهم مع أن المفترض في كل من يرجو الله ويخشى عقابه أن يكون على خلاف ذلك؟ هل هذا يعود إلى أننا أخفقنا في إرساء تقاليد إدارية تحترم النزاهة وتجرِّم الخروج على النظم والقوانين السارية؟ أو أن هذا يعود إلى رواسب عهود الانحطاط حيث الصولة للقوي والهوان للضعيف؟ أو أن هذا يعود إلى هشاشة التربية المنزلية في مسائل الشعور بالواجب وأداء الحقوق والخضوع لرأي الأغلبية فيما هو من قبيل الاجتهاد؟ أو أنه يعود إلى عدم وجود العقوبات الرادعة لكل من يمارس التزوير، ويأخذ الرشوة؟ أو أن ذلك يعود إلى قلة القدوات التي تقدم نماذج رفيعة في النزاهة والاستقامة المالية؟ أو ماذا...؟.
- لماذا أخفقنا في حياتنا التعليمية في تحبيب الناشئة للقراءة والكتابة، فالإنسان المسلم اليوم لا يقرأ –في المتوسط- أكثر من ست دقائق، على حين يقرأ الفرد في الدول الصناعية يومياً ما معدله ثماني وثلاثون دقيقة؟!(/2)
هل هذا يعود إلى بلاء التخلف العام الذي نعيش فيه حيث لم تستطع السياسات المختلفة اعتماد العلم مدخلاً للنمو والارتقاء وحل المشكلات؟ أو أن ذلك يتطلب عناية خاصة في البيوت والمدارس، وتلك العناية غير ممكنة في ظل ازدحام الفصول الدراسية وفي ظل انتشار الأمية لدى الآباء والأمهات، ووجود مستوى متدن جداً من التحصيل المعرفي؟ أو أن هذا يعود إلى غلبة النزعة التجارية على حياتنا العامة، حيث يُلقى في روع الطالب أن الدراسة للنجاح، والنجاح للشهادة، والشهادة للوظيفة، والوظيفة من أجل المال، والمال من أجل المتعة والرفاهية، مما يشجع على السعي للحصول على النجاح بأدنى جهد ممكن؟
- لماذا نجد أن معظم المسلمين فقراء أو تحت خط الفقر مع اعتقادنا أننا نمتلك أفضل منهجية للتعامل مع المال واستثماره وتنميته؟ هل سبب هذا هو الجهل الضارب أطنابه في زمان يشكل العلم شيئاً جوهرياً في ثراء الأمم؟ أو أن السبب يعود إلى فقر البيئة وقلة الموارد؟ أو أن السبب الجوهري يكمن في سوء إدارة الموارد المتاحة وتبديد الثروات؟ أو أن ذلك يعود إلى الإخفاق في إقامة مؤسسات ومشروعات صناعية كبرى تؤمّن ما يحتاجه الشباب من فرص عمل؟ أو أن ذلك يعود إلى عدم مواكبة خطط التنمية للزيادة السكانية؟ أو أن سبب ذلك هو فقد روح المبادرة لدى كثير من المسلمين وحلول التواكل في محل التوكل والفوضى في محل التنظيم والانحراف في محل الاستقامة.
إن هناك الكثير من الأسئلة الإضافية حول كل ما ذكر وحول غيره مما لم نذكره. وهناك أيضاً الكثير من الأجوبة المحتملة.
ولا يسوغ في الرؤية الإسلامية تفسير الظواهر الكبرى بعامل واحد، مما يعني أن خلف كل مشكلة من المشكلات التي نعاني منها عدداً من الأسباب المتنوعة. وحين نتأكد من ذلك فإن علينا أن نحاول معرفة وزن كل سبب من تلك الأسباب، ومعرفة أولويات المعالجة وبم تكون البداية. والله الهادي.(/3)
إرشاد الاخيار إلى تعليم الوضوء والصلاة وآداب الدعاء ومهمات الاذكار
بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
الحمد لله رب العالمين ، أشهد أن لا إله إلا هو ، وليّ الصالحين ، وأشهد أن محمداً صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّم عبده ورسوله ، وبعد :
فهذه نبذة مختصرة لتعليم الوضوء والصلاة للمبتدئ على طريقة السؤال والجواب ، ويتلوها شيء من آداب الدعاء ، وفضل الذكر ، وأهم أذكار اليوم والليلة ، نسأل الله تعالى أن ينفع بها المسلمين وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، ويتقبلها منّا أنه هو السميع العليم.
أولا : صفة الوضوء
س: ما هو أوّل شيء أبدأ به إذا أردت الوضوء ؟
ج : إذا قمت إلى الصلاة ، وأردت الوضوء ، فابدأ أوّلاً بالنيّة ، وهي أن تنوي بقلبك أن تتوضّأ للصلاة ، أو تنوي رفع الحدث .
س: وكيف تكون النية ؟
ج : تكون النية بالقلب ، ولا يتلفّظ بها اللسان ، بمعنى أن تستحضر بقلبك أن غسل هذه الأعضاء ، هو وضوء لفعل الصلاة ، أو لرفع الحدث ، وليس للتبرّد ، أو للتنظف مثلا ، واعلم أن هذه النية تأتي تلقائيا في الغالب ، ولا تحتاج منك إلى تكلّف استحضارها مادمت قائما للصلاة .
س: وما معنى الحدث ؟
ج : الحدث هو كون الإنسان على وصف في بدنه يمنع من الصلاة ، مثل أن يكون قد أخرج ريحا ، أوقضى حاجته ، ولم يتوضأ بعدُ للصلاة .
س : ثم ماذا أفعل بعد النية ؟
ج : تُسمِّى اللهَ تعالى قائلا ( بسم الله ) .
س : وكيف أصنع إن كنت في موضع يكره فيه ذكر الله تعالى كالحمّام ؟
ج : تسمى الله في نفسك بلا تلفظ بلسانك ، ويكفي إن شاء الله تعالى .
س : وماذا لو نسيت التسمية ؟
ج : التسمية تسقط بالنسيان ، فإن نسيتها صح الوضوء ، ولا يجب عليك إعادته .
س : ثم ماذا أصنع بعد التسمية ؟
ج : تغسل كفيّك ثلاثا ، ثم تتمضمض بإدخال الماء إلى الفم ، وتدويره فيه ثم تمجُّه لتخرجه منه ، ثم تستنشق الماء بإدخاله داخل الأنف بجذب النفس قليلا ، ثم تستنثر ، بمعنى تخرج الماء من الأنف بدفعه بالنفس خارجاً ، حتى تغسل داخل الفم والأنف .
س: هل يكون غسل الفم والأنف بالمضمضة والاستنشاق والاستنثار بغرفة واحدة ، أم بغرفتين اثنتين ، واحدة للفم ، وواحدة للأنف ؟
ج : السنة أن يكون بغرفة واحدة تأخذ بعضها في الفم ، وبعضها تستنشقه بالأنف ، وإذا فعلت بغرفتين أجزأ وصح .
س: ثم ماذا بعد المضمضة والاستنشاق ؟
ج : تغسل وجهك من منابت الشعر أعلى الوجه إلى الذقن ، ومن الأذن إلى الأذن بما فيه البياض الذي بين الأذن والعارض ، وتغسل ظاهر اللحية فقط ، إلا إن كانت اللحية خفيفة ، ويُرى الجلد من تحتها ، فتغسل ظاهرها ، وما تحتها أيضا.
س: ثم ماذا بعد غسل الوجه ؟
ج : تغسل يديك مع مرفقيك ، بحيث تستوعب جميع العضو بمرور الماء عليه ، ثم تمسح جميع ظاهر الرأس من حد الوجه ، إلى ما يسمى قفا ، ومنه البياض الذي فوق الأذنين ، والافضل أن تمر بيديك من مقدم الرأس إلى القفا ، ثم تقبل من القفا إلى مقدم الرأس ، وأما ما استرسل من الشعر زيادة على ما فوق الرأس فلا يجب غسله ، وبنفس الماء الذي مسحت به الرأس ، تكمل فتمسح الأذنين ، باطنهما وظاهرهما ، بإدخال السبابتين في الصماخ ، وأما الإبهامان فتمسح بهما ظاهر الأذنين ، فعن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه ، وأذنيه ظاهرهما وباطنهما ) رواه الترمذي وصححه .
س: ثم ماذا بعد مسح الرأس ؟
ج : تغسل الرجلين غسلا كاملا ، مع الكعبين والعقبين ، والكعبان هما العظمان اللذان في أسفل الساق ، فلكل قدم كعبان بارزان على الجانبين أسفل الساق ، والعقب هو آخر شيء القدم من الخلف .
س: كم مرة أغسل كل عضو من هذه الأعضاء .
ج : يكفي مرة واحدة ، والأفضل ثلاث مرات ، إلا مسح الرأس فيكون مرة واحدة .
س: هل هناك سنن أخرى يستحب فعلها ؟
ج: نعم ما تقدم كلّه واجب ، ويستحب أن يزيد المتوضىء تخليل اللحية الكثيفة ، أما الخفيفة التي يرى الجلد من تحتها فقد تقدم أنه يجب غسل ما تحتها ، لكن الكثيفة يغسل ظاهرها فقط ، ويستحب مع ذلك تخليلها بأن يدخل يده المبللة بالماء داخلها كالمشط .
ويستحب أن يبالغ في الاستنشاق إلا إذا كان صائما، لئلا يدخل الماء إلى الجوف .
ويستحب أيضا تخليل الأصابع بأن يدخل أصابع اليد بين أصابع القدمين ويخلل ما بينها بالماء.
ويستحب أن يقول بعد الفراغ : أشهد أن لاإله إلا الله ، وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم (من قالها بعد الوضوء فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ) رواه مسلم0
ويستحب أن يكون مستحضرا بقلبه أنه في عبادة لله تعالى من أول الوضوء إلى آخره ، فانه بذلك يعظُمُ ثوابه ، وتكثر حسناته .
س : وماهي نواقض الوضوء ؟
ج : نواقض الوضوء هي : خروج الريح ، والبول ، والغائط ، وزوال العقل بإغماء أو نوم ، ومس الذكر بدون حائل ، وأكل لحم الإبل 0
س : هل يجب الإستنجاء بمعنى غسل الذكر والدبر قبل كل وضوء ؟(/1)
ج : لايجب إلا إذا قضى حاجته ببول أو غائط ، فمن أخرج ريحا أو استيقظ من النوم ، ولا يحتاج إلى فعل البول أو الغائط ، فله أن يتوضأ بلا غسل ذكره ودبره 0
س: من استيقظ من النوم هل يدخل يديه في الإناء مباشرة ليتوضأ ؟
ج : من استيقظ من نوم الليل خاصة ، لا يدخل يديه في الإناء حتى يغسلهما ثلاثا خارج الإناء أولاً ، وهذا الغسل ليس من الوضوء ، وانما يكون بعد الاستيقاظ من نوم الليل فقط وقبل الوضوء ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا ، فان أحدكم لا يدري أين باتت يده ) رواه مسلم
س : ما هو الحديث الوارد في صفة الوضوء ؟
ج : عن عثمان رضي الله عنه أنه دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات ، ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ) متفق عليه
ثانيا : صفة الصلاة
س: ما هو أوّل شيء أبدأ به إذا أردت الصلاة ؟
ج : أول شيء هو النية ومحلّها القلب، ولا تتلفظ بها بلسانك ، ومعنى النية أن تستحضر في قلبك أنك تريد الصلاة ، وتعينّها بقلبك إن كانت فريضة الوقت ، أو نافلة ، أو صلاة الكسوف مثلا ، أو صلاة جنازة ، فتتذكر بقلبك قبل أن تكبّر تعيين الصلاة التي تريد أن تصلّيها .
س : ثم ماذا بعد النيّة ؟
ج : أوّل شيء تفعله بعد النية أن تستقبل القبلة ، وأنت منتصب قائما ، إلا إن كنت مريضا عاجزا عن القيام فلا بأس أن تصلّى جالسا ، فان لم يستطع المصّلى أن يصلّي جالسا ، فإنّه يصلّى مضطجعا، ويستقبل القبلة بوجهه .
س : ثم ماذا أفعل ؟
ج : ثم ترفع يديك حذو منكبيك ، أو إلى فروع أذنيك مكبرا قائلا ( الله أكبر )، ولك أن ترفع ثم تكبر ، أو تكبر ثم ترفع ، واجعل يديك ممدودتين مضمومتي الأصابع ، واستقبل بكفيك القبلة ، ، ويجب أن تسمع نفسك تكبيرة الإحرام ، أو تحرك لسانك بالحروف على الأقل ، ولا يكفي أن تمررها على قلبك فحسب.
س : ثم ماذا أفعل ؟
ج : ثم تضع كفك اليمنى ، على ظهر كفك اليسرى والرسغ والساعد ، على صدرك ، بحيث تكون الكف اليمنى منبسطة ، بعضها على ظهر الكف اليسرى ، وبعضها على رسغ اليسرى ، وبعضها على أول جزء من الساعد ، أو إن شئت فاقبض باليمنى على اليسرى .
س: وأين يكون موضع بصري ؟
ج : ثم ترمي ببصرك إلى موضع سجودك ، ولا تلتفت ، ولاترفع بصرك إلى السماء ، فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، زجر عن رفع البصر إلى السماء في أثناء الصلاة .
س : ثم ماذا أقول ؟
ج: ثم تقرأ دعاء الاستفتاح وهو ( سبحانك اللهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ) ، ومعنى جَدُّك أي سلطانك وملكك ، أي تعالى سلطانك فلا يماثله ، ولا يعلو عليه سلطان .
ثم تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، فتقول ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) أو ( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ) .
ثم تقول ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
س : ثم ماذا أقرأ ؟
ج : ثم تقرأ الفاتحة ، بجميع حروفها ، ويجب عليك إخراج الحروف بطريقة صحيحة ، فإن اللّحن فيها إذا كان يغيّر المعنى يبطلها ، فتبطل الصلاة ، ولاتصح الصلاة بدون قراءة الفاتحة في كل ركعة منها .
ثم تقول آمين بعد قراءة الفاتحة ، سواء كنت إماما ، أو مأموما ، أو منفردا ، لكن إن كنت مأموما فلا تسبق بها الإمام ، بل قلها معه .
س : ثم ماذا أقرأ بعد الفاتحة ؟
ج : ثم اقرأ بعد الفاتحة سورة ، أو ما تحفظ من القرآن ، وقراءة سورة كاملة ولو قصيرة أفضل ، وإذا كنت في الركعة الثالثة والرابعة لصلاة رباعية ، مثل الظهر، أو العصر ، أو العشاء ، فاقرأ الفاتحة فقط ، وكذلك في الركعة الثالثة لصلاة المغرب ، وإذا أردت أن تزيد بعد الفاتحة قراءة سورة ، فلابأس أن تفعل ذلك أحيانا .
س : ثم بعد القراءة ماذا أصنع ؟
ج : ثم اركع رافعا يديك ، كما رفعتهما في أول تكبيرة دخلت بها الصلاة قائلا ( الله أكبر ) ، فإذا انحنيت راكعا ، فضع كفيك على ركبتيك قابضا عليهما ، وفّرج أصابعك ، وباعد عضديك عن جنبيك ، وابسط ظهرك لا تجعله محنيا ، ولاتقوّسه ، لكن اجعله مستقيما منبسطا ، واجعل رأسك في مستوى الظهر حياله ، لا تخفضه إلى أسفل ، ولاترفعه إلى أعلى ، واطمئن في ركوعك حتى تستقر الأعضاء ، وقل سبحان ربي العظيم وبحمده ، أو سبحان ربي العظيم ، مرة على الأقل ، وثلاث مرات أفضل ، وكلما زدت فهو أفضل ، إلا إذا كنت إماما ، فلا تشق بطول الركوع على الناس .
وان شئت زد على قولك ( سبحان ربي العظيم ) هذا الذكر : ( سُبّوح قدّوس ، ربُّ الملائكة والروح ) أو ( سبحان ذي الجبروت ، والملكوت ، والكبرياء ، والعظمة ) ، ولا تقرأ القرآن في الركوع ، ولافي السجود .
س : لكنيّ إن كنت في صلاة الجماعة ، فباعدت عضدي عن جنبي قد يتأذى جاري في الصف ؟(/2)
ج : إن كنت في صلاة الجماعة ، وخشيت أن تؤذي جارك فلا تفعل في الصلاة ما يؤذيه ، وإن كنت منفردا فاجتهد أن تفعل من السنن ما تقدر عليه.
س : ثم ماذا أفعل بعد الركوع ؟
ج : ثم ارفع رأسك من الركوع حتى تعتدل قائما ، ويرجع كل عظم إلى موضعه ، ارفع حتى تعتدل قائلا (سمع الله لمن حمده) ، فإذا اعتدلت قائما ، فارفع يديك كما رفعتهما أول دخولك الصلاة ، وكما رفعتهما عندما أردت الركوع ، وقل ( ربنا ولك الحمد ) ولا تزد (والشكر ) فان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقلها هنا ، وإن شئت فزد على قولك ( ربنا ولك الحمد ) هذه الزيادة ( ملء السماوات وملء الأرض ، وما بينهما ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء المجد ، أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد ، اللهم لامانع لما أعطيت، ولامعطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) رواه مسلم .
واحذر أن تخل بهذا الركن، وهو الإعتدال قائما ، وعليك أن تطمئن فيه ، ذلك أن من سجد قبل أن يعتدل قائماً لم تصح صلاته.
س : وكم مرة أرفع اليدين مع التكبير في الصلاة ؟
ج : رفع اليدين في الصلاة في أربعة مواضع : عند تكبيرة الإحرام ، وعند الركوع ، وعند الرفع منه ، وعند القيام من التشهد الأول كما سيأتي بعد قليل .
س : ثم إذا فرغت من القيام بعد الركوع كيف أسجد ؟
ج : ثم اسجد مكبّراً ، وانزل على ركبتيك أولاً ، ثم يديك ، وضع في سجودك جبهتك ، وأنفك ، وراحة يديك ، وركبتيك ، وأطراف قدميك على الأرض ، أي ضع بطون أصابع الرجلين على الأرض ما استطعت، ولا يصح السجود إلا إن كان بجميع هذه الأعضاء ، فكانت كلها موضوعة على الأرض .
واعتدل في السجود لاتضم جسدك إلى بعضه ، فارفع بطنك عن فخذيك ، ولكن لاتمد جسدك مداً ، واجعل سجودك معتدلا بين هذا وهذا ، وابعد عضديك عن جنبيك، وارفع ساعديك عن الأرض ، لاتبسط ساعديك على الأرض ، واجعل كفيك على الأرض في محاذاة المنكبين، مستقبلا بأصابعهما القبلة ، مضمومة الأصابع ممدودة نحو القبلة ، واجعل أصابع قدميك مثنية إلى اتجاه القبلة ،لاتمدهما منبسطتين إلى عكس اتجاه القبلة .
س : وهل يجب الاطمئنان في السجود كما يجب في الركوع ؟
ج : نعم يجب الإطمئنان في السجود بأن تستقر هذه الأعضاء على الأرض ، ويقول المصلّي (سبحان ربي الأعلى ) أو ( سبحان ربي الأعلى وبحمده ) يقولها مرة على الأقل ، وإذا قالها ثلاثا فهو أفضل ، وكلما زاد فهو أفضل مالم يكن إماما ، فليتجنب أن يشق على النّاس ، وان شئت قل مع ذلك ( سُبّوح قدّوس ، ربُّ الملائكة والروح ) أو ( سبحان ذي الجبروت، والملكوت ، والكبرياء ، والعظمة ) ، ولا تقرأ القرآن في السجود ، وأكثر من الدعاء ، فانه موضع يستجاب فيه الدعاء .
س : ثم ماذا أفعل بعد السجود ؟
ج : ثم ارفع رأسك من السجود مكبراً ، واجلس حتى تطمئن جالساً ، وصفة الجلوس أن تفرش قدمك اليسرى وتجلس عليها ، وتنصب قدمك اليمنى وتثنى أصابعها نحو القبلة ما استطعت ، وهذه الهيئة تسمى الافتراش ، واجعل يدك اليمنى على فخذك اليمنى ، ويدك اليسرى على فخذك اليسرى ، ويجب الاطمئنان في هذا الجلوس ، بحيث يستقر المصلى جالسا مطمئنا ، فلا تستعجل في العودة إلى السجود الثاني ، قبل أن تجلس هذه الجلسة بين السجدتين مطمئناً .
س : وماذا أقول في هذا الجلوس ؟
ج ـ تقول ( رب اغفر لي ، رب اغفر لي ) وكلما زدت فهو أفضل ، وإن زدت هذا الدعاء : ( اللهم اغفر لي ، وارحمني ، واهدني ، واجبرني ، وعافني ، وارزقني ، وارفعني ) فهو أفضل .
ثم كبّر واسجد السجود الثاني على صفة الأوّل ، ثمّ كبّر وانهض قائما ، معتمدا على ركبتيك ، وإن شئت أن تجلس جلسة خفيفة قبل النهوض فلا بأس ، فإذا اعتدلت قائما للركعة الثانية ، فافعل فيها مثل ما فعلت في الأولى ، فإذا رفعت رأسك من السجود الثاني من الركعة الثانية مكبراً ، فاجلس للتشهد .
س : وكيف أجلس للتشهد ؟
ج : اجلس كما تجلس بين السجدتين ، افرش قدمك اليسرى واجلس عليها ، وانصب اليمنى واجعل أصابعها مَثنيّة باتجاه القبلة ، وضع كفك اليسرى على الفخذ اليسرى وركبتها ، والكف اليمنى على الفخذ اليمنى ، واقبض بالإصبع الصغرى والتي تليها من اليد اليمنى ، فاجعلهما إلى باطن كفك اليمنى كهيئة القابض ــ أي اقبض من اليمنى الخنصر والبنصر ــ وحلّق بالوسطى مع الإبهام حلقة ، مشيراً بالإصبع السبابة إلى القبلة ، وإن قبضت بكل الأصابع إلا السبابة تشير بها فحسن ، واقرأ التشهد وهو ( التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لااله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) أو ( وأشهد أن محمداً رسول الله ) .
س : ثم ماذا أفعل بعد الفراغ من التشهد ؟(/3)
ج : ثم انهض على صدور قدميك ، معتمدا على ركبتيك مكبرا حتى تعتدل قائما ، وصل الركعتين الثالثة والرابعة إن كانت الصلاة رباعية ، كما صليت الأولى والثانية ، لكن لا تقرأ دعاء الاستفتاح قبل الفاتحة ، فانه لا يُقرأ إلا في أوّل الصلاة .
س : هل هذا الجلوس الذي فيه التحيات هو التشهد الوحيد في الصلاة ؟
ج : هو التشهد الوحيد لو كانت الصلاة ركعتين فقط ، فإن كنت في صلاة ثلاثيّة كالمغرب ، أو رباعيّة كالظهر والعصر والعشاء ، فانه يجب عليك الجلوس للتشهد الثاني ، وذلك بعد أن تكمل ركعات الصلاة ،فتجلس في آخرها قبل التسليم جلسة التشهد الثاني .
س : و كيف اجلس في التشهد الثاني ؟
ج : تجلس كما جلست في التشهد الأول ، لكن لا تفرش قدمك اليسرى وتجلس عليها ، بل قدمها إلى الأمام قليلا تحتك ، بحيث تكون تحت رجلك اليسرى ، واجلس بمقعدتك على الأرض ، واجعل القدم اليمنى منصوبة كما هي في التشهد الاول ، واجعل أصابعها مثنية باتجاه القبلة ، وصفة اليدين على الفخذين، كصفتها في التشهد الأول ، والسبابة تشير بها إلى القبلة .
س : وماذا أقول في هذا التشهد الثاني ؟
ج : تقرأ التحيات كما قرأتها في التشهد الأوّل ، وتزيد هنا الصلاة الإبراهيميّة وهي ( اللهمّ صلّى على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم انك حميد مجيد ) .
س : وهل يستحب الدعاء هنا بعد الصلاة الإبراهيميّة ؟
ج : نعم يستحب الدعاء ، فادع بما شئت قبل السلام فان الدعاء في هذا الموضع مستجاب ، وأفضل شيء أن تقول ( اللهم أني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيى والممات ، ومن شر فتنة المسيح الدجال ) .
س: وإن كانت الصلاة ركعتين فقط ، فماذا أقول في الجلوس الذي قبل السلام ؟
ج : تجمع بين قول التحيات والصلاة الإبراهيميّة في هذا الجلوس وتدعو بعدهما بما شئت ، والأفضل أن تأتي بالدعاء الذي ذكرته آنفا .
س : وكيف أخرج من صلاتي ؟
ج : تخرج من صلاتك بالتسليمتين ، التفت عن يمينك بوجهك التفاتا كاملا قائلا السلام عليكم ورحمة الله ، ثم التفت عن يسارك بوجهك التفاتا كاملا قائلا السلام عليكم ورحمة الله .
س : وماهي الأمور التي لاتصح الصلاة بدونها ؟
ج : أما الأركان فهي : القيام في الفرض للقادر، وتكبيرة الإحرام ، وقراءة الفاتحة في كل ركعة ، والركوع ، والرفع منه ، والاعتدال قائما ، والسجود على سبعة أعضاء ، فيمكّن جبهته وأنفه وكفيه وركبتيه وأصابع قدميه من الأرض ، والرفع من السجود ، والجلوس بين السجدتين ، والطمأنينة في هذه الأعضاء ، والتشهد الأخير ، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم فيه ، والجلوس له ، والجلوس للتسليمتين ، والتسليمتان ، وترتيب الأركان كما ذكر ، فهذه لاتسقط عمدا ولاسهوا ولاجهلا .
والواجبات هي : التكبيرات في الإنتقال بين الحركات ،وقول ( وسمع الله لمن حمده) ، وقول ( ربنا ولك الحمد) ، وقول (وسبحان ربي العظيم) مرة على الأقل في الركوع و(سبحان ربي الأعلى) مرة على الأقل في السجود ، وقول (رب اغفر لي) بين السجدتين مرة على الأقل ، ، والتشهد الأول ، والجلوس له ، فهذه واجبات يجب الإتيان بها ، من تركها عمدا بطلت صلاته ، ومن تركها سهوا يسجد للسهو سجدتين قبل السلام ويسلّم ، وإن نسي السجود قبل السلام ، يسجد بعد السلام ، ويسلم مرة ثانية ، من غير أن يكرر التشهد ، ومن نسي حتى خرج من المسجد ، سقط عنه سجود السهو وصحت صلاته.
س : وماحكم باقي الأفعال والأذكار والأقوال في الصلاة ؟
ج :كل ما سوى الأركان والواجبات فهو سنة ، إذا أتيت بها فهو أفضل وما تركت منها ، فإنّ تركه لا يبطل الصلاة وإن كان عمدا .
س : ثم إذا فرغت من الصلاة ، ماذا أصنع ؟
ج : يستحب للمصلّى إذا فرغ من صلاة الفريضة أن يأتي بالأذكار التالية :
1ـ يقول ( أستغفر الله ) ثلاثا ، ثم يقول بعدها : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام ) .
2ـ يقول ( لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لاحول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة ، وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لاإله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولامعطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ ) .
3ـ يقول ( سبحان الله ) ثلاثا وثلاثين ، ( الحمد لله ) ثلاثا وثلاثين ، ( الله أكبر ) ثلاثا وثلاثين ، ويقول تمام المائة ( لااله إلا الله وحده لاشريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) .
4ـ يقرأ آية الكرسي .
5ـ يقرأ سور الإخلاص ( قل هو الله أحد ) سورة الفلق ( قل أعوذ برب الفلق ) ، وسورة الناس ( قل أعوذ برب الناس ) ، ويكررها ثلاث مرات بعد صلاة الفجر والمغرب .(/4)
6ـ يقول بعد المغرب وبعد صلاة الفجر هذا الذكر ( لااله إلا الله وحده لاشريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) عشر مرات .
س: وهل هناك سنن يستحب فعلها مع الفرائض ؟
ج : نعم يستحب المحافظة على السنن الرواتب ، وهي اثنتا عشرة ركعة : أربع قبل الظهر ، وثنتان بعدها ، وثنتان بعد المغرب ، وثنتان بعد العشاء ، وثنتان قبل صلاة الصبح .
أما إن كنت في حال السفر فيستحب المحافظة على راتبة الفجر ، وصلاة الوتر ، وصلاة الوتر هي : أن تصلي ركعتين بعد راتبة العشاء ، ثم بعد التسليم منهما ، تصلى ركعة واحدة فقط ، تدعو فيها بعد أن تعتدل قائما من الركوع ، أو إن شئت قبله بعد أن تنتهي من قراءة القرآن ، تدعو بدعاء عمله الرسول صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي رضي الله عنه وهو : ( الهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ) رواه أصحاب السنن ، وإن شئت فادع بغيره من الدعاء ، وإن لم تدع فلابأس.
ويجوز لك أن تصلي صلاة الوتر ، ثلاث ركعات متصلات بتسليمة واحدة ، غير أنك لا تجلس في هذه الصلاة للتشهد الأول ، وإنما تجلس لتشهد واحد إذا انتهيت من الثلاث ركعات في آخر الصلاة .
س : واخبرني عن الخشوع في الصلاة ما هو وكيف يحصل للمصلّي ؟
ج : لقد سألت عن عظيم ، اعلم أن الخشوع في الصلاة هو روحها وثمرتها وغاية المقصود منها ، ومعناه أن يكون القلب حاضرا فيها ، لا يغفل عن معاني مافيها من أقوال وأفعال ، فيتذكر عظمة الله إذا كبّر واستفتح صلاته ، ويتفكر في معاني سورة الفاتحة ويتدبّر ما يقرأ من القرآن ، ويركع بالخضوع ، ويسجد بالذل والعبودية ، ويعقل صلاته كلّها على هذا النحو ، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، واعلم أن ثواب الصلاة على قدر ما يعقل العبد فيها ، واعلم أن المصلّى إذا خشع في الصلاة ، ولم يحدث نفسه فيها، لم ينفتل إلاّ وهو كيوم ولدته أمّه ، قد غُفِرت له ذنوبه ، وذلك دليل على عظم فضل الصلاة .
أما كيف يحدث الخشوع للمصلّي ، فإنما يحصل ذلك إن خلا القلب من ذكر الدنيا ، وتفرغ لذكر الآخرة ، وحضر في الصلاة ، يتدبّر أفعالها وأقوالها ، ومن أعظم ما يعين على هذا ، أن يتهيأ العبد للصلاة بالتهجير إليها ، أي التبكير إليها ، ويجلس مطمئنا يذكر الله تعالى ، أو يقرأ شيئا من القرآن ، ويفرغ قلبه من ذكر الدنيا ، ويتذكر ذنوبه فيستغفر منها ، فإن هذا كله مما يعين على حضور القلب والخشوع في الصلاة 0
وإنما يحصل للعبد الخشوع في الصلاة ، بحسب قوة إيمانه وتقواه ، وسلامة قلبه من الذنوب والخطايا ، ومن حضر كل صلاة بتوبة جديدة صادقة ، حصل له من الخشوع ، وحضور القلب ، وانشراح الصدر ، وراحة البال في الصلاة ،شيء عظيم لا يعرفه حق المعرفة إلاّ من جّربه ، وهو أفضل نعيم الدنيا ، ومفتاح كل نعيم الآخرة.
س : وما هو حكم من ترك الصلاة ؟
ج : اعلم أن ترك الصلاة كفر بالله العظيم ، وقد جعله الله تعالى من أعظم الذنوب الموجبة لدخول النار ، قال الله تعالى ( ما سلككم في سقر ، قالوا لم نك من المصلين ) المدثر 42، 43 ، وقال تعالى ( ويل يومئذ للمكذبين ، كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ، ويل يومئذ للمكذبين ، وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ) المرسلات 47،48، وعن بريده قال النبي صلى الله عليه وسلم ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي .
س : وماهي فوائد الصلاة للمسلم ؟
ج: الصلاة عمود الدين ، ومنجاة للعبد من عذاب النار وعذاب القبر ، وأعظم أسباب الفوز بالجنة والرضوان ، وهي مع ذلك نور في قلب المؤمن ، ينشرح بها صدره ، وتقر بها عينه ، ومن يحافظ على الصلاة يبارك له في رزقه وعمره وولده ، وهي أعظم الذكر ، تنهى العبد عن الفحشاء والمنكر ، وتفتح للعبد أبواب الخير في الدنيا والآخرة .
س : وأين أدي الصلوات الخمس ؟
ج : تؤديها في المسجد ، إذا سمعت النداء وكان بيتك قريبا من المسجد ، وحضور الصلوات الخمس في جماعة المسجد واجب لا يجوز للمسلم أن يتخلف عنها مالم يكن معذورا ، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم : لقد هممت أن آمر فتيتي ، فيجمعوا لي حزما من حطب ، ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ، ليس بهم علة ، فأحرقها عليهم) رواه مسلم وأبو داود .
وحضور الصلاة في جماعة فيه فضل عظيم ، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ) متفق عليه ، وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من غدا إلى المسجد أوراح ، أعد الله له نزلا في الجنة ، كلّما غدا أو راح ) متفق عليه ، والنزل كرامة الضيف .(/5)
وصح أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : ذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة ، لم يخط خطوة ، إلا رفعت له بها درجة ، وحط عنه بها خطيئة ، فإذا صلّى لم تزل الملائكة تصلى عليه مادام في مصلاه مالم يحدث : اللهم صلّ عليه ، اللهمّ ارحمه ، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة ) رواه البخاري ومسلم .
ثالثا : آداب الدعاء
أولا : يستحب أن يختار الداعي أوقات الإجابة مثل الثلث الأخير من الليل ، ووقت السحر ، وما بين الأذان والإقامة ، وآخر ساعة من عصر يوم الجمعة ، ويوم عرفة ، وعند النداء إلى الصلاة 0
وكذلك يستحب له أن يتحين الأحوال التي يستجاب فيها الدعاء ، مثل حال السجود ، ودبر الصلوات المكتوبات ، والتقاء الصفوف في الجهاد ، وعند نزول المطر ، وعند حضور القلب وخشوعه .
ثانيا : يستحب أن يستقبل القبلة ، ويرفع يديه عند الدعاء ويجعلهما تلقاء وجهه ، وأن يخفض صوته كالمتضرع الخائف ، ويتجنب السجع المتكلف ، ولا يتغنّى بالدعاء بصوت عال وتلحين ، فكل ذلك منهي عنه ، قد ذمه العلماء العارفون وكرهوه ، قال الإمام النووي رحمه الله ، قال بعضهم ( أدع بلسان الذل والافتقار ، لا بلسان الفصاحة والانطلاق ).
ثالثا : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يستجاب لأحدكم مالم يعجل ، فيقول : قد دعوت فلم يستجب لي ) متفق عليه .
رابعا : عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ماعلى الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو صرف عنه من السوء مثلها ، مالم يدع بإثم أو قطيعة رحم ، فقال رجل : إذا نكثر ، قال الله أكثر ) رواه الترمذي والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري وزاد فيه ( أو يدخر له من الأجر مثلها ) .
خامسا : على الداعي أن يختار الجوامع من الدعاء من القرآن الكريم ، أو من المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعن عائشة ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ، ويدع ما سوى ذلك) رواه أبو داود ، والجوامع من الدعاء أي الدعوات التي تشتمل على طلب الخير الكثير، مع الإيجاز والبلاغة ، وترك التكلف ، وتجنب الاعتداء في الدعاء والسجع الكثير .
سادسا : وعليه أن يقدم الثناء على الله تعالى قبل الدعاء ، فعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : ( الله إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله ، لاإله إلا أنت ، الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، فقال : لقد سألت الله تعالى بالاسم الأعظم ، الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ) رواه الترمذي.
وعن أنس رضي الله عنه ، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يصلي ، ثم دعا : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لاإله إلا أنت المنان ، بديع السماوات والأرض ، ياذا الجلال والإكرام ، ياحي يا قيوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، لقد دعا الله باسمه العظيم ، الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ) رواه أبو داود والنسائي .
سابعا : يستحب ويتأكد جدا أن لا يخلو الدعاء من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عله وسلم : كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ) رواه النسائي .
ثامنا : يستحب أن يكثر العبد من الدعاء حال الرخاء ، فذلك أحرى أن يستجيب الله تعالى له إن دعا حال الشدة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء ) رواه الترمذي.
تاسعا : هذه جملة من جوامع الدعاء المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم :
1ـ عن أنس قال كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) رواه مسلم .
2ـ عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ( اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ) رواه مسلم .
3ـ وعن طارق بن أشيم الأشجعي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال : يا رسول الله ، كيف أقول حين أسأل ربي ؟ قال : قل اللهم أغفر لي وارحمني وعافني وارزقني فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك) رواه مسلم .
4ـ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : علمني دعاء أدعو به في صلاتي ، قال : ( قل الله إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) متفق عليه .(/6)
5ـ وعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء ( اللهم اغفر لي خطيئتي ، وجهلي ، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني ، الله اغفر لي جدي ، وهزلي ، وخطئي ، وعمدي ، وكل ذلك عندي ، اللهم اغفر لي ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم ، وأنت المؤخر ، وأنت على كل شيء قدير ) متفق عليه .
6ـ وعن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ( الله إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر مالم أعمل ) رواه مسلم.
7ـ وعن ابن عمر كان دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ، وتحول عافيتك ، وفجأة نقمتك ، وجميع سخطك) رواه مسلم .
8ـ وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (اللهم إني أعوذ بك من العجز ، والكسل ، والجبن ، والبخل ، والهمّ ، وعذاب القبر ، اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لاتشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها ) رواه مسلم .
9ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، كان رسول الله صلى عليه وسلم يقول : ( اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحة لي من كل شر ) رواه مسلم.
10ـ وعن عليّ رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اللهم أغنني بحلالك عن حرامك ، وأغنني بفضلك عمن سواك ) رواه الترمذي .
11ـ وعن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الحصين كلمتين يدعو بهما ( اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي ) رواه الترمذي .
12ـ وعن أم سلمة قالت : كان أكثر دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) رواه الترمذي .
13ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ( قولي اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ، ما علمت منه ومالم أعلم ، وأعوذ بك من الشر كله ، عاجله وآجله ، ما علمت منه ومالم أعلم ، وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار ، وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأسألك من خير من سألك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد ، وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعله عاقبته رشدا ) رواه الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم وغيرهم .
14ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( قل اللهم فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، رب كل شيء ومليكه ، أشهد أن لاإله إلا أنت ، أعوذ بك من شر نفسي ، ومن شر الشيطان وشركه ، قلها إذا أصبحت ، وإذا أمسيت ، وإذا أخذت مضجعك) رواه الترمذي .
15ـ وعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لاإله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، من قالها بالنهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة ) رواه البخاري ، ومعنى ( أبوء ) أي أعترف .
16ـ وعن ابن عمر رضي الله عنه قال : قلما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه : ( الله اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولامبلغ علمنا ، ولاتسلط علينا من لا يرحمنا ) رواه الترمذي .
17ـ وعن معاذ رضي الله عنه ، قال صلى الله عليه وسلم ( لا تدعن في دبر كل صلاة تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) رواه أبوداود .
رابعا : أهمّ أذكار اليوم والليلة
إعلم أن ذكر الله تعالى من أفضل القرب ، وأزكى الأعمال الصالحة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلي يا رسول الله ، قال : ذكر الله ) رواه الترمذي وابن ماجة .
وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن بسر لما سأله : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي ، فأخبرني بشيء أتشبث به ، قال : ( لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ) رواه الترمذي وابن ماجة .(/7)
وأفضل الذكر هو قراءة القرآن : قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قرأ حرفا من كتاب الله ، فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول ( ألم ) حرف ولكن ، ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف ) رواه الترمذي.
ومن أفضل الذكر قول الذاكر : سبحان الله وبحمده ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قالها في يوم مائة مرة ، حطت عنه خطاياه ، ولو كانت مثل زبد البحر متفق عليه
وأيضا قول الذاكر : لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، من قالها في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب ، وكتبت له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه ، متفق عليه .
وأيضا قوله : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هي كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن .متفق عليه
وأيضا قوله : سبحان الله والحمد لله ولاإله إ لا الله والله أكبر قال الرسول صلى الله عليه وسلم هي أفضل الكلام ، وقال أحب إلي مما طلعت عليه الشمس متفق عليه
وكثرة الاستغفار .
ومداومة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه بعض الأذكار التي ينبغي أن يحافظ عليها المسلم في يومه وليلته:
1ـ عند الاستيقاظ من النوم
يقول : (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وأليه النشور) . البخاري ومسلم
وورد أيضا ( الحمد لله الذي عافاني في جسدي ، ورد علي روحي ، وأذن لي بذكره ) . الترمذي .
2ـ عند لبس الثوب
يقول ( الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة ) . أبو داود والترمذي وابن ماجة .
3ـ عند دخول الخلاء
يقول ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) متفق عليه ، وصح أيضا أن يقول ( بسم الله ) رواه ابن ماجة ، والأولى أن يجمع بينهما .
4ـ عند الخروج من الخلاء
يقول ( غفرانك ) . أبوداود والترمذي وابن ماجة .
5ـ عند الخروج من المنزل
يقول ( بسم الله ، توكلت على الله ، ولاحول ولاقوة إلا بالله ) . أبو داود والترمذي .
وورد أيضا أن يقول : ( الله إني أعوذ بك أن أضِل أو أُضَل، أو أزِل أو أزَل ، أو أظلِم أو أظلَم ، أو أجهل أو يُجهل علّي) . أهل السنن.
6ـ عند دخول المنزل
يقول ( بسم الله ولجنا ، وبسم الله خرجنا ، وعلى ربنا توكلنا ، ثم ليسلم على أهله ) . أبو داود
7ـ عند دخول المسجد
يقول : ( أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وبسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم ) . أبو داود
ويقول : ( بسم لله ، اللهم صل على محمد ). ابن السني
و(اللهم اغفر لي ، وافتح لي أبواب رحمتك ). ابن السني
8ـ وعند الخروج من المسجد
يقول : ( بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله ، اللهم إني أسألك من فضلك ، اللهم أعذني من الشيطان الرجيم ) روى البسملة ابن السني ، والباقي لمسلم ، إلا قوله ( اللهم أعذني من الشيطان الرجيم ) فهي لابن ماجة .
9ـ وعند سماع المؤذن
يقول مثل قوله إلاّ عند حيّ على الصلاة ، وحيّ على الفلاح ، فإنّه يقول لاحول ولا قوة ألا بالله . متفق عليه .
وعندما يسمع الشهادتين من المؤذن يقول : وأنا أشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، رضيت بالله ربا ، وبمحمد رسولا ، وبالإسلام دينا ) ابن خزيمة .
وبعد نهاية الأذان يصلّى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يقول ( اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعته مقاما محمودا الذي وعدته ، إنك لاتخلف الميعاد ) رواه البخاري إلا قوله ( إنك لاتخلف الميعاد ) فقد رواها البيهقي .
10ـ وإذا أراد أن يستخير الله تعالى في أمر من الأمور
أي يسأل الله تعالى أن يختار له ما هو خير له .
يقول بعد صلاة ركعتين غير الفريضة ( اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولاأقدر ، وتعلم ولا أعلم ،وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ـ ويسمى حاجته ـ خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال عاجله وآجله ـ فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ، ومعاشي وعاقبة أمري ، أو قال : عاجله وآجله ، فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به ) البخاري.
11ـ وعندما يصبح
يقول : ( أصبحنا وأصبح الملك لله ، والحمد لله ، لااله إلا الله وحده لاشريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، رب أسألك خير مافي هذا اليوم وخير ما بعده ، وأعوذ بك من شر مافي هذا اليوم ، وشر ما بعده ، رب أعوذ بك من الكسل ، وسوء الكِبَر ، رب أعوذ بك من عذاب في النار ، وعذاب في القبر) مسلم .
ويقول : ( اللهم بك أصبحنا ، وبك أمسينا ، وبك نحيا ، وبك نموت ، واليك النشور ) الترمذي .
12ـ وعندما يمسي(/8)
يقول مثل ما تقدم ، غير أنه يقول ( أمسينا ) مكان أصبحنا .
13ـ ويقول أوّل ما يصبح ، وأوّل ما يمسي
( بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ) أبو داود والترمذي، ومن قالها حين يصبح لم يضره شيء بإذن الله حتى يمسي ، ومن قالها حين يمسي لم يضره شيء بإذن الله حتى يصبح .
14ـ ويقول عند النوم
( باسمك الله أموت وأحيا ) متفق عليه ، ويقول ( اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك ) أبو داود والترمذي.
ويقرأ سورة الإخلاص ، والمعوذتين ثلاث مرات في كفيه وينفث فيهما ، ويمسح وجهه ورأسه وما أقبل من جسده . متفق عليه
ويقرأ آية كرسي ، فإن من قرأها عند النوم لم يقربه شيطان ، ولم يزل عليه من الله حافظ حتى يصبح ، البخاري .
ويقرأ خواتيم سورة البقرة ، وهي آخر آيتين من سورة البقرة ، فقد قال صلى الله عليه وسلم ، من قرأهما في ليلة كفتاه ، متفق عليه .
ويقول سبحان الله ثلاثا وثلاثين ، والحمد لله ثلاثا وثلاثين ، والله أكبر أربعا وثلاثين ، متفق عليه ، وقد ورد ما يدل على أن لهذا الذكر تأثيرا في زيادة القوة الجسدية والنشاط ، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة رضي الله عنهما عندما علمهما هذا الحديث ، هو خير لكما من خادم متفق عليه .
15ـ ويقول عندما يتقلب من الليل
( لا إله إلا الله الواحد القهار ، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) الحاكم والنسائي في عمل اليوم والليلة ، وابن السني .
16ـ وعندما يرى حلما مفزعا
ينفث عن يساره ثلاثا ، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، ومن شر ما رأى ، ويتحول من جنبه الذي كان عليه . مسلم .
17ـ ويقول عندما يبتلى بالهم والحزن
( اللهم إني عبدك وابن عبدك ، وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي ) ويقرأ القرآن ، الإمام أحمد وابن حبان والحاكم .
18ـ ويقول عندما يصاب بكرب أو بلاء
( لااله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ، ورب الأرض ورب العرش الكريم ) البخاري .
ويقول أيضا : ( الله رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله ، لا إله إلا أنت ) أبو داود وأحمد .
ويقول أيضا : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) الترمذي والحاكم .
ويقول أيضا : ( الله ، الله ربي لاأشرك به شيئا ) أبو داود
19ـ ويقول عندما يلقى العدو أو سلطانا ظالما
( اللهم إنا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك من شرورهم ) أبو داود والحاكم .
ويقول : ( اللهم أنت عضدي وأنت نصيري ، بك أجول ، وبك أصول ، وبك أقاتل ) أبو داود والترمذي.
ويقول : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) البخاري .
ويقول : ( الله رب السماوات السبع ، ورب العرش العظيم ، كن لي جارا من فلان بن فلان ، وأحزابه من خلائقك ، أن يفرط علي أحد منهم أو يطغى ، عز جارك ، وجل ثناؤك ، لا إله إلا أنت ) البخاري في الأدب المفرد .
ويقول : ( الله أكبر ، الله أعز من خلقه جميعا ، الله أعز مما أخاف وأحذر ، أعوذ بالله الذي لاإله إلا هو ، الممسك السماوات السبع أن يقعن على الأرض إلا بإذنه ، من شر عبدك فلان ، وجنوده وأتباعه وأشياعه ، من الجن والإنس ، اللهم كن لي جارا من شرهم ، جل ثناؤك وعز جارك ، وتبارك اسمك ، ولاإله غيرك ) ثلاث مرات ، البخاري في الأدب المفرد.
ويقول : ( اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم ) رواه مسلم .
20ـ ويقول عندما يخاف قوما
( اللهم اكفنيهم بما شئت ) مسلم .
21ـ ويقول عندما يثقله الدين
( اللهم اكفني بحلالك عن حرامك ، وأغنني بفضلك عمن سواك ) الترمذي.
22ـ ويقول عندما يستصعب عليه أمر
( اللهم لاسهل إلا ما جعلته سهلا ، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا ) ابن حبان وابن السني.
23ـ ويقول عندما يريد أن يعيذ أولاده من شر الشياطين
وعين الإنس والجن
( أعيذكم بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ومن كلّ عين لامّة ) البخاري .
24ـ ويقول عندما يريد الدعاء لمريض بالشفاء
( أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ) سبع مرات، أبوداود والترمذي .
25ـ ويقول عندما تصيبه مصيبة
( إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي ، وأخلف لي خيرا منها ) ، مسلم .
26ـ ويقول عندما يخاف من الريح
( اللهم أني أسألك خيرها ، وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ، وشر مافيها ، وشر ما أرسلت به ) متفق عليه .
27ـ ويقول عند نزول المطر
( اللهم صيّبا نافعا ) ، البخاري.
ويقول عند الخوف من كثرة المطر : ( اللهم حوالينا ولاعلينا ، اللهم على الآكام والظراب ، وبطون الأودية ، ومنابت الشجر ) متفق عليه.
28ـ ويقول عند رؤية الهلال(/9)
( الله أكبر ، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والتوفيق لما تحب ربنا وترضى ، ربنا وربك الله ) ، الترمذي والدارمي.
29ـ ويقول عندما يفطر من الصوم
( ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله ) ، أبوداود.
30ـ ويقول قبل الأكل
( بسم الله ، فإن نسي قال : بسم الله في أوله وآخره ) وبعده : (الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه ، من غير حول مني ولاقوة ) أبو داود والترمذي وابن ماجة.
31ـ ويقول إذا تزوج امرأة
( اللهم إني أسألك خيرها ، وخير ما جبلتها عليه ، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه ) أبو داود ابن ماجة .
32ـ ويقول إذا أراد أن يأتي زوجته
( بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ) متفق عليه .
33ـ ويقول إذا رأى مبتلى
( الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا ) الترمذي ، فإنه إذا قال هذا الدعاء لايصيبه مثل ذلك البلاء ، ولا يقوله أمام المبتلى لئلا يؤذي أخاه .
34ـ ويقول عندما يغضب
( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) متفق عليه .
35ـ ويقول عندما يقوم من المجلس
( سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لاإله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ) أهل السنن .
36ـ ويقول عندما يخاف على نفسه الرياء في العمل
( اللهم إني أعوذ أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم ) الإمام أحمد.
37ـ ويقول عند ركوب الدابة
( بسم الله ، الحمد لله ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) الحمد لله ، الحمد لله ، الحمد لله ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، فإنه لايغفر الذنوب إلا أنت ) أبو داود والترمذي.
38ـ ويقول عند ركوب الدابة للسفر
( بسم الله ، الحمد لله ( سبحان الذي سخرنا لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده ، اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنظر ، وسوء المنقلب في المال والأهل ) وإذا رجع قالهن وزاد فيهن ( آيبون ، تائبون ، عابدون ، لربنا حامدون ) مسلم .
39ـ ويقول إذا نزل منزلا
( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ) مسلم .
40ـ وإذا سمع صياح الدِيَكَة
سأل الله من فضله فإنها رأت ملكا، وإذا سمع نهيق الحمار ، تعوذ بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا، متفق عليه .
41ـ وعندما يحس وجعا في جسده
يقول بعدما يضع يده على موضع الألم : ( بسم الله ـ ثلاث مرات ـ ، أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ـ سبع مرات ) مسلم .
42ـ وإذا رأى ما يعجبه وخشي أن يصيب بالعين
فليدع بالبركة ، أي يقول اللهم بارك لهم ، أو له ، في كذا وكذا ، وفي الحديث الصحيح ( فليدع بالبركة فإن العين حق ) مالك والإمام أحمد وابن ماجة .
43ـ ويقول إذا خاف من شر الجان والشياطين
( أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق ، وبرأ وذرأ ، ومن شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ) الإمام أحمد وابن السني .
44ـ وعندما يخشى من فتنة الدجال
يحفظ أول عشر آيات من سورة الكهف ، ويقرأها إذا علم بخروج الدجال ، فإنه يعصم من فتنته بإذن الله ، مسلم .
45ـ ويقول إذا أراد أن يودع مسافرا
ويقول المسافر للمقيم
( أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ) ، أحمد وابن ماجة .
46ـ وعندما يذكر عنده الرسول صلى الله عليه وسلم
وإذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه أو صفته صلى عليه فيقول : عليه الصلاة والسلام ، أو اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وسلم أو أي صيغة مأثورة تشتمل على الصلاة والسلام عليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من صلى علي واحدة ، صلى الله عليه بها عشرا ، رواه مسلم .
اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، الحمد لله رب العالمين على التمام بتوفيقه .(/10)
إرشاد الانام إلى فضائل الجهاد ذروة سنام الاسلام
ويليه فتوى في حكم الصلح مع اليهود
بقلم
حامد بن عبدالله العلي
الحمد لله رب العالمين ، اشهد أن لا إله إلا هو ، أمر بالجهاد في سبيله ، وفضله على سائر النوافل والتطوعات ، وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم عبده ورسوله ، نبي الرحمة والملحمة كما وصف في القرآن والإنجيل والتوراة ، أما بعد :
فهذا رسالة مختصرة جمعت فيها ما دل على فضل الجهاد في سبيل الله تعالى ، وفضائل الأعمال التي تتعلق بهذا الباب العظيم الذي هو ذروة سنام الإسلام ، كالرباط ، والرمي ، وغزاة البحر ، وتحديث النفس بالجهاد ، وتجهيز الغزاة ، ونحو ذلك .
ابتغاء أن يكتب الله تعالى لي نصيبا من ثواب المجاهدين ، الذين فضلهم الله تعالى على سائر المؤمنين ، بأنهم يحمون بيضة الإسلام ، ويبذلون مهجهم دفاعا عن هيبة الدين ، وأعراض المسلمين ، وقد صح في الحديث أن الدال على الخير كفاعله ، وقال الحق سبحانه في محكم التنزيل لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ( فقاتل في سبيل الله لاتكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) .
هذا ونسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا المجاهدين الذين يقاتلون أعداء الدين ، من اليهود وأولياءهم الصليبيين ، في فلسطين ، وأفغانستان ، والشيشان والفلبين ، أو الهندوس والوثنيين في بلاد الهند ، وكشمير والصين ، آمين .
حامد بن عبد الله العلي
الكويت محرم 1423هـ
فصل
بيان أن الجهادأفضل العمل
اعلم أن الجهاد أفضل العمل بعد الفرائض
قال الإمام ابن قدامة في المغني : مسألة: قال: (قال أبو عبد الله لا أعلم شيئاً من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد).
روى هذه المسألة عن أحمد جماعة من أصحابه قال الأثرم: قال أحمد: لا نعلم شيئاً من أبواب البر أفضل من السبيل، وقال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله وذكر له أمر العدو؟ فجعل يبكي ويقول: ما من أعمال البر أفضل منه، وقال عنه غيره ليس يعدل لقاء العدو شيء ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال. والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم فأي عمل أفضل منه؟ الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مهج أنفسهم، وقد روى ابن مسعود قال: «سألت رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لمواقيتها» قلت ثم أي؟ قال: «ثم بر الوالدين» قلت ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله». قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح .
وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله أي الأعمال أفضل؟ أو أي الأعمال خير؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم أي شيء؟ قال: «الجهاد سنام العمل» قيل: ثم أي؟ قال: «حج مبرور» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن صحيح، وروى أبو سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: «مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» متفق عليه .
وعن ابن عباس أن النبي قال: «ألا أخبركم بخير الناس؟» رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله» قال الترمذي هذا حديث حسن، وروى الخلال بإسناده عن الحسن قال: قال رسول الله : «والذي نفسي بيده مابين السماء والأرض من عمل أفضل من جهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة، لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال» ولأن الجهاد بذل المهجة والمال ونفعه يعم المسلمين كلهم صغيرهم وكبيرهم قويهم وضعيفهم ذكرهم وأنثاهم وغيره لا يساويه في نفعه وخطره فلا يساويه في فضله وأجره.
مسألة: قال: (وغزو البحر أفضل من غزو البر).
وجملته: أن الغزو في البحر مشروع وفضله كثير قال أنس بن مالك: «نام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك قالت أم حرام: فقلت ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة» متفق عليه.
قال ابن عبد البر: أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم خالة رسول الله من الرضاعة أرضعته أخت لهما ثالثة. ولم نر هذا عن أحد سواه وأظنه إنما قال هذا لأن النبي كان ينام في بيتها وينظر إلى شعرها، ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب .
وروى أبو داود بإسناده عن أم حرام عن النبي أنه قال: «المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغريق له أجر شهيدين» ......ولأن البحر أعظم خطراً ومشقة. فإنه بين العدو وخطر الغرق. ولا يتمكن من الفرار إلا مع أصحابه فكان أفضل من غيره.
فصل
وقتال أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم. وكان ابن المبارك يأتي من مرو لغزو الروم فقيل له في ذلك؟ فقال: إن هؤلاء يقاتلون على دين ) المغني
فصل
بيان أن الجهاد في سبيل الله نوعان
واعلم أن الجهاد في سبيل الله تعالى نوعان :
أحدهما :
جهاد الطلب : وهو فرض كفاية ، إن قام به من تحصل بهم مقاصد هذا النوع ، سقط التكليف به عن سائر أهل الإسلام ، وإن لم يقم به أحد ، أثموا جميعا ، وسلط الله عليهم الهوان ، وعوقبوا بزوال النعم ، وحلول النقم ، وظهور الأعداء ، وذهاب ما هم فيه من العز ، عياذا بالله تعالى .(/1)
وهدف هذا النوع هو : قتال من يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله تعالى ، وهذا التعريف أوضح وأبين وأدل على مقصود جهاد الطلب ، من قول من عرفه بأنه قتال من يمنع انتشار الدعوة الإسلامية .
ذلك أن الله تعالى شرع الجهاد لتكون كلمة الله تعالى هي العليا في الأرض كلها كما قال تعالى ( ويكون الدين كله لله ) ، وبتعبير عصري : يكون النظام الدولي خاضعا لشريعة الله تعالى ، بمعنى أن يكون لدين الإسلام اليد العليا على العالم أجمع ، وإنما يكون ذلك ، إذا كانت دولة الإسلام هي الظاهرة في الأرض على سواها ، وشأنها هو الأعلى على كل ما عداها ، هذا هو مقصد جهاد الطلب قال تعالى ( وأنتم الاعلون أن كنتم مؤمنين ) .
فمن قاتلنا ليمنعنا من تحقيق هذا المقصد الإلهي ، قاتلناه ، وذلك في الأرض كلها .
والدليل على هذا الحكم الإلهي : قوله تعالى ( وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين لله ) وقال ( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) .
كما يدل عليه الإجماع القديم ، فقد عمل الصحابة رضي الله عنهم بهذه الآية ، فقاتلوا من يليهم من الكفار حتى بلغوا أقاصي الأرض ، فلم يذروهم حتى يسلموا أو يؤتوا الجزية ، وإنما هي ـ أعني الجزية ــ تعبير عن الإقرار منهم بعلو كلمة الإسلام عليهم ، وظهور شريعة الله تعالى على دولتهم ، وبهذا تذل راية الكفر ويكون شأنها خاسرا ، وينقلب دين الشيطان صاغرا ، وتنجو البشرية من كيد إبليس الرجيم ، وتنعم بالهدى والرحمة في ظلال هذا الدين القويم .
ومما يدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم :
( اغزوا باسم الله ، وفي سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ، ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولاتمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ، فإيتهن ما أجابوك ، فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك ، فاقبل منهم ، وكف عنهم .... فإن هم أبوا فسلهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ) رواه مسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة رضي الله عنه .
ومما ينبغي التنبيه عليه ، أن هذا النوع لا يسقط إن رفض الحاكم نصب رايته ، بل هو شريعة ماضية إلى يوم القيامة ، ولاطاعة لمخلوق في معصية الخالق ، غير أنه يسقط في حالة العجز فقط ، لقوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ويجب على المسلمين أن يعدو العدة للقيام بهذا الواجب ، ويرفعوا عنهم حالة العجز عن القيام به ، فإن فرطوا في ذلك أثموا جميعا ، لان في تفريطهم إعانة منهم على سقوط هيبة دينهم ، وغلبة الكفار عليهم .
قال في مغني المحتاج ( للكافر حالان ، أحدهما : يكونون ببلادهم مستقرين بها ، غير قاصدين شيئا من بلاد المسلمين ، ففرض كفاية ...) 4/209
وقال ابن قدامة في المغني ( الجهاد من فروض الكفايات في قول عوام أهل العلم ) 10/364 ، ويعني جهاد الطلب .
وقال الشوكاني في السيل الجرار ( الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابا وسنة أكثر من أن تكتب هاهنا ، ولكن لايجب إلا على الكفاية ، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عيني على كل مكلف ) 4/515
وقال ( وأما غزو الكفار ، ومناجزة أهل الكفر ، وحملهم علىالاسلام ، أو تسليم الجزية ، أو القتل ، فهو معلوم من الضرورة الدينية ... وما ورد في موادعتهم ، أو تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين ، بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال ، مع ظهور القدرة عليهم ، والتمكن من حربهم ، وقصدهم ديارهم ) المصدر السابق 4/518
وعامة العلماء على أن هذا الواجب يتحقق بأن يغزو المسلمين الكفار في عقر دارهم مرة في العام على الأقل ، قال في مغني المحتاج ( أقل الجهاد مرة في السنة ، كإحياء الكعبة ، ولقوله تعالى ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) قال مجاهد : نزلت في الجهاد ، ولفعله صلى الله عليه وسلم منذ أمر به ، ولان الجزية تجب بدلا عنه ، وهي واجبة في كل سنة فكذا بدلها ، ولانه فرض يتكرر ، وأقل ما وجب المتكرر في كل سنة كالزكاة والصوم ، فإن زاد على مرة فهو أفضل ) 4/209
وقال بعض العلماء ، يجب كلما أمكن ، قال ابن حجر ( ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور ، ومن حجتهم : أن الجزية تجب بدلا عنه ، ولاتجب في السنة أكثر من مرة اتفاقا ، فليكن بدلها كذلك ، وقيل : يجب كلما أمكن ، وهو قوي ) فتح الباري 6/38
وأما النوع الثاني من نوعي الجهاد فهو :(/2)
جهاد الدفع : وهو الذي يدفع به عدوان الكفار على أرض الإسلام ، أوعلى دماء المسلمين أو أعراضهم أو حرماتهم ، وهو فرض عين على كل قادر محتاج إليه لرد العدوان ، والدليل عليه قوله تعالى : ( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ) ، فلا يجوز لاحد في موضع عدوان الكفار على المسلمين ، أن يتخلف عن بذل مهجته لدفع عدوان الكافرين على المسلمين ، فإن لم يغن أهل ذلك الموضع ، واحتيج إلى مدد آخر ، وجب على من يليهم أعانتهم على عدوهم ، فإن لم يغنوا ، وجب على من يليهم ، وهكذا حتى يجب ذلك على آخر نفس من المسلمين .
ولا يجوز للمسلمين بإجماع العلماء ، أن يسلموا أمرهم طواعية إلى الكفار ، أو أن يرضوا بعلو الكافرين على المسلمين ، أو يقروهم على احتلال الأرض التي ظهرت عليها يد الإسلام ، فإن لم يكن للمسلمين طاقة بقتال الكفار ، هادنوهم ريثما تحصل لهم القوة على عدوهم ، ويجب عليهم في هذه الحال ، أن يعدوا العدة للجهاد للخلاص مما هم فيه من ظهور كلمة الكفار عليهم ، فإن لم يفعلوا وركنوا إلى ما هم فيه من الذل والهوان ، تحت حكم الكافرين ، يحكمون فيهم بشريعة الكفر ، بدل شريعة الإسلام ، عوقبوا بسبب خذلانهم للإسلام ، بألوان الفتن والفساد ، وشتت الله أمرهم ، وضرب قلوب بعضهم ببعض ، وظهرت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله تعالى ، كما عاقب الله تعالى بني إسرائيل على الذنب نفسه ، وحكى ذلك في القرآن العظيم ، في غير موضع .
قال الإمام النووي : ( قال أصحابنا : الجهاد اليوم فرض كفاية إلا أن ينزل الكفار ببلد مسلم فيتعين عليهم الجهاد ، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية وجب على من يليهم تتميم الكفاية ) شرح النووي 8/63
وقال أبو بكر الجصاص : ( ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خالف أهل الثغور من العدو ، ولم تكن فيهم مقاومة فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين ،وهذا لاخلاف فيه بين الأمة ) أحكام القرآن 4/312
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( إذا دخل العدو بلاد الإسلام ، فلاريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب ، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة ) الاختيارات العلمية .
هذا ويصير الجهاد فرض عين أيضا إذا استنفر الإمام شخصا أو طائفة فيجب عليهم النفير ، كما يكون فرض عين عند حضور القتال ، لان التولي عند الزحف من الموبقات .
فصل
بيان مقاصد الجهاد كما حكاها القرآن العظيم :
1ـ تعريض المؤمنين لابتغاء الدرجات العلا من الجنة قال تعالى ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) آل عمران 142
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، ما بين الدرجتين ، كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ) رواه البخاري .
2ـ تمحيص المؤمنين قال تعالى : ( ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض ) محمد 4 ، وقال( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ) محمد 31 ، وقال ( وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) آل عمران 142
3ـ اتخاذ الله الشهداء قال تعالى ( إن يمسسكم قرح فقد مسح القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ) آل عمران 140
4 ـ إظهار الدين ، وإرغام أنف الكافرين قال تعالى ( فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ) التوبة 40
5ـ منع الفتنة وهي الشرك من أن يكون ظاهرا في الأرض قال تعالى ( وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعلمون بصير ، وإن تولوا فإن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ) الأنفال 40
6ـ كف بأس الكفار عن المسلمين قال تعالى ( فقاتل في سبيل الله لاتكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله اشد بأسا وأشد تنكيلا ) النساء 84 ، وقال ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) الحج 40
7ـ عقوبة الكافرين على كفرهم وامتناعهم عن العبودية لله بإذلالهم لعباد الله المؤمنين ، قال تعالى ( ويمحق الكافرين ) آل عمران 140 ، قال تعالى ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ) الأنفال 40 ، وقال ( فريقا تقتلون وتأسرون فريقا ) الأحزاب 26
8ـ شفاء صدور المؤمنين وإذهاب غيظهم ، قال تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم ) 15 التوبة .(/3)
9ـ إرهاب قلوب الكفار من دين الإسلام قال تعالى ( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) الأنفال 60
10 ـ الانتقام من عدوان الكافرين على المسلمين ( وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) البقرة 192
12ـ رزق الله المؤمنين من الجهاد قال تعالى ( وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا ) الأحزاب 27 وقال ( وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما ) الفتح 20
وقال صلى لله عليه وسلم ( بعثت بين يدي الساعة بالسيف ، حتى يعبد الله وحده لاشريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) رواه أحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنه
13ـ فضح المنافقين ، قال تعالى ( وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم .. الآية ) آل عمران 167 قال تعالى ( ويقول الذين آمنوا لولا أنزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ، رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف ، فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ) محمد 20
14ـ نصر المؤمنين ، قال تعالى ( وان استنصروكم في الدين فعليكم النصر ) الأنفال 72
15ـ ظهور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ، لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف والنهي عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) الحج 39ـ 41
فصل
بيان ما ورد في فضائل الجهاد في السنة المطهرة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أفضل ؟ قال : إيمان بالله ورسوله
قيل : ثم ماذا ؟ قال :
الجهاد في سبيل الله
قيل : ثم ماذا ؟
قال : حج مبرور
متفق عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أي الناس أفضل ؟ قال : مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ، قال : ثم من ؟ قال : ثم مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ، ويدع الناس من شره )
متفق عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن سبرة بن الفاكه رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال :إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام ، فقال : تسلم وتذر دينك ودين آبائك ؟ فعصاه ، فقعد له بطريق الهجرة ، فقال له : تهاجر وتذر دارك وأرضك وسماءك ؟ فعصاه فهاجر ، فقعد له بطريق الجهاد ، فقال : تجاهد وهو جهد النفس والمال ، فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ؟ فعصاه فجاهد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فمن فعل ذلك فمات ، كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وإن وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة ) رواه النسائي وابن حبان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي هريرة رضي الله عنه ( مر رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعشب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته ، فقال : لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله ، أفضل من صلاته في بيته ستين عاما ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة ؟ اغزوا في سبيل الله ، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة ، وجبت له الجنة ) رواه الترمذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( مقام أحدكم في الصف في سبيل الله أفضل عند الله من عبادة الرجل ستين سنة ) رواه الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل : يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال لا تستطيعونه ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا ، كل ذلك يقول : لا تستطيعونه ، ثم قال : مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله ، ولا يفتر من صلاة ولاصيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ) متفق عليه
وفي رواية للبخاري ( أن رجلا قال : يا رسول الله ، دلني على عمل يعدل الجهاد ، قال لا أجده ، ثم قال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر ، وتصوم ولاتفطر ؟(/4)
فقال : ومن يستطيع ذلك ؟ قال أبو هريرة : فإن فرس المجاهد ليستن ، يمرح في طوله ، فيكتب له حسنات )
والطول هو الحبل الذي يشد به الفرس ،ويستن أي يعدو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ، وجبت له الجنة ، فعجب لها أبو سعيد ، فقال :أعدها علي يا رسول الله ، فأعادها ، ثم قال : وأخرى يرفع الله بها للعبد مائة درجة في الجنة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، قال : وماهي يا رسول الله ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ) رواه مسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي بكر بن أبي موسى الاشعري قال : سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف ، فقال رجل رث الهيئة ، فقال : يا أبا موسى ، أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال : نعم ، فرجع إلى أصحابه ، فقال : أقرأ عليكم السلام ، ثم كسر جفن سيفه فألقاه ، ثم مشى بسيفه إلى العدو ، فضرب به حتى قتل ) رواه مسلم
وعن البراء رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد ، فقال : يا رسول الله ، أقاتل أو أسلم ؟ قال : أسلم ثم قاتل ، فأسلم ثم قاتل ، فقتل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمل قليلا وأجر كثيرا ) متفق عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أنس رضي الله عنه : أنطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر ، وجاء المشركون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يتقدمن أحد منهم إلى شيء حتى أكون أنا دونه ، فدنا المشركون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض ، قال عمير بن الحمام : يا رسول الله أجنة عرضها السموات والأرض ؟ قال نعم : قال بخ بخ ، قال صلى الله عليه وسلم : ما يحملك على قولك : بخ بخ ؟
قال : لا والله يا رسول الله ، إلا رجاء أن أكون من أهلها ، قال :
إنك من أهلها ، فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهن ، ثم قال : إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل : رضي الله عنه ) رواه مسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم ( لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا ) رواه مسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله عز وجل ، المجاهد في سبيلي هو علي ضامن ، إن قبضته أورثته الجنة ، وإن رجعته رجعته بأجر أو غنيمة ) رواه الترمذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من جاهد في سبيل الله كان ضامنا على الله ، ومن عاد مريضا كان ضامنا على الله ، ومن غدا إلى المسجد أو راح كان ضامنا على الله ، ومن دخل على إمام يعزره كان ضامنا على الله ، ومن جلس في بيته لم يغتب إنسانا كان ضامنا على الله ) رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عبد الله بن حبشي الخثعمي رضي الله عنها :
أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال :
إيمان لاشك فيه ، وجهاد لاغلول فيه ، وحجة مبرورة
قيل : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : جهد المقل
قيل : فأي الهجرة أفضل ؟ قال :
من هجر ما حرم الله
قيل : فأي الجهاد أفضل ؟ قال :
من جاهد المشركين بنفسه وماله
قيل فأي القتل أشرف : قال :
من أهريق دمه ، وعقر جواده ) رواه أبو داود والنسائي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( جاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة ، ينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم ) رواه أحمد والحاكم وصحح إسناده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/5)
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم ( تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي ، وإيمان بي ، وتصديق برسلي ، فهو ضامن أنه أدخله الجنة ، أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه ، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة ، والذي نفس محمد بيده ما كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم ، لونه لون الدم ، وريحه ريح المسك ، والذي نفس محمد بيده ، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني ، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ) رواه مسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي المصبح المقرائي قال : بينما نحن نسير بأرض الروم في طائفة عليها مالك بن عبد الله الخثعمي ، إذ مر مالك بجابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، وهو يقود بغلا له ، فقال له مالك : أي أبا عبد الله ! اركب فقد حملك الله ، فقال جابر : أصلح دابتي ، واستغني عن قومي ، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من اغبرت قدماه في سبيل الله ، حرمه الله على النار ، فسار حتى إذا كان حيث لم يسمعه الصوت نادى بأعلى صوته ، يا أبا عبد الله ، اركب فقد حملك الله ، فعرف جابر الذي يريد ، فقال : أصلح دابتي ، واستغني عن قومي ، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من اغبرت قدماه في سبيل الله ، حرمه الله على النار ، فتواثب الناس عن دوابهم ، فما رأيت يوما أكثر ماشيا منه ) رواه ابن حبان وأبو يعلى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عائشة رضي الله عنها قال صلى الله عليه وسلم ( ما خالط قلب امريء رهج في سبيل الله ، إلا حرم الله عليه النار ) رواه أحمد ، والرهج الغبار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
إخلاص النية في الجهاد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي موسى رضي الله عناه : أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل للذكر ، والرجل يقاتل ليرى مكانه ، فمن في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو في سبيل الله ) متفق عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلا قال : يا رسول الله رجل يريد الجهاد ، وهو يريد عرضا من الدنيا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أجر له ، فأعظم ذلك الناس ، فقالوا للرجل : عد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعلك لم تفهمه ، فقال الرجل : يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله ، وهو يبتغي عرضا من الدنيا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا أجر له )
فأعظم ذلك الناس وقالوا : عد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له الثالثة : رجل يريد الجهاد في سبيل الله ، وهو يبتغي عرضا من الدنيا ؟ فقال ( لا أجر له ) رواه أبو داود وابن حبان والحاكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ، ماله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاشيء له ، فأعادها ثلاث مرات ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاشيء له ، ثم قال : إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه ) رواه أبو داود والنسائي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الغزو غزوان : فأما ما ابتغي به وجه الله ، وأطاع الإمام ، وأنفق الكريمة ، وياسر الشريك ، واجتنب الفساد ، فإن نومه وتنبهه أجر كله ، وأما من غزا فخرا ورياء وسمعة ، وعصى الإمام ، وأفسد في الأرض ، فإنه لن يرجع بالكفاف ) رواه أبو داود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالا ، فله ما نوى ) رواه النسائي وابن حبان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : عن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد ، فأتي به ، فعرفه نعمه ، فعرفها ، قال : فما عملت بها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قالوا : كذبت ، ولكن قاتلت لان يقال : هو جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به ، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ..... ) رواه مسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/6)
وعن شداد بن الهاد رضي الله عنه : أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ، ثم قال : أهاجر معك ، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ، فلما كانت غزاة ، غنم النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ، وقسم له ، فأعطى أصحابه ما قسم له ، وكان يرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوه إليه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذا ؟ قال : ( قسمته لك ) ، قال : ماعلى هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمي إلى هاهنا ــ وأشار إلى حلقه ـ بسهم فأموت ، فأدخل الجنة ، فقال : إن تصدق الله يصدقك
فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو ، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحمل : قد أصابه سهم حيث أشار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أهو هو ؟ قال : نعم ، قال : ( صدق الله فصدقه ) ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته التي عليه ، ثم قدمه فصلى عليه ، وكان مما ظهر من صلاته : اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك ، فقتل شهيدا ، أنا شهيد على ذلك ) رواه النسائي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
فضل الرباط في سبيل الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها ، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها ) متفق عليه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن سلمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل ، وأجري عليه رزقه ، وأمن من الفتان ) رواه مسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله ، فإنه يمنى له عمله إلى يوم القيامة ، ويؤمن من فتنة القبر ) رواه أبو داود والترمذي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان في الرباط ففزعوا إلى الساحل ، ثم قيل : لا بأس ، انصرف الناس وأبو هريرة واقف ، فمر به إنسان ، فقال : ما يوقفك يا أبا هريرة ، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : موقف ساعة في سبيل الله : خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود ) رواه ابن حبان والبيهقي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
فضل الحراسة في الجهاد في سبيل الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( تعيس عبد الدينار ، وعبد الدرهم ، وعبد الخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فل اانتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة ، كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع ) رواه البخاري .
ومعنى إذا شيك فلاانتقش ، أي إذا دخلت فيه شوكة فعسى أن لا تنتزع ، دعاء عليه بأن يصاب بمصيبة ولا يجبر منها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعنه رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم ( من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ، يطير على متنه ، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه ، يبتغي القتل أو الموت مظانه ، ورجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعاف ، أو بطن واد من الأودية ، يقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، ويبعد ربه حتى يأتيه اليقين ، ليس من الناس إلا في خير ) رواه مسلم والنسائي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أم مالك البهزية رضي الله عنها قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقربا ، قالت : قلت يا رسول الله من خير الناس فيها ؟ قال : رجل في ماشية يؤدي حقها ، ويعبد ربه ، ورجل آخذ برأس فرسه يخيف العدو ويخيفونه ) رواه الترمذي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم ( عينان لاتمسها النار ، عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) رواه الترمذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا أنبئكم بليلة القدر ؟ حارس حرس في أرض خوف ، لعله أن لا يرجع إلى أهله ) رواه الحاكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/7)
وعن سهل ابن الحنظلية رضي الله عنه ( أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فأطنبوا السير ، حتى كان عشية ، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء فارس فقال : يا رسول الله ! إني انطلقت بين أيديكم ، حتى طلعت على جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم ، بظعنهم ونعمهم وشائهم ، اجتمعوا إلى حنين ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى ، ثم قال :
من يحرسنا الليلة ؟ قال أنس ابن أبي مرثد الغنوي : أنا يا رسول الله ! قال اركب فركب فرسا له ، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : استقبل هذا الشعب حتى تكون أعلاه ، ولا نغرن من قبلك الليلة ، فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال : أحسستم فارسكم ؟
قالوا : ما أحسسناه ، فثوب بالصلاة ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، وهو يلتفت إلى الشعب ، حتى إذا قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال : أبشروا فقد جاء فارسكم
فجعلنا ننظر من خلال الشجر في الشعب ، فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب ،حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحت اطلعت الشعبين كلاهما ، فنظرت فلم أر أحدا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل نزلت الليلة ؟
قال : لا ، إلا مصليا أو قاضي حاجة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أوجبت ، فلا عليك أن لا تعمل بعدها )
رواه النسائي وأبو داود .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
فضل تجهيز الغازي والنفقة على أهله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن خريم بن فاتك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أنفق نفقة في سبيل الله ، كتبت له بسبعمائة ضعف ) رواه النسائي والترمذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا ) متفق عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان : ليخرج من كل رجلين رجل ، ثم قال للقاعد : أيكم خلف الخارج في أهله فله مثل أجره ) رواه مسلم وأبو داود .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
فضل الرمي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) ألا إن القوة الرمي ، إلا إن القوة الرمي ، إلا إن القوة الرمي ) رواه مسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي نجيح عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من بلغ بسهم فهو له درجة في الجنة فبلغت يومئذ ستة عشر سهما ) رواه النسائي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي نجيح عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من شاب شيبة في الإسلام ، كانت له نورا يوم القيامة ، ومن رمى بسهم في سبيل الله فبلغ به العدو أو لم يبلغ ، كان له كعتق رقبة ، ومن أعتق رقبة مؤمنة ، كانت فداءه من النار عضوا عضوا ) رواه النسائي
هذا ويقوم الرصاص في هذا العصر مقام السهم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن كعب بن مرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( من بلغ العدو بسهم ، رفع الله له درجة
فقال له عبد الرحمن بن النحام : وما الدرجة يا رسول الله ؟ قال :
إما أنها ليست بعتبة أمك ، ما بين الدرجتين مائة عام
رواه النسائي وابن حبان في صحيحة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم الرمي ثم تركه فليس منا رواه مسلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
فضل الغزاة في البحر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أنس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان ، فتطعمه كانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته ، ثم جلست تفلي رأسه ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استيقظ وهو يضحك :
قالت : فقلت يا رسول الله ، ما يضحكك ؟ قال :(/8)
ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ، ملوكا على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة .
قالت : فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ، ثم وضع رأسه فنام : فاستيقظ وهو يضحك .
قالت : فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟! قال :
ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله ـ كما قال في الأولى ـ
قالت : قالت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم : قال :
أنت مع الأولين ، فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية ، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت ، رضي الله عنها . متفق عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أم حرام رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد ، والغريق له أجر شهيد ) رواه أبو داود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
فضل الشهادة في سبيل الله
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم :
( ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد ، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا ، فيقتل عشر مرات ، لما يرى من الكرامة ، وفي رواية : لما يرى من فضل الشهداء ) متفق عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعنه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله له : يا ابن آدم ، كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أي رب! خير منزل ، فيقول : سل وتمنه ، فيقول : وما أسألك وأتمنى ؟ أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات ، لما يرى من فضل الشهادة ) رواه النسائي والحاكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم ، فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال ، فقال رجل فقال : يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب ، مقبل غير مدبر
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كيف قلت ) ؟
قال : أرأيت إن قتلت في سبيل الله ، أتفكر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم إن قتلت أنت صابر محتسب ، مقبل غير مدبر ، إلا الدين ، فإن جبرائيل قال لي ذلك ) رواه مسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أنس رضي الله عنه قال : غاب عمي انس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله ، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد ، وانكشف المسلمون ، فقال لهم:
اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يريد أصحابه ـ وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني المشركين ــ ، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فقال : يا سعد بن معاذ ، الجنة ورب النضر ، إني أجد ريحها دون أحد ، قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ، قال أنس : فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ، وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه .
فقال أنس : كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) إلى آخر الآية . متفق عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة ، فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل ، لم أر قط أحسن منها ، قالا لي : أما هذه فدار الشهداء ) رواه البخاري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال :
جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مثل به، فوضع بين يديه ، فذهبت أكشف عن وجهه ، فنهاني قومي ، فسمع صوت صارخة ، فقيل : ابنة عمرو ، أو أخت عمرو ، فقال :
لم تبكي ؟ ـ أو فلا تبكي ــ ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها ) متفق عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :
لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا جابر ألا أخبرك ماقال الله لأبيك ؟
قلت : بلى ، قال :
ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب ، وكلم أباك كفاحا ، فقال : يا عبد الله ! تمن علي أعطك ، قال : يارب تحييني فأقتل فيك ثانية ، قال : إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون ، قال : يارب ! فأبلغ من ورائي ، فأنزل الله هذه الآية ( ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) الآية كلها )
رواه الترمذي وابن ماجة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/9)
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان في غزوة مؤتة قال : فالتمسنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، فوجدناه في القتلى ، فوجدنا بما أقبل من جسده بعضا وتسعين بين ضربة ورمية وطعنة ) رواه البخاري .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أنس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا وجعفرا وعبد الله بن رواحة ، ودفع الراية إلى زيد فأصيبوا جميعا ، قال أنس : فنعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يجيء الخبر ، فقال : ( أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن أبي رواحة فأصيب ، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله : خالد بن الوليد ) فجعل يحدث الناس وعيناه تذرفان .
وفي رواية قال ( وما يسرهم أنهم عندنا ) رواه البخاري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله ! أي الجهاد أفضل ؟ قال :
أن يعقر جوادك ، ويهراق دمك ) رواه ابن حبان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة ) رواه الترمذي والنسائي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة ، أو شجر الجنة) رواه الترمذي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته ) رواه أبو داود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه ـ كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
القتلى ثلاثة : رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله ، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل ، فذلك الشهيد الممتحن في جنة الله تحت عرشه ، لا يفضله النبيون إلا بفضل درجة النبوة .
ورجل فرق على نفسه من الذنوب والخطايا ، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله ، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل ، فتلك ممصمصة محت ذنوبه وخطاياه ، إن السيف محاء للخطايا ، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء ، فإن لها ثمانية أبواب ، ولجهنم سبعة أبواب ، وبعضها افضل من بعض ، ورجل منافق جاهد بنفسه وماله ، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل ، فذلك في النار ، إن السيف لا يمحو النفاق ) رواه أحمد وابن حبان
ومعنى فذلك الشهيد الممتحن ، أي المصفى الذي محيت ذنوبه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن نعيم بن همار رضي الله عنه :
أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الشهداء أفضل ؟ قال : الذين إن يلقوا في الصف ، لا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا ، أولئك ينطلقون في الغرف العلا في الجنة ، ويضحك إليهم ربهم ، وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا ، فلا حساب عليه ) رواه أحمد وأبو يعلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(أفضل الجهاد عند الله يوم القيامة الذين يلتقون في الصف الأول ، فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا ، أولئك يتلبطون في الغرف من الجنة ، يضحك إليهم ربك ، وإذا ضحك ربك إلى قوم فلاحساب عليهم ) رواه الطبراني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إن للشهيد عند الله سبع خصال : أن يغفر الله له في أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حلة الإيمان ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوته منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه ) رواه أحمد ، ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه من غير قوله ( يحلى حلة الإيمان ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن ابن عباس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم ( لما أصيب إخوانكم ،جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، تأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب ، معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم ، قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق ، لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب ؟ فقال الله تعالى : أنا أبلغهم عنكم ، قال : فأنزل الله تعالى ( ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) إلى آخر الآية ) رواه أبو داود والحاكم(/10)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ( أن رجلا قال : يا رسول الله ! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة ) رواه النسائي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أنس رضي الله عنه : أن رجلا أسود أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إني رجل أسود منتن الريح ، قبيح الوجه ، لا مال لي ، فإن أنا قاتلت هؤلاء حتى أقتل ، فأين أنا ؟ قال : في الجنة ، فقاتل حتى قتل ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( قد بيض الله وجهك وطيب ريحك وأكثر مالك )
وقال لهذا أو لغيره :
( فلقد رأيت زوجته من الحور العين نازعته جبة له من صوف ، تدخل بينه وبين جبته ) رواه الحاكم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن عمر رضي الله عنهما :
أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بخباء أعرابي وهو في أصحابه يريدون الغزو ، فرفع الأعرابي ناحية من الخباء ، فقال القوم : من القوم ؟ فقيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يريدون الغزو ، فقال : هل من عرض الدنيا يصيبون ؟ قيل له نعم : يصيبون الغنائم ، ثم تقسم بين المسلمين ، فعمد إلى بكر له فاعتقله ، وسار معهم ، فجعل يدنو ببكره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل أصحابه يذودون بكره عنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعو لي النجدي ، فوالذي نفسي بيده إنه لمن ملوك الجنة .
قال : فلقوا العدو ، فاستشهد ، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فقعد عند رأسه مستبشرا ـ أو قال مسرورا ــ يضحك ، ثم أعرض عنه ، فقلنا يا رسول الله ! رأيناك مستبشرا ، تضحك ، ثم أعرضت عنه ؟ فقال ( أما ما رأيتم من استبشاري ـ أو قال سروري ــ فلما رايت من كرامة روحه على الله عز وجل ، وأما إعراضي عنه ، فإن زوجته من الحور العين الآن عند رأسه ) رواه البيهقي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أنس رضي الله عنه : أن أم الربيع بنت البراء ـ وهي أم حارثة بن سراقة ـ أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ألا تحدثني عن حارثة ـ وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب ـ فإن كان في الجنة صبرت ، وإن كان غير ذلك ، اجتهدت عليه بالبكاء ، فقال : يا أم حارثة ، إنها جنان في الجنة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى) رواه البخاري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عجب ربنا تبارك وتعالى من رجل غزا في سبيل الله فانهزم ـ يعني ـ أصحابه فعلم ما عليه ، فرجع حتى أهريق دمه ، فيقول الله عز وجل لملائكته : انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ، وشفقة مما عندي ، حتى أهريق دمه ) رواه أبو داود وأحمد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أنس رضي الله عنه قال : (جاء أناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة ، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار ، يقال لهم : القراء ، فيهم خالي حرام ، يقرؤن القرآن ويتدارسونه بالليل يتعلمونه ، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ، ويحتطبون فيبيعونه ، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء ، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، فعرضوا لهم ، فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان ، فقالوا : اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ، ورضيت عنا .
قال : وأتى رجل ( حراما ) خال أنس من خلفه ، فطعنه برمح حتى أنفذه ، فقال حرام : فزت ورب الكعبة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه :
إن إخوانكم قد قتلوا ، وإنهم قالوا : اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا ) متفق عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن مسروق قال :
سألنا عبد الله عن هذه الآية ( ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، يسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة ، فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يارب ، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا ) رواه مسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
فضل سؤال الله الشهادة بصدق وجراح المجاهد(/11)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من سأل الله تعالى الشهادة بصدق ، بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن معاذ رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من قاتل في سبيل الله فواق ناقة ، فقد وجبت له الجنة ، ومن سأل الله القتل في نفسه صادقا ثم مات أو قتل ، فإن له أجر شهيد ، ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة ، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت ، لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ) رواه أبو داود والترمذي .
ومعنى فواق ناقة : ما بين رفع اليد عن الضرع ووضعها ، وقيل ما بين الحلبتين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
تحريم الفرار يوم الزحف وأنه من الموبقات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا يا رسول الله ، وماهن ؟ قال : ( الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) متفق عليه
هذا وليس من التولي الفر للكر ، والانتقال من جانب إلى جانب في أرض المعركة ، طلبا لخداع العدو ، كأن ينهزم ليتبعه العدو ، وكذلك ليس منه الانحياز إلى فئة أي إلى جماعة من المسلمين غير المقابلة للعدو .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
تحريم أن يموت الإنسان ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو
وفضل الاقتحام على العدو ابتغاء الشهادة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي عمران رضي الله عنه قال : كنا بمدينة الروم ، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد ، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس ، وقالوا : سبحان الله ! يلقي بيديه إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب فقال : أيها الناس ، إنكم لتأولون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ، لما أعز الله الإسلام ، وكثر ناصروه ، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله تعالى قد أعز الإسلام ، وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا ، وأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله تعالى على نبيه ما يرد علينا ما قلناه : ( وأنفقوا في سبيل الله ولاتلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) وكانت التهلكة : الإقامة على الأموال وإصلاحها ، وتركنا الغزو ، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم ) رواه الترمذي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم :
( إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ،وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أبو داود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : ( من مات ولم يغز ومن يحدث نفسه ،مات على شعبة من النفاق ) رواه مسلم وأبو داود والنسائي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي أمامه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من لم يغز ، أو يجهز غازيا ، أو يخلف غازيا في أهله بخير ، أصابه الله تعالى بقارعة قبل يوم القيامة ) رواه أبو داود وابن ماجة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل
فضل من قتل دون دينه أو ماله أو دمه أو أهله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك
قال : ارأيت أن قاتلني
قال : قاتله
قال : أرايت عن قتلني ؟
قال : فأنت شهيد
قال : أرأيت إن قتلته ؟
قال : هو في النار
رواه مسلم(/12)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمت الرسالة بحمد الله تعالى وتوفيقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حكم معاهدة السلام التي دعت إليها القمة العربية
الجواب على سؤال السائل عن حكم معاهدة السلام مع اليهود التي دعت إليها القمة العربية :
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
المعاهدة المذكورة ، باطلة مناقضة لشريعة الإسلامية ، لأنها مبنية على أساس باطل كما سنبينه ، ولأنها تتضمن شروطا تخالف الشريعة الإسلامية .
ومع أن الشريعة الإسلامية تجيز الصلح مع الأعداء إذا اقتضت ذلك المصلحة:
كما قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) :
( وإن جنحوا أي مالوا ، للسلم أي فمل إليها ، واقبل منهم ذلك ، ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية ـ الصلح ووضع الحرب بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم تسع سنين أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الآخر .. وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني ، وعكرمة والحسن وقتادة إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر .. الآية ) وفيه نظر أيضا لان أية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إذا كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه الآية الكريمة ، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم ) 4/196
وكما قال ابن حجر ( إن الأمر بالصلح مقيد بما إذا كان الاحظ للإسلام المصالحة ، أما إذا كان الإسلام ظاهرا على الكفر ، ولم تظهر المصلحة في المصالحة فلا ) فتح الباري 6/275
ـــــــــــــــ
مع ذلك ، غير أنه لا يجوز أن تكون الهدنة مؤبدة بإجماع العلماء ، وإنما يجوز أن تكون موقتة ، إلى أن يتهيأ للمسلمين معاودة ما افترض الله عليهم من الجهاد.
ــــــــــــــ
كما قال في كشاف القناع عن الهدنة مع العدو :
هي شرعاً (العقد على ترك القتال مدة معلومة) بقدر الحاجة فإنْ زادت بطلت في الزيادة فقط. والأصل فيها قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} ومن السنّة ما روى مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أنّ النبيّ صالح قريشاً على وضع القتال عشر سنين، والمعنى يقتضي ذلك. لأنّه يكون بالمسلمين ضعف، فيهادنونهم حتّى يقووا. (بعوض) منهم أو منّا عند الضرورة كما يأتي (وبغير عوض) بحسب المصلحة لفعله .
وقال : (ولا تصحّ) الهدنة (إلاّ حيث جاز تأخير الجهاد) لمصلحة (فمتى رأى) الإمام أو نائبه (المصلحة في عقدها لضعف في المسلمين عن القتال، أو لمشقة الغزو أو لطمعه في إسلامهم، أو في أدائهم الجزية أو غير ذلك) من المصالح (جاز) له عقدها.
وقال أيضا : ((مدة معلومة) لأنّ ما وجب تقديره. وجب أنْ يكون معلوماً كخيار الشرط. (ولو فوق عشر سنين) لأنّها تجوز في أقل من عشر، فجازت في أكثر منها كمدة الإجارة، ولأنّه إنّما جاز عقدها للمصلحة فحيث وجدت جازت تحصيلاً للمصلحة. (وإنْ هادنهم مطلقاً) بأنْ لم يقيد بمدة لم يصح، لأنّ الإطلاق يقتضي التأييد، وذلك يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية وهو غير جائز.
(وإنْ نقضوا) أيْ المهادنون (العهد بقتال أو مظاهرة) أيْ معاونة عدونا علينا، (أو قتل مسلم، أو أخذ مال انتقض عهدهم وحلت دماؤهم وأموالهم وسبي ذراريهم) لأنّه : «قتل رجال بني قريظة حين نقضوا عهده وسبى ذراريهم وأخذ أموالهم». ولما هادن قريشاً فنقضوا عهده حلّ له منهم ما كان حرم عليه منهم. (وإنْ نقض بعضهم) العهد (دون بعض فسكت باقيهم عن الناقض) للعهد (ولم يوجد منهم إنكار) على الناقض (ولا مراسلة الإمام) في شأنه (ولا تبر) ؤ منه، (فالكل ناقضون) للعهد لرضاهم بفعل أولئك،
(وإنْ شرط) العاقد للهدنة (فيها شرطاً فاسداً كنقضها متى شاء أو ردّ النساء المسلمات) إليهم بطل الشرط فقط لمنافاته لمقتضى العقد.
ـــــــ
وهذا الذي ذكره الحنابلة هو مذهب جماعة الفقهاء من المذاهب لا يختلفون في أنه لا يجوز للمسلمين أن يهادنوا العدو ـ حتى لو لم يكن محتلا لارض المسلمين ــ على التأبيد ، وإنما يكون ذلك مؤقتا بمدة إن اقتضت ذلك المصلحة الشرعية ، كما لا يجوز أن يتضمن عقد الهدنة ما يخالف الشرع ، مثل وضع العداوة الدينية مع الكفار ، وإشاعة روح المحبة بين المؤمن والكافر كما يسمونه التطبيع ، ونحو ذلك .
ــــــ
أما إن كان محتلا لارض المسلمين كاليهود في فلسطين ، مثل معاهدة السلام التي وقعتها بعض الدول العربية ، ودعت إليها في مؤتمر القمة الأخير ، فهي مخالفة للشريعة الإسلامية من وجوه :
ـــــ(/13)
أحدها : أن معاهدة السلام المذكورة مفروضة على التأبيد وهو باطل كما ذكرت آنفا ، لأنها تفضي إلى ترك الجهاد المفروض ، كما قال تعالى ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) والله اعلم .
ــــ
الثاني : أنها تتضمن شروطا باطلة بإجماع العلماء ، منها التنازل عن ارض المسلمين لليهود إلى الأبد ، ومنحها إياهم بغير حق ، ومنها الدعوة إلى إسقاط العداوة مع اليهود ، وموالاتهم ، الأمر الذي حرمه الله تعالى وزجر عنه في القرآن أشد الزجر ، بل جعل من يواليهم مثلهم ، كما قال ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) .
ـــــ
الثالث : أن الذين وقعوا معاهدة السلام قادرون على محاربة اليهود ، حتى لو سلمنا أنهم لاطاقة لهم بحرب نظامية خشية أن الصليبيين سيقاتلون بكامل قوتهم المتفوقة مع اليهود ، لكنهم ـ أي الموقعون على معاهدة السلام ـ قادرون على حرب عدوهم بوسائل أخرى شتى ، منها دعم المجاهدين في فلسطين وإمدادهم بالسلاح ، ومنها منع النفط عن الدول المؤيدة لليهود ، ومنها المقاطعة الاقتصادية للدول الداعمة لليهود ، ومنها المقاطعة السياسة لها ، ريثما يتم الإعداد الشامل لجهاد العدو ، ومنه إعداد الأسلحة التي تكافئ ما عنده .
حتى لو فرض أنهم غير قادرين على ذلك كله ، الأمر المخالف للواقع ، فإنهم لامصلحة لهم في الجنوح للسلم ، فهم ينفعون أعداءهم بهذا الجنوح أكثر مما ينفعون الإسلام ، وبقاءهم في حالة حرب مع اليهود ، خير لهم وضرر محض على اليهود ، فلماذا إذن الجنوح للسلم ولا مصلحة فيه البتة .
غير أن هؤلاء الموقعين على معاهدة السلام ، جبنوا عن القيام بواجبهم ، وخلدوا إلى الأرض ، وركنوا إلى الشهوات ، وأحبوا الدنيا ، وكرهوا الموت في سبيل الله تعالى ، ثم زعموا أنهم لا يقدرون على قتال العدو ، وأن الله تعالى أباح لهم السلم معه ، وكذبوا ، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم ، ولم يرد الله تعالى أن يرفعهم بالجهاد ، ولا أن يكرمهم بالشهادة ، لانهم نبذوا دين الله وراء ظهورهم ، ولهذا لم يزل أعداؤهم يفضحونهم بالإذلال ، ولم تزل الأمة ساخطة عليهم ، تلعنهم ما تعاقب الليل والنهار .
ــــــ
الرابع : أنه حتى لو فرض صحة هذه المعاهدة ، فإن اليهود سينقضونها ، وهاهم يفعلون ذلك كل يوم مرات لا تحصى ، بإهراقهم دماء المسلمين الأبرياء ، حتى من غير المقاتلة من الشيوخ والعجائز والأطفال والنساء ، وهدمهم البيوت ، واستمرارهم في بناء المستوطنات والإمعان في سرقة أرض المسلمين ، واغتيالهم قادة الفلسطينيين في داخل فلسطين وخارجها ، واليهود معروفون بنقض العهود وإخلافها ، كما قال تعالى ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ) 100 البقرة .
فإذن التعاهد مع اليهود تصرف أخرق لا قيمة له البتة لانهم لاعهد لهم أصلا .
والعجب كيف يدعو زعماء العرب إلى سلام مع الذين يقتلون أبناء المسلمين كل يوم أمام مسمع ومرأى العالم كله ، ساخرين من تلك الزعامات ، نابذين ما عاهدوهم عليه وراء ظهورهم .
ـــــ
الخامس : أن الذين قد تعاهدوا مع اليهود من الزعماء ، وكذلك الآخرون الذين عرضوا عليهم المعاهدة ، لم يحتكموا إلى أحكام الشريعة الإسلامية أصلا ، ولم يرفعوا بها رأسا ، لان منهم لا يقر بوجوب التحاكم إلى ما أنزل الله تعالى في هذه القضية ، ومنهم من لا يبالي وافقت المعاهدة شرع الله أم لم توافق ، ولهذا فهم لا يسألون العلماء أصلا ولا يدخلونهم في هذا الشأن ، مما يدل على أن آخر ما يفكرون به موافقة حكم الله تعالى ، كما أنهم لم يراعوا المصلحة الشرعية أيضا ، وإنما اجتمعوا مع الكفار ، وتحاكموا إلى أهواءهم ، وجعلوا عجزهم وجبنهم وركونهم إلى الدنيا وكراهيتهم للجهاد في سبيل الله ، جعلوا ذلك الأساس الذي بنوا عليه تلك المعاهدة الباطلة .
ــــــ
وبهذا يتبين أن معاهدات السلام المزعومة مع اليهود ، باطلة من أسها ، فاسدة من أساسها ، لاقيمة لها عند أمة الإسلام ، لأنها مخالفة لكتاب الله تعالى الذي حذر من التخاذل عن الجهاد لان في ذلك إلقاء باليد إلى التهلكة ، وينهى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، ,ولان فيها شروطا تناقض القرآن وقد قال صلى الله عليه وسلم ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ) رواه البخاري ، ومخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومخالفة لاجماع العلماء الذين نصوا على بطلان التنازل المؤبد عن أرض الإسلام للأعداء ، وأن العهد المؤبد الذي يقتضي منع الجهاد مع الأعداء منعا مطلقا ، باطل مصادم لشريعة الله تعالى مصادمة ظاهرة لا تحتمل التأويل .
ــــــ(/14)
ولان اليهود بقتلهم المسلمين لا يبقى لهم عهد ولا ذمة ، ومن مد لهم يد السلام وهم يردون عليه بسفك دم أخيه المسلم ، فهو جبان جاهل لاخير فيه لنفسه إذ وضعها موضع الخزي أمام أخوة القردة والخنازير ، ولاخير فيه لدينه إذ جبن عن نصرته ، ولاخير فيه لامته إذ خذل اخوته في الدين وأسلمهم لأعدائهم .
ــــــ
ولهذا فسنة الله تعالى لن تخطيء هؤلاء الزعماء المتخاذلين ، وسيصيبهم الله بالقوارع والمصائب ، وأنواع من البلاء ، وسيسلط الله عليهم الذل والهوان ، وسيظهرهم في مظهر الخزي والعار ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، جزاء وفاقا ، ولا يظلم ربك أحدا ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
حامد بن عبد الله العلي محرم 1423هـ(/15)
إرشادات للطبيب المسلم
رئيسي :علم :الاثنين 2جمادى الأخرة 1425هـ - 19 يوليو 2004
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،أما بعد،،،
فإنني أشكر الله أن يسر اللقاء بكم معشر الأطباء، و أسأل الله أن يكون لقاءً مباركاً، وسأتكلم بما يسر الله حول هذا الموضوع
أنواع المرض:المرض نوعان:
1- مرض القلب: وهو مرض معنوي
2- مرض الجسم:وهو مرض حسي.
أولًا: مرض القلب:وهو أولى بالاجتناب والعناية؛ لأنه يترتب عليه الهلاك الأبدي، أو البقاء الأبدي.
شُعَب مرض القلب:ومرض القلب له شعبتان:
الشعبة الأولى: الجهل: فإن كثيراً من الناس يحب الخير ويسعى له، و لكن عنده جهل ، فيحصل من ذلك خطأ عظيم؛ ولهذا قال سفيان بن عيينة:'من فسد من عُبَّادِنَا، ففيه شبه من النصارى...' لأن النصارى أرادوا الخير ولكن ضلوا عنه، كما قال عز وجل:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [27]}[سورة الحديد] .
وقال سفيان:'...ومن فسد من علمائنا، ففيه شبه من اليهود' لأن اليهود علموا الحق ولكن خالفوا الحق، على هذا يدور مرض القلب.
وحينئذ نعلم أنه لابد لنا من العلم، ولابد لنا من الإذعان والقبول للشرائع وإلا لحصل الهلاك، هذا الهلاك ليس كهلاك الأبدان:
هلاك الأبدان عود على الأول:{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [55]}[سورة طه].
لكن هلاك القلوب: فقد الحياة؛ لأن الإنسان لم يستفد من وجوده في الدنيا، خسر الدنيا، ولن يستفيد في الآخرة، وما هي الحياة الحقيقة؟! هي حياة الآخرة؛ لقول الله تعالى:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ...[64]}[سورة العنكبوت] .
قال أهل العلم:' الحيوان: الحياة الكاملة'.
وقال عز وجل:{ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [23] يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي[24]}[سورة الفجر]. ولهذا كان الواجب أن يعتني الإنسان بتصحيح مرض قلبه قبل كل شيء.
ينبوع الدواء لأمراض القلوب:
ونأخذ الدواء لهذا المرض من ينبوعين أساسين، هما:'الكتاب والسنة'. والكتاب وصفه الله بأنه تبيان لكل شيء، ما من شيء يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم إلا وجد في القرآن: إما وجد في القرآن بعينه، وإما بالإشارة إليه والتحويل على جهة أخرى.
أهمية السنة:كلنا نعلم أنه لا يوجد في القرآن عدد ركعات الصلوات، ولا عدد الصلوات، ولا أنصبة الزكاة، ولا أركان الحج المعروفة، لكن محال إلى السنة، قال الله عز وجل:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [113] }[سورة النساء].
ثانيًا: المرض الحسي: مرض الجسم: فهو مرض أسهل، الأعضاء، أو الجلود، أو غيرها مما تعرفون فيه أكثر مما أعرف، هذا المرض له دواءان:
-دواء أنفع وأجمع وأوسع: وهو الدواء الذي جاءت به الشريعة، والشريعة الإسلامية جاءت بالدواء الشرعي للأجسام، ومما يتبين به ذلك:
القرآن الكريم: دواء نافع ناجع لأمراض جسدية، وأمراض نفسية، وأمراض عقلية، لا يمكن للدواء الحسّي أن ينجح فيها، ثم إن الدواء الشرعي لا يحتاج طول مدة، لأن الدواء الشرعي من لدن الله عز وجل الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن، فيكون.
ولعلكم سمعتم قصة الصحابة فقد: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ.رواه البخاري ومسلم.(/1)
ومثل هذا لو عولج بالأدوية الحسية إن نفعت، فسيكون هناك وقت.. لكن هذا في الحال. وكذلك الأمراض النفسية كثيراً ما تستعصي على الأطباء إذا عالجوها بالأدوية الحسية، ولكن دواؤها بالرقية ناجع ومفيد، وكذلك الأمراض العقلية، تنفع فيها الأدوية الشريعة، وقد لا تنفع فيها الأدوية الحسية.
ولذلك أريد منكم أيها الأطباء أن تلاحظوا هذا، وإذا أمكنكم أن تجمعوا بين الدواءين: الحسي والشرعي؛ فهو خير، حتى تصرفوا قلوب المرضى إلى التعلق بالله عز وجل وآياته، وحينئذ أحيلكم إلى الكتب المؤلفة في هذا الشأن، أن تطالعوها، وتحفظوها، وترشدوا إليها المرضى؛ لأن تعلق المريض بالله عز وجل له أثر قوي في إزالة المرض، أو تخفيف المرض.
أنواع الأدوية الحسية:هي نوعان:
الأول: ما تلقاه الناس من الشرع.
والثاني: ما تلقوه من التجارب.
فمما تلقاه الناس من الشرع:
التداوي بالعسل: فإن ذلك دواء شرعي، ودليله قوله عز وجل:{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ[69]}[ سورة النحل].
ومنها:الحبة السوداء: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا مِنْ السَّامِ] رواه البخاري ومسلم. والسام: هو الموت.
ومنها: الكمأة: قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: [ الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ] رواه البخاري ومسلم.
وهذا أمر مسلّم يجب أن نؤمن به، حتى لو فرض أنه لم ينفع؛ فليس ذاك لقصور السبب، ولكن لوجود مانع منعنا من الانتفاع به؛ لأن الأسباب التي جاءت في الشرع قد تتخلف آثارها لوجود مانع.. لكن هذا أمر مسلم.
أما النوع الثاني من الأدوية الحسية، فهو ما تُلقي من التجارب: وهذا كثير حتى أنه يوجد الآن ممن لم يدرسوا الطب نظرياً من استفادوا بالتجارب، فكانت أدويتهم أحسن من الأدوية المعقمة التي صنعت على وجه صحي.
ولا يجوز أن ننكر هذا، وقد سمعنا في كثير من الإذاعات من اخترع أدوية عثر عليها من الأشجار والحشائش لم تكن معلومة من قبل وأثرها أكبر من أثر الموجود المستعمل.
كل هذا بقضاء الله وقدره، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً– دواء- عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ] رواه أحمد. لذلك أحياناً يأتي الشفاء باستعمال دواء غير معلوم لهذا المرض، وهذا داخل في قوله: [ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ]. لكن ثقوا أن كل هذه الأشياء بقضاء الله وقدره، هو الذي أنزل هذا وجعل له دواء، وقد يرفع الداء بدون أن يكون هناك سبب؛ لأن الله على كل شيء قدير.
أخيراً.. توصيات للأطباء:
1- إخلاص النيّة لله في عملكم: لا من أجل أن تحصلوا على الراتب والمكافأة والجاه..وما أشبه ذلك، ولكن من أجل أن ترفعوا الآلام والأمراض- بقدر الله على أيديكم- والإحسان إلى هؤلاء الذين تداوونهم، وبإخلاص النية يكون أثر العمل جيداً، والعكس كذلك.
2- أن تحرصوا على تذكير الإنسان المريض التوبة والاستغفار وكثرة الذكر وقراءة القرآن: ولاسيما هاتين الكلمتين اللتين قال فيهما الرسول صلى الله عليه وسلم: [ كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ] رواه البخاري ومسلم. والمريض لن يتكلف، ولن يشق عليه أن يقول هذا، فوجهوه إلى أن يستغل الوقت.
3- تلقين من حضر أجله المرضى شهادة أن لا إله إلا الله: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ] رواه مسلم. ولكن التلقين يكون برفق، فلا تقل له: يا فلان قل لا إله إلا الله؛ لأن أجلك قد حضر! ولكن يمكن أن تذكر الله عنده، فإذا ذكرت الله عنده تذكر.
نعم إن كان كافراً، تقول له: قل لا إله إلا الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم:
قال لعمه أبي طالب حين حضرته الوفاة: [ أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ]رواه البخاري ومسلم.
وقال للغلام اليهودي في المدينة وقد عاده النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حضر أجل الغلام، فعرض عليه الإسلام، فالتفت الغلام إلى أبيه كأنه يستأذنه، فقال له:أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ]رواه البخاري.(/2)
4- أن تسألوا المريض كيف يصلي، كيف يتطهر، وترشدوه إلى ما عندكم من العلم: لأن بعض المرضى لا يتطهر كما ينبغي، بعض المرضى يكون على ثيابه شيء من النجاسة، ويقول: إذا شفاني الله تطهرت وصليت.. وبعض المرضى يقصر الصلاة وهو في بلده، يظن أنه إذا جاز الجمع؛ جاز القصر، وهذا ليس بصحيح، القصر إنما يجوز للمسافر فقط.فإذا كان المريض من أهل البلدة، وقلنا له: لا بأس عليك أن تجمع بين الصلاتين إذا شق عليك أن تصلي كل صلاة في وقتها، فلا يجوز له أن يقصر، ولكن إذا كان من بلد ويعالج في البلد نفسه؛ قلنا له: اقصر واجمع.
5- إن دعت الضرورة بأن يعالج الرجل امرأة؛ فليحذر الفتنة، ولا ينظر منها إلا ما تدعو الحاجة إليه: وبأدنى قول، أو عمل؛ لأن [الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ] رواه البخاري ومسلم. قد تقول في هذا المكان لا يمكن للإنسان أن تتحرك شهوته، أو ما أشبه ذلك، فنقول صحيح وهذا هو الأصل، ولكن ما ظنك إذا كان الشيطان يجري بابن آدم مجرى الدم، ألا يمكن أن يغوي هذا الإنسان؟ بلى.. هذا ممكن.
6- أوصيكم أن تحرصوا أن يكون استقبال المريض في حال الصلاة إلى جهة القبلة: وذلك بقدر الإمكان، حتى لو أدرنا السرير إن أمكن، فليكن، فإن لم يكن؛ فقولوا للمريض: [اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ] رواه الترمذي. فالله يقول:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [115]}[سورة البقرة]، وقال: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [286]}[سورة البقرة]، وقال تعالى:{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [16]}[سورة التغابن]. وتشرحوا صدره، وتقولوا له: إذا كان من عادتك أنك تصلي إلى القبلة وهو الواقع فإنه يكتب لك الأجر كاملاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [ إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا] رواه البخاري.
7- أوصيكم: أن توصوا المرضى إذا كانوا في غرفة واحدة، بأن لا يؤذي بعضهم بعضاً: فإن بعض المرضى قد يؤذي الآخرين: إما باستماع مسجل، أو راديو، وإذا كان هذا ممنوعاً، فربما يؤذي من معه بقراءة القرآن، يقرأ القرآن ويرفع صوته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه- وبعضهم يرفع صوته على الآخرين-: [...لَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ] رواه أبو داود وأحمد.
8- أوصيكم ألا تكثروا الكلام مع الممرضات إلا بقدر الضرورة مع غضّ البصر: لأن المسألة هذه خطيرة جداً، فقد تؤدي المحادثة إلى ما هو شر منها، لكن ما دعت إليه الضرورة لا بأس به مع غض البصر بقدر المستطاع.
9- أوصيكم بالمحافظة على وقت الدوام بأن لا يتخلف أحد عن وقت الحضور، ولا يخرج قبل وقت الخروج: لأن وقت العمل ليس للإنسان، فإنه يأخذ عليه أجراً، فكل دقيقة فلها نصيب من الأجر، ولا يحل لإنسان أن يتأخر عن أول الحضور، ولا أن يتقدم عن آخر الحضور، والإنسان و أمانته.
10-أوصيكم أن تؤمنوا وتوقنوا بأن أعمالكم هذه ليست إلا مجرد سبب، وأن الأمر بيد الله عز وجل: فقد يفعل الإنسان سبباً تاماً، ولكن لا يحصل له أثر؛ لأن الأمر بيد الله، ولهذا لو أخذنا حديث: [ إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا مِنْ السَّامِ] رواه البخاري ومسلم ؛ للزم أن لا يمرض أحد، ولكن ليس الأمر هكذا، هي سبب ولا شك، ولكن هذا السبب قد يتخلف أثره لوجود مانع، فأنت وإن كنت حاذقاً مخلصاً؛ فقد يتخلف أثر عملك عما تريده، فاعلم أن الأمر بيد الله.
11-أوصيكم أن تستخدموا التسمية عند بدء العلاج والعمل بها: لأن كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فإنه أبتر أي: مقطوع البركة.
هذا ما حضرني من الوصايا، وأسأل الله تعالى أن ينفع بكم، وأن يجعل عملكم خالصاً لله، ونافعاً لعباد الله عز وجل.
من محاضرة:' إرشادات للطبيب المسلم' للشيخ/ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله(/3)
إرهاب.. أم رحمة..؟
د. لطف الله بن عبد العظيم خوجه 6/5/1426
13/06/2005
- يقول الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
- ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). [رواه أحمد. انظر: صحيح الجامع 3522]
- ويقول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}.
- ولما جمع النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في فناء الكعبة قال لهم: (ما تظنون أني فاعل بكم؟، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
هذه النصوص وغيرها مما في معناها: تبين أن الأصل في معاملة الإسلام لسائر الناس، من المخالفين للدين: يقوم على الرحمة، والإحسان، والبر، والقسط، والعفو.
ووجه كونه أصلا:
- في الدليل الأول: أخبر تعالى أن إرساله النبي صلى الله عليه وسلم ما كان إلا رحمة للعالمين، فحصر سبب وعلة الإرسال في الرحمة؛ أي ليرحمهم بهذا النبي: بما يدعو إليه من الدين. وجعل الرحمة شاملة بقوله: {للعالمين}، فلم تختص بالمسلمين وحدهم، بل عمت كل الخلق.
- وفي الدليل الثاني: إغراء بفعل الرحمة وتقديهما لمن في الأرض، لتكون سببا لرحمة من في السماء، وهذه كذلك رحمة شاملة للجميع، لا تختص بالمؤمنين.
- وفي الدليل الثالث: أن الله تعالى لم ينه المؤمنين عن فعل البر والقسط لمن لم يتقدم إليهم بعداوة في الدين، أو إخراج من الديار، بل دعاهم إليه وأغراهم به بذكره أنه يحب المقسطين.
- وفي الدليل الرابع: عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن الذين عادوه، وآذوه، وأخرجوه، وأخذوا ماله، هو وأصحابه، عفوه عنهم لما أمكنه الله منهم: دليل على أن الأصل هو الرحمة. إذ لو كان الأصل الانتقام لما عدل عنه، مع تمكنه من ذلك.
فثبت بذلك: أن الإسلام ليس كما يروج عنه اليوم: أنه دين الإرهاب. فإن هذا الوصف يفيد بأن هذا هو أصل قيام الإسلام، وركنه، وديدنه، وعليه بني، وبه يحيا ويرتفع. وهذا باطل غاية البطلان، فالإسلام ليس دين الإرهاب، كلا، صدقا وعدلا ليس كذلك، لا سياسة، ولا مداراة، ولا تورية. بل الحق نقول،وما نعتقد:
- فإنه لا يمكن أن يكون أصله الإرهاب، وكافة النصوص تشير إلى أن الرسول مرسل للرحمة.
- والله تعالى يغري بالرحمة، ويرتب ثوابه عليها.
- والنبي صلى الله عليه وسلم يطبق ذلك عمليا، في سيرته مع الذين ظلموه، وعادوه، ولو انتقم منهم لما كان ظالما، لكن لما كان قوام دينه الرحمة، لم يسعه إلا العفو.
لكن لو قال قائل: هذا كلام مثالي جميل، لكن..!!..:
- أين أنتم من نصوص تأمر بالقتال والجهاد؟، كما في الآية:
- {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.
- أين أنتم من نصوص تأمر بالتمييز بسبب الدين، والبراء من غير المسلمين؟، كما في الآية:
- {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ء أسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.
- {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..}.
- { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم}.
- بل ما قولكم في نصوص تحث على الإرهاب؟، كما في الآية:
- {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم..}.
- وفي الحديث: (نصرت بالرعب مسيرة شهر..). [متفق عليه]
- ( بعثت بين الساعة بين السيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم). [رواه أحمد. انظر: صحيح الجامع 2831]
- أين الرحمة في هذه.. أين الإحسان.. أين الأمان والسلام فيها؟.
- هل هي نصوص منسوخة لا يعمل بها؟.
- فإن لم تكن منسوخة، فهل لزمن مضى كانت، وهي اليوم غير صالحة؟.
- فإن تكن كذلك، فهل لها تأويل غير ما نفهمه من ظاهرها؟.إن كان لها تأويل، فما تأويلها، وهل تأويلها يتلاءم مع ما قرر من أصل الإسلام هو الرحمة، أم يتعارض ويتناقض؟.
***
مثل هذه الأسئلة ترد على المسلمين، ولا مناص من التسليم بوجود هذه النصوص في مصادر الإسلام، فما الحل في مثل هذا الحال؟.. هل حقا نحن المسلمون في مأزق من احتواء مصادرنا: القرآن والسنة على نصوص تحث على القتال، والجهاد، وإرهاب العدو، وتنص على علو الإسلام. فنحتاج إلى دفاع، أو تأويل؟!!.
هل نحن في حرج من مثل هذه النصوص، فنحتاج إلى تعطيل معناها، بالقول: إنها شريعة ملائمة لوقت نزولها، ليس اليوم. أو القول: هي مجازات، ولها مفهوم باطني غير ما يظهر من معناها..؟!!.
أم ليس أمامنا إلا القول: نعم ديننا دين الإرهاب، والقرآن والسنة يحضان على الإرهاب..؟!!.(/1)
أليس لدينا جواب يجلي هذه الحيرة، ويريح خاطر الغيورين، الموقنين بعظمة الإسلام ورحمته بالعالمين. جواب يرد كيد الكائدين، ويقع في نحور الكارهين دين الله..؟.
بلى لدينا، وما خاصم أحد الإسلام، سواء من جهل أو كره الحق: إلا خصم ورجع خاسئا وهو حسير.
ونحن نعتقد: أن كل نصوص الرحمة التي أوردناها أول الكلام، وقلنا: إنها أصل الإسلام. لا تعارض ولا تناقض نصوص القوة: القتال، والجهاد، وإرهاب العدو، وعلو الإسلام، والبراء من الكافرين.
بل كل من له دراية بحقيقة القوة والعزة، وحقيقة الرحمة والإحسان: يعلم أنه لا تعارض بين هذه الأحوال.
فأين ما يمنع أن يكون القوي العزيز رحيما محسنا..؟!!.. فهذه الحقيقة، لكن الخطأ أتى من جهة:
- الخلط ما بين الرحمة والضعف، وتنزيل أحكام الضعف على الرحمة..!!.
نعم الضعف يتعارض مع القوة والعزة؛ لأنهما نقيضان، لكن الرحمة لا تتعارض معهما، إذ كنه الرحمة غير كنه الضعف، الرحمة: رقة القلب وحبه وتحركه بالإحسان، ناتج عن رجاء. أما الضعف: فجبن وخور، ناتج عن خوف وجزع. فشتان ما بينهما.
ومع ذلك فالضعيف غير ممنوع من الرحمة، بل قد يرحم، لكن رحمته لن تكون كرحمة القوي، فأعظم الرحمة وأحسنها هي التي تكون عن قوة وعزة، فهذا ربنا جل شأنه: أعظم الراحمين. سمى نفسه الرحمن، والرحمن هو الممتلئ رحمة، وسمى نفسه الرحيم، والسلام. وسمى نفسه: القوي المتين، العزيز، الجبار، المنتقم، المهيمن. فهل أسماؤه متعارضة متناقضة؟، كلا، وحاشا، بل هذا الكمال عينه.
فالرحمة والإحسان عن قوة وعزة، أحسن منها عن ضعف وذلة، والضعيف يرحم، لكنك لا تدري، فلربما كان ضعفه سبب رحمته، وكثير من الضعفاء إذا تقووا انقلبوا جبابرة، لا يعرفون رحمة ولا إحسانا. فلم تكن رحمتهم إلا وصفا عارضا زال بزوال سببه، أما رحمة القوي العزيز فهو وصف لازم، وطبع وجبلة مستقرة، لا تغيرها الأحوال والتقلبات، وهكذا الإسلام يعلم وينشئ أفرادا: أقوياء، أعزاء، ورحماء.
***
أصل دين الإسلام مع الآخرين: الرحمة والإحسان؛ ومعنى أصله: أي عليه يدور، وبه يقوم، وبه يُبدء:
- فعلى المسلمين أن يبتدءوا به مع غيرهم في: معاملتهم لهم، ودعوتهم، وعلاقاتهم. فلا يعتدون، ولا يظلمون، بل يعدلون، ويحسنون، ولو كانوا على غير ملتهم: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}.
- وإذا حصل على أنفسهم ظلم فأولى بهم الصبر، والإحسان: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}.
- ويجب عليهم الوفاء، وعليهم الإثم إذا نقضوا: { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون}.
- ولا يبتدءون الكافرين بقتال ولا عدوان، بل بدعوتهم إلى الإسلام، فإن رغبوا البقاء على دينهم، فلهم ذلك، لكن لا يمنعون شعوبهم من سماع الإسلام، والدخول فيه.
- وإذا وقعت الحرب بينهم وبين الكافرين، فعليهم أن يعاملوهم بأصل الرحمة حتى في المعركة، باجتناب قتل الجريح، والضعيف، والشيخ، والمرأة، والطفل، ومن لم يقاتل، واجتناب حرق المزارع، وهدم البيوت، وتخريب الممتلكات، وإذا وقعوا أسرى بأيديهم، فلهم أن يمنوا عليهم بالعفو والإحسان.
ومظاهر وأدلة الرحمة كثيرة جدا، لكن المقصود: أنه إذا كانت الرحمة مطلوبة أولاً، وآخر، وما بين ذلك، يعمل بها ابتداء مع غير المسلمين، ويعمل بها حتى في حال الانتقام واسترجاع الحق، فهذا دليل على أنه أصل في الإسلام، ومن أخلاق المسلمين الأصلية، ثم ما يكون بعد ذلك من جهاد، وقتال، وإرهاب للعدو، وبراء من الكافرين. فكل ذلك له ظرفه، وسببه، الذي لا ينافي الأصل، ولا يلغيه بحال.
***
إن نصوص الجهاد، وعلو الإسلام، والبراء: نصوص محكمة، قائمة، ماضية إلى يوم القيامة. لا يملك أحد أبدا نسخها، أو محوها، أو تعطيلها في هذا الزمن، أو تأويلها تأويلا يبطل معناها. لا يملك أحد نفيها من أحكام الإسلام إلا في حالة واحدة: إذا استطاع محوها من القرآن.
- وهل يستطيع أحد أن يمحو شيئا من القرآن..؟!.
ولسنا بحاجة لأي شيء من ذلك، فليست عيبا نحتاج لطيه، ولا خطأ نسعى في تصحيحه، بل حق وعدل، فنصوص الجهاد والقتال والبراء إنما في حق المحاربين من الكفار، المحتلين البلاد، الذين اعتدوا وظلموا بغير حق، وسفكوا الدم الحرام، واستباحوا الأعراض والحرمات، وسلبوا الثروات والمقدرات، وتركوا الناس أذلاء محرومين، فهؤلاء الذين أرهبوا الناس، وروعوا الآمنين، والضعفاء، والصغار، والنساء، لا يظن بعاقل أن ينهى عن دفع أذاهم، وكف شرهم وعدوانهم، وتسمية هذه المقاومة والدفع –من البعض قصد التشويه- إرهابا. لا يضر بشيء، فالفطرة، والعقل، والعرف، والشرع، وقوانين البشر: كلها تجمع على أن للإنسان وللأمة كل الحق أن تدفع عن نفسها، وتسترد حقها بكافة الطرق التي تضمن لها ذلك، قال تعالى:(/2)
- {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}.
- {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا}.
- {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}.
فإذا كان القتال في حق المحاربين، دون غيرهم، فليس إذن هو الأصل، بل حالة مؤقتة ليست مستديمة، لأن الأصل لا بد أن يكون مستديما، وهكذا هي الرحمة هي الأصل: مع المؤمن، وغير المؤمن.. للإنسان ولسائر المخلوقات.. في السلم، وحتى في الحرب: الرحمة حاضرة. في سائر الأوقات والأحوال. فما اتخذ صفة الاستدامة هو الحقيق بأن يكون أصلا، دون ما اتخذ صفة المؤقت.
فهذا هو فقه هذه النصوص، وهكذا هو دين الإسلام، ثم إن أخل بعض المسلمين بشيء من هذا، فغلو في بعض أحكام الجهاد أو البراء، فجاهدوا في غير موضع الجهاد، وعاملوا المسالمين كالمحاربين، فهذه أخطاء لا تسلم منها أمة، فكل أمة لها تعاليم وقوانين، وفي كل أمة أفراد يسيئون فهم التعاليم وتطبيق القوانين، فلا يليق ولا يجوز إلصاق أفعالهم بتلك التعاليم، كما لا يجوز القول إن تلك التعاليم تتضمن تلك الأفعال والتطبيقات.
وهكذا ما يقع من بعض المسلمين من مثل تلك الأخطاء، ليس من الإسلام في شيء، كما أن طريقة البعض الآخر من المسلمين في إنكار فرائض: الجهاد، والبراء من المحاربين، وعلو الإسلام. كذلك ليس من الإسلام في(/3)
إزهد في الدنيا يحبك الله
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الزاهدين وإمام العابدين ، أما بعد:
فإن الدنيا دار سفر لا دار إقامة ، ومنزل عبور لا موطن حبور ، فينبغي للمؤمن أن يكون فيها على جناح سفر ، يهيئ زاده ومتاعه للرحيل المحتوم 0
فالسعيد من اتخذ لهذا السفر زاداً يبلغه إلى رضوان الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار 0
إنما الدنيا إلى الجنة أوإلىالنار طريق والليالي متجر الإنسان والأيام سوق
تعريف الزهد في الدنيا :
تعددت عبارات السلف في تعريف الزهد في الدنيا وكلها تدور على عدم الرغبة فيها وخلو القلب من التعلق بها 0
قال الإمام أحمد : الزهد في الدنيا : قصر الأمل 0
وقال عبدالواحد بن زيد : الزهد في الدينار والدرهم 0
وسئل الجنيد عن الزهد فقال : استصغار الدنيا ، ومحو آثارها من القلب 0
وقال أبو سليمان الداراني : الزهد : ترك ما يشغل عن الله 0
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : الزهد ترك ما لا ينفع في الاخرة ، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة ، واستحسنه ابن القيم جداً 0
قال ابن القيم : والذي أجمع عليه العارفون : أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا ، وأخذ في منازل الآخرة !! 0
فأين المسافرون بقلوبهم إلى الله ؟
أين المشمرون إلى المنازل الرفيعة والدرجات العالية ؟
أين عشاق الجنان وطلاب الآخرة ؟
الزهد في القرآن :
قال الإمام ابن القيم : ( والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا ، والإخبار بخستها قلتها ، وانقطاعها وسرعة فنائها ، والترغيب في الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها 0
ومن الآيات التي حثت على التزهيد في الدنيا :
1ـ قوله تعالى : ((اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )). [الحديد : 20] 0
2ـ وقوله سبحانه : (( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب )) [ آل عمران : 14 ] 0
3ـ وقوله تعالى: ((من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب )). الشورى : 20 ] 0
4ـ وقوله تعالى : (( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا )) [النساء : 77 ] 0
5ـ وقوله تعالى : ((بل تؤثرون الحياة الدنيا(16)والآخرة خير وأبقى )) [ الأعلى :16-17] 0
أحاديث الزهد في الدنيا:
أما أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي رغبت في الزهد في الدنيا والتقلل منها والعزوف عنها فهي كثيرة منها :
1ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما : (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )) [ رواه البخاري ] 0
وزاد الترمذي في روايته : (( وعد نفسك من أصحاب القبور )) 0
2ـ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )) [ رواه مسلم]0
3ـ وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً حقارة الدنيا : (( ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بم يرجع )) [ رواه مسلم ] 0
4ـ وقال صلى الله عليه وسلم : (( مالي وللدنيا ،إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال ـ أي نام ـ في ظل شجرة ، في يوم صائف ، ثم راح وتركها )) [ رواه الترمذي وأحمد وهو صحيح ] 0
5ـ وقال صلى الله عليه وسلم : (( لوكانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافراً منها شربة ماء )).
[ رواه الترمذي وصححه الألباني ] 0
6ـ وقال صلى الله عليه وسلم : (( ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس )) [ رواه ابن ماجه وصححه الألباني ] 0
7ـ وقال صلى الله عليه وسلم : ( اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً ، ولا يزدادون من الله إلا بعداً )) [ رواه الحاكم وحسنه الألباني ] 0
ماهي حقيقة الزهد في الدنيا؟
الزهد في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فهو ليس بتحريم الطيبات وتضييع الأموال ، ولا بلبس المرقع من الثياب ، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات ، فإن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله ، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي ، ولا تكون في القلوب ، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه ، استوى في عينه إقبالها وإدبارها ، فلم يفرح بإقبالها ، ولم يحزن على إدبارها 0
قال ابن القيم في وصف حقيقة الزهد : ( وليس المراد ـ من الزهد ـ رفضها ـ أي الدنيا ـ من الملك ، فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما ، ولهما من المال والملك والنساء مالهما 0
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة 0(/1)
وكان على بن أبي طالب ، وعبدالرحمن بن عوف ، والزبير وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال 0
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره : ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك 0
جاء رجل إلى الحسن فقال : إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج ، فقال الحسن : ولم ؟ قال : يقول : لا أؤدي شكره ، فقال الحسن : إن جارك جاهل ، وهل يؤدي شكر الماء البارد ؟0
أهمية الزهد:
إن الزهد في الدنيا ليس من نافلة القول ، بل هو أمر لازم لكل من أراد رضوان الله تعالى والفوز بجنته ، ويكفي في فضيلته أنه اختيار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال ابن القيم رحمه الله : ( لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ، فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان ، وإما من فساد في العقل ، أو منهما معاً0
ولذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه ، وصرفوا عنها قلوبهم ، وهجروها ولم يميلوا إليها ، عدوها سجناً لا جنة ، فزهدوا فيها حقيقة الزهد ، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب ، ولكنهم علموا أنها دار عبور لا دار سرور ، وأنها سحابة صيف ينقشع عن قليل ، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل ) 0
أقسام الزهد
قال ابن القيم رحمه الله الزهد أقسام :
1ـ زهد في الحرام وهو فرض عين 0
2ـ وزهد في الشبهات ، وهو بحسب مراتب الشبهة ، فإن قويت التحق بالواجب ، وإن ضعفت كان مستحباً 0
3ـ وزهد في الفضول ، وهو زهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره0
4ـ وزهد في الناس 0
5ـ وزهد في النفس ، بحيث تهون عليه نفسه في الله 0
6ـ وزهد جامع لذلك كله ، وهو الزهد فيما سوى الله وفي كل ما يشغلك عنه 0
وأفضل الزهد إخفاء الزهد .. والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع 0
أقوال السلف في الزهد:
قال على بن أبي طالب رضي الله عنه : إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ، ولكل منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل 0 ((وتزودوا فإن خير الزاد التقوى )) [ البقرة : 197] 0
وقال وريعن عيسى بن مريم عليه السلام : اعبروها و لا تعمروها 0
وقال : من ذا الذي يبني على موج البحر داراَ؟! تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا0
وقال عبدالله بن عون : إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم 0
قلت : هذا كان في زمان عبدالله بن عون ، أما اليوم فإن أكثر الناس قد زهدوا في الآخرة حتى بالفضلة !! 0
الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا
1ـ النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها ونقصها وخستها ومافي المزاحمة عليها من الغصص والنغص والأنكاد 0
2ـ النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات 0
3ـ الإكثار من ذكر الموت والدار الآخرة 0
4ـ تشييع الجنائز والتفكر في مصارع الآباء والإخوان وأنهم لم يأخذوا في قبورهم شيئاً من الدنيا ولم يستفيدوا غير العمل الصالح 0
5ـ التفرغ للآخرة والإقبال على طاعة الله وإعمار الأوقات بالذكر وتلاوة القرآن 0
6ـ إيثار المصالح الدينية على المصالح الدنيوية 0
7ـ البذل والإنفاق وكثرة الصدقات 0
8ـ ترك مجالس أهل الدنيا والاشتغال بمجالس الآخرة 0
9ـ الإقلال من العام والشراب والنوم والضحك والمزاح 0
10ـ مطالعة أخبار الزاهدين وبخاصة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه 0
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسل(/2)
إسرائيل.. بربرية القوة إلى أين؟
د.هيثم مناع *
في السابع من أيار (مايو) 1948 وجه شارل مالك، مندوب لبنان في الأمم المتحدة، برقية إلى الحكومة اللبنانية يقول فيها: " لقد أتم اليهود استعدادهم لإقامة دولتهم بالقوة، وسيباشرون العمليات العسكرية خلال هذا الشهر، فإن لم يقض العرب على هذه الدولة في غضون سبعة أيام، ستدوم سبعة أشهر، فإن لم يقضوا عليها خلال سبعة أشهر ستدوم سبعة أعوام، فإن عجزوا عن إزالتها في سبعة أعوام فقد تدوم سبعين عاما وربما أكثر".
وقف العالم الغربي بمعسكريه مع قيام دولة إسرائيل ورفض العرب والمسلمون هذه الدولة. كانت هزيمة حرب 1948 نكبة هزت أركان الدول العربية بعد الكولونيالية الناشئة. ومن المنافي ولدت هوية فلسطينية مشتركة لكل الفلسطينيين في الوعي الجماعي كمشروع سياسي وثقافي وحضاري لاستعادة الذات التي استلبتها دولة الاستيطان اليهودي في فلسطين.
رغم النكبة ونكسات الجانب العربي السياسية والعسكرية، لم تتعرض الهوية الفلسطينية لأزمة تعادل بعمقها تلك الناجمة عن اتفاقية أوسلو في 13 سبتمبر 1993. حيث دفعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ثمن عودتها إلى فلسطين المحتلة، تفكيك الفكرة الأساسية في تكوّن الشخصية الوطنية الفلسطينية. الفكرة التي نشأت في المخيم، باعتباره الحيز الذي طوّر الفلسطينيون في تخومه، كما ينوه محمد حافظ يعقوب، إستراتيجية هويتهم في البقاء. فكرة قائمة ليس فقط على وحدة المشروع ووحدة المصير، بل أيضا وقبل كل شيء وحدة الأرض الفلسطينية الجامعة لمن عليها على اختلاف دينه ومذهبه في دولة حديثة ديمقراطية مدنية. أزمة الهوية هذه لم تحدث يومها في الجانب الإسرائيلي بنفس العمق. فالحكومات الإسرائيلية المتتابعة لم تتعامل يوما مع فكرة السلام باعتبارها مسار متبادل أساسه قبول الآخر بوصفه مشروعا سياسيا لدولة قابلة للعيش. وهنا نعود لجذور أسطورة التأسيس لدولة إسرائيل القائمة على رفض الآخر الفلسطيني ككيان سياسي. لم يكن الآباء المؤسسون يوما يهذبون الكلمات والعبارات في كل ما يتعلق بالترحيل والنفي القسري كوسائل "مشروعة" لبناء وطن قومي نقي. الدفاع العدواني aggressive defense، الذي جعل منه دافيد بن غوريون إنجيله العسكري، يربط باستمرار بين تحطيم الهدف العسكري وطرد السكان. الحكومة الإسرائيلية التي وقعت أوسلو، لم تكن بعيدة عن هذا النهج حين ربطت بشكل عضوي بين بناء المستوطنات والعملية السياسية.
لم تكن السلطة الفلسطينية مطلع هذا العام بقادرة على دفع ثمن صناديق اقتراع وتغطية تكاليف العملية الانتخابية عندما صوتت "الأغلبية الفلسطينية تحت الاحتلال" لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي لا تعترف بدولة إسرائيل. جاء هذا في ظروف يمكن القول بأنها الأسوأ في العالم العربي منذ رسالة شارل مالك المنوه إليها أعلاه. ورغم ذلك، هذا الرأي يتقاسمه مجموعة اتجاهات فكرية تتزايد يوما بعد يوم. إنها تتوزع على أكثر من مصدر نظري وعقائدي ولأسباب ليست بالضرورة واحدة. هي تتحدث عن تفسخ بنيوي في الكيان الإسرائيلي وحالة ضياع سياسية، لا يغطيها الخطاب الأمني والمزايدات السياسية ولا يرحمها الوهن الرسمي العربي. فالمواجهة الإسرائيلية البربرية للانتفاضة الثانية والخيارات السياسية الأحادية الجانب رفعت الغطاء الاعتباري عن المشروع الصهيوني في أوربة. كما ولم تعد "الحرب على الإرهاب" مادة ممكنة للتسويق لبيع الناتج الإعلامي الإسرائيلي منذ مجازر العدوان الإسرائيلي الجديد على لبنان. لقد أفلتت الدولة من عقالها وأصبحت تتلبس تعريف L’Etat Voyou (الدولة الداعرة) بكل صفاته. تعبير "العصابة" الذي استعمله بولتون، مندوب الإدارة الأمريكية في الأمم المتحدة، ينطبق على أصدقائه الإسرائيليين أكثر مما يمكن استعماله بحق المقاومة المشروعة للعدوان.
ففي الوقت الذي يتم فيه توظيف المأساة اليهودية في ظل النازية- في صناعة متكاملة تبدأ بتعزيز عقدة الذنب وتنتهي بالحصول المجاني على أسلحة الدمار الممنوعة- تعيد الدولة، التي قدمت نفسها للعالم باعتبارها النقيض المعنوي لمأساة اليهود في ألمانيا، إنتاج السيناريو بصيغة تناسب الزمان والمكان. في لحظة "اكتمال" التفوق العسكري الإسرائيلي التقني بكل المعاني، ونجاح اللوبي الموالي لإسرائيل على الصعيد العالمي في إقامة تواصل قانوني وسياسي بين المقاومة والإرهاب، على الأقل في عرين حلف شمال الأطلسي، تنال الحكومة الإسرائيلية تفويضا مفتوحا بالقتل والهدم من المحافظين الجدد. كما وتستغل فرصة التواطؤ الغربي الرسمي والتعفن العربي الرسمي لتخرج كمون أحقادها على لبنان. لبنان التعددية الدينية والطائفية. لبنان القدرة على التعايش. ولبنان المقاومة. لكن لهيب الحقد نفسه هو الذي يضع المجتمع الإسرائيلي ويضعنا أمام أسئلة مركزية تعيدنا إلى المساءلة الأولى حول شرعنة الكيان الصهيوني:(/1)
- ما هي الفكرة التي تحملها الجماعة الإسرائيلية اليهودية عن تنظيم العلاقة مع المكونات الذاتية للدولة وجيرانها؟
- هل يمكن أن يتحرر المجتمع اليهودي الإسرائيلي من فكرة العصبية الممزوجة بالتفوق كأساس لأمنه، هذه الفكرة الخلدونية التي تترجم في كل أزمة بارتكاز مفهوم الشعب حول القوة المسلحة والوطن على كراهية الآخر؟
- هل يمكن للسيطرة أن تكون عنصر توازن داخلي وتعايش خارجي؟
- هل بإمكان هياكل الدولة حماية عملية إعادة إنتاج الغيتو "الموسع في كيان سياسي" من الخوف والحقد؟
- هل يمكن للمجتمع الإسرائيلي الاستمرار اليوم دون أرضية باثولوجية منجبة للعقد النفسية داخل الجماعة، وللجرائم الجسيمة من حولها، باعتبار إرهاب الآخر عنصر اطمئنان أساسي للذات المهزوزة ؟
أصبحت تعبئة لوبي المناصرة لمشروع يعيش أزمة معممة ترتبط أكثر فأكثر بتعزيز التعصب والعصبية اليهودية. أما مناهضة كل اندماج لليهود في مجتمعاتهم فتحولت اليوم إلى سياسة رسمية للدولة العبرية. ومع كل فشل في خوض معركة العلمنة الضرورية للخروج من الجماعة المتسلطة إلى الدولة الديمقراطية، مع كل فشل في التعامل المتكافئ مع الجيران، أو في الخروج من ثقافة العنف الضروري للأمن إلى ثقافة الاعتراف بالآخر كأساس لأي استقرار أمني وسياسي، أو في بناء علاقة بشرية خارج منطق العربات المصفحة والطائرات القادرة على التحطيم والاغتيال بذكاء.. لا تنحسر النتيجة فقط في فقدان الاستقرار السياسي موضوعيا والاستقرار النفسي ذاتيا. بل تتعدى ذلك لتكوين جماعة مغلقة تسلطية بتعريف طبيب الأمراض النفسية لوسيان إسرائيل: "جماعة محمولة بالطباع التسلطية(الأوتوريتارية) تفرز ميثولوجيا تكوينية، تأسيسية، مسارية وأصلية. الأب المشترك، الإله، الطوطم.. يؤسسون الاعتراف المتبادل بينهم عبر مراجع بيولوجية كاذبة: نحن من نفس اللحم، لقد استهلكنا الضحية عينها، نفس الدم يجري في عروقنا.. تتشكل الجماعة بالتعارض مع الخارج (الآخر)، وهكذا ينبثق الطبع التسلطي. إذا كنا داخل الجماعة بين أخوة الدم، فالآخر الخارجي يتحدد بعلامات وصفات تختلف عن صفات الجماعة. وهذا الاختلاف يصبح حاملا لقيم، والآخر خارج الجماعة يصبح حاملا للشر. التجمع يسمح للطبع التسلطي بأن يحمل دون توجس ولا قلق حكما تحقيريا حول الآخر، حكما يسمح بكل العداوات وكل المظالم" (مدخل إلى الأمراض النفسية، ص 37، 1984).
لا تحمل السلطة في ذاتها تبريرها النهائي مرة واحدة وإلى الأبد. فشرعية الدولة ترتبط أولاً بما تعنيه بالنسبة للجماعة التي تشكل إطارها البشري. أي بالفكرة التي تحملها الجماعة عنها وقدرة هذه الفكرة على أن تكون قاسما مشتركا أدنى مع محيطها الجغرافي. فلا يكفي أن يطمئن المواطن الإسرائيلي على تفهّم الأمريكي أو الإنجليزي لدوافعه المعلنة لاعتماد العقوبات الجماعية في فلسطين ولبنان استراتيجية عسكرية: حصار اقتصادي واجتماعي وبشري، قصف البنية التحتية واستهداف القرى والمدن اللبنانية، تحويل فلسطين المحتلة لسجن محاصر بترسانة عسكرية تصول وتجول فوق سمائه وبين بيوته وعلى الشاطئ وفي البيارات المحطمة والإدارات والمنشآت الاقتصادية المدمرة. المجتمع إرهابي والقيادة إرهابية، خطف القيادة السياسية الفلسطينية والاعتداء على القيادي بالضرب والإهانة عن سابق إصرار وتصميم.. لا اعتذار ولا هزة جفن إن أدى قصف بيت مقاتل إلى خسارة ثلاثين مدنيا. أليست "الحرب على الإرهاب" في قراءتها الأمريكية الإسرائيلية أيضا، إلغاء تفريد المسئولية بدعوى عزل الإرهابي عن مجتمعه؟؟ أي العودة إلى ما قبل مفهوم القانون. في وضع كهذا يتأصل يوما بعد يوم تصدع وجودي زرعته عقلية التفوق وأصلته القناعة بالقدرة على الفعل دون محاسبة، تصدع يعطي قواعد بسيطة ستعيد صياغة المفاهيم والتصورات والمواقف السياسية في كل ما يتعلق بإسرائيل: النفي ينجب النفي، والعنف ينتج العنف، وبربرية القوة تشّرع لكل أشكال المقاومة.
مهما كانت طريقة نقل وتصوير الجرائم الإسرائيلية في الإعلام ووسائل مجموعات الضغط للمجتمع الغربي، فإن الصورة التي يكونها هذا المجتمع لا تغير الكثير في مقومات الاستقرار الإقليمي الذي يسمح للجماعة الإسرائيلية بتجديد شروط إنتاجها كجماعة سياسية في الزمان، أي التاريخ، وفي المكان، أي الفضاء البشري المجاور. فمهما كانت بنية الدولة أو حجمها أو قدراتها أو عقيدتها المعلنة، تنهار أسطورة التأسيس مع تقلص هامش العمل السياسي مع المحيط وصيرورة العمل العسكري التعبير الأسمى للسياسة. إن أي إزمان لحالة عدم التوازن لا يعني اضطراب الوجود الفلسطيني تحت الاحتلال أو اللبناني في ظل العدوان وحسب، بل اضطراب في حالة الاستقرار السياسي للمحتل المعتدي نتيجة التداخل الإجباري بين الجماعة الفلسطينية والجماعة الإسرائيلية، بين صورة الجنوب في ذهن اللبناني وصورته في ذهن الإسرائيلي.(/2)
ها قد ماتت صورة الكيبوتز، وغابت ضرورة الدولة الأخلاقية التي لا يحق لها تكرار ما حصل مع مؤسسيها بحق ضحايا جدد. و"الديمقراطية" الطائفية لم تعد أنموذجا يمكن التحدث فيه. مع العسكرة الدائمة للمجتمع والدولة، انحسر المشروع الصهيوني في أسطورة جيش لا يقهر.. قوة متفوقة ومساعدات بلا حدود تحقن هذا الوجود الذي جعل من العنف شرطا واجب الوجوب لاستمراره.
ما حدث في لبنان، فكك هذه الفكرة المركزية. وبهذا المعنى، لم تزرع المقاومة فقط مسمارا في نعش الدولة الداعرة، التي لم يعد الخط البياني لاستمرارها تصاعديا، وإنما أعادت الاعتبار لفكرة المجتمع المقاوم الحر. المجتمع القادر على النهضة من تحت رماد التدمير البربري.
لا يحتاج البشر لصور الأطفال والدمار ليتحركوا. دعم لبنان وإعادة بنائه واجب لا يقلّ في قداسته عن الفريضة الدينية. هذه المهمة دينُ في أعماق كل من يتقاسم مع شعب لبنان فكرة أصيلة عن الإنسانية، ورغبة عميقة في عالم أكثر عدلا وأقل بربرية.
* هيثم مناع مفكر وحقوقي عربي من سورية وهو المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان ورئيس المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية والخيرية(/3)
إسلام أبي بكر واهتمامه بالدعوة
أسلم أبو بكر رضي الله عنه بدعوة من النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل المرحلة السرية ، قال ابن إسحاق بعدما ذكر إسلام خديجة وعلي وزيد رضي الله عنهم: ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة .
قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول – فيما بلغني – : "مادعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد , إلا ماكان من أبي بكر بن أبي قحافة , ماعَكَم حين ذكرته له وماتردد فيه" .
وقوله "كبوة" أي امتناع , و"عكم" أي تلبث (سيرة ابن هشام 1/255).
وبعد أن أسلم أبو بكر دعا إلى الله في هذه المرحلة الحرجة , حتى أسلم على يده شباب كان لهم دور كبير في مستقبل الجهاد والدعوة .
وقد ذكر محمد بن إسحاق رحمه الله شيئًا من مآثره في الدعوة حيث قال: فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه – يعني لخاصة من يثق به – ودعا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم , وكان أبو بكر رجلاً مؤلفًا لقومه محببًا سهلاً وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير أو شر , وكان رجلاً تاجرًا ذا خلق ومعروف , وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر , لعلمه وتجارته وحسن مجالسته , فجعل يدعو إلى الله تعالى وإلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه .
ثم ذكر الخمسة الذين أسلموا على يديه في أول الإسلام , وهم عثمان بن عفان , والزبير بن العوام , وعبد الرحمن بن عوف , وسعد بن أبي وقاص , وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم .
قال : فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلَّوا (سيرة ابن هشام 1/254 ).
هذا النص يبين لنا شيئا من مآثر أبي بكر رضي الله عنه في الدعوة إلى الإسلام , فهؤلاء الخمسة المذكورون الذين أسلموا على يديه كلهم أصبحوا من المبشرين بالجنة , ومن أكابر أهل الحل والعقد في الإسلام وهم إضافة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم كانوا أهل الشورى الذين جعل عمر رضي الله عنه الخلافة فيهم .
فكم هي فضائل أبي بكر رضي الله عنه , وكم هي سوابقه على المسلمين ! إنه لم يكتف بأنه غامر بنفسه فاتبع دينًا لايمثله خارج بيت النبي صلى الله عليه وسلم أحد , وفي ذلك مافيه من المغامرة , بل صار يدعو من يثق بهم سرّا إلى اتباع هذا الدين الجديد , فاستجاب له هؤلاء الفحول الذين صار لهم في مستقبل الإسلام شأن كبير .
ولاشك أن الذين أسلموا واتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو وحيد ليس معه أحد أو معه النفر اليسير .. لاشك أن لهم مكانة وفضلاً كبيرًا في الإسلام , فإن الإقدام على دين جديد يهدم الأديان السائدة في المجتمع أمر له خطورته ,وهؤلاء الذين أقدموا على الإسلام آنذاك يدركون خطر ماتوجهوا إليه, لذلك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بكتمان دعوتهم , وظلوا يدعون إلى الله تعالى سرّا حتى أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان الدعوة بعد ثلاث سنوات من البعثة .
وإن استمرار هؤلاء الصحابة على دعوتهم السرية ومقدرتهم على كتمانها طيلة هذه المدة أمر يستحق الإشادة والتقدير , والدراسة والتأمل , خاصة مع ملاحظة عيشهم في مجتمع صغير بالقياس إلى حياة المدن في العصر الحاضر , فكم هي الإحراجات التي مروا بها مع أهاليهم وقومهم ! وكيف استطاعوا التخلص منها !
إن كتمان الدعوة يحصر انتشارها بلا شك , وكان هذا واقعًا اضطراريّا تمليه هيمنة الباطل , ولكنه مع ذلك يصنع رجالاً كاملين في مواهبهم وقدراتهم , لأنهم يحسون من أول خطوة في الطريق أنهم يواجهون معركة بعيدة المدى , فيخرجهم هذا الشعور من حياة الدعة والسكون التي قد تعطل بعض المواهب والقدرات , وهكذا تمت تربية أولئك العظماء في تلك الفترة .
وفي قوله عن أبي بكر : "وكان رجال من قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر, لعلمه وتجارته وحسن مجالسته" إشارة إلى عامل مهم من عوامل نجاح الداعية , وهو أن يكون متعدد المواهب, له مشاركة في عدد من الجوانب التي تربطه بالمجتمع , فيأتي إليه في كل جانب طائفة من الناس, فإذا توافر لديه مع ذلك الدافع القوي الذي يجعله يبذل كل طاقته في سبيل دعوته فإنه يعمل عمل عدد من الناس , وينجح في اجتذاب الكثير منهم .
هذا وقد بذل أبو بكر ماله في سبيل خدمة الدعوة الإسلامية , كما جاء في خبر ذكره الحافظ ابن حجر عن يعقوب بن سفيان بإسناده عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال : أسلم أبو بكر وله أربعون ألفًا فأنفقها في سبيل الله ... " ثم ذكر المماليك السبعة الذين أعتقهم (الإصابة 2/334 ).
دعوة بني عبد المطلب (وموقف لعلي رضي الله عنه )(/1)
أخرج الإمام أحمد بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم , [أو قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ] بني عبد المطلب , فيهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفَرَق (الجذعة الشاة الصغيرة , والفرق بفتح الراء مكيال يتسع لستة عشر رطلاً , وقوله "كلهم" أي كل واحد منهم)!
قال فصنع لهم مُدًّا من طعام , فأكلوا حتى شبعوا , قال: وبقي الطعام كما هو كأنه لم يُمسَّ, ثم دعا بغَمْر (يعني بشراب كثير ), فشربوا حتى رَوُوا , وبقي الشراب كأنه لم يمس , - أو لم يُشرب- فقال: يابني عبد المطلب , إني بُعثت لكم خاصة وإلى الناس بعامة , وقد رأيتم من هذه الآية مارأيتم , فأيُّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ؟ قال: فلم يقم إليه أحد , قال: فقمت إليه وكنت أصغر القوم, قال: فقال: اجلسْ قال: ثلاث مرات , كل ذلك أقوم إليه فيقول لي اجلس , حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي (مسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر 2/ رقم 1371 , وقال أحمد شاكر رحمه الله : إسناده صحيح .
وذكره الإمام الهيثمي من رواية الإمام أحمد وقال : رجاله ثقات – مجمع الزوائد 8/302).
وهكذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعشيرته الأقربين فدعاهم إلى الإسلام وحماية دعوته فلم يستجب منهم غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الرغم من مشاهدتهم تلك المعجزة الظاهرة من تكثير الطعام والشراب وبقائه بعد أكلهم وشربهم وكأنه لم يمس , مع أن فيهم – كما في الرواية- من اشتهروا بكثرة الأكل والشرب .
لقد اجتمع في ذلك الموقف أكابر بني عبد المطلب ومع رهبة الموقف فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبدى استعداده ثلاث مرات لبيعة النبي صلى الله عليه وسلم رغم صغر سنه وهذا دليل واضح على قوة إيمانه وشجاعته المبكرة التي أصبحت فيما بعد مضرب الأمثال .
مثل من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ( إسلام عبد الله بن مسعود )
لم يقتصر منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكيم المشتمل على اللطف والتودد على الأكابر وزعماء القبائل , بل نجده يعامل بهذا المنهج الغلمان الضعفاء .
ومن أمثلة ذلك ما أخرجه الإمام أحمد بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط , فمرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقال: ياغلام هل من لبن؟ قلت: نعم ولكني مؤتمن , قال: فهل من شاة لم يَنْزُ عليها الفحل ؟ فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب وسقى أبا بكر , ثم قال للضرع : اقلص , فقلص قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يارسول الله علمني من هذا القول , قال : فمسح رأسي وقال: يرحمك الله فإنك غلَيِّم معلَّم" (وقد ذكر الحافظ الهيثمي هذا الخبر من رواية الإمام أحمد وأبي يعلى , وقال: ورجالهما رجال الصحيح – مجمع الزوائد 6/17 .
وهكذا رواه أبو داود الطيالسي رحمه الله تعالى بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه , وذكر مثله .
وذكره الحافظ ابن كثير والحافظ الذهبي , وصحح الذهبي إسناده – البداية والنهاية 3/32 , سير أعلام النبلاء 1/465 ).
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يحتقر هذا الغلام الذي لم يكن ينتمي لقبيلة قريش وليس له عشيرة بمكة, بل اهتم به وقدر مايتمتع به من خلق الأمانة الذي يدل على أنه عنصر زكي , فأثنى عليه بالعلم والفهم وأقرأه القرآن حتى أصبح بعد ذلك من قراء الصحابة وفقهائهم .(/2)
إسلام يحميه المجتمع خير من إسلام تعوله الدولة
د. خالد شوكات :موقع الشفاف 1/8/2004
العلمانية الأندونيسية..
في عمق "جاوة" أهم جزر الأرخبيل الأندونيسي، وعلى مقربة من بركان "ديينغ" شبه الخامد، الذي ما فتئ يهدد جيرانه بحمم النار كل حين.. في منطقة جبلية وعرة، تكسوها الغابات الاستوائية الخضراء، وتنتشر في منحنياتها ووديانها قرى
الفلاحين الأندونيسيين البسطاء.. في هذه البقعة التي تفصلها عن مكة المكرمة يابسة وبحار وآلاف الأميال، والتي لم تكن معروفة للعرب حتما على أيام النبي العربي صلى الله عليه وسلم..استمعت إلى الآذان يدعو الناس إلى صلاة الجمعة، يتردد في الوديان والسهول من عشرات المآذن، وسمعت آيات الكتاب الكريم يرددها الصدى، وتلتقفها آذان أناس يجلونها لكنهم حتما لا يفهمونها...
تساءلت: أترى كان محمد صلى الله عليه وسلم يعلم أن جزرا نائية جدا تخفيها مياه البحار المظلمة، ستردد كلمات الله المرسلة إليه وسيهب سكانها الذين تجاوزوا المائتي مليون لتلبية نداء الدين الذي جاء به مبشرا ونذيرا..أتراه كان يعلم أن قوما أعاجم، مزارعون بسطاء، كهولا وشبابا ونساء، يتركون أعمالهم وأموالهم وأرزاقهم، يذرون البيع والشراء، ليعمروا مساجد لا ينطق قرءانها بلغتهم، وليحبوا نبيا ليس من بني جلدتهم، وليخلصوا لدين قرونا طويلة ولا يزالون، أتى به إليهم تجار غرباء..
ما أكثر مساجد أندونيسيا وما أجمل حلتها.. في الطريق من "باتوردان" البعيدة عن البحر وسط جاوة، إلى "جوغجا" عاصمة البلاد التاريخية، حيث لا يزال السلطان "هامنغ كوبويونو" يحكم منذ القرن الثامن عشرة، اضطر سائق السيارة التي تقلنا إلى التوقف العديد من المرات، فبناة المساجد في القرى والأرياف الاندونيسية لا يتوقفون عن حركة التشييد والبناء، يطلبون مساعدة أهل البر والإحسان، التصدق ببعض مالهم للبدء في إعمار مسجد، أو استكمال بناء آخر شرع في إقامة أعمدته.. وكل قرية لا بد لها من مسجد أو أكثر كما سمعت، فيما يتبارى الجميع لتشييد الأفضل والأجمل..
مساجد أندونيسيا، تؤدي وظائف أكثر من تلك التي تعرف عندنا في البلاد العربية، وهي مساجد ذات إدارة خاصة، غير خاضعة لتوجيه إدارة حكومية أو سلطة وزارية، وهي إلى كونها بيوتا للعبادة والصلاة مدارس لتعليم البنين والبنات أصول الدين وبعضا من سور القرءان الكريم ومبادئ اللغة العربية، كما هي مراكز لنشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين، وهم ليسوا كثرا في أندونيسيا، ومؤسسات اجتماعية وخيرية لإصلاح الصلات العائلية الفاترة ومساعدة الأرامل والأيتام والفقراء وسائر المحتاجين...
تحرص مساجد أندونيسيا أيضا على تنظيم دورات للذين قرروا الحج أو العمرة لبيت الله الحرام، تعلمهم الانضباط في آداء المناسك واحترام قدسية المكان ونظافته والتأدب والتلطف في معاملة زواره، ومن هنا فهمنا سر السمعة الطيبة التي يحظى بها الحجيج الأندونيسيون مقارنة بغيرهم، ومردها تلك الصلة القوية التي تربطهم بمساجدهم، وذلك الدور التربوي الخالص الذي تضطلع به هذه المساجد في تكوين وتأهيل المؤمنين.
في مسجد "الاستقلال" بالعاصمة جاكرتا، وهو مسجد جامع عظيم البناء، يقال أنه الأكبر من نوعه في منطقة جنوب شرق آسيا، وجدنا مئات من طلبة المدارس الابتدائية والثانوية، يتابعون دروسا في القرءان واللغة العربية، بعد انتهائهم من الدوام في المدارس الحكومية..وقد كان لافتا للنظر أن للصلاة زيا خاصا، يقبل الطلبة من الاناث خصوصا، على ارتدائه حين يحين وقت صلاة الجماعة، كما كان لافتا أيضا أن موقع الطالبات في الصلاة لا يوجد في مؤخرة المسجد كما هو الحال في غالبية المساجد في البلاد العربية، بل في صدر المسجد.
في الطريق الطويل المتشعب من جاكرتا إلى بوغور إلى باندونغ إلى جوغجا، رصدنا عشرات معاهد التعليم الإسلامي، المتخصصة فيما يبدو في تكوين وإعداد أئمة المساجد والوعاظ والخطباء، وقد رفعت في مداخلها لافتات تعرف بها، يحتل الحرف العربي أعلاها، وقد بلغنا أنها جميعها مؤسسات خاصة أنشئت بمساعدات وأموال الصدقات والزكاوات التي يجود بها الخيرون من أبناء الشعب الأندونيسي المسلم.
وفي جاكرتا وجوغجا وباندونغ وغيرها من مدن جاوة الكبرى، لاحظنا أيضا أن كبريات المحلات التجارية، التي تعرض منتجات أشهر الماركات العالمية، لا تخلو من أجنحة خاصة بالألبسة واحتياجات الشرائح المتدينة في المجتمع الأندونيسي، وهي ألبسة ومنتجات قد جمعت في الغالب بين سعي إلى الالتزام بالضوابط الشرعية ورغبة في مسايرة تيارات الموضة والحداثة.(/1)
وطيلة ما يزيد عن أسبوع من الإقامة في مختلف مدن جاوة، لم نلاحظ أي توتر أو مؤشرات صراع اجتماعي أو من أي نوع آخر، بين المتدينين وغير المتدينين في أندونيسيا، إذ ثمة غلبة واضحة لقيم التعايش والتسامح، ليس بين مختلف مكونات المجتمع الأندونيسي المسلم فحسب، بل كذلك بين المسلمين وغير المسلمين..ولا شك أن أحداث الصراع التي تنشب بين بعض أبناء الأغلبية الأندونيسية المسلمة وبعض نظرائهم المنحدرين من الأقلية الصينية، أو بين المسلمين والمسيحيين، والتي تنقلها وسائل الإعلام إلينا، لا تعبر إلا عن حالات طارئة سرعان ما يخفت بريقها، فالأصل عند الأندونيسيين قبول التعدد الديني والطائفي والاثني، والنظر إليه كميزة، لم يتردد أكثر من مرافق لنا في الافتخار بها.
و عند البحث عن تفسير للطبيعة المسالمة للشعب الأندونيسي المسلم، يعثر الباحث بكل يسر عن أدلة كثيرة في تاريخ البلاد وتاريخ سكانها، ومن هذه الأدلة أن الاسلام لم ينتشر في مختلف أرجاء الارخبيل الأندونيسي، بالاعتماد على الجيوش وحركات الفتح العسكرية، بل كان إقبال الأندونيسيين على العقيدة المحمدية إقبالا طوعيا سلميا، وكانت انطلاقة ذلك عن طريق ثلة قليلة من التجار المسلمين، من عرب وهنود، أبهروا السكان المحليين بسلوكهم القويم واستقامتهم الأخلاقية العالية، تماما كما بعقيدتهم السهلة المباشرة، الخالية من التمييز الطبقي على غرار ما كان سائدا في ظل الديانة الهندوسية المسيطرة حتى ساعة التحول الكبير إلى الدين التوحيدي الجديد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
هذا الطابع السلمي الذي تميزت به حركة الدعوة الإسلامية، هو الذي سيكون لاحقا عامل إقناع غالبية الأندونيسيين بالتشبث بالعقيدة الإسلامية، في مواجهة حملات التبشير التي صحبت حركتي الاستعمار البرتغالي والهولندي، الذي سيطر على الأرخبيل لما يقارب الخمسة قرون.. وقد ظل الإسلام دين جاوه وسومطرة وغيرها من الجزر الأندونيسية، وقد عجز البرتغاليون والهولنديون عن التغيير، فقد جاء دينهم على فوهات المدافع، في حين انتشر الإسلام سلما وطوعا ومحبة.
ولقد تعود الأندونيسيون كمجتمع على حماية وتعهد الإسلام طيلة أربعة عقود أو أكثر، وذلك في ظل وقوع البلاد تحت سيطرة إدارة استعمارية غربية كانت ترعى بالأساس دين الكنيسة، مثلما تعودوا على تحرير مؤسساتهم الدينية الإسلامية من كل وصاية حكومية مادية أو معنوية، فلما جاء الاستقلال وتبنى رواد الحركة الوطنية نموذج الدولة العلمانية، لم يضر ذلك الأندونيسيين، فواصلوا حماية الدين والاضطلاع بمسؤوليات خدمته من خلال مؤسساتهم المجتمعية، وكان ذلك برأي الكثير من المفكرين الأندونيسيين خيرا للإسلام وأبقى.
وفي أندونيسيا الراهنة، وعلى الرغم من كل ما قيل ويقال عن ظهور جماعات إسلامية متطرفة، تتخذ من العمليات الإرهابية وسيلة لبلوغ أهداف سياسية، لم تدخل الحياة السياسية الأندونيسية في حالة صراع بين الدولة والإسلام، بل أبقت المؤسسات السياسية نفسها في حالة ضبط، كما ظل السياسيون الأندونيسيون يفرقون بين جماعة قليلة العدد، اختارت العنف والتشدد منهجا، وبين الجماعات الدينية الكثيرة المنتشرة في مختلف ربوع البلاد، والتي تشبثت طيلة عقود بالمنهج السلمي، وحرصت كل الحرص على المحافظة على الأمن والسلم الاجتماعي.
ومن مميزات العلمانية الأندونيسية، أنها لم تجبر الجماعات الدينية الإسلامية على عدم خوض العمل السياسي، بل شجعت الراغبة من هذه الجماعات على الانخراط في مسيرة البناء الديمقراطي والمساهمة الفعالة في تسيير أجهزة الحكم. ويجد مراقب الحياة السياسية الأندونيسية "أمين ريس" زعيم الحركة المحمدية، وهي حركة اسلامية معتدلة، على رأس البرلمان، فيما كان زعيم حركة "نهضة العلماء" عبد الرحمن واحد أول رؤساء أندونيسيا بعد انتقالها إلى الديمقراطية وتوديعها الحقبة "السوهارتية".
وتشهد أندونيسيا اليوم موجة من الحركات والجماعات الإسلامية الجديدة، التي تقترح توجهات ورؤى غير تقليدية على الفكر الديني الإسلامي، تجذر فيه من جانب الطابع السلمي الهادئ، وتدفعه من جانب آخر إلى الانفتاح على متغيرات العصر ومستجدات الحداثة، وهو ما جعل بعض المواقع العربية الإسلامية على شبكة الانترنت تصف الداعية الإسلامي الجديد في أندونيسيا ب"داعية نيو لوك".(/2)
إن التجربة العلمانية في أندونيسيا، قد أثبتت لكثير من المهتمين بالشأن العربي والإسلامي، أن إسلاما يحبه الناس طوعا ويقبل المؤمنون بتعاليمه على مناسكه حبا ومثابة، إسلام يرعاه المجتمع ويتعهده المواطنون المؤمنون بالدعم ويلوذ بمؤسساته المحتاجون طلبا للطمأنينة والاستقرار، خير من إسلام تعوله الدولة، وتستخدمه الأحزاب والجماعات لتحقيق أهداف خاصة قاصرة، إسلام يقوم على الوصاية والرقابة والنفاق السياسي والاجتماعي والديني، وتختلط معه الأوراق، فلا يدرك المؤمن حقا من طالب الوظيفة أو الشهرة أو المصلحة الضيقة.
لقد أثبتت التجربة الأندونيسية أيضا، أنه لا خوف على الإسلام إذا ما تحرر من ربقة الدولة والأحزاب، وأن دين الأندونيسيين أكثر صلابة وقوة لأنه قائم على القناعات الذاتية والجهود الطوعية، ولأنه سلمي وهادئ واجتماعي، يسأل الله أن يحفظه من شرور المبتدعين، من غلاة التطرف والمتحزبين الدينيين(/3)
إشارات وبشارات للمعتمرين والمعتمرات
عبدالملك القاسم
دار القاسم
الحمد لله ملاذ الخائفين ومنجي المتقين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
فقد ذكر المؤرخون في العصور الأولى من انبلاج نور الإسلام أن أهل المغرب الأقصى كانوا يسيرون إلى البيت الحرام بعد عيد الأضحى بأيام ليدركوا الحج القادم.. ويستغرق سفرهم هذا إلى مكة وإقامتهم وحجهم سنة كاملة، فيها من مشقة السفر، وخوف الطريق، وانقطاع المؤنة ما الله به عليم.
ومن نعم الله علينا تيسر السبل، واستتاب الأمن ورغد العيش، فأسرع الموقفون إلى بيت الله الحرام، معتمرين وطائفين، وساجدين وراكعين، مصلين ومنفقين.. رغبة فيما عند الله عز وجل.
والعمرة في رمضان لها مزية خاصة وأجر عظيم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي { لما رجع من حجة الوداع قال لامرأة من الأنصار أسمها أم سنان: "ما منعك أن تحجي معنا"، قالت: أبو فلان – زوجها – له ناضحان، حج على أحدهما، ولآخر نسقي به. فقال لها النبي : "فإذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرة فيه تعدل حجة". أو قال: "حجة معي". } [متفق عليه].
وأجر العمرة عامة فيه جزيل الأجر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: { العمرة إلى العمرة كفارة لما ينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة } [متفق عليه].
وقد أعظم الله الأجر، وأجزل المثوبة لمن صلى في المسجد الحرام، فقد قال : { صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيما سواه } [رواه أحمد].
والمسلم يحرص على أن ينال ألعى الدرجات وجزيل الثواب ساعياً إلى مرضاة ربه وطلباً لغفرانه، خاصة في هذا الشهر المبارك والمكان المبارك.
ورغبة في تمام الأجر وخوفاً من الزلل والوقوع في الخطأ، هذه الإشارات وبشارات كتبت في وقفات متتالية، والأخ المعتمر يعلم خيراً مني في ذلك:
الوقفة الأولى: انتشر بين النساء السفر إلى العمرة بدون محرم، والنبي يقول: { "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم"، فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج ! فقال : "أخرج معها" } [رواه البخاري].
وهذا الرجل أمره النبي أن يترك الجيش الذي يريد أن يغزو معه، وأن يعود لينطلق مع زوجته التي خرجت في عبادة، ولم يسأله النبي أهي كبيرة ام صغيرة؟أمع نساء أو رجال؟! بل أمره باللحاق بها. والمؤمنة لا تذهب في سفر، لا لحج ولا لعمرة ولا غيرة إلا مع محرم لها ولا تتعذر بطفل لم يبلغ الحلم.
الوقفة الثانية: بعض أولياء يترك أسرته في بلدته ويضيع واجب رعايتهم والقيام عليهم، ويقدم الذهاب إلى مكة على ذلك، وقد اخطأ في هذا الاجتهاد. وحفظ الأهل الأبناء أولى وأجدر وأحق وأفضل، وبعض الشباب يضيع والديه الكبيرين وهما في حاجة إلى خدمته ومعونته، والأجر الأعظم هو في برهم ورعايتهم وبالإمكان الجمع بين عمرة لا تتجاوز مدتها يوماً، ثم العودة إليهما قال تعالى: وقضى ربك إلا تعبدوا إلآ إياه وبالوالدين أحسناً .
الوقفة الثالثة: صلاة المرأة في بيتها خير لها من الصلاة مع جماعة المسلمين في المسجد، فعن أم حميد امرأة أي حمدي الساعدي رضى الله عنها أنها جاءت إلى النبي فقالت: { يا رسول الله، أني أحب الصلاة معك، قال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في ممر دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي" } [رواه أحمد].
وتأملي أختي المسلمة كيف تدرج الخير وتباينت الدرجات، قم انظري في أعلاها وأفضلها وهي صلاة المرأة في بيتها، مقارنة بمسجد رسول الله .
وما ذاك إلا صيانة للمرأة والرجل وسدا للذرائع. قالت عائشة رضي الله عنها: "لو علم النبي ما أحدثت النساء بعده لمنعهن من الخروج"! هذا في زمن أم المؤمنين وفي صدر الإسلام الأول ولا تزال في الأمة وجوه الصحابة، فكيف لو رأت أم المؤمنين نساء هذا الأيام!
الوقفة الرابعة: فرغ نفسك أخي المسلم من لقاء الناس وكثرة الحديث ! وتفرغ لأمر آخرتك، والبعض جعل البقاء في مكة وفي الحرم خاصة مكاناً للحديث وطول الكلام الذي لا فائدة من ورائه ولم يراع حرمة المكان ولا مشاعر المصلين، فتراه رافعاُ صوته بالحديث مضيعاً وقته ومؤذياً غيره. واللسان أمره عظيم، وخطره جسيم قال تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد . قال : {... وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم } [رواه الترمذي]، وأحذر غيبة الأئمة والاستهزاء بهم، ولا تجعل لسانك يفري في أعراض المسلمين وغيبتهم و ازدرائهم، وتجنب فحش الكلام وبذاءته فأنت في شهر عظيم ومكان عظيم. ولا بد من الأدب والتأدب ومن ذلك إغلاق الهواتف النقالة وغيرها. وعدم الإتيان إلى الحرم بملابس النوم والله عز وجل يقول: يبني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد .(/1)
الوقفة الخامسة: لا يكن للشيطان نصيب من عملك الصالح فيوردك موارد الهلاك فإن الشيطان يقعدك عن العمل ويثبطك عن القيام به، فإذا جاهدت وقمت به، بدأ يركض عليك بخيله ورجله حتى يفسد عليك عملك بالرياء والسمعة والعجب والمباهاة ! والله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهة الكريم. قال تعالى: ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء .
الوقفة السادسة: السنة في القيام الإطالة، فلا تتأفف ولا تتذمر وجاهد نفسك فأنت في عبادة، واحذر من الحديث بعد التراويح أو القيام – أننا تعبنا وأنها الصلاة طويلة ! فربما يحبط عملك ! وصلاة القيام والتراويح الآن لا تتجاوز الساعة والنصف ! وتأمل في أمور دنياك التي قد تقف وأنت تؤديها في انتظار طويل ولا تتضجر، بل أنت فرح مسرور ! وتذكر الأجر العظيم، قال : { من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } [متفق عليه].
الوقفة السابعة: تقام في الحرم دروس متتابعة للعلماء فاحرص على حضورها فإن التزود من العلم الشرعي – خاصة لعامة الناس – أمر مهم وقد لا يتيسر لهم ذلك إلا في هذا المكان. ويكفي مع تزودك بالعلم الشرعي أنها مجالس ذكر، قال النبي : { ما اجتمع قوم يذكرون الله الا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده } [رواه مسلم]. قال عن هذه المجالس: { "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا". قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: "مجالس العلم" } [رواه الترمذي].
الوقفة الثامنة: أحذري أختي المسلمة الذهاب للأسواق وضياع وقتك الثمين فيها، وليكن همك الطاعة والعبادة ورضي الله عز وجل ! ها أنت من قبل تسيرين ساعات طوال في الأسواق ولا تملين.. ثم عن صلاة القيام تتراخين وتتكاسلين ! وتجنبي الفتن فإن الشيطان يضع رايته في الأسواق، قال : { احب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها } [رواه مسلم].
ولا يكن هذا الشهر وغيره سواء، واحذري أن تلحقك الذنوب في هذا الشهر المبارك والمكان المبارك بسبب رغبة شراء فستان أو حذاء، فاتقي الله عز وجل في نفسك وفي شباب المسلمين، وما يضيرك لو تركت الذهاب إلى الأسواق، وتقربت إلى الله عز وجل بهذا الترك. خاصة أنك في سفر طاعة وقربه، فلا تحوليه إلى سفر معصية وذنوب وتعودين وأنت تحملين الآثام والأوزار.
والجنة – يا أخيه – لا تنال بالسعي في الأسواق ولا تطال بالجري وراء الموديلات.. بل الجنة سلعة الله الغالية، فبادري إلهيا بالعمل الصالح وسابقي إلى الخيرات، وابتعدي عن مواطن الزلل وعثرات الطريق.
قال الشيخ عبدالله بن جبرين عن حكم ذهاب المرأة إلى الأسواق: ( لايجوز الذهاب في كل الحالات إلا لضرورة شديدة بألا تجد من ينوب عها في شراء حوائجها الخاصة ولا يعرف ما تريده غيرها..).
الوقفة التاسعة: مكة المكرمة بلد تضاعف فيه الحسنات وكذلك السيئات يعظم إثمها، وقد توعد الله عز وجل من يرد فيه الفساد بعذاب أليم، قال تعالى: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم . قال أبن كثير رحمه الله: أي يهم بأمر فظيع من المعاصي الكبار. وعن أبن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: { "أبغض الناس إلى الله ثلاثة" وذكر منهم: "ملحد في الحرم" } [رواه البخاري].
قال في فتح الباري: وظاهر سياق الحديث أن فعل الصغيرة في الحرم اشد من فعل الكبيرة في غيره.
وعن أبن مسعود مرفوعاً: { لو أن رجلاً هم فيه بإلحاد وهو بعدن أبين، لأذاقه الله عذاباً أليما }. هذا فمين هم فكيف بمن عمل !
الوقفة العاشرة: مع كثرة دخول وخروج المصلين والمصليات إلى الحرم فإن على كل مسلم ومسلمة أن يحرصا على البعد عن المزاحمة مع غض أبصارهم. قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من ابصرهم ويحفظوا فروجهم ، وقل للمؤمنت يغضضن من أبصرهن ويحفظن فروجهن . قال أن كثير رحمه الله: وهذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم لما حرم عليهم، فلا ينظرون إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعاً. والنبي عليه الصلاة والسلام يذكر على بن أبي طالب وهو من هو في الورع والتقى فيقول :{ يا علي، إن لك كنزاً في الجنة تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة } [ رواه أحمد ].
وهذا ابن سيرين يقول: أني أرى المرأة في المنام فأعرف أنها لا تحل لي، فأصرف بصري عنها.. فاستحضر يا من أنت في بلد الله الحرام.. عظمة الجبار، وهو المطلع، ويوماً تتطاير فيه الصحف وتشيب فيه الولدان. وبالإمكان تلافي الزحام بالتأخر لمدة دقائق واستثمارها في قراءة القرآن أو الذكر.
الوقفة الحادية عشر: كما أن للوضوء شروطاً لا تصح الصلاة إلا بها، فإن للحجاب شروط لا بد من توافرها لكي تتعبد المسلمة الله عز وجل بهذا الستر والاحتشام.(/2)
ومن شروط الحجاب: أن يستر كل الجسم لا استثناء، وان لا يكون زينة في نفسه، وأن يكون سميكاً غير شفاف، وان يكون واسعاً فضفاضاً غير ضيق، وأن لا يكون متشابهاً لملابس الرجال، وأن لا يكون معطراً، أو مبخراً.
فإلى المرأة المسلمة الحييه التقية النقية التي تسعى إلى رضا الله عز وجل وطلب مغفرته ومرضاته.. احرصي – بارك الله في أعمالك – على لباس العباءة الساترة غير المزركشة، وابتعدي عن النقاب والكاب ووضع العباءة على الكتف، وتجنبي – حرم الله وجهك عن النار – مزاحمة الرجال أو التعطر وأنت خارجة أمامهم.
ومن تمام الستر لبس الجوارب والقفازين سترك الله بستره.. وبوأك من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار.
واحذري أن تكوني ممن قال فيهن النبي : { رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة } [رواه البخاري].
الوقفة الثانية عشره: لكل من أردك رمضان وأعانه الله على أداء العمرة والصلاة في المسجد الحرام، جدد التوبة والأوبة و عد إلى الله عوداً حميداً، واستثمر وقتك في الطاعة والعبادة فإنها أيام قلائل وساعات معدودة. ولا يكن سفرك المسافات البعيدة لتعصي الله عز وجل بالفعل أو القول ولا تضيع أوقاتك في الأسواق ومراقبة الناس ! واحرصي على غض بصرك وتزود من الخير فإن خير الزاد التقوى ولا يكن أخر عهدك بهذا البيت العظيم العصيان والآثام ! وأربأ بكل مسلم (ومسلمة) باحث عن الأجر وهو بجانب طريق الخير، وأربأ أن يجتمع عليهم في بلد الله الحرام: حرمة الشهر، وحرمة المكان، وحرمة الذنب ! وأعلم يا أبن آدم أنك تموت وحدك و تبعث وحدك وتحاسب وحدك. فاستعد للأمر وتيقظ للقادم، وتأهب للسؤال فإنك أمامك ناراً يقال لها لظى، وجنة عرضها السموات والأرض، فكن من المسابقين إليها، وجد في طلبها وكن ممن أثنى الله عليهم: أنهم كانوا يسرعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خشعين .
الوقفة الثالثة عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منزلته في الإسلام عظيمة، و عده بعض العلماء الركن السادس من أركان الإسلام، وقدمه الله عز وجل على الإيمان في قوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . وقدمه الله عز وجل في سورة التوبة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنت بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم . وفي هذا التقديم بيان لشأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعظم منزلته وخطر تركه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصال الصالحين ومن أسباب التمكين في الأرض، ومن أسباب النصر وكذلك من أسباب قبول الدعاء.
قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله: فلو قدر أن رجلاً يصوم النهار ويقوم الليل ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع هذا لا يغضب لله، ولا يتمعر وجهه، ولا يحمر، فلا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله وأقلهم دنياً وأصحاب الكبائر أحسن عند الله منه.
ودرجات تغير المنكر ذكرها النبي بقوله: { من رأى منكم منكراً فلغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان } [رواه مسلم].
فهاهم أحبابك وإخوانك سد منهم النقص ودلهم على الخير وأمرهم به وانههم عن المنكر، وقابلهم بالرفق واللين وحسن الكلام وجميل المقابلة.
ومجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة، منها: إقامة الصفوف وتنبيه الغافل وتعليم الجاهل وإبعاد النساء عن الرجال والأمر بالحجاب والتحذير من السفور.
والمسلمة تعلم النساء كيفية الصلاة الصحيحة وأمور الطهارة وتحذرهن من البدع والشرك وتأمرهن بالحجاب...
الوقفة الرابعة عشر: الدعاء... الدعاء... قال عليه الصلاة والسلام: { الدعاء هو العبادة } [رواه أبو داود].
فاحرص أخر الكريم على الدعاء وأكثر منه بقلب حاضر، ورجاء في الإجابة فإن الله جواد كريم وقد اجتمع لك المكان الطاهر، والزمان الفاضل، وأنت صائم، ومسافر، فتحر فتح الأبواب، وأكثر من الدعاء لخاصة نفسك ولواديك وذريتك، وادع الله عز وجل أن يصلح أمور المسلمين.
الوقفة الخامسة عشر: إلى كل أب وأم وزوج أسوق حديث الرسول : { كلم راع وكلم مسئول عن رعيته..} [متفق عليه].
وإلى كل مسؤول عن أسرته، لا يكن بقاءك في مكة وانشغالك بالعبادة ضياع لحقوق الرعاية، والحفظ والصون لمحارمك، فإن في إهمالهم خطراً عظيماً عليهم وتضييعاً لأمر رعايتهم، وأصحب أبناءك معك، ولتصحب الأم بناتها ولا يخرجن ولا يدخلن إلا معها، مع تمام الستر والحشمة، وإن تيسر لك أن تعود بعد العمرة مباشرة بأهلك فذلك خير. و والله نرى ما يندى له الجبين من ترك الحبل على الغارب في تلك الأماكن المقدسة من سفور النساء وكثرة ترددهن على الأسواق واختلاطهن بالرجال.
أخي المسلم.. أختي المسلمة:(/3)
قال النبي : { "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" } [رواه البخاري].
جعلني الله وإياكم ووالدينا من المقبولين في هذا الشهر الكريم، ومن علينا برحمته ورضوانه والعتق من نيرانه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/4)
إشباع الحاجات الوجدانية للفتاة المسلمة
أولاً: 1] الحاجة إلى الأمن:الفتاة المسلمة وخاصة في مرحلة المراهقة تمر بمرحلة حرجة وفترة انتقالية صعبة، يحكمها تغيرات سريعة ومتنوعة، وتتساءل المراهقة الصغيرة ما الذي يحدث في جسدها؟ وما هذه التغيرات في جسمي ولماذا أنا أختلف عن الرجال؟ وقد يدرك الخوف والقلق الفتاة المسلمة نتيجة لذلك التغير وثمرة لذلك التحول.والحاجة إلى الأمن والاستقرار حاجة ملحة للجنس البشري عمومًا، ولكن المراهق حاجته إليه أمس وطلبه ذلك أكبر، لما يصيبه من الخوف والقلق نظرًا لطبيعة المرحلة العمرية التي يمر بها والتغيرات الجسيمة والنفسية والعقلية والوجدانية التي طرأت عليه.ـ ولا تجد الفتاة المراهقة إلا أمها وأسرتها تبحث في صدورهم عن أمانها، فإن البنت تبوح بسرها لأمها إذا بنت دعائم الثقة بينهما، وهذه الثقة تولد الطمأنينة، والحنان، والنصح الاهتمام، وإذا فقدت هذه الأشياء فإن البنت تبحث عن هذا الأمان في الخارج وهنا تقع الكارثة.ويجب على الوالدين في هذه المرحلة بناء جدار من الثقة والود، وإدراك طبيعة هذه المرحلة بما فيها إحساس زائد بالذات.وتلخص أ/ حنان عطية الطري الجهني أهم مخاوف المراهقة في الأنواع الآتية:1ـ مخاوف مدرسية:مثل خوف الفتاة من الامتحانات، والتقصير في الواجبات، واحتمال سخرية المعلمات، والزميلات، والقلق بسبب التفكير في المستوى التعليمي الذي ترغب في الالتحاق به بعد النجاح في الثانوية العامة.وتأتي المخاوف المتصلة بالحياة المدرسية والتعليمية في مقدمة المخاوف، باعتبارها الصرح القوي الذي تبني عليه آمال المستقبل.
[2] مخاوف على الذات:التحولات والتبدلات الجسدية، والفيسولوجية، وتغير الهيئة والوزن والحجم كل ذلك من شأنه أن يثير أحاسيس المراهقة، وتساؤلاتها وخلجاتها ومخاوفها؛ فهي ترى التغيرات الكثيرة المتتالية في حجم العظام، ونمو الشعر، والأعضاء التناسلية وظهور الطمث .. إلى غير ذلك من التغيرات، فكان لا بد عند تعامل الوالدين معها تجاه هذه المشاعر أن يتجنبا السخرية، والاستغراب، واستهجان حالها، وما آلت إليه في هيئتها، وحجمها، وشكلها، وأن يخففان من وصفها بالصغر، والطفولة، والقصور، إذ إن وصفها بذلك يشعرها باحتقار الآخرين لها، واستهانتهم بها.والمراهقون عمومًا يولون ذواتهم الجسمية اهتمامًا بالغًا، لذا فإن كثيرًا منهم يصاب بالقلق إذا ما تعرض لمرض مفاجئ مصحوب بانخفاض في مستوى الصحة العامة، فيزداد تباعًا خوفًا من طول زمن المرض بعد الصحة، وخوف الضعف بعد القوة، إلى غير ذلك من مثيرات القلق غير المحدودة.(/1)
3ـ مخاوف خلقية:فقد تنتاب المراهقة مخاوف خلقية ترجع إلى الشعور بالذنب لما تقترفه من مخالفات شرعية ما, وما يصدر عنها من أخطاء، وخوفها من أن يستشري بها الفساد في هذه الحالة فتضل ضلالاً بعيدًا، وقد يلاحظ إحساس المراهقة بالذنب والخطيئة نتيجة المشاعر الجديدة خاصة ما يتعلق منها بالجنس، وهذه المحاسبة الخلقية الإيمانية عند المراهقة جديرة بالتربية والتوجيه من قبل الوالدين لإقامة التوازن بين نفسها والواقع الاجتماعي.والخوف من الله عز وجل يدل على استقامة المراهقة واتزانها الانفعالي، ووجود هذا الخوف وانسيابه في نفس المراهقة يعمل على تقوية وتقويم شخصيتها، ويمدها بالطاقة والاستعداد لمواجهة الخوف والقلق، وتختفي مع هذا الشعور كل رهبة لما دون الله.ثانيًا: الحاجة إلى القبول والتقدير:الحاجة إلى القبول والتقدير حاجة مهمة وملحة في الجنس البشري، وتأتي مباشرة في سلم الحاجات النفسية بعد الحاجة الفسيولوجية والحاجة إلى الأمن، فيها يحقق الإنسان آدميته ورقيه، والمراهقة من باب أولى تسعى لذلك لتؤكد ذاتيتها وهويتها.وغالبية المراهقين ينشدون التقدير المعنوي حيث الكلمة الرقيقة العذبة، وحسن المعاملة تؤثر أكثر من غيرها في هذه المرحلة.وشعور المراهقة بالتقدير، وإحساسها بأن البيئة الاجتماعية تبوئها مكانة اجتماعية مناسبة لنموها، وإدراكها وتعقلها ذو تأثير كبير على شخصيتها، وله تأثير كبير في سلوكها الشخصي والاجتماعي يدفعها إلى صرف جهودها لصالح مجتمعها، ويدفعها إلى صرف طاقاتها في المجالات التي ترضي المجتمع عنها، كما يدفعها إلى امتثال الأخلاق السائدة في المجتمع الإسلامي، فمرحلة المراهقة مذخورة بالطاقات والاستعدادات التي تحتاج إلى توجيه جيد يعقلها، تجني منها المراهقة ومجتمعها أطيب الثمار. وإن التقدير لجهود المراهقة حافز أطيب يدفعها إلى استثمار هذه الطاقات.ثالثًا: الحاجة إلى الدين:يمتاز تفكير الفتاة في مرحلة المراهقة بالاهتمام الشديد بأمور الدين، وتفكير المراهقة في هذه المرحلة قد يدعوها إلى التساؤل عن القضايا الكونية، وعن بدايات الإنسان، وغاياته، وتتراكم عليها أسئلة كثيرة في هذا الباب؛ كما أن عواطفها جياشة، وأحاسيسها مرهقة، فقد تكون كثيرة الخوف، كثيرة الرجاء، سريعة الشعور بالذنب والإحساس بالضعف، تحافظ على الصلوات والنوافل، وتكثر الدعاء والأوراد والأذكار، وتعطف على الفقراء والمحتاجين والمظلومين، وتتجه إلى تبني حاجاتهم ومساعدتهم، وتتوق إلى العمل التطوعي والتعاون والجهد الجماعي.فكل هذا وغيره من الظواهر تثير ميول المراهقة الأكيدة للتدين والتعبد بصورة مختلفة، وهو أمر يلحظه العديد من الآباء والأمهات على من هم في سن المراهقة من أولادهم.رابعًا: الحاجة إلى تأكيد الذات ووضوح الهوية:إن الحاجة إلى تأكيد الذات ووضوح الهوية موضوع مهم جدًا بالنسبة للمراهقة، فالمراهقة تعيش حالة من فقدان الذات نسبيًا نظرًا لوقوفها بين مرحلتين، مرحلة الطفلة حيث لا هوية تميز الطفل سوى تبعية الوالدين، ومرحلة النضج وتحمل المسئولية والتبعية الفردية ووضوح الهدف والهوية وغير ذلك.ومن ثم فالمراهقة تسعى إلى تأكيد ذاتيتها وهويتها وتحاول أن تثبت أنها مثل الكبار وتتصرف تصرفات الكبار، هنا تكمن الخطورة وخصوصًا مع روح التمرد الموجودة في هذه المرحلة وقلة الخبرة والعجلة, فقد تفقد المراهقة البوصلة والاتجاه الصحيح في إثبات تلك الهوية وتأكيد الذاتية.لذا يجب على الوالدين أن يؤكدا للفتاة المسلمة بأن الشخصية المؤمنة يجب ألا تكون إمعة، بل تكون متعقلة ومنتفعة بما تسمع وعلى بصيرة من أمرها، ويقين واضح، تتصف آراؤها ومواقفها بالأصالة والاستقلال، وينبهانها إلى ما نبه إليه المنهج الإسلامي، وهو أن ذلك المنهج المتميع يعد عيبًا في الشخص، يجعله في مهب الريح، تتجه به أنى اتجهت، لا قيمة له ولا شأنومن الانحرافات التربوية والنفسية الضارة أن تنشأ المراهقة بهوية مضطربة؛ أو متعددة، فهذا ولا شك طريق الاضطراب والقلق، ويؤدي بلا شك ولا ريب إلى تميع في الشخصية وبالتالي في السلوك والأخلاق والمواقف.ويجب أيضًا أن تفهم الفتاة المسلمة أن هوية المسلمة هو منهجنا الإسلامي القويم، فالهوية إسلامية لاشرقية ولا غربية، بل هوية ربانية الأصول والجذور، ثابتة ثبات المصدر وقوته ورسوخه، فليس لدى المسلم هوية سوى الهوية الإسلامية، هوية الوحي الرباني.خامسًا: الحاجة إلى الحب والعطف والحنان:إن التطورات الوجدانية التي حدثت في نفسية المراهقة، وانتقالها من المحسوس إلى المعنوي، والتغيرات الجنسية التي تجعلها تميل إلى الآخر من جنس الذكور، يولد طاقة وجدانية فياضة بالمشاعر والأحاسيس فتكون في أمس الحاجة إلى الحب والعطف والحنان، ومشاعرها الفياضة في هذه المرحلة من النمو تجعلها تفيض بالحب والحنان لكل أفراد المجتمع، وفي مقدمة من تحبهم الأب والأم، وهذه المشاعر الرقيقة تحتاج منهما إلى إشباع(/2)
دافع الحب والحنان لديها وإلا اضطرت بدافع الغريزة التي بداخلها إلى إشباعها في مكان آخر، والمراهقون الذين تخفق آباؤهم في توفير ما يحتاجون إليه من حب ورعاية، أو الذين يفتقدون آباءهم لتغيبهم عن المنزل أو لسبب أو لآخر، مثل هؤلاء المراهقين يكون أشد ميلاً إلى الاعتماد على جماعة الرفاق لإشباع حاجاتهم الانفعالية.وعلى الرغم من حاجة المراهقة إلى الحب والحنان إلا أننا قد نحتاج لبعض الحسم والحزم لكبح جماح المراهقة إذا ما شذت في سلوكها وتصرفاتها, وتهذيبًا وتقويمًا لطباعها.(/3)
إشراقة النور الإلهي
(بدء الوحي)
بينما كانت البشرية تعيش في دياجيير الظلمات الحالكة , وتعاني من أنماط الحياة المهلكة, حيث خيم عليها الطغيان البشري الضاغط والجهل العالمي الجاثم , والاستسلام للشهوات المنحرفة من غير رادع ولا زاجر , إذا بشعاع النور الإلهي يهبط فجأة من السماء لينير جنبات الأرض , يحمله الروح الأمين عليه السلام فيفاجئ به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء , قد خلا للتأمل والتعبد بعيدًا عن جلبة الناس وضجيجهم .
وإنَّ أفضل من يحدثنا عن هذا الحادث العظيم الذي تغير له وجه التاريخ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم, فكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء , وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد , قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك , ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها , حتى جاءه الحق وهو في غار حراء , فجاءه المَلَكُ فقال: اقرأ . قال: ما أنا بقارئ . قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد (1), ثم أرسلني فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد , ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة , ثم أرسلني فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (العلق :1،2،3) فرجع بها(2) رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زَمِّلوني زِمْلوني , فَزَمَّلوه حتى ذهب عنه الرَّوع , فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي , فقالت خديجة : كلا والله لايخزيك الله أبدًا , إنك لتصل الرحم , وتحمل الكَلَّ , وَتكْسِبُ المعدوم , وتقري الضيف , وتعين على نوائب الحق .
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى – ابن عم خديجة – وكان امرءًا تنصر في الجاهلية , وكان يكتب الكتاب العبراني , فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ماشاء الله أن يكتب , وكان شيخًا كبيرًا قد عمي فقالت له خديجة : يا ابن عمِّ اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى . فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى , ياليتني فيها جَذَعًا , ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجيَّ هم ؟ قال نعم , لم يأت رجل قط بمثل ماجئت به إلا عودي , وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا . ثم لم ينشب ورقة أن تُوفي , وفتر الوحي (3).
لقد كانت الأرض كلها تعيش في ذلك الزمن في ظلمات الجاهلية , فكانت بداية انطلاق النور الإلهي في تلك اللحظة التي خاطب بها جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولقد حل ذلك النور في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تحول إلى مصباح متحرك يضيء لمن حوله, وأصبح يراه من زالت عن عينيه الغشاوة فينجذب إليه ويترقى بهديه نحو الكمال .
لقد كان وقع نزول الوحي شديدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو واضح من هذا النص على الرغم من أنه كان أشجع الناس وأقواهم قلبًا كما دلت على ذلك الأحداث خلال ثلاث وعشرين سنة , وذلك لأن الأمر ليس مخاطبة بشر لبشر ولكنه كان مخاطبة عظيم الملائكة وهو يحمل كلام الله تعالى ليستقبله من اصطفاه الله جل وعلا لحمل هذا الكلام وإبلاغه لعامة البشر .
ولقد كان موقفًا رهيبًا ومسؤولية عظمى لايقوى عليها إلا من اختاره الله تبارك وتعالى لحمل هذه الرسالة وتبليغها .
ومما يصور رهبة هذا الموقف ماجاء في هذه الرواية من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد خشيت على نفسي" وقول عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث "فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني , فزملوه حتى ذهب عنه الروع" .
ومما يبين شدة نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الإمامان البخاري ومسلم رحمهما الله من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : "ولقد رأيته – تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه لَيَتَفَصَّدُ عرقًا " (4).
وما أخرجه الإمام مسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كُرب لذلك وتربَّد وجهه" (5).
أثر المرأة الصالحة في خدمة الدعوة
( إسلام خديجة بنت خويلد وجهودها في الدعوة)
من المعروف أن المجتمع مكون من الرجال والنساء , وأنه كما أن للرجال جهودًا مشكورة في خدمة الإسلام فإن للنساء جهودًا مشكورة كذلك , وإن كانت هذه الجهود قد تختلف في بعض أنواعها حسب اختلاف تكوين الرجال والنساء .(/1)
وأمامنا في هذه المرحلة التي يدور حولها الحديث مثل من جهود المرأة الصالحة في حياة زوجها الداعية .
فحينما أنزل الله تعالى الوحي بواسطة جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجئ به كما تقدم في خبر بدء الوحي الذي أخرجه الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها . فكان موقف خديجة رضي الله عنها عاليًا في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالت : "والله لايخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلَّ وتكسب المعدوم , وتقري الضيف , وتعين على نوائب الحق" ثم في ذهابها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وعرضها الموضوع عليه رجاء أن تجد عنده ما يُسَرِّي عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقوي قلبه .
وهكذا كان موقف خديجة رضي الله عنها الذي يدل على قوة قلبها حيث لم تفزع من سماع هذا الخبر الخارق للعادة , ولعل ماكانت تسمعه من ابن عمها ورقة بن نوفل من انطباق صفات النبي المنتظر على محمد صلى الله عليه وسلم كان له الأثر الأكبر في ثباتها ويقينها حيث غاب عنها عامل المفاجأة واستقبلت الأمر بهدوء وسكينة , ولا أدل على ذلك من ذهابها فور سماعها الخبر إلى ورقة وعرض الأمر عليه .
ومن أجل هذا التصديق برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورقة بن نوفل ولما صدر منه من ذلك الموقف الذي ثَبَّتَ به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم قد شهد له بالجنة كما جاء في رواية أخرجها الحاكم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين" قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي (6).
وذكر الصالحي أن البزار وابن عساكر روياه بإسناد جيد , وقال: وروى الإمام أحمد بسند حسن عن عائشة أن خديجة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة فقال:" قد رأيته فرأيت عليه ثيابًا بيضًا , فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض" قال: وروى أبو يعلى بسند حسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل فقال: " أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس" (7).
كما أن موقف خديجة من خبر الوحي يدل على سعة إدراكها حيث قارنت بين ماسمعت وواقع النبي صلى الله عليه وسلم فأدركت أن من جُبِلَ على مكارم الأخلاق لايخزيه الله أبدًا , فقد وصفته بأنه يصل الرحم , وكون الإنسان يصل أقاربه دليل على استعداده النفسي لبذل الخير والإحسان إلى الناس , فإن أقارب الإنسان هم المرآة الأولى لكشف أخلاقه , فإن نجح في احتواء أقاربه وكسبهم بماله عليهم من معروف كان حريًّا به أن ينجح في كسب الآخرين من البشر , وإن هو أخفق مع الأقربين كان إخفاقه مع الأبعدين من باب أولى .
ووصفته ببذل المعروف والإحسان حيث قالت : "وتحمل الكَلَّ" والكل هو العاجز الذي لايستقل بأمره بنفسه بل يحتاج لمعونة غيره .
كما وصفته بالكرم النادر المثال حيث قالت :" وَتكْسِبُ المعدوم" يعني وتعطي غيرك المال المعدوم , أي نفائس المال التي يعدم نظيرها, والذي تسخو نفسه بنفائس المال سيعطي ماهو دون ذلك من باب أولى , وهذا من أبلغ الوصف في الكرم .
وخصَّت بالذكر إكرام الضيف وهو من الكرم لسمو من يتصف بذلك عند العرب .
ثم وصفته بالنجدة عند الشدائد حيث قالت : "وتعين على نوائب الحق" وهذه صفة من يعيش لغيره أكثر مما يعيش لنفسه وهي من أبرز صفات السادة النجباء .
وجاء في روايات أخرى عند البخاري :" وَتصدُق الحديث وتؤدي الأمانة" وهذه تكملة لسلسلة عظيمة من مكارم الأخلاق قلما تجتمع في رجل واحد .
وفي آخر هذا الخبر موقف كريم لورقة بن نوفل رحمه الله في آخر لحظات من عمره حيث ثَبَّتَ النبي صلى الله عليه وسلم وقوى قلبه بما أخبره به من أن الذي خاطبه هو صاحب السر الأعظم الذي يكون سفيرًا بين الله تعالى وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام .
ومما يدل على أثر كلام ورقة في تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وطمأنته ما جاء في رواية أخرى أخرجها ابن إسحاق وفيها : "فرجعَتْ – يعني خديجة رضي الله عنها – إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتْه بما قال لها ورقة فسهَّل ذلك عليه بعض ماهو فيه من الهمِّ بما جاءه" وفي موضع آخر من الرواية : "ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله وقد زاده الله عز وجل من قول ورقة ثباتًا وخفف عنه بعض ماكان فيه من الهمِّ" (8).
ولقد كان الباعث على الاطمئنان إلى كلامه علمه السابق بكتب أهل الكتاب التي فيها وصف مفصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه .
وهكذا تبين لنا أثر المرأة الصالحة في نجاح الدعوة , وذلك في موقف خديجة رضي الله عنها وماقامت به من تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يواجه الوحي لأول مرة .(/2)
وفي بيان مواقفها بعد ذلك يقول محمد بن إسحاق رحمه الله : وآمنت به خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره وكانت أول من آمن بالله وبرسوله وصدَّق بماجاء منه فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم , لا يسمع شيئًا مما يكرهه من ردٍّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها , تثبته وتخفف عليه , وتصدِّقه وتهون عليه أمر الناس, رحمها الله تعالى (9).
لقد كانت خديجة رضي الله عنها تثبت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وتسكنه وتهون عليه مخالفة الناس إياه, وكان يطلعها على جلية أمره مع المجتمع الذي يدعوه ويكابد صدوده وعداءه .
ولاشك أن الزوجة الصالحة المؤهلة لحمل مثل هذه الرسالة لها دور عظيم في نجاح زوجها في مهمته في هذه الحياة , وبخاصة الأمور التي يعامل بها الناس , وإن الدعوة إلى الله تعالى هي أعظم أمر يتحمله البشر , فإذا وفق الداعية بزوجة صالحة ذات كفاءة فإن ذلك من أهم عوامل نجاحه مع الآخرين .
فالإنسان يقضي مع الناس جزءًا من وقته , ولكنه يقضي في بيته الجزء الأكبر , فإذا وفق بمثل هذه الزوجة فإنه يفضي إليها بما قام به من دعوة الناس وما واجهوه من لين أو عنف, واستجابة أو امتناع ويبثها همومه ويشرح لها مشكلاته , وهي بما لديها من صلاح وكفاءة إذا وضع زوجها بها هذه الثقة ستبذل كل مافي طاقتها من تفكير ومقدرة على العمل فتبدأ أولاً بتقوية قلبه وتخليصه شيئًا فشيئًا مما يعانيه من الهم والقلق , ثم تكون عونًا له على إكمال مهمته بنجاح , إلى جانب قيامها بمهمتها في الدعوة فيما يتعلق بالنساء , وقيام زوجها بتأييدها وتثبيتها وإكمال ماتحتاج إليه لنجاحها في مهمتها , وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : "الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" (10).
وخديجة رضي الله عنها قد قامت بدور مهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم , لما لها من شخصية في مجتمع قومها , ولما جبلت عليه من الكفاءة في المجالات النفسية التي تقوم على الأخلاق العالية من الرحمة والحلم والحكمة والحزم وغير ذلك من مكارم الأخلاق .
والرسول صلى الله عليه وسلم إلى جانب ماحباه الله به من الكمالات البشرية في جميع المجالات , وإلى جانب كونه قبل ذلك محفوفًا بعناية الله جل وعلا وتأييده في كل خطوة يخطوها , فإن الله تعالى وفقه بهذه الزوجة الصالحة , لأنه قدوة للعالمين وخاصة الدعاة إلى الله تعالى , فقيام خديجة بذلك الدور الكبير إعلام من الله تعالى لجميع حَمَلة الدعوة الإسلامية بما يشرع لهم أن يسلكوه في هذا المجال من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتحقق لهم بلوغ المقاصد العالية التي يهدفون إليها .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً عاليًا للوفاء ورد الجميل لأهله , فقد كان يعامل خديجة رضي الله عنها بغاية الإكرام والتقدير حال حياتها , وظل يذكرها ويثني عليها بعد وفاتها, كما أخرج الإمامان البخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير نسائها مريم , وخير نسائها خديجة" ( 11). وبشرها صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة حال حياتها , وأبلغها سلام الله جل وعلا وسلام جبريل عليه السلام كما أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يارسول الله هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام- أو طعام أو شراب- فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها عز وجل ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب(12) لاصخب فيه ولانصب (13).
وتذكر عائشة رضي الله عنها وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة بعد وفاتها بقولها :"ماغِرْتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ماغرت على خديجة وما رأيتها , ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها, وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة , فربما قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة ؟ فيقول : إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد" (14).
بل إنه أظهر البشاشة والسرور لأخت خديجة لما استأذَنتْ عليه لتَذَكُّره خديجة كما أخرج الإمام مسلم من حديث عائشة قالت : استأذَنتْ هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة (15)فارتاح لذلك وقال : اللهم هالة بنت خويلد , فغرت فقلت: وماتذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين(16) هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرًا منها"(17). وأخرجه الإمام أحمد بنحوه من غير ذكر هالة بنت خويلد وزاد : فتَمعَّر وجهه تمعرًا ماكنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المَخِيلة(18)حتى ينظر أرحمة أم عذاب (19).
وذكره الحافظ ابن كثير وقال : تفرد به أحمد وهذا إسناده جيد (20).
وهذا يصور مقدار غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة وحفظه حقها رضي الله عنها .(/3)
ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يظهر الحفاوة بامرأة كانت تأتيهم زمن خديجة ويبين أن حفظ العهد من الإيمان , وقد أخرج خبر ذلك الحاكم من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزنية , فقال: بل أنت حسانة المزنية , كيف أنتم ؟ كيف حالكم ؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله , فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال ؟ فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة وإن حسن العهد من الإيمان .
قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فقد اتفقا على الاحتجاج برواته في أحاديث كثيرة وليس له علة , وأقره الذهبي (21).
إن هذه الأخبار تعدُّ أمثلة مهمة في الدفاع عن أهل الفضل والتقدم في حال غيبتهم , فالمسلم يُحفظ له حقه في حال حضوره وغيبته , وفي حال حياته وموته , لأن الحفاظ على ذلك ليس مبعثه محاسبة صاحب الحق , وإنما مبعثه رقابة الله عز وجل في حقوق المسلمين أولاً, ثم الوفاء لأصحاب المواقف العالية في بذل النفس والمال من أجل إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة المسلمين.
وفي وصف عائشة رضي الله عنها غضب النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة دليل على أن الغضب يكون محمودًا إذا انتهكت حرمات الله تعالى أو حرمات المسلمين , مع امتلاك النفس بحيث يتصرف المسلم بالحكمة , أما عدم الغضب والحالة هذه فإنه دليل على ضعف الإيمان , وعلى قدر الإيمان يكون التاثر والغضب فيما يتعلق بأمور الدين , بخلاف أمور الدنيا فإن الأمر يكون بضد ذلك.
هذا ومن مناقب خديجة رضي الله عنها أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق , وهي أول من صلى معه .
قال ابن إسحاق : وحدّثني بعض أهل العلم : أن الصلاة – حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم-أتاه جبريل وهو بأعلى مكة , فهمز له بعَقبه في ناحية الوادي , فانفجرت منه عين , فتوضأ جبريل عليه السلام , ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ليُريه كيف الطُّهور للصلاة , ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته, ثم انصرف جبريل عليه السلام .
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة , فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل , فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه الصلاة والسلام , ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبريل , فصلت بصلاته (22).
-----------------------
(1) الغط بمعنى الضغط و المقصود منه تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم , ولئن كانت وسائل التنبيه عند العرب تتحدد بدلالات الألفاظ كالحض والاستفهام مثل قولهم هلا أنبئك وألا أنبئك , كما تتحدد بتغيير هيئة الجلوس , فإن الوسائل التي استخدمها جبريل عليه السلام كانت بالضغط الشديد ثلاث مرات , وماذاك إلا لإشعار النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما هو مقدم على سماعه وتبليغه أمر في غاية العظمة , وإن تلقيه يحتاج إلى تفريغ الفكر من كل العلائق الدنيوية ليكون في غاية الاستجماع والتركيز.
(2) يعني بأول سورة العلق .
(3)صحيح البخاري – كتاب بدء الوحي – رقم 3 , صحيح مسلم – كتاب الإيمان – رقم 160 .
(4)صحيح البخاري – كتاب بدء الوحي – رقم 2 , صحيح مسلم – الفضائل رقم 2333 .
(5)صحيح مسلم , الفضائل رقم 2334 .
(6)المستدرك 2/609 , وذكره الهيثمي من رواية الطبراني , قال : ورجاله رجال الصحيح – مجمع الزوائد 9/416.
(7)سبل الهدى والرشاد 2/244 , وذكره الهيثمي من رواية أبي يعلى وقال: فيه مجالد , وهذا مما مدح من حديث مجالد وبقية رجاله رجال الصحيح – مجمع الزوائد 9/416 .
(8)دلائل النبوة للبيهقي 1/146 .
(9)سيرة ابن هشام 1/245 .
(10)صحيح مسلم رقم 1467 , ص 1090 , كتاب الرضاع .
(11)صحيح البخاري , مناقب الأنصار , رقم 3815 (7/133) , صحيح مسلم 1886 رقم 2430 , كتاب فضائل الصحابة .
(12)يعني من لؤلؤ أو ذهب .
(13)صحيح مسلم 1887 رقم 2432 , كتاب فضائل الصحابة .
(14)صحيح البخاري رقم 3818 , كتاب مناقب الأنصار (7/132) .
(15)يعني لتشابه صوتيهما .
(16)يعني لا أسنان لها من الكبر .
(17)صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة رقم 2437 ص 1889 .
(18)يعني السحاب .
(19)مسند أحمد 6/150 .
(20)البداية والنهاية 3/126 . وذكر نحوه الهيثمي عن الإمام أحمد والطبراني بعدة أسانيد وحسنها – مجمع الزوائد 9/224.
(21)المستدرك 1/15 – 16 .
(22)سيرة ابن هشام 1/248 , وأخرجه الحافظ البيهقي من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق, وذكر نحوه – دلائل النبوة للبيهقي 2/160 .(/4)
إشراقة شهر رمضان المبارك
وواقع المسلمين اليوم
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ …….. ))
[ البقرة : 185 ]
مع هذه الأيّام تتلفَّت قلوب المؤمنين المتقين تنظر إشراقة شهر رمضان المبارك، لتزيح إشراقتُه الظلام الذي يحيط بالنَّاس في الأرض، وقد عَّمت البلوى، وامتدَّ الهرج والمرج، وكثرت الزلازل والبراكين والفياضانات، وماجت دماء المجازر، وهاجت أعاصير الفتن، واستبدَّ الظلم والفساد والعُدْوان.
شهر رمضان المبارك أعظم الشهور، ففيه وقعت أعظم الأحداث وأكثرها خيراً وبركةً على النَّاس، على مرِّ العصور، مع توالي الأنبياء والمرسلين. فقد أُنزلت الكتب الإلهيَّة على الأنبياء والمرسلين في هذا الشهر. فعن وائلة بن الأسقع أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : ( أُنزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان، وأُنزلت التوراة لستٍّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان )
[ أخرجه الإمام أحمد ](1)
وقد أُنزلت الصحف والتوراة والزبور والإنجيل، كلٌّ منها أُنزل جملة واحدة على النبيّ الذي أُنزل عليه، وأمَّا القرآن الكريم فقد أُنزل إلى بيت العزّة من السماء الدنيا جملة واحدة في شهر رمضان في ليلة القدر، ثمَّ أُنزل بعد ذلك مفرَّقاً حسب الوقائع على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ثلاث وعشرين سنة :
((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ))
[ القدر : 1]
((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ))
[ الدخان : 3 ]
وكذلك : ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ))
[ الفرقان : 32 ]
وأيُّ خير لدى البشريّة كلّها أعظم من نزول الكتب الإلهيّة على الأنبياء والمرسلين، وأيُّ خير أعظم من نزول القرآن الكريم هدى للنَّاس كافَّة وآيات بيّنات من الهدى والفرقان.
وأيّ نعمة أعظم على النَّاس من أن يُفرَق بين الحقِّ والباطل بآيات بيّنات، ويُخْرَجَ الناس من الظلمات إلى النُّور بإذن ربِّهم.
وأيّ ليلة أعظم من ليلة القدر :
((لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ))
[ القدر : 3-5 ]
((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ))
[ الدخان : 3-6 ]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال: رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنَّة، وتغلّق فيه أبواب الجحيم، وتغلُّ فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر من حُرِم خيرها فقد حُرِم )
[ أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي](2)
وعنه أيضاً : إنَّ الله تعالى يقول : ( إنَّ الصوم لي وأنا أجزي به، إنَّ للصائم فرحتين. إذا أفطر فرح، وإذا لقي الله تعالى فجزاه فرح. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )
[ أخرجه مسلم وأحمد والنسائي ](3)
وعنه : ( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنَّة، وغلّقت أبواب النار وسلسلت " صفدت " الشياطين ) [ رواه الأربعة ](4) والأحاديث الشريفة عن فضل شهر رمضان كثيرة تكشف لنا عظمة هذا الشعر وخيره وبركته على من التزمه صياماً وقياماً وآداباً، فيعتق الكثيرون من النَّار وتغفر ذنوبهم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : ( مَنْ صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر )
[ أخرجه الشيخان وأحمد ](5)
ولقد وقعت أحداث هامة ومعارك فاصلة في حياة المسلمين في شهر رمضان المبارك. ففيه كانت غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة، وفتح مكة سنة ثمان، وأسلمت ثقيف في رمضان بعد قدوم الرسول(صلى الله عليه وسلم) من تبوك. وكذلك كانت معركة بلاط الشهداء سنة 411هـ في شهر رمضان، وكان فتح العمّوريّة في هذا الشهر المبارك سنة 223هـ.(/1)
والأحداث كثيرة في التاريخ الإسلاميّ، تنبئ أنَّ شهر رمضان لم يكن شهر راحة واسترخاء. لقد كان شهراً جامعاً لأنواع الجهاد الذي شرعه الله لعباده المؤمنين. فالصيام جهاد النفس ومجاهدتها، وكذلك قيام الليل. ومجاهدة النفس هي أول أبواب الجهاد في حياة المسلم، جهاد يمتدُّ معه في حياته كلِّها وميادينه كلّها. ولذلك كان حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرويه فضالة بن عبيد رضي الله عنه :
( المجاهد مَنْ جَاهد نفسه في الله )
[ أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان ](6)
ويمتدُّ الجهاد في شهر رمضان المبارك ليبلغ بذل المال والنفس في سبيل الله في مجاهدة أعداء الله. فما كان شهر رمضان معطّلاً لطاقة من طاقات المسلمين في شتَّى الميادين، وإنَّما كان يطلق طاقات المؤمنين على صراط مستقيم بيّنه الله لهم وفصّله، وجعله سبيلاً واحدة وصراطاً مستقيماً، حتى لا يضلَّ عنه أحد إلا الكافرون والمنافقون.
وكان أداء الشعائر في شهر رمضان والوفاء بها، فرائض ونوافل، ليلاً ونهاراً، ينمّي طاقات المؤمنين لتنطلق في الأرض تبلّغ دعوة الله إلى الناس كافّة، وتجاهد في سبيل الله، لتوفي بالأمانة التي حملها الإنسان، والعبادة التي خُلِق لها، والخِلافة التي جُعِلَتْ له، والعمارة التي أُمِرَ بها ليعمر الأرض بحضارة الإيمان.
كان أداء الشعائر أساساً حقيقيّاً يقوم عليه الوفاء بهذه المسؤوليات العظيمة في الأرض، والتكاليف الربَّانيّة. كان المؤمنون يعون أنَّ تكاليف الإسلام لا تقف عند حدود الشعائر، ولكنَّ الشهادتين والشعائر تقيم الأركان التي ينهض عليها الإسلام وتكاليفه :
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال : ( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان )
[ رواه الشيخان وأحمد والترمذي والنسائي ](7)
كان المؤمنون المتقون الصادقون يعون هذه الحقائق، ويعون أنّهم لم يُخْلقوا عبثاً، وأنّهم لن يُتركوا سُدىً، وأنَّ الله خلقهم لأداء مهمّة في الحياة الدنيا من خلال ابتلاء وتمحيص.
وكان فضل الله على عباده عظيماً، حين فرض الشعائر على عباده المؤمنين، لتكون مصدر القوة والطاقة للانطلاق إلى المهمّة العظيمة التي خلق الله الإنسان لها. وجعل مع هذه الشعائر الممتدّة مواسم تتجدّد. وكان صيام شهر رمضان من أعظم هذه المواسم، صيام يتجدّد كلّ سنة، مع نوافل في الصيام متجدّدة كلّ أسبوع أو كلّ شهر، لتُغذّي طاقة المؤمنين لينطلقوا في الأرض. يوفون بالأمانة والعبادة والخلافة والعمارة.
ولا يقف الأمر عند ذلك، ولكنّه يمتدُّ إلى أمور رئيسة عظيمة أخرى في حياة المسلمين بخاصّة وحياة البشريّة بعامّة. إنَّ أحكام صيام شهر رمضان المبارك تهدف في جملة ما تهدف إليه إشعار المسلمين في الأرض كلِّها أنَّها أمّة مسلمة واحدة، تعبد ربَّاً واحداً هو الله الذي لا إله إلا هو، وتدين بدين واحد هو الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، وتمضي على صراط مستقيم مشرق بالنّور، بيّن بالآيات المفصَّلات، أمّةً واحدةً رابطتها أُخوّة الإيمان، الرابطة التي لا تعدلها رابطة في ميزان الإسلام :
(( إنَّما المؤمنون إخوة … ))
[ الحجرات : 10 ]
( المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله. كلُّ المسلم على المسلم حرام عِرْضه وماله ودمه. التقوى هاهنا ـ وأشار إلى القلب ـ بحسب امرئ من الشرِّ أنْ يحقر أخاه المسلم )
[ أخرجه الترمذي ](8)
وتتوالى الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة لتؤكِّد هذه الحقيقة الهامة والقضية الخطيرة في حياة البشريّة كلِّها. وتأتي الأركان الخمسة الشهادتان والشعائر لتؤكِّد كلُّ واحدة منها هذه الحقيقة الهامّة مع سائر الحقائق الضرورية للمسلمين وللنَّاس كافَّة.
وقيام الأمة المسلمة الواحدة في الأرض صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص ضرورة أساسيّة للوفاء بتبليغ رسالة الله إلى النَّاس كافّة، ودعوتهم إلى الإيمان والتوحيد وإلى دين الله كما أُنزل على محمّد (صلى الله عليه وسلم).
إن تبليغ هذه الرسالة العظيمة ودعوة النَّاس إليها وتعهّدهم عليها، أصبح فرضاً على الأمّة المسلمة على كلِّ مسلم قادر وعلى الأمة كلّها، ولا يفلح المسلم ولا الأمة بهذه القضيّة إلا إذا كان المسلمون أمة واحدة صفاً كالبنيان المرصوص.
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )
[ آل عمران : 144]
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
[ آل عمران : 104 ]
وكذلك :(/2)
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ )
[ الصف : 4]
إشراقة شهر رمضان المبارك تحمل في كلِّ سنة معاني كثيرة وحقائق هامّة من حقائق الإسلام الكبيرة. ونشير في هذه الكلمة الموجزة إلى الحقائق التي أوجزناها :
• الأمة المسلمة الواحدة صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص.
• تبليغ دعوة الله إلى النّاس كافّة كما أُنزلت على محمّد(صلى الله عليه وسلم).
• إنَّ قيام الأمة المسلمة الواحدة وتبليغ رسالة الله للنَّاس كافّة حاجة بشريّة وضرورة لصلاح حياة الإنسان على الأرض.
وهي ضرورة لنجاة المسلم والإنسان عامّة من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة.
إنَّ شهر رمضان المبارك يذكرنا بهذه الحقائق كلّ عام، كما تذكّرنا بها سائر الشعائر والشهادتان.
فما بال المسلمين اليوم تفرّقوا شيعاً وفرقاً وأقطاراً، وما بالهم تمزَّقوا في صراع لا يرضاه الله ولا يأذن به ؟!
لقد تحوّل كثير من قواعد الإسلام إلى صورة جديدة لم يألفها الإسلام الذي جاء به محمّد (صلى الله عليه وسلم)، ولا يرضاها. فلقد تحوّل شهر رمضان إلى شهر موائد وطعام وتزاحم على ذلك، وإلى التمسّك بالنوافل وترك بعض الفرائض. وارتخت العزائم وغاب الكثيرون في غفوة شديدة. وعلت الشعارات وبحَّت بها الحناجر ودوّت بها الساحات والمهرجانات، ولم تدوّ بها الوقائع والأحداث.
نحتفل اليوم بإقبال شهر رمضان المبارك وفلسطين تغيب وراء الأفق، ودماء المسلمين فوّارة في الأرض تحت هدير المعتدين الظالمين المجرمين، وأشلاء المسلمين وأعراضهم وحرماتهم وأموالهم منثورة يتزاحم عليها المجرمون.
يأتي شهر رمضان المبارك، كثيرون يتسابقون إلى مواقف الاستسلام والاستخذاء لأعداء الله، كثيرون يلتمسون النصر من أعداء الله أو من أوثان أو من أوهام، في تمزّق وفرقة وشتات.
في الأيام الأخيرة من شهر شعبان ترى الناس يتسابقون إلى الأسواق يختارون أطايب الطعام للإفطار وللسحور. إنّها القضيّة التي تشغل بال الكثيرين. وعندما تدور الأحاديث عن شهر رمضان المبارك في بعض وسائل الإعلام في العالم الإسلاميّ، ينصبُّ كثير منه حول اختلاف الأطعمة من بلد إلى بلد، وحول اختلاف العادات من بلد إلى بلد في الاحتفاء بشهر رمضان المبارك، العادات التي توارثها جيل عن جيل في مراحل الوهن والضعف.
كثيرون ممن ينتسبون إلى الإسلام يقضون لياليَ رمضان مع بعض الفضائيات وبرامجها المتفلّتة، وآخرون يقضونها في ألوان أخرى من اللهو والضياع، وآخرون قد لا يصومون أو يصلّون، ويظلّون يصرّون على أنّهم من المسلمين.
يقبل شهر رمضان المبارك، والمسلمون ليس لهم نهج ولا خطة لمجابهة الواقع الأليم إنما هي شعارات وأمانيّ وأوهام من خلال الفرقة والتمزق والصراع.
لو أحصيت الذين يصلّون الفجر أو أيّ وقت آخر في العالم الإسلاميّ كلّه، وأحصيت عدد الذين ينتسبون إلى الإسلام حسب الإحصائيات، لوجدت النسبة منخفضة جداً. فمن يستفيد من هذه الملايين الضائعة من المنتسبين إلى الإسلام. إنَّ أعداء الله هم الذين يستفيدون من ذلك كلّه، من خلال عمل منهجيّ دائب ليل نهار.
كان شهر رمضان المبارك يقبل فيجمع المسلمين أمة واحدة في المساجد، وفي ميادين الجهاد، وفي البناء والعمل المتواصل، يمضون على صراط مستقيم، يعرفون أهدافهم والدرب الذي يؤدِّي إلى الأهداف. واليوم تشعَّبتْ السبل وضاعت الأهداف، وعمّيت علينا الحقائق.
كان شهر رمضان المبارك يقبل، فيبادر النّاس كعادتهم بعد صلاة الفجر إلى العمل والسعي والبناء. واليوم يغلب النوم على الكثيرين فلا يستيقظون على صلاة الفجر، ويمتدُّ بهم النوم إلى وقت متأخر من الضحى أو النهار كلّه.
لقد تغيّر واقع المسلمين. فعسى أن تنهض العزائم مع إشراقة رمضان لاستئناف الحياة الصادقة، حياة بناء الأمة الواحدة والصفّ الواحد، حياة تبليغ الدعوة إلى النّاس كافّة. وبهذه المناسبة، ومع إطلالة شهر رمضان المبارك أقول هذه الأبيات :
فيءٍ وهات من الظلال
رَمَضانُ أقْبِلْ ! مُدَّ من
لَ ورشفةَ الماءِ الزُّلالِ
واسكبْ على فميَ البَلا
كَ ومِنْ مَواطِرِك الثِّقالِ
واسْقِ البَواديَ منْ ندا
نِ عن الحُقُول عَنِ الرّمالِ
واطْوِ السَّرابَ عن الجنا
جيَةٍ مُروِّعةِ الخيالِ
واملأْ بِنورِكَ كلَّ دا
نْيا الندِيّ من الأمالي
في فرْحَةٍ نَشَرَتْ على الدُّ
(1) المسند : 4/107، الفتح الرباني : 48/46. صحيح الجامع الصغير وزيادته : 1/1497.
(2) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( ط :.3) رقم : ( 55).
(3) المرجع السابق : رقم : ( 1907).
(4) المرجع السابق : رقم : ( 471). أحمد المسند : 2/357
(5) أحمد : 5/4/-5، 9/219 ـ 220، صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( ط : 3) رقم : 6326.
(6) أحمد : المسند : 6/22، الفتح : 14/10 - 11، صحيح الجامع الصغير ويزادته : ( ط : 3) رقم : 6679.
(7) صحيح الجامع الصغير ويزادته : ( ط: 3) رقم : ( 2840).(/3)
(8) صحيح الترمذي : البر والصلة : 18/1927. صحيح الجامع الصغير زيادته : ( ط : 3) رقم : 6706. عن أبي هريرة.
...
...(/4)
إشكالات لغوية في القرآن الكريم
السيد محمد الخباز
هذه بعض الأخطاء اللغوية التي تصورها وأوردها بعض الجهلة لتبيين التناقض في القرآن، والأخطاء التي كتبوها ليست أخطاء بالطبع لأن القرآن لا يأتيه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه، ولكنها اشتباهات وتوهمات، إما لعدم الإلمام بقواعد اللغة العربية أو البلاغة، وإما لوجود معنى خفي عليهم فاشتبهوا في أسلوب التعبير عنه، والرد هنا اقتصر فقط على الجانب اللغوي، ولم أتعرض فيه للجوانب الأخرى من بلاغة أو غيره رغبة في عدم الإطالة، وقد كانت الإجابات مختصرة ولكنها وافية إنشاء الله، وفق الله الجميع لما فيه الخير والسداد.
1ـ رفع المعطوف على المنصوب:
جاء في سورة (المائدة: 69)، (إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ والنصَارى من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
وكان يجب أن ينصب المعطوف على اسم إن، فيقول والصابئين كما فعل هذا في سورة (البقرة: 62) و(الحج: 17).
الصابئون هنا معطوف على اسم إن، وهو الذين آمنوا بالرفع وليس بالنصب؛ لأن العطف هنا يكون بحسب الموضع؛ فكأن الآية تقول الذين آمنوا، والذين هادوا، والصابئون، والنصارى، من آمن بالله منهم فلا خوف عليهم.
2 ـ نصب الفاعل:
جاء في سورة (البقرة: 124)، (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
وكان يجب أن يرفع الفاعل فيقول الظالمون.
الظالمين هنا مفعول به وعهدي هو الفاعل مرفوع بالضمة المقدرة لاشتغال المحل بحركة مناسبة للياء، فمعنى الجملة أن عهد الله لا ينالُ الظالمين أي لا يشملهم.
3 ـ تذكير خبر الاسم المؤنث:
جاء في سورة (الأعراف: 56)، (إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ).
وكان يجب أن يتبع خبر إن اسمها في التأنيث فيقول قريبة.
هناك توجيهان للآية:
1ـ أن الرحمة مصدر ويستوي فيه الوجهان.
2ـ أن قريب على وزن فعيل، بمعنى المفعول؛ فيستوي فيه المذكر والمؤنث ونظيره قوله تعالى(لعل الساعة قريب).
4 ـ تأنيث العدد وجمع المعدود:
جاء في سورة (الأعراف:160)، (وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً).
وكان يجب أن يذكر العدد ويأتي بمفرد المعدود فيقول اثني عشر سبطاً.
السبط في اللغة: بمعنى ولد الولد أو ولد البنت، ولكنه في بني إسرائيل خاصة بمعنى القوم؛ فالسبط عندهم بمنزلة القبيلة من العرب ولذا فأسباط هنا ليست تمييزاً بل هو بدل العدد، وتمييز العدد محذوف لوجود ما يدل عليه وهو (أسباطاً) فتقدير الكلام كالآتي: وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطاً.
5 ـ جمع الضمير العائد على المثنى:
جاء في سورة (الحج: 19)، (هذا نِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ).
وكان يجب أن يثنّي الضمير العائد على المثنّى فيقول خصمان اختصما في ربهما.
الإشارة بقوله هذان إلى الفريقين الذي دل عليهما في الآية السابقة بقوله:
(إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) وقوله بعده (وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب)،
وهنا إشارة لطيفة حيث حصر المختلفين على كثرة مذاهبهم وأديانهم في خصمين اثنين يشير إلى أنهم منقسمون إلى محق ومبطل؛ ففريق الحق خصم وفريق الباطل هو الخصم الآخر فصارا خصمان.
6 ـ أتى باسم الموصول العائد على الجمع مفرداً:
جاء في سورة (التوبة: 9)، (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاَقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا).
وكان يجب أن يجمع اسم الموصول العائد على ضمير الجمع فيقول خضتم كالذين خاضوا.
تقدير الكلام هنا، وخضتم في شيء كالذي خاضوا ؛ فالاسم الموصول عائد على المقدَّر وهو مفرد وليس على الجمع.
7 ـ جزم الفعل المعطوف على المنصوب:
جاء في سورة (المنافقون: 10)، (وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).
وكان يجب أن ينصب الفعل المعطوف على المنصوب فأَصدق وأَكون.
هنا جزم (أكن) لكونه في معنى جزاء الشرط وتقدير الكلام هو: إن أتصدَّق أكن من الصالحين وهي إشارة إلى أن التصدق من شروط الصلاح.
8 ـ جعل الضمير العائد على المفرد جمعاً:
جاء في سورة (البقرة: 17)، (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ).
وكان يجب أن يجعل الضمير العائد على المفرد مفرداً فيقول استوقد... ذهب الله بنوره.
الآية هنا تشبه المنافقين بمن هو في ظلمة فأشعل له ناراً فلما أضاءت أطفأها الله فتقدير الكلام:(/1)
مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم الذي استوقدوه؛ فالضمير في نورهم يعود على المنافقين.
9 ـ نصب المعطوف على المرفوع:
جاء في سورة (النساء: 162)، (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً).
وكان يجب أن يرفع المعطوف على المرفوع فيقول والمقيمون الصلاة.
المقيمون هنا اسم منصوب لفعل محذوف تقديره أمدح أو أعني.
10 ـ نصب المضاف إليه:
جاء في سورة (هود: 10)، (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ).
وكان يجب أن يجرَّ المضاف إليه فيقول بعد ضراءِ.
ضراء هنا مضاف إليه مجرور ولكنه مجرور بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف فهو على وزن فعلاء.
11 ـ أتى بجمع كثرة حيث أريد القلة:
جاء في سورة (البقرة: 80)، (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً).
وكان يجب أن يجمعها جمع قلة حيث أنهم أراد القلة فيقول أياماً معدودات.
هنا معدودة لم تأتي كجمع كثرة بل جاءت بمعنى أن هذه الأيام محسوبة ولها عدد أي أنهم لن يخلدوا في النار لا بمعنى أنهم سيمكثون في النار أياما قليلة لكي يقول معدودات.
12 ـ أتى بجمع قلة حيث أريد الكثرة:
جاء في سورة (البقرة: 183ـ184)، (كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَات).
وكان يجب أن يجمعها جمع كثرة حيث أن المراد جمع كثرة عدته (30) يوماً فيقول أياماً معدودة.
جمع القلة هنا جاء للدلالة على تحقير التكليف من حيث الكلفة والمشقة تشجيعا للمكلف، والأيام المعدودات هنا يقصد بها شهر رمضان.
13 ـ جمع اسم علم حيث يجب إفراده:
جاء في سورة (الصافات: 123ـ132)، (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ... سَلاَمٌ عَلَى إِلْيَاسِينَ ... إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِين).
فلماذا قال إل ياسين بالجمع عن إلياس المفرد؟
فمن الخطأ لغوياً تغيير اسم العلَم حباً في السجع المتكلَّف.
وجاء في سورة (التين: 1ـ3)، (وَالتِّينِ وَالزَيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ).
فلماذا قال سينين بالجمع عن سيناء؟ فمن الخطأ لغوياً تغيير اسم العلَم حباً في السجع المتكلف.
إل ياسين هنا هم آل محمد صلى الله عليهم وليس جمعا لإلياس ، وأما سينين فهو من أسماء الجبل الذي كلم الله به موسى (عليه السلام).
14 ـ أتى باسم الفاعل بدل المصدر:
جاء في سورة (البقرة: 177)، (لَيْسَ َالبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ).
والصواب أن يُقال ولكن البر أن تؤمنوا بالله لأن البر هو الإيمان لا المؤمن.
تقدير الكلام: ولكن البرَّ بِرُّ من آمن، فالقرآن أراد تعريف البر بوصف الأبرار للإشارة إلى أنه لا أثر للمفهوم الخالي عن المصداق ولا فضل فيه وهذا دأب القرآن فهو يشرح الأحوال بتعريف رجالها ولا يكتفي ببيان المفهوم فحسب.
15 ـ نصب المعطوف على المرفوع:
جاء في سورة (البقرة: 177)، (وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ).
وكان يجب أن يرفع المعطوف على المرفوع فيقول والموفون... والصابرون.
الصابرين منصوب على المدح إعظاماً لأمر الصبر ومن عادة العرب إذا طال ذكر الوصف بعد الوصف فإنهم يعترضون بين الأوصاف بالمدح والذم فيختلف الإعراب بين الرفع والنصب.
16 ـ وضع الفعل المضارع بدل الماضي:
جاء في سورة (آل عمران: 59)، (إنّ مثَل عيسى عند الله كمثَل آدمَ خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون).
وكان يجب أن يعتبر المقام الذي يقتضي صيغة الماضي لا المضارع فيقول قال له كن فكان.
قال تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)، إشارة إلى أن المخلوق يتدرج في تكوينه باستمرار ولا يُخلق في مرتبة معينة لا تتغير ولهذا عبر بالمضارع والمضارع يدل على الاستمرار فتأمل دقة القرآن!!
17 ـ لم يأت بجواب لمّا:
جاء في سورة (يوسف: 15)، (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ).
فأين جواب لمّا؟ ولو حذف الواو التي قبل أوحينا لاستقام المعنى.
جواب لما محذوف هنا للدلالة على فجاعة الأمر وفظاعته وهي صنعة شائعة في الكلام فإذا أراد المتكلم أن يصف أمراً فظيعا فيشرع في بيان أسبابه والأحوال التي تؤدي إليه ثم إذا بلغ نفس الحادثة سكت سكوتا عميقا فيدل بذلك على عِظم الأمر.(/2)
18 ـ أتى بتركيب يؤدي إلى اضطراب المعنى:
جاء في سورة (الفتح: 8ـ9)، (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيرا لتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).
وهنا ترى اضطراباً في المعنى بسبب الالتفات من خطاب محمد إلى خطاب غيره.
ولأن الضمير المنصوب في قوله تعزّروه وتوقروه عائد على الرسول المذكور آخراً وفي قوله تسبحوه عائد على اسم الجلالة المذكور أولاً. هذا ما يقتضيه المعنى. وليس في اللفظ ما يعينه تعييناً يزيل اللبس.
فإن كان القول تعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً عائداً على الرسول يكون كفراً، لأن التسبيح لله فقط.
وإن كان القول تعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً عائداً على الله يكون كفراً، لأنه تعالى لا يحتاج لمن يعزره ويقويه!! هنا تعزروه وتوقروه وتسبحوه عائدة جميعها على الله سبحانه وتعالى فالتعزير يأتي بمعنى النصر والتوقير بمعنى التعظيم كما قال تعالى (مالكم لا ترجون لله وقارا)، ومعنى الآية إنا أرسلناك ليؤمنوا بالله ورسوله وينصرونه بمعنى ينصرون دين الله بالجهاد بالأيدي والألسن لا بمعنى أن الله محتاج للنصرة.
19 ـ نوَّن الممنوع من الصرف:
جاء في سورة (الإنسان: 15)، (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا)، بالتنوين مع أنها لا تُنّوَن لامتناعها عن الصرف؟ إنها على وزن مصابيح.
وجاء في سورة (الإنسان: 4)، (إِنَّا أَعْتَدْنَال لْكَافِرِينَ سَلاَسِلاً وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً).
فلماذا قال سلاسلاً، بالتنوين مع أنها لا تُنوَّن لامتناعها من الصرف؟ لا يوجد تنوين في هذه الآيتين في رسم القرآن ولا أدري من أين أتى به !! فالمكتوب سلاسلاْ، قواريراْ بالسكون وليس بالتنوين.
20 ـ تذكير خبر الاسم المؤنث:
جاء في سورة (الشورى: 17)، (اللهُ الذِي أَنْزَلَ الكِتَابَ بِالحَقِّ وَالمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) .
فلماذا لم يتبع خبر لعل اسمها في التأنيث فيقول قريبة؟
قريب على وزن فعيل بمعنى مفعول ويستوي فيه المذكر والمؤنث.
21 ـ أتى بتوضيح الواضح:
جاء في سورة (البقرة: 196)، (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَاِملَةٌ).
فلماذا لم يقل تلك عشرة مع حذف كلمة كاملة تلافيا لإيضاح الواضح، لأنه من يظن العشرة تسعة؟ هنا إشارة إلى أنه لكل من الثلاثة والسبعة حكما مستقلا فالثلاثة عمل تام في نفسه وإنما تتوقف على السبعة في كمالها لا تمامها ، وهناك فرق بين الكمال والتمام فتمام الشيء هو انضمام أجزاءه إلى بعضها ليتكون هذا الشيء أما الكمال فهو حال يُوجِد أثرا على الشيء بعد تمام هذا الشيء ، فمثلا انضمام أجزاء الإنسان لبعضها البعض هو تمامه أما كونه إنسانا عالما أو شجاعا فهذا كماله.
22 ـ أتى بضمير فاعل مع وجود فاعل:
جاء في سورة (الأنبياء: 3)، (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الذِينَ ظَلَمُوا)، مع حذف ضمير الفاعل في أسرّوا لوجود الفاعل ظاهراً وهو الذين.
لو قرأنا السورة من البداية لعرفنا أن (وأسروا النجوى) الضمير فيها عائد على الناس الذي يصفهم الله تعالى ولما لم يكن جميع هؤلاء الناس يسرون النجوى خصص الله تعالى بعدها فقال: (الذين ظلموا) أي أن مجموعة من الناس وهم الذين ظلموا أسروا النجوى.
23 ـ الالتفات من المخاطب إلى الغائب قبل إتمام المعنى:
جاء في سورة (يونس: 21)، (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ).
فلماذا التفت عن المخاطب إلى الغائب قبل تمام المعنى؟ والأصحّ أن يستمر على خطاب المخاطب.
وهذا الإلتفات من المخاطب للغائب من اللطائف التي يستخدمها القرآن إذا دققنا في فهمها ، والنكتة هنا هي إرجاعهم للغيبة وتوجيه الخطاب للنبي (ص) ليسمع الوصف ويتعجب منه ، ويكون فيه مع ذلك إعراض عن الأمر بمخاطبتهم لأنهم لا يفقهون قولا فهو بذلك يحقرهم.
24 ـ أتى بضمير المفرد للعائد على المثنى:
جاء في سورة (التوبة: 62)، (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ).
فلماذا لم يثنّ الضمير العائد على الاثنين اسم الجلالة ورسوله فيقول أن يرضوهما؟ وهذه الآية من أدب التوحيد أي صوناً لمقامه تعالى من أن يعدل به أحد فإن هذه الحقوق له تعالى بالذات ولغيره بالتَّبَع ، وقد روعي هذا في موارد كثيرة فيما يشارك فيه النبي (ص) غيره من الأمة كقوله: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) وَ(يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا)، فأفرد النبي مع أنه من المؤمنين فلم يقل يوم لا يخزي الله الذين آمنوا وذلك لتعظيم الرسول وكذلك في الآية فرضا الرسول من رضا الله سبحانه وتعالى ولكن جعل الضمير يعود لله فقط دون الرسول لتبيين علو مقامه جل وعلا.
25 ـ أتى باسم جمع بدل المثنى:(/3)
جاء في سورة (التحريم: 4)، (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا).
والخطاب (كما يقول البيضاوي). موجّه لحفصة وعائشة.
فلماذا لم يقل صغا قلباكما بدل صغت قلوبكما إذ أنه ليس للاثنتين أكثر من قلبين؟
إرادة التثنية بصيغة الجمع كثير الاستعمال في اللغة والقرآن ولا ضير في ذلك(/4)
إشكاليات العمل الدعوي
سارة بنت عبد المحسن بن جلوي آل سعود
إشكاليات العمل الدعوي
أ.د. سارة بنت عبد المحسن بن جلوي آل سعود*
من المعروف أن العمل الإسلامي لا ينقصه الإخلاص في معظم الحالات، ولكن قد ينقصه الصواب الذي يعد شرطاً لازماً للنجاح. كما يعاني العمل الدعوي من عدة إشكاليات تتمثل في:
جمود آليات العمل الدعوي وأساليبه، وتحولها إلى أشكال مقدسة لا تتجاوز، جعلت الهوة بينها وبين الواقع تزداد اتساعاً مع تسارع أحداث العصر ووقائعه وتطور معطياته.
ضعف الخطاب الديني وسطحيته في كثير من الأحيان وبعده عن مناقشة القضايا المطروحة، مما أفقده القدرة على التأثير في حياة الناس، وتعميق هذه السطحية لدى الملتقى.
الانغلاق على الذات، وتجنب العمل الجماعي المفتوح المتعدد الأطراف والمشارب.
إشكالية وجود الرأي وفقدان الموقف.. فعلى الرغم من كثرة الآراء السديدة والطروحات المهمة إلا أن العجز عن اتخاذ موقف عملي جاد هو الإشكالية الحقيقية التي يعاني منها العالم الإسلامي.
العجز عن ترجمة المبادئ والآراء إلى برامج عمل وآليات فعل، ومواقف واضحة.
فقدان الحسابات الدقيقة والأمنية، وعدم ربط الأسباب بالنتائج، ودراسة الاحتمالات.
إدراك أننا نعاني من أزمة نخبة لا أزمة أمة، وإشكالية جيل، لا إشكالية مصير.
آليات تفعيل العمل الدعوي:
أولاً: العامة:
ضرورة تحديد الوسائل المشروعة والمجدية، واختيار الموقع الفاعل المؤثر وفق الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، مع عدم الإخلال بالتوازن، وضبط النسب، والاحتفاظ بالرؤية الشمولية للإسلام.
الانتقال بالعمل الدعوي من مرحلة المبادئ المبنية على المواعظ، والخطب، والدروس، إلى مرحلة البرامج الواضحة والخطط المرحلية المدروسة، والحسابات الدقيقة للواقع المعاصر، والظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة.
تصويب المسار، وتجديد عملية الانتماء لهذا الدين.
تجديد وسائل العمل الإسلامي وطرائقه وأساليبه وهياكله وميادينه، التي تحولت عند البعض إلى دين يحرم تجاوزه. ذلك أن الاستمرار عليها إنما هو حرب بغير معركة، وانتصار بغير عدو.
ضرورة المراجعة وإعادة النظر وفق المستجدات على الساحة المحلية والإسلامية والدولية، ومتابعة مجريات الأحداث العالمية وتحليلها وفهم أبعادها؛ لتحسين التعامل معها.
العمل على جمع الشمل ووحدة الصف بين الجهات المختلفة العاملة في مجال العمل الدعوي، وفتح باب الحوار والمفاهمة بينها وتبادل الخبرات والاستفادة من الطاقات في عمل جماعي مشترك.
نبذ كل أشكال التحزب والتقوقع والانعزال، والاعتقاد بأن العمل الإسلامي حكر على جماعة بعينها.
الالتزام بالأدب الإسلامي في الحوار والخلاف في وجهات النظر، والجدال بالتي هي أحسن، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
الانتقال من موقف الدفاع الفكري والنظري عن الإشكالات والقضايا الجزئية المطروحة التي تكون في غالبها متوهمة أو مفتعلة والتي لا تنتهي أبداً، والمقصود بها استفزاز الطاقات الفكرية واستهلاك النشاطات الذهنية والجهود العلمية والعملية، وحصرها في إطار الأدب الدفاعي، أو الفكر الوقائي، والمواقع الدفاعية التي لا تراوح محلها وإنما تدور في فلك الانفعال لا الفعل والإثارة لا الإصلاح. فيكون الزمام بيد أعداء الإٍسلام الذين يتحكمون بالمعركة لصالحهم في زمانها ومكانها وأدواتها ومضامينها، إلى امتلاك زمام المبادرة في الطرح، والمواجهة وفق المشكلات الحقيقية والقضايا الواقعية التي تمس كيان هذه الأمة.
العمل على تحقيق التحكم الثقافي من خلال المؤسسات، والمراكز البحثية والدراسات الجادة، وغيرها من الوسائل والآليات لمواجهة سلطة العولمة والهيمنة بأبعادها المختلفة الساعية إلى تدمير الرؤية الإسلامية الشاملة وفقدان البصر والبصيرة.
تفعيل التعامل الجاد الواعي المدروس مع وسائل الاتصال المختلفة، والإسلامية منها على وجه الخصوص؛ للعمل على توجيه المسلمين وتثقيفهم بقضاياهم الحقيقية وتعبئتهم، وتوحيد جهودهم، وحشد قواهم، لمواجهة التحديات المصيرية، وعدم الانخداع بالأطروحات المروّج لها إعلامياً من قبل أعداء هذه الأمة.
العمل الجاد على تكوين جيل من الدعاة والإعلاميين الإسلاميين المؤهلين شرعياً وتقنياً وتخصصياً، القادرين على التعامل مع أبعاد هذا الواقع الخطير الذي يلعب فيه الإعلام الدور الأكبر والأخطر في التوجيه، والتغيير وتحديد المسارات.
تحقيق التوازن المطلوب والتلازم الغائب بين الإخلاص لله، وإتقان العمل للوصول إلى الصواب.
ثانياً: الخاصة بالمرأة:
أن تعي المرأة أهمية دورها وفعاليته في بناء المجتمع والأمة.
معرفة حدود الطاقات النسائية وتجميعها والعمل على تفعيلها.
تصحيح المفهومات المنحرفة في المجتمع وبيان حقيقة الأطروحات المروج لها. وبخاصة بين النساء، وتنمية الاستعلاء الإيماني.
تأهيل أكبر عدد من المثقفات المسلمات لقيادة المجتمع ومواجهة تيارات التغريب والتغيير والتخريب.(/1)
وضع مناهج تربوية نسائية تراعي خصوصية المرأة، وتتوافق مع معطيات الواقع.
العمل على تحريك المسلمات للقيام بدورهن في أي مجال أو مكان أو زمان، مهما صغر هذا الدور.
الاهتمام بفئة الفتيات الشابات واحتضانهن.
تحديد طبيعة العلاقة بين التنظيمات النسوية، وتنظيمات الرجال من حيث التبعية والاستقلال، لمواجهة الظروف المستجدة.
تفعيل دور المؤسسات الإسلامية المعنية بالمرأة لمتابعة الصحوة، وتوحيد الصفوف، وتنظيم العمل، والانتقال من العمل التطوعي الفردي إلى العمل الجماعي المنظم، والتصدي للحرب المعلنة من قبل الهيئات الدولية والمؤسسات العالمية.
التحرك البصير بين جميع شرائح المجتمع، مع التركيز على الشرائح والنخب المثقفة المتميزة واستقطابها، ومحاولة تحطيم الحواجز القائمة والمفتعلة بين العمل الإسلامي وعامة أفراد المجتمع.
المشاركة الفعالة في جميع الأنشطة والفاعليات الثقافية المتنوعة، الإسلامي منها وغير الإسلامي للتأثير وإثبات الوجود.
إشكاليات العمل الدعوي
أ.د. سارة بنت عبد المحسن بن جلوي آل سعود *
من المعروف أن العمل الإسلامي لا ينقصه الإخلاص في معظم الحالات، ولكن قد ينقصه الصواب الذي يعد شرطاً لازماً للنجاح. كما يعاني العمل الدعوي من عدة إشكاليات تتمثل في:
جمود آليات العمل الدعوي وأساليبه، وتحولها إلى أشكال مقدسة لا تتجاوز، جعلت الهوة بينها وبين الواقع تزداد اتساعاً مع تسارع أحداث العصر ووقائعه وتطور معطياته.
ضعف الخطاب الديني وسطحيته في كثير من الأحيان وبعده عن مناقشة القضايا المطروحة، مما أفقده القدرة على التأثير في حياة الناس، وتعميق هذه السطحية لدى الملتقى.
الانغلاق على الذات، وتجنب العمل الجماعي المفتوح المتعدد الأطراف والمشارب.
إشكالية وجود الرأي وفقدان الموقف.. فعلى الرغم من كثرة الآراء السديدة والطروحات المهمة إلا أن العجز عن اتخاذ موقف عملي جاد هو الإشكالية الحقيقية التي يعاني منها العالم الإسلامي.
العجز عن ترجمة المبادئ والآراء إلى برامج عمل وآليات فعل، ومواقف واضحة.
فقدان الحسابات الدقيقة والأمنية، وعدم ربط الأسباب بالنتائج، ودراسة الاحتمالات.
إدراك أننا نعاني من أزمة نخبة لا أزمة أمة، وإشكالية جيل، لا إشكالية مصير.
آليات تفعيل العمل الدعوي:
أولاً: العامة:
ضرورة تحديد الوسائل المشروعة والمجدية، واختيار الموقع الفاعل المؤثر وفق الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، مع عدم الإخلال بالتوازن، وضبط النسب، والاحتفاظ بالرؤية الشمولية للإسلام.
الانتقال بالعمل الدعوي من مرحلة المبادئ المبنية على المواعظ، والخطب، والدروس، إلى مرحلة البرامج الواضحة والخطط المرحلية المدروسة، والحسابات الدقيقة للواقع المعاصر، والظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة.
تصويب المسار، وتجديد عملية الانتماء لهذا الدين.
تجديد وسائل العمل الإسلامي وطرائقه وأساليبه وهياكله وميادينه، التي تحولت عند البعض إلى دين يحرم تجاوزه. ذلك أن الاستمرار عليها إنما هو حرب بغير معركة، وانتصار بغير عدو.
ضرورة المراجعة وإعادة النظر وفق المستجدات على الساحة المحلية والإسلامية والدولية، ومتابعة مجريات الأحداث العالمية وتحليلها وفهم أبعادها؛ لتحسين التعامل معها.
العمل على جمع الشمل ووحدة الصف بين الجهات المختلفة العاملة في مجال العمل الدعوي، وفتح باب الحوار والمفاهمة بينها وتبادل الخبرات والاستفادة من الطاقات في عمل جماعي مشترك.
نبذ كل أشكال التحزب والتقوقع والانعزال، والاعتقاد بأن العمل الإسلامي حكر على جماعة بعينها.
الالتزام بالأدب الإسلامي في الحوار والخلاف في وجهات النظر، والجدال بالتي هي أحسن، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
الانتقال من موقف الدفاع الفكري والنظري عن الإشكالات والقضايا الجزئية المطروحة التي تكون في غالبها متوهمة أو مفتعلة والتي لا تنتهي أبداً، والمقصود بها استفزاز الطاقات الفكرية واستهلاك النشاطات الذهنية والجهود العلمية والعملية، وحصرها في إطار الأدب الدفاعي، أو الفكر الوقائي، والمواقع الدفاعية التي لا تراوح محلها وإنما تدور في فلك الانفعال لا الفعل والإثارة لا الإصلاح.فيكون الزمام بيد أعداء الإٍسلام الذين يتحكمون بالمعركة لصالحهم في زمانها ومكانها وأدواتها ومضامينها، إلى امتلاك زمام المبادرة في الطرح، والمواجهة وفق المشكلات الحقيقية والقضايا الواقعية التي تمس كيان هذه الأمة.
العمل على تحقيق التحكم الثقافي من خلال المؤسسات، والمراكز البحثية والدراسات الجادة، وغيرها من الوسائل والآليات لمواجهة سلطة العولمة والهيمنة بأبعادها المختلفة الساعية إلى تدمير الرؤية الإسلامية الشاملة وفقدان البصر والبصيرة.(/2)
تفعيل التعامل الجاد الواعي المدروس مع وسائل الاتصال المختلفة، والإسلامية منها على وجه الخصوص؛ للعمل على توجيه المسلمين وتثقيفهم بقضاياهم الحقيقية وتعبئتهم، وتوحيد جهودهم، وحشد قواهم، لمواجهة التحديات المصيرية، وعدم الانخداع بالأطروحات المروّج لها إعلامياً من قبل أعداء هذه الأمة.
العمل الجاد على تكوين جيل من الدعاة والإعلاميين الإسلاميين المؤهلين شرعياً وتقنياً وتخصصياً، القادرين على التعامل مع أبعاد هذا الواقع الخطير الذي يلعب فيه الإعلام الدور الأكبر والأخطر في التوجيه، والتغيير وتحديد المسارات.
تحقيق التوازن المطلوب والتلازم الغائب بين الإخلاص لله، وإتقان العمل للوصول إلى الصواب.
ثانياً: الخاصة بالمرأة:
أن تعي المرأة أهمية دورها وفعاليته في بناء المجتمع والأمة.
معرفة حدود الطاقات النسائية وتجميعها والعمل على تفعيلها.
تصحيح المفهومات المنحرفة في المجتمع وبيان حقيقة الأطروحات المروج لها. وبخاصة بين النساء، وتنمية الاستعلاء الإيماني.
تأهيل أكبر عدد من المثقفات المسلمات لقيادة المجتمع ومواجهة تيارات التغريب والتغيير والتخريب.
وضع مناهج تربوية نسائية تراعي خصوصية المرأة، وتتوافق مع معطيات الواقع.
العمل على تحريك المسلمات للقيام بدورهن في أي مجال أو مكان أو زمان، مهما صغر هذا الدور.
الاهتمام بفئة الفتيات الشابات واحتضانهن.
تحديد طبيعة العلاقة بين التنظيمات النسوية، وتنظيمات الرجال من حيث التبعية والاستقلال، لمواجهة الظروف المستجدة.
تفعيل دور المؤسسات الإسلامية المعنية بالمرأة لمتابعة الصحوة، وتوحيد الصفوف، وتنظيم العمل، والانتقال من العمل التطوعي الفردي إلى العمل الجماعي المنظم، والتصدي للحرب المعلنة من قبل الهيئات الدولية والمؤسسات العالمية.
التحرك البصير بين جميع شرائح المجتمع، مع التركيز على الشرائح والنخب المثقفة المتميزة واستقطابها، ومحاولة تحطيم الحواجز القائمة والمفتعلة بين العمل الإسلامي وعامة أفراد المجتمع.
المشاركة الفعالة في جميع الأنشطة والفاعليات الثقافية المتنوعة، الإسلامي منها وغير الإسلامي للتأثير وإثبات الوجود.
والخلاصة:
أنه لا بد للعمل الإسلامي أن يسعى بشكل جاد ليعمل عبر جميع شرائح المجتمع وطبقاته، وذلك بتغذية الصحوة الإسلامية العامة، فلا تدع ركنا في المجتمع إلا وصلت إليه وبلغته الرسالة، وكان لها فيه أبناء وبنات جنود وجنديات، من خلال عمل دعوي وإعلامي، يمتاز بتخطيط دقيق، وتنظيم واضح يتعامل مع معطيات العصر وتقنيات العلم وفق المفهوم الإسلامي الصحيح .
* الرئيس العام لمركز الأمير عبد المحسن بن جلوي للبحوث والدراسات الإسلامية، ورئيسة تحرير مجلة الشقائق .
=========
إشكاليات العمل الدعوي
أ.د. سارة بنت عبد المحسن بن جلوي آل سعود*
من المعروف أن العمل الإسلامي لا ينقصه الإخلاص في معظم الحالات، ولكن قد ينقصه الصواب الذي يعد شرطاً لازماً للنجاح. كما يعاني العمل الدعوي من عدة إشكاليات تتمثل في:
جمود آليات العمل الدعوي وأساليبه، وتحولها إلى أشكال مقدسة لا تتجاوز، جعلت الهوة بينها وبين الواقع تزداد اتساعاً مع تسارع أحداث العصر ووقائعه وتطور معطياته.
ضعف الخطاب الديني وسطحيته في كثير من الأحيان وبعده عن مناقشة القضايا المطروحة، مما أفقده القدرة على التأثير في حياة الناس، وتعميق هذه السطحية لدى الملتقى.
الانغلاق على الذات، وتجنب العمل الجماعي المفتوح المتعدد الأطراف والمشارب.
إشكالية وجود الرأي وفقدان الموقف.. فعلى الرغم من كثرة الآراء السديدة والطروحات المهمة إلا أن العجز عن اتخاذ موقف عملي جاد هو الإشكالية الحقيقية التي يعاني منها العالم الإسلامي.
العجز عن ترجمة المبادئ والآراء إلى برامج عمل وآليات فعل، ومواقف واضحة.
فقدان الحسابات الدقيقة والأمنية، وعدم ربط الأسباب بالنتائج، ودراسة الاحتمالات.
إدراك أننا نعاني من أزمة نخبة لا أزمة أمة، وإشكالية جيل، لا إشكالية مصير.
آليات تفعيل العمل الدعوي:
أولاً: العامة:
ضرورة تحديد الوسائل المشروعة والمجدية، واختيار الموقع الفاعل المؤثر وفق الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، مع عدم الإخلال بالتوازن، وضبط النسب، والاحتفاظ بالرؤية الشمولية للإسلام.
الانتقال بالعمل الدعوي من مرحلة المبادئ المبنية على المواعظ، والخطب، والدروس، إلى مرحلة البرامج الواضحة والخطط المرحلية المدروسة، والحسابات الدقيقة للواقع المعاصر، والظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة.
تصويب المسار، وتجديد عملية الانتماء لهذا الدين.
تجديد وسائل العمل الإسلامي وطرائقه وأساليبه وهياكله وميادينه، التي تحولت عند البعض إلى دين يحرم تجاوزه. ذلك أن الاستمرار عليها إنما هو حرب بغير معركة، وانتصار بغير عدو.(/3)
ضرورة المراجعة وإعادة النظر وفق المستجدات على الساحة المحلية والإسلامية والدولية، ومتابعة مجريات الأحداث العالمية وتحليلها وفهم أبعادها؛ لتحسين التعامل معها.
العمل على جمع الشمل ووحدة الصف بين الجهات المختلفة العاملة في مجال العمل الدعوي، وفتح باب الحوار والمفاهمة بينها وتبادل الخبرات والاستفادة من الطاقات في عمل جماعي مشترك.
نبذ كل أشكال التحزب والتقوقع والانعزال، والاعتقاد بأن العمل الإسلامي حكر على جماعة بعينها.
الالتزام بالأدب الإسلامي في الحوار والخلاف في وجهات النظر، والجدال بالتي هي أحسن، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
الانتقال من موقف الدفاع الفكري والنظري عن الإشكالات والقضايا الجزئية المطروحة التي تكون في غالبها متوهمة أو مفتعلة والتي لا تنتهي أبداً، والمقصود بها استفزاز الطاقات الفكرية واستهلاك النشاطات الذهنية والجهود العلمية والعملية، وحصرها في إطار الأدب الدفاعي، أو الفكر الوقائي، والمواقع الدفاعية التي لا تراوح محلها وإنما تدور في فلك الانفعال لا الفعل والإثارة لا الإصلاح. فيكون الزمام بيد أعداء الإٍسلام الذين يتحكمون بالمعركة لصالحهم في زمانها ومكانها وأدواتها ومضامينها، إلى امتلاك زمام المبادرة في الطرح، والمواجهة وفق المشكلات الحقيقية والقضايا الواقعية التي تمس كيان هذه الأمة.
العمل على تحقيق التحكم الثقافي من خلال المؤسسات، والمراكز البحثية والدراسات الجادة، وغيرها من الوسائل والآليات لمواجهة سلطة العولمة والهيمنة بأبعادها المختلفة الساعية إلى تدمير الرؤية الإسلامية الشاملة وفقدان البصر والبصيرة.
تفعيل التعامل الجاد الواعي المدروس مع وسائل الاتصال المختلفة، والإسلامية منها على وجه الخصوص؛ للعمل على توجيه المسلمين وتثقيفهم بقضاياهم الحقيقية وتعبئتهم، وتوحيد جهودهم، وحشد قواهم، لمواجهة التحديات المصيرية، وعدم الانخداع بالأطروحات المروّج لها إعلامياً من قبل أعداء هذه الأمة.
العمل الجاد على تكوين جيل من الدعاة والإعلاميين الإسلاميين المؤهلين شرعياً وتقنياً وتخصصياً، القادرين على التعامل مع أبعاد هذا الواقع الخطير الذي يلعب فيه الإعلام الدور الأكبر والأخطر في التوجيه، والتغيير وتحديد المسارات.
تحقيق التوازن المطلوب والتلازم الغائب بين الإخلاص لله، وإتقان العمل للوصول إلى الصواب.
ثانياً: الخاصة بالمرأة:
أن تعي المرأة أهمية دورها وفعاليته في بناء المجتمع والأمة.
معرفة حدود الطاقات النسائية وتجميعها والعمل على تفعيلها.
تصحيح المفهومات المنحرفة في المجتمع وبيان حقيقة الأطروحات المروج لها. وبخاصة بين النساء، وتنمية الاستعلاء الإيماني.
تأهيل أكبر عدد من المثقفات المسلمات لقيادة المجتمع ومواجهة تيارات التغريب والتغيير والتخريب.
وضع مناهج تربوية نسائية تراعي خصوصية المرأة، وتتوافق مع معطيات الواقع.
العمل على تحريك المسلمات للقيام بدورهن في أي مجال أو مكان أو زمان، مهما صغر هذا الدور.
الاهتمام بفئة الفتيات الشابات واحتضانهن.
تحديد طبيعة العلاقة بين التنظيمات النسوية، وتنظيمات الرجال من حيث التبعية والاستقلال، لمواجهة الظروف المستجدة.
تفعيل دور المؤسسات الإسلامية المعنية بالمرأة لمتابعة الصحوة، وتوحيد الصفوف، وتنظيم العمل، والانتقال من العمل التطوعي الفردي إلى العمل الجماعي المنظم، والتصدي للحرب المعلنة من قبل الهيئات الدولية والمؤسسات العالمية.
التحرك البصير بين جميع شرائح المجتمع، مع التركيز على الشرائح والنخب المثقفة المتميزة واستقطابها، ومحاولة تحطيم الحواجز القائمة والمفتعلة بين العمل الإسلامي وعامة أفراد المجتمع.
المشاركة الفعالة في جميع الأنشطة والفاعليات الثقافية المتنوعة، الإسلامي منها وغير الإسلامي للتأثير وإثبات الوجود.(/4)
إشكالية العمليات الاستشهادية
د. مسلم محمد جودت اليوسف
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ، و نستهديه و نستغفره وسترشده ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده ورسوله .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) .
و قال أيضاً : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) .
وقال جل جلاله :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً
( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب: 70-71) .
فإن أحسن الكلام كلام الله ، عز و جل ، خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، شر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، و كل بدعة ضلالة ، و كل ضلالة في النار .
و بعد :
إن الهجمة الشرسة على الإسلام و المسلمين و بلادهم من قبل أعداء الله تتطلب منا أن نعد العدد بكل أنواعها المادية والمعنوية لرد العدوان و التنكيل به وبمن يسير بركبه بكل ما و هبنا من قوة .
قال تعالى : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (الأنفال:60) .
و لعل خير السبل لصد تلك الهجمات سبيل الجهاد سواء بالجهاد التفليدي ، أو الجهاد المبتكر كالعمليات الاستشهادية التي يقوم بها صفوة شباب القوم بحيث يضع المجاهد بعض المتفجرات أو القنابل بحزام يحيط بها جسمه ، أو يضعها في مركبة أو ما شابه ، ثم يقتحم على الأعداء مقرهم أو مكان تجمعهم ، ثم يقوم بتفجير تلك المتفجرات بقصد القضاء على العدو ، ولو عن طريق التضحية الحتمية بنفسه .
و الملاحظ على مثل هذه العمليات أن مصرع المجاهد إنما كان بفعل يديه و سلاحه ، و إن كان هدفه الأصلي هو القضاء على العدو وعتاده .
و لإزالة شبهة موت صاحب العملية الاستشهادية كان بيده و بسلاحه لا بيد أعدائه و بسلاحهم ، نورد بعض الأدلة التي تزيل هذا الإشكال منها :
قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى ).
و لا ريب بأن نية المجاهد الذي قام بمثل هذه العملية الجريئة ليس قتل نفسه أبداَ بل إعلاء كلمة الله تعالى و الفوز بالشهادة و التنكيل وبأعداء الله و عددهم ، فشتان ما بين المنتحر الذي يريد قتل نفسه ليتخلص من عذاب الدنيا حسب ما يعتقد ،و المجاهد الذي يريد أن ينال رضى الله والفوز بالجنة .
انظر إلى قوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماوَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) (النساء:29-30)
و تأمل بدقة قوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً ) .
كيف عبر البيان الإلهي على علة الحكم ، فالمنتحر ينتحر عدوانا و ظلما ، لاحباَ بالله و جنته .
أما صاحب العملية الاستشهادية فهو:
1- يخلص النية لله و يقصد من وراء تفجير نفسه إعلاء كلمة الله بما يستطيع ، كما يغلب على ظنه أن العملية لا يمكن أن تتم بأية وسيلة أخرى تضمن سلامته أو غلبة الظن على سلامته .
2- يغلب على ظنه أن العملية ستحدث نكاية و رعباً بالعدو ، أو تجرئة للمسلمين على أعدائهم .
3- أن المجاهد لا يقوم بمثل هذه العمليات إلا في ظروف الحرب و استشارة أهل العلم و الخبرة بأمثال هذه العمليات .
ومن لم يتحقق في عمله إلا الإخلاص فعمله جائز – و الله أعلم – و لكنه ليس أفضل ممن حقق تلك الشروط التي تعتبر تكميلية ليكون هذا العمل المبرور على أحسن حال ، و من فقد تلك الشروط إلا شرط الإخلاص فلا نعتبر عمله قد ضاع بل هو شهيد مأجور من شهداء الله تعالى .
والعلماء حكموا على مسألة الاقتحام على العدو بغلبة الظن ، فمن غلب على ظنه أن يقتل ، فهو كمن تيقن ذلك و كلاهما يأخذ الحكم نفسه ، فلا فرق بين غلبة الظن بالموت في هذه المسألة عندهم .
ولا فرق أيضا بين الذي أعان على نفسه بالانغماس في العدو ، و بين من قتل نفسه بالعملية الاستشهادية فكلهم في الحكم سواء مادام يبتغي وجه الله ونصرة دينه القويم .(/1)
و عليه لا اعتبار لليد القاتله للمجاهد في استحقاق الشهادة سواء قتل نفسه بالتفجير أو رجع عليه سلاحه أو قتله العدو أو قتله المسلمون خطأ أو للضرورة كالتترس ، أو أشار على عدوه بطريقة قتله لمصلحة الدين كما في قصة الغلام الذي أقدم على ما من شأنه أن يقتله يقينا رجاء إسلام قومه .
فهذه الصورة و أمثالها متشابهة بالحكم و صاحبها شهيد ، فلا مبرر شرعي على اختلاف الحكم بسبب اختلاف اليد القاتلة في العمليات الاستشهادية مادامت علة الحكم هو النية والقصد و نحن نحسن الظن بأخواننا الذين يضحون بأنفسهم لإعلاء كلمة الله و النيل من أعدائه .
قال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111) .
ولا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم
الدكتور مسلم محمد جودت اليوسف
مدير معهد المعارف لتخريج الدعاة في الفلبين سابقا
و الباحث في الدراسات الفقهية القانونية(/2)
إشهار نكاح المسلم في الكنيسة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ فقه الأسرة/ النكاح/نكاح الكتابيات
التاريخ ... 10/07/1426هـ
السؤال
أنا فتاة نصرانية مخطوبة لشاب مسلم، وقد اتفقنا على الزواج، ووافقتُ أن الأولاد سيكونون على الإسلام.
وعلاقتي مع خطيبي مبنية على احترام كل منا لدين الآخر واتباعه له، وأعرف أن للمسلم أن يتزوج المرأة النصرانية، ولكن هل في القرآن ما يمنع أو يحرم الاحتفال بهذا الزواج في الكنيسة؟ لأنه في ديننا أي زواج لا يكون في كنيسة ولا يباركه الراهب فلا يعتبر زواجاً، بل وقوعا في الفاحشة، فيجب أن يتم الزواج بحفل ديني، وبخلاف ذلك تعتبره الكنيسة الكاثوليكية زواجاً باطلاً.
وإذا كان المسلم لا يحق له الاحتفال في الكنيسة فسوف ننهي علاقتنا ولن نتزوج. وأنا موافقة على إجراء الزواج على يد الإمام ومباركته له، ولا نعلم أنا وخطيبي عن حكم الإسلام في ذهابنا للكنيسة لمباركة زواجنا. فما الحكم في ذلك؟
الجواب
ليس ذهاب المسلم -عند تزوجه الكتابية- إلى الكنيسة أو المسجد شرطاً من شروط النكاح في الإسلام، والبركة تطلب من الله مباشرة لا من الراهب أو الإمام أو غيرهما،
وعندي –في هذا المقام –نصيحتان، أوجه أولاهما لهذه المرأة النصرانية وأنا ألمس من سؤالها العقل ومحبة الطهر والعفاف –ألا تصر على الذهاب إلى الكنيسة. ونصيحتي الثانية لهذا الرجل المسلم أن يحرص ويحاول إقناعها بعدم الذهاب إلى الكنيسة لهذا الغرض، ويسمح لها بالذهاب إليها بعد ذلك لو رغبت ويعرفها على الدين الإسلامي بخلقه وسلوكه وتعامله أكثر من الكلام والقراءة بالكتب، وأقول له: إن أصرت الزوجة على عقد الزواج بالكنيسة أو تعطيل الزواج أصلاً فلا حرج عليك في الذهاب معها إلى الكنيسة بشرط أن تعتقد في قلبك بأن ذهابك ليس لشرعية العقد، وإنما هو مجرد إجراء من الإجراءات المدنية البحتة، ولا علاقة للحل والحرمة بذلك(/1)
إصلاح الأمة بين الفتوى وإيجاد البديل
محمد الفقيه (*) 22/2/1425
12/04/2004
لا يخفى على المتأمل في حال الأمة ما آلت إليه في زماننا من ضعفٍ وتمزق وانحسار وتكالب الأعداء وبعدٍ عن الدين، فبعد أنْ كانت الأمة في الصدارة ولها الريادة في كل شيء أصبحت في مؤخرة الأمم وتابعة في كل شيء؛ فالمنكرات منتشرة ونبذ الشريعة في أكثر بلاد المسلمين واضح، وتقليد الكفار متغلغلٌ على كافة الأصعدة..؛ فالأمة أصبحت مستهلكةً من الدرجة الأولى؛ ليس على مستوى الصناعات فقط؛ بل على مستوى الأفكار والعادات، وصار كثيرٌ من المسلمين همّه تحصيل الشهوة وجمع المال بأي طريق، وأما قضية (الحلال والحرام) فتأتي في الدرجة الأخيرة من تفكيره، وأصبح لا يُميِّز أكثر المجتمعات الإسلامية إلا المساجد وبعض الشعائر الدينية.
وهنا هبَّ المصلحون من العلماء والدعاة لمحاولة إصلاحها والنهوض بها وإعادتها إلى سابق مجدها، وقد حصل اختلاف في مناهج الإصلاح مع اتفاقٍ في الهدف، كلٌ يرى أنَّ منهجه هو أفضل طريقٍ لإصلاح الأمة، ولعلَّ أبرز هذه المناهج منهجان:
الأول: يهتمُّ ببيان الحكم الشرعي في المنكرات الحادثة، ويستصدر فيها الفتاوى، وينتهي دوره عند هذا !!
والثاني: يهتمُّ بإيجاد البدائل والحلول للمشاكل وللمنكرات المستشرية في الأمة.
ويرى أصحاب المنهج الأول أن مهمة العالم هي بيان حكم الله تعالى وتبليغه للناس مع نصحهم وإرشادهم وترغيبهم في الخير وتحذيرهم من الشر، وأن هذا هو منهج العلماء سلفاً وخلفاً؛ فليس من مهمة العالم إيجاد البديل لكل منكرٍ حادث، إضافةً إلى أن كثيراً من البدائل الشرعية القائمة لا تخلو من بعض التنازلات وتقديم الدين في غير صورته النقية التي بها أُنزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
أما أصحاب المنهج الثاني؛ فيرون أنَّ هذا العصر؛ عصرٌ معقدٌ ومليء
بالمنكرات والملهيات؛ فالمنكرات لم تعد بتلك الصورة البدائية والمحدودة في العصور السابقة، بل أصبحت معقدة ومنتشرة، وتديرها مؤسسات ضخمة تبذل لها من الدعاية والإغراء وتنويع اللذة ما يجعل الإنسان يقع فيها مرةً بعد أخرى، فلا يكفي أن تقول للناس: (هذا حرام)، و(ذاك منكر) ثم نتركهم فريسة لهذه المنكرات تنهش دينهم كما نهشت أموالهم وعقولهم، فلوا استقرأنا تجربة الوقوف عند (إصدار الفتوى المحذِّرة من المنكرات) لوجدنا أن أثرها محدود جداً، وأوضح مثالٍ على هذا: (منكرات الإعلام)، فعندما اخْتُرِعَ المذياع وبدأ ينتشر في العالم الإسلامي، وكان يحتوي على بعض المنكرات، هبَّ كثيرٌ من العلماء للتحذير منه، وأصدروا فيه الفتاوى، وما زاده ذلك إلا انتشاراً !! ثمَّ جاء (التلفزيون) بمنكراته الكثيرة، فهبَّ كذلك العلماء للتحذير منه ومن خطره وأصدروا فيه
الفتاوى الكثيرة، وفي غمرة التحذير منه نسي الناس أمر المذياع، وأصبح من مميزات الأتقياء اقتصارهم على المذياع، ومع ذلك لم تؤثر الفتاوى كذلك في ردع الناس عن التلفزيون، ثم جاء (الفيديو)... ثم (الفضائيات) وما تحمله من البلايا، ثم (الإنترنت) وهو بحرٌ لا ساحل له، وكلما جاءت فتنة أصبحت التي قبلها أهون منها، لا يحذَّر أحد منها، ونسي الناس ما قيل فيها من فتاوى محرِّمةٍ ومحذرة.
لكن عندما حاول بعض العلماء والدعاة من الاستفادة من هذه الأدوات الإعلامية في سيبل نشر دين الله وإصلاح الأمة، كان لذلك ثمرةٌ عظيمة لا يستطيع أحدٌ إنكارها، وقل مثل ذلك في البدائل والحلول الشرعية في المعاملات المالية المحرمة؛ فقد كانت تجربة البنوك الإسلامية رائدة حيث وَظَّفتْ كثيراً من الأموال التي أمتنع أصحابها من الدخول بها في البنوك خوفاً من الربا أو غيره من المعاملات المحرمة، وحصلت على ثقة كثير من المستثمرين، بل أدهشت هذه التجربة خبراء المال والاقتصاد.
وأودُّ بعد استعراض منهج الفريقين وحججهم أنْ أنبِّه إلى بعض النقاط:
1- أن صلاح الأمة ومصدر عزِّها وسؤددها لا يتم إلا بأن تتمسك بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
2- أن الأمة في أشد الحاجة إلى تكاتف الجهود في العمل الدعوي، ومحتاجةٌ إلى التقارب بدلاً من التضارب، وإذا نظرنا في المنهجين، لا نجد بينهما تعارضاً حقيقياً، بل نستطيع أن نجمع بين المنهجين ونحقق من اجتماعهما ما ترجوه الأمة.
3- القول بأن الفتاوى المحرِّمة للمنكرات والمواعظ المحذرة منها ليس لها أثر كبير في إزالة تلك المنكرات قولٌ خاطئ؛ بل لها أثرٌ عظيم، فالناس لا يُميِّزون بين المنكرات وغيرها إلاَّ بفتاوى العلماء، وينبغي المحافظة على قيمة فتوى العالم بين الناس؛ فإن لها من الأثر على قلوب الناس وعقولهم وأعمالهم ما لا ينكره إلا جاهل.(/1)
4- أن فتاوى العلماء بتحريم المنكرات الحادثة هي التي ألجأت لإيجاد تلك البدائل، فعندما صدرت تلك الفتاوى؛ تحرَّج الناسُ لخوفهم من الله من جهة ولتغلل تلك المنكرات في حياتهم من جهة أخرى، فكان هذا دافعاً قوياً لإيجاد البدائل الشرعية، وما كان للبديل أن يثمر ويزدهر لولا تحرّج الناس من الحرام بعد صدور تلك الفتاوى.
5- ينبغي على من يصدر الفتاوى ومن ينشرها بين الناس أن يكون حكيمًا في تصرفه حتى لا تتحول الفتوى إلى دعاية للمنكر بدلاً من القضاء عليه.
6- لا يلزم لكل منكر بديلاً شرعياً، وقد اعتاد أكثر الناس أنه إذا سمع الفتوى المحرمة قال: أين البديل؟ أين الحل؟ ونقول له: أين التعبد لله تعالى، وترك المحرمات ابتغاء مرضاته؟! بل أن البعض لا يرضى أن يتنازل ولو عن جزء من المنكر، ويطالب العلماء بإحداث بديل شرعي بنفس الموصفات والمقاييس!!
7- ينبغي لأصحاب البدائل الشرعية أن تكون بدائلهم متقيدة بالكتاب والسنة، وألا يضعفوا أمام سطوة المنكر ويقدموا تنازلات بحجة ترغيب الناس في الدين، فالعالم والداعي إلى الله يسعى لإصلاح الناس عن طريق الارتقاء بهم إلى تعاليم الإسلام وهديه المبيّن بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، لا أن ينحدر بالإسلام إلى أذواق الناس ورغباتهم وما يريدون، فيفصِّل لهم الإسلام على المقاسات التي يريدونها.(*)باحث شرعي(/2)
إصلاح ذات البين
سلمان بن يحي المالكي
لا ريب أن الشقاق والخلاف من أخطر أسلحة الشيطان الفتاكة الَّتي يوغر بها صدور الخلق ، لينفصلوا بعد اتحاد ، ويتنافروا بعد اتفاق ، ويتعادوا بعد أُخوَّة ، وقد اهتمَّ الإسلام بمسألة احتمال وقوع الخلاف بين المؤمنين وأخذها بعين الاعتبار ؛ وذلك لأن المؤمنين بَشَر يخطئون ويصيبون ، ويعسر أن تتَّفق آراؤهم أو تتوحَّد اتجاهاتهم دائماً ، ولهذا عالج الإسلام مسألة الخلاف على اختلاف مستوياتها بدءاً من مرحلة المشاحنة والمجادلة ، ومروراً بالهجر والتباعد ، وانتهاءً بمرحلة الاعتداء والقتال ، والإسلام دين يتشوّف إلى الصلح ويسعى له وينادي إليه ، وليس ثمة خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة يصلح فيها العبد بين اثنين ويقرب فيها بين قلبين ، فبالإصلاح تكون الطمأنينة والهدوء والاستقرار والأمن وتتفجر ينابيع الألفة والمحبة .
أهمية الإصلاح .
1. الإصلاح عبادة جليلة وخلق جميل يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو خير كله " والصلح خير " [ النساء : 128 ]
2. بالإصلاح تكون الأمة وحدة متماسكة ، يعز فيها الضعف ويندر فيها الخلل ويقوى رباطها ويسعى بعضها في إصلاح بعض .
3. بالإصلاح يصلح المجتمع وتأتلف القلوب وتجتمع الكلمة وينبذ الخلاف وتزرع المحبة والمودة .
4. الإصلاح عنوان الإيمان في الإخوان " إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ " [ الحجرات : 10 ]
5. إذا فقد الإصلاح هلكت الشعوب والأمم وفسدت البيوت والأسر وتبددت الثروات وانتهكت الحرمات وعم الشر القريب والبعيد .
6. الذي لا يقبل الصلح ولا يسعى فيه رجل قاسي القلب قد فسد باطنه وخبثت نيته وساء خلقه وغلظت كبده فهو إلى الشر أقرب وعن الخير أبعد .
7. المصلح قلبه من أحسن القلوب وأطهرها ، نفسه تواقة للخير مشتاقة ، يبذل جهده ووقته وماله من أجل الإصلاح .
الله يصلح بين المؤمنين .
ومن عظيم بركة الرب وعفوه ورحمته أنه يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه ، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ فقال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة ، فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي ، فقال الله ـ تبارك وتعالى ـ للطالب : فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء ؟ قال : يا رب فليحمل من أوزاري ، قال : وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال : إن ذاك اليوم يحتاج الناس إلى من يُحمل عنهم من أوزارهم ، فقال الله تعالى للطالب : ارفع بصرك فانظر في الجنان ، فرفع رأسه فقال : يا رب أرى مدائن من ذهب وقصور من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا ؟ أو لأي صديق هذا ؟ أو لأي شهيد هذا ؟ قال : هذا لمن أعطى الثمن ، قال : يا رب ومن يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه ، قال : بماذا ؟ قال : بعفوك عن أخيك ، قال : يا رب فإنى قد عفوت عنه ، قال الله عز وجل : فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك " اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فإن الله يصلح بين المؤمنين " [ رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ]
ميادين الإصلاح .
1. في الأفراد والجماعات ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ : اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ " [ رواه البخاري ]
2. في الأزواج والزوجات ، جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ : أَيْنَ ابْنُ عَمِّك ؟ِ قَالَت:ْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي ، فَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِنْسَان:ٍ انْظُرْ أَيْنَ هُوَ فَجَاءَ فَقَال:َ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ " [ رواه البخاري ](/1)
3. بين المتداينين ، عن كَعْبٍ بن مالك أَنَّه تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍه فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ : يَا كَعْبُ فَقَالَ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه، ِ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ فَقَالَ كَعْب:ٌ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُمْ فَاقْضِه " [ رواه البخاري ] .
4. في الأقارب والأرحام ، حُدِّثَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ : وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لأحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَقَالَتْ أَهُوَ قَالَ هَذَا ؟ قَالُوا : نَعَم.ْ قَالَتْ : هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا ، فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتْ الْهِجْرَةُ فَقَالَتْ : لا وَاللَّهِ لا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا وَلا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَقَالَ لَهُمَا أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي ، فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَال: السَّلامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ أَنَدْخُل ؟ُ قَالَتْ عَائِشَة:ُ ادْخُلُوا ، قَالُوا كُلُّنَا . قَالَت:ْ نَعَم ادْخُلُوا كُلُّكُمْ . وَلا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إلاَّ مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ وَيَقُولانِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنْ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنْ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَتَبْكِي وَتَقُول:ُ إِنِّي نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ فَلَمْ يَزَالا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا " [ رواه البخاري ]
5. في القبائل والطوائف ، عن أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ َقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِك.َ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ مِنْهُم:ْ وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْك.َ فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَشَتَمَه ،ُ فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأيْدِي وَالنِّعَالِ فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا " [ رواه البخاري ](/2)
6. في الأموال والدماء ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ ، فَقَالَ الَّذِي شرى الأرْضُ : إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا ، قال : فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ : أَلَكُمَا وَلَدٌ ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا لِي غُلامٌ وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ قَالَ أَنْكِحُوا الْغُلامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا " [ رواه مسلم ]
7. في النزاع والخصومات ، عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت : سَمِع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَ ، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وَهُوَ يَقُول:ُ وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقَالَ أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ ؟ فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ " [ رواه البخاري ]
فقه الإصلاح .
الإصلاح عزيمة راشدة ونية خيرة وإرادة مصلحة ، والأمة تحتاج إلى إصلاح يدخل الرضا على المتخاصمين ، ويعيد الوئام إلى المتنازعين ، إصلاح تسكن به النفوس وتأتلف به القلوب ، ولا يقوم به إلا عصبة خيرة من خلق الله ، شرفت أقدارهم ، وكرمت أخلاقهم ، وطابت منابتهم ، وللإصلاح فقه ومسالك دلت عليها نصوص الشرع وسار عليها المصلحون المخلصون ، ومنها :
1. استحضار النية الصالحة وابتغاء مرضاة الرب جل وعلا " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله نؤتيه أجرا عظيما " [ النساء : 114 ]
2. تجنب الأهواء الشخصية والمنافع الدنيوية فهي مما يعيق التوفيق في تحقيق الهدف المنشود .
3. لزوم العدل والتقوى في الصلح ، لأن الصلح إذا صدر عن هيئة اجتماعية معروفة بالعدالة والتَّقوى وجب على الجميع الالتزام به والتقيُّد بأحكامه إذعاناً للحقِّ وإرضاءً للضمائر الحيَّة " فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا " [ الحجرات : 9 ]
4. أن يكون المصلح عاقلا حكيما منصفاً في إيصال كلِّ ذي حقٍّ إلى حقِّه مدركا للأمور متمتعا بسعة الصدر وبُعد النظر مضيقا شقَّة الخلاف والعداوة ، محلا المحبَّة والسلام .
5. سلوك مسلك السر والنجوى ، ولئن كان كثير من النجوى مذموماً إلا أنه في هذا الموطن محمود " لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ " [ النساء :114] .
6. الحذر من فشو الأحاديث وتسرب الأخبار والتشويش على الفهوم مما يفسد الأمور المبرمة والاتفاقيات الخيرة ، لأن من الناس من يتأذى من نشر مشاكله أمام الناس ، وكلما ضاق نطاق الخلاف كان من السهل القضاء عليه.
7. اختيار الوقت المناسب للصلح بين المتخاصمين حتى يؤتي الصلح ثماره ويكون أوقع في النفوس .
8. أن يكون الصلح مبنيا على علم شرعي يخرج المتخاصمين من الشقاق إلى الألفة ومن البغضاء إلى المحبة .
9. التلطف في العبارة واختيار أحسن الكلم في الصلح ولما جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عَمِّك ؟ وفيه دليل على الاستعطاف بذكر القرابة .
10. استحباب الرفق في الصلح وترك المعاتبة إبقاء للمودة ، لأن العتاب يجلب الحقد ويوغر الصدور ، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري : رد الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن "
11. ابدأ بالجلسات الفردية بين المتخاصمين لتليين قلبيهما إلى قبول الصلح مع الثناء على لسان أحدهما للآخر .
12. وأخيرا .. الدعاء الدعاء بأن يجعل الله التوفيق حليفك وأن يسهل لك ما أقدمت عليه مع البراءة إليه سبحانه من قوتك وقدرتك وذكائك وإظهار العجز والشدة والحاجة إليه للتأييد والتوفيق .
الأمر بإصلاح ذات البين في القرآن الكريم .
* قال تعالى " فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم " [ البقرة : 182 ]
* قال تعالى " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم " [ البقة : 224 ]
* قال تعالى " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما " [ النساء : 114 ](/3)
* قال تعالى " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " [ النساء : 128 ]
* قال تعالى " ... فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما " [ النساء : 129 ]
* قال تعالى" إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون " [ الحجرات : 10 ]
* " وأًصلحوا ذات بينكم ".
ومعنى ذات البين : صاحبة البين ، والبين في كلام العرب يأتي على وجهين متضادين :
1. الفراق والفرقة ومعناه : إصلاح صاحبة الفرقة بين المسلمين بإزالة أسباب الخصام والتسامح والعفو ، وبهذا الإصلاح يذهب البين وتنحل عقدة الفرقة .
2. الوصل ومعناه : ومعناه : إصلاح صاحبة الوصل والتحابب والتآلف بين المسلمين ، وإصلاحها يكون برأب ما تصدع منها وإزالة الفساد الذي دبّ إليها بسبب الخصام والتنازع على أمر من أمور الدنيا " [ الأخلاق الإسلامية للميداني 2/230 ]
فضل الإصلاح والمصلح .
* قال تعالى " والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين " [ الأعراف : 170 ]
* قال تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين "
* " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا : بلى ، قال : صلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة " [ رواه أبو داود ]
* " كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار على أن يعقلوا معاقلهم ، وأن يفدوا عانيهم بالمعروف [ العاني الأسير ] والإصلاح بين المسلمين " [ رواه أحمد ]
* " تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا شريك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال : أنظروا هذين حتى يصطلحا ، أنظروا هذين حتى يصطلحا ، أنظروا هذين حتى يصطلحا " [ رواه مسلم ]
* " ما عمل ابن آدم شيئاً أفضل من الصلاة , وصلاح ذات البين , وخلقِ حسن " [ الصحيحة : 1448 ]
* " كل سلامي من الناس عليه صدقة ، كل يوم يعدل بين الناس صدقة " [ رواه البخاري ]
* قال أنس رضي الله عنه " من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة "
الكذب في الإصلاح .
1. عن أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول التي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول " لَيْسَ الْكَذابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي [ بدون تشديد بمعنى نقل ما فيه خير وصلاح وبالتشديد الإفساد ] خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا " [ رواه البخاري ]
2. قال بن شهاب : ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث : الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها " [ رواه البخاري ]
أعدل الصلح .
قال بن القيم رحمه الله " فالصلح الجائز بين المسلمين هو يعتمد فيه رضي الله سبحانه ورضي الخصمين ، فهذا أعدل الصلح وأحقه ، وهو يعتمد العلم والعدل ، فيكون المصلح عالما بالوقائع ، عارفا بالواجب ، قاصدا العدل ، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم " [ أعلام الموقعين 1 / 109 ـ 110 ]
وأخيرا ..
إن المكارم كلها لو حصلت ...... رجعت جملتها إلى شيئين
تعظيم أمر الله جل جلاله ...... والسعي في إصلاح ذات البي(/4)
إصلاح سيارات شركات التأمين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الإجارة والجعالة
التاريخ ... 7/1/1424هـ
السؤال
لدي مركز صيانة سيارات وتعاقدت معي شركة تأمين بإصلاح سيارتهم التي يجري عليها التأمين فهل هذا الفعل يجوز؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
نعم يجوز أن تتعاقد مع شركة التأمين لإصلاح سياراتها ومعداتها حتى لو كانت الشركة التأمينية في عقودها نظر مع المؤمنين معها، فالتعامل مع الكافر أو من ماله حرام بالبيع والشراء جائز لا شيء فيه ما دام تعاملك أنت مستوفياً الصفات الشرعية في العقود.
وعليك أن تعامل هذه الشركة كما تعامل غيرها من الشركات والمؤسسات الأخرى، والله أعلم.(/1)
إضاءات في الهزيمة النفسية
بسم الله الرحمن الرحيم
الهزيمة النفسية التي حلت بها الأمة الإسلامية
الناظرلأحوال المسلمين اليوم يجد أن الكثير منهم قد تشبه بالكفارفي أمور كثيرة والله المستعان .ولاشك أن هذا التشبه هو عين الهزيمةالنفسية لدى شعوبنا اليوم .
وهذه الهزيمة لها ماوراءها من أسباب وظروف. وحسبي في هذه الوريقات أن أسلط الضوء حول هذه الهزيمة من مظاهر وأسباب ثم أعرج على شيء من العلاج وليعذرني القاريء فيما سأعرضه من إيجاز مع شيء من التنقيط...
أولا/ مظاهر الهزيمة النفسية
في الحقيقة أن المظاهر كثيرة ولكن حسبي ما أد ونه. ولعل هناك من يتفرغ لإخراج مثل هذا الموضوع في مجلد جديد. ومن الظاهر مايلي:
1- اليأس من إصلاح وضع المسلمين .وذلك لما يراه ويسمعه جهارا نهارا من وضع المسلمين المتدني شرقا وغربا – سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتقنيا .. – مع ما يراه ويسمعه أيضا من تسلط الكفر عليهم, وتقدمه في نفس الوقت – سياسيا واقتصاديا وتقنيا –
2- النظرة إلى الدون بمعنى (انعدام الطموح).
حيث يكتفي بإنجاز مهام حياته الروتينية, ولايفكر يوما في الارتقاء بنفسه فضلا عن أمته.
3-التقليدالأعمى للغرب..... ومن آثاره..
أ/ذهاب الابتكار وهذه تكفي ..حيث أصبح الأمر سهلا عند المعجبين بالغرب إذ كل ما في الأمر أن يبحث عن آخر ما استجد لديهم فيما يبحث عنه ومن مظاهر ذهاب الابتكار مايلي:
• التقليد في الملبس..
• التقليد في المأكل والمشرب.
• التقليد في الأسماء سواء أسماء أفراد أومؤسسات أومحلات ...
• التقليد في تصميم العمران ولك أن تتأمل الفنادق فإنها على الطريقة الغربية .
• التقليد في طريقة الكلام
• التقليد في طريقة المستشفى
• التقليد في أنماط الحفلات
• تقليدهم في الاعياد
• اقتناء المجسمات والتماثيل والصور
الخلاصة ( أن التقليد يعني إلغاء الشخصية)
ب/ رضا كثير من الناس بواقعهم الضعيف , ويتجلى في الفرد حيث لا يحمل هم الإسلام
4ـ عدم إظهار الهوية الإسلامية
5ـ ترك الأهداف السامية والرضا بهدف قريب محدود.
ومن الأمثلة..
• تربية الأبناءعلى الدراسة والزواج وبناء الدورفقط . وضمان شيء من قوت الحياة دون تربيتهم على الإيمان الصادق والنهوض بأمتهم والدعوة إلى الله وحمل هم المسلمين.أقول صحيح أن المرء يهتم بقوته وأمور دنياه كما قال الله ((ولاتنس نصيبك من الدنيا)) ولكن نقول كما قال الله أيضا ((وأحسن كما أحسن الله إليك)) وماذكرناه آنفا كله من الإحسان .
• أن البعض ليس له هدف واضح ومحدد يرتقي بمستواه حيث يجعله بعد نهاية ذلك الهدف من المؤثرين ومن القدوات. إنك تعجب من بعضهم حيث يحلم أن يعمل للأمة شيئا العمل ولكنه لا يعمل خطوات عملية لما يريده فهذه هزيمة نفسية لأنها مجرد خواطر .
• كذلك تجد أن الشاب يتخرج من الثانوية ولايدري أي تخصص يعمل فيه .
• أيضا التخاذل والتكاسل عن تبليغ الدعوة إلى الله .
• وكذلك التخاذل عن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
• تفضيل الصناعات الغربية على الصناعات المحلية الإسلامية
• الحرص على التردد إلى البلاد الغربية والتفاخر بذلك .
إن الواجب على المسلمين أن ينتبهوا لذلك وأن يكون حذقين بما يمكر به أعداؤنا .
تلك هي المظاهر والآن نتحدث عن الأسباب والعلاج وما هذا الموضوع إلا محاولة يسيرة لدفع عجلة الأمة للأمام والله الموفق .
ثانيا/ الأسباب المؤدية إلى الهزيمة .
وتنقسم إلى قسمين :
1ـ أسباب داخلية عند المسليمن .
• ضعف الإيمان .
• ترك الجهاد
• الخوف والهلع من المشكلات التي تواجههم عند التزامهم بهذا الدين .
• النظرة الضعيفة للتاريخ . فينظر إلى القدس فيقول لها خمسين سنة ولم تتحرر. أن الأمة أصبحت تجهل طاقاتها الحقيقية .
• قلة الطموحات في أفراد هذه الأمة .
• عيش المسلمين في عقدة المغلوب .
2ـ أسباب خارجية .
• قوة الأعداء وتمكنهم بل وتسلطهم على بلاد المسلمين وخيراتهم
• وجود المنافقين وما أكثرهم .
• أن أعداء الله يحاولون أن يظهروا للناس دعايات تضخم قوتهم وجبروتهم .
ثالثا/ العلاج :
والعلاج هو العمل بضد الأسباب فبضدها تتميز الأشياء ولكن نضيف قائلين :
• أنه لابد علينا أن نعرف المشكلة.وأن نعرف مكمن الخطر .
• لابد من التربية على العقيدة الصحيحة .
• الابتعاد عن التعلق بالدنيا والإقبال على الآخرة .
• الرجعة إلى التاريخ .
• الهمة والإرادة .
• إبعاد التشاؤم .
وعلى الأمة جميعا أفرادا وجماعات ,شعوبا ودولا أن يرجعوا إلى ربهم وأن ينفضوا ثوب الهزيمة عنهم لكي تعود الأمة إلى رشدها وطريقها الصحيح عندئذ نحرر الأقصى ونتربع على عرش الأمم.
والله المستعان .(/1)
إطلاق سراح الإسلام أولاً!
د. حلمي القاعود 13/10/1424
07/12/2003
الحديث عما يسمى تجديد الفكر الديني له أبعاد غريبة وعجيبة وشائكة لأن هذا الشيء الذي يسمى "الفكر الديني" يقوم على اجتهادات البشر التي تتناول حركة الإنسان المسلم من خلال المفاهيم الإسلامية.
ولأن هذه المفاهيم غائبة أو مغيبة على مستوى الأمة والأقطار الإسلامية في آن واحد فإن هذا التجديد الذي نبحث عنه أو نطالب به البعض يصبح مسالة ثانوية أو غير ذات أهمية أمام ما يقال عن وصول نسبة الأمية إلى أكثر من 70 % .. كيف أجدد الفكر الديني والقوم يجهلون أبجديات الدين وأساسياته، وإن كانوا يتعاملون معه من خلال عواطف مشبوبة ومشاعر مشتعلة ترفض أي مساس به أو عدوان عليه؟!.
أولوية القضايا
إن إطلاق سراح الإسلام ومفاهيمه الصحيحة وتعميمها على الناس كي يدركوا أبعادها الحقيقية ومقاصدها الأصلية مسألة لها الأولوية على قضايا التجديد والتفسير والتأويل، فالذي يجهل المفهوم أو القضية الأساسية لا يستطيع أن ينتقل إلى فروع ثانوية أو قضايا فرعية ليتناولها ويحللها ويفسرها وفقًا لاجتهادات معينة؛ لأنه يفتقد الوعي بالأصول أو الثوابت أو الخطوط العامة.
لقد تم حبس الإسلام عن الناس بصورة واعية أو غير واعية في شتى المجالات والمرافق التي يمكن أن تكون منبعًا هاديًا لصحيح الدين وثوابته، حدث ذلك في كثير من الأقطار العربية ... وفي المقدمة من هذه المجالات والمرافق مؤسسة الأزهر الشريف في مصر، حيث جاء القانون 103 لسنة 1961 ليضعف مستوى الطالب الأزهري الذي يفترض أن يكون أكثر الناس وعيًا بصحيح الدين وثوابته بعد تخرجه في المرحلة العالية، ولكن القانون المذكور جعل الأزهر -الذي يفترض أن يكون معهدًا متخصصًا لدراسة العلوم الإسلامية والآداب العربية- مجرد مدرسة مثل بقية المدارس العامة التي تدرس كل شئ بالإضافة إلى ملخصات عن النظام القديم للشريعة واللغة، فلم يستطع الطلاب استيعاب علوم الدين ولا الدنيا وبدا الضعف واضحًا على خريجي الأزهر الذين يقفون على المنابر أو أمام الطلاب أو في مواجهة الجماهير عبر وسائل الإعلام والإرشاد، وزاد الطين بلة ما صدر من قرارات في السنوات الأخيرة بتخفيض سنوات الدراسة في المرحلتين الإعدادية والثانوية بالمعاهد الأزهرية، فضلاً عن التساهل في حفظ القران الكريم الذي هو أساس الدراسة العقدية والشرعية واللغوية والأدبية.
إبعاد الإسلام عن التعليم
وفي مجال التعليم العام بكثير من دولنا العربية أبعد الإسلام عن مجال الدراسة عمليًا حيث إن الطالب لا يستذكر مادة التربية الدينية وهي فقيرة تمامًا معرفيًا وفكريًا؛ لأنها لا تضاف إلى المجموع ويستثمرها مدرسو المواد الأخرى ذات المجموع في تعويض ما فاتهم شرحه من مناهجها.
أما وسائط الإعلام أو الميديا؛ فلا تتذكر الإسلام غالبًا إلا في شهر رمضان ويوم الجمعة من كل أسبوع، حيث تظهر في الصحف بعض الصفحات الإنشائية التي تتناول قضايا هامشية أو بعض الفتاوى والتعليقات، أما الإذاعة والتلفزة العربية فهناك بعض البرامج الدينية التي تذاع في أوقات ميتة، وكلها لا تثمر مواطنًا يملك شهادة بالوعي الإسلامي الصحيح أو المتكامل مع ما يبذل في بعضها -وخاصة إذاعة القران الكريم- من جهود طيبة، وفي الدراما يبدو الإسلام منفرًا ومزعجًا ومتزمتًا وقرينًا للجهل والظلم والصخب والإنشاء والدروشة والبلاهة والفجاجة، ثم أضيف إلى صورته مؤخرًا ملامح الإرهاب والعنف والدم والقتل!!.
تحريف وخلط
والإسلام من منظور التيار الثقافي المهيمن على الساحة العربية رمز للتخلف والرجعية والسلفية والأصولية ( بالمفهوم الغربي)؛ لذا لا يحظى بأي تعاطف أو تسامح من النخبة المستنيرة التي تراه بعيون غير إسلامية. ومن الغريب أن هذه النخبة تتجاهل واقع الإسلام في أبعاده المختلفة، ومع ذلك تطالب بتجديد الفكر الديني وفصل الإسلام عن الدولة، وهو كلام فيه خلط وتحريف ويحتاج من النخبة وغيرها إلى مراجعة بفرض حسن النوايا.
إن إطلاق سراح الإسلام أو التسامح معه مسألة أساسية ومنهجية قبل أن نطالب بتجديد الفكر الديني أو ما يسمى كذلك، وعندئذ ستكون الأمور ذات وضع آخر يفرض على الجميع أن يفكروا بصورة جديدة!.(/1)
إعجاز قرآنى علمى أم مجرد ملاحظات ساذجة يعرفها كل أحد؟
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
كنتُ أَعِسّ (بتعبير ابنى) فى أرجاء المشباك منذ أيام فإذا بى أجد نفسى فى أحد المواقع وجهًا لوجهٍ أمام معجمٍ فرنسىٍّ عنوانه: "Dictionnaire des religions et des mouvements philosophiques associés"، فقلت: أَدْخُل وأُلْقِى نظرة لعلى أستفيد شيئا، فوجدت عنوانا جذبنى إليه هو: "Coran et Sience" بقلم كاتبٍ اسمه yohanfrais لم يسبق أن سمعت به، فوقفت أحملق قليلا فى العنوان، ثم استجمعت عزيمتى وتوكلت على الله وشرعت أقرأ، فألفيت أن الكاتب يتناول النصوص القرآنية التى يرى العلماءُ المسلمون أنها تتحدث عن موضوعات علمية، واقفا أمام كل نص من هذه النصوص محللا إياه لينتهى من التحليل إلى أنْ ليس فى القرآن أىّ نص مما يمكن أن يقال عنه بحق إنه يتحدث عن موضوعٍ علمى. وفكرتُ فى ترجمة أحد الموضوعات التى عالجها الكاتب تحت العنوان المذكور والتعليق عليه، واخترتُ الموضوع الخاص بما تتحدث عنه بعض آيات القرآن بشأن التقاء البحرين مع وجود برزخ يمنعهما أن يبغى أحدهما على الآخر. وهذه أولاً ترجمتى للنص المذكور:
"يتحدث القرآن فى ثلاثة مواضع منه عن حاجزٍ يفصل بين بحرين عَذْبٍ ومِلْحٍ يلتقيان دون أن يمتزج أحدهما بالآخر (الفرقان/ 53، وفاطر/ 12، والرحمن/ 19- 21). وهذه هى النصوص المذكورة: 1- "مَرَجَ البحرين يلتقيان* بينهما برزخٌ لا يبغيان* فبأىّ آلاء ربكما تكذّبان؟" (الرحمن/ 19- 21). وجدير بالذكر أن كلمة "برزخ" المترجمة هنا بـ"
zone intermediaire" تعنى: "فاصلا، حاجزا، خندقا، مانعا، عائقا، بوغازا". 2- "وهو الذى مرج البحرين: هذا عذبٌ فراتٌ، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ، وجعل بينهما برزخا وحِجْرًا محجورا" (الفرقان/ 53). 3- "وما يستوى البحران: هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابُه، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ. ومن كلٍّ تأكلون لحمًا طريًّا، وتستخرجون حِلْيَةً تلبسونها. وترى الفُلْك مواخرَ فيه، ولِتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون" (فاطر/ 12).
وحسبما يقول بعض المفسرين فإن هذه الآيات تكشف عن وجود مانع يحول دون اختلاط مياه الأنهار عند مصابها بمياه البحار، لأن هذا الاختلاط لا يتم فى حالاتٍ معينةٍ إلا فى عُرْض البحر بعيدا عن الشاطئ. ومن الممكن أن يكون هذا صحيحا، لكنْ أَلَسْنا هنا بإزاء ملاحظة بسيطة لظاهرة طبيعية يعرفها كل أحد، ألا وهى عدم اختلاط مياه دجلة والفرات بمياه البحر مباشرةً عند مصبهما فى الخليج الفارسى؟ ومن الممكن أن نلاحظ عند مدينة البصرة بالعراق كيف أن مياه دجلة العذبة تصبّ فى المحيط الهادى. وفى حالات المدّ العالى نشاهد طبقة مائية مالحة ذات لون أخضر تلامس طبقة من ماءٍ عذبٍ ضاربٍ إلى الحمرة دون أن يكون بينهما أدنى امتزاج. ولا شك أن القارئ يوافقنى على أن هذا المشهد المثير للاهتمام بالنسبة لنا اليوم لا بد أنه كان شيئا هائلا فى نظر أهل القرن السابع الميلادى!
والآن علينا أن ننظر فيما تقوله لنا الحكاية الأسطورية البابلية التالية التى يرجع تاريخها لما قبل القرآن بثلاثة آلاف من الأعوام: "فى البدء لم يكن هناك إلا "نامُّو" التى كانت تتخذ صورة البحر الأصلى، أو فلنقل: المحيط الكونى. وقد أنجبت "نامُّو" هذه "أَنْ" (السماء)، و"كِى" (الأرض)... وأخيرا "أونكى" الإله الخاص بالماء العذب الذى كان يناوئ الماء الملح فى نامّو (البحر الأصلى)، فكان لا بد أن يُنْقَل إلى السماء على هيئة مطر".
ومن هذه الحكاية يتبين أن القرآن لم يكشف لنا شيئا فى الواقع! وإذا كان بعض المسلمين يزعمون أن هذه الآيات القرآنية تكشف عن إحدى الحقائق العلمية، فينبغى حينئذ أن نتخذ نفس الموقف إزاء الأساطير البابلية، وأن نستخلص أن ثمة وحيًا كان ينزل على البابليين الوثنيين أيضا. إننى لا أتصور أنه ينبغى الوصول فى تفكيرنا إلى هذا المدى، بل كل ما علينا هو أن نكون شرفاء وأن نصرّ على القول بأن هذه الآيات لم تنبع إلا من ملاحظة بسيطة لظاهرة من الظواهر الطبيعية تحدَّث عنها ناس آخرون ينتمون لحضارات سابقة على محمد بآلاف السنين.
كذلك لا بد من التنبيه إلى أن هناك مفسِّرين آخرين قد ذهبوا أبعد من هذا وادّعَوْا أن القرآن يكشف لنا هنا عن وجود طبقات مائية يختلف بعضها عن بعض فى درجة حرارتها، وفى ملوحتها، وفى كائناتها الحية، وفى مدى ذوبان الأوكسيجين فيها...إلخ. والآن لنفحصْ ما قاله القرآن: إنه يتحدث هنا عن عدم اختلاط الماء الحلو (العذب الفُرَات السائغ شرابه) بالماء المِلْح (الأُجَاج)، بيد أنه لا يقول شيئا عن اختلاف درجات الحرارة أو الكائنات الحية أو ذوبان الأوكسيجين. إن هذا كلام لا أساس له فى القرآن فى الوقت الذى يصف نفسه فيه بأنه تبيان وتفصيل لكل شىء، وأنه ما من شىء إلا وهو موجود فى آياته.(/1)
إن القرآن إنما يتحدث عن ماء عذب سائغ شرابه، لكن هذا القول شىء، والقول بوجود بحار عذبة شىء آخر! ذلك أنه من الخطورة بمكان على البشر أن يعتقدوا فى مثل هذه الأشياء، فشرب الماء المالح فى الواقع من شأنه أن يجعل الشخص عرضة للجنون... ومما لا ريب فيه أن البحث فى القرآن عن الحقائق العلمية هو أمر ليس فى صالحه، وبخاصة إذا وضعنا فى الاعتبار ما قلناه قبلا من أنه إذا استمر البعض فى الزعم مع ذلك بوجود إشارات علمية فى القرآن، فينبغى أن نقف ذات الموقف من الأسطورة البابلية، وهو ما يترتب عليه أن القرآن لم يُوحِ فى هذا المجال بشىء، وأنه لم يزد على أن ردّد ما قالته تلك الأسطورة قبله بما يزيد على ثلاثة آلاف عام! وهكذا نجد أنفسنا قد وصلنا إلى نفس النتيجة، ألا وهى أن الآيات القرآنية لا تقدم لنا شيئا آخر غير الملاحظة البسيطة لإحدى الظواهر الطبيعية.
وفى الختام نحب أن نؤكد أنه خلافا لما يؤكده بعض المفسرين المسلمين فإن قراءة تلك الآيات يترتب عليها جهل وتخليط من شأنه، إذا نظرنا إليه على أنه معجزة علمية، الإضرار حتى بحياة الإنسان (جرّاء الاعتقاد بوجود بحار ذات ماء عذب). ولكن إذا أصر البعض مع ذلك على أن يَرَوْا فى هذه الآيات كشفا علميا، فعليهم فى هذه الحالة أن ينظروا إلى الحكاية البابلية بنفس العين... وهكذا تُخْتَزَل المعجزة القرآنية الوحيدة فلا تعدو أن تكون تكرارا لما سبق أن قاله الآخرون من قبل...".
* * *
وأول كل شىء نفعله بعد أن ترجمنا ما قاله الكاتب هو أن نبين الأخطاء المعرفية والمنهجية التى وقع فيها: فقد ذكر أن فى كتاب الله ثلاثة مواضع تتحدث عن حاجز يفصل بين بحرين عذبٍ وملحٍ يلتقيان دون أن يقع بينهما مع ذلك أى تمازج، وهى: الفرقان/ 53، وفاطر/ 12، والرحمن/ 19-21. ونظرة سريعة إلى الآيات التى استشهد بها تدلنا على أنه لا توجد فى سورة "فاطر" أية إشارة إلى الحاجز المذكور، إذ الكلام فيها مقصور على الاختلاف الملاحَظ بين ماء البحر وماء النهر. ومع ذلك فهناك فعلا نص ثالث فى القرآن الكريم يشير إلى وجود مثل هذا الحاجز لم يذكره الكاتب، ألا وهو قوله تعالى فى الآية 61 من سورة "النمل": "أَمْ مَنْ جعل الأرضَ قرارا، وجعل خلالها أنهارا، وجعل لها رواسىَ، وجعل بين البحرين حاجزا؟ أأله مع الله؟بل أكثرهم لا يعلمون"، فهذه واحدة.
أما الثانية فهى مقارنة الكاتب بين ما جاء فى الأسطورة البابلية وما ذكرته النصوص القرآنية، والخروج من ذلك بأن القرآن لم يأت بشىء جديد، فها هى ذى الأسطورة البابلية قد سبقته منذ بضعة آلاف من الأعوام إلى هذا الذى قال. والواقع أنه لا وجه للمقارنة بين النصين، فالحكاية الخرافية تتحدث عن خلاف بين الماء المالح والماء العذب استتبع رفع الماء العذب إلى طبقات الجو العليا وتحويله إلى أمطار. فأين فى القرآن ما يمكن أن نقارن به هذا الكلام؟ إن القرآن يتحدث عن إجرائه تعالى البحر والنهر بما يؤدى إلى التقائهما، ولكن دون أن يطغى أحدهما على الآخر. وهذا شىء مغاير تماما لما جاء فى الخرافة البابلية، وهو من الوضوح بمكان، ولا أدرى كيف سقط الكاتب الهمام فى هذه الغلطة! ثم هل الماء العذب مقصور على طبقات الجو العليا؟ فماذا نقول فى الأنهار والجداول والآبار والعيون إذن؟
وهنا نأتى إلى الخطإ الثالث الذى ارتكبه المؤلف، وهو ما فهمه من أن الآيات القرآنية تتحدث عن التقاء بين النهر والبحر دون أن يتم بينهما امتزاج، وهذا الزعم أيضا لا وجود له فى القرآن. القرآن يقول إنه قد جعل بين البحرين (أى البحر والنهر) حاجزا أو برزخا يمنعهما من طغيان أى منهما على الآخر، لكنه لم يقل إنه لا يحدث بينهما امتزاج عند اللقاء. وسوف أوضح هذا المعنى فيما بعد، لكنى أحب أن أركز هنا على أن الكاتب قد نسب للقرآن ما لم يقله القرآن! لقد فهم النصَّ القرآنىَّ خطأً أو اعتمد على ترجمةٍ فهم صاحبُها ذلك النصّ فهمًا خاطئًا، فكان أَنْ خطّأ القرآن الكريم، والقرآن من الخطإ براء! وقد يكون تعمَّد هذا تعمُّدا!(/2)
وهناك خطأ رابع وقع فيه الكاتب أيضا، وهو محاسبة النص القرآنى على أساسٍ من فهم بعض المفسِّرين المسلمين كما قال. ولعله يقصد د. موريس بوكاى الطبيب الفرنسى المسلم الذى فسّر الآيات القرآنية المذكورة على أساس أن المقصود بالبحرين هما دجلة والفرات من جهة، والخليج العربى من جهة أخرى، وسوف أعود إلى هذه النقطة لاحقًا (انظر موريس بوكاى/ القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم/ دار المعارف/القاهرة/ 1982م/ 205). وليس فى النصوص القرآنية ما يُفْهَم منه أن ذلك هو معنى البحرين الواردين فيها، ومن ثَمَّ فليس للكاتب أى عذر فى التهكم الذى وجَّهه للقرآن حين أكد أن ما يقوله الكتاب الكريم فى هذا الشأن لا يزيد عن ملاحظةٍ بسيطةٍ جدا لظاهرة طبيعية يمكن كلَّ من يقف عند مصب هذين النهرين فى الخليج العربى أن يلاحظها، وأن الخرافاتِ البابليةَ قد سبقت القرآنَ إلى هذه الملاحظة منذ آلاف السنين، فلا إعجاز إذن ولا يحزنون!
ثم خطأٌ خامس، وهو أن كاتبنا يشير إلى مسألة وجود طبقتين من الماء فى حالات المدّ العالى إحداهما طبقة مالحة خضراء اللون تلامس طبقة عذبة مائلة للحمرة دون أن تمتزج بها بوصفها أمرا يستطيع الرجل العادى أن يلاحظه بسهولة، وهو ما لا أظنه أبدًا صحيحا، وإلا لذكره كل إنسان، ودعنا من أنه كان من سكان البصرة فى أيام ازدهار الثقافة الإسلامية علماء أجلاء وشعراء وأدباء كمحمد بن سيرين (مولى أنس بن مالك) والحسن البصرى وعمرو بن عبيد والفرزدق وجرير وقَطَرِىّ بن الفُجَاءة ورؤبة بن العجّاج وبشار وأبى نُوَاس وابن المقفَّع والأصمعى والمفضَّل الضّبَّىّ والخليل بن أحمد وسيبويه والنظّام وواصل بن عطاء والجاحظ وابن سلام وابن قتيبة وابن دُرَيْد والباقلانى مثلا ممن لم يكن من الممكن أن تفوتهم ملاحظة مثل هذه الظاهرة لو كان إدراكها سهلا إلى هذا الحد الذى يصوره لنا الكاتب، وبخاصة أنها كانت بالنسبة للقدماء أمرا هائلا كما يقول. والحقيقة أن هذه الملاحظة لم يتنبه لها إلا العلماء فى العصر الحديث بعد رحلات وأبحاث ودراسات مضنية استعانوا فيها بآلات التصوير الحرارى التى لم يكن لها أى وجود قبل القرن العشرين حسبما كتب العلماء المسلمون فى هذه المسألة على ما سيأتى بيانه، ولولا الصورة المرفقة لحالة المدّ المشار إليها لما دار ذلك بخاطرى، أما بالنسبة للقدماء فلم تكن لتلفت أنظارهم لأنها ليست مما يُدْرَك بالعين المجردة على خلاف ما يحاول الكاتب أن يوهم قراءه. وحتى لو غالطنا أنفسنا كما يريد منا وقلنا إنها قد لفتت منهم الأنظار، فكيف يا ترى كان لهم أن يعرفوا أن اللونين المختلفين يمثلان طبقتين من الماء إحداهما حلوة، والأخرى مالحة؟ وعلى أية حال فلم يكن الرسول من سكان منطقة البصرة حيث كان من الممكن أن يشاهد هذه الظاهرة لو كانت مشاهدتها ممكنة بالنسبة للرجل العادى فعلا كما يزعم الكاتب، بل كان عليه السلام من سكان مكة آنذاك، ومن ثم فلا يمكن أن يقال إنه فى هذه النصوص القرآنية قد تكلم عن ملاحظة بسيطة لظاهرة طبيعية يعرفها كل أحد!(/3)
والواقع أنى لم أكتف بهذا، بل ذهبتُ فقلّبت كل ما أتيح لى من "معاجم البلدان" وقرأت ما كُتِب فيها عن "البصرة" ونَهْرَيْها لعلى أعثر على ما يمكن أن يُفْهَم منه، ولو على سبيل التأويل والتمحُّل البعيد، أن أجدادنا قد لاحظوا هذه الظاهرة التى يصرّ الكاتب فى جرأة عجيبة على أنها مما تراه العين العادية للرجل العادى، فلم أجد شيئا بالمرة. ومن الكتب التى راجعتُها لهذا الغرض: "المسالك والممالك" لابن خرداذبة (من أهل القرن الثالث الهجرى)، و"الأعلاق النفيسة" لابن رستة (من أهل القرن الثالث الهجرى أيضا)، و"معجم البلدان" لياقوت الحموى (من أهل القرنين الساس والسابع)، و"أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم" للمقدسى (من أهل القرن السابع)، و"آثار البلاد وأخبار العباد" للقزوينى (من أهل القرن السابع أيضا)، و"الروض المعطار فى خبر الأقطار" لمحمد بن عبد المنعم الحِمْيَرى (من أهل القرنين السابع والثامن)، و"مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار" لابن فضل الله العُمَرى (من أهل القرن الثامن الهجرى) و"Gazetteer of the Persian Gulf, Oman and Central Arabia" لـJ. G. Lorimer (من أهل القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين). ولقد تناول كلامُ هؤلاء الكتاب عن البصرة موقعَها وتاريخَها وجوّها وأنهارَها وأطعمتها وسكانها ومشاهيرَها وحيوانها وطيورَها ومَدّها وجَزْرها وما قيل فى مدحها وذمها، لكنى لم أقرأ كلمة واحدة، كلمة واحدة يتيمة، عن تلك الظاهرة التى ادَّعى الكاتب أنها مما لوحظ من قديم الزمان قبل القرآن ببضعة آلاف من السنين، رغم أن بعض هؤلاء الكتاب قد أورد فى الحديث عن مدّها وجَزْرها الخرافات والأساطير مثل المقدسى، الذى نقل ما سمعه من أن ثمة مَلَكًا إذا وضع إصبعه فى النهر حدث المدّ، وإذا رفعه جاء الجَزْر، أو أن الحوت إذا أخذ نفَسا سحب الماء إلى منخريه فكان الجَزْر، فإذا أخرجه كان المدّ" (المقدسى/ أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم/ ط2/ بِرِيل/ 1906م/ 3)! بل لقد تحدث القزوينى عن ملوحة ماء البصرة قائلا: "وماء دجلة والفرات إذا انتهى إلى البصرة خالطه ماء البحر فيصير ملحا" (القزوينى/ آثار البلاد وأخبار العباد/ دار صادر ودار بيروت/ 1389هـ- 1969م/ 309)، أى أنه قد اقترب تماما من النقطة التى نتحدث عنها الآن، ورغم هذا فإنه لم ينبس بأى شىء مما يزعم الكاتب أنه ظاهرة طبيعية بسيطة لاحظها القدماء بكل سهولة، وليس فيها ما يمكن أن يُعَدّ إعجازا بحال! إن الزعم أمرٌ هيّن الشأن لا يكلف صاحبه شيئا، بخلاف البناء والتثبت، فإنه يتعب من يرومه ويجشّمه من أمره جهدا ومشقّة ونَصَبا. إن كاتبنا لم يكلف نفسه أكثر من أنه تركها تزعم ما يحلو لها دون أن تقدِّم على ما تقول أى برهان، وهو أمر لا يعجز عنه أى شخص مهما يكن حظه من العلم، أو فلنقل بالأحرى: مهما يكن حظه من الجهل. كل ما هنالك أنه ينبغى أن يتدرع بالاندفاع واللامبالاة، ثم لا عليه بعد ذلك من شىء! أما الذين يحرصون على سمعتهم ويلتزمون بقِيَم الدين والعلم والخلق الكريم فلا يستطيعون أن يخطّوا حرفا إلا بعد اللَّتَيّا والتى خشيةَ الخطإ وتحرُّزًا من الوقوع فى التدليس. وصدق المثل القائل إنّ رَمْى حجر فى بئر لا يحتاج إلى أكثر من مجنون واحد، أما إخراج الحَجَر من البئر فيحتاج إلى ألف عاقل!(/4)
ثم يضيف الكاتب أن من المسلمين من يقول بوجود بحارٍ ذات ماء عذب صالح للشرب ( eau de mer potable)، قائلا إن الاعتقاد بهذا والشرب بناء عليه من ماء البحر المالح يؤدى إلى الجنون. ولست أدرى من أين أتى الكاتب بهذا الكلام الذى ينسبه لبعض المفسرين المسلمين. لقد كان ينبغى أن يذكر لنا أسماء من قالوا بذلك ويحدد السياق الذى ورد كلامهم فيه، وعلى أى أساس قالوه. أما أن يتركنا فى عماية من الأمر متصورا أننا ينبغى أن نلقى إليه بمقاليد طاعتنا ونصغى إليه أسماعنا وأفئدتنا دون دليل أو توضيح فأمر لا يصحّ، ومن شأنه أن يدفعنا إلى تكذيبه فيما يقول نظرا لغرابته البالغة، إذ لا يعقل أن يكون بين المفسرين المسلمين فى العصر الحديث ولا فى أى عصر آخر من يُقْدِم على كتابة هذا الكلام المضحك مهما تبلغ قلة بضاعته من المعرفة. إن هذا الكلام يعرف كذبَه أىّ عامىٍّ فَدْم، فما بالنا بمن يتصدى لتفسير كتاب الله المجيد؟ ولقد رجعتُ إلى ما نشره "موقع الإيمان على شبكة الإنترنت" فى هذا الموضوع فوجدت ما أورده الكاتب المذكور وعمل على تفنيده من تفسير علماء المسلمين المعاصرين للآيات القرآنية التى نحن بصددها، لكنى لم أعثر البتة على أى شىء يومئ من قريب أو من بعيد ولو على سبيل التوهم إلى ما يمكن أن يُفْهَم منه أنهم يقولون بوجود بحارٍ (بحارٍ كالبحر المتوسط أو البحر الأحمر أو بحر قزوين أو خليج المكسيك أو المحيط الهندى أو الأطلسى مثلا) ذات مياه عذبة، بل الذى قالوه، وهو صحيح مائة فى المائة على ما سنوضّح لاحقا، هو أن كلمة "البحر" قد تُطْلَق فى لسان العرب على ما نسميه عادة: "النهر". وهذا غير ذاك كما هو واضح، لكن الكاتب إما أنه لم يفهم كلامهم، وهو ما أستبعده لأنه قد فهم بقية ما قالوه فهما سليما يدل على أنه يعرف ماذا قالوا بالضبط سواء اطّلع عليه مباشرة فى لغته الأصلية أو ترجمه له مترجم، وإما أنه فهم هذا الكلام لكنه أراد السخرية والتشكيك فيما قالوه برُمّته لينعكس ذلك على نظرة قارئى كلامه للقرآن أيضا، وهذا ما أرجّحه.(/5)
وقد استخدم القرآن كلمة "البحرين" للدلالة على ما نعرفه الآن بـ"النهر والبحر"، إذ "البحر" فى اللغة العربية "هو الماءُ الكثيرُ، مِلْحًا كان أو عَذْبًا، وهو خلافُ البَرِّ، أو هو المِلْحُ فَقَطْ، وقد غَلَب عليه حتى قَلَّ فى العَذْب" حسبما نقرأ فى "لسان العرب" و"تاج العروس" وغيرهما من المعاجم. وقد يكون الكتاب المجيد استخدمها على سبيل التغليب كقولنا مثلا: "العُمَران" لأبى بكر وعمر، و"الحَسَنان" للحسن والحسين، و"القَمَران" للشمس والقمر، و"الأَبَوان" للأب والأم. فقول علمائنا إن البحر قد يكون عذب الماء كما قد يكون مالحها هو كلام لا خطأ فيه، ولا يمكن أن يتوهم متوهم أنهم يقصدون أن الماء الملح يطفئ الظمأ حتى يخاف كاتبنا على البشر من هذا أن يصيبهم الجنون جرَّاءَ تصديقهم لذلك الكلام وكَرْعهم من ثَمّ من هذا الماء، بل المقصود هو ما نعرفه الآن بـ"النهر"، وهذا كل ما هنالك. ونحن فى مصر كثيرا ما نطلق على "النهر" اسم الـ"بحر" كقولنا: "بحر النيل"، وفى قريتنا "كتامة الغابة" بمحافظة الغربية نسمى الترعة الواصلة بين بلدنا وطنطا: "بحر عاص"، كما نسمى الترعة الأخرى التى تمر بالقرب من "شفاقرون" المجاورة لنا: "بحر شفاقرون". وبالمثل نسمع الناس يقولون لفرع النيل القريب من "بسيون": "بحر القُضّابة" على اسم قرية "القُضّابة" التى تقع عليه، ولفرع النيل المارّ بدسوق: "بحر سيدى إبراهيم" على اسم إبراهيم الدسوقى الولىّ المعروف المدفون بالمدينة المذكورة، وللترعة التى تقوم على شاطئها قرية "سديمة": "بحر سيدى أبو اليزيد" على اسم "أبو اليزيد البسطامى"، إذ فى اعتقاد أهل المنطقة أن الضريح الموجود فى تلك البلدة هو لذلك الصوفى المشهور. ويوجد فى القاهرة شارع اسمه "شارع البحر الأعظم"، كما يوجد فى طنطا شارع يسمَّى: "شارع البحر" إشارة إلى ما كان يوجد فى كل من المكانين من مجرًى للنيل. ولهذه الحكمة ذاتها كان العامة فى مصر يسمّون "البحر المتوسط": "البحر المالح"، وهو دليل آخر على أن هناك فى أذهانهم "بحرا عذبا" مثلما أن هناك "بحرا مالحا". بل لقد وجدت بدر الدين العينى يستخدم هذه التسمية فى كتابه: "عِقْد الجُمان فى تاريخ أهل الزمان" عدة مرات، ومرة واحدة على الأقل تسمية "البحر المِلْح". كذلك استعمل نشوان الحميرى هذه التسمية الأخيرة فى "الروض المعطار فى خير الأقطار" عند تعريفه بمدينة "الإسكندرية"، وذلك فى قوله: "مدينة عظيمة من ديار مصر بناها الإسكندر بن فيلبش فنسبت إليه، وهي على ساحل البحر الملح". وبالمثل نقرأ فى "ثمرات الأوراق" لابن حجة الحموى أن ملك بحر الأردن خاف على ابنته من أردشير حين أرسل يخطبها منه فـ" أرسلها إلى بعض الجزائر في البحر الملح". وهذه مجرد أمثلة قليلة. وإذا كانت كلمة "mer" الفرنسية لا تعنى إلا البحر الملح، فينبغى ألا نحمّل لغة الضاد هذه المسؤولية، فلكلّ لغةٍ أوضاعها التى كثيرا ما تختلف فيها وبها عن غيرها من اللغات كما هو معروف.(/6)
ومن الشواهد التى تجرى هذا المجرى قوله تعالى: "أُحِلَّ لكم صيدُ البحر وطعامُه متاعًا لكم وللسيارة، وحُرِّمَ عليكم صيد البر ما دمتم حُرُما" (المائدة/ 96)، ومعروف أن السمك يخرج من البحر والنهر كليهما لا من البحر فقط، وكذلك قوله عز شأنه: "قل: من ينجّيكم من ظلمات البر والبحر...؟" (الأنعام/ 63)، حيث وُضِع البحر مقابل البرّ مما يدل على أن المقصود به النهر والبحر معا. وقرأت فى "الحيوان" للجاحظ هذه العبارة: "ومررتُ به وهو جالسٌ في يوم غِمق حارٍّ ومِدٍ، على باب داره في شروع نهر الجُوبار بأردية، وإذا ذلك البحر يبخر في أنفه". فانظر كيف ذكر أولا "النهر"، ثم كيف سماه بعد ذلك: ""بحرا". وجاء فى "كتاب الصناعتين" لأبى هلال العسكرى: "ولولا كراهةُ الإطالة وتخوف الإملال لَزِدْتُ من هذا النوع، ولكن يكفى من البحر جرعة". والبحر هنا لا يمكن أن يكون إلا الماء العذب، فالإنسان لا يجرع إلا من النهر. وفى "الفرج بعد الشدة" للقاضى التنوخى نقرأ هذه العبارة: "فلا شدة أعظم من أن يُبْتَلَى الناس بمَلِكٍ يذبّح أبناءهم، حتى ألقت أم موسى ابنها فى البحر مع طفوليته، ولا شدة أعظم من حصول طِفْل فى البحر". ويقول الشابشتى فى وصف دير القصير بمصر من كتاب "الدِّيَارات": "وهو مطل على القرية المعروفة بشهران وعلى الصحراء والبحر. وهذه القرية المذكورة قرية كبيرة عامرة على شاطىء البحر، ويذكرون أن موسى، صلى الله عليه، ولد فيها، ومنها ألقته أمه إلى البحر فى التابوت". ويقول أيضا عن "دير طمويه": "وطمويه في الغرب بإزاء حلوان. والدير راكب البحر، وحوله الكروم والبساتين والنخل والشجر. فهو نَزِهٌ عامرٌ آهل. وله في النيل منظر حسن. وحين تخضر الأرض، فإنه يكون بين بساطين من البحر والزرع". وفى "فوات الوَفَيَات" لابن شاكر الكتبى أن توران شاه لمّا حاصرته مماليك أبيه فى البرج عند المنصورة رمى بنفسه وهرب إلى النيل "ونزل فى البحر إلى حلقه" فقتلوه. والمقصود بـ"البحر" فى هذا كله: "النيل" كما هو واضح. وعندنا من الشواهد الشعرية الكثير، ومنها قول أبى الشيص الخزاعى:
بَحرٌ يَلوذ المُعتَفونَ بِنَيْله فَعْمُ الجَداول مُتْرَع الأَحواضِ
وقول ابن الرومى:
هو بحرٌ مِنَ البحورِ فُرَاتٌ ليس مِلْحًا وليس حاشاه ضَحْلا
وقول ابن حَيّوس:
وَمَنْ جادَ بِالآمالِ عَنكَ فَإِنَّني أَرى كُلَّ بَحرٍ مُذ رَأَيتُكَ جَدْوَلا
وقول ابن درّاج القسطلى:
وإِن أَرْفَهَتْ فِي بَحْرِ جُودِكَ شِرْبَها فَمِنْ ظِمْءِ عَشْرٍ فِي الهجيرِ إِلَى تِسْعِ
وقول البحترى:
بَحْرٌ مَتى تَقِف الظِماءُ بِمَورِدٍ مِنهُ يَطيبُ لَهُم جَداهُ وَيَعذُبِ
وقول الحيص بيص:
ولكنهُ بَحْرٌ يَلَذُّ لشارِبٍ ويُكرِمُ مَثْوىً من مُسِيفٍ ومُرْمِلِ
وقول ظافر الحداد الشاعر المصرى:
تأمَّلْتُ بحرَ النيلِ طولا، وخَلْفَه من البركةِ الغَنّاء شكلٌ مُدَوَّرُ
وقول البوصيرى:
وَكلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ غَرْفًا مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ
وقول المتنبى:
قَوَاصِدُ كافورٍ تَوَارِكُ غيره ومن قَصَدَ البحرَ استقلّ السواقيا
ثم كيف يمكن أن يتوهم متوهِّم هذا الذى يخشاه الكاتب (أو بالأحرى: هذا الذى يزعم أنه يخشاه)، ويذهب فيَعُبّ من الماء الملح عَبًّا؟ ويبقى تأكيده أن شرب هذا الماء يصيب الشخص بالجنون، ولا أعرف مدى صحة هذا الكلام من الناحية الطبية، وإن كنت أستغربه غاية الاستغراب، وبخاصة أنه من غير المعقول أو المتصوَّر أن يستمر أى إنسان فى شرب ذلك الماء بمجرَّد أن يذوقه ويحس ملوحته! لكن الذى أنا متأكد منه أن الذى يَعُبّ من الماء الملح يكون قد أُصِيبَ بالجنون فعلا، وانتهى أمره والعياذ بالله، لا أنه سيصاب به بعد الشرب، إذ لا يفعل ذلك عاقل بحال من الأحوال!
والآن نأتى لتفسير الآيات المذكورة لنرى أفيها ما لم تكن العرب بل ما لم تكن البشرية كلها تعرفه أو لا، ونبدأ بقوله تعالى: "وهو الذى مَرَج البحرين: هذا عذبٌ فراتٌ، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ، وجعل بينهما برزخا وحِجْرًا محجورا" (الفرقان/ 53)، إذ هو من الوضوح بمكان بحيث لا يثير مشاكل وخلافات حول المقصود بالبحرين هنا: أهما بحران مِلْحان أم بحرٌ عَذْبٌ وآخر مِلْح؟ وقد فسره بوكاى قائلا: "معروفةٌ تلك الظاهرة التى كثيرا ما نشاهدها عند عدم الاختلاط الفورى لمياه البحر الملحة بالمياه العذبة للأنهار الكبيرة. ويرى البعضُ أن القرآن يشير إليها لعلاقتها بمصبّ نَهْرَىْ دجلة والفرات، اللذين يشكلان بالتقائهمابحرًا، إذا جاز القول، طوله 150 كم هو شط العرب. وفى الخليج ينتج تأثيرُ المدّ ظاهرةً طبيعيةً هى انحسار الماء العذب إلى داخل الأراضى، وذلك يضمن رِيًّا طيبا" (موريس بوكاى/ القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم/ 205).(/7)
والحق أن هذا التفسير، رغم احترامى الكامل للدكتور بوكاى، هو تفسير غير مقنع: فمن الناحية اللغوية يصعب علىّ أن أوافق العالم الفرنسى على أن أداة التعريف فى كلمة "البحرين" هنا للعهد، الذى قيل على أساسه إن "البحرين" المذكورين هما شط العرب والخليج الذى يصب فيه. ذلك أن الآيات السابقة تتحدث عن الظل والرياح والماء والأنعام والأناسىّ، وهى مفاهيم عامة لا تشير إلى ظلٍّ بعينه ولا رياحٍ محدَّدة ولا أنعامٍ وأنَاسِىَّ مخصوصة، فلِمَ يقال إذن إن "البحرين" هنا هما بحران معينان (الخليج وشط العرب)؟ إن السياق الذى وردت فيه هذه الكلمة هو سياق عام، ومن ثم فإن بلاغة الكلام تقتضى أن يكون "البحران" أيضا هنا هما "النهر والبحر" بإطلاق، أى أن "أل" فيهما هى "أل" الجنسية لا العهدية. وقد يظن قوم أن كلمة "فُرَات" الواردة فى النص القرآنى هنا تشير إلى نهر الفرات، ومن ثم يستغربون قولى بعدم وجود قرينة تدل على أن السياق هنا سياق خاص لا عام، لكن لا بد أن نعرف أن كلمة "فُرَات" فى النص ليست عَلَمًا على النهر المعروف فى بلاد الرافدين، بل صفة للبحر الأول من البحرين المذكورين معناها "الشديد العذوبة". كذلك فماء النهر، مهما توغَّل بقوة اندفاعه إلى مدًى بعيد فى داخل البحر أو المحيط واحتفظ أثناء ذلك بخصائصة وعذوبته، يختلط فى النهاية بمائهما ويتحول من ثم إلى ماءٍ ملحٍ أُجَاج. فظاهر الأمر إذن أن النهر يبغى فى البداية على البحر (حين يشق ماءه الملح ويزيحه عن طريقه) ليعود البحر فيبغى فى النهاية عليه (حين يختلط ماؤه العذب بماء البحر الملح الذى يُفْقِده خاصة العذوبة ويعطيه بدلا منها ملوحته)، فأين البرزخ يا ترى والحِجْر المحجور؟
أما "المنتخب فى تفسير القرآن الكريم" فإنه يقول، فى هامش خصَّصه للتعليق على هذه الآية، إنها ربما "تشير إلى نعمة الله على عباده بعدم اختلاط الماء الملح المتسرب من البحار فى الصخور القريبة من الشاطئ بالماء العذب المتسرب إليها من البر اختلاطا تامّا، بل إنهما يلتقيان مجرد تلاق: يطفو العذب منهما فوق الملح كأن بينهما برزخا يمنع بَغْىَ أحدهما على الآخر وحِجْرًا محجورا، أى حاجزا خفيّا مستورا لا نراه". لكن ثمة نقطة هامة يظهر أن كاتبَىْ هذا التعليق، رغم جدته وطرافته بالنسبة لى على الأقل، قد أغفلاها، إذ إن الماء العذب والماء الملح اللذين يلتقيان فى الصخور على هذا النحو لا يمكن تسميتهما: "بحرين". ثم إذا كان الماءان فى هذه الظروف لا يلتقيان، فإنهما فى عُرْض البحر يلتقيان ويتمازجان ويصبحان فى النهاية ماءً واحدًا كما قلنا من قبل.
يبدو لى، والله أعلم، أن البرزخ المذكور فى الآية الكريمة هو القوانين التى بمقتضاها بَقِىَ كل من الماء العذب والماء الملح كلَّ هذه الدهور المتطاولة التى لايعلم مداها إلا الله، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما هو لا يتغير. فالأنهار تصب فى البحار والمحيطات، وكان المفروض، لو أن الأمر انتهى عند هذا الحد، أن يختلط الماءان اختلاطًا دائمًا فلا ينفصلا بعد ذلك أبدا، ويصبح كل الماء الموجود على سطح الأرض من ثَمَّ ماءً مِلْحًا. بَيْدَ أن التقدير الإلهى قد شاء أن يقوم البَخْر بحمل ماء البحار والمحيطات فتسوقه الرياح ليسقط على الجبال وينحدر إلى الأنهار ماءً عذبًا كما كان...وهكذا دواليك. وهكذا أيضا يبقى الماء العذب والماء الملح كما هما، ويتعايش البحران دون أن يبغى أحدهما على الآخر ويقضى عليه. فهذا هو البرزخ، وهذا هو الحِجْر المحجور فيما أفهم، والله أعلم. وهو، كما نرى، برزخٌ وحِجْرٌ غير مادى. إنه حاجز من قوانين لا من أحجار أو مسافات أو تضاريس. ومن الحزاجز المعنوية أيضا "برازخ الإيمان" التى جاء فى المعاجم أنها تفصل بين الشك واليقين أو التى تفصل ما بين أول الإيمان وآخره، والبرزخ الذى يفصل بين الدنيا والآخرة، و"الحِجْر" المذكور فى القرآن على لسان المشركين: "وقالوا: هذه أنعامٌ وحرثٌ حِجْرٌ لا يطعمها إلا من نشاء"، أى محرَّم أكلها حسبما نصت الآية الكريمة، والتحريم (كما هو معروف) حاجزٌ معنوى لا مادى. كما أن قوله تعالى فى الآية 22 من سورة "الفرقان": "حِجْرًا محجورًا" معناه: "حرامًا محَرَّمًا"... وهكذا. ولهذا قالت المعاجم وكتب التفاسير فى البرزخ الفاصل بين البحرين إنه حاجز خفىّ من قدرة الله. ولا ننس أن القرآن لم ينف التقاء البحرين رغم وجود البرزخ، بل قال بصريح اللفظ: "مَرَج البحرين يلتقيان* بينهما برزخٌ لا يَبْغِيان" كما جاء فى الآيتين 19- 20 من سورة "الرحمن". فالبرزخ موجود، ولكن الالتقاء حاصل أيضا لأن البرزخ فى النص القرآنى إنما يمنع بَغْى أحد البحرين على الآخر لكنه لا يمنع اللقاء بينهما.(/8)
وبنحو الذى قلناه فَسَّر الطبرى الآيتين المذكورتين فقال: "قَوْله: "هَذَا عَذْبٌ فُرَات"، الفُرَات : شَدِيد الْعُذُوبَة. يُقَال : هَذَا مَاءٌ فُرَات، أَيْ شَدِيد الْعُذُوبَة. وَقَوْله: "وَهَذَا مِلْح أُجَاج"، يَقُول: وَهَذَا مِلْحٌ مُرّ، يَعْنِي بِالْعَذْبِ الْفُرَاتِ مِيَاهَ الأَنْهَار وَالأَمْطَار، وَبِالْمِلْحِ الأُجَاجِ مِيَاهَ الْبِحَار. وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ، مِنْ نِعْمَته عَلَى خَلْقه وَعَظِيم سُلْطَانه، يَخْلِط مَاء الْبَحْر الْعَذْب بِمَاءِ الْبَحْر الْمِلْح الأُجَاج، ثُمَّ يَمْنَع الْمِلْح مِنْ تَغْيِير الْعَذْب عَنْ عُذُوبَته وَإِفْسَاده إِيَّاهُ بِقَضَائِهِ وَقُدْرَته لِئَلاّ يَضُرّ إِفْسَاده إِيَّاهُ بِرُكْبَانِ الْمِلْح مِنْهُمَا فَلا يَجِدُوا مَاء يَشْرَبُونَهُ عِنْد حَاجَتهمْ إِلَى الْمَاء، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : " وَجَعَلَ بَيْنهمَا بَرْزَخًا"، يَعْنِي حَاجِزًا يَمْنَع كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ إِفْسَاد الآخَر. "وَحِجْرًا مَحْجُورًا"، يَقُول : وَجَعَلَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا حَرَامًا مُحَرَّمًا عَلَى صَاحِبه أَنْ يُغَيِّرهُ وَيُفْسِدهُ". على أن هذا التفسير لا يمنع أن يدخل فيه التقاء ماء دجلة والفرات بماء الخليج العربى بوصفه إحدى الحالات التى يتبدَّى فيها القانون الذى شرحتُه آنفا لا بوصفه الحالة الوحيدة المقصودة فى القرآن كما جاء فى كلام الدكتور بوكاى، فضلا عن أن التفسير الذى ذكره يختلف عن تفسيرى أنا حسبما وَضَّحْت.
وفى رأيى المتواضع أن آيات سورة "الرحمن" تدل على نفس هذا المعنى، لكن كاتب مقال "البرزخ المائي بين البحرين" فى "موقع الإيمان على شبكة الإنترنت" يرى أن "البحرين" هنا بحران مالحان. وهذا نَصّ كلامه: "قال تعالى: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ* فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؟* يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ" (الرحمن/ 19- 22)، وقال تعالى: "وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا" (النمل/61). لقد توصل علماء البحار، بعد تقدُّم العلوم في هذا العصر، إلى اكتشاف الحاجز بين البحرين، فوجدوا أن هناك برزخًا يفصل بين كل بحرين ويتحرك بينهما، ويسميه علماء البحار: "الجبهة" تشبيهًا له بالجبهة التي تفصل بين جيشين. وبوجود هذا البرزخ يحافظ كلُّ بحرٍ على خصائصه التي قدرها الله له، ويكون مناسبًا لما فيه من كائنات حية تعيش في تلك البيئة. ومع وجود هذا البرزخ فإن البحرين المتجاورين يختلطان اختلاطًا بطيئًا يجعل القَدْر الذي يعبر من بحر إلى بحر آخر يكتسب خصائص البحر الذي ينتقل إليه عن طريق البرزخ الذي يقوم بعملية التقليب للمياه العابرة من بحرٍ إلى بحرٍ ليبقى كل بحرٍ محافظًا على خصائصه تدرج العلم البشري لمعرفة حقائق اختلاف مياه البحار وما بينها من حواجز:
اكتشف علماء البحار أن هناك اختلافًا بين عيناتٍ مائيةٍ أُخِذَتْ من البحار المختلفة في عام 1284هـ- 1873م على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة تشالنجر، فعرف الإنسان أن المياه في البحار تختلف في تركيبها عن بعضها البعض من حيث درجة الملوحة ودرجة الحرارة ومقادير الكثافة وأنواع الأحياء المائية. ولقد كان اكتشاف هذه المعلومة بعد رحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام، جابت جميع بحار العالم. وقد جمعت الرحلةُ معلوماتٍ من 362 محطة مخصَّصة لدراسة خصائص المحيطات، وملأت تقاريرُ الرحلة 29.500 صفحة في خمسين مجلدًا استغرق إكمالها 23 عاما. وإضافةً إلى كون الرحلة أحد أعظم منجزات الاستكشاف العلمي فإنها أظهرت كذلك ضآلة ما كان يعرفه الإنسان عن البحر.
بعد عام 1933م قامت رحلة علمية أخرى أمريكية في خليج المكسيك، ونشرت مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار، فوجدت أن عددا كبيرا من هذه المحطات تعطي معلوماتٍ موحَّدةً عن خصائص الماء في تلك المنطقة من حيث الملوحة والكثافة والحرارة والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء، بينما أعطت بقيةُ المحطات معلوماتٍ موحَّدة أخرى عن مناطق أخرى، مما جعل علماء البحار يستنبطون وجود بحرين متمايزين في الصفات لا مجرد عينات محدودة كما علم من رحلة تشالنجر.(/9)
وأقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يميز مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض. لكن لماذا لا تمتزج البحار وتتجانس رغم تأثير قوّتي المد والجزر التي تحرك مياه البحار مرتين كل يوم، وتجعل البحار في حالة ذهاب وإياب، واختلاط واضطراب، إلى جانب العوامل الأخرى التي تجعل مياه البحر متحركة مضطربة على الدوام مثل الموجات السطحية والداخلية والتيارات المائية والبحرية؟ ولأول مرة يظهر الجواب على صفحات الكتب العلمية في عام 1361هـ-1942م، فقد أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن اكتشاف حواجزَ مائيةٍ تفصل بين البحار الملتقية، وتحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث الكثافة والملوحة والأحياء المائية والحرارة وقابلية ذوبان الأوكسجين في الماء. وبعد عام 1962م عُرِف دورُ الحواجز البحرية في تهذيب خصائص الكتل العابرة من بحر إلى بحر لمنع طغيان أحد البحرين على الآخر فيحدث الاختلاط بين البحار الملحة، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحدودة بوجود تلك الحواجز. ويبين الشكل التالي حدود مياه البحر الأبيض المتوسط الساخنة والمِلْحة عند دخولها في المحيط الأطلسي ذي المياه الباردة والأقل مُلُوحة منها.
وأخيرًا تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار المِلْحة عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الصناعية، والتي تبين أن مياه البحار وإن بدت جسمًا واحدًا، إلا أن هناك فروقًا كبيرة بين الكتل المائية للبحار المختلفة تظهر بألوانٍ مختلفة تبعًا لاختلافها في درجة الحرارة. وفي دراسة ميدانية للمقارنة بين مياه خليج عمان والخليج العربي بالأرقام والحسابات والتحليل الكيمائي تبين اختلاف كل منهما عن الآخر من الناحية الكيميائية والنباتات السائدة في كل منهما ووجود البرزخ الحاجز بينهما. وقد تطلب الوصول إلى حقيقة وجود الحواجز بين الكتل البحرية وعملها في حفظ خصائص كل بحر قرابة مائة عام من البحث والدراسة اشترك فيها المئات من الباحثين، واستُخْدِم فيها الكثير من الأجهزة ووسائل البحث العلمي الدقيقة، بينما جَلَّى القرآنُ الكريمُ هذه الحقيقةَ قبل أربعة عشر قرنا. قال تعالى: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؟* يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ" (الرحمن/ 19- 22)، وقال تعالى: "وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا" (النمل/61)".
هذا ما جاء فى المقال المنشور على موقع "الإيمان على شبكة الإنترنت". والواقع أننى أميل إلى تفسير "البحرين" فى سورتى "الفرقان" و"الرحمن" بأنهما بحران مختلفان، وأوثر هذا التفسير على القول بأن البحرين فى هذه السورة هما بحران مالحان كلاهما، وعلى هذا فإنى أرى أن البحرين فى آيات سورة "الرحمن" أيضا هما البحر العذب والبحر الملح. والسبب فى ذلك هو حرصى على أن يكون هناك انسجام بين آيات القرآن مراعاةً للسياق القرآنى العام، إذ القرآن يفسّر بعضُه بعضًا كما هو معروف، وعلى هذا أرى أن تكون النصوصُ التى حددت البحرين بأنهما البحر العذب والبحر الملح حاكمةً على النصوص التى لم تحددهما. ولكنى رغم ذلك لا أستطيع أن أخطّئ من يقولون بهذا التفسير مادامت الآية تقبله على وجه من الوجوه، إذ ليس فى النص الكريم ما يجعل التفسير الثانى مرفوضا، بل الأمرُ أمرُ تفضيلِ تفسيرٍ على تفسيرٍ كما أوضحت. أما الحجة التى استند إليها من فسَّروا "البحرين" فى النص الأخير بأنهما كليهما بحران مالحان، وهى أن المَرْجان قد ذُكِر فيه، وهو لا يُسْتَخْرَج إلا من المياه الملحة، فلست أراها حجة كافية، إذ المَرْجان عند معظم اللغويين والمفسرين القدماء هو صغار اللؤلؤ أو كباره، واللؤلؤ يُسْتَخْرَج من الأنهار أيضا مثلما يُسْتَخْرَج من البحار على ما سوف أُبَيِّن بعد قليل. لكنى مع ذلك لا أجد، كما قلت، مانعا أن يفسرها الآخرون بغير ما فسرتُها به ما دامت تقبل هذا التفسير. إنyohanfrais يشير إلى أن النص القرآنى لا يذكر اختلاف مياه البحار من حيث درجة الملوحة ودرجة الحرارة ومقادير الكثافة وأنواع الأحياء المائية، وكلامه صحيح بلا جدال، لكنْ صحيحٌ أيضا أن علماء المسلمين الذين يتحدثون عن هذه الفروق لا يقولون إن القرآن قد ذكر هذا، بل كلّ مقصدهم أن دلالة الآية تشمله، فلا داعى من ثم إلى اتهامهم بأنهم يُقَوِّلون النص القرآنى ما لم يقله.(/10)
هذا، وقد اختتم كاتبُ المقال المنشور على "موقع الإيمان على شبكة الإنترنت" كلامه بالملاحظات التالية: "1- أن القرآن الكريم الذي أُنْزِل قبل أكثر من 1400سنة قد تضمَّن معلومات دقيقة عن ظواهرَ بحريةٍ لم تُكْتَشَف إلا حديثًا بواسطة الأجهزة المتطورة، ومن هذه المعلومات وجود حواجزَ مائيةٍ بين البحار. قال تعالى: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ" (الرحمن/ 19- 20). 2- يشهد التطور التاريخي في سير علوم البحار بعدم وجود معلومات دقيقة عن البحار، وبخاصة قبل رحلة تشالنجر عام 1873م، فضلاً عن وقت نزول القرآن قبل ألف وأربعمائة سنة الذي نزل على نبيٍّ أمِّيٍّ عاش في بيئة صحراوية ولم يركب البحر. 3- كما أن علوم البحار لم تتقدم إلا في القرنين الأخيرين، وخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين. وقبل ذلك كان البحر مجهولا مخيفا تكثر عنه الأساطير والخرافات، وكل ما يهتم به راكبوه هو السلامة والاهتداء إلى الطريق الصحيح أثناء رحلاتهم الطويلة. وما عرف الإنسان أن البحار المِلْحة بحارٌ مختلفةٌ إلا في الثلاثينات من هذا القرن بعد أن أقام الدارسون آلافَ المحطات البحرية لتحليل عينات من مياه البحار، وقاسُوا في كلٍّ منها الفروقَ في درجات الحرارة، ونسبة الملوحة، ومقدار الكثافة، ومقدار ذوبان الأوكسجين في مياه البحار في كل المحطات فأدركوا بعدئذٍ أن البحار المِلْحَة متنوعة. 4- وما عرف الإنسانُ البرزخَ الذي يفصل بين البحار المِلْحَة إلا بعد أن أقام محطات الدراسة البحرية المشار إليها، وبعد أن قضى وقتًا طويلاً في تتبع وجود هذه البرازخ المتعرجة المتحركة التي تتغير في موقعها الجغرافي بتغير فصول العام. 5- وما عرف الإنسان أن ماءَيِ البحرين منفصلان عن بعضهما بالحاجز المائي ومختلطان في نفس الوقت إلا بعد أن عكف يدرس بأجهزته وسفنه حركةَ المياه في مناطق الالتقاء بين البحار، وقام بتحليل تلك الكتل المائية في تلك المناطق. 6- وما قرر الإنسان هذه القاعدة على كل البحار التي تلتقي إلا بعد استقصاء ومسح علمي واسع لهذه الظاهرة التي تحدث بين كل بحرين في كل بحار الأرض .
فهل كان يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المحطات البحرية، وأجهزة تحليل كتل المياه، والقدرة على تتبع حركة الكتل المائية المتنوعة؟ وهل قام بعملية مسح شاملة، وهو الذي لم يركب البحر قط، وعاش في زمن كانت الأساطير هي الغالبة على تفكير الإنسان، وخاصة في ميدان البحار؟ وهل تيسر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زمنه من أبحاثٍ وآلاتٍ ودراساتٍ ما تيسر لعلماء البحار في عصرنا الذين اكتشفوا تلك الأسرار بالبحث والدراسة؟ إن هذا العلم الذي نزل به القرآن يتضمّن وصفًا لأدق الأسرار في زمنٍ يستحيل على البشر فيه معرفتها لَيَدُلّ على مصدره الإلهي كما قال تعالى: "قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا" (الفرقان/ 6). كما يدل على أن الذي أُنْزِل عليه الكتاب رسولٌ يُوحَى إليه. وصدق الله القائل: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟" (فصلت/ 53)".(/11)
والآن، وبعد أن نقلنا ما خرج به كاتب المقال المشار إليه من نتائج، نأتى إلى آية سورة "فاطر": "وما يستوى البحران: هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابُه، وهذا ملحٌ أُجاج. ومِنْ كُلٍّ تأكلون لحمًا طريًّا وتستخرجون حِلْيَةً تلبسونها". ولسوف أتناولها من زاوية أخرى لأنها، كما سبق القول، لا تذكر شيئا عن البرزخ أو الحِجْر المحجور الذى يمنع أحد البحرين من البغى على الآخر. لقد قرأتُ هذه الآية مرات لا تحصى، لكنى لم أكن ألتفت إلى ما تؤكده من أن الحلىّ تُسْتَخْرَج من البحر والنهر كليهما، بل كنت أتصور أن اللؤلؤ والمرجان لا يوجدان إلا فى البحار الِملْحة. ومنذ عدة سنوات كنت أقرأ هذه الآية، وفجأة تنبهتُ لما كان غائبا عنى، فتساءلت: هل توجد الحلىّ حقا فى مياه الأنهار كما هى موجودة فى البحار؟ وقد رجعتُ يومها إلى ترجمة عبد الله يوسف على للقرآن إلى الإنجليزية، فألفيتُه، فى تعليقه على هذه الاية فى الهامش، يذكر من أنواع الحلىّ النهرى العقيقَ وبرادةَ الذهب وغيرهما. ثم رجعتُ بعد ذلك إلى "Encyclopaedia Britannica" (الطبعة الرابعة عشرة) فقرأتُ فى مادة "Pearls" أن اللؤلؤ يوجد أيضا فى المياه العذبة. وبعد هذا وقع فى يدى "المنتخَب فى تفسير القرآن الكريم"، الذى أصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، فقرأتُ فى التعليق العلمى الموجود بأسفل الصفحة على الآية المذكورة الكلام التالى الذى يبدو وكأنه كُتِب خصيصا لى: "قد يستبعد بعض الناس أن تكون المياه العذبة مصدرًا للحلىّ، ولكن العلم والواقع أثبتا غير ذلك: أما اللؤلؤ فإنه، كما يُسْتَخْرَج من أنواع معينة من البحر، يُسْتَخْرَج أيضا من أنواع معينة أخرى من الأنهار، فتوجَد اللآلئ فى المياه العذبة فى إنجلترا وأسكتلندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان...إلخ، بالإضافة إلى مصايد اللؤلؤ البحرية المشهورة. ويدخل فى ذلك ما تحمله المياه العذبة من المعادن العالية الصلادة كالماس، الذى يُسْتَخْرَج من رواسب الأنهار الجافة المعروفة باليرقة. ويوجد الياقوت كذلك فى الرواسب النهرية فى موجوك بالقرب من بانالاس فى بورما العليا. أما فى سيام وفى سيلان فيوجد الياقوت غالبا فى الرواسب النهرية. ومن الأحجار شبه الكريمة التى تُسْتَعْمَل فى الزينة حجرُ التوباز، ويوجد فى الرواسب النهرية فى مواقعَ كثيرةٍ ومنتشرةٍ فى البرازيل وروسيا (الأورال وسيبريا)، وهو فلورسيليكات الألمونيوم، ويغلب أن يكون أصفرَ أو بُنّيًّا. والزيركون (circon) حَجَرٌ كريمٌ جذابٌ تتقارب خواصه من خواص الماس، ومعظم أنواعه الكريمة تُسْتَخْرَج من الرواسب النهرية".
ولكى يقدِّر القارئ رد فعلى الأول حق قدره أذكر أن بعض المترجمين الأوربيين أنفسهم فى العصر الحديث قد استبعدوا أن تكون الأنهار مصدرًا من مصادر الحلىّ. وقد تجلَّى هذا فى ترجمتهم لهذه الآية: فمثلا نرى رودويل الإنجليزى يترجم الجزء الخاص بالحلىّ منها هكذا: "yet from both ye eat fresh fish, and take forth ornaments to wear". فعبارة "from both" لا تعطى المعنى الموجود فى الآية، وهو أن كلا من البحرين فيه حلىّ لا أن الحلىّ تستخرج منهما معا بما يمكن أن يكون معناه أنه يخرج من مجموعهما حتى لو لم يخرج فى الواقع إلا من أحدهما، وهو ما قد يصلح لترجمة قوله تعالى فى سورة "الرحمن": "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" (لاحظ: "منهما" لا "من كل منهما"). كذلك ينقل رُودِى بارِيتْ المستشرق المعروف هذه العبارة إلى الألمانية على النحو التالى: "Aus beiden esst ihr frishes Fleish". إلى هنا والترجمة صحيحة، فهذه العبارة تقابل قوله تعالى: "ومن كلٍّ تأكلون لحمًا طريًّا"، وإن استخدم بارِيتْ فى مقابل "طريًّا" كلمة "frishes "، ومعناها الدقيق "طازج". لكن فلْننتبه لترجمة الجزء التالى الذى يقول فيه: "und (aus dem Salzmeer) gewinnt ihr Schmuck...um ihn eukh anzulegen"، والذى تَرْجَمَته: "وتستخرجون (من البحر الملح) حلية تلبسونها". ويرى القارئ بوضوح كيف أن المترجم قد أضاف من عنده بين قوسين عبارة "من البحر الملح: aus dem Salzmeer" ، وهو ما يوحى باستبعاده أن تكون الأنهار مصدرا من مصادر اللؤلؤ والعقيق وغيرهما من أنواع الحلىّ على ما تقول الآية الكريمة. أما ترجمتا جورج سِيلْ وبَالمَْرْ الإنجليزيتان وترجمتا كازيمريسكى وماسون الفرنسيتان، وكذلك ترجمتا ماكس هننج ومولانا صدر الدين الألمانيتان على سبيل المثال، فقد ترجمت كلُّها النصَّ القرآنىّ كما هو، لكنها التزمت الصمت فلم تعلق بشىء.(/12)
ويرى القارئ من هذه الآية كيف أن القرآن قبل أربعة عشر قرنا قد أشار إلى حقيقة علمية يستبعدها ناس مثلى ومثل المستشرق الإنجليزى رودويل ونظيره الألمانى رُودِى بارِيت ممن يعيشون فى هذا العصر التى بلغ فيه التقدم العلمى والتقنى آمادا مذهلة، فكيف عرفها الرسول الكريم إذن وأدّاها بهذه البساطة لو كان هو مؤلف القرآن، وبخاصة أن الأنهار التى ذُكِر أن اللؤلؤ وغيره من الأحجار الكريمة وشبه الكريمة تُسْتَخْرَج منها تقع فى بلاد سحيقة بالنسبة للجزيرة العربية، بل إن بعضها كالبرازيل مثلا لم يُكْتَشَف إلا فى العصور الحديثة؟
ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف أن المفسرين القدامى، كالطبرى والقرطبى وابن كثير والجلالين على سبيل المثال، قد وقفوا حائرين إزاء هذه الآية وأمثالها حيث يقررون أن الحلىّ إنما تُسْتَخْرَج من البحر المِلْح فقط، وإن كان القرآن قد ذكر البحرين معا. يريدون أن يقولوا: إن العرب كانت تغلّب فى مثل هذه الحالة أحدَ الطرفين على الآخر. بل إن بعضهم، محاولةً منهم الالتصاقَ بالآية وعدم الرغبة فى اللجوء إلى المجاز هنا، قد قالوا إن المقصود بالبحر العذب هو ماء المطر، بمعنى أن اللؤلؤ والمَرْجان لا يتم تكونهما إلا إذا نزل ماء المطر على صَدَفهما فى البحر فانعقد لؤلؤا ومَرْجانا. وهذا كله خَبْطٌ خاطئ، فالمطر لا يُسَمَّى: "بحرا"، فضلا عن أن القرآن الكريم قد نَصَّ على أن الحُلِىّ تُسْتَخْرَج من كلٍّ من البحرين، لا من مجموعهما كما يقول مفسرونا القدامى، ولهم العذر رغم أنهم جاؤوا بعد الوحى بعِدّة قرون كانت الحضارة الإسلامية قد قطعت أثناءها أشواطا فى مجال العلم والفكر فسيحة، إذ إن المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع لم تُكْشَف إلا فى العصر الحديث كما بيّنّا فى الفقرات الأخيرة. وقد كانت هذه الحجة جاهزة فى يدى فى إحدى المناظرات التلفازية التى شاركتُ فيها منذ أعوام ضد من ينادون بإبعاد العلوم الطبيعية عن القرآن الكريم وعدم الاستعانة بها فى تفسيره بشبهة أنه كتاب عقيدة وتشريع وأخلاق لا كتاب كيمياء أو فيزياء أو فلكٍ أو طبٍّ مثلا، إذ ها هم أولاء كبار المفسرين واللغويين يتجاهلون التركيب النحوى الواضح للعبارة القرآنية بسبب عدم توفر المادة العلمية بين أيديهم، فيعاملون تركيب "ومن كلٍّ..." على أن المراد به: "ومن مجموعهما..."، مع أن هذا غير ذاك تمامًا.
تذييل:
لا بد أن أنوِّه هنا بأن الترجمات الألمانية التى أتى ذكرها فى هذه الدراسة كانت قد أهدتنيها منذ سنواتٍ المستشرقةُ الألمانيةُ د. مارينا هاوكه (Marina Hauke)، التى أخبرتنى فى آخر خطاب أرسلته لى، وكنت حينها أعمل فى السعودية فى تسعينات القرن المنصرم، أنها قد تزوجت. وكانت تقيم فى تركيا آنذاك، ولا أدرى لماذا أحسست أنها تزوجت تركيًّا. وقد سبق أن أهدتنى كذلك نسخة من رسالة الدكتوراه الخاصة بها. لذا وجب علىّ أن أنتهز هذه السانحة وأُعِيد توجيه الشكر لها على هذه الهدايا القيمة، ولعله يقدَّر لها أن تطَّلع على هذا المقال فتعرف أن المعروف لا يضيع.
ملاحظة: فيما يلى النص الفرنسى للمقال الذى ترجمتُه وعلقتُ عليه
Le non mélange des eaux douces et salées
Dans le Coran, on parle en trois endroits d'une barrière séparant deux mers, l'une d'eau douce, l'autre d'eau salée, qui se rencontrent sans se mélanger (25:53, 35:12 et 55:19-20):
"Il (Dieu) a donné libre cours aux deux ondes, pour qu'elles se rencontrent ;comme il y a entre les deux une zone intermédiaire, elles ne s'en veulent pas. Eh bien, vous deux, lequel des bienfaits de votre Seigneur traiterez-vous de mensonge ?" Sourate 55:19-21
Le mot traduit ici par "zone intermédiaire" (barzakh) signifie "intervalle", "barrière", "fossé", "barre", "obstruction", "isthme".
"Et c'est Lui qui donne libre cours aux deux ondes : celle-ci, douce, rafraîchissante, celle-là, salée, amère. Et assigne entre les deux une zone intermédiaire et barrage barré." Sourate 25:53
"Les deux mers ne sont pas identiques: [l'eau de] celle-ci est potable, douce et agréable à boire, et celle-là est salée, amère. Cependant de chacune vous mangez une chair fraîche, et vous extrayez un ornement que vous portez. Et tu vois le vaisseau fendre l'eau avec bruit, pour que vous cherchiez certains [de produits] de Sa grâce. Peut-être serez vous reconnaissants" Sourate 35:12
Ces versets révéleraient selon certains interprètes musulmans, l'existence du non mélange des eaux fluviales dans la mer à l'embouchure car le mélange des eaux ne s'opère parfois que loin au large.(/13)
Cela est possible, mais ne sommes nous pas là devant une simple observation d'un phénomène naturel bien connu, qui est le non mélange immédiat des eaux de l'Euphrate et du Tigre avec celles de la mer, à leur débouché dans le golfe persique?
En effet, on peut observer à Bassorah (en Iraq), les eaux douces du Tigre se déverser dans l'Océan Indien. Dans la marée haute, on voit une masse d'eau salée de couleur verte côtoyant une masse d'eau douce de couleur rougeâtre sans qu'il y ait entre elles le moindre mélange.
Vous en conviendrez que ce spectacle impressionnant pour un homme d'aujourd'hui, devait l'être d'une plus ample mesure encore pour un homme du septième siècle!
Ceci dit, examinons ce que nous enseigne un conte de mythologie Babylonienne datant de plus de 3000 ans avant le Coran :
"A l'origine il n'y avait que Nammou, la mer primitive, l'océan cosmique. Elle engendra An et Ki, le ciel et la terre (...). Enki, enfin, parce qu'il est le dieu des eaux douces qui, en tant qu'elles s'opposent aux eaux salées de Nammou la mer primordiale, doivent être situées du côté du ciel, comme eaux de pluies". Conte babylonien
A cette lecture, nous constatons que le Coran n'a rien révélé!
De ce fait, si des musulmans aiment encore à alléguer, que ces versets coraniques révéleraient une vérité scientifique, il faudrait alors adopter la même attitude face aux textes mythologiques babyloniens, et en conclure qu'il y aurait là, une révélation divine faite aux Babyloniens, qui rappelons-le, sont polythéistes. Je ne pense pas qu'il faille en venir jusque là, mais simplement être honnête et se résoudre au fait que ces versets coraniques ne ressortent que d'une simple observation d'un phénomène naturelle, qui a été rapporté par d'autres hommes étant de civilisations antérieures de plusieurs millénaires à Mohammed.
Signalons aussi, que d'autres interprètes ont fait plus fort, et prétendent que le Coran révélerait ici l'existence de masses marines différentes l'une de l'autre, tant au niveau de la température, de la salinité, des organes vivant, de la solubilité de l'oxygène, ...
Examinons, ce que dit le Coran: celui-ci nous parle d'un non mélange d'eau douce (potable, rafraîchissante et agréable à boire) et d'une eau salée (amère). Le Coran n'indique en rien, la distinction de températures des eaux, des organes vivant, de la solubilité de l'oxygène. Ceci ne trouve aucune base dans le Coran alors que le Coran se dit être un exposé DETAILLE de TOUTE chose où RIEN n'est omis avec des versets bien clairs.
Le Coran parle juste d'une eau douce potable, et agréable à boire, mais cela n'existe pas des mers d'eau potable! C'est même un danger pour l'homme de croire en telles choses. En effet, boire de l'eau salée, risque de rendre la personne sujette à la folie...
Il n'est décidément pas bon pour le Coran d'y chercher des vérités scientifiques... D'autant plus que comme explicité, si malgré cela on accorde ici une révélation scientifique au Coran, il faut par conséquent agir de même vis-à-vis du mythe babylonien, et ainsi le Coran n'a rien révélé, mais a alors simplement répété ce qui a déjà été dit, ceci il y a plus de 3000 ans! Nous en arrivons toujours à la même conclusion, à savoir : être honnête et conclure que ces versets ne proviennent que de la simple observation d'un phénomène naturel.
En conclusion
Contrairement à ce qu'affirment certains commentateurs musulmans, de la lecture de ces versets, il ressort plutôt une méconnaissance scientifique et une ignorance qui considérées comme vérités scientifiques pourraient même mettre en danger la vie de personnes (voir eau de mer potable). Si néanmoins, certains refusaient de cesser de voir dans ces versets coraniques une révélation scientifique, il faudra en faire de même pour le conte babylonien... et ainsi, le seul miracle coranique se réduirait à répéter ce que d'autres ont déjà dit..(/14)
إعداد الأمة لمواجهة العدوان
[الكاتب: محمد جمال الدين محفوظ]
حقيقة لا ينبغي أن نغفل عنها :
من أهم حقائق العصر الذي نعيشه فيه أنه حين تنشب الحرب، فإن الدولة بأسرها شعبا وجيشا تخوض الحرب، وتدفع تكاليفها، وتتحمل نتائجها، فقد انتهى ذلك العهد الذي كانت فيه الحروب قاصرة على تصارع الجيوش في ميادين القتال، ولم تعد هناك في عصرنا بقعة من أرض الدولة أو سمائها أو مياهها الإقليمية بمنأى عن متناول العدو.
من أجل ذلك أصبحت قوة أية دولة وقدرتها على الدفاع عن نفسها وتحقيق أهدافها الاستراتيجية لا تقاس بمدى قوتها العسكرية فحسب، بل بمتانة اقتصادها وقوة معنويات شعبها وتقدمها العلمي والتقني، إلى غير ذلك من عناصر القوة، وقد ظهرت للتعبير عن هذا المعنى مصطلحات جديدة في علوم الحرب وفنونها مثل " الحرب الشاملة " و " إعداد الدولة للحرب "، ويقصد بالحرب الشاملة الحرب التي لا تقف عند خط جبهة القتال فحسب، وإنما تتعداها إلى "العمق" بكل ما فيه من مرافق ومنشآت وتجمعات سكانية وذلك بواسطة السلاح الجوي والصواريخ وغيرها.
أما " إعداد الدولة للحرب " فهو ذلك العمل الضخم الذي اقتضته طبيعة الحرب الشاملة، وتحشد له كل قوى الدولة الاقتصادية والشعبية والسياسية إلى جانب القوة العسكرية في تخطيط منسق لتحقيق قدرة الدولة عل التصدي للعدوان.
يقول المشير مونتجمري: (والحرب الحديثة قد ازدادت صورتها تعقيدا وأصبحت تشمل كل أوجه الحياة والنشاط للدولة لفترة طويلة بما في ذلك معنويات هذه الدولة، فالحرب الشاملة في العصر الحديث تمتص كل جهود القوى العاملة رجالا ونساء وتحول كل قوى الصناعة لسد الحاجات الضرورية للمجهود الحربي، وفي أثناء هذه الحرب يكون المرء دائما محوطا بالخطر سواء استدعي للخدمة العسكرية أو كان قائما بأي عمل مدني أو صناعي، فالخطر يصبح ماثلا في كل مكان، وقد اقتضى ذلك وجود نظام خاص يكفل حماية المدنيين داخل المدن أطلق عليه الدفاع المدني أو الدفاع الوطني... ) [1].
ثمار الإعداد الشامل :
فهذا العمل الكبير، الذي أصبح الركيزة الأساسية للقدرات الدفاعية ومن الضرورات الحيوية لبنائها هو الذي يمنح الدولة ما يلي:
1 - القدرة على رد العدوان وردع المعتدي في أية لحظة.
2 - تحقيق النصر في أقل وقت ممكن [2].
3 - التقليل من الخسائر التي تسببها ضربات العدو.
4 - الصمود للحرب "طويلة الأمد".
5 - المحافظة على مستوى عال من الروح المعنوية وإرادة القتال لدى الشعب والجيش. وهكذا يتضح أن مثل هذه ا لإنجازات والقدرات لا تتحقق مطلقا إلا بحشد طاقات الأمة المادية والمعنوية في تخطيط منسق نحو غاية واحدة .
مفهوم القوة في الإسلام :
ويتضح كذلك أن ما يتصوره بعضهم من أن القوة التي على الأمة إعدادها لمواجهة العدوان تنحصر في القوة المسلحة، هو تصور بعيد كل البعد عن الصواب وعن مقتضيات العصر، وليس هذا فحسب، بل أنه تصور ينطوي على عقوق للدين وغفلة عن توجيهاته.
فلقد شاءت حكمة الله جل شأنه أن تكون الأمة الإسلامية أمة قوية مرهوبة الجانب في كل عصر، فأمرها بإعداد القوة والمرابطة التي ترهب الأعداء، ووجهها إلى أن تكون تلك القوة ؛ قوة شاملة، تحتشد فيها كل مصادر القوة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية والمعنوية والعسكرية:
1 - يقول الله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} [الأنفال: 60] ، فورود لفظ " قوة " مطلقا بغير تحديد، يعني القوة الشاملة، وذكر المال والإنفاق {وما تنفقوا} يعني القوة الاقتصادية ويؤكد أهميتها.
2 - والجهاد في سبيل الله، لا ينحصر في إطار قتال الأعداء المحدود، بل يمتد ليشمل جوانب أخرى، فقد اقترن الجهاد بالنفس بالجهاد بالمال، كما اقترن بالجهاد باللسان، قال تعالى: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [التوبة: 41].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) [رواه أحمد والنسائي وصححه وغيرهما].
3 - والتكليف بإعداد القوة الشاملة، والتكليف بالجهاد عل هذا النحو الشامل أيضا، كلاهما قائم ومستمر حتى تقوم الساعة، كما يتضح من الآية الكريمة من سورة الأنفال ومن آيات الجهاد ومن الحديث: (الجهاد ماض إلى يوم القيامة)، والحديث: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا) [رواه البخاري].
4 - والتكليف بإعداد القوة وبالجهاد أمر مستمر لا ينقطع في السلم والحرب على حد سواء، ففي السلم استعداد وإعداد وعمل لا يفتر في كل الميادين المادية والمعنوية، وفي الحرب توجيه لكل الطاقات نحو قمع العدوان وردع المعتدي.(/1)
5 - والأمة الإسلامية ؛ أمة مجاهدة، كل أبنائها مجاهدون، سواء المقاتلين منهم في الميدان أو غير المقاتلين الذين يؤدون واجبهم خلف الجيش في مجالات العمل المختلفة، وهذا ما أكده الرسول صلى الله عليه وسلم حين جعل حصة من غنائم بدر لمن تخلف بالمدينة لأنه كان قائما بعمل للمسلمين وقد تخلف عن بدر طلحة بن عبيد الله لأنه سافر بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في تجارة إلى الشام، وقد عده الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك بدريا وضرب له بسهمه وشهد له بأجره، كما أكده عليه الصلاة والسلام بقوله : (من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا) [رواه الشيخان]، وقوله: (إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه يحتسب في صنعه الخير، والرامي به، والممد به) - أي الذي يناول السهم للرامي - [رواه الخمسة].
القوة الشاملة هي القدرة على الردع :
والقوة الشاملة في نظر الإسلام هي القوة القادرة على ردع الأعداء وإيقاع الرهبة في قلوبهم حتى يمتنعوا عن العدوان. والأمر المدهش أن الإسلام يجعل من كل عنصر من عناصر قوة الأمة " قوة ردع " ولا يخص بذلك القوة المسلحة فحسب!
فالقوة الاقتصادية مثلا يكون لها فعل الردع حين يجد العدو أنه إذا اعتدى على المسلمين، فسوف يواجه جيشا قويا وراءه قاعدة اقتصادية متينة وقادرة على إمداده باحتياجاته - مهما طال أمد الحرب - الأمر الذي يجعله يرجع عن فكرة العدوان، وهكذا وعلى المنوال نفسه يكون هناك قوة ردع للشعب العامل المجتهد المنتج المتحد الذي يتمتع بالروح المعنوية العالية وإرادة القتال والصمود والاستعداد لتحمل أعباء الحرب - مهما طال أمدها -
مقتضيات الردع :
ولكي يتحقق للقوة الإسلامية هدفها في ردع العدوان فإن الإسلام يوجه إلى ما يلي:
1 - إن أخطر ما تتعرض له الأمة هو الغفلة عن الخطر المحدق بها والتقاعس عن إعداد القوة القادرة عل الدفاع عنها، وإن على الأمة أن تعد ذلك مسألة حياة أو موت بالنسبة لها، فالله تعالى يقول: {ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} [النساء 102].
2 - إذا كان الإسلام " دين سلام ورحمة "، فإنه في الوقت نفسه " دين قوة" لأنه دين عملي ، يأخذ الحياة من واقعها وطبائع الخلائق وميلها إلى المشاحنات، فأمر بإعداد القوة التي تحمي المسلمين، والتي هي أقوى ضمان لتحقيق السلام أيضا، وحذر من أن يفهم الناس أن السلام معناه إلقاء السلاح أو القعود عن الاستعداد ما دام في الدنيا شعوب لا تعرف قيمة السلام ولا تحترم حرية غيرها من الشعوب في أن تعيش آمنة مطمئنة في بلادها.
3 - لكي تكون للقوة الإسلامية فعاليتها في الدفاع وردع العدوان يجب أن تكون عل مستوى عصرها بل ومتفوقة على قوة عدوها، وإلا فكيف تستطيع التغلب عل عدو سبقها وتقدم وتطور واستثمر منجزات عصره إلى أقصى حد.
إعداد الشعب :
وسوف نتناول في هذا البحث بعض عناصر إعداد الدولة لمواجهة العدوان التي نرى أنها تستحق قدرا كبيرا من انتباه وعناية قادة الأمة الإسلامية.
ونبدأ بإعداد الشعب، فقد أصبح من الحقائق الاستراتيجية أن صلابة الجبهة الداخلية وقوة الإرادة القتالية للشعب ليست فقط من دعائم النصر في الحرب، بل لقد أصبحت الروح المعنوية والإرادة القتالية للقوات المسلحة ذاتها ثمرة لروح الشعب وموقفه وراءها، والاستراتيجية العسكرية التي لا تضع هذا العامل في حسابها، وتعتمد عل تفوق مواردها المادية فحسب، استراتيجية قاصرة تعرض الجيش والوطن كله للخطر والهزيمة.
وللإسلام في هذا المجال منهج في غاية الإحكام إذ يشمل الأسس الآتية:
# وحدة الأمة وتماسك الجبهة الداخلية.
# قوة معنويات الشعب وإرادته القتالية.
# الأمن ومقاومة الحرب النفسية والجاسوسية.
# الدفاع الشعبي والتوعية والنشاط السياسي والدبلوماسي.
ولا يتسع المقام لتناول هذه الأسس بالتفصيل، وإنما ننبه إلى بعض الأمور التي تستحق الاهتمام.
أولا : في أوقات الخطر لا محل للخلافات :
ففي الحرب العالمية الثانية وضع الغرب يده في يد الاتحاد السوفييتي لمواجهة ألمانيا لقد اتحدا وتضامنا في وقت الخطر رغم ما بينهما من تناقض في المذاهب السياسية والاقتصادية وصراع على مناطق النفوذ، فكان من ثمار هذا الاتحاد القضاء على الخطر وتحقيق النصر. وفي العالم اليوم تكتلات وأحلاف تضم دولا عديدة قضت الظروف والمصالح أن تتجمع وتتعاون في وحدة صف وهدف في مواجهة الأخطار التي تتهددها رغم ما بين الدول في كل حلف أو تكتل من خلافات لأن كل الدول تدرك فضل التعاون لتحقيق وحدة الهدف.(/2)
فالمسلمون بذلك أولى، لأن الدعوة إلى وحدة الأمة من طبيعة الإسلام ومن مبادئه، وهي وحدة قائمة على مبادئ ومثل كريمة، وقد ألف الإسلام بين قلوب أبنائه على الإيمان وجاءت تعاليمه تقوي هذه الرابطة وتدعم أواصر الوحدة بما افترض عليهم من فرائض وبما دعاهم إليه من الاعتصام بحبل الله المتين ودينه القويم، قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} [آل عمران 103].
وقال عليه الصلاة والسلام: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها، فليس مني)[رواه مسلم عن أبى هريرة] [3].
ثانيا : ضرورة التصدي لمحاولات التفرقة :
وإذا كانت وحدة الأمة من أسس القوة فعل الأمة أن تكون يقظة لمحاولات التفرقة، فإنه لأمر طبعي أن يسعى الأعداء إلى ضرب الوحدة، باعتبارها مصدر قوة، وقد فضح القرآن محاولات التفرقة وحث المسلمين عل التصدي لها في مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} [آل عمران 100 - 101].
ويعلن الإسلام الحرب على المفسدين والدساسين والمنافقين والمرجفين ومرضى القلوب، إذ أن هؤلاء جميعا هم أعدى أعداء الأمة وأخطرهم على وحدتها وأمنها، ويذكر القرآن هؤلاء أقبح الذكر، إذ يقول: {والمنافقون والمنافقات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون، وعد الله المنافقون والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم} [التوبة 67 - 68].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أتاكم وأمركم جامع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه) [رواه مسلم].
ثالثا : حراسة المنشآت الحيوية والدفاع المدني :
ونظرا لامتداد الحرب الحديثة إلى عمق الدولة - كما قدمنا - فقد أصبح من الواجبات القومية على أبناء الأمة جمعاء حراسة المنشآت الحيوية كالمصانع والكباري والسدود والمطارات والموانئ ومحطات السكك الحديدية والتجمعات السكانية وغيرها من المرافق، ويعد هذا العمل من مهام " الرباط " بمفهوم العصر، بعد أن كان معناه في الماضي ربط الخيل في الثغور التي يتوقع هجوم العدو منها بقصد الاستعداد لرده، فكان المرابطون يقضون الليل والنهار متأهبين للقتال لا يغادرون أماكنهم حتى يحل غيرهم محلهم.
فكل الأعمال المتعلقة بحراسة المنشآت الحيوية والدفاع عنها تدخل في إطار الجهاد والرباط من قام بها فهو مجاهد، ومن مات وهو يؤديها فهو شهيد، كما يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد...).
ولابد أن ننوه إلى أن العدو يعمد في حالة الحرب إلى "ضرب العمق" لأنه المستودع الحقيقي للقوة المادية والمعنوية، فيحرص على إحداث الخسائر في الأرواح لإضعاف الروح المعنوية وعلى تخريب القاعدة الاقتصادية، وعلى شل المرافق العامة والخدمات الحيوية المستمرة للشعب كمرافق المياه والكهرباء والمواصلات لإحداث الارتباك والفوضى في حياته وحركته.
من أجل ذلك يتحتم أن يتعاون أبناء الأمة مع أجهزة الدولة على نطاق واسع سواء في المنزل أو المدينة أو المصنع أو المدرسة، وأن يتقدموا للتطوع في أجهزة الحراسة والدفاع المدني والإسعاف والإنذار والإطفاء والإنقاذ، وتقوم الدولة بتدريب أبناء الأمة على هذه الأعمال وترويدهم بالمعدات اللازمة، فضلا عن تجهيز الملاجئ ووسائل الإنذار والمعدات التي تتطلبها أعمال الدفاع المدني.
وللمرأة المسلمة دور فعال في هذا المجال فيما تصلح له، فمما يذكر أن يهود بني قريظة بعد أن نقضوا العهد في غزوة الخندق أرسلوا رجلا منهم إلى داخل المدينة، فاستطاع التسلل إلى الدور التي تجمع بها النساء والأطفال. لكن السيدة صفية بنت عبد المطلب رأته يستطلع المواضع، فنزلت إليه فقتلته، وبذلك خلصت المسلمين من خطر داهم، إذ جعل اليهود يفكرون أن في داخل المدينة حراسا أشداء من المسلمين، ليس من السهل التغلب عليهم، لذلك قبع اليهود في حصونهم لا يفكرون في الخروج.
رابع : وعي الأمن :
وفي وقت الحرب - وحتى قبل أن تبدأ - تنشط إلى أقصى حد إجراءات العدو للحصول على المعلومات والدعاية والحرب النفسية وترويج الشائعات والتجسس والتخريب المعنوي والمادي إلى غير ذلك من الأعمال التي يستهدف بها التأثير عل عواطف وأفكار وسلوك الأمة وقيادتها نحو الاستسلام والهزيمة.(/3)
من أجل ذلك وجب أن يتسلح الشعب بالوعي الذي يحصنه ضد هذه الإجراءات ويقيه من التأثر بها ويفوت عل العدو أغراضه، وذلك بالحرص على كتمان الأسرار وعدم ترويج الشائعات، ومعاونة السلطات في الإرشاد عن الجواسيس وكبح شهوة الكلام والثرثرة والتحدث بدون حرص أمام من يعرفه ومن لا يعرفه.
والحق أن توجيهات الإسلام في هذا المجال تجعل " الصمت " جوهر الوعي الأمن فهو المانع الأصيل والأكيد، لإفشاء ا لأسرار، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) [متفق عليه] ، (من سره أن يسلم فليلزم الصمت) [رواه البيهقي في شعب الإيمان].
خامسا : دور الدعاة وأجهزة الإعلام :
يوجه الإسلام إلى حشد كل الوسائل التي تدخل في مجال " الجهاد باللسان " الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) [رواه أحمد والنسائي وصححه وغيرهما]، وتدخل أيضا في مجال النصح لله وللرسول كما يستوحى من قول الله تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم} [التوبة 91].
والنصح العام ركن من الأركان المعنوية للإسلام، به عز المسلمون الأوائل وانتصروا على أعدائهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، فقيل: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم)، فالنصح العام في حالة الحرب يكون في كل ما فيه مصلحة للأمة وللمجاهدين منها، ومن ذلك ما يلي:
1- إعلام أبناء الأمة بطبيعة الحرب ومتطلباتها وتضحياتها وتزويدهم بالمعلومات والبيانات عن حقائق الموقف أو القتال وتبصيرهم بأهداف العدو وبواجباتهم ومسؤولياتهم تجاه القضية التي يقاتلون من أجلها أو الأخطار المحدقة بأمتهم.
2 - توظيف الإنتاج الأدبي والفني والثقافي وتوجيهه نحو خدمة الأهداف الوطنية والتعبئة المعنوية لأبناء الأمة.
3 - غرس وعي الأمن ومقاومة أساليب العدو في الحرب النفسية والدعاية وكل ما يستهدف تدمير الروح المعنوية للشعب والجيش وتفتيت الجبهة الداخلية.
4 - قيام الدعاة والعلماء والمصلحين وحملة الأقلام بتزويد الأمة بسلاح العلم والإيمان وعلاج الأمراض الاجتماعية ومحاربة السلبية والجهل والترف، والإسراف والتبذير، وتنمية الإرادة القتالية في أبنائها.
5 - الإعلام الخارجي والنشاط السياسي والدبلوماسي الذي يستهدف شرح قضية الأمة على الصعيد الدولي، وكسب تأييد الرأي العام العالمي وفضح أهداف العدو وفرض العزلة عليه، وتحييد القوى الأخرى التي قد يسعى العدو إلى جذبها نحوه، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أسوة في هذا المجال بعقده المعاهدات مع القبائل العربية في شبه الجزيرة لكفالة حرية الدعوة من ناحية وكفالة حسن الجوار والمعاملة من ناحية أخرى، وبكتبه إلى الملوك والرؤساء والأمراء في بلاد الروم وفارس والشام ومصر والحبشة واليمن وغيرها لدعوتهم إلى الإسلام.
[1] فيكونت مونتجمري: الحرب عبر التاريخ ج 1 ص 23.
[2] المقياس العلمي للنصر في الحرب هو أن يتم هذا النصر بدون أو بأقل قدر من الخسائر في الأرواح والمعدات وفي أقل وقت، من أجل ذلك لا يعد نصرا حقيقيا بالمقياس العلمي ذلك النصر الذي تدفع به الشعوب والجيوش ثمنا أكبر من اللازم في الأرواح وفي المعدات وتستغرق في الحصول عليه وقتا أطول من اللازم.
[3] "مات ميتة جاهلية" أي على هيئة موت أهل الجاهلية، فإنهم كانوا لا ينضمون إلى جماعة واحدة بل كانوا فرقا وعصائب يقاتل بعضها بعضا و"تحت راية عمية " - بضم العين وكسرها وتشديد الميم - أي من قاتل تحت راية اجتمع أهلها على أمر مجهول لا يعرف أنه حق أو باطل يدعون إليه ويقاتلون لأجله من غير بصيرة فيه ولا حجة علي(/4)
إعداد العدة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
فإن الأمة الإسلامية تعانّي منذ زمن ليس بالقصير من الضعف والتفرق، والاختلاف والتناحر والتخلف، فهي تابعة وليست قائدة كما أراد الله لها أن تكون، مقلدة ومحاكية لغيرها، ليست مبدعة ولا مبتكرة، إنها غارقة في مشكلاتها تعاني الأمرين من تناقضاتها وصراعاتها. وإن الأمراض قد تعددت ، والأوبئة المنتشرة غدت مزمنة في جسدها الكبير. ولقد حاول كثيرون تشخيص الداء، فتباينوا في التشخيص كما تباينوا في وصف العلاج، فذهبوا مذاهب شتى فزاد الأمر تعقيداً، ووسعوا في الجراحات ومكنوا للأدواء وأوصلوا الأمة إلى مرحلة اليأس والاستسلام والقنوط . لقد شرقوا وغربوا وذهبوا كل مذهب، ثم رضوا من الغنيمة بالإياب. لقد قال بعضهم أن سبب تخلف الأمة وضعفها إنما هو في التحرر من قيود الدين وأحكامه.
وقال آخرون : إن القومية هي الحل الذي ينبغي أن تأخذ به الأمة وتتجمع على أساسه فلم يفلحوا.
ويرى البعض : أن سبب ضعف الأمة وتخلفها إنما هو بسبب تحجب المرأة المسلمة وصيانتها والحل عندهم يكمن في تحرر المرأة وتخليها عن دينها وأخلاقها وآدابها، إنهم يريدونها أن تكون كالكافرات في أوربا وأمريكا.
هناك من يرى أن المشكلة اقتصادية والصراع إنما هو اقتصادي فأخذوا بالفكر الشيوعي والاشتراكية التي أضفوا عليها صفة العلمية. وكانت النتيجة تكريساً للفقر والتخلف والحرمان كما هو معلوم للجميع.
هناك من يرى أن لاخلاص للأمة إلا بأن تنسلخ من هويتها وترتبط بأوربا وتأخذ بفكرها ومناهجها في الخير والشر والحق والباطل، في الحلو والمر وفي كل شيء ، وهناك من الأفكار والتصورات التي أخذت بها الأمة في القرن الماضي فلم تجني من ذلك إلا الخراف المبين والضياع والتيه الذي لا نهاية له.
أيها المؤمنون : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا كيف تبنى الأمم وتسود ، وكيف تقوى وتنتصر وكيف تسمو وتسعد، وترقى في الحياة الدينا ويوم يقوم الأشهاد، ولن تفلح الأمة ولن تخرج من تيهها وضعفها وهوانها إلا إذا تعرفت على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسارت عليها في بناء النفوس وفي بناء المجتمعات والشعوب على حد سواء ألم يكن العرب بل والعالم قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - يعاني من الأمراض المستعصية التي نشكوا منها الآن.
ظلم وظلام فساد وطغيان كان يملأ الأرض فبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولقد ذكر الله المؤمنين بفضله ونعمته عليهم حيث أنقذهم مما كانوا فيه في جاهليتهم، أنقذهم ببعثة عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث قال تعالى:
?...وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ... ? [آل عمرآن: 103].
فكيف بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته في ذلك الليل الغاسق والظلام الدامس الذي كان يلف البشرية بمجموعها ، لقد بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين في مكة بتأسيس الإيمان واليقين وغرس عقيدة التوحيد، وتثبيتها بإقامة الأدلة والبراهين القاطعة الساطعة، أدلة تكوينية مبثوثة في عناصر الكون ومظاهر الطبيعة الناطقة بأن الله ليس له شريك.
وأدلة تنزيلية، تنزل بها الوحي لهداية العقول وتنوير القلوب، وتحصين هذه العقدية الراسخة التي هي المقصود الأعظم والغاية العظمى لجميع رسالات الله تعالى إلى أهل الأرض كما قال سبحانه: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ? [النحل:36] وقال:?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي? [الأنبياء:25].(/1)
لقد كانت هذه المرحلة مرحلة بناء الإيمان واليقين في النفس الإنسانية ، أطول مراحل سير الرسالة الخالدة زمناً، كانت حافلة مليئة بالحجج الفكرية والعقلية، وأبلغها في إيقاظ الفطرة البشرية، كان الجهاد فيها جهاداً بالكلمة ، بالقرآن الكريم في دلائل آياته على عظمة الكون وخالقه ومدبره سبحانه وكان سلاح الجهاد في تلك المرحلة الصبر الجميل والتحمل الكبير ، يقول الله عز وجل في جهاد هذه المرحلة مخاطباً خاتم أنبياءه ورسله: ?وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا(51)فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا(52) ? [الفرقان:51-52]، ويالها من مهمة ما أعظمها، ففي هذه الآية من الحث والتهييج للرسول والمؤمنين ما فيها.. فإن الكفار قديماً وحديثاً يجدون ويجتهدون ، في حرب الإسلام وتوهين شأنه، وكأن الآية تقول للرسو - صلى الله عليه وسلم - قابل صدهم وإعراضهم وعنادهم بجدك واجتهادك ، واستمسك بالوحي الذي أنزل عليك وعض عليه بالنواجذ فإنك بذلك تغلبهم وتعلوهم: "وجاهدهم به جهاداً كبيراً"، وجعله جهاداً كبيراً لما يحتمل فيه الرسول من المشاق العظام والمهام الجسام، لأنه - صلى الله عليه وسلم - نذير لجميع القرى ، والأمم وذلك لعموم رسالته لأن الله لو بعث في كل قرية نذيراً، لوجبت على كل نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك المجاهدات كلها، فكبر جهاده وعظم - صلى الله عليه وسلم - .
وكما اكتمل بناء العقيدة الإيمانية والتوحيدية في النفوس المؤمنة في هذه المرحلة وظهر شامخاً راسخ الدعائم والأركان، ثابت القواعد لا تهزه أعاصير الحياة ولا تقف أمامه ترهات الكفر والإلحاد، ولا تؤثر فيه سخافات الوثنية وأباطيل الشرك والجهالات.
لقد غرس محمد - صلى الله عليه وسلم - في أفئدة وقلوب أصحابه الإيمان بالله واليوم الآخر، كانوا على يقين جازم لا يخالطه ريب أنهم سيقومون لرب العالمين، يحاسبون بأعمالهم صغيرها وكبيرها، فإما إلى نعيم مقيم دائم لا ينتهي ولا ينقطع وإما إلى عذاب خالد شديد في نار وقودها الناس والحجارة فكانوا بين الخوف والرجاء، يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه ، كانوا موقنين أن الدنيا بعذابها ونعيمها لا تساوي جناح بعوضة في جنب الآخرة، كانت هذه العقيدة تهون عليهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها، حتى لم يكونوا يكترثون لها.
إن الإيمان العميق إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش.. وهذا ما ربى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته الكرام. إنهم لما آمنوا بالله العزيز الحميد وصدقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصديقاً جازماً لا يخالطه شك ولا ريب .. صنعوا العجائب وحققوا وأنجزوا.
لما اكتمل بناء العقيدة في ضمائر وقلوب المؤمنين في مكة وهم قلة والمشركون واقفون في طريق الدعوة عقبه كأداء يصدون عن سبيل الله ويتوعدون من يؤمن ، وينزلون به ألواناً من العذاب واستمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر عاماً يدعوا إلى ربه ويجاهد ويصبر ويصابر، حتى أذن الله للنور أن ينتشر فيمم النبي وجهه شطر قبائل العرب ووفودهم في موسم الحج يعرض عليهم دعوة الله ويطلب منهم النصرة والحماية، فوجد هذا النور والخير طريقه إلى قلوب الأوس والخزرج من سكان المدينة وسرعان ما انتشر الخير وسرى النور في المدينة كما يسري نور البدر في ظلمات الليل فيبددها، والماء العذب في الأرض الجدبة فينبتها، واحتضنت المدينة الإسلام والمسلمين كما تحتضن الأم الرؤوم أولادها ، ووجد المسلمون في الأنصار خير إخوان وأعوان عرفتهم الدنيا في تاريخها الطويل.
لقد انتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة إلى طور جديد، طور يني فيه الأسس الراسخة ويقيم الدعائم الثابتة لبناء المجتمع الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية، التي تطبق أحكام الله وتقيم شعائر الدين وتبلغ الإسلام رحمة للعالمين ، فما هي يا ترى تلك الأسس التي أقام عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة ، هذا ما سيتم تبيينه في خطب لاحقة إن شاء الله.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنين: لا تزال الدماء تسفك والأنفس تزهق والبيوت تدمر والاقتصاد ينهار، واليهود يسرحون ويمرحون على مرأى ومسمع من العالم، كل همهم هو أن توقف الانتفاضة الشعبية الجهادية.. والشعب الأعزل يواجه الطائرات بالمقالع والمدافع والدبابات بالحجر.. والطائرات العربية والصواريخ العربية والأموال العربية، مشلولة بالذل والصغار، قادة الأمة غير جادين في نصرة القضية الفلسطينية منذ قيام دولة إسرائيل وحتى الآن، لم توجد إسرائيل أصلاً إلا بحماية الحكام الخونة لها وحراستهم لأمنها وحدودها، ومحاربتهم لكل المجاهدين والفدائيين طوال الخمسين عام الماضية .(/2)
تعلقت آمال الشعوب وتطلعت إلى القادة العرب الذين اجتمعوا أخيراً وتفرقوا دون أي موقف مشرف يذكر.. لأنهم ليسوا أهلاً للقيام بشرف الجهاد وتحرير فلسطين.
أيها الناس إن النصر لا ينزل على الجبناء القاعدين ، إن النصر له شروط وله مقدمات.. إذا توفرت في الأمة وأخذ بها الزعماء والقادة فإن النصر حليفها لا محالة. أما إذا لم نأخذ بها ولم نسارع في تطبيقها فإن المأساة ستستمر والمحن ستزداد والبلاء سيضاعف، لا يذهبن الوهم بنا على أن نقول: مهما كان فينا من عيوب فإن أعدائنا كفار وظلمة ومعادون ومستكبرون عن الحق وسوف ينصرنا الله عليهم.. كلا.. لقد أرانا الله تبارك وتعالى شيئاً من مظاهر الإنكسار والضعف والهزيمة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم النبي يوم أحد بسبب مخالفتهم لأمر واحد من أوامر الرسول مع أنهم كانوا يواجهون أعتى وأكفر خلق الله يومئذ.
أيها المؤمنون: إن من شروط النصر ومقدماته :
أن تقلع الأمة عن كبائر الإثم والفواحش، أما أن تظل أمورنا على ما هي عليه ، ترك للفرائض والواجبات وانتهاك للحرمات، بارات للخمر وتصنيع له ، أماكن الدعارة والقمار، أوكار الفساد، وتحطيم الأخلاق، إباحة الربا ومحاربة الدين.. هذه الحالة الاستثنائية التي تعيشها الأمة لا بد أن تختفي من حياتها فذلك شرط من شروط النصر ومقدمة ضرورية له.
من شروط النصر الاستعداد والإعداد ورفع وتيرة الأمة بكاملها وتدريبها وإعدادها للتضحية والجهاد فهؤلاء اليهود أعداء الله يأخذون بكل أسباب القوة المادية ، تصنيع للأسلحة تدريب وتسليح لليهود المدنيين ، فلماذا لا يأخذ حكامنا بأسباب النصر في جانب الإعداد والتصنيع ، أين المصانع العسكرية ، لماذا تخدرت الشعوب العربية والإسلامية وترسم السياسات من أجل إذلال الأمة ونزع هويتها وتجريدها من أسلحتها، وإشغالها باللهو واللعب والعبث والفسوق والاستمرار في هذه السياسات يمنع النصر ويحول بين الأمة وبينه ، قال تعالى: ?وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ? [التوبة:46].
فالإعداد للجهاد وإحياء فريضة الجهاد هو الخيار الوحيد، وهو قدر هذه الأمة، إن تقاعس حكامنا اليوم فسوف يأتي الله بغيرهم ممن يحبوهم ويحبونه.
من شروط النصر الهامة رفع مستوى الأمة إيمانياً وجهادياً ، على الحكومات أن تفتح الأبواب الموصدة أمام العلماء والدعاة لتوعية الأمة وتذكيرها وتعليمها وتربيتها على الإيمان والجهاد. وتجفيف منابع الفساد في إعلامها، وتعليمها وسائر أمورها.
ومن شروط النصر ومقدماته هو توحيد الأمة وجمع طاقاتها .. والعمل على رسم السياسات الجادة وإيجاد البرامج التي تجمع الأمة ولا تفرقها وتقويها ولا تضعفها إن كثيراً من الزعامات في العلام العربي تسهم في إضعاف وحدة الأمة وتفريق كلمتها بسياسات خبيثة لا تخدم سوى أعداء الأمة المتربصين بها.
هذه الشروط والخطوات مالم يقم بها الحكام ويترجمونها إلى واقع عملي فإنهم خائنون لدينهم وأمتهم متعاونون مع أعداء الأمة متآمرون عليها.. والوقت كفيل بإفراز الصادقين وظهور المتآمرين والخائنين لكل الناظرين.(/3)
إعصار ريتا كاترينا نفرح أو لا نفرح ؟.
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه[أستاذ العقيدة بجامعة أم القرى] 24/8/1426
28/09/2005
عظة وعبرة.
إعصار: ريتا.. كاترينا. يذكرنا بالريح الصرصر العاتية، التي نزلت بقوم عاد، قال الله تعالى:
- "كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين * إن هذا إلا خلق الأولين * وما نحن بمعذبين * فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم".
قوم عاد ضربوا في القرآن مثلا: لأمة أعطيت القوة والشدة، والبناء العظيم، التي لم يخلق مثلها في البلاد، فما شكروا ولا عدلوا، بل طغوا وقالوا: من أشد منا قوة. قال تعالى:
- "فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون".
قوم عاد استكبروا على عبادة الله وحده، وسخروا من إفراده وحده بالعبودية لما دعوا إليه، قال تعالى:
- "قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين".
فلما قامت حجة الله عليهم، فما استكانوا ولا تضرعوا، أخذهم العذاب: ريح تدمر كل شيء. قال تعالى:
"فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون".
- "وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى * كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية".
روى الإمام أحمد بسنده، وأخرجه الشيخان، عن عائشة رضي الله عنها قالت:
- ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا قط، حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم. قالت: وكان إذا رأى غيما، أو ريحا، عرف ذلك في وجهه. قالت: يا رسول الله!، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية ؟، قال: يا عائشة!، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ؟، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: هذا عارض ممطرنا.
قال الله تعالى:
- "واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون * فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين".
كان ذلك في القرون الخالية، نسمع بقوم عاد، وأنهم كانوا يسكنون الأحقاف، في جنوب جزيرة العرب، وأنهم أهلكوا بريح صرر عاتية، ونعجب لريح تفعل هذا الفعل، في قوم أشد الناس أجساما: "وزادكم في الخلق بسطة"، وأشد الناس بناء: "إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد"، ولولا أنه حكي في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لبقينا شاكين، مترددين: نصدق، أو لا نصدق.
لكن "إعصار كاترينا" طمأن قلوبنا، وزادنا يقينا، فنرجو أن نكون كما قال إبراهيم لربه تعالى، لما سأله أن يريه كيف يحي الموتى ؟: "قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي".
الإعصار كان ريحا صرصرا: شديدة، باردة، لها صوت مزعج. وقد فعل ما رآه الناس أجمعون في كل مكان بأقوى أمة على الأرض اليوم:
- أمة لا تزال تقول: من أشد منا قوة.
- أمة تسيح في الأرض تفعل ما تشاء بالأمم الضعيفة، بالمحو والاحتلال، واغتصاب الثروات.
- أمة بنت الشاهق في كل ريع، واتخذت المصانع لعلها تبقى خالدة.
- أمة فتنت العالم بقوتها، وهيبتها، وجبروتها، حتى خضع لها الضعيف، واحتار في أمرها الرشيد.
وقفت عاجزة لا تقدر أن توقف ريحا، قد علمت بأنها آتية؛ أي لم تأتها بغتة، بل جهرة علانية، فلم تملك غير الانتظار والتسليم للقدر المحتم..!!.. تحصي ما يمكن أن يبقى ويسلم، بعد أن تعذر عليها إحصاء ما سيذهب ويتلف، فجاءت حثيثا، فظلت ترقب عيثها، وإفسادها، وإهلاكها الحرث والنسل، فلم تبق ولم تذر، وتركت الأرض قاعا صفصفا، مدينة بكاملها (نيو أولينز) خليت من سكانها، فلم يبق أحد، صارت كأحقاف عاد لما أتاهم الريح: "فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم"، ولم تنجل الريح إلا بإذن ربها.
فأين هي..؟، وأين قوتها ..؟، وأين جبروتها.. ؟!.(/1)
إن آية عاد تجلت اليوم في إعصار ريتا.. كاترينا، والله تعالى يري آياته للناس كل يوم: "لعلهم يتقون"..!!.
آية لكل ظالم، يأكل حقوق الضعفاء، يغتر بقوته، وببنائه الشاهق، وعلوه في الأرض:
- وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادًا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود".
* * *
الفرح منوط بالمحل.
فأهم ما في الحدث هو هذه العظة والعبرة، والوقوف عندها، لنعلم سنة الله تعالى في عباده:
- "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد * إن في ذلك لآية".
غير أن طائفة من الناس تركت هذه العبرة العظيمة، فجنحت إلى مسألة أخرى هي:
- هل نفرح بما أصابهم، أولا نفرح ؟.
وقد ذهبت بالمسألة شوطا بعيدا، فدخلت في اتهام النيات والمقاصد:
- فصار من يؤيد الفرح: يتهم من لا يؤيد بالجبن، والانهزام، ومرض القلب، والإفساد في الأرض.
- وصار من لا يؤيد الفرح: يتهم المؤيد بانعدام الضمير، والرحمة، والإنسانية.
وهكذا شأن الناس اليوم في الاتهام..!!..
والمسألة تحتاج إلى تمهل، وتجنب التعميم في الأحكام، نعم يوجد في الجانبين من هو كذلك، لكن ليس كلهم كذلك..!!.
- ليس كل من فرح، فهو: معدوم الإنسانية، والرحمة، والضمير.
- وليس كل من لم يفرح، فهو: جبان، منهزم، أو مريض القلب.
بل يوجد من الذين فرحوا من هو أكثر الناس رحمة، وإنسانية، كما يوجد في الذين لم يفرحوا، من هو أعظم الناس إيمانا، وصلاحا، وإصلاحا.
غير أن المشكلة أتت: من أن كل فريق نظر إلى المسألة من جانب، دون جانب، فلأجله اختلف الحكم.
فالواجب إذن: التمهل، ونظر كل فريق في حقيقة قول الآخر، وما يريده، وما الذي تعلق به قوله وحكمه؟، سواء كان بالفرح أو بالمنع.
* * *
وحاصل الخلاف بين الفريقين:
- أن من سوغ الفرح بهذا المصاب، فمن جهة: أن هذا الإعصار آذى وأضر بالدولة نفسها، وسياساتها، وحملها جراء ذلك خسائر باهظة، تفيد في كف شرها وعدوانها على المسلمين، الذين اصطلوا نارها: تدخلا، واحتلالا، وقتلا، ونهبا للثروات. فهو يرى أن هذه عقوبة من الله تعالى على فعلها الظالم، واستجابة لدعوات المظلومين، وهو يفرح؛ لأن في ذلك كف عدوانها، وانشغالها بنفسها.
- ومن لم يسوغ الفرح، ودعا إلى المؤاساة، فمن جهة: أن الأذى لحق بالضعفاء، الذين لا حيلة لهم، ولا يد لهم في عدوان دولتهم على المسلمين، بل كثير منهم معارضون، فكيف يؤاخذون بجريرة غيرهم، والله تعالى يقول: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"؟!. فهو يرى أنهم لا يستحقون الفرح بمصابهم؛ لأنهم ما آذوا. ويرى مواساتهم؛ لأن في ذلك التقرب إليهم بالإسلام، ففي المحن تلين القلوب، وتعرف لأهل العون فضلهم، فهذه فرصة لدعوتهم إلى الإسلام.
فإذا كان الأمر كذلك، فالمسوغات مقبولة، والمواقف مقبولة.
لكن الذي لا يسوغ، ولا يقبل: الفرح بمصاب الضعفاء الأبرياء، من عامة الناس، من جهتين:
الأول: تعطيل دلالة قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، المقتضي: عدم تحميل أحد وزر غيره.
الثاني: أن الإسلام لا يأمر بالفرح بمصاب الضعفاء؛ لأن أصله الرحمة:"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، فحيث كان إليها سبيل، فلا يستعاض عنها إلا إذا تعذرت.
كما لا يسوغ، ولا يقبل: منع الفرح بمصاب الدولة التي آذت وحاربت المسلمين، من جهة أنه:
- تعطيل لدلالة قوله تعالى: "ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم"، المقتضي جواز الفرح.
ولا مانع من اجتماع الفرح والأسى في الأمر الواحد، كالوالد يفرح ويحزن بما يصيب ولده العاق الفاجر، فيفرح لأجل كف شره عنه وعن غيره، ويحزن لأنه ولده.
* * *
الشعب مشارك أم لا ؟.
قال القائل: الشعب، الذي تسميه ضعفاء، مشاركون في العدوان: بالانتخاب والتأييد، والعون بالمال.
فهم الذين انتخبوا الرئيس، الذي جرهم إلى العدوان على المسلمين، فهم مؤيدون له ولأعماله.
وهم يدفعون الضرائب، التي ينفق منها على السلاح، والحرب، والاحتلال.
فكيف يقال: إنهم ضعفاء، أبرياء، لا ذنب لهم ؟!.
فالجواب: ثمة أمور هنا خاطئة، هي التي أوجبت هذه الدعوى ..!!.
* فأما عن الانتخاب:
فليس كل الشعب ينتخب، بل نصفه وأكثر لا يأبه بالانتخابات أصلا، ولا يدخل في الترشيحات، إما لأنه لا يأبه لهذه الأمور بطبيعته وانشغاله بنفسه، وإما لأنه لا يثق بنزاهة العملية الديمقراطية، وصدقيتها، ويدرك أن ثمة جهات معينة معروفة (الشركات العابرة للقارات) هي التي تحدد من سيفوز بالرئاسة، وما عامة الناس إلا صورة تزين بها الانتخابات، يخدع بها من لا يفهم، ليظن أن القرار والاختيار: قرار واختيار الشعب.
فما بقي إذن إلا النصف هو الذي ينتخب.. وهذا النصف: ليس كله ينتخب الرئيس الفائز، بل تتوزع أصواته بين المرشحين، فلا يبقى للفائز من الأصوات إلا ما دون النصف، ونسبته إلى مجموع الشعب: أقل من الربع.(/2)
والمحصلة أن الذين اختاروا وانتخبوا أقل من ربع الشعب.. وهذه النتيجة حقيقية لا وهمية، وعليه فتسقط دعوى أن الشعب كله انتخب، فكله مشارك في آثام وأخطاء حكومته، فهو محارب مثله.!!.
* وأما الضرائب:
فالنظام الضريبي يضرب على القادرين ماليا، ولا يسعهم التخلص منه، فقوة النظام تسجن الممتنع، وترهن ممتلكاته، وتبيعها بالمزاد.. فهو أمر لا يقدرون على دفعه، ولا يد لهم في أوجه تصريف المال، وهم يعترضون، كما يرى المتابع، على الإنفاق العسكري والحربي، لكن في الغالب لا يسمع لهم.
فإذا كان كذلك: فكيف يحملون المسؤولية ؟.
ويقال: هؤلاء المسلمون الذين يعيشون في الولايات المتحدة، وقد حصلوا على جنسيتها، فصاروا مواطنين لها، ماذا حكمهم؟.
إنهم يدفعون الضرائب كذلك، فهل هم أيضا مشاركون في العدوان ؟!.
إن قيل: يفرق في هذا بين المسلم والكافر.
قيل: نصرة الكافر على المسلم كفر: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، فمن نصرهم فهو منهم، ودفع المال لقتال المسلمين من النصرة.. وعليه فلا فرق إذن.
والذي يقال هنا: إنه ما دفع عنهم الكفر، إلا أنهم معذورون بالإكراه والاضطرار. وكذلك غير المحاربين معذورون بذلك، فالاضطرار والإكراه يستوي فيه المسلم والكافر، كلاهما يعذران به.
الذي يحتمل المسؤولية، الذي يدفع باختياره، والذي يصرف المال في القنوات الحربية باختياره، أما الذي لايملك، ويقهر على دفع الضرائب: كيف يحتمل الوزر وهو مكره، وقد علمنا من ديننا أن المكره معذور؟!.
- وإذا أضفنا إلى ذلك:
ما رأيناه وسمعناه من اعتراضات، ومظاهرات هذا الشعب، ضد سياسات حكومته، ورفضه لها، وإعلان طوائف منهم وأفراد أنهم مع حقوق الشعوب المسلوبة، والمحتلة، من المسلمين، وثبت صدقهم بأدلة كثيرة، لا يمكن الادعاء أنها خداع أو تمثيل:
فهل يصح بعد هذا كله: القول بإن هذا الشعب مشارك في عدوان حكومته، وظلمها للمسلمين ؟!.
* * *
إن العدل من سمات المسلم، والله تعالى يقول:
- "ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون".
- "ولا يجرمنكم شنئآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعانوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب".
فديننا لا يأذن بتوسيع دائرة العقوبة، والانتقام، أو التشفي والفرح، ولو كان لأجل نصرة الدين، إلا ما كان خارجا عن القدرة، ومتعذرا على التحكم، كالحرب قد يقتل فيها من لا يحارب خطأ، هذا والوصايا النبوية في الحرب اجتناب: الضعيف، والشيخ، والمرأة، والصغير، والعابد، والجريح.. ونحوهم.
وإن الحكمة من سمات المسلم، ومن الحكمة:
أنه إذا كان ثمة طوائف أو شعوب أو أفراد أو دول غير مسلمة، لم تتعرض لنا بشيء من الأذى، وبعضها نصيرة لقضايا المسلمين، ترفض احتلال بلدانهم، واغتصاب ثرواتهم، وإذلالهم، وتكتب منتقدة حكوماتها في ذلك، وتخرج متظاهرة ضد ذلك، كما خرجوا بمئات الآلاف والملايين في لندن وغيرها، فتفعل ما لا يفعله المسلمون لقضاياهم، فليس من الحكمة تحميلها آثام وأخطاء حكومتها، ومحاسبتهم بها..!!.
فهذا الظلم عينه، وانتفاء الحكمة: فهل يعقل أن نساوي بين من ظلم وتعدى، ومن حارب هذا الظلم والتعدي، وجازف بنفسه:
- فناله أذى، كما حصل للنائب البريطاني جورج غالاوي، الذي تعرض لكثير من الاتهامات بسبب رفضه لسياسات حكومته، واعتراضه على سياسة الولايات المتحدة في دعم إسرائيل، واحتلال العراق، وتكلم في ذلك بكلام يشفي الصدور.
- وربما قتل لأجل ذلك، كما حصل للفتاة الأمريكية راشيل، التي دهستها جرافة إسرائيلية، وقفت أمامها تمنعها بجسدها من هدم منزل لفلسطيني.
والأمثلة كثيرة، لو تتبعنا.. فالواجب: اغتنام هذه الأصوات، والاستفادة منها، لا خسرانها. فهؤلاء ليسوا محاربين، ولا معتدين.. هؤلاء مسالمون، بل مناصرون للمسلمين ..!!.
أما كونهم كفارا، فأمرهم إلى الله تعالى، ولعل الله تعالى يهديهم، وهذه مهمة المسلمين، ولا يمكن أن يصلوا إلى هذه الغاية إلا (بالعدل، والحكمة)، وفي الكفار من هو عادل، ونبينا صلى الله عليه وسلم علمنا كيف نفيد من هذه الفئات، لما أرسل المستضعفين من المسلمين إلى الحبشة، وذكر: أن فيها ملكا لا يظلم أحد عنده. [انظر: السيرة النبوية الصحيحة 1/170] فقد أمنه على المسلمين لعدله، فما كان أسرع إسلامه على أيديهم، لما رأى منهم من حكمة وعدل وديانة، فهلا كنا مثلهم مع أقوام هم مثل النجاشي قبل إسلامه ؟.
* * *
أليس الكفار أعداء الله ؟.
قال القائل: هؤلاء كفار ليسوا مؤمنين، وهم أعداء الله تعالى، فلم لا نفرح بما يصيب أعداء الله ؟!.
وفي الجواب يقال: هذا الاعتراض يتضمن من الأمور ما يلي:
1. إن كل كافر هو عدو لله تعالى.
2. إن الفرح بمصاب كل كافر سائغ، لما كان عدوا لله تعالى.
3. إن الفرح بمصابهم هو: مقتضى البراء من الكافرين.
* من العدو ؟.(/3)
من المعلوم أن الكفار منهم: المحارب، والمسالم. فهذا المحارب قد خلصنا من أمره، هو: عدو لله تعالى. وأما المسالم: فمنه العالم، والجاهل. فهذا الجاهل لا يستحق وصف العداوة، فلا موجب لوصفه بذلك:
- فإنه لم يتقدم بأذى ولا كيد، ومعلوم أنهما علة في الوصف بالعداوة.
- وهو لا يعرف الإسلام، فاعتقاداته الباطلة في حق الله تعالى، مع كونها عدوان على مقام الرب جل شأنه، إلا أنه لا يدري ما هو عليه ؟، والله تعالى لا يؤاخذ عباده إلا بعد العلم.
فالجاهل المسالم لا يسوغ وصفه بالعداوة لله تعالى؛ لأن المناط لم يتحقق في حقه، وقد دلت النصوص على أن صفة العداوة لا تلحق الكافر، إلا إذا عرف الإسلام، ثم أصر وعاند، وحارب وترصد بالإسلام والمسلمين فهو عدو لله تعالى، قال تعالى:
- "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه".
فلم يحكم بعداوته بمجرد الكفر؛ فإن أبا إبراهيم عليه السلام كان كافرا منذ البداية، ثم إن إبراهيم لم يتبين له أنه عدو لله إلا بعد مدة، قيل: بعد موته كافرا [تفسير ابن كثير ]؛ أي بعدما تأكد عناده وإصراره على الكفر، وربما تبين بالكيد.. والحاصل: أن العداوة لو حصلت بمجرد الكفر، لعرف أنه عدو لله منذ البداية.
* * *
* المحارب والمسالم.
فإذا تبين الفرق بين المحارب وغير المحارب من جهة الوصف بالعداوة، فإن الذي ينبني على ذلك:
تسويغ الفرح بما يصيب المحارب، دون من لم يحارب. وأدلة ذلك:
1. إن الله تعالى فرق بين الكافرين: فجعل منهم المحاربين، والمسالمين. فأذن في البر والقسط بالمسالمين، فقال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون". والبر: هو الإحسان. والقسط: دفع شيء من المال إلى الضعفاء والفقراء منهم. فكل من لم يتقدم بأذى المسلمين، فلم يقاتلهم، ولم يخرجهم من ديارهم، فيجوز الإحسان إليه، والتصدق عليه بالمال، فإذا جاز هذا، كيف يسوغ الفرح والشماتة بمصابه، والإحسان والشماتة لا يجتمعان؟.
2. إن الأصل في الإسلام الرحمة، وأما العقوبة بالانتقام والتشفي فذلك استثناء، قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، فقد حصر علة وسبب الإرسال في الرحمة، وعمم حكمها على العالمين، فشمل المؤمنين والكافرين، وقد تجلت الرحمة في صور كثيرة من الأحكام، فمنها:
- أن الحكم بالتفسيق، والتبديع، والتكفير لا يكون إلا بعد إقامة الحجة.
- أن الجهاد لا يكون إلا بعد تعذر سبل السلام.
- أن الحدود تدرأ بالشبهات، وهي قاعدة معروفة، مردها إلى أن الأصل في الإسلام الرحمة.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم طبق الرحمة عمليا: فعفا عن كفار مكة المحاربين، فضلا عن المسالمين، لما تمكن منهم، ولو كان الأصل: الانتقام والعقوبة. لقدمها.
- أن الصحابة رضوان الله عليهم اقتدوا به صلى الله عليه وسلم في هذا، فظهر من رحمتهم في الفتوحات ما تأكد به هذا، من ذلك قصة أبي الدرداء في فتح قبرص.
ومن هذا نفهم: أن الغضب والعقوبة والانتقام في الأحكام الدنيوية، والأحكام الأخروية: لا يجب إلا بعد حصول العلم واستنفاد الأعذار.
بالرحمة انتشر الإسلام.
إن الأسى على ضعفاء الكافرين من مقتضى الفضل والإحسان والمروءة، كما هو مقتضى الدعوة:
فإن المسلمين ما نشروا الإسلام في الأرض بالتلذذ والفرح بمصاب كل كافر، ولو كان هذا دأبهم، لما أدخل الناس في دين الله أفواجا، إنما دخلوه بما رأوا من رحمتهم بهم، وخشيتهم عليهم من عذاب الدنيا والآخرة، وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء، وقد ضرب الله لنا في كتابه أمثالا، في خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه:
- "يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا".
وفي خطاب هود عليه السلام لقومه:
- "ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد".
وفي خطاب شعيب عليه السلام لقومه:
- "إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط".
وفي خطاب مؤمن آل فرعون لقومه:
- "ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم".
فإذا كانوا خافوا عليهم عذاب الدنيا والآخرة، فهل الرحمة إلا هذه ؟.
وهل يتلاءم الخوف والرحمة، مع الفرح والتشفي بمصاب كل كافر، حتى ولو لم يكن محاربا ؟!.
بهذه اللغة، وهذه المفاهيم دخل الأنبياء ودعاة الإسلام إلى قلوب الناس، واستنقذوهم من الظلمات إلى النور، لا بلغة ومفهوم التشفي والفرح بمصابهم.(/4)
لا يعرف عن المسلمين مسألة الفرح والتشفي بمصاب الكافرين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم ما يكون خشوعا، وخشية عند الفتح، فقد دخل مكة وذقنه يكاد يمس ظهر راحلته [السيرة النبوية الصحيحة 2/482]، يذكر تقلب الأيام بالناس، وهو يذكر الفتح، فلا هو الذي أظهر وأمر بإظهار الفرح بالفتح، بل كان يوما مهيبا، حتى احتار الناس في قائد وجيش، خالفوا عادة الفاتحين، فلم يظهروا سوى الخضوع، والخشوع، والرحمة بالناس، إذ ملكوا رقابهم، ثم جمعهم في فناء البيت، وقال لهم:
- ما تظنون أني فاعل بكم ؟، قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. [سيرة ابن هشام]
فهذا في حال قوم محاربين، ما كان أشد أذى عليه منهم، فما فرح بخزيهم، وما أظهر التشفي بهم، بل الرحمة والعفو، فكيف بالله عليكم بأناس ضعاف، لا يد لهم في حرب، وليس لهم ذنب سوى أنهم من قوم محاربين؟
فهل الأخذ بجريرة الغير عمدا وقصدا من تعاليم الإسلام ؟!.
* * *
لما حدثت المعركة الأهلية في راونده، بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، أفنى بعضهم بعضا، فخرج الأضعف يبحث عن ملجأ في كل مكان، حتى الكنائس، لكنهم ما سلموا، دل عليهم القائمون عليها، فقتلوا فيها، لكن بعضهم وجد عند المسلمين ملجأ، فكان هذا سببا في إسلام قبيلة بكاملها، من شيخها إلى صغيرها، وقد أعلن شيخ القبيلة أن سبب إسلامه وقبيلته، وتركه النصرانية: ما وجده من الرحمة لدى المسلمين ؟.
فانظر: لو أن المسلمين هناك ما حموهم، وذلك عملا بالرأي القائل: إنه لا أسى على مصاب الكافرين.
فهل كانت هذه القبيلة تدخل الإسلام ؟. وهل كان المسلمون يغنمون أجرهم؛ فلا أعز من هداية إنسان.
فهذه غنيمة الرحمة، وإظهار الأسى بحال الكافرين، فهذه مهمة أمة تنظر إلى حالها أنها الأعلى، والأقوى بإيمانها، فترحم، وتعفو، وتصفح، وتعين الإنسان أينما كان، ومهما كان.
- "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولاتزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين".
* * *
- البراء والفرح.
لا تعارض بين البراء وعدم الفرح (=الرحمة)، لا من جهة اللغة، ولا من الاصطلاح.
فالبراء لغة: البعد. والرحمة: الرأفة، والعطف، والرقة. ولا مانع من الرأفة، والعطف، والرقة بالبعيد.
والبراء في الاصطلاح: البغض، وترك النصرة. عكس الولاء: المحبة، والنصرة.
وأما الرحمة: فحركة القلب بالإحسان إلى المرحوم. وحركة القلب بهذا المعنى لا تعارض حركته بالبغض والكراهية. فإنه يصح الجمع بينهما. كمن يرحم ولده الفاجر العاق، وكمن يرحم أمه الكافرة.
والأدلة على جواز الرحمة بالكافرين متعددة منها:
1. إن الله تعالى مع براءته من الكافرين: "أن الله بريء من المشركين ورسوله"، فهو أرحم الراحمين بهم: "ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة".
2. إن النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أعظم الناس براءة من الكافرين: "أن الله بريء من المشركين ورسوله"، فهو أرحم الناس بهم: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، حتى إنه كان ليغتم، ويأسى، ويحزن، ويبكي على إعراض قومه، يقول الله تعالى:
- "لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين"؛ أي مهلكها وقاتلها غما وهما من إعراضهم.
- "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات".
- "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون".
3. إن هذا هو الثابت من أحوال الصحابة رضوان الله عليهم:
- عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص، فرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء!، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ؟، قال: ويحك ياجبير!، ما أهون الخلق على الله، إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة، ظاهرة، لهم الملك، تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى. [حلية الأولياء 1/217، سير أعلام النبلاء 2/351]
فهذا البكاء علته:
- رحمة وأسى لما أصابهم من التفريق.
- وخشية وخوف من أيام الله تعالى.
وليست إحداهما دون الأخرى، فقد بكى للأمرين.
- رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه راهبا فبكى، فقال: رأيت هذا، فتذكرت قوله تعالى: "عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية". [تفسير ابن كثير ]
أفتراه بكى خشية تقلب الحال، ولم يبك رحمة وأسى لما يعانيه هذا الراهب، بما فيه عذابه غدا ؟.
فإذا جاز وتثبت الأسى عليهم لكفرهم وعدم إيمانهم، فالأسى لما يصيبهم في دنياهم دون ذلك، فليس بعد الكفر مصيبة.
* * *
- رحمة خاصة، ورحمة عامة.
فلا مانع إذن شرعا: من الأسى لما يصيب الكافر، خصوصا المسالم، بالقدر المقدر، الذي لا يبلغ أن يكون كالأسى على المسلم؛ لأن المسلم درجته أعلى، والولاء بين المسلمين معقود في صورة الجسد الواحد، وهذا ليس بين المسلم والكافر، فالأصل البراء، ولذا كان الأسى عليه دون ذلك، من جهة الرحمة، والدعوة، لا من جهة الولاء.(/5)
أما الفرح بما يصيبهم لأجل أنهم عصاة: فليس بعد الكفر ذنب، فإذا جاز الأسى عليهم مع كفرهم، فالأسى عليهم مع دون ذلك من المعاصي من باب أولى.
فإذا استدل مستدل بقوله تعالى:
- "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء".
- "ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم".
على جواز الفرح بمصاب الكافرين عموما.. قيل:
هذه الآيات في المحاربين ونحوهم، ليست في غير المحاربين، فالمؤمنون يفرحون ويحمدون بما يصيب الكافر المحارب؛ لأن فيه انتقام منه جزاء عدوانه، وفيه كف شره، وانشغاله بنفسه، وهو فرح طبعي جبلي في الإنسان، يحب ويفرح السلامة من الأذى، وفيه حظ ديني: إذ يفرح المسلم بسلامة دينه.
فإذا حاربتنا دولة كافرة، فسعت في إفساد: ديننا، ودنيانا. فلا نلام إذا فرحنا بما يصيبها.
وهنا نشير إلى أولئك الذين منعوا مطلقا الفرح بما يصيب المعتدين الظالمين: أن يعتدلوا في حكمهم..!!.
فإن أحدهم لو ظلم في نفسه، أو أهله، أو ماله: لما رضي بغير الانتقام. ولكان أفرح الناس بمصاب الظالم، ولم يكن ليقبل فيه باعتذار. وهذا كله لأجل حظ نفسه !!..
فإذا ما أصاب المعتدين على الإسلام والمسلمين مصيبة وقارعة، لا يشك أنها عقوبة من الله تعالى: جنح إلى المواساة والتضامن، ومنع المظلومين من الفرح، واتهمهم بموت الضمير، وربما بالإرهاب. وليته إذ واساهم: وعظهم، وذكرهم عاقبة الظلم، فيفيد من مواساته: لعلهم يكفون..!!.
أفيكون حظ نفسه أعظم عنده من حظ الإسلام ؟!.
من وقف هذا الموقف، فعليه أن يراجع إيمانه، ودينه، وعقله، وفطرته. فقد خالفها جميعا.
* * *(/6)
إعلام السائر بدراسة أحاديث الرؤيا لأول عابر
فضيلة الشيخ /محمد بن عبد العزيز الفراج 15/1/1423
29/03/2002
عن أبي رزين العُقَيْليّ لقيط بن عامر بن صبرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة ، وهي على رجل طائر ، ما لم يتحدث بها ، فإذا تحدث بها سقطت قال : وأحسبه قال : ولا يحدِّث بها إلا لبيباً أو حبيباً ".
وفي رواية قال :" رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، وهي على رجل طائر ما لم يحدث بها ، فإذا حدث بها وقعت " ، ولم يزد . هذه رواية الترمذي .
وفي رواية أبي داود : مثلها ، إلا أنه أسقط قوله :" جزء من أربعين جزءا من النبوة ".
أخرجه أحمد (4/10) قال : حدثنا هشيم . (ح) وحدثنا بهز ، قال : حدثنا حماد بن سلمة . وفي ( 4/12) قال: حدثنا بهز ، قال : حدثنا شعبة (ح) وحدثنا عبدالرحمن بن مهدي ، وبهز . قالا : حدثنا شعبة . وفي (4/13) قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة . و" الدارمي" (2154) قال : أخبرنا هاشم بن القاسم . قال : حدثنا شعبة . و " أبو داود" (5020) قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، قال حدثنا هشيم . و" ابن ماجة" (3914) قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا هشيم . و"الترمذي" (2278) قال : حدثنا محمود بن غيلان ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : أنبأنا شعبة . وفي (2279) قال : حدثنا الحسن بن علي الخلال ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا شعبة . ثلاثتهم – هشيم ، وحماد ، وشعبة – عن يعلى بن عطاء ، قال : سمعت وكيع بن عدس ، فذكره .
•أخرجه أحمد (4/11) قال : حدثنا عبدالرزاق ، قال : أخبرنا سفيان ، عن يعلى بن عطاء ، عن أبي رزين بن لقيط ، عن عمه رفعه قال : قال رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث .
ولكن الصواب أنه معلول ، لما يأتي :
1-جهالة وكيع بن عدس ، وقيل : ابن حدس العامري ، قال في (الميزان) : لا يعرف ، ولذا وصفه ابن حجر بأنه : مقبول .
2-نكارة متنه ، ومخالفته لما في الصحيحين في قصة تعبير أبي بكر الصديق ، للرؤيا ، أمام رسول الله ، وقول النبي - رسول الله صلى الله عليه وسلم - له : ( أصبت بعضاً ، وأخطأت بعضاً ) ، وقد أشار البخاري إلى ذلك ، فبوب على هذا بقوله : باب من لم ير الرؤيا لأول عابر ، إذا لم يصب (6639) وهذه القصة هي في البخاري(6/2582ح6639البغا)،ومسلم(4/1777ح2269)،وأبو داود(4633.3269.3267) ،والترمذي (2292)، والنسائي في (الكبرى) (7640) وابن ماجة (3918) من حديث ابن شهاب الزهري عن عبيدالله عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : إن رجلاً أتى رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني رأيت الليلة في المنام : كأن ظلة تنطف السمن والعسل ، وأرى الناس يتكففون منها بأيديهم ، فالمستكثر ، والمستقل ، وإذا بسبب واصل من الأرض إلى السماء ، فأراك أخذت به فعلوت ، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ، ثم أخذ به رجل آخر ، فانقطع به ، ثم وصل له فعلا ، فقال أبو بكر : يا رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أنت ، والله لتدعني فأعبرها ، فقال النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعْبُرْها" ، قال أبو بكر : أما الظلة ، فظلة الإسلام ، وأما الذي ينطف من العسل والسمن ، فالقرآن : حلاوته ولينه . وأما ما يتكفف الناس من ذلك ، فالمستكثر من القرآن ، والمستقل ، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض ، فالحق الذي أنت عليه ، تأخذ به فيعليك الله به ، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به ، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ، ثم يوصل له فيعلو به ، فأخبرني يا رسول الله ، بأبي أنت ، أصبتُ ، أم أخطأت ؟ قال النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أصبتَ بعضاً ، وأخطأتَ بعضاً " ، قال : فوالله لتحدثني بالذي أخطأت ، قال :" لا تقسم" .
وفي رواية قال : جاء رجل إلى النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من أُحُد ، فقال : يا رسول الله ، إني رأيت الليلة .... وذكر الحديث بمعناه .
وفي رواية عن ابن عباس أو أبي هريرة وكان معمر يقول أحيانا : عن ابن عباس ، وأحياناً : عن أبي هريرة .
وفي رواية : أن رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يقول لأصحابه : من رأى منكم رؤيا فليقصها أعبرها ، قال : فجاء رجل، فقال : يا رسول الله ، رأيت ظلة – وذكر نحوه . أخرجه البخاري ، ومسلم .
وأخرج الترمذي ، وأبو داود الرواية الأولى ، وجعلاه عن ابن عباس ، عن أبي هريرة .
وأخرجه أبو داود أيضاً في رواية أخرى عن ابن عباس عن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد في آخره : فأبى أن يخبره .
وقد جاء في هذا المعنى أحاديث :(/1)
1-أخرج الحاكم (4/391) من طريق يحيى بن جعفر البخاري عن عبدالرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة – عبدالله بن زيد الجرمي – عن أنس قال قال رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الرؤيا تقع على ما تعبر ، ومثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها ، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً ) .
لكن هو في مصنف عبدالرزاق (11/212ح 20354) عن أبي قلابة عن النبي – مرسلاً – لم يذكر أنساً ، وكذلك ذكره البغوي في (شرح السنة) (12/215) عن أيوب عن أبي قلابة عن النبي مرسلاً .
فدل على أن الراجح في هذا الحديث أنه مرسل ، لا يصح فيه ذكر أنس ، والمرسل من قسم الضعيف ، كما لا يخفى ، والله أعلم .
2-أخرج الدارمي (2/174ح2163) من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن عائشة زوج النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر ، يختلف فكانت ترى رؤيا كلما غاب عنها زوجها ، وقلما يغيب إلا تركها حاملاً فتأتي رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول : إن زوجي خرج تاجراً فتركني حاملاً فرأيت فيما يرى النائم أن سارية بيتي انكسرت وأني ولدت غلاماً أعوراً ، فقال رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم :( خير يرجع زوجك عليك إن شاء الله تعالى صالحاً وتلدين غلاماً برا ) فكانت تراها مرتين أو ثلاثاً كل ذلك تأتي رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول ذلك لها فيرجع زوجها وتلد غلاماً فجاءت يوماً كما كانت تأتيه ورسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم غائب ، وقد رأت تلك الرؤيا فقلت لها عم تسألين رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أمة الله ؟ فقالت : رؤيا كنت أراها فآتي رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله عنها فيقول خيراً فيكون كما قال فقلت : فأخبريني ما هي ؟ قالت : حتى يأتي رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرضها عليه كما كنت أعرض ، فو الله ما تركتها حتى أخبرتني فقلت : والله لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك وتلدين غلاماً فاجراً ، فقعدت تبكي فقال : لها مالها يا عائشة ؟ فأخبرته الخبر وما تأولت لها ، فقال رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم :( مه يا عائشة ، إذا عبرتم المسلم الرؤيا فاعبروها على الخير فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها ) فمات والله زوجها ولا أراها إلا ولدت غلاماً فاجراً .
ولكن هذا الحديث معلول لما يأتي :
أ – تفرد محمد بن إسحاق به ، وقد تكلم في حفظه وضبطه في غير أحاديث المغازي ، وقد وصفه ابن حجر بأنه : صدوق يدلس .
ب – أنه اختلف في سماع سليمان بن يسار من عائشة ، فنفاه البزار ، بينما أثبته الإمام أحمد والبخاري .
ج- النكارة الواضحة في مواضع من هذا الحديث التي تظهر للمتأمل ، وبناء على هذا فقول ابن حجر : بسند جيد (الفتح) (12/432) فيه نظر ، والله أعلم .
3 – وأخرج ابن ماجة (3915) من طريق الأعمش عن يزيد الرقاشي عن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( اعتبروها بأسمائها ، وكنوها بكناها ، والرؤيا لأول عابر )
وهذا أيضاً معلول ، لأن يزيد الرقاشي ضعيف ، وقد صرح بهذا ابن حجر في الفتح (12/433) .
ومن هنا يتبين أنه لا يصح في هذا الباب شيء مرفوع إلى النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم .(/2)
إعلام المشارقة بأعلام المغاربة
طه أحمد المراكشي 22/5/1427
18/06/2006
فضل المشارقة على غيرهم في العلم ظاهر, وقد حازوا قصب السّبق في فنون العلم وألوان المعارف, واشتهروا بالتأليف والتصنيف, وأرضهم زاخرة بالأعلام، فائضة بأيمة الدنيا على مدى الأيام, وهذا لا يرتاب فيه أحد, ولا أخذ فيه ولا رد.
وقد كان المغاربة منذ صدر الأمة الأول يقصدونها للأخذ عن علمائها، والسماع منهم ضروب العلوم الشرعية والعقلية, والآداب على اختلاف أنواعها, وجلب الكتب النافعة والتواليف الصالحة, في التفسير والحديث, والفقه والنحو والبيان، والفلسفة, صابرين على وَعْثاء السفر, وذلّ الغربة، وجولان الأرض, بل إنني أزعم -وأنا مغربي- أنه لولا المشرق لما ذهب المغرب ولا جاء, وربما نبغ في المغرب من بلغ في العلم شأْوا بعيداً لا يلحق, لكنه لا يشتهر ويلمع نجمه ويذيع صيته إلا إذا كانت له رحلة إلى الديار المشرقيّة.
وفي هذا المعنى يقول العلامة الأوحد السميذعي, أبو محمد بن حزم الظاهري:
أنا الشمسُ في جوّ العلوم منيرةٌ لكن عيْبي أن مطلعيَ الغربُ
ولو أنّني من جانب الشرق طالعٌ لجدّ على ما ضاع من ذكريَ النهبُ
وربما لم يكن ليذيع صيت أمثال بدر الدين الحسني, والطاهر الجزائري, وأحمد عليش-شيخ المالكية بالديار المصرية، وهو مغربي الأصل-والشنقيطي, وغيرهم من المتأخرين, لولا استيطانهم المشرق.
والحق أن المشرق قُبّة الإسلام و مطلع أنواره الزاهرة, قد اختصه الله بهذه الخصيصة, وجعله كعبة العلماء المقصودة, وزاده فضلاً فجعل قلوب الناس تهوي إليه, (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، ولهذا وذاك وغيرها من الأسباب كالبعد المكاني والموقع الجغرافي, بقي كثير من المشارقة بمعزل عن الحركة العلمية الحادثة في الديار المغربية, وأخبار أعيان علمائها, وخاصة فضلائها, ممن لا يقل علماً وديانة وصلاحاً وصيانة, عن أماثلهم في المشرق, فالمغرب كُنيف مُلئ علماً, بقل فيه أساتذة أهل الأرض, قَمِنٌ بالمشارقة أن ينظروا في الورث العلمي الذي خلّفه المغاربة, والاجتهاد في طلبه وتحصيله, وإحياء ذكره في أمصارهم, وجامعاتهم، وفي ذلك أعظم فائدة, وأحسن عائدة للترقي والصعود في مدارج الإصلاح المنشود, والجهود المبذولة إلى الآن غير كافية, والنتائج غير خافية.
وقد كان للمغاربة مذاهبهم المشهورة، ومسالكهم المذكورة, في العلوم الشرعية والمعارف الدنيوية, فلم يكونوا مقلّدين للمشرق في كل أحوالهم, وسائر شؤونهم, مع الاعتراف بالفضل لأهله, ولكن كانوا متميزين بخصائصهم, منفردين بأساليبهم, فكان لهم مسلك معروف في النحو, واختيارات في الفقه, وترجيحات في الحديث, ومذهبهم في تفضيل صحيح مسلم على البخاري مشهور.
ولئن كان لهذا الانعزال أسبابه الوجيهة, وعلله المقبولة الرجيحة, في ما مضى من الزمان, من تباعد الأوطان, وافتراق الأجسام, فإن الله فتح على أهل هذا الآوان ما لم يكن من قبل فِعله بالإمكان, وأهمها ما اصطُلح عليه بثورة الاتصالات, وأنواع الاختراعات, جعلت الدنيا والمستخلفين فيها, في تواصل دايم, وتعارف ناهض, وصار الذي في أقصى الشرق يعلم أدقّ أحوال الذي في أقصى الغرب وأخفاها.
فأجدِرْ بالمشارقة وأليِقْ بالمغاربة,أن يقرّبوا الشُقّة، ويرتُقوا الفتْق الحاصل, ويدفعوا بُعد الديار, باغتنام هذه النعم التقنية والعطايا الإلكترونية. ولعمري إن هذا من مقاصد الشريعة وغاياتها العليا, وترغّب فيه نصوص الشرع الكلية, وتدعو إليه, وهو مسلك محمود العواقب, خالٍ من المثالب, في التأليف والاجتماع.
هذا وإن كان المغاربة يعرفون عن المشارقة وأعلامهم وأخبارهم وأحوالهم, أكثر مما يعرفه هؤلاء عن أولئك, في الجملة-وقد تقدمت بعض أسباب ذلك-فلا بد أن تتساوى الكفتان, ويتعادل النصيبان, وتسرب مياه الفريقين في المشرقين, وتمتزج أفكار أهل العدوتين.
فإن قال قائل: كل قد اكتفى بذاته, واستغنى بأدواته.
قيل له:
في الاتحاد قوة, وفي الفرقة عذاب, الواحد إلى الواحد أقوى من الواحد منفرداً. ولاتزال الشريعة تأمر بالتقارب والتعارف بين الشعوب المختلفة في العقائد, فما بالك بأهل الملة الواحدة, والديانة الجامعة؟! والحال الذي يعيشه أهل الاسلام اليوم لهو أشد باعث يحرك الهمم إلى التقارب والتآلف, لدفع الصائل, وجلب المصالح.(/1)
فمن سمع من المشارقة بشيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي, وهو عندنا كمسند الوقت بدر الدين الحسني, أو السيد رشيد رضا عند المشارقة, و"أبي شعيب الدكالي" الذي كان آية في الحفظ, حتى إنه حفظ الآجرومية في يوم وألفية ابن مالك في عشرة أيام, ومختصر خليل في الفقه المالكي في خمسة أشهر, وهو عندنا كالشيخ محمد عبده أو الشيخ محمود الألوسي عندهم, والعلامة المحدث"عبد الحي الكتاني" صاحب التراتيب الإدارية, وهو كالشيخ الفهّامة محمد بن ابراهيم, والزعيم الأديب علال الفاسي, وهو عندنا كالأمير شكيب أرسلان, وقد حققا معاً المقدمة للولي ابن خلدون, والأديب الشاعر العالم المختار السوسي صاحب"المعسول" و"سوس العالمة", وهو عندنا كالشيخ بهجة البيطار عندهم, وهلم جراً, من المتأخرين, وانسجْ على منواله في المتقدمين.(/2)
إعلان الحرب على ثورة الخميني الصفوية
حامد بن عبدالله العلي
هي رسالة واضحة : سيقف الجميع هنا ضد المخطط الصفوي القادم الذي استحكم سمّه ، واجتمع همّه ، بقيادة النظام الخميني لإثارة الفتنة في الأمّة ، وإذ أطلّ هذا الخطر بقرنه ، فستُؤجّل جميع المعارك ، والخلافات الأخرى .
ولن تنطلي علينا خدعة (التكتيك) الصاروخي الإيراني في جنوب لبنان ، لحماية مشروعهم المتآمر على الأمّة في قم ، فلم ينس أحد ما جرى عام 1985م ، من المسالخ الصفويّة المدعومة من النظام العلوي السوري ، في المخيمات الفلسطينية في لبنان ، ثم مجازر طرابلس العلويّة في نفس العام ، وليس حزب نصر إلاّ المولود الذي أخرجه التحالف الصفوي العلوي من رحم هذه الخيانات ، هذا ما في ذاكرتنا البعيدة ، أما مجازر الفرق الصفوية التي تخرج من سراديب قم ، مجازرهم في العراق التي تذكرنا بهجوم المغول ، فلازالت ماثلة للعيان ، لم تنتقل بعد إلى ذاكرتنا .
كما لن تنطلي خدعة الدعوة إلى نبذ الطائفية التي يطلقها الذين يكيدون الدسائس على الأمّة في ليلهم ، ثمَّ يذرفون دموع التماسيح على وحدة الصفّ في نهارهم ! مُخفين مؤامرات إنقلاباتهم الخمينيّة ، وقد خيّل إليهم الشيطان ، أنهم سيكرّرون بها جريمتهم النكراء في العراق ، ليقيموا مناحاتهم على أنقاض أمّة الإسلام ، وتراثها .
وكلّما نطق ناصح بالحق محذّراً مما أجمعوا عليه من الخطر ، وما تحت رماد سكونهم المريب من الشرر ، رُمي بإثارة الفتنة ! وهم ـ والله ـ أحقَّ بها وأهلها ، ومازالوا مرتكسين فيها ، يحشّون نارها في العراق ، ويضرمون أوارها في لبنان ، وينظرون إلى ما سواها نظر المتلمّظ بلعاب الدم
ولم يعد ثمّة مجال "للضحك على الذقون" ، بتوزيع الأدوار ، بين ارتكاب أشنع الجرائم في الأمّة ، وتنميق الكلام في وسائل الإعلام ، عن المقاومة ، وحقوق أمّتنا في فلسطين ، لتغطية مؤامراتهم المحبكة للإنقضاض على أمّتنا في ليل حالك ، بسلاح أبو لؤلؤة المجوسي الفاتك .
كفى تصنّعا مقيتا ، إنكم لاتريدون فلسطين، إنما تريدون لبنان لتفعلوا فيها مثل ما فعلتم بالعراق ، ثم يكون أوّل من يصطلي بناركم ، هي أمّة الإسلام .
ومن تنطلي عليه خدعكم السياسيّة ، فهو الخَبّ ، وما الخبّ المخدوع إلاّ أحد أمضى أدواتكم .
وياللأسى والله على الذين يتبوّؤون منصّات إعلامية ، كان ينبغي أن يتخذوها وسيلة لحماية العقيدة أولا ، ثم وحدة الأمّة ، وقوّتها ، التي يكمن جوهرها فيما ورثته عن نبيّها صلى الله عليه وسلم .
ثم يقفون صامتين عن أعظم الجرائم التي ارتكبت في حقِّ أمتنا ، إذ كان يستغيث بهم العراق ، وهو يئنّ تحت وطأت عصابات الغدر والموت الإيرانية الصفوية ، تعمل إلى جانب قوات الإحتلال الصليبية ، على تقسيمه ، وتحطيمه ، وتعيث فيه فسادا ، تغتال رجاله ، ونساءه ، وتحوّله إلى ركام ، وتمحو منه آثار أمّتنا ، وتمزق فيه قوّتنا .
وقبل ذلك وأهم منه وأعظم ، عندما وقفوا صامتين أمام عبث هذه الفتنة الصفوية بتراثنا ، وهي تتطاول على كتاب الله تعالى ، وعقيدة التوحيد ، وعلى خيار الأمّة ، وقادتها ، وجيلها الفريد ، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى بيت النبوّة ، وعرض النبيّ صلى الله عليه وسلم وشرفه ، وعلى تاريخ ملوكنا العظام ، ودول الإسلام ، وفتوحاته ، وصنائع أبطاله .
وإذا واجهناهم بالحقائق الباهرة ، على أنّ هذه الطائفة المارقة الضالّة في شقّ ، وأمّتنا في شقّ ، سواء في عقيدتها ومواقفها السياسية ، وقفوا صامتين مشيحين بوجوههم عمّا في كتب الفتنة الصفويّة ، وجميع تراثها المريض ، من تقويض منظّم ، بحقد أسود ، لكلّ ماتعتز به الأمّة ، بدءاً من القرآن العظيم ، مرورا بأصول العقيدة الإسلامية ، وانتهاء بجميع رموز الأمّة ، ومن صَنع تاريخها وأمجادها.
وبسذاجة مثيرة للشفقة يكتفي هؤلاء المخدوعون ، أو المتظاهرون بذلك ، بأنهم سألوا علماء القوم الذين يقوم دينهم على التقية ، فأنكروا ؟!!
وبمثله من التسطيح الغثّ ، يتحدّثون عن التشيّع القديم الذي كانت ضلالته في باب الصحابة فقط ، أولئك الذين كانوا يفضلون عليا رضي الله عنه على سائر الصحابة ، يتحدثون عنه اليوم مذهبا إسلاميّا ، في مواجهة عدوّ خارجي!
فأولا : عجبا والله لهؤلاء الذين يتكتَّمون عن المخطط الصفوي ! الذي بدأ تنفيذه بالفعل ، منذ احتلال الجزر الثلاث في الخليج ، مرورا ببناء الأحزاب السريّة ـ على غرار حزب حسن نصر ـ في البلاد السنيّة لإثارة الفتن ، إلى خيانة الأمّة التاريخية بالتواطؤ مع المحتل للعراق وأفغانستان ، بل التباهي بهذه الخيانة ؟!!
عجبا لهم ، أتُراهم يخادعون أنفسهم ؟! أم يبتغون الخَلْب في الأمّة !
عندما يدَّعون أن التشيّع الموصوف ـ على ضلاله ـ في كتب الفرق عند علماء السنة ، بأنّه تقديم علي رضي الله عنه ، وإعتقاد إمامته .
هو التشيّع الذي في كتابهم الأعظم ( الكافي ) ، هذه الرواية :(/1)
عن أبي بصير قال : دخلت على أبي عبدالله إلى أن قال أبو عبدالله ـ جعفر الصادق ـ وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام ، قال : قلت وما مصحف فاطمة؟
قال : مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد. الكافي للكليني 1/239ـ طهران ـ دار الكتب الإسلامية .
وقد قال الحر العاملي عن الكليني : ( إن الأصول والكتب التي كانت منابع إطلاعات الكليني ، قطعية الإعتبار ، لأنّ باب العلم ، وإستعلام حال تلك الكتب بوسيلة سفراء القائم المهدي ! كان مفتوحا عليه ، لكونهم معهم في بلد واحد بغداد ) كتاب الوسائل
وفي هذا الكافي ، روايات نقص القرآن ،وتحريفه ، والغلوّ في الأئمة إلى إعتقاد أنهم يوحى إليهم ، وأنهّم يعلمون علم ما كان ، وما يكون ، وأنه لايخفى عليهم شيء ، وأنهم إذا شاءوا أن يعلموا علمُوا ، وأنهم يعلمون متى يموتون ، ولايموتون إلاّ بإختيار منهم ، وفيه تكفير الصدِّيق ،والفاروق ، وعثمان رضي الله عنهم !!
فهل هؤلاء هم الشيعة المذكورة في كتب الفرق عند أهل السنة الذين ضلُّوا في بعض باب الصحابة فحسب ؟!!
أم هذه ديانة أخرى ، تزعم أنها تتلقى من وحي غير الوحي المنزل على نبيّنا صلى الله عليه وسلم ، كما في حكايات الرقاع ،
وما أدراك ماهي :
جماعة سريّة ترسل للإمام الغائب الأسئلة بوضعها في ثقب شجرة ، ثم يأتي الجواب من صاحب الزمان ، ثم لمَّا وضعت هذه الخرافات في كتاب ، كان من الكتب المفضّلة لدى الخميني ، فقد كان يستشهد به في كتابه الحكومة الإسلامية !
عن أيّ شيعة يتحدّث هؤلاء :
عن الوثيقة التي وقع عليها : محسن حكيم طباطبائي ، والخوئي ، والخميني ، ومحمود الحسيني الشابرودي ، وشريعتمداري ، وفيها :
( اللهم العن صنمي قريش ، وجبتيهما ، وطاغوتيهما ، وإفكيهما ، وابنتيهما ، الذين خالفا أمرك ، وأنكرا وحيك ، وعصيا رسولك ، وقلبا دينك ، وحرفا كتابك ) ، كتاب تحفة العوام ص 422
ولا يُنكر أحدٌ يتردد على مراكز التآمر ( الحزينينّات ) أنّهم يقصدون بصنمي قريش، وجبتيهما ، وطاغوتيهما ، وإفكيهما ، هما الصديق ،والفاروق رضي الله عنهما ، وأنّ ابنتيهما هما : عائشة ، وحفصة رضي الله عنهما .
أفبعدَ هذا العداء لأمّتنا من عداء ؟!
ومعلوم أن كلّ هذا الحقد في أرجاء صدروهم ، على الصديق لأنّّه أقام الدين بعد وفاة النبّي صلى الله عليه وسلم ، وعلى الفاروق لأنّه أسقط ملك كسرى !
ثم هل التشيّع القديم المعروف عند أهل السنة ، فيه المساس بعرض النبي صلى الله عليه وسلم ، والتطاول على زوجاته بأقبح الكلام :
ففي تفسير القمي 2/394 عن عائشة وحفصه رضي الله عنهما : ( والله ما عنى بقوله : فخانتاهما إلاّ الفاحشة ، وليقمن الحد على فلانة فيما أتت في طريق ...،وكان فلان يحبها ) .
وبعد زوال عذر التقية ، بقيام الدولة الصفوية ، فسّر البحراني ، المبهم من كلام القمي فقال : ( فلانة أي عائشة ، وطريق البصرة ، وفلان يحبّها : طلحة ) !! تفسير البرهان للبحراني 8/62
فليتأمل العقلاء حجم الحقد على دين المسلمين في نفوس هؤلاء المرضى !
هل التشيّع القديم المعروف عند أهل السنة ، يتضمّن هذه العقيدة :
قال الخميني : ( فإنّ للإمام مقاما محمودا ، ودرجة سامية ، وخلافة تكوينيّة ، تخضع لولايتها ، وسيطرتها ، جميع ذرات هذا الكون ) الحكومة الإسلامية 52
وقال : ( وإنّ من ضرورات مذهبنا أن لأئمّتنا مقاما ، لايبلغه ملك مقرب ،ولا نبي مرسل ) المصدر السابق
كما في كتابهم ( سلوني قبل أن تفقدوني ) ، أن عليا رضي الله عنه كان يقول :
لقد حزتُ علم الأوّلين وإنّني ** ضنينٌ بعلم الآخرين كتوم
وكاشف أسرار الغيوب بأسرها** وعندي حديث حاداث وقديم
وإني لقيّوم على كل قيّم ** محيط بكل العالمين عليم
فأيّ وثنية وشرك ،بعد هذه الوثنيّة و الشرك ؟!
هل التشيّع المعروف عند علماءنا ، فرقة تكفر من خرج عن دائرتهم :
كما قال القمّي الملقَّب عندهم بالصدوق ، في رسالة الإعتقادات : ( وإعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والأئمة من بعده ـ عليهم السلام ـ أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء ) ص 103 مركز نشر الكتاب ـ إيران 1370م
وفي أصول الكافي 1/457: ( عن أبي جعفر قال : ياسدير فأريك الصادّين عن دين الله ، ثم نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري في ذلك الزمان ، وهم حلق في المسجد ، فقال : " هؤلاء الصادون عن دين الله ، بلا هدى من الله ، ولا كتاب مبين " )
وكما في أوائل المقالات ص 51 :
قال المفيد : ( واتفقت الإماميّة على أنّ أصحاب البدع كلَّهم كفار ) !
قال المجلس في بحار الأنوار 37/34: ( كتب أخبارنا مشحونة بالأخبار الدالّة على كفر الزيدية ، وأمثالهم ، القطعيّة ، والواقفيّة ،وغيرهم من الفرق المضلة المبتدعة ) .
وأما أهل السنة عندهم ، فيطلقون عليهم نواصب ، ويقصدون بالناصبي كلّ من لايقدم عليا رضي الله عنه على سائل الصحابة ، ويعتقد إمامته بعد النبي صلى الله عليه وسلم .(/2)
قال البحراني في كتابه المحاسن النفسية 147، 157: ( بل أخبارهم عليهم السلام تنادي بأنّ النواصب ، هو ما يقال له عندهم سنيّا ..ولاكلام في أن المراد بالناصبة هم أهل التسنن ) .
وفي بحار الأنوار 27/29: ( عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام ، قال : قلت له : ما فضلنا على من خالفنا ، فوالله إني لأرى الرجل منهم أرخى بالا ، وأنعم عيشا ، وأحسن حالا ، وأطمع في الجنة ، قال : فسكت عني حتى كنا بالأبطح من مكة ،ورأينا الناس يضجون إلى الله ،قال : ما أكثر الضجيج ، والعجيج ، وأقل الحجيج ، والذي بعث بالنبوة محمدا صلى الله عليه وسلم ، وعجل بروحه إلى الجنة، ما يتقبل الله إلا منك ومن أصحابك خاصة ، قال " ثم مسح يده على وجهي فنظرت ، فإذا أكثر الناس خنازير ، وحمير ، وقردة ، إلاّ رجل بعد رجل.. وفي رواية أخرى قال : والله ما أبصرت إلا كلبا ، وخنزيرا ، وقردا ، قلت : ما هذا الخلق الممسوخ ؟ قال : هذا الذي ترى ، هذا السواد الأعظم ، ولو كشف الغطاء للناس ، منا نظر الشيعة إلى من خالفهم إلا في هذه الصورة .. )!!
وثانيا : أيّ عدوّ خارجي أخطر من عدوّ يعادي حتّى أسماء رموزنا التاريخية ، فلا يطيق أن يسمع اسم أبو بكر ، أو عمر ، أو عثمان ، أو عائشة ، أو خالد بن الوليد ، أو أبو هريرة ، أو صلاح الدين ، أو محمد الفاتح ، ومحال أن تجد هذه الأسماء بين ظهرانيهم ، ويكفي لاستباحة دم المسلم الصوّام ، القوّام ، أن يحمل أحد هذه الأسماء عندهم.
عدوّ ينظر إلى جميع موروثنا إلى أنّه يذكِّره لابخير أمّة أخرجت للنّاس ، بل بأشدّ أمّة خيانة لنبيّها صلى الله عليه وسلم .
فأيّ عدوّ خارجي اشدّ خطرا من هذا العدوّ ؟! وليت شعري ماذا تعني كلمة عدوّ خارجي ، إذا لم يدخل فيها أوّل ما يدخل ، من يستهدف أعزّ ما نملك ، وهي عقديتنا التي هي جوهر هويّتنا ؟!!
ووالله الذي لا إله إلا هو ، إنّ ما حجم ما نجده في مفكري الغرب من احترام لحضارتنا ، أعظم بكثير مما نجده فيمن يدور في فلك الفتنة الخمينيّة ومصادرها الفكريّة .
فهؤلاء الذي جعلوا مناسبتهم الدينيّة الوحيدة ، وجوهر كيانهم ، في ( الحزينيّات ) ، اجتراراً مكروراً مصحوبا بضجيج تقشعرّ له الجلود ، يستدعي الغضب ، ويسفك الدماء ، ويهيّج الثأر ، ويستخرج التعصّب اللامحدود ضد العربي المسلم أكثر من غيره من المسلمين !
لم ،ولن يطيقوا ، مادامت هذه الفتنة في رؤوسهم ، الكفّ عن العدوان على أمّتنا،
ولسنا بحاجة إلى ضرب أمثلة التاريخ ، مادامه يعرض لنا الآن عرضا حيا ، جرائمهم في عراق المجد والشموخ .
وختاما فهذه دعوة للذين يتعاطفون مع المشروع الصفوي ، ويمجّدون جيبه المتآمر في لبنان ، الذي أدخلها في أتون الفتنة ،
إنَّ الحرب على النظام الخميني في إيران ، معلنة لا محالة :
فإنْ كنتم حريصين على أن تقف الأمّة مع هذا النظام ، فلا تكتفوا بالهتافات الجوفاء معه ،
بل ، فاصنعوا ما يلي :
أولا : انطلقوا إن كنتم صادقين إلى السيستاني ، وبقيّة الذين أفتوا بالكفّ عن مقاومة المحتل في العراق ، بل انضمّوا إلى رايته ، وانطلقوا إلى منبع هذه الفتنة في قم ،
فحاوروهم فيما يلي :
أولا : امتلاء مراجعهم ، وكتبهم ، بالطعن في جميع موروث الأمّة الإسلامية ، وتشويه صورته ،وإكتفاء شخصياتهم الدينية المعاصرة بموقف التقيّة المفضوح ، وبالأجوبة السياسية الملتوية ، عند مواجهتهم بخطورة مايدرّسونه في حوزاتهم عن الإسلام ، وأنها روح معادية لهويّة أمّتنا ، وحضارتها ، وعامل تخريب في قوتها !
ثانيا : حرمان أهل السنة في إيران من المساجد في المدن الكبيرة لاسيما طهران ، فهي العاصمة الوحيدة في العالم التي ليس فيه مسجد للسنة ، مع وجود عشرات الأديرة ، و الكنائس ، و المعابد لليهود ، والنصارى ، و الهندوس ، والمجوس فيها!
هذا فضلا عن إقصاء أهل السنة ، ومنعهم حقوقهم السياسية والاجتماعية وحتّى المدنيّة، وهدم مساجدهم ، ومدارسهم الدينية، واضطهادهم المبرمج، وإبادة رموزهم بشتىالطرق وباسم الوحدة الإسلامية تقية و نفاقا.
وأما ما ناله علماء الشريعة السنة في إيران ، حيث يبلغ السنّة المضطهدين نحو ثلث السكان ، فما نالهم سوى القتل والإبادة ، من أمثال الشيخ العلامة ناصر سبحانى، والشيخ عبدالوهاب صديقى، والشيخ العلامة أحمد مفتى زادة، والشيخ الدكتور علي مظفريان، والشيخ عبد الحق، والشيخ الدكتور أحمد ميرين سياد البلوشي، والشيخ محي الدين خراسانى، والمهندس فاروق فرصاد، والشيخ العلامة و القاريء الكيبر محمد ربيعي، والأستاذ ابراهيم صفي زادة، والشيخ نظر محمد البلوشي، والشيخ دوست محمد البلوشي، والشيخ محمد ضيائي، والشيخ عبد الملك ملازادة،والشيخ عبدالناصر جمشيد زهي، والشيخ القاضي بهمن شكوري ، ....
وغيرهم المئات بل الآلاف مع المفكِّرين ، والناشطين ، والدعاة .(/3)
وثالثا : الجرائم الإيرانيّة في العراق ، والتي لاتوصف بشاعة في أهل السنة ، وسعيهم الحثيث لتقسيم العراق ، وإضعافه متعاونين مع المحتل ، وامتلاء سجونهم بالمجاهدين ، والأبرياء ، تحت ذريعة مطاردة الإرهابييّن ، تقرّبا للمحتل .
ورابعا : دعمهم المخزي لكلّ الجهود التي أدت إلى إحتلال أفغانستان .
وخامسا : تعاونهم مع النظام السوري في القضاء على الحركات الإسلامية السنيّة ، حتى تلك التي في لبنان ، لاسيما أيام الثمانينات الميلادية .
وسادسا : توفيرهم الذريعة للحرب عليهم ، بإحتلال الجزر في الخليج ، والإصرار على تسميته بالفارسي .
وسابعا : دعمهم السرّي لجيوب الفتنة فيما حول بلادهم ، وإعدادهم لزعزعة الأمن ، وإثارة الفتن ، تمهيدا لتصدير الثورة الخمينيّة .
ثم إذا ارعووْا عن غيّهم ، وعقدوا العزم الصادق على أن يُصالحوا الأمة ، ويكفُّوا عن التآمر ضدها ، وشرعوا في إصلاح ما أفسدوه ، وثابوا إلى رشدهم ،
فحينئذ طالبوا الأمّة بأن تقف معهم ،
أما الإكتفاء بموقف المطبّل لكلّ ناعق ، والهتاف وراء كل من يتاجر بالقضية الفلسطينية ، فهي مرتبة الغوغاء ، فارتفعوا عنها .
نقول هذا إبراءً للذمة ، وإعذارا للمغترين ، مع أننا نعلم أن سنّة الله في الطغاة أنهم لايفيقون إلا في قاع مهوى الظالمين ، ولات حين تنفع الإفاقة .
وإن مصرع الظالمين لقريب ..
حسبنا الله ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير
المصدر
http://www.h-alali.net/npage/mqalat_open.php?id=347(/4)
إفتاء طالب العلم فيما اجتهد فيه من المسائل
السؤال :
أنا طالب علم حثيث ، تتلمذت على عددٍ من المشائخ ، و تخرّجت في كلّية الشريعة ، و قرأت الكثير من المتون و الشروح في الأصول و الفروع ، و الحمد لله .
و مع ذلك فإنّي أخاف من الخوض في لجّة الاجتهاد ، مع تيقّني من تمكني من بعض المسائل و بذل وسعي في معرفة الحقّ فيها بدليله ، فهل يجوز لي أن أفتي باجتهادي فيما أتقنه من مسائل الشرع ، أم أستمرّ في الطلب و أكفّ عن الفتيا حتى أبلغ مبلغ العلماء المجتهدين ؟
الجواب :
الحال الموصوفة في السؤال حال طالب علم نهم في الطلب ، آتاه الله من فضله ، و امتنّ عليه بتعليمه عدداً من العلوم الشرعيّة ، غير أنّه لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق - و عزيزٌ من يبلغها في هذا الزمان و إن لم يُعدَم – و مثله ينصح بالاتّباع فيما لا قِبَل له بالاجتهاد فيه من المسائل العلميّة ، فيأخذها بدليلها من بطون الكتب و أفواه العلماء الثقات الأثبات .
و إن استفتي في شيءٍ يعرف حكمه لزمه تبليغ حكم الله و رسوله فيما سُئِلَ عنه ، مقروناً بدليله إذا كان السائل ممّن يعرف الدليل و يعقله و يحتاج إليه .
و إن كان المسؤؤل عنه ممّا له فيه رأي صارَ إليه باجتهاد وِفقَ الشروط التي وضعها علماء الأصول للاجتهاد ، تعيّن عليه أن يُفتي فيه باجتهاده ، كي لا يقع تحت الوعيد الشديد لكاتم العلم ، فقد روى أحمد و أبو داود و الترمذي بإسنادٍ حسّنه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » .
جاء في عون المعبود عند هذا الحديث : ( قال الخطابي : و هذا في العلم الذي يتعين عليه فرضه كمن رأى كافرا يريد الإسلام يقول : علموني الإسلام , و ما الدين ؟ و كيف أصلي ؟ , و كمن جاء مستفتياً في حلال أو حرام , ... و ليس الأمر كذلك في نوافل العلم الذي لا ضرورة للناس إلى معرفتها ) .
قلتُ : و لعلّه رحمه الله يريد بنوافل العلم ما لا ضرورة إلى معرفته ، كتعبير الرؤيا ، و ما يُفترض من مسائل لا وجود لها ، و عِلم الكلام و المنطق و الفلسفة لمن لا يعقله و لا يحتاجه ، فإنّ الكفّ عن الإفتاء فيها سائغ ، و قد يكون أولى و أرجح بحسب المصلحة .
و قال شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام فيكون الرجل مجتهدا في نوع من العلم مقلدا في غيره أوفي باب من ابوابه كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم أوفي باب الجهاد أوالحج أوغير ذلك فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه و لا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له للافتاء بما لا يعلم في غيره .
... فإن قيل : ما تقولون فيمن بذل جهده في معرفة مسألة أو مسألتين هل له أن يفتي بهما ؟ قيل نعم يجوز في أصح القولين وهما وجهان لأصحاب الإمام أحمد ، و هل هذا إلا من التبليغ عن الله و عن رسوله ؟ و جزى الله من أعان الإسلام و لو بشطر كلمة خيراً ، و منعُ هذا من الإفتاء بما عَلِمَ خطأ محض ) [ إعلام الموقعين : 4 / 216 و 217 ] .
و حذارِِِ من الإقدام على الفتوى باستشراف نفسٍ ، و قلّة علم ، فإنّ المرء يُعذَر بجهله ، ما لا يُعذَر بعِلمه ، و بالله التوفيق .(/1)
إقامة صلاة العيد في الصحراء
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ كتاب الصلاة/صلاة العيدين
التاريخ ... 11/8/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نفيدكم أننا مجتمع مسلم يصل تعداده إلى سبعمئة مصلٍ نعيش في إحدى المدن الصغيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، ويوجد في هذه المدينة مسجدان أحدهما أكبر من الآخر.
وقد رأى بعض الإخوة - حرصاً على تطبيق السنة - أن تقام صلاة العيد في الخلاء، إلا أن إدارتي المسجدين اختلفتا فيما هو الأولى، هل هو في إقامة صلاة العيد في صالة كبيرة تتوفر فيها جميع المرافق الضرورية لصلاة العيد وهي متيسرة، وذلك لتعذر الصلاة في مكان مكشوف لبرودة الجو واحتمالية هطول المطر، فالبلد بارد وكثير المطر، أم إقامة الصلاة في المسجد الكبير؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
صلاة العيد في الفضاء (الصحراء) المكشوف سنة فعلها الرسول –صلى الله عليه وسلم-، وأداؤها في المسجد جائز بإجماع العلماء، وإذا كان يلحق المصلين ضرر من أدائها في الفضاء كشدة البرد والثلوج والمطر، فأداؤها في المسجد متعين لازم؛ دفعاً للحرج والضيق والمشقة، قال تعالى:"وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج: 78]، وقال:"يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [البقرة: 185]، ويقول الرسول –صلى الله عليه وسلم-:"بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا..." البخاري (69)، ومسلم (1732)، واعلموا أن السنة يمكن تطبيقها في حال وزمان، ولا يمكن تطبيقها في حال وزمان آخرين، بخلاف الواجب وهو عين الصلاة ففي كل حال وزمان، والله أعلم.(/1)
إقامة مرفأ سياحي على شاطئ تظهر فيه المحرمات
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ وسائل الإعلام والترفيه/الترفيه والألعاب
التاريخ ... 10/7/1424هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم، اشترى رجل - قبل أن يلتزم بدين الله عز وجل - أرضاً بشاطئ البحر في ألبانيا بسعر السوق يومئذ، ولم يبن عليهاِ شيئاً، لأن الشاطئ لم يقصد من الزوار لأسباب متعددة منها النظافة والبناء والأسعار والاقتصاد الضعيف في البلد وغير ذلك من الأسباب. ولكن اليوم أصبح يقصد المصطافون الساحل المذكور لقضاء الأيام الصيفية الحارة ويستريحون فيه، وبدأ البناء والعِمارة فيه بكثافة. ومن المعلوم اليوم كيف يجلس المصطافون في السواحل ويقضون أيامهم تلك حتى في البلاد العربية، وخاصة أن الأغلبية في البلد (في ألبانيا حيث الساحل المعهود) لا يلتزمون بقوانين الشريعة الإسلامية في اللباس والمشي والاختلاط وغير ذلك رغم انتماء الأكثرين إلى الإسلام، بل ولا يبالون بكثير من المعاصي مثل الموسيقى والرقص والتجرد من الثياب (كشف العورة عند النساء خاصة) وشرب الخمور إلخ ما يرتكبون من المعاصي، لكن لو يبني صاحب الأرض المشتراة في شاطئ البحر فندقا أو مطعما أو فندقا و مطعما في نفس الحين لحصل على أرباح وفيرة. فمصلحته المادية المستمرة تكون في تطوير الأرض و البناء عليها ليربح سنويا، وليست مصلحته في بيع الأرض والتخلي عنها.
والسؤال:هل يجوز له أن يبني فندقا ومطعما في الساحل خاليا من المحرمات؟ بل مخصِّصا غرفة للصلاة لتقوم مقام المسجد في الساحل بغض النظر عن قصد الزبائن والزوار وفي هيئاتهم الشكلية خلال جلوسهم والسكن في الفندق، أو يعدّ ذلك من باب التعاون على الإثم والعدوان باعتبار معاصي المصطافين التي يرتكبونها خارج الفندق والمطعم خلال موسم الصيف. إن كان لا يجوز البناء عليها والربح منها فهل يجوز بيعها (أي بيع الأرض) عندئذ؟ علما بأن من يشتريها يفعل ذلك لأجل البناء عليها والربح منها.
أفيدونا بما فيه المصلحة في الدنيا والآخرة، وجزاكم الله عنا خيرا.
الجواب
يجوز أن يبني صاحب هذه الأرض عليها فندقاً أو مطعماً خالياً من المحرمات، بل يبيع الحلال من مطعم ومشرب وبعض الكتيبات وأشرطة الكاسيت ونحوهما مما تدعو إلى الفضيلة، وما يرتكبه الناس خارج الفندق أو المطعم من المحرمات لا يلحقه بسببه إثم، لأن الله يقول: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" [الأنعام: 164]، ويقول: "كل نفس بما كسبت رهينة" [المدثر: 38]، ومعاملة الكافر بالبيع والشراء جائزة لا شيء فيها، فالعاصي والفاسق جواز معاملته من باب أولى، وعليك يا أخي أن تحرص على نفع الزبائن ودعوتهم إلى الإسلام وأخلاقه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالأسلوب المناسب مع هؤلاء الناس، وأحب لهم ما تحبه لنفسك، إذا فعلت هذا وفقك الله ورزقك من حيث لا تحتسب، وفق الله الجميع إلى كل خير.(/1)
إكسير الشهرة الخالد (سبع خطوات مضمونة)
د حبيب بن معلا
</TD
الشهرة وخلود الذكر مطلب الكثيرين .. ومافتئ البشر عبر العصور يبحثون أو يبحث كثير منهم عن هذه الشهرة حتى لوكان ذلك على الطريقة الإبليسية ..وغير بعيد عن أذهاننا ذلك الذي بال في زمزم ليصبح بعد ذلك أشهر من نار على علم ..أو هؤلاء الذين ادعوا النبوة ومخرقوا على الناس وهم أنفسهم أول من يشهد على دجلهم وإفكهم ..أو ذلك الأفاك الذي ادعى الألوهية وانتهى مصلوبا على جذع ببغداد في نهاية القرن الخامس ..أو ذلك الذي طلب الشهرة وخلود الذكر بمعارضة القرآن وادعاء وجود اللحن فيه وصنف في ذلك كتابا كان وبالا عليه .. أو ..أو..أو.. الأمثلة كثيرة جدا ليس هذا مقام حصرها ..
ومع يقيني التام أن العاقل لايطلب الشهرة وأن الإمام أحمد( سقى الله قبره غوادي المزن ) كان يتعوذ بالله منها ومع نصيحتي لكل قارئ أن يفر منها فرار العلماني من الحوار .. مع هذا كله أقدم هذه الأفكار للقراء على اختلاف أطيافهم ليحقق من شاء منهم حلمه بالشهرة عطفا على واقعنا الإعلامي المخزي وقياسا على الحبل الذي يربط كل قارئ بمبادئه التي يؤمن بها ..
عزيزي القارئ
إليك هذه الخطوات التي لوحققت بعضها فستفتح لك أبواب الشهرة وتصبح بين عشية وضحاها حديث القنوات الفضائية ونجمها المفضل، وستصبح صديقا لكثير من رؤساء التحرير والمتنفذين في القنوات الفضائية :
1- حاول بأي طريقة من الطرق مصادمة الأمة في دينها ؛ بحيث تشكك في القدر ، أو تطعن في مسلّمة من مسلمات الشرع ، أو تمجد رمزا وثنيا ، أو تثني على محاد لله ولرسوله.. عندها ستصبح رمزا للتحرر والتفكير المستقل، وستصبح حديث المجتمع ؛ بحيث يلعنك الناس ويحذر منك الخيّرون ، ومن جهة أخرى ستهتم بك الصحف والمنتديات والقنوات اهتماما خاصا، وستفتح لك أبواب النشر.
2- إن كان مظهرك يوحي بانتمائك للمتدينين ويصعب عليك الترويج لأي رذيلة فالمسألة ليست صعبة كما تظن بل هي سهلة جدا .. يمكنك أن تشكك في الجمعيات الخيرية أو حلقات تحفيظ القرآن أو المحاكم الشرعية أو هيئات الأمر بالمعروف أو تشكك في الفتوى أو تطعن في عالم أو داعية أو تنفر الناس من كراهية الأعداء وتدعو للتعاون مع أعداء الأمة أو تندلق بخطاب (التسامح )المخزي مع اليهود ، أو تصبح (تنويريا ) فتسخر من المجتمع المحافظ وتدعو لمزيد من (الانفتاح).
3- إن كنت (فتاة) فالأمر أسهل من هذا كله .. بحيث لا تتطلب الشهرة سوى كتابة قصيدة شهوانية أو مقالة ساقطة أو رواية منحرفة ؛ عندها تصبح حديث الصحف كلها في تزامن مقصود وستكون ضيفا على القنوات الفضائية حتى لوكانت كتابتك ضعيفة وأسلوبك مهترئا ، وربما يكفي للشهرة أن ترضى هذه الفتاة بنشر صورة لها في صحيفة أو مجلة .
3- اكتب مقالات متنوعة ؛ مرة تنصب نفسك مفتيا فتجيز الغناء والاختلاط وكشف المرأة وجهها، ومرة تحلل أبعاد جسد راقصة داعرة، ومرة تمجد أدونيس، ومرة تنقد هيئة كبار العلماء، ومرة تتابع ( ستار أكاديمي)، ومرة تنصب نفسك مفكرا فتكتب عن الإرهاب ويتفتق عقلك الضخم عن فكرة توسوس بها أن سبب الإرهاب هو التدين ، ومرة تثني على حمامة السلام (شارون ).. وهكذا .
4- احفظ مجموعة من الكلمات ؛ مثل :
( الانتلجنسيا- الأزمة – الخطاب العقلاني –الإسلاموية- الصحويون – التسامح – التنوير- المؤسسات الدينية- التطرف- الأصدقاء اليهود – الأصولية).
ورددها في مقالاتك ومداخلاتك بأي طريقة ولو بأن تحشرها حشرا ؛ عندها ستصبح مثقفا حتى لو لم تكن تجاوزت الثالثة المتوسطة.
5- شارك في أي مؤامرة تدبرها الصحافة المنحرفة ؛ فإذا وجدت مجموعة من الصحف تكتب فيها مقالات متزامنة تتباكى على العدالة حين يحاكم المجتمع منحرفا ما أو توقف الدولة مجرما ما .. أو مقالات تثني على مسلسل مشبوه مدعوم من أعداء الأمة أو ممثل ساقط يسخر من القيم .. شارك مع هذه الجوقة .
6- حارب أسلمة الأدب والفكر والاقتصاد والثقافة وإياك أن تكون لك يد فيها .
7- حرّف مفهومات القيم؛ فالحرية يجب أن تكون لنشر الإلحاد، والحوار يجب أن يكون مع اليهود والنصارى، والتسامح يجب أن يكون مع من يسب رب العزة جل جلاله .. أما المجتمعات المسلمة الطاهرة فيجب ألا تتمتع بهذه القيم أبدا أبدا .
هذه خطوات سبع تجعل (أويجعل بعضها ) منك نجما قنواتيا مشهورا ..وسواء عليك أكنت الآن متطرفا تكفيريا أو سكيرا متشردا أو تلاحق محارمك جنسيا أو نزيل مصحة نفسية .. فإنك بهذه الخطوات أو بعضها تجب ماسبق وتبدأ حياة جديدة وربما تكون لك زاوية في صحيفة يومية ..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون .(/1)
إلا رسول الله
د.عبدالوهاب بن ناصر الطريري* 9/8/1423
15/10/2002
مع كل الجنايات التي تتوالى على المسلمين، والبغي والعدوان بألوان وصنوف شتى فما زال المسلمون يواصلون الاحتمال والصبر ولو على مضض، إلا رسول الله أن ينال فلا نغضب له، ويساء إليه فلا ننصره، ويتعدى عليه فلا ندافع عنه، فها هي تتوالى بذاءات وإهانات للمسلمين في جناب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – تطلقها عصابة من قساوسة الكنيسة الإنجيلية في أمريكا ( جيري فاويل، بات روبرتسون ، فرانكلين جراهام، جيري فاينز) ومجملها وصفهم للنبي – صلى الله عليه وسلم- بأنه إرهابي ورجل عنف وحرب، وتزوج 12 زوجة، أما تفصيلها فبذاء وتفحش، وتسفل في العقل والخلق.
وهذه القيادات الكنسية ذات علاقة قوية بالرؤساء الأمريكيين الجمهوريين، ففرانكلين جراهام هو الذي تلى الأدعية في حفل تنصيب الرئيس الأمريكي،وبات روبنسون هو الذي نال المنحة المالية من البيت الأبيض، كما أن الرئيس الأمريكي خاطب عبر الأقمار الصناعية مؤتمر الكنيسة المعمدانية الذي ألقى فيه القس جيري فاينر تهمه الفاحشة على النبي – صلى الله عليه وسلم-.
-وهذه ليست أوّل مرة ينال فيها من مقام النبوة، أو يساء فيها إلى الجناب الكريم فقد صدر مثل ذلك من مستشرقين وصحفيين وفنانين وغيرهم كثيرين، ولكن جانب الفظاعة أن يصدر ذلك من قادة دينيين كبار، و بشكل شبه جماعي من هؤلاء القسس، وهي قيادات دينية ذات صلة بالقيادة السياسية الأمريكية ولهذا كله دلالاته التي لا يمكن تجاهلها.
- إن هؤلاء يتكلمون عن النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي علّم البشرية تعظيم أنبياء الله وتوقير رسله:( لا نفرق بين أحد من رسله) وأن الإيمان برسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – لا يصح ولا يقبل إلا مع الإيمان برسالة عيسى – عليه السلام- ومن سبقه من المرسلين.
- وعندما كان اليهود يصفون المسيح بأقبح الأوصاف كان محمد – صلى الله عليه وسلم- يعلم البشرية: ( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين)، ( ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل).
- وعندما كان اليهود يصفون المحصنة العذراء بأفحش الصفات كان محمد – صلى الله عليه وسلم- يعلّم البشرية: ( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين).
- وإن هؤلاء الذين يشتغلون بالوقيعة في النبي العظيم بمثل أوصاف السفّاح والقاتل إنما يصفون بذلك نبي الرحمة الذي علم البشرية: ( أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ) والذي علم البشرية الرحمة والعدل حتى في حال الحرب والقتال، وكان ذلك في وقت البربرية والتوحش العالمي حيث لا هيئات ولا مواثيق ولا قوانين عالمية فجاء إلى هذا العالم بقوانين العدل في السلم والحرب: (لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً ).
- إن إلقاء هذه التهم من هؤلاء القسس دلالة على إفلاسهم؛ لأنهم لم يجدوا ما يثيرونه إلا اجترار تهم قديمة سبق المستشرقون من قبل إلى إثارتها، وقد تهافتت وأفلست وانتهت صلاحيتها ودحضتها الأجوبة الموضوعية التي كتبت عنها في حينها.
كما له دلالة أخرى وهو مقدار الجبن والتضليل الذي يتلبس به هؤلاء القسس، أما كيف ذلك؛ فإننا عندما نعلم أن قسّيساً يؤمن بالعهد القديم ومع ذلك يطعن في النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه تزوج اثنتي عشرة امرأة. ونحن نعلم أنه يعلم من العهد القديم الخبر عن سليمان – عليه السلام- أنه كان لديه سبعمئة زوجة وثلاثمئة محظية ( سفر الملوك الإصحاح الحادي عشر).
وفي (سفر صموئيل الإصحاح الخامس) أن داود – عليه السلام- اتخذ لنفسه زوجات ومحظيات ومثله عن يعقوب – عليه السلام -؛ فما بال تعدد الزوجات عند هؤلاء الرسل والمذكور في العهد القديم الذي تؤمن به الكنيسة الإنجيلية ؟ أم هو الجبن والخوف إلى حد الذعر من اليهود أن يُنَال أنبياؤهم وآباؤهم؟
ثم انظر إلى وصفهم النبي- صلى الله عليه وسلم- بالقتل وأنه سفاح؛ مع أن في العهد القديم الذي يؤمنون به أنّ داود – عليه السلام – خطب ابنة الملك شاؤول فطلب إليه مهراً مئة غلفة من غلف الفلسطينيين، فانطلق داود مع رجاله فقتل (مئتي) رجل من الفلسطينيين، وأتى بغلفهم وقدمها للملك، فزوجه شاؤول عندئذ من ابنته ميكال، وأدرك شاؤول يقيناً أن الرب مع داود ( سفر صموئيل الإصحاح الثامن عشر) وما جاء فيه أيضاً أن يوشع هاجم مدن عجلون وحبرون ودبير وقتل ملوكها وكل نفس فيها بحد السيف فلم يفلت منها ناج ( سفر يوشع 34).
وأن موسى قال للإسرائيليين: ( الآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة ضاجعت رجلاً، ولكن استحيوا لكم كل عذراء لم تضاجع رجلاً) ( سفر العدد 31).(/1)
ويتجاهل إلى حد العمى ما ورد في الإنجيل منسوباً إلى المسيح: ( لا تظنوا أني جئت لأرسي سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسي سلاماً بل سيفاً، فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها، وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته) إنجيل متى الإصحاح (34) .
ويتجاهل ما ورد في العهد القديم من كتابهم المقدس من الأمر بقتل الكفار وحرق ممتلكاتهم ورجمهم بالحجارة حتى الموت وكلها موجودة في العهد القديم في مواضع منها ( سفر الخروج الاصحاح 34، سفر التثنية الأصحاح 13، 17).
فأين الكلام عن القتل وسفك الدماء هناك؟ أم هو الذعر المخرس من معاداة السامية، والمقاييس الانتقائية الجبانة، والتعصب الأعمى المقيت؟
- أين الكلام عن القتل الذي مارسته الكنيسة ضد المسلمين واليهود في الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش؟
-أين الكلام عن القتل وسفك دماء المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ في هيروشيما ونجازاكي وفيتنام وغيرها؟
-أين الكلام عن سفك الدماء الذي يمارسه اليهود ضد الأطفال والصبايا في فلسطين؟
-إن هؤلاء يصنعون الإرهاب ويقذفون بالنار إلى صهاريج الوقود ، فالنيل من جناب النبوة استفزاز واستنفار لكل مسلم، ودونه أبداً مهج النفوس، وفداه الأمهات والآباء، وإن جمرة الغضب التي يوقدها هؤلاء في قلب كل مسلم لا يمكن التنبؤ بالحريق الذي ستشعله ولا كيف ولا أين . وسيدفع هؤلاء برعونتهم هذه البشرية إلى أتون سعير متواصل من الصراعات والثارات .
ولإن احتمل المسلمون ألواناً من البغي، وتقبلوا تبريرات متنوعة للعدوان فلن يوجد من يحتمل البغي على النبي – صلى الله عليه وسلم- ولن يمكن تبرير أي حماقة من هذا النوع .
-ألا يطرح هذا سؤالاً كبيراً عن هذه الحملة: هل هي محاولة لدفع المواجهة التي تخوضها أمريكا مع العالم الإسلامي باتجاه ديني، أم أنها كشف للوجه الحقيقي للحملة الأمريكية؟ وسيجيب كلٌ على هذا السؤال وفق ما لديه من معطيات .
-إن هؤلاء القسس يجرّون أمريكا إلى بؤرة خطرة لم تجربها من قبل، وسيكون عاقبة أمرها خسراً، إذ قد تستطيع تغيير الأنماط الاجتماعية والاقتصادية في بعض البلاد الإسلامية، أما مقام النبوة في نفوسهم فأخطر من أن يمس، وأبعد من أن ينال.
-إن اليهود قد استطاعوا أن يرهبوا أوروبا وأمريكا، وأن يكمموا الأفواه دون ما يسمونه معاداة السامية، وأصبحت هذه الوصمة رعباً لا يستطيع أحد تجاوزه، فإذا فكر وقدر تكالبت عليه أجهزة الإعلام بهجوم عنيف يقضي على كيانه وقيمته، فهل تعجز الملايين المملينة من أتباع محمد – صلى الله عليه وسلم- أن تدفع أو تدافع، فتحرك ساكناً وتحدث أثراً .
-وبعد فإن عظمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نفوسنا أعلى من قبّة الفلك، ولن ينال منها مثل هذا التواقح الجبان ( والذي يبصق على السماء عليه أن يمسح وجهه بعد ذلك )، ولكن الذي يعنينا هنا واجبنا نحن تجاه مقام النبوة، والانتصار لجناب الرسول – صلى الله عليه وسلم- والذبّ عن شريف مقامه.
- فهذا نداء إلى كل مؤمن بالله ورسله، إلى كل قلب يخفق حباً لنبيه – صلى الله عليه وسلم -، وإلى كل مهجة تتحرق شوقاً إليه ، إلى كل مسلم يعلم أنه لولا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لكنا حيارى في دياجير الظلمات، ولولا رسول الله لكنا فحماً في نار جهنم، إلى كل مسلم يقول من أعماق قلبه: فدى لرسول الله نفسي، وفدى لأنفاسه أبي وأمي، إلى كل مسلم تضج جوانحه تعظيماً وتوقيراً، وإجلالاً وتقديساً لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا نداء لنصرة النبي أمام هذا التواقح الفاحش والتسفل البذيء، ولن يعدم كل غيور أن يجد له مكاناً ومكانة، وأن يبذل فيه جهداً ولو قل، وكل كثير منّا فهو في حق النبي قليل. وذلك بإعلان الاستنكار لهذا التهجم والهجوم والاحتجاج القوي عليه، والرد بعزة ووثوق على شبههم المستهلكة، وأن يعلم هؤلاء ومن يلحد إليهم عظيم جنايتهم وتجنيهم على مشاعر المسلمين، وأن يُعلموا أن مكانة النبي – صلى الله عليه وسلم – في نفوس المسلمين أعظم مما يتصورون، والمساس بها أخطر مما يقدرون، كل ذلك مع ملاحظة حصر الخطأ فيمن صدر منه، فليس من العدل ولا من العقل توسيع دائرة الخطأ لتشمل غير من صدر منه، وإن كانوا يشتركون في قواسم أخرى. كما أن تعميم الخطأ يعيق عملية التصحيح والإيضاح، كما أنه ينبغي ألا يوقف الحملة المضادة ولايضعفها الاعتذارات الواهنة التي صدرت من أحدهم ويمكن أن تصدر من آخرين، فالخطيئة أكبر من أن يمحوها اعتذار باهت.
وسيترتب على هذه الحملة في نصرة النبي – صلى الله عليه وسلم – مصالح أخرى تابعة لذلك منها تصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام والمسلمين، ونشر الإسلام ، ومقاومة الحملة اليهودية على المسلمين، ومقاومة المد التنصيري وغير ذلك .
ويمكن أن تأخذ الحملة لنصرة النبي – صلى الله عليه وسلم – طرائق متنوعة منها:(/2)
01الاحتجاج على الصعيد الرسمي على اختلاف مستوياته، واستنكار هذا التهجم بقوة،وإننا نعجب أن الشجب والاستنكار الذي نحن أهله دائماً لم يستعمل هذه المرة، ونعجب أخرى أن يستنكر هذه الإساءة وزير خارجية بريطانيا، سابقاً بذلك آخرين كانوا أحق بها وأهلها.
02الاحتجاج على مستوى الهيئات الشرعية الرسمية كوزارات الأوقاف، ودور الفتيا، والجامعات الإسلامية.
03الاحتجاج على مستوى الهيئات والمنظمات الشعبية الإسلامية وهي كثيرة.
4. إعلان الاستنكار من الشخصيات العلمية والثقافية والفكرية والقيادات الشرعية، وإعلان هذا النكير من عتبات المنابر وأعلاها ذروة منبري الحرمين الشريفين.
05المواجهة على مستوى المراكز الإسلامية الموجودة في الغرب بالرد على هذه الحملة واستنكارها.
06المواجهة على المستوى الفردي، وذلك بإرسال الرسائل الإلكترونية المتضمنة الاحتجاج والرد والاستنكار إلى كل المنظمات والجامعات والأفراد المؤثرين في الغرب، ولو نفر المسلمون بإرسال ملايين الرسائل الرصينة القوية إلى المنظمات والأفراد فإن هذا سيكون له أثره اللافت قطعاً .
07استئجار ساعات لبرامج في المحطات الإذاعية والتلفزيونية تدافع عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وتذب عن جنابه، ويستضاف فيها ذوو القدرة والرسوخ، والدراية بمخاطبة العقلية الغربية بإقناع، وهم بحمد الله كثر.
08كتابة المقالات القوية الرصينة لتنشر في المجلات والصحف -ولو كمادّة إعلانية- ونشرها على مواقع الإنترنت باللغات المتنوعة .
09 إنتاج شريط فيديو عن طريق إحدى وكالات الإنتاج الإعلامي يعرض بشكل مشوق وبطريقة فنية ملخصاً تاريخياً للسيرة، وعرضاً للشمائل والأخلاق النبوية، ومناقشة لأهم الشبه المثارة حول سيرة المصطفى – صلى الله عليه وسلم-، وذلك بإخراج إعلامي متقن ومقنع.
010 طباعة الكتب والمطويات التي تعرف بشخصية النبي – صلى الله عليه وسلم- ويراعى في صياغتها معالجة الإشكالات الموجودة في الفكر الغربي.
011 عقد اللقاءات، وإلقاء الكلمات في الجامعات والمنتديات والملتقيات العامة في أمريكا لمواجهة هذه الحملة .
012 إقامة مؤتمرات في أمريكا وأوروبا تعالج هذه القضية وتعرض للعالم نصاعة السيرة المشرفة وعظمة الرسول – صلى الله عليه وسلم-.
013 إصدار البيانات الاستنكارية من كل القطاعات المهنية والثقافية التي تستنكر وتحتج على هذه الإساءة والفحش في الإيذاء.
014 تبادل الأفكار المجدية في هذه القضية، وإضافة أفكار جديدة والتواصي بها، وسيجد كل محب لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – معظم لجنابه مجالاً لإظهار حبه وغيرته وتعظيمه ، فهذا يأتي بفكرة، وذاك يكتب مقالة وآخر يترجم، وآخر يرسل، وآخر يمول في نفير عام لنصرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولسان حالهم كل منهم يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي ... ...
لعرض محمد منكم وقاء
اللهم اجعل حبك وحب رسولك أحب إلينا من أنفسنا وأبنائنا ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد وأوردنا حوضه، وارزقنا مرافقته في الجنة، اللهم صلى وسلم وبارك أطيب وأزكى صلاة وسلام وبركة على رسولك وخليلك محمد وعلى آله وصحبه.
*المشرف على المكتب العلمي لموقع الإسلام اليوم www.islamtoday.net(/3)
إلا صلاتي....
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56
وقال تعالى في الحديث القدسي
" ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل كيف أجود برحمتي على من بخل بطاعتي "
إن الدنيا ساعة فاجعلها طاعة والنفس طماعة عودها القناعة, تزود من التقوى فانك راحل وسارع إلى الخيرات فيما يسارع فالمال و الأهل ودائع و لابد يوم أن ترد الودائع.
قال أعز من قائل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }المنافقون9
يا عابر السبيل في الدنيا كأنك غريب عد نفسك من أهل القبور و تزود فان الطريق طويل و الزاد قليل وخير الزاد التقوى
قال سبحانه :{ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } البقرة197
و من أهم الأعمال الصلاة كما خبرنا المصطفى
" خير أعمالكم الصلاة "
"بين الرجل و الكفر ترك الصلاة"
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " لا إسلام لمن ترك الصلاة "
وقال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }الحج77
قال الله في المصلين {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }الأعلى
يا أخ ويا أخت الإسلام إن الله يتوعد بالمصلين الساهين عن صلاتهم فيقول:
{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } الماعون
هذا حال الساهي عن الصلاة فما بالك بالذي لم يسجد له سجدة واحدة.
فمن أنت أيها العبد الفقير الذليل أمام العزيز الغني لتستكبر على عبادته وهو الله الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه المستحق لجميع أنواع العبادة ولدى قضى أن لا نعبد إلا إياه
قال المولى عز وجل: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ . النحل
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ }الحج18
ألا تسمع المنادي يقول " حي على الصلاة " فلم تلبي صوت النداء ألا تخاف أن يأخذك الموت و لم تسجد لله سجدة واحدة
قال تعالى : {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ }المائدة58
و هو الذي يأمرك قائلا :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }الجمعة9
ويقول:{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ }البقرة238
ستذكر الصلاة عند سكرات الموت يقول سبحانه : كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى {القيامة }
أما يوم القيامة...
يقول الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ {القلم}
ويقول أيضا { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين } المدثر
وإسمع ماذا قال الله في سقر:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَر لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ }
اللهم نعوذ بك من سقر ونار سقر فإننا لا نقوى على عذابك
وقال أيضا: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (مريم : 59-60).
يكفيك أخي قول الحبيب صلى الله عليه و سلم في ترك الصلاة:
(العهد الذي بيننا وبينهم الصلاةفمن تركها فقد كفر). رواه أحمد(/1)
قال رسول الله صلى الله وسلم : ( لا تترك الصلاة متعمدا ، فإنه من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله )
وقال الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى: ( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة عن الصلاة ، فإن صلحت ، صلح سائر عمله ، وإن فسدت ، فسد سائر عمله )
كفاك علما بأن الصلاة من قواعد الإسلام الخمسة التي لا يقوم الدين إلا عليها, فهل يمكن لك أن تكون مسلم دون قول الشهادتين أو ترك الصيام فما بالك تتهاون بالصلاة.
قال سبحانه
" أفمن هذا الحديث تعجبون و تضحكون ولا تبكون و انتم سامدون فاسجدوا لله و أعبدوا " " النجم"
اللهم اهدي أمة حبيبك عليه أفضل الصلاة والتسليم واشرح قلوبنا للإسلام, ربنا اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي اللهم إني أسالك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربني إلى حبك, اللهم آنس وحشتنا في القبور واجعل صلاتنا تشفع لنا عندك فارحم تربتنا في اللحد والكفن وارحمنا إذا صار الموت يطلبنا من كل عرق بلا رفق ولا هون وارحمنا إذ صارت أموالنا حلا لغيرنا بلا ثمن وارحمنا إذا ما تركنا المال والأهل والسكن
وارحمنا إذا ما علمنا أننا لم نأخذ من الدنيا غيرا الحنط والكفن, وآخر دعوانا أن الحمد لله أن جعلنا مسلمين والصلاة والسلام على حبيب الله(/2)
إلى العمل
في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً , فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً
المحرم 1357هجرية
إلى العمل
أيها الأخوة ..
كلما وقفت هذا الموقف من جمهور يستمع ، سألت الله أن يقرب اليوم الذي ندع فيه ميدان الكلام إلي ميدان العمل ، وميدان وضع الخطط والمناهج إلي ميدان الإنفاذ والتحقيق ، فقد طال الوقت الذي قضيناه خطباء متكلمين والزمن يطالبنا في إلحاح بالأعمال الجدية المنتجة ، والدنيا كلها تأخذ بأسباب القوة والاستعداد ، ونحن مازلنا بعد في دنيا الأقاويل والأحلام :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ , كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ , إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:2-4)
أيها الأخوة ..
تحدث إليكم الإخوان في شمول معني الإسلام وإحاطته واستيعابه لكل مظاهر حياة الأمم ، ناهضة أو مستقرة منشئة أو مستكملة ، وعرض بعضهم لموقف الإسلام من الوطنية ، فأظهركم علي أن وطنية الإسلام هي أوسع الوطنية حدوداً ، وأعمها وجوداً ، وأسماها خلوداً ، وأن أشد المتطرفين لوطنه المتعصبين لقومه لن يجد في دعوة الوطنيين المجردين ما يلقاه من حماسة وطنية المؤمنين ، ولست أفيض في شرح ذلك بعد إذ عرضوا له ، ولكني سأعرض إلي ناحية واحدة كثر فأغظ الناس بها وكثر تبعاً لذلك غلطهم فيها ، هي : (السياسة والإسلام).
الدين .. والسياسة
قلما تجد إنساناً يتحدث إليك عن السياسة والإسلام إلا وجدته يفصل بينهما فصلاً ، ويضع كل واحد من المعنيين في جانب ، فهما عند الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان ، ومن هنا سميت هذه جمعية إسلامية لا سياسية ، وذلك اجتماع ديني لا سياسة فيه ، ورأيت في صدر قوانين الجمعيات الإسلامية ومناهجها (لا تتعرض الجمعية للشئون السياسية) .
وقبل أن أعرض إلي هذه النظرة بتزكية أو تخطئة أحب أن الفت النظر إلى أمرين مهمين :
أولهما : أن الفارق بعيد ن عن الحزبية والسياسية ، وقد يجتمعان وقد يفترقان ، فقد يكون الرجال سياسيا بكل ما في الكلمة من معان وهو لا يتصل بحزب ولا يموت إليه ، وقد يكون حزبياًُ وليدري من أمر السياسة شيئاً، وقد يجمع بينهما فيكون سياسياً حزبياً أو حزبياً سياسياً حد سواء ، وأنا حين أتكلم عن السياسة في هذه الكلمة فإنما أريد السياسة المطلقة ، وهى النظر في شؤون الأمة الداخلية والخارجية غير مقيدة بالحز بينة بحال .. هذا أمر.
والثاني : أن غير المسلمين حينما جهلوا هذا الإسلام ، أو حينما أعياهم أمر وثباته في نفوس أتباعه ، ورسوخه فت قلوب المؤمنين به ، واستعداد كل مسلم لتفديته بالنفس والمال ، لم يحول أن يجرحوا في نفوس المسلمين اسم الإسلام ولا مظاهره وشكلياته ، ولكنهم حاولوا يحصروا معناه في دائرة ضيقة تذهب بكل مافيه من نواح قوية عملية ، وان تركب للمسلمين بعد ذلك قشور من الألقاب والأشكال والمظهريات لا تسمن ولا تغنى من جوع .... فافهموا المسلمين أن الإسلام شيء والاجتماع شيء أخر ، وان الإسلام شيء والقانون شيء غيره ، وان الإسلام شيء ومسائل الاقتصاد لا تتصل به ، وان الإسلام شيء والثقافة العامة سواه ، وان الإسلام شيء يجب أن يكون بعيداً عن السياسة .
فحدثوني بربكم أيها الإخوان ، إذا كان الإسلام شيئا غير السياسة وغير الاجتماع ،وغير الاقتصاد ، وغير الثقافة ... فما هو إذن ؟ ....
أهو هذه الركعات الخالية من القلب الحاضر..
أم هذا الألفاظ التي هي كما تقون رابعة العدوية :استغفار يحتاج إلى استغفار ..
ألهذا أيها الأخوة نزل القران نظاما كامل محكما مفصلا :(تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89) .
هذا المعنى المتضائل لفكر الإسلام ، وهذه الحدود الضيقة التي حددها معنى الإسلام ، هي التي حاول خصوم الإسلام أن يحصر فيها المسلمين ، وان يضحكوا عليهم بأن يقولوا لهم بأن تركنا لكم حرية الدين ، وان الدستور ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام .
الإسلام الشامل
أنا أعلن أيها الإخوان من فوق المنبر بكل صراحة ووضوح وقوة ، أن الإسلام شيء غير هذا المعنى الذي أراد خصومة والأعداء من أبنائه أن يحصرون فيه ويقيدون به ، وأن الإسلام عقيدة وعبادة ، ووطن وجنسية ، وسماحة وقوه ، وخلق ومادة ، وثقافة وقانون , وأن المسلم مطالب بحكم إسلامه أن يعني بكل شؤون أمته ، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم .(/1)
واعتقد أن أسلافنا رضوان الله عليه ما فهموا للإسلام معنى غير هذا ، فبه كانوا يحكمون ، وله كانوا يجاهدون ، وعلى قواعده كانوا يتعلمون ، وفى حدوده كانوا يسيرون في كل شان من شؤون الحياة الدنيا العملية قبل شؤون الآخرة الروحية ، ورحم الله الخليفة الأول إذ يقول : (لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله).
بعد هذا التحديد العام لمعنى الإسلام الشامل ولمعنى السياسة المجردة عن الحزبية ، أستطيع أن اجهر في صراحة بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيا ، يعيد النظر في شؤون أمته ، مهتما بها غيور عليا . وأستطيع كذلك أن أقول أن هذا التحديد التجريد أمر لا يقره الإسلام ، وأن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمتها السياسية وإلا كانت تحتاج هي نفسها إلى أن تفهم معنى الإسلام.
دعوني أيها الأخوة استرسل معكم قليلا في تقرير هذا المعنى الذي قد يبدو مفاجأة غريبة على قوم تعودوا إن يسمعوا دائما نغمة التفريق بين الإسلام والسياسة ، والذي قد يدع بعض الناس يقولون بعد انصرافنا من هذا الحفل : إن جماعة الإخوان المسلمين قد تركت مبادئها ، وخرجت علي صفتها ، وصارت جماعة سياسية بعد أن كانت جمعية دينية ، ثم يذهب كل متأول في ناحية من نواحي التأويل ملتمساً أسباب هذا الانقلاب في نظره ، وعلم الله أيها السادة أن الإخوان ما كانوا يوماً من الأيام غير سياسيين ، ولن يكونوا يوماً من الأيام غير مسلمين ، وما فرقت دعوتهم أبداً بين السياسة والدين ، ولن يراهم الناس في ساعة من نهار حزبيين(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص:55) ، ومحال أن يسيروا لغاية غير غايتهم أو يعملوا لفكرة سوي فكرتهم أو يتلونوا بلون غير الإسلام الحنيف :(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:138) .
السياسة الداخلية
دعوني أيها الأخوة أسترسل معكم في تقرير هذا المعني ، فأقول إن كان يراد بالسياسة معناها الداخلي من حيث تنظيم أمر الحكومة وبيان مهماتها وتفصيل حقوقها وواجباتها ومراقبة الحاكمين والإشراف عليهم ليطاعوا إذا أحسنوا وينقدوا إذا أساءوا ... فالإسلام قد عني بهذه الناحية ، ووضع لها القواعد والأصول ، وفصل حقوق الحاكم والمحكوم ، وبين مواقف الظالم والمظلوم ، ووضع لكل حداً لا يحدوه ولا يتجاوزه.
فالدساتير والقوانين المدنية والجنائية بفروعها المختلفة عرض لها الإسلام ، ووضع نفسه منها بالموضع الذي يجعله أول مصادرها وأقدس منابعها . وهو حين فعل هذا إنما وضع الأصول الكلية ، والقواعد العامة ، والمقاصد الجامعة ، وفرض علي الناس تحقيقها ، وترك لهم الجزئيات والتفاصيل يطبقونها بحسب ظروفهم وعصورهم ، ويجتهدون في ذلك ما وسعتهم المصلحة وواتاهم الاجتهاد .
وقد قرر الإسلام سلطة الأمة وأكدها ، وأوصي بأن يكون كل مسلم مشرفاً تمام الإشراف علي تصرفات حكومته ، يقدم لها النصح والمعونة ويناقشها الحساب ، وهو كما فرض علي الحاكم أن يعمل لمصلحة المحكومين بإحقاق الحق وإبطال الباطل فرض علي المحكومين كذلك أن يسمعوا ويطيعوا للحاكم ما كان كذلك ، فإذا انحرف فقد وجب عليهم أن يقوموه علي الحق ويلزموه حدود القانون ويعيدوه إلي نصاب العدالة ، هذه تعاليم كلها من كتاب الله :(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ , وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ , أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:48-50) ، إلي عشر من الآيات الكريمة التي تناولت كل ما ذكرنا بالبيان والتفصيل .(/2)
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقرير سلطة الأمة وتقرير الرأي العام فيها : (الدين النصيحة) . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : (لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين و عامتهم) .. ويقول أيضاً (إن من أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ، ويقول كذلك (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلي إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) .. وإلي مئات الأحاديث التي تفصل هذا المعني وتوضحه ، وتوجب علي المسلمين أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر ، وأن يراقبوا حكامهم ويشرفوا علي مبلغ احترامهم للحق وإنفاذهم لأحكام الله .
فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يأمر بهذا التدخل ، أو الإشراف أو التناصح ، أو سمه ما شئت ، وحين يحض عليه ، ويبين أنه الجهاد الأكبر ، وأن جزاءه الشهادة العظمي .. يخالف تعاليم الإسلام فيخلط السياسة بالدين ، أم أ، هذه هي طبيعة الإسلام الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأننا في الوقت الذي نعدل فيه بالإسلام عن هذا المعني نصور لأنفسنا إسلاماً خاصاً غير الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه .
لقد تقرر هذا المعني الفسيح للإسلام الصحيح في نفوس السلف الصالح لهذه الأمة ، وخالط أرواحهم وعقولهم ، وظهر في كل أدوار حياتهم الاستقلالية قبل ظهور هذا الإسلام الاستعماري الخانع الذليل .
ومن هنا أيها الإخوان كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلمون في نظم الحكم ، ويجاهدون في مناصرة الحق ، ويحتملون عبء سياسة الأمة ، ويظهرون علي الصفة التي وصفوا أنفسهم بها (رهبان بالليل فرسان بالنهار) حتى كانت أم المؤمنين عائشة الصدِّيقة تخطب الناس في دقائق السياسة ، وتصور لهم مواقف الحكومات في بيان رائع وحجة قوية ، ومن هنا كانت الكتيبة التي شقت عصا الطاعة على الحجاج وحاربته وأنكرت عليه بقيادة ابن الأشعث تسمي كتيبة الفقهاء ، إذ كان فيها سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأضرابهما من فقهاء التابعين وجلة علمائهم.
ومن هنا رأينا من مواقف الأئمة رضوان الله عليهم في مناصحة الملوك ومواجهة الأمراء والحكام بالحق ما يضيق بذكر بعضه فضلاً عن كله المقام .
ومن هنا كذلك كانت كتب الفقه الإسلامي قديماً وحديثاً فياضة بأحكام الأمارة والقضاء والشهادة والدعاوى والبيوع والمعاملات والحدود والتعزيزات ، ذلك إلي أن الإسلام أحكام عملية وروحية ، إن قررتها السلطة التشريعية فإنما تقوم علي حراستها وإنفاذ السلطة التنفيذية والقضائية ، ولا قيمة لقول الخطيب كل جمعة علي المنبر(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) ، في الوقت الذي يجيز فيه القانون السكر وتحمي الشرطة السكيرين وتقودهم إلي بيوتهم آمنين مطمئنين ، ولهذا كانت تعاليم القرآن لا تنفك عن سطوة السلطان ، ولهذا كانت السياسة جزءاً من الدين ، وكان من واجبات المسلم أن يعني بعلاج الناحية الحكومية كما يعني بعلاج الناحية الروحية .
وذلك موقف الإسلام من السياسة الداخلية .
السياسة الخارجية
فإن أريد بالسياسة معناها الخارجي ، وهو المحافظة علي استقلال الأمة وحريتها ، وأشعارها كرامتها وعزتها ، والسير بها إلي الأهداف المجيدة التي تحتل بها مكانتها بين الأمم ومنزلتها الكريمة في الشعوب والدول ، وتخليصها من استبداد غيرها بها وتدخله في شؤونها ، مع تحديد الصلة بينها وبين سواها تحديداً يفصل حقوقها جميعاً ، ويوجه الدول كلها إلي السلام العالمي العام وهو ما يسمونه (القانون الدولي) .. فإن الإسلام قد عني بذلك كل العناية وأفتي فيه بوضوح وجلاء ، وألزم المسلمين أن يأخذوا بهذه الأحكام في السلم والحرب علي السواء ، ومن قصر في ذلك وأهمله فقد جهل الإسلام أو خرج عليه .(/3)
قرر الإسلام سيادة الأمة الإسلامية وأستاذيتها للأمم في آيات كثيرة من القرآن ومنها قوله تعالى:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (آل عمران:110) ، وقوله تعالى :(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) ، وقوله تعالى:(وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8) ، وأكد قوامتها وأرشدها إلي طريق صيانتها وإلي ضرر تدخل غيرها في شؤونها بمثل قوله تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ , هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) (آل عمران:118-119) ، وأشار إلي مضار الاستعمار وسوء أثره في الشعوب فقال تبارك وتعالى :(إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل:34) .
ثم أوجب علي الأمة المحافظة علي هذه السيادة ، وأمرها باستعداد العدة و استكمال القوة ، حتى يسير الحق محفوظاً بجلال السلطة كما هو مشرق بأنوار الهداية (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (لأنفال:60) ، ولم يغفل التحذير من صورة النصر ونشوة الاعتزاز وما تجلبه من مجانبة للعدالة وهضم للحقوق ، فحذر المسلمين العدوان علي أية حال في قوله تعالى :(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا) (المائدة:8) ، مع قوله تعالى(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:41).
ومن هنا أيها الإخوة رأينا أخلاء المسجد ، وأنضاء العبادة ، وحفظة الكتاب الكريم ، بل وأبناء الروابط والزوايا من السلف رضوان الله عليهم ، لا يقنعون باستقلال بلادهم ، ولا بعزة قومهم ، ولا بتحرير شعوبهم ، ولكنهم ينسابون في الأرض ، ويسيحون في آفاق البلاد فاتحين معلمين ، يحررون الأمم كما تحرروا ، ويهدونها بنور الله الذي اهتدوا به ، ويرشدونها إلي سعادة الدنيا والآخرة ، لا يغلون ولا يغدرون ، ولا يظلمون ولا يعتدون ، ولا يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
ومن هنا رأينا عقبة بن نافع يخوض الأطلسي بلبة جواده قائلاً : (اللهم لو علمت وراء هذا البحر أرضاً لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك) ، في الوقت الذي يكون فيه أبناء العباس الأشقاء قد دفن أحدهم بالطائف إلي جوار مكة ، والثاني بأرض الترك من أقصي الشرق ، والثالث بأفريقيا من أقصي المغرب ، جهاداً في سبيل الله وابتغاء لمرضاته . وهكذا فهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان أن السياسة الخارجية من صميم الإسلام .
الحقوق الدولية
وأحب قبل أن أختم هذا الاسترسال أن أؤكد لحضراتكم تأكيداً قاطعاً أن سياسة الإسلام داخلية أو خارجية تكفل تمام الكفالة حقوق غير المسلمين ، سواء أكانت حقوق دولية أم كانت حقوق وطنية للأقليات غير المسلمة ، وذلك لأن شرف الإسلام الدولي أقدس شرف عرفه التاريخ ، والله تبارك وتعالى يقول :(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (لأنفال:58) ، ويقول :(إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4) ، ويقول تعالى :(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (لأنفال:61).
ولئن كانت إيطاليا المتمدنة قد غزت الحبشة حتى استولت عليها ولم تعلن عليها حرباً ولم تسبق إلي ذلك بإنذار ، وحذت حذوها اليابان الراقية فهي تحارب الصين ولم تخطرها ولم تعلنها ، فإن التاريخ لم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن صحابته أنهم قاتلوا قوماً أو غزوا قبيلاً دون أن يوجهوا الدعوة ويتقدموا بالإنذار وينبذوا إليه علي سواء .
وقد كفل الإسلام حقوق الأقليات بنص قرآني هو قول الله تبارك وتعالى :(لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8) .(/4)
كما أن هذه السياسة الإسلامية نفسها لا تنافي أبداً الحكم الدستوري الشورى ، وهي واضعة أصله ومرشدة الناس إليه في قوله تعالى من أوصاف المؤمنين(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى:38) ، وقوله تعالى:(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (آل عمران:159) ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه وينزل علي رأي الفرد منهم متي وضح له صوابه كما فعل ذلك مع الحباب بن منذر في غزوة بدر ، ويقول لأبي بكر وعمر : (لو اجتمعتما ما خالفتكما) ، وكذلك ترك عمر الأمر شوري بين المسلمين ، ومازال المسلمون بخير ما كان أمرهم شورى بينهم .
سعة التشريع الإسلامي
كما أن تعاليم الإسلام وسياسته ليس فيها معني رجعي أبداً ، بل هي علي أدق قواعد التشريع الصالح ، وقد اعترف التشريع لكثير منها ـ وسيكشف الزمن للناس علي جلاله ما لم يعرفوا ـ بأنها قد سبقته في دقة الأحكام وتصوير الأمور وسعة النظر ، وشهد بذلك كثير من غير المسلمين كما ورد كثيراً في كلام "الميسو لامبير" و إضرابه ، وأكدت ذلك مؤتمرات التشريع الدولية علي أن الإسلام قد وضع من القواعد الكلية ما يترك للمسلم باباً واسعاً في الانتفاع بكل تشريع نافع مفيد لا يتعارض مع أصول الإسلام ومقاصده و أثاب علي الاجتهاد بشروطه ، وقرر قاعدة المصالح المرسلة ، واعتبر العرف ، واحترم رأي الإمام . كل هذه القواعد تجعل التشريع الإسلامي في الذروة السامية بين الشرائع والقوانين والأحكام .
هذه معان أحب أيها السادة أن تذيع بيننا وأن نذيعها في الناس ، فإن كثيرين لازالوا يفهمون من معنى النظام الإسلامي ما لا يتفق بحال مع الحقيقة ، وهم لهذا ينفرون منه ويحاربون الدعوة إليه ، ولو فقهوه علي وجهه لرجعوا به ولكانوا من أوائل أنصاره وأشدهم تحمساً له وأعلاهم صوتاً في الدعوة إليه .
الحزبية السياسية
أيها الأخوة الكرام ..
بقي للسياسة معني آخر يؤسفني أن أقول أنه وحده هو المعني الذي يرادفها ويلازمها بغير حق في أذهان كثير منا ، ذلك هو (الحزبية).
وإن لي في الحزبية السياسية آراء هي لي خاصة ولا أحب أن أفرضها علي الناس فإن ذلك ليس لي ولا لأحد ، ولكني كذلك لا أحب أن أكتمها عنهم ، وأري أن واجب النصيحة للأمة ـ وخصوصاً في مثل هذا الظروف ـ يدعوني إلي المجاهرة بها وعرضها علي الناس في وضوح وجلاء ، وأحب كذلك أن يفهم جيداً أني حينما أتحدث عن الحزبية السياسية فليس معني هذا أني أعرض لحزب دون حزب ، أو أرجح أحد الأحزاب علي غيره ، أو أن أنتقص أحدها وأزكي الأخر ، ليس ذلك من مهماتي ، ولكني سأتناول المبدأ من حيث هو ، وسأعرض للنتائج والآثار المترتبة عليه ، وأدع الحكم علي الأحزاب للتاريخ وللرأي العام والجزاء الحق لله وحده(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (آل عمران:30) .
أعتقد أيها السادة ، أن الحزبية السياسية إن جازت في بعض الظروف في بعض البلدان ، فهي لا تجوز في كلها ، وهي لا تجوز في مصر أبداً ، وخاصةً في هذا الوقت الذي نستفتح فيه عهداً جديداً ، ونريد أن نبني أمتنا بناء قوياً يستلزم تعاون الجهود وتوافر القوي والانتفاع بكل المواهب ، والاستقرار الكامل والتفرغ التام لنواحي الإصلاح . إن وراءنا في الإصلاح الداخلي منهاجاً واسعاً مطولاً ، يجب أن نصرف كل الجهود إلي تحقيقه ، لإنقاذ هذا الشعب الدائم الحيوية ، الجم النشاط ، المجهز بكل وسائل النشاط ، الذي لا ينقصه إلا القيادة الصالحة والتوجيه القويم ، حتى يتكون أصلح تكوين ، يقضي علي الضعف والفقر والجهل والرذيلة ، وهي معاول الهدم وسوس النهضات ، وليس هنا محل تفصيل هذا المنهاج فذلك له وقت آخر ، وأنا أعلم أننا جميعاً نشعر بثقل وطأة الأعباء ، وبالمجهودات العظيمة التي يجب أن تبذل في سبيل التنظيم الداخلي في كل مظاهر الحياة .
وأعتقد كذلك أننا جربنا الوحدة مرتين , كانت كل واحدة منهما ألمع نجم في تاريخ النهضة , أما أولاهما ففي فجر النهضة حينما برزت الأمة صفا متحدا تنادي بحقها وتطالب باستحقاقها في اجتماع أفزع الغاصبين وروع المستعمرين ووهنت أمام سلطانه قوى الظالمين , أما الثاني فحين تكوين الجبهة الوطنية التي خطت بنا خطوة مهما كانت قصيرة فهي إلى الأمام على كل حال , وجربنا التفرقة في مرات كثيرة من قبل ومن بعد فما رأينا إلا تمزيق الجهود , وإحباط الأعمال , وإفساد الشؤون , وإتلاف الأخلاق , وخراب البيوت وتقطيع الأرحام , واستفادة الخصوم على حساب المختلفين المتنابزين
الحزبية والتدخل(/5)
وأعتقد أيها السادة أن التدخل الأجنبي في شؤون الأمة , ليس له من باب إلا التدابر والخلاف , وهذا النظام الحزبي البغيض , وأنه مهما انتصر أحد الفريقين فإن الخصوم بالمرصاد , يلوّحون له بخصمه الآخر , ويقفون منهما موقف القرد من القطتين , ولا يجني الشعب من وراء ذلك إلا الخسارة من كرامته واستقلاله وأخلاقه ومصالحه .
إننا يا إخوان أمة لم نستكمل استقلالنا بعد استكمالا تاما , ولا زلنا في الميزان , ولا زالت المطامع تحيط بنا من كل مكان , ولا سياج لحماية هذا الاستقلال والقضاء على تلك المطامع إلا الوحدة والتكلف .
وإذا جاز لبعض الأمم التي استكملت استقلالها وفرغت من تكوين نفسها أن تختلف وتتحزب في فرعيات الأمور , فإن ذلك لا يجوز في الأمم الناشئة أبدا , على أننا نلاحظ أن الحوادث العالمية قد ألجأت الأمم جميعا إلى التجرد من الحزبية مطلقا , أو الإبقاء على حزبية صورية تقليدية مع الوحدة في كل الاتجاهات
لا أحزاب في مصر
وأعتقد كذلك أن هذه الأحزاب المصرية الحالية أحزاب مصنوعة أكثر منها حقيقية , وأن العامل في وجودها شخصي أكثر منه وطني , وأن المهمة والحوادث التي كونت هذه الأحزاب ويجب أن ينتهي هذا النظام بانتهائها.
لقد تكوّن الوفد المصري من الأمة كلها للمطالبة بالاستقلال على أساس المفاوضة وتلك هي مهمته , ثم تفرع منه حزب الأحرار الدستوريين للخلاف في أسلوب المفاوضات , وقد انتهت المفاوضة بأساليبها ونظمها وقواعدها فانتهت مهمتها بذلك , , وتكوّن حزب الشعب لإيجاد نظام خاص ودستور خاص , وقد انتهى ذلك الدستور وذلك النظام بأشكاله وأوضاعه فانتهت مهمته هو الآخر , وتكون حزب الشعب لموقف خاص بين السراي والأحزاب , لقد انتهت هذه الظروف جميعا , وتجددت ظروف أخرى تستدعي مناهج وأعمالا , فلا معنى أبدا لبقاء هذه الأحزاب , ولا معنى أبدا للرجوع على الماضي والمستقبل يلح إلحاحا صارخا بالعمل والسير بأسرع ما يمكن من الخطوات.
الإسلام لا يقر الحزبية
وبعد هذا كله أعتقد أيها السادة أن الإسلام وهو دين الوحدة في كل شيء, وهو دين سلامة الصدور , ونقاء القلوب , والإخاء الصحيح , والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعا فضلا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد , لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه , والقرآن الكريم يقول :(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103) , ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (هل أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصوم ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين , فإن فساد ذات البين هي الحالقة , لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) .
وكل ما يستتبعه هذا النظام الحزبي ,من تنابز وتقاطع , وتدابر وبغضاء , يمقته الإسلام أشد المقت , ويحذر منه في كثير من الأحاديث والآيات , وتفصيل ذلك يطول و وكل حضراتكم به عليم.
حرية الرأي
وفرق أيها الإخوان بين الحزبية التي شعارها الخلاف والانقسام في الرأي والوجهة العامة وفي كل ما يتفرع منها , وبين حرية الآراء التي يبيحها الإسلام ويحض عليها , وبين تمحيص الأمور وبحث الشؤون والاختلاف فيما يعرض تحريا للحق , حتى إذا وضح نزل على حكمه الجميع سواء أكان ذلك اتباعا للأغلبية أو للإجماع , فلا تظهر الأمة إلا مجتمعة ولا يرى القادة إلا متفقين.
أيها الإخوان لقد آن الأوان أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية في مصر , وأن يستبدل به نظام تجتمع به الكلمة وتتوحد به جهود الأمة حول منهاج إسلامي صالح تتوافر على وضعه وإنفاذه القوى والجهود .
هذه نظرات يرى الإخوان المسلمون أن واجبهم الإسلامي أولا والوطني ثانيا والإنساني ثالثا يفرض عليهم فرضا لا مناص منه أن يجهروا بها وأن يعرضوها على الناس و في إيمان عميق وبرهان وثيق , معتقدين أن تحقيقها هو السبيل الوحيد لتدعيم النهضة على أفضل القواعد والأصول ,(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (لأنفال:24) .
خاتمة
وبعد أيها الإخوان , فهذه نظرات سيضحك لها كثير من الناس حين يستمعون إليها , وأولئك هم الذين يئسوا من أنفسهم وغفلوا عن تأييد الله لعباده المؤمنين , وجهلوا أن هذا الذي تجهرون به اليوم ليس شيئا جديدا ولكنه دعوة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهد في سبيلها وعمل لها أصحابه من بعده , والتي يجب على كل مسلم يؤمن بالله وبرسوله وكتابه أن يعمل لها كما عملوا ويجاهد في سبيلها كما جاهدوا.(/6)
أمّا أنتم أيها الإخوان فتؤمنون بذلك كله و وتعتقدون أن الله غالب على أمره , وان الله معكم على ذلك البرهان العلمي والتطور التاريخي والوضع الجغرافي والتأييد الرباني , وتجدون البشرى في قول رب العالمين :(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص:5) , واعلموا أن الله معكم , ولا أطيل عليكم في بيان واجبكم فإنكم لتعلمونه , فآمنوا وأخلصوا واعملوا وانتظروا ساعة الفوز وترقبوا وقت الانتصار .. و(للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ , بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:5) .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حسن البنا(/7)
إلى أمة المليار...!!!
مبروك الصيعري
تعيش أمتنا الإسلامية والعربية هذه الأيام مرحلة هي من أصعب مراحلها , بل في عصر هو من أردى عصورها .. ذل لم يشهد له مثيل , وخوف وهلع لم يسجله تاريخ , انهزام ونكسة , وتخاذل وترد في مهاو الردى وسبات الغفلة .. حتى أصبح كل مسلم ومسلمة يتساءل هل وصلت أمتنا إلى مرحلة الغثاء التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها بقوله (( يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تتداعى الأكلة على قصعتها ؟ قيل يا رسول الله , أفمن قلة يا رسول يومئذ ؟ قال لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل , يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب أعدائكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت )).. الحديث
أيها الحبيب .. إن ما أصابنا من ذلة وصغار وعار وشنار هو ثمن تدفعه الأمة إزاء صمتها وسكوتها .. هاهي أمتنا في كل صقع لها مأساة وفي كل بلد لها معاناة , مستباحة الحمى مهيضة الجناح , يعبث بها العابثون ويفسد فيها المفسدون , تنتهك حرماتها وتسرق مقدراتها , ويستولى على أرضها وتصادر خيراتها وتشتت شعوبها وهي لا تملك حولا ولا طولا ؟؟ فيا ترى ما الذي جرى لها حتى وهنت ووصلت إلى هذا المآل ؟ ما الذي جرى لأمة المليار حتى تغيب هذا الغياب المذهل , الذي أفقدها اتزانها ووجودها ؟؟
إن معرفة الداء هو سبيل لوصف الدواء ..
إن الله عز وجل عاقب ادم عليه السلام وحواء لمعصية عملاها وأرشدهم إلى سبيل الفلاح والنجاح فقال تعالى (( قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ..))الآية
إذن هذا هو السر ! وهذا هو موضع الداء , يوم تعرض الأمة عن كتاب ربها وسنة رسولها وتهجرهما قولا وعملا يستبدل الله قوتها ضعفا , وعزتها ذلا , واجتماعها تفرقا , إن الأمة التي لا تحتكم إلى كتاب الله ولا تحكمه في جميع شؤنها بل تطلب العدل والنصرة من غيره , ستعيش أمة متخلفة , سخيفة القيم , سخيفة المبادئ , سخيفة التعاليم لا مجد لها ولا رفعة ولا علو ولا نصر ولا عز .. فنصر الله عزيز لا يعطى لأمة قد تخلت عن منهجه القويم وشرعه السديد ..
آه.. كم ذاقت الأمة من البلاء وكم أصابها من الشدة بسبب إدبارها وإعراضها عن شرع الله ووحيه المنزل .. كم تقلبت في ألوان وألوان من الذل والهوان .. قلق دائم في جميع أركانها وتخبط وعدم اتزان يسيطر على كثير من أجزائها وصدق المولى حيث يقول (( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم )) الآية
إن السعادة كل السعادة والطمأنينة كل الطمأنينة إنما هي في تعظيم شرع الله واتباعه والاهتداء بهديه والشقاوة والتخبط كل التخبط إنما هو في الإعراض عن شرع الله والاستهانة به وهجره .. ألم يقل سبحانه وتعالى ( الذين امنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) فهم في أمن ودعة يوم يخاف الناس , فهم في أمن وسكون يوم تتنزل الرزايا والنكبات فلا تتحرك منهم أنملة ولا ترتعد لهم فريصة ولا يزل اللسان منهم بساقطة بل تزيدهم تلك الأقدار قوة وصلابة ورسوخا وثباتا على هذا الدين .. علموا وفقهوا أن هذا الدين صعب المراس وأنه لا يؤتى لكل أحد إلا بابتلاء وتمحيص ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) يقدر الله المصيبة والفتنة ليرى ثباتنا ويختبر إيماننا فيظهر الله صدق المؤمنين ونصحهم ويعلم ثباتهم ووضوحهم .. ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) وقال ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) وقال ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم ونعلم الصابرين ) الآيات ..
قال ابن القيم : يا ضعيف العزم الطريق شاق وطويل ناح فيه نوح , وذبح زكريا , واغتيل فيه يحيى , وذبح فيه عمر , وضرج عثمان بدمائه , وقتل علي , وجلدت ظهور الأئمة وحبسوا ..الخ
إن النقطة التي يصل فيها الظالم إلى أقسى درجات الظلم بل يصل فيها المتكبر إلى أعلى درجات الجبروت والغطرسة هي النقطة التي ينحدر منها بل يتحدر معها جميع ما يملك من قوة وصلفوت وجبروت , أخبرنا الله عز وجل بذلك في محكم تنزيله فقال الله عن قوم عاد الذين بلغوا أقوى قوة في ذلك الزمان على هذا الكوكب حتى " قالوا من أشد منا قوة " فكانت النتيجة ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد . التي لم يخلق مثلها في البلاد .... إلى قوله.. فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبا لمرصاد )الآية
هذه هي نتيجة الكبر وهذه هي نتيجة الغطرسة وإن ما تمارسه اليوم أمريكا من عنف وتطرف لا يولد إلا عنفا وتطرفا , تطرفا تعرفه جيدا , تطرفا أقض مضجعها , وأرق سهادها , ومزق كيانها , وزلزل أركانها , وحطم كبرياءها , وفتت أكبدها , وهد اقتصادها .. إن الكبر مهما طال أمده , وامتد زمنه , فإن له يوما نراه حقيرا ذليلا .. خاسئا قابعا في مكانه..(/1)
أبشري يا أمة الإسلام فإنما هي الظلمة التي يعقبها الفجر , فمهما احلولك الظلام فالفجر آت لا محالة , أبشري يا أمة الإسلام فإنما هو التمكين والاستخلاف في الأرض الذي يسبقه الابتلاء والتمحيص ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلو ا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله .. ألا إن نصر الله قريب)
لقد بدأ التمكين لأصحاب موسى في هذه الأرض وهم في أشد حالات الضعف , يذبح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم وفي المقابل كان فرعون في أعلى حالات الجبروت والطغيان والإفساد قال تعالى: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) الآيات ..
أمتي أبعد هذا يرجى نصر أم يطلب عدل من أمة قالت عزير ابن الله وأخرى تقول المسيح ابن الله .. ألم نسمع قول الباري عز وجل وهو ينادينا قائلا ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) الآية
فالزم يديك بحبل الله معتصما.................. فإنه الركن إن خانتك أركان(/2)
إلى أين تتجه الشخصية المسلمة
حسين بن سعيد الحسنية
لقد أخذت منا العولمة ما أخذت ، وسلبت منا الحضارة ما كنا نملكه من عادات وتقاليد تعاقبت إلينا بالوراثة ، وتسبب الانفتاح والتمدن في نسياننا لمهماتنا نحو ديننا ، بل وصل الأمر إلى أننا أصبحنا نُسأل عن عقيدتنا وهو الأمر الذي لا يجب أن نسأل عنه لإيماننا الفطري به ، ولا نقبل أي نقاش في شرائعنا وتقبلنا لأنها مغروسة بين أضلعنا بالفطرة ، الأمر الذي أذاب الشخصية الإسلامية في أكثر نفوس أهل الإسلام ، وجعلها تنساق خلف الشهوات والمغريات الدنيوية ، وحد من طموحاتها وأمنياتها التي قد ترقى بحاملها إلى مبلغ مناه ، وغاية مطلبه ، في خدمة دينه ووطنه وأمته بكل جد وإخلاص ، ولا غرابة في ذلك متى ما ضاعت الأوقات فيما لا ينفع ، وأهدرت الطاقات بارتكاب المعاصي واتباع الهوى والوصول بالطموحات لكل ما هو دون ، ومحاولة الفوز بكل ما هو دنيوي لا ينفع في الحياة الدنيا ولا الآخرة .
عندها نسأل قائلين إلى أين تتجه هذه الشخصية الإسلامية وهي التي تأخذ أحكامها من الكتاب و ألسنه ؟ وماذا تدرك عن أهميتها وهي من أوائل الأشياء التي يجب المحافظة عليها لأجل تلك الأهمية؟ وكيف هي في مواجهة النوازل المؤثرة والمتتالية ؟ وهل هي مطمئنة لما تقدمه لدينها وأمتها وأوطانها أم لا؟.أسئلة كثيرة توجه لهذه الشخصية الإسلامية التي أذابتها الحداثة ، وغاصت في بحور العولمة، وتاهت في دوّامة الانفتاح والتمدن.
لا أقول ذلك محاربة للحضارة النافعة ، والتقدم النزيه التي توافق جميعها الشرع ، و تتجه إلى كل ما هو سليم حسب منظار الشريعة لها بالعكس، بل أدعو إلى الشخصية الإسلامية أن توسع مداركها ، وتكثر من مصادرها فيما يخص التجديد و مسايرة العصر و الناس ، ولكن نحذر جميعا من الانزلاق الذي يؤدي إلى تهميش شخصيتنا الإسلامية ويسعى إلى تحجيمها ، ولكي نتجنب ذلك الانزلاق إلى تلك الزوابع و دوامتها ، ولكي نحاول الوصول بتلك الشخصية إلى بر الأمان ونحميها من السقوط في الهاوية المُرّة فإنني أوضح بعض الصور التي يجب أن تأخذ بها وتعمل على إقامتها تلك الشخصية ، علها تعي مقدار أهميتها ، وتدرك ما هو المطلوب منها وخاصة في زمن أثقلت كاهله المصائب ،و لعبت في ميادينه الفتن وهي
1ــ ( الإيمان ) ، فحق لنا أن نعود إلى الإيمان الحقيقي الناصع الذي لا يشوبه أي شائبة ، ولا يلوثه أي دخل ، مخلصين بذلك وجه الله تعالى ومتيقنين بذلك بأنه ماهية المسلم وعنوانه
2ــ ( طلب العلم ) وأولة العلم الشرعي المرصود في آيات الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه محمد صلى الله علية وسلم ، ثم تأتي بعده أنواع العلوم الأخرى التي تتقيد عندما ينفع الإنسان ويثري حياته العلمية و العملية ، و يزيد ثقافاته و اطلاعاته و السعي بها لخدمة الدين و أهله .
3ــ ( العمل ) الذي يوافق العلم إذ لا عمل دون علم إلا أن يكون عملا غير منظم لا أساس له و لا قيمة، كعمل أولئك العابثين في حياتهم ،الغير مدركين لأهمية نشاطاتهم متى ما كانت في طرق الخير و الصلاح التي توافق العلم المحمود
4ــ ( مجموعة الإنسان الأخلاقية ) التي تميّز كل شخص عن الأخر ، ومن خلالها يعبر الإنسان عن نفسه مباشرة دون أي ترجمات أو إيضاحات زائفة أو خادعة ، و أكاد اجزم بان أخلاق الشخص مع نفسه ثم مع الآخرين تعتبر عاملا مهما في تحديد الشخصية الإسلامية والتي تسعى دائما من خلال تلك المجموعة من الأخلاق الحميدة .
طبعاً فهي توضح صورة الإسلام الصحيح لمن لا يعرف عنه شيئاً خاصة وأنه دين الأخلاق والسمو والسماحة ، إلى غير ذلك من الصور المهمة والتي تفرض على كل إنسان مسلم يحملها الميل مع الحق والخير ، وتجبره على احترام دينه وقواعده الشرعية وأمته وأوطانه ، وتعينه على إظهار صورة الإسلام البيضاء الناصعة لكل من يحمل الحقد والكراهية لهذا الدين وأهله ، خاصة وأكررها كثيراً في زمن كثر فيه أعداء الأمة ، وانتشرت مخططاتهم لهدم هذه الشخصية الإسلامية المعطاءة.(/1)
إلى الأمة العربية
شعر: محمد إقبال
ترجمة: أبو الحسن الندوي
خصّص محمد إقبال قصيدة من أبدع قصائده للحديث مع الأمة العربية، ليسجّل فيها فضلها وسبقها، في حمل الرسالة الإسلامية، والأخذ بيد الإنسانية، وافتتاحها لتاريخ جديد وفجر سعيد، وسرعان ما ينتقل إلى موضوعه الحبيب الأثير، فيذكر الشخصية الحبيبة، التي كانت على يدها نهضة هذه الأمة وسعادتها، بل نهضة الإنسانية وسعادتها، فيرسل، على عادته، النفس على سجيتها، ويعطي القلب والعاطفة زمامه، ويسترسل في الحديث، فيقول:
"أيتها الأمة العربية، التي كتب الله لباديتها وصحرائها الخلود.
من الذي سمع العالم منه نداء (لا قيصر ولا كسرى) لأول مرة في التاريخ(1)؟
ومن الذي أكرمه الله بالسبق إلى قراءة القرآن؟
من الذي أطلعه الله على سر التوحيد، فنادى بأعلى صوته: (لا إله إلا الله)؟
وما هي البقعة التي اشتعل فيها هذا السراج الذي أضاء به العالم؟
هل العلم والحكمة إلا فتات مائدتكم؟
وهل قوله تعالى: (فأصبحتم بنعمته إخوانا) إلا وصف حالكم؟
إن نفس ذلك الأمّي أعاد على هذه الصحراء الخصب والنموّ، فأنبتت الأزهار والرياحين.
إنّ الحرية نشأت في أحضانه.
وإن حاضر الشعوب ليس إلا وليد أمسه.
إن الجسد البشري كان بلا قلب وروح، فأعطاه القلب والروح، وكشف اللثام عن جمال وجهه.
إنه حطّم كل صنم قديم.
وأفاض الحياة على غصن ذاوٍ من أغصان العلوم والمدنية.
وأنجب أبطالاً وقادة مؤمنين.
أقاموا المعارك الفاصلة بين الحق والباطل.
فتارة يدوّي الأذان في ساحة الحرب.
وتارة تتحلّى الآذان بقراءة (الصافات)(2) بين صليل السيوف وصهيل الخيول.
إن سيف البطل المغوار، كصلاح الدين الأيوبي.
ونظرة الزاهد الأوّاب، كأبي يزيد البسطامي.
مفتاحان لكنوز الدنيا والآخرة.
إن العقل والقلب يجتمعان تحت لوائه.
وإن ذكر جلال الدين الرومي، وفخر الدين الرازي يلتجئان تحت ردائه.
إن العلم، والحكمة، والشرع، والدين، والملك، والإدارة، ولوعة القلوب مقتبسة من نوره.
وليست (الحمراء) في غرناطة، وقصر التاج في أكره(3)، اللذان خضع لجمالهما، وجلالهما كبار الفنانين الناقدين، وعظماء العبّاد الزاهدين، ليس إلا صدقة من صدقات بعثته، ومظهراً من مظاهر عبقرية أمته.
إن بعض ظاهره تجلّى في سموّ ذوق أمته، وسلامة تفكيرها، وجمال فنّها.
أما باطنه، فقد تقاصر عن إدراكه كبار العارفين.
لقد كان الإنسان حفنة من تراب، وقبضة من أشلاء وعظام، لا يدري ما الكتاب، ولا الإيمان، فعرّفه بالعلم والإيمان، وأذاقه لذة العبادة والإحسان، فجزاه الله عن الإنسانية أفضل الجزاء.
يذكّر إقبال الأمة العربية عهدها القديم قبل البعثة، حين كان نظام العرب فوضى، يعيشون كالبهائم التي لا همّ لها في الحياة إلا الأكل والشرب، وكان مثلهم كمثل السيف المفلول يتراءى للناظر لامعاً قاطعاً، ولكن ليست له ظُبة فهو لا ينفع ولا ينتفع به، فيقول الشاعر:
"أيها العرب(4) قد منّ الله عليكم، إذ جعلكم مثل السيف البتّار أو أحدّ منه.
وكنتم ترعون الإبل في الصحراء، تركبون عليها، وتظعنون بها.
ثم انعكست الآية، فسخر الله لكم المقادير، فضلاً عن الإبل، فأصبحتم من مالكي أعنّتها.
فلو أقسمتم على الله لأبرّكم.
وهنالك دوّت تكبيراتكم وصلواتكم.
وزمزمت جلبة حروبكم ومغازيكم، بين الخافقين.
فارتجّ بها ما بين الشرق والغرب.
فما أحسن تلك المغامرات.
وما أجمل تلك الغزوات".
وبعدما يمدحهم الشاعر، ويذكر حماستهم الإسلامية، وغضبتهم المضرية في سبيل الله ورسوله، ويُبدي فرحه وسروره، يقف برهة، ويملكه الحزن، والتألم بما يرى من خمود العرب، بعد النشاط، والإحجام بعد الإقدام، والفُرقة بعد الوحدة، والعبودية بعد السيادة، والأتّباع بعد القيادة، ويُقبل إليهم مخاطباً معاتباً، ويقول:
"أسفاً على هذا الخمود والجمود.
أيها العرب! ألا ترون إلى الأمم الأخرى، كيف تقدمت وسبقت؟
أما أنتم، فما قدرتم قدر هذه الصحراء التي نشأتم فيها.
وهذه الحرية التي ورثتموها.
كنتم أمة واحدة، أمة الإسلام، فصرتم اليوم أمماً.
وكنتم حزباً واحداً، حزب الله، فأصبحتم أحزاباً.
لقد فرّقتم جمعكم، ومزقتم شملكم، وانقسمتم على أنفسكم".
"اعلموا أيها السادة! أن من ثار على شخصيته وكرامته.
وفقد الثقة بنفسه.
مات ومُحي من الوجود.
ومن فرّ من معسكره وانحاز إلى صفوف الأعداء.
وتطفّل على مائدتهم.
عوقب بالهوان والشقاء، والطرد والجلاء.
ألا إنه لم يجن عدو على عدو مثل ما جنيتم أنتم على أنفسكم.
ولم يسئ أحد إساءتكم إلى أمتكم.
إنكم آذيتم روح رسول الله صلى الله عليه وسلم بصنيعكم
فهي متألمة متوجعة شاكية مستغيثة".
الشاعر عارف بمكائد الإفرنج، وما لديهم من سهام مسمومة، وحبائل منصوبة، وهو شديد المعرفة بهم، قد عاش فيهم ودرسهم وخبرهم، فهو يتألم، إذ يرى في الأمة العربية من يُحسن الظن بهم، ويعتمد عليهم في بناء صرح الحياة، وفض المشكلات، فيرسل صيحته وينذرهم من المصير المظلم المؤلم، ويقول:(/1)
"مهلاً أيها الغافلون!
إياكم والركون إلى الإفرنج، والاعتماد عليهم.
ارفعوا رؤوسكم.
وانظروا إلى الفتن الكامنة في مطاوي ثيابهم.
ألا إنه لا حيلة لكم ولا وزر إلا أن تطردوهم عن منهلكم.
وتذودوهم عن حوضكم.
إن حكمة الغرب قد أسرت الأمم، وتركتها سليبة حزينة، لا تملك شيئاً.
إنها مزقت وحدة العرب، واقتسمت تراثهم.
إن العرب لما وقعوا في حبائلهم.
تنكّر لهم كل شيء.
وقسا عليهم هذا الكون.
ولم يجدوا من يرثي لهم ويرفق بهم.
وضاقت عليهم الأرض بما رحبت.
وضاقت عليهم أنفسهم"..
وبعدما يفيض الشاعر قي بيان شرور الإفرنج ومكائدهم، ويحذر العرب من الانسياق إليهم، والوقوع في شركهم، يُقبل إلى تشجيع العرب والترفيه عنهم، ويقول:
"إن الله قد رزقكم البصيرة النافذة.
ولا تزال فيكم الشرارة كامنة.
فقوموا أيها العرب!
وردّوا فيكم روح عمر بن الخطاب مرة أخرى.
إن منبع القوة ومصدرها هو الدين.
منه يستمد المؤمن العزم والإخلاص واليقين.
وما دامت ضمائركم أمينة للسرّ الإلهي.
فيا عُمّار البادية!
أنتم الحراس للدين.
وأمناء الله في العالمين.
إن غريزتكم العربية الإسلامية ميزان للخير والشر.
وأنتم ورثة الأرض.
إذا تألق نجمكم في آفاق السماء.
أفَلَت نجوم الآخرين.
وطُويَ بساطهم.
لن تسعكم الصحراء والفيافي.
فاضربوا خيمتكم في وجودكم الذي يسع الآفاق.
كونوا أسرع من العاصفة.
وأقوى من السيل.
حتى تسرع ركائبكم في مضمار الحياة وتسبق الريح".
"ليت شعري!
من خلّفكم في الحياة؟!
إن العصر الحاضر وليد نشاطكم وكفاحكم.
وصنيع جهادكم ودعوتكم.
وما زلتم سادته وولاته حتى أفلت زمامه منكم، فتبناه الغرب وامتلكه، ومن ذلك اليوم فقدَ هذا العصر، وهذا المجتمع الإنساني، شرفه وكرامته، وأصبح تحت ولايته منافقاً خليعاً، ثائراً على الدين".
فيا رجل البادية! ويا سيد الصحراء!
عُدْ إلى قوتك وعزتك.
وامتلكْ ناصية الأيام.
وخذ عنان التاريخ.
وقُدْ قافلة البشرية إلى الغاية المثلى".
وهنا نبذة أخرى من أبياته يشكو فيها إلى روح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضياع الأمة الإسلامية، وانطفاء شعلة الحياة والإيمان في نفوس العرب، ويشكو وحدته وغربته في هذا المجتمع الإسلامي البارد الجامد، ويناجيه مناجاة من قام بين يديه، وأُذن له في الكلام، يقول:
"لقد تشتّت شمل أمتك يا محمد! يا رسول الله.
فإلى أين يلجأ المسلم الحزين؟
وإلى من يأوي؟
لقد سكن بحر العرب المضطرب المائج.
وفقدت الأمة العربية ذلك اللوع وذلك القلق الذي عُرفت به.
فإلى من أشكو ألمي؟
وأين أجد من يساعدني على آلامي وأحزاني؟
وماذا يفعل حادي أمتك؟
وكيف يقطع الطريق الشاسع، ويطوي السفر البعيد، في هذه الجبال والمهامه.
وقد ضل سبيله.
وفقد زاده.
وانقطع عن الركب.
بالله! قل لي: ماذا يصنع حامل دعوتك؟
المؤمن برسالتك؟
وأين يجد زملاءه ورفقته؟"
ويؤلم الشاعر، أن يرى العرب لا يزالون ينظرون إلى الأوروبيين الإنجليز والأمريكيين، كأصدقاء مخلصين وأعوان منجدين، يحلّون له مشكلة اللاجئين، ويردون إليهم أرض فلسطين، مع أنهم لا يزالون تحت سيطرة اليهود ونفوذهم السياسي والاقتصادي والصحافي، يقول:
"أنا أعلم جيداً يا إخواني العرب!
أن النار التي شغلت الزمان وبهرت التاريخ.
لم تزل ولا تزال تشتعل في وجودكم.
صدقوا أيها السادة!
إنه لا دواء لكم في جنيف ولا في لندن.
لأنكم تعلمون أن اليهود لا يزالون يتحكمون في سياسة أوروبا، ولا يزالون يملكون زمامها.
إن الأمم لا تذوق طعم الحرية والاستقلال حتى تربّ فيها الشخصية والاعتداد بالنفس، وتعرف لذة الظهور".
وأخيراً يقول كلمة صريحة مركزة بليغة مع تلطف واعتذار:
"معذرة يا عظماء العرب!
لقد أراد هذا الهندي(5) أن يخاطبكم ويقول لكم كلمة صريحة.
فلا تقولوا أيها الكرام: هندي؟ ونصيحة للعرب؟!
إنكم كنتم يا معشر العرب أسبق الأمم إلى معرفة حقيقة هذا الدين.
وإنه لا يتم الاتصال بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا بالانقطاع عن "أبي لهب".
وإنه لا يصح الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت.
كذلك لا تتم الفكرة الإسلامية إلا بإنكار القوميات والوطنيات، والفلسفات المادية.
إن العالم العربي، أيها السادة! لا يتكون ولا يظهر إلى الوجود بالثغور والحدود.
وإنما يقوم على أساس هذا الدين الإسلامي.
وعلى الصلة بمحمد صلى الله عليه وسلم".
الهوامش
(1) يشير إلى الحديث المشهور: "إذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده؟"
(2) يشير إلى سورة (الصافات).
(3) يعني (تاج محل) الذي بناه الإمبراطور المغولي (شاه جهان) ويعتبر آية في الفن المعماري، ويأتي إليه الجوّابون والزائرون من أقاصي البلاد.
(4) من ترجمة الأستاذ سعيد الندوي بتوجيه من الأستاذ أبي الحسن الندوي، وقد تناولها بالحذف والزيادة.
(5) لا يغربنّ عن البال أن محمد إقبال توفي قبل ولادة باكستان بعشر سنوات، قبل أن تكون هناك جنسية باكستانية.(/2)
إلى التطبيع أيها الدعاة!
د. علي بن عمر بادحدح 6/9/1425
20/10/2004
"التطبيع" مصطلح معاصر له في الواقع دلالة مكروهة مرفوضة، فالتطبيع اليوم جوهر السلام وشعاره، وقاعدته وأساسه، أما مقتضيات ومتطلباته فحقيقتها الهوان السياسي، والانسلاخ الثقافي، والاختراق الأمني والارتهان الاقتصادي، والمراد ببساطة ووضوح أن نعتبر الأعداء أصدقاء، وننسى تاريخهم العدواني، ونغض الطرف عن واقعهم الإجرامي، ولأجل ذلك تغير مناهجنا، ونهجن إعلامنا، ونبدل مصطلحاتنا، لئلا يكون هناك ما يثير حفيظتهم أو يكشف حقيقتهم، ولمزيد من إثبات إنهاء العداء فعلينا أن نفتح لهم أسواقنا ليتاجروا، وأرضنا ليمتلكوا، ومصانعنا لينتجوا، وحقولنا ليزرعوا؛ بل ومدارسنا ومعاهدنا ليعلِّموا ويتعلموا، وأخيرًا ليمسخوا هويتنا، ويتحكموا في رقابنا.
والحقيقة أن الكلمة في أصل دلالتها اللغوية تعني جعل الأمور طبيعية، أي لا غرابة فيها ولا اعتراض عليها، ولا خجل ولا نفور منها، فكونها طبيعية يدل على أنها متوقعة ومألوفة ومقبولة، ويكون الأمر طبيعيًا إذ جاء متوافقًا مع الأصول الثابتة والحقائق الراسخة، ومتجانسًا مع الجذور التاريخية والبيئة الواقعية، مستندًا إلى المعرفة العلمية والممارسة العملية؛ فالأستاذ الجامعي يتحدث بلغة تعليمية ويكتب بمنهجية علمية وهذا طبيعي ولا غرابة فيه، ومثل ذلك التاجر إذا تحدث بلغة الأرقام والأرباح والخسائر.. وهكذا فإن الشيء من معدنه لا يستغرب.
وهنا تتضح لنا المسألة، فهناك أمور غريبة مرفوضة يراد أن تصبح طبيعية، تحت شعار السلام ودعوة العولمة وعصر القرية الكونية، وفي المقابل هناك أمور الأصل فيها أنها طبيعية مقبولة يراد لها أن تكون شاذة مرفوضة تحت شعار (العنصرية)، ولافتة (معاداة السامية)، وعلى خلفية الأصولية، وصناعة التطرف، ودعاية الإرهاب.
إن الشق الثاني أخطر من الأول، ووسائل الوصول إليه أكثر، وصور تسربه وتشربه أظهر. نعم.. إنه من الخطر أن تظهر في مجتمعات المسلمين وديارهم بعض تلك المظاهر؛ فهذا يخجل من انتسابه إلى الإسلام وذاك يخفي التزامه به، والثالث يخشى من الدعوة إليه، والرابع يتراجع عن الدفاع عنه، وتصبح تلك الأمور وغيرها غريبة وتحتاج إلى مقدمات ومبررات.
إن موجة الإرهاب بشقيه: اليهودي الصهيوني، واليميني النصراني بما له من قوة إعلامية وهيمنة سياسية، واختراقات أمنية يعمل جاهدًا على قلب الحقائق، وتغيير الثوابت، وإنشاء أنماط فكرية واجتماعية ضاغطة في الاتجاه المعاكس للأوضاع الطبيعية في المجتمعات الإسلامية.
ومن هنا فإن من واجب الدعاة أن يواجهوا هذه الحملات ويتصدوا لها، وأن يعملوا في التطبيع الصحيح لكل ما هو من أصول الإسلام وطبيعة مجتمعه، وأن تكون حقائق الدعوة وبرامجها وأنشطتها وما يتصل بذلك من ثقافة فكرية وسلوكيات اجتماعية أن يكون كل ذلك طبيعيًا مألوفًا مقبولاً.
لماذا لا يسعى الدعاة في كل البلاد الإسلامية إلى أن يكون من الطبيعي امتلاء المساجد بالمصلين، وانتشار حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وكثرة الدروس والمحاضرات، ووجود البنوك الإسلامية، وتنوع المؤسسات والمنتجات الإعلامية الإسلامية، وقيام المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية، وتأسيس الجمعيات والمنظمات الإسلامية، وتأسيس المؤسسات والتجمعات السياسية الإسلامية، وترويج البرامج الترفيهية والسياحية الإسلامية، وغير ذلك من جوانب الحياة المختلفة التي تنضوي تحت منهج الإسلام الشامل الكامل؟!
إنه من غير الطبيعي أن يكون حجاب المرأة المسلمة غريبًا في ديار الإسلام، فضلاً عن أن يكون مُحارَبًا، وكذلك من المؤسف المحزن أن يسمح في كثير من الدول الإسلامية بإنشاء أحزاب علمانية أو اشتراكية وتحظر الإسلامية، ومن غير المقبول ولا الطبيعي أن تُمنع المدارس الإسلامية أو يُضيّق عليها بينما المدارس الأجنبية على اختلاف أشكالها تُفتح لها الأبواب وتُيسر لها الأسباب. ومن الغرائب، ومن العجائب أن تمتلئ شاشات الفضائيات بما يندى له الجبين من العري والفسق وإثارة الشهوات ثم تُمنع المذيعة إذا تحجبت، وهذه مجرد أمثلة، والواقع يحتاج إلى انتباه؛ لأن انحصار الدعوة في ميادين محدودة وفي قوالب جامدة وعلى فئات قليلة يزيد من عزلتها، ويسهم في إبعاد المجتمع عن دينه وثقافته وتاريخه، بينما يتم التطبيع المعاكس.
إن مما يساعد على تحقيق هذا الهدف أمور عدة:
أولها: إثبات صواب هذا الرأي بالمقارنة بالآخرين؛ فاليهود يعلنون أن دولتهم دينية لا علمانية ويتصدون لكل من يمس اليهود أو اليهودية في شرق الأرض وغربها مما لهم به من صلة أو ليس لهم به من صلة بحجة معاداة السامية، ولا يقال إن هذا غريب أو مستنكر.(/1)
وثانيها: إن الحقائق تكشفت بعد ما عُرِف بأحداث سبتمبر وزالت الأقنعة وأصبح العدوان والظلم واضحًا لا تخطئه عين ولا ينكره عقل، ومن ثم؛ فإذا كان هذا العدوان والحملات الظالمة كلها لأجل ديننا واعتزازنا به ودعوتنا إليه؛ فلندرك أن ذلك هو سر قوتنا وأساس تميزنا ونقطة انطلاقنا.
وثالثها: إن الأمة جربت كثيرًا من الخيارات التي جرّت عليها الوبال، وتجلى لها أن خيارها الأمثل عودتها إلى ربها واستمساكها بدينها؛ فلنسع إذًا إلى إزالة العوائق التي تحول دون ذلك، ولعل أمثل وأنجع ما يفيد في ذلك هو تطبيع الدعوة في الأمة؛ فهذا يعيدها لهويتها ويدنيها من وحدتها ويزيد من قوتها.
فهيا إلى التطبيع أيها الدعاة..(/2)
إلى الحق
فؤاد المنشاوي
إلى الحق سيروا إلى الله هبوا
فإن سرتم في طريق سقيم
لعم الإخاء وطاب iiالأنام
فيا إخوة الإسلام iiمالكم
لقد عم الفساد وكثر iiالنفاق
لقد أنكروا رب كل iiالورى ... شباب الإله دعاة iiالإله
وقمتم تجاه الدين دعاة
ودحر كل طريق iiسواه
ألم تستفيقوا لدحر iiالطغاة
وسبح الناس كل في iiهواه
خالق العبد يرى iiولهزاه(/1)
إلى الدكتورعبد العزيز الرنتيسي
أنتَ الشهيدُ الحيّ
بقلم د.أسامة الأحمد
فِداً لعينكَ عينُ كلِّ خَؤونِ باع الترابَ ، وشجْرةَ اللّيمونِ
أو شئتَ نفدي منكَ ظفراً واحداً بوزير عهرٍ ، أو مديرِ سجونِ
كم بين قومي من عميلٍ فاجرٍ يهوي يُقبِّلُ "جَزمةَ" الصّهيوني!!
لكنْ وربِّ الصابرينَ لنا الغدُ ولنا شعاعُ الشمسِ منذُ قرونِ
ولنا تلالُ القدسِ ، شاؤوا أم أَبوْا ولنا ظلالُ " التّين و الزيتونِ "
قسماً ستغدو القدسُ أروعَ قصّةٍ في الحُبِّ تُنسي قصّةَ المجنونِ!!
كم في ضفائرها الكِرامِ تعلَّقَتْ أوتارُ قلبٍ ، أو دموعُ جفونِ!
عبدَ العزيزِ ! وأنتَ فجرٌ ساطعٌ يجلو ظلامَ فؤادِنا المحزونِ
كم في حروفكَ من هديرٍ ثائرٍ! كم في سكوتكَ من جلالِ سُكونِ!
أنتَ الشهيدُ الحيُّ في وجداننا أتُرى فُتنتَ بشِعريَ المفتونِ ؟!
إنْ شئتَ فارْقُدْ في حنايا أضلعي أو شئتَ فاسهرْ في سوادِ عيوني(/1)
إلى الزوجة المسلمة .. كيف تعاملين ... أمك الثانية؟
إلى أختي الزوجة المسلمة حديثة الزواج أوجه هذه الأسئلة:
ـ هل تحبين زوجك؟
ـ هل تحبين أم زوجك؟
ـ هل تعتبرينها مثل والدتك؟
ـ هل تعرفين أن أم زوجك مفتاح من مفاتيح سعادتك الزوجية؟
في هذا العصر وفي مجتمعنا تأتي الزوجة الجديدة إلى بيت الزوجية وهي ترفع شعارات تحرير المرأة، وتتبنى نظرة مشوهة إلى الزواج فتراه مجرد إجراء اجتماعي يكمل صورة الإنسان ولا يترتب عليه أية واجبات، ولا تعلم هذه الزوجة الحديثة أن الله يمهل ولا يهمل وأن التاريخ سيعيد نفسه إن رزقت بالولد، وأن المثل الشعبي القائل 'مصيرك يا زوجة أن تصبحي حماة' هو مثل بليغ في الواقع الاجتماعي.
وفي الحديث الشريف: [[البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت, افعل ما شئت فكما تدين تدان]].
ولأهمية هذا الموضوع وتأثيره على حياتك الزوجية إليك هذه الخطوات العريضة للتعامل مع أم زوجك:
[1] تجنبي الشكوى لزوجك عما فعلته أمه:
لأن هذه معادلة صعبة بالنسبة للزوج فيقف حائرًا بين طرفين هامين في حياته أمه وزوجته، لذا احرصي على إسماعه كل ما يبهجه ويثير السرور في نفسه، ويقلل من متاعبه إذ إن الشكوى قد تولد نتائج غير حميدة.
[2] تكلمي عنها بخير:
سواء أمامها أو بعيدًا عنها، أمام زوجها وأقاربها أم أمام الغرباء لأن ذلك يشعر الحماة أن هذه الزوجة تحبها بصدق وإخلاص.
[3] زيارتها وتفقد أحوالها:
إن كانت تسكن في منزل آخر، احترامًا لها وتقربًا منها عندها ستكونين لديها أفضل من بناتها.
[4] احترمي خصوصية العلاقة بين زوجك ووالدته:
يعني اتركي لها مع زوجك مساحة, فإذا همس زوجك في أذن أمه أو العكس فلا تحرصي على معرفة ماذا قال لها، فمن الوقار وحسن الخلق أن تدركي أن الأمر لا يعنيك.
[5] اغرسي في نفوس أطفالك محبة جدتهم وجدهم:
بأن يقدموا للجدة فروض التوقير والتقدير، ومساعدتها إن احتاجت المساعدة، وتقديم الهدايا لها وغير ذلك.
[6] دللي حماتك وامنحيها الأولوية:
فالحماة امرأة كبيرة السن سهرت وتعبت وبذلت وقدمت الكثير لأبنائها، لذلك من الضروري أن تشعر أن لمطالبها القابلة للتنفيذ الأولوية.
[7] قابلي حماتك بوجه طلق وابتسامة صادقة:
فالابتسامة لها مفعول السحر، وهي تزرع المودة في القلوب وتزيل جليد العلاقات المتوترة.
والزوجة الواعية تستطيع أن تتعلم من حماتها إذا أحسنت معاملتها، ولكنها تخسر مستقبلها أو راحتها إذا عاملتها معاملة ندية أو فظة، أو عدائية، فالإسلام يأمرنا أن نحسن معاملة الكبير.
ـ وأخيرًا تذكري أنه كلما كان إيمانك عميقًا وصادقا كان تعاملك مع والدة زوجك في ضوء هذا الإيمان.
1ـ أختي الغالية:
حلول أبعثها لك عبر السطور إذا واجهتك مشكلة مع أم زوجك:
1- اعملي الخير لوجه الله لأنك الفائزة, وناكر الجميل هو المسيء الخاسر.
2- انتبهي إلى مقومات فن اكتساب الآخرين وفي مقدمتها نبل الشخصية وحسن الخلق.
3- عاملي أم زوجك بالحسنى وبتقوى الله، فتقوى الله تفتح للإنسان الأبواب المغلقة يقول تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}.
4- ولاستقرار حياتك الأسرية لا تنسي الفضيلة المنسية وهو فضيلة الصبر، وغالبًا ما يكون الصبر مقترنًا بالإيمان في كتاب الله كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]
5- فاصبري أيتها الزوجة على أم زوجك لتنالي أعلى الدرجات يقول تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
6- كوني هادئة تصنعي المعجزات:
هناك مثل قديم يقول: 'إن نقطة من العسل تصيد من الذباب أكثر مما يصيد برميل من العلقم 'وكذلك الحال مع البشر.
والحقيقة إن العنف يولد العنف، والغضب يولد الغضب، أما الهدوء فإنه يطفئ الغضب كما يطفئ الماء النار، فكوني هادئة في تعاملك مع أم زوجك، واستخدمي لباقتك وتكلمي بعبارات رزينة وودية فهذا هو الطرق لكسب حبها ونيل إعجابها.
ولي وقفة قصيرة مع الأم الكبيرة العظيمة [الحماة]:
انظري إلى زوجة الابن نظرتك إلى ابنة من بناتك، ساقتها الأقدار لتكون زوجة لابنك وأصبحت فردًا من أفراد الأسرة.
وعليك أن تضحي ولا تتدخلي في الخصوصيات صنيعك مع ابنتك، فكما أنك تريدين لابنتك أن تعيش حياتها الزوجية بكل جوانبها هانئة سعيدة مستقلة راضية، لا ينغص عيشها تدخل مزعج في خصوصياتها، كذلك تحبين لزوجة ابنك ما تحبين لابنتك.
ـ ولو أن كلاً من الحماة وزوجة الابن أقرت بحق كل منهما في الحياة كما رسمه الإسلام، ووقفت عند الحد الذي أمرها بالوقوف عنده، لتلاشت تلك العلاوة التقليدية بين الحماة وزوجة الابن.
أيتها الزوجة المسلمة المنشأة على قيم الإسلام وأخلاقه لو أنك نظرت إلى حماتك نظرتك إلى أمك لما حدث أي خلاف بينكما، ولن تكون العلاقة بينكما إلا كل ود وحب واحترام.(/1)
وتذكري أنك فارقت ديار والديك إلى دار الزوجية فلا بد أن تتفهمي وتتأقلمي مع حياتك الجديدة، وتتفهمي زوجك وعائلة زوجك لاستقرار حياتك الأسرية, هذا في الدنيا ولتنالي رضى الله ـ تعالى ـ في الآخرة ولا تنسي القاعدة الأساسية في علاقتك بأم زوجك:
المثل الشعبي: 'مصيرك يا زوجة الابن أن تصبحي حماة'.
والحديث الشريف: [[البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت, افعل ما شئت فكما تدين تدان]](/2)
إلى الشباب قولوها: لبيك اللهم لبيك
مفكرة الإسلام: أمواج من البشر , ملايين الأصوات , جموع من الكتل البشرية تموج يمنة ويسرة , تعبر الشوارع والطرقات , أرض كانت بالأمس ولمدة ثلاثمائة وأربعة وستون يوما صحراء موحلة قاحلة فإذا بها في يوم واحد تموج بالآلاف بل بالملايين تقارب الثلاثة تزيد أو تنقص , ثم هي بعد ذلك تعود كما كانت , يوم يحي الله تعالى فيه بقعة من الأرض تهفو القلوب إليها طوال أيام العام ولكنه الله تعالى جعل لها أعلى القيم في حياة المسلم يوما واحدا فكان هو اليوم فيا لله ما أعظمه من إله يرفع ويضع , بيده الأمر كله , وإليه يرجع الأمر كله.
عزيزي الشاب:
سألته فأخبرني , سألته هل تحرص في هذه الأيام على رؤية الجموع الغفيرة تجوب الأراضي المقدسة تؤدي المناسك وتنتقل من موضع لآخر ؟ , هل تتتبع أخبارهم وتعرف تفاصيل رحلتهم المقدسة تلك ؟ , هل تسير في الطرقات وقلبك ينبض بـ لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك ؟ هل تشعر وأنت تسير في هذه الطرقات برغبة ملحة أن تجهر بالتكبير لله رب العالمين وأن تدعو الجموع الغفيرة في كل بلاد المسلمين إلى أن يصنعوا من المشهد المرتقب في أرض عرفات المقدسة مشهدا متكررا في كل بقاع الإسلام في دولتك ومدينتك وحيك وسكنك ومنزلك ؟
ترى كم من الشباب سيجيبني بالنفي القاطع!!! وكم منهم سيرى في سؤالي خيالا حالما أو مشهدا لا معنى له!!! ولكن في المقابل كم منهم سيشاركني حلمي ويشعر بمشهد قلبي وأنا أرجو من الناس كلهم أن يستجيبوا وتتجاوب أرجاء أجسادهم وأرواحهم إلى هذا النداء الجليل لبيك اللهم لبيك فقد اكتفينا من نداءات النفس المؤذية لبيك أيتها النفس الفاجرة لبيك , لبيك أيتها النفس المبعدة لنا عن جناب الله تعالى ومقام المولي القدير الرحيم , كفانا: لبيك أيتها النفس في كل ما تأمرين وتشيرين , فنحن عبيد أهواءك وجنود أوامرك ورغباتك , وأنت تقوديننا إلى الهاوية ولا شك , حقا لقد اكتفيت ولا بد أن فيكم الكثير من أمثالي ممن اكتفوا من هذا الخطاب الداخلي العنيف يتملك علينا جوانحنا وجوارحنا لا لبيك أيتها النفس ولا سعديك ولا إجابة لك بعد اليوم فالنداء الآن وإلى آخر المقام في هذه الدار بإذن رب العباد جل وعلا ' لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ' نداءا واحدا لا تردد فيه بعد اليوم ولا استثناء وتوبة صادقة تعلنها قلوبنا بلا نظر إلى ضعفنا أو جهلنا أو غيرها من المعوقات والأوهام الشيطانية التي تفسد بها أنفسنا علينا لحظات السعادة في الصدق والإنابة والوقوف بين يدي الرب الجليل عبيدا ضعافا صغارا في أقوى درجات الفقر والحاجة والخضوع والذل لا ملجأ لنا منه إلا إليه سبحانه , وها نحن بين يديك ربنا فهلا تقبلنا على ما فينا من ضعف وعجز وفقر وذل وإساءة وتجاوز , ها نحن يا مولانا عبيدك ملك أمرك , ووالله ما تجرأنا إلى مخالفة مقامك إلا لجهلنا وغبائنا وغفلتنا , فأنقذنا من أسر أنفسنا وشهواتنا وأوهامنا وحررنا من عبوديتنا لغيرك إنك أنت سبحانك نعم المسؤول ونعم المرجو منه الإجابة.
هيا بنا أعزائي الشباب دعونا نحيي هذه الأيام الطيبة المباركة بالتكبير والتهليل والنداء المبارك الطيب نصرخ به من أعماق قلوبنا وفي أعلى وتيرة أصواتنا ' لبيك اللهم لبيك ' حتى تبح الأصوات ويخرج من القلوب كل نداء آخر مبدؤه لبيك وختامه ما دون الله تبارك وتعالى إنه سبحانه ولا غيره هو المستحق الأوحد لهذا النداء فدعونا نوحده في داخل ذواتنا لبيك اللهم لبيك لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك.
أتعلم عزيزي الشاب أن هذه الأيام العشر كانت في عهد النبي صلي الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله تعالى ومن بعدهم كانت أياما لا تختص بفضيلتها وبث الحياة فيها الأراضي المقدسة فقط بل كانت فرصة لحياة أمة الإسلام كلها , كانت الجموع تخرج إلى الاسواق والطرقات شبابا ورجالا وأطفالا الجميع يكبرون ويهللون ويملؤون الأرض بهذا التكبير يرج الأرض ويهز الجبال ويملأ القلوب بالنداء المحبب إلى القلوب المؤمنة ' لبيك اللهم لبيك ' بالله عليك استحلفتك إلا جربت هذا الأمر قله وأنت مع نفسك وأنت جالس مع الآخرين ' لبيك اللهم لبيك ' وارفع به صوتك مرات ومرات تلو بعضها الواحدة تلو الأخرى وأخبرني عن حال هذا القلب بعد تكرار النداء بصوت مرتفع ألم تشعر به يطير ويرفرف عاليا إذا أجبتني بالنفي أجبتك إرفع صوتك أكثر اصرخ بها خاطب بها خارج نفسك وهي لا بد ستدخل إلى هذه النفس وعلى قدر ما تعودت من الاستجابة الواقعية على مدار الأيام لنداء لبيك اللهم لبيك على قدر ما ستستشعر هذا المعنى الجليل .(/1)
عزيزي الشاب شاركني ولا تتوقف حتى لو لم تشاركني الرأي والاقتناع بما أفعل فماذا ستخسر ؟ دقائق وحسنات هلم وقلها بأعلى ما تملك من صوت وبأصدق ما تحمل من معاني وبأقوى ما تحوي من مشاعر قلها ولا تخجل ولا تفكر ولا تسل نفسك قلها فقط واحملها إلى داخلك بقوة صوتك وصدق مشاعرك أغمض عينيك وتخيل نفسك تقف ها هناك بين ملايين الجموع كلهم يبكي يتأوه يتألم من ذنوبه يشتكي من عثراته يرجو غفران ذنبه يشعر بفقره الكامل يخشى أن تمر الأيام ويرجع إلى بلده وبيته خائبا خاسرا لم ينل مما ارتحل في سبيله شيئا ها هم حولك هل تراهم هل تشعر بهم أين أنت فيهم وماذا تفعل؟ , قف لا تنشغل بهم ابحث عن نفسك هل تجدها؟ ها هي هناك إنها تائهة لا تدرى أين تذهب أسرع خذ بيدها واحملها إلى باريها وربها وموجدها وخالقها احملها فهي عاجزة ضعيفة ثم عد معي واصرخ بأعلى ما لديك من صوت ' لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ' ثم أجبني بعد ذلك أما زال هذا القلب لم يتأثر ولم يهتز لجلال هذا الموقف بلي إني على ثقة أن تكرار هذا المشهد أمام هاتين العينين المغمضتين مرة تلو الأخرى على مدار هذه الأيام التسع حتى نصل إلى اليوم الأعظم يوم الغفران والقبول والفوز والنجاح لا بد لهذا المشهد أن يهز جلال القلب ويعصف بكيانه ليفتك بنداء ' لبيك أيتها النفس ' وينسفه نسفا ويحل مكانه نداء ' لبيك اللهم لبيك ' نداء يعمر هذا القلب فيسكن إليه ويرتاح لجنابه فهيا معي فهذا أوان نسف أوهام النفس والشيطان والباطل وهدم مبانيها الخواء بداخلك وهذا وقت بناء قصور الإيمان وأشجار اليقين وبحور الأمان فهلا استجبت لندائي وهلا صرخت بأعلى ما تملك من صوت ' لبيك اللهم لبيك ' أنا بانتظارك هناك حيث يتجمع أمثالي وأمثالك ممن رفعوا أصواتهم بهذا النداء يصرخون طالبين ألا يكون نداء بضعة أيام في العام بل هو نداء العام كله بل الحياة كلها ' لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك '
عزيزي الشاب لك مني جزيل الشكر على مرافقتك لي في هذه الرحلة إلى قلب الأراضي المقدسة أو بالأحرى على مساعدتي على نقل جلال هذه المشاعر إلى قلبي وقلبك وإلى حين لقاء آخر لك مني خالص الحب والإجلال والتقدير والاحترام
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/2)
إلى الفتاة الكريمة التي مشت قدماها في طريق الوحل ..
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
قرأت أسطر رسالتك وحزنت لك فعلا فإن من جرب مثل هذه الأمور أو اطلع على تجارب أهلها يشفق عليهم لأن الوقوع فيها سهل والخلاص منها صعب إلا لمن عصمه الله ..
وإنني أعلم ولعلك تعلمين أن لو كنتما زوجين لم يقع بينكما كل هذا ولكنه إغراء الشيطان بالشجرة الحرام واستجابة الإنسان دون وعي بالعواقب " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى .."
ومثل هذه الاتصالات الهاتفية أو عبر البريد الإلكتروني أو عبر الماسنجر تتحول إلى عادة سيئة وإدمان مقيت خاصة لمن يعانون من الفراغ ولا يجدون البرامج العملية المفيدة التي تملأ أوقاتهم .
أيتها الأخت الكريمة لو كان هذا الإنسان رجلا فعلاً وجادا فعلا هل كان يركب هذا الطريق الوعر الذي يدري كل الناس أنه ذنب مرذول وهل كان يقع ويوقعك في هذه الهوة الساحقة مع أنه كان بإمكانه أن يسلك الطريق الحلال ويطرق الباب .
وإذا افترضنا أن ظروفه لا تسمح بذلك سواء الظروف الاجتماعية أو المالية أو غيرها فما معنى أن يتورط في هذا المنزلق الخطير .
إنني لا أفهم معنى لشاب يحفظ فتاوى العلماء ويشرف على مواقع إسلامية في الإنترنت ويمضي للحج والعمرة وهو في غضون ذلك يتواصل معك بهذه الطريقة المدمرة .
أما كان يؤذيه لو كان يحدث هذا من أخته أو بنته ؟ وهل ترينه يرضاك زوجة له ؟وهو يحتفظ عنك بمثل هذه الذكريات ؟
إنني أقترح عليك أن تطرحي عليه هذه الأسئلة وغيرها وأن تطلبي منه أن يكون معك في غاية الشفافية والوضوح .
أما أنت فأغمضي عينيك قليلا وتخيلي نفسك بعد خمس من السنوات وقد أصبحت زوجة وأما وربة بيت هل يسعدك أن تلتفتي إلى ماضيك لتجديه ملطخا بهذه الأعمال التي لا دافع من ورائها إلا اللذة ، واللذة الحرام .
أم هل يسعدك أن تري زوجك المخلص فتشعرين بالعار وتأنيب الضمير وأنت تخفين عنه ما لو علم لربما كان الفيصل بينك وبينه، أم هل يسرك أن تجدي تكديرا في حياتك وتنغيصا لا تعرفين له تفسيرا سوى أنه عقوبة لماض أحصاه الله ونسوه .
إن مما يجب أن تتبينيه أن هذه المشاعر المتبادلة بينكما مشاعر وقتية غير صادقة ولا تصمد أمام امتحان العمل لأنها ليست مبنية على أساس صحيح ، ويغلب على ظني لو أن قيسا تزوج ليلى ، وهما رمز الحب العذري لكان أجود ما تنتهي إليه حياتهم هو أن يعيشا في ستر ودرجة معقولة من الرحمة أو المودة .
لكن لم يكن بعيدا بالمرة أن، يتصل قيس على والدها " هل أقول بالهاتف" ليطلب منه أخذ بنته التي لم ترعَ للوداد حرمة !
أو أن تتصل البنت بوالدها شاكية باكية على زوجها الذي لم يرعَ عهد الوفاء بينهما لقد مر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في دمشق بليلى بنت الجودي ومعها وصيفاتها فأعجب بحسنها وجمالها ولم يدر كيف السبيل إليها وكان يقول :
تذكرت ليلى والسماوة دوناه
وكيف تعني قلبه عامرية
وكيف يلاقيها، بلى ، ولعلها
وما لابنة الجودي ليلى وماليا
تحلُّ ببصرى أو تحلّ الجوابيا
إذا الناس حجوا قابلاً أن تُلاقيا
فكتب عمر إلى صاحب الثغر الذي هي به :إذا فتح الله عليكم دمشق فقد غنّمتُ عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي.
فلما فتح الله عليهم غنّموه إياها .
قالت عائشة : فكنت أكلمه فيما يصنع بها : فيقول : يا أُخَيّة ، دعيني ، فوالله لكأني أرشف من ثناياها حب الرمان .
ثم ملّها وهانت عليه ، فكنت أكلمه فيما يسئ إليها كما كنت أكلمه في الإحسان إليها ، وقد قالت عائشة : يا عبد الرحمن لقد أحببتَ ليلى فأفرطتَ ، وأبغضتَ ليلى فأفرطتَ ، فإما أن تنصفها ، وإما أن تجهزها إلى أهلها ؛ فجهزها إلى أهلها .
وما تعطيه قصص الحب العربية هو مضمون قصص الحب الأجنبية والتي من أشهرها قصة روميو وجولييت !
فَلِكَيْ يكون الحب رومنسيا خياليا يجب أن يموت أبطاله محرومين وهذا ما لا يستقيم عليه أمر الدنيا الذي يحتاج إلى التفكير العملي الواقعي في بناء البيت والأسرة ورعاية الأولاد وتكوين المجتمع والتعاون في مواجهة صعوبات الحياة ومشكلاتها ومراحل العمر المتغيرة ولا يستقيم به أمر الدين الذي جعل الغاية العظمى هي العبودية لله وجعل الزوجية مجالا واجدا من مجالات تطبيق هذه العبودية ولذلك قال الله تعالى : " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة "
فما لا يحققه الزوجان بالمودة يحققانه بالرحمة ولذلك قال عمر : ما كل البيوت تبنى على الحب ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والحسب والمرؤة وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : كل معروف صدقة .. وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر قالوا نعم . قال : فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " رواه مسلم(/1)
وهكذا ارتقى الإسلام بالإشباع الجنسي في فراش الزوجية إلى درجة أن يكون معروفا وصدقة وأجراً وأن يُذكر عليه اسم الله تعالى .
بينما جعل الإشباع خارج هذا الإطار عدوانا وفاحشة وإثما مبينا ومن مَتَّعَ نفسه بالحرام فإنه يُحرم من كمال لذة الحلال جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد فافزعي أيتها الأخت الكريمة إلى ربك توبة واستغفارا وذكرا و قرآنا واستحضارا لعظمته ومراقبته وسمعه وبصره فإنك بمرأى منه ومسمع .
ثم افزعي إلى عقلك ورشدك ولا تقدمي على أية خطوة بمجرد العاطفة أو الهوى المحض حتى تتأملي في عواقبها على دينك وعلى سمعتك وعلى عرضك وعلى نفسيتك وعلى أسرتك وعلى حاضرك وعلى مستقبلك .
أسأل الله تعلى أن يعصمك من الزلل وألا يكلك إلا نفسك طرفة عين وأن يأخذ بيدك إلى بر الأمان إنه هو الرحيم الرحمن ،،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،
أخوكم
سلمان بن فهد العودة(/2)
إلى المؤمن المجاهد
فالزمْ سَبيلَ الحقَّ إنّك غالبٌ
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
انْهضْ إِلى شَرَفِ الجِهادِ ونَلْ به ... ... شَرَفَ الحياةِ وَ عِزَّة ً لا تُنْكَرُ
هذي الميادينُ التي فتّحتَها ... ... زَهرتْ و ماجَ بِها دمٌ يَتَفَجَّرُ
أنْتَ الأبيُّ إذا صَدَقْْتَ و أخْلَصَتْ ... ... لله و ثْبَتُكَ التي لا تُقْهَرُ
أنْتَ التّقيُّ إذا تَرَكْت هوىيَتيـ ... ... ــهُ وفِتْنَةً تبدو هُناكَ وتظهَرُ
و تَرَكْتَ من نَزَواتِه عصبيّةً ... ... جَهْلاءَ تَعْصِفُ بالهَوى وتُدَمَّرُ
أنتَ القويُّ إذا صدقْتَ توكُّلاً ... ... و عزيمةً لله لاتَتَغَيّرُ
وإذا مَضَيْتَ على الصَّراط المسْتَقيـ ... ... ـم هُدىً أَبرَّ وذمَّةً لا تُخْفَرُ
أنتَ الغنيّ ! وكلُّ ما ترجوه فيـ ... ... ـضُ خزائن الرحمن فيضٌ أوفَرُ
و مع الكتاب الحقَّ نهجٌ مُشرقٌ ... ... و السنّةُ الغرّاءُ حقٌّ يُؤثَرُ
فَجَمَعْت أسْبابَ العزيمةِ كُلَّها ... ... يُجْلَى بها نَصْرٌ إليك مؤزّرُ
* ... * ... *
صَفْوُ الوَلاءِ و محْضُه لله ! لا ... ... شِرْكٌ يُضِلُّ و لا هوىً يتحيَّرُ
عهدٌ مع الرحمن جَلَّ موثَّقٌ ... ... أعلى و أَجْدَرُ بالوفاء و أكْبرُ
لا زال حولك مؤمِنٌ مسْتَيْقِنُ ... ... وزحوفُ تاريخٍ وحقٌّ أزْهَرُ
الدارُ دارُ المؤمِنين و ساحةٌ ... ... عَبَقَتْ بِبَذْلهم ومغْنىً أنْضرُ
وأمانةٌ مِلءَ الزّمان شُروقُها ... ... حقّاً يَحُوطُ به الوَفاءُ ويُنْصرُ
مَنْ ذا يُفَرَِّط بالأَمانَة ؟! ويْحَهُ ... ... يَهْوي ويَهْلكُ في الضلال و يُسْجَرُ
فاعرفْ سَبيلكَ ! إِنَّه دربُالوفا ... ... ء وعهدُه حقٌّ أجلُّ وأخْطَرُ
* ... * ... *
لا تيأسَنَّ إِذا تخلّى صَاحِب ... ... وهوى دعيٌّ أو تعذَّرَ آخَرُ
وبَقِيتَ تَنْظُرُ ! واللَّيالي أقْبلتْ ... ... قِطعاً تَدَافَعُ بالبلاءِ و تَزْخَرُ
نُورُ اليَقين يَشُقُّ من ظُلُماتِها ... ... ليُطِلَّ صُبْحٌ مِنْ جهادِك مُسْفِرُ
مازَال حَوْلَكَ مُؤْمِنٌ مستيقِنٌ ... ... و يَدٌ تُعينُ و أَكْبُدٌ تَتَفطَّرُ
وغداً سَتَطْلَعُ أُمّةٌمَوْصُولةٌ ... ... بِزُحُوفِها تُعْلي النِّدا و تُكَبِّرُ
تَرْتَجّ ساحاتٌ و تَلْتَهِبُ الذُّرَا ... ... وتَمُوجَ راياتُ الجِهادِ و تَهْدُرُ
وتَعٌودُ للإسلام " قُدْسك َ "والرُّبا ... ... غَنّاءَ تخْفُقُ بالحَنينِ وتَجْهَرُ
والمسْجِد الأقصى و هالة نوره ... ... أملٌ يموج على المرابعنَيِّرُ
دار مباركة يُُظَلِّلُها الهدى ... ... طيباً فيَعْبِقُ في الديارَ ويُزْهِرُ
وتعودُ كلّ ديارنا : كشمير ... ... والأفغان أو دارٌ تُسام فتنصرُ
* ... * ... *
لا تُخْدَعَنَّ ! فكُلُّ يَومٍ قِصَّةٌ ... ... شَرَكٌ يٌنَصَّبُ أو هوانٌ يَقْهَرُ
عَجَباً ! أَتُخْدَعُ كُلَّ حِينٍ بالمُنى ... ... كَذَبَتْ عَلَيكَ و بالوعُود تُغَيَّرُ
وتظلُّ تلهثُ خَلْفَ أوهام الرؤى ... ... لا تَرْعوي أبداً و لا تَتَذَكَّرُ
كم مجْرمٍ نَفثَ الوُعودَمُخاتِلاً ... ... حتى إِذا أفْضَوا إليك تَنَكَّروا
يُعطون في وَضَحِ النَّهارِ وُعُودَهُمْ ... ... وتَلُفُّهُمْ حُجُبُ الظلام ليمْكُروا
* ... * ... *
يا وعْد " بلفورٍ"يَمدُّ ضَلاله ... ... مِلءَ العُصُور بما يَكيدُ ويَغْدُرُ
مازال يَنْفُثُ في الحياة سُمُومَه ... ... ويُعيدُ مِنْ خِدَعٍ له ويُصَوَّرُ
أَعْطَوْكَ " عهداً " دونه ":شَرَكاًوفِتْـ ... ... ـنَةَ مجرمٍ يُخْفي هواهويَضمُرُ
فَوَقِعْتَ في الشَرَكِ المُمِيْتِ ولم تَزَلْ ... ... فِيه تَرُومُ مِنَ النَّجاةِ وتنْظُرُ
ومَضَوا إلى " عهْدٍ "عَلَيْه ِتناصَرُوا ... ... غَدْراً يُمزَّق بالدَّيارِ ويَنْثُرُ
من " سَيْكِسٍ " ورفيقِهِ "بِيْكُو" تظـ ... ... ـلُّ جَرَائمٌ تُخْفى وحِيْناًتَظْهَرُ
* ... * ... *
المُجْرِمُون عِصَابَةٌ لَمّا تَزَلْ ... ... تَمْضي بِمَكْر بَيْنَنا لايَفْتُرُ
يُلْقُونَ مِنْ وهج الزَّخارف فِتنَةً ... ... خَدراً يسيلُ مع الدماءِويُسْكِرُ
مِنْ زِيْنَةٍ تُغرِي النفوس وشَهْوَةٍ ... ... بِلَهِيبِهَا تُلْهِي القُلوبَ و تأسرُ
نَهَبُوا شعُوب المسْلمين و خَلّفوا ... ... فيها الأسى ذُلاُّ يشلُّ ويُغْقِرُ
حَسِبوا الحَياةَ لَهُمْ و َلَيْس لِغَيرهِمْ ... ... حَقٌّ يُصَانُ ! ولا أمانٌ يُذْكَرُ
فَبَغَوا وظنُّوا أَنَّهم مَلَكُوا الحيا ... ... ة فجاءهم قَدَرٌ أعَزُّ و أَقْدرُ
قدرٌ من الله العَزيز يُذِلُّهُم ... ... فَينالُهُم خزيٌ أشدُّ وأمْكرُ
يَهْوي بأَمجادِ الطُّغاة إِلى الثّرى ... ... فتَذلُّ هاماتٌ لَهُم و تُعفَّرُ
والله خير الماكرين ومَكْرُه ... ... حقٌّ على سُنَنٍ تُعِزُّ وتَقْهَرُ
ويحَ الطغاةِ ! و كُلّما رَفَعُوا بنىً ... ... أهْوَوا علَيْها بالفُؤُوس و دَمَّروا
مُسْتكْبِرين ! أذَلَّهُمْ طُولُ المُنى ... ... ورُؤى الغُرور و شَهْوةٌ تتسَعَّرُ(/1)
يَسْتضْعِفون التائهين إذا هَوَوا ... ... ومَضَوا عن الحقَّ المُبين وأدْبَروا
وَهَنُوا ! فَهانَتْ أنْفسٌ وعَزَائمٌ ! ... ... وهَنُوا ! فَهانَ شِعارُهمْ والمخْبَرُ
سَقَطُوا وذَلُّوا واسْتُبِيح حِماهُمُ ... ... شَرَهاً وحِقْداً في النفوس يُفَجَّرُ
مٌسْتَضْعَفُون ! أَما تَرى لولا الهَوا ... ... نُ لما تَواثَبَ مجْرمٌ مُسْتكْبرُ
إنّ الذين اسْتَكْبَروا في النار والـ ... ... ـمُسْتَضْعفين ! لَهُمْ عَذَاب أكْبرُ
يَتَلاوَمُون هُنَاكَ لَيْسَ لَدَيْهمُ ... ... حُجَجٌ تُعِينُ ولا وَليٌّ يَنْصُرُ
* ... * ... *
لا تُخْدَعَنّ فَليْسَ مِنْ مُسْتكبرٍ ... ... يُرْجى بِه حَقٌّ يُطَالُ ويْؤثَرُ
أَتَظَلُّ تُخْدَعُ بالوُعُودِ و بابْتِسا ... ... مَةِ مُجْرمٍ بَاغٍ يَجُورويفجُرُ
لا يَرْقُبون بمؤمِن إلاًّ و َلا ... ... ذِمَماً تُصَأن ولا وفاءً يُذكَرُ
المعتَدُونَ همُ ! طَغَوْا في الأرض في ... ... فِتَنٍ تُثَارُ وفي فَسَادٍ يُنْشَرُ
لا تأمَنَنَّ لهم ! و لا لِوُعُودِهِمْ ... ... إنَّ التَّقِيَّ مِنَ الشَقِيَّ ليَحْذَرُ
نَهْجَان مختلفان : بين مصدِّقٍ ... ... بالحقَّ يَلْزَمُه و آخَرَ يَهجُرُ
فالزم سبيل الحقَّ ! إنّك غَالِبٌ ... ... بالله ! لا بِهوَى يَتيهُ ويُنْكَرُ
* ... * ... *
الرياض
9رمضان 1422هـ
24نوفمبر2001م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان جراح على الدرب .(/2)
إلى الوراء أيها التطرّف..!!
محمد بن عبدالله العبد الكريم 6/2/1426
16/03/2005
ربما بات من الضروري في هذه اللحظات الحرجة أن نضع حداً للخلاف المتفاقم بيننا وبين الآخر.
هذا الآخر الذي استهلكنا في التهالك معه، وكان جلّ اهتمامنا سحقه بكل ممكن، ولو استدعى ذلك تنازلاً عن بعض أخلاقيات الحوار، أصبح من المهم أن نغيّر مزاجنا نحوه، والجلوس وإياه على طاولة واحدة " لنتفاهم " عن قرب، وليسمع بعضنا من بعض، دون مظلة حكوميّة، أو حتى شبه حكوميّة؛ لأن من مصلحة الدولة أن تُراقب" كالعادة !" ولا تتدخل، فالتجارب في الحوار الوطني وحقوق الإنسان تصنع هاجساً نفسيّاً بين الفرقاء.
إن الأطراف التي ينبغي أن نتقارب معها ليست كتلة واحدة، ولا يمكن أن تصطلح جميعها على ما يريده كل طرف، ولكن المطلوب:
أولاًً: أن يكون هدف هذا " المؤتمر التصالحي" إبراز المتّفق عليه وتأجيل المختلف عليه، والتنازل عن بعض ما يمكن التنازل فيه، وكل ذلك في إطار المصلحة العامة للأمة، والتي لا يصعب على أحد فرزها وإفرادها لتكون قبلة المتصالحين.
وأمّا ثانياً: أن يشكل هذا التفاهم تحالفاً فيما بينه، يهدف إلى كسر شوكة التطرّف في كل طرف.
فمن المعلوم أن في كل طرف من الأطراف نوعين من المنتمين له: متشددين ومعتدلين؛ فالتيار الليبرالي فيه معتدلون، ومتطرفون لا يرون حلاً لتخلفنا إلا بالدبابة الأمريكية؛ تماماً كما في التيار الإسلامي معتدلون، ومتطرفون قد رسموا صورة الإسلام بكيفيّات مختلفة أوجبت الشقاق بينهم ، والصراع إلى أقصى حدوده.
هذا الشقاق والصراع داخل التيار "الإسلامي" بين متطرفين وليس بين معتدلين مع متطرفين، فلزم من ذلك أن يتحالف صوت الاعتدال بعضه مع بعض، وليكن شركة عملاقة تتوسع وتتعاظم حتى تكسد بضاعة التطرف، وتنحسر إلى حدودها اللائقة بها.
"فالله قد جعل الحقيقة ذات أبواب عديدة، يفتحها كل من يطرقها بيد الايمان" (ميخائيل نعيمة)
أما أن يتطاحن المتطرفون بعضهم مع بعض، ويصبح كل منهم وقوداً للآخر، فهذا العبث يجب أن يقف عند حده.
فإن آثار التطرف الليبرالي قد أوجدت خصماً " إسلامياً " عنيداً وحاداً، والتطرف "الديني" أوجد خصوماً ينتهكون حرمة الإسلام، ويتهمونه بإنتاج عقليات التخلف، ويشكّكون في ثبوت أحاديثه، ولديهم استعداد تام لإعلان زندقتهم وكفرهم وإلحادهم، كما أعلنوا ذلك في منتدياتهم ومنابرهم.
يرون ذلك بداية الانقلاب على"المؤسسة الدينية" المستقلة وغير المستقلة التي يشبّهونها بالسلطة الكهنوتية قبل الثورة الفرنسية عام 1789م. وهم يعتبرون أنفسهم لا يقلّون شأناً عن الفلاسفة الغربيين الذين عُلّقوا على أعواد المشانق يوم كانوا يحاربون السلطة الكنسية، وضحوا بأنفسهم في سبيل العلم والحرية حتى قامت حضارة أوروبا على جثث الشهداء.
إنه لن يسكت هذا العبث أو يصمت للأبد، ولن ينتهي (فيلم) التطرّف الذي طال ليله الحالك بالظلام.. سنون تتعاقبها السنون، إلا بمشروع تصالحي بين العقول الراجحة التي تتفهم كافة الظروف المحيطة بالبلد، وتسعى لتخليصه من الأقدار الحُبلى بالمفاجآت.
وإن القضايا المطروحة على الساحة التي أوجبت كل تلك الصراعات والفرقة ليست تستعصي على الحل لو أريد لها أن تُحل، لكنها تبقى معلقة يتكسب بها فئة قليلة على حساب وطن كبير، لديه عباقرة المال والسياسة والعلم ... ؛ لكن الثقة المنزوعة عنهم تبقيهم في الظلّ ليتاجر بالوطن من يظهر للناس أمراً ويخفي مكراً.
أمّا ثالثاً: فإن اندماج الأوساط المعتدلة يجب أن يُحاط بميثاق شرف يتفقون عليه شعورياً وإن لم يلتقوا على كل بند من بنوده.
وأما أخيراً: فإن جزءًا من صورة هذا المشروع متواجدة، ولها حضورها في بعض المواقع (الأنترية) الجادّة، ومنها هذا الموقع، وهي وإن لم تكن ظاهرة تمام الظهور؛ لكنها بدأت وحسْبها أنها خطوة في طريق طويل استطاعت في سنوات معدودة أن تضم إلى ميدانها أسماءَ كثيرة في فنون مختلفة، ومن أطياف متعددة.
وإنني لآمل أن يتوّج هذا العمل الجبّار بمجمع فكري كما المجمع الفقهي يتواصى فيه المؤتمرون بالرّيادة في ميادين الحبذ والرحمة والرأفة بالأمة بعدما طال ليل انتظارها تحت شعارات السراب.(/1)
إلى دعاة الفصل بين الدين والسياسة
{ سبحان الله عما يشركون}
ليس من طبيعة الدين الحنيف أن ينفصل عن الدنيا...
وأن يكون في ركن ضئيل يسمى بالأحوال الشخصية..
وسائر الأركان الأخرى تسلم لآلهة أخرى يضعون لها المناهج دون الرجوع إلى شرع الله تعالى.
ليس من طبيعة الدين أن يشرع طريقا للآخرة لايمر بالحياة الدنيا..
نعم ليس من طبيعة الدين أن نمنعه من التدخل في شؤون حياتنا ونفتري عليه ونقول:
" لاتدخلوا الدين في كل شيء"..
ونقول:
" خل دينك لنفسك"..
أو نقول على سبيل المثال:
" إن قضية حجاب المرأة واختلاطها بالرجال ليست قضية دينية"...
لا، ليس دين الله هكذا أنزل...
بل أنزل ليحكمنا في كل صغيرة وكبيرة، رجالا ونساءا، وكل قضايانا دينية...
لكن من أين جاء هذا المسخ إذن؟..
من أين جاء الزعم بأن من الخطأ إدخال الدين في كل شيء؟..
وكيف وقع هذا التصادم والفصام بين الدين وقضايانا الحيوية كالاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلم والأخلاق؟..
كيف وقع هذا الفصام بين الدين والحياة، ومن أين بدأ؟..
هل بدأ عندنا؟، أم أنه بدأ عند غيرنا ثم انتقل إلينا؟...
لقد وقع هذا الفصل في أوربا في ظروف نكدة، وكانت له آثاره المدمرة على أوربا، ثم في الأرض كلها حين طغت التصورات والأنظمة الغربية على البشرية كلها..
لنفهم كيف وقع الفصل لنعد بالحديث إلى عهد موسى عليه السلام..
لقد جاء موسى بالتوراة لتكون منهجا لحياة بني إسرائيل..ثم جاء عيسى عليه السلام بالإنجيل ليكون المنهج المعدل لبني إسرائيل..
ولكن اليهود لم يقبلوا رسالة المسيح، ومن ثم قاوموه، وانتهى بهم الأمر إلى إغراء بيلاطس الحاكم الروماني على الشام يومئذ بقتله وصلبه، لولا أن الله رفعه إليه..
ثم سارت الأمور بعد ذلك بين اليهود وأتباع عيسى عليه السلام سيرة بائسة، انتهت بانفصال أتباع المسيح عن اليهود، وانفصال النصرانية عن اليهودية، مع أن عيسى جاء تكملة لما جاء به موسى عليهما السلام..
وقد اضطهد أتباع المسيح من اليهود ومن الرومان، مما اضطر الحواريين وأتباعهم إلى التخفي والعمل سرا فترة طويلة، تناقلوا خلالها نصوص الإنجيل وتاريخ عيسى عليه السلام وأعماله تناقلا خاطفا في ظروف لاتسمح بالدقة ولا بالتواتر، وأقدم هذه الأناجيل كتب بعد المسيح بنحو 40سنة، وبهذا لم يحفظ الأنجيل، ولم يسطر كما أنزله الله، فكانت هذه الخطوة الأولى في طريق تحريف الدين، ومن ثم نبذه فيما بعد..
ثم تلتها الخطوة الثانية:
فقد دخل بولس في النصرانية، وبولس كان يهوديا من ألد أعداء المسيح، وفجأة انقلب فصار من أتباعه، وذلك بعد موت المسيح، وتبوأ مركزا هاما في النصرانية، حتى صار في مقام الرئيس وسمي بـ "الرسول"، فتسنت له الفرصة ليدخل فيها ماشاء من الوثنية الرومانية والفلسفة الإغريقية، ومن ذلك عقيدة الحلول، فكانت هذه الخطوة كارثة كبرى على النصرانية..
ثم تلتها الخطوة الثالثة في طريق نبذ الدين في أوربا..
وهي اعتناق قسطنطين الحاكم الروماني للنصرانية وسيطرة الحزب النصراني على الحكم..
كان قسطنطين لايبال بالدين، فسهل على المنافقين أن يمزجوا بين الوثنية والنصرانية مستغلين مناصبهم العالية، وكانت من نتيجة ذلك أن ظهر دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء..
ساعد على هذه تعميق الانحراف في هذه الخطوة الخلافات السياسية والعنصرية، فقد أصبحت العقيدة النصرانية عرضة للتغيير والتنقيح لتحقيق أهداف سياسية..
فهذه ثلاث كوارث حلت بالنصرانية..
اضطهاد أتباعها منذ الأيام الأولى مما منعهم من تسطير الإنجيل تماما كما أنزل بالدقة..
واختلاط الوثنية بها على يد بولس أولاً..
ثم على يد قسطنطين الحاكم الروماني ثانيا..
ومن ثم صارت النصرانية غريبة كل الغرابة على طبيعتها كدين إلهي منزل، فلم تعد قادرة على أن تعطي التفسير الصحيح لحقيقة الوجود وصلته بالخالق، وحقيقة الخالق وصفاته، وحقيقة الإنسان والغاية من وجوده، والنتيجة أن الدين النصراني لم يعد صالحا لأن يكون منهجا للحياة..
ومع ذلك فقد كان الرجل الأوربي يعيش تحت مظلته، يشعر بحرمته ووجوب الخضوع لتفسيراته وأحكامه مهما كانت غير منطقية..
ثم..
حلت الكارثة الرابعة..
والتي تمثلت في الخطوة الرابعة في طريق نبذ الدين..
وذلك أن الكنيسة أرادت أن تقف في وجه الترف الروماني وسعار الشهوات التي كانت الامبراطورية قد غرقت فيها، لكنها لم تسلك طريق الفطرة السوية لغياب المنهج الصحيح، فاندفعت في رهبانية عاتية، لعلها كانت أشأم على البشرية من بهيمية الرومان الوثنية، فأصبح الحرمان من الطيبات وسحق الغريزة عنوان الكمال والفضيلة، وغرق الرهبان في نوع من البدعة من الزهد مقابل الفجور الذي غرق فيه المترفون، فامتنعوا من الطيبات وحرموا الزواج على أنفسهم، ولم يكن علاجا لذلك الانحلال، بل كان عاملا من عوامل الفصل بين الدين والحياة في نهاية المطاف..
الخطوة الخامسة:(/1)
وكانت الطامة الكبرى يوم اكتشف الناس أن حياة رجال الكنيسة تعج بالفواحش في أشد صورها، مما أفقد الثقة برجال الدين، والدين من ثم..
وإذا أضفنا إلى ذلك تعدي الكنيسة على حقوق الناس باسم الدين، بفرض الضرائب والخدمة بلا مقابل والإذلال الكبير إلى مهزلة صكوك الغفران، أدركنا طرفا من الملابسات التي أدت في نهاية الأمر إلى فصل الدين كليا عن الحياة في أوربا..
رافقت هذه الخطوة خطوة أخرى كانت تسير معها جنبا إلى جنب..
فقد كانت الكنيسة تنازع الأباطرة السلطة والنفوذ، ولأجل ذلك كانت الأباطرة في سخط كبير، ومن ثم استغلوا أخطاء الكنيسة ليثيروا الرأي العام ضدها، واستخدموا لهذه الغاية كل وسيلة، منها فضح رجال الكنيسة وكشف أقذارهم، مما ولد في نفس الإنسان الغربي النفور من الدين ورموزه..
ثم تلتها الخطوة السادسة..
والتي تعتبر القاصمة التي بها تم الفصل بين الدين والحياة..
فقد احتكرت الكنيسة لنفسها حق فهم الكتاب المقدس وتفسيره، وحظرت على كل عقل من خارج الكهنوت أن يتجرأ على ذلك، ثم قامت بإدخال معميات في العقيدة لاسبيل إلى إدراكها أو تصديقها، مثل الثالوث والعشاء الرباني، وفرضت على الناس قبول كل ذلك ومنعتهم من المناقشة وإلا تعرضوا للطرد والحرمان..
هذا المنهج المتعسف المنحرف اتبعته الكنيسة كذلك في المسائل العلمية وأحوال الكون، فادعت آراء ونظريات جغرافية وتاريخية وطبيعية مليئة بالخرافة والخطأ وجعلتها مقدسة لاتجوز مناقشتها...
وقد كانت هذه القضية بالذات سببا للكفاح المشؤوم بين الدين والعلم والعقل، الذي انهزم فيه الدين لأنه كان محرفا، فقد انفجر بركان العقل في أوربا وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني..
فزيفوا النظريات التي اشتملت عليها الكتب المقدسة، وانتقدوها صراحة، فقامت قيامة الكنيسة وكفروهم وقتلوهم وأحرقوهم، فعوقب ثلاثمئة ألف إنسان، أحرق منهم إثنان وثلاثون أحياءً، منهم "برونو" و "وغاليليو"..
هنالك ثار المجددون وأصبحوا حربا على الكنيسة، ومقتوا كل ما يعزى إليها من عقيدة وثقافة وأخلاق، وعادوا الدين المسيحي أولا، وكل دين ثانيا، وقرر الثائرون أن الدين والعلم ضرتان لاتتصالحان، وأن العقل والدين لايجتمعان..
وبهذه الخطوة تكاملت الخطوات في طريق نبذ الدين وفصله عن الحياة بالكلية، فلم تبق إلا القشة التي تقصم ظهر البعير ليتم الحدث وتدخل أوربا في مرحلة جديدة تتنكر فيها لجميع الأديان..
وقد تحقق ذلك بالثورة الصناعية الفرنسية، التي بها أعلن زوال ملك الأباطرة والإقطاعيين وحكم الكنيسة ومعه الدين أيضا..
وبذلك أصحبت أوربا لادينية .*.
هذه هي أهم الملابسات التي أدت إلى فصل الدين عن الحياة في أوربا، وهذا هو الدين الذي ثارت عليه أوربا، وقد كان لهم الحق في ذلك، فكما رأينا..
كان دينا محرفا أقرب إلى الوثنية، عاجزا عن تلبية حاجات البشر..
ثم إن هذه الفكرة سرت إلى بلاد الإسلام، ونصرها الببغاوات والقرود دون يفرقوا بين دين الإسلام الصحيح ودين النصرانية المحرف، فتلك الملابسات أوربية بحتة، وليست إنسانية عالمية، ومتعلقة بنوع من الدين لا بحقيقة الدين، وخاصة بحقبة من التاريخ..
ومن هنا كان من الخطأ تعميمها على الأرض، خاصة البلاد المسلمة التي قبلت هذه المبدأ الكافر، فأعرضت عن الدين، وحصرته في ركن ضيق..
وإذا كان لأولئك الحق في نبذ دينهم، فقد كان المسلمون على خطأ كبير في نبذ دينهم تقليدا لهم، إذ لم يتحقق على مدى نصف قرن من الإعراض عن الدين أي تقدم في أي مجالات الحياة..
بل لازالت البلدان الإسلامية التي قامت على مبدأ فصل الدين عن الحياة إلى اليوم متخلفة في كافة المجالات عن نظيراتها من البلدان الأوربية، والسبب:
أن الدين المحرف كان يعوق تقدم الغرب، فلما تخلص منه انطلق..
أما الذي يعوق تقدم المسلمين اليوم هو تركهم العمل بدينهم الصحيح المحفوظ من رب العالمين، ولن يصلح حالهم إلا بالدين الكامل الشامل.. والدليل:
أن المسلمين حكموا العالم اثني عشر قرنا لما كانوا يحكمون الدين في كل صغيرة وكبيرة، ثم لما أهملوا العمل به تراجعوا وتقدم غيرهم، فإن أردوا استرداد مكانتهم فيجب عليهم أن يعودوا ويكونوا كما كان الأولون، ورحم الله الإمام مالك حين قال:
" لن يصح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"..
والذي أصلح أولها هو تحاكمهم إلى الدين في كل شيء، وترك أهوائهم جانبا، ومن هذا نفهم خطأ ما يتردد على ألسنة بعضنا من كلمات مثل:
" خل دينك لنفسك"،..
" لا تدخلوا الدين في كل شيء"،..
" لا تجعلوا كل القضايا دينية"..
وندرك كذلك خطورة ما يفعله من بهر بالغرب من محاولة واجتهاد في تفسير الدين في نطاق ضيق لا يتجاوز زوايا المسجد وشعب القلب.
أبو سارة
abu_sarah@maktoob.com(/2)
إلى زعيم الروم
د. محمد الجهني
ألا يا زعيم الروم هنئت بالنصر وهنئت بالشهر الحرام وبالنحر
ولا زالت الأيام يلقاك سعدها يقودك من نصر عظيم إلى نصر
تواترت الأخبار عن بوش أنه يقوم من الليل الطويل إلى الفجر
يركب أطراف الأسنة والقنا وينصب منها للعظيم من الأمر
ألا يا زعيم الروم تفديك أمة تساق إلى الموت الزؤام وما تدري
ولولا ثياب ترتديها وعجمة لقلنا سري من قضاعة أو بكر
ليهن أباك الحر أنك نجله وهل يلد الحر الكريم سوى الحر
لقد مر شهر يا دمستق بيننا ونحن على نار أحر من الجمر
فهذا هو السودان يدعوك أهله ويدعوك أبناء الكنانة من مصر
وهاهي مصر اليوم تهدي عروسها إليك وكانت قبل تهدى إلى النهر
ولا تنس لبناناً وبغداد إنها تحييك ما بين الرصافة والجسر
ألم ترها مدت إليك أكفها وقد ملأتها بالورود وبالزهر
وترجوك أن تبقى لديها كأختها وترفع عنها وطأة الظلم والقهر
نثرتهم فوق الجبال كأنهم طيور ولكن لا توؤب إلى وكر
وأثخنت في الأرض الجراح فأصبحت دماؤهم في كل ناحية تجري
فلا تلقنا إلا بكل كريهة ونلقك إلا بالبشاشة والبشر
ألم تر أنا جائعون وأننا إلى الجهل أدنى من وحوش ومن حمر
ألا يازعيم الروم لو كنت كاهنا ولو كنت تدري مايجيش به صدري
لأيقنت أن الأمر يعذب ورده ويصدر عن أمر أمر من المر
فمن ركب الموج العباب ومادرى عن البحر ظن الموج يعبث بالبحر
لعمرك ما رب الصوارم والقنا بأشجع من رب الشويهة والقفر
ولكنه عصر الحديد الذي به تأخر قومي عن مواكبة العصر
يؤرقني منهم طويل سباتهم وطول انتباه من بطارقة الكفر
وما بهم عجز ولكن تقاعست بهم همم لا تستجيب لذي حجر
تقاذفها الأهواء جهلاً كأنها شراع طواه الموج بالمد والجزر
فلا رأيها حزم ولا حكماؤها متى عن أمور يستشارون في أمر
وأودى بها التغريب ما بين جاهل وبين غوي مستكين إلى غر
أبيت كأن الدهر ألقى همومه علي ولم تبرح فؤادي قد شبر
لقد كان فيمن كان قوم , متى دعا أخو حكم أصغوا إليه , بلا وقر
سلوا ذلك النسر الجريح إلى متى يظل مهيناً والبغاثة في كر
على أنه لو راعها بجناحه لطارت شعاعاً لا تفيق من الذعر
يصيد ويفري الغرب في كل ساحة ونحن لأمر لا نصيد ولا نفري
وما ضرنا لو أننا كلنا يد تصفق في يسر وتجمع في عسر
أقلي هموماً أيها النفس ربما جرت سنحاً باليمن بارحة الزجر
ألا يا زعيم الروم حسبك إننا إلى البدو أدنى من ليوث إلى خدر
فما زالت النوق الجياد تذودها بنو عمنا بين المنامة والحجر
وما زال فينا كل أشعث أغبر يراقب أنواء السحائب والقطر
تراه إذا ما لاح برق توقدت به همم يحدو بها كل مجتر
فلا الجن تطوي طيه كل شامخ ولا الذئب يعدو عدوه وهو في فر
يضاحك أسباب المنايا كأنه يقلبها ما بين أنمله العشر
يبيت كأن الليل يعقد جفنه بجرس ثوانيه وأنجمه الزهر
له قهوة ما لامست كف عاصر ولا قادها الدهقان يوماً إلى أسر
إذا ما صلتها النار فاحت كأنما ينادي شذاها كل طاو ومعتر
مشعشعة صهباء يطفو حبابها على النار إلاً أن تدار على قَََََََََدر
هي الخمر إلا أنها لا تغوله ولا في حمياها يرى سورة الخمر
وما ضرنا أن ضل منا زعانف وهل ضر من رد الزكاة أبا بكر
على أنني فيما جنوه الومهم والقاهم بعد الملامة بالعذر
شباب رأوا أعراضهم ودماءهم وأوطانهم نهب (الحمامة والصقر)
ينادون من لا يستجيب لهم ومن يسومهم خسف المهانة والفقر
وإني أرى إصلاحهم خير خطة تقام وألا ندفع الشر بالشر
وهل تطلب النفس السوية ميتة تلذ بها إلاً لأسمى من العمر
وهل يدفع الإنسان روحا إلى أذى ومهلكة تودي به غير مضطر
سلوهم فقد نلقى لديهم مقالة ونعلم ما تخفي الضمائر من سر
فإن كان غياً نقرع الغي بالقنا وإن كان فكراً نقرع الفكر بالفكر
أرى كل صحاف يمج مداده بأسود من نشر المداد على السطر
يحاول أسباب المعالي ودونها مغالق لا تنفك إلا لذي قدر
له حجج لو قارعتها صغارنا لكان وإياها أخف من الذر
قفوا نسأل التأريخ عنا وعنكم فكم عنده مالا نحيط من الخبر
وماذا صنعنا عندما عرضت لنا جيوش نصارى الروم بالجحفل المجر
صبرنا وجدنا بالنفوس لأننا نرى أن وعد الله يدرك بالصبر
لنا أسوة فيمن مضى من جدودنا نروح إلى فخر ونغدو إلى فخر
نحبهم والله يشهد أنهم أحب إلينا من تراب ومن تبر
نروح على الآداب والفضل والندى ونغدو على الآي الكريمة والذكر
نفتق أبكار المعاني كأننا إذا ما خطبنا الناس نقرأ من سفر
نغيث على اللأواء سراً وقلما أغاث على السراء منكم أخو وفر
نريش ونبري للمعالي وأنتم على جعجعات لا تريش ولا تبري
وما قيمة الأوطان إن لم يكن بها رجال تؤدي حسبة النهي والأمر
وهل يمنع الأوطان إلا تقاتها غداة احتدام الموت في ساعة الصفر
بلاد حمتها بالدماء جدودنا وبيض المواضي والمثقفة السمر
فما ترفع الرايات من ثغر بلدة عطاشاً تريد النصر إلا إلى ثغر
أإن أجلب الغرب الحقود بخيله سطوتم على الإسلام بالناب والظفر
لكم ناشه من قبلكم ذو غواية وعاد على أعقابه وهو في خسر(/1)
وطافت عليه الحادثات كأنها تفتق بحراَ أًو تحاول في صخر
فدون الذي تبغون مالا تناله طوال الردينيات بالحدق الحمر
تأذن رب العالمين بحفظه فليس لشانيه سوى العجز والوزر(/2)
إلى زوجة داعية
أختي الفاضلة يا من وفقك الله أن تكوني زوجة لأحد الدعاة، خطيبا كان، أو أستاذا، أو محتسباً أستأذنك في أن أضع أمامك هذه الخواطر
أولا:- احمدي الله عز وجل أن تكوني زوجة لهذا الرجل الذي يعيش لأمته لا لنفسه، إنه يسافر ولكن قد يكون البديل زوج يسافر إلى حيث لا تأمنين عليه الخيانة، إنه منشغل لكن قد تكوني زوجة لمنشغل في جمع حطام الدنيا، وهو أحيانا يسهر لساعة متأخرة لكنه خير ممن يسهر في اللهو واللعب، وأخيراً لو كان البديل رجل لا تفقدينه إلا وقت الدوام ألا ترين أنه من النقص، والأنانية، وفقدان الغيرة، أن يعيش المرء لنفسه، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة؟
إذا من نعمة الله عليك أن تكوني زوجة لداعية.
ثانيا:- هل رأيت درة دون ثمن، أو ثمرة دون تضحية؟ فهي نعمة عظيمة عليك وعلى أولادك أن ترزقي مثل هذا الزوج الصالح، لكنك لابد أن تدفعي الثمن؛ فتفقديه كثيراً، ويتأخر في تلبية بعض المطالب، ولكن كل هذه التضحيات تهون دون هذا الثمن، ودون أن تفوزي بشريك الحياة من هذا الصنف الفريد.
ثالثاً:- هل سمع زوجك مند كلمة تأييد؟ أو رأى منك استبشاراً وتشجيعاً لما يقدم من جهد؟ أو تلقى نقداً هادفاً بناء؟.
أليس فقدان لذلك تقصيرا في حقه؟. أما أن يسمع النقد اللاذع (كثرت مشاكلك، غبت عنا كثيرا، لم تؤد الطلبات، ضيعت أسرتك...) فأعيذك بالله من ذلك.
"كلا والله لايخزيك الله أبدا، إنك لتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق" يالها من كلمات رائعة سمعها صلى الله عليه و سلم من زوجه خديجة التي بُشرت ببيت في الجنة من قصب لاصخب فيه ولانصب، فأعطته دفعة، وزادته طمأنينة، وهو هو صلى الله عليه و سلم ، فهلا سلكت طريقها، واقتديت بها؟
رابعا:- ألا ترين أن مثل هذا الزوج يستحق أن تعرضي عليه خدماتك. فتجمعي له النصوص، أو تعدي المراجع. أو تطرحي عليه رأيا مسددا ، وإن عجزت عن ذلك فقولك له (أي خدمة تريد) تعطيه دفعة أحوج ما يكون إليها.
أختي الفاضلة: أقدر أنك امرأة لك عواطف، وتملكين مشاعر، وأمامك تطلعات، وأنت مع ذلك كله لا يمكن أن تتخلي عن بشريتك، ولكن حين تحولي بيت زوجك إلى عش آمن، ومهجع مستقر فأنت تختصرين عليه نصف الطريق؛ فهو بشر يحتاج للسكن النفسي، يحتاج لمن يؤيده ، يحتاج لمن يقف معه.
أختي الفاضلة تخيلي معي ذاك الداعية الذي وفقه الله ونفع الأمة به يعود إلى منزله فيستقبل بالنقد اللاذع، والتذمر والاتهام بالتفريط. أي عطاء سيقدمه، وأي نفسية تحكمه، أ لا توافقين أن هذه الزوجة تساهم من حيت لا تشعر في تأخير المسيرة، وعرقلة الركب؟
ومع لك كله فلست أدعو الزوج للتقصير في حق زوجته وأهل بيته، ولكن الأمر تسديد ومقاربة.(/1)
إلى ماذا ندعو؟
ندعو إلى العمل المنهجي وإلى لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن
...
ندعو إِلى الإِيمان والتوحيد ، إلى الله ورسوله ، وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وحياً من عند الله. و يمكن أن نوجز ما ندعو إليه بالنقاط التالية:
أولاً : إننا نذكِّر بما أمر به الله.
ثانياً : نضع ما نذكّر به على صورة نهج نابع من منهاج الله مُلَبٍّ لحاجة الواقع.
ثالثاً : ندرّب المسلم على الممارسة الإيمانية وممارسة هذا النهج تدريباً منهجيّاً.
إننا ندعو إلى نهج يتميّز بالخصائص السابق ذكرها ، ليكون أَساساً للقاء المؤمنين . ذلك لأن الواقع يكشف لنا أنه يتعذّر على فئة واحدة أن تُحقق النصر لهذه الأمة من خلال التمزّق الذي نراه . ونعتقد أن آمال كل مسلم اليوم يتعذّر تحقيقها إلا بلقاء المؤمنين الصادقين المتقين في الأرض على أسس ربّانيّة لا يحل لأحد مخالفتها ولا الخروج عليها ، وبقيام الأمة المسلمة الواحدة في الأرض ، وندعو إلى هذا كذلك لأن الله سبحانه وتعالى يأمر بذلك , ومخالفته معصية كبيرة , نفقد بها عون الله , وتُنزَع من قلوب الأعداء المهابة منا , ولذلك نطرح القاعدة التالية لنذكّر بالقواعد العامة للتعاون واللقاء:
"يجب أن نتعاون في كلّ ما أمرنا الله أن نتعاون فيه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما أذن الله لنا الاختلاف فيه."
فيكون التعاون واللقاء على أسس ربّانيّة ، لا على أساس هوى وتصورات بشرية ومصالح ، ويكون الاختلاف على صورة أباحها الله وحدّدها.
إن لقاء المؤمنين المتقين الصادقين أصبح اليوم واجباً كما هو في كل عصر ، ولكنه اليوم ضرورة ملحة . وإن التفرّق يغضب الله سبحانه وتعالى وينذر بعذاب عظيم ، ويفتح كلّ الثغرات لينفذ منها أعداء الله إلى ضرب المسلمين وتفتيتهم.
إننا ندعو ونذكر بما أمر به الله ، حتى ننجو من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة .اننا نقدم هذا نصحا خالصا لله إلى كل مسلم وكل بيت وكل دعوة وحركة . وقد بلغنا ذلك قدر جهدنا بكل الوسائل الممكنة , وبالكلمة الطيبة , وبمتابعة التذكير والبيان والبلاغ دون توقف , لنعذر أنفسنا بين يدي الله .(/1)
إلى من أدركت رمضان
عبدالملك القاسم
دار القاسم
الحمد لله الذي بلغنا هذا الشهر العظيم، وأدعوه عز وجل كما بلغنا إياه أن يُعيننا على حُسن صيامه وقيامه، وأن يتجاوز عن تقصيرنا وزللنا، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . . . وبعد:
فهذه رسالة قصيرة سطرتها لك أختي المسلمة على عجل وضمنتها وقفات متنوعة، أدعوه عز وجل أن يُبارك في قليلها، وأن ينفع بها إنه سميع مجيب.
الوقفة الأولى:
أذكرك بأصل الخلق وسبب الوجود. قال الله عز وجل: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . قال الإمام النووي: وهذا تصريح بأنهم خُلقوا للعبادة، فحُق عليهم الاعتناء مما خُلقوا له، والإعراض عن حظوظ الدنيا بالزهادة، فإنها دار نفاد لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، ومشروع انفصام لا موطن دوام.
أختي المسلمة:
تفكري في عظم فضل الله عليكِ. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . . وأجَّل تلك النعم وأعظمها نعمة الإسلام، فكم يعيش على هذه الأرض من أمم حُرمت شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء . . ثم احمدي الله عز وجل على نعمة الهدايا والتوفيق فكم ممن ينتسبن إلى الإسلام وهنّ مخالفات لتعاليمه ظاهراً وباطناً مفرطات في الواجبات غارقات في المعاصي والآثام فاللهم لك الحمد.
وأنتِ - أيتها المسلمة - تتقلبين في نعم الله عز وجل من أمن في الأوطان، وسعة في الأرزاق، وصحة في الأبدان، عليك واجب الشكر بالقول والفعل، وأعظم أنواع الشكر طاعة لله عز وجل واجتناب نواهيه فإن النعم تدوم بالشكر . . لئن شكرتم لأزيدنكم واعلمي أن حقوق الله عز وجل أعظم من أن يقوم بها العباد، وأن نعم الله أكثر من أن تحصى ولكن " أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين ".
الوقفة الثانية:
من نعم الله عليكِ أن مدَّ في عمركِِ وجعلكِ تُدركين هذا الشهر العظيم فكم غيَّب الموت من صاحب ووارى الثرى من حبيب . . فإن طول العمر والبقاء على قيد الحياة فرصة للتزود من الطاعات والتقرب إلى الله عز وجل بالعمل الصالح. فرأس مال المسلم هو عمره لذا احرصي على أوقاتك وساعاتكِ حتى لا تضيع سدى وتذكري مَنْ صامت معكِ العام الماضي وصلت العيد !! ثم أين هي الآن بعد أن غيبها الموت ؟ ! وتخيلي أنها خرجت إلى الدنيا اليوم فماذا تصنع ؟! هل ستسارع إلى النزهة والرحلة ؟ أم إلى السوق والفسحة . . أم إلى الصاحبات والرفيقات ؟! كلا ! بل - والله - ستبحث عن حسنة واحدة . . فإن الميزان شديد ومحصي فيه مثقال الذر من الأعمال فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره واجعلي لكِ نصيباً من حديث رسول الله { اغتنم شبابك قبل هرمك وصحتك قبل موتك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك } . . واحرصي أن تكوني من خيار الناس كما أخبر بذلك الرسول فعن أبي بكرة أن رجلاً قال: يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال : { من طال عمره وحسن عمله } . . قال: فأي الناس شر ؟ . . قال : { من طال عمره وساء عمله } . . [رواه مسلم].
الوقفة الثالثة:
يجب الإخلاص في النية وصدق التوجه إلى الله عز وجل، واحذري وأنت تعملين الطاعات مداخل الرياء والسمعة فإنها داء خطير قد تحبط العمل، واكتمي حسناتك واخفيها كما تكتمين وتخفين سيئاتك وعيوبك، واجعلي لك خبيئة من عمل صالح لا يعلم به إلا الله عز وجل . . من صلاة نافلة، أو دمعة في ظلمة الليل، أو صدقة سر، واعلمي أن الله عز وجل لا يتقبل إلا من المتقين، فاحرصي على التقوى . . إنما يتقبل الله من المتقين . . ولا تكوني ممن يأبون دخول الجنة . . كما ذكر ذلك الرسول : { كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى } . .قالوا ومن يأبى يا رسول الله ؟ . . قال: { من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى } . . [رواه البخاري].
الواقعة الرابعة:
عوَّدي نفسكِ على ذكر الله في كل في كل حين وعلى كل حال، وليكن لسانكِ رطباً من ذكر الله عز وجل وحافظي على الأدعية المعروفة والأوراد الشرعية. قال تعالى: يا ايها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا وقال تعالى: والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً .
قالت عائشة رضي الله عنها: { كان رسول الله يذكر الله في كل أحيانه } [ رواه مسلم] . وقال رسول الله { سبق المفرّدون } . . قالوا وما المفردون يا رسول الله ؟ قال: { الذاكرون الله كثيراً والذاكرات } [رواه مسلم].
قال ابن القيم - رحمه الله: وبالجملة فإن العبد إذا أعرض عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غَبّ إضاعتها يوم يقول: يا ليتني قدمت لحياتي . .
واعلمي أختي المسلمة أنه لن يعمل أحد لكِ بعد موتكِ من صلاة وصيام وغيرها فهُبِّي إلى الإكثار من ذكر الله عز وجل والتزود من الطاعات والقُربات.
الوقفة الخامسة:(/1)
احرصي على قراءة القرآن الكريم كل يوم، ولو رتبت لنفسكِ جدولاً تقرأين فيه بعد كل صلاة جزءاً من القرآن لأتممت في اليوم الواحد خمسة أجزاء وهذا فضل من الله عظيم والبعض يظهر عليه الجد والحماس في أول الشهر ثم يفتر، وربما يمر عليه اليوم واليومين بعد ذلك وهو لم يقرأ من القرآن شيئاً وقد ورد في فضل القرآن ما تقر به النفوس وتهنأ به القلوب فعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : { من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن أقول ألف حرف، ولام حرف ، وميم حرف } [رواه الترمذي]، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: { إن الذي ليس في جوفه شئ من القرآن كالبيت الخرب } [رواه الترمذي].
وعن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله يقول: { اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه } [رواه مسلم].
فعليكِ أختي المباركة بالحرص على قراءة القرآن، بل وحفظ ما تيسر منه ومراجعة ما قد تفلت منك، فإن كلام الله فيه العظة والعبرة، والتشريع والتوجيه والأجر والمثوبة.
الوقفة السادسة:
رمضان فرصة مواتية للدعوة إلى الله . . فتقربي إلى الله عز وجل في هذا الشهر العظيم بدعوة أقاربك وجيرانك وأحبابك عبر الكتاب والشريط والنصيحة والتوجيه، ولا يخلو لك يوم دون أن تُساهمي في أمر الدعوة، فإنها مهمة الرسل ولأنبياء والدعاة والمصلحين وليكن لك سهم في هذا الشهر العظيم، فإن النفوس متعطشة والقلوب مفتوحة والأجر عظيم . . قال : { فوا الله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حُمر النعم } [متفق عليه].
قال الحسن: فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد.
الوقفة السابعة:
احذري مجالس الفارغات، واحفظي لسانك من الغيبة والنميمة وفاحش القول واحبسيه عن كل ما يغضب الله، والزمي نفسك الكلام الطيب الجميل وليكن رطباً بذكر الله . . ولأختي المسلمة بشارة هذا العام فنحن في عطلة دراسية وهيَ فرصة للتزود من الطاعة والتفرغ للعبادة . . وقد لا تُكرر الفرصة . . بل وقد تموتين قبل أن تعود الفرص . . واعلمي أن كل يوم يعيشه المؤمن هو غنيمة . . عن أبي هريرة قال: كان رجلان من بلى قضاعة أسلما على عهد رسول الله فاستشهد أحدهما وأُخر الآخر سنة فقال طلحة بن عبيد الله: فرأيت المؤخر منهما أُدخِلَ الجنة قبل الشهيد فتعجبت لذلك فأصبحت فذكرت ذلك للنبي أو ذُكر ذلك للنبي فقال: { أليس قد صام بعده رمضان وصلى ستة آلاف ركعة وكذا ركعة صلاة سنة } [رواه أحمد].
الوقفة الثامنة:
منزلك هو مناط توجيهك الأول فاحرصي أولاً على أخذ نفسك وتربيتها على الخير، ثم احرصي على من حولك من زوج وأخ وأخت وأبناء بتذكيرهم بعظم هذا الشهر وحثهم على المحافظة على الصلاة وكثرة قراءة القرآن، وكوني آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر في منزلك بالقول الطيب، والكلمة الصادقة، وأتبعي ذلك كله الدعاء لهم بالهداية. وهذا الشهر فرصة لمراجعة ومناصحة المقصرين والمفرطين فلعل الله عز وجل أن يهدي من حولك قال رسول الله : { من دل على خير فله مثل أجر فاعله } [رواه مسلم].
الوقفة التاسعة:
احذري الأسواق فإنها أماكن الفتن والصد عن ذكر الله. قال رسول الله : { أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها } [رواه مسلم].
ولا يكن هذا الشهر وغيره سواء. واحذري أن تلحقك الذنوب في هذا الشهر العظيم بسبب رغبة شراء فستان أو حذاء فاتقي الله في نفسكِ وفي شباب المسلمين، وما يضيرك لو تركت الذهاب إلى الأسواق في هذا الشهر الكريم وتقربت إلى الله عز وجل بهذا الترك.
الوقفة العاشرة:
العمرة فضلها عظيم وفضلها في رمضان يتضاعف فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي لما رجع من حجة الوداع قال لامرأة من الأنصار اسمها أم سنان: { ما منعك أن تحجي معنا ؟ } قالت: أبو فلان [ زوجها ] له ناضحان حج على أحدهما والآخر نسقي عليه فقال لهما النبي : { فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة } أول قال { حجة معي } [رواه البخاري].
وإلى كل معتمرة باحثة عن الأجر وهيَ مجانبة الطريق أربأ بها أن يجتمع عليها في بلد الله الحرام، حرمة الشهر، وحرمة المكان، وحرمة الذنب. فتكون عمرتها طريق إلى الإثم والمعصية من حيث لا تدري وترجع مأزورة غير مأجورة.
وإن يسر الله لكِ العمرة فتجنبي مواطن الزلل وعثرات الطريق واخرجي محتشمة بعيدة عن أعين الرجال غاضة الطرف، لابسة الحجاب الشرعي مبتعدة عن لبس النقاب ومس العطور واخرجي لبيت الله الحرام وأنت مستشعرة عظمة هذا البيت وعظمة خالقه عز وجل، وتذكري أن الحسنات تُضاعف فيه كما أن السيئات تضاعف فيه أيضاً.
الوقفة الحادية عشرة:(/2)
لقد فتح الله عز وجل لنا أبواب الخيرات وفاضت الأرزاق بيد الناس فاحرصي - وفقك الله - على الصدقة بما تجود به نفسك من مال ومأكل وملبس وقد مدح الله عباده المتقين ووصفهم بعدة صفات فقال تعالى: كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم . وفي هذا الشهر تستطيعين أن تجمعي هذه الأعمال الفاضلة من قيام ليلٍ واستغفار وصدقة في كل يوم. وقد حث النبي على الصدقة بقوله: { اتقوا النار ولو بشق تمرة } . . رواه مسلم، وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: { سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله } وذكر منهم: { رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه } [متفق عليه]. وقد أنفق بعض الصحابة أموالهم كاملة في سبيل الله وبعضهم نصف ماله فلا يُبخلنك الشيطان ويصدك عن الصدقة بل سارعي إليها . . وهذا نداء خاص لكِ أختي المسلمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأتكن أكثر أهل النار } [رواه مسلم].
الوقفة الثانية عشرة:
في شهر رمضان فرصة مناسبة لمراجعة النفس ومحاسبتها وملاحظة تقصيرها فإن في ذلك خيراً كثيراً . . قال رسول الله: { إنما الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني } [رواه الترمذي]. وكان الحسن يقول: "رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من الناس. ابن آدم: إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك".
وقال ابن عون: لا تثق بكثرة العمل فإنك لا تدري أيقبل منك أم لا ؟ ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري أكفر عنك أم لا ؟ إن عملك مغيب عنك كله.
الوقفة الثالثة عشرة:
أوجب الله عز وجل بر الوالدين وصلتهم وحُسن معاملتهم والرفق بهم وحذر من مجرد التأفف والتضجر فقال تعالى: ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما . وقال تعالى: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة . وقد جاء رجل يستأذن الرسول في الجهاد وهو من أفضل الأعمال وفيه من المشقة والتعب ما هو معلوم معروف بل ربما ذهبت فيه النفس والروح . . فقال النبي : { أحييَّ والداك } قال : نعم، فقال : { ففيهما فجاهد } [رواه البخاري]. ومن صور بر الوالدين رحمتهما والسؤال عن صحتهما، وإعانتهما على الطاعة، والتوسعة عليهما بالمال والهدايا وإدخال السرور عليهما والدعاء لهما. وبعض النساء تعرض عن بر والديها وتراها تقدم الصديقة والزميلة بالتبسط والحديث والزيارة، ولا يكون لوالديها نصيب من ذلك، وبر الوالدين من أفضل الأعمال فعن ابن مسعود قال: سألت رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال: { الصلاة على وقتها } . . قلت: ثم أي ؟ . . قال: { بر الوالدين } قلت: ثم أي ؟ قال: { الجهاد في سبيل } [متفق عليه].
فاحرصي - بارك الله فيك - على برهما والدعاء لهما ، والتصدق عنهما أحياءً أو أمواتاً. غفر الله لهما وجزاكِ خيراً.
واحرصي أيضاً على صلة الأرحام والتواصل معهم في هذا الشهر الكريم، ولكن لا يكون هذا التواصل باب شر عليكِ يُفتح فيه حديث الغيبة والنميمة والاستهزاء وضياع الأوقات. بل تكفي زيارة السؤال والاطمئنان ونشر الخير وتعليم الجاهلة وتذكير الغافلة وإبداء المحبة وتفقد الحال ومساعدة المحتاج ولتكن مجالساً معطرة بذكر الله عز وجل فيها فائدة وخير.
الوقفة الرابعة عشرة:
التوبة: كلمة نُرددها ونسمعها ولكن قليلاً من النساء من تُطبقها . . حتى أنه والعياذ بالله قد استمرأت بعض النفوس المنكر فترى البعض يُقدِمُ على فعل المحرمات المنهي عنها بلا مبالاة مثل سماع الموسيقى والمعازف . . وكذلك رؤية الرجال على الشاشات وإضاعة الأوقات فيما هو محرم . . فحري بالمسلمة أن تكون ذات توبة صادقة، قارنة القول بالفعل. قال الله تعالى حاثاً على التوبة ولزوم الأوبة: وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تُفلحون وقال تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال رسول الله : { كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون } [رواه الترمذي والحاكم].
فسارعي أختي المسلمة إلى التوبة من جميع الذنوب والمعاصي وافتحي صفحة جديدة في حياتكِ، وزينيها بالطاعة وجمليها بصدق الالتجاء إلى الله عز وجل وحاسبي نفسكِ قبل أن تُحاسبي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وتذكري حالكِ إذا غُسّلت بصدر وحنوط وكُفنتِ بخمسة أثواب هيَ كل ما تخرجين به من زينة الدنيا!!
يا ليت شعري كيف أنت إذا *** غُسلت بالكافور والسدر
أو ليت شعري كيف أنت على *** نبش الضريح وظلمة القبر !!
أختي المسلمة:(/3)
هذه وقفات سريعة كتبتها على عُجالة، وإن أفزعتكِ دورة الأيام وأهمكِ أمر الآخرة وأردت أن تعملي فلا تُقصري فاقصدي باب التوبة وأطرقي جادة العودة وقولي: لعله آخر رمضان في حياتي ولعلي لا أعيش سوى هذا العام، ولا تستكثري عليكِ هذا القصور. فاحزمي أمركِ وسيري إلى الآخرة فوالله إنكِ في حاجة إلى الحسنة الواحدة. واستحضري عظمة الجبار وهول المطلع، ويوماً تشيب فيه الولدان، وفكري في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، ونار يُقال لها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وسترين بتذكر كل ذلك بإذن الله عز وجل ما يُعينك على الاستمرار والمحافظة على الطاعة، وإن كنتِ قد تصدقتِ بما مضى من عمرك على الدنيا وهو الأكثر فتصدقي بما بقى من عمرك على الآخرة وهو الأقل، ولا تكوني ممن إذا حل بهم هادم اللذات ومفرق الجماعات قال: رب ارجعون ولماذا العودة والرجوع لعلي أعمل صالحاً فيما تركت فابدئي الآن واحزمي أمرك فإنما هيَ جنة أو نار ولا منزلة بينهما.
أدعو الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يعيد هذا الشهر علينا أجمعين في خير وعافية وأن لا يكون هذا آخر رمضان نصومه.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وتجاوز عن تقصيرنا واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا إنك أنت الغفور الرحيم . . ربنا هب لنا من ذرياتنا وأزواجنا قرة أعين ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آلة وصحبة أجمعين.(/4)
إلى من امتلأ قلبه بالأحزان
بسم الله الرحمن الرحيم
إن من صفات الدنيا أنها دار هم وغم وحزن وألم
فهي دنيا وليست عليا
وكلنا سنرحل عنها بلا شك في يوم من الأيام
إياك والدنيا الدنية إنها = دار إذا سالمتها لم تسلمِ
والمتأمل في حياة بعض الناس يجد أن قلوب بعض الناس قد غدت أودية من الحزن
فالحزن والإكتئاب من الأمور التي عمت كثيرا من الناس في هذا العصر
بل بعضهم أصبح الحزن لا يفارق محياه
بل بعضهم – والعياذ بالله – يفكر بالانتحار وهو مسلم حتى يتخلص من هذه الأحزان !!!
فلم الحزن ؟
وعلام الحزن ؟
شدني إخواني الكرام حديث عظيم من حديث سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم عليه وسلم
أتمنى أخي الحزين وأختي الحزينة
أن تفكروا في هذا الحديث
وتتأملوا فيه
وبإذن الله ستجد أن الله أذهب حزنك وكشف همك...
وإليكم إخواني الكرام نص الحديث :
عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب عبدا هم ولا حزن, فقال اللهم : إني عبدك، وابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي، إلا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحا".. قالوا يا رسول الله أفلا نتعلّمهن؟ قال: "بلى, ينبغي لمن سمعهن أن يتعلّمهن".
أخرجه أحمد وابن حبان وصححه الألباني.
ففي هذا الحديث أخي الكريم وأختي الكريمة أربع قواعد لإزالة الأحزان :
1- اللجوء إلى الله والافتقار إليه سبحانه وتعالى :
وقد دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم (( اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ))
فبعض الناس إذا أصيب بحزن أو زلت به نازلة لا يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى بل قد يتجه إلى أمور تغضب الله من شرب دخان أو سماع غناء أو غير ذلك وهو بذلك يزيد حزنه وهو لا يشعر بذلك ...
فلم لا نقبل على الله ولم لا نلجأ إلى الله
فهو الوهاب الرزاق المنان الرحيم الرحمن
يا من يرجى في الشدائد كلها = يا من إليه المشتكى والمفزعُ
ما لي سوى قرعي لبابك سلما= فإذا رددت فأي باب أقرعُ
جرب أن تصلي ركعتين وتسأل الله عزوجل وتدعوه وستجد أخي الكريم فرقا عظيما
ذق حلاوة الدمعة ولذة المناجاة واشك همك إلى الله وأظهر افتقارك وحاجتك إلى الله تعالى وتذكر أن نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام قال : (( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ))
فاجعل هذه الآية شعارك ودثارك ...
وكما قيل في النبط :
سجدت باسم إلهي عالي الشان = يالواحد الفرد نظرة منك تغنيني
2- الرضا بقضاء الله وقدره :
وقد دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم (( ناصيتي بيدك, ماض فيّ حكمك, عدل فيّ قضاؤك))
فقد تفقد قريبا أو صديقا أو أبا أو أما فارض بما بقضاء الله وقدره
وقد تصاب بمرض أو تخسر في صفقة تجارية فكل مسلما لأمر الله
وتأمل في حال الأنبياء والرسل فإن كنت فقدت ولدا فالنبي صلى الله عليه وسلم فقد كل أبناءه في حياته إلا فاطمة رضي الله عنها
وإن كنت أصبت بمرض فتذكر نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام فقد نزل به بلاء عظيم جدا فقد قال صلى الله عليه وسلم (( إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد ))- صححه الألباني في الصحيحة - .
سبحان الله ... ثماني عشرة سنة وهو صابر محتسب ...
فاصبر على قضاء الله وقدره فإن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم
واحذر أشد الحذر من التسخط على قضاء الله وقدره فلا تضرب الخد ولا تشق الجيب واحذري أختي الكريمة من النياحة فهذا الأمور كلها ليس فيها تسليم لأمر الله وقضاءه وقدره ...
3- دعاء الله عزوجل ومعرفة أسماءه وصفاته :
ودليل هذا قوله صلى الله عليه وسلم (( أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك, أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك))
فالدعاء هو العبادة فأكثر من الدعاء وتضرع إلى الله تعالى
وتذكر أن الله عزوجل قال : ((وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ))
وقال تعالى (( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض ))
فإذا أردت أن يذهب الله همك ويكشف غمك توجه إلى الله وعليك بالدعاء خاصة الدعاء بأسماء الله الحسنى فقد قال تعالى (( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ))
قال بعض السلف :
لبست ثوب الرجى والناس قد رقدوا = وقمت أشكو إلى مولاي ما أجدُ
وقلت يا عدتي في كل نائبة = ومن عليه لكشف الضر أعتمدُ
أشكو إليك أمورا أن تعلمها = مالي على حملها صبرٌ ولا جلدُ
وقد مددت يدي بالذل معترفا = إليك يا خير من مُدت إليه يدُ
فلا تردنها يا رب خائبة = فبحر جودك يروي كل من يردُ
4- قراءة القرآن :
فقد قال صلى الله عليه وسلم : (( أن تجعل القرآن ربيع قلبي, ونور صدري, وجلاء حزني, وذهاب همّي وغمّي))(/1)
فقد شبه القرآن بالربيع والمطر الذي فيه حياة للأرض فكذلك القرآن فيه حياة للقلوب فكم من حزين لما أقبل على القرآن أذهب الله عنه حزنه وكم من حزين لما أعرض عن القرآن وأدمع سماع ما حرم الله زادت عليه همومه وأحزانه
وكما قيل :
حب الكتاب وحب ألحان الغنا = في قلب عبدٍ ليس يجتمعان
وفي نهاية الحديث وعد نبوي بأن من قال هذا الدعاء – مع يقين بالله وصدق في الدعاء – بأن الله عزوجل سيذهب همه وغمه
فهلا تعلمنا هذا الدعاء
وعملنا به
مع التفكر في معانيه
لعل الله أن يذهب همومنا
ويرزقنا السعادة والفلاح
كلمات كتبتها على عجل أسأل الله أن يجعلها حجة لي لا علي وأن ينفع بها
عبد الله بن عبد القادر الكمالي(/2)
إلى من تقاعست عن فعل الطاعات وفترت عن الخيرات
دار القاسم
إليك أيتها المرأة المسلمة.. إليك أيتها الملتزمة بدين الله.. إليك يا من فترت عن الخير.. إليك يا من ضيعت وقتها فيما لا ينفع...
إليك يا من اقتصرت على الفروض وأهملت النوافل.. إليكن جميعا يا من عرفت الحق وتقاعست عن فعل الطاعات أكتب هذه النصيحة سائلا الله عز وجل أن تصل إليكم وترفع من همتكم وتعينكم على عبادة ربكم وتجعلكم تكثرون من العمل الصالح.
أيتها المرأة المسلمة:
ما لي أراك تقاعست عن فعل الخيرات، هل ضمنت الجنة؟ هل اكتفيت بما قمت به من أعمال؟ أختي في الدين لقد صح عن النبي أنه قال: { لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيم علم } [الترمذي وحسنه الألباني].
اعلمي أنك ستسألين عن ضياعك للوقت فيما لا ينفع، فكل يوم يمضي فهو من عمرك، فحاسبي نفسك كل يوم، ماذا فعلت من خير؟ وماذا فعلت من شر؟ فإن كان عملك صالح فهو سبب لقربك من الجنة، وإن كان عملك غير ذلك فهو سبب لقربك من النار، فأي الطريقين تختارين. واسمعي قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30].
فالله عز وجل يدعوك للتجارة وأي تجارة تجارة لن تبور تجارة تجعلك تربحين أضعافا مضاعفة من الأجر والثواب على كل عمل أخلصت فيه لله تعالى ووافقة الشرع الحكيم به.
لما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول الله عز وجل: فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ [آل عمران:133]، فهموا من ذلك أن المراد أن يجتهد كل واحد منهم، حتى يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية، فكان أحدهم إذا رأي من يعمل للآخرة أكثر منه نافسه وحاول اللحاق به بل مجاوزته، فكان تنافسه في درجات الآخرة، واستباقهم إليها كما قال تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
أما نحن فعكسنا الأمر، فصار تنافسنا في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.
قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة!!. وقال وهيب بن الورد: إذا استطعت أن لا يسبقك أحد فافعل. وقال عمر بن عبد العزيز في حجة حجها عند دفع الناس من عرفة: ليس السابق اليوم من سبق به بعيره، إنما السابق من غفر له.
أين التسابق في الخيرات؟ أين أصحاب الهمم والعزمات؟
أختي المسلمة:
صاحبة الهمة العالية، والنفس الشريفة لا ترضى بالأشياء الدنية الفنية، وإنما همتها المسابقة إلى الدرجات الباقية الذاكية التي لا تفنى، ولا ترجع عن مطلوبها ولو تلفتت نفسها في طلبها، ومن كانت في الله تلفها، كان على الله خلفها.
قيل لبعض المجتهدين في الطاعات: لم تعذب هذا الجسد قال: كرامته أريد!
وإذا كانت النفوس كبارا *** تعبت في مرادها الأجسام
من يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرح بميت إيلام
قال عمر بن عبد العزيز: إن لي نفسا تواقة، ما نالت شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، وأنها لما نالت هذه المنزلة - يعني الخلافة - يعني الآخرة.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم:
قيمة كل إنسان ما يطلب، فمن كان يطلب الدنيا فلا أدنى منه، فإن الدنيا دنية، وأدنى منها من يطلبها، وهي خسيسة، وأخس منها من يخطبها.
قال بعضهم: القلوب جوالة، فقلب يجلو حلول العرش، وقلب يجول حول الحش. العاقل يغبط من أكثر في الخيرات والطاعات ونيل علو الدرجات، والجاهل يغبط من أغرق في الشهوات، وتوصل إلى اللذات والمحرمات. العالي الهمة يجتهد في نيل مطلوبه، ويبذل نفسه بعمل الصالحات في الوصول إلى رضا محبوبه، فأما خسيس الهمة فاجتهاده في متابعة هواه، ويتكل على مجرد العفو، فيفوته - إن حصل له العفو - منازل السابقين.
قال بعض السلف: هب أن المسيء عفي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين؟! فيا مذنبا يرجو من الله عفوه أترضى بسبق المتقين إلى الله؟! ما لي أراك جعلت الوقت الوفير لسماعة الهاتف.. وللرياضة وتخسيس الجسم.. وللتجارة وزيادة الأرصدة.. وللملهيات والمغريات.. وأهملت النوافل.. من صلاة الضحى وقيام الليل.. من صيام الأثنين والخميس والأيام البيض.. من أذكار الصباح والمساء وأذكار النوم ما لي أراك تضيعين أوقاتك في السرحان وبنات الأفكار.. وتهملين ذكر العزيز الجبار لماذا تضيعين أوقاتك في اللغو وفيما لا ينفع؟
أختي المسلمة:
يقول الله تبارك و تعالى في وصف المؤمنين من عباده: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55].(/1)
اللغو أختي المسلمة: خوض في باطل، و تشاغل بما لا يفيد. أمر الله سبحانه بالإعراض عنه، و نهى عن الوقوع فيه، ففيه مضيعة للعمر في غير ما خلق الإنسان لأجله. إنه مخلوق لعبادة ربه، و الخلافة في هذه الأرض بالعمل المثمر الصالح، و الحياة النافعة الجادة.
من أجل هذا كان البعد عن اللغو و الإعراض عنه من دلائل الكمال و الفلاح، لقد ذكره الله سبحانه بين فريضتين من فرائض الإسلام المحكمة، ذكره بين فريضتي الصلاة و الزكاة، فقال عز شأنه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون:1-4].
قال الشاعر:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة *** وليلك نوم والردى لك لازم
وشغلك فيما سوف تكره غبه *** كذلك في الدنيا تعيش البهائم
ولقد مات عند الكثير من النساء الشعور بالذنب، ومات عندهن الشعور بالتقصير، حتى ظنت الكثيرات منهن أنها على خير عظيم، بل ربما لم يرد على خاطرها أنها مقصرة في أمور دينها، فبمجرد قيامها بأصول الدين ومحافظتها على الصلوات ظنت المسكينة في نفسها خيرأ عظيماً، وأنها بذلك قد حازت الإسلام كله وأن الجنة تنتظرها في نهاية المطاف، ونسيت هذه المسكينة مئات بل آلاف الذنوب والمعاصي التي ترتكبها صباحاً ومساءً من غيبة أو بهتان أو غير ذلك من المعاصي والمخالفات التي تستهين بها ولا تلقي لها بالاً وتظن أنها لا تضرها شيئاً وهي التي قد تكون سبباً لهلاكها وخسارتها في الدنيا والآخرة وهي لا تشعر لقوله : { إياكم ومحقرات الذنوب فإنها إذا اجتمعت على العبد أهلكته }.
قال الشاعر:
تا الله لو عاش الفتى في عمره *** ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً فيها بكل نعيمه *** متنعماً فيها بنعمى عصره
ما كان ذلك كله في أن *** يفي بمبيت أول ليلة في قبره
وقال آخر:
أما والله لو علم الأنام *** لما خلقوا لما غفلوا وناموا
لقد خلقوا لما لو أبصرته *** عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
ممات ثم قبرثم حشر *** وتوبيخ وأهوال عظام
أختي المسلمة:
ألا توافقينني: أن هناك فرقاً بين إنسان ضيع كثيرأ من عمره وأيامه التي هي رأس ماله في هذه الحياة ببرامج الترفيه في البر والبحر، والتمشيات والسفريات، والقيل والقال، والذهاب والإياب، وأنفق الكثير من المال في تنفيذ وملاحقة تلك البرامج التي ليس لها كثير فائدة. وبين إنسان يفكر في الطموحات الأخروية، والاعمال الباقية بعد موته، ويهتم بإصلاح نفسه وإصلاح أمته، وبجتهد لذلك غاية الإجتهاد بحفظ وقته وماله وجوارحه، ما بين علم إلى عمل، ومن دعوة إلى عطاء، ومن صدقة إلى إحسان، ومن تعاون إلى تكافل، ومع ذلك لم يضيق على نفسه بما أباح الله - كما يتصور أولئك الجاهلون - إنما أعطاها من الترفيه قدر حاجتها وما يعينها على القيام بتلك الواجبات والطاعات، مع احتساب نية الأجر والعبادة في كل ذلك. لا شك ستكونين موافقة لي.. إذا لماذا الفتور؟ ولماذا التقاعس؟ أين همة النساء وعزيمتهن في فعل الخيرات وتركهن للملل والسأم والكسل؟
عليك أختي المسلمة بسيرة السلف ففيها زيادة للهمة واصرار وعزيمة وإليك نماذج من سيرة السلف كتبتها الأخت الفاضلة زرقاء اليمامة لعلك بعد قراءتها تزداد همتك وحرصك على فعل الطاعات والتقرب إلى الله بالنوافل والخيرات.
هكذا كانت نساء السلف:
كانت أم حسان مجتهدة في الطاعة، فدخل عليها سفيان الثوري فلم ير في بيتها غير قطعة حصير خَلِق، فقال لها: لو كتبت رقعة إلى بني أعمامك لغيروا من سوء حالك. فقالت: يا سفيان قد كنتَ في عيني أعظم وفي قلبي أكبر مذ ساعتك هذه، أما إني ما أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها، يا سفيان والله ما أحب أن يأتي علي وقت وأنا متشاغلة فيه عن الله بغير الله فبكى سفيان.
وقالت أم سفيان الثوري له: يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي؛ يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة، فإن لم ترَ ذلك فاعلم أنه لا ينفعك.
وكانت أم الحسن بن صالح تقوم ثلث الليل وتبكي الليل والنهار فماتت ومات الحسن فرؤي الحسن في المنام فقيل: ما فعلت الوالدة؟ فقال: بُدِّلت بطول البكاء سرور الأبد.
كانت عابدة لا تنام الليل إلا يسيراً فعوتبت في ذلك فقالت: كفى بالموت وطول الرقدة في القبور للمؤمن رقاداً.
ودخلوا على عفيرة العابدة فقالوا: ادعي الله لنا. فقالت: لو خرس الخاطؤون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المُحسن أمر المسيء بالدعاء، جعل الله قِراكم ( إكرامكم) الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال.
وقدم ابن أخٍ لها من غيبة طويلة، فبُشرت به، فبكت فقيل لها: ما هذا البكاء؟ اليوم يوم فرح وسرور.. فازدادت بكاءَ ثم قالت: والله، ما أجد للسرور في القلبي سكناً مع ذكر الآخرة، ولقد أذكرني قدومه يوم القدوم على الله، فمن بين مسرور ومثبور.(/2)
وبكت عبيدة بنت أبي كلاب أربعين سنة حتى ذهب بصرها وقالت: أشتهي الموت، لأني أخشى أن أجني جنابة يكون فيها عطبي أيام الآخرة.
عمرة امرأة حبيب العجمي: كانت توقظه بالليل، وتقول: قم يا رجل، فقد ذهب الليل وبين يديك طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا.
اعلمي أن الدنيا دار سفر لا دار إقامة، ومنزل عبور لا موطن حبور، فينبغي للمؤمن أن يكون فيها على جناح سفر، يهيئ زاده ومتاعه للرحيل المحتوم. فالسعيد من اتخذ لهذا السفر زاداً يبلغه إلى رضوان الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار.
أختي المسلمة:
أنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق والليالي متجر الإنسان والأيام سوق وأنت إما رابحة يوم الحساب وإما الخسارة والعياذ بالله وإليك آيات تعينك على الزهد في الدنيا وتزيد حرصك على العمل إلى المنازل الرفيعة والدرجات العالية.
1ـ قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
2ـ وقوله سبحانه: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].
3ـ وقوله تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [الشورى:20].
4ـ وقوله تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء:77].
5ـ وقوله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17].
وهذه الأحاديث تجعلك ممن يسعون إلى الآخرة بإذن الله:
1ـ قول النبي لابن عمر: { كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل } [رواه البخاري ]. وزاد الترمذي في روايته: { وعد نفسك من أصحاب القبور }.
2ـ وقال النبي : { الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر } [رواه مسلم].
3ـ وقال مبيناً حقارة الدنيا: { ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع } [رواه مسلم].
4ـ وقال : { مالي وللدنيا،إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال ـ أي نام ـ في ظل شجرة، في يوم صائف، ثم راح وتركها } [رواه الترمذي وأحمد وهو صحيح].
5ـ وقال: { لوكانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء } [رواه الترمذي وصححه الألباني].
6ـ وقال : { ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس } [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
7ـ وقال: { اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً، ولا يزدادون من الله إلا بعداً } [رواه الحاكم وحسنه الألباني].
يا من تقرئين هذه الرسالة قفي قليلأ مع هذه الأسطر وراجعي نفسك وحاسبيها وانظري كيف أنت في هذه الحياة. هل أنت من أولئك اللاهين الغافلين أم لا؟ وهل أنت تسيرين في الطريق الصحيح الموصل إلى رضوان الله وجنته، أم أنك تسيرين وفق رغباتك وشهواتك وغفلتك ومللك حتى ولو كان في ذلك شقاؤك وهلاك.
انظري أخية في أي الطريقين تسيرين فإن المسألة والله خطيرة وإن الأمر جد وليس بهزل، ولا أظن أن عندك شيء أغلى من نفسك فاحرصي على نجاتها وفكاكها من النار ومن غضب الجبار.
انظري أختي المسلمة كيف أنت مع أوامر الله وأوامر رسوله ، هل عملت بهذه الأوامر وطبقتها في واقع حياتك أم أهملتها وتجاهلتها وطبقت ما يناسبك ويوافق رغباتك وشهواتك.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يعننا وإياك على فعل الخيرات والإكثار من الطاعات وأن يزيل عني وعنك الملل والسأم والتقاعس ويجعلني وإياك ممن همتهم همة السلف وأكثري من هذا الدعاء:
اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وآخر دعوانا الحمد لله رب العلمين.(/3)
إلى من عصفت بهم شبهات النصارى
خاص بإذاعة طريق الإسلام وصلتنا هذه الرسالة من أحد الشباب الغيورين، واسمه أحمد:
"بسم الله الرحمن الرحيم. وبعد، إن الأمر الذي أريد تبليغه ونشره خطير يتعلق بموقع للنصارى ينفون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويفندون الإعجاز العلمي للقرآن، ويردّون على آيات القرآن ويبرهنون على تناقضها، وأن الإسلام دين لا أساس له، كما يردّون على الحديث الشريف وهم يستعرضون لذلك كتباً للتحميل، ويردون على كتب إسلامية كـ (إظهار الحق) و (هداية الحيارى) وغيرها.
أنا كمسلم أشعر بضيق وهمّ في قلبي، وهؤلاء يقولون ما يريدون ونحن صامتون."
أما في معرض الرد فأقول مستعيناً بالله:
بسم الله اللطيف الخبير، القائل في كتابه الكريم { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:109].
أخي أحمد بارك الله فيك وفي غيرتك على الإسلام..
أولاً أحب أن اذكر كلاماً سمعته من الشيخ عبد المجيد الزنداني -وهو متخصص في الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة- في معرض رده على أسئلة بعض الحيارى من المسلمين، حيث قال:
" كنت وأنا في سنك (يقصد السائل)، أقول في نفسي: عندي أسئلة لو عرضتها على شيخ الأزهر لجعلته كافراً! هكذا كان الشيطان ينفخ في نفسي، وينفخ في ذهني بعض هذه المعاني. ولكني بعد أن بحثت، وبعد أن درست، وبعد أن علمت، علمت أن الكلام الذي أقوله قد خاضه الذين من قبلي بزمن طويل، وقد تصدى له علماء الإسلام وخاضوا فيه أكثر مما خضت فيه، وبيّنوا جوانبه أكثر مما كانت تطرأ على ذهني، فعلمت فقط أنها نفخة شيطان، تريد أن تغرني، وأني لست أنا صاحب الفكر العبقري الذي لا يقف عند حد، ويصل إلى ما لا يصل إليه الناس".
وأحب أن اذكر قصة حدثت مع الشيخ محمد العريفي حين كان في رحلة دعوية إلى إحدى الدول الأوروبية، هو ومجموعة من زملائه، ويخبر فيها عن كيفية اجتهاد الشباب النصراني في الدعوة إلى النصرانية، فيقول:
"أنه في إحدى محطات القطار في تلك الدولة الأوروبية، كانت هناك فتاة معها منشورات وما شابه، أخذت تكلم أحد زملائي وتدعوه للنصرانية، وأخذت تلقي عليه الشبهات والافتراءات على الإسلام لتشككه في دينه، وأخذ يرد عليها، فتباغته بشبهات أخرى، فيرد عليها، ثم بعد أن فرغت جعبتها، أخذ هو يخبرها بشبهات ضد الإسلام ويرد عليها؛ فهي لم تعلم أنها أتت لتدعوا الشخص الخطأ! شخص متخصص في الأديان والمذاهب".
الشاهد هنا أخي أحمد، أن هذه الشبهات والافتراءات تبددت بالعلم والمعرفة بدين الله، كما في حالة الشيخ الزنداني عندما درس وتعلّم أمور دينه، وزميل الشيخ العريفي المتخصص في الأديان والمذاهب، فهذه الشبهات تتهاوى بسهولة أمام العلم بدين الله.
فصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الزمر:9].
أخي أحمد، إن نشر مثل هذه المواقع للتحذير منها فيه محاربة للإسلام أكثر من الدفاع عنه، وأحيلك إلى مقالة لمشرف طريق الإسلام، قام فيها بتوضيح خطورة نشر مثل هذه المواقع:
عنوان المقالة: "بمشاركة المسلمين: دعوة لمحاربة الإسلام !"
http://www.islamway.com/?iw_s=Article&iw_a=view&article_id=82
وأذكر لك أخي أحمد في هذا المقام قصة لتصرف إيجابي قام به أحد الإخوة الذين نسأل الله أن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين كل خير، وهو أخ معروف بـ"الشيخ مازن":
هذا الأخ كان أحد رفقائه ضحية لمثل هذه المواقع، فأدت به شبهاتهم واتصالاتهم به إلى أن يتنصّر، فيقول الشيخ مازن: "وكل ما أتذكر هذا تدمع عيني"، فكيف يترك هذا الدين بمجرد سماعه لافتراءات رد عليها العلماء منذ زمن.
وبعد أن تكلم معه بعض الأخوة جزاهم الله خيراً، وردوا على أسألته رجع إلى الإسلام ولله الحمد.
يقول الشيخ مازن: "فمن يومها قررت أن أنشاء موقعاً أردّ فيه على افتراءات النصارى الحاقدين، وهذا ما كان بحمد الله، وها هو موقعه شبكة الحقيقة (www.trutheye.com) من المواقع المعروفة في مجال الرد على الشبهات وفيه الكثير من المناظرات في هذا المجال وغيره".
فهذا التصرف الإيجابي من الأخ مازن هدم كثير من محاولات النصارى الحاقدين لتشكيك المسلمين في دينهم، وأرجو من أخي الحبيب أحمد أن يكون له دور إيجابي في خدمة هذا الدين العظيم، وهذا أملنا فيك.
وأهيب بأخي أحمد بأن لا يساعد مثل هذه المواقع على الانتشار، بنشر روابطها، بل عليه أن ينشر الحق بين الناس حتى يتحصنوا بالعلم بالقرآن والسنة من كل شر. ويا حبذا لو تنشر رابط المقالة التي أعطيتك بين أصدقائك، وتطلب منهم أن ينشروها.(/1)
وأذكّرك أخي أحمد بقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [الأنفال:36]. فهذا أبو لهب يفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول عنه أنه ساحر، وأنه مجنون لزوّار مكة بعدما كانوا يقولون عنه الصادق الأمين، ويطلب منهم أن لا يستمعوا له، لكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، وينتشر الإسلام إلى أن يصل أقاصي الأرض، بفضل الله ثم بفضل أناس آمنوا بربهم، واقتدوا برسولهم صلى الله عليه وسلم في التضحية من أجل إنقاذ الناس من النار، ومن رقّ العبودية لغير الله.
وأحب أن أبشّرك بأن إخوانك في طريق الإسلام بصدد عمل ملف خاص لتبديد نشاطات التنصير، فادعُ الله لنا أن ييسر أمرنا وأن يسدد على الحق خطانا.
وأقدم لك أخي أحمد هذا المقطع الصوتي المؤثر كهدية:
http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson&iw_a=view&lesson_id=35024
أسأل الله أن يفقهنا وإياكم في الدين، وأن يعزنا بالإسلام ويعز الإسلام بنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
إلى من كتبت عن حرية المرأة
أم معاوية
كتبت إحداهن ـ أو كتب لها ـ في إحدى الصحف اليومية مقالاً تحت عنوان " حرية المرأة .. وقدرها في المجتمع " .. ولم يجئ المقال بجديد .. إنما جاء بقديم ردده ولا يزال يردده من لم يفهم حقيقة هذا الدين "الإسلام"، ومن لم يفهم طبيعة المرأة فهماً سليماً .. بل لم يفهم ـ أيديولوجية ـ قيام المجتمعات الإنسانية وتطور الحضارة فيها .. إنما فقط تشرب بوعي أو بدون وعي ما يريده الغرب الصليبي في بلاد الإسلام ـ حماها الله ـ.
وتكلمت في كلمتها عن وضع المرأة .. وظلم المرأة ! .. وحبس المرأة! .. ولعمر الله كلها شعارات رددها الاحتلال الصليبي في بلاد المسلمين .. وروج لها كل من تربوا على أعينهم من المسلمين المخدوعين.
فقد افتتحت كلمتها بأن كل مجتمع له تقاليده وعاداته ..
* ثم قالت : " لكن تبقى المرأة ضحية العادات والتقاليد في كل مجتمع .. هل المرأة محكوم بالظلم والقهر دائماً " ا.هـ
أية عادات وتقاليد هذه التي تتكلم عنها ؟ .. لم توضحها!! وأي ظلم وقهر؟ .. لم تحدده .. !! لننظر بقية الكلمة.
* تتساءل : " أليست المرأة (إنساناً روحا وكيانا) مثل الرجل تماماً ؟ " ا.هـ
نعم هي روح وكيان .. وهل قال الإسلام إنها غير ذلك؟! .. إنما الذي اجتمع ليقرر هي روح مثل الرجل أم لا .. هو مجمع ماكون النصراني، وكذا عند الحضارات القديمة واليهودية .. أما الإسلام فقد قرر أن " النساء شقائق الرجال " كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. وأنها مخلوق مثل الرجل تماما "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف".
* ثم تتساءل قائلة: معنى هذا أن الجنسين روح وكيان، إذاً لماذا التفرقة الظالمة بين الرجل والمرأة ؟" ا.هـ
أية تفرقة وأي ظلم ؟ .. لقد قرر الطب الحديث .. طب القرن العشرين! .. أن المرأة مختلفة تماماً من الناحية ـ الفسيولوجية ـ عن الرجل .. وكذا من الناحية النفسية .. ومعنى هذا أن ما يناسب الرجل في بعض الأمور لا يناسب المرأة، وما يناسب المرأة في بعض الأمور لا يناسب الرجل .. فما هذا الادعاء بأنه تفرقة ؟! .. وإذا شذ أحدهما عن طبيعته وتكوينه تعب وشقى .. وهذا هو واقع المرأة الأوروبية والأمريكية اليوم .. ثم أي نوع من التفرقة تقصدين ؟ .. لم توضحي شيئاً !!.
* وتتساءلين : " لماذا يفرض على المرأة (قيوداً) صارمة ولا يفرض على الرجل إلا في حالات نادرة ؟! "
قد فرض الإسلام على الرجل قيوداً .. أو هي على الصحيح واجبات وليست قيوداً .. وكذلك فرض على المرأة واجبات، وأمر كلا منهما بالتزام واجباته التي تتفق مع فطرته وتكوينه بما لا يشق عليه .. ولا يخالف فطرته.
* ثم تقولين: " والرجل في نظرهم لا يعيبه شيء أما المرأة فهي عورة " ا.هـ
لماذا لم تفصحي عما تريدين بالتحديد ؟! .. إن المرأة والرجل أمام أحكام الإسلام وشريعته وحلاله وحرامه سواء " ? مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [النحل:97] .. وهما كذلك في حدود الله ..
? وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ?[المائدة:38] .. ? الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ?[النور:2] .. هكذا إلى آخر حدوده وأحكامه .. فأي شيء محظور على المرأة وهو مباح للرجل في ذلك ؟! .. أما قولك " المرأة عورة " فهو قول رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم : ( المرأة عورة ) فهل تؤمنين أن محمداً رسول الله ؟ .. وهل تفهمين معنى عورة ؟! ..
* ثم تعقبين قائلة : " هذه النظرة السخيفة والتفرقة الظالمة هي التي جعلت الرجل سيداً، والمرأة مملوكة، وجعلت الرجل جلاداً، والمرأة أسيرة، هذا الظلم موجود في مجتمعنا رغم قرب دخولنا أبواب القرن الواحد والعشرين ".(/1)
إن الرجل والمرأة إذا فهما دينهما ـ الإسلام ـ والتزما تعاليمه لا يكون بينهما سيد وأمة .. ولا جلاد وأسيرة .. فهذا قول من لم يدرك الإسلام .. ولم يهضم تعاليمه .. فالرجل والمرأة متساويان في الإنسانية والكرامة والأهلية .. كما قال تعالى ? .. أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ? [آل عمران:195] .. أي الذكر من الأنثى، والأنثى من ذكر .. فكل واحد منهما يؤدي واجباته في حدود فهمه وإدراكه لفطرته وطبيعة تكوينه .. ولماذا خلقه الله تعالى في هذه الحياة الدنيا .. وفي ضوء فهمه لعبادة الله عز وجل يؤدي ما عليه برضى تام .. فالرجل لن يكون امرأة .. والمرأة لن تكون رجلاً ! .. وإذا تمثلت المرأة وتشبهت بالرجل فلن تكون رجلاً ولا امرأة إنما تصبح جنساً ثالثاً شاذاً مخنثاً !! .. ولن يبقى للرجل إليها حاجة .. لأنها ستصبح نمطاً ممسوخاً مشوهاً منه .. وكذا إذا تمثل الرجل بالمرأة فلن يكون رجلاً ولا امرأة وإنما يصبح من هذا الجنس الثالث المخنث، وستزهد فيه المرأة .. فما تعنين بقولك " مملوكة وأسيرة " في مقابل " سيد جلاد " ؟.
إن قوامة الرجل في الإسلام قوامة حق وعدل إن جاءت صحيحة وفقاً لما قضى هذا الدين الحنيف وهي ترضى جميع الأطراف من الجنسين، ولا تتعارض مع فطرة أحدهما .. فأي ظلم تعنين يابنة القرن العشرين .. القرن الذي ظلمت فيه المرأة أشد من ظلمها في الجاهلية !!.
* ثم تقولين : " إذا أرادت الفتاة أن تكمل تعليمها "ماجستيرـ دكتوراه" ؟! وتريد أن تحقق طموحها في سبيل ذلك قوبل ذلك بالسخرية "ا.هـ
أي ماجستير ودكتوراه ؟! .. وأي طموح يمنعها منه المجتمع ، إن المجتمعات كلها لا تقيد هذا، ولكن ليت النساء حقا إن خرجن للعلم يخرجن للعلم لا لشيء آخر ـ أقولها متأسفة .. ليتهن التزمن تعاليم الله في خروجهن .. ولكن الواقع يكذب ذلك فلا تخادعي نفسك .. وإنما خرجت المرأة لتتهرب من مسؤولية بيتها التي أصبحت أضعف من أن تقوم بها .. هذا إلا قلة ـ رحمها الله وعصمها من السقوط ـ .. وهذه القلة عندها من الشعور بثقل مسؤوليتها ما يمنعها من مثل هذه المهاترات .. وعندها من الاعتزاز بدينها والانقياد لشريعتها والفهم لحقيقة دورها ما يمنعها من النظر إلى الرجل بروح الندية والتحدي والعداوة .. وحسبها فخراً أنها هي التي تصنع الرجال وتربي الأجيال .. إن العلاقة بين أمثال هؤلاء النساء الصالحات وبين الرجال دافئة حميمة قائمة على المشاركة والتعاون والاحترام المتبادل والاعتراف بالجميل، وشتان بين من قدوتها خديجة وعائشة وزينب وأم سلمة .. ومن قدوتها هدى شعراوي ونوال السعداوي !!
فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناء بما فيه ينضح !!
* ثم تقولين: " إذا لم تتغير هذه النظرة للمرأة ونحن في هذا العصر المبهر فانتظروا الهلاك "ا.هـ
نعم هو عصر مبهر لكن لمن ؟ .. وهو عصر مظلم، وأيم الله لقد ازداد ظلامه بإفساد أهل الأرض .. واستباحتهم الحرمات وانتهاكهم المحرمات ..
* وتقولين: " فممارسة المرأة لمهنة الطب والتدريس فقط ليست كافية، بل يجب أن يفتح أمامها المجالات دون تقصير لأن المرأة عنصر فعال وحتى تقوم بدور إيجابي إذا فسح لها المجال وعلينا شطب قاموس "العيب" ". ا.هـ
أما قولك "علينا شطب قاموس "العيب" " فسأترك الرد عليه للقارئ اللبيب والقارئة !! .. فرب صمت أبلغ من كلام .. وأدعو أهل الغِيَر والنخوة خاصة للتدبر في هذه الكلمة " علينا بشطب قاموس "العيب" " ..
ثم أي مجالات تريدين المرأة الدخول فيها دون تقصير .. هل تريدينها عاملة بناء تحمل القصعة على رأسها؟ .. وسائقة تاكسي .. وكناسة في الشوارع، وكهربائية، وميكانيكية، وعاملة في المصانع، وفي محطات الوقود، لا تستطيعين تمييزها من الرجال كما حدث في أوروبا وأمريكا؟ .. يا للذلة والمهانة ..
إن هذا من تحقير المرأة وظلمها، وليس من حريتها وتحررها في شيء، بل هذا حقاً هو العبودية .. وكانت الأمة المملوكة في الجاهلية هي التي تقوم بأعمال الرجال مثل هذه التي تتكلمين عنها اليوم !! أما الحرة فهي أصون وأكرم من أن تذل وتبتذل وتمتهن كرامتها على هذا النحو الذي تريدينه للمرأة .. ليتك أردت لها خيراً .. واحسرتاه !
ثم هل انعدم الرجال ؟! .. حتى تترك المرأة مملكتها وأطفالها الذين هم رجال المستقبل ونساؤه .. أرجو أن تنظري نظرة إنصاف في الشوارع والأسواق وكثير من المجالس لتدركي حمى البطالة التي استشرت في الرجال اليوم! .. هذا وأرجو ألا تقترحي على الرجال البقاء في البيوت لأداء مهمة المرأة، فأنت تعرفين أن دور المرأة لا تحسنه إلا المرأة.
* ثم تقولين: " بل العيب والخطأ أن نستخدم هذا المصطلح "العيب" ونحن في هذا العصر ـ عصر التقدم والتكنولوجيا ".(/2)
لعمر الله ما نادى أحد بتبذل المرأة وامتهانها إلا وكان جاهلاً بمعنى التقدم والتكنولوجيا .. هل تقدمت أوروبا وأمريكا بانكشاف المرأة وخروجهن يستجدين لقمة عيش تقيم أودهن ؟!.
ثم مرة أخرى تعيبين مصطلح العيب !! هل تريدين للمرأة انخلاعا من الأخلاق .. وبهيمية في سوق الابتذال كما حدث للمرأة التي تشيرين إليها في الشعوب المتطورة .. وهل هذا هو التطور أم العودة إلى "جبلاية" القرود وبدائية ما قبل التاريخ ؟!.
* وتقولين: " إذا أعطوها حريتها فسوف ترون ماذا تفعل ما لم يفعله الرجل ".
ما شاء الله ... ما هذه العنترية الناعمة ؟! .. للرجل يا عزيزتي مجال، وللمرأة مجال، وتصدي أحدهما للآخر لن يقدم شيئاً للمجتمع الذي لا ينفعه إلا انسجام أفراده وتعاون رجاله ونسائه .. ثم أية حرية تريدين ؟ .. هل هي حرية المرأة الغربية المزعومة التي تئن منها الآن ؟! .. ألم تطلعي على مظاهرات النساء هناك .. أعيدونا إلى البيت، العش الآمن الدافي الذي حرمنا منه .. ولا مجيب لهن كأنهن كلاب تعوي !! .. ألم تقرئي نتائج البحوث التي أجريت لاستطلاع رأي المرأة هناك، أعني العاملة التي جاءت تئن ألماً وتقطر دماً وحزناً من سوء أحوالهن النفسية والجسدية والاجتماعية .. لأنهن خالفن فطرتهن وتحملن ما لا يطقن ؟ .. فهل هذه حرية ـ أم هو غاية الظلم والعبودية.
حسبنا هذا .. فتريثي في اندفاعك.
* ثم تقولين: " لكنها مكبوتة لا تستطيع أن تحقق هذه الطموحات في ظل هذه الظروف الصعبة (الذي) "هي كتبتها هكذا والصحيح (التي يفرضها)" يفرضه المجتمع عليها من قيود وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان ".
ألم تقرئي قول الله تعالى: ? وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ? [الأحزاب:33] .. وألم تقرئي قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم (المرأة عورة إذا خرجت استشرفها الشيطان) .. ألم تقرئي قول عائشة ـ رضي الله عنها: " لو رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد كما منعته نساء بني إسرائيل "..
وهذا في زمان عائشة ـ رضي الله عنها ـ زمان طيبٌ أهلُه، صالحٌ مسلمُوه .. وليس في فساد القرن العشرين المبهر لكل من ضل عن طريق الحق ! ..
* ثم تقولين: " فالمجتمع يبقى مشلولاً إذا انعدمت مشاركة المرأة " ا.هـ
نعم هو كذلك، ولذلك فالمرأة المسلمة في المجتمع ليست عاطلة كما يتشدق المتشدقون .. ولكن أية مشاركة تعنين ؟! .. هل هي مشاركة متفلتة هوائية ؟! .. أم هي مشاركة وضحها الله عز وجل وبينها رسوله ـ صلى الله عليه وسلم .. فلا تخلطي الصدق بالكذب ولا تمزجي الطيب بالخبيث ..
* ثم تعقبين قائلة: " فالعمل القائم على أسس سليمة وهدفه بناء الوطن ورفاهية الشعب.. أمر يقره الدين بل ويعتبر في حد ذاته عبادة لكن عاداتنا وتقاليدنا هي التي تحرم وتفرض قيوداً غير منطقية على المرأة، وكأن المرأة خلقت فقط لتتزوج وتنجب، ثم تحبس في البيت، فالمرأة ليست حيواناً هدفها فقط الإنجاب ".
نعم أقر الدين للمرأة أن تعمل، ولكن أي عمل تعمله ؟ عليها مسئولية بيتها فإن هي ضيعتها ضاع النسل رجالا ونساء، وهذا هو واقع أكثر بيوت المسلمين اليوم .. والمرأة مصونة عن أن تتبذل لكسب قوتها بنفسها، بل هي مكرمة في ذلك، مكفولة من أبيها وزوجها أو ابنها أو أخيها .. وإن لم يكن فمن بيت مال المسلمين .. والمرأة خلقت لعبادة الله .. ومن ضمن عبادته أن تتزوج وتنجب الأطفال .. وهي ليست حيوانا ولكن الله عز وجل جعل منزلتها كأم أعلى منزلة في المجتمع .. أعلى من منزلة الأب ومن أية منزلة .. فإن هي لم تنجب لم تنل هذه المنزلة الرفيعة .. ولم يجعلها بإنجابها حيواناً .. وإنما هذا قول الكفار .. أرادوا ترويجه بين المسلمين، فافهمي هذا قبل أن تتكلمي يا عزيزتي .. وانظري إلى قول الصحابية الجليلة أسماء بنت يزيد بن السكن ـ رضي الله عنها ـ فقد أتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت له " بأبي أنت وأمي يا رسول الله .. أنا وافدة النساء إليك .. إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء كافة فآمنا بك وصدقناك .. وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج، وأفضل من هذا الجهاد في سبيل الله عز وجل .. وإن أحدكم إذا خرج حاجا أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم .. وغزلنا ثيابكم .. وربينا أولادكم .. أفنشارككم في هذا الأجر والخير؟ ..".
سبحان الله ! .. انظري يا عزيزتي إلى ماذا تريد الصحابيات .. وماذا تريد من يردن أباطيل روجها الاحتلال بيننا طويلاً .. تريد الأجر والمثوبة لأنها تنظر إلى قرارها في بيتها التي تسمينه حبساً .. وتنظر إلى إنجاب النشء المسلم الصالح الذي يوحد الله عز وجل ويعبده، والتي تسمينها كالحيوان إن كان هدفها الإنجاب فقط، تنظر إلى هذا كله على أنه عباده الله عز وجل وترجو ثوابه في الجنة ..(/3)
ثم انظري ماذا فعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم .. قد التفت النبي إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال مثنياً عليها ـ رضي الله عنها (هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه ؟! ) فقالوا: " يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا !" .. فانظري إلى هذه الصحابية التي أثنى عليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهي قد أدركت حقيقة اسلامها وإيمانها .. ورضخت لحكم الله عز وجل وحكم رسوله ..
ثم انظري ماذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها، قال: (افهمي أيتها المرأة وأَعلمي من خلفك من النساء .. إن حسن تبعل المرأة لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته "يعنى في المعروف" يعدل ذلك كله) ..
فلماذا تحقرين وظيفة المرأة التي خلقها الله لها وأمرها بها ورضي لها ذلك .. والتي لا تنجح فيها إلا عاقلة أحسنت الإيمان بالله وبرسوله، والتي تفشل فيها كل ضعيفة تافهة ضالة عن سبيل الله متمردة على حكمه .. ثم لماذا لا تتفانى المرأة في بيتها وتعمل فيه بإخلاص إن كانت حقاً تريد ـ كما تقولين ـ رفعة وطنها وتقدمه .. فلتبدأ بما فرضه الله عليها .. تبدأ بحسن تبعلها لزوجها .. وحسن قيامها على بيتها .. وعلى رعاية أولادها .. فالمرأة التي تكتفي مع أولادها بمجرد أن تنجبهم ثم تمضي لعملها خارج البيت وتتركهم للخادمة .. وهذه امرأة فاشلة فشلت في مهمتها .. وعلى حد تعبير أحد مفكري الغرب من عقلائهم .. " أنها نجحت في عمل يستطيع أن يقوم به أي عامل بسيط .. ولكنها فشلت في عملها كامرأة "! .. فالمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها .. وهذه التي تترك أولادها لخادمة أو غيرها وترجع من عملها منهكة لا تستطيع أن تمنح شيئاً .. فاقد الشيء لا يعطيه .. سوف تمنحهم اضطرابها النفسي والفكري يا عزيزتي .. سوف تخرب ذريتها رجالاً ونساء .. وسوف يشقى المجتمع ويتأخر بنسلٍ هذه صفته، فتأملي قولك ملياً.
* ثم تقولين : " لا بد أن يأتي "يوم" تتحرر فيه المرأة من القيود التي فرضها المجتمع عليها "ا.هـ
أية قيود وأي تحرر؟! .. قد أتى الإسلام فحرر المرأة فهي ليست بحاجة إلى الحرية المزعومة المكذوبة .. واعلمي أن الله عز وجل ارتضى لها القرار في بيتها وصانها معززة مكرمة فيه .. ولا يعترض على هذا ويرفضه إلا منافق ..
ثم كأن المرأة قد علقت لها المشنقة لأن الله عز وجل أمرها بالقرار في بيتها .. وإذا خرجت مصونة محجبة .. هل هذه كل القيود التي تؤرقك وتريدين تحرير المرأة منها ؟! .. وهذه لم يفرضها المجتمع بل فرضها الله عز وجل .. فهل انفلات المرأة وتفسخها عن حكم الله وحكم رسوله يعتبر تحرراً ؟!! .. لبئس ما تنادون به من تحرر .. هذه ليست عزة .. بل هي غاية الذلة .. وهذا ليس تحرراً .. هل هو عودة للغوغائية والجاهلية وبهيمية الغاب.
* ثم تختتمين كلمتك التي كثرت بها الأخطاء اللغوية والنحوية فضلاً عن المفاهيم الشرعية .. قائلة : " ويدرك حينها أن المساواة بين الجنسين أمر هام وضروري لمواكبة التطور والتقدم كالتي وصلت (إليها) المجتمعات الأخرى "ا.هـ
أية مساواة التي تريدينها ؟ .. هل تريدين للمرأة أن تخرج من ثوب أنوثتها وتتحول إلى رجل أم ماذا تريدين ؟! .. كل شيء خلقه الله في الكون جعله ذكراً وأنثى .. فالقطب الموجب لا يشبه القطب السالب ولا يعمل عمله، وإن شابهه خربت الأمور .. وهكذا في كل شيء .. فهل تريدين أن تمسخي جنس المرأة ليصبح صورة مشوهة لجنس الرجل ؟! .. ولن يكون !!
لقد اختلطت عليك الأمور يا عزيزتي .. فتقدم أوروبا وأمريكا العلمي يواكبه أعظم تخلف اجتماعي حدث في تاريخ البشرية .. وأعظم شرخ حدث في شخصية الرجال والنساء وفي صرح الأسرة .. فهل هذا هو التقدم .. والله إنه لنذير بالزوال.
* ثم تقولين: " لكن المجتمع يمنعها من ممارسة هذه الأعمال ومن هنا ينشأ التخلف الاجتماعي بل والاقتصادي وتخلف في جميع المستويات "ا.هـ
ولماذا تعلقين تخلف المجتمع بقرار المرأة في بيتها وصيانتها عن التبذل ؟! .. عجباً لك .. هل أفلحت المرأة في مهمتها وفي تربية أطفالها وفي حسن تبعلها لزوجها .. ولا يغررك زيف الحياة الأوروبية والأمريكية فعقلاؤهم ينادون بعودة المرأة إلى البيت .. وهذا هو الوضع الصحيح ولا يصح إلا الصحيح ولكن قد أفلتت الأمور من أيديهم واتسع الخرق على الراقع.
فهل تريدين لمجتمع المسلمين أن يمضي نحو الهاوية الاجتماعية والسقوط الاجتماعي الذي سقطوا فيه ؟! .. وأن يشرب من نفس الكأس المسموم ؟! أم ماذا تريدين ؟ ..
* ثم هل تقولين هذا مخدوعة بزيف حياتهم لا تدركين حقيقة المظلمة ؟! ..
* أم تقولينه خادعة تريدين أن تضلي غيرك .. فلا تأمني مكر الله فإنه لا يصلح عمل المفسدين
* أم أنك تشعرين أنك مملوكة أسيرة مظلومة مقهورة ؟!
أم انه مجرد إحساس بالضعف والانهزام النفسي .. ألا فاعلمي أن هذا من سمات الضعفاء كما يقرره ابن خلدون في مقدمته .. !!(/4)
** وختاماً فاعلمي يا عزيزتي أنه ليس بيني وبينك ثأر! .. وإياك أن يخدعك الشيطان فيزين لك أنني وإياك فرسا رهان .. أو أننا ندان! .. كلا .. بل اعلمي أنني أدعو لك بالهداية والتوفيق.
? ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ? .. مع تمنياتي لك بالتوفيق ..(/5)
إليك يا ذات النقاب
فهد الناصح
دار الوطن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله... و بعد:
· فإنني أتألم كثيرا كلما شاهدت فتاة تحمل في قلبها الخير، وتسعى لما فيه عز أمتها وصلاح أخواتها. أتألم كلما رأيتها وقد انساقت وراء موضة النقاب، فأصبحت ترتديه كغيرها دون أدنى تفكير منها بعواقبه أو محاذيره المستقبلية.
· قد تقولين: إنني ما ارتديت النقاب إلا لغرض بريء، ويعلم الله أنني لم أسرف ولم أتجاوز. وقد ترتاحين أنت فعلا مع النقاب فترين الطريق وتبصرين البضاعة، لكن ماذا لو تحول لبس النقاب بصوره المختلفة إلى ظاهرة؟
أتستطيعين بعدها. إيقاف موج فتنته الهادر؟!
ألم تستمعي- وأنت الملتزمة- إلى القاعدة الفقهية التي تنص على أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؟
· ربما ترددت زميلتك في لبس النقاب، وحينما رأتك تلبسينه هان عليها أمره، بل ربما قلدتك جارتك ولم تكن نيتها حسنة كنواياك... ألا تتحملين ذنبها؟! ألا تعلمين أن من سن سنة سيئة في الناس فعليه وزرها؟! أيرضيك أن تكوني ممن سن سنة لبس النقاب في مجتمعنا الذي التزمت نساؤه تغطية وجوههن كاملة؟!
· سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: بعض!الفتيات تشجع وتحرض قريباتها وزميلاتها على لبس النقاب العصري الذي هو أقرب إلى النافذة الصغيرة منه إلى النقاب الذي كان معروفا؟ فهل تعتبر هذه ممن يسن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة؟
· فأجاب فضيلته: "نعم، إذا كانت تدعو إلى نقاب تكون به الفتنة فإنها تكون ممن سن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
· فأقول: يا معشر المنتقبات والمبرقعات، اتقين الله في الرجال، فكم من فتاة منتقبة أفسدت على بعض الأزواج زوجاتهم!! وكم من فتاة مبرقعة أفسدت على بعض الشباب حياتهم!! وكم من فتاة منتقبة أو مبرقعة أفسدت على بعض الرجال دينهم!!
فاحذري يا أختي المنتقبة أن يفسد الله عليك زوجك، أو يفسد عليك حياتك، أو يفسد عليك دينك.
وفي هذه الرسالة المتواضعة أحببت إلقاء الضوء على النقاب الذي انتشر بكثرة، وإليك فتاوى علمائنا، وكذلك توجيهات لأولياء أمور المنتقبات والمبرقعات.
لم لا يغض الرجال أبصارهم؟
· من أعجب ما سمعت عن لابسات النقاب عندما نصحت إحداهن في السوق وقد أخرجت نصف وجهها من خلال فتحة تسميها نقابا، فنصحت بلبس الخمار الذي يغطي وجهها وترك ما تسميه نقابا؟ قالت: ! لا يغض الرجال أبصارهم؟ وهذا من الحق الذي أريد به باطل، فالواجب على الرجال غض أبصارهم في كل حال، ويجب على المرأة أن تعينهم على ذلك بإخفاء محاسنها عنهم وعدم إبداء شيء من زينتها ومفاتنها، أما أن تتعمد إظهار ذلك بلبس النقاب أو البرقع فهذا مما لا يجوز، كما أن فيه تعاونا على الإثم والعدوان.
· وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: ما نصيحتك لمن إذا نصحت بترك لبس النقاب لأن عيني المرأة فتنة للرجال قالت: لم لا تغضون أبصاركم عنا؟
· فأجاب فضيلته: "الجواب أن يقال: إن الله تعالى قال في كتابه العزيز: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهير [الأحزاب:33]، ومن المعلوم أن المرأة محط أنظار الرجال، فإذا خرجت إلى الرجال في حال تؤدي إلى الفتنة فإن الناس سوف ينظرون إليها، وتكون قد عرضت هؤلاء الرجال للفتنة.
· لذا قال الله تعالى: وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن [الأحزاب:53]، فاحتجاب المرأة عن الرجال طهارة لقلبها ولقلوبهم. وإظهارها لمفاتنها- لا سيما محاسن وجهها- سبب لمرض قلوب الرجال وافتتانهم بها.
حكم لبس النقاب وبيعه
· لقد تفننت بعض النساء - هداهن الله - بلبس أشكال من النقاب والبرقع لا يشك مسلم فضلا عن عالم بأنها فتنة، وحيث إن هناك من اتخذ بيعها تجارة ومهنة له خاصة النساء؟
فقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
· فأجاب فضيلته: "هذه لا تجوز، لأنه قد ظهر الحاجب من فوق العين وجزء من الجبهة أيضا، وهذا لا يجوز؟ لأن النقاب إنما هو بقدر ما ترى المرأة ما وراء الستار، ونصيحتنا لمن يتاجر بها ألا يتاجر بها لأنه حرام".
النقاب العصري مبدأ فتنة
· سئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ما نصيحتكم للفتيات اللاتي تركن غطاء الوجه الكامل- الذي عرفت وتميزت به نساء هذه البلاد- ولبسن النقاب العصري؟(/1)
· فأجاب فضيلته: "نصيحتي لنساء المسلمين عموما ونساء هذا البلد خصوصا: أن يتقين الله، ويحافظن على الحجاب الساتر للوجه وسائر الجسم؟ عملا بقوله تعالى: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [الأحزاب:33]، وألا يتحولن من الحجاب الكامل إلى الحجاب الناقص أو ما يسمى بالحجاب الخادع، ولا يكن من الكاسيات العاريات المائلات المميلات، اللاتي أخبر النبي أنهن من أهل النار، وأنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها. وما يسمى بالنقاب العصري لا شك أنه مبدأ فتنة وشر وتحول مخيف".
نقاب اليوم نوع من السفور
· سئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: كثر الحديث حول النقاب ومدى حله أو حرمته، بماذا تنصحني فضيلة الشيخ حول هذا الموضوع؟
· فأجاب فضيلته: "الواجب على المرأة المسلمة التزام الحجاب الساتر لوجهها وسائر بدنها، درءا للفتنة عنها وعن غيرها.
والنقاب الذي تعمله كثير من النساء اليوم نوع من السفور، بل هو تدرج إلى ترك الحجاب. فالواجب على المرأة المسلمة أن تبقي على حجابها الشرعي الساتر، وتترك هذا العبث الذي تفعله بعض السفيهات من النساء اللاتي تضايقن من الحجاب الشرعي، فأخذن يتحايلن على التخلص منه".
· أما فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله فبعد أن بين الأصل في النقاب قال: "في وقتنا هذا لا نفتي بجوازه، بل نرى منعه، وذلك لأنه ذريعة إلى التوسع فيما لا يجوز... " إلى أن قال: "ولهذا لم نفت امرأة من النساء لا قريبة ولا بعيدة بجواز النقاب أو البرقع في أوقاتنا هذه، بل نرى أنه يمنع منعا باتا، وأن على المرأة أن تتقي ربها في هذا الأمر، وألا تنتقب؟ لأن ذلك يفتح باب شر لا يمكن إغلاقه فيما بعد".
لماذا يمنع النقاب ويفتى بعدم جوازه؟
· سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: ما دام الأصل في النقاب الإباحة؟ فلماذا يمنع ويفتى بعدم جوازه؟
· فقال فضيلته في إجابة مفصلة نقتطف منها قوله: "... الشيء إذا كان مباحا ويوصل إلى محذور شرعي فإن الحكمة تقتضي منعه، وهذه قاعدة معروفة عند أهل العلم؟ فالشيء المباح: إذا كان وسيلة أو ذريعة إلى شيء محرم صار ممنوعا".
أيتها المبرقعة! ضعي فوق البرقع غطاء
· سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: ما حكم البرقع إذا لم يتخذ للزينة وإنما للستر، ومع ذلك يوضع غطاء عليه؟
· فأجاب فضيلته: "البرقع الذي للزينة ولكن تغطي المرأة وجهها لا بأس به؟ لأنه لا يشاهد، فستغطيه غطوة فوقه، لكن البرقع الذي يظهر ولا يغطى لا نفتي بجوازه؟ لأنه فتنة، ولأن النساء لا يقتصرن على هذا...".
· وعلى هذا فيجب منع تلك البراقع التي تتخذ للفتنة باتساعها وأشكالها، ويجب على من اعتدن لبس البرقع من نساء البادية أن يضعن فوقه خمارا يستر أعينهن، كما لا يجوز لهن لبس البراقع الواسعة ولو غطي بخمار شفاف؟ فهو أقرب للحجاب الكاذب منه للخمار الساتر، ويجب على أولياء أمور المبرقعات منعهن منه؟ غيرة عليهن، ومنعا لفتنتهن للرجال.
قصص في الغيرة لأولياء المبرقعات والمنتقبات
· قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فقال النبي : { أتعجبون من غيرة سعد؟ والذي نفسي بيده، لأنا أغير منه، والله أغير مني }.
· فما الذي دهى بعض المسلمين؟! يسمحون لنسائهم بكشف وجوههن أو ترقيق الخمار لأسباب تافهة وبحجج واهية ؟! وماذا دهى بعض شبابنا؟ حيث يرضون لنسائهم بلبس البرقع الذي يجمل المرأة ويظهر زينتها، أو النقاب الذي يظهر جمال عينيها، وقد لا يرضى ولكنه لا يمنعها من ذلك؟ فهل زالت الغيرة من قلوبهم على أعراضهم؟!
· سئل فضيله الشيخ محمد بن صالح العثيمين: بعض الرجال يسمح لزوجته أو أخته بلبس النقاب، وينكر على من ينصحها بتغطية وجهها كاملا؟ فهل يأثم بذلك؟ وبماذا تنصحونه؟
· فأجاب فصيلته: "نظرا لما اعتاد النساء عندنا من تغطية الوجه كاملا وترك النقاب، ونظرا لما حدث من السماح لهن بالنقاب من التوسع فيه حتى صرن يخرجن الحاجب والوجنة، ويحصل بذلك شر وبلاء، فإننا نرى أن ينظر الإنسان إلى المصالح والمفاسد، ويتجنب ما فيه المفسدة".
الغيرة الغيرة يا معشر الأزواج
· فأرونا معاشر الأزواج الغيرة على نسائكم، وامنعوهن من لبس ما فيه فتنة؟ فأنتم مسئولون عنهن أمام ربكم يوم القيامة، يوم تسألون عن الأمانات هل حفظتموها؟ وعن الرعية هل رعيتموها؟ فماذا أعددتم للسؤال؟
هل يجب على ولي المرأة منعها من لبس النقاب؟
· سئل فضيلة الشيخ عبدالله الجبرين: ما نصيحتكم للرجال الذين يسمحون أو يأمرون نساءهم بلبس النقاب الذي أصبح موضة تتجمل به بعض النساء، وترك غطاء الوجه الكامل؟(/2)
· فأجاب فضيلته: "نصيحتنا للذين سمحوا لنسائهم بلبس هذا النقاب أو أمروهن بلبسه أن يتفكروا في أثره عليهن، فإنه مجلبة للشر، وجاذب لهن إلى المعاكسة، وسبب في ميل الرجال إليهن،فعاقبته سيئة، والرجل الغيور لا يرضى لنسائه بكونهن محل ميل الرجال الأجانب (غير المحارم). ومتى رأى أو علم من امرأته المعاكسة أو مخاطبة الرجال اشمأز ونفر من ذلك؟ فكيف يقر أسبابه مثل هذا اللباس الذي هو أقوى سبب لهذه الفتنة؟! ".
· وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: هل يجب على ولي أمر المرأة أن يمنعها من لبس النقاب، لا سيما وهو يراها مجملة لعينيها وما حولهما، لافتة للأنظار في السيارة وعند الإشارات وفي الأسواق؟
· فأجاب فضيلته: "نعم، يجب على ولي أمر المرأة إذا اتخذت نقابا يلفت النظر أن يمنعها من ذلك؟ لأن الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم:6]".
عليكم بالنصيحة!
· إن المسلم! ليعجب من بعض الرجال الذين تلبس نساؤهم نقابا يظهر نصف وجهها أو ربعه، فإذا نصحه ناصح بأن يأمر زوجته بلبس الخمار الذي يغطي وجهها كاملا أحمر وجهه، وانتفخت أوداجه، وقال: ما دمت معها فلن يضرها ذلك، ولا علاقة لأحد بزوجتي!!
· وقد سئل فضيلة الشيخ! صالح بن فوزان الفوزان: بم توجهون الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر الذين يواجهون:أعددا كبيرة من المنتقبات في الأسواق والشوارع والحدائق ونحوها؟
· فأجاب فضيلته: "ننصح للمسلمين عموما وللقائمين على أمور الحسبة خصوصا، أن يحذروا النساء من التساهل بالحجاب وما يجر إلى السفور، لما في ذلك من الفتنة والشرور العظيمة على المجتمع، وألا يتبعوا خطوات الشيطان الذي يتدرج بهم إلى الباطل؟ فأولا يأمر بلبس النقاب، ثم يأمر بكشف الوجه كله، ثم لسفور والعري كما فعل بالمجتمعات الأخرى، والله أعلم".
دمعة غدير
· كم بكيت لأن فستاني لا يعجب الحاضرات! كم بكيت لأن فريقي المفضل خسر المباراة! كم بكيت لضياع النسخ الأصلية لأشرطة غناء فناني المفضل! كم بكيت لأن تجعيد شعري لم يعجب الحاضرات، كم بكيت وبكيت.. كدت أنتهي وبكائي لا ينتهي، كنت أبكي بحثا عن السعادة، وبينما أنا في دياجير الظلام وصحاري التيه هداني ربي إلى بصيص من النور ساقه إلي عبر شريط إسلامي كان بالنسبة لي نقطة تحول وعلامة بارزة، أسأل الله أن يحرم اليد التي قدمته لي على النار.
· بفضل الله عدت وما أجملها من عودة! وبفضله حييت وما أجملها من حياة! وبفضله بكيت وما أجمله من بكاء! بكيت حسرة وندما على الماضي أيام الغفلة والضياع.
· دمعه الماضي دمعة، ودمعة الحاضر دمعة، لكن شتان بينهما، دمعة الماضي عذاب وإحباط وحسرة أخشى أن تكون حجة علي في الآخرة، ودمعة الحاضر خشية وسعادة وسمو وأنس أرجو أن تكون سببا في أن يظلني الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
ويا أسفاه
· ويا أسفاه على من عرضن مفاتنهن للرجال في الأسواق وغيرها بحجة الحرية! ووضعن العباءة على الكتف بحجة الأناقة! ولبسن البنطال والثياب المفضحة مسايرة للموضة! ولبسن النقاب الفاتن بحجة ضعف النظر! ولبسن المطرز والمزركش من العباءات والخمر الشفافة بحجة وجودها في الأسواق! واستحسن القيطان في أكمام العباءة بحجة أنه أسود... فإلى الله المشتكى.
· حفظ الله نساءنا بحفظه،وأحاطهن برعايته، وسترهن في الدنيا والآخرة، وهداهن للتمسك بكتاب الله وسنة رسوله ففيهما الحفظ والعفاف في الدنيا، والسعادة والفوز في الآخرة.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/3)
إمام المرسلين فداك روحي...
ردّا عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقياما ببعض حقّه...
إمامَ المُرسلينَ فداكَ رُوحيوأرواحُ الأئمةِ والدُّعاةِ
رسولَ العالمينَ فداكَ عرضيوأعراضُ الأحبّةِ والتُّقاةِ
ويا علم الهدى يفديك عمريومالي.. يا نبي المكرماتِ!!
ويا تاج التُّقى تفديك نفسيونفسُ أولي الرئاسةِ والولاةِ
فداكَ الكون يا عَطِرَ السجايافما للناس دونك من زكاةِ..
فأنتَ قداسة ٌ إمَّا استُحلّتْفذاكَ الموتُ من قبل الممات!!
ولو جحد البريّةُ منك قولاًلكُبّوا في الجحيم مع العُصاةِ
وعرضُك عرضُنا ورؤاكَ فينابمنزلة الشهادةِ والصلاةِ
رُفِعْتَ منازلاً.. وشُرحت صدراودينُكَ ظاهرٌ رغمَ العُداةِ
وذكرُكَ يا رسولَ اللهِ زادٌتُضاءُ بهِ أسَاريرُ الحَيَاةِ
وغرسُك مُثمرٌ في كلِّ صِقع ٍوهديُكَ مُشرقٌ في كلِّ ذاتِ
ومَا لِجنان ِ عَدنٍ من طريقٍبغيرِ هُداكَ يا علمَ الهُداةِ
وأعلى اللهُ شأنكَ في البَرَاياوتلكَ اليومَ أجلى المُعجزاتِ
وفي الإسراءِ والمعراج ِ معنىلقدركَ في عناقِ المكرماتِ
ولمْ تنطقْ عنْ الأهواءِ يوماوروحُ القدسِِ مِنكَ على صِلاتِ
بُعثتَ إلى المَلا بِرّاً ونُعمىورُحمى.. يا نبيَ المَرْحَمَاتِ
رَفَعْتَ عن البريّةِ كلُّ إصرٍوأنتَ لدائها آسي الأُساةِ
تمنّى الدهرُ قبلك طيفَ نورٍفكان ضياكَ أغلى الأمنياتِ
يتيمٌ أنقذ َ الدّنيا.. فقير ٌأفاضَ على البريّةِ بالهِبَاتِ
طريدٌ أمّنَ الدنيا.. فشادتعلى بُنيانِهِ أيدي البُنَاةِ..
رحيمٌ باليتيمة والأُسارىرفيقٌ بالجهولِ وبالجُنَاة ِ
كريمٌ كالسحابِ إذا أهلّتشجاعٌ هدَّ أركانَ البُغَاةِ
بليغٌ علّم الدنيا بوحي ٍولم يقرأ بلوح ٍ أو دواةِ
حكيمٌ.. جاءَ باليُسْرى.. شَفيقٌفلانتْ منهُ أفئدة ُ القُساةِ
فمنكَ شريعتي.. وسكونُ نفسيومنكَ هويتي.. وسمو ذاتي
ولي فيكَ اهتداءٌ .. واقتفاءٌلأخلاقِِ العُلا والمَكْرماتِ
وفيك هدايتي.. وشفاءُ صدريبعلمكَ أو بحلمكَ والأناةِ
ومنك شفاعتي في يومِِ عَرْض ٍومن كفيّكَ إرواءُ الظُّماةِ
ومنك دعاءُ إمسائي وصحويوإقبالي وغمضي والتفاتي
رسولَ اللهِ قد أسبلتُ دَمْعيونزَّ القلبُ من لَجَجِ ِ البُغَاةِ
فهذي أمّةُ الإسلام ضجّتْوقد تُجبى المُنى بالنائباتِ!!
هوانُ السيفِ من هُونِ المُباريولِينُ الرمحِ من لِينِ القناةِ
وقد تَشفى الجسومُ على الرزاياويعلو الدينُ من كيدِ الوشاةِ!!
وفي هزِّ اللواءِ رؤى اتحادٍولمُّ الشمل ِ من بعد الشتاتِ !!
وقد تصحو القلوبُ إذا اسْتُفزّتْولَفحُ التَّارِ يوقظ ُ من سُبَاتِ!!
ألا بُترتْ روافدُ كلِّ فضٍّتمرّغَّ في وحول ِ السيئاتِ
ألا أبْلِغْ بَنِي عِلمان عنّيوقد عُدَّ العميلُ من الجُنَاةِ !!
أراكمْ ترقصونَ على أَساناوتَسْتَحْلون مَيْلَ الغانياتِ!!
وإن مسَّ العدوَ مَسيسُ قَرح ٍرفعتمْ بيننا صوتَ النُّعاةِ!!
وإنْ عَبستْ لكم "ليزا"* خَنَعْتمْخُنوع َ المُوفضينَ إلى مَناةِ !!
وإن ما هَاجتْ الشُبُهاتُ خُضْتم ْبألسنةٍ شِحاح ٍ فاجراتِ !!
"حوارُ الآخرِ " استشرى فذبّواعن المعصومِ ألسنةَ الجُفاةِ !!
وصوت "الآخرِ " استعلى فردّواعن الهادي سهامَ الإفتئاتِ ..
رميتمْ بالغلو دُعاة ديني...فهل من حُجّةٍ نحو الغُلاة ؟!!
أكُرّارٌ على قومي كُماةٌ...وفي عينِ المصيبةِ كالبنات ِ؟!!
ومن يرجو بني علمان عوناًكراجي الروح ِ في الجسدِ الرُّفات!!
رسولَ الحُبِّ في ذكراك قُربىوتحتَ لواكَ أطواقُ النجاةِ
عليك صلاةُ ربِّكَ ما تجلّىضياءٌ .. واعتلى صوتُ الهُداةِ
يحارُ اللفظُ في نجواكَ عجزاوفي القلب اتقادُ المورياتِ
ولو سُفكتْ دمانا ما قضيناوفاءك والحقوقَ الواجباتِ....
* ليزا: كوندليزا رايز(/1)
إمامة امرأة..!!.
د. لطف الله خوجة 4/3/1426
13/04/2005
في الشهر الفائت: حدث أمر غير مسبوق في تاريخ المسلمين. فقد أقدمت امرأة مسلمة تعيش في الولايات المتحدة الأمريكية على: الإمامة والخطبة لصلاة الجمعة. وقد رفضت المساجد كلها هذا الحدث واستنكرته بشدة، فاضطرت لإقامتها في كنيسة، تحت حماية مشددة، ولم تكن هذه السابقة لوحدها، بل انضاف إليها: صلاة الرجال والنساء جميعا، في صف واحد. كما زيد على ذلك: أن بعضهن صلين كاشفات الشعر، من غير جلباب يستر البدن، بل بملابس يصف العورة ويجسمها..!!.
فهذا الحدث انطوى على خمس بدع هي:
- الأولى: إمامة المرأة الرجال في الصلاة.
- الثانية: خطبتها الجمعة.
- الثالثة: إقامة الجمعة: صلاة، وخطبة في كنيسة.
- الرابعة: صلاة الرجال والنساء جميعا، في صف واحد.
- الخامسة: صلاة بعض النساء كاشفات الشعر، من غير جلباب.
كل واحدة من هذه الخمسة لم تعرف في تاريخ الأمة، ولم يدل عليها دليل، ولو بالإشارة، فكيف بها مجتمعة..؟!!.
***
هذه الخطوة المحدثة نالت استحسان جهات غير إسلامية. يدل عليه: إقامتها في كنيسة، مع توفير الحماية. وأما المسلمون فقد استنكروها، واستهجنوها، ورفضوها، وحرمها العلماء، وحكموا ببطلان الصلاة والجمعة، ومنعوا المرأة من الإمامة والخطبة، إلا شذاذا، تعلقوا برأي منفرد سابق..!!، وهذا ديدن بعض الناس، يكفيه لتجويز شيء يهواه: أن يبحث عن قائل به متقدم. كي يتخذه ذريعة لاستحسان القول ونشره، دون اعتبار مخالفته لإجماع، أو موافقته لمذهب فاسد..؟!!.
***
والمهم في الأمر:
أن المسلمين بشقيهم: الموجبون تغطية وجه المرأة، والمجوزون: اتفقوا على تحريم إمامة المرأة.
لكن السؤال الأهم، الذي يطرح نفسه في هذه المناسبة:
إذا كان هذا موقف المسلمين من هذه المسألة، قديما وحديثا، فمن أين نبت هذا القول؟، وما دواعي ظهوره ؟، وأي شيء ذاك الذي أغرى هذه المرأة ومن معها للإقدام على هذه الخطوة..؟!.
هل الداعي مؤامرة محضة، صنعتها الكنيسة، وأيدٍ لا تخفى..؟.
أم أن لآراء بعض المسلمين يد في إحداث هذا الرأي..؟.
أما كونها مؤامرة، وتخطيط لإضلال المسلمين: فليس غريبا. والأمثلة معروفة من قديم. لكن الشأن في كونها أثرا لآراء بعض المسلمين. فإذا صح هذا الظن، فما تلك الآراء التي شجعت، وأوحت لهؤلاء بالإقدام على ابتداع هذه البدعة، وإحداث هذه الفتنة في صفوف المسلمين..؟.
***
أصل هذه البدعة:
القول بكشف الوجه قديم، قال به جمع، غير أنه قول مقيد بأمن الفتنة، فالفتنة موجبة للتغطية، وذلك في أحوال:
- أن تكون المرأة حسناء.
- أو يافعة.
- أو زمن يكثر فيه الفساق.
ومقيد أيضا بأفضلية التغطية، هكذا هو قول العلماء السابقين.
لكن ظهر في هذا القرن، من يقول بجواز الكشف من غير قيد؛ أي بإطلاق لكل النساء، من غير فرق بين حسناء وغير حسناء، ولا يافعة ومسنّة، ومن غير اعتبار لأحوال الناس..!!. وأضافوا إلى هذه المخالفة لأقوال من سبق: أنهم ساووا بين التغطية والكشف، بل بعضهم فضل الكشف، وآخرون بدّعوا التغطية، وجعلوه من تشددا، وتقاليد، وعادات..؟!!، فظهر قول جديد في حجاب المرأة، لم يعرف في تاريخ المسلمين، يخرج الإجماع، يقول: للنساء الكشف مطلقا، من غير قيد، بل ويستحسن ذلك في حقهن. وزادوا البدعة بدعة، حينما زعموا: أن هذا هو قول الأئمة القائلين بالكشف..؟!!.
ولما كان هذا القول محدثا، غير مسبوق، فقد ظهر من آثاره ما يؤيد بدعيته، مما هو جديد على الأمة:
- فصار أصحابه ينادون في الأمة بخروج النساء، لمشاركة الرجل في صنع الحياة، وكأنها وهي في بيتها لم تكن تشارك في صنع الحياة، مدة أربعة عشر قرنا، كان فيها المسلمون أعزاء الجانب..!!.
- واستساغوا لأجله التعليم المختلط، والعمل المختلط، وأن تلج المرأة على الدوام مجامع الرجال، وتكون معهم سواء بسواء، لا بحسب الضرورة.
- وادعوا أن هذا كان حال العهد النبوي، وأن العزل بين الجنسين بدعة محدثة..!!.
فقلّبوا الأمور، ونشروا الفتنة، وحرفوا الكلم عن مواضعه.
ولما كان قولهم: جواز الكشف بإطلاق. وكانوا في مبتدعين. وكان قولهم: تفضيل الكشف، وجواز الاختلاط: ترتب على ذلك تجويزهم شتى أنواع المشاركات النسائية في مجامع الرجال:
- فأجازوا غناء المرأة بمحضر الرجال.
- والتمثيل مع الرجال الأجانب.
- والمشاركة في الألعاب الرياضية معهم: أن تسبح، وتجري، وتلعب الكرة.. إلخ.
- وأجازوا أن تكون قاضية، ووالية ولاية صغرى، وبعضهم حتى العظمى.
وهكذا نفوا الفروق بينها وبين الرجل في هذه الأمور، ولم يكن حينئذ ثمة فرق بين قولهم وقول العلمانيين والمستغربين، إلا أنهم قالوا: كل ذلك إنما يكون وهي بحجابها..!!..
فاعجب لحجاب كيف يحجب..!!، وماذا يحجب..!!، وهي: تسبح، وتعدو، وتلعب الكرة، وتغني، وتمثل، وتصاحب الرجل في عمله، والطالب في مدرسته؟!..
كان هذا مبلغ فهمهم لحد الحجاب، وحدوده..!!.(/1)
ولم يقفوا عند هذا، بل هاجموا من أوجب على المرأة غطاء الوجه، والقرار في البيت، والمنع من الاختلاط بالأجانب، ورعاية الأولاد، والزوج، وأهل البيت، وتقديم هذا العمل على كل عمل خارج البيت، واتهموه بالتشدد، واتباع العادات، والتقاليد، والتخلف عن مقتضيات العصر، ولم يشفع له قوله بجواز عملها خارج بيتها، بشرط عدم الاختلاط بالأجانب، فزعموا: أنه يريد حبسها..!!.
فما كانوا في هذا منصفين، ولا بالعدل عاملين، ولا لأهل العلم متبعين..؟!!.
ولما فتحوا الباب عسر عليهم إغلاقه..!!، فإنهم أسسوا لمشاركة كاملة للمرأة مع الرجل، من غير حاجز، ولا فصل، بدعوتهم إلى الكشف عن الوجه، والخروج للعمل مع الرجل، حتى صار جمع النساء إلى نوع من اللباس سموه زورا: حجابا. فظهرن بقميص ضيق، وبنطلون ضيق يصف العورة، والمرأة كلها عورة، كما نص الأثر. ويضعن المكياج على الوجه، والأحمر على الشفاه، والكحل والألوان حول العين، ولأجل أنهن غطين الرأس والعنق: صرن محجاب، وهذا هو الحجاب..؟!!.
فلم يعد للأمر بإدناء الجلباب في قوله تعالى:
- { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرف فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما}.
أي معنى، وأي أثر..!!.
ولا للأمر باتخاذ الحجاب حين سؤال المرأة في قوله تعالى:
- {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}.
أية فائدة، ولا غاية..!!.
صار الحجاب على أيديهم، وبسبب أقوالهم له معنى آخر، ووصف مستحدث، لم يعرف أبدا في تاريخ المسلمين..!!: حجاب لا يمنع من النظر، ولا يقي العورة من الوصف، ولا قوام المرأة من الوضوح في تفاصيله. فأفسدوا معنى الحجاب، وغاية الحجاب، وعلة الحجاب..!!.
- فأي معنى للحجاب، وأية فائدة له: إذا قامت المرأة تغني في محضر الرجال..؟!.
- وأي معنى للحجاب، وأية فائدة: إذا شاركت الرجال بالتمثيل، فعاملتهم كزوج، ومحرم ؟!.
- وأي معنى له، وأية فائدة: إذا غدت أمام الرجال، تسبح، وتجري، وتلعب الكرة، لا تستتر منها مفاتنها ؟!.
- وأي معنى له: إذا صارت مع الأجنبي في العمل، يراها تروح وتجيء أمامه، كل يوم، كمحرمها، فتجلس معه دون حذر، وكأن ثمة صديق أو صاحب ؟!!.
- وأية فائدة له: إذا صارت قاضية ووالية، تحكم وتفصيل بين المتخاصمين، يأتون إليها، فتجلس معهم، لا فرق بينهم وبين أبيها، وأخيها، وابنها، ومحارمها ؟!!.
؟.. هل هكذا كان حجاب أمهات المؤمنين، ونساء الصحابة رضوان الله عليهن ؟.
؟.. هل كان فيهن القاضية، والوالية، والمعلمة للذكور، وهنّ أهل، لكنهن وقفات عند حدود الله ؟.
؟.. هل كان فيهن من تحضر حلق الرجال للعلم والتعلم، تزاحمهن بالركب ؟.
؟..هل كان فيهن من تخالط صفوف الرجال في الصلاة والجمع ؟.
؟..هل كان فيهن فتاة تعمل في دكان أحد الصحابة، أو تسافر في تجارته ؟.
- أم كن قارات في البيوت، لا يخرجن إلا لضرورة، امتثالا لقوله تعالى: {وقرن في بيوتكن}، هذه الآية الصريحة في مقامهن، هي أيضا مما نالته الأيدي بالعبث والتحريف، حيث زعموا أنها خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسبقهم إلى هذا أحد من علماء المسلمين..؟!!.
- أم كن يلبس الجلباب من فوق الرؤوس، ويبدين عينا واحدة، كما ذكر ابن عباس، وعبيدة السلماني،ومحمد بن سيرين، وابن علية، وابن عون ..؟!!.
- أم كن إذا سألن أو سئلن فمن وراء حجاب..؟!!.
- أم كن يغطين وجوههن، كما هو ثابت عن الأمهات والصحابيات..؟!!.
لكن هؤلاء يستندون إلى المتشابهات:
امرأة وضيئة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرى سفعاء الخدين، وثالثة أضافت النبي، ورابعة دخلت وعليها ثياب رقاق، فأمرها بتغطية بدنها سوى الوجه والكف.
لا يفرقون بين ما هو ثابت وغير ثابت.. ولا بين ظني الدلالة وقطعي الدلالة.. ولا بين ما قبل الحجاب وما بعده.. ولا بين ما كان ضرورة، وما لم يكن كذلك..!!. لا يفرقون بين المتفرقات، فيجمعون بين المتناقضات، ويبطلون لأجلها دلالات النصوص، ويهتكون الأصول، ويعطلون العمل بها، وهذه هي الفتنة والزيغ، الذي حذرنا الله منه بقوله:
- { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب}.
وليسوا كلهم طلاب زيغ وفتنة، بل فيهم طلاب حق، لكنهم مخطئون في اتباعهم المتشابه، ونسيانهم المحكمات، ومن المحكمات:
أن الحجاب هو الفاصل والحاجز بين الجنسين. فلا تقارب، ولا التقاء، إلا في حدود الضرورة الشرعية، فإذا انتفت الضرورة رجع الحكم إلى الفصل، ولا يصح أن توضع الضرورة موضع الأصل، دع عنك إبطال الأصل كليا، وإحلال حكم آخر مكانه، ما أنزل الله به من سلطان..!!.
***(/2)
ولما كان هذا قولهم وتقريرهم: فإنه لم يكن غريبا أن تأتي امرأة فتقدم على إمامة الناس وخطبتهم. فإن ما فعلته منسجم تماما مع قولهم ومذهبهم في: حجاب المرأة، ووظيفتها؛ فإنه لا نص مباشر يمنع من ذلك، إلا النصوص العامة في: القرار، والحجاب، والمنع من الاختلاط. وهي مانعة حقيقة، لكنهم أهدروها، وأفسدوها بما أحدثوه من أقوال وأراء غير مسبوقة..!!، أبطلوها برأيهم المحدث في صفة الحجاب، وبتجويزهم الاختلاط، فصار لزاما عليهم أن يقبلوا بهذه الخطوة المستحدثة في الإسلام..!!.
- فليست إمامة المرأة وخطبتها بأعجب من غنائها، وتمثيلها بمحضر الرجال..!!.
- وليست هذه بأعجب من سباحتها، وعدوها، ورياضتها بمحضر الرجال..!!.
- وليست بأعجب من ولايتها وقضائها..!!.
- وليست بأعجب من عملها بين الرجال..!!.
فمن أجاز كل هذه، فما باله يتوقف عند الأخرى، أليست كلها من بعض ؟!!.
- إن قالوا: لا يدل على إمامة المرأة وخطبتها نص من القرآن أو السنة.
قيل لهم: وكذا الغناء، والتمثيل، ليس فيها نص.
- وإن قالوا: هذه أمور مباحات والأصل فيها الجواز، وتلك عبادة، والأصل فيها المنع.
قيل لهم: هذه التي تسمونها مباحات، تتعارض مع أوامر إلهية بغض البصر، وبلزوم الحجاب، فلا يمكن تحصيل الغض من البصر، ولزوم الحجاب: في الغناء والتمثيل؛ إذاً ليست مباحات، بل محرمات. لكن أنتم تجعلونها مباحات برأيكم، وتهدرون لأجلها أوامر كالشمس في حق المرأة.
ثم يقال لهم أيضا: كذا القضاء والولاية ليس فيها نص بالإذن، بل جاء فيها المنع صريحا، في قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )، ومع كونه صريحا، إلا أنكم أولتموه، وحرفتم معناه، حتى عطلتم دلالته، كي يتناسب مع آرائكم المحدثة في المرأة.
- وإن قالوا: إذا صلت المرأة أمام الرجل: أذهبت خشوعه، بركوعها، وسجودها، بما يبدي من مفاتنها.
قيل لهم: وأين أنتم مما يكون حين: سباحتها، وجريها، وتمثيلها.. أليس يحدث فيه أعظم مما يحدث في ركوعها، وسجودها ؟.. وهل يغنيها حجابها المحدث، المصنوع على أيديكم..؟!!.
بل للمعارض أن يقول: الصلاة أولى بالجواز؛ لأن النفوس ما جاءت تطلب الفتنة، بل التوبة والخشوع.
- وإن قالوا: هذه من ضرورات العصر.
قيل لهم: والإمامة والخطابة للمرأة، من ضرورات العصر. وليس لكم أن تتحكموا فتجعلوا ما أردتم من ضرورات العصر، دون ما لم تريدوه.
- وإن قالوا: ذلك أمر لم يفعله المسلمون قط.
قيل لهم: وكل ما أحدثتموه من الرياضة، والتمثيل، والقضاء، والولاية: لم يفعله أحد من المسلمين. ولا يوجد لكم دليل عليه، إلا أدلة توردونها، في بعض هذه الأمور، في غير محل النزاع.
وهكذا ما من حجة يظنونها لهم، إلا وهي عليهم؛ لذا يلزمهم قبول تجويز الإمامة والخطابة للمرأة، طردا لمذهبهم وقولهم، في صفة الحجاب، ووظيفة المرأة. ومن هنا فإن بعضهم فهم هذا، فتناسب مع نفسه وقوله، فطرد قوله، فأجاز ذلك كله، ولم يمتنع. ومع أن مذهبه باطل أصلا وفرعا، إلا أنه لم يتناقض، حيث بنى باطلا على باطل، أما الآخرون فإنهم راموا بناء صحيح على باطل، وأنى لهم هذا..؟!! فالصحيح لا يبنى إلا على صحيح.. فمنع المرأة من الإمامة والخطابة لا يبنى إلا على منعها في الأصل من الخلطة بالرجال، وعلى الفصل بين الجنسين، لا العكس. أما الإذن بذلك فهو مبني على تجويز الاختلاط، وتوليها القضاء والولاية.. فلما سمعوا بهذه الواقعة: حاروا جوابا. فرجعوا يقولون:
- المرأة فتنة، فكيف تصلي أمام الرجل.؟.
- وهذا أمر لم يفعله المسلمون.
- ولم تثار هذه القضية في هذا الوقت بالذات، إلا إرادة التفريق بين المسلمين.
وكل هذه الأعذار لو تأملتها: وجدتها في كل ما أباحوه، وانفردوا به عن سائر العلماء في تاريخ الأمة.!!.
ولم يسلم من هذه الفتنة والمزلق إلا الذين كانوا قولهم منذ البداية:
- أن الأصل في المرأة: أن تقر في بيتها.
- وألا تخرج إلا لضرورة، ملتزمة حجابا كاملا، يغطي كامل بدنها، من فوق رأسها.
- وأنها ليست كالرجل في السعي والخروج من البيت.
- ولها أن تعمل، لكن في بيئة غير مختلطة بالأجانب.
- فهذا الأصل، والضرورات لها أحكامها، وتقدر بقدرها.
ملتزمين في ذلك النصوص، وقّافين عند حدودها، دون محاباة أو تأويل بدعي.
لقد أظهر هذا الحدث: ظهور قولهم، وأنه الحق، الذي لا يلزم عنه باطل، ولا يتناقض مع نفسه في شيء، ولا يفضي إلا تعطيل نص من النصوص المقدسة. أما لوازم قول الآخرين: أصحاب الحجاب المحدث، والقول المبتدع في مشاركة المرأة: كثيرة وخطيرة، ليست أقلها إمامتها وخطبتها الجمعة.(/3)
إمبراطورية الشعراء
... في بلاط الإمبراطور
الحمد لله حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضي، واصلي وأسلم علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه ومن بسنته اهتدي.
أما بعد :
فتحية طيبة يا أبا الطيب فقد حسونا كاس سحرك حتى ثملنا بياناً، أما أبياتك فالنجوم ضياء ورفعة، وأما قصائدك فالحدائق بهجة ونضرة .
من أين جئت يا أستاذ القافية ، وكيف وصلت يا فيلسوف الإبداع.
لقد عاش قبلك وبعدك آلاف الشعراء الذين ملؤوا الفضاء ضجيجاً، والكون صياحاً، ثم ماتوا وماتت أصواتهم، وبقيت أنت منشداً للدهر عازفاً علي نياط القلوب كما قلت أنت:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعراً اصبح الدهر منشدا
لقد عرفتك من ثلاثين سنة فكنت معي حضراً وسفراً النبي صلي الله عليه وسلم أتمثل أبياتك ، انشد قصائدك ، أحفظ ديوانك، ولكن ذنبك أنك زهدتني في غيرك من الشعراء . وعذرتك أنك سطعت ولمعت وأبدعت.
يا أبا الطيب، أخذنا من قصائدك ما كان شاهداً ومثلاً وحكمة وعبرة، وتركنا غلوك وهجاءك وصخبك، وعسى الجيل أن يعود للبيان العربي ليفهم كتاب ربه وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم حق الفهم، لأن الوحي هو المقصود بالتدبر والتأمل والدراسة: أما ما سواه فوسائل وأدوات فحسب:
قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا
د. عائض القرني
المتنبئ
عائض القرني
حسبك الله لم تزل تتحدا ما رهبت المنون أو هبت جندا
أنت كالدهر والقوافي ليال تبتني بالقريض في الناس مجدا
أرجفوا : مات! قلت لا أموت قالوا: قد مضي، قلت بل زماني تبدا
نبشوا فيك عبقرياً أديباً حركوا فيك مارداً بل ألدا
اشعلوا منك في الدياجي نجوما أحرقوا فيك غيظهم فاستبدا
كلهم قاتل وكل الضحايا أنت يا مالئ الفافي جدا
أنعلوا خيلك الأفاعي فهابت كل أفعى ذاقت من السم وردا
اصلتوا في عيونك الموت سيفا أغمدوا في حشاك رمحاً معدا
كيف أفلت والصحاري زؤام والمنايا خرس وقد جئت فردا
أي ليل ركبت؟ أين الأعادي فتهم يا عظيم معني وبعدا
أنت في الشام أم وصلت عماناً أم وردت العراق أم زرت نجدا
عند من أنزلوك عند ابن موسى أم سعيد وابن العميد المفدى؟
عند كافور اصبح العبد حرا أم علي ذا الحر أصبح عبدا
أم تريد الحياة أم أنت صب يعشق الحسن كاتماً ما تبدى
هل رأيت القرود حولك أسدا؟ أم تخليت طلعة الليث قردا؟
وعلي من تلقي القريض شجياً وإلي من تهدي من الشعر وردا؟
أنت يا ملبس السلاطين عزا أنت يا كاسي الصعاليك بردا
أنت يا مشعل الزمان أرحنا قال دعني أذكيه برقا ورعدا!
عشت بالعز مؤمنا لا يداجي ومن الذل كافراً مرتدا!
بصر العمي اسمع الصم شعرا علم الضاد تركماناً وكردا
بك ينوي الممات أن يتعشى قال: كلا أنا به أتغدي!
تلبس الثور مطرفاً وهو اعمي كى تراه اصمى وأطغي وأردا!
تحرق النذل بالقريض فيبقي خائباً خاسراً حقيراً مردا
لم تبال ركبت أدهم ضاف أو قطعت الصحراء سعياً
أو لقيت الخطوب في ثوب هول أو حضنت الأيام عزاً وسعدا
أو ملت القلوب فيك ابتهاجاً أو نقشت الصدور غلاً وحقدا
اترجي وصال أهيف غر قال: كلا طلقت سلمى ودعدا
كل شبر مصائب تتلظى كسيوف بواتر بل أحداً
تطلب الثأر في حنايا عظيم قد اعناقها بجنبية قدا
أنت يا بن الحسين اكبر لغز في بلاط الملوك تروى وتهدي
كيف أنهي الخطاب فيك وأجلو عن معانيك؟ قال لي : كيف تبدا؟
وردة من دم المتنبئ
للشاعر / عبد الله البردوني
من تلظي لموعة كاد يعمي كاد من شهرة اسمه لا يسمي
جاء من نفسه إليها وحيداً رامياً اصله غباراً ورسما
حاملاً عمره بكفيه رمحاً ناقشاً نهجه علي القلب وشما
خالعاً ذاته لريح الفيافي ملحقاً بالملوك والدهر وصما
***
ارتضاه أبوه السيف طفلاً أرضعته حقيقة الموت حلما
بالمنايا أردي المنايا ليحيا وإلي الأعظم احتذي كل عظمي
***
عسكر الجن والنبوءات فيه وإلي سيف( قرمط) كان ينمي
***
البراكين أمة، صار أما للبراكين للإرادات عزماً
( كم إلي كم تفني الجيوش افتداء لقرود يفنون لثماً وضما)
***
ما اسم هذا الغلام يا بن معاذ؟ اسمه ( لا) : من أين هذا المسمي؟
إنه أخطر الصعاليك طراً إنه يعشق الخطورات جما
***
فيه صاحت إدانة العصر: أضحى حكماً فوق حاكميه وخصما
قيل: أردوه، قيل : مات احتمالاً قيل: همت به المنايا ، وهما
قيل: كان الردى لديه حصاناً يمتطيه برقاً ، ويبريه سهما
الغرابات عنه قصت فصولاً كالتي أرخت (جديساً) و( طمسا)
***
أوراق الحبر كالربى في يديه أطلعت كل ربوة منه نجماً
العناقيد غنت الكاس عنه الندي باسمه إلي الشمس أومى
***
هل سيختار ثروة واتساخاً؟ أم تري يرتضي نقاء وعدما؟
ليس يدري، للفقر وجه قميء واحتيال الغني من الفقر أقما
ربما ينتحي ملياً، وحيناً ينحني، كي يصيب كيفاً وكما
عندما يستحيل كل اختيار سوف تختاره الضرورات رغما
ليت أن الفتي ـ كما قيل ـ صخر لو بوسعي ما كنت لحماً وعظما
هل سأعلو فوق الهبات كمياً؟ جبروت الهبات أعلي وأكمي
***
أنعلوا خيلة نضاراً ليفني سيد الفقر تحت أذيال نعمي(/1)
( غير ذا الموت أبتغي، من يريني سيد الفقر تحت أذيال نعمي
أعشق الموت ساخناً، يحتسيني فائراً، أحتسبه جمراً وفحما
أرتعية، أحسه في نيوبي يرتعيني ، أحس نهشاً وقضما
وجدوا القتل بالدنانير أخفي للنوايا، أمضي من السيف حسما
ناعم الذبح، لا يعي أي راء أين ادمي، ولا يري اصمي
يشتري مصرع النفوس الغوالي مثلما يشتريه نبيذاً ولحما
يدخل المرء من يديه وينفي جسمه من أديمه وهو مغمي
يبتدى مبغي هنا، ثم يبدو معبداً ها هنا، وبنكين ثما
يحمل السوق تحت إبطيه، يمشي بايعاً شارياً، نعياً ويتما
من تداجي يابن الحسين؟ ( أداجي أوجهاً تستحق ركلا ولطما
كم إلي كم أقول ما لست أعني؟ وإلي كم أبني علي الوهم وهماً؟
تقتضيني هذي الجذوع اقتلاعاً أقتضيها تلك المقاصير هدما)
***
يبتدي يبتدي، يداني وصولاً ينتهي ينتهي ، ويدنو ولما
هل يري غير ما تري مقلتاه؟ ( هل يسمي تورم الجوف شحما)؟
***
في يديه لكل سينين جيم وهو ينشق: بين ماذا وعما
لا يريد الذي يوافيه، يهوى أعنف الاختيار: إما ، وإما
كل أحبابه سيوف وخيل ووصيفاته : أفاع وحمى
( يا ابنة الليل كيف جئت عندي من ضواري الزمان مليون دهما؟
الليالي ـ كما علمت ـ شكول لم تزدني بها المرارات علما)
***
أه يابن الحسين:ماذا ترجي؟ هل نثير النقود يرتد نظما؟
بحفيف الموز ترمي سيوفاً عاريات: فهل تحديث ظلما؟
كيف تدمي ولا تري لنجيع حمرة تنهمي رفيقاً وشماً؟
كان يهمي النبات والغيث طل فلماذا يجف والغيث أهمي؟
الأن الخصاة أضحوا ملوكاً زادت الحادثات، وازددن عقما؟
***
( هل اقول الزمان أضحي نذيلا؟ ربما قلت لي : متي كان شهما؟
هل اسمي حكم الندامي سقوطاً؟ ربما قلت لي : متي كان فخما؟
أين ألقي الخطورة البكر وحدي؟ لست أرضي الحوداث الشمط أما
أبتغي يا سيوف ، أمضي وأهوي اسهماً من سهام ( كافور) أرمي)
***
شاخ في نعله الطريق وتبدو كل شيخوخة، صبي مدلهما
كلما انهار قاتل ، قام أخزي كان يستحلف الذميم الأذما
هل طغاة الورى يموتون زعماً ـ يا منايا ـ كما يعيشون زعما؟
أين حتمية الزمان؟ لماذا لا يري للتحول اليوم حتما؟
هل يجاري، وفي حناياه نفس أنفت أن تحل طيناً محمي؟
( ساءلت كل بلدة: أنت ماذا؟ ما الذي تبتغي؟ أجل واسمى
غير كفي للكاس، غير فؤادي لعبة في بنان (( لميا)) و ((ألمي))
***
كيف يرجو أكواز بغداد نهر قلبه وحده من البحر أطمي؟
كان أعلي من ( قاسيون) جبيناً من نخيل العراق أجني وأنمي
للبراكين كان أماً: أيمسي لركام الرماد خلاً وعما؟
***
( حلب يا حنين، يا قلب تدعو لا ألبي ، يا موطن القلب مهما..
اشتهي عالماً سوي ذا، زماناً غير هذا وغير ذا الحكم حكما
أين أرمي روحي وجسمي، وأبني لي، كما أستطيب روحاً وجسما؟)
***
خفف الصوت للعداء ألف سمع : هل ألاقي فدامة القتل فدما؟
يا أبا الطيب اتئد: قل لغيري : أتخذ حيطة : علي من ومما؟
كلهم ( ضبة) فهذا قناع ذاك وجه سمي تواريه حزما
( الطريق الذي تخيرت أبدي وجه غتمامه أريد الأتما
مت غماً: يا درب (( شيراز)) أورق من دمي كي يرف من مات عما
***
أصبحت دون رجله الأرض، أضحي دون إطلاق برقه، كل مرمي
هل يصافي؟ شتي وجوه التصافي للتعادي وجه وإن كان جهما
أين لاقي مودة غير أفعي؟ هل تجلى ابتسامة غير شرمي؟
***
أهله كل جذوة كل برق كل قفر في قلبه وجه ((سلمي))
تنمحي كلها الأقاليم فيه ينمحي حجمه ليزداد حجما
تحت أضلاعه (( ضفار)) ورضوي وعلي ظهره (( اثينا)) و(( روما))
يغتلي في قذالة (( الكرخ)) يرنو من تقاطيع وجهه(( باب توما))
***
التعاريف تجتليه وتغضي التناكير عنه ترتد كلمي
كلهم يأكلونه وهو طاو كلهم يشربونه وهو أظما
كلهم لا يرونه وهو لفح تحت أجفانهم من الجمر أحمي
حالو، حصره فأذكوا حصاراً في حناياهمو يدمي ويدمي
جرب الموت محوة ذات يوم وإلي اليوم يقتل الموت فهما
قصتي مع البيان
كنت في الصبا اعجب بالكلمة الجميلة، أنصت لها. أتمتع بحسنها، يشدني جرسها، يخلبني سرها، يدهشني أسرها، اسمع الكلمة البليغة من النثر والشعر فأجد لذة في سماعها ، وتغمرني فرحة في تأمل بيانها، فالبيان سواء كان قرآناً أو حديثاً أو شعراً أو رواية هو منهي الإبداع لدي، وأحياناً أتناول كلمات من القرآن فاٌقرأ ما كتب عنها المفسرون والبلاغيون ثم أعود بنفسي متأملاً متفكراً متدبراً، فأجد لها في أعماقي معاني لا أيستطيع أحياناً أن أعبر عنها بلساني، وكم هي الآيات التي هزت كياني، وحركت أشجاني، وزلزلت أركاني، وقد تكون هذه الآيات وعظاً، أو قصصاً، أو حواراً، أو خطاباً، أو وصفاً، المهم أنني أعيش مواقف من التأثر لروعة البيان وجمال الخطاب.(/2)
وفي عام 1400هـ كنت مع سماحة الشيخ الإمام العلامة / عبد العزيز بن باز في جازان لافتتاح مخيم دعوى هناك، وبدأ الحفل بآيات من أول سورة فصلت، قارئها طالب جميل الصوت، حسن الأداء،رخيم النغمة، وكنت قريب عهد بقراءة السيرة، وقصة السورة؛ فتأثرت وأنا جالس بين الناس وأصابني اندهاش ، ودعيت بعدها بفقرتين لإلقاء قصيدة؛ فلما ألقيت ما يقارب عشرة أبيات وكانت أربعين بيتاً لم أستطيع المواصلة، وشعرت بتعب وإعياء، فقطعت الإلقاء فجأة وجلست، وكان الموقف لافتاً للنظر، وما ذاك إلا لما بقي في نفسي من تأثر بالغ أثر علي مشاعري وعواطفي.
وصلينا في الحرم المكي صلاة التراويح فرفع الإمام صوته بقوله تعالي: )فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)(محمد: الآية19) ، وارتج الحرم بالصوت، ولكنه بلغ الأعماق فلا أدري هل أعجب من هذا البيان الآسر، أم من هذه الفخامة والإشراق والإعجاز، أم من هذا الصدق واليقين والعدل؟!
كنت اقف علي بعض الجمل من القرآن فأفصلها كلمة كلمة كما يفصل الدر من عقده، والجوهر من خيطه، وقفت مرة عند قوله تعالي: )وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) (قّ:10) فتأملت كلمة( باسقات) وجمالها، فإذا لها مدلول غير مدلول طويلات؛ لأن الباسق الطويل في حسن ورواء، وكذلك كلمة : (طلع) كيف اختارها من بين كلمة ثمر وحب ورطب وبسر ونحوها وكلمة: ( نضيد) وما فيها من جمال ودلالة وإشراق يذكرك بالعقد الزاهي من الجوهر.
وقرأت قوله تعالي عن كتابه: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) فهزني هذا الكلام الجليل، ثم عدت إلي مصطفي صادق الرافعي، فإذا هو مندهش لهذه الآية ، مأسور لجزالتها وفصاحتها . ومرت به آية: ) فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ )(سبأ: الآية19) فوقف متأملاً صامتاً منبهراً من هذه الإجادة والإيجاز والإعجاز، ثم طالعت مذكرات الإبراهيمي الجزائري فإذا هو يدبج أروع الكلام عن هذه الآية، ويعلن اندهاشه من هذا الكلام المشرق السامي الراقي.
وعشت مع سورة الجن، فكأني في عالم الجن والأنين، يبهرني اللفظ وياسرني المعني، وتذهلني الفصاحة، ويهزني الإعجاز ، ثم أعذر الجن وهم يقولون : (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً)(الجن: الآية1)، وأقرأ كلام سيد قطب فإذا هو يعيش تلك اللحظات من الانبهار والاندهاش لهذا الكلام وكم هي الآيات التي أوقفتني وسلبت لبي، وذهب بي الإعجاب بها كل مذهب، وتمنيت أن عندي من البيان ما يعبر عما يدور بخلدي من معان كامنة مستورة في الحشا، وكنت أردد آية: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود:44) ، فأعيد النظر فيها وأعرضها علي بعض الأصدقاء ليشاركني هذه المتعة ، ثم أجد عبد القاهر الجرجاني يبسط الكلام عن إعجاز هذه الآية ووجه البيان والبديع فيها .
ووقفت عند آية : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء)(المائدة: الآية64) ، فعجبت لقوة هذا الحديث الذي ينسق قلاع الباطل، ويحطم أسوار الزور، ويجتث شجرة العناد والتمرد.
وطالعت عالم البيان في حديثه صلي الله عليه وسلم وتأملت أحاديثه العذاب الرطاب، وكلامه الجزل الفخم وذهبت مع الشعر فحفظت منه الكثير ورويت الكثير، ولكن الذي أحفظه هو الذي يعجبني ويطربني.
وسافرت مع المحدثين، والنفلة والمؤرخين، والمفسرين، وأهل اللغة والأدباء، أقف مع الرائع الجميل من كلامهم وأعيد القطعة الماتعة من كلام الذهبي، والوقفة الصادقة لابن تيمية والمقولة المؤثرة لابن القيم، والمداخلة الخلابة للجاحظ، والعرض الشائق لابن خلدون ونحوهم، وأكثر ما يشدني في ذلك البيان وحسن السبك، وجمال اللفظ ، وقوة المعني وسطوع البرهان.
جلست مع صديق لي فقرأت عليه هذه القطعة للجاحظ إذ يقول : جعلا فداك، وإنما أخرجك من شيء إلي شيء وأورد عليك الباب بعد الباب، لأن من شأن الناس ملالة الكثير واستثقال الطويل؛ وإن كثرت محاسنه، وجمت فوائده، وإنما أردت أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي، ولأنك متي كنت للشيء متوقعاً، وله منتظراً، كأن أحظى لما يرد عليك، وأشهى لما يهدي إليك وكل منتظر معظم ، وكل مأموم مكرم، كل ذلك رغبة في الفائدة، وصبابة بالعلم، وكلفا ًبالاقتباس، وشجاً علي نصيبي منك، وضنناً بما أؤمله عندك ومدارة لطباعك واستزاده من نشاطك، ولأنك علي كل حال بشر، ولأنك متتاهي القوة مدبر.(/3)
كررت هذه القطعة الفائقة ،فكأنني أجد طعمها في فمي قطعة من الشهد ، وزلالاً بارداً من معين صاف، وبقيت أقلبها في عيني تقليب الدرة في اليد، والفكرة في القلب، والخاطر في الضمير، وأنت لو تأملت هذه القطعة النثرية الفائقة للجاحظ لوجدتها في أوج البيان، وقمة الفصاحة بعيدة عن التزويق والتكلف ، سليمة من التبذل والرعونة، ساحرة فاتنة.
وإنما ذكرت هذا مثلاً ، وإلا فكم من مقالة وقطعة وقصيدة توقف اللبيب وتدهش الفطن من حسنها وروعتها.
أسمع الخطيب والواعظ والمعلم والمفتي والشاعر والمحاضر فلا يملك إعجابي إلا المتفرد في بيانه ، المتوحد في اختيار مفرداته ، واصطفاء كلماته، وانتقاء جملة، أما الهذر والحشو والإكثار النبي صلي الله عليه وسلم فكل يستطيعه وهو المبذول المملول المرذول المدخول!.
حدثني أحد الأدباء : أن ( هتلر) أراد أن يلقي خطاباً للعالم يوم زحفت جيوشه غلي موسكو، يملأ به المكان والزمان ،فامر مستشاريه باختيار أقوس وأجمل وأفخم عبارة يبدأ بها خطابه الهائل للعالم، سواء كانت من الكتب السماوية، أو من كلام الفلاسفة ، أو من قصيد الشعراء، فدلهم أديب عراقي مقيم في ألمانيا علي قوله تعالي: )اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (القمر:1) فاعجب ( هتلر) بهذه الآية وبدأ بها كلمته وتوج بها خطابه.
قف مع هذه الآية ورتلها وتأملها لتجد فخامة في إشراق، وقوة في إقناع، وأصالة في وضوح.
وقرأت مقالة لأديب يهاجم أديباً آخر سرق له مقالات ونسبها إليه، فجعل عنوان هذه المقالة قوله تعالي : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)(يوسف: الآية70) فبقيت مع العنوان متأملاً مكرراً معجباً ، وأهملت المقالة!؛ ولهذا فإنك تعذر كل من أسره القرآن واستمال قلبه وسيطر علي روحه، حتى إن أحد العرب صلي خلف الرسول صلي الله عليه وسلم فسمعه يقرأ: )يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً) (الطور:13) فكاد قلبه أن يطير ، وسمع آخر قوله تعالي: )أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35)فذهل وتحير من بلاغتها وجمالها، وهذا الذي حمل الوليد بن المغيرة ليصبح صيحة المعترف ويقول: (( إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلي عليه).
إن صرعي الشبهات لا يعجبهم القرآن، وإن عبيد الشهوات لا يهزهم هذا الكتاب العظيم؛ إن القرآن يعجب سليم الفطرة، بريء الضمير، حي القلب، مشبوب العاطفة، متوقد الذهن، صافي القريحة، فهذا أرض طيبة خصبة لغيث البيان ومطر الفصاحة العذب.
مرت بي مئات المقالات والقصائد؛ فوجدتها ثقيلة وبيلة لا تستحق الاهتمام والمطالعة، مهلهلة السبك ضعيفة البناء، ركيكة اللفظ ، ماتت قبل أن تولد، ودفنت قبل أن تحيا جزاء وفاقاً، وبقيت الكلمات الآسرة الساحرة الساطعة خالدة خلود الحق، لامعة لموع الفجر، جميلة جمال الإبداع.
طالع كتاب( صيد الخاطر) لابن الجوزي، وكرر كلماته، وأعد جملة لتدرك سر شيوع هذا الكتاب وذيوعه وخلوده؛ إنها الفكرة الرائدة في ثوب جميل، والتوجيه الصادق في قالب بديع، والمعني العميق في لفظ بهيج مشرق، يقول ابن الجوزي في كتاب طيب الذكر(( إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يحفظ الله بهم الأرض ، بواطنهم كظواهرهم بل أجلي، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلي ، وهممهم عند الثريا بل أعلي ، إن عرفوا تنكروا ، وإن رئيت لهم كرامة أنكروا فالناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، تحبهم بقاع الأرض ، وتفرح بهم أفلاك السماء، نسأل الله عز وجل التوفيق لاتباعهم، وان يجعلنا من أتباعهم)).. انتهي كلامه ولكن لم ينته أثره ولا نوره ولا أسره ولا جماله، إن البحث عن البيان في الكلام متعة؛ لا يعادلها متعة ارتياد الروض الأخضر، والخميلة المائسة ولا يعادلها مجلس أنس، أو رحلة سياحة ، وقد وصف أحد البلغاء كلام أحد الأدباء فقال: إذا تحدث فكأن السحر دب في جسمك، وهذا معني قوله صلي الله عليه وسلم : (( إن من البيان لسحراً))، فهو يفعل السحر في خلبه للب السامع ، يقول ابن الرومي:
وكلامها السحر الحلال لوانه لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجز
والكلمات الجميلة هي التي نقشت في أذهاننا وكتبت في قلوبنا، فبقيت وعاشت : أقرا كلام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فأكرره كأنني اشرب زلالاً بارداً حلواً علي ظمأ في قيظ، حتى عقد له ابن كثير في تاريخه فصلاً عنوانه: باب في كلماته الحاصلة التي هي إلي القلوب واصلة، ولما افتتح البخاري كتاب الرقاق من صحيحه ذكر قول علي: (( إن الدنيا ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة ارتحلت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب بلا عمل)) فأنظر إلي هذا الإيجاز مع قوة المعني وحسن الفواصل ، وبراعة الإيراد، وجمال العرض.(/4)
ولما بدأت في مطالعة ( الكشاف) للزمخشري بدأ ليصلي علي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: والصلاة والسلام علي حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل...إلي آخر الكلام الجزل الفخم ، ولحسنه حفظته.
عن أول طبعة لمصنف ابن أبي شيبة طبعت في الهند، قدم لها أحد علماء الهند مقدمة باردة سامجة متفككة متهالكة، حتى صارت مصدر نادرة في المزاح، وما هذا إلا لأن الرجل يكتب بغير لسانه، وما غاص في مفردات اللغة العربية، وما تمتع بجمالها فهو غريب، وإنك لتسمع العالم يفتي، والمعلم يدرس، والخطيب يتحدث، والشاعر يلقي، فتعرف قوة هؤلاء من ضعفهم وبيانهم من عيهم من أول وهلة؛ لأن الكلام الباهر الجميل الساطع لا يخفي حسنه، ولا يجهل قدره.
إن أساطين البيان حفروا كلماتهم في ديوان التأريخ، وذاكرة الأجيال لأن الإبداع له خلود، والتفوق له ذيوع، والتفرد له امتياز.
قال أحد الخلفاء لبليغ: ما البلاغة؟ قال هي: أن لا تبطئ ولا تخطئ. قال مثل هذا؟ قال مثل هذا؛، وانظر كيف أوجز وأعجز . فما أسرع جوابه وأحسن صوابه.
ومدح رجل علياً ـ رضي الله عنه ـ وكان يبغض علياً ـ فقال له علي: أنا فوق ما في نفسك ودون ما تقول، وقال له رجل : لماذا اتفقت الأمة علي الشيخين، واختلف عليك، قال لن رعيتهم أنا وأمثالي ، ورعيتي أنت وأمثالك ! فقل لي بربك أي جواب هذا الذي كأنه أعده من شهر.
لقد حرمنا متعة البيان بسبب هذا الهذيان، كلام طويل ثقيل وبيل، وتكرار وتبذل، حتى إنك لتسمع الخطيب يتكلم ساعة كاملو ولو جمع ما قال في خمس دقائق لأحسن إلي نفسه وإلي السامعين.
إن السيلان الخطابي، والثرثرة في الحديث شيء ، والبيان والبلاغة شيء آخر ، إن البيان هو أن تصيب المحز وتشفي النفس وتبلغ حجتك.
ولولع النفس بالبيان ، وتعلق القلب بالفصاحة؛ سافرت مع أبى الطيب المتنبئ لجمال شعره وروعة بيانه،وجزالة لفظه، وبراعة عرضه، وأما مبادئه ومذهبه في الحياة فلنا معه حديث آخر في هذا الكتاب.
مملكة البيان (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ)
(الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) فصار هذا المخلوق بالمنطق آية باهرة علي عظمة خالقه، وصار بالبيان مخلوقاً كريماً يقول الكلمة فتخلب الألباب، وينطق اللفظة فتدهش العقول، يصوغ من الحروف سحراً، ويجري من الجمل نهراً، يهدي الجموع الثائرة بخطاب، ويحرك القلوب الخامدة بموعظة وإن العبارة البليغة الباهرة لهي أجمل من اللوحة الهائمة في الحسن وإن الجملة الموحية الآسرة الأخاذة لهي أبرع من ريشة الرسام العبقري، وإن أهل العقول الراشدة السوية يجدون في مطالعة البيان من المتعة واللذة ما لا يجدونه في مشاهدة الخمائل المائسة، والجداول الرقراقة.
واعلم أن قوت القلوب موائد من المعاني الجميلة الخلابة، وإن زاد النفوس لهو مدد من البينات، وإن معين الأفئدة الرقراق لهو عين من الإبداع في القول يشرب بها النبلاء يفجرونها تفجيراً.
إن من أعظم أوصاف رسالته صلي الله عليه وسلم أنها ذات بيان باهر ، وبلاغة فائقة، وتأثير عجيب، ودونك هذا القرآن الكتاب الخالد، والمعجزة الظاهرة، التي شدهت العقول، وهزت الأنفس، حتى أنصتت لها البصائر بإمعان، وأخبتت لها الأرواح في خشوع، فاهتزت لهذا البيان، وربت بهذه البلاغة ، وأنبتت من كل زوج بهيج من الإيمان والعطاء والتضحية.
كان رسولنا صلي الله عليه وسلم افصح الناس مل الناس، وأبلغ البشر جميع البشر، فجاء خطابه غيثاً هنيئاً مريئاً، يهجم علي القلوب القاحلة فإذا هي حدائق ذات بهجة ببركة هذا الكلام، فصارت جملة صلي الله عليه وسلم حديث السمار، وزاد الركب، اشهر من الأمثال ، وآنس من العافية، وأجمل من طلعة الفجر الباهية، ولأن المتفوقين من الناس والبارعين من العقلاء يطربون لأسرار إعجاز في البيان، ولطائف الإلهام في القول، ونكات الفصاحة في الحديث، ولقد أمر الله تعالي رسوله صلي الله عليه وسلم أن يهز الأنفس بالقول المؤثر فقال: ( وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)(النساء: الآية63)فبالقول البليغ تقوم الحجة، وتتضح المحجة، ويقذف بالحق علي الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
وقد أحببنا أن نسافر مع الكلمة الشاردة الفريدة، والجملة الناصعة المشرقة والقول الفصيح الجذاب فاخترنا شاعراً لامعاً وأديباً باقعة، وعبقرياً فذاً، تجذرت كلماته في قلوب رواد الإبداع ، وغاصت إشراقاته في نفوس محبيه، هذا من حيث جمال شعره، وروعة قصائده،وسحر بيانه، وأما من حيث مذهبه ومنهاجه في حياته فلنا معه وقفات ومؤاخذات ، لا نظلمه ولا نهضمه، ولا نفرط عليه ولا نطغي، بيننا وبينه ميزان الإنصاف، لا يضيع حبة خردل من الحقيقة، وأمامنا وأمامه كتاب المروءة والعدل، لا يغادر صغيرة من الإبداع ولا كبيرة من جواهر البيان إلا أحصاها.(/5)
فمرحباً بملك الشعراء في مملكة البيان، ونحييه بقوله هو:
يا فخر فإن الناس فيك ثلاثة مستعظم أو حاسد أو جاهل
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
وسوف نقرأ المتنبئ قراءة المتلمس للبيان، المشغوف بالحسن، المتلهف علي الإبداع ، وهو الذي يقول لنا:
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
وقد أبدع في هذا البيت، وإليك بسطه بالنثر، فهو يقول لك: أرجوك لا تثرب علي المشتاق المحب في تلهفه وتوجعه واحترافه، ولا تلمه علي زفراته والتهاب حشاياه ، واضطراب جوانحه، فإنه معذور بما يحمل من حب، وما يجد من صبابة، فما دام انك لم تذق ما ذاق من اللوعة والأسى، فلماذا ـ رعاك الله ـ تلومه وتؤنبه؛ لأن حالك غير حاله.
ونحن في قراءة شعر المتنبئ نجد من هذه اللوعة والاشتياق والتأثر ما نرجو معه أن يعذرنا لائمونا، ولا يثرب علينا أحد من الناس هذه النزعة الأدبية، والغرام البياني مع كل لفظ جميل ساحر.
المتنبئ
تجاوزنا السيرة الذاتية، وتخطينا التراجم التقليدية، ووصلنا إلي نتاج هذا الشاعر مباشرة؛ فالمتنبئ عندي ملك الشعراء؛ لأن للشعر وزيراً وأميراً وقاضياً وفقهياً ، ولكن مملكة الشعر لملكها احمد بن الحسين المتنبئ لمجموع محاسنه، وكلية إبداعه، وقد يفوقه في قصيدة أو بيت واحد غيره من الشعراء، لكن مجموع شعره لا يفوقه فيه شاعر ولهذا يقول:
أنا السابق الهادي إلي ما أقوله إذا القول قبل القائلين مقول
وهذا الشاعر انصهر مع الكلمة، وذاق البيان، وأشرب في قلبه الفصاحة فذابت حشاياه، وغلت مراجل فكره بجواهر من القول فاقت الوصف، والذي يعجبك في المتنبئ هذا الاحتراف والإشراق، فهو محترف بهمومه وهمته وطموحاته، مشرق بعبقرية وإبداعه ونبوغه، وهو كما قال في ممدوحه:
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
ولك أن تقف أمام هذا البيت الذي يغنيك عن إسهاب من القول، وحواش من الحديث ، فهو كما يقول لممدوحه: إنك وإن تفوقت علي أقرانك ، وتفردت بصفاتك عن بني جنسك، وتميزت هذا التميز المنقطع النظير ، فلا غرابة في ذلك ، فإن المسك علي ندرته وشرفه وطيب رائحته وارتفاع ثمنه؛ من جنس دم الغزال.
البطاقة الشخصية:
أنا الذي نظر الأعمى إلي أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
هذه ترجمة موجزة للمتنبئ ، فليس يهمنا معرفة اصله وفصله ونسبه وحسبه، بل نريد إبداعه ولموعه كما قال الشاعر:
أنا لست مهتماً بأصل قبيلتي ورائي قريش أم ورائي تغلب
فليست بلادي ببرقاً أو خريطة ولكن بلادي حيث اسطيع أكتب
فهو يقدم لنا نفسه بهذا البيت علي أنه موهوب ، فرض نفسه علي الناس بشعره وأدبه حتى إن الأعمى الذي لا يبصر شيئاً نظر إلي أدبه، لقوة تأثيره، وسطوع تعبيره، وبلاغة تصويره، والأصم الذي لا يسمع شيئاً أنصت لكلماته النافذة الأسرة الباهرة.
أما شعره ، فيكفيه أن الدهر أحد رواة شعره، والأيام والليالي أصبحت تردد هذا الإبداع وتغني هذا السحر الحلال:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعراً اصبح الدهر منشداً
فسار به من لا يسير مشمراً وغني به من لا يغني مفرداً
مطالع قصائده
المتنبئ يخطف الأضواء ببريق مطالعة القوية النافذة، ومطلع القصيدة كالوجه من الجسم ، والعنوان من الكتاب؛ لأنها اول ما يطرق السمع، ويصل إلي القلب، فهو يختار المطاع بعناية، ويجود أول القصيدة، حتى صارت مطالعة كالأمثال إشراقاً ، واسمع بعض أجزاء لهذه المطالع، ثم بسط القول في ذلك؛ يقولك (( وأحر قلباه ممن قلبه شبم)) ويقول : (0 لكل امرئ من دهره ما تعودا)) ويقول : (( حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا)) ويقول: (( باد هواك صبرت أم ام تصبرا)) ويقول : (( لا خيل عندك تهديها ولا مال)) ويقول : (( بم التعلل لا أهل ولا وطن)) ويقول : (( نعد المشرفية والعوالي)) ويقول : (( فراق ومن فارقت غير مذمم)) ويقول : ((لا تعذل المشتاق في أشواقه)) ويقول : (( عدوك مذموم بكل لسان)) إلي آخر تلك المطالع التي تفرض حسنها علي بصائر عشاق البيان.
فهو لا يبدأ في قصيدته ضعيفاً، ولا متخاذلاً، بل يحتفل بأول كلمة يقولها في قصيدته ، ويمنحها من رشاقة عباراته، وحلاوة منطقه، وطلاوة سحره ما يجعل هذا المطلع محفوظاً سائراً شارداً.
أراد أن يعاتب سيف الدولة، وأن يتوجع أمامه، وأن يتوجع عنده من حساده ، ,ان يشكو إليه من خصومه؛ فماذا عسي أن يبدأ به لهذه القصيدة، هل يبدؤها بحكمة؟ لا، هل يبدؤها بغزل؟ لا ، بل الأحسن أن يقول في أولها: (( واحر قلباه)) هكذا صارخة قوية متمردة، تتقطع معها كبده وأنيناً ، ويتمزق مع آهاتها وزفراتها ما بقي معه من قلب مكلوم، وروح منهكة مضطربة.
ودخل علي امير ليهنيه ويبارك له، فليس للغزل والغرام هناك مقام، وليس للحكمة مناسبة،وإنما بدأ معتذراً ومتلطفاً ليقول:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال(/6)
وهو مطلع فائق بكل معاني الكلمة ، آسر بكل مدلول الأسر، غاية في الحسن، وآية في المتعة، حتى صار أنشودة عذبة علي شفاه الرواة، ومثلاً شروداً علي ألسنة الحداة . وكأني به يمد صوته بحرف (( لا)) ثم يرسل البيت ليكون أجمل من الهدية وأثمن من العطية.
يريد أن يصف همة سيف الدولة، وعلو قدره، وارتفاع درجته بما حققه من نصر، وحازه من مجد فيبدأ بقوله:
علي قدر أهل العلم تأتي العزائم وتأتى علي قدر الكرم المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
وأنت إذا سمعت هذا البيت وقر في خلدك ، واستوي في فؤادك، فسوف تعلم أن الرجل سوف يحلق بإبداعه في عالم الهمة، وسماء التضحية ، ودنيا العظمة، فهو يقدم لك عنوان الكتاب، ومفتاح الباب، ولجام الفرس؛ لتتهيأ لما سوف يبثه من مديح راق ، وثناء عبق وإشادة سامية.
يريد أن يخبرك بحاله بعد الفراق والبعد ونكسة البال، وضيق الصدر وتكالب الأعداء ، وقلة النصر؛ فيقذف بهذه العبارات أولاً:
بم التعلل لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا خل ولا سكن
فتفهم أن الرجل محترف بمعاناته ، ملتهب بآلامه، تكاد نياط قلبه أن تتقطع، وتوشك أعصابه أن تتمزق ، فهو يتساءل متعجباً من حاله، لماذا يتعلل ويتصبر وليس عنده أهل يأوي إليهم، فيبثهم وجده، ولهيب صدره، وليس لديه وطن لأنه غريب مرتحل، وليس عنده صديق؛ فقد خانه الكل، وتنكر له الجميع، وما عنده محبوب يبثه نجواه، وينفث فيه شكواه، وأيضاً ليس عنده سكن يضمه ويحتضنه، فهو في حالة أبلغ وصف لها هذا البيت ، وياله من مطلع ذائغ فائق.
ويذهب طريداً شريداً إلي كافور، وقد تقطعت به الحبال، وضاقت به الآمال، وأظلمت أمامه السبل، فلا يبدأ بالمدح؛ لنه في شغل شاغل عنه، ولا يستفتح بالغزل؛ لأنه يتلظى بالمرارة، ولا يقدم الأمثال؛ لأنه في عالم المعاناة والغربة، وإنما يقذف بهذه الحكمة التي تدل علي ما وراءها من كرب شديد، وحزن بالغ، وبال كسيف أسيف:
كفي بك داء أن تري الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن تري صديقاً فاعيا أو عدواً مداجياً
يا الله! إلي هذه الدرجة من البلوى يصل هذا العبقري الفذ، إلي درجة يتمني فيها المنايا الحمر الكوالح، ، وإلي حد يري ان دواءه يمكن في الموت، فإذا وصل الحال إلي هذا المستوي ، فحسبك بها بلية كبرى ومصيبة عظمى، حتى إن شاعرنا فقد كل صديق، ولم يجد حتى عدواً مجاملاً ، بل كلهم أصبحوا أعداءه؛ لأنه ناجح فحسب ، وهم كلهم أعداء النجاح.
أما كافور فيريد مدحه وتبجيله وتفخيم أمره؛ فينفجر بهاذ المطلع الذي كأنه إطلاله بدر من سحب، أو إشراقة نجم من حجب، أو طلعة فجر في الآفاق، يقول:
عدوك مذموم بكل لسان ولو كان من أعدائك القمران
ولله سر في علاك وإنما كلام العدى ضرب من الهذيان
هكذا بدأ قصيدته قوياً لامعاً فياضاً، وانظر إلي قوة الأسر، وبراعة الاستهلال، وإشراق الكلمات، وجزالة الجمل، فكأنه يفصل ثوباً زاهياً علي ممدوحه، أو يضع علي هامته تاجاً مرصعاً ، فهو يحطم شبه أعداء ممدوحه، وينسف أباطليهم، ويدفع اقوالهم بهذا القول البليغ السار، حتى لما سمع أحد العلماء هذا المطلع المرار قال: هذا والله هو الشعر.
ولكنه يحارب حتى في مصر، وتضيق به الأرض بما رحبت كما وصف حاله:
غريب من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
ويصل إليه عيد الفطر وهو في مصر، فلا يفرح بالعيد ولا يبهج به، ولا يحتفي به؛ لأنه غريب شريد طريد مكبوت، بل ينفجر ناقماً غاضباً باسراً عابساً ليقول:
عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضي أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيد دونها بيد
بهذا المطلع البارع المعبر المصور يبدأ بكاءه، ويستهل عويله، فهو أبداً غاضب كالليث، جاهم كالليل، ثائر كالبركان، عاصف كالريح، يعلن للمشاهدين كل ساعة تمرده وعنفوانه ورفضه ، وهو دائماً معارض، تغلي نفسه بالغصص من زمانه وبني جنسه. إنه عند نفسه مظلوم معتدى عليه مقصود بالإيذاء ، تحبك له المؤامرات، وتنسج له العدوات، وتلفه المصائب من كل جانب، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت.
إنها عقوبة من الله لأعدائه كما يقول:
إني وإن لمت حاسدي فما أنكر أني عقوبة لهم
الشاعر الثائر
هذا الشاعر محترف متدفق ، له معاناة تمور في صدره ، وعنده صراع داخلي يتفاقم في جوانحه ، فهو كتلة من الغضب علي المخالفين ، وهو شهاب ثاقب علي أعدائه ؛ لأنهم رفضوا الاعتراف به، وصادروا جهوده، وتتكروا ، فهم والزمان والمكان والأصدقاء والسلطان بل الجميع ضده:
يا من ذكرت علي بعد بمجلسه كل بما زعم الناعون مرتهن
يا كم قتلت وياكم مت عندكم ثم انتفضت فزال القبر والكفن
إنه اقوي من أعاصير الخصوم، وأعتي من أراجيف الأعداء، فهم يميتونه وهو لم يمت، ويشيعون نهايته وهو لم ينته، فهو ساكن في ضمائر الجمهور ، خالد في سفر الإبداع، موجود في ديوان العبقرية، إن حساده يريدون شطب اسمه من سجل العظماء ؛ فيغضب ويثور ويحتج ويرفض:(/7)
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني فلا أعاتبه صفحاً وإهوانا
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني إن النفيس غريب حيثما كان
حسبك الله من شاعر تتحدي الأزمات ، وتدوس المنايا، وتجتاح معاقل الخصوم، وتواجه الموت الكالح بهمة كالدهر وعزيمة كالفجر.
والرجل مجروح في الصميم، مكلوم في سويداء القلب من أناس ما قدروه حق قدره، وما احترموا منصبه السامي في الأدب:
سوى وجع الحساد داو فإنه إذا خل في قلب فليس يحول
ولا تطعمن من حاسد في مودة وإن كنت تبديها له وتنيل
هكذا جرب وذاق وجع الحساد، واكتوى بنارهم، وتلظى برمضائهم. إن المتنبئ شاعر مجدد في عالم الشعر، ليس تقليداً علي مذهب شعراء المناسبات، ورواد مقاهى النفاق السياسي، وضيوف حفلات مراسيم تكريم الوفود، فهو لا ينتظر من الخليفة أن يقول: يا غلام أعطه ألف دينار ، وأركبه بغلاً، واهده جارية؛ كلا، بل هو كما قال عبد الله البردوني:
من تلظي لموعه كاد يعمي كاد من شهرة اسمه لا يسمي
من تداجي يا بن الحسين أداجي اوجهاً تستحق ركلاً ولطما
إن هذا الشاعر يرفض أن يسام الخسف:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
وهو يري أن الموت علي عز أجل وأشرف من حياة علي مهانة وذلة وخسة:
وإن لم تمت تحت السيوف مكرماً تمت وتلاقي الذل غير مكرم
إنه في هذا البحث يريحك من مطالعة كتاب في فن الاستجداء والاستخذاء، لتكون من حفظة متون الذل، ومن طلاب مدرسة الخنوع والجبن، وهو يري أن من مات تحت غبار المعركة لنصرة مبادئه، لا يذوق من طعم الموت إلا كما يذوقه صريع الشهوات وعبد النزوات:
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
وهو معذب بنفسه الطموحة التواقة؛ لأن بداخلها همة عارمة لا يردها شيء:
لحا الله ذي الدنيا مناخاً لراكب فكل بعيد الهم فيها معذب
إنه الصمود أبداً، والتفوق دائماً، وهو مذهب الناجحين في الحياة كما وصفه هو بقوله:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
وانظر ما أحسن لفظ المشقة؛ لأنه عالم فائق يندرج تحته كل معاناة وجهد وتعب، ولفظ ساد أجمل من كل لفظ في موضعه، فهو فصيح باهر وضيء ، وهذه ألفاظ زادها القرآن جمالاً وروعةً وإشراقاً، وانظر إلي الإيجاز والاختصار في قوله: الجود يفقر والإقدام قتال: مع حسن التقسيم، وجمال الفواصل، وبراعة الجرس، وحذف الحواشي والمعاضلة ، ويقول عن اندفاعه الجارف، وبعد نظره، وتدفقه العاطفي المزلزل:
ولكن قلباً بين جنبي ما له مدى ينتهي بي في مراد أحده
إنه يريد الاعتراف من الناس بنبوغه ومكانته وسموه، حتى يقول في مجلس ممدوحه:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعي به قدم
ومهما خالفناه في هذا التبجح المكشوف؛ فإننا نوافقه علي أنه نابغة في عالم البيان، وأعجوبة في دنيا الشعر، ويكفيه هذا الذيوع الأدبي والشيوع الشاعري وهو ما يريده.
الشاعر الذائغ
لا أعلم شاعراً فرض علي الناس إنشاد شعره وترديد أبياته كالمتنبئ؛ لأنه عاش ما يقول، وعانى ما يتلفظ به ، وانصهر بالحوادث فصورها شعراً، ولذع بالنكبات فأرسلها أمثالاً، ولابس التجارب فأبدعها حكماً، فصار شاعراً محفوظاً في الذاكرة حاضراً في الأجيال ، خالداً في ديوان الإبداع، وهاك بعض أبياته الذائعة الشائعة يقول:
ومن نكد علي الحر لابد أن يري عدواً له ما من صداقته بد
إن من يقول هذا الكلام لابد أن يكون مبدعاً موهوباً، أديباً مجرباً بليغاً عبقرياً، فالإبداع يخترع لك العني الجميل، والموهوب تسعفه ذاكرته بجواهر المعاني، والأديب يصوغها في قوالب أزهي وأبهي من الماس، والعبقري يتفرد عن التقليديين والعاديين والمجرب له مدد من حياته الغزيرة بالأحداث الغنية بالحوادث.
لو أن متحدثاً أراد أن يقول معني البيت السابق نثراً لقال: إن الدنيا مشؤومة علي الأخيار، تضطرهم أن يحتاج الأخيار فيها إلي الأشرار، فيحملونهم وينافقونهم لجلب الخير ودفع الشر؛ لأنهم مضطرون لذلك؛ فيصبح العدو اللدود عند الضرورة صديقاً يذل له، ويصانع ويداري ويداهن للمصلحة المفروضة، أو الحاجة الملحة، أو الضرورة القائمة، ويكفي هذا ذلة للأحرار، وعلماً بحقارة ونذالة الدنيا، لكن المتنبئ يختزل هذا السيلان، والثرثرة اللفظية في بيت محبوك مسبوك أجمل من نجوم الليل، واثمن من حمر النعم فيقول:
ومن نكد الدنيا علي الحر أن يري عدواً له ما من صداقته بد(/8)
وتعال معي ـ رعاك الله، وضع أصبعك علي كل كلمة في البيت لتري روعة الاختيار ، وجمال الانتقاء، وانظر إلي كلمة نكد ويالها من لفظة معبرة موحية، تشعرك بالإشمئزاز من هذه الدنيا ، فهي دار النكد والكبد، وهي أبلغ في موقعها من لفظة غيرها مكانها، وكلمة الحر موحية فاتنة؛ لأن فيها معني الأنفة والكبرياء والشموخ، وهي التي بالمقابلة في البيت، ثم أنظر قوله عدواً له، وليس مبغضاً وكارهاً فحسب، بل عدواً كاشحاً النبي صلي الله عليه وسلم ثم يختار كلمة الصداقة، ولو أنه النفاق الظاهري، لكن ليقابل كلمة العدو، ثم يأتي بكلمة بد وقد احتاجت لها القافية حاجة الأرض للمطر، فجاءت في محلها لا وكس ولا شطط؛ ليتم هذا البيت الفريد. ولك أن تقول نثراً: إن الحقراء إذا نالوا العظماء فهو دليل علي عظمة هذا العظيم وسمو قدره وجلالة مكانته وخطورة منزلته، ولكن المتنبئ يكسو هذه المعاني حلية باهية ، ويوشيها بحلة زاهية؛ لتبقي وتنقل وتعيش يقول:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
فأنظر إلي كلمتي ناقص وكامل وحسن المقبلة بينها ، وكلمة مذمتي وكلمة الشهادة، ثم ارجع البصر كرتين في سلامة هذا الذوق ، وجودة هذا الخاطر، وخصوبة هذه الذاكرة.
إن الأمة أصيبت بإعياء في البصيرة ، وكساح في الذوق ، فما أصبح يهزها هذا الخطاب؛ لأن التبلد الذهني مع خشونة الطبع وانطماس العبقرية زادها عمي عن مشاهدة مرابع الجمال والبيان، ومطالعة البهاء والإبداع في هذا السحر من الكلام، والعذب من القول: ) فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً)(النساء: الآية78) ولك أن تفهم الناس بأن نواياهم وحدها لا تكفي بلوغ المقصود، وان طموحاتهم قد تصطدم بموانع لا تسمح ببلوغ مقاصدهم، فكم من أمنية عذبة لم تتحقق، وكم من مراد في الأذهان لم يحصل في الأعيان، لكن هذا الكلام قد يطير هباءً منثوراً ما لم يقيد بقافية جميلة، وكلمة شاردة، وهذا كما فعله المنبئ بقوله:
ما كل ما يتمني المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فأنظر إلي قوة الفكرة، وحسن الشاهد، وحلاوة السبك في إيجاز من القول، ولطف من العبارة، ورشاقة في المعني.
إن الشيوع والذيوع للعالم والشاعر والواعظ والزعيم هبة ربانية، ولكن لها أسبابها ومواهبها ، وكان المتنبئ ذائغاً شائعاً حتى ذكر شارحو ديوانه أنه له خمسمائة بيت تدور علي ألسنة الناس، واصبحت بعض أجزاء أبياته كالسكر في الفم، والطل في الزهر، كقوله: (( فإن الخمر معني ليس في العنب)). وقوله: (( ان تحسب الشحم فيمن شحمه ورم))/ وقوله ك (( ما لجرح بميت إيلام)) ، (( إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه))، وقوله: (( علي قدر أهل العزم تأتي العزائم))، وقوله : (( ولا يرد عليك الفائت الحزن)) غلي آخر ذلك السمو البياني والرقي اللفظي والجبروت العاطفي، فهذا الشاعر ليس خاملاً يبحث عن المعاني المبتذلة عند الحاكة والحلاقين والباعة ، وليس بارداً يريد أن يقول كلاماً مقفي وحديثاً موزوناً، ولكنه مبدع حر ليس عادياً، عند عاطفة فوارة، ونفس جياشة ، وهمة مجنحة، وذاكرة خلاقة، مع حياة مليئة بالعبر والتجارب؛ ولهذا كله صار أعجوبة في شعره، شاغل للمجالس؛ حاضر للنوادي وإلا فما معني أن نري لعشرات الشعراء أسفاراً من الأشعار في مجلدات ضخمة وإذا بها خامدة جامدة هامدة ميتة )حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(المائدة: الآية3)، ولم يصل لنا من شعر مئات الشعراء إلا عشرات القصائد الشاردة التي هي عيون في الأدب مثل:
0( قفا نبك ، وهذا الذي تعرف البطحاء وطأته، وعيون المها، والسيف اصدق أنباء، وأمن تذكر جيران بذي سلم، وعلو في الحياة وفي الممات ومجالس وحي مقفر العرضات،..)) مع قليل من القصائد في قوتها ثم تندرس بقية قصائدهم، ولا يدري بها إلا باحث، ولا يعثر عليها إلا منقب متخصص، إلا هذذا المتنبئ الأعجوبة فمجمل شعره ينشد بين الناس، وحكمته تدور بين العلماء، وقوافيه تدور دوران عيون المحبين في مجالس الأنس كما قال هو : (( إذا قلت شعراً اصبح الدهر منشداً)).
لقد أعفانا المتنبئ من شعر الأعراب الذي ضيع أعمارنا في وصف ناقة عجفاء، وذكر منزل دارس مجدب، وتذكر فتاة في واد الغضا، ومدح شيخ قبيلته لا يحفظ الفاتحة،وسب قبيلة لأنها منعته من وجبة العشاء، فجاء المتنبي فحذف هذه الحواشي، ونسف هذه الحواجز الترابية ليرقي بمقاصد الشعر، مع ما عنده من غلو وإعجاب وتيه، وميزة المتنبئ أنه كبير المعاني جليل الأغراض ضخم المقاصد؛ اسمع بعض ذلك:
يقول:
أحقهم بالسيف من ضرب الطلى وبالأمن من هانت عليه الشدائد
ويقول:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذي حتى يراق علي جوانبه الدم
ويقول:
من اقتضي بسوى الهندي حاجته أجاب كل سؤال عن هل بلم
ويقول:
لا يدرك المجد إلا سيد فطن لما يشق علي السادات فعال
ويقول:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
ويقول:
ذل من يغبط الذليل بعيش رب عيش ألذ منه الحمام
ويقول:(/9)
يري الجبناء أن العجز عقل وتلك خديعة الطبع اللئيم
ويقول:
جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجود
وله في هذا المذهب قطوف دانية من القول الثمين والمعني الرصين.
لقد شبعت قصائد كثير من الشعراء موتاً قبل أن تولد، فها هي الدواوين في الأدراج جعلها الناس قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً منها، إذا قرأت أكثرها قلت: أحسن عزاء من كتبها في مداده، وعوض الله من طبعها في ماله، حتى قال بعض الأدباء: طالعت ديوان فلان بن فلان ثم أخذته فأوقدت به ناراً، وصنعت عليها رغيفاً من البر، وها هي الصحف والمجلات والدوريات تمطرنا بسيل جارف من القصائد لا تستحق دقيقة واحدة لمطالعتها، ولا تسمح لنا نفوسنا بقراءتها؛ لأنها جمل متراكبة تراكب النمل، مزدحمة ازدحام شعر النيص، ثقيلة ثقل دم الضرس، لا تحرك في السامع شعره ولا تهز فيه ذرة، ومع ذلك يوصف هؤلاء الشعراء بالنجوم والامعين واساطين البيان، رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وغفر الله لمن كان يستحي من الله ثم من خلقه؛ فنحن الآن وقعنا بين شعر يسمي عربياً وهو أعجم من العجمي، حروفه عربيه ومعانيه سوقية، يذوب سخفاً، ويندي حقارة وخسة، وبين شعر عامي شعبي يصلح لأهل البادية الذين لم يشاهدوا سبورة ولا طبشورة؛ ولم يحملوا قلماً ولا ورقة، ويظنون أن حدود العالم ما بين خيامهم ومرعى أغنامهم، لعل مقصودنا من دراسة المتنبئ أن نقول لرواد الأدب وشداة البيان وحداو القافلة: حلقوا في سماء افبداع واختاروا الأروع والأحسن ، وارتقوا غلي مستوى فهم كتاب ربكم جل في علاه، الكتاب الذي أعجز العرب العرباء، وأسكت الأدباء ، وأفحم الشعراء )ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه)(البقرة: الآية2) ، ودعونا من هذا الهزال الأدبي ، والكساح الخطابي ، الذي ليس له عمر مديد، ولا مسقتبل عامر؛ لأنه ميت منذ ولادته، محكوم عليه بالفناء من لحظة وجوده ) فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْس)(يونس: الآية24).
المتنبئ يلعب النفوس بتوجعه وتفجعه
إن النفوس لا يحركها أي كلام ، ولا يهزها، أي حديث لأن الله خلقها عارفة مميزة، تفرق بين الجميل والقبيح والجيد والرديء، والشعراء درجات في اقتدارهم علي مخاطبة النفوس، وأظن المتنبئ بلغ الغاية في إلهاب نفوس سامعيه، وتحطيم الحواجز بينه وبين محبيه، لقد سبقه كثير من الشعراء إلي تلك المعاني الني جاد بها ، لكنه كساها رونقاً وحياة ومتعة فهذا أبو تمام يذكر المصلحة من المصائب بقوله:
والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي أنباك كيف نعيمها
لكن المتنبئ يسوقها في هذه التحفة الرائعة:
ومن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
فيطوف بعالم المعني الشمل الأعم في لفظ مترقرق بهيج.
ويقول شاعر إيران السعدي الشيرازي:
بكت عيني غداة البين دمعاً وأخري بالبكى بخلت علينا
فعاقبت التي بالمدع ضنت بأن أغمضها يوم التقينا
لكن المتنبئ سبقه فحفر في ذاكرة الأجيال، ونقش في ضمائر الناس قوله:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكي
ويقول دانتي شاعر إيطاليا: إن السخفاء يجدون لذة في تتبع عثرات العظماء، ولكن المتنبئ يتفوق عليه ببيته الذائع المهيمن:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
وميزة المتنبئ كما اسلفت تفجعه وتحرقه بما يقول، وانصهار روحه بمعاناته، وذوبان حشاشته بقضاياه يقول: واحر قلباه، ثم يسكت، فكأن قلبه يريد أن يغادر محله، وكأن ضلوعه تريد أن تنقض ، ويقول:
أصخرة أنا مالي لا تحركني هذي المدام ولا هذي الأغاريد
فتشعر أن الرجل حلت به أزمة طاحنة، وكربة ساحقة ، وبلية ماحقة، ويصيح باكياً:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا وعناهم من شأنه ما عنانا
وتولوا بغصة كلهم منتـ ـه وإن سر بعضهم أحيانا
تسمع هذا فتحس بتعاطف وتضامن معه، فتشاركه هذا الأنين المكبوت، والعبرة المسفوحة، ويضج بحاله ويضيف من عيشه فينفجر شاكياً:
أما تغلط الأيام في بأن أري بغيضاً تنائي أو حبيباً تقرب
فتعتقد أن الرجل ضاقت به الأرض بما رحبت لما اعتراه من هموم وغموم، وتشاهد لوحة من لوحاته الحزينة وإذا به يرسم فيها:
أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
ولكنه وللأسف لم يحظ بنيل حظوظه، وإدراك رغباته، لأن مقاصده تنعكس، ومرارته تتقلب خاسئة حسيرة إليه، ويرثي أحد أصحابه فيبدأ البكاء بقوله:
الحزن يقلق والتجمل يردع والدمع بينهما عصي طيع
فتجد مع ألم المصيبة روحاً وثابة، وهمة جامحة، ونفساً صامدة، ولكنها موجعة منهكة.
ويحتج علي الحمي ويصيح في وجهها:
أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزحام
فإذا الرجل مضرس بالأنياب ، مجرح بالمخالب ، تنهشه النوائب من كل جهة كما يقول::
رماني الدهر بالأزراء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا اصابتني سهام تكسرت النصال علي النصال(/10)
فهو يحسو كأس المعاناة قطرة قطرة، ويتجرع غصص الكربات غصة غصة، وسامحه الله، ليته رد الأمر إلي فاطر السماوات والأرض، وسلم له أمره وردد )قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا)(التوبة: الآية51)إن الناس ليسوا بحاجة إلي كلام بارد ثقيل، يطفئ جذوة الخاطر، ويميت إشراق النفس، لكنهم بحاجة لم يترجم مآسيهم، ويشاركهم أحزانهم، ويعزيهم في مصابهم، ويخفف عليهم من ويلاتهم:
ولابد من شكوى إلي ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
إن الشعر التقريري الإخباري أشبه بأخبار الطقس ، وأقام الأسعار ، ودرجات الحرارة )وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ) (صّ:34) .
إن المتنبئ عاش نعمة الألم، ولذة المعاناة، وسرور الحرمان فقال:
ذو العقل يشقي في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فلا حياة الله لذة في جهل، ومتعة في ذل، وحياة في خضوع، ومرخباً بموت علي عز، ومصيبة علي كرامة، وتضحية معها مجد، يقول هو:
جزي الله المسير إليك خيراً وإن ترك المطايا كالمزاد
فكل مشقة في سبيل هينة، وكل تعب من أجل المجد راحة، يقول:
يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول
فما دام العرض مصون ، والعقل محفوظ، فجرح الجسم سهل يسير.
شاعر الحنين وأستاذ الوفاء
لأبي الطيب طعم خاص في عالم الحنين إلي أهله وشبابه وموطنه، حتى مع من طرده، وأقصاه ونفاه، يقول لسيف الدولة بعدما فارقه إلي مصر:
رمي واتقي رميي ومن دون ما اتقي هوى كاسر كفي وقوسي واسهمي
ومعني البيت أن سيف الدولة رماني ـ سامحه الله ـ بالجفاء والإبعاد وأنا لا أستطيع أن أرميه؛ لأن له في قلبي محبة دفينة، ووداً دافئاً، وميلاً كامناً، كلما أردت أن أرميه وأنتقم منه كسر هواه وحبه في قلبي كفي وقوسي وأسهمي، ولكن انظر إلي نصاعة البيت وحلاوته وانسيابه.
ويفارق أحبابه فيصرخ:
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
يعني يوم ارتحلنا عنكم مكرهين أظلمت أمامنا الطرق، وسدت في وجهنا الأبواب ، ما عاد شيء يبهجنا، وما صار لدينا متعة تسلية ، ولا منظر يعجبنا. بل قال عن وفائه وحفظه للعهد:
خلقت ألوفا لو رجعت إلي الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
يا الله ! إلي هذا الحد وصل بك الوفاء يا شاعر العربية. إن الإيحاء الشعري فوق قضية البحر والوزن والقافية والروي، إنه سحر يجري في الأبيات ، وسحر يكمن في القصائد ، يفعل بالرواح فعل الغرام الهائج، أو الهيام المائج، وللمتنبي في باب الحنين مقامات مثيرة وشجون آسرة يقول:
نحن أدري وقد سألنا بنجد أطويل طريقنا أم يطول
وكثير من السؤال اشتياق وكثير من وردة تعليل
لله درك يا بن الحسين، يا صاحب البديهة الحية والقافية الذائعة، لقد سكبت علي قلوبنا فيوضات من الشجون الذي لا ينتهي، والحنين الذي لا يهدأ.
أما أولئك الشعراء الذين يملؤون بطونهم من طعام الخليفة، حتى إذا أتخم أحدهم قام ينظم قصيدة طويلة ثقيلة باردة سمجة، فلن تقرأ لهم جزاء وفاقاً علي بلادتهم وغباوتهم.
ويقول أبو الطيب وهو يحن لمدوحه، يعد بحسن تعاهده، وحفظ مودته:
أروح وقد ختمت علي فؤادي بحبك أن يحل به سواكاً
فانظر كيف أغلق قلبه وسد منافذه لئلا يصل إليه محبوب آخر، واسمع إلي دفء هذا الحنين:
ما لاح برق أو ترنم طائر إلا انثنيت ولي فؤاد شيق
إن مرهف الإحساس النبي صلي الله عليه وسلم صافي الروح، تذكره المشاهد أحبابه، فيذكر ملاعب الصبا، ومراتع الشباب، ومعاهد الطفولة، ومنازل الصحاب، وخيام الجيران، أما المعاق نفسياً ، الميت عاطفياً، فله حديث مع الخبز، وقصة مع الفول، وقصيدة مع التمر الهندي:
من لم يبت والحب ملئ فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكباد
وقديماً قال أحدهم:
ولو كنت عذري المحبة لم تكن بطنيا وأنساك الهوى كثرة الأكل
وقال آخر:
ولما دعيت الحب قالت كذبتني ألست أري الأعضاء منك كواسيا
وقال آخر:
يبكي علينا ولا نبكي علي أحد لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
أما المتنبئ فقد ذابت حشاشته مما به من الحنين يقول:
وعذلت أهل العشق حتى ذقته فعجبت كيف يموت من لا يعشق
ويقول:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني
المتنبئ والحب
الحب أرق كلمة في قاموس الحياة، وأجمل لفظة في دفتر الوجود، وأبهي عبارة في ديوان المعرفة، إنه صلة الروح بالروح، وضم القلب بالقلب، وعناق النفس للنفس، وأعرف بمعاني الحب وأسراره هم الشعراء؛ لأن عواطفهم جائشة، وجوانحهم مجنحة ، ومنهم كبيرهم الذي علمهم سحر الكلمة وهو المتنبئ.
وتعال معي في بهو الحب ومع أبي الطيب إذ يقول:
أرق علي أرق ومثلي يأرق وجوى يزيد وعبرة تترقرق
جهد الصبابة أن تكون كما أري عين مسهدة وقلب يخفق
فأنت تري أنه كلام خبير بالحب ، بصير بمذاهبه، غامض علي حقائقه، وانظر إلي تفننه وعجيب اقتداره في الرقيب، وخيانة الضمير، وغيض الدمع وابتداره يقول:
حاشى الرقيب فخانته ضمائره وغيض الدمع فانهلت بوادره(/11)
وكاتم الحب يوم البين منهتك وصاحب الدمع لا تخفي سرائره
فهو ليس صانع كلام، ولا مزخرف قول، بل ذائق عارف، ويقول في مطلع قصيدة:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا وبكاك إن لم يجر دمعك أو جري
فهو يصف لك ظاهرة من ظواهر الحب، وهو تجلد المحب وكتمانه لحبه، ولكن دمعه يفضحه رغم حبسه.ويقدم لك نفسه علي أنه مصاب بداء الحب، قتيل بالأعين النجل:
فمن شاء فلينظر إلي فمنظري نذير إلي من ظن أن الهوي سهل
ثم تشرق نفسه بمعني بديع من معانيه الفائقة:
كأن رقيبا منك سد مسامعي عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
وهو معني معروف عند الشعراء ، يقول محمد بن داود:
كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى ناظري ولساني
ثم يأتي بصورة خلابة تفرد بها ـ فيما أعلم ـ يقول:
قالت وقد رأت اصفراري من به وتنهدت فأجبتها المتنهد
فهو شاعر ثري التجربة، عامر الموهبة، صحيح المحبة، يقول:
خريدة لو رأتها الشمس ما طلعت ولو رآها قضيب البان لم يمس
فانظر إلي حضور الصورة في ذهنه، وجودة خاطره بالموصوف ، وسرعة استحضاره للمشاهد، ويقول:
نثرت ثلاث ذوائب من شعرها في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت بدر السماء بوجهها فأرتني القمرين في ليل معا
إن صاحب هذه البيات له ذاكرة وقادة، وطبيعة منقادة، فليس بارد المشاعر، جاف العواطف، بل هو أحق بقول القائل:
وقاد ذهن إذا سالت قريحته يكا يخشى عليه من تلهبه
وكلما غير قافيته خضرته صورة من الحب والنسيب في حلل وارفة من بديع الوشي، وغالي النسيج، يقول في مقام آخر:
عجبنا فأذهب ما أبقي الفراق لنا من العقول وما رد الذي ذهبا
سقيته عبرات ظنها مطراً سوائلاً من جفون ظنها سحبا
إنه التفرد في الجودة، والتوحد في الآله، حتى يفرض عليك الاستماع له، والإعجاب بنتاجه الرصين ، لأن الرجل عميق في فنه ، موهوب في عطائه ، واصيل في موهبته، وانظر إلي قصيده وهو يناجي الأرواح بما يحمله من حب وحنين وشوق ولوعة، يقول:
ليالي بعد الظاعنين شكول طوال وليل العاشقين طويل
فانظر إلي حسن تأتيه للمعني، وبراعة استهلاله، واكتمال هذا البيت، حتى صار كالعنوان علي الكتاب، والوشم علي الكف، وأنصت لهذا الالتياع والوجد للمنازل في هذا المطلع الخلاب:
لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت وهن منك أواهل
فتبقي تردد معه مشدوها بطريقة اختياره وجمال بنائه، وهذا مطلع أنيق يظهر مادة الغرام في نفس هذا الشاعر الموهوب يقول:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه بأن تسعدا والدمع اشفاه ساجمه
فهو يمزج الكلمة بالحب العاطفي بالحنين مع سهولة راقية في اللفظ. وجزالة وارفه في المعني. ومذهب سديد في الإبداع ، فحب المتنبئ ميل إلي الجمال، وإعجاب بالحسن، وشغف بالبهاء، وهو ليس وقفاً علي المرأة، بل حب وفاء لأصحابه ، من ملك، أو صديق، أو منزل، أو دار، لأنه ألوف يحفظ العهد. ويرعى الذمة، ويتعاهد الذكريات، ويرعى الوداد، ويبكي بكاء البطال، ويتفجع تفجع الشجعان ، ويتوجع توجع العظماء، ولكنه في النهاية إنسان له قلب ضعيف. وعواطف متأجحة، ودموع حارة، ونفس تذوب للجمال ، وتطير إلي الكمال، وتعشق الحسن.
العلماء يستشهدون بشعر المتنبئ
ما رأيت عالماً فذاً جاء بعد المتنبئ إلا استشهد بشعره في معرض حديثه، من موعظة وتفسير، أو سلوك، أو تربية، أو تاريخ، وقد مسحت كتباً كثيرة شهيرة فإذا للمتنبئ عشرات الأبيات منثورة في غصون هذه المجلدات، مثل إحياء علوم الدين للغزالي فله عنده قرابة عشرين بيتاً، وابن الجوزي مغرم في كتبه بالمتنبئ، وابن حزم مولع بشواهده، وابن تيمية يهش لنوادره، ويورد بدائعه، وابن القيم ينتقي مقطوعات ثمينة في كتبه، وعلماء التراجم يوشحون السير بشعره، والمؤرخون تسعفهم أبياته عند العرض والاستنتاج، والوعاظ يهزون الناس بقوافيه ، والملوك يديرون أدبه في مجالسهم، والأدباء يضمنون نتاجهم فيض المتنبئ، والكتاب يزينون مقالاتهم بتحفه الغالية، وبالجملة فلا أعلم شاعراً عربياً قديماً أو حديثاً شرق وغرب شعره، وخلد نتاجه كهذا الشاعر، شهادة يؤديها الأدباء ، ويقوم بها الشعراء، ويصدقها أرباب البيانن وكأن المتنبئ يعني هذا لما قال في شعره:
إذا قلت لم يمتنع من وصوله جدار معلي أو خباء مطنب
وقصدي من هذا الفصل إخبارك أن الشاعر الفذ هو من بقي حضوره، ودام ذيوعه، وفرض احترامه علي محبيهن ووجوده علي حاسديه، وكذلك كان المتنبئ ، فهو أشهر شاعر سمع به الناس، واحتفلت بشعره المنابر، وهضمت جمله الدفاتر، وتشنفت بقوافيه الآذان، ولعلت بقصائده المجالس ليصح في شعره قوله:
أن الذي نظر الأعمى إلي أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
جواهر ثمينة في عقد المتنبئ
أهدي المتنبئ للأدب العربي جواهر ثمينة من غالى الكلم، يعرف قيمتها هواة الحرف ، فغيره من الشعراء أحسن من بعض أبياته، ولكن هذا الشاعر أحسن في قصائده، وهذه جماليات فاتنة من جيد شعره، لا يحدها فن من وصف او غزل أو مدح أو حكمة، خذ قوله في الصفح الجميل:(/12)
وفيك إذا جنى الجاني أناة تظن كرامة وهي احتقار
فأنت لو ذهبت تنثر العقد الفريد، لجعلته كلاماً منثوراً لا يحفظ، ولا ينقل، وإنما سبيله الإهمال والإغفال، ولكن طالع إلي سبقه للمعني، وسبكه للفظ، ورشاقته في العرض ، وعلي قوله تعالي عن الأعداء: )لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً)(آل عمران: الآية111) يقول:
ويحتقر الحساد عن ذكره لهم كأنهم في الخلق ما خلقوا بعد
وهذا غاية المدح في عظيم يمتهن أعداءه، ويحتقر حساده ، إلي درجة أنه يعاملهم معاملة المعدوم الذي لم يخلق بعد، وهل لهذه سابقة لهذا المتفرد اللوذعي.
وفي الذكر الحسن وتصويره بالحلل الجميلة التي تستر الجسم في بهاء، وتظهر الملبوس في سناء يقول:
ورفلت في حلل الثناء وإنما عدم الثناء نهاية الإعدام
فهو حائك يجيد نسج الكلام بعناية، ويختار الكلمات بقصد، ويعمد إلي أجل المعاني بترصد وتعمد.
وفي باب كل حلاف مهين، يفاجئنا بنظرية تربوية ونفسية لا أعلم أحداً سبقه إليها فقال:
وفي اليمين علي ما أنت واعده ما دل أنك في الميعاد متهم
فكثرة الحلف مظنة الكذب )وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (القلم:10).
هل البلاغة إلا أصابت كبد العني بإيجاز من القول، مع سلامة من الإعياء اللفظي، ونجاة من الإسفاف ، وترفع عن الرخيص من اللفظ.
وفي مسألة : وجزاء سيئة سيئة مثلها، تثور ذاكرته الهادرة بهذه الحكمة.
إذا أتت الإساءة من وضيع ولم ألم المسيء فمن ألوم
وهذا البيت له قوته وسمو معناه، ما يكفل له الخلود والانتشار؛ لأن الناس يعيشون كل يوم هذه المأساة ، وهي جناية الأنذال ، وحماقات الأشرار الذين يستحقون التبكيت والقصاص المر.
ويحلق عالياً في المدح؛ ليصف ممدوحيه بالشجاعة، إلي درجة أنهم يرون الموت أمنية، والفناء مطلباً ، والبارود مسكاً زكياً في الأنوف، فيقول:
كأنهم يردون الموت من ظمأ وينشقون من البارود ريحانا
وكأني بالممدوحين وقد ذابت نفوسهم فرحة، وامتلأت صدورهم بهجة وعمت وجوههم نضرة النعيم.
ويغوص ـ حسبه الله ـ باقتدار وموهبة ذكية علي معني شرعي أدبي فيقول في ممدوحه:
عليك منك إذا أخليت مرتقب لم تأت في السر ما لم تأت إعلانا
فهو يصفه بحياة الضمير، وحضور المراقبة، والوضوح المشرق، والبعد عن النفاق والالتواء، وهذا من دقيق فهمه، ومن ثراء مخزونه الثقافي الجياش: لأننا سئمنا المديح المكرر المجوج، الذي توارد عليه الشعراء ، من أن ممدوحه يكرم الضيف، ويضرب بالسيف ، وينحر الناقة السمينة، ويقتل البطل الصنديد.
وتعال إليه وهو ينوه بنفسه علي عادته في الإعجاب بها، والافتتان بجدارتها، يقول:
وما كل من يهوى يعف إذا خلا عفافي ويرضي الحب والخيل تلتقي
فهما تقوى في خلوة حيث لا رقيب إلا الله، ولا حارس إلا الضمير.
وله فلسفة باهية، ونظرات جسورة، وتأمل دقيق، يقول في الحب:
وأحلي الهوى ما شك في الوصل ربه وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقى
ومع جزالة المعنى حلاوة في اللفظ، ونضارة في القالب، حتى كأنك تمضغ حبات السكر، أو تعب ماء نميراً، أو تذوق عسلاً مصفى.
وهو بارع في جل حكمه، وفي غالب مدائحه، وفي أكثر مذاهبه الشاعرية، واستمع إليه ليحدثنا عن قضية عاشها الناس جميعاً ولكنهم يغفلون عنها، يقول :
إذا ما لبست الدهر مستمعاً به تخرقت والملبوس لم يتخرق
فقف بقلبك أما هذه اللوحة الهائمة الحسناء، وأقرأ جملة لبست الدهر وكلمة تخرقت، ثم تأمل المعني وتدبر مفهوم الكلام؛ لترى عقل شاعر جبار، وأديب خطير، ويتحفنا ـ لا فض فوه ـ بفائدة علمية جليلة، لكنه لا يهديها لنا سامجة بل مزينة معطرة محلاة، فيقول في خشوع القلب:
وإطراف طرف العين ليس بنافع إذا كان طرف القلب ليس بمطرق
فالقلب طرف كما للعين طرف، وله إطراق كما إطراق العين، لكن إطراقه أسمي وأجل، فيا لها من صورة بديعة، ومن خيال خصب.
وله في عالم التمثيل بروز وسبق يناسب تقدمه في فنه، يقول في جودة استماع ممدوحه إذا سئل العطاء:
كأن كل سؤال في مسامعه قميص يوسف في أجفان يعقوب
وكأني بك وقفت علي نصف البيت الأول تنتظر المشبه به، وتتحرى صورة بديعة من التمثيل تشبع الخيال، وتملأ العطفة، فيسعفك بهذا الوصف المشرق الوضيء السامق، المنتزع من القرآن الكريم، فيمتلئ الجو بهاءً وسناءً وإبداعاً.
ويشيع ممدوحه بعدما ارتحل من هذه الحياة فيتوجه بقوله:
كفل الثناء له برد حياته لما انطوى فكأنه منشور
فما أبدع ما قال، وما أطرف ما نطق به، وانظر إلي قوله كفل الثناء له برد حياته، فهو لم يمت أصلاً فله من الحضور والذكر الجميل والثناء الحسن ما يجعله حياً بين محبيه، وانظر إلي قوله لما انطوي فكأنه منشور، فهو قماش يطوى وينشر ـ يطويه الموت، وينشره الثناء الحسن.
ويصف ممدوحه بعلو الهمة والابتعاد عن الكسل والخمول فيقول:
كثير سهاد العين من غير علة يؤرقه فيما يشرفه الفكر(/13)
فطالع المديح الدقيق، والاحتزاز في قوله من غير عله، ليبعد عن ممدوحه سهاد المرض، كما قال عز وجل: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ )(طه: الآية22). ثم اختياره لكلمة يؤرقه، فهي أجمل من ينبهه ويسهره في موضعها، ثم إن سهر ممدوحه ليس علي معصية أو سلوة أو لهو، بل هو تفكر فيما يرفع ذكره، ويبني مجده ، ويتلطف في بديع مدحه ويقول:
فلا تبلغاه ما أقول فإنه شجاع متى يذكر له الطعن يشتق
فارع سمعك لهذه الشفافية المرهفة، والروح المتألقة؛ لتري مدي قوة أسره، ومعرفته بأسرار التأثير.
ويعتذر لنفسه في الحب، ويلتمس من اللائمين العذر له فيرسل لنا هذه الجوهرة:
وما كنت ممن يدخل الحب قلبه ولكن من يبصر جفونك يعشق
فهل سمعت أن شاعراً سبق هذا الإمبراطور إلي هذا الفتح المبين في عالم الشعر، وفي اقتناص درر القريض، والغوص علي جواهره، فحيا الله فصاحة بذكاء، وبياناً بفهم، وبلاغة بعبقرية.
والمتنبئ سابق في نقل الصورة إلي المشاهد، ورسم المثال في الذهن، فهو أبرع في الرسم من ريشة رسام حذق متمرس، اسمع له يقول:
ألذ من الصهباء بالماء ذكره وأحسن من يسر تلقاه معدم
فمذهب التجديد يحمل لواءه هذا الشاعر المصقع؛ لننا بقينا قبله نعيش علي مديح مطرد تقليدي لا يغير ولا يبدل، يوصف فيه الممدوح بالليث والغي وأن كفه غمامة، وبيته منهل ماء، وناره من الكرم لا تنطفئ إلي آخر تلك القائمة المحفوظة عن ظهر قلب.
وتعال إلي ورقة من دفتر اختراعه، وديوان إبداعه يقول فيها:
أحقهم بالسيف من ضرب الطلي وبالأمن من هانت عليه الشدائد
ومعناه أن أولى الناس بأن يتقلد السسف والولاية من ضرب رؤوس الأعداء بسيفه أي شجاعاً ، وأولام بأن يأمن جانب عدوه من هانت عليه شدائد الحياة ومصاعب العلياء وغمرات الحروب، إن بإمكان أي خطيب أن يمطرنا بهذا المعني في نثر بهيج، لكن أن يقدمه لنا في لوحة مائسة ووشي منمنم فهذا من مهمة أبي الطيب شاعر الدنيا.
وهو يتحفك بتجربة رائدة عثر عليها في حياة المتاعب والعواصف يقول
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى وما المن إلا ما رآه الفتى أمنا
فليس الخوف هو ما أتت به الحوادث والنكبات، وإنما شعور المرء بالخوف أعظم من نفس الحدث كما قال أحدهم:
لعمرك ما المكروه إلا انتظاره وأعظم مما حل ما يتوقع
ودونك ـ رعاك الله ـ نفحه زكية من حديقة فكره المغدقة:
وللحساد عذر أن يشحوا علي نظري إليه وأن يذوبوا
فإني قد وصلت إلي مكان ليه تحسد الحدق القلوب
فالرجل لا يفارقه جمال العبارة، وخصوبة الخيال، وروعة التعبير، فبديهته حاضرة ، وقلبه شهيد، وريشته تقطر إبداعاً وفتنة. وما سمعنا بشاعر اعتذر لحساده وسامحهم إلا هو، وليس كرماً منه لهم، وإنما نكاية بهم، ورفعة للمدوح بحيلة ذكية.
وقف قليلاً معه وهو يتحدث مع الزمان، يقول:
أتي الزمان بنوه في شبيبته فسرهم وأتيناه علي الهرم
فهو يري أنه متأخر رتبة ، ولو أنه متقدم لفظاً؛ لن الزمان الذي عاش فيه زمان لا يقدر العظماء، ولا يحتفل بالنوابغ، ولا يكرم الأفذاذ، ويقول أيضاً:
أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
فلا زمانه يساعده، ولا أصدقاؤه يعضدونه ، ولا حساد يتركونه، ولا الملوك يحتفلون به، ولكن عزاؤه هذا الشعر السائر الخالد، الذي يبقي عبقة في أنوف الجهابذة، ودوي صوته في آذان الأجيال، فهو أعظم شاهد علي جدارة هذا النابغة، وسطوعه ولموعه، كما قال:
وتركك في الدنيا دوياً كأنما تداول سمع المرء أنملة العشر
المتنبئ وجنون العظمة
المتنبئ شاعر هائج مائج، هدار موار، كالبرهان يرمى بالحمم ، مارد كالريح القاصف العاصف، فهو لا يؤمن بالمهادنة والتروي والانتظار، فهو إما متوجع متفجع، وإما شاك باك، وإما غاضب ناقم، وإما مظلوم مهضوم، وإما ساطع لامع، غير أنه ليس ساكناً كامناً، بل هو في الحقيقة مالئ الدنيا،وشاغل الناس، وبسبب هذه المعاندة والإباء والمشاكسة طار ذكره، وشع بيانه، وساح في الناس أدبه.
إن الذين يريدون التأثير في الأجيال ، ثم لا ينفضون من حولهم بنتاجهم وعلمهم وأدبهم وخطبم، إنما هم أموات غير أحياء، وما يشعرون إيان يبعثون.
إن أهل الدعة والخمول نسخ مكررة، يراها الناس ملء الشوارع والأسواق، ولكن العباقرة أندر من الكبريت الأحمر، فهم يشاركون الناس في الصورة الظاهرة ، ويفوقونهم في المواهب والصفات، كما قال المتنبئ نفسه:
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
طغى به بيانه وحدثته نفسه بأنه فريد العالم، ووحيد الدهر، ورجل الدنيا، فترجم شعراً، يقول:
أي محل أرتقي أي عظيم أتقي
وكل ما قد خلق اللـ ــه وما لم يخلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي
نستغفر الله ونتوب إليه من هذا الغلو الفاحش، والطغيان الجارف، وكما سلف معنا فقد نظر العمى إلي أدبه وسمع الصم كلماته:
أنا الذي نظر الأعمى إلي أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
وهاهو يصف نفسه بأعجوبة الزمان ونادرة الكون:
إلي لعمري قصد كل عجيبة كأني عجيب في عيون العجائب(/14)
بأي بلاد لم أجر ذؤابتي وأي مكان لم تطأه ركائبي
وهو عند نفسه وحيد في بابه، لم ينسج علي منواله أحد ، ولن يتكرر وجوده في الناس، وشعره حديث البشر وقضية القضايا:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
فالناس مشغولون بشعره، منهمكون في عظمته، مستغرقون في دراسة أدبه، هكذا يتصور ويفكر ويقدر، بل ينصحك أن لا تسمع إلا له، ولا تنظر في شعر سواهن فإن غيره إذا تكلم فسد الكلام ومج الحديث ورخص القول:
ولا تبال بشعر بعد شاعره قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
ويري أن الشعراء قد عجزوا عن مجاراته، وأفلسوا في السباق معه، ويقول:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق أراه غباري ثم قال له الحق
أي أن سيف الدولة إذا أراد أن يضحك لشاعر ويسخر منه، أراه غبار المتنبئ السابق المتفرد، ثم قال لهذا الأحمق: أدرك ذاك الجواد المضمر وهيهات ، ثم يقول:
وما كمد الحساد شيء قصدته ولكنه من يزحم البحر يغرق
فقد غرق الحساد في بحر عظمته، وهو لم يرد ذلك أصلاً، ولكنهم هم الذين تعرضوا له.
وله في مدح نفسه كلمات سائرة، مرة يثني علي نفسه الجليلة عنده، العزيزة لديه، ومرة يبارك شعره ويتبجح به، وأخري يصب جام غضبه علي أعدائه ويتعجب من جهلهم به وبمقداره ، وعدم اعترافهم بنبوغه وتفوقه. واسمع له يترنح في غمرة عجبه، ويسكر بكأس تبجحح، ويسبح في خيال وهمه الذي أوحي إليه من زخرف القول غروراً جامحاً ، وتيهاً جارفاً ، يقول:
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر
واشجع مني كل يوم سلامتي وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
تمرست بالآفات حتى تركتها تقول أمات الموت أم ذعر الذعر
وأقدمت إقدام الأتي كأن لي سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر
وكلما أردنا أن نغضب منه لهذا الجموح الطاغي، والتعالي المرفوض، أرضانا بهذا القول الخلاب، والسحر الجذاب، والمنطق السالب للعقول، فسكتنا عاتبين.
عن العباقرة يجدون تحدياً سافراً من الأغبياء، وظلما ظاهراً من البلداء فتثور ثائرتهم ، وتغلي مراجلهم، وتضطرب جوانحهم، ومنهم هذا الشاعر الذي فتح جبهات مع خصومه، ودخل معارك ضاربة مع حساده، وأصبحت حربه معهم حرب بقاء أو إبادة، حياة أو موت، وجود أم عدم. ليس عند المتنبئ تواضع الصالحين ،ولا إخبات الأولياء، ولا ورع العلماء؛ لأنه طالب شهرة قانص مجد، باحث عن إمارة، ساع يلهث وراء الجاه والصدارة )َ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)(آل عمران: الآية152).
ألا بلغ الله الحمى من يريده وبلغ أطراف الحمى من يريدها
المتنبئ والنجومية
خاص المتنبئ حرب النجوم في عالم البيان، ورفض الاستسلام لخصومه وأوصى محبيه أن لا يرضوا بغير النجومية:
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فهو حاذق في معرفة طرق الصدارة، متعب نفسه وغيره في مباراة التحدي وإثبات الذات:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
ولا يرضيه الرضي بالأقل، والقناعه ببعض المجد ، بل لابد من المجد كله، والكمال أجمعه:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين علي التمام
وهو يفور غضباً ، ويثور بركاناً علي من يريد تحطيمه، والتقليل من شأنهن حتى غنه مر ببعض حساده في الطريق، فألقي عليهم هذه القذيفة:
لو استطعت ركبت الناس كلهم إلي سعيد بن عبد الله بعرانا
والويل كل الويل لمن أراد الانتقاص من هذا الأعجوبة ، إنه سوف يبوء بإثمه، ويحسو كأنه ندمه، ولو كان ملكاً مطاعاً، فهو يجر كافور ملك مصر من علي كرسيه بهذه القذيفة:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
وفي سبيل تحقيق نجوميته فكل شاعر سواه، فإنما هو شويعر حقير صغير، وهو وحده الخطير الشهير الكبير:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ضعيف يقاومني قصير يطاول
فالكريم الذي لا يحتفل بالمتنبئ ، ولا يكرم مثواه ويحسن وفادته، لئيم خسيس:
جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجود
والذي لا يستمع إليه غر بليد، يقول في أحد هؤلاء الأغبياء:
صغرت عن المديح فقلت أهجي كأنك ما صغرت عن الهجاء
وهو عند نفسه نادر المثال، لا يتكرر سبيه له، وهو غريب كما يرى في نبوغه وفصاحته:
أنا في أمة تداركها اللت ــــه غريب كصالح في ثمود
وهو معدن آخر كما يري، له طينة أخري، فهو كما يعتقد م متفرد متميز:
وحيد من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
وكأني به يرى سواه أقل منه رتبة، وأقصر قامة، واصغر قدراً:
وربما اشهد الطعام معي من لا يساوي الخبز الذي أكله
ولا ينسي أن يذكر أصحابه بأنه نجم:
وإني لنجم تهتدي صحبتي به إذا حال من دون النجوم سحاب
ويبشرك أن نفسه وثابة شابة، وبشاشة جياشة:
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه ولو أن ما في الوجه منه حراب(/15)
فهو شاب الهمة، فتي العزيمة، متوقد القلب، لا يكل ولا يمل، حتى يبلغ مناه من النجومية، والتحليق عالياً في سماء النجاح، فلديه من الطموح غلي نيل مطالبه، وإدراك مقاصده، ما اتعب جسمه ، وأنهك روحه، وعرضه للمخاطرة وحمله علي ركوب المهالك، وصح فيه قوله من قصيدة له عامرة:
وأتعب خلق الله من زاد همه وقصر عما تشتهي النفس وجده
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلباً بين جنبي ما له مدى ينتهي بي في مراد أحده
يري جسمه يكسى شفوقاً تربه فيختار أن يكسى دروعاً تهده
رحلة ممتعة في زورق الإبداع
لابد لعشاق البيان، وهواه جمال الكلمة ونصاعة القول ، من ذائقة فنية وحاسه سادسه للتمتع بطعم التأثير المشرق لسحر الكلام، وإلا فلا فائدة من عرض تحف البيان علي عمي البصائر، وإبراز مخدرات الحسن علي كل أكمه وأعشي، وما أعجبنا في المتنبئ غلوه في مدح نفسه. ولا ثناؤه علي إنجازاته الخيالية، إنما أعجبنا هذا الوهج الفني، والبريق الذي كاد يذهب بالأبصار ، ثم سماء عبقريته، فهو بلا شك صاحب قدح معلي في صياغة الكلمة، ونسج الجملة، حتى يلتفت لها القلب ، ونحن معذورون في إعجابنا بشعره فقد سبقنا أساطين البيان، ودهانقة الفصاحة، وأساتذة البديع،وكلهم معترفون بفصاحة هذا الشاعر ، وتألقه وانفراده ، فيها أخي اركب معنا في زورق الإبداع وربانه أبو الطيب المتنبئ الذي يقول:
أنا السابق الهادي إلي ما أقوله وعين قد أصابتها العيون
وسوف نسوق جملاً ندية بسحرهن مخضلة بطلاوته، عبقة بمسك فنه؛ لتكون كالشاهد علي غيرها، والدليل علي سواها، وكفاك غرة الفرس، وثغرة المحب، ونون العين:
له عين أصابت كل عين وعين قد أصابتها العيون
وسوف نقتصر علي نون العين من نتاج هذا الشاعر الثائر الطموح والباقعة المتألق:
قالوا خذ العين من كل فقلت لهم في العين فضل ولكن ناظر العين
والآن هاك هذه الفرائد
وخير جليس في الأنام الكتاب
يقول أبو الطيب :
أعز مكان في الدنى سرج سابح وخير جليس في الأنام كتاب
فأنظر كم اهتدى إلي معني ثمين رائد، ثم أخذه فغسله وكواه، ووضعه وطبعه، وفصله بلفظ ساطع ، وتركيب متناسق خلاب، فهل سبقه شاعر إلي اختراع هذا المعني ؟! إنه يقول لك: إن اشرف موضع يقعد فيه كل ماجد نبيل هو ظهر الفرس، حتى يقاتل العدو، ويحمي الحوزة، ويذود عن العرض، ويدافع عن الكرامة، ويبني المجد، وإن أفضل المجالس لحق الجليس، وإمداداً للعقل، ولكن أعد النظر في رصفه للكلمات الحرة الراقية، وبنائه للبيت بلا نشاز ولا التواء، إن من الشعراء من قد يجود بهذا المعني؛ لكنه يضعه في قالب فج بكثرة حروف الجر والضمائر ، والتقدير، والتأخير ، والإسفاف ، والحشو.
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
يقول:
ذو العقل يشفى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
لله دره، هكذا فلتكن الذاكرة الحية، والذهن الخصب الممرع، والتجربة الراشدة، إن العاقل الأريب لا يقر قراره لعطشه، ومعرفته بتغير الأيام، ودوران الليالي، ومفأجاة الحوادث، وهجوم المزعجات، أما الغبي الحافي ، فهو كالبهيمة لا يري إلا موطن قدميه، فهو في شقاوته يتنعم لجهله بالعواقب النبي صلي الله عليه وسلم وقلة خبرته بالنوائب، وانطماس بصيرته عن مشاهدة سنة الحياة؛ من العسر لليسر، والغني والفقر، والسرور والحزن )أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان:44) .
يقول شكسبير: (( الذكي يعيش من جنته في جحيم، والغبي يعيش من جحيمه في جنة)) ولكن تبقي الريادة للمتنبئ والسبق.
مصائب قوم عند قوم فوائد
يقول:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائد
فتطير هذه الحكمة في الآفاق، وتجري علي الألسنة، وتكون حاضرة علي شفاه الخطباء والحكماء، وتشاهد علي البيت توقيع المتنبئ الخاص الذي يميزه عن غيره، وانظر إلي جملة بذا قضت الأيام ما بين أهلها، فإذا هي عبارة مستقيمة صحيحة لا عوج فيها ولا أمتاً ، ثم أنظر إليه وهو يستفز ذهنك لتترقب الحكمة القادمة فيبادرك بها: مصائب قوم عند قوم فوائد، فتكون هذه الحكمة ناطقة بعمق الرجل، وذكائه وسعة تجربته، وهو الاستفادة من نكبات الغير، وأخذ العبرة من ذلك ، وهو منطق القرآن ) فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)(الحشر: الآية2).
والمتنبئ قدير في جلب الحكمة الصادقة، وفي سبك اللفظ الجميل، فليس شعره من شعراء الأعراب الساذج الباهت، وليس من شعر حفظة المتون العلمية المقننة المتكلف ، بل هو سائغ للشاربين، يسر الناظرين.
ولا التذكير فخر للهلال
يوم رثي والده سيف الدولة قال:
ولو كان النساء كمن فقدنا لفضلت النساء علي الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال(/16)
فأنت تشاهد انسياباً لذيذاً لا يعكره حشو في اللفظ، ولا يكدره غرابة في اللغة، ولا يشوهه تبذل سوقي، بل تشاهد الفخامة، فهو يمهد لك بالبيت الأول حتى إذا تهيأت لسماع النظرية، واستقبال الدليل باشرك بالبيت الثاني في رقة وعذوبة، فكأنك تمضغ سكراً ، أو تمص عنباً، خلاف ما تشاهده في كثير من الشعر الإنشادي الإنشائي أو التقريري الإخباري، أو الغريب الوحشي، ولهذا بز المتنبئ للشعراء في هذا الباب.
ذكر الفتى عمره الثاني
يقول:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ما قاته وفضول العيش أشغال
فهذا ثلاثة مقاطع من الحكمة النادرة، والوعى الراشد، والتجارب المماثلة وما هذا الرجل إلا فيلسوف متأمل ، يستولي علي مكان الإعجاب فيك، وانظر إلي إيجازه وفصاحته في قوله: ذكر الفتي عمره الثاني، انتهي المقطع ليكون قطعة ماس، أو حبة لؤلؤ مائسة ، تقلبها في يدك فتزداد شرفاً وبريقاً، ولك أن تحدث العقلاء في مسألة الذكر الحسن فتقول: ذكر الفتي عمره الثاني، فتقنع الجميع بجلالة هذا الأمر والترغيب فيه، ثم تقول : وحاجته ما قاته، فتطبع درساً في القلوب، درساً لا ينسى في علم القناعة، بأقل لفظ، وأخف قولن واصدق عبارة، ثم تقول: وفضول العيش أشغال، فتزهد الناس في التكاثر ، والانهماك في الجمع والتكالب علي الدنيا، فإذا عبارة وفضول العيش أشغال كتاج مرصع علي هامة كريمة، أو خاتم علي رسالة، أو عنوان علي كتاب، وانظر إلي قدرته في طي مسافات المعنى في اقتصاد من القول، وأبهة من البلاغة.
إن الثناء علي التنبال تنبال
يقول:
وقد أطال ثنائي طول لابسه إن الثناء علي التنبال تنبال
ومعنى كلامه أنني قد أطلت الثناء علي هذا الممدوح لكثرة مناقبة، وجلالة قدره، وغزارة خصاله؛ فلذلك وجدت مجالاً للكلام، بخلاف التنبال الذي هو القصير القزم التافة، فإنالثناء عليه قصير وشحيح؛ لأنه لا مجال للإسهاب في وصفه ومدحه، وقد أراد في هذا البيت أن يعتذر من الإطالة ، فأتي بأحسن المدح في ممدوحه ، ثم ختم البيت بقضية عادلة، وكلمة سائرة، وهي أنه بحسب الممدوح كرماً ولؤماً، يكون المدح طولاً وقصراً، كما أن الثياب تفصل علي طول الناس وقصرهم، فكذلك الثناء ، وهذا من دقيق نظره، وجدارته من اقتناص المعاني.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
يقولك
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
معناه: أن الكريم تملك وده ووفاءه بالإحسان إليه؛ فيكون لك موالياً مصافياً حافظاً لجميلك، ذاكراً لإحسانك ، بخلاف اللئيم، فلا يزيده الإحسان إلا تمرداً وتنكراً؛ لخبث طبيعته، وسوء سيرته، ولؤم خلقه، وغالب الناس يعرفون هذا المعني ، لكن تقديمه لهم في عبارة شاردة، وحكمة فائقة، مطلب يهش له العقلاء، ويتوق له الأدباء، وقد قلنا لك: إن المتنبئ لا يعاضل بين الكلام، ولا يثقل البيت بالضمائر ، وحروف الجر، والتقديم والتأخير ، كما يفعله صفاف الشعراء ، الذين يثقلون السامع بحشو الكلام، وزائد القول. وكم سمعنا من عامة الناس من يردد هذا البيت فضلاً عن طلبة العلم، وما ذاك غلا لاستيلاء هذا الشاعر علي عرش الشهرة، وامتلاكه ساحة الأدب، وامتيازه بالأسر والتأثير .
غرقت فيه خواطره
يقول في ممدوحه:
إذا تغلغل فكر المرء في طرف من مجده غرقت فيه خواطره
فهو هنا يترقى بك عن مدح الأعراب المكشوف إلي مدح دقيق، ومعنى عميق، يدل علي علو كعبه في سعة الاطلاع، ورحابة المعرفة مع جودة الخاطر يقول هنا: إن هذا الممدوح إذا غاص فكر الإنسان في جزء واحد من مجده الواسع، مواهبه الجمة؛ استغرقت هذه الصفات كل خواطر هذا الإنسان واستولت علي ذهنه وحيرته، فكيف بباقي صفاته وسائر خصاله، وهو ثناء نادر وقوعه في المدائح لدقته وغرابته، ولكنه لذيذ تعشقه النفوس لأنه فريد متوهج.
الرجل يتقطع أسفاً ويعلن التمرد علي حياته
تمن يلذ المستهام بذكره وإن كان لا يغني فتيلاً ولا يجدي
وغيظ علي الأيام كالنار في الحشا ولكنه غيظ الأسير علي القد
هكذا يغلي غصباً ، ويصرخ نادماً ، لكنه لا حيله له، بل هو مثل الأسير في قيده، لا ينفعه غصبه من هذا القيد، وهو مشحون بالسخط من بني زمانه؛ لأنهم أنانيون وطماعون ليس معهم حل إلا السيف، حتى يحكم الله بينه وبينهم وهو خير الحاكمين:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
وأن ترد الماء الذي شطره دم فتسقي إذا لم يسق من لم يزاحم
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس روى رمحه غير راحم
فليس بمرحوم إذا ظفروا به ولا في الردى الجاري عليهم بآثم(/17)
هذا رأيه الصريح في بني جنسه وفي زمانه، إن الرجل ملتاع ملدوغ من حساده، منكوب من الأعداء، مضطهد من الملوك، ولكن كان لهذه النوائب نفعاً من إذكاء قلبه، واشتعال ضميره بهذا العطاء الجزل من البيان الجليل، والأدب النبيل، ولو أن المتنبئ سلم من هذه النكبات، لكان شعره مثلجاً كشعر المئات من الشعراء الباردين الثقلاء، الذين أغلوا علينا الأوراق والحبر، وخدعوا القارئ البسيط بحسن طباعه دواوينهم ليجد فيها غثاء من رخيص القول، وزبداً من تافه الحديث.
لكن أبا الطيب أنضجته المعاناة، فصارت تسيل علي شفته قواف سائرة، تدعوك إلي العيش في ظلالها، وتأمل جمالها والتمتع بخمائلها، ونحن نعلم أن سبب هذا الهيجان العاطفين والثوران النفسي، إنما هو لعدم نيله مطالبه الدنيوية الرخيصة، من منصب وصدارة وإمارة، فهو مغرم بهذه المقاصد، متيم بهذه الهوايات، ويحسبها أجل ما يناله المرء؛ لأن الرجل شاعر، وليس لديه من علم الوحي، وفقه الديانة، ونرو الملة، ما يعصمه عن هذا المذهب، ويدله علي ما هو أنفع وأرفع، وهو رضوان الله عز وجل )مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ )(النحل: الآية96).
حلاوة وطلاوة علت قوافيه الماتعة
إن كان ملك القلوب فإنه ملك الزمان بأرضه وسمائه
الشمس من حساده والنصر من قرنائه والسيف من أسمائه
أين الثلاثة من ثلاث خلاله ومن حسنه وإبائه ومضائه
مضت الدهور وما أتين بمثله ولقد أتي فعجزت عن نظرائه
يا لطيف! ما هذا الكلام الشريف، ارجع البصر كرتين إلي هذه الأبهة اللفظية كقوله: ملك القلوب ، وما فيها من قوة واسر ونفث سحر، وهذا ليس معروفاً عند شعراء الصحراء، وضعاف الأدباء، فإن ملوك القلب أعظم من ملك الأبدان، ثم جعل هذا الملك مسلماً للمدوح ، وإنما أثبت له ملك الزمان بأرضه وسمائه، ثم طالع تشبيهه للمدوح بالشمس في الحسن،والنصر في الإباء، والسيف في المضاء، ولكن في تقسيم شاعري رائع، يناديك من أطراف قلبك إلي التيقظ، والتمتع بمسارح الجمال، ومرابع الخيال، في قالب فني كله رواء وطلاء، يذوب رقة، ويندى رشاقة، ويسكب لطفاً، وهذا سر أهمله كثير من الشعراء؛ لأنهم يأتون إلي معني مكشوف بلفظ سادج، ليس عليه حلة من الإبداع ، كقوله جرير في ممدوحه:
تعود صالح الأخلاق إني رأيت المرء يلزم ما استعادا
والحمد لله علي السلامة، فما زادنا جرير علي أن وزن لنا كلاماً لو تركه بلا وزن كان أسهل ، أو كقوله:
أقلي اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا
فانظر إلي هذا التقرير البارد والشعر الإخباري الثقيل.
وهذا ابن دريد يقول لنا في مطلع مقصورته:
يا ظبية أشبه شيء بالمها ترعى الخزامى بين أشجار النقا
فقد أفادنا أن الظبية مثل المها ـ ما شاء الله ! ـ وأنها ـ والحمد لله ـ ترعي الخزامى بين أشجار النقا، هذا كل ما في البيت، فلا تتعب نفسك في الغوص علي معانيه، وإخراج جواهره، فليس فيه إلا ما ذكرت.
وهذا الرازي يقول:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
فأنت أما كلام منطقي قانوني مدون، ليس له حلاوة، ولا طلاوة، ومعناه يفهمه الحاضر والباد.
وأين هذا من قول المتنبئ :
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل؟!
فما أبدع ما قال! وما أمتع ما نطق به! فهنا يحق للذهن أن يتأمل النبي صلي الله عليه وسلم وللروح أن تنتشي، فهو يقول لك:
أنا المتسبب بنظري إلي الجمال حيث جنى طرفي علي، وأوردني حياض الموت، فلن أطالب أحداً بديتي، ولو كنت قتيلاً، فأنا القاتل في الحقيقة؛ لأنني نظرت بطرفي فقتلت.
وأين أقوالهم من قوله:
قد كنت أشفق من دمعى علي بصري فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
فشكراً لهذا الإبداع والتألق الفني، واللهيب والجذب، وكأنها أمثال في الذيوع والانتشار، وضع يدك علي قلبك واقرأ معي قول أبي الطيب:
وما شرفي بالماء إلا تذكراً لماء به أهل الحبيب نزول
يقول: أنني إذا غصصت بالماء وأنا اشربه علي المائدة، فسبب تذكري ماء نزل به أهل الحبيب ، فلما ذكرت ذلك شرقت بهذا الماء، واختفت من شدة الأسى واللوعة. وقد أكرر هذا البيت كثيراً فأغالب دمعي، واعصر غصصاً كامنة في نفسي.
شاعر يرسم بريشته الأحداث
يقول في سيف الدولة بعدما عوفي من مرضه:
المجد عوفي إذا عوفيت والكرم وزال عنك إلي أعدائك الألم
إلي أن يقول:
وما أخضك في برء بتهنئة إذا سلمت فكل الناس قد سلموا
وكأني بهذا المريض المعافي يترنح طرباً، ويطير شوقاً من هذه التهنئة الحافلة ، والأنشودة الراقية، التي انهمرت علي الممدوح كغمامة هلت ماءها في صيف متوقد.
فهو يخبره أن المجد مرض بمرضه، وعوفي بعافيته، وكذلك الكرم، ثم يدعو الله أن ينقل ألم الممدوح إلي أعدائه، ثم يهنئ الناس كلهم بعافية هذا الماجد الشهم النبيل.وأرعه سمعك وهو يقول لسيف الدولة:
هو البحر غص فيه إذا كان ساكناً علي الدر وأحذره إذا كان مزبدا
فإني رأيت البحر يعثر بالفتي وهذا الذي يأتي الفتي متعمدا(/18)
تظل ملوك الأرض خاشعة له تفارقه هلكي وتلقاه سجدا
هذا مدح تنصت له أذن الدهر، وتهش له الجبال حفاوة واحتفالاً، ولن اشرحه هنا لأنه قريب منك؛ لكن في إباء سهل، لكن في امتناع مفهوم، لكن في عمق.
تحليق في سماء الإبداع
من الشعراء من يمشي علي بطنه، ومنهم من يمشى علي رجلين،ومنهم من يمشى علي أربع ، ومنهم من يطير كالمتنبئ، لكن بارتفاع سبعة وثلاثين قدماً عن سطح البحر، فهو دائماً محلق، وإن اقترب أحياناً من الأرض، كما يقول هو عن العلو:
ذي المعالي فليعلون من تعالي فكذا هكذا وإلا فلا لا
شرف ينطح النجوم بروقيـ ـه وعز يقلقل الأجيالا
فالرجل صاعد بموهبته، ولا يريد أن تقارنه بغيره من الشعراء:
أجزني إذا أنشدت شعراً فإنما بشعري أتاك المادحون مرددا
ودع كل صوت غير صوتي فإنني أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
فهو يطلب منك أن تفرده بالاستماع والإعجاب وحده؛ لأنه محلق وسواه ماش.
والآن يريد أن يخبرك بصعوبة المجد، وثمن التضحية، ومهر المعالي، فيقول:
تريدين لقيان المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من إبر النحل
فتصف البيت مقدمة خطابيه، والنصف الآخر دليل وبرهان، ولكن يسمو في أمثاله، فهو يستعمل التشبيه المعروف، ولكنه الراقي الذائغ، وأراد أبو فراس الحمداني نفس المعاني فقال:
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن طلب الحسناء لم يغله المهر
وأنا أري أن بيت المتنبئ أجمل وأكمل ، وأما بين أبي فراس فهو علي شهرته به جدري في وجهه؛ لأنه قال لم يغله المهر أي أراد لم يغل عليه المهر، فلا يرقى إلي سمو شاعرية المتنبئ وتدفق ذاكرته الخلابة الخصبة .
ويقول في باب آخر:
وما صبابة مشتاق علي أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل
فهو يخترع معني بديعاً في الحب، ويوجد فارقاً معقولاً بين الشوق مع أمل اللقاء والشوق بغير أمل، فبيته أسمى وأرقى من قول الشاعر:
أحدث نفسي باللقاء وقربه وأوهمها لكنها تتوهم
فإن البيت الأخير علي جمال فيه سادج مكشوف، وأحسن منه قول الشاعر:
أحدث النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
وأحسن من هذا وأجمل قول الشاعر:
منى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
ولكن جرس المتنبئ وموسيقاه لها طعم آخر، ومذاق يختلف عن كل مذاق.
حتى إنك إذا سمعت قوله:
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل؟!
فإنه يطريك ويعجبك لأنه يغوص علي المعني، ثم يوشيه لفظاً أجمل من زهر الرياض، ثم يختار المفرد فيأسر قلبك، وأنت إذا أمعنت النظر في بيته المتقدم، لا تدرك المعنى من أول وهلة، حتى تتأمل وتمعن النظر، وتعيد البصر كرتين، لأن المعنى المتبذل المكشوف رخيص، كالبضاعة المعروضة بعرض الطريق، من خشب وحجارة، بخلاف الذهب والماس، فإنه يوضع خلف الأبواب عليه الأقفال لارتفاع ثمنه.
وقد طرق الأرجاني معني المتنبئ :
أعيني كفا عن فؤادي فإنه من البغي سعي اثنين في قتل واحد
وبيت المتنبئ أرق وأمتع ؛ لأن بيت الأرجاني فيه محاكمة قضائية وخصومة .
وقال آخر:
عوقب وجنى ناظري وربما عوقب من لا جنى
وهذا بيت رث غث ليس له إشراق وروعة كبيت أبي الطيب. وفي الغالب لا تقارن أبا الطيب بشاعر آخر إلا وجدت له تفوقاً وارتفاعاً، اسمعه يقول في وصف شجاعة ممدوحه:
تعود أن لا تقضم الحب خيله إذا الهمام لم ترفع جنوب العلائق
ولا ترد الغدران إلا وماؤها من الدم كالريحان فوق الشقائق
فما أجمل الوصف، وما أجمل المدح، وقارنه بقول ابن عنينك
وتعاف خيلهم الورد بمنهل ما لم يكن بدم الوقائع أحمرا
فإنك تجد المتنبئ أرقى صورة، وأشد تاثيراً ، واسمع إليه في هذه الثلاثة الهائمة الساحرة:
إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا
كأن ألسنهم في النطق قد جعلت على رماحهم في الطعن خرصانا
كأنهم يردون الموت من ظمأ أو ينشقون من الخطي ريحانا
واسمه غيره يقول:
كأن الهام في الهيجا عيون وقد طبقت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنة من هموم فما يخطرن إلا في فؤاد
وقال حساده إنه سرق المعاني من منصور النميري إذ يقول:
وإن موقعه بجمجمة الفتي حذر المنية أو نعاس الهاجع
وقول المهلهل:
الطاعن الطعنة النجلاء تحسبها نوماً أناخ بجفن العين يغفيها
وقول ابن المعتز:
أين الرماح التي غذيتها مهجا مذ مت ما وردت قلباً ولا كبدا
وقول أبي تمام:
كأنه كان ترب الحب مذ زمن فليس يعجزه قلب ولا كبد
وليس عليهما جميعاً ما يقال له طيب، غير أبي الطيب، وأين فضل الطل من الوابل الصيب، فشاعرنا متفرد متوحد متميز.
مداخلات مع المتنبئ
في شارع رئيس من شوارع الرياض، مكتوب في لوحة إعلانية بارزة(( وخير جليس في سهرة رمضان الإم بي سي!!)) ، وقصدهم إلغاء بيت المتنبئ الشهير : (( وخير جليس في الأنام كتاب)) وما اخذوا هذه العبارة إلا لشهرتها، ومعرفة الناس بها، وجاذبيتها، ويكفي المتنبئ شيوعاً أن أبياته صارت تحرف لمصالح دعائية وتجارية، وهذا هو الشرود الأدبي ، والشيوع الثقافي الذي فرض حضوره علي الناس.(/19)
بإمكانك أن تجعل من أشعاره جواباً لحوارتك مع محدثك؛ إن كنت فظناً ذا بديهة حية وذاكرة حاضرة.
فإن لامك علي حب فقل : (( لا تعذل المشتاق))، وإن سأل عن حالك فقل: ((واحر قلباه)) وإن شكى إليك تعب المعالي فقل : (( لولا المشقة))، وإذا شكى إليك الدنيا فقل : (( لحى الله ذي الدنيا))، وإن مدح لك رجلاً موصوفاً بالفضل فقل: ((وإن تفق الأنام))، وإن ذكر لك لؤم أحد الأنذال فقل: (( وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا)). وإن أخبرك بمجاملاته لأعدائه فأنشده : (( ومن نكد الدنيا علي الحر))، وإن قال لك لقد تعبت في سفرك إلينا فقل له : (( جزى الله المسير إليك خيراً))، وإن شكى إليك الحساد فقل: (( إني وإن لمت حاسدي فما أنكر أني عقوبة لهم وأن أخبرك ببعض المشكلات التي تواجهه فأنشده : (( إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأهون ما يمر به الوحول))، وإن مدح لك امرأة بالدين والعقل والعلم فقل: (( ولو كان النساء كمن فقدنا لفضلت النساء علي الرجال)).
لغة البكاء عند المتنبئ
لهذا الشاعر الأعجوبة رحلة طويلة مع البكاء، فهو مصاب في والديه؛ إذ عاش يتيماً، مصاب في وطنه؛ فهو مشرد منفي، ومصاب في مقاصده؛ فلم يتم له ما يطمح إليه من إمارة باذخة ومنصب عال. ثم إن فراق الأحبة مزق قلبه حتى قال:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت لها المنايا إلي أرواحنا سبلا
ويصبح باكياً من وحشة فراق أحبابه:
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ثم استمر مريري وارعوي الوسن
والرجل ملذوع بهذا النوى والشتات الذي أبعده عن أحبابه، وأقصاه عن أصحابه:
فراق ومن فارقت غير مذمم وأم ومن يممت خير ميمم
لكن المتنبئ علي رغم ظهور نفسه الجسورة، وروحه الطموحة في شعره، يمتلك نفساً رقيقة، عنده دموع غزيرة حارة، يدخرها للنكبات ليسفكها علي فراق من يحب يقول:
قد كنت أشفق من دمعى علي بصري فاليوم كل غزيز بعدكم هانا
ويقول:
عشية يعدونا عن النظر البكا وعن لذة التوديع خوف التفرق
ويخاطب نفسه فيقول:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا وبكاك إن لم يجر دعك أو جرى
والحقيقة أن شعراء العربية بدعوا في فن البكاء ، وتفننوا في هذا الغرض، فأجود فن لديهم الرثاء؛ لنه الصادق الذي لا رياء فيه، ولا مداجاة. فهذا الصمة القشيري يتفجع بقوله:
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معاً
وهو معني لطيف ظريف، وقد وافقه الأعور السلمي في بيتين مؤثرين إذ يقول:
بكيت بعين ليس فيها غضاضة وعين بها ريب من الحدثان
عذيرك يا عيني الصحيحة والبكا فما لك يا عوراء والهملان
وتلطف الشاعر السعي الشرازي، فأبدع وأحسن ما شاء أن يحسن فقال:
بكت عيني غداة البين دمعاً وأخري بالبكاء بخلت علينا
فعاقبت التي بالدمع ضنت بأن أغمضتها يوم التقينا
ولولا الاستطراد لأوردت أمثلة كثيرة علي روعة هذا الفن عند الشعراء وإجادتهم له.
والشاهد أن المتنبئ يبكي في مواطن، شأنه شأن الشاعر ذي العاطفة الجياشة، والقلب الرقيق، والروح المرهفة، كيف لا وهو الذي يقول:
خلقت ألوفا لو رجعت إلي الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
فهو يبن لك أن نفسه المتوثبة إلي المجد، الثائرة علي الأعداء ، لها عالم آخر من الحنين والعطف واللوعة ز فالرجل إذا بكى، بكى بنفس مكلومة، مفجوعة منهكة، مصابة بسهام الحوادث كما قال:
رماني الدهر بالأزراء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال علي النصال
إن بكاء المتنبئ ليس مفتعلاً، بل بكاء رجل ملذوع، ملسوع ملدوغ، فلا تتهمه في اصطناع البكاء، وتكلف الدموع، بل هي براهين علي ذوبان نفسهن واحتراق جوانحه.
رحلة مع المتنبئ والشعراء : مقارنة ومفاضلة ومشابهة
أبو الطيب له أصدقاء وأعداء، شأن العباقرة اللامعين، والجهابذة الساطعين، فهو عند أصدقائه فرد في بابه، نجم في سمائه، أسطورة من أساطير الشعر، وهو ملك القافية عندهم، ورسول الإبداع، ولكنه عن أعدائه سارق من كيس غيره، عالة علي سواه، يعدو علي نتاج الشعراء، ويختلس معانيهم، ويزور أبياته، ويزخرف كلماته، وليس له جهد إلا نظم ما سبق النبي صلي الله عليه وسلم وهكذا وقع الخلاف علي هذا الشاعر، وهكذا فلتكن العظمة. وأريد أن أذهب بك أيها القارئ في رحلة طويلة مع المتنبئ والشعراء، نستمع إليه وإليهم، ونقارن بين ما قالوه؛ لنرى من هو السابق منهم واللاحق.
يقول أبو الطيب كما ذكر ذلك الكندي وليس في ديوانه:
أبعين مفتقر إليك نظرتني وأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم، أنا الملوم لأنني أنزلت آمالي بغير الخالق
وهذا المعني لهج به الشعراء وأكثروا منه، لكن صياغة المتنبئ للمعني فائقة وشائقة، وهذا غالب شعره، فإن المعني قد يسبقه إليه شاعر؛ لكنه يكسو المعنى مطرفاً جميلاً، فكأنك ما سمعته من قبل، وعلي ذلك البيتين السابقين فقد قال الشاعر:
وكنت كالمتمني أن يرى فلقاً من الصباح فما أن رآه عمي
وقال غيره:
لما بدا العارض في خده بشرت قلبي بالنعيم المقيم
وقلت هذا عارض ممطر فجاءني منه العذاب الأليم(/20)
فانظر غلي عذوبة ألفاظ المتنبئ وتميزها علي ما ذكرته من أبيات ، وهذا يدلك علي قوة تخيله، وبراعة ذهنه، وجودة اختيار ، ولله في خلقه شؤون!!
ولكن هذه العبقرية الشاعرية لها كبوات وعثرات، شأن العمل البشري، فإنهم شبهوا إنتاج العباقرة بالبيت ، فيه مجلس للضيوف، وغرفة للأهل، ودار للطبخ، وهكذا ، فتجد في عمل هؤلاء النابغين الإبداع الراقي الذي يخلب الألباب، ثم تجد السفول والابتذال، والمعني الرخيص، واللفظ المزدري.
ومن سقطات العبقرية قول المتنبئ:
كفي بجسمي نحولاً أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني
فكيف يخاطب ممدوحه وقد محي خلقه، وذاب شخصه، واندرس هيكله، وهذه مبالغة ممجوجة، استخف بها النقاد وحق لهم ذلك.
ويقول أبو الطيب:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا قلاقل عيس كلهن قلاقل
وقال بعض الأدباء لما قرأ البيت: كأن الرجل فقد عقله لما قال هذا البيت وقال آخر : ليته أراحنا من هذا البيت فقد أتعبنا وأضنانا.
ومثل هذا اللغو الخطابي، والغرابة الموحشة قول الأعشي:
وقد غدوت إلي الحانوت يتعبني شاو مشل شلول شلشل شول
وهذا كلام سامج سادج، سخيف ثقيل علي السمع؛ لأن الإشراق والفصاحة مطلب بياني ومقصد شاعري.
ويذكرني هذا بيت أبي تمام الذي سهر ليلة كاملة، ثم فتح عليه فقال مع الفجر وليته ما قال:
سلمى سلمت من العاهات ما سلمت سلام سلمى وما قد أورق السلم
فانظر كيف سبكه ولبكه وحبكه وهاسه وداسه، وهذا ليس بشعر أو كما قال صفي الدين الحلي:
يا بلي البال قد بلبلت بالبال بالي لنوى زلزلتني قد زال عقلي زوالي
وأعاذنا الله من هذه اللوثة والغثيان والسقط في القول. والمقصود أن المتنبئ كغيره من الشعراء، له عثرات في شعره مضحكة، حتى انه لما قال في وصف الجبان:
إذا رأي غير شيء ظنه رجلا
قال النقاد غير شيء ليس موجداً فكيف يراه؟! وهذا يخالف العقل، وقال في بيت آخر:
وعففت عما في سراويلاتها
فقلنا : ما هذه العفة الدنيئة والغط والسقط والشطط؟! وليته سكت عن هذا الهذيان، وقال في قصيدة لعضد الدولة:
فما يسمي كفنا خسر مسم ولا يكنى كفنا خسر كاني
وكأن الرجل يتكلم بالأردو أو بالبشتو، ولعل العجيب في هذا البيت سوء التعقيد والوحشة.
ويقول في موطن آخر في ممدوحه:
العارض الهتن ابن العارض الهتن ابـ ـن العارض الهتن ابن العارض الهتن
فانظر كيف تقيا هذا الكلام ولو بقي فيه لقتله.
وقال عن سيف الدولة يصف أجداده:
فحمدان حمدان وحمدون حارث وحارث لقمان ولقمان راشد
وهذا هو التكلف والنزق والطيش والسفه، والحمد لله علي السلامة.
وهذا لا يعني أن هذا الشاعر عاجز فاتر، بل هو أبو الشعر ، وأستاذه بلا منازع: لكن أردت أن أخبرك بعثرة العظماء، وسقطة العباقرة، ونقص العمل البشري. وإلا لذهبنا نمعن النظر في لوحات أبي الطيب الجميلة، ورسومه الشاعرية الساحرة، لأخذنا العجب وأسرنا الإبداع. وله باع طويل في الفنون الشعرية، فهو إذا ذهب إلي الغزل أشجى، وإذا ذكر الديار أبكى، وإذا مدح كفى، وإذا وصف شفي، وإذا هجا كوى، وكل هذا دليل علي تمكنه، وقوة ذاكرته، وخصوبة خياله، وجودة خاطره، وسيولة ذهنه، وصفاء قريحته.
وتعال إلي شيء من رثائه وعويله وصراخه في الدنيا، وتفجعه من الفراق ، وذكره للموت، واسمع ماذا يقول هذا الأعجوبة :
يقول في رثائه لشجاع:
الحزن يقلق والتجمل يردع والدمع بينهما عصى طيع
فيا له من مطلع عجيب ، ومن بداية مؤثرة ساطعة، تحرك الشجون، وتستمطر العيون.
ويقول باكياً شاكياً من الدنيا:
لحا الله ذي الدنيا مناخاً لراكب فكل بعيد الهم فيها معذب
فانظر إلي هذا الإيقاع المؤثر ، والنشيد الصادق ، والحكمة الثاقبة ، مع سهولة الجمل، وحلاوة اللفظ.
وله قصيدة زهدية رثائية حزينة من أبياتها:
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعق
نبكي علي الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحد ضيق
فهو هنا متمكن مما يقول ، مؤثر بشاعريته، متفاعل بعواطفه، وقد يوجد من يتفوق عليه في بعض القصائد، أو في فن فنون الشعر، لكن في جملة شعره، وفي مجموع قصائده هو الأول، فمثلاً أبو الحسن الأنباري في قصيدته:
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
أقوى وأعلى من المتنبئ في مراثيه.
وابن عبدون الأندلسي في مرثيته الشهيرة التي فيها:
وليتها إذ فدت عمراً بخارجة فدت علياً بمن شاءت من البشر
هذه المرثية عندي أجمل من مراثي المتنبئ.
وكذلك قصيدة عدي بن زيد:
أيها الشامت المعير بالدهر أأنت المبرأ الموفور
لكن هؤلاء الشعراء لهم في الإبداع القصيدة والقصيدتان، لكن أبا الطيب له مائة قصيدة أو اكثر بديعة جميلة رائعة.(/21)
فهو عندي كطالب عبقري يدرس عشرين مادة، يحصل في كل مادة علي خمس وتسعين درجة في المائة، وكل زميل من زملائه لم ينجح إلا في مادة واحدة، حصل علي الدرجة نفسها أو مائة في المائة، ورسب في المواد الأخرى جميعاً.
فالمتنبئ مجيد في المدح، آية في الثناء علي ممدوحه، حتى تشعر بأريحية ,أنت تطالع مديحهن وتتمنى أنك كنت الممدوح لجودة ما أمطر به هذا الشاعر الأعجوبة.
يقول لسيف الدولة:
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
فلله دره أي مديح؟! وأي ثناء هذا؟! وأي شعر هذا؟!.
ويقول في كافور:
عدوك مذموم بكل لسان ولو كان من أعدائك القمران
ولله سر في علاك وإنما كلام العدى ضرب من الهذيان
إلي أن يقول :
قضى الله يا كافور أنك أول وليس بقاض أن يرى لك ثان
فانظر إلي هذا المديح الذي يسلب العقول، ويخلب القلوب ، وليس تفوق المتنبئ في المدح حتى يفضل علي غيره، بل في مجموع فنونه وكل قصائده مجتمعة كما أسفلت، وإلا فقد حفظ التاريخ مدائح قد تفوق في مفردها مديح المتنبئ ، فمثلا قول زهير في هرم:
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
غاية في المديح.
وقول علي بن جبلة العكوك في أبى دلف:
إنما الدنيا أبو دلف بين بادية ومحتضرة
فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا علي أثره
قمة في الإبداع والثناء الجميل:
وقول أبي تمام في عبد الله بن طاهر:
يقول في قومس صحبي وقد أخذت منا السرى وخطا المهرية القود
أمطلع الشمس تنوى أن تؤم بنا فقلت كلا ولكن مطلع الجود
وقد أخذ ذلك خلسة من مسلم بن الوليد إذ يقول:
يقول صحبي وقد جدوا علي عجل والخيل تستن بالركبان في اللجم
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا فقلت كلا ولكن مطلع الكرم
فمسلم بن الوليد البادي، وأبو تمام هو العادين ولكن هذا من اجمل المدح وأرقه وأجزله، والشاهد، أنه قد يتفوق شاعر من الشعراء في جزئية علي أبي الطيب ، ولكن كلية الشعر الجميل تبقي لأبي الطيب، وله دولة القافية، وهو ملكها المتربع علي عرشها.
نفيسة أبي الطيب في شعره
أصدق ما يعبر عن المرء لسانه، والشاهد علي الإنسان كلامه، وأعظم بينه عليه اعترافه، وأبو الطيب يقدم لنا أسرار نفسه، وخبايا جوانحه في شعره، ويمكنك أخذ صورة كاملة لبي الطيب من شعره، وسوف اضرب أمثلة من قريضه لنفهم هذا الشاعر أكثر . يقول:
فثب واثقاً بالله وثبة ماجد يري الموت في الهيجا جنى النحل في الفم
فالرجل طموح سبوق ، مغرم بالمعالي، عاشق للمجد، مخاطر في سبيل مراده، وليس بليداً قاعداً مهزوماً، كبعض الشعراء الذين ألقوا بأيديهم إلي التهلكة، يقول:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت لها المنايا إلي أرواحنا سبلا
فهو رهيف الإحساس ، حي العاطفة جياش الفؤاد، وليس ثخين الطبع، بارد المشاعر، ميت الروح.
يقول:
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
فرؤوس الرماح أذهب للغيـ ـظ وأشفى لغل صدر الحقود
لا كما قد حييت غير حميد وإذا مت مت غير فقيد
فاطلب العز في لظى ودع الذ ل ولو كان في جنان الخلود
فهذه فلسفته في الحياة، وهي الكفاح من أجل العزة، ورفض الذل، وهجر الحنوع والاستخذاء، ولو لقي الإنسان في سبيل ذلك الألاقي، ولو نهشته الرماح، وعضته شفرات السيوف، فهو يري أن الحياة هي الجهاد والبذل والتضحية، والمشقة هي جنة الدنيا،وبستان العمر الوارف، وأن حياة الذل والقهر والكبت جهنم العيش، ولظى الدنيا، فلماذا لا يغامر الإنسان ويركب المصاعب؟! ويستهين بالحوادث؟! حتى يصل إلي مراده ومبتغاه .ويقول:
من كل أبيض وضاح عمامته كأنما اشتملت نوراً علي قبس
دان بعيد محب مبغض بهج أغر حلو ممر لين شرس
ند أبي غر وأف أخي ثقة جعد سري نه ندب رضاً ندس
وقبل أن أوضح الحديث عن نفسيته من خلال هذه المقطوعات، أذكرك بقوة لغته، وتمكنه من المفردات، واقتداره علي الصياغة، وسهولة اللفظ في لسانهن وإنسياب الجمل معه، وهذا هو الشاعر الذي تطاوعه اللغة ، ويسعفه الكلام، وتمطره الحروف بوابل من التراكيب والصور، وتراه في المقطوعة السابقة يدعو إلي صفات متضادة، لكنها كمال في موطنها، وجمال في مجموعها، فهو يريد إنساناً دانياً من أحبابه، مبغضاً لأعدائهن حسن الطلعة لأصدقائه، جميل المحيا لمعرفه، حسن السجايا لمن يحبه، ولكنه مر الطعم لمن يعاديه، وشرس الطباع لمن يخالفه، كريم سخى، صاحب وفاء ، شريف نفس، عاقل يفهم عنك، ويحيط بمن حوله، ويدرك مراد من يحدثه، وهذه صورة الرجل المثالي المقبول عند أبي الطيب فهو مغرم بخصال الحمد، محب لمعاني النبل في الرجال، أما عدوه فهو البخيل الجافين ساقط الهمة الجبان البليد، ولكن هذا الشاعر المصقع النبي صلي الله عليه وسلم اختزل اللفظ، وأوجز في الكلام، وعصر الفضفضة الوصفية في اختصار لطيف شريف.
يقول:
أرق علي أرق ومثلي يأرق وجوى يزيد وعبرة تترقرق(/22)
فانظر إلي هذه القلقة المطرية المعجبة التي يتراقص معها البدوي مع تمكن اللفظ من موضعه، فليس قلقاً في مكانهن ثم انظر لجودة المعني؛ فإنها ذكر حال المحب في أرقة الدائم، واحتراق حشاياه بنار الوجد، وغزارة دمعته مع جمال المطلع واختيار المفردة، فهي تناسب الحب والوجد والغرام، ويختم إحدى قصائده ببيت ذائغ في المدح فيقول:
ألا كل سمح غيرك اليوم باطل وكل مديح في سواك مضيع
فانظر إلي حسن الختام، وإغلاق دائرة القصيدة، مع روح الحكمة وجزالة اللفظ فكأن المعاني معروضة أمامه يختار منها ما يشاء، ويترك ما يشاء، ثم انظر إلي حسن التقسيم في البيت، فكل نصف تام كامل ، لا يحتاج إلي النصف الآخر، ثم إن كلمة سمح، وباطل، ومديح، ومضيع ، منتقاة فصيحة وليست ركيكة متبذلة.
ويقول:
ومن يبغ ما أبغي من المجد والعلى تساوي المحايي عنده والمقاتل
فهذه حكمة شاردة، وبيت فريد، فنصفه الأول توطئه، والنصف الثاني نص مقصود، أو مقدمة ونتيجة، ثم إن البيت فيه علو الهمة، وجلالة المقصود، وارتفاع القدر ما يدل علي الطوح، وشرف النفس، وهذا ظاهر في شعره، وفي البيت استقرار الكلمة وكأنها حلقت لهذا الموضع فلو قلت للناس: ( تساوي المحايي عنده) ثم سكت لأكملوا وقالوا: ( المقاتل).
ويقول:
ليس التعلل بالآمال من أربي ولا القناعة بالإقلال من شيمي
فإنه قابل وزاج وضاد، فقابل بين التهلل والقناعة، ويجمع بينهما معني الاكتفاء، وقابل بين الآمال والإقلال، وبين قوله:( أربي وشيمي) فأتي البيت تماماً علي الذي أحسن، وأبو الطيب يفعل هذا وأكثر، وهو صاحب البيت البهيج الذائغ الشايع،إذ يقول:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
فقابل بين أربعة بأربعة: أزورهم مع وأنثني، وسواد الليل مع بياض الضبح، ويشفع مع يغري، ولي مع بي، وهذه هي الموهبة الجياشة للقلب الحي والعقل الذكي، ويقول:
ردي حياض الردي يا نفس واتركي حياض خوف الردى للشاء والنعم
فهي همته المتوثبة، ونفسه التواقة، يشرحها لنا في قوالب من السحر، ويقدمها لنا في باقات من الشعر.
ومن خصائص هذا الشاعر أنه فريد في تركيب معانيه، وقد يسبقه الشعراء إلي المعنى، لكنه يفوقهم في حسن العرض، وجمال التركيب وبراعة الإخراج، حتى تجزم انه لم يسبقه أحد لهذا المعني،وهذا الذي حير النقاد في شعره، وأوقفهم مذهولين أما قصائده.
يقول في ممدوحه وقد دخل مدينة حمص:
دخلتها وشعاع الشمس متقد ونزر وجهك بين الخلق باهره
في فليق من حديد لو قذفت به صرف الزمان لما دارت دوائره
فهو مهما صعبت القافية مرن في جذبها، متمرس في التعامل معها، حاذق في مطارحتها، بعيد عن معاضلة الكلام، وزيادة الضمائر وحروف الجر المقحمة إقحاماً كما يفعله ضعاف الشعراء، فلا حشو في شعره، وأعد النظر في البيتين السابقين، فقوله، : ( دخلتها وشعاع الشمس متقد) تجد أن كلمة اختلت مكانها الطبيعي دون إعادة ضمير، أو زيادة حرف، أو افتعال حشو لا داعي له، وانظر كيف أنهي نصف البيت، ليصبح كاملاً تاماً، غير محتاج إلي كلام آخر، وهذه هي البلاغة بعينها.
ويقول في قصيدة أخري:
جرى حبها مجري دمي في مفاصلي فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
كأن رقيباً منك سد مسامعي عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
فأنت تشاهد قصيدة للمعاني في أي مذهب سلك، فإن قصد الغزل أتحف وشنف ، وشدك بصور من عالم الحب، ودنيا الهجر والوصال، وديوان الغرام والعشق، وإن مدح خلع علي ممدوحه مطارف من أبهي الشعر قبله ولكنه مبتكر، سيال القريحة، متجدد العطاء، ولو أمعنت النظر في البيتين السابقين لوجدت المعني جديداً، ولو إن بعض أجزائه سبق إليه، لكن التركيبة الكاملة، والكلية الواحدة للمعني مبتكرة من هذا الشاعر المتمكن.
شهداء علي تفرد هذا الشاعر
أدلي أرباب البيان وأساطين اللغة وجهابذة الشعر بشهادتهم عن هذا الشاعر الفذ، معترفين بسموه وعبقريته وتفرده، يقول الواحدي إمام اللغة والتفسير، وأحسن من شرح ديوان المتنبئ: ( عن الناس منذ عصر قديم ولوا جميع الأشعار صفحة الإعراض، مقتصرين منها علي شعر أبي الطيب، ناسين عما يروى لسواه).
وحسبك بهذه الشهادة من أستاذ باقعة في معرفة الشعر، آية في تذوق البيان، ولو ذهبت تفكر في مدلول شهادته لوجدتها صادقة، فإن شعر هذا الرجل صار سمر الأدباء، ونشيد المسافرين، وسلوة الناس في مجالسهم ومذاكرتهم، وما رأيت عالماً جهبذاً، ولا أديباً بعد المتنبئ، إلا وقد استشهد بشعره وردد أبياته.
وقال العكبري:( ولم يسمع بديوان في الجاهلية ولا في الإسلام شرح مثل هذه الشروح الكثيرة، ولا تدوول في ألسنة الأدب من نظم ونثر أكثر من شعر المتنبئ). وهذا كلام يشهد له الواقع، فقد غرقت أقلام الباحثين في دراسة شعره، واستخراج درر بيانه، والغوص في أعماق نتاجه، وهذا هو الشيوع والذيوع.
ويقول أبو بكر الخوارزمي: ( إن المتنبئ أمير شعر العصر، ولو لم يكن له إلا قوله:
أري كلنا يبغي الحياة لنفسه حريصاً عليها مستهاماً بها صبا(/23)
فحب الجبان النفس أورده التقي وحب الشجاع النفس أورده الحربا
لكفاه).
وقد وصفه المستشرق (( غوث)) بشاعر العرب الكبير النبي صلي الله عليه وسلم ويقول كاتب العربية مصطفي صادق الرافعي في مجلة المقتطف: ( إن هذا المتنبئ لا يفرغ ولا ينتهي، لأن الإعجاب بشعره لا ينتهي ولا يفرغ، وقد كان نفساً عظيمة خلقها الله كما أراد، وخلق لها مادتها العظيمة، علي غير ما أرادت، فكأنما جعلها بذلك زمناً يمتد في الزمن، وكان الرجل مطوياً علي سر القى الغموض فيه من أو تاريخه، وهو سر نفسه، وسر شعره، وسر قوته).
وقال الربعي: ( كان يقرأ ديوان المتنبئ علي النحاة والأدباء حرفاً حرفاً،ويروونه عن بعضهم، وقد ضبط الديوان علي المتنبئ ، وصحح عليه ، وما ذاك إلا لعظم هذا الشعر وتفرده).
وقال ابن العديم في بغية الطلب: ( وكان أبو الطيب شاعراً مشهوراً مذكوراً محظوظاً من الملوك والكبراء الذين عاصرهم، والجيد من شعره لا يجارى فيه ولا يلحق).
وترجم له ابن عساكر المؤرخ المشهور، ومجد شعره، واثني علي حكمه، وشرح ديوانه ابن جني بكتاب سماه (( الفسر)) وكتاب (( اللامع العزيزي))، و (( معجز أجمد)) لأبي العلاء المعري، غاص فيه علي درر المتنبئ، وشرح ديوانه الواحدي بشرح مجيد فريد في بابه، هو أمتع وأنفع الشروح.
وشرح ديوانه التبريزي في كتاب (( الموضح)) ودرس شعره أستاذ البلاغة عبد القاهر الجرجانين وتكلم عن شعره أبو منصور السمعاني، والعالم الإفليلي، والأديب أبو الحجاج الأعلم، وعلق علي شعره عبد الرحمن الأنباري، وكتب الحسن بن محمد بن وكيع كتاب(( المنصف)) تناول ما للمتنبئ وما عليه، ومثله وأحسن منه كتاب (( الوساطة)) للقاضي علي الجرجاني، وشرح ديوانه أبو البقاء العكبري وكتب عنه أبواليمن زيد بن الحسن الكندي النحوي المشهورن وكذلك عبد الواحد بن محمد بن علي بن زكريا، ومحمد بن علي الهراسي الكافي،وأبو الحسن محم بن عبد الله الدلفي، وكمال الدين الواسطي، وغيرهم كثير، وعقب علي شعره أساطين البيان ورواد اللغة، كأبي بكر الخوارزمي، وعبد الرحمن بن دوست النيسابوري، وأبي الفضل العروضى، وابن فورجة في كتاب(( لبتجني علي ابن جنى))، وكتاب (( الفتح علي أبى الفتح)) ومعاني أبياته لابن جنى، والتنبيه للربعي، وكتاب ((قصائد المتنبئ)) للأعلم الشنتمري، وكتاب (( نزهة الأديب في سرقات المتنبي من حبيب)) لحسنون المصرى، وكتاب (( الانتصار المبني عن شعر المتنبئ )) لأبي الحسن المغربي، و (( التنبه المنبي علي رذائل المتنبئ)) لأحمد المغربي، وبقية (( الانتصار المكثر من الاختصار)) للمغربي أيضاً ، و(( الرسالة الحاتمية)) لأبي الحسن الحاتمي، وكتاب (( جبهة الأدب)) للحاتمي أيضاً ، وكتاب (( المآخذ الكندية من المعاني الطائية))، و(( الاستدراك علي ابن الدهان)) لابن الأثير الجزري، وكتاب ((الإبانة)) للصاحب العميدي.
وقال ياقوت الحموي : ( ولم نسمع بديوان شعري في الجاهلية ولا في الإسلام شرح هكذا بهذه الشروح الكثيرة سوى هذا الديوان، ولا بتدوال شعر في أمثال أو طرف أو غرائب علي ألسنة الأدباء في نظم أو نثر اكثر من شعر المتنبئ).
وترجم له المقريزي في كتابه (( المقفي)) ترجمة طويلة، وأورد من روائعه شيئاً كثيراً، وترجم له الذهبي مؤرخ الإسلام، وأشاد بشعره، وذكر سيرته ابن كثير ونوه بنبوغهن وأما المفسرون بعد المتنبئ فنشروا شعره في تفاسيرهم ، وبدعوا في الاستشهاد بأدبه، واكثر أهل اللغة والأدب من دراسة شعره ما بين مادح وقادح، وكتب عنه في كل مجلة أدبية ، وتحدث عنه في كل مهرجان شعري، بل خصص له مهرجان كامل باسمه، وعقدت له ندوات خاصة، وأقيمت أمسيات لأبي الطيب وحده، واعدت دراسات عنه وعن شعرهن وقدمت رسائل في الماجستير والدكتوراه عن هذا الشاعر العظيم، وضمن الشعراء بعده شعره في قصائدهم، واكتسبوا منه، ومدحوه بقصائد كاملة، واستشهد الخطباء بأبياته علي المنابر، وفي المحافل، وقرئ ديوانه في مجالس العلماء، ومنتديات الأدباء ، وذيل الحكماء رسائلهم بشعره، وصدر الوزراء والأمراء والكتاب خطاباتهن بأبياته، وترجم شعره إلي اللغات الحية، وأقيمت مسرحيات باسم المتنبئ، واختصر ديوانه ، ومنهم من جمع حكمه ، ومنهم من شرح شواهده، ومنهم من أفرد روائعه، ومنهم من درس جانباً من جوانب شاعريته، ومنهم من رد عليه وعارضه، ومنهم من طارحه وجاراه، ومنهم من ألف في معاناته، ومنهم من فضله علي كل شاعر ، ومنهم من فضل كل شاعر عليه!!(/24)
وشرح وشكل شعره ابن سيده علي بن إسماعيل وجمع معظم شروح شعره عبد الرحمن البرقوقي، وما له وما عليه، وشرج ديوانه بالفارسية المحببي محمد أمين بن فضل الله بعنوان(( محبي شرح ديوان متنبي)) وطبع بالهند وشرحه مولانا عبد الله العبيدي بعنوان ((تصويب البيان في شرح الديوان)) وهو شرح بالأوردية، وهجم علي شعره الصاحب بن عباد بعداوة مكشوفة في كتابه(( الكشف عن مساوئ المتنبئ)) وأغار علي شعره ابن وكيع بمؤلف سماه(( المنصف في نقد الشعر وبيان سرقات المتنبئ ومشكل شعره)) وهو أبعد ما يكون عن الإنصاف، وكتب الصاحب بن عباد رسالة ثانية بعنوان(( الأمثال السائرة من شعر أبي الطيب المتنبئ)) فيها اعتدال وإنصاف . وترجم للمتنبئ الأديب البارع أبو منصور الثعالبي في يتمية الدهر ترجمة وافية كافية شافية ضافية، وألف أبو القاسم الاصهباني كتاب(( الواضح في مشكلات شعر المتنبئ )) ونقل عنه عبد القادر البغدادي في (( خزانة الأدب)) وفيه عداوة وتحايل علي المتنبئ.
وقد جمع ما تفرق من أخبار المتنبئ عبد الله الجبوري في كتاب (( أبو الطيب المتنبئ في آثار الدارسين )) وألف عنه محمود محمد شاكر كتاباً ذائغاً شائقاً عجباً بعنوان (( المتنبئ رسالة في الطريق إلي ثقافتنا)) وهو من أجمل وأكمل وأجل الكتب في بابه. وكتب عنه عبد الوهاب عزام كتاب ((ذكري أبي الطيب بعد ألف عام)) وشرح ديوانه في ألمانيا المحدث الكبير تقي الدين الهلالي.
وكتب عنه طه حسين كتاب(( مع المتنبي)) وبحث في شعره جمع من الأدباء والمؤلفين، كجاسم محسن عبود ومارون عبود وشوقي ضيف ومحمد عبد الرحمن شعيب ومصطفي الشكعة وعصام السيوفي واليازجي وغيرهم .
وغالب الشعراء المعاصرين مدحوه بقصائد أو أبيات ودبجوا قصائدهم ببعض جمله وأبياته وحكمه.
وكتب عنه فريق من المستشرقين وأدباء الغرب.
وقال كوركيس عواد: ( كتب عن المتنبئ دراسات فرنسية وإنجليزية وإسبانية وألمانية وإيطالية ولاتينية وروسية وبولندية).
وقد درس ديوان المتنبئ المستشرق بلاشير في أطروحته (( أبو الطيب المتنبئ دراسة في التأريخ الأدبي )) ترجم إبراهيم الكيلاني جزءاً منها وترجم الجزء الآخر أحمد أجمد بدوي.
ودرس المتنبئ عمدة المستشرقين سلفستر دو ساسي وأولي شعره عناية فائقة وأهم مؤلفاته عن هذا الموضوع (( المنتقيات العربية)) وجمع دراساته في كتاب سماه (( الأنيس المفيد للطالب المستفيد وجامع الشذور من منظوم ومنثور)).
وكتب عنه المستشرق دولا كرانج كتاباً بعنوان (( نخب الأزهار في منتخبات الأشعار))
وتحدث عن أبي الطيب المستشرق شلومبرجر وأبرز القيمة التاريخية لشعر المتنبئ . أما ماسيتيون فقد عرض في كتابه(( عناصر إسماعيلية في شعر المتنبئ)) وقال بأن المتنبئ باطني إسماعيلي )) وقد جانب في ذلك الصواب ، وركب الصعاب، وأخطأ في الجواب، ومن أكثر المستشرقين عناية بالمتنبئ بلاشير لأنه درس حياته وشعره ونذر شطراً من عمره لبحث أدب هذا الشاعر.
وكان أندريه ميكال في كتابه (( المتنبئ شاعر عربي: بعض التأملات من أكثرهم دقة وتحريراً وضبطاً، ولم يقلد غيره في التعصب والتحامل وكتب عن أبي الطيب الكاتب الألماني رايسكه بحثاً بعنوان(( مختارات من الشعر العربي غزليات ومراث من ديوان المتنبئ)).
وكتب هامر النمساوي كتاب (( المتنبئ شاعر العربية الأكبر)) وقد ترجم ديوانه كاملاً إلي الألمانية.
ومن أجمل من درس أراء المستشرقين ودراساتهم عن المتنبئ الدكتور حسن الإمراني في كتابه(( المتنبئ في دراسات المستشرقين الفرنسيين)).
وما زالت الدراسات والبحوث، والندوات، والمحاضرات، تكتب وتقام وتعقد في شعر هذا الرجل وأدبه، ولم أجد شاعراً عند العرب قديماً وحديثاً وجد حظوه عند الناس كما وجد هذا الشاعر، وهو عند العرب في الشعر كشكسبير عند الإنجليز ، ويمكن جمع مكتبة كاملة فيما قيل فيه من شعر ونثر وشرح ومقالات وبحوث وكأنه يقصد نفسه بقوله:
إذا تغلغل فكر المرء في طرف من مجده غرقت فيه خواطره
أو كأنه المقصود بقوله:
هو الجد حتى تفضل العين أختها وحتى يصير اليوم لليوم سيدا
غرره ودرره
ذا من يغبط الذليل بعيش رب عيش اخف منه الحمام
المعني: من راقته حياة الذليل، وأعجبه ما هو عليه من سوء الحال فتمنى أن يكون نظيره فليس بعاقل؛ لأنه رضي لنفسه منزلة الهوان. فالذليل لا يغبط علي عيشه وإنما يغبط العزيز، والموت أيسر علي النفس الكريمة من الحياة في الذل.
كل حلم أتي بغير أقتدار حجة لاجئ إليها اللئام
المعني: الحلم يكون عن قدرة، فإذا رايت العاجز قد اعتصم بالحلم، فذلك برهان لؤمه، فهو إنما ينفي عحزه عن الانتقام بحجة أنه حليم وليس بالحلم، حتى إذا سنحت فرصة نقض الحلم ووثب علي الخصم وانتقم لنفسه.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام(/25)
المعني: الإنسان إذا كان هيناً في نفسه بأن لم يعرف لها حقها من العزة، سهل عليه احتمال الهوان فلا يتألم منه، كالميت لا يتوجع من الجرح الذي كان يتوجع منه وهو حي لفقدان الإحساس.
وفي اختيار المتنبئ التشبيه بالميت إشارة إلي أن المهين حياته موت، ووجوده عدم، فما أطيب الحياة مع الكرامة، وما أخبثها مع الهوان.
أفاضل الناس أعراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
المعني: الفضلاء من الناس هدف للزمان، يرميهم بنازلاته وصروفهن ويقصدهم بحدثانه ومحنه، فلا يزالون في أحزان تترى، وأوصاب تتكرر من جراء تفكيرهم في عواقب الأمور، واستفاد وسعهم في مهام الأعمال، وإنما يخلو من الهم من كان خلواً من العقل، غفلاً من الذكاء.
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر
المعني: من أنفد ساعات العمر في جمع المال خشية إملاق، كان ذلك الفعل هو الإملاق بعينه، فإنك إذا لقيت دهرك في جمع المال ولم تنفقه وتتمتع به، فقد مضي عمرك في الفقر.
ومن نكد الدنيا علي الحر أن يري عدواً له ما من صداقته بد
المعني: من عسر الحياة علي كريم النفس، أن يحتاج فيها إلي مصانعة عدوه ومداراته؛ ليأمن شره، حيث لا يجد من إظهار المصادقة والمداراة دفعاً لغائلته.
واكبر نفسي عن جزاء بغيبة وكل اغتياب جهد من ما له جهد
المعني: أري نفسي أكبر وأرفع من أن أكافي العدو علي إساءته بالاغتياب.
فإن الاغتياب طاقة من لا طاقة له بمحاربة عدوه، فإنما يغتاب الناس العاجز الذي لا يستطيع أن يثار بنفسه، ولا يقدر أن يداوي بالشر من الشر.
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه إذا أتسعت في الحلم طرق المظالم
المعني: إذا أفضي حلمك إلى طمع الناس فيك وظلمهم إياك ورأيت أنه قد اتسعت عليك أبواب المطامع، وتشعبت طرق المظالم، فمن الحلم أن تلجا إلى الشدة حتى تكبح جماح الطامعين، وتفل (تكسر) شباة (حدة) الظالمين.
إذا لم تكن نفس النسيب كأصله فماذا الذي تغْني كرام المناصب
المعني: إذا كان المرء شريف الأصل دنئ النفس، فلا يفيده شرف أصله مع دناءه نفسه، فالمرء بفضيلته لا بفصيلته، ومن هذا يؤخذ أنه لا ينبغي أن يعتمد الإنسان في فخره وشرفه علي سوى نفسه.
والهمم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم
المعني: الحزن يفتك بالنفوس فتكاً ذريعاً ، ويحطم الأبدان تحطيماً، ويذهب بجسامة العظيم الجسم ويوقعه في الهزال، وإذا تمكن من الصبي اشابه ، قبل إبان المشيب، وبدل صباه هرماً، وقوته ضعفاً، وصحته سقماً، وكل ذلك ناشي عن شدة الاضطراب من الحادثات، والتأثر بالمرجفات.
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
المعني: العالم البصير بعواقب الأمور شقي في الحياة وإن طاب عيشه، وتدفقت نعمته؛ لنه دائم التفكير كثير الاشتغال بمهام الأعمال.
أما الجاهل ، فهو ناعم البال، مطمئن القلب لغفلته وجهله بتحول الأحوال وتقلب الحوادث، وإن كان سيئ الحال رديء العيش.
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق علي جوانبه الدم
المعني: العلي المنزلة في قومه محسود لا يزال يرمى بالمكارة، فلا يبرأ شرفه من الأذى حتى يسيل الدم علي جوانبه،إذ قد يبعث الاحتفاظ بالشرف علي سفك الدماء، وإزهاق الأرواح.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
المعني : الظلم من طبائع النفوس؛ لأنها مكتنفة بالمطامع، محفوفة بالشهواتن فكانت مجبولة علي الظلم لسد مطامعها، وقضاء شهواتها، فالإنسان ظالم بالطبع، فإذا وجدت إنساناً لا يظلم فذلك لعله دينية أو سياسية، كخوف من ربه أو من حكومته.
ومن البلية عذل من لا يرعوي عن جهله وخطاب من لا يفهم
المعني: من البلية علي الحر أن يلوم من أسرف في شهواته، وأفرط في لذاته، واستولي علي حواسه شيطان الغفلة، فلا يجد إلي الانتصاح سبيلاً، ومن البلية كذلك علي الحر أن يخاطب من لا عقل له فلا يفهم ما يقول، فهو والجماد سيان.
والذل يظهر في الذليل مودة وأود منه لمن يود الأرقم
المعني: الحاجة ذل تكلف الإنسان ما ليس من طبعه، فقد يظهر الإنسان لمن يبغضه المودة لذلله منه وخوفه، فلا تغرنك ذلة الذليل، يظهر لك المودة، ويبطن لك البغض ،فهو شر من الحية الخبيثة، التي تظهر لمن لامسها عدم الأذى بلين الملمس و( عند التقلب في أنيابها العطب).
ومن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
المعني: يقول: رب عداوة جلبت إليك نفعاً ، اقله التحفظ من وقوع المهالك، ورب صداقة اعقبت لك ضراً وألماًن أورثهما عدم التوقي ممن تصادقه، ويدخل في هذا المعني المثل السائر ( عدو عاقل خير من صديق جاهل).
يرى الجبناء أن العجز عقل وتلك خديعة الطبع اللئيم
المعني: أن الرجل الجبان الذي يهاب ركوب الغمار في سبل درك المعالي وبلوغ الأماني؛ يري أن عجزه عن ذلك من العقل والحكمة، وليست الحقيقة كما ظن، وإنما هي خدعة يخدع بها نفسه كل رجل خامل الذكر، ساقط القدر، ليطري عجزه ، ويزين خموله.(/26)
وكل شجاعة في المرء تغني ولا مثل الشجاعة في الحكيم
المعني: الإقدام يغني، والجراءة تجدي في كل حال، فكل شجاعة نافعة للمرء، إلا أن نفعها في الحكيم أتم وأكمل، وذلك أن الشجاعة ربما كانت طريقاً لحتفه وأودت بروحه فيذهب شهيد التهور ، وقتيل ثأر شجاعته الخرقاء.
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
المعني: إذا مرض فهم المرء ضل في الرأي ، وأخطأ في الحكم ، فيري بفهمه السقيم الكذب صدقاً، والخطأ صواباً ، ويعيب ما لا يعاب.
والأسى قبل فرقة الروح عجز والأسى لا يكون بعد الفراق
المعني: لا يحسن بك أن تحزن للموت قبل وقوعه، لأن ذلك ينغص عليك العيش؛ ولأنك عاجز فلا تستطيع أن تدرأ عن نفسك الموت بحزنك، وإذا وقع الموت فلا عليك، إذ لا علم لك بوقوعه حتى تحزن، وفي هذا البيت حث علي الشجاعة ، وتحذير من الجبن ، وتهوين للموت؛ لئلا يخافه الإنسان فيتحاشى الإقدام، وينثني عن اقتحام صعاب الأمور، وفي هذا المعني يقول المتنبئ:
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جبانا
*****
والغني في يد اللئيم قبيح قدر العجز أن تكون جبانا
المعني: قبيح بالأيام أن نري فيها اللئيم غنياً والكريم فقيراً، وذلك لأن الغني في يد اللئيم سلاح يحارب به الكرام، ويساعده علي تنفيذ لؤمه، والكريم إذا أملق كان مثله كمثل المنهل العذب إذا نضب ماؤه، أو البدر في الليلة الظلماء إذا احتجب ضياؤه.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
المعني: إذا قويت الهمة، وكبرت النفس تعب الجسم، في غاياتها الكثيرة، ومطامعها المختلفة، والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة، وقد عزم علي الرحيل عن أنطاكية.
ولو كان النساء كمن فقدنا لفضلت النساء علي الرجال
المعني: لو أن نساء العالم بلغن من الكمال والعفاف ما بلغت هذه المفقودة؛ لتفوقن علي الرجال في الفضل، إذ هي اليتمية العصماء في عقد الفضيلة، والبيت من قصيدة يرثي بها والدة سيف الدولة.
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
المعني: لا يكون تأنيث المفقودة مدعاة إلي الحط من قيمتها، أو ذريعة علي التقليل من كرامتها، فالشمس مؤنثة، وقد فضلت القمر في الضياء، فنوره مستمد من نورها، وشأوه في الفضل دون شأوها، تلك وسيلة محسوسة تذرع بها المتنبئ إلي تفضيل المرأة علي الرجل وهذا من أحسن الأساليب وأبدع الخيال.
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
المعني: يقول ـ وقد انتقل في القصيدة من الرثاء إلي مدح سيف الدولة ـ: أيها الملك العظيم إن فضلت الناس وأنت من جملتهم، وتعيش بينهم، ومشارك لهم في الجنسية، فلا غرابة، فقد يفضل بعض الشيء كله، فالمسك وهو بعض دم الغزال، قد فاق اصله جملة، فرب واحد قد فاق أمة، وبعض قد فاق جملة.
من كان فوق محل الشمس موضعه فليس يرفعه شيء ولا يضع
المعني: يقول مخاطباً سيف الدولة: من بلغ من الفضائل غايتها، وحل من المنازل اسماها، وحاز من الشجاعة أقصاها، فلا يرتفع بنصرة أحد، ولا يتضع بخذلانه، وإنك أيها الملك العظيم لكذلك ، فشجاعتك فوق كل شجاعة، وقدرك فوق كل قدر، تواضعت الشمس عن موضعك الذي يشتاقه كل سيد، ويقصر عن إدراكه كل عظيم.
فقد يظن شجاعاً من به خرق وقد يظن جبانا من به زمع
المعني: قد يخطئ ظن الإنسان فيطوح به عن الحقيقة، فيتوهم من به حماقة وخفة شجاعاً، ويظن من تعتريه رعدة من الغضب جباناً،فالعبرة بالتجربة، فهي التي تصيب بها كبد الحقيقة، وكأنه يقول لسيف الدولة: إني قد سبرت حالك، فإذا مدحتك بعد التجربة فلا اخطئ في مدحه إياك.
إن السلاح جميع الناس تحمله وليس كل ذوات المخلب السبع
المعني: ليس كل رجل يحمل السلاح شجاعاً يقوي علي المبارزة ، كما انه ليس كل ذي مخلب سبعاً يفترس بمخلبه، فقد يتقلد السلاح الجبان، وقد يوجد من ذوات المخالب ما دون السبع، فما كل اصفر ديناراً لصفرته، ولا كل حلو سكراً لحلاوته.
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتي ولا الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
المعني: الخوف والأمن ناشئان عن اعتقاد الإنسان في الشيء ، رسولان يبعث بهما الوهم، وعرضان يحدثهما الوجدان، فإذا اطمأن قلب المرء إلي شيء صار أمنا عنده ، وإن غير مأمون ، وإذا فرغت نفسه منه صار خوفاً، وإن كان غير مخوف، والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة، وكان قد توقف عن الغزو لما سمع بكثرة جيش الروم.
وحيد من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
المعني: يقول: أنا منفرد عن الأصدقاء الذين يعتمد عليهم في الخطوب المتفاقمة، والنازلات الشديدة، فما لي من مساعد علي تحقيق ما أطلب؛ وذلك لعظم مطلبي، وإذا عظم مطلوب المرء قل من يساعده عليه، والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة.
بذا قضت الأيام ما بين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائد(/27)
إن طبع الأيام سرور قوم بإساءة آخرين ،وما رأينا حادثاً من حوادث اليام إلا سرت به طائفة، وسيئت به أخري، فالدهر يومان، يوم لك، ويوم عليك ) وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ..)(آل عمران: الآية140).
وفي تعب من يحسد الشمس نورها ويجهد أن يأتي لها بضريب
المعني: يقول: إن من يحاول أن يأتي لسيف الدولة بنظير، كمن يحاول أن يأتي للشمس بمثل، فهو بين الناس كالشمس بين الكواكب، فكما أن الشمس لا يعدلها في ضوئها واحد من الكواكب ، كذلك سيف الدولة، لا يعدله في فضائله أحد من الناس، ومن تكلف فهو كمن يرقم علي صفحات الماء.
ويقول في قصيدة يمدح فيها سيف الدولة.
ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت علي عينيه حتى يري صدقها كذباً
المعني: من أحب الدنيا لزيادة ترفن وبسطة رزق، ورفيه منصب، لا يلبث أن يراها قد تقلبت علي عينه، فتريه عكس ما رأي، فيستحيل نعيمه بؤساً، وسعته إملاقاً ، ويتبين له أن الدنيا غاشة لمن استرشدها ، ومغوية لمن أطاعها كما قال أبو نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق
ومن تكن الأسد الضواري جدوده يكن ليلة صبحاً ومطعمه غصبا
المعني: من اشتد أزره في قومه، وقوي ركنه بينهم، لا تتعرض له في طريق مراده عقبة، ولا تستعصي عليه أمنية، ينال ما يريد من أعدائه قهراً، ويعود له العسير يسراً.
أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
المعني: اعصم نظراتك من أن لا تكون نظرات يقين، فأنت إذا نظرت إلي الشيء بحسب ظاهره تصب منه كبد الحقيقة، فلا تغلط فتكون كمن ظن الورم شحماً، والسراب ماء، وقد أراد المتنبئ بهذا البيت أن يعاتب سيف الدولة، حيث توهم كل من يدعي الشعر شاعراً، وشبه حاله في ذلك بحال من ظن الورم شحماً، والبيت من قصيدة يعاتب بها سيف الدولة في محفل من العرب.
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم
المعني: ماذا يستفيد الإنسان من البصر إذا تساوت عنده الأشياء واضدادها، فلم يفرق بين الغث والسمين، وبين النور والظلمة، وكأن المتنبئ يقول لسيف الدولة: يجب أن تميز بيني وبين أولئك الساقطين الذين قربتهم من مجلسك، بدعوى أنهم شعراء، كما تميز بين الأنوار والظلم.
إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم
المعني: إذا رأيت الأسد كشر عن أنيابه فلا تحسب ذلك منه تبسماً، لأن الأسد لا يبتسم ؛ وغنما هو بذلك يتحفز للوثوب، وكأن المتنبئ في هذا البيت قاس نفسه بالأسد ، في أنه إذا ضحك أمام الجاهل، كان ذلك منذراً بقرب الانتقام، ومؤذناً بحلول الافتراس.
وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة إن المعارف في أهل النهي ذمم
المعني: قد جمعتني وإياكم رابطة الصحبة، وهي عند ذي العقول الراجحة عهد يجب الوفاء به.
شر البلاد مكان لا صديق به وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
المعني: أسوأ البلاد حالاً بلد لا تجد فيه صديقاً تأنس بوده، وتسكن نفسك إلي كريم فعله، يشاطرك السراء والضراء، وأخبث الربح ما ألصق بك العار، وألحق بك البوار.
وشر ما قنصته راحتى قنص شهب البزاة سواء فيه والرخم
المعني: أخبث ربح ربحته في حياتي ما شاركني فيه الرفيع والوضيع، كما أن أخبث صيد ظفر به الصياد ما شاركه فيه البزاة الشهب مع رفعتها واختيارها أطيب الفريسة، والرخم مع دناءتها ووقوعها علي ما أرادأ ما يصاد .يريد المتنبئ أن ما منحه سيف الدولة من العطايا شاركه فيه أهل الغباوة والجهالة ، فليست من المنح الخاصة بنظرائه، والتحف الائقة بمثله. فشبه نفسه بشهب البزاة في الرفعة وعدم الرضى بالدون، وشبه غيره من الشعراء الساقطين بالرخم في الضعة.
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
المعني: لعل ما أحدثه الوشاة من لومك إياي محمود العاقبة، مشكور المغبة، فقد يفسد العضو الواحد بالكي، فتصلح به بقية الأعضاء النبي صلي الله عليه وسلم فالعود لا يظهر أريجه إلا بعد أن يحترق، والصديق لا تزيد محبته إلا بعد أن يفترق ، فرب لوم أفضي إلي احتفاء ، ورب علة بعثت علي تعجيل الشفاء، والبيت من قصيدة يعتذر بها إلي سيف الدولة.
لن حلمك حلم لا تكلفه ليس التكحل في العينين كالكحل
المعني: يقول مخاطباً سيف الدولة: إن حلمك أيها الملك العظيم حلم طبعت عليه، فلا يتكلفه غيرك من الناس، وحلم الطبع غير حلم التكلف، كما أن خس، الكحل الذي يكون خلقه في العين غير حسن الاكتحال.
وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلي دليل
المعني: إذا احتاج أحد إلي إقامة البرهان علي وجود النهار، وقد عم نوره الآفاق، فاحكم عليه أن ليس في ذهنه شيء صحيح من البديهات والنظريات، وقد شبه المتنبئ شعره بالمهارن فمن أنكر فضله فكأنما أنكر وجود النهار، وهذا من أجود التشبهات وأبدع الخيال، والبيت من قصيدة قالها في مجلس سيف الدولة وكان يمتحن الفرسان.
وما كمد الحساد شيئاً قصدته ولكنه من يرحم البحر يغرق(/28)
المعني: يقول: عن أولئك الحسدة الذين ينازعونني في فضائلي ، رجعوا من ذلك بالغل اذلي أفعم صدورهم، وقطع امعاءهم، علي أنني لم أتعمد الضرر، فكأن مثلهم في ذلك، مثل الذي يتعرض مريج غمار البحر فيغرق، وما كان قصد البحر أن يغرقه، والبيت من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة ويذكر الفداء الذي طلبه ملك الروم.
وإطراق طرف العين ليس بنافع إذا كان طرف القلب ليس بمطرق
المعني: العبرة بما يلحظه القلب، لا بما تلحظه العين، فالقلب ملك الحواس، وهي مسخرات بأمره ، فلا يكون إلا ما يطلبه ، فإذا اغضت العين عن شيء ، وقد اتجه إليه القلبن فلا يحدي إغضاؤها.
أيدري ما أرابك من يريب وهل ترقي إلي الفلك الخطوب
المعني: أتردي تلك الآلام التي ساورتك، وهذه النازلات التي احدقت بك، بمن تحل؟! وممن تنال؟!وكيف تصل إليك الخطوب، وقد ساكنت النجوم جواراً، فكنت في المنزلة نظير فلك السماء، وهل ترقي إلي الفلك الخطوب؟! والبيت مطلع قصيدة قالها عند اشتكاء سيف الدولة من دمل.
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
المعني: الحر إذا أنت عفوت عنه زلته، وصفحت عن سقطته، أثر ذلك في نفسه تاثيراً يفوق وحزات السنان، فكأنما قتلته بعفوك وطعنته بعطفك،وقلما تجمعك الأيام بحر يراعي الجميل، ويستبقي المعروف، والبيت من قصيدة يهنئ فيها سيف الدولة بعيد الأضحى.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
المعني: الكريم إن أنت أوليته منك إحساناً فقد اسرت نفسه ، وملكت قلبه، وأما اللئيم، فإن عطفت عليه، زدته تعدياً وتطاولاً، فإن إكرامك إياه يطعمه فيك، فينهال عتواً وتحملاً.
ووضع الندي في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندي
المعني: الحكيم من يفترس في الناس، فيعامل كلاً بما يلائم حاله من لين وشدةن يخاشن في مواضع المخاشنة،ويلاين في مواضع الملاينة، فإذا هو عكس الاية، واستعمل الإحسان في موطن الإساءة، والإساءة محل الإحسان، اضر ذلك بعلاه، وأبعده من بلوغ مناه، وطوح به مهواة لا يسعه النجاة منها.
وأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
المعني: يقول: اتعب حاسديك بمخاطبتهم إياك من ترفعت عن مجاوبته،وتنزهت عن مشافهته، واشد أعدائك عليك حنقاً من لا يماثلك في منزلك ، ولا يضارعك في درجتك، والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة عند دخول رسول ملك الروم عليه.
علي قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي علي قدر الكرام المكارم
المعني: تكون مطالب المرء التي يعزم عليها، والغايات التي يوطن النفس علي بلوغها، بمقدار ما بلغه من عالي الهمة وقوة الإرادة، فإن كان كبير النفس قوي العزم، كان الأمر الذي يعزم عليه عظيماً،وكذلك تكون علي قدر ذويها،فمن كان من الناس كان ما يأتيه من المكارم أعظم، والبيت مطلع قصيدة يمدح بها سيف الدولة.
وما الحسن في وجه الفتي شرفاً له إذا لم يكن في فعله والخلائق
المعني: يبلغ المرء الشرف والرفعة من كماله لا من جماله، ومن حسن مخبره لا من بهاء منظره، فلا يغنيه جميل الخلقة، مع قبيح الفعل والخليقة، والبيت من قصيدة يذكر فيها إيقاع سيف الدولة بقبائل العرب.
وما بلد الإنسان غير الموافق ولا أهله الأدنون غير الاصادق
المعني: كل بلد زكا خيره، وطاب هواؤه، ووافقك مناخه، وتوفرت لك فيه أسباب النعيمن فهو بلدك الحقيقي، وكل ناس أخلصوا لك النصيحة ، ومحضوا لك الود، فهم أهلك الأدنون ، وعشيرتك الأقربون، وفي هذا البيت حث علي التغرب عن الوطن،إذا ضاق به العيش، وساءت الحال.
وإذا لم تجد من الناس كفواً ذات خدر أرادت الموت بعلا
المعني: يقول: إذا لم تجد ربة العفاف، وذات الخدر والصينة من الأزواج من هو كفو لها في شرفها،ويماثلها في حبسها ونسبها، اختارت الموت لها زوجاً، فهو يتكفل بصيانتها، ويحتفظ بأثيل مجدها، وكريم حسبها، والبيت من قصيدة يعزى فيها سيف الدولة بأخته.
وإذا الشيخ قال: أف فما مـ ـل حياة وإنما الضعف ملا
المعني: إذا رأيت كبير السن يتضجر، فلا تظن أنه سئم الحياة، ومل العيش، وإنما هو مل الضعف والهرم، واستكبره الكبر والألم ، تلك العوامل التي تحجب عنه لذة الحياة، وحلاوة العيش، فالحياة تستحب في الشبيبة والكبر، حب الحياة طبيعة الإنسان.
آلة العيش صحة وشباب فإذا وليا عن المرء ولى
المعني: إذا انفرد الجبان بأرضه، وبعد عن الأقران بنفسه، طلب المنازلة والمجالدة، وأظهر الرغبة في القتال والمبارزة، حتى إذا جاءه شجاع يبارزه فر عن قرنه، ورجع إلي عادته من جبنه، والبيت من قصيدة يمدح سيف الدولة ويذكر نهوضه إلي الثغر.
من أطاق التماس شيء غلاباً واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا
المعني: طبع الإنسان علي حب الغلبة والاستظهار، فإذا هو استطاع أن ينال الشيء بالاغتصاب والعنف، أبي أن يلتمسه بالسؤال والرفق، ليبين للناس أنه من ذوي الحول والطول وقد أكد هذا المعني بالبيت بعده .
كل غاد لحاجة يتمني أن يكون الغضنفر الرئبالا(/29)
المعني: كل ساع وراء حاجة يستفيد فيها منتهي الوسع، ويزاولها بغاية الجهد، يود لو يبلغ قوة الغضنفر الرئبال ـ وهما اسمان للأسد ـ حتى لا يكون في مقدمة الساعين، ومنقطع النظير بين الناجحين.
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
المعني: الرأي له المكانة الأولي من فضائل الإنسان، وللشجاعة المكانة الثانية، فالشجاعة من غير رأي لا تجدي، وربما أودت بحياة صاحبها، لأنها تكون تهوراً صرفاً، والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة عند قدومه من بلاد الروم.
ولربما طعن الفتي أقرانه بالرأي قبل تطاعن الأقران
المعني: قد ينال الإنسان بعقله ما لا يستطيع ان يناله بشجاعته، وذلك انه ربما طعن الفتي نظراءه برجاحة عقله، واصالة رأيه، قبل الطعن بشفرة السيف، وحد النصال، فينصب لهم الحبائل بتدبيره ، ويحتال للإيقاع بهم والاستظهار عليهم بعقله.
لولا العقول لكان أدني ضيغم أدني إلي شرف من الإنسان
المعني: العقل قوة فوق القوى، ومزية دونها المزايا، لولاه لكان أقل حيوان مفترس أقرب من الإنسان إلي الشرف، واوسع منه في النفوذ والسلطان.
وكل يري طرق الشجاعة والندى ولكن طبع النفس للنفس قائد
المعني: الشجاعة والندى فضيلتان، لا يجهل أحد طريق الوصول إليهما، ولكن طبيعة النفس تثني عزم المرء عن الشجاعة خشية العطب، ويصده عن الجود مخافة الإملاق ، والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة.
وعاد في طلب المتروك تاركه إنا لنغفل والأيام في الطلب
المعني: من المتعين علي الحكيم أن يعد لحوادث الأيام عدتها، ويتأهب لدرء نازلاتها، فإذا هو غفل عن ذلك، فالأيام له بالرصد، تطالبه بما ترك، وتحاسبه علي ما فرط، هذا تفسير البيت علي انه من الحكم، أما باعتبار سياق قصيدة الرثاء بموت أخت سيف الدولة الكبرى، فمعناه أن الموت تركها، ثم عاد فأخذها.
وما قضي أحد منها لبانته ولا انتهي أرب إلا إلي أرب
المعني: نشأ الإنسان وقلبه مفعم بالشهوات، مزدحم بالغايات، فلا تتقضي له من الأيام حاجات، فإذا ما تمت مأربه سنحت له أخري.
ومن تفكر في الدنيا ومهجته أقامة الفكر بين العجز والتعب
المعني: شغف الإنسان بالدنيا ورونقها علي الكد في طلبها، وحرصه علي سلامة نفسه يثني عزمه عنها، فلا يزال بين عاملين يتناوبانه وهما : حب الحياة وحب السلامة، فالأول يحبب إليه التعب والعمل، والثاني يزين له العجز والكسل.
إذا كنت ترضي أن تعيش بذلة فلا تستعدان الحسام اليمانيا
المعني: إنما تحمل السيف لتدرأ به عن شرفك ومنعتك، ولتكون رفيع المقام عزيز الجانب، فإذا كنت ترضي أن تعيش ذليلاً ممتهناً، فماذا تصنع بالسف أيها الوضيع؟ والبيت من قصيدة بها كافوراً.
فما ينفع السد الحياء من الطوى ولا تتقي حتى تكون ضواريا
المعني: للأسد من بين الحيوانات صولة، يمتاز عنها بأنه يستحيي أن يتعرض لفريسة غيره، فياكل منها ولو بات علي الطوى، لكنه لا يغنيه حياؤه من الجوع شيئاً، إلا إذا نشط وحرج من عرينه ساعياً متصيداً حتى يسد عوزه، كذلك لا يخشي جانبه، ولا يغضي من مهابته، إلا إذا كان مفترساً ضارياً، وفي البيت حث علي السعي وعلو الهمة.
إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً
المعني: الجود والمال ذريعة إلي الحمد، والامتنان به أذى يستوجب الذم ، فإذا لم يكن الجود من المن خالصاً، ضاع المال من غير أن يكتسب المرء حمداً، ولم يتخذ علي الجود أجراً.
وللنفس أخلاق تدل علي الفتى أكان سخاء ما أتي أم تساخيا
المعني: قد يتكلف الإنسان من الفعال ما ليس من طبعه، فيجود وطبعه البخل، ويتشجع وعادته الجبن، ولكن الخصال إذا تكررت فتباينت، والسجايا إذا تتابعت فتغايرت، انكشف النقاب عن حقيقة ما يأتيه؛ عن كان طبعاً أو تطبعاً، فسرعان ما تتغير الفعال المتكلفة النبي صلي الله عليه وسلم فهي اشد انقلاباً من الريح الهبوب.
فما الحداثة من حلم بمانعة قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
المعني: صغر السن لا يمنع من أن يكون الإنسان حليماً ، فقد نجد الشاب يستعمل الأناة والحلم، كما يفعل الشيخ، نعم ، وإن كان للشاب نزق وخفة، فليس ذلك أمراً مطرداً، فلكل قاعدة شذوذ والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة.
وما الصارم الهندي إلا كغيره إذا لم يفارقه النجاد وغمده
المعني: الشيء لا يظهر فضله علي غيره إلا بالتجربة، وكذلك السيف القاطع ما دام في غمدة فلا يفضل السيف المسلول، وإنما يعرف مضاؤه إذا استل من جفنه، وحصل به الطعن ، وقد شبه المتنبئ نفسه بالصارم، حيث جهل الناس فضله، فلم يدركوا الفرق بينه وبين غيره، والبيت من قصيدة يمدح بها كافوراً.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم(/30)
المعني: المرء إذا لؤم طبعه، وساءت فعاله، ساءت لذلك ظنونه بالناس، فيتوهم السوء في كل شيء يراه أو يسمعه ، فكل حركة تقع أمامه من أحد يتوههمها شراً له، وإيقاعاً به، لأنه كثير المساوئ، فهو دائماً يوجس في نفسه خيفة، ويرقب شراً، والبيت من قصيدة يمدح بها كافوراً.
وأحلم عن خلي وأعلم أنه متى أجزه حلماً علي الجهل يندم
المعني: إذا فعل الصديق ما لا يليق ، صفحت عنه حلماً،لاعتقادي أن مجازاته بالحلم خير؛ لأنه يبعث في نفسه الندم علي ما فرط منه، فيرعوي عن غيه، ويثوب إلي رشده، ويبادر إلي معتذراً سمعياً مطيعاً، ويعلم أنني نعم الصديق.
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها سرور محب أو إساءة مجرم
المعني: إنما يسعى الإنسان وراء متاع الحياة من جمع المال، واعتلاء المناصب، ابتغاء سرور المحب ومعونته، أو إساءة العدو ونكايته.
إنما تنجح المقالة في المر ء إذا صادقت هوى في الفؤاد
المعني: إنما يبلغ القول النجاح ويفضي غلي المقصود منه إذا وافق هوى في القلب، وميلاً في النفس وإلا فهو صرخة في واد، ونفخة في رماد، والبيت من قصيدة ينفي بها عن ابن الإخشيد الميل إلي ما يقوله الوشاة.
وكل امرئ يولي الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب
المعني: كل امرئ تعود فعل الجميل وإسداء الخير، وبسط الكف محبب غلي الناس، يستميل نفوسهم بإحسانه، ويستعطف قلوبهم بكرمه ، وكذلك كل مكان يجد فيه المرء الترف والعز، فهو المكان الطيب، والبيت من قصيدة يمدح بها كافوراً.
ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها ولكن من الأشياء ما ليس يوهب
المعني: يقول: إنك قد بلغت من المعالي غاية لا تدرك، ومن الجود شأواً لا يلحق ، ولو كانت علاك مما يوهب لوهبتها، ولكن من الأشياء مالا يسوغ هبته كالمجد والعلا.
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
المعني: أماني المرء شتى، وما كل ما يتمناه يدركه، فقد يتهيأ المرء للشيء ويعد له عدته، فتعترض له عقبات تصده عن إدراكه، وذلك كربان السفية يتوجه بها طريقاً في اليم، فتطوح بها الرياح إلي غير ما قصد، والبيت من قصيدة قالها عندما بلغه أن قوماً نعوه في مجلس سيف الدولة بخلب وهو بمصر.
غير أن لفتي يلاقي المنايا كالحات ولا يلاقي الهوانا
المعني: سهل علي نفس الحر أن يتجرع كاس الحمام، ولا يذوق كعم الهوان، فالموت ألم الساعة، والهوان آلام تتري، من قصيدة يمدح بها كافوراً.
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جباناً
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، فالجبان لا ينفعه الفرار، والشجاع لا يضره الإقدام النبي صلي الله عليه وسلم والعاجز من إذا ساورته مهمة الخطر وقدم الحذر.
ومن هاب أسباب المنية يلقها ولورام أسباب السماء بسلم
كل ما لم يكن من الصعب في الأنـ ـفس سهل فيها إذا هو كانا
المعني: يقول: الأمر الشديد إنما يصعب علي النفس قبل وقوعه، فإذا وقع سهل.
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
المعني: في الجود والإقدام سيادة الإنسان،ولولا ما يجده من مشقة علي النفس من جرائهما لرأيت الناس كلهم سادة، فالجود يشق علي النفس مخافة الفقر، والإقدام يعز عليها فراراً من القتل، وإن للسيادة قوماً خاطروا من أجلها بالنفوس، وبذلوا أنفس الذخائر ، وقليل ما هم ، والبيت من قصيدة يمدح بها أبا شجاع فاتكاً.
ولم أر في عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين علي التمام
المعني: لا عيب في الناس أبلغ من عيب من استطاع أن يكون كاملاً في الفضل، والنبل لم يفعل، إذا لا عذر له في ترك أسباب الكمال وفي وسعة تحصيلها، وأنه الأولي بالعيب من الناقص الذي لا يقدر علي الكمال.
وللسر منى موضع لا يناله نديم ولا يفضي إليه شراب
المعني: مكان السر من نفسي بحيث لا يبلغ حقيقته الصديق، ولا يدب إليه دبيب الشراب مع تغلغله في البدن، فللسر عندي مكان حزيز، وموضع حصين، واليت من قصيدة يمدح به كافوراً.
أعز مكان في الدنى سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
المعني: أفضل مكان يري فيه الإنسان عزة وسؤدده ظهر السابح، وخير جليس لا يشقي به المرء الكتاب، وذلك أن الفرس مطية الشجاع ورفيق النشيط، وتبلغ عليه ما تريد من نحو التجول في الأرجاء ، ومبارزة الأعداء ، أما الكتاب ، فيقص عليك من أنباء ما قد سبق، ويتحفك بما فيه الكفاية، وينتهج بك سبيل الهداية.
ومن جهلت نفسه قدره رأي غيره منه ما لا يري
المعني: من لم يعرف لنفسه حقها فأتبعها هواها استرسلت مع الشهوات، وغررت به فيما لا تحمد عقباه، وزينت له السوء، فيستحسن من خصاله ما يستقبحه الناس من أمثاله، والبيت من قصيدة يذكر فيها خروجه من مصر.
أين الذي الهرمان من بنيانه ما قومه ما يومه ما المصرع(/31)
المعني: يقول: أين ذلك الملك المعظم الذي شاد الهرمين الكبيرين والبناءين الشامخين، أقامهما شاهدين بأثيل مجده، ونادر قدرتهن شاب الزمان وهما شابان، ودرست معالم بانيهما، وهما قائمان، وغيبته بطن الأرض، وهما ظاهران، أين قومه علي كثرة عددهم وعددهم، عفت آثارهم، وذهبت رسومهم، وفي هذا البيت تنبيه علي أن كل حي هالك لا محالة، ولا سبيل إلي البقاء ، من قصيدة يرثي بها أبا شجاع.
تتخلف الآثار عن أصحابها حيناً ويدركها الفناء فتتبع
المعني: يقول: تبقي آثار المرء بعده حيناً من الدهر لتدل علي بديع صنعه، وواسع علمه، وفرط ذكائه، وغزير فضله، ثم يصيبها بعد ذلك ما أصابه من الفناء، فتذهب تلك الآثار كأن لم تغن بالأمس ، تلك طبيعة الحياة وتصاريفها.
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
المعني: ترك الإنصاف داعية القطيعة، ومجلبة الشقاق بين الناس، وإن كان بينهم صلة رحم، وجامعة قرابة.
إذا أتت لم تنصف أخاك وجدته علي طرف الهجران إن كان يعقل
والبيت من قصيدة يرثي بها فاتكاً.
ذريتي أنل ما لا ينال من العلى فصعب العلي في الصعب والسهل في السهل
المعني: يخاطب نفسه التي تلومه علي ركوب الأهوال، يقول: اتركيني أيتها النفس أنل من المعالي ما لم ينله غيري مما تكل دونه الهمم، فما كان منها سهلاً قريب التناول فلا يتطلب تعباً، وما كان منها صعباً بعيد المنال فلا يكون إلا بمزوالة صعاب الأعمال، وركوب غمارها، والبيت من قصيدة يمدح بها أبا الفوارس.
تريدين لقيان المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من إبر النحل
المعني: يقول: أتريدين أيتها النفس نيل العلي عفواً بلا تعب، وهي كالشهد الذي لا يجنيه مشتاره إلا بعد أن يلاقي وخزات إبر النحل، فكأنك تنزعين غلي طلب المستحيل وإدراك ما لا يكون.
عرض وتحليل
إذا قيل رفقاً قال للحلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهل
أي أنه إذا أمر بالرفق بالأقران ، وقيل له أرفق رفقاً، قال: موضع الحلم غير الحرب، يعني: أن الرفق والحلم يستعملان في السلم، وأما الحرب فلا رفق فيها بالأقران، والحليم فيها جاهل كواضع الشيء في غير موضعه، وقد أكثر الناس في هذا المعني ومن اشهر ما فيه قول الفند الزماني:
وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان
وقول سالم بن وابصة:
إن من الحلم ذلا أنت عارفه والحلم عن قدرة فضل من الكرم
وقال الخزيمي:
أرى الحلم في بعض المواضع ذلة وفي بعضها عزاً يسود صاحبه
وقال الأعور الشني:
خذ العفو واغفر أيها المرء إنني أري الحلم ما لم تخش منقصة غنما
وقد ذكره أبو الطيب وقال: من الحلم أن تستعمل الجهل دونهن وقال: كل حلم أتي بغير اقتدار ، البيت قال: إني اصاحب حلمي وهو بي كرم، البيت.
أهون بطول الثواء والتلف والسجن والقيد يا ابا دلف
غير اختيار قبلت برك بي والجوع يرضي الأسود بالجيف
يقول : قبلته لا اختياراً، كالأسد يرضى بأكل الجيف إذا لم يجد غيرها لحماً، وهذا من وقل المهبلي:
ما كنت إلا كلحم ميت دعا إلي أكله اضطرار
ومثله لدعبل الحزاعي:
لعمر أبيك ما نسب المعلي إلي كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا أقشعرت وصوح نبتها رعي الهشيم
ومثله قول الآخر:
فلا تحمدوني في الزيارة إنني أزوركم إذ لا أري متعللا
وأبو دلف هذا كان صديق المتنبئ ، بره وهو في سجن الوالي الذي كتب إليه:
أيا خدد الله ورد الخدود وقد قدود الحسان القدود
يقول المتنبئ:
وحفيف أجنحة الملائك حوله وعيون أهل الاذقية صور
يقال في جمع الملك الملائكة والملائك جمع علي غير قياس قال حسان:
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم وأنصاره حقاً وأيدي الملائك
وصور جمع اصور، وهو المائل يقال: صاره يصوره إذا أماله وصور يصور إذا صار مائلاً، ومنه قول الشاعر:
الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الوداع إلي أحبابنا صور
يقول: أحاطت بنعشه ملائكة السماء، حتى سمع لأجنحتهم حفيف، وعيون أهل بلده مائلة إليه إما لأنهم يحبونه، فلا يصرفون عيونهم عنه، شوقاً غليه وحزناً عليه ، وإما لأنهم يسمعون حس الملائكة، فيليمون نحو الحس الذي يسمعون.
كفل الثناء له برد حياته لما انطوى فكأنه منشور
يقال: انشر الله الميت ومنه قوله تعالي: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) (عبس:22)، ويقال أيضاً نشره، ، يقول : ثناء الناس عليه وذكرهم إياه بعده كفيل برد حياته؛ لأن من بقي ذكره فكأنه لم يمت وهذا من قول الحاردة:
فاثنوا علينا لا أباً لأبيكم بإحساننا إن الثناء هو الخلد
وقال التميمي أيضاً:
ردت صنائعه إليه حياته فكأنه من نشرها منشور
وقال ـ أيضاً ـ الطائي:
سلفوا يرون الذكر عيشاً ثانياً ومضوا يعدون الثناء خلوداً
***
سيحيي بك السمار ما لاح كوكب ويحدو بك السفار ما ذر شارق(/32)
أي يخيون الليل بذكرك وحديثك ، والمسافرون يغنون بمدائحك فيحدون الإبل بها ، وقوله: ما لاح كوكب وما ذر شارق من ألفاظ التأبيد، والمعني أبداً ، أي أنت أبداً تذكر في الأسفار، ويحدى بمدائحك في الأسفار ، هذا هو الظاهر، وقوم يقولون: ما لاح كوكب أي ما بقي من الليل شيء، وما ذر شارق ما بقي من النهار شيء تري فيه الشمس، وبهذا قال ابن جني أي يسيرون إليك نهاراً فينشدون مديحك، وإذا جاء الليل سمروا بذكرك، والقول هو الأول؛ لأن الحداء لا يختص بالنهار بل يكون بالليل في أكثر الأمر وغالب العادة.
إذا بدا حجيت عينيك هيبته وليس يحجبه ستر إذا احتجبا
يريد أنه شديد الهيبة إذا ظهر للرائين حجبت عيونهم عن النظر إليه كما قال الفرزدق:
يغضي حياء ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
وقال أيضاً:
وإذا الرجال رأوا يزيد رايتهم خضع الرقاب نواكس الأبصار
وقال أبو نواس:
إن العيون حجبن عنك بهيبة فإذا بدوت لهن نكس ناظر
وقوله:
ليس يحجبه ستر
يريد أن نور وجهه يغلب الستور فيلوح من ورائها كما قال:
أصبحت تأمر بالحجاب لخلوة هيهات لست علي الحجاب بقادر
وذكر ابن جني تأويلين آخرين، أحدهما، أن حجابه قريب لما فيه من التواضع فليس يقصر أحد أراده دونه وإن كان محتجباً ، والآخر انه وإن أحتجب فليس بمحتجب لشدة تيقظه ومراعاته للأمور.
ونذيمهم وبهم عرفنا فضله وبضدها تتبين الأشياء
يقول نعيب اللئام، وفضله غنما يعرف بهم؛ لن الأشياء إنما تتبين بأضداها ، فلو كان الناس كلهم كراماً مثله لم نعرف فضله، وقال ابن جني: وهذا كقول المنبجي:
فالوجه مثل الصبح مبيض والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنه الضد
وقال هذا البيت مدخول معيوب: لأنه ليس كل ضدين إذا اجتمعا حسنا، ألا ترى أن الحسن إذا قرن بالقبيح بان حسن الحسن وقبح القبيح، وبيت المتنبئ سليم؛ لن الأشياء باضدادها يصح أمرها. انتهي كلامه وقد أكثر الشعراء في هذا المعني قال أبو تمام:
وليس يعرف طيب الوصل صاحبه حتى يصاب بنأي أو بهجران
وقال أيضاً:
والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي أنباك كيف نعيمها
وقال أيضاً:
سمجت ونبهنا علي استسماجها ما حولها من نضرة وجمال
وكذاك لم تفرط كآبة عاطل حتى يجاورها الزمان بحالي
وقال البحتري أيضا:
قد زادها إفراط حسن جوارها خلائق أصفار من المجد خيب
وحسن دراري الكواكب أن ترى طوالع في داج من الليل غيهب
وقد ملح بشار في قوله:
وكان جوارحي الحي إذ كنت فيهم قباحاً فلما غبت صرن ملاحا
وأبو الطيب صرح بالمعني، وبين أن مجاورة المضادة هي التي تثبت حسن الشيء وقبحه ثم أخفاه في موضع آخر فقال:
ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا غفلنا نشعر له بذنوب
******
متفرق الطمعين مجتمع القوى فكأنه السراء والضراء
يقول: فيه حلاوة لأوليائه ومرارة لأعدائه، وهو مع ذلك إنسان واحد، قواه مجتمعة غير متباينة، وأول هذا المعني للبيد:
ممقر مر علي أعدائه وعلي الأدنين حلو كالعسل
ثم تبعه الآخرون فقال المسيب بن علس:
هم الربيع علي من ضاف أرحلهم وفي العدو مناكيد مشائيم
وقال علاقة بن عركي:
وكنتم قديماً في الحروب وغيرها ميامين في الأدنى لأعدائكم نكد
وقال كعب بن الأجذم:
بنو رافع قوم مشائيم للعدى ميامن للمولى وللمتجرم
وقال النابغة الجعدي:
فتي تم فيه ما يسر صديقه علي أن فيه ما يسوء الأعاديا
قال ابن فورجة: مجتمع القوى يعني قوي العزائم والآراء، وأنكر القول الأول وهو قول ابن جني .أ.هـ .
أعدي الزمان سخاؤه فسخا به ولقد يكون به الزمان بخيلا
قال ابن جني: أي تعلم الزمان من سخائه فسخا به، وأخرجه من العدم إلي الوجود، ولو لاسخاؤه الذي أفاد منه، لبخل به علي أهل الدنيا، واستبقاه لنفسهن قال ابن فورجة:هذا تأويل فاسد، وغرض بعيد والسخاء بغير الموجود لا يوصف بالعدوى، وإنما يعني سخا به علي وكان بخيلاً به، فلما أعداه سخاؤه اسعدني الزمان بضمي إليه وهدايتي نحوه، هذا كلامه، والمصراع الأول مقول من قول ابن الخياط:
لمست بكفي أبتغي الغني ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغني أفدت وأعدائي فأتلفت ما عندي
وقال الطائي أيضاً:
علمني جودك السماح فما أبقيت شيئاً لدي من صلتك
وقال أيضاً:
لست يحيي مصافحاً بسلام أنني إن فعلت أتلفت مالي
وأبو الطيب نقل المعني إلي الزمان ، والمصراع من قول أبي تمام:
هيهات أن يأتي الزمان بمثله إن الزمان بمثله لبخيل
الحب ما منع الكلام الألسنا وألذ شكوى عشق ما أعلنا
روي الألسنا بفتح السين ويكون علي هذه الرواية بمعني الذي يقول : غاية الحب ما منع لسان صاحبه من الكلام، فلم يقدر علي وصف ما في قلبه منه كما قال المجنون:
ولما شكوت الحب قالت كذبتني فمالي أري الأعضاء منك كواسيا
فما الحب حتى يلصق الجلد بالحشا وتخرس حتى لا تجيب المناديا
وكما قال قيس بن ذريح:
وما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب(/33)
ويجوز أيضاً أن يكون ما بمعني الذي علي رواية من روي الألسنا بضم السين ، والظاهر أن ما نافية؛ لأن المصراع الثاني حث علي إعلان العشق وإنما يعلن من قدر علي الكلام وكما يقول الموصلي:
فبح باسم من تهوي ودعني من الكني فلا خير في اللذات من دونها ستر
ويقول السري الرفاء:
ظهر الهوى وتهتكت أستاره والحب خير سبيله إظهاره
أعصي العواذل في هواه جهارة فألذ عيش المستهام جهاره
*****
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
يقول : إذا ذمني ناقص كان ذمه دليل كمالي وفضلي؛ لأن لناقص لا يحب الكامل الفاضل لما بينهما من التفاضل ، وهذا من قول أبي تمام:
لقد أسف الأعداء فضل ابن يوسف وذو النقص في الدنيا بذي الفضل مولع
واخذه هو من قول مروان بن أبي حفصة:
ما ضرني حسد اللئام ولم يزل ذو الفضل يحسده ذوو التقصير
وأصل هذا من وقل الأول:
لقد زادني حباً لنفسي أنني بغيض إلي كل امرئ غير طائل
وأني شقي باللئام ولا أري شقياً بهم إلا كريم الشمائل
****
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ولا أعاتبه صفحاً وإهوانا
يقول : من يذكرني بالسوء في غيبتي إذا ظهرت له عظمني، وخضع لي، وأنا أعرض عن عتابه إهانة له، وإنما قال إهوانا لأنه أخرجه علي الأصل ضرورة كما قال الآخر:
صددت فأطولت الصدود وقلما وصال علي طول الصدود يوم
يريد فأطلت فجاء به علي الأصل.
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني إن النفيس غريب حيثما كانا
يقول : كنت وأنا في وطني وفيما بين أهلي غريب ، قليل الموافق والمساعد، ثم قال: وكذلك الرجل النفيس العزيز، غريب حيث كان، كما قال أبو تمام:
غربته العلى علي كثرة الأهـ ـل فاضحي في الأقربين جنيباً
فليطل عمره فلو مات في مر ومقيما بهما لمات غريباً
محسد الفضل مكذوب علي أثري ألقي الكمي ويلقاني إذا حانا
قوله مكذوب عي أثري من قول البرح التغلبي:
يغتاب عرضي خاليا وإذا تلاقينا اقشعرا
ومن قول سويد بن أبي كاهل:
ويحييني إذا لاقيته وإذا يخلو له لحمي رتع
وتقدير الكلام مكذوب علي أثري، أي يكذب علي إذا قمت وخرجت من مشهد ومجمع، والشجاع إذا حان حينه لقيني في المعركة.
*****
وأحسب أني لو هويت فراقكم لفارقته والدهر أخبث صاحب
يريد أن الدهر يخالفه في كل ما أراد، حتى لو أحب فراقهم لواصلوه ، وكان من حقه أن يقول لفارقتني؛ لأن قوله لفارقته فعل نفسه وهو يشكو الدهر، ولا يشكو فعل نفسه، ولكنه قلبه لأن من فارقك قد فارقته فهذا من باب القلب وإنما قال أخبث صاحب، وكان من حقه أن يقول أخبث الأصحاب؛ لأنه أراد اخبث من يصحب ، وما كان اسم فاعل في مثل هذا يجوز فيه الإفراد والجمع، قال الله تعالي: ( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ )(البقرة: الآية41). يعني لا تكونوا أو من يكف به وأنشد الفراء:
وإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فنش جياع
فأتي بالأمرين جميعاً، وأشار أبو الطيب إلي أن من أهواه ينأى عني، ومن أبغضه يقرب منى لسوء صحبة الدهر إياي، كما قال لطف الله بن المعافي:
أري ما أشتهيه يفر مني وما لا أشتهيه إلي يأتي
ومن أهواه يبغضني عناداً ومن أشناه يشب في لهاتي
كأن الدهر يطلبني بثأر فليس يسره إلا وفاتي
****
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ذو العقل يشقي في النعيم وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
يريد أن العاقل يشقى وإن كان في نعمة لتفكره في عاقبة أمره، وعلمه بتحول الأحوال، والجاهل ينعم وهو في الشقاوة لغفلته، وقلة تفكره في العواقب وقد قال البحتري:
أري الحلم بؤسا في المعيشة للفتي ولا عيش إلا ما حباك به الجهل
وقال أبو نصر بن نباته:
من لي بعيش الأغبياء فإنه لا عيش إلا عيش من لم يعلم
وسابق هذه الحلبة بن المعتز في قوله:
وحلاوة الدنيا لجاهلها ومرارة الدنيا لمن عقلا
وأحسن ابن ميكال في قوله:
العقل عن درك المطالب عقلة عجباً لأمر العاقل المعقول
وأخو الدراية والنباهة متعب والعيش عيش الجاهل المجهول
وقد قال القدماء: ثمرة الدنيا السرور، وما سر عاقل قط؛ يراد بتفكره في العواقب وتخوفه إياها.
المتنبئ في المحكمة الشرعية
ما عليه:
1- فمن ذلك أنه شبه حلاوة رشفات محبوباته لفمه بحلاوة التوحيد بقوله:
يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلي من التوحيد
وهذا البيت يدل علي رقة دين المتنبئ ، الذي تساوى عنده التوحيد الذي هو أساس الأعمال ، برشفات محبوباته، فهو قول ( كفري) لا يقيم وزناً لدين الله ، بل يسخر منه، وينزله إي أسفل المنازل عندما يشبهه بهذه المعصية التي وقع فيها.
وقد حاول بعض المتعصبين لأبي الطيب توجيه هذا البيت الذي يشهد بقلة دينه توجيهاً آخر ، فقالوا: بأن التوحيد هو نوع من التمور التي توجد في العراق!!
وبعضهم اعترف بأن المراد من وقله (( التوحيد )) هو توحيد الله!، ولكنه تمحل في تخريج هذا القول بادعاء أن الدين لا يحكم علي الشعر!، وأنه يجوز للشاعر ملا يجوز لغيره من أنواع التجاوزات!(/34)
يقول القاضي الجرجاني متنبياً هذا الرأي الشاذ (1) في كتابه (( الوساطة بين المتنبي وخصومه )):
( والعجب ممن ينقص أبا الطيب، ويغض من شعره لأبيات وجدها تدل علي ضعف العقيدة، وفساد في الديانة .كقوله:
يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلي من التوحيد
وقوله(3):
وابهر آيات التهامي أنه أبوك وأجدى ما لكم من مناقب
وهو يحتمل لأبي نواس قوله:
قلت والكأس علي كـ ــفي تهوي لا التثامي
أنا لا أعرف ذاك الـ ــيوم في ذاك الزحام
وقوله (4):
يا عاذلي في الدهر ذا هجر لا قدر صح ولا جبر
ما صح عندي من جميع الذي يذكر إلا الموت والقبر
فاشرب علي الدهر وأيامه فإنما يهلكنا الدهر
وقوله (1):
عاذلتني بالسفاة والزجر استمعي ما أبث من أمري
باح لسانس بمضمر السر وذاك أني أقول بالدهر
بين رياض السرور لي شيع كافرة بالحساب والحشر
موقنة بالممات جاحدة لما رووه من ضغطة القبر
وليس بعد الممات منقلب وإنما الموت بيضة العقر
وقوله:
أأترك لذة الصهباء نقداً لما وعدوه من لبن وخمر
حياة ثم موت ثم بعث حديث خرافة يا أم عمرو
وقد روي أنهما لديك الجن.
وقوله(3):
فدع الملام فقد أطعت غوايتي ونبذت موعظتي وراء جداري
ورأيت إيثار اللذاذة والهوي وتمتعاً من طيب هذي الدار
أحري وأحزم من تنظر آجل ظني به رجم من الأخبار
إني بعاجل ما ترين موكل وسواه إرجاف من الآثار
ما جاءنا أحد يخبر أنه في الجنة مذ مات أو في النار
فلو كانت الديانة عاراً علي الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر، لوجب أن يمحي اسم أبي نواس من الدواوين ، ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزبعرى وأضرابهما ممن تناول الرسول صلي الله عليه وسلم وعاب من أصحابه بكماً وخرساً وبكاء (1) مفحمين؛ ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر) (2).
قلت : كيف يكون الدين بمعزل عن الشعر ، والله عز وجل قد سمي إحدى سور القرآن بسورة ( الشعراء)، فهل هذا إلا لأجل بيان شمول الإسلام وأحكامه للشعراء وأقوالهم؟ وقد قال سبحانه: )مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18) وقال صلي الله عليه وسلم : (( إن الله قد عفا لأمتي الخطأ والنسيان وكلام غائب العقل)).
ومسألة ( علاقة الدين بالشعر) هي مسألة طال فيها الكلام وتشعب، ما بين مؤيد ومعارض، منذ أن بد الشعراء يمارسون تجاوزاتهم الشرعية في أبياتهم الشعرية خائضين في ألوان من الردة والمعصية.
عندما هب أهل الإسلام معنفين لهم، وزاجرين عن ركوب هذا الشطط، ومفارقة الإيمان وأهله، وقابلهم أناس لم يقدروا الله حق قدره، ولم يعطوا شرعه، نصبوا أنفسهم للدفاع عن تكلم التجاوزات وتبريرها، ثم مفترين مقولة: إن الدين لا علاقة له بالشعر (1).
قال الدكتور ناصر الخنين ملخصاً لقول الصواب في هذه القضية (2):
( وهذا الكلام مجمل ينبغي توضيحه وتخصيصه ؛ فهناك فرق كبير بين أن يقول شاعر مسلم شعراً حسناً لا يحمل معني الكفر، ولا يقود إلي الإلحاد، بل قد يكون فيه خير، أو دعوة إليه، فهذا الأخير لا ضير فيه، ولا خوف في قبول حسنه واستحسانه، وسماعه واستنشاده ، ولنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم أسوة حسنه، وذلك حينما استنشد أشعار أمية ب أبي الصلت وسمعها.
أما الصنف الأول: وهو الأشعار الصادرة عن الملم، فإن إسلام الشاعر لا يشفع لأشعاره جميعاً بأن تكون مسلمة، لا شيه فيها، أو مستحقة للاستماع ، إنما الذي يستحق ذلك ويفوز به أعاره الحسنة المستطابة، التي انطلقت من الإسلام واستنارت به، ولم تصادمه أو تناقضة، فهي بلا ريب مقدمة علي أمثالها من أشعار الكفار، وذلك لمزية إسلام قائلها، ولصدق معانية ، ووضوح تصوره في غالب أحواله؛ لأنه قد استمد هذا الوضوح وذلك الصدق من الإسلام ذاته، لا من خواطره وأهوائه ، ولذلك فإن أثرها علي المسلمين حينما يسمعونها أو يقرؤونها أعظم وأبلغ.
وبذلك يتبين: أن الأشعار الصادرة عن المسلم وفيها كفر، أو سخرية بشيء من شعائر الدين، لا تستحق الاستماع من المسلمين ، بل إن نفوسهم تتغلق دونها، وقلوبهم تنقبض منها، فينقص قدرها، ولا يكون لها نصيب من العناية، وإن تكن في الذروة الفنية من حيث الصياغة الشعرية.
ولهذا فقد اختلف العلماء في إقامة الحد علي الشاعر المسلم فيما لو جاء في شعره بما يوجب الحد الشرعي.
ولا مرية في أن الأشعار التي تحمل الخبث والفسق يبوء صاحبها بها، وتحور عليه، ولكن لا ينبغي تمكينه هو أو غيره من إشاعة أشعار الفسق والمجون في أوساط المسلمين، وحتى لا ييشككهم في دينهم، أو يفسد عليهم أبناءهم أو ينال منهم).
وقال : - حفظه الله- (1):(/35)
( ولو كان الشعر ضرباً من الخيال أو نوعاً من العبث اللفظي الذي لا يلقي له بال، ولا يحمل معني ولا يؤدي إليه، ولا يؤاخذ صاحبه عليه لما أعر الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم، اهتمامه إلي شعراء قريش، ولما ألقي لأشعارهم بالاً، حينما هجوه وعابوا عليه دعوته، ولكن الأمر في ذلك مختلف؛ فقد أهدر دم الذين هجوه ، وأمر شعراءه بالرد عليهم والنيل منهم جزاءً وفاقا.
وهل الدين: إلا أوامر وزاوجر؟ فكيف يقال بعد ذلك كله: ( إن الدين بمعزل عن الشعر؟). اللهم إلا إذا كان لدى قائل ذلك، أو من يسلم بمذهبه، تأويل سائغ لكل ما تقدم، ويعضده الدليل ويشفع له التعليل، فإذا لم يكن ثم شيء من ذلك فقد بطلت تلك النتيجة وسقط ذلك الزعم ، بفساد مقدماته وانعدام بيناته).
وأقول بعد هذا : إن بيت المتنبئ :
يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلى من التوحيد
هو من الأبيات التي عابه العلماء والنقاد الذين يعلمون خطورة الدفاع عن من يحاد الله في شعره، متذكرين قوله تعالي: )هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (النساء:109)
وقال التوحيدي في شرحه لهذا البيت:
( يقول: كن يمصصن ريقي لحبهن إياي، كانت تلك الرشفات أحلي في فمي من كلمة التوحيد؛ وهي لا إله إلا الله ، وهذا إفراط وتجاوز حد).
وقال ابن رشيق في (( العمدة)).
( فإذا صرت إلي أبي الطيب صرت إلي أكثر الناس غلواً، وأبعدهم فيه همة، حتى لو قدر ما أخلي منه بيتاً واحداً، وحتى تبلغ به الحال إلي ما هو عنه غني، وله في غيره منوحة ، كقوله:
يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلي من التوحيد
وقال ابن القيم – رحمه الله-:
( فتأمل حال أكثر عشاق الصور تجدها مطابقة لذلك، ثم ضع حالهم في كفه، وتوحيدهم وإيمانهم في كفة، ثم زن وزناً يرضي الله به ورسوله، ويطابق العدل، وربما صرح العاشق منهم بأن وصل معشوقه أحب إليه من وحيد ربه كما قال الفاسق الخبيث:
يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلي من التوحيد
2- ومن ذلك قوله (2):
كل شيء من الدماء حرام شربه ما خلا دم العنقود
فاسقينها فدى لعينيك نفسي من غزال وطارفي وتليدي
فهو هنا يحلل شرب الخمر التي يسميها ( دم العنقود) وهذا من التقول علي الله بلا علم، بل هو تحليل لما حرم الله ، واعتراض علي حكمه تعالي.
وتحريم الخمر ليس مما يجهل، فهي محرمة بنص الكتاب ، وذلك في قوله تعالي: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة:91) .
وتحليل الذي علم تحريمه بالضرورة من الدين ، هو من الأعمال ( الكفرية) التي هوى صاحبها في حفرة سحيقة، قادته إليها نفسه المتعالية المتكبرة علي شرع الله وأوامره.
3- ومن ذلك قوله (2):
أبداً أقطع البلاد ونجمي في نحوس وهمتي في سعود
فهو هنا يؤمن بالنجوم، وأن لها تأثيراً في أقدار الشر، وهذا من الضلال المبين ، وقد قال صلي الله عليه وسلم :(( من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد)) (3).
والعجب أن المتنبئ ق ناقض قوله هذا في شعر آخر له يقول فيه (4):
فتباً لدين عبيد النجوم ومن يدعي أنها تعقل
ولكنها أخلاق الشعراء الذين يهيمون في كل واد من القول، دون ضوابط أو تذكار لما سلف منهم، فقول أمس منقوض بقول اليوم.
4- ومنها قوله:
فاطلب العز في لظي وذر الذ ل ولو كان في جنان الخلود
وهذا امتهان لجنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب، وهو يعلم أن من دخل الجنة فإنه لا يصيبه فيها ذل ولا خزي، بل هو عزيز في الدنيا، وعزيز في الآخرة، قال تعالي: (َلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ )(المنافقون: الآية8).
وأما من دخل النار فإنه في ذل وهوان، وقال تعالي عن أصحاب النار: (َتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِي)(الشورى: الآية45).
ومن كان منهم عزيزاً في الدنيا فإن عزه الموهوم ينقلب ذلاً وخزياً يوم القيامة، وفي ذلك قول الله عن ( كبار) أهل النار: )ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان:49) . أي في الدنيا ، وهذا من باب السخرية به، وزيادة حسرته عندما يتذكر عزة السابق . قال ابن كثير: ( أي قولوا له ذلك علي وجه التهكم والتوبيخ).
5- ومن ذلك قوله (1):
أنا في أمة تداركها اللـ ــه غريب كصالح في ثمود
وهذا القول منه في باب التعاظم الذي عرف به الشاعر، وإلا فكيف يشبه هذا الشاعر المسرف نفسه بنبي الله صالح – عليه السلام - ؟!
6- ومن ذلك قوله (1):(/36)
لم يخلق الرحمن مثل محمد أحداً وظني أنه لا يخلق
ولقد صدق الشاعر في هذا القول لو كان يقصد بمحمد الممدوح رسول الله صلي الله عليه وسلم فإنه أفضل الخلق بلا شك كما قال صلي الله عليه وسلم : (( أنا سيد ولد آدم ولا فخر)).
ولكن الشاعر يقصد بمحمد هذا ممدوحه. وهذا القول: كذب عظيم وغلو فاحش ، لا يتفوه به مسلم، وهو من الافتراءات علي الله عز وجل.
ولكن، قد قلت سابقاً بأن المتنبئ يرتكب العظائم في سبيل تحقيق طموحاته الدنيوية الدنيئة.
7- ومن ذلك قوله (3):
ألا كل سمح غيرك اليوم باطل وكل مديح في سواك مضيع
وقد كذب الشاعر، إن مدح الله عز وجل، ومدح رسوله عليه الصلاة والسلام ليس بمضيع، بل هو مما يدخره الإنسان لنفسه في الآخرة ، وقد قال صلي الله عليه وسلم : لأحد الشعراء لما قال : ( إني قد حمدت ربي عز وجل بمحامدة ومدح) قال صلي الله عليه وسلم : (( أما إن ربك عز وجل يحب المدح)). أي يحب من عبده أن يمدحه ويحمده، فيثبته علي ذلك ولا يضيعه.
8- ومن ذلك قوله(2):
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
وهذا القول لا يصلح إلا في حق الله تعالي، فهو الملاذ والمستعاذ ، وهو الذي لا يجير الناس من كسر، ولا يهيضون من جبر ، قال شيخ الإسلام في هذين البيتين: ( إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالي) (3).
9- ومن ذلك قوله (4):
أني يكون أبا البرية آدم وأبوك والثقلان أنت محمد
يفني الكلام ولا يحيط بفضلكم أيحيط ما يفني بما لا ينفد
وهذا من الغلو الفاحش في المدح، والذي لا ينفد فضله هو الله سبحانه وتعالي، قال عز وجل: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ )(النحل: الآية96).
10- ومن ذلك قوله (1):
دعوتك عند انقطاع الرجا ء والموت مني كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلاء وأوهن رجلي ثقل الحديد
والمسلم الحق يلتجئ إلي الله عز وجل عند الكرب، ويدعوه عند انقطاع رجائه بالناس، قال تعالي: )أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)(النمل: الآية62) (2).
11- ومن ذلك قوله(3):
يا من نلوذ من الزمان بظله أبداً ونطرد باسمه إبليسا
والذي يطرد إبليس هو المولى عز وجل، قال تعالي: )فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . وقال صلي الله عليه وسلم : (( إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين)) (5) فالشيطان يطرد بذكر الله ـ تعالي ـ.
وهذا البيت من حقه أن يقال في الله عز وجل وذكره، لا في بشر قد يكون ممن قد تلاعب به الشيطان يمنة ويسرة.
12- ومن ذلك قوله (6):
أو كان صادف رأس عازر سيفه في يوم معركة لأعيا عيسى
أو كان لج البحر مثل يمينه ما انشق حتى جاز فيه موسى
أو كان للنيران ضوء جبينه عبدت فصار العالمون مجوسا
وهذه الأبيات من السخرية بمعجزات الأنبياء ، وعدم حفظ مكانتهم عليهم السلام.
فالمتنبئ يزعم – وهو كاذب- أن سيف الممدوح لو ضرب به عازر (1) لما استطاع عيسى عليه السلام أن يحييه!! ونسي الشاعر أن إحياءه عليه السلام كان بإذن الله لا بإذنه. قال تعالي عن عيسي ـ عليه السلام ـ أنه قال : ) وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ )(آل عمران: الآية49).
وهكذا انشقاق البحر لموسى ـ عليه السلام ـ هو بإذن الله.
13 ـ ومن ذلك قوله (3):
وكأنما عيسى بن مريم ذكره وكأن عازر شخصه المقبور
وهذا من احتقار الأنبياء ـ عليهم السلام ـ عندما يشبه ممدوحه بهم.
14 ـ من ذلك قوله (4):
فأعيذ إخواته برب محمد أن يحزنوا ومحمد مسرور
أو يرغبوا بقصورهم عن حفرة حياه فيها منكر ونكير
وقد القول من الافتراء وادعاء علم الغيب، حيث يزعم أن هذا الميت سيحييه منكر ونكير في قبره! وهو بهذا القول يزعم أنه يعري ويواسي أهله.. وكان الأحري به أن يعزيهم بما ثبت في السنة الصحيحة، من الدعوة إلي الصبر والرضي بالقدر.
15- ومن ذلك قوله (1):
ملك تصور كيف شاء كأنما يجري بفضل قضائه المقدور
وهذا ادعاء سخيف، حيث يزعم أن القدر يوافق ممدوحه في كل ما يريد. وهذه لم تكن للأنبياء وهم أشرف الخلق وأفضلهم، فكيف بغيرهم ممن قد يكون من السلفة!؟
وقد قال تعالي لشرف خلقه: ) وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ).
16- ومن ذلك قوله(3):
فما ترزق الأقدار من أنت حارم ولا تحرم الأقدار من أنت رازق
وهذا القول لا يصلح إلا لله عز وجل، فهو الذي إذا أراد رزق عبد من عباده فلن يحرمه أحد هذا الرزق، وإذا أراد حرمانه منه فلن يرزقه سوي الله.
قال تعالي: )وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ).
17- ومن ذلك قوله (2):
إن المنية لو لاقتهم وقفت خرقاء تتهم الأقدار والهربا(/37)
وهذا غلو قد تجاوز الحد، حيث يزعم أبو الطيب أن الموت يفرق ويخاف من ممدوحه ، والله قد أخبرنا بأن الناس هم الذين يفرون من الموت الذي هو ملاقيهم لا محالة: )قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم).
18- ومن ذلك قوله (4):
ولو يممتهم في الحشر تجدو لأعطوك الذي صلوا وصاموا
وهذا كذب من القول لا يجيده غير الشعراء! فهو يخبر عن كرم ممدوحيه بأنه قد تجاوز الحد، وأنك لو استمنحتهم شيئاً يوم الحشر النبي صلي الله عليه وسلم فإنه من شدة كرمهم سيعطونك صلاتهم وصيامهمَ!! والله يقول عن ذلك اليوم العظيم: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) .
19- ومن ذلك قوله(1):
وأعطيت الذي لم يعط خلق عليك صلاة ربك والسلام
وهذا القول لا يصلح إلا لنبينا محمد صلي الله عليه وسلم فهو الذي أعطي ما لم يعط خلق غيره، فقد قال صلي الله عليه وسلم : (( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي))2 وهو الذي يصلي عليه ويسلم، هو وإخوانه الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأما غيرهم فلا يخص بصلاة أو سلام.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ بعد ذكره الخلاف في هذه المسألة ـ : ( وفصل الخطاب في المسألة: أن الصلاة عي غير النبي صلي الله عليه وسلم ؛ إما أن تكون علي آله وأزواجه وذريته أو غيرهم، فإن كان الأول؛ فالصلاة عليهم مشروعة مع الصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم ، وجائزة مفردة.
وأما الثاني: فإن كان الملائكة وأهل الطاعة عموماً الذين يدخل فيهم الأنبياء وغيرهم؛ جاز ذلك أيضاً ، فيقال : (( اللهم صل علي ملائكتك المقربين وأهل طاعتك أجمعين))، وإن كان شخصاً معيناً، أو طائفة معينة، كره أن يتخذ الصلاة عليه شعاراً لا يخل به.
ولو قيل بتحريمه لكان له وجه. ولا سيما إذ جعله شعاراً له، ومنع منه نظيره، أو من هو خير منه، وهكذا كما تفعل الرافضة بعلي ـ رضي الله عنه ـ
حيث ذكروه قالوا: عليه الصلاة والسلام، ولا يقولون ذلك فيمن هو خير منه، فهاذ ممنوع لا سيما إذا اتخذ شعاراً لا يخل به، فتركه حينئذ متعين،وأما إن صلى عليه أحياناً بحيث لا يجعل ذلك شعاراً ، كما يصلى علي دافع الزكاة وكما قال ابن عمر للميت : (( صلى الله عليه))، وكما صلى النبي صلي الله عليه وسلم على المرأة وزجها، وكما روي عن على من صلاته على عمر، فهذا لا بأس به، وبهذا التفصيل تتفق الأدلة، وينكشف وجه الصواب ، والله الموفق) (1).
20- ومن ذلك قوله (2):
فلقد دهشت لما فعلت ودونه ما يدهش الملك الحفيظ الكاتبا
وهذا افتراء على ملائكة الله الكرام ، حيث زعم أنها تدهش من أفعال ممدوح المتنبئ ! والكتبة الحافظون لا يدهشون، وإنما يحصون أعمال بني آدم عليهم. قال تعالي: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (:10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) .
21- ومن ذلك قوله (5):
نفذ القضاء بما أردت كأنه لك كلما أزمعت أمراً أزمعا
والقضاء لم يجر بما يشتهي أنبياء الله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فكيف بمن سواهم ممن يزعم المتنبئ أن القضاء ينفذ حسب ما يريدون!؟
22- ومن ذلك قوله (1):
من يزره يزر سليمان في المـ ـلك جلالاً ويوسفاً في الجمال
وقد سبق مثل هذا ، حيث شبه المتنبئ ممدوحيه بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وهو من الغلو.
23- ومن ذلك قوله (2):
رجل طينه من العنبر الور د وطين العباد من صلصال
فبقيات طينه لاقت الما ء فصارت عذوبة في الزلال
وهذا من غلوه المعتاد في ممدوحه في تصويره بصورة غير البشر الآخرين؛ قاصداً هباته وعطاياه !
24- ومن ذلك قوله (3):
طلبنا رضاه بترك الذي رضينا له فتركنا السجودا
فقد رضي المتنبئ أن يسجد لممدوحه ـ والعياذ بالله ـ والسجود كما هو معلوم لا يجوز لغير الله، وعندما عاد معاذ ـ رضي الله عنه ـ من اليمن وكان قد شاهدهم لعظمائهم ، أراد أن يسجد لرسول الله صلي الله عليه وسلم فنهاه النبي صلي الله عليه وسلم عن ذلك(1).
25- ومن ذلك قوله (2):
لو كان علمك بالإله مقسماً في الناس ما بعث الإله رسولاً
لو كان لفظك فيهم ما أنزل القـ ـرآن والتوراة والإنجيلا
وهذا غلو فاحش وقول ( كفري) يقشعر جلد المؤمن من سماعه، حيث زعم الشاعر لممدوحه أن علمه كعلم الأنبياء ، وان لفظه كالقرآن والإنجيل والتوراة!! نعوذ بالله من الكفر والضلال.
26- ومن ذلك قوله (3):
متي أحصيت فضلك في كلام فقد أحصيت حبات الرمال
وإن بها وإن به لنقصاً وأنت لها النهاية في الكمال
وهذا من الغلو في المدح، وإلا فإن النهاية في الكمال ليس إلا لله عز وجل فهو سبحانه (( السيد الذي كمل في سؤدده، العليم الذي قد كمل في علمه والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد)) (4).
27- ومن ذلك قوله (1):
يا بدر إنك والحديث شجون من لم يكن لمثاله تكوين(/38)
لعظمت حتى لو تكون أمانةً ما كان مؤتمناً بها جيرين
وهذا القول فيه تنقص من جناب جبريل ـ عليه السلام ـ الذي أخبر الله عنه بأنه : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (20)مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) .
فالله عز وجل قد أخبرنا بأمانة جبريل ـ عليه السلام ـ وأنه غير متهم والمتنبئ يزعم أنه قد يخون أنه قد يخون الأمانة!! وهذا القول من الأقوال ( الكفرية) ، ولا يشك في هذا مسلم.
28- ومن ذلك قوله (3):
ما يرتجي أحد لمكرمة إلا الإله وأنت يا بدر
لقد أخطأ المتنبئ عندما ساوى بين ممدوحه وبين الله عز وجل بحرف ( الواو) الذي يقتضي المشاركة والمساواة ، وكان الصواب أن يعطف بحرف ( ثم) الذي ينزل المخلوق عن رتبة الخالق عز وجل، وعندما قال رجل للنبي صلي الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت ، قال له صلي الله عليه وسلم : (( أجعلتني لله نداً)) (4).
29 – ومن ذلك قوله (1):
حسبك الله ما تضل عن الحـ ـق ولا يهتدي إليك أثام
فهو يدعي العصمة لمدوحه ، فهو دائماً علي الحق ، وهو دائماً لا يرتكب الآثام!
30- ومن ذلك قوله (2):
فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها وقد كنت استسقي الوغي والقنا الصما
فأحوال القبور وساكنوها لا يؤثر فيهم الأمطار ولا السيول، وإنما هي رحمة الله عز وجل ثم العمل الصالح، فمن عمل خيرا فسح له في قبره، وأتاه من الجنة ما يسره ولو كان مدفوناً وسط صحراء محرقة، ومن عمل شرا ضيق عليه قبره، وأتاه الله من سموم النار ما يسوءه، ولو كان مدفوناً وسط حدائق ذات بهجة.
وقد أخبر صلي الله عليه وسلم عن المؤمن بعد موته بأنه (( يفسح له في قبره مد بصره)) وأما الكافر والمنافق (0 يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه)) (3) نسأل الله العفو والعافية.
31- ومن ذلك قوله (4):
أما وحقك وهو غاية مقسم للحق أنت وما سواك الباطل
وهذا قسم بغير الله، وهو شرك أصغر، حذرنا منه رسول الله صلي الله عليه وسلم بقوله: (( من حلف بغير الله فقد أشرك)) وقال صلي الله عليه وسلم : (( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)) وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : (( لأن أحلف بالله كاذباً خير من أحلف بغير الله صادقاً )) وهذا من كمال فهمه ـ رضي الله عنه ـ لأن الحلف بالله كاذباً معصية، والحلف بغيره ولو كان المرء صادقاً فيه شرك، وفرق فيما بينهما.
والقسم بغير الله هو مما تساهل فيه الشعراء قديماً وحديثاً ، فهم يقسمون بالمحبوب ، وبصفاته الخلقية والخلقية قاصدين تعظيمه بزعمهم.
32- ومن ذلك قوله (1):
وتري المروة والفتوة والأبو ة في كل مليحة ضراتها
هن الثلاث المانعاتي لذتي في خلوتي لا الخوف من تبعاتها
فقد صرح المتنبئ هنا أن الذي يمنعه من اللذات ليس الخوف من الله عز وجل، وإنما هو المروءة والأبوة . وكان الأجدر به أن يمتنع عن اللذات خوفاً من الله! ليكتب له أجر هذا الامتناع. قال تعالي: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) (40)فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) .
33- ومن ذلك قوله (3):
فآجرك الإله على عليل بعثت إلي المسيح به طبيبا
وهذا يلحق بسابقه، ففيه لأنبياء الله ـ عليهم السلام ـ عندما يشبههم بغيرهم، أو يبتذل ذكرهم.
34- ومن ذلك قوله (1):
يبني به ربنا المعالي كم بكم يغفر الذنوبا
والذنوب لا تغفر بأحد، إنما يغفرها الله برحمته، قال تعالي: ) وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ )(آل عمران: الآية135).
35- ومن ذلك أنه يعتقد أن علياً ـ رضي الله عنه ـ هو الوصي بعد سول الله صلي الله عليه وسلم ، وهذه عقيدة الشيعة الإمامية والزيدية، ويقول المتنبي في مدح طاهر ابن الحسين(3).
هو ابن رسول الله وابن وصيه وشبههما شبهت بعد التجارب
36- وهو يذم أحد الأموات الذين يبغضهم بقوله (4):
قالوا لنا: مات إسحاق ! فقلت لهم: هذا الدواء الذي يشفي من الحمق
إن مات مات بلا فقد ولا أسف أو عاش بلا خلق ولا خلق
منه تعلم عبد شق هامته خون الصديق ودس الغدر في الملق
وحلف ألف يمين غير صادقة مطرودة ككعوب الرمح في تسق
ما زلت أعرفه قرداً بلا ذنب صفراً من الباس مملوءاً من النزق
كريشة في مهب الريح ساقطة لا تستقر علي حال من القلق
تستغرق الكف فودية ومنكبه فتكتسي منه ريح الجورب العرق
فسائلوا قاتليه كيف مات لهم موتاً من الضرب أو موتاً من الفرق
وهذا القول دليل علي وقاحة المتنبئ، حيث تعرض للأموات في قبورهم بهذا الهجاء المر، والرسول صلي الله عليه وسلم يقول: (( إذا مات صاحبكم فدعوه، لا تقعوا فيه)) (1).
37- ومن ذلك قوله (2):
ما رآها مكذب الرسل إلا صدق القول في صفات البراق
فهو يشبه فرسه بالبراق الذي ركبه رسول الله صلي الله عليه وسلم الإسراء والمعراج، وقال صلي الله عليه وسلم عنه لأنه: (( فوق الحمار ودون البغل، يقع خطوه عند انقضاء طرفه..)) (3).
فالبراق خلق من خلق الله لا يشبهها شيء من حيوانات الدنيا، مهما ادعى المتنبئ خلاف ذلك.
38- ومن ذلك قوله (4):(/39)
يا راحلاً كل من يودعه مودع دينه ودنياه
والراحل أو المسافر لا يأخذ معه إلا دينه هو، أما دين المودعين فهو باق معهم؛ لأنه مجموعة من الأقوال والأعمال الملازمة للإنسان.
وقد أمر صلي الله عليه وسلم أن يقال للمسافر عند سفره، لا أن يحفظ هو دين الآخرين، كما يزعم المتنبئ.
39- ومن ذلك قوله (2):
لحب ابن عبد الله أولى فإنه به يبدأ الذكر الجميل ويختم
والذي يبدأ به الذكر الجميل ويختم: الله ـ عز وجل ـ فقد علمنا رسوله صلي الله عليه وسلم أن نبدأ أعمالنا باسمه تعالي، وعلمنا أن نختم بذكره تعالي، سواء بالحمد أو الاستغفار.
40- ومن ذلك قوله (3):
فلا موت إلا من سنانك يتقي ولا رزق إلا من يمينك يقسم
وأسباب الموت كثيرة كما قيل: تعددت الأسباب والموت واحد.
لا كما يزعم المتنبئ بأنه لا موت إلا من سنان ممدوحه.
وأما الرزق فهو من عند الله عز وجل ، قال سبحانه: (َابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ )(ا)ْ وقال( خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) وصدق على المتنبئ قوله تعالي: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) . فهو يعلم أنه لا رزاق إلا الله ، ثم ينسب ذلك إلي غيره.
41- ومن ذلك قوله عن خيمة سيف الدولة (4):
فما اعتمد الله تقويضها ولكن أشار بما تفعل
وهذا من الافتراء علي الله أنه أراد تقويضها قاصداً توجيه سيف الدولة إلي ملاقاة أعدائه!
42- ومن ذلك قوله(5):
ولست أبالي بعد إدراكي العلا أكان تراثاً ما تناولت أم كسبا
فهو يهدف إلي العلا ،سواء ورثه من آبائه، أو كان كسباً له قد اجتهد في تحصيله، وهذا العلا الذي يعنيه المتنبئ هو علو الصيت بين الناس، وتولي الضيع والإمارات ، فهو الذي أجهد فيه نفسه، وضيع عمره ـ كما سبق.
43- ومن ذلك قوله في ممدوحه (1):
الذي ليس عنه مغن ولا منـ ـه بديل ولا لما رام حام
وهذا القول لا يصلح إلا لله عز وجل ، فهو الذي ليس عنه مغن ، ولا منه بديل. كما قال صلي الله عليه وسلم : (( الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيع غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عن ربنا)) (2).
44- ومن ذلك قوله:-
فومن أحب لأعصينك في الهوى قسماً به وبحسنه وبهائه
45- ومن ذلك قوله (4):
وكيف تعلك الدنيا بشيء وأنت لعلة الدنيا طبيب
وهذا من الغلو في المدح، حيث جعل ممدوحه طبيباً لجميع علل الدنيا، وهذا لا يكون إلا لله عز وجل، فهو (( الطبيب))(5) سبحانه ، هو الذي يشفي عباده، ويصلح أحوالهم ، كما قال إبراهيم ـ عليه السلام ـ : )وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).
46- ومن ذلك قوله (1):
تظل ملوك الأرض خاشعة له تفارقه هلكي وتلقاه سجدا
والسجود لغير الله لا يجوز ـ كما سبق ـ.
47- ومن ذلك قوله (2):
تخر له القبائل ساجدات وتحمد الأسنة والشفار
48- ومن ذلك قوله (3):
وما لاقني بلد بعدكم ولا أعتضت من رب نعماي رب
ونقول لأبي الطيب: حتى الله لم تعتض به عن ممدوحك؟! قال تعالي: )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) فهو سبحانه رب النعم الذي يستحق التمجيد والتفرد بهذا المدح.
49- ومن ذلك قوله (5):
أيا سيف ربك لا خلقه وسا ذا المكارم لا ذا الشطب
كيف يزعم المتنبئ أن سيف الدولة الحمداني هو سيف الله؟!
وهل كان سيف الدولة يقاتل الأعداء دفاعاً عن دين الله عز وجل، أم كان دفاعاً عن أرضه ودياره؟! والحق أنه لا يطلق هذا اللقب (سيف الله) إلا على من أطلقه رسول الله صلي الله عليه وسلم عليه، كخالد بن الوليد ـ رضي الله عنه (1) ـ أما غيره فلا ندري أكان سيفاً لله أم سيفاً لمصالحة ودولته؟!
50- ومن ذلك قوله (2):
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
ونحن نعلم كالمتنبئ أن الدين ليس غايته إحفاء الشوارب، وإنما هي سنة وردت عن رسول صلي الله عليه وسلم بقوله: (( أحفوا الشوارب)) (3) فمن عمل بها فقد فاز بالأجر والمغنم، ومن خالفها فقد خالف سنة النبي صلي الله عليه وسلم ومع ذلك لا يجوز لأبي الطيب أن يسخر من هذه السنة النبوية بهذا القول الذي يوحي باحتقارها.
51- ومن ذلك قوله (4):
فتمليك دلير وتعظيم قدره شهيد بوحدانية الله والعدل
وهذا أيضاً من الافتراء علي الله بأنه عادل إذ ملك ممدوح المتنبئ (دلير) وعظم قدره!.
52- ومن ذلك قوله (1):
جاء نيروزنا وأنت مراده وورت بالذي أراد زناده
53- ومثله قوله (2):
عربي لسانه فلسفي راية فارسية أعياده
وهذا من الفرح بأعياد الفرس المشركين الذين يبتهجون بالنيروز (3)ويشاركهم في ذلك مدعو الإسلام (( الرافضة)) من أبناء الفرس، الذين يحنون إلي تراث آبائهم.
ومعلوم أن الفرح بأعياد الكفار وتهنئتهم بها حرام شرعاً، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:(/40)
(( مخالطة غير المسلمين في أعيادهم محرمة؛ لما في ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان وقد قال الله تعالي: ) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )
ولأن هذه الأعياد إن كانت لمناسبات دينية؛ فإن مشاركتهم فيها تقتضي إقرارهم علي هذه الديانة ، والرضى بما هم عليه من الكفر، وإذا كانت الأعياد لمناسبات غير دينية؛ فإنه لو كانت هذه الأعياد في المسلمين ما أقيمت ، فكيف وهي في الكفار؟ لذلك قال أهل العلم: إنه لا يجوز للمسلمين أن يشاركوا غير المسلمين في أعيادهم، لأن ذلك إقرار ورضى بما هم عليه من الدين الباطل ثم إنه معاونة على الإثم والعدوان)) (1).
54- ومن ذلك قوله (2):
لنا مذهب العباد في ترك غيره وإتيانه نبغي الرغائب بالزهد
رجونا الذي يرجون في كل جنة بأرجان حتى ما يسئنا من الخلد
وفي هذين البيتين أفصح المتنبئ بكل وضوح عن هدفه من مدح الممدوح؛ إذ هو يبحث عن ( الرغائب) لا غير، وهو يشبه فعله هذا بفعل العباد الذين يخلصون العباد لله عز وجل طالبين جنته، هاربين من ناره، فالمتنبئ قد حقق ( الإخلاص) في قصد الممدوح وحده دون غيره مبتغياً ( رغائبه)!.
55- ومن ذلك قوله (3):
فإن يكن المهدي من بان هديه فهذا وإلا فالهدى ذا فما المهدي؟
يعللنا هذا الزمان بذا الوعد ويخدع عما في يديه من النقد
وهذا القول فيه سخرية ثابتة عند أهل السنة والجناعة ، وهي عقيدة خروج المهدي ، وقال صلي الله عليه وسلم : (( لا يكون في أمتي المهدي)) (1).
أما المتنبئ فمهديه غير مهدي المسلمين، ,وإنما هو ممدوحه الذي قد بان هديه، كما يزعم شاعر المديح!
56- ومن ذلك قوله (3):
الناس كالعابدين آلهة وعبده كالموحد الله
وهذا من الغلو في المدح الذي برع فيه المتنبئ ، ولو كان علي حساب دينه وعقيدته، فهو هنا يشبه حاله مع ممدوحه كحال المخلصين مع الله عز وجل.
57- ومن ذلك قوله (3):
ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان
وهذا تبذل لاسم نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ وكذب عليه، حيث ادعي أنه سيحتاج إلي ترجمان عندما يسير ي هذا الشعب، والله قد أخبرنا بأنه قد علمه منطق الحيوانات. وقال سبحانه عنه ـ عليه السلام ـ : ) وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْء)
58- ومن ذلك قوله (1):
أبوكم آدم سن المعاصي وعلمكم مفارقة الجنان
وهذا تهور من المتنبئ ، حيث زعم أن آدم ـ عليه السلام ـ قد سن لنا المعاصي وارتضاها ، وهو ـ عليه السلام ـ إنما أذنب ذنبا تاب منه، ثم قدر الله عليه مفارقة الجنة، ثم ابتلاه بهذه الدار النكدة؛ ليعود بشوق عظيم إلي الجنة مرة ثانية.
59- ون ذلك قوله (2):
فإن الناس والدنيا طريق إلى من ما له في الناس ثان
وهذا كذب من الشاعر ـ فالذي ماله في الناس ثان هو رسول الله صلي الله عليه وسلم لا ممدوح المتنبئ.
60- ومن ذلك قوله (3):
ولولا كونكم في الناس كانوا هراء كالكلام بلا معان
وهذا يلحق بما مضى من الغلو في المدح
61 – ومنه أيضاً قوله :-
ولم أقل مثلك أعني به سواك يا فرداً بلا مشبه
هذا ما تيسر لي من ملاحظات على ديوان المتنبي من أخطاء، تجاوز فيها حدود الشرع، أحببت أن لا يتسامح فيها قراؤه ومحبوه، أو يغضوا الطرف عنها.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام علي المرسلين والحمد لله رب العالمين(/41)
إمرأة تؤم أشباه رجال
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخِرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ناشري لواء الدين، وعلى من تبعهم من سلف هذه الأمة وخلَفها ممن جاهد وبذل ورافق ونافح في كل وقت وحين.
أما بعد:
امرأة شميطاء عجوز حيزبون في فرجينيا في بلاد الكفر، أمريكا، تخطب الجمعة وتؤم المصلين في إحدى الكاتدرائيات. اختلط النساء والرجال، وما هم برجال بل هم أشباه الرجال. إنها تتقرب إلى بوش زعيم الكفر وإمام الضلالة، وتتشبه في الصد عن سبيل الله بأم جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب، أو بأم قرفة المحاربة لله ولرسوله، صلى الله عليه وسلم، أو بسجاح مدعية النبوة المتواطئة مع مسيلمة الكذاب. وتبعها نساء ضالات مضلات فاسقات
هل تستوي من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب
ولن يكون مصيرها إلا مزبلة التاريخ، ينساها الناس، وتبوء بالخسران في الدنيا والآخرة.
إن امرأة أبي لهب، أم جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب، إنما سماها الله تعالى حمالة الحطب؛ لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث يمر، فأنزل الله تعالى فيهما: { تبَّت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد}
عن قتادة قال: تزوج أم كلثوم بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عتيبة بن أبي لهب وكانت رقية عند أخيه عتبة بن أبي لهب ، فلم يبن بها حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم . فلما نزل قوله تعالى : { تبَّت يدا أبي لهب } قالت أمهما بنت حرب بن أمية حمالة الحطب : طلِّقاهما يا بني ، فإنهما صبأتا، وقال أبو لهب: رأسي في رؤوسكما حرام، إن لم تطلّقا ابنتي محمد صلى الله عليه وسلم، فطلقاهما. ولما طلق عتيبة أم كلثوم جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، حين فارقها فقال : كفرت بدينك ، وفارقت ابنتك ، لا تجيئني ولا أجيئك ، ثم سطا عليه فشق قميص النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج نحو الشام تاجراً . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إني أسأل اللّه أن يسلط عليك كلبا من كلابه) . فخرج في تجار من قريش حتى نزلوا بمكان يقال له الزرقاء ليلاً فأطاف بهم الأسد تلك الليلة فجعل عتيبة يقول : ويل أمي هذا واللّه آكلي كما قال محمد ، قاتلي ابن أبي كبشة وهو بمكة وأنا بالشام ، فناموا ، وجعلوا عتيبة وسطهم . فأقبل السبع يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة فضغمه ضغمة فقتله ، وخلف عثمان بن عفان بعد رقية على أم كلثوم رضي اللّه عنهم .
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت سورة "تبت يدا أبي لهب" أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فِهر، أي حجر، وهي تقول:
مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه؛ فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها لن تراني) وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال. وقرأ "وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا". فوقفت على أبي بكر رضي الله عنه ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، أُخبرت أن صاحبك هجاني! فقال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فقالت: وإنك لمصدق؛ فاندفعت راجعة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أما رأتك؟ قال: (لا ما زال ملك ببني وبينها يسترني حتى ذهبت).
أين هي الآن، في مزبلة التاريخ، وتذوق العذاب الأليم مع زوجها أبي لهب.
هل لمحتم طيبة من حيةٍ؟! أو لمستم رقة من عقربِ؟!
وكذلك يكون مصير من يسير على دربهما:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
** وهذه سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان، التميمية، من بني يربوع، أم صادر( - نحو 55 ه=... - نحو 675 م ) كانت شاعرة أديبة عارفة بالأخبار، رفيعة الشأن في قومها، نبغت في عهد الردة (أيام أبي بكر)، وادعت النبوة بعد وفاة النبي صلى الله عليه. تبعها في دعوتها جمع من عشيرتها، وقد عزموا على غزو (أبي بكر الصديق). فلما مرت ببلاد بني تميم دعتهم إلى أمرها فاستجاب لها عامتهم. وكان ممن استجاب لها مالك بن نويرة التميمي وعطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر.
قال عطارد بن حاجب:
أمست نبيتنا أنثى نطيف بها وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
إلا أن مالك بن نويرة لما وادعها ثناها عن عودها وحرضها على بني يربوع ثم اتفق الجميع على قتال الناس وقالوا بمن نبدأ فقالت لهم:
أعدوا الركاب واستعدوا للنهاب ثم أغيروا على الرباب فليس دونهم حجاب
ثم إنهم تعاهدوا على نصرها. فقال قائل منهم:
أتتنا أخت تغلب في رجال .. جلائب من سراة بني أبينا..
وأرست دعوة فينا سفاها.. وكانت من عمائر آخرينا..(/1)
فما كنا لنرزيهم زبالا.. وما كانت لتسلم إذ أتينا..
ثم إن ( سجاح) قصدت بجنودها اليمامة لتأخذها من (مسيلمة بن حبيب الكذاب) فهابه قومها وقالوا إنه قد استفحل أمره وعظم فقالت لهم فيما تقوله:
عليكم باليمامة دفوا دفيف الحمامة فإنها غزوة صرامة لا تلحقكم بعدها ملامة
فعمدوا لحرب مسيلمة. فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلاده وذلك أنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال وقد ساعده عكرمة بن أبي جهل بجنود المسلمين وهم نازلون ببعض بلاده ينتظرون قدوم خالد. فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض الذي كان لقريش. ثم راسلها ليجتمع بها في طائفة من قومه فركب إليها في أربعين من قومه وجاء إليها فاجتمعا في خيمة. فلما خلا بها وعرض عليها ما عرض من نصف الأرض وقبلت ذلك، قال مسيلمة :
سمع الله لمن سمع وأطمعه بالخير إذا طمع ولا يزال أمره في كل ما يسر مجتمع رآكم ربكم فحياكم ومن وحشته أخلاكم ويوم دينه أنجاكم فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار لا أشقياء ولا فجار يقومون الليل ويصومون النهار لربكم الكبار رب الغيوم والأمطار... لما رأيت وجوههم حسنت وأبشارهم صفت وأيديهم طفلت قلت لهم لا النساء تأتون ولا الخمر تشربون ولكنكم معشر أبرار تصومون.
فقالت: أنت ما أوحى إليك قال:
( ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى)
قالت: وماذا أيضا قال: ( أوحى إلى أن الله خلق النساء أفراجا وجعل الرجال لهن أزواجا فنولج فيهن إيلاجا ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا فينتجن لنا سخالا إنتاجا)
قالت: أشهد أنك نبي!
قال هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب؟ قالت: نعم.
. أقامت عنده ثلاث ايام، ثم انصرفت إلى قومها. فقالوا ما عندك؟ قالت كان على الحق فاتبعته فتزوجته. قالوا فهل أصدقك شيئا؟ قالت لا. قالوا ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق. فرجعت فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن. ثم قال لها، مالك؟ قالت أصدقني صداقا. قال من مؤذنك؟ قالت شبث بن ربعي الرياحي. قال علي به. فجاء. فقال ناد في أصحابك أن مسيلمة ابن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد، صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر. مع الأيام بدأت (سجاح) تسترد وعيها وتدرك فداحة الوهم الذي كان يسيطر عليها. اقتنعت بصعوبة الإقدام على قتال المسلمين، فانصرفت راجعة إلى أخوالها في الموصل. بعد بفترة وجيزة بلغها مقتل مسيلمة. لهذا فأنها أسلمت، ثم قررت أن تهجر الموصل ورحلت إلى البصرة حيث استقرت باقي عمرها حتى توفيت فيها. وصلى عليها (سمرة بن جندب) والي البصرة التابع لمعاوية.
إن الحيزبون التي أمت سفهاء الجمعة الماضية أشبه الناس بسجاح قبل توبتها، بل أشبه الناس بأم قرفة، وما أدراك ما أم قرفة! "أم قرفة" فاطمة بنت ربيعة الفَزارية، حاربت الله ورسوله، وأمعنت في تأليبها عليه. وكان العرب يضربون المثل لعزتها فيقولون: أعز من أم قَرفة. وقال الأصمعي: من أمثالهم في العزة والمنعة: أمنع من أم قَرفة. وفيها يضرب المثل في العزة والمنعة والشرف لكثرة أولادها الثلاثة عشر، وعزة قبيلتها وبيتها، فيقال: أعز من أم قرفة، وكانت إذا تشاجرت غطفان بعثت خمارها على رمح فينصب بينهم فيصطلحون!.. وكان النبي يقول لأهل مكة: أرأيتم لإن قتلتُ أم قرفة؟ فيقولون: أيكون ذلك؟
في السنة السادسة للهجرة خرج زيد بن حارثة في سرية فأسرها، فأمر النبي زيد بن حارثة أن يقتل أم قرفة، فقتلها قتلاً عنيفاً، ربط برجليها حبلين ثم ربطهما إلى بعيرين حتى شقاها.. فما نفعتها عزتها الجاهلية!
إن الحيزبون التي أمت سفهاء الجمعة الماضية أشبه الناس بالمسخ المشوه الحية الرقطاء كوندوليزا رايس. وهي وإن زعمت أنها مسلمة، أشبه بهدى شعراوي التي نزعت نقابها في ميناء الإسكندرية وألقت به في البحر سنة 1920، و منوبيّة الورتانين التي نزعت الحجاب أثناء إلقاء محاضرة في تونس سنة 1924 و غيراهما.
ومن يكُ أعوراً والقلب أعمى فكل الخلق في عينيه عورُ
واعلموا، رحمكم الله، أن العلماء قالوا: لا تصح إمامة المرأة عندنا وليعد صلاته من صلى وراءها وإن خرج الوقت".
وقال الشافعي في الأم 1/191: "وإذا صلت المرأة برجال ونساء وصبيان ذكور فصلاة النساء مجزئة، وصلاة الرجال والصبيان الذكور غير مجزئة; لأن الله عز وجل جعل الرجال قوامين على النساء وقصرهن عن أن يكن أولياء، ولا يجوز أن تكون امرأة إمام رجل في صلاة بحال أبدا".
وقال ابن حزم في المحلى 2/167: "ولا يجوز أن تؤم المرأة الرجل ولا الرجال, وهذا ما لا خلاف فيه , وأيضا فإن النص قد جاء بأن المرأة تقطع صلاة الرجل إذا فاتت أمامه، مع حكمه عليه السلام بأن تكون وراء الرجل في الصلاة ولا بد, وأن الإمام يقف أمام المأمومين ولا بد".
ولم ينقل عن أحد من أهل العلم جواز إمامتها في صلاة الجمعة.(/2)
وحجة من جوّز إمامتها في الفريضة - غير الجمعة- حديث أم ورقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها. رواه أبو داود (592).
وأجيب عن هذا الدليل بجوابين:
الأول: ضعف الحديث، فقد قال عنه الباجي في المنتقى شرح الموطأ: "هذا الحديث مما لا ينبغي أن يعول عليه". وقال ابن حجر في التلخيص الحبير 2/56: "في إسناده عبد الرحمن بن خلاد، وفيه جهالة".
الثاني: أن المقصود بأهل دارها النساء منهم دون الرجال، قال ابن قدامة في المغني 2/16: "وحديث أم ورقة إنما أذن لها أن تؤم (نساء) أهل دارها , كذلك رواه الدارقطني. وهذه زيادة يجب قبولها , ولو لم يذكر ذلك لتعين حمل الخبر عليه ; لأنه أذن لها أن تؤم في الفرائض , بدليل أنه جعل لها مؤذنا , والأذان إنما يشرع في الفرائض، ولو قدر ثبوت ذلك لأم ورقة , لكان خاصا بها , بدليل أنه لا يشرع لغيرها من النساء أذان ولا إقامة , فتختص بالإمامة لاختصاصها بالأذان والإقامة".
إن أعداء الله ومبادئهم كذوات السموم؛ نحن معها على افتراق وبراء وعداء حتى يدخلوا في ديننا.
أيها الجيل: الفرد في هذا الزمان أشد حاجة لليقظة والانتباه مما كان عليه أسلافه المسلمون في العصور الماضية، لقد كان أسلافه يعيشون في وسط إسلامي تسوده الفضائل، ويعمه التواصي بالحق.. الرذائل فيه تتوارى عن أعين العلماء وسيوف الأمراء، أما اليوم فإن المدنية السفيهة الحديثة قد جعلت كفر جميع مذاهب الكفار، وشهواتهم وشبهاتهم، مسموعةً مُبْصَرةً مزخرفةً عن طريق الإذاعات والشبكات، والصحف والقنوات، تتسلق وتتسلل إلى أعماق القلوب الجوفاء والبيوتات، وترفع عقيرتها: إليَّ إليَّ! فعندي الفقه الطيب، تعني: فقه الإرجاء والتسيب، وينعق فيها الرويبضات التافهون في أمر العامة صارخين:
العلم ما ينقله الإعلامُ وليس ما يبثه الإسلامُ
والحق ما تطلقه الأبواقُ وليس ما تثبته الأخلاقُ
قد طوروا الخطاب للصِّغارِ باللحن والعُرْي وبالصَّغارِ
خابوا فهم حثالة الأنسالِ وعُصْبة الفساق والأنذالِِ
رهط الخنا والغي والمِحالِ مِن كل عِي ماذق تنبالِ
محارب لله لا يبالي كأنما صيغوا من الأوحالِ
أو من رجيع الحمر والبغالِ
اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، يا قوي يا عزيز.. يا قوي يا عزيز.. يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
اللهم كن للمسلمين المستضعفين المظلومين المقهورين في العالمين.. اللهم كن للمسلمين المستضعفين المقهورين المظلومين في العالمين.
اللهم كن لهم في فلسطين و أفغانستان و كشمير و الشيشان ، وجميع العالمين.
اللهم أزل عنهم العنا، اللهم أزل عنهم العنا.
اللهم اكشف عنهم الضر والبلاء.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء.
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250]^ .
اللهم أنت حسبنا ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. حسبنا الله ونعم الوكيل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد(/3)
إمكانات متزايدة
د. عبدالكريم بكار 18/11/1425
30/12/2004
إن الله –جل وعلا- خلق الدنيا دارًا للابتلاء، فوفّر فيها كل شروط الابتلاء، وإن من تمام الابتلاء أن يمكّن الله عباده من الوصول إلى ما يطمحون إليه ما دام في إطار سننه في الخلق، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بوضوح تام؛ حيث قال –تباركت أسماؤه-: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء بك وما كان عطاء ربك محظورًا) [الإسراء:18-20]
إن إرادة الله –تعالى- طليقة، فهو يوجه عطاءه إلى من يسعى إليه –إن شاء- ويطلبه، ويأخذ بأسبابه بقطع النظر عن كون المطلوب أمرًا دنيويًا أو أخرويًا. وهذا ما نشاهده اليوم على أوسع نطاق ممكن؛ حيث إن التقدم التقني والعلمي واتساع المدن ووفرة الأموال – بين يدي شريحة واسعة على الأقل- وتلون فنون العيش –قد أدّت إلى بسط غير مسبوق في إمكانات الناس وقدراتهم. إن المجال المتاح لِرجل يعيش مع إبله في البادية أو مع شجره وزرعه في القرية محدود جدًا. إن الوسائل المتاحة له كي ينفع وكي يضر وكي يدفع بالمسيرة إلى الأمام أو يكون حجر عثرة في طريقها – محدودة للغاية؛ وذلك بسبب ضعف التمدن وتخلف العمران في كل من البادية والقرية. وإذا قارنت ما يمكن لعشرين راعيًا للغنم أن يتركوه في الناس من آثار في سلوكهم مع ما يمكن أن يفعله اليوم عشرون شخصًا يعملون في قناة فضائية، لأدركت حجم الإضافة التي حدثت في الخمسين سنة الماضية. ما الذي حدث فعلاً خلال هذه المدة على صعيد توسع الإمكانات، وما مدى تأثيره في الوعي والخلُق والسلوك؟
بمقاربة أولية يمكن أن نقول الآتي:
1- كلما زادت الإمكانات التقنية والمادية بين أيدي الناس اتسعت مساحات الحركة أمامهم، وزادت الخيارات والبدائل مما يزيد الناس قوة إلى قوتهم. ويزيد مع كل هذا ابتلاء الله –تعالى- لهم.
2- يكثر أهل الخير ويعظم تأثيرهم، ويكثر أهل الشر والباطل، ويعظم أيضًا تأثيرهم، وذلك بسبب كثرة الوسائل التي يمكن أن يستخدمها هؤلاء وهؤلاء. وبعض الناس لا يدرك هذا؛ فيتحدث عن الشر المستطير الذي يقلقه، ولا يتحدث عن الخير الذي يحيط به. وبعض الناس يفعل العكس.
3- تنحسر الاجتهادات والرؤى السابقة وتقصر عن توفير التغطية الثقافية والتوجيهية، ويجد أهل العلم والفكر أنفسهم في حاجة ماسّة إلى التوصل إلى فتاوى واجتهادات ونظريات جديدة. وهذا يعني بداهة أن تكثر المسائل المثيرة للجدل.
4- تضعف الرقابة الاجتماعية، وتتسع مساحات الخصوصيات، ويذوق الناس طعم الرفاهية، ويصبح لجم النفوس عن مشتهياتها أشق. وكل هذا من تصاعد الابتلاء مع تصاعد القدرة والمُكنة.
5- تصبح إمكانات الحركة أكبر من إمكانات ضبطها، وتقييدها، كما تكبر الفجوة بين إمكانات الغش والتزوير وإمكانات كشفه وحصره.
6- يظهر على نحو مفاجئ كل ما كان ملغيًا أو متجاهلاً أو مكبوتًا، ويأخذ ظهوره شكل الانفجار، وأحيانًا شكل تعويض ما فات، أو شكل الانتقام ممن تسبب في التهميش والإلغاء.
7- حين يأخذ التقدم المادي هيئة الطفرة فإن الناس يعيدون ترتيب أولوياتهم من غير وعي منهم. ويكون ذلك -في الغالب- تعبيرًا عن الانحياز إلى المصلحة على حساب المبدأ.
8- يحدث صراع مكشوف بين الثقافة بوصفها رمزًا لعالم المعنى وبين الحضارة بوصفها مطلبًا لراحة البدن. وكثيرًا ما تغلب الحضارة الثقافة، كما يبدّد الامتدادُ الاتجاه، والمكان الزمان.
إذن كان هذا التشخيص صحيحًا، فما الذي يجب عمله؟
9- لا ينبغي أبدًا الاستسلام لليأس والانسحاب من الساحة بسبب ما نرى من كثرة الشر والفساد، وعلينا أن نتأمل بعمق لنرى كثرة الخير بالمقارنة مع ما كان قبلُ، ولنرى أيضًا الإمكانات الكبرى لتكثيره ونشره. لقد كان أهل العلم قديمًا يغبطون العالم إذا اجتمع في حلقته مائة طالب يكتبون ما يقوله. واليوم صار في الإمكان أن يستمع للعالم الواحد مئات الملايين في وقت واحد، كما صار في الإمكان الاطلاع على كثير من الجهود الخيّرة التي تُبذل في سائر أنحاء العالم.
10- الإسلام مجموعة من المبادئ والمثل والقيم، وهذه مجتمعة تتأبّى على الفرض والإلزام. إن القيم لا تُفرض، لكنها تجذب من خلال تجسّدها في سلوكات الأفذاذ والأخيار. وإن وعي الناس قد تقدم إلى درجة جعلهم لا يكترثون بالكلام المنمّق عن الفضائل والمحامد. وصار الإيحاء الذي تشعه الأوضاع الجيدة والسلوكات المستقيمة والراقية أعظم تأثيرًا في نفوس الشباب وعقولهم، وهذا يحمّلنا مسؤولية تمثّل القيم الإسلامية في حياتنا الشخصية والعامة، وإن كل واحد منا يستطيع –لو أراد- أن يقدم نموذجًا يقتدي به الناس في جانب من جوانب الحياة الفاضلة، أو مسلك من مسالك الطريق القويم.(/1)
11- إذا لم يكن لك روح عصر كانت لك كل شروره. أن تكون فقيرًا بين فقراء أو جاهلاً بين جَهَلة أو فوضويًا بين فوضويين... فذاك أمر يظل محدود الأضرار. لكن أن يكون المرء جاهلاً بين علماء أو فقيرًا بين أغنياء أو فوضويًا بين منظمين.... فهذا يعني أن كل مشاكل أولئك ستُحلّ على حسابه. وهكذا فإن الضريبة التي سندفعها نتيجة عدم فهم روح العصر، ونتيجة عدم الاستجابة لتحدّياته ستكون مضاعفة أضعافًا كثيرة!
12- لنقلّل من الشكوى قدر الاستطاعة، ففي زمان العولمة تقل فائدة الشكوى، ويقل وجود الذين يمكن أن نشكو إليهم، ولنعمل دائمًا على محاصرة الشر بالخير، والباطل بالحق، والهزيمة بالنصر. ولنكن ملء السمع والبصر.
13- التقدم الحضاري يتيح الكثير من الفرص، فلنحاول اقتناصها والاستفادة منها. وأولو العزم من المؤمنين يتجاوزون ذلك إلى صناعة الفرص حيث تكشف الإرادة الصلبة والعزيمة الماضية عن الإمكان الحضاري المستتر تارة، وتصنعه تارة أخرى.
ولله الأمر من قبل ومن بعد
إمكانات متزايدة
د. عبد الكريم بكار 2/12/1425
13/01/2005
ذكرت في المقال السابق بعض المعاني والمفاهيم التي تشير إلى التغيرات التي يحدثها التقدم العمراني، وأشرت إلى أن تلك التغيرات تصبّ في اتجاه توسيع مجالات الإدراك والفهم ومجالات العمل والحركة، واليوم أذكر –بإذن الله- المزيد من تلك المفاهيم، لعلي أستطيع تغيير قناعات بعض أولئك اليائسين من الإصلاح والمحبطين من رؤية الضغوط والتعقيدات المتزايدة:
6- في حالات التخلف يزداد الشبه بين الناس والأشياء والأوضاع لأن العمل والحركة وقبل ذلك الفكر النشيط هي التي تنتج ما يزيل التشابه الفطري الموروث فيما ذكرناه. حين تنظر إلى عشرة آلاف نائم فإنك تدرك ما أعنيه. وفي المقابل فإننا حين سنسير في شارع مزدحم، ونحاول فهم دوافع الناس وأهدافهم في حركتهم الدائبة ندرك مدى التنوع والتفاوت الناجم من السعي في الأرض واستخدام الوسائل المختلفة. على مدار التاريخ كان (التفاوت) مصدر تعليم وتطوير. إننا من خلال اختلاف سوياتنا ورغباتنا ومصالحنا نجد سبلاً للتعاون وسبلاً للنزاع أيضاً. من خلال اختلاف فكر الفرد وذوقه مع الذائقة الثقافية السائدة في المجتمع ومن خلال اختلاف مصلحته مع مصالح الناس من حوله –تقوم أعظم عمليات التغيير والتطوير للفرد والمجتمع معاً. وهذا كله يأتي من وراء النقد العمراني والازدهار الحضري. التفاوت الناتج من التقدم يدعم حاسة المقارنة لدى الناس، ومن خلال المقارنة يكتشف الناس جزءاً من أنفسهم وجزءاً من دافعهم أيضاً؛ ومن هنا فإننا نجد أن القرآن الكريم كثيراً ما يجعل الحديث عن الجنة مقروناً بالحديث عن النار، كما يجعل الحديث عن الذين آمنوا مقروناً بالحديث عن الذين كفروا... التفاوت الذي يولده التقدم العمراني، يتيح المزيد من النمو من خلال فتح شهية الناس نحو التقليد. ولا يخفى أن كثيراً من الدول الناهضة اليوم بدأت بتقليد منتجات غيرها، ثم أخذت في إبداع منتجات عليها بصمتها الخاصة. وسيكون في إمكان كل واحد أن يفعل ذلك؛ حيث إن من الممكن أن نتعرف على أسباب تفوق عالم من العلماء -مثلاً- من خلال الدخول إلى عالمة الشخصي من أجل فهم ما جعله متفوقًا من سمات وخصائص وبرامج ووسائل ... ثم محاولة تقليده في ذلك أو بعضه. وسيكون في إمكان المؤسسات والشركات والهيئات العادية أن ترتقي بذواتها ومنتجاتها من خلال تقليد نظيراتها المتفوقة باتباع النظم والمعايير والأساليب التي تعدّها عوامل أساسية في نجاحها وهكذا... في حالات التقهقر والجمود الحضاري يكون الجميع في حاجة إلى التعلّم، لكن يكون المعلِّم غير موجود أو يكون نصف جاهل، أو يكون الناس غير مدركين لما يمكن أن يفعله العلم في حياتهم، وهذا ما تعاني منه اليوم شعوب إسلامية كثيرة!.(/2)
7 – يتيح التقدم الحضاري المزيد من فرص العمل، ومع أن ذلك ليس من غير ضريبة يجب دفعها إلا أن من المسلّم به أنه ما كان للأرض أن تتحمل هذا العدد الهائل من البشر لو لا ما فتح الله به على الناس من علوم ومخترعات ولو لا الجهود المنظمة والعظيمة التي بذلها ملايين الجنود المجهولين في التعليم والتدريب والتطوير.. لننظر إلى فرص العمل التي أتاحها اختراع الحاسوب والجوال. ولننظر إلى ما أتاحه من ذلك صنع السيارة والطائرة والمخترعات الكهربائية والإلكترونية من قبل. وسنعرف فضل كل هذا لو قدّرنا –جدلاً- أن الناس سيعودون في معيشتهم وأعمالهم إلى المستوى الذي كان عليه آباؤهم قبل قرنين من الزمان؛ لا شك أن أكثر من نصف القوى العاملة ستجد نفسها في بطالة قاتلة بسبب الاستغناء عن المنتجات التي تقوم على تحضيرها. وعلى المستوى الثقافي والدعوي فقد زادت إمكانات التواصل بين الناس ونشر الأفكار بما لم يكن واردًا حتى في الخيال. إن هناك أعدادًا كبيرة من العلماء الذين ألّفوا كتبًا نفيسة لكن لم تغادر أدراج مكاتبهم لعدم وجود المال المطلوب لطباعتها ونشرها. وهناك مئات الألوف من طلاب العلم الذين حدّثوا أنفسهم بتأليف بعض الكتب لكن أحجموا لأنهم غير واثقين من التمكن من طباعتها أو نشرها، فقد كان تداول الكتاب وانتقاله من دولة إلى أخرى في المرحلة الماضية صعبًا للغاية، وكان تداول بعض الكتب يشبه في مشقته تداول المواد المخدرة، وكان كثير من الدعاة يشكون عدم القدرة على الوصول إلى المدعوين في بلدانهم وفي البلدان الأخرى بسبب القيود الأمنية أو بسبب عدم توفر المال المطلوب للانتقال... إن كل هذا قد انتهى اليوم بفضل وجود (الإنترنت) و(البث الفضائي). قد صار في إمكان أي مثقف أن يبني لنفسه موقعًا على (الإنترنت) ويقوم ببث ما لديه من معارف وخبرات وإرشادات على ذلك الموقع وبتكلفة لا تكاد تذكر. وصار في إمكان كل داعية أن يوصل كلمته إلى مئات الملايين من الناس في شتى أنحاء المعمورة دون أن يغادر بيته. بل إن شيئًا مذهلاً قد حدث على هذا الصعيد، هو أنه في الماضي لم يكن في الإمكان لشخصين يجلسان في غرفتين متجاورتين أن يطّلعا على كتاب واحد في آن واحد بسبب الشروط الصارمة للرؤية؛ أما اليوم فإننا إذاً وضعنا كتابًا أو مقالاً على (الإنترنت) فإن في إمكان ملايين البشر الإطلاع عليه ونسخه ونشره في آن واحد! وهذا أمر مثير حقًا. إذا كان الأمر على هذه الصورة؛ فلماذا نجد إذًا عشرات الملايين من الشباب المسلم المثقف واللامع، لا يقدم لدينه ودعوته أي شيء ذي قيمة، ويعتقد أنه إذا صار مستهلكًا للثقافة فهذا كافٍ بل يعده مفخرة له؟!
إنه القصور التربوي والثقافي الذي نعاني منه والذي طالما تحدثنا عن مخاطره. قد طوّر لنا الآخرون الوسائل التي تساعدنا على الانتشار السريع والفعال، لكننا لم نستفد من ذلك كثيرًا لأننا لم نقم بتطوير أنفسنا وصقل استعداداتنا، ولم نقم بتحطيم الأوهام والقيود التي تشل حركتنا، وهذا ما لا يستطيع أحد أن يقوم به بالنيابة عنا وحتى نعرف كيف استفاد غيرنا من الوسائل الحديثة فيكفي أن نعلم أن الأوربيين أنشؤوا شبكة معلومات أنزلوا عليها نفائس المكتبات الأوربية، وقد بلغت الكتب التي تم وضعها على تلك الشبكة نحوًا من (مليارين ومئة مليون كتاب) وقد نهض بهذه المهمة قرابة ربع مليون شخص. فماذا علمنا نحن؟!
إمكانات متزايدة (3)
د.عبد الكريم بكار 16/12/1425
27/01/2005
عرضت في المقالَيْن السابقيْن بعض الإمكانات الجديدة التي وفّرها التقدم الحضاري، واليوم أستعرض أيضًا المزيد منها على أمل تكوين صورة متكاملة عن هذه المسألة.
8 – حين يتحرك الإنسان، ويسعى إلى تحقيق مآربه وقضاء حاجاته الكثيرة يجد نفسه مكبّلاً بقصوره الذاتي وطاقاته المحدودة، إن عينه لا ترى إلا إلى حدٍّ معين وضمن شروط معينة، كما أن قدرة يده على التعامل مع الأشياء أيضًا محدودة، وقل مثل هذا في لسانه وحاسة شمّه ورجله وأذنه... التقدم العلمي والتقني والحضاري عامة يزيد في سلطان الحواس، وإمكانات الجسد إلى درجات كان مجرد تخيلنا أمرًا عسيرًا. إن وسائط النقل من الدراجة إلى الطائرة زادت في سلطان الرِّجل. وإن كل أنواع العتاد التي يستخدمها أهل الحرف وموظفو الصيانة زادت في سلطان اليد. وزاد الهاتف في سلطان اللِّسان والأذن؛ حيث صرنا نسمع مَن يتحدث في مكان بعيد جدًا عنّا، ونوصل كلامنا إلى من هم أيضًا بعيدون. أما الهاتف (الجوّال) فقد جعل إمكانات التواصل العالمي شبه مطلقة، وسيكون لذلك آثاره الثقافية الخطيرة في المستقبل وهكذا...(/3)
وقد أدّى كل ذلك إلى اختصار الوقت وتحسين الإنتاجية وتخفيف العبء عن البدن. ومع تقدم والوسائل والآلات، تولد معايير جديدة للتحضّر؛ فالإنسان المتخلف اليوم كثيرًا ما يكون كذلك بسبب عدم رغبته أو عدم قدرته على استخدام الأدوات التي يستخدمها معاصروه. وهذا يعني أن الأمم التي تقود حركة الإنتاج العالمي هي التي تصنع مواصفات التقدم والتخلف، وهذا مع كل المميّزات التي حققها، يزيد في أعباء الأمم الفقيرة التي لا تستطيع إنتاج الآلات، ولا تجد المال الكافي لاستيرادها، وهذه الوضعية تغذي حالة الفقر وترسخها. إننا سوف ندهش إذا تأملنا في الوقت الذي توفَّر لربة المنزل بسبب وجود الآلات الحديثة، لكن معظم النساء صار وقت الفراغ وبالاً عليهن ومصدرًا كبيراً للإزعاج لهنّ، وذلك بسبب مواكبة التقدم الإنساني للتقدم التقني والصناعي.
9 – في الماضي كانت أوصال العالم مقطّعة، وكانت الصّور الذهنيّة التي تكوّنها الشعوب عن بعضها مشوّهة ومشوّشة، بل إن أذهان الشعوب مملوءة بالخرافات والترّهات حول الأوضاع والعادات السائدة في المجتمعات المغايرة والبعيدة، وبسبب نقص المعلومات فإن كل وجهات النظر التي كانت يسمها شعب عن شعب آخر كانت تُتلقى على أنها حقائق قاطعة لا تحتمل الجدل. وقد تغير كل ذلك بسبب سهولة الانتقال وسهولة الاتصال، والبث الفضائي اليوم يضع بين أيدينا كل ما نريد معرفته عن شعوب الأرض على نحو لم يسبق له مثيل. هذا كله يعني أن الوعي الذاتي آخذ في التحسن؛ إذ إن رؤية الآخرين على ما هم عليه في واقع الحال تحسّن مستوى رؤيتنا لأنفسنا، وهذا يشكل مكسبًا عظيماً، لكن الذي يحول دون الاستفادة الكاملة من معرفة الآخر هو ما نعانيه من ضعف وقصور في محاكاتنا العقلية، وفي قوى الاستبصار ونظم الإدراك والتفسير، ولكن هذا لن يدوم، وسنشهد مع الأيام الكثير من التقدم في كل هذا.
10- التطوّر المذهل في وسائل الاتصال آخذ في تخفيف الحاجة إلى السفر والانتقال، فهناك اليوم إمكانية ممتازة لعقد اجتماعات بالصوت والصورة بين أشخاص يعيشون في قارات مختلفة. كما أن من الممكن للمرء أن يتلقى تدريباً جيداً، ويحصل على شهادة في علم من العلوم دون أن يغادر بيته وذلك عن طريق (الإنترنت)، كما أن في إمكان المرء أن يبيع ويشتري في أسواق تبعد عنه آلاف الأميال. والتقدم في برامج الترجمة الآلية، يخفف من مشكلات التباين اللغوي، ويجعل الاتصال المعرفي أسهل.
11- مع التقدم الحضاري المتسارع يعود شيء من الاعتبار للقدرات الذاتية والمهارات الشخصية، وصار في إمكان أعداد متزايدة من الناس أن يصبحوا أصحاب ثروات عريضة دون أن يكونوا من أبناء الأسر الغنية أو ممن ورثوا عن آبائهم المجد والمال.
إذا امتلك الشاب فكرة لمشروع ناجح، فإن في إمكانه أن يبيعها، ويصبح من وراء ثمنها في عداد الموسرين، وإذا نمّى الشاب ملكاته وإمكاناته الإدارية فإن في إمكانه أن يحصل على دخل عالٍ من وراء إدارة جيدة لمشروع جيد.
إن التمويل لأي مشروع صار اليوم سهلاً، وصارت الفكرة الذكية والقدرة على الإشراف والمتابعة محوراً مهماً للنجاح. وفي إمكان كثير من الشباب التأهل لذلك والإبداع فيه من غير الحاجة إلى المال.
لا أريد أن أفيض أكثر فأكثر في الإمكانات المتزايدة، لكن أريد أن أوضح الشروط الجوهرية للاستفادة من كل ذلك، وهي ليست كثيرة.
ولعل من أهمها الآتي:
1- التخلص من الأفكار القديمة والسائدة حول الممكن و(المستحيل العادي) والقريب والبعيد والسهل والصعب، والاحتفاظ بقدر جيد من الانفتاح على المعطيات الجديدة. والنظر بعين الاتهام إلى معلوماتنا الحالية تجاه ما يمكن لنا الاستفادة منه.
2- الاعتقاد بأن ما لدينا من نظم وترتيبات وأساليب.. يشوبه النقص –كما هو شأن كل ما ينظمه البشر- ويظلّ قابلاً للتطوير والتحسين. ومع أن هذه النظرة مكلفة جداً إلا أنها شرط أساسي في مقاومة التكلّس.
3- ترتيب أوضاعنا الخاصة والعامة على أساس أن لدى الآخرين شيئاً يمكن أن نتعلمه منهم. والنظر إلى الآخر المناوئ والمخاصم بأنه يشكل تحدّياً، كما أن لديه في الوقت نفسه شيئاً من الحلّ لما نعاني منه.
4- إدخال عنصر الوقت في حل أي مشكلة تواجهنا، وفي تخفيف أي إنجاز نريد تحقيقه، وعدم النظر إلى الأمور من زاوية معطياتها الحالية، وإنما من أفق تطورها واتجاهات سيرورتها.
5- تنظيم الذات والتحفز المستمر نحو استيعاب الجديد والبحث عنه والتغيير في الرؤية وفق معطياته.
6- إن شرط كل الشروط وأساس كل الأسس هو الإرادة الصُّلبة والقدرة على الاستمرار والمثابرة في الأداء والعطاء. وشيء بدهي أن يستعين المسلم في كل ذلك بالله –جل وعلا- ويخلص له في أمره كله(/4)
إمَّا العدٍل وإمّا الموٍت..
بقلم: الدكتور جابر قميحة
komeha@menanet.net
أبو جعفر المنصور (95- 158 هـ) هو الخليفة الثاني في دولة بني العباس. حكم لمدة واحد وعشرين عاما (137 - 158 هـ) كان شجاعا حازما, ولكنه كان جبارا ظالما, فقتل خلقا كثيرا ظلما وعدوانا, ومن ضحاياه الإمام أبو حنيفة الذي سجنه, وقتله بالسم لأنه أفتي بالخروج عليه. ومن عجب أنه استهل حكمه بقتل أبي مسلم الخراساني الذي لولا سيفه ما قامت الدولة العباسية. ومن ظلمه واستهانته بالرعية أنه ألزم الناس بلبس القلانس الطوال علي رءوسهم, والقلانس أغطية للرأس كالطواقي أو الطرابيش المدببة من أعلي. كما يُحسب عليه أنه أوقع بين العباسيين والعلويين, وكانوا قبله قوة واحدة تعيش في تلاق وصفاء.
ومن غدره أنه خلع عمه عيسي بن موسي من ولاية العهد, وكان السفاح - مؤسس الدولة العباسية - عهد إليه من بعد المنصور, فخلعه, وعهد إلي ولده المهدي.
...
ولظلمه خرج عليه كثيرون بالسيف,ومنهم من عمل على إثارة الناس وتحريضهم علي الخروج عليه, ويشد النظر من هؤلاء جميعا «بشير الرحَّال», وكان واحدا من كبار وجوه البصرة المعتزلة الذين عُرفوا بالعبادة والزهد, وإنما لُقب بالرحّال لأنه كان له سنة رحلة إلي الحج, وسنة رحلة إلي الجهاد في سبيل الله. ولما رأي من ظلم المنصور في الناس ما رأي أعطي لله عهدًا ألا يختلف في أمر المنصور سيفان إلا كان مع الذي عليه منهما.
وعاش آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر, شديدا في جنب الله, لا يخشي في الحق لومة لائم, وكان يوجه كلمات كالسهام إلي المهادنين للظالم, النائمين الراضين المستسلمين لسطوته, وخصوصا أعيان الناس و كبارهم. ويروي أنه في المسجد أشار إلي هؤلاء وقال: «.... والله لولا هؤلاء ما نفذتٍ لله معصية.. وأقسم بالله لئن بقيتُ, لأجهدن في ذلك جهدي, أو يريحني من هذه الوجوه المشوهة المستنكرة في الإسلام».
ووقف يعرًّض بأبي جعفر المنصور, ويخطب في الناس بصوت قارع «... أيها القائل بالأمس: إن وُلينا عدلٍنا, وفعلنا, وصنعنا, فقد وُليت, فأي عدل أظهرت? وأي جور أزلت? وأي مظلوم أنصفت? آه, ما أشبه الليلة بالبارحة. إن في صدري نارا لا يطفيها إلا برد عدل, أو حر سنان».
ورأي ذات يوم بعض رجال السلطة يتجسسون علي الناس, وقد تقنعوا, ولكن «بشير الرحال» كشفهم, وقال : «.. ويتقنعون, وينظرون من بعيد, أفلا يتقنعون لله عز وجل في الحديد? - أي ياليتهم لبسوا عدة الحرب, ومنها أقنعة الحديد, للجهاد في سبيل الله.
وكان الناس يخافون الاقتراب منه اتقاء لعسكر المنصور. وقُبض عليه, ووقف أمام المنصور, فقال لبشير: أأنت القائل: إن في صدري نارا لا يطفيها إلا برد عدل, أو حرّ سنان? قال: أنا ذاك. فقال المنصور: والله لأذيقنك حد سنان يشيب رأسك. قال بشير: ولكني لا أعينك علي معاصي الله...». قال الراوي: فمدّوا يده فقُطعت, ثم مدوا الأخري فقُطعت, فما قطَّب, ولا عبس, ولا تململ.
وفي الموقف نفسه كان «مطر الوراق», وهو صنو بشير الرحال في الخروج علي المنصور. خاطبه المنصور قائلا: يا مطر, نسيت الحرمة, وطول الصحبة? قال: نسيناها بنسيانك كتاب الله, وسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم, وتضييعك أمور المسلمين. قال المنصور: فتخرج عليّ مع من لم تأنس منه رشدًا? فهذا خلاف مذهبك. قال: لو خرج- اىتمرد- عليك الذرّ - وهم أضعف الخلق - لخرجتُ معهم, حتي أؤدي ما افترض الله عليّ فيك.
قال المنصور: يا ابن حسنة الزانية, قال مطر: إنك تعلم أنها خير من سلامة- وهى ام المنصور - ولولا أنه قبيح بذي الشيب السّفه لأعلمتك ما تكره, ولا تطيق رده, قال المنصور: خذوه. قال مطر: إن بعد موقفك هذا موقفا, وإن بعد أخذتك هذه أخذة. فانظر لمن تكون العاقبة».. قال الراوي: فجزع المنصور من قوله جزعا شديدا ظهر فيه. ثم قتله.
...
ومات المنصور, وعلي يديه استشهد بشير الرحال, ومطر الوراق, وجاءت بعد العصر العباسي عصور, ودُفن الحاكم المتجبر الظالم تحت ركام من لعنات التاريخ. وبقيت كلمات الشهيدين منارة للأجيال علي هديها يمضي الأطهار الأحرار, والدعاة الشامخون الأعزة الأباة:
- إن في الصدر نارا لا يطفيها إلا برد عدل أو حرّ سنان.
- لا ولاء لحاكم أغفل الكتاب والسنة, وضيع أمور المسلمين.
- أيها الظالم إن بعد موقفك هذا موقفا بين يدي الله.
- أيها الظالم تذكّر أن العاقبة ليست لك, ولكنها للمتقين.
وكلها كلمات من دستور أهم آلياته الخالدة : الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وهما - كما قال حجة الإسلام الغزالي «القطب الأعظم في الدين, وهو المهمّ الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين. ولو طُوي بساطه, وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة, واضمحلت الديانة, وعمّت الفترة (الضعف), وفشت الضلالة, وشاعت الجهالة, واستشري الفساد, واتسع الخرق, وخربت البلاد, وهلك العباد, ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد».(/1)
ويقول شهيد الإسلام عبدالقادر عودة «ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حقا للأفراد يأتونه إن شاءوا, ويتركونه إن شاءوا وليس مندوبا إليه يحسن بالأفراد إتيانه, وعدم تركه, وإنما هو واجب علي الأفراد, ليس لهم أن يتخلوا عن أدائه, وفرض لا محيص لهم من القيام بأعبائه(/2)
إن أريد إلا الإصلاح
سامي بن عبد العزيز الماجد 24/3/1423
05/06/2002
إن الناس لم يخلقوا فاسدين، وما كان الفساد أصلاً في الحياة، ولا مجبوراً عليه أحد من العباد، وإنما ينشأ بالتخلق والاكتساب.
وفيما علمناه بالضرورة والبداهة من غير أن نتلقفه بتلقين أو بحث: أن المرء يولد مسلوب الإرادة في اختيار نسبه، وجنسه، وخلقه.
ولقد علمنا كذلك علماً أغنانا عن التحقيق والمدارسة وكدَّ الأذهان والمراجعة أن أحداً لا يولد مطبوعاً على الفساد، أو مفطوراً على الفجور في أصل نشأته، فضلاً أن يكون مجبوراً عليه، مسلوب الإرادة فيه .
بل علمنا ما هو أبعد من ذلك في نظر الجاهلين الحيارى، بأن الناس كلهم يولدون حنفاءَ على الفطرة، قد فُطرتْ نفوسُهم على الإسلام والهدى، علمناه من قوله : " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجَّسانه".
فما أكذب الشاعر الضال حين قال :
وهكذا كان شأن الناس مُذ فطروا ... ...
فلا يظن جهولٌ أنهم فسدوا
وهذا نظرُ المتشائمين: يرون أن الفساد والعيوب أصلٌ في الحياة لم يتغير من قبل، ولا ينتظر أن يتغير من بعد.
هذا التشاؤم أقوى سبب نافذ إلى اليأس والانهزام والاستسلام، وليس وراءه من عمل إلا التسخط ليستر سوءة العجز والكسل.
وما يجدي التسخط وليدُ التشاؤم إلا كما تجدي النياحة، لا تردّ فاتناً، ولا تحيي موتى، ولا تذهب حزناً، بل هو كحصاة الخذف لا تقتل الصيد ولا تنكأ العدو، ولكنها تفقأ العين وتكسر السن.
ولذا فإن لواء الإصلاح لا يحمله أولئك المتشائمون الذين يرون الفساد أصلاً في العباد وطبعاً .
ولا تكاد تنتهي معاناتنا من هؤلاء المتشائمين إلا وتظهر لنا صورٌ أخرى من المعاناة مع قومٍ آخرين يُدخِلون في معنى التشاؤم وصوره ما ليس منه في شيء؛ ليصمُوا به كل من غلب خطابه لغة الإنذار والتحذير والالتفات إلى مظاهر الفساد، فهذا في نظرهم متشائم، ينظر للحياة نظرة ضيقةٌ لا تسع لغير الخطايا، ولا تقع إلا عليها.
هكذا هو في نظرهم، ولكنه في نظر الشرع غير خاطئ ولا مُتَّهم، بل وما جاوز منهاج الرسل والمصلحين؛ لأن طريق الإصلاح أوّله هذا الخطاب الذي يغلبه الإنذار والتحذير، وإلا فكيف تخفُّ نفوس الناس إلى الإصلاح إلا بكلمات التحذير والإنذار والتخويف من مغبة الفساد واستطالة الشر.
أما إن حركة الإصلاح لا يصلح لها إلا هذا الخطاب، ولا يناسبها إلا هذا النظر الذي يقع على العيوب والأخطاء ومظاهر الشر والفساد؛ لأن المقصود تسديدُ الخلل وإقامة العوج وقطعُ دابر الشر والفساد .
حركة الإصلاح لا يصح أن تغلب فيها لغة الثناء وتزجية المدح وتعداد الفضائل؛ لأن الأصل هو غلبتُها في المجتمع، فلا معنى لحصرها، ولا حاجة إلى تذاكرها، أو الثناء على المجتمع بها إلا بقدر ما يعيد الثقة إلى النفس، ويدفع عنها اليأس، وما زاد على ذلك فإغراقٌ يُفضي إلى الغرور واستثقال النضج والإخلاد إلى الدعة والراحة .
وأخطرُ من ذلك كله حين يُفضي الإغراق في الثناء وذكر الفضائل إلى التعامي عن مظاهر الفساد والاستهانة بخطرها والتهاون في إصلاحها .
لقد سئمنا وضجرنا من هذا الثناء الممجوج الذي يُقحم في غير سياقه، ويُذكر من غير حاجة، ولا تقتضيه مناسبة، ذلك حين يكون سياق الحديث عن بعض المظاهر المزعجة التي تهدد المجتمع في أمنه وقيمه وأخلاقه واقتصاده... يتذاكرها الناس لا على سبيل الشماتة - فما يفعل ذلك العقلاء- وإنما على سبيل الإنكار والتحاذر وإيقاظ الهمم للسعي إلى الإصلاح، فإذا بك تجد من بينهم من لم تزعجه تلك المظاهر المخيفة كما يزعجه الحديث عنها؛ لأنه لم يعتد سماع ذلك الكلام، أو لأنه لا يملك من الشجاعة ما يُجابه به الواقع ويقف به على الحقائق ولو كانت مُرّةً ثقيلةً على النفس.
ولذا فهو يهرب من الحقيقة والواقع بكلامٍ غَث ساذجٍ ممجوج لا يذهب بالنفس إلا إلى الغرور والقعود عن إصلاح حالها، فما إن يسمع حديثاً عن بعض مظاهر الفساد والخلل في المجتمع وضرورة إصلاحه، إذا به يقول: نحن لا نزال في خير، ومجتمعنا من خير المجتمعات، وأخفّها انفلاتاً وفساداً، ثم ينطلق لسانه في ذكر فضائل المجتمع ومحاسنه، ويبدأ يهوّن من شأن ما فيه من مظاهر الفساد بهذه المقارنة العجلى بين مجتمعنا والمجتمعات الأخرى، لا تكاد تنتهي صورها عند حد .
وهذا الرجل لا يُخشى عليه من شيء كما يُخشى عليه من عقله الذي يذهب به مذاهب باطلة حمقاء في التعامل مع صور الفساد ومعالجة الأخطاء .
ومقالته تلك إن صحت قبل ثلاثين سنة، فإنها لا تصحُ الآن مع تغير الظروف والأحوال، فما كل ما صح سابقاً يصح لاحقاً .
ثم هب أن مقالته صحيحة على إطلاقها، فما مناسبتها؟!!! والحديث إنما جرى بذكر مظاهر الفساد والخلل؛ للتداعي لضرورة الإصلاح والتخويف من مغبة التفريط.(/1)
وإذا كان هذا هو فحوى الحديث، فليس هو من السخط على المجتمع في شيء حتى يحتاج صاحبه إلى هذه المقالة لترد عنه سخطه على مجتمعه؛ ذلك أن الساخط يائس، واليائس لا تجد في لغة خطابه وفحوى كلامه الدعوة إلى ضرورة الإصلاح والتصحيح.
ثم ما جدوى هذه المقالة؟ فهل كان المجتمع في مقام المحاكمة حتى يحتاج التنبيه والتذكير بفضائله.!!، وهل كان محكوماً عليه بأنه لا يصلح للحياة!!.
أما إننا وجدنا تلك المقالة السخيفة عديمة الجدوى والفائدة، بل لقد وجدناها في مصاف الأسباب المفضية إلى زيادة الشر واستفحال الفساد، لأنها تبدد عزائم الإصلاح في نفوس سامعيها، وتدعو إلى الرضا بالحال وإن كان سيئاً يستوجب التغيير، كما أن ترديدها يُغري الناس إلى الاطمئنان الزائف بواقع المجتمع وإن تفاقمت فيه الجرائم والأخطار. فلا يزال الناس على ذلك الاطمئنان مخدوعين حتى تفوت فرصة الإصلاح والاستدراك .
وأما المذنب، فإنه يصر على ذنبه، ويسوَّغ ذنبه وجرمه بمنطق هذه المقالة الخطيرة: أنا خير من غيري، وأهون منه ذنباً. أو اللسان الجمعي: مجتمعنا أحسن من غيره، والفساد فيه أقل .
لو صح هذا المنطق لنا، لصح – كذلك- لغيرنا، فما من مذنب أو مجرم إلا ويجد من المذنبين من هو أشدُ منه جرماً، وأقبح منه ذنباً. ولن يعجز أن يُهون من شأن جرمه ومعصيته بمثل هذه المقارنات المغلوطة .
وهكذا تتسلسل هذه المقارنات لاستصغار الذنب وتسويفه، فلا تنتهي – من خلال هذا المنطق الفاسد- إلا عند إبليس لعنه الله، إذ ليس أحد أظلم منه ولا أعظم منه ذنباً.
ولذا، فإن من الواجب المتحتم علينا- إن كنا صادقين جادين في قضية الإصلاح- أن نهجر مقالة " نحن لا نزال بخير، ومجتمعنا خير من غيره" إلى غير رجعة .
صنفان يجب ألا يكون لهم وجود في دعوة الإصلاح والتغيير .
الصنف الأول: أولئك المتشائمين الذين يرون أن الفساد أصل في الحياة وطبع فُطِر عليه البشر .
الصنف الآخر: هؤلاء المفرطون في التزكية والثناء، الذين يضيقون ذرعاً بخطاب الإنذار والتحذير من مغبة ظهور الفساد واستطالة الشر وانتشار الجرائم.
والعجيب أن هذين الصنفين على ما بينهما من هذا التباين والتضاد إلا أنهما يعملان في أثر واحد، وهو إجهاض مشروع الإصلاح.
فالصنف الأول: مَدْخَلُه لذلك من باب اليأس من الإصلاح بسبب التشاؤم .
وأما الآخر: فمَدْخَلُه لذلك من باب بث الاطمئنان الزائف الذي يفتر الهمم عن النهوض للإصلاح، فإن الانتهاء بالحديث من هذين الصنفين لا يعني انتهاء الحديث عن قضية الإصلاح؛ فإن الحديث عنها لم يبتدئ بعد، فكل ما سبق إنما هو عن تصفية بعض المعوقات .
ولا يزال للحديث بقية نستكملها عن بعض مقوَّمات الإصلاح وسبله بإذن الله تعا(/2)
إن الحسنات يذهبن السيئات
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد: فهذا عرض لبعض الأعمال اليسيرة والتي يترتب عليها بإذن الله الأجور الكثيرة بفضل من الله، وتلك الأعمال يغفل عنها كثير من الناس ويتهاونون بها، مع ما فيها من الثواب العظيم والأجر الجزيل، ومن تلك الأعمال:
1 - الإكثار من الصلاة في الحرمين الشريفين:
روى جابر بن عبدالله أن رسول قال: { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه } [رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني]، وصلاة المرأة في بيتها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي.
2 - الصلاة في مسجد قباء:
قال رسول الله : { من خرج حتى يأتي هذا المسجد مسجد قباء فصلى فيه كان له عدل عمرة } [رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني].
3 - المواظبة على صلاة الضحى:
وأفضل وقت لأدائها عند إشتداد الحر وإرتفاع الضحى، فقد قال عليه الصلاة والسلام: { صلاة الأوابين حين ترمض الفصال } [رواه الإمام مسلم].
4 - الإستغفار المضاعف:
وهو مثل قولك: ( اللهم إغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ). قال الرسول : { من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة } [رواه الطبراني].
5 - قيام ليلة القدر:
هل تعلم أن ثواب قيامها أفضل من ثواب العبادة لمدة ثلاث وثمانين سنة وثلاثة أشهر تقريباً إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَةِ القَدرِ (1) وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ (2) لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِّن أَلفِ شَهرٍ (3) تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمرِ (4) سَلام هِىَ حَتَّى مَطلَعِ الفَجرِ [القدر:1- 5].
6 - التسبيح المضاعف:
وهو مثل قولك: ( سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ).
7 - قول دعاء دخول السوق عند دخول السوق:
قال الرسول : { من دخل السوق فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير" كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف الف درجة } وفي رواية: { وبنى له بيتاً في الجنة } [رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر].
8 - الإعتمار في رمضان:
فالعمرة في رمضان تعدل حجة كما قال لأم سنان { فإذا جاء رمضان فأعتمري، فإن عمرة فيه تعدل حجة } أو قال: { حجة معي } [متفق عليه].
9 - التحلي ببعض آداب الجمعة:
فقد قال الرسول : { من غسّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها } [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن ماجه وصححه الألباني].
10 - الصيام:
حث النبي على الإكثار من صوم النفل طوال أيام السنة فرغب في صيام أيام الإثنين والخميس، وأيام البيض، وشهر شعبان، وصيام ست من شوال، وشهر الله المحرم، وعشر ذي الحجة، وصيام يوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء قال عليه الصلاة والسلام: { من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً } [رواه البخاري ومسلم].
11 - تفطير الصائمين:
فقد قال عليه الصلاة والسلام: { من فطر صائماً كان له مثل أجره غيرأنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً } [رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وصححه الألباني].
12 - الإكثار من قول:
( لا حول ولا قوة إلا بالله ) فإنها كنز من كنوز الجنة، كما ورد في الحديث المتفق عليه عن الرسول .
13 - قضاء حوائج الناس:
فقد قال عليه الصلاة والسلام ( في حديث طويل ): { ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهراً } [رواه الطبراني وحسنه الألباني].
14 - صلاة ركعتين بعد الشروق:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : { من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة } قال: قال رسول الله : { تامة تامة تامة } [رواه الترمذي وحسنة الألباني].
15 - كفالة الأيتام:
عن سهل بن سعد عن النبي قال: { أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا }، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى [رواه البخاري]، وباستطاعتك فعل ذلك عن طريق المؤسسات والمبرات الخيرية.
16 - الحرص على صلاة الجنازة:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { من شهد الجنازة حتى يُصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدفن فله قيراطان، قيل وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين } [متفق عليه].
17 - الإكثار من الصلاة على النبي :
فمن صلّى عليه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً، ويكون أولى الناس به يوم القيامة، وقد وكل الله سبحانه وتعالى ملائكة سياحين يحملون صلاة الأمة إلى نبيهم .(/1)
18 - صلاة العشاء والفجر في جماعة:
فقد قال الرسول : { من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله } [رواه مسلم].
19 - التسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين:
ثم قول: ( لا إله إلا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )، فذلك فضله عظيم كما ورد في حديث فقراء المهاجرين الذي رواه أبو هريرة ( حديث طويل متفق عليه ) يرجع له في باب الأذكار الواردة عقب الصلوات المفروضة.
20 - الدعوة إلى الله والنصح للآخرين:
قال الرسول :{ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً } [رواه مسلم]، فالنصح للآخرين في الاتجاه إلى الله تجري عليك بأجرها مادام ينتفع بها إلى يوم القيامة ومن ذلك نشر الخير كنشر هذه الرسالة التي بين يديك فلك أجر من عمل بها إلى يوم القيامة بإذن الله.
21 - صلاة أربع ركعات قبل العصر:
قال الرسول : { رحم الله إمرءاً صلّى قبل العصر أربعاً } [رواه أبو داود والترمذي] وتكون الأربع ركعات بتسليمتين بعد أذان العصر وقبل الإقامة.
22 - عيادة المريض:
قال الرسول : { من عاد مريضاً لم يزل في خُرفة الجنة }، قيل يارسول الله وما خرفة الجنة؟ قال: { جناها } [رواه مسلم]. ويستغفر لك سبعون ألف ملك ( كما في حديث طويل رواه الترمذي ).
23 - الصيام وإتباع الجنازة وعيادة المريض وإطعام المسكين:
إذا اجتمعت في مسلم في يوم دخل الجنة بفضل الله ( كما حصل لأبي بكر ) حيث قال رسول الله في حديث أبي هريرة ( حديث طويل ): { ما اجتمعن في امريء إلا دخل الجنة } [رواه مسلم].
24 - الإصلاح بين الناس:
قال الله تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] وقد ورد في ذلك فضل عظيم في أحاديث عن الرسول لا يتسع المجال لذكرها.
25 - الإكثار من قول:
( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ): فهي أفضل مما طلعت عليه الشمس، كما ورد في ( حديث أخرجه مسلم ) عن النبي . وهي أحب الكلام إلى الله كما في الحديث الصحيح.
26 - تكرار قراءة سورة الإخلاص:
فإنها تعدل ثلث القرآن في الأجر والمعنى لما تحويه من توحيد الله وتعظيمه وتقديسه فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: { قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن } [رواه الطبراني وصححه السيوطي والألباني] ( وليس معنى كونها تعدل في الفضل أنها تجزىء عنه... فتنبه ).
27 - الصدقة الجارية:
كالمساعدة في بناء مسجد أو بئر أو مدرسة أو ملجأ أو تربية الأطفال على الدين الصحيح والآداب الإسلامية وتربية الولد على الصلاح، فإنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ومنها ولد صالح يدعو له، وكذلك نشر وطباعة الكتب ونسخ الأشرطة المفيدة وتوزيعها ودعم ذلك مادياً عن طريق مكاتب الدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات والمؤسسات الخيرية وغيرها.
28 - صلاة أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها:
عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : { من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله على النار } [رواه أبو داود والترمذي]. وتكون الأربع القبلية بتسليمتين بعد أذان الظهر وقبل الإقامة، وتكون الأربع البعدية بتسليمتين.
29 - قيام الليل وإفشاء السلام وإطعام الطعام:
عن عبدالله بن سلام أن النبي قال: { أيها الناس أفشوا السلام، وأطعِموا الطعام، وصلوا بالليل والناسُ نيام، تدخلوا الجنة بسلام } [رواه الترمذي].
30 - الترديد خلف المؤذن:
قال عليه الصلاة والسلام: من قال حين يسمع النداء: { اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة } [رواه البخاري].
31 - الإكثار من تلاوة وحفظ القرآن الكريم:
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ [فاطر:29]، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : { من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنةُ بعشر أمثالها لا أقول: ألم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف } [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].
32 - الإكثار من ذكر الله تعالى:
قال الرسول : { ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ } قالوا: بلى قال: { ذكر الله تعالى } [رواه الترمذي].(/2)
إن الحكم إلا لله
يقول تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57].
ولقد قالها يوسف عليه السلام وهو في سجنه فكان حراً: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]. وها نحن مستعبدون ولو كنّا خارج أسوار السجون، أرهبتنا عصا الطاغوت وأغرتنا مقاعد البرلمان!!!
أيها المسلمون:
دعوتكم دعوة انقلاب عالمي شامل، لا غموض فيها ولا إبهام؛ فليس لأحد من بني آدم فردا كان أو جماعة أن ينصب نفسه إلهاً يُشَرِعُ من دون الله يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يريد. والذين يرضون أمثال هؤلاء الطواغيت لهم ملوكاً وأمراء إنما يشركون بالله، {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا} [النساء: 60]، وذلك مبعث الفساد في الأرض، ومنه تنفجر ينابيع الشر والطغيان.
* * *
هل دخول البرلمان شهادةٌ أنَّ مع الله آلهة أخرى؟!!
هذا سؤال أجاب عنه الشهيد سيد قطب رحمه الله، وإليك أخي المسلم تلك الإجابة الشافية:
يقول تعالى: {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أشهد، قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون}.
(إن هذه القضية التي عرضها السياق القرآني في هذه الآيات.. قضية الولاء والتوحيد والمفاصلة.. هي قضية هذه العقيدة؛ وهي الحقيقية الكبرى فيها. وإنّ العصبة المؤمنة اليوم لخليقة بأن تقف أمام هذا الدرس الرباني فيها وقفة طويلة...
إن هذه العصبة تواجه اليوم من الجاهلية الشاملة في الأرض، نفس ما كانت تواجهه العصبة التي تنزلت عليها هذه الآيات، لتحدد على ضوئها موقفها، ولتسير على هذا الضوء في طريقها؛ وتحتاج - من ثم - أن تقف وقفة طويلة أمام هذه الآيات، لترسم طريقها على هداها.
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية؛ وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم جاءها الإسلام مبينا على قاعدته الكبرى: "شهادة أن لا إله إلا الله".. شهادة أن لا إله إلا الله بمعناها الذي عبر عنه ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس، وهو يسأله: "ما الذي جاء بكم؟"، فيقول: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
وهو يعلم أن رستم وقومه لا يعبدون كسرى بوصفه إلها خالقا للكون؛ ولا يقدمون له شعائر العبادة المعروفة؛ ولكنهم إنما يتلقون منه الشرائع، فيعبدونه بهذا المعنى الذي يناقض الإسلام وينفيه؛ فأخبره أن الله ابتعثهم ليخرجوا الناس من الأنظمة والأوضاع التي يعبد العباد فيها العباد، ويقرون لهم بخصائص الألوهية - وهي الحاكمية والتشريع والخضوع لهذه الحاكمية والطاعة لهذا التشريع - وهي الأديان.. إلى عبادة الله وحده وإلى عدل الإسلام.
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله. فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان؛ ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: "لا إله إلا الله"؛ دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية "الحاكمية " التي يدعيها العباد لأنفسهم - وهي مرادف الألوهية - سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية - أي البرلمانات - أو كشعوب؛ فالأفراد، كالتشكيلات، كالشعوب، ليست آلهة، فليس لها إذن حق الحاكمية.. إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله؛ فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية. ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء...
البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: "لا إله إلا الله" بلا مدلول ولا واقع.. وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعدما تبين لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين الله!(/1)
فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلا أمام هذه الآيات البينات! ما أحوجها أن تقف أمام آية الولاء: {قل: أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين}؛ ذلك لتعلم أن اتخاذ غير الله وليا - بكل معاني "الولي".. وهي الخضوع والطاعة، والاستنصار والاستعانة.. يتعارض مع الإسلام، لأنه هو الشرك الذي جاء الإسلام ليخرج منه الناس.. ولتعلم أن أول ما يتمثل فيه الولاء لغير الله هو تقبل حاكمية غير الله في الضمير أو في الحياة [1].. الأمر الذي تزاوله البشرية كلها بدون استثناء. ولتعمل أنها تستهدف اليوم إخراج الناس جميعا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده) [2].
وقد يُخيل لبعض المسلمين أنَّ الدخول في هذه التشكيلات التشريعية وسيلة للخلاص من الطاغوت؛ فبماذا يرد الشهيد عليهم؟
يقول رحمه الله: (إن التجمع الجاهلي - بطبيعة تركيبه العضوي - لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمع الجاهلي، ولتوطيد جاهليته! والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي، والتميع في تشكيلاته وأجهزته هم ناس لا يدركون الطبيعة العضوية للمجتمع. هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع، ولحساب منهجه وتصوره) [3].
الانحراف بدأ طفيفاً حتى وصل إلى مشروعية الزنا، والمشاركة في حكومة علاّوي!!!
الانحراف يبدأ طفيفاً في أول الطريق ثمَّ ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة، لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء! وهذا ما حصل مع أكبر الأحزاب الإسلامية حين ألغت عقوبة الزنا. {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].
* * *
البرلمان خدمة للطاغوت:
إن تميز المسلم بعقيدته في المجتمع الجاهلي، لا بد أن يتبعه حتما تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته وولائه.. وليس في ذلك اختيار.. إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي للمجتمعات.. هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساسا بالنسبة لدعوة الإسلام القائمة على قاعدة عبودية الناس لله وحده؛ وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسلطان. كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في المجتمع الجاهلي خادما للتجمع الجاهلي لا خادما لإسلامه كما يظن بعض الأغرار! أفلا يتدبرون قوله تعالى: { وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26].
أيها المسلمون:
يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، لا أن نحكم بما تراه الأغلبية! فأي تمييع أكبر من هذا لكلمة لا إله إلا الله. { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، وليس لنا إلا السمع والطاعة، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]؛ فكل من لم يحكم بما أنزل الله كافر فاسق ظالم، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
والحكم بما أنزل الله فرض واجب، {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]؛ فهل يجوز لك يا مسلم أن تُوَكِّلَ رئيساًً أو مجلس تشريع يحكم بغير ما أنزل الله؟ فهذا حرام ستُحاسب عنه أمام الله يوم القيامة، يقول تعالى: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]، فكيف نستبدل حكم خير الحاكمين وأحكمهم بحكم العبيد! {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12].
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، وليس للأكثرية البرلمانية!
أيها المسلمون: نلفت انتباهكم أنَّ هناك دراسة صدرت عن الجماعة الإسلامية بعنوان (البدعة الكبرى)، سيتم نشرها عمّا قريب بعون الله.
الواثِقُونَ بِنَصْرِ الله...
نشرة دعوية، تُصدرها الجماعة الإسلامية
__________
[1] فماذا يقول الشهيد لو علم أنّ بعض المسلمين قد قبل التعدد السياسي، وقبل التداول على السلطة! وأصبح همّه أن يكون حزباً سياسيا مُعترفاً به من قبل الجاهلية، بل ودخل بعضهم في الحكومة العراقية المؤقتة، أي حكومة علاّوي!!
[2] 1057-1058الظلال.
[3] 2092الظلال(/2)
( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا .. )
عبد العظيم محجوب فضل الله
وقفات مع قوله - تعالى -(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أل تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أوليائكم في الحياة الدنيا وفى الآخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نخن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفى الآخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون) سورة فصلت (30).
يقول - تعالى- (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) أي أخلصوا العمل لله وعملوا بطاعة الله - تعالى -على ما شرع لهم من الشرائع.
فقال أبوبكر الصديق رضي الله عنه : هم الذين لم يشركوا بالله شيئا.(ثم استقاموا) فلم يلتفتوا إلى إله غيره ولا إلى رب سواه.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) على شهادة أن لا إله إلا الله.
وتلا عمر - رضي الله عنه- هذه الآية على المنبر، ثم قال: استقاموا والله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب.
(قالوا ربنا الله ثم استقاموا) على أداء فرائضه وتعظيم شعائره من غير تهاون ولا تكاسل لأن هذه من صفات المنافقين الذين يخادعون الله وهو خادعهم.
ولننظر إلى بيوت الله لقد أضاع كثير من الناس الصلاة فيها إما جحودا أو استكبارا وهذا كفر بالله - تعالى -. وهنالك من توانى في أدائها يدخل الوقت في الوقت، ومنهم من يصلى في بيته، ويوم أن جاء الرجل الأعمى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: "بيتي بعيد من المسجد وبيني وبين المسجد وادي فيه هوام فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتسمع النداء؟ فقال له نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أجب فإني لا أجد لك رخصة".
ولقد هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحرق منازل الذين لا يأتون إلى صلاة الجماعة.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : "ولو صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المنافق لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم".
وكان الحسن يقول: (اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة).
(قالوا ربنا الله) قال أبو العالية: اخلصوا له الدين والعمل. وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال: "مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (قل آمنت بالله ثم استقم) قلت فما أتقى؟ أومأ إلى لسانه) أخرجه النسائي.
أحبتي في الله ما هو المطلوب في حق الفرد المسلم أو ما هو الواجب على الفرد المسلم؟ إن الفرد مطالب أو ملزم بالاستقامة في نفسه والعمل بكتاب ربه وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنك ما خلقت إلا لله، وأنت الفقير إلى الله فلا تنفعه طاعتك ولا تضره معصيتك فالكل لك وعليك أيها الإنسان، فأن عملت خيرا فزت ونجوت من قبضة الله وان عملت شرا خسرت الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين. فالفرد مطالب أن يقيم الدين في نفسه بعيدا عن العصبية الهوجاء والتشدق والتنطع بدين الله، والمجاملة بشرع الله. وهذا مفهوم شامل للاستقامة التي أمر بها الله - تعالى -.
ولكن وجود الفرد المسلم مع أهل الخير والصلاح، وأهل الطاعة والفلاح، وأهل المسجد والقرآن فهذا أمر عظيم وعون كريم للإنسان فإذا نسى ذكروه، وإذا جهل شيئا علموه، قال - تعالى -: (تتنزل عليهم الملائكة) عند الموت قائلين لهم (ألا تخافوا) أي مما تقدمون عليه من أمر الآخرة (ولا تحزنوا) مما خلفتموه من أمر الدنيا من أهل ومال أو دين فان نخلفكم فيه (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير وهذه لحظات عظيمة لحظات حاسمة، لحظات قاضية، لحظات فاصلة عاشها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو عمرو ابن العاص - رضي الله عنه - يصفها يوم أن حلت به سكرة الموت فقال"فكأن على كتفي جبل ربوة وكأن في جوفي شوكة عوتج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنل بينها".
فلا خلاص للإنسان ولا منجى له إلا بالاستقامة على دين الله، فنسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من المستقيمين على شرعه وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
http://marsd.net المصدر :(/1)
إن العزة لله*
أ.د ناصر العمر
الحمد لله وبعد.. فإن العزة التي أتحدث عنها من عَزَّ: بفتح العين المهملة، من القوة و الرفعة والامتناع، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: هل تدرين لم كان قومك رفعوا باب الكعبة، قالت: لا. قال: تعززاً أن لا يدخلها إلا من أرادوا.
والعزة التي لا ذل معها لله _عز وجل_ (جميعاً) فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها في افتقار وتذلل وسكون وخضوع وجدها عنده _عز وجل_، غير ممنوعة ولا محجوبة عنه.
ومن طلبها من غير الله وكله الله إلى من طلبها عنده، فقال _عز وجل_: "الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا".
فمن أراد العزة فعليه أن يطلبها ممن له العزة جميعاً، وقبل ذلك عليه معرفة صاحبها ومعطيها وواهبها وما هي شروط إعطائها، وقد جاءت الآيات تبين هذا:
" أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا".
"وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ".
"مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا".
-فالمسلم يستمد العزة من قوة ربه ودينه والحق الذي يحمله. وكل صاحب دين يعبد إلهه ليستمد منه العزة كما قال الله: "واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا" أي ليكونوا لهم أعوانا أو ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة، وهؤلاء أخبر الله أن عزتهم زائفة ثم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً "كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً"، وقال: "إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار ومالكم من ناصرين"، وقال عن بعض الظالمين: "احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ* بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُون". مستسلمون مع أنهم كانوا بالأمس يعتزون بآلهتم سواءً أكانت أصناماً تعبد، أو آراء وأهواء تؤله سموها حريات وقوانين ونحو ذلك.
وأخبر عن شأن آخر أثيم فقال: " ذق إنك أنت العزيز الكريم".
-أما المسلم فإنه يدين لله ومعه الله الذي "يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير"، وكتابه القرآن الذي قال الله فيه: "وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون" قال أهل التفسير ذكر لك: شرف لك، وأما نبيه فمحمد _عليه الصلاة والسلام_ سيد ولد آدم وخير من تنشق عنه الأرض:
ومما زادني شرفاً وتيها
دخولي تحت قولك يا عبادي ... ... ًوكدت بأخمصي أطأ iiالثريا
وأن صيرت أحمد لي iiنبيا
-ولعلو المسلم بدينه عن غيره ناسب أن يكون عزيزاً على الكافر خافضاً جناحه ومتواضعاً لمن كان مثله ولهذا قال الله_تعالى_: "ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أعزة على الكافرين أذلة للمؤمنين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم".
-قد يغيب على الكافر هذا المفهوم فينظر إلى بعض الأسباب المادية ولكن لا ينبغي لأهل الإيمان أن يغيب عنهم مفهوم العزة الحقيقي بل عليهم أن يبينوا للناس معنى العزة الحقيقي وأين يجدونها، ولهذا لما تقرر مفهوم خاطئ عند قوم شعيب وهو أن العزة إنما تكون بما لدى الشخص أو قومه من قوة وأسباب دنيوية فقط، صحح لهم نبيهم –عليه السلام-هذا المفهوم وأرشدهم إلى مصدر العزة الحقيقي، قال الملأ كما أخبر الله _عز وجل_ عنهم: "قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ"، فهم يرون أنه في نفسه غير عزيز، ويرون أن الذي يعززه ويمنعه هم قومه، فقال لهم: " يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ".
-ولهذا لما قال كبير المنافقين: " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" قال الله معقباً: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون" فالعزة لله وبالله "سبحان ربك رب العزة عما يصفون". فمن أراد العزة فليلتمسها من ربها، قال _تعالى_: "من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً"، وقد ذم الله من داهن أهل الكفر ومالأهم أو والاهم من أجل تحصيل العزة، فقال: "الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً".(/1)
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
يقول الله تعالى : " .. إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم وإذا أراد الله بقومٍ سوءً فلا مرد له ومالهم من دونه من والٍ"
إن لله تعالى سنناً لاتتغير وقوانين لاتتبدل : سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً . وهذه سنة وقاعدة اجتماعية سنها الله تعالى ليسير عليها الكون وتنتظم عليها أسس البنيان: إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم : أي أن الله تبارك وتعالى إذا أنعم على قوم بالأمن والعزة والرزق والتمكين في الأرض فإنه سبحانه وتعالى لايزيل نعمه عنهم ولايسلبهم إياها إلا إذا بدلوا أحوالهم وكفروا بأنعم الله ونقضوا عهده وارتكبوا ماحرم عليهم. هذا عهد الله ومن أوفى بعهده من الله ؟ فإذا فعلوا ذلك لم يكن لهم عند الله عهد ولا ميثاق فجرت عليهم سنة الله التي لاتتغير ولاتتبدل فإذا بالأمن يتحول إلى خوف والغنى يتبدل إلى فقر والعزة تؤل إلى ذلةٍ والتمكين إلى هوان.
أيها الأخ الكريم إن المتأمل اليوم في حال أمة الإسلام وماأصابها من الضعف والهوان وماسلط عليها من الذل والصغار على أيدي أعدائها بعد أن كانت بالأمس أمة مهيبة الجناح مصونة الذمار ليرى بعين الحقيقة السبب في ذلك كله رؤيا العين للشمس في رابعة النهار . يرى أمةً أسرفت على نفسها كثيراً وتمادت في طغيانها أمداً بعيداً واغترت بحلم الله وعفوه وحسبت أن ذلك من رضى الله عنها ونسيت أن الله يمهل ولايهمل ، وما الأمة إلا مجموعة أفراد من ضمنهم أنا وأنت . تجول أخي الحبيب في ديار الإسلام (إلا من رحم الله) واخبرني ماذا بقي من المحرمات لم يرتكب وماذا بقي من الفواحش لم يذاع ويعلن ، الربا صروحه في كل مكان قد شيدت وحصنت حرباً على الله ورسوله، والزنا بيوته قد أعلنت وتزينت في كل شارع وناصية، والسفور قد حل محل الستر والخنا قد حل محل الطهر والعفاف. والخمر ( أم الخبائث) صارت لها مصانع ومتاجر. المعروف أصبح منكراً والمنكر غدا معروفاً. أرتفع الغناء (صوت الشيطان) ووضع القرآن (كلام الرحمن). حكمٌ بغير ماأنزل الله وقوانين ماأنزل الله بها من سلطان. وقبل ذلك كله تخلينا عن الجهاد وركنا إلى الدنيا وتبايعنا بالعينة وتتبعنا أذناب البقر ، أفبعد هذا نرجوا نصر الله وعزته وتمكينه ؟ أبعد هذا نتساءل لماذا حل بنا هذا الهوان ؟ أفبعد هذا نستغرب ماأصابنا من الذل على أيدي أعدائنا من شرار الخلق من اليهود والنصارى والهندوس والبوذيين وغيرهم ؟ نعم والله إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم .. إننا لن نخرج ممانحن فيه من الذل والصغار ولن ننال العزة والكرامة إلا إذا عدنا إلى ديننا وتمسكنا بإسلامنا فكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
أخي الكريم : إن الأمة لن تتغير إلا إذا تغير أفرادها ‘ إلا إذا غيرت أنا وأنت وهو وهي ، إذا غيرنا أسلوب حياتنا بما يوافق شرع الله وقلنا لربنا سمعاً وطاعة واتبعنا هدي نبينا عليه الصلاة والسلام : وماآتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا. عندها نصبح أفراداً وأمة أهلاً لموعود الله بإن يغير الله ذلنا إلى عزة وضعفنا إلى قوة وهواننا إلى تمكين. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يردنا جميعاً إلى دينه مرداً حسناً وأن يلهمنا رشدنا ويفقهنا في ديننا ويرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه وأن يمكن لأمة الإسلام ويعيد لها عزتها ومكانتها وأن ينصرها على أعدائها إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإلى اللقاء في وقفة قادمة مع آية اخرى من كتاب الله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركات
================
إن الله لا يغير ما بقوم حتى ..
أبو أنس
يقول الله تعالى: ?.. إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم وإذا أراد الله بقومٍ سوءً فلا مرد له ومالهم من دونه من والٍ ?[ الرعد:11]
إن لله تعالى سنناً لاتتغير وقوانين لا تتبدل: سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وهذه سنة وقاعدة اجتماعية سنها الله تعالى ليسيرعليها الكون وتنتظم عليها أسس البنيان: إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم: أي أن الله تبارك وتعالى إذا أنعم على قوم بالأمن والعزة والرزق والتمكين في الأرض فإنه سبحانه وتعالى لايزيل نعمه عنهم ولايسلبهم إياها إلا إذا بدلوا أحوالهم وكفروا بأنعم الله ونقضوا عهده وارتكبوا ماحرم عليهم. هذا عهد الله ومن أوفى بعهده من الله ؟ فإذا فعلوا ذلك لم يكن لهم عند الله عهد ولا ميثاق فجرت عليهم سنة الله التي لاتتغير ولا تتبدل فإذا بالأمن يتحول إلى خوف والغنى يتبدل إلى فقر والعزة تؤل إلى ذلةٍ والتمكين إلى هوان.(/1)
أيها الأخ الكريم إن المتأمل اليوم في حال أمة الإسلام وماأصابها من الضعف والهوان وماسلط عليها من الذل والصغار على أيدي أعدائها، بعد أن كانت بالأمس أمة مهيبة الجناح مصونة الذمار ليرى بعين الحقيقة السبب في ذلك كله رؤيا العين للشمس في رابعة النهار، يرى أمةً أسرفت على نفسها كثيراً وتمادت في طغيانها أمداً بعيداً واغترت بحلم الله وعفوه وحسبت أن ذلك من رضى الله عنها ونسيت أن الله يمهل ولايهمل، وما الأمة إلا مجموعة أفراد من ضمنهم أنا وأنت. تجول أخي الحبيب في ديار الإسلام (إلا من رحم الله) وأخبرني ماذا بقي من المحرمات لم يرتكب وماذا بقي من الفواحش لم يذاع ويعلن، الربا صروحه في كل مكان قد شيدت وحصنت حرباً على الله ورسوله، والزنا بيوته قد أعلنت وتزينت في كل شارع وناصية، والسفور قد حل محل الستر والخنا قد حل محل الطهر والعفاف. والخمر ( أم الخبائث) صارت لها مصانع ومتاجر. المعروف أصبح منكراً والمنكر غدا معروفاً. ارتفع الغناء (صوت الشيطان) ووضع القرآن (كلام الرحمن). حكمٌ بغير ما أنزل الله وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان. وقبل ذلك كله تخلينا عن الجهاد وركنا إلى الدنيا وتبايعنا بالعينة وتتبعنا أذناب البقر، أفبعد هذا نرجوا نصر الله وعزته وتمكينه ؟ أبعد هذا نتساءل لماذا حل بنا هذا الهوان ؟ أفبعد هذا نستغرب ماأصابنا من الذل على أيدي أعدائنا من شرار الخلق من اليهود والنصارى والهندوس والبوذيين وغيرهم؟ نعم والله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .. إننا لن نخرج ممانحن فيه من الذل والصغار، ولن ننال العزة والكرامة إلا إذا عدنا إلى ديننا وتمسكنا بإسلامنا فكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
أخي الكريم : إن الأمة لن تتغير إلا إذا تغير أفرادها، إلا إذا غيرت أنا وأنت وهو وهي ، إذا غيرنا أسلوب حياتنا بما يوافق شرع الله وقلنا لربنا سمعاً وطاعة واتبعنا هدي نبينا عليه الصلاة والسلام: وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا. عندها نصبح أفراداً وأمة أهلاً لموعود الله بإن يغير الله ذلنا إلى عزة وضعفنا إلى قوة وهواننا إلى تمكين. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يردنا جميعاً إلى دينه مرداً حسناً وأن يلهمنا رشدنا ويفقهنا في ديننا ويرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه وأن يمكن لأمة الإسلام ويعيد لها عزتها ومكانتها وأن ينصرها على أعدائها إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
===========
إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم
كما أن السنن الكونية لا تتغير ولا تتبدل إلا عندما يأذن الله بخراب الدنيا في آخر المطاف، فتختل السنن الكونية، وتتغير الموازين الكلية، وتتبدل النواميس الأرضية، فيكون اليوم من أيام المسيح الدجال الأربعين، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، أي أسبوع، وباقي أيامه كسائر أيامنا، ثم تخرج الشمس من غير مخرجها المعتاد، تخرج من المغرب.
فكذلك الأمر بالنسبة للسنن الشرعية، والثوابت القطعية، والمسائل الكلية، فإنها لا ينبغي لها أن تتغير أوتتبدل عما كانت عليه في عهد الإسلام الأول، وإلا حل الخراب والدمار، وفسد الحال، ولا مجال للإصلاح إلا بالرجوع إلى الأمر الأول: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
حيث لا يمكن أن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقد صلح أول هذه الأمة بالاعتصام بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف الصالح، وبعدم التنازل عن الثوابت.
لذلك فإن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، الذين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، ولا يميزون بين سنة وبدعة، وحلال وحرام.
فمهما قل تمسك الناس بالدين، والتزامهم بسنة سيد المرسلين، إلا وأثر ذلك على حياتهم ومعاشهم: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس"، "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمَرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً"، فكما تدين الأمة تدان، فتخلي الناس عن الدين، وتهاونهم بسنة نبيهم الكريم، نذير شؤم وعلامة خطر عليهم، وكذلك قيام طائفةمن هذه الأمة بالأمر والنهي، والجهاد للدفاع عن الدين، ولصد المعتدين، من أوجب الواجبات، حيث يرفع الإثم عن الأمة، ويحد من غضب رب العالمين.(/2)
أقول ذلك بمناسبة الفرق الشاسع والبون الواسع بيننا وبين سلفنا في كل شيء، إذ لا مجال للمقارنة، علماً بأن الجميع مكلفون، والكل سواسية في نظر الشرع، ولنضرب لذلك مثلاً واحداً لبعض المستضعفين الغرباء، وهم مهاجرة الحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم، في ثباتهم على دينهم، وعدم تنازلهم عنه، ولو أدى ذلك إلى هلاكهم، وبين استكانة المسلمين اليوم حكاماً، وعلماء، ودعاة، وعامة، وتنازلهم عن أصول دينهم وثوابتهم، بما أدهش الكافرين أنفسهم، وزاد من جرأتهم على غزو ديار الإسلام، وإهانة أبنائه، وشيوخه، ونسائه، وما حدث ويحدث في فلسطين، والعراق، وأفغانستان ليس ببعيد عنا، ولا أنسى أن أذكر بثالثة الأثافي، وهو ما حدث ويحدث في سجن أبي غريب بالعراق، حيث أهينت وخدشت العفة، وانتهكت الأعراض، ومارس فيها الأمريكان والبريطان ما يستحي منه بعض الحيوان.
أخرج أحمد1 وغيره بسند قوي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ثمانين رجلاً: أنا، وجعفر، وأبوموسى، وعبد الله بن عُرْفطة، وعثمان بن مظعون؛ وبعثت قريش عمرو بن العاص وعُمارة بن الوليد بهدية، فقدما على النجاشي، فلما دخلا سجدا له وابتدراه، فقعد واحد عن يمينه، والآخر عن شماله، فقالا: إن نفراً من قومنا نزلوا بأرضك، فرغبوا عن ملتنا؛ قال: وأين هم؟ قالوا: بأرضك؛ فأرسل في طلبهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم؛ فاتبعوه، فدخل فسلم، فقالوا: مالك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله؛ قالوا: ولِمَ ذلك؟ قال: إن الله أرسل فينا رسولاً، وأمرنا أن لا نسجد إلا لله، وأمرنا بالصلاة والزكاة؛ فقال عمرو: إنهم يخالفونك في ابن مريم وأمه؛ قال: ما تقولون في ابن مريم وأمه؟ قال جعفر: نقول كما قال الله: روح الله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر؛ فرفع النجاشي عوداً من الأرض، وقال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان! ما تريدون، ما يسوءني هذا! أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته، فأكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضئه.
وقال: انزلوا حيث شئتم؛ وأمر بهدية الآخر فرُدَّت عليهم".
والله يحتار الإنسان أيعجب من موقف جعفر وأصحابه وثباتهم على الحق وعلى عدم التنازل، أم من صدق النجاشي وشجاعته؟!
وبضدها تتميز الأشياء، وتستبين المواقف والآراء، ويتضح الحق بجلاء، مقابل هذا الثبات، وتلك التضحيات من السلف الكرام، نجد الاستكانة، والتنازلات، والمسارعة بخطب ود من نهانا الله عن موالاتهم والتشبه بهم، واتخاذهم حلفاء وأصدقاء.
يتمثل ذلك في أقبح صوره في الآتي:
1. الدعوة إلى توحيد الأديان أوالتقارب بينها.
2. الدعوة إلى التعايش السلمي مع الكفار من اليهود والنصارى.
3. محاولة البعض نفي الكفر عن اليهود والنصارى.
4. التجسس لصالح الكفار.
5. العمل في المنظمات الدولية التي يهيمن عليها الكفار.
6. الحكم نيابة عنهم في البلاد التي استعمروها، كما هو الحال في العراق وأفغانستان.
7. تطبيع العلاقات مع الكفار المحاربين، لاسيما الدولة الصهيونية.
8. القتال تحت رايتهم.
9. الاستعانة بهم في القتال.
واللهَ أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومن والاهم بإحسان
==============
في آية التغيير: تغيير الله وتغيير القوم
من كتاب ((حتى يغيروا ما بأنفسهم))
تغييران
وينبغي أن لا تفوتنا هذه الملاحظة. لأن نص الآية، على حسب قواعد الإعراب، أن فاعل التغيير الأول، المذكور في الآية، هو الله سبحانه وتعالى، وفاعل التغيير الثاني، هم القوم، أو المجتمع، وإن كانت القدرة التغييرية الثانية، هي هبة من الله تعالى للقوم وإقدار منه تعالى للمجتمع على ذلك. وعلينا أن لا ننسى هذا التوزيع في العملية التغييرية، لأنه كثيراً ما يغيب عنَّا ما يخص الإنسان من التغيير، ويختلط علينا الأمر، وهذا الغموض، يفقد الإنسان ميزته وإيجابيته في عملية التغيير.
وإن أي ظن، أو طمع، في أن يحدث الله هذا التغيير الذي جعله من خصوصياته – إلا وهو الجانب الذي يتعلق بما بالقوم وليس بما بالنفس –قبل أن يكون القوم هم بأنفسهم قاموا بتغيير ما بأنفسهم.
إن هذا الظن، والإغفال لهذه السنة الدقيقة المحكمة، يبطل النتائج المترتبة على سنة هذه الآية.
في الآية ترتيب بين حدوث التغييرين
والتغيير الذي ينبغي أن يحدث أولاً، هو التغيير الذي جعله الله مهمة القوم وواجبهم، بأقدار الله تعالى لهم على ذلك. وإن حدوث أي تهاون في الخلط بين التغييرين، وإدخال التغيير الذي يحدثه الله بالتغيير الذي يقوم به القوم، أو العكس، يفقد الآية فعاليتها، وتضيع فائدة السنة الموجودة فيها.(/3)
والرجاء، بأن يحدث الله التغيير الذي يخصه، قبل أن يقوم القوم (المجتمع) بالتغيير الذي خصَّهم الله به، يكون – هذا النظر – مخالفاً لنص الآية، وبالتالي إبطالاً لمكانة الإنسان، وأمانته، ومسؤوليته، ولما منحه الله من مقام الخلافة على أرضه. لأن هذا التحديد في مجالات التغيير، وهذا الترتيب فيما ينبغي أن يحصل أولاً، وما يحدث تالياً، هو الذي يضع البشر أمام مسؤولية حوادث التاريخ. ومن هذه النافذة، يمكن إبصار أثر البشر، في أحداث التاريخ ومسؤوليتهم إزاءها.
وعلينا أن نؤكد هذه القواعد دون كلل أو ملل، لأن عدم الانتباه إليها فاشٍ بين الناس، والذين ينتبهون إليها،لا يعطونها قدرها، فلابد من تذكرها دائماً وإعطائها قدرها، حتى يرتفع هذا الإدراك ويبلغ المستوى الذي لا يسمح بمرور الأفكار والكلمات، التي تعودنا أن نسمعها أو نتحدث بها، إزاء تفسير أحداث التاريخ، برؤية الجانب الذي يحدثه الله، دون إدراك علاقته بالجانب الذي يخص القوم وأوليته أيضاً كما سنبينه فيما بعد.
وعلينا أن نوقف هذا التيار – الذي يعم مختلف طبقات المجتمع، في التفسير المتناقض لأحداث التاريخ – التيار الذي تّبْطُل معه مسؤولية البشر، أو يجعلها غير بارزة، أو يجعلها مستورة، بينما يبرز الجانب الذي يخص الله:
« وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ». النحل – 33.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
مجال كل من التغييرين تغيير الله وتغيير القوم
إن مجال التغيير الذي يحدثه الله، هو ما بالقوم، والتغيير الذي أسنده الله إلى القوم،مجاله ما بأنفس القوم.
« ما بقوم » يشمل الكثير، ويشمل أول ما يشمل ما يمكن أن يلاحظ ويرى من أوصاف المجتمع ؛ من الغنى والفقر، والعزة والذلة، والصحة والسقم. وينبغي أن نتذكر هنا، أن القصد ليس الفرد، كل فرد بذاته، وإنما المجتمع العام. وأن التغيير الذي يحدثه الله من الصحة والسقم، والغنى والفقر، والعزة والذلة، إنما يعود إلى القوم بمجموعهم لا إلى فرد محدد. إذ يحدث أن يغني القوم، ولكن ليس معنى هذا أن لا يبقى فيهم فقير. كما يحدث أن يفقر المجتمع، وليس معناه أيضاً أن لا يبقى فيهم شخص غني. وكذلك الأمر بالنسبة للصحة والسقم، قد يصيب القوم السقم، ولكن لا يشترط أن يصاب كل منهم بسقم، كما قد يصيب القوم الصحة ولكن لا يشترط أن لا يبقى فيهم سقيم. ونؤكد مرة أخرى ما سبق أن بيناه، من أن السنَّة التي في الآية ليست فردية، وإنما اجتماعية، وهذا يقتضي منَّا: أن تكون لدينا القدرة على النظر إلى المجتمع (القوم) ككائن واحد بمجموعه وهذه نظرة قرآنية بكل معنى الكلمة حيث يقول الله تعالى:
« لكل أمَّة أجل » الأعراف – 34 -، وقال: « ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون » - 43 – المؤمنون.
فهذا الأجل هنا ليس أجل الفرد وإنما هو أجل الأمة، لأن للامة وللمجتمع كياناً يكون حياً به وعلى أساسه يأتيه الأجل، ولا يشترط أن يكون أفراده ماتوا، ولكن الكيان الذي كان للامة مات وذهب، كمجتمع الفراعنة، ذهب ولم تبق له باقية، لا بهلاك أفراده وإنما بذهاب كيانه. وهذا ما جعل محمد إقبال يقول في أن أجل الأمة الإسلامية إلى قيام الساعة:
أمَّة الإسلام تأبى الأجَلا أصلُها الميثاق في قالوا بلى
إشارة إلى قوله تعالى: « ألست بربكم قالوا بلى » الأعراف – 172.
فالنظر إلى المجتمع كفرد، سهل لنا فهم التغيير الذي يحدث فيه.
مثلاً: يمكن النظر إلى المجتمع على أساس الصحة والسقم، باعتبار عدد الأصحاء في المجتمع، فإذا كان نسبة الذين يتمتعون بصحة كاملة هي 50% من المجتمع، فإن هذا المجتمع أقل نعمة من المجتمع الذي نسبة الأصحاء فيه تبلغ 90% من أفراده. كما أنه لا شك أن مصلحة الفرد أن يعيش في مجتمع 90% من أهله أصحاء بدلاً من أن يعيش في مجتمع 50% منه فقط الذين يتمتعون بصحة جيدة وكاملة.
علينا أن لا ننسى هذا سنَّة دنيوية، لا سنَّة أخروية. وكذلك الأمر بالنسبة للغنى والفقر.
هذا ويمكن أن يفصل في هذا الموضوع بأدق وأكثر مما ذكر الآن.
وعلينا أن نعود إلى مجال هذا التغيير، الذي يحدثه الله بما بالقوم. كما أن مما يدل على صحة هذا التفسير الذي سقناه لمعنى « ما بقوم » في قوله تعالى:
« إن الله لا يغير ما بقوم.. »
إنه يشمل الغنى والفقر، والصحة والسقم، والعزة والذلة – ما ورد في سورة الأنفال من استبدال كلمة « ما » في سورة الرعد بكلمة « نِعْمَة » حيث قال:
« ذلك بأن الله لم يك مُغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » الأنفال – 53 -.
إذ أن كلمة نعمة أخص من كلمة « ما » لأن كلمة « ما » تشمل النعمة والنقمة، كما أن كلمة النعمة عامة أيضاً في جميع أنواع النعم ولاسيما وأنها جاءت نكرة.(/4)
فكلمة « نعمة » تشمل الصحة، وهي من أكبر النعم ويقول صلى الله عليه وسلم في ذلك: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، والرزق نعمة وكذلك الغنى، وسلامة الأعضاء، ونجابة الأولاد، ونظافة المساكن، والمودة والحب والإخاء.
« فأصبحتم بنعمته إخواناً » آل عمران – 103.
والتراحم والإيثار، واللين والشدة، كل في مكانها، « فبما رحمة من الله لنت لهم » آل عمران 159، « وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » إبراهيم 34.
كل هذه النعم ما ذكر منها وما لم يذكر، وما يقابلها من النقم: متضمنة في قوله تعالى:
« إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » الرعد – 11 -.
هذه هي التغييرات التي يحدثها الله تعالى بالأقوام.
وأما التغييرات التي يحدثها الأقوام، فإن الله تعالى علَّقها بما بالأنفس. فما هذا الذي بالأنفس وهل للبشر قُدرةٌ على تغييره بما مكنهم الله فيه؟
إن المراد بما بالأنفس: الأفكار، والمفاهيم، والظنون، في مجالي الشعور واللاشعور. وملاحظة الارتباط بين التغييرين، وتمكُّن الإنسان من استخدام سنن التغيير، يعطي للإنسان سيطرة على سنَّة التاريخ، وسيطرة على صنعه وتوجيهه.
وفي الواقع إن ابن خلدون لمح هذا الجانب ببصيرة نفَّاذة، وأدرك أنه لمح شيئاً خطيراً لم يُسبق إليه في إقامة لبرهان، وإن سُبق إليه في ذكر العنوان. وابن خلدون هو فلتة من فلتات الزمان، كما يقال عادة، حين تخفى عوامل السنن في الأحداث، إذ ألقى ضوءاً كبيراً في هذا المجال. ولكن المشكلة أنه كما لم يسبقه أحد، كذلك لم يتبعه أحد من بعده أيضاً في العالم الإسلامي، إذ أنَّ هذا المنهج قد بدأ به ابن خلدون، ثم توقف من بعده.
ومما يلاحظ على ابن خلدون أنه كشف السنَّة كشيء حتمي لا كسنَّة يمكن السيطرة عليها. ومع ذلك فإن الجانب الذي اعتنى به ابن خلدون ؛ هو الذي يمكن الإنسان من لجام الزمان آخر الأمر.
ولخطورة ما اهتدى إليه ابن خلدون، استحق أن يقول عنه أشهر مؤرخي العصر، والذي يمسك بزمام فلسفة التاريخ الآن، وهو توينبي قال عن المقدمة: « إنه أعظم عمل من نوعه أمكن أن يبتكره عقل من العقول، في أي عصر من العصور، في أي رَجَاً من أرجاء الأرض »(1).
ويعتبر محمد إقبال: « تصور الوجود حركة مستمرة في الزمان ». ] هذه الفكرة هي أبرز ما نجده في نظر ابن خلدون إلى التاريخ، مما يسوغ ما أضفاه عليه (فلنت) من مدح وثناء إذ يقول: « إن أفلاطون وأرسطو وأوجستين ليسوا نظراء لابن خلدون، وكل من عداهم غير جديرين بأن يذكروا إلى جانبه » [(2).
ونحن سنذكر شيئاً مما قاله ابن خلدون عن تفسير ما بالقوم وتحديده، ثم بعد ذلك نشير إلى ضرورة الاطلاع على ما وراء تلك التغييرات، التي تلحق الأقوام مما سميناه نحن التغيير الخاص بالله تعالى.
يقول ابن خلدون: (… ولم أترك شيئاً في أوليَّة الأجيال والدول، وأسباب التصرف والحَوْل، وما يعرض في العمران من دولة وملَّة، ومدينةٍ وحَلَّة، وعِزَّةٍ وذِلَّة، وكثرة وقِلَّة، وعلم وصناعة، وبَدْو وحَضر، وواقع ومنتظر، إلا واستوعبت جُمَلَهُ، وأوضحت براهينه وعِلَلَهُ، فجاء هذا الكتاب فذاً بما ضَمَّنْتُهُ من العلوم الغربية، والحكم المحْجُوْبَةِ القريبة، وأنا من بعدها مُوقنٌ بالقُصُور بين أهل العصور معترف بالعجز، راغب من أهل اليد البيضاء … النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والاعترافُ من اللوم مًنْجاة والحُسنى من الأخوان مرتجاة)(1).
وابن خلدون له من التطلع إلى ما وراء الأحداث من أسباب، سواء كانت هذه الأحداث دولاً ومللاً، وعزَّة وذلة، وكثرة وقلة. فإن ما يذكره ابن خلدون هو هذه الأشياء الظاهرة مما بالقوم، من غنى وفقر، وصحة وسقم، وعزة وذلة.
فهذه الأشياء هي التغيير الذي يحدثه الله في نص الآية. وابن خلدون صار له من التطلع إلى مبررات ومسببات هذه النعم والنقم، لما بالأقوام والدول والملل، ما دعاه إلى أن يُعمل فكره فوصل إلى ما وصل إليه وهو يقول في ذلك:
« فإن التاريخ في ظاهره، لا يزيد على أخبار من الأيام والدول … وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق … وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق ».(/5)
فهذا الذي يسميه ابن خلدون باطن التاريخ ؛ هو الذي سميناه القسم الخاص بالأقوام، في تغيير ما بالأنفس مما أقدرهم الله عليه، وعلى أساسه حملهم أمانته. وابن خلدون يربط التغيير الأول بالتغيير الثاني، ولكن بعد هذا لم يلح على كيفية قيام البشر بهذا الواجب. ولا حرج عليه فهو يدرك أهمية ما كشف ويشعر بإمكان زيادته. وفي الواقع إن القارئ العادي قد لا يعطي لابن خلدون قيمته الحقيقية، لأن الذي يعرف الفضل من الناس ذووه، فإن من عرف وتمرس على معرفة (كيف بدأ الخلق)، هو الذي يقدر ما فعل ابن خلدون. أما من لا يعرف كيف وجدت العلوم، ولا كيف تقدمت، ويظن أن الأمر وجد هكذا، فهذا لا يمكنه أن يقدر عمل ابن خلدون، وقد كان ابن خلدون يعرف طبيعة عمله حين قال عن كتابه: لإنه ضمنه علوماً غريبة، وحكماً محجوبة قريبة، فهذه المحجوبة القريبة هي التي تخفى على الناس، ولهذا قال ابن خلدون، في عبقرية نفاذة، عن المؤرخين واستيعابهم للأخبار وجمعهم لها: « … وأدَّوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها فالتحقيق قليل، والتقليد في الآدميين عريق وسليل، والتطفل على الفنون عريض وطويل … فللعُمران طبائع في أحواله، ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الروايات والآثار … ثم إذا تعرضوا لذكر الدولة نسَّقوا أخبارها مسبقاً … لا يعترضون لبدايتها، ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها، ولا علَّة الوقوف عند غايتها، فيبقى الناظر متطلعاً بعد إلى اقتفاء أحوال مبادئ الدول ومراتبها، مفتشاً عن المقنع في تباينها أو تناسبها » ص11.
إن عدم إدراك مشكلة العالم الإسلامي بهذا المستوى، هو الذي يجعل شباب العالم الإسلامي متطلعاً إلى افتقاد أحوال مبادئ المشكلة.
إن ابن خلدون جعل محور بحثه عن الدول، ولكن إدراك الموضوع على أساس الحضارة، ينطبق عليه نفس النظر. وهذا ما يحتاج إليه العالم الإسلامي لبحثه كثقافة حضارة لا كدولة، إذ الدولة جزء من الحضارة ونتاج لها.
وما أحوج العالم الإسلامي والعالم كله، إلى بذل ما يستحقه البحث في أصول الحضارة في هذا العصر، كما فعل ابن خلدون، مع اختلاف المستوى، ولكن الروح التي بدأ بها ابن خلدون بحثه، هي التي تجعل كل من ينظر إليه لا يتمالك من الإعجاب مع قصور كثير من أمثلته ومباحثه قال:
(ولما طالعت كتب القوم، وسبرت غَوْرَ الأمس واليوم، نبَّهتُ عَيْنَ القريحة من سنة الغَفْلةِ والنوم.. فأنشأتُ في التاريخ كتاباً، ورفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حِجَاباً، وفَصَّلتُهُ في الأخبار والاعتبار باباً باباً، وأبديتُ فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسباباً، فذهبت مناحيه تهذيباً، وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريباً، واخترعته من بين المناحي مذهباً عجيباً، وطريقة مُبْتَدَعَةً وأسلوباً، وشرحت فيه من أحوال العُمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني عن العوارض الذاتية ما يُمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويُعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها، حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال من قَبلكَ من الأيام والأجيال وما بعدك). ص 11.
=================
فائدة إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
من الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بهاعليه واختارها له. فيملها العبد ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خير له منها، وربه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة، وبعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذرعا بتلك النعمة وسخطها وتبرم بها واستحكم ملله لها سلبه الله إياها. فإذا انتقل إلى ما طلبه ورأى التفاوت بين ما كان فيه وما صار إليه، اشتد قلقه وندمه وطلب العودة إلى ما كان فيه، فإذا أراد الله بعبده خيرا ورشدا أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ورضاه به وأوزعه شكره عليه، فإذا حدثته نفسه بالانتقال عنه استخار ربه استخارة جاهل بمصلحته عاجز عنها، مفوض إلى الله طالب منه حسن اختياره له.
وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله. فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها، بل يسخطها ويشكوها ويعدها مصيبة. هذا وهي من أعظم نعم الله عليه، فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم ولا يشعرون بفتح الله عليهم نعمه، وهم مجتهدون في دفعها وردها جهلا وظلماً. فكم سعت إلى أحدهم من نعمة وهو ساع في ردها بجهده، وكم وصلت إليه وهو ساع في دفعها وزوالها بظلمه وجهله، قال تعالى : {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [1] وقال تعالى : {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [2]، فليس للنعم أعدى من نفس العبد، فهو مع عدوه ظهير على نفسه. فعدوه يطرح النار في نعمه وهو ينفخ فيها، فهو الذي مكنه من طرح النار ثم أعانه بالنفخ، فإذا اشتد ضرامها استغاث من الحريق وكان غايته معاتبة الأقدار :
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا. ... وعاجز الرأي مضياع لفرصته
___________________(/6)
[1]سورة الأنفال، الآية 53.
[2]الرعد: 11.
==================(/7)
إن تنصروا الله ينصركم
لقد تداعت الأمم علينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، ولم يكن ذلك لقلة عدد أو عتاد، فنحن مليار ومائتا مليون نسمة، وأموالنا بالمليارات في البنوك ينتفع بها أعداء الإسلام والمسلمين، صرنا غثاء كغثاء السيل، ودب إلينا الوهن، حب الدنيا وكراهية الموت، مما تسبب في نزع المهابة من قلوب أعدائنا وأورثنا الوهن، بل من المفارقات العجيبة أن نصير حرباً على الإسلام وأهله، تركنا ديننا وراءنا ظهرياً، وحدثت الموالاة مع أعداء الإسلام والمسلمين وطمسنا الشرائع والشعائر وتقدم الملاحدة والزنادقة الصفوف.
ومهدنا الطريق لكل انحطاط وفجور، واعتبرنا ذلك هو الطريق للتطور والتحضر والتنوير واللحاق بركاب العصر؛ فكان نصيبنا الذلة والمهانة، وهان أمرنا على عدو الله وعدونا، حتى صرنا إلى حال تبلد فيه الحس والشعور، وغابت فيه معاني الإيمان وصارت الخيانة لدين الله ولعباد الله وسام استحقاق وسلم الوصول لقيادة البلاد والعباد.
ضاعت معالم النصر والعزة والتمكين التي ورثناها عن خير سلف، وكنا يوماً خير أمة أخرجت للناس بإيماننا بالله وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر وبتمسكنا بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرنا في ذيل الأمم.
ولم يكن هذا إلا لعيوب فينا، هي كالتالي:
* عيوب على مستوى الفرد: تقصير مع الله، واستسلام للواقع، وعدم السعي للتغيير، وتقصير في المواظبة على حلقات العلم والحفظ.
* وعلى مستوى الأسر والبيوت: تقصير في تربية أولادنا على لزوم الطاعات والصلوات، ودخل بيوتنا المنكرات، وصارت القوامة للنساء في معظمها.
* وفي المؤسسات والمصالح: إهمال المصالح وتسيب ورشوة وخراب ذمم.
** والحل لهذا كله يكمن في ثلاث وصايا:
1. إصلاح النفس:
وهو يعتمد على لزوم طاعة الله سبحانه وتعالي وطاعة نبيه محمد صلي الله وسلم , ومحاسبة الإنسان لنفسه , وتنقيتها من كل ذنب وخطيئة. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } "المائدة:105" . بل إن من محاسن شريعتنا أن أوصت الإنسان بأن يقي نفسه من نار جهنم قبل الآخرين، ولو كانوا أهله أو أولاده؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } "التحريم:6". حتى في دعاء المسلم لربه فحريّ أن يدعوا لنفسه أولاَ. وهذه من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ قال تعالي علي لسان نبيه نوح عليه السلام: "{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَاراً } نوح28. ثم إن العبد المسلم إذا أراد إصلاح من حوله فلا بد أن يكون قدوة صالحة لمن حوله كالأب لأبنائه, أو الرئيس لمرؤوسيه, أو المدرس لتلاميذه؛ إذ يستحيل أن يطاع بشيء هو لا يعمل به أصلا, بل إن ذلك من الأمور المنهي عنها في الشرع أصلا، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} البقرة:44 ", ثم إن ذلك من أكبر المقت وأعظم الجرم قال تعالي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} الصف 3,2"
وقال أحدهم:.
لا تنه عن خلق وتأتي بمثله عار عليك إذا فعلت عظيم
والجميع مطالب بأن يسجل كل واحد منا اعترافاته, ويدون تقصيره, ويعلم تماما بأنه جزء من هذه الأمة يتحمل الكثير من المسئوليات, وأنه ليس بهامشي أو صفر على الشمال أو لا يستفاد منه, بل لدى كل واحد منا الكثير من الخير, ويختزن من الأمور النافعة ما يفيد الأمة بإذن الله, تعمد كما قال عمر رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا, وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا" وكما قال أيضا:.
عليك نفسك فتش عن معايبها وخل عن عثرات الناس للناس
2. الدعوة إلى الله، والدعاء الخالص
إن الدعوة إلي الله وظيفة الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام وهي صمام الأمان لمسيرة هذا الدين العظيم, والدعوة إلى الله تأتي مباشرة بعد تنقية النفس من شوائبها , وتطهيرها من الأكدار , فمتى ما قوم المسلم معوج نفسه , وعدل مائلها , فعليه بطريق الدعوة إلي الخير آمرا بالمعروف ناهياً عن المنكر.(/1)
ولتعلم أن خيرية هذه الأمة مرتبط ارتباطا وثيقاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر....الآية}آل عمران110. واعلم أن الله تعالى قرن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيمان بالله، قال تعالي: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }آل عمران110.
ولا تأبه بما ستواجه من عوائق وعقبات في طريق الدعوة وتذكر أن آدم تعب من أجلها , وناح لأجلها نوح , وقذف في النار إبراهيم , وأدخل السجن يوسف , وشكى الضر أيوب , ونشر بالمناشير زكريا , والتقم الحوت يونس , وسافر من بلاده موسي , وعاصر أنواع الأذى وأشكال العذاب نبينا محمد صلي الله علية وسلم.
ادع إلى الله على بصيرة في كل مكان وتحت أي ظرف؛ فلقد دعا حبيبك محمد صلي الله علية وسلم في السر والعلن, وفي السفر والحضر, وفي السلم والحرب, وعلى الصفا, وفي الشعب, ودعا في البيت والسوق وعلي البغلة والفرس, حتى وهو يكابد سكرات الموت كان يدعو بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ادع إلى الله على بصيرة، ولا تهتم بأباطيل المرجفين, واستهزاء المثبطين, وسخرية المقصرين. ولا تستعجل النتائج , ولا تيأس إذا لم يصغ لك أحد؛ فإن من الأنبياء من لم يتبعه إلا شخصين، ومنهم من لم يتبعه إلا شخص واحد، بل جاء في الحديث "يأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد"، كما قال صلي الله عليه وسلم.
واعلم أنك منارة في الأرض , وقدوة صالحة , ونجم يهتدي به , وأن الشجر والحجر والطير والحوت يستغفرون لك.
ادع إلى الله على بصيرة، وليس شرطاً أن تعتلي المنابر أو تقف أمام الجموع فإن الدعوة طرقها شتى , ومجالاتها متعددة , وأساليبها متنوعة فالنصيحة دعوة , والهدية دعوة , والمعاملة الحسنة دعوة , والابتسامة دعوة , وإصلاح ذات البين دعوة , وزيارة الأقارب والأحبة في الله دعوة, والصدقة دعوة , وبناء المساجد ودور الرعاية دعوة.......الخ. وإذا لم تستطع أن تقوم بشيء مما تقدم، فيكفي أن تكفي المسلمين من شر لسانك ويدك.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
ثم اعلم أن الدعاء من أهم الأسلحة التي يمتلكها المسلم. فهو سهام الليل يستطيعه كل شخص , ولكن مع الأسف معظم أهل القبلة يهملون هذا السلاح المهم , بل وصل حال بعضهم إلى الاعتقاد بعدم جدواه ومنفعته والعياذ بالله , متناسين قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }غافر60 , وقال تعالى أيضاً {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }البقرة 186وهو نهج الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام , وسنة الأولياء والصالحين رحمهم الله , والدعاء مرضاة للرب , واطمئنان للقلب , وراحة للنفس , وسهام على الأعداء , ومفتاح للخير , وجالب للولد والرزق والمطر.
والمقصود الدعاء للإسلام وأهله بالنصر والتمكين, والدعاء على الكفر وأهله بالذل والخسران والمهانة, خاصة في ظل ما يواجهه هذا الدين الشريف من نكبات ومصائب تتوالى عليه.
3. نصرة دين الله
اعلموا أنكم إن قعدتم عن نصرة دينكم، وخذلتم سنة نبيكم، ولم تهتموا بأمر المسلمين فلن تضروا إلا أنفسكم، ولقد تخلفت قبلكم أمم وأفراد، فلم يضروا إلا أنفسهم، ولم يضروا الله شيئاً، تخلفت قوم نوح وعاد وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً، فالعز يزول والمجد يضيع بسبب خذلان الدين وأهله، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ولا يجعل الله عبداًَ أسرع إليه كعبد أبطأ عنه، بل لا يزال العبد يتأخر حتى يؤخره الله.
لقد كانت الريادة والرفادة والسقاية والحجابة والسدانة في أهل مكة، فلما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله وحده بارزوه العداء، وسعوا في التخلص منه ومن أتباعه وأصحابه؛ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَو يَقْتُلُوكَ أَو يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) " سورة الأنفال: 30 "، فتحول عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر هو وأصحابه إلى المدينة، فشرف أهلها بنصرتهم لدين الله وصار لهم ذكر وخير، فهم الذين آووا ونصروا، حبهم إيمان وبغضهم نفاق، بهم قام الإسلام وبه قاموا، والناس شعار والأنصار دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.(/2)
أواخرهم كأوائلهم، فإن الدجال عندما يخرج في آخر الزمان وينتهي إلى المدينة وهو محرم عليه أن يدخلها، فينتهي إلى بعض أسباخ المدينة، وترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات يخرج إلى الدجال منها كل كافر ومنافق، ويخرج إليه شاب هو خير الناس أومن خير الناس يقول له: أنت الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلتفت الدجال إلى أتباعه ويقول لهم أرأيتم لو قتلته ثم أحييته أكنتم تؤمنون بي، فيقولون له: نعم، فيشقه نصفين، ثم يقول له قم، فيقوم الشاب متهلل الوجه فرحان، يقول للدجال: "والله ما ازددت فيك بصيرة، أنت الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، رواه البخاري وغيره. فهذا الشاب يثبت في مواجهة الدجال، ثم جريان الخوارق على يدي الدجال، وما بين خلق أدم حتى قيام الساعة فتنة أعظم أو أشد من الدجال، وما تقدم من تقدم إلا بنصرته لدين الله وقيامه بشريعة الرحمن وما تأخر من تأخر إلا بخذلانه للإسلام وأهله.
إن إتباع السنة النبوية نصرة لدين الله، أي نصرة. لقد كان الأفاضل فيما مضى يعدون مخالفة السنة هلكة. اختلف ابن عباس مع البعض فقال لهم: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، فكيف إذا سمع ابن عباس من يقول: ليس لنا علاقة بعصور الظلام، ( يقصدون أيام النبوة والخلافة). أو من يقول: لم يعد الإسلام يصلح للتعامل مع الحضارة الحديثة. أومن يصادم السنة ويوقر الملاحدة أعظم من توقيره لهدى نبيه صلى الله عليه وسلم؟!
أشار أبولبابة بن عبد المنذر، يوم بنى قريظة، لهم إشارة مفهمة أنكم لو نزلتم على حكم سعد بن معاذ، فهو الذبح. يقول أبولبابة: فما قلتها حتى علمت أنى خنت الله ورسوله ونزل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " سورة الأنفال: 27 ". فماذا يكون الشأن والحال لو استبدل دينه بغيره ونادى بالحرية الإباحية والديمقراطية اللواطية ؟!
ولما كان يوم بدر سمع ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا ينقلب أحد من المشركين إلا بفداء أو ضرب عنق، فقال ابن مسعود – رضي الله عنه – يا رسول الله إلا ابني بيضاء وكان قد علم منهما ميلاً للدخول في الإسلام. يقول ابن مسعود: فما قلتها حتى خشيت أن يتنزل على حجارة من السماء. وكانت أم المؤمنين عائشة – رضى الله عنها – لا تذكر خروجها يوم الجمل إلا وتبكى حتى تبل خمارها وتكثر عتق الرقاب لأجل ذلك..... والحكايات في هذا المعنى كثيرة، والسبب معلوم، والسنن لا تعرف المحاباة ولا المجاملات، قال تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) " سورة محمد: 38 " وقال: ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُو) سورة المدثر: 31.(/3)
أخبرنا سبحانه أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله سيستبدل به من هو خير لها منه وأشد منه وأقوم سبيلاً كما قال تعالى: إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ " سورة النساء: 133 " وقال: "إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيد ٍوَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيز " سورة فاطر: 16 – 17 " أي بممتنع ولا صعب. وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ " سورة المائدة: 54 " (أي يرجع عن الحق إلى الباطل وقيل نزلت في الولاة من قريش أوفي أهل الردة أيام أبى بكر) فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( كأبي بكر وأصحابه وأهل القادسية وأهل اليمن وأهل المدينة ) أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ". لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله وإقامة الحد وقتال أعدائه والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يردهم عن ذلك راد ولا يصدهم عنه صاد ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل ) ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( " سورة المائدة: 54 " أي من اتصف بهذه الصفات فإنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له) وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. إلى أن قال: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ " سورة المائدة: 56 ". كما قال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). وقال: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءهُمْ أَو أَبْنَاءهُمْ أَو إِخْوَانَهُمْ أَو عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " سورة المجادلة: 21- 22 ". فكل من رضى بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ومنصور في الدنيا والآخرة .
إن المنصور من نصره الله؛ لأنه سعى في نصرة دين الله بالنفس والنفيس والغالي والرخيص، وكان شأنه في ذلك كشأن الأوس والخزرج الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، فإن وفوا فلهم الجنة، وإن غشوا من ذلك شيئاً فأمرهم إلى الله عز وجل، إن شاء غفر وإن شاء عذب. وهذه هي بيعة العقبة الأولى، بايع عليها اثنا عشر رجلاً منهم عشرة من الخزرج، واثنان من الأوس، ثم كانت بيعة العقبة الثانية وقت الحج في العام الذي يلي البيعة الأولى وهي التي حضرها العباس؛ ليستوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اجتمعوا عرفهم العباس بان ابن أخيه لم يزل في منعة من قومه حيث لم يمكنوا منه أحداً ممن أظهر له العداوة والبغضاء وتحملوا من ذلك أعظم الشدة، ثم قال لهم: إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإلا فدعوه بين عشيرته فإنه لبمكان عظيم. فعند ذلك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ لنفسك ولربك ما أحببت، فقال: أشترط لربى أن تعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم متى قدمت عليكم، فقال له أبوالهيثم بن التيهان: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال ( اليهود ) عهوداً وإنَّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: بل الدم الدم والهدم الهدم أي إن طالبتم بدم طالبت به وإن أهدرتموه أهدرته. وقد بايع هذه البيعة ثلاثة وسبعون رجلاً منهم اثنان وستون من الخزرج وأحد عشر من الأوس ومعهم امرأتان. ثم تخير النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر نقيباً لكل عشيرة منهم واحد وقال لهم: أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي.
ولما رجع الأنصار إلى المدينة ظهر بينهم الإسلام، وازداد أذى المشركين للمسلمين بمكة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة وتتابع المهاجرون فراراً بدينهم ليتمكنوا من عبادة الله الذي امتزج حبه بلحمهم ودمهم حتى صاروا لا يعبأون بمفارقة أوطانهم والابتعاد عن آبائهم وأبنائهم ما دام في ذلك رضا الله ورسوله، ولحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر بعد أن اضطره المشركون لترك أحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله لنفسه الشريفة.(/4)
وفي المدينة قامت أعظم نصرة لدين الله وأعظم أخوة عرفتها الدنيا، أخوة بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج وقام نظام التآخي بين كل اثنين، هذه الأخوة أساسها المنهج الإيماني والتعظيم لشرع الله، وقد كانت من أعظم أسباب تحقيق النصر على المشركين. قال الله: (هُو الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَو أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) " سورة الأنفال: 62 – 63 " ووفي الأنصار ببيعتهم وكانوا رجالاً، قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) " سورة الأحزاب: 23 " وتحقق الوعد الصادق بنصرة الله لعباده المؤمنين.
ستعود الخلافة على منهاج النبوة وفي الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس" رواه مسلم. وفي لفظ " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة " رواه مسلم.
فلا تضر نفسك ولا تؤخرها والحق بالركب فقد انطلق، وقد سمعت عتاب من تخلف عن قتال الروم في غزوة تبوك، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) " سورة التوبة: 38 – 39 ". وكان ذلك في عام شديد الحر بعد أن طاب الثمر، فنزلت القوارع القرآنية تزهدهم في الدنيا وترغبهم في الآخرة وتحثهم على الجهاد في سبيل الله، وتوضح لهم أنهم إن لم ينصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره عام الهجرة، لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم صحبة صديقه وصاحبه أبى بكر، وفي ذلك يقول تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( " سورة التوبة: 40 " .(/5)
إن خير الشعوب خطيئة
د.أميمة بنت أحمد الجلاهمة 24/5/1425
12/07/2004
لأني أعتقد أنه من الحكمة معرفة خصائص أعدائنا العقائدية والنفسية، فكليهما المحرك الأساسي لصاحبه، فلو كان أحدهم متمسكًا بعقيدة ما أو فكر ما؛ فسيظهر أثر ما ينادي به هذا الفكر وتلك العقيدة على علاقاته بغيره عاجلاً أم آجلاً، وبالتالي فالنظر إلى سطح هؤلاء دون الجوهر فيه من مضيعة الوقت الكم الكثير؛ فالسطح قد يظهر جانبًا واحدًا أو عدة جوانب ممن لا ضير من إظهاره، فكيف بحال من يدعو فكره لمعاداة الآخر، مهما كان هذا الآخر خيّرًا متسامحًا نقيّ السريرة، متفانيًا في عطائه؟! فهذا الآخر وعمله مهما كان لا قيمة له، وكيف لو كانوا يعتقدون أن عدوَّهم ولو حاول تبني فكرهم فسيبقى في خندق المخالفين، مؤكدين أنه بطبيعته مختلف من حيث الخصائص الجينيّة؟!
(إن خير الشعوب خطيئة) هذا ما أشار إليه سفر الأمثال 14/34، النص الذي تكفل التلمود بشرحه، وذلك بقوله: "إن كل ما تعمله شعوب الأرض – غير اليهود – من خير وإحسان إنما هو من أجل تمجيد الذات فقط"، وعليه فالعمل مهما كانت أهدافه خيّرة متسامية، فلا قيمة نوعيه له!!
هذا ما يؤمن به ( اللوبافتش) إحدى مجموعات الحسيدية الأصولية اليهودية، الذين يعدون كل خير صدر من غيرهم في حكم الخطيئة؛ فطبيعة النفس القدسية الخيّرة لليهود -بحسب إيمانهم - مغايرة للنفس الحيوانية لغيرهم من البشر، وعليه كان من الطبيعي أن يقرروا أن خير هذه النفس الحيواني هو في حد ذاته خطيئة..
عرفت (اللوبافتش) بنشاطها الدعوي داخل الكيان الصهيوني وخارجه، نشاط يحمل كمًّا هائلاً من التناقضات، إضافة إلى إيمانها بفوقية الإنسان اليهودي.. هذا النشاط الدعوى أطلقت عليه اسم (وفرصت) بمعنى (وتنتشر)؛ والانتشار المقصود هنا هو المستنبط من نص سفر التكوين 28/ 14، والذي جاء فيه: " أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق، إن الأرض التي أنت نائم عليها لك أعطيك ولنسلك، ويكون نسلك كتراب الأرض، وتنتشر (وفرصت) غربًا وشرقًا وشمالاً وجنوبًا، ويتبارك بك وبنسلك قبائل الأرض". كما أصدروا مجلة اختاروا لها اسم "وفرصت"، أي تنتشر..
أرسلت هذه المجموعة دعاة لأماكن كثيرة من العالم ليبادرون من خلالها بدعوة اليهود للتمسك بالتعاليم اليهودية الأرثوذكس، مؤمنين يقينًا أن الطبيعة الهيكلية للإنسان اليهودي -بمجملها- تمكنه من الرجوع، ومهما اقترف من تجاوزات للتعاليم الأصولية اليهودية، ومهما كان رافضًا لتلك التعاليم، أما السبب فلا يعدو كونه يهوديًّا بطبيعته الجينية، فلا علاقة بقبول رجوعه عن عمله ذاك بالتوبة من عدمها! ألم يصرح أحد علمائهم بأن "اليهودي طيب بطبعه وخلقته، وهو مدفوع للعمل الطيب، وأنه لأسباب يقوم أحيانًا باقتراف ذنب، أو يقوم بعمل شرير يكون غير مسؤول عنه أصلاً أو مسؤول عنه جزئيًّا، ومع هذا فهو يظل طيبًا"؟! فليسفك الدماء، ويروع العباد، وليسرق مقدرات الأمم؛ فلا بأس بذلك فهو بطبيعته طيب لا حرج عليه!! بل إن خروجه عن تعاليم شريعته التعبدية لا يعد جرمًا بالنسبة لهؤلاء؛ فهو الطيب الذي يرتكب الشرور دون وعي منه. أعتقدُ أنه مرفوع عنه القلم بالمفهوم الإسلامي لهذا الرفع!
لقد أسست هذه المجموعة سلسة من المدارس في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكندا، واهتمت بإيصال دعاتها بشكل خاص إلى الولايات المتحدة؛ حيث تكثر مراكزهم الثقافية فيها.
هذه المجموعة من ناحية أخرى تشجع على هجرة الحسيديم إلى فلسطين، بل تسعى لجمع الأموال لمساعدة ودعم الجماعات التي هاجرت لهذه الغاية..(/1)
أما موقفهم من دولة اليهود فيبدو أنه استند على تفسيرهم للطبيعة الخيّرة للإنسان اليهودي؛ فهو خيّر في كل أحواله، سواء كان حليف الشيطان أم حليف النعام؛ فقد قال زعيم لهم: "إن اليهود ما زالوا في شتات ونفي، وإن إسرائيل ليست ممثلة لبداية الخلاص الإلهي لليهود". وأضاف قائلاً: "إن هذه الدولة (الكيان الصهيوني) هي دولة في حالة نفي، وليست دولة شرعية أصلية، ولذلك فإن الهجرة لها تكون هجرة إلى دولة النفي، وهي كأي هجرة إلى مكان آخر يعيش فيه اليهود في الشتات". ومن المضحك فيما ذهب إليه هذا الزعيم وفي هذا الشأن بالذات، هو الكم العظيم من التناقضات التي تحمله مضامين تصريحاته؛ فهو مع رفضه الاعتراف بهذا الكيان من جهة يؤكد أن إنشاء دولة -الكيان الصهيوني- إنما كان مبادرة من الإله والتفاته منه نحو اليهود من أجل خلاصهم، وهو يرى أن اليهود قد ضيعوا الفرصة التي هُيئت لهم وفرّطوا فيها..!! وهم مع كل ذلك الرفض يتعاملون مع حكومة هذا الكيان؛ بل إنهم يتدخلون بسياساتها الخارجية والمتعلقة (بحق العودة) الخاص بيهود الأمم، فقد ساهموا عام 1990م بخمسة ملايين دولار في حملة الانتخابات الإسرائيلية من أجل فوز حكومة تعد بتغيير قانون العودة الخاص بيهود العالم، ليكون مقتصرًا على اليهود الأرثوذكس دون غيرهم، هذا ما ذكرته جريدة الجويش كرونكل، بتاريخ 1/11/ 1991م.
بل إن أحد زعمائهم قال بعد حرب عام 1967م: "إن من اشترك من اليهود في الحرب له أجر وثواب أكثر من أولئك الذين يدرسون التوارة"!! بل إنهم مع اعتقادهم أنها دولة نفي، يُحرّموا على الكيان الصهيوني إرجاع ولو شبر واحد من الأرض التي احتلتها إلى أصحابها العرب..!! فذلك وبحسب عقيدتهم يعد مخالفة صريحة للشريعة اليهودية..
نعم إن عقيدتهم التي ترفض الاعتراف بهذا الكيان كاعتراف غيرهم من اليهود، ترعى نشاطًا إسكانيًّا وتجاريًّا وصناعيًّا وتعليميًّا متزايدًا في فلسطين المحتلة.. نشاط لا يكل ولا يشبع في استقطاب أتباعهم.. كل ذلك النشاط المنقطع النظير يحدث داخل الكيان الصهيوني الذي اعترف أن الأرض التي يحتلها ليست أرض خلاصهم، وبالتالي اعترفوا ضمنًا أنه كيان غاصب ومحتل..!!(/2)
إن ربك لبالمرصاد رؤية في مصاب أمريكا 30/7/1426
فضيلة الشيخ ناصرالعمر
الحمد لله رب العالمين، معز المؤمنين وقاهر الظلمة والمتجبرين والمتكبرين، _سبحانه_ فعّال لما يريد "أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى* وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى*وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى*وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى*فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى" [ النجم: 50-54]
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،، أما بعد:
فقد اتصل بي أحد الإخوة في ساعة فتوى، وسألني قائلاً:
هل يجوز أن نفرح بما أصاب أمريكا من هذه الإعصارات وما تبعها من هلاك ودمار في بعض ولاياتها ؟
قلت له: ولم السؤال ؟
قال: هناك من يقول: إنه لا يجوز لنا أن نفرح، بل علينا أن نحزن ونأسى لما أصابهم، مشاركة في هذا الوجدان والشعور الإنساني، امتثالاً لقوله _تعالى_: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" [الإسراء:70].
قلت له: يا أخي الكريم، إن هذا الاستدلال غير صحيح، وهذا وضع للآيات في غير موضعها .
فما علاقة تكريم الإنسان بترك الفرح والسرور على مصاب الكافرين الظالمين المعتدين؟
بل إننا والله نفرح ونسر بما أصاب هؤلاء الظلمة المتجبرين المتكبرين.
إن أمريكا هي قائدة الظلم والطغيان والجبروت في هذا العصر، استخدمت أموالها التي مكنها الله _جلّ وعلا_ منها في ظلم البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وتاريخ أمريكا تاريخ أسود على كل المستويات ، وفي شتى أنحاء العالم، وخصوصاً فيما يتعلق بالأمة الإسلامية، فأمريكا أمة كافرة باغية محادة لله ولرسوله – صلى الله عليه وسلم – ومحاربة للمسلمين، دنَّست كتاب الله وأهانته، قريبة من كل شرّ بعيدة عن كل خير، حامية الإرهاب في العالم. .
من الذي يدعم إسرائيل ؟
من الذي يحمي اليهود بلا حدود ؟
من الذي أباد أفغانستان ؟
من الذي دمر العراق ؟
من الذي يأخذ خيرات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ليعيدها لهم صورايخ وقنابل ورؤوساً نووية ؟
أعظم السجون وأشدها ظلماً وفتكاً هي التي تشرف عليها أمريكا وعملائها، سجون جوانتانامو وأمثالها، ، وسجل جرائمها العالمية يصعب حصره لا ينافسها في ذلك أحد، حالها حال من قال الله _تعالى_ فيه: " وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ" [البقرة:205] ..
أمريكا بسبب قوتها المادية تمد ذراعها كما يحلو لها، لا تأبه بأحد "كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى*أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى*إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى" [العلق:5 – 8] وهي بسبب هذا وغيره أصبحت فتنة لكثير من المسلمين.
استمعت إلى حوار في قناة فضائية قبل أيام لرجل كان عميداً لكلية الشريعة في إحدى البلاد العربية، فإذا هو يمجد أمريكا، ويمنحها شرعية التدخل في كل مكان من العالم بحجة إنقاذ المستضعفين؛ لأنها – حسب قوله – أكبر قوة في الأرض ، وذكر كلاماً يسوء كل مسلم أن يسمعه من أي إنسان فضلاً عن رجل متخصص في الشريعة ، بل عميداً لكليتها !
إن قوة أمريكا فتنة وإضلال وضلال وطغيان وجبروت.. فلماذا لا نفرح إذا أصيبت؟
لقد قال الله _سبحانه_ مخبراً عن موسى _عليه السلام_: "وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ" [يونس:88], فقال الله _جلّ وعلا_: "قد أجيبت دعوتكما"؛ لأن موسى كان يدعو وهارون كان يؤمن، فأجاب الله دعوتهما، ولو لم تكن دعوة شرعية عادلة لما أجاب الله دعاءهما، حاشاهما أن يدعوا بغير أمر مشروع ..وإذا كان مشروعاً فلم لا نفرح به؟ ألم يشرع لنا صيام ذلك اليوم الذي استجيبت فيه الدعوة شكراً لله؟
ولماذا لا نفرح وقد دعا محمد _صلى الله عليه وسلم_ على مضر، وقال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" رواه البخاري وغيره ؟
ألا يحق لنا أن نفرح باستجابة الله لدعاء المستضعفين المظلومين في المشارق والمغارب؟!
لماذا لا نفرح وما أصابهم عقاب من الله على جرمهم " وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ"[الرعد: من الآية31] ؟
لماذا لا نفرح ونوح _عليه السلام_ يقول لربه: "وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً" [نوح:26-27] فاستجاب الله دعاءه "وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"[هود: من الآية44] ؟(/1)
إن ما أصاب أمريكا هو قدر كوني وعقوبة من الله _جلّ وعلاّ_؛ لطغيانها وعصيانها وجبروتها وظلمها وبعدها عن الله _جلّ وعزَّ_..
والعجيب أن بعض اليهود وبعض الإنجيليين الجدد يقولون: إن ما حدث لأمريكا عقوبة من الله _جلّ وعلا_ فهم يعدونها نذارة لأمريكا، بينما نجد في المسلمين من يقول: إن علينا أن نحزن لما أصابها !
إن هذا القول ضلال مبين وجهل بالنصوص الشرعية وبعد عن شرع رب العالمين، فالله لا يظلم "وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً"، والمجرم لا يترك "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ".
لماذا لا نفرح والله يقول لرسوله _صلى الله عليه وسلم_ وصحابته: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً" [الأحزاب:9] ؟
لقد كانت منة عظيمة من الله _جلّ وعلا_ على عباده ، ومدعاة لفرحهم وسرورهم، وذلك حين جاءت الريح العظيمة وشتت الأحزاب في غزوة الخندق ، ولذا يذكر الله بها عباده المؤمنين فيقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ"[الأحزاب: من الآية9] .
إننا عندما نرى هذه الرياح العاصفة تدمر أمريكا أو بعض ولاياتها نعلم أنها نعمة من الله _جلّ وعلا_ تستوجب الحمد والشكر والفرح "وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" [الروم:4،5] ، فالأحزاب قد تحزبوا اليوم على المسلمين بقيادة أمريكا كما تحزب المشركون بقيادة قريش، فأرسل الله عليهم هذه الريح والجنود تذكر الغافلين بقدرته _سبحانه_ إنها نعمة عظيمة وقدر من الله _جلّ وعلا_ نفرح به ونسر، وتلك سنة الله في أمثالها، بل وفيمن كان دونها في البغي والظلم.
ولنتأمل أيضاً قصة قارون وما حدث له، يقول الله _جلّ وعلا_: "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِين َ* وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" [القصص:81-83]، فإذا كان قارون خُسف به وبداره الأرض بسبب بغيه "إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ" فخسف الله به، مع أنه لم يبلغ من البغي والفساد ما بلغته أمريكا بطغيانها وجبروتها وخبثها وفسادها.
وقد يقول قائل: أليس فيهم بعض المسلمين، ألا نحزن لمصابهم؟
فأقول له: يا أخي الكريم، ثبت في الحديث الصحيح من حديث زينب _رضي الله تعالى عنها_ عندما قالت للنبي _صلى الله عليه وسلم_ "أنهلك وفينا الصالحون ؟" إنه قال: "نعم، إذا كثر الخبث". و معنى ذلك أن الصالحين قد يهلكون في بلاد المسلمين إذا كثر الخبث، فكيف ببلاد الكافرين؟
أما المسلمون فمن كان منهم صادقاً فإنه يبعث على نيته كما ورد في الحديث الصحيح فيمن يخسف بهم فإنهم يبعثون على نياتهم، فلا تعارض أبداً بين تدمير الكفار، ونزول العقوبات، وإصابة بعض المسلمين .
أليس في بعض بلاد المسلمين يقع الطاعون، وهو وباء مهلك، ومع ذلك فهو شهادة ورفعة لمن أصيب بذلك كما ثبت في الحديث الصحيح ؟
وقد يجتمع في النازلة الواحدة أمران؛ فرح وحزن، فنفرح لهلاك الكافرين، ونحزن لمصاب المسلمين إن أصيب منهم أحد ،
ونعلم أن المسلمين ومن يقع عليهم مثل هذا البلاء بغير جرم فهو لهم من الابتلاء والتمحيص والتكفير، ورفعة الدرجات، وقد يكون شهادة للبعض، كمن مات غريقاً أو في حريق فله أجر الشهداء كما ورد في الأحاديث الصحيحة.
وقد يقول قائل آخر: ماذا نقول في قوله _تعالى_: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ" [آل عمران:128]؟ والعلماء قد ذكروا أجوبة كثيرة يرجع إليها في مظانها من كتب التفسير، ومن أقواها في ذلك أنه دعا على أناس معينين قد علم الله أنهم سيسلمون وقد أسلموا بعد ذلك.
وقد يقول قائل: إن أبا الدرداء – رضي الله عنه – بكى لما فتحت قبرص وفرق بين أهلها وأخذوا أسرى؟(/2)
فالجواب عن ذلك مذكور في أصل الخبر والرواية: حيث ذكر بعض أهل العلم كأبي نعيم في الحلية بسند صحيح عن جبير بن نفير، قال: لما فتحت قبرص فرق بين أهلها بكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أباالدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله، إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
فبكاء أبي الدرداء – رضي الله عنه – ليس حزناً عليهم ولا أسفاً، ولكنه من قوة إيمانه وتدبره وتعظيمه لله _سبحانه_ وخوفه من عقابه؛ لأن كثيراً من الناس ينطبق عليهم قوله _تعالى_: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ"[الأنعام: من الآية91]
وخلاصة القول:
يحق لنا أن نفرح بما أصاب أمريكا، وأن نسرّ بذلك؛ لأن هذا منطق القرآن ومنهج الأنبياء، والمطرد مع الفطرة والعقول الصحيحة، إن ما حدث مطرد مع السنن الإلهية، والنواميس الكونية. "جَزَاءً وِفَاقاً" [النبأ:26]، "وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً"[الكهف: من الآية49] "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ*وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ*وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ*الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ" [الفجر:6- 14]
فلا نامت أعين الجبناء والمهزومين ومرضى القلوب، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
"قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ" [التوبة:52]
"وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ"[الشعراء: من الآية227]
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
إن غاب نجمي ـ شعر ... ... ...
زاهية بنت البحر
ما للقلوبِ الخرسِ ليس يهمُّها=أرضٌ تئنُّ بجرحِ قلبِ المسلمِ
يهتزُّ من وقعِ الصَّدى عبرَ المدى=غصنٌ تفتَّح فيه زهرُ البرعمِ
مزجتْ به الآلام ُفانسالت على= نارِ الشفاه تأوهاً بتألُّمِ
فتعلَّقتْ أوراقه قطر النَّدى= مثلَ الرِّضاب ِ بشهدِ ثغرِ تبسمِ
كسر الأعادي غصنَهُ بتجبُّرٍ =بل هم أشدُّ بظالمٍ وتظلُّمِ
يقتصُّ من طفلٍ بريءٍ همُّهُ=لَعِبٌ وبعضٌ من لذيذِ المَطعَمِ
يجري وراءَ صغيرةٍ ضحكاتُها=ردَّتْ ربيعَ الأرضِ قبلَ الموسمِ
فإذا القنابُ زهية ً بربيعِها=وإذ افراتُ الخيرِ في الحقلِ الظمي
ومن ابتساماتِ الطيوفِ بعينها=وبدندنات البشرِ قد غيظَ العمي
لكأنَّهُ يخشى بهم مستقبلاً=مادامَ ذاكَ الشبلُ من ذا الضَّيغمِ
فأتى بعسكرِ حقدهِ صوبَ الربى=يجتثُّ زهراً بالصُّقورِ الحوَّمِ
مافرَّقوا بينَ الزُّهورِ وشوكِها=ما أمعنوا فكراً بقولِ المنعمِ
مدُّوا جسوراً من جسومِ صغارِنا=وشبابنا فوقَ الترابِ الأكرمِ
ومشوا عليها بالقنابلِ والمذا=بِحِ والمهاذلِ عبر نهرٍ من دمِ
لم يرحموا أمَّا تناثرَ قلبُها=آهاً يفورُ بحزنِها المتضرمِ
فترى السحابَ بودقهِ متوشحاً=سودَ الغمامِ بزخِّها المتفحمِ
حسبي من الآهاتِ أني ذقتُها=ناراً غدتْ بالشعرِ يقذفُها فمي
تتلعثمُ الكلماتُ في شعري فلا=أجتازُ شطراً دونَ حرفِ تألُّمِ
حتَّى النقاطُ على الحروفِ حزينةٌ=بكاءةٌ في مأتمٍ فمآتمِ
وألوبُ بينَ الناسِ أطلبُ رحمةً=فأعودُ ثكلى من رجاءِ ترحُّمي
هذا قيادي فاسرِ بي متنقِّلاً =يابدرُ حيثُ تشاءُ بينَ الأنجمِ
خذني هناكَ أرى الضياءَ من العلا=ينسابُ عبرَ الكونِ فيضَ تبسُّمِ
دعني أرفرف كي أمزِّقَ حلكةَ ال=أستارِ بالأنوارِ فوقَ النُّوَمِ
دعني أقول لكلِّ ذي عقلٍ بأ=نَّ القتلَ دونَ الحقِّ ليسَ بمغنمِ
دعني أبشِّر بالسلام واحتذي =حذوَ النبّيِّ بشرعتي وتفهُّمي
يابدرُ هذي دعوتي برسالتي =إنْ غابَ نجمي فلتكن متكلِّمي ... ... ... ... ...(/1)
إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا !!
محمد حسن يوسف
</TD
سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي صلى الله عيه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن. [ صحيح / صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني، 4811 ]. قال المناوي في فيض القدير: أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك. وقال القاضي: أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن. فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه فقد تحلى به، وكل ما استهجنه ونهى ع! نه تجنبه وتخلى عنه. فكان القرآن بيان خلقه. انتهى. وقال في الديباج: معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته.
وروى مسلم في صحيحه أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة. فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزي. قال: ومن ابن أبزي؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين. ] صحيح مسلم، 817(269) [. قال السندي في شرحه على سنن ابن ماجه: ( قال عمر ): تقريرا لاستحقاقه الاستخلاف. وقوله ( بهذا الكتاب ): أي بقراءته، أي بالعمل به. وقوله ( أقواما ): أي: منهم مولاك. ( ويضع به ): أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه.
وهكذا كان توقير الرعيل الأول لكتاب ربهم في صدورهم. وكان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة ( أي صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه ). وبعد أن يتمون ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم. وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.
ثم خلف من بعد ذلك خلف أضاعوا هذه القيم، ولم يهتموا بكتاب ربهم. هان الله في نفوسهم، فأهانهم الله بما اقترفوه من ذنوب. وقد ضرب لنا القرآن المثل على الأمة التي تضيع العمل بكتابها، فقال تعالى مخبرا عن بني إسرائيل، والخطاب للتذكرة والتحذير: ? فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اْلأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ َلا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إَِّلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ اْلآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفََلا تَعْقِلُونَ ? ] الأعراف: 169 [. قال الشيخ أبو بكر الجزائري في تفسيره لهذه الآية: يحكي الله تعالى عن اليهود أنه قد خلفهم خلف سوء، ورثوا التوراة عن أسلافهم، ولم يلتزموا بما أُخذ عليهم فيها من عهود، على الرغم من قراءتهم لها. فقد آثروا الدنيا على الآخرة، فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات، ويدّعون أنهم سيغفر لهم. وكلما أتاهم مال حرام أخذوه، ومنوا أنفسهم بالمغفرة كذبا على الله تعالى. وقد قرأوا في كتابهم ألا يقولوا على الله إلا الحق وفهموه، ومع ! هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم.
وقال القرطبي في تفسيره: وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. فقد روى الدارمي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت, يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة, يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب, أعمالهم طمع لا يخالطه خوف, إن قصروا قالوا سنبلغ, وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا, إنا لا نشرك بالله شيئا.
واستمر خط الابتعاد عن كتاب الله يمضي قدما، بطيئا وبشكل يخفى عن العامة في أول الأمر، ثم بخطى متسارعة وبصورة سافرة بعد ذلك. فبعد أن كانت الأمة مجمعة الكلمة على العمل بكتاب ربها، وتستمد تشريعاتها من أحكامه، بدأت في التخلي عنه شيئا فشيئا، فعاقبها الله بأن سلبه من يدها، إلى أن أصبحت لا تعمل به. وبالطبع كان هناك دورا رئيسيا لأعداء الأمة في الوصول إلى هذه الحالة التي أصبحنا عليها.
فقد جاء الاحتلال الفرنسي فتعامل بقسوة مع الأمة، وحاول إجبار الأمة على التخلي عن تعاليم الدين بالحديد والنار. وبسبب إتباع هذا المنهج السافر، فلم تزدد الأمة إلا تمسكا بدينها وبتعاليم كتاب ربها. ورغم أنه لم يكن قد بقي من الإسلام إلا طلاسم وذكريات إلا أن الأمة وقفت صفا واحدا في وجه من حاولوا تشويه صورة دستورها. ولذلك تعامل الإنجليز الذين أعقبوا الفرنسيين بصورة أكثر دهاء ومكرا ولكن بنفس المنطق والحزم في زحزحة الأمة عن دينها.(/1)
فيقف جلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في مجلس العموم البريطاني يحث قومه على زعزعة الأمة عن دينها فيقول: " مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة علي الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان ". ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر: " إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرأون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم ".
ويسير المنصرون الذين رافقوا هذه الحملات على نفس الخط. فيقول المنصر وليم جيفورد بالكراف، في كتاب جذور البلاء: " متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداُ عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكتابه ". ويقول المنصر تاكلي، في كتاب التبشير والاستعمار: " يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تماماً. يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداُ، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً ". ويقول المنصر ذاته " تاكلي "، في كتاب الغارة على العالم الإسلامي: " يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية ".
واستدعى ذلك الأمر العمل على عدة محاور وفي نفس الوقت. فتم إلغاء الكتاتيب والحد من تأثيرها وإضعاف مكانتها في النفوس. وبالطبع لا يختلف أحد في أن الكتاتيب كان قد أصابها شيء من القصور، ولكن كان يجب العمل على علاج تلك الأخطاء الناجمة والتي تراكمت عبر الزمن وليس إلغائها تماما. وتزامن هذا مع الإبقاء على الأزهر - كمؤسسة دينية - قائما مع إضعاف مكانته وزعزعة ثقة الناس فيه بإنشاء المدارس الأجنبية اللادينية إلى جانبه، والمسارعة إلى تعيين خريجي هذه المدارس في مختلف الوظائف المرموقة وبأجور مرتفعة للغاية، مع عدم توفير فرص عمل لخريجي الأزهر ( وبالأخص حملة القرآن منهم )، وإن وجدت فهي ضعيفة الأجر.
وهكذا بدأت النظرة إلى القرآن واللغة العربية تتغير في نفوس الناس! ومع رثاثة حال حملة القرآن وخريجي المدارس الدينية، ووجاهة خريجي المدارس اللادينية، بدأت هذه النظرة الجديدة تتغلغل في النفوس، ليتجه المجتمع بأكمله نحو هجران القرآن!! ولم يعد فخرا للأسر أن ترتبط بمن يحمل مؤهل ديني، لضعف منزلته الاجتماعية في المجتمع. مع ما تركه هذا من آثار عميقة في نفوس هؤلاء الأفراد، الذين شعروا أنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب اتجاههم للدين، فكان أن مقتوه في داخل نفوسهم، وسعوا بكل الطرق إلى عدم تكرار تجاربهم. وصار طموح أي فرد في المجتمع أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو ضابطا. ولم تعد تجد من يحلم أو تحلم له أسرته بأن يكون " عالم دين " أو " دارس فقه " أو حامل للقرآن ". وتواكب مع هذا صناعة نجوم في المجتمع يشار إليها بالبنان تبتعد تماما عن الإسلام وقيمه. وغُيبت عن عمد نماذج رجال الدين أو رموزنا الدينية من صفحات ! الجرائد أو المجلات أو وسائل الإعلام الأخرى حتى يستقر هذا الاتجاه في النفوس.
وبدأ المخطط بتحويل كتاب الله من قوة حاكمة دافعة للمجتمع إلى مجرد كتاب يحمل ذكريات. تُغير عليه قوى الشر ولا يتحرك المسلمون للدفاع عنه. وتنتشر من حوله الخرافات. وهكذا يصبح القرآن الذي هو حياة الأمة، رمزا للموت فيها، فلا يقرأ إلا في سرادقات العزاء، ولا تكاد تسمع القرآن في مكان حتى تسأل عمن توفى!!! وجعلوا من فاتحة الكتاب - التي هي دستور حياة المسلمين، والتي كان حرص الشارع على قراءتها سبع عشرة مرة على الأقل يوميا في كل ركعة من الصلوات المفروضة - وسيلة لجلب الرحمة على الأموات، فلا تذكر ميتا حتى يقال " اقرءوا له الفاتحة "!!!
وصدق فيهم قول ربي عز وجل: ? وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ? ] الفرقان: 30 [. قال ابن القيم في كتابه القيم " الفوائد ": وهجر القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم. والرابع: هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به ... وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
وجميع هذه الأنواع من هجر القرآن واقعة بيننا ومتفشية فينا الآن. ومن صور هذا الهجران ما يلي:(/2)
- عدم قراءته. فمن منا يقرأ القرآن يوميا؟! إن القرآن مقسم إلى ثلاثين جزء، ومتوسط كل جزء عشرون صفحة. فهل من الصعب قراءة عشرين صفحة يوميا؟ إنه أمر لا يستغرق منك سوى نصف ساعة. إن قراءة الصحف اليومية تستغرق من المرء أكثر من ساعة يوميا، فهل قراءة تلك الصحف أهم من قراءة القرآن؟!!
- وسماع القرآن ... لقد استبدلناه بسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام والتمثيليات ومتابعة المباريات.
- وأخلاقنا الآن في وادٍ وما ينادي به القرآن من التحلي بقويم الأخلاق في وادٍ آخر.
- ونعرف حلاله وحرامه ولا نقف عندهما، بل نتفاخر بالتملص منهما، ونصم من يلتزم بهما بالسذاجة وقلة الخبرة.
- وتعلمنا كيف نجادل لا لإثبات تعاليم ربنا ولكن لكي نتفلت منها، ونعمل بغيرها. ظننا أن التقدم الخادع الذي أحدثته الأمم من حولنا إنما مرجعه للتخلي عن الدين، فلما تخلينا عن ديننا انحرفنا وزغنا عن طريق التمكين.
- التخلي عن التحاكم إليه في حياتنا وفي معاملاتنا.
- تركنا فهم معانيه ومن ثم تدبر آياته، وأصبح معظم ما نعرفه عنه عكس المراد به.
- تركنا تعلم لغته ولجأنا إلى لغات المستعمر، وأصبح تجنب الحديث باللغة العربية والرطانة بهذه اللغات مصدر فخر وإعزاز بيننا.
- تركنا التداوي به ولجأنا إلى الاعتماد على الأسباب المادية فقط.
إني لأعجب من أمة تهجر كتاب ربها وتُعرض عن سنة نبيها، ثم بعد ذلك تتوقع أن ينصرها ربها؟ إن هذا مخالف لسنن الله في الأرض. إن التمكين الذي وعد به الله، والذي تحقق من قبل لهذه الأمة، كان بفضل التمسك بكتاب الله عز وجل، الدستور الرباني الذي فيه النجاة مما أصابنا الآن. إن الذين يحلمون بنزول النصر من الله لمجرد أننا مسلمون لواهمين. ذلك أن تحقق النصر له شروط. قال تعالى: ? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي اْلأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُ! دُونَنِي َلا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ? ] النور: 55 [. كما أن ما بعد النصر له شروط. قال الله تعالى: ? الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصََّلاةَ وَآتَو! ْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ اْلأُمُورِ ? ] الحج: 41 [. فعودوا إلى كتاب ربكم تنالوا نصره في الدنيا وتدخلوا جنته في الآخرة.
27 من صفر عام 1425 ( الموافق في تقويم النصارى 17 ابريل عام 2004 ).(/3)
إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا !! ...
سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي صلى الله عيه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن. [ صحيح / صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني، 4811 ]. قال المناوي في فيض القدير: أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك. وقال القاضي: أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن. فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه فقد تحلى به، وكل ما استهجنه ونهى ع! نه تجنبه وتخلى عنه. فكان القرآن بيان خلقه. انتهى. وقال في الديباج: معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته.
وروى مسلم في صحيحه أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة. فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزي. قال: ومن ابن أبزي؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين. ] صحيح مسلم، 817(269) [. قال السندي في شرحه على سنن ابن ماجه: ( قال عمر ): تقريرا لاستحقاقه الاستخلاف. وقوله ( بهذا الكتاب ): أي بقراءته، أي بالعمل به. وقوله ( أقواما ): أي: منهم مولاك. ( ويضع به ): أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه.
وهكذا كان توقير الرعيل الأول لكتاب ربهم في صدورهم. وكان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة ( أي صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه ). وبعد أن يتمون ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم. وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.
ثم خلف من بعد ذلك خلف أضاعوا هذه القيم، ولم يهتموا بكتاب ربهم. هان الله في نفوسهم، فأهانهم الله بما اقترفوه من ذنوب. وقد ضرب لنا القرآن المثل على الأمة التي تضيع العمل بكتابها، فقال تعالى مخبرا عن بني إسرائيل، والخطاب للتذكرة والتحذير: ? فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اْلأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ َلا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إَِّلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ اْلآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفََلا تَعْقِلُونَ ? ] الأعراف: 169 [. قال الشيخ أبو بكر الجزائري في تفسيره لهذه الآية: يحكي الله تعالى عن اليهود أنه قد خلفهم خلف سوء، ورثوا التوراة عن أسلافهم، ولم يلتزموا بما أُخذ عليهم فيها من عهود، على الرغم من قراءتهم لها. فقد آثروا الدنيا على الآخرة، فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات، ويدّعون أنهم سيغفر لهم. وكلما أتاهم مال حرام أخذوه، ومنوا أنفسهم بالمغفرة كذبا على الله تعالى. وقد قرأوا في كتابهم ألا يقولوا على الله إلا الحق وفهموه، ومع ! هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم.
وقال القرطبي في تفسيره: وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. فقد روى الدارمي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت, يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة, يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب, أعمالهم طمع لا يخالطه خوف, إن قصروا قالوا سنبلغ, وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا, إنا لا نشرك بالله شيئا.
واستمر خط الابتعاد عن كتاب الله يمضي قدما، بطيئا وبشكل يخفى عن العامة في أول الأمر، ثم بخطى متسارعة وبصورة سافرة بعد ذلك. فبعد أن كانت الأمة مجمعة الكلمة على العمل بكتاب ربها، وتستمد تشريعاتها من أحكامه، بدأت في التخلي عنه شيئا فشيئا، فعاقبها الله بأن سلبه من يدها، إلى أن أصبحت لا تعمل به. وبالطبع كان هناك دورا رئيسيا لأعداء الأمة في الوصول إلى هذه الحالة التي أصبحنا عليها.
فقد جاء الاحتلال الفرنسي فتعامل بقسوة مع الأمة، وحاول إجبار الأمة على التخلي عن تعاليم الدين بالحديد والنار. وبسبب إتباع هذا المنهج السافر، فلم تزدد الأمة إلا تمسكا بدينها وبتعاليم كتاب ربها. ورغم أنه لم يكن قد بقي من الإسلام إلا طلاسم وذكريات إلا أن الأمة وقفت صفا واحدا في وجه من حاولوا تشويه صورة دستورها. ولذلك تعامل الإنجليز الذين أعقبوا الفرنسيين بصورة أكثر دهاء ومكرا ولكن بنفس المنطق والحزم في زحزحة الأمة عن دينها.(/1)
فيقف جلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في مجلس العموم البريطاني يحث قومه على زعزعة الأمة عن دينها فيقول: " مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة علي الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان ". ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر: " إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرأون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم ".
ويسير المنصرون الذين رافقوا هذه الحملات على نفس الخط. فيقول المنصر وليم جيفورد بالكراف، في كتاب جذور البلاء: " متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداُ عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكتابه ". ويقول المنصر تاكلي، في كتاب التبشير والاستعمار: " يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تماماً. يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداُ، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً ". ويقول المنصر ذاته " تاكلي "، في كتاب الغارة على العالم الإسلامي: " يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية ".
واستدعى ذلك الأمر العمل على عدة محاور وفي نفس الوقت. فتم إلغاء الكتاتيب والحد من تأثيرها وإضعاف مكانتها في النفوس. وبالطبع لا يختلف أحد في أن الكتاتيب كان قد أصابها شيء من القصور، ولكن كان يجب العمل على علاج تلك الأخطاء الناجمة والتي تراكمت عبر الزمن وليس إلغائها تماما. وتزامن هذا مع الإبقاء على الأزهر - كمؤسسة دينية - قائما مع إضعاف مكانته وزعزعة ثقة الناس فيه بإنشاء المدارس الأجنبية اللادينية إلى جانبه، والمسارعة إلى تعيين خريجي هذه المدارس في مختلف الوظائف المرموقة وبأجور مرتفعة للغاية، مع عدم توفير فرص عمل لخريجي الأزهر ( وبالأخص حملة القرآن منهم )، وإن وجدت فهي ضعيفة الأجر.
وهكذا بدأت النظرة إلى القرآن واللغة العربية تتغير في نفوس الناس! ومع رثاثة حال حملة القرآن وخريجي المدارس الدينية، ووجاهة خريجي المدارس اللادينية، بدأت هذه النظرة الجديدة تتغلغل في النفوس، ليتجه المجتمع بأكمله نحو هجران القرآن!! ولم يعد فخرا للأسر أن ترتبط بمن يحمل مؤهل ديني، لضعف منزلته الاجتماعية في المجتمع. مع ما تركه هذا من آثار عميقة في نفوس هؤلاء الأفراد، الذين شعروا أنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب اتجاههم للدين، فكان أن مقتوه في داخل نفوسهم، وسعوا بكل الطرق إلى عدم تكرار تجاربهم. وصار طموح أي فرد في المجتمع أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو ضابطا. ولم تعد تجد من يحلم أو تحلم له أسرته بأن يكون " عالم دين " أو " دارس فقه " أو حامل للقرآن ". وتواكب مع هذا صناعة نجوم في المجتمع يشار إليها بالبنان تبتعد تماما عن الإسلام وقيمه. وغُيبت عن عمد نماذج رجال الدين أو رموزنا الدينية من صفحات ! الجرائد أو المجلات أو وسائل الإعلام الأخرى حتى يستقر هذا الاتجاه في النفوس.
وبدأ المخطط بتحويل كتاب الله من قوة حاكمة دافعة للمجتمع إلى مجرد كتاب يحمل ذكريات. تُغير عليه قوى الشر ولا يتحرك المسلمون للدفاع عنه. وتنتشر من حوله الخرافات. وهكذا يصبح القرآن الذي هو حياة الأمة، رمزا للموت فيها، فلا يقرأ إلا في سرادقات العزاء، ولا تكاد تسمع القرآن في مكان حتى تسأل عمن توفى!!! وجعلوا من فاتحة الكتاب - التي هي دستور حياة المسلمين، والتي كان حرص الشارع على قراءتها سبع عشرة مرة على الأقل يوميا في كل ركعة من الصلوات المفروضة - وسيلة لجلب الرحمة على الأموات، فلا تذكر ميتا حتى يقال " اقرءوا له الفاتحة "!!!
وصدق فيهم قول ربي عز وجل: ? وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ? ] الفرقان: 30 [. قال ابن القيم في كتابه القيم " الفوائد ": وهجر القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم. والرابع: هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به ... وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
وجميع هذه الأنواع من هجر القرآن واقعة بيننا ومتفشية فينا الآن. ومن صور هذا الهجران ما يلي:(/2)
- عدم قراءته. فمن منا يقرأ القرآن يوميا؟! إن القرآن مقسم إلى ثلاثين جزء، ومتوسط كل جزء عشرون صفحة. فهل من الصعب قراءة عشرين صفحة يوميا؟ إنه أمر لا يستغرق منك سوى نصف ساعة. إن قراءة الصحف اليومية تستغرق من المرء أكثر من ساعة يوميا، فهل قراءة تلك الصحف أهم من قراءة القرآن؟!!
- وسماع القرآن ... لقد استبدلناه بسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام والتمثيليات ومتابعة المباريات.
- وأخلاقنا الآن في وادٍ وما ينادي به القرآن من التحلي بقويم الأخلاق في وادٍ آخر.
- ونعرف حلاله وحرامه ولا نقف عندهما، بل نتفاخر بالتملص منهما، ونصم من يلتزم بهما بالسذاجة وقلة الخبرة.
- وتعلمنا كيف نجادل لا لإثبات تعاليم ربنا ولكن لكي نتفلت منها، ونعمل بغيرها. ظننا أن التقدم الخادع الذي أحدثته الأمم من حولنا إنما مرجعه للتخلي عن الدين، فلما تخلينا عن ديننا انحرفنا وزغنا عن طريق التمكين.
- التخلي عن التحاكم إليه في حياتنا وفي معاملاتنا.
- تركنا فهم معانيه ومن ثم تدبر آياته، وأصبح معظم ما نعرفه عنه عكس المراد به.
- تركنا تعلم لغته ولجأنا إلى لغات المستعمر، وأصبح تجنب الحديث باللغة العربية والرطانة بهذه اللغات مصدر فخر وإعزاز بيننا.
- تركنا التداوي به ولجأنا إلى الاعتماد على الأسباب المادية فقط.
إني لأعجب من أمة تهجر كتاب ربها وتُعرض عن سنة نبيها، ثم بعد ذلك تتوقع أن ينصرها ربها؟ إن هذا مخالف لسنن الله في الأرض. إن التمكين الذي وعد به الله، والذي تحقق من قبل لهذه الأمة، كان بفضل التمسك بكتاب الله عز وجل، الدستور الرباني الذي فيه النجاة مما أصابنا الآن. إن الذين يحلمون بنزول النصر من الله لمجرد أننا مسلمون لواهمين. ذلك أن تحقق النصر له شروط. قال تعالى: ? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي اْلأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُ! دُونَنِي َلا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ? ] النور: 55 [. كما أن ما بعد النصر له شروط. قال الله تعالى: ? الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصََّلاةَ وَآتَو! ْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ اْلأُمُورِ ? ] الحج: 41 [. فعودوا إلى كتاب ربكم تنالوا نصره في الدنيا وتدخلوا جنته في الآخرة.
محمد حسن يوسف(/3)
إن كانت أمريكا دنسته
إن كانت أمريكا دنسته .. فنحن اشترينا به ثمنا قليلا
اتقوا الله واعلموا أن المحن محك لا يخطأ، وميزان لا يظلم، يكشف عن ما في القلوب، ويظهر مكنونات الصدور، ينتفي معه الزيف والرياء، وتنكشف معه حقيقة الصدق بجلاء.
إن المحن تطهير ليس معه زيف ولا دخل، وتصريح لا يبقى معه غبش ولا خلل، إنها لتفتح في القلب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن عن نفسه لولا المحن.
هل تعجبون من فعل الأمريكان بكتاب رب العالمين؟ فأولئك النصارى الذين دنسوا القران في "غوانتانامو" صليبيون حاقدون على الدين، ولا غرو فقد كان الواحد من أسلافهم ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويعرفه كما يعرف ابنه فيعاند ويكابر حسدا من عند أنفسهم {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم }، ولذا فإن الله قد فتح أمام المؤمن حجب الغيب، وأبان له أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}
صفعات متوالية تلك التي تنهال على أمة الإسلام في وقت رعى الذئاب الغنم, ولم يعد لها راع سوى تلك الذئاب.
هانت الأمة حتى وصل الحال بأعدائها إلى المساس بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, إهانة لأمة هجرت كتاب ربها وليس إهانة للكتاب, فحاشى إخوان الخنازير وأعوانهم أن يصلوا لكتاب الله, ولكنهم استطاعوا الوصول لإهانة الأمة تحقيقاً لسنن الله في كونه, من إدالة الظالمين على الظالمين بما كسبت أيديهم, { وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }..
أمة الفضائيات الهابطة, والأكاديميات الداعرة, والعري الفاضح, والقوانين الكافرة, والأضرحة المنتشرة في ديار المسلمين تتخذ من دون الله آلهة..
أمة أصبح المسلمون فيها غرباء مطرودون والكفار أولياء مقرّبون, فأصبحت الرابطة رابطة علمانية, وأصبح الولاء ديموقراطياً, وأصبح العمل لاهوتياً؛ فلا تكاد تفرق بين بيوت كثير من المسلمين وبيوت النصارى, فالزوجة في كلا البيتين عارية، وصوت الفضائيات والأغاني ينبعث من البيتين كليهما, وترك الصلاة هنا وهناك, فبماذا يكون التمييز إذاً؟؟
ولا شك أننا عندما نرى شباب الصحوة كالنور يتلألأ في دياجير هذه الظلمات ينتعش القلب فرحاً, كما يحزن القلب من التفرق المشين بين أبناء الصحوة, وبين البعد الكبير عن التطبيق الصحيح لمنهج الإسلام، الذي لو اتُّبِع على حقيقته لما وجدنا هذا التفرّق.
فعلى الأمة أن تعود إلى منهج ربها وتنتهي من هذا الفصام النكد بينها وبين التطبيق الصحيح لشريعة ربها. وعلى حكّام الأمة أن يطبقوا شريعة ربهم, فما هانوا وهانت معهم أمتهم إلا بتركهم لأصلهم والتمسّح في كل أصل بديل, والارتماء على أرجل وأعتاب كل ذليل.
وليعلم الجميع أن هذه الثلة الصالحة المباركة، التي يدنّس شرفها وتهان كرامتها في سجون الدعار, سواء في كوبا أو العراق أو إسرائيل، أو حتى في سجون الطواغيت المتسلطين من أبناء الجلدة..
نقول للجميع بان هؤلاء هم الأعلون رغم ما هم فيه من سجن, وأن أعداءهم هم الأذلاء, ولنتذكر قول عمر في رده على أبي سفيان بن حرب بعد غزوة أحد " قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار".
ولنعلم أن دولة الإسلام ستقوم بعز عزيز وذل ذليل { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس }.
ولكنها -مسؤولية النهوض بالأمة- قد اشتدّت فوق الأكتاف, فماذا عسانا أن ننتظر بعد أن تعرض كتاب ربنا للإهانة في سجون الدعار, أبناء ثقافة العهر, وديانة المادة, على كل مسلم أن يتحرك لدينه بتغيير ما حوله, بالعلم الصحيح وخاصة المعتقد الصافي, والدعوة الصادقة, وتغيير المنكر بما ليس منكر, والسعي لنشر دين الله في الأرض وتطبيق شريعته.
وعلى حكام الأمة أن يتذكروا أن التاريخ لن ينسى لهم بحال أن أعداء الله استهانوا بهم لدرجة تدنيس أقدس المقدسات, بلا هيبة لهم ولا خوف منهم.
رحم الله صاحب هذه الكلمات.. "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم, لك ما ترى دون ما تسمع".
لك الله يا أمة المسلمين يوم غاب قادتك العظام, فأين عمر يستلم مفاتيح القدس؟ وأين خالد يغزو الروم؟
وأين صلاح الدين يطهّر بيت المقدس؟
وأين عمر بن عبد العزيز يحكم بشريعة الإسلام فلا يجد من يستحق الزكاة؟!
إلى الله المشتكى.. اللهم ارزقنا الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل, اللهم قيد للأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويذل أهل المعصية، ويؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر, اللهم حكّم شرعك في الأرض.
يجب على المسلم أن يغضب، ويتمعر وجهه لهذا الحادث الأليم، فكتاب الله حياة المسلم، يفديه بماله ونفسه وولده، وجزء من مهمته في الحياة الدفاع عنه والجهاد من أجله وبه، ولن نتوقع من " النصارى" إلا هذا فهم أمة ضلال، يأتيهم الحق الصراح الواضح فيردونه اتباعًا لشهواتهم.. وتقديما لأهوائهم..(/1)
ألا قطع الله يد ولسان وأركان ودولة من عبث بكتاب الله وأهانه.. وأرانا فيه عجائب قدرته.. وشتت عليه ضيعته وانتقم لنا منه عاجلا غير آجل...
إن العواطف ستلتهب، والدموع ستنسكب، ولكننا في زمن تعودنا على مثل هذا، فما هي إلا أيام، وسيزول الحدث، وسينسى الناس، فكم من مقدس أهين، وكم من حرمة انتهكت.. فثارت الناس وبرد حماسها، وانطفأت جذوة عاطفتها بعدما ينشغل كل واحد منا بنفسه، ويأتي حدث ينسينا ما قبله، فنحن في زمن " فتن " يرقق بعضها بعضًا.
تدنس القدس منذ ستين سنة، ويهان المسجد الأقصى على أيدي عصابة آثمة من الصهاينة الأنذال، وتهراق دماء الأبرياء في أجزاء من العالم الإسلامي وهي عند الله غالية، فقطرة دمائهم وسفكها اشد عند الله من هدم الكعبة المشرفة، ومع ذلك فقد ألفنا أوضاعنا، واستسغنا العناء في زمن العناء، لأننا أمة ظاهرة صوتية نجيد فنون الخطابة والكلام.. دون فعل يفلق الصم ويقطع الأغلال..
إن كانت أمريكا دنست كتاب ربنا وأهانته، فنحن اتخذناه وراءنا ظهريا في كثير من أصقاع العالم الإسلامي حين حيدناه عن " الحكم " في شؤوننا، واستجلبنا زبالة عقول البشر بديلا عن الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وطبق " حكم الجاهلية " في دماء المسلمين وأموالهم ودمائهم وأعراضهم"، { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
أليس إقصاء كتاب الله عن الحكم في صغائر الأمور وكبائرها " تدنيسا " له وإهمالا وهو الكتاب الذي نزل ليعمل به، فاتخذنا قراءته عملا، واكتفينا أن نطرز به مقدمات حفلاتنا، ونواحنا على موتانا، فإذا جاء وقت العمل به شك البعض فيه وفي صلاحيته؟ {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
دنسناه حين لم يبق منه إلا أحكامًا على استحياء في بعض الأحوال الشخصية، ثم أقصيناه عن كثير من الشؤون الحياتية في العالم الإسلامي..
أليس الحكم بغير القران موبقة خطيرة؟ وأليس كفرا؟ سماه الله كذلك، سواء كان أصغر أو أكبر، وأنه أعظم من كبائر الذنوب وموبقاتها؛ إذ الذنب الذي يسميه الله كفرًا هو أكبر وأقبح.
إن كانت أمريكا دنست كتاب الله، فنحن دنسناه حين رضينا بفعل حثالة من بني قومنا، ومن الذين يتكلمون بألسنتنا، أولئك المنافقين الذين جعلوا كتاب الله هزوا، وشككوا في ربانيته، واعتدوا عليه معنويا، فاستخفوا بتعاليمه، ودعوا إلى إقصائه عن الحياة، وفصله عن شؤونها، أو ليس فعل هؤلاء أشد تدنيسا للكتاب وأكثر صراحة وكفرا من قوم الأصل فيهم بغض الكتاب وتدنيسه وحربه إلى قيام الساعة؟
أليس الذين يشتري بآيات الله ثمنا قليلا، فيأخذ منه ما يحقق به مصلحته أشد وأعظم من فعل الذي الأصل فيه الكفر؟ وليس بعد الكفر ذنب؛ إذ المصيبة تكمن في المسلم الذي يتخذ كتاب الله هزوا، ويجعله سلما لتحقيق مطامعه الخاصة، ورؤيته الخاصة، فيكون القران عرضا كأي عرض يباع ويشترى
إن صيانة القران هو في إعادة الاعتبار للقرآن الذي يشكل حاديا للأمة في كل جوانب حياتها، وجعله نبراسًا وهدى ونور { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ } [صّ:29] { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً}
الله أكبر إن دين محمد وكتابه أقوى وأقوم قيلا
لا تذكر الكتب السوابق قبله طلع الصباح فأطفئ القنديلا
ما فعله الأمريكان في سجن غوانتنامو نابع من كره عقائدي تأصلوا عليه وليس عملا فرديُا شاذا كما ينعق به أذنابهم الذين أهانوا أنفسهم بالابتعاد عن دينهم ما جعل أحدهم –على سبيل المثال- يصف القرآن الكريم بالكتاب الوعظي فقط لا التشريعي والآخر يستهزئ بالإعجاز العلمي للقرآن مما حدا بأحد أنجس المواقع السابّة للإسلام بالاستشهاد بمقالته،
قد يعلم هؤلاء الذين تمنّعوا من ذكر مساوئ عمتهم أن أول من بدأ المظاهرات هم الأفغان،، لكن هل يعلم هؤلاء لماذا بدأها الأفغان في شتى ولاياتهم؟؟ لقد بدأها الأفغان لأنهم عاصروا التحرير الأمريكي لأفغانستان عن قرب، ولأنهم ذاقوا جرعة الديمقراطية الأمريكية عن تجربة، ولأنهم شاهدوا تعمير أفغانستان عن قرب.
كذلك الأمر بالنسبة للشعب العراقي لكن الإعلام الأمريكي وكعادته، أقصد الإعلام العربي وكعادته أغفل العراق من فقرة الأخبار الصادقة...(/2)
أقدم عليه بعض الجنود الأمريكان في سجن (جوانتنامو) من إهانة للمصحف الشريف ودوسه بالأقدام وتمزيقه أمام بعض السجناء من المسلمين!! وهذا من أبشع وأقبح وأفظع الأعمال التي يكاد يتمزق لها القلب، ويشتعل الرأس منها شيباً، وتتفطر لهولها السماء، وتنشق الأرض وتخرُّ الجبال هدَّا
أيّها المسلمون، في غمرةِ الحياةِ الماديّة واللّهاث وراءَ المُتَع الحسّيّة وما أسفَرَت عنه من شيُوع أحوال القلَقِ والاكتئاب والأوصاب والملَل والاضطراب، وفي خِضَمّ ما مُنِيت به الأمّة من أحداثٍ ومتغيِّرات شغَلت الناس بالمتابعاتِ والتحليلات، انبَثَق عن ذلك كلِّه التغرُّب عن الحياةِ الهانئة المطمئنّة، علاوةً على ما قذفت به الحضارةُ المزعومة والمدنيّة الزائفة من سمومٍ أضرَم نارَها قنوات وشبكاتٌ تحلِق الدين، وهل كان بِدعًا بعد ذلك أن صوَّحت القلوبُ بعد الإشراق وأجدَبت بعد النداوة والإبراق، فانطمس نورها، وبهَت وهَجها، وانقطع عن الذكر المشِعِّ لهَجُها؟! نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [الحشر:19].
ولا غَروَ أن يُضافَ لكلِّ أسًى مقعِد هذا الداء الدويُّ، داء الغفلةِ والنسيان الذي أسَّن ينابيعَ الروح الصّافية، وخلخل أطنابَها الراسية، إلى رُكام مآسينَا الضارية، مما تحتاج معه الألسِنة إلى ما يرطِّبها والأفئدةُ إلى ما يطَمئِنها، ولعلَّه ـ يا رعاكم الله ـ سرَى إلى لطيف علمكم وشريفِ فَهمكم ما إليه قصَد ويمَّم محِبُّكم.
قد يظن الإنسان في نفسه قبل المحن التجرد والنزاهة، فإذا وقعت الواقعة تبين من بكى ممن تباكى، تبين الغبش من الصفاء والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط.
عندها يدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، فمن الخير له أن يستدرك نفسه قبل أن يكون عبرة ويقع ضحية.
>( وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران الآية154).
بالمحن تستيقظ الضمائر وترق القلوب وتتوجه إلى بارئها تضرع إليه وتطلب رحمته وعفوه، معلنة تمام العبودية والتسليم الكامل له لا حول ولا قوة إلا به.
لا مهرب منه إلا إليه، ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، لا معقب لحكمه لا إله إلا هو.
باق فلا يفنى ولا يبيد ........ ولا يكون غير ما يريد
منفرد بالخلق والإرادة ...... وحاكم جل بما أراده
سبحانه وبحمده(/3)
إن لبثتم إلا عشرا
جاء في سورة الإسراء:( يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً ) وجاء في سورة المؤمنون:( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم) وجاء في سورة يونس: ( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم ) هذه الآيات وغيرها تكشف عن حقيقة الشعور الإنساني بسرعة انقضاء الحياة الدنيا، وسرعة مضي عالم البرزخ، فالذاكرة البشرية عندها مشغولة بما هو أهم وبما هو أخطر، ثم إن الدنيا وعالم البرزخ في قانون الآخرة لا تزيد عن وحدة صغيرة من الزمن. كيف لا والنهائي لا يذكر في جانب اللانهائي !!
ثلاث آيات من سورة طه تطرح نسبية الزمن في الإدراك البشري، ليس في الدنيا، ولا في عالم البرزخ، بل في يوم الحشر، ولا ندري كم يستمر هذا اليوم، وإن كانت الأحاديث الشريفة لتنص على طول الموقف، ولكنه في النهاية ينقضي ليكون الخلود الذي لا يتناهى، وعلى وجه الخصوص في عالم السعادة.
يقول تعالى : ( يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا، يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا، نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقةً إن لبثتم إلا يوما) الآيات الكريمة تتحدث عن حشر المجرمين وما فيه من ضيق ومعاناة إلى درجة أن تزرق الجلود، وهذا في حدود علمنا ينتج عن نقص الأكسجين والذي يزيد في معاناة المحشورين، وهو أيضاً عند بعض أهل الاختصاص ينتج عن الخوف الشديد الذي لا أمل عنده في النجاة، مما يجعل الدم يندفع باتجاه الجهاز الهضمي بدل أن يندفع إلى الجلد والعضلات . وهذا الواقع المضني يجعل الإنسان حساساً تجاه الأصوات والكلام ومن هنا : ( يتخافتون بينهم ) فكل واحد منهم يطلب من الآخر أن يغض من صوته، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك قضية في غاية الأهمية تجعلهم يتساءلون بينهم بأصوات خافتة، فطول الموقف ورهبته وشدّته تجعلهم يتساءلون عن طول موقفهم، وكم مضى من الوقت، وهنا يتضح أن أقوالهم تتضارب وتتفاوت تفاوتاً كبيراً، وهنا يتدخل البعض ليحد من المبالغات فيقولون: ( إن لبثتم إلا عشراً )نعم لم تزد عن هذا الحد.
إنّ الله تعالى أعلم بأقوالهم هذه ومدى مطابقتها للواقع : ( نحن أعلم بما يقولون)فهذه الأقوال كلها مجافية للواقع، ولكن أقلهم إجراماً وبالتالي أمثلهم طريقةً وسلوكاً في عالم الحياة الدنيا يذهب إلى أنّ لبثهم لم يتجاوز اليوم : ( إن لبثتم إلا يوماً ) وهنا ينكشف سر اختلافهم الاختلاف الكبير، فقد ظهر أن إحساس النّاس بالوقت يتفاوت يوم الحشر بتفاوت أعمالهم، ومدى صلاحهم أو فسادهم، وهذا يعني أنّ هول الموقف يتعلق بمدى الصلاح، أي أنّ هناك تناسباً عكسياً بين الصلاح والشعور بهول الموقف ومداه، وعلى ضوء هذا يمكن فهم الأحاديث الشريفة التي تحدثت عن أهوال الموقف يوم القيامة .(/1)
إن مع العسر يسرين 25/06/1425هـ
أ.د . ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فإن من دروس سورة يوسف التي أقف معها في هذه المقالة، درس من أعظم الدروس، إنه يتعلق بأعمال القلوب. يتعلق بالإيمان بالله _جل وعلا_ وبالثقة فيه، يتعلق بقوله _تعالى_: "أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء"، يتعلق بقوله _تعالى_:"ومن يتوكل على الله فهو حسبه". ذلك الدرس هو قوة التلازم بين الشدة والفرج، وهو تلازم ظاهر في سورة يوسف.
إن التلازم بين الشدة والفرج في سورة يوسف مطرد اطراداً عجيبا، وهذا المعنى، وهذه الدروس، وهذه الأمثلة التي سنتناولها، تعطي المؤمن ثقة بالله _جل وعلا_ وصدق توكل عليه، ولها آثارها العاجلة والآجلة في الدنيا والآخرة. إن من أخطر ما قد يمر بالمسلم أن يسيء الظن بربه _جل وعلا_ إذا نزلت به محنة، ويغفل عن التلازم بين الشدة والفرج،الذي أشار الله إليه في قوله _تعالى_: "فإن مع العسر يسرا إن مع لعسر يسرا"، ولن يغلب عسر يسرين، وهذا التلازم الواضح، الظاهر، البين، الجلي، بين الفرج والشدة من أجل أن يزداد المؤمن إيماناً بربه وثقة بوعده .
فكل واحد منا تمر به شدة، سواء صغرت أو كبرت، بل تمر بالمسلم شدائد عدة، فإذا فقد الإنسان الأمل هلك، ولكنه إذا أحسن الظن بربه، وقوي إيمانه به، فإنه سرعان ما يجد الفرج بين يديه. هذه هي الحقائق كما تعرضها سورة يوسف _عليه السلام_ نبدأ بها مثلا مثلا، من أجل أن يزداد إيماننا إيماناً.
فمن التلازم بين الشدة والفرج، أنه عندما اجتمع إخوة يوسف من أجل أن يتآمروا على قتله "اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ" (يوسف:9)، وهم يتآمرون كان أغلبهم يرون هذا القرار "اقتلوا يوسف"، جميعهم يرى هذا القرار إلا واحداً يأتي عن طريقه الفرج، وقبل أن يصدر القرار بالقضاء على يوسف "قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين" فيأتي الإنقاذ ويأتي الفرج فبعد أن كاد أن يصدر القرار، يأتي أعقل إخوانه، فيقول: لا تقتلوا يوسف، وهذا فرج بعد الشدة.
مثل آخر: عندما ألقوه في الجب، والإلقاء في البئر في وسط المدينة وفي وسط الحضر شدة عظيمة جداً، فكيف إذا اجتمع في هذا الجب العوامل التالية:
في وسط البرية..
بعيد عن أهله..
بعيد عن السكان..
والملقي في سن الصغر _عليه السلام_ دلت على ذلك أمور، منها: أنه لا يستطيع أن يسابق معهم، ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه "أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون" إذن فهو صغير..
وقد فارق والديه..
والذين يلقونه من هم ؟ هم إخوانه..
تجمعت كل عوامل الشدة في هذا الصنيع، فأين الفرج
لقد جاء الفرج وهو يلقى في البئر "وأوحينا إليه لتنبأنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون"، أي فرج هذا؟ أوحى الله إليه وحي إلهام .. لا تخف من الهلاك، لا تخف ستعيش، وستصل إلى مكانة ومنزلة تنبئهم بأمرهم، بكيدهم وهم لا يشعرون.
وكلمة "وهم لا يشعرون" تدل دلالة خاصة، فنقله نقلة عظيمة من الجو المحيط به في داخل البئر إلى معنى آخر يقول له فيه: إنك ستعيش وسيكون لك شأن، وأنت الذي ستخبرهم بما فعلوا "قالوا أإنك لأنت يوسف قال أن يوسف وهذا أخي قد من الله علينا".. هذا فرج والله عظيم.
ونواصل أيضاً مع هذا الفرج الذي يتوالى كل ما نزلت شدة، وضعوه في البئر، تركوه، ذهبوا، هذه أيضاً شدة ولاشك، وإن كان أوحي إليه لينبأنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون، لكنه لا يعلم متى سيخرج من هذه البئر، وما هي إلا مدة زمنية قصيرة يدل عليها سياق الآيات وسياق القصة "وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام" هذا فرج آخر، حيث لم يمكث في البئر طويلاً، فما هو إلا أن جاء من يبحث عن الماء فتعلق بالدلو فخرج من البئر، إذن هي مدة قصيرة، وهذا فرج آخر غير الفرج الأول.
ثم يدخل في شدة أخرى عندما باعوه رقيقاً، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم _عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام_ مع غربته ومع أسره يباع وبثمن بخس رقيقاً، وهذا من أعظم الشدائد التي مرت بيوسف؛ لأنها شدة معنوية لا تقارن بكثير من الشدائد الحسية، فيأتي الفرج، أين الفرج؟
من الذي اشتراه؟ هل اشتراه من يسومه سوء العذاب؟ هل اشتراه من يهينه؟ كثير من الناس يهينون من يستأجرون وليسوا أرقاء مع أنهم مثلهم أحرار، ولكنهم لأنهم استأجروهم أهانوهم، وكم يعاني عدد من الأجراء ممن أجره من الإهانات والعبارات والألفاظ والسخرية والتسخير، فما بالكم بالرقيق المملوك، لكن الله _جل وعلا_ ينقذه بهذا السنة التلازم المطرد بين الشدة والفرج !(/1)
فالذي اشتراه عزيز مصر، لم يشتره من يهينه أو يسومه سوء العذاب، لكن اشتراه عزيز مصر، ثم لما اشتراه عزيز مصر، وعندما دخل به إلى بيته يقول لزوجته: "أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا". تأملوا هذا الفرج وهذه الرحمات التي تتوالى على يوسف _عليه السلام_ تلازم لا انفصال بين الشدة والفرج. رحمات، فيعيش في قصر العزيز مكرماً معززاً كأنه ابن مدلل، فينقذه الله من العبودية ومن الأسر إلى الشرف الذي يوصي به زوجته.
ولما راودته المرأة وغلقت الأبواب وحسبك بتلك شدة، امرأة متسلطة وغلقت الأبواب، فاجتمعت على يوسف _عليه السلام_ الشدة الحسية والمعنوية، ثم يأت الفرج، كيف؟
أولاً عندما أراه برهان ربه "ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه"، فرؤية البرهان هنا من الله _جل وعلا_ فرج عظيم جداً. إنقاذ الله له وحمايته من أن يقع في المعصية فرج عظيم "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك".
ثم يتوالى الفرج بهروبه من هذه الفتنة العمياء.
ثم لما لحقته وقدت قميصه من دبر وكادت أن تمسك به، في تلك اللحظة التي وصلا فيها عند الباب "وألفيا سيدها لدى الباب"، وهذا فرج آخر.
ثم لما بهتته "قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"(يوسف: من الآية25)، وهذه شدة جديدة وبلاء جديد؛ لأن المرأة هي المصدقة. مع سرعة بهتانها وسرعة اتهامها، والمرأة تصدق هنا أكثر مما يصدق الرجل. فيأتيه فرج جديد "وشهد شاهد من أهلها" هذا فرج عظيم أنقذ يوسف من هذه الدعوى التي بهتته بها، زوجة العزيز، ولذلك اعترف زوجها بذلك، وقال لها:
"استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين"، وبرأ يوسف "يوسف أعرض عن هذا"، بينما عرف أن زوجته هي الخاطئة.
ومرة أخرى تستمر الضغوط في قصة النسوة اللاتي قطعن أيديهن حتى قالت في آخر القصة: "لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين". بعد أن انتهى من الشدة الأولى، فإذا هي تعود مرة أخرى، وبدل أن كان الأمر فردياً، فإذا هو أمر جماعي. النسوة مع امرأة العزيز، كلهن أجمعن على ذلك كما في خطابه ودعائه "قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه"، ما قال: مما تدعوني إليه امرأة العزيز. شدة جديدة، فيلجأ إلى الله _جل وعلا_ ويتضرع بين يديه "رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين".
فيأتي الفرج "فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم". قد يقول قائل: وهل السجن فرج؟ أقول: نعم، السجن فرج في مقابل البلاء الذي أشار إليه "أصب إليهن وأكن من الجاهلين".
وفي داخل السجن -والسجن بلاء والشدة- يتوالى عليه الفرج، ليصبح في داخل السجن لا كسائر السجناء، بل يصبح آمراً ناهياً عزيزاً كريماً سيداً مطاعاً، وهذا يخفف من معاناة السجن، وهو فرج واضح في سياق القصة.
وعندما جاءت رؤيا الملك بعد أن طالت مدته في السجن، واشتد عليه السجن، ولبث في السجن بضع سنين، رأى الملك هذه الرؤيا العظيمة، فإذا هي سبب فرج الله به عنه، فمن الذي جعل الملك يرى الرؤيا؟ هو الله، ومن الذي قدر ألا يعبرها إلا يوسف؟ هو الله، ومن الذي ذكّر هذا الرجل وقد نسي يوسف؟ هو الله. فرج عظيم.
ثم في آخر القصة يأتي فرج آخر يزيل كل ريبة وتهمة في حق يوسف من هؤلاء النسوة، فتقر امرأة العزيز أنها هي التي راودته. الآن حصحص الحق، الآن تبينت المسألة، أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ما أعظمه من فرج والله. تعترف هذه المرأة، ثم يبرأ من قبل النسوة، ما علمنا عليه من سوء، وهذا فرج عظيم، واعتراف من المرأة، يبين أن صفحة يوسف _عليه السلام_ بيضاء نقية.
وفي نهاية القصة عندما بلغ اليأس مبلغه، وعندما أصبح يعقوب – كما وصفه مولاه "وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم"، ويزداد شدة الأمر عندما قال له أبناؤه: "تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين".
قال: "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون"، "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"، وهنا بلغ الأمر مبلغه، وبلغت الشدة مبلغها، فيأتي الفرج "فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون" ويتوالى الفرج، ويرسل قميصه إلى أبيه فيأتيه الفرج ويرجع إليه بصره "قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون"
وهكذا يتوالى الفرج في القصة..(/2)
فيا أيها المؤمن، لا تقنط، لا تيأس "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" مهما توالت عليك الشدائد فلا تيأس من روح الله، كم توالت الشدائد على يوسف وعلى يعقوب _عليهما السلام_ شدة بعد شدة، ومحنة بعد محنة، فيحدث ما يحدث ويأتي الفرج متوالياً، فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً، وقد روي أنه "لن يغلب عسر يسرين". فثقوا بالله وبوعده، وازدادوا إيماناً بصدق وعده _جل وعلا_ والتجئوا إليه تجدوا الفرج "إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً"(الطلاق: من الآية3).(/3)
إن مع العسر يسرًا
وعد من الله (تبارك وتعالى) وهو لا يخلف الميعاد }فإن مع العسر يسرا. إن من العسر يسرا{ (الشرح:5-6) .
وإذا جاز تخلف وعود البشر و تبدل قوانينهم, فوعد الله لا يتخلف, وسنة الله لا تتبدل, إنه وعد من الله (سبحانه) يتجاوز حدود الزمان والمكان, ولا يقف عند حدِّ من وما نزلت فيه الآيات.
وقد فهم منها السلف هذا المعنى الواسع, فقالوا : لن يغلب عسر يسرين , وقالوا : لو كان العسر في جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه.
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما به الصدر الرحيبُ
وأوطأت المكاره واطمأنت وأرست في أماكنها الخطوبُ
ولم تر لانكشاف الضر وجهًا ولا أغنى بحيلته الأريبُ
أتاك على قنوط منك غوثٌ يمن به اللطيف المستجيبُ
وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها الفرج القريبُ
بل يربط الله ذلك بالتقوى: }ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا{ (الطلاق: 4) .
وسنة الله (تبارك وتعالى): أنه حين تشتد الأزمات وتتفاقم: يأتي اليسر والفرج , أرأيت كيف فرج الله للأمة بعد الهجرة وقد عاشت قبلها أحلك الظروف وأصعبها? وفي الأحزاب حيث بلغت القلوب الحناجر وظن الناس بعدها الظنون, بعد ذلك كانت مقولة النبي صلى الله عليه و سلم, وهي مقولة صدق: »الآن نغزوهم ولا يغزوننا«([1]), وحين مات النبي صلى الله عليه و سلم وضاقت البلاد بأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم, وارتد العرب, وأحدق الخطر: ما هي إلا أيام وزال الأمر, وتحول المسلمون إلى فاتحين لبلاد فارس والروم, وصار المرتدون بإذن الله بعد ذلك جنودًا في صفوف المؤمنين .. والعبر في التاريخ لا تنتهي .
فهل يعي المسلمون اليوم هذه الحقيقة وهم يعيشون أزمة البعد عن دين الله, والإعراض عن شرعه, وانتشار ألوان الفساد، وفي المقابل: التآمر في كثير من الدول على الإصلاح والمصلحين وانسداد الأبواب في وجوههم? مما أدى إلى سيطرة اليأس على كثير من المسلمين , وأصبحت لغة التشاؤم هي السائدة في مجالس بعض الصالحين.
أضف إلى ذلك: أن المسلم يشعر أن الأمور بقدر الله , وأنه (تبارك وتعالى) قد كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض, وأن قدره وقدرته فوق كل ما يريد ويكيد البشر.
وثالثة: أن الأمر قد يكون في ظاهره شرًّا, ثم تكون العاقبة خيرًا بإذن الله, أرأيت حادثة الإفك وفيها من الشناعة والبشاعة ما فيها, ومع ذلك هي بنص القرآن: }لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم{ (النور: 11), وها هو سراقة بن مالك (رضي الله عنه) يلحق النبي صلى الله عليه و سلم »فكان أول النهار جاهدًا على نبي الله صلى الله عليه و سلم , وكان آخر النهار مسلحة له«([2]).
ورابعة: أن الفساد وإن كان الواجب رفضه شرعًا والسعي لدرئه, إلا أنه أحد روافد الإصلاح, وواقع الأمة اليوم قد بلغ من الترهل والخمول ما يجعل يقظة الأمة أجمع لا تتحقق إلا حين تبلغ الغاية في الذل والانهيار والمهانة, فالمسلم يرفض ذلك شرعًا ودينًا ويسعى لدفعه, لكنه قدَرًا يعلم أن عاقبته إلى خير بإذن الله, وفي التاريخ عبرة: ألم يكن اجتياح التتار والمغول لبلاد الإسلام, والغزو الصليبي.. رافدًا مهمًّا من روافد يقظة الأمة ونهوضها, بعد أن وصلت إلى مرحلة شبيهة بما نحن فيه اليوم?.
فما أجدر بالصالحين اليوم أن ينظروا بعين التفاؤل, وأن ينصرفوا للعمل والجد, ويَدَعُوا عنهم اليأس والتخذيل; فكيد أهل الفساد في بوار, ودين الله ظاهر }ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين{ (المنافقون: 8) .
--------------------------------------------------------------------------------
([1])رواه البخاري (4110).
([2])رواه البخاري (3911)(/1)
إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة
د. وليد الرشودي 29/10/1424
23/12/2003
لا يشك عاقل في مدى حاجة الأمة المسلمة اليوم إلى الإصلاح الشامل في جميع جوانبه السياسية والاقتصادية والسلوكية -وقبلها الشرعية-؛ بإرجاعها إلى معينها ومنبعها الصافي الأول الذي لا كدر فيه ولا شائبة: الكتاب والسنة، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً ..كتاب الله وسنتي"، وعملاً بوصفه عليه الصلاة والسلام للطائفة المنصورة والفرقة الناجية "من كانت على مثل ما أنا عليه وأصحابي"؛ فالمراجعات وطرق سبل البحث عن الخيرية هو منهج الإسلام في عدم الوقوف على رأي يراه العبد دون التمحيص أو التدقيق أو البحث عن فهم صحيح للخبر المعصوم؛ بل إن الوقوف -بل الجمود- عليه هو ما ذمه أهل العلم والمسمى بالتعصب للقول وعدم قبول الرجوع عنه لما هو أقوى منه حجة أو أظهر بيّنة أو فهماً.
فمن هنا أسطِّر هذه الأسطر توضيحاً للحق الذي رأيته في هذه الحقبة المريرة من زمن الأمة الشريفة، لقد تعالت أصوات المصلحين لتدارك الوضع قبل أن ينفلت زمامه على كافة الأصعدة، فعلت أصوات النذارة ونظروا في النصوص فصاحوا بنصوص البشارة إذا تداركت الأمة أحوالها، فحُذّر من الكافر وموالاته أو المظاهرة له ونصحوا للأمة في أخلاقها واقتصادها وسائر شؤونها عملاً بالمنهج الشرعي المتكامل في شموله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)، وقوله: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، فصدقوا ونصحوا وبروا وأخلصوا للأمة؛ فأعلى الله شأنهم وكتب قبولهم في الأرض تحقيقاً لدعوتهم ربهم (واجعلنا للمتقين إماماً).
قال مجاهد : اجعلنا مؤتمين بالمتقين مقتدين بهم.
قال ابن القيم : وهذا من تمام فهم مجاهد رحمه الله، فإنه لا يكون الرجل إماماً للمتقين حتى يأتم بالمتقين فنبه مجاهد على هذا الوجه الذي ينالون به هذا المطلوب وهو اقتداؤهم بالسلف المتقين من قبلهم؛ فيجعلهم الله أئمة للمتقين من بعدهم، وهذا من أحسن الفهم في القرآن وألطفه، ليس من باب القلب في شيء، فمن ائتم بأهل السنة قبله ائتم به من بعده ومن معه، إلى أن قال رحمه الله: "إن المتقين كلهم على طريق واحد، ومعبودهم واحد، وأتباع كتاب واحد، ونبي واحد، وعبيد رب واحد..؛ فدينهم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، ومعبودهم واحد؛ فكأنهم كلهم إمام واحد لمن بعدهم، ليسوا كالأئمة المختلفين الذين قد اختلفت طرائقهم ومذاهبهم وعقائدهم، فالائتمام إنما هو بما هم عليه وهو شيء واحد وهو الإمام في الحقيقة".
ولم تكن لهم الإمامة بالدين هكذا تخرصاً أو دعوى بل هو بتوفر شروطه ومقوماته كما في النهج الرباني (يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) فهدايتهم للخلق على وفق منهج الخالق وشرعته وصبروا على ذلك وأيقنوا بما هم عليه من الحق مع استصحابهم لأمرين : الصبر الذي يحرق فتن الشهوات، واليقين الذي يحرق فتن الشبهات. فكانت لهم الإمامة في الدين، فهم نهج واحد وبوتقة واحدة منذ بدايتهم بإرسال سيدهم محمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه من العشرة المبشرين والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان مثل: عمر بن عبد العزيز، وسعيد، ومجاهد، وابن سيرين، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والثوري، والبخاري، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، وابن مفلح، وابن حجر، وابن عبد الوهاب، والصنعاني، والشوكاني، وصديق حسن خان، وابن إبراهيم، وابن حميد، وابن باز، والألباني، والعثيمين، ومن سار على نهجهم وسلك منهجهم، فنصحوا للأمة وعرفوا حق راعيها والرعية دون تفريط أو إجحاف، فكانوا كالشامة البيضاء وهم جبين الأمة الناصع الساطع ومع هذا وقف لهم من وقف في طريقهم واتهم نياتهم وشكك في سبيلهم وهذه سنة مطردة هي سنة الابتلاء سواء الحسي أو المعنوي.. اتهام بالباطل ورمي بما هم منه براء، وهي سنة فرعونية يتصورها كل من يعادي سبيل الأنبياء، فتأمل سورة الأعراف لترى كيف اتهم فرعون إيمان السحرة بموسى وتأييدهم له بأنهم ما أرادوا بذلك وجه الله وإنما أرادوا الحكم أو المصلحة الذاتية أو النفوذ الشخصي؛ فاسمع لقوله حينما يقول : (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وقال عن الرسول الكليم عليه الصلاة والسلام : (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ).
إنها التهمة الدائمة لكل مصلح إلى قيام الساعة مع يقين من رمى بها أن المصلح براء منها كل البراءة بل أشد من براءة الذئب من دم يوسف؛ لأن هدفهم هو إصلاح العباد وتعبيدهم لرب العباد، فلماذا كل هذا على المصلحين وأتباعهم؟!.(/1)
إنها أمور حب التسلط والذات والحسد والبغي حتى حالوا بين الناس وبين أن يسمعوا كلمة المصلح سواء عن طريق القوة أو التشويه للسمعة أو الرمي بالباطل، لقد أدرك أعداء الإصلاح على حسب أنواعهم أن الكلمة قوة يدركون معناها أكثر من المستضعفين ويدركون أن الجماهير الأمية تكون سهلة الانقياد فكانت عمليات التغييب والمحو للثقافة أصلاً أصيلاً يستخدمه أعداء الملة وأنت ترى اليوم إسلاماً على النهج الأمريكي يتوافق مع سياسة حكومتها وآخر فرنسي وآخر وآخر وهكذا.. حتى ترى من يرى أن الحق مع غيره ولا يمكن أن يشتركا في الحق فيتجرأ عبر الإعلام الفضائي ليرى البريء بتهمة تكفير الحاكم أو أن في منهجه الدعوي خلل، ويسوق بهتاناً وكذباً وزوراً وتدليساً أقوال أناس قد قضوا حتفهم، ولأنهم لا يمكن استنطاقهم مع أن الواقع أنهم قد ذموه هو وحذروا منه بكلام لا يستطيع أن يمسحه الدعي إلا بالتوبة النصوح.
وهكذا يا من سلكت سبيل المصلحين الصبر الصبر واليقين اليقين وتذكر دوماً (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173))[سورة الصافات].(/2)
إنا كفيناك المستهزئين
أ.د/ ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى، ثم الصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، ورسله الذين اجتبى، وبعد..
فإن من سنة الله فيمن يؤذي رسوله، صلى الله عليه وسلم، أنه إن لم يجاز في الدنيا بيد المسلمين، فإن الله سبحانه ينتقم منه ويكفيه إياه، والحوادث التي تشير إلى هذا في السيرة النبوية وبعد عهد النبوة كثيرة، وقد قال الله تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين) [الحجر:95].
والقصة في سبب نزول الآية وإهلاك الله لهؤلاء المستهزئين واحدا واحدا معروفة قد ذكرها أهل السير والتفسير وهم على ما قيل نفر من رؤس قريش: منهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسودان ابن المطلب وابن عبد يغوث، والحارث بن قيس.
وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، وكلاهما لم يسلم، لكن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأكرم رسوله، فثبت ملكه.
قال ابن تيمية في الصارم: "فيقال: إن الملك باق في ذريته إلى اليوم"، ولا يزال الملك يتوارث في بعض بلادهم.
وأما كسرى فمزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله الله بعد قليل ومزق ملكه كل ممزق، فلم يبق للأكاسرة ملك، وهذا والله أعلم تحقيق لقوله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر) [الكوثر: 3]، فكل من شنأه وأبغضه وعاداه، فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره، وقد قيل: إنها نزلت في العاص بن وائل، أو في عقبة بن أبي معيط، أو في كعب بن الأشرف، وجميعهم أخذوا أخذ عزيز مقتدر.
ومن الكلام السائر، الذي صدقه التاريخ والواقع: "لحوم العلماء مسمومة"، فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام؟
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة" فكيف بمن عادى الأنبياء؟
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
إن من عقيدة أهل السنة أن من آذى الصحابة ولاسيما من تواتر فضله فإسلامه على شفا جرف هار، يجب ردعه وتأديبه، فكيف بمن آذى نبياً من الأنبياء، فكيف بمن آذى محمداً صلى الله عليه وسلم؟ (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً) [الأحزاب:57].
وإذا استقصيت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أهلكوا حين آذوا الأنبياء، وقابلوهم بقبيح القول أو العمل، وهكذا بنو إسرائيل إنما ضربت عليهم الذلة وباءوا بغضب من الله ولم يكن لهم نصير لقتلهم الأنبياء بغير حق، مضموماً إلى كفرهم كما ذكر الله ذلك في كتابه، فقال عز شأنه: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [آل عمران:112]. فحري بمثل هذا المستهزء المستهتر أن يُتمثل له قول الأعشى:
أَلَستَ مُنتَهِياً عَن نَحتِ أَثلَتِنا وَ لَستَ ضائِرَها ما أَطَّتِ الإِبِلُ
كَناطِحٍ صَخرَةً يَوماً لِيَفلِقَها فَلَم يَضِرها وَأَوهى قَرنَهُ الوَعِلُ
ولعل وقيعة بعض الغربيين في النبي الكريم مشعر بتهالك حضارتهم وقرب زوالها، فإنهم ما تجرأوا ولا عدلوا إلى الانتقاص وأنواع الشتم إلاّ بعد أن فقدوا المنطق، وأعوزتهم الحجة
لا تَقعُدَنَّ وَقَد أَكَّلتَها حَطَباً تَعُوذُ مِن شَرِّها يَوماً وَتَبتَهِلُ
إن مجرد إخراج النبي رفع للأمان وإيذان بحلول العذاب، ولهذا قال الله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) [الاسراء:76]، فإذا كان هذا جزاء الإخراج فكيف بالأذى والسخرية والاستهزاء؟ لعلك لا تجد أحدا آذى نبيا من الأنبياء ثم لم يتب إلا ولابد أن تصيبه قارعة، وقد قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيا وكان يقول لا يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا فأصبحوا وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه، وهذا حديث صحيح ثابت عند البخاري وغيره.(/1)
ثم قال الإمام ابن تيمية معلقاً: "وهذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذه عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذباً، إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذا كان عامة المرتدين لا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه وكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد. ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحة وتيسر ولم يكد يتأخر إلاّ يوماً أو يومين أو نحو ذلك ثم يُفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة. قالوا حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات؛ أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بأيدي عباده المؤمنين".
وقال في موضع آخر: وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة.
وقد قال أصدق القائلين سبحانه مبينا تكفله بكفاية شر هؤلاء: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 136-137].
فما أوسع البون بين أهل الإسلام الأتقياء الأنقياء الذين يؤمنون بجميع الرسل ويعظمونهم ويوقرونهم، وبين غيرهم الذين ناصبوا رسلهم العداء قديماً وحديثاً، وورثوه كابراً عن كابر.
ولاشك أن ساسة الدول الذين يغضون الطرف عن سفهائهم الواقعين في أعراض الأنبياء ليسوا عن الذم بمعزل، فإن الله سبحانه تأذن بإهلاك المدن والقرى الظالمة، ولعل من أظلم الظلم الاعتداء على الأنبياء وتنقصهم، فإن ذلك يخالف التشريعات السماوية، كما أنه مخالف للنظم والقوانيين الوضعية الكافرة الأرضية. والدول الغربية إذا لم تقم العدل لم تبق من مقومات بقائها كثير أعمدة.
ولعل وقيعة بعض الغربيين في النبي الكريم مشعر بتهالك حضارتهم وقرب زوالها، فإنهم ما تجرأوا ولا عدلوا إلى الانتقاص وأنواع الشتم إلاّ بعد أن فقدوا المنطق، وأعوزتهم الحجة، بل ظهرت عليهم حجة أهل الإسلام البالغة، وبراهين دينه الساطعة، فلم يجدوا ما يجاروها به غير الخروج إلى حد السب والشتم، تعبيراً عن حنقهم وما قام في نفوسهم تجاه المسلمين من المقت، وغفلوا أن هذا يعبر أيضاً عما قام في نفوسهم من عجز عن إظهار الحجة والبرهان، والرد بمنطق وعلم وإنصاف. فلما انهارت حضارتهم المعنوية أمام حضارة الإسلام عدلوا إلى السخرية والتنقص والشتم.
وإنك لتعجب من دول يعتذر حكماؤها لسفهائها بحجة إتاحة الحريات، مع أن شأنهم مع من عادى السامية أو تنقصها يختلف! وحسبك أن تقرير الحريات الأمريكي الأخير أشاد بحادثة تحقيق وإدانة في الدنمارك لمعادات السامية، وببعض جهود الدولة في ذلك، ولامها في بعض التقصير –وفق رؤيتهم- وفي معرض ذلك عرض بالمسلمين، فضلاً عن تغافله عن حوادث السخرية بالإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم المتكررة هناك.
ومن هنا يتبين أن مسألة الديمقراطية وقضية الحريات وقوانين الأمم المتحدة التي تزعم احترامها وحمايتها وبالأخص الدينية منها، أمور ذات معاير مختلفة عند القوم، والمعتبر عندهم فيها ما وافق اعتقادهم ودينهم وثقافتهم.(/2)
وإذا تقرر هذا فليعلم أن من واجب المسلمين أن يذبوا عن عرض رسول الله بما أطاقوا قولاً وعملاً، وأن يسعوا في محاسبة الظالم وفي إنزال العقوبة التي يستحقها به، كما قال الله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفتح:9]، وقال: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)[التوبة:40]، ومن المفارقات الظاهرة التي وقع فيها بعض المسلمين، تقصيرهم في الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنك ترى الموالد الحاشدة المكتظة بدعوى المحبة، فهل ياترى عبرت تلك الحشود التي ربما رمت غيرها بعدم محبته صلى الله عليه وسلم عن حبها بذبها عن رسولها صلى الله عليه وسلم؟ وهل أنصف النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم أولئك الذين يحاولون تصوير مسألة تنقصه –مجاملة للغرب- على أنها مسألة لاتنبغي لأنها من قبيل الحديث في الأموات؟ هل هذا علاج صحيح للقضية؟ وهل هذا هو حجمها عند المسلمين؟ أرأيتم لو استهزأ بحاكم أو ملك أو رئيس، أوَ تبقي بعدها تلك الدولة المستهزؤ بحاكمها علاقة مع الدولة التي يُستهزؤ فيها تحت سمع وبصر الساسة باسم الحريات؟ أويقبل مسلم أن تقطع دولة إسلامية علاقتها مع دولة غربية لأسباب يسيرة وقضايا هامشية ثم لا تحرك ساكنا تجاه السخرية بنبي الأمة صلى الله عليه وسلم؟
لقد كان الذب عنه صلى الله عليه وسلم، ومجازاة المعتدي وردعه من هدي الصحابة والسلف الكرام، بالعمل والقول وربما بهما جميعاً، وكم جاد إنسان منهم بنفسه في سبيل ذلك، إلاّ أنه لايتوجب على المسلم أن يُعَرِّض نفسه للهلكة في سبيل ذلك، بل له في السكوت رخصة إذا لم تكن له بالإنكار طاقة، وفي خبر عمار –رضي الله عنه- في الإكراه ونزول قول الله تعالى: (إلاّ من أكره) الآية ما يشهد لهذا، وكذلك حديث جابر في قتل محمدُ بن مسلمة كعبَ بن الأشرف، فهو يشهد لهذا المعنى، وغيره مما هو معروف عند أهل العلم.
ومن كان هذا شأنه فلا يقتله الأسى وليعلم أن الله منتقم لنبيه، وأن المجرم إذا تداركته فلتة من فلتات الدهر في الدنيا فلم تمض فيه سنة الله في أمثاله، فإن وراءه:
يوم عبوس قمطرير شره في الخلق منتشر عظيم الشان
وحسبه من خزي الدنيا أن يهلك وألسنة المليار ومن ينسلون تلعنه إلى يوم الدين، فإن المسلمين قد ينسون أموراً كثيرة ويتجاهلون مثلها، ولكنهم لاينسون ولا يغفرون لمن أساء إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم وإن تعلق بأستار الكعبة، وخاصة بعد موته صلى الله عليه وسلم وتاريخهم على هذا شاهد.
هذا والله أسأل أن يعجل بالانتصار لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يعز الإسلام وأهله إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
إنا كفيناك المستهزئين
دفاعآ عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وسرد بعضآ من سيرته قصيدة أعجبتني أحببت نقلها إليكم للفائدة وهي لشاعر سوري لايحب ذكر إسمه لتبقى هذه القصيدة خا لصة لوجه الله تعالى
تَبَّتْ يداهمْ بكرةً وأصيلا وخَلَدَتَ في حِقَبِ الزمانِ رسولا
وبقى على الأيامِ ذِكْرُكَ طيِّباً ومُجَوَّداً ... ومُرتَّلاًً ترتيلا
وتعطَّرتْ كلُّ الدُّنا بالمصطفى فالياسمينُ بفيهِ كانَ حقولا
وتَتَوَّجَ الشُّرفاءُ نعلَ محمدٍ فَغَدتْ نعالُ حبيبِنا إكليلا
**************
وقفَ الرجالُ أمامَ هيبةِ أحمدٍ وتحدّثَ النبلاءُ عنهُ طويلا
والمجدُ أطرقَ للنّبيِّ خيولَه المجدُ كانَ مبادئاً وخيولا
وتفاخَرَ التّاريخُ دونَ دَلالةٍ ما احتاجَ فخرٌ بالنبيِّ دليلا
وتسابقّ العظماءُ في أعتابهِ وتناوبوا أقدامَهُ تقبيلا
عرفوا فضائلَه وكانَ إمامَهم وكذاكَ يعرفُ فاضلٌ مفضولا
*****************
يا سيِّدَ الأخلاقِ كنتَ مثالَها لم يأتِ بعدكَ في الخلالِ مثيلا
الحِلمُ ، والصّبرُ الجميلُ ، ورأفةٌ والعفوُ ، كانَ سلاحَك المسلولا
ولكمْ يكونُ العفوُ سيْفاً باتِراً ولكمْ يكونُ جميلُهُ ... تكبيلا
****************
يا سيِّدَ الأخلاقِ تبني صرْحَهَا وتُشيِّدُ منها أَنْفُساً وَعُقُولا
أنْقَذْتَ من موتِ الجّهالةِ أُمَّةً وَبَعَثْتًها ... فَتَضَوَّأتْ قِنديلا
وأنارتِ الدّنيا قُروناً عِدَّةً كانَ التَّسَامُحُ إِرْثَها المَنْقولا
عاشَ اليهودُ مع النَّصارى بيننا وَلَداً وأحفاداً وكنتَ كفيلا
هذي حضارةُ أحمدٍ فَتَحدَّثِي ( يا إيلياءُ ) وَأَطْنِبِي تفصيلا
قدْ ينطِقُ الحجرُ الأصَمُّ مُكَبِّراً ولقد يكونُ سًكوتًهً تهليلا
غَنَّتْ ( نواعيرٌ ) بعدْلِ محمدٍ وكذا ( الفراتُ ) شَدَا فَأَسْمَعَ ( نيلا )
**************
ولَرُبَّما كانتْ كنائسُ شرْقِنا عند ( التَّعايُشِ ) شاهداً ودليلا
ولَرُبَّما وَجَدَ اليهودُ بديننا لما ( استغاثوا ) ملجأً مأمولا
ضَمِنَ المُشَرِّعُ للجميعِ حقوقَهمْ فتَنَزَّلّتْ آياتُهُ تنزيلا
الحقُّ ، والعَدْل العظيمُ ، ورحمةً مَثَّلْنَ أمَّةَ أحمدٍ تمثيلا
***************
فاسألْ عنِ ( القِبْطِيِّ ) يأخُذُ ثَأْرَهُ من ( عمروِ بن العاصِ ) تلقَ ذُهولا
( عُمَرٌ ) يُؤَرِّخُ للحقوقِ مَقُولةً " المَرءُ يولدُ مُكَرَّماً ونبيلا "
واقرأْ ( أبا بكرٍ ) يُوَصِّي جُنْدَهً لترى ( جُنَيفاً ) في العهودِ ضئِيلا
وترى المواثيقَ الدّقيقةَ وَضَّحَتْ بالعَدْلِ ما لا يَقْبَلُ التَّأويلا
واسْلُكْ قوانينَ الحقوقِ فأحمدٌ جعلَ التَّساويَ في الحقوقِ سبيلا
ساوى فلا عِرْقٌ هناك مُفَضَّلٌ الحقُّ كانَ الفضلَ والتَّفْضيلا
لو أنَّ ( فاطمةً ) وحاشا طُهْرَها سَرَقَتْ لكانَ جزاؤُها التَّنْكيلا
أو أنَّ فاطمةَ البتولَِ تجاوَزَتْ ما كانَ يَشْفَعُ ... أنْ تكونَ ... بَتُولا
شرْعُ هو النَّسَبُ الأصيلُ فهل ترى بَعْدَ العدالةِ في الحقوقِ أصولا
لا أبيضٌ ، لا أسودٌ ، لا أصفرٌ فالعُنْصُرِيَّةُ أُلْغِيَتْ ... تَشْكيلا
فَخْرُ القبائِلِ بالمحارِمِ أُسْقِطَتْ أَرْكانُهُ ، والحقُّ صَارَ ... قبيلا
***********
( الأَعْجَمِيُّ ) بِرَغْمِ عُجْمَتِهِ ارتقى بيتَ النُّبُوَّةِ ... دَوْحَةً ... وَخَمِيلا
( والهاشِمِيُّ ) بِرَغْمِ نِسْبَتِهِ انتفى وغدا على استِكْبارِهِ ... مَخْذُولا
هذا هو العدلُ الّذي ملأَ النُّفوسَ شبابَها ، في عُنْفِها ، وكُهُولا
قدْ بُورِكَ العدْلُ العظيمُ فكم بَنَى مجْداً وخَلَّدَ في القرونِ عُدولا
**************
شورى حُكُومَةُ أحمدٍ ونظامُهُ كانَ الحوارُ ضمانَها المكْفُولا
وَقَفَتْ ، تجادلُ أحمداً في زوجها إحدى النِّسا ، فَلَقَتْ لديهِ قَبُولا
واستنكَفَتْ أخرى أمامَ خليفةٍ حتى يُقَدِّمَ ... واضِحاً تعليلا
البَرْلمانُ ، ونحنُ كنَّا أصلَهُ والرَّأيُ حُرٌّ عندنا إنْ قيلا
ما صُودِرَ التَّفْكيرُ بلْ فُتِحَتْ لهُ كلُّ المنابرِ للنِّقاشِ طويلا
دينٌ على العَقْلِ السَّليمِ أَساسُهُ فترى جميعَ بِنائِهِ ... معقُولا
( وَسَطِيَّةٌ ) فيها اعتدالٌ مُحْكَمٌ قُُتِلَ ( التَّشَدُّدُ ) منْهَجاً مزْدولا
ولكمْ تدومُ على التَّوَسُّطِ فِكْرَةً تتناقّلُ الأجيالَ جيلاً ... جيلا
ولكمْ يموتُ مع التَّشَدُّدِ أهلُهُ وُلِدَ التَّشَدُّدُ ... قاتلاً ... مقتُولا
***************
حُرِّيَةُ الأديانِ ، قالَ محمدٌ توراةَ موسى كانَ أَمْ إنجيلا
لا يُكْرَهُ الإنسان فهو مخَيَّرٌ ما كانَ إكراهٌ هنا ... مقبولا
"في ذمّتي أهلُ الكتابِ فلا أذىً" قد كانَ عهداً في الرِّقاب ثقيلا
ذِمَمُ النّبيِّ أمانة ٌ قدْسيَّةٌ قَدْ بَجَّلَتْها أمّتي تبجيلا
لكنّني ماذا أقول ولا أرى إلا ضلالاً ذاعَ أو تضليلا
وَتَأَلَّبت ضِدَّ النّبيِّ محافلٌ وتحالفوا بَلْ أعلنوا التّدويلا
زّعّموا بأنَّا أمَّةٌ هَمَجِيَّةٌ بَلْ زَوَّدوا تاريخَنا تهويلا(/1)
وتَقَوَّلوا ضِدَّ النّبيِّ ودينِهِ بَلْ بَدَّلوا ... أقوالَهُ تبديلا
وتطاولوا ـ رغمَ الذي يدرونََهُ ـ كِبْراً ، وكمْ كانَ الغرورُ وبيلا
**************
الله يسمعُ ما يُقالُ بِحُبِّهِ لو شاءَ رَدّاً ... كان ( جِبرائيلا )
كَفَلَ الإلهُ الرّدَّ ... ما مُسْتهزِئٌ بمحمَّدٍ إلاّ ... وصارَ مُفَتَّتاً مأكولا
ما كانَ قصدُ الهازِئين محمداً القصْدُ ... كانَ اللهَ جلَّ وكيلا
هذا حبيبُكَ سيِّدي ما حيلتي ؟ ضاقَ الخناقُ على الجميعِ ، وَحِيلا
فإذا اعترضنا ضِدَّ ( سَبٍّ ) قيلَ صَهْ ! العصْرَ يقضي حِكْمَةً وعقولا
فَقَدَتْ عقولُ الَّناسِ كلَّ صوابِها دّجّلاً ترى في السَّاحِ أَمْ تدجيلا
سَبُّ النَّبيِّ ( حصانةٌ ) فِكْرِيَّةٌ ! ونُمِيتُهُ .. مَنْ سَبَّ ( إسرائيلا ) !
كلاّ طغاةَ الأرضِ حاشا أحمداً حتّى ولو صادَ النّجيعُ سيولا
( حُرِّيَّةُ التَّعْبيرِ ) هذه سُبَّةٌ إِنْ كانَ سَبُّ الأنبياءِ مقولا
ما كان يَجْرُؤُ ضِدَّ أحمدَ حاقدٌ لو كانَ يسمعُ للخيولِِ ... صهيلا
*****************
نامَ الرِّجالُ فيا علوجُ استَيْقظي وتمايلي وتراقصي تطبيلا
ما بالُها ( الدّنمارك ) لمْ تَعْبَأْ بنا أم صارَ جِسْمُ المسلمينَ هزيلا
هُنَّا وصارَ الضَّرْبُ يوجعُ ميِّتاً أَمَعَ الهوانِ ، نَظُنُّهُ تقبيلا
يا ربِّ أشكو ... والجراحُ ثَخِينَةٌ والذُّلُّ صارَ مُجَمَّلاً تجميلا
مَرِضَتْ سُيُوفُ المسلمينَ وخيلُهُمْ وغدا زمانُ الماجدينَ ... عليلا
وإذا سيوفُ الحقِّ ... أُهْمِلَ أمرُها أَلْفَيْتَ كلَّ مُقَدَّسٍ ........ مذلولا(/2)
إنا كفيناك المستهزئين
المصدر/المؤلف: ناصر بن سليمان العمر ... أرسلها لصديق
عرض للطباعة
عدد القرّاء: 3930
الحمد لله وكفى، ثم الصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، ورسله الذين اجتبى، وبعد..
فإن من سنة الله فيمن يؤذي رسوله، ، أنه إن لم يجاز في الدنيا بيد المسلمين، فإن الله سبحانه ينتقم منه ويكفيه إياه، والحوادث التي تشير إلى هذا في السيرة النبوية وبعد عهد النبوة كثيرة، وقد قال الله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95].
والقصة في سبب نزول الآية وإهلاك الله لهؤلاء المستهزئين واحداً واحداً معروفة قد ذكرها أهل السير والتفسير وهم على ما قيل نفر من رؤس قريش: منهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسودان ابن المطلب وابن عبد يغوث، والحارث بن قيس.
وقد كتب النبي إلى كسرى وقيصر، وكلاهما لم يسلم، لكن قيصر أكرم كتاب النبي ، وأكرم رسوله، فثبت ملكه.
قال ابن تيمية في الصارم: ( فيقال: إن الملك باق في ذريته إلى اليوم )، ولا يزال الملك يتوارث في بعض بلادهم.
وأما كسرى فمزق كتاب رسول الله ، واستهزأ برسول الله ، فقتله الله بعد قليل ومزق ملكه كل ممزق، فلم يبق للأكاسرة ملك، وهذا والله أعلم تحقيق لقوله تعالى: إن شانئك هو الأبتر [الكوثر:3]، فكل من شنأه وأبغضه وعاداه، فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره، وقد قيل: إنها نزلت في العاص بن وائل، أو في عقبة بن أبي معيط، أو في كعب بن الأشرف، وجميعهم أخذوا أخذ عزيز مقتدر.
ومن الكلام السائر، الذي صدقه التاريخ والواقع: "لحوم العلماء مسمومة"، فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام؟
وفي الصحيح عن النبي أنه قال: { يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة } فكيف بمن عادى الأنبياء؟
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه *** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
إن من عقيدة أهل السنة أن من آذى الصحابة ولاسيما من تواتر فضله فإسلامه على شفا جرف هار، يجب ردعه وتأديبه، فكيف بمن آذى نبياً من الأنبياء، فكيف بمن آذى محمداً ؟ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً [الأحزاب:57].
وإذا استقصيت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أهلكوا حين آذوا الأنبياء، وقابلوهم بقبيح القول أو العمل، وهكذا بنو إسرائيل إنما ضربت عليهم الذلة وباءوا بغضب من الله ولم يكن لهم نصير لقتلهم الأنبياء بغير حق، مضموماً إلى كفرهم كما ذكر الله ذلك في كتابه، فقال عز شأنه: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران:112]. فحري بمثل هذا المستهزء المستهتر أن يُتمثل له قول الأعشى:
أَلَستَ مُنتَهِياً عَن نَحتِ أَثلَتِنا *** وَ لَستَ ضائِرَها ما أَطَّتِ الإِبِلُ
كَناطِحٍ صَخرَةً يَوماً لِيَفلِقَها *** فَلَم يَضِرها وَأَوهى قَرنَهُ الوَعِلُ
لا تَقعُدَنَّ وَقَد أَكَّلتَها حَطَباً *** تَعُوذُ مِن شَرِّها يَوماً وَتَبتَهِلُ
إن مجرد إخراج النبي رفع للأمان وإيذان بحلول العذاب، ولهذا قال الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلاً [الإسراء:76]، فإذا كان هذا جزاء الإخراج فكيف بالأذى والسخرية والاستهزاء؟ لعلك لا تجد أحدا آذى نبيا من الأنبياء ثم لم يتب إلا ولابد أن تصيبه قارعة، وقد قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي فعاد نصرانيا وكان يقول لا يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا فأصبحوا وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه، وهذا حديث صحيح ثابت عند البخاري وغيره.(/1)
ثم قال الإمام ابن تيمية معلقاً: ( وهذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذه عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذباً، إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذا كان عامة المرتدين لا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه وكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد. ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحة وتيسر ولم يكد يتأخر إلاّ يوماً أو يومين أو نحو ذلك ثم يُفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة. قالوا حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات؛ أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بأيدي عباده المؤمنين ).
وقال في موضع آخر: ( وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة ).
وقد قال أصدق القائلين سبحانه مبينا تكفله بكفاية شر هؤلاء: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 136-137]. فما أوسع البون بين أهل الإسلام الأتقياء الأنقياء الذين يؤمنون بجميع الرسل ويعظمونهم ويوقرونهم، وبين غيرهم الذين ناصبوا رسلهم العداء قديماً وحديثاً، وورثوه كابراً عن كابر.
ولاشك أن ساسة الدول الذين يغضون الطرف عن سفهائهم الواقعين في أعراض الأنبياء ليسوا عن الذم بمعزل، فإن الله سبحانه تأذن بإهلاك المدن والقرى الظالمة، ولعل من أظلم الظلم الاعتداء على الأنبياء وتنقصهم، فإن ذلك يخالف التشريعات السماوية، كما أنه مخالف للنظم والقوانيين الوضعية الكافرة الأرضية. والدول الغربية إذا لم تقم العدل لم تبق من مقومات بقائها كثير أعمدة.
ولعل وقيعة بعض الغربيين في النبي الكريم مشعر بتهالك حضارتهم وقرب زوالها، فإنهم ما تجرأوا ولا عدلوا إلى الانتقاص وأنواع الشتم إلاّ بعد أن فقدوا المنطق، وأعوزتهم الحجة، بل ظهرت عليهم حجة أهل الإسلام البالغة، وبراهين دينه الساطعة، فلم يجدوا ما يجاروها به غير الخروج إلى حد السب والشتم، تعبيراً عن حنقهم وما قام في نفوسهم تجاه المسلمين من المقت، وغفلوا أن هذا يعبر أيضاً عما قام في نفوسهم من عجز عن إظهار الحجة والبرهان، والرد بمنطق وعلم وإنصاف. فلما انهارت حضارتهم المعنوية أمام حضارة الإسلام عدلوا إلى السخرية والتنقص والشتم.
وإنك لتعجب من دول يعتذر حكماؤها لسفهائها بحجة إتاحة الحريات، مع أن شأنهم مع من عادى السامية أو تنقصها يختلف! وحسبك أن تقرير الحريات الأمريكي الأخير أشاد بحادثة تحقيق وإدانة في الدنمارك لمعادات السامية، وببعض جهود الدولة في ذلك، ولامها في بعض التقصير -وفق رؤيتهم- وفي معرض ذلك عرض بالمسلمين، فضلاً عن تغافله عن حوادث السخرية بالإسلام ونبيه المتكررة هناك.
ومن هنا يتبين أن مسألة الديمقراطية وقضية الحريات وقوانين الأمم المتحدة التي تزعم احترامها وحمايتها وبالأخص الدينية منها، أمور ذات معاير مختلفة عند القوم، والمعتبر عندهم فيها ما وافق اعتقادهم ودينهم وثقافتهم.
وإذا تقرر هذا فليعلم أن من واجب المسلمين أن يذبوا عن عرض رسول الله بما أطاقوا قولاً وعملاً، وأن يسعوا في محاسبة الظالم وفي إنزال العقوبة التي يستحقها به، كما قال الله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:9]، وقال: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]، ومن المفارقات الظاهرة التي وقع فيها بعض المسلمين، تقصيرهم في الذب عن رسول الله ، مع أنك ترى الموالد الحاشدة المكتظة بدعوى المحبة، فهل ياترى عبرت تلك الحشود التي ربما رمت غيرها بعدم محبته عن حبها بذبها عن رسولها ؟
وهل أنصف النبي الأكرم أولئك الذين يحاولون تصوير مسألة تنقصه -مجاملة للغرب- على أنها مسألة لاتنبغي لأنها من قبيل الحديث في الأموات؟ هل هذا علاج صحيح للقضية؟ وهل هذا هو حجمها عند المسلمين؟(/2)
أرأيتم لو استهزأ بحاكم أو ملك أو رئيس، أوَ تبقي بعدها تلك الدولة المستهزؤ بحاكمها علاقة مع الدولة التي يُستهزؤ فيها تحت سمع وبصر الساسة باسم الحريات؟ أويقبل مسلم أن تقطع دولة إسلامية علاقتها مع دولة غربية لأسباب يسيرة وقضايا هامشية ثم لا تحرك ساكناً تجاه السخرية بنبي الأمة ؟
لقد كان الذب عنه ، ومجازاة المعتدي وردعه من هدي الصحابة والسلف الكرام، بالعمل والقول وربما بهما جميعاً، وكم جاد إنسان منهم بنفسه في سبيل ذلك، إلاّ أنه لايتوجب على المسلم أن يُعَرِّض نفسه للهلكة في سبيل ذلك، بل له في السكوت رخصة إذا لم تكن له بالإنكار طاقة، وفي خبر عمار –رضي الله عنه- في الإكراه ونزول قول الله تعالى: إلاّ مَنْ أُكْرِهَ الآية ما يشهد لهذا، وكذلك حديث جابر في قتل محمدُ بن مسلمة كعبَ بن الأشرف، فهو يشهد لهذا المعنى، وغيره مما هو معروف عند أهل العلم.
ومن كان هذا شأنه فلا يقتله الأسى وليعلم أن الله منتقم لنبيه، وأن المجرم إذا تداركته فلتة من فلتات الدهر في الدنيا فلم تمض فيه سنة الله في أمثاله، فإن وراءه:
يوم عبوس قمطرير شره *** في الخلق منتشر عظيم الشان
وحسبه من خزي الدنيا أن يهلك وألسنة المليار ومن ينسلون تلعنه إلى يوم الدين، فإن المسلمين قد ينسون أموراً كثيرة ويتجاهلون مثلها، ولكنهم لاينسون ولا يغفرون لمن أساء إلى نبيهم وإن تعلق بأستار الكعبة، وخاصة بعد موته وتاريخهم على هذا شاهد.
هذا والله أسأل أن يعجل بالانتصار لنبيه ، وأن يعز الإسلام وأهله إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
إنا كل شيء خلقناه بقدر
في ظل التحديات التي تواجه الدعوة الإسلامية اليوم، وهي تحديات عدة:
· تحديات تتمثل في ضخامة حجم الانحراف في الأمة والبعد عن منهج الله تبارك وتعالى.
· وتحديات تتمثل في الفساد الهائل في الأمة في الميادين الإدارية والسلوكية.
· وتحديات تتمثل في الأمراض الاجتماعية المتغلغلة في الأمة، وفشو الفقر والأمية والتخلف.
· وتحديات تتمثل في التخلف الحضاري والتقني الذي تعاني منه الأمة، وتأخرها عن ركب الأمم الأخرى.
· وتحديات تتمثل في مشكلات تعاني منها الدعوة الإسلامية كالفرقة والتناحر والصراع بين فصائل العمل الإسلامي، والخلط في مناهج التغيير وبرامج الإصلاح.
· وتحديات وتحديات….
إن الحديث عن هذه التحديات والعقبات يطول، ويصعب على امريء استقصاؤه وحصره، وهو حديث كثيراً مانطرقه ونثيره ونحن نتجاذب أطراف الحديث حول قضية الإصلاح والتغيير.
ومع الإيمان بأهمية إدراك حجم التحديات وضخامتها، وضرورة وضع الأمور في نصابها الصحيح دون تهوين، إلا أن المبالغة، أو التركيز في الحديث على جانب معين من المشكلة يؤدي إلى نتائج في الاتجاه المعاكس.
فالمنتظر من الحديث حول العقبات والتحديات أن يؤدي إلى شحذ الهمم ورفع العزيمة، والبذل والتضحية بما يتناسب معها، إلا أن الإفراط في ذلك ربما أدى إلى اليأس، فهل الطاقات المتاحة اليوم، وهل برامج العمل، وهل الصحوة بمؤسساتها الضعيفة، وقدراتها المبددة، وهي مع ذلك غير قادرة على استيعاب خلافاتها وحل مشكلاتها فضلاً عن التغيير في الواقع، هل ذلك كله يمكن أن يوصل إلى التغيير الذي نتطلع إليه في واقع المسلمين اليوم؟
إنه التفكير السريع الذي لايأخذ في حسبانه إلا العوامل المادية البشرية، لكنه حين يتجاوز ذلك، فيضع في الاعتبار القواعد والمنطلقات الشرعية تختلف النتائج، أينسى أن قدرة الله تبارك وتعالى مطلقة ومشيئته نافذة، وأن ماشاء كان وما شاء لم يكن؟ وأن قدرته تبارك وتعالى تتجاوز حسابات الناس القريبة واعتباراتهم المنحصرة في العالم المادي المحسوس؟ قال تبارك وتعالى (إنا كل شيء خلقناه بقدر. وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) وقال عز وجل (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).
وأخبر صلى الله عليه و سلم أن الدين سيعلو وينتصر لامحالة، فعن تميم الداري –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول:»ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر«([1]).
وعن أبي بن كعب –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه و سلم قال:» بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب«([2]).
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:» إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها«([3]).
إنها أخبار صادقة، ووعود لابد من أن تتحقق، فلنتوازن في تفكيرنا، ولاتسيطر علينا الحسابات المادية، ولنعلم أن قدرة الله تبارك وتعالى فوق كل حسابات البشر (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه أحمد (4/103) والحاكم بمعناه (4/430)
([2]) رواه أحمد (5/134) والحاكم (4/522) وابن حبان (2501)
([3]) رواه أبو داود (4291)(/1)
إنتاج وبيع الطيور المهجنة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/ البيوع/البيوع المنهي عنها
التاريخ ... 29/08/1426هـ
السؤال
أنا أمارس تجارة الصقور منذ زمن، وقد ظهرت في السنوات القليلة الماضية صقور جديدة، تأتينا من الخارج منتجة في الأسر عن طريق (التهجين)، حيث يعمد أصحاب مراكز إنتاج تلك الطيور إلى خلط فصائل مختلفة من أنواع الصقور من بعضها، يصل عددها في بعض الأحيان إلى خلط أربع فصائل مختلفة مع بعض؛ حتى يتم إنتاج فصيلة جديدة تختلف -في الشكل واللون والطبائع- عن الفصائل الرئيسة الطبيعية التي عرفناها نحن وأسلافنا من قبل.
وقد لاحظت في هذه الطيور المهجنة أموراً أريد معرفة الحكم فيها، أختصرها فيما يلي:
1- تكون في هذه الطيور حالات من الشراسة غير الطبيعية التي تجعلها تقتل لمجرد القتل وليس للغذاء فقط، وقد شهد إخوان لنا أنها تهاجم بني جلدتها من الصقور وتحاول قتلها، كما شهد لنا آخرون بأنهم فقدوا أحد هذه الطيور في الخلاء، ثم وجدوه بعد فترة وهو قد قتل كثيراً من الفرائس، يأكل منها الرأس فقط، ويترك باقي الجسد، ولما تتبعوا تلك الحالة غير الطبيعية وجدوا طيرهم الذي سبق أن أضاعوه هو المتسبب في ذلك.
2- توجد أنواع من هذه الطيور تنتج، وقد أصابها العقم بسبب خلط الأنواع المختلفة.
3- خلال الإنتاج يخرج عدد من تلك الطيور وقد أصيبت بتشوهات أو خلل عقلي يعيبها، فيعمد أصحاب تلك المراكز التي تنتجها إلى (إتلافها)؛ حيث لا تكون ذات جدوى اقتصادية.
4- متوسط أعمار تلك الطيور يعادل نصف متوسط عمر الصقور الطبيعية.
الجهاز المناعي في تلك الطيور يكون ضعيفاً على الأغلب، مما يتسبب في سرعة إصابتها بالأمراض، كما قد عزا بعض العلماء أن بعض الأمراض التي ظهرت حديثاً هي بسبب عمليات الخلط بين الفصائل المختلفة.
5- يكاد يكون هناك إجماع بين جميع الدول المنتجة لتلك الطيور على أنه يمنعاً منع باتاً إطلاق سراح هذه الطيور في الخلاء، أو تركها تخالط الحياة الطبيعية؛ نظراً لما قد تسببه من تلوث بيئي.
سؤالي على ثلاثة أقسام كما يلي:
1- ما حكم القيام بإنتاج مثل هذه الطيور، أو المساهمة المالية في مراكز إنتاجها؟
2- ما حكم الاتجار في هذه الأنواع بعد أن تصل لدولنا بيعاً أو شراء؟
3- ما حكم استخدام هذه الطيور خصوصاً إذا علم أن هواية الصقارة لم تعد سوى هواية للترفيه، وليست لسد الرمق كما كان في الماضي؟
الجواب
الحمد لله وحده، وبعد:
أخي السائل الكريم -حفظه الله- لقد اطلعت على سؤالك واستفسارك عن حكم المتاجرة، واستخدام الطيور (الصقور) المهجنة التي تتغير أشكالها وطباعها نتيجة التدخل في تغيير (الجينات) عن الصقور العادية، فأقول:
أولاً: لا يجوز إنشاء أو المساهمة في المراكز المالية لتهجين وتغيير جينات الطيور -كالصقور- ما دام ذلك التهجين يغير من طباعها إلى الحال الأسوأ كشراسة الصقر ونحوه، وأكله لصيده وقتله لمثله، أو إلحاقه الضرر بالتشويه ونحو ذلك.
والدليل على عدم جواز الدخول في هذه المراكز المالية عامة النصوص الشرعية، كحصول الضرر العضوي للطير، مع تقصد ضرر الإنسان للآخر، ولما في ذلك من الغش والتزوير والكذب على العامة الذين لا يدرون عن حقيقة هذا الطير المباع (الهجين).
ومن الأدلة الشرعية قوله تعالى: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون" [البقرة:188]، وحديث الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه أحمد (2865)، وابن ماجة (2341). وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "من غشنا فليس منا" أخرجه مسلم (101)، وقوله –صلى الله عليه وسلم-: "كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به" أخرجه الترمذي (614) وغيره، إلى غير ذلك من النصوص الشرعية، ولما في ذلك من تغيير لخلق الله.
ثانياً: البيع والشراء في هذا النوع من الطيور الأصل فيه الحل والجواز؛ لأنه كالسلعة المقلدة أو الرديئة مع الجيدة، فيتعين بيعهما على حقيقتهما، وإذا استفصل الزبون من البائع وجب عليه شرعاً أن يبين العيب، وإذا سكت المشتري أو كان عارفاً بالعيب فلا شيء حينئذ على البائع. ومعلوم أن الناس يتفاوتون في رغبتهم لنوع وشكل السلعة، كما تختلف قدرتهم على القيمة في شراء السلعة.(/1)
والشرع لا يلزم الناس كلهم بأن يشتروا السلعة الجيدة أو المتوسطة أو الرديئة، بل لكل سلعة ثمنها، وإنما جعل الشرع الخيار بأنواعه (كخيار العيب والغبن، إذا تبين للمشتري أن السلعة فيها عيب أو زيادة فاحشة في الثمن وجب الرد، ومع هذا فإني أنصح لإخواني المسلمين عدم تعاطي هذا النوع من السلع المباعة؛ ليبتعدوا عن الشبهة، وليأخذوا بالأحوط؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم-: "... فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات -أي عن علم ومعرفة- وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه".
ثالثاً: استخدام الصقارين هذا النوع من الطيور المعدلة جيناتها للمتعة الأصل فيه الحل والجواز، ما لم تصرف هذه الهواية صاحبها عن الطاعة، كالصلاة بأن يؤخرها أو يقدمها عن وقتها، أو تصنييع أمور البيت والأولاد بمتابعة الصيد، فحينئذ يكون من اللهو المحرم شرعاً. وجاء في حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- مرفوعاً: "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل". أخرجه أبو داود (2859) والترمذي (2256) والنسائي (4309). والله أعلم.(/2)
إنجازات الحكومة النبوية
ربما لا يعرف الكثيرون البرنامج السياسي الذي طَرَحه النبي صلى الله عليه وسلم، ومشاريعه والإنجازات التي استطاع تحقيقها في حكومته. وقد يستغرب البعض حتى من أبناء المسلمين الذين سلّموا، دون مناقشة أو دليل، بـ "العلمانية" وأن الدين مفصول عن الحياة، قد يستغربون ما سندّعيه ويظنّونه ادعاءً بلا رصيد! لكننا سنكشف رصيده بالتوثيق والأرقام على سبيل التمثيل لا الحصر في عُجالة:
1. الأمن الاجتماعي : ففي أوّل 400 سنة من الحكم الإسلامي على امتداد دولته قُطعت فقط 6 أيدٍ عقوبةً للسرقة!! أما في فترة حكم المَلِك عبد العزيز فنفّذت العقوبة على 16 سارقاً فقط خلال 24 سنة. بينما تقع في أمريكا سرقة كلّ 3 ثوانٍ (سنة 1979م)، واغتصاب 1900 امرأة كل يوم (عام 1992م). ونسبة الجرائم إلى عدد السكان في أستراليا 75 بالألف أما في مالي (نسبة المسلمين فيها 94%) فالجرائم 0.33 بالألف!!
2. الرخاء الاقتصادي : وقد بلغ ذلك الرخاء قمته ـ كما بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم ـ في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة 100هـ؛ حيث لم تكن الدولة ولا الأفراد يجدون من يقبل الدنانير الذهبية أو الدراهم الفضية من الصدقات؛ أوّلاً لأنهم مكتفون، وثانياً لأنهم أصحاب قناعة تربَّوا على العفّة. فهل رأيت أو سمعت بمجتمع مثل هذا في غير الحكومة الإسلامية؟!
3. الدولة الرائدة بين الدول : فقد انطلقت الدولة النبوية في المدينة المنورة يوم الهجرة ليُراسل قائدُها محمد صلى الله عليه وسلم سنة 6هـ ملوكَ ذلك العصر يدعوهم لاعتناق الإسلام عقيدةً وتطبيقِه شريعةً، ولم يمرّ على قيام تلك الحكومة النبوية إلا ربع قرن حتى خضعت دولتا الروم وفارس للنظام الإسلامي فانتهى بذلك عهد الظلم والاستبداد والفساد، ولازالت العزة والقوة حليفة من يحمل تعاليم الحكومة النبوية كما نشاهد نماذج في فلسطين وفي العراق وغيرهما.
4. تحرير الإنسان : وهذه أهم تلك الإنجازات حيث اعتبر الإسلامُ تَعطيلَ العقل والاتباعَ المطلق لأي إنسان (رجل دين، كان أو زعيم حزب، أو مصمم أزياء، أو نائباً يُشرّع برأيه) هو إهانة للإنسانية وكفرٌ بالله الخالق لأنّ المسلم لا يستسلم ولا ينقاد إلاّ لربه.
وختاماً فالإنجازات التي ذكرناها هي الوعود التي أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم لِعَدِيّ بن حاتم الطائي سنة 7 هـ، ويمكن لهذه الإنجازات أن تتكرر إذا حَمَلنا الدين الذي أنتجها سابقاً، وأنت صاحب القرار.(/1)
إنذار للجميع باتخاذ الحذر
الحمدلله تعالى المتفرد بالكبرياء .. المنزه عن النقائص والشركاء والصلاة والسلام على سيد الأصفياء وقدوة الأولياء وعلى آله وأصحابه سادة الأتقياء أخي الكريم .. أختي الفاضله إن الامر خطير جد خطير .. وانتبه وأرعني سمعك وأفتح قلبك .. وتمعن وتمهل وتأنى في قراءتك لهذه الكلمات ولا تخرج من هذه الصفحة كما دخلت فيهاإنه داء عظيم أصاب الكثير من البشر ... وهم في غفلة عن هذا الخطر الذي استفحل وانتشر
هاهي السنين تمرّ والأعمار تنقضي ! ومصائب الزمان لا تنقضي أحبتي .. ما من يوم يمرّ إلا وهو يحمل بين ثناياه دروساً وعبراً عظاماً ولكن يا تُرى إلى من يحملها ؟ ! ويا تُرى من يفهمها عنه ؟ !
أحبتي في الله .. كم هو مسكين هذا الإنسان ! يفتح عينيه في كل صباح على آمال عراض وينسى أنه مهما سعى لتحصيلها فلن يدرك منها إلا ما كتب له أحلام ذهبية .. وآمال وردية .. وأخيلة شهية .. ثم لا يكون إلاّ القدر ولا ينزل إلا قضاء ربّ البشر
أحبتي في الله أتدرون ماهو الداء العضال ؟ الذي حار الحكماء في دوائه ! وأطال العلماء في وصفات شفائه !
أتدري ما هو هذا الداء ؟! اتدرين ماهو هذا الداء ؟ !
إنه داء ( الغفلة و طول الامل!! ) وهاك وصفه أخي :قالوا : هو ( الحرص على الدنيا والانكباب عليها ! والحب لها ، والإعراض عن الآخرة )
وقالوا : ( الأمل رجاء ما تحبه النفس من طول عمر وزيادة غنى وهو قريب المعنى من التّمنّي )
أحبتي في الله ذاك هو طول الأمل : ( داء عضال ومرض مزمن ! ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه .. واشتد علاجه .. ولم يفارقه داء ولا نجع فيه دواء .. بل أعيا الأطباء ويئس من بُرئه الحكماء والعلماء ) الامام القرطبي
أحبتي في الله .. لقد ذم الله تعالى أعدائه بطول الأمل ! إذ أن ذلك كان سبباً في إعراضهم عن الهدى
فقال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم :{ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون }
سورة الحجر
وقال تعالى :{ ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يُعمر ألف سنة وما هو بمُزحزحه من العذاب أن يُعمر والله بصير بما يعملون }سورة البقرة
قال رسول صلى الله عليه وسلم :(( لا يزال قلب الكبير شاباً ! في اثنتين : في حب الدنيا ! وطول الأمل ))رواه البخاري ومسلم
اخي الكريم .. الا تعلم أن طول الأمل كان سبباً في هلاك كثير من الأمم ؟
وهل تعلم أخي أن قصر الأمل والزهد في الأماني كان سبباً في صلاح ذلك الجيل الطاهر من أول هذه الأمة ( رضي الله عنهم )
وإن شئت أخي الكريم وأختي الفاضله أخبرتكما عن ذلك بحق وصدق لا مرية فيه
قال صلى الله عليه وسلم : ( صلاح أول هذه الأمه بالزّهد واليقين ! ويهلك آخرها بالبخل والأمل )
رواه احمد في الزهد والطبراني في الاوسط صحيح الجامع
أخي وأختي حفظكما الله إن طول الأمل حبالة من حبالات إبليس اللعين يقذفها في طريق ابن آدم فيأسره بها ليتحكم بعدها في أمره كما يشاء !
قال بعض الحكماء ( الأمل سلطان الشيطان على قلوب الغافلين ! )
أخي .. كم هم مساكين أولئك الذين يظنون أن نسج حبال ألآمال من السعادة ! وهم قد تركوا السعادة حيث يكرهون !
قال الفضيل بن عياض ( رحمه الله ) : إن من الشقاء طول الأمل .. وقسوة القلب وجمود العين .. والبخل
أخي الفاضل أختي الكريمه
كم منّينا هذه الأنفس ؟
وكم علّلناها بالآمال العراض ؟
ولكن أخي هل حاسبناها ؟
هل سألناها ؟
ماذا تريدين من هذه الآمال ؟
أتريدين بها وجه الله والدار الآخرة ؟! أم تريدين بها الرُّكون إلى دار الغرور ؟
بل هل سألناها : أما تدرين يانفس أن الأجل بالمرصاد ؟ فقد يأخذك قبل تحقيق آمالك وما أكثر هذا يانفس هل غفلت ؟
أخي في الله وأختي حفظك الله
قفا معي قليلاً : إن سألتك أخي : ماالذي جناه أهل الآمال الطّوال ؟
هل أدركوا أمانيّهم ؟
هل حصّلوا أحلامهم ؟
والتي لطالما داعبت خيالهم
اخي .. وقف معي مرّة أخرى !! أرأيت أن أدرك أهل الآمال آمالهم ! هل أدركوها صافية خالية من الأكدار ؟
وإن كان ذلك .. هل دام ما أدركوه ؟ إن دام طويلاً هل وقفت أنفسهم عنده ؟ فقنعوا ولم يحدّثوا أنفسهم بآمال أخرى ؟
اخي .. أخيّه
هي نفسك وأنت أعلم الناس بها سلها وظنّي بك أنها لن تصدقك ! ولكنك أخي إن حاسبت نفسك عرفت أدواءها وإن عرفت الداء فإن الدّواء سهل
أخي أخيّه
ألا ترى ما في القلوب من قسوة وغفله ؟ لا الوعيد يخوفها ولا الوعد يصلحها كسولة إذا دُعيت إلى الطاعات نشيطه خفيفة إذا دعيت إلى الشهوات
إن داء طول ألأمل رأس الأدواء .. وداعية الأهواء فأعجب أخي ثم اعجب معي ( كلّنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعداً وكلّنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً وكلّنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً فعلام تُعرّجون ؟ وما عسيتم تنتظرون ؟ الموت !! ؟
فهو أول وارد عليكم من الله بخير أو بشر قال تعالى { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا}(/1)
تجد والله كل نفس ما قدمت في الأيام من الطاعات والإجرام ذلك يوم المصائب ويوم النوائب
ويوم العجائب يوم هتك الأستار يوم تُسعر فيه النار يوم يفوز في الأبرار .. ويندم فيه الفجار وتعرف العباد على الواحد القهار
فالعجب كل العجب ممن قطع عمره في الأغفال ، وضيّع أيامه في المحال ،وأفنى شبابه في الضلال ، ولم يعمل في كتاب ذي المجد والجلال قال تعالى { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا }
يقول الله تعالى يا ابن آدم تطلب موعظة ساعة وتقيم على الذنب سنة
ياأخي ويا أخيّه
أفيقوا من هذا السبات .. ولاتكونوا من أهل الغفلات وتذكروا أي وربي تذكروا إذا وقفوا في أرض القيامة فيقف كل عبد وأمة إذ نادى المنادي بإسمك يا مغرور على رؤوس ألأولين والآخرين أين فلان بن فلان أو أين فلانة بنت فلان ، هلم إلى الحساب بين يدي رب العالمين فاستقر في سمعك يامسكين إنك أنت المنادي من جميع الخلق فقمت على قدميك قد تغير من الفزع لونك
وانخلع من الجزع قلبك واضطربت من الهلع مفاصلك وقد سمع من كان حولك حسيس قلبك بالخفقان وأوصالك قد اشتدت في الطيران فكادت نفسك ان تزهق من خوف الرحمان
فإذا نظر الملك الموّكل بسوقك وقد تغير لونك وتحير لبك ، علم أنك أنت المنادى بإسمه فإذا كنت من أهل النفاق ، والعصيان للملك الخلاّق نظر على وجهك ظلمة الذنوب فعلم أنك عدو لعلام الغيوب
فجمع بين ناصيتك وقدميك ، غضباً لغضب الله عليك معشر المذنبين اجعلوا أعماركم ثلاثة أيام ، يوم مضى ويوم أنتم فيه ويوم تنتظرونه لا تدرون بما يأتيكم من صلاح أو فساد ولعلكم لا تبلغونه
فأصلحوا اليوم الذي مضى بالندم على ما فاتكم فيه من الطاعة والإحسان وما اقترفتم فيه من الذنوب والعصيان واليوم الذي مضى إنما تصلحونه في اليوم الذي أنتم فيه بالبكاء والندامة وذم النفس مع الملامة حتى متى نحن والأيام نحسبها وإنما نحن فيها بين يومين يوم تولى ويوم أنت تأمله
لعله أجلب الأيام للحين آنس ا لله روعتي وروعتكم يوم النشور وآنس وحشتي ووحشتكم في القبور إنه على ذلك قدير وهو عليه يسير وأماتنا وإياكم على هذه الكلمة شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله غير مبدلين ولا مغيرين ولا مبتدعين آمين يارب العالمين
كتيب لإزهري محمود وكتاب بستان الواعظين لابن الجوزي
منقول من موقع شبكة سحب (جزاهم الله خير)(/2)
إنسانيّة محمد
حامد بن عبد العزيز الحامد 30/12/1426
30/01/2006
محمدٌ صفوةُ الباري ورحمتُه ... ...
وبغيةُ اللهِ من خلقٍ ومن نسمِ
جاء النبيون بالآيات فانصرمت ... ...
وجئتنا بحكيمٍ غيرِ منصرمِ
شريعةٌ لك فجّرْتَ العقولَ بها ... ...
عن زاخرٍ بصنوفِ العلمِ ملتطمِ
هكذا قال أحمد شوقي عن خير البرية صلى الله عليه وسلم.
ومهما أكثرت من الثناء على هذا الإنسان فإنما تكثر من الثناء على الإنسانية التي لم تعرف مخلوقا تَمَثّلها كما تمثلها محمد صلى الله عليه وسلم.
وكفاه دليلاً على إنسانيته معجزته الخالدة، وهي القرآن، الذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).
ومن أي جانب أردتَ أن تتحدث عن الإنسانية فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي القِدْحُ المعلَّى.
إن الإنسانية ليست فلسفة وضعية يصطلح عليها مجموعة أناس يخالفهم فيها غيرهم، ولكنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي مجموعة قيم أخلاقية قد اتفق بنو آدم على استحسانها.
وأي مصلح يتكلم عن الإصلاح فإنما يتحدث عن هذه القيم الإنسانية.
ومهما بلغ هذا المصلح أو ذاك من العظمة فإنه إن استطاع تثبيت بعض القيم الإنسانية فإنه سيغفل عن جوانب أخرى تعجز نفسه عن إدراكها، بل حتى في الجوانب الإنسانية التي يريد تثبيتها، ويسخّر حياته من أجلها قد لا يعطيها حقها اللائق بها، ولا يزنها بميزان عدل، وإنما قد يتطرف بها ذات اليمين أو ذات الشمال.
وأما المصلح العظيم صلى الله عليه وسلم فهو أجل وأعظم من أن يبخس الإنسانية جانباً من جوانبها، وأعظم من ذلك فإنه قد أعطى كل جانب إنساني قدره من غير وكس ولا شطط.
ولكن هذا القسطاس المستقيم للقيم الإنسانية لن يرضي الظالمين؛ لأنه سيحدّ من جشعهم وشهواتهم؛ فتنطلق ألسنتهم وأيديهم لتعلن تمردها على مبدأ العدالة، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33).
ولو كان هذا التمرد الأخلاقي على عظيم من عظماء البشر لأمكن تحمّله؛ لأن أي عظيم
لا يستطيع أن يدّعي المثالية، بل لا بد أن يعترف بالتقصير في جانب من جوانبه الإنسانية، ولكنه يعتذر عن هذا بما عنده من حسنات تستر هذا النقص الذي هو فيه.
وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فهو كامل في مثاليته؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، قد أدّبه ربه فأحسن تأديبه، فاستحق الثناء من رب العالمين: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
والعجب أن يكون هذا التمرد على الإنسانية باسم الإنسانية؛ تبديلاً للحقائق، وتشكيكاً في المسلمات، ونتيجة لهذا التمرد تتحول القيم الإنسانية إلى نزغات بهيميّة تقوم على مبدأ الظلم والبغي والطغيان.
إن الحديث عن الجوانب الإنسانية كلها قد لا يتيسر، ولكن المتيسر هو أن نعرض بعض جوانبها على ضوء الشريعة المحمدية، حتى تستضيء البشرية بهذه الإشراقة الإنسانية.
ولعلنا نستغني عن كثير من المقدمات المنطقية حينما نعلم أن الذنب الذي جناه محمد صلى الله عليه وسلم -في نظر أعدائه- هو اعترافه بالمبادئ الإنسانية.
فاستخدام القوة -مثلاً- أمام القوى المقاتلة ليس مبدأ محمدياً ابتداء، وإنما هو مبدأ إنساني، وحيث إن الإنسانية ممثلة بمحمد صلى الله عليه وسلم أصبح استخدام القوة مبدأ محمدياً.
والإسلام -الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم - لم يقابل بقواته أمماً تقابله بالورود والرياحين، وإنما يقابل جيوشاً مدججة بالسلاح، فما معنى امتلاك تلك الأمم للسلاح؟!
بل إن الإسلام منع من استخدام القوة أمام من لا يملك القوة، كالأطفال، والنساء، والرهبان، ونحوهم، وهذا لأن الأصل في الإسلام هو السلام، وأما استخدام القوة فعارض ينتهي بانتهاء سببه.
ثم إن استخدام القوة في الإسلام لا يكون إلا أمام الجيوش المحاربة، وأما الأفراد فليس من دين الإسلام مقابلتهم بالسلاح، وإنما يُقابَلون بالهدى والصلاح.
ولعلك تعجب حينما ترى أن الإسلام قد وهب للأفراد حرية الاختيار -على عكس معتقدات الأمم الأخرى- ومع ذلك ترى الشعوب على اختلافها تتسابق إلى الدخول في دين الله أفواجاً، على عكس معتقدات الأمم الأخرى التي عجزت عن إدخال شعوبها في معتقداتها بالحديد والنار.
وأعظم من هذا حينما تجد الشعوب المختلفة تتسابق في تقديم أبنائها الأعلام لخدمة الإسلام، وهذا لإيمانها بأنها تعيش في ظل الإسلام على قاعدة: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى)، وتردّد صباح مساء قول ربها سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).
ولغتها:(/1)
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ ... ... إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
وإذا كانت هذه سياسة الإسلام أمام القوى الخارجية فإن الشريعة الإسلامية لم تهمل شؤونها الداخلية، ولأن المظاهر الإجرامية جزء من المجتمعات الإنسانية فقد وقف لها الإسلام بالمرصاد؛ ليدرأ شرها عن البلاد والعباد، فأعطى كل جريمة ما يناسبها من العقوبات التي ربما قد تصل إلى القتل، وهذه العقوبات تقرّ بها جميع الأمم، ولكنها تختلف في تحديد أنواع الجرائم التي تستحق تلك العقوبات.
وإذا كنا نريد برهاناً على صحة العقوبات الإسلامية وملاءمتها للحياة الإنسانية، فلسنا بحاجة إلى مقدمات منطقية، ولا نظريات فلسفية، وإنما يكفينا أن نلتفت إلى مجتمعات العالم أجمع؛ لنسألها:
أي المجتمعات نجحت في الحد من انتشار الجريمة؟!
ولنترك الجواب للأرقام.
ومن إنسانية الإسلام مراعاته لاختلاف القدرات العقلية لبني الإنسان، فيهب للعقول مساحة واسعة لتلعب دورها في بناء الحضارة الإسلامية، بل حتى في المسائل الشرعية يسمح بوجهات نظر مختلفة؛ اعترافاً بالطبيعة الإنسانية، وتيسيرا للأمة الإسلامية، (ولن يشادّ الدين أحدٌ
إلا غلبه).
ولكنه مع هذا لم يتجاهل التفريق بين المصالح العامة والمصالح الفردية؛ فيختار للرعاية نخبة من أولي الدّراية؛ ويَكِلُ إليهم النظر في مصالح الولاية.
وأما المصالح الفردية فقد شرع لكل فرد أن ينظر في أموره الخاصة على حسب ما تقتضيه مصلحته.
تلك هي الحرية التي يتكلم عنها الإسلام، وليست سفسطات وفلسفات تُسوَّد بها الصفحات، وتمتلئ بها المجلات، وليست شعارات ولافتات تتشدق بها المرئيات والإذاعات، حتى إذا ما أتيت
إلى الواقع لم تجدها شيئاً، وإنما تجد واقعاً لا يحرر الإنسان من الطغيان والعصيان، وإنما يحرره من مبادئه الحسان.
وهو إن طالب بالحرية فإنما يطالب بحريته الشخصية، وتسخير الإنسان لمصالحه الذاتية، بل وشهواته البهيمية.
ولعلك لا تجد أحداً من بني الإنسان يطالب بحرية مطلقة، وإنما يقيدها كل أناس على حسب ما تشتهيه أهواؤهم، وتمليه عليهم خيالاتهم، وأفضل حرية عرفها الإسلام هي تلك التي قامت على مبدأ العدل بين الناس أجمعين، على قاعدة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]. هذه بعض الجوانب الإنسانية التي يتمثلها الإسلام على قائده أفضل الصلاة والسلام.
وهي جوانب تشهد على صحة هذا الدين السماوي، وأن محمداً رسول من رب العالمين.
ومن الحيف والظلم أن يصدق شخص بالدلائل الإنسانية على صحة الرسالة المحمدية، ثم يتهجم على أمر جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، مما قد يكون متوقفاً على الوحي الذي يأتي من
رب العالمين، الذي خلق الإنسان، وعلّمه البيان، وهو أعلم بمصلحته.
فتعدد الزوجات -مثلاً- لا يستطيع العقل تحديد الأصلح فيه، فيقف عندئذ أمام الوحي السماوي موقف جاهل مسترشداً يريد الوصول إلى ما ينفعه.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم يختص ببعض الخصائص، -كتزوجه بأكثر من أربع نسوة- لا يزعزع ثقتنا به صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه قد جاءنا ببراهين ودلائل على صدقه ونصحه تجعلنا نقطع بأنه ما من خير إلا وقد دلّنا عليه، وما من شر إلا وقد حذّرنا منه، وأنه لا يأتي منه صلى الله عليه وسلم إلا ما فيه خير وصلاح.
والمريض الذي يتناول الدواء بناء على وصفة طبية إنما يتناوله بناء على ثقته بالطبيب، وأما هو فقد يكون جاهلاً بفاعلية هذا الدواء لدائه.
وسيرته صلى الله عليه وسلم كلها يشهد بعضها لبعض على أنه مصلح عظيم، وإمام قد أرسله الله رحمة للعالمين، عليه من الله أزكى الصلاة وأتم التسليم(/2)
إنما أعظكم بواحدة
عبد العزيز بن ناصر السعد
(...وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُم مِن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) [سبأ: 4346] من هذه الآيات البينات يتضح أن الموعظة الموجهة إلى مشركي قريش كانت بسبب اتهامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب تارة وبالسحر تارة أخرى دون تفكير أو تدبر، شأنهم في ذلك شأن الذين يتبعون أهواءهم وآثار آبائهم ومتبوعيهم دون دليل.
وقد أقام الله عز وجل هذه الموعظة العظيمة التي من أخذها بجميع مقوماتها فلا بد أن يصل إلى الحق وهو في الآية كون النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً من عند الله عز وجل، ونذيراً لهم بين يدي عذاب شديد، وليس كما يزعمون ويرددون دون وعي ولا نظر بأنه ساحر أو كاذب أو مجنون، (مَا بِصَاحِبِكُم مِن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) ولكي يحصل الانتفاع بهذه الموعظة العظيمة فلابد من الأخذ بجميع المقومات التي قامت عليها هذه الموعظة وهي: القيام لله تعالى: (أَن تَقُومُوا لله) والتجرد في طلب الحق.
مراجعة النفس والخلوة بها أو مع شخص ثانٍ (مَثْنَى وَفُرَادَى).
التفكر والاجتهاد فيما يقوله المخالف (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا).
وتظهر أهمية هذه المقومات في كلام علماء التفسير رحمهم الله تعالى.
يقول الشوكاني في (فتح القدير) حول قوله تعالى (إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ): أي أحذركم بواحدة وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه وأوصيكم بخصلة واحدة وهي (أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى).
وهذا تفسير للخصلة الواحدة أو بدل منها أي هي: قيامكم وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين وواحداً واحداً لأن الاجتماع يشوش الفكر، وليس المراد القيام على الرجلين بل المراد القيام لطلب الحق وإصداق الفكر فيه (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الكتاب، فإنكم عند ذلك تعلمون أن (مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) وذلك لأنهم كانوا يقولون أن محمداً مجنون، فقال لهم: اعتبروا أمري بواحدة وهي أن تقوموا لله وفي ذاته مجتمعين ومتفرقين، فيقول الرجل لصاحبه هلم فلنصدق هل رأينا بهذا الرجل من جنة أي جنون أو جربنا عليه كذباً ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه وليتفكر ولينظر.
فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق وأنه رسول من عند الله عز وجل وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون اهـ.
ويقول النسفي في تفسيره (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ): أي بخصلة واحدة وقد فسرها بقوله (أَن تَقُومُوا لله) الآية.
على أن عطف بيان لها.
وقيل في محل الرفع والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي (أَن تَقُومُوا لله) أي لوجه الله خالصة لا لحمية ولا لعصبية بل لطلب الحق.
(مَثْنَى) اثنين اثنين، و (فُرَادى) فرداً فرداً (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمر محمد وما جاء به، أما الاثنان فيتفكران يعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران نظرة الصدق والإنصاف حتى يؤدي النظر الصحيح إلى الحق.
وكذلك الفرد يتفكر مع نفسه بعدل وإنصاف وبعرض فكره على عقله.
ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أن الاجتماع مما يشوش الخواطر، ويعمي البصائر ويمنع الروية ويقلل الإنصاف فيه ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب ولا يسمع إلا نصرة المذهب. اهـ.
ويقول الشيخ السعدي (في تفسير الكريم المنان) في تفسيره لهذه الآية: أي أعظكم بخصلة واحدة أشير عليكم بها وأنصح لكم في سلوكها وهي طريق نصف لست أدعوكم إلى اتباع قولي ولا إلى ترك قولكم من دون موجب لذلك وهي (أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى) أي تنهضوا بهمة ونشاط وقصد لاتباع الصواب وإخلاص لله عز وجل مجتمعين ومتباحثين في ذلك ومتناظرين وفرادى كل واحد يخاطب نفسه بذلك فإذا قمتم لله مثنى وفرادى واستعملتم فكركم وأجلتموه وتدبرتم أحوال رسولكم هل هو مجنون فيه صفات المجانين من كلامه، وهيئته ووصفه، أم هو نبي صادق منذر لكم؟ فلو قبلوا هذه الموعظة واستعملوها لتبين لهم أكثر من غيرهم أن رسول الله ليس بمجنون، لأن هيئته ليست كهيئة المجانين وخنقهم واختلاجها..
فكل من رأى أحواله وقصده استعلام هل هو رسول الله أم لا سواء تفكر وحده أو مع غيره؛ جزم بأنه رسول الله حقاً وتبين صدقه. اهـ.(/1)
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى حول ظلال هذه الآية: وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ) الآية، إنها دعوة إلى القيام لله عز وجل بعيداً عن الهوى... بعيداً عن المصلحة، بعيداً عن ملابسات الأرض.. بعيداً عن التأثر بالتيارات في البيئة والمؤثرات الشائعة في الجماعة، بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تستشجر في القلب فتبعد به عن الله تعالى.
دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط لا مع القضايا والدعاوى الرائجة ولا مع العبارات المطاطة التي يبتعد القلب والعقل عن مواجهة الحقيقة في بساطتها، دعوة إلى منطق الفطرة الهادي الصافي بعيداً عن الضجيج والخلط واللبس والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة، وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة، منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والمؤثرات، وعلى مراقبة الله عز رجل وتقواه وهي (وَاحِدَةٍ) إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق: القيام لله لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة.. التجرد.. الخلوص.. ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.. (أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى) مثنى ليراجع أحدهما الآخر ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء، وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادئ عميق.
(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر.
وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده.
إن هو إلا القول المحكم القوي المبين اهـ.
وبعد هذه النقول من بعض كتب التفسير حول هذه الآية نستطيع الآن توضيح مقومات هذه الموعظة العظيمة وشروط الانتفاع بها بما يلي:
الشرط الأول: (أَن تَقُومُوا لله): إن هذا الشرط هو الأساس لكل عمل، وبدونه يفسد العمل، ولا يوفق فيه صاحبه ولا يبارك له فيه، فالقيام لله عز وجل هو المنطلق لصحة العمل إذا اقترن ذلك مع المتابعة فيه للرسول صلى الله عليه وسلم.
فالإخلاص في البحث عن الحق والصدق في طلبه شرط أساسي للوصول إلى ذلك الحق، وعندما يغيب الإخلاص ينعدم الانقياد إلى الحق حتى ولو كان مثل فلق الصبح، لأن من تعلق قصده بغير وجه ربه عز وجل ثقل عليه الانقياد للحق وقصرت همته عن بلوغه والعمل به.
فوجب على من أراد معرفة وجه الحق في أي أمر أن يخلص قصده ونيته لله عز وجل وأن يتجرد لاتباع الحق عند ظهوره، ولو على لسان مخالفه، وأن يعلم أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
ولكن قد يكتنف القائم لله عز وجل بعض الملابسات والظروف التي قد تغطي على الحق أو تلبسه بالباطل، فيقبل الباطل ظاناً أنه الحق وذلك بسبب بعض الظروف المحيطة به لذلك فإنه لامناص من توفر باقي الشروط للانتفاع بموعظة الله عز وجل ومنهجه السوي في الوصول إلى الحق المنشود وذلك من.
الشرط الثاني: (مَثْنَى وَفُرَادَى): والالتزام بهذا الشرط يقضي على عامل مهم من العوامل التي تغطي الحق أو تشوه وجهه، وذلك في مثل الأجواء الجماعية والجماهير الجاهلة والتي غالباً ما تتصف بالغوغائية والتقليد الأعمى واتباع كل ناعق من رؤوس الضلال، مما قد يؤدي بطالب الحق المخلص إلى اتباع الأكثرية من الناس متهماً نفسه وظاناً أن الحق مع الأكثرية، دون أن يدري أن هذه الحركة الغوغائية قد غطت الحق، وضيعت معالمه، فاشتبه مع غيره، خاصة عند من قلت بصيرته وقل نصيبه من هدى الله عز وجل وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حدث من اتهام قريش للرسول صلى الله عليه وسلم بشكل جماهيري غوغائي، وقولهم ساحر وكاهن ومجنون..
الخ، فوعظهم الله عز وجل أن يقوموا لله ويخلصوا وجوههم له ويبتعدوا عن هذه الأجواء ويرجعوا إلى أنفسهم، حيث يقف الإنسان مع نفسه أو معه صاحبه ويصحب ذلك التفكير العميق والتدبر لحال الرسول صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يصلوا إلى الحق والهدى وهو ما جاء في ختام الآية (مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).
ونخرج من هذه الآية بفائدة سيأتي تفصيلها في ثنايا البحث إن شاء الله، وهي أن القاصد للحق أو الباحث في مسألة خلافية كبيرة أو صغيرة عليه أن يتجنب المناظرة في جو جماعي، لأن المناظر يكون أقرب إلى ترك رأيه إذا تبين أن الحق في خلافه إذا كان التفكير مع شخص واحد، بخلاف حال الجماعة فقد يعز عليه الاعتراف بالخطأ أمام مؤيديه أو مخالفيه المجتمعين حوله، والله تعالى عليم بمسارب نفوس خلقه، خبير بطبائعهم فلذلك وعظهم موعظة من يعلم حالهم ويعلم ما يصلحهم ويهديهم إلى صراطه المستقيم ومنهجه القويم (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ).(/2)
الشرط الثالث: (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا): وهذا الشرط هو الوسيلة الأساسية للوصول إلى الحق بعد الالتزام بالشرطين السابقين، فالتفكير والعلم وإعمال الرأي هو المتمم لهذا المنهج الإلهي للوصول إلى الحق وتبين الهدى من الضلال، وهذا الشرط يقودنا إلى قضية هامة ألا وهي قضية العلم الشرعي، ومعرفة دين الله عز وجل، وإقامة الدليل والبرهان على ما يعتقد أنه الحق، وإذا كان الكفار الذين خوطبوا مباشرة بهذه الآية ووجهت إليهم هذه الموعظة العظيمة ما كان عندهم علم شرعي وليس عندهم الدليل فيما يعتقدونه فلذلك كان المطلوب منهم التفكير بحال الرسول صلى الله عليه وسلم وإقامة الدليل على ما يتهمونه به، إذا كان الأمر بالتفكير مع الكفار بهذه الصورة فإن الأمر بالنسبة لطالب الحق في المسائل الشرعية والعقائدية والفكرية فلا بد أن يكون مؤهلاً من الناحية العلمية لبحث هذه المسألة، ودراسة أوجه الخلاف حولها، وإلا لم يكن للتفكير فائدة كمن يحارب بغير سلاح ولا عدة، وقد كان عند كفار مكة من العلم بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته وصدقه وأمانته ما يكفي، ولو أنهم فكروا في ذلك لقادهم ذلك إلى الإذعان والانقياد للحق الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الحال لكل مختلفين أو متناظرين إذا لم يكن لديهم علم بما يختلفون فيه فإنه لا فائدة من التفكير، لأن أداة التفكير الأساسية هي العلم بحال القضية المختلف فيها فالمقصود إذن بالتفكير هنا هو البحث عن الأدلة الشرعية والتحقق من ثبوتها ودلالتها على المراد، كما يدخل في العلم أيضاً العلم بحال القضية المختلف حولها وملابساتها..
الخ.
فالجاهل بذلك كله لا يستطيع الوصول إلى الحق لفقده الأدوات الموصلة إليه، فلذلك نجد مثال هؤلاء يوجههم التقليد الأعمى دون فكر أو نظر.
وإذا كان الله عز وجل قد بين لنا في كتابه الكريم منهجاً للوصول إلى الحق فيما اختلف فيه، فإن هذا المنهج وذلك الطريق السوي يمر أحياناً عبر أنواع من الحوار والمناظرة لابد منها، فالمتتبع لمنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله وحده يجد أن أكثرهم قد وقف مع قومه موقف المناظرة وإقامة الحجة والنصح، وتبين الحق من الباطل، والصبر على ذلك، مع شدة رفضهم للحق وعنادهم وتعنتهم، ولكن مهمة البلاغ والدعوة إلى الله عز وجل تستلزم شيئاً من ضبط النفس والتحمل حتى يتم البلاغ على أكمل وجه.
ولكثرة الخلاف الواقع بين طوائف المسلمين اليوم، وخاصة بين الطوائف إلى أهل السنة؛ فإنا نقدم هذه الكلمات التي نحسب أن فيها إشارة إلى الطريقة المثلى في الحوار والمناظرة المؤدية بإذن الله عز وجل إلى الاجتماع والائتلاف في حدود منهج السلف وأصول الشريعة، وقد اتضح من الآية السابقة التي هي موضع البحث أصول للحوار نطرحها بهذه المناسبة ونضيف عليها ما وقع عليه الفكر والنظر من آداب الخلاف، وقبل ذكر هذه الأصول يحسن التقدمة لها بأهمية هذا الموضوع، وبعض التعريفات والوقفات السريعة.
أهمية هذا الموضوع: إن الإلمام بآداب الحوار والاختلاف أمر مهم ينفع صاحبه في حياته كلها، وبخاصة الداعية إلى الله عز وجل، وهذه الجوانب المفيدة كثيرة نقتصر منها على ما يلي: 1 من المعلوم أن مهمة الداعية إلى الله عز وجل هي بذل الأسباب في هداية الناس ودلالتهم إلى الخير، ولابد أن يواجهه في ذلك التواءات النفوس وخلافهم معه في الرأي، فإذا لم يكن لديه من الإلمام بآداب الحوار والاختلاف الشيء الكافي لكي يصبر ويستمر في دعوته فقد ينفر الناس منه وهو يسعى لجمعهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
2 إن أهمية الإلمام بآداب الحوار والاختلاف ترجع للظروف الملحة في هذا العصر الذي يعد عصر تعدد الجماعات الإسلامية والفرقة الموجودة بينهم، وذلك لأن الإلمام بذلك يساعد في تقارب القلوب وتفهم الأفكار مما يكون له الأثر في تضييق هوة الخلاف والتماس العذر للعاملين في الدعوة الإسلامية، وهذا يؤدي إلى الوحدة المنشودة.
3 كما يفيد تفهم هذه الآداب أيضاً في معالجة وجهات النظر المختلفة التي تكون بين أفراد المجموعة الواحدة، بل أفراد العائلة الواحدة لأن فقد هذه الآداب يضخم المشاكل ويجعل من الحبة قبة كما يقولون.
الفرد بين الجدال والحوار: الجدال: مصدر جادل وهو المناقشة على سبيل المخاصمة، ومقابلة الحجة بالحجة.
والحوار: الجواب.
حاوره محاورة وحواراً جاوبه وراجعه.
فهو مراجعة في الكلام بين طرفين أو اكثر دون ما يدل بالضرورة على وجود خصومة بينهما، وقد يكون الجدل والحوار بمعنى واحد إذا خلا الجدل من العناد والتعنت للرأي كما ذكر تعالى في سورة المجادلة حيث قال: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) فسمى الله سبحانه وتعالى مجادلة المرأة للرسول صلى الله عليه وسلم ومجاوبته لها محاورة، والله أعلم.(/3)
وعلى أية حال فالحوار كلمة غالباً ما تستعمل في المناظرة الهادئة التي يسود عليها الألفة والبحث عن الحق.
والجدال غالباً ما يكون جوه صاخباً وقد ينشأ عنه خصومة وعناد.
ما هي نتيجة الحوار؟ ليس شرطاً للحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر ويتفقان على موقف واحد فهذا نجاح لاشك فيه.
وإنما يعتبر الحوار ناجحاً أيضاً إذا توصل الطرفان إلى أن كل قول يقوله أحدهما هو صحيح.
أو في الإطار الذي يسعه الخلاف، أما فشل الحوار فيكون عندما يتشبث كل طرف برأيه ويُخَطِّىء الطرف الآخر.
بعض الآيات والأحاديث الواردة في آداب الحوار وحسن المناظرة: قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ).
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ).
(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ).
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ).
(وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
(لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ).
(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).
والآيات في ذلك كثيرة.
أما الأحاديث النبوية فمنها: » من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت «.
» الكلمة الطيبة صدقة «.
» تبسمك في وجه أخيك صدقة «.
» وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟ «.
» الكبر بطر الحق وغمط الناس «.
» الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها «.
» يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا «.
» ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب «.
» إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطيه على العنف، ومالا يعطي على سواه «.
والأحاديث في ذلك كثيرة.
والآن وبعد هذه التعريفات والآيات والأحاديث التي تشير إلى الآداب الإسلامية في المعاملة مع الناس ومحاورتهم نأتي لتفصيل أصول الحوار في ضوء الآية الكريمة التي كانت منطلق هذا البحث وهي قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).
وكما تمت الإشارة في تفسير هذه الآية وما يتعلق بها أنها تعتبر منهجاً قويماً لمن أراد الوصول إلى الحق، ولأن الحوار المقصود منه الوصول إلى الحق فإن هذه الآية الكريمة ترسم لنا بمقوماتها الثلاثة أصول الحوار الصادق، وذلك فيما يلي: الأصل الأول: الإخلاص لله عز رجل والتجرد الكامل قبل الحوار وأثناءه وبعده (أَن تَقُومُوا لله).
الأصل الثاني: العلم بحقيقة واقع القضية المطروحة من الناحية الشرعية والواقعية (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا).
الأصل الثالث: اعتبار مراعاة ظروف الحوار والمحاورة (مَثْنَى وَفُرَادَى).
الأصل الأول: الإخلاص لله عز وجل والقيام له وحده (أَن تَقُومُوا لله): ويدخل تحت هذا الأصل عدة متعلقات نذكر منها ما يلي: أ تصحيح النية قبل الدخول في الحوار: وذلك بمساءلة النفس عن الغرض من الحوار هل هو إرادة الحق فحسب، أو أن هناك أغراضاً أخرى كحب الظهور وإفحام الخصم أو أن يرى الناس مكانه، فإذا كانت هذه الأغراض موجودة فليحجم المحاور عن الحوار حتى تتجرد نيته تماماً لله عز وجل وأنه يريد الحق ولو ظهر على لسان الطرف الآخر.
ب حسن الاستماع والاهتمام بكلام الطرف الآخر: فالمتحدث البارع مستمع بارع فلابد من حسن الاستماع والانتباه لما يقوله الطرف المقابل وعدم مقاطعته وتركه حتى ينتهي ويدون أي فكرة تطرأ أثناء كلامه حتى يفرغ تماماً وهذا من التواضع وإعطاء الأهمية لكلام الآخرين حتى لا يحصل العجب بالنفس وأنه الذي ينبغي أن يستمع له وأن غيره ليس عنده ما يستحق ذلك، كذلك على المحاور المخلص أن يراعي الوقت أثناء حديثه فلا يستأثر بالكلام كله بل يعطي الفرصة المكافئة للطرف الآخر حتى لا يحصل العجب بالنفس المنافي للإخلاص أو الاحتقار للطرف الآخر، وكذلك لأن المستمع لا يستطيع أن يركز في سماع من يحاوره دون مقاطعة له أو انشغال عنه أكثر من ربع ساعة وبعد ذلك يكل الذهن ويقل التركيز وكما يقال: (إذا أردت أن ينفض الناس من حولك ويسخرون منك فتكلم بغير انقطاع ولا تعطي لأحد الفرصة في الحديث).
ج مراقبة النفس أثناء الحوار: جرت العادة عند أكثر المتحاورين أن يركزوا انتباههم على الطرف الآخر يحصرون الملاحظات على فكرته وطريقته في الحوار، دون أن يراقبوا أنفسهم بنفس المقياس، فينسى الإنسان نفسه ونوازعها ونبرات صوته وطريقته في الرد مما يكون له أثر سيء على الحوار.(/4)
ولاشك أن الإخلاص في الحوار يجعل الإنسان ينتبه لنفسه وعيوبه أكثر من غيره، وضعف الإخلاص يحدث في النفس عجباً وشعوراً بأنها فوق الملاحظات.
د التسليم بالخطأ: الإنسان بشر يخطىء ويصيب، فمن الطبيعي أن يخطىء المحاور في مناقشاته وحواره مع غيره، والإخلاص لله عز وجل يفرض عليه التسليم بالخطأ عندما يتبين له وجه الصواب، بل يشكر لصاحبه فضله في تبصيره له بالخطأ.
هـ الحذر من الكذب والغموض واللف والدوران: قد يلجأ المحاور إلى الأساليب الغامضة بل الكذب أحياناً إذا أحس بضعف حجته، أو أنه يريد أن يلبس على الطرف الآخر ويوهمه بما ليس له حقيقة، وهذه صفة ذميمة يرفضها الإخلاص لله تعالى والخلق الكريم، بل إن الحوار المبارك هو الحوار الصادق الذي يطمئن كل طرف فيه إلى الآخر، وإذا طرح سؤال لا يريد أحد الطرفين الإجابة عليه فيعتذر عن الإجابة، ولا يلجأ إلى الغموض واللف والدوران لأنه إذا فقدت الثقة بين الطرفين فقد فشل الحوار.
و الأمانة: لابد من الأمانة في العرض والنقل واحترام الحقيقة وأن لا تقطع عبارة عن سابقتها أو لاحقتها عند الاقتباس لتخضعها لخدمة فكرتك فهذا نقص في الدين والإخلاص لأنه أخو الكذب فضلاً عن أنه يُعرِّض من هذه صفته للسخرية وعدم الثقة به لتلاعبه بالنصوص.
ز الإنصاف: من الإنصاف أن يبدي المحاور إعجابه وثناءه على الأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة وحسن الاستدلال والمعلومات الجديدة التي يوردها الطرف الآخر ويسلم بها وأن يذكر الطرف الآخر الإيجابيات والحسنات التي تتمثل فيه أو في فكرته وإن ظهر معها جوانب سلبية، كما أن من الإنصاف وضع النفس موضع الطرف الآخر والظروف المحيطة به والتي أدت به إلى الرأي المخالف.
ح وضع الخطأ في حجمه الطبيعي وتجنب الشماتة: عند وضوح خطأ الطرف الآخر يجب أن يشعر بأن الخطأ ميسور التصحيح حتى لا يداخله الشيطان وتفقده الدعوة من جراء خطئه كما أن تواضع الطرف المصيب أمر مهم حتى لا يداخله الشيطان فيشعر بالتعالي على الطرف الآخر أو يشمت به وبفكرته الخاطئة، فالمسلم المخلص يقصد من الحوار إظهار الحق ولو على لسان مخالفه.
ط على كل طرف في الحوار تجنب الهزء والسخرية وكل ما يشعر باحتقار أحدهما للآخر أو ازدرائه لفكرته أو وسمه بالجهل أو قلة الفهم أو التبسمات والضحكات التي تدل على السخرية.
ي تجنب ضمائر المتكلم أثناء الحديث: حتى لا يدخل الشيطان إلى النفس فيقع فيها العجب والغرور، ينبغي تجنب إدخال ضمائر المتكلم أو ضمير الجماعة في الحديث كتكرار (نحن، أنا، عندنا … الخ) مع ما فيها من المضايقة للطرف الآخر.
http://www.albayanmagazine.com المصدر:(/5)
إنما نحن فتنة فلا تكفر..
المصدر/المؤلف: فيصل عبدالله العمري ... أرسلها لصديق
عرض للطباعة
عدد القرّاء: 3132
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله الطيبين وصحبه أجمعين وبعد:
فمن المخاطر العظيمة التي أفسدت المجتمعات وفرقت الأسر وأدخلت البلاء والأمراض على الناس (السحر) وما يتبعه من شرور، لذا كان لزاماً أن يفهم الناس حقيقته ويعرفوا خطره ويتقوا شره، حتى لا يقع في فعله من يجهل حكمه، أو يتورط به من يأمن مكره، فإليك أخي الكريم هذه النقاط المختصرة التي توضح لك إن شاء الله بعض معالمه وتدلك على بعض مخاطره:
1- تعريف (السحر) وبيان حقيقته:
السحر: في اللغة يطلق على ما خفي ولطف سببه، لذلك تقول العرب في الشديد الخفاء: أخفي من السحر. وهو في الاصطلاح الشرعي كما يقول ابن قدامة في المغني: ( عقد ورقى يتكلم به و يكتبه، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له ) [المغني:8/150].
ـ والسحر له حقيقة وتأثير، وقد يموت المسحور أو يتغير طبعه وعاداته، وله تثير في إيلام الجسم و إتلافه، وهذا هو الذي عليه عامة العلماء ويدل عليه الكتب والسنة الصحيحة [أنظر المجموع للنووي:19/240و الفروق للقرفي:4/149،وغيرها].
ـ والسحر منه ما يكون بهمة الساحر مع استعانته بالشيطان الذي يعينه على الفساد والإفساد فتتحد نفس الساحر مع نفس الشيطان فيحدث عند ذلك الفساد والإفساد، وهو مبني على أقوال وأعمال مخصوصة تصدر من الساحر تؤثر في الآخرين بقدرة الله، وهو النوع الأول من السحر.
والثاني: وهو سحر الطلسمات: وهو عمل يقوم به الساحر بمساعدة الشيطان أو بناء على أمره على الورق أو القماش أو المعادن ونحوها، بشكل مخصوص وفي وقت مخصوص وبحجم وصورة معينة لضرر نفر أو أكثر في شخصه أو ما يملكه. وهذه من أهم أنواع السحر.
2- حكم السحر وبيان خطره:
اعلم أن السحر لا يتم إلا بالاستعانة بالشياطين والعبودية لها بالقول والفعل وتناول المحرمات والخبائث ونحو ذلك، وهذا كله كفر وشرك لا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يأتيه. والأدلة على كفر الساحر كثيرة منها:
أ ـ قال تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102] ووجه الاستدلال بالآية أنها رتبت الحكم وهو الكفر على الوصف المناسب وهو السحر، وهذا مُبين بأن العلة في الكفر هو السحر.
ب ـ قال تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:102] ودلالة الآية على المطلوب من وجوه:
1) التصريح بأن تعلمه كفر بقوله: فَلاَ تَكْفُرْ يقول صديق حسن خان: ( الآية دليل على أن تعلم السحر كفر، وظاهره عدم التفريق بين المعتقد وغير المعتقد وبين من تعلمه ليكون ساحراً ومن تعلمه ليقدر على دفعه ) [نيل المرام:21].
2) أن السحر لا نفع فيه وما كان لا نفع فيه فإن الله لا يبيحه لعباده.
3) التنصيص على أن من أشتره ماله في الآخرة من خلاق، والخلاق النصيب، والذي ليس له في الآخرة نصيب هو الكافر.
ج ـ قال تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69] ونفي الفلاح هنا يعم جميع الفلاح في الدنيا والآخرة وهذا دليل على كفره لأن الفلاح لا ينفى بالكلية إلا عن الكافر الذي لا خير فيه.
وقد أجمع العلماء على حرمة تعلم السحر وتعليمه، قال ابن قدامه رحمه الله: ( تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم )، وقال الذهبي رحمه الله في كتابه الكبائر: ( الكبيرة الثالثة في السحر، لأن الساحر لابد وأن يكفر قال تعالى: وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]... إلى أن قال: فترى خلقاً كثيراً من الضلال يدخلون في السحر ويضنونه حراماً فقط، ولا يشعرون أنه الكفر، ويدخلون في تعليم السيمياء ـ نوع من السحر ـ وهي محض السحر، وفي عقد الرجل عن زوجته وهو سحر، وفي محبة الرجل للمرأة وبغضها له، بكلمات مجهولة أكثرها شرك وضلال ) [الكبائر:14]. وقال الشيخ حافظ حكمي: ( وقد علم أن السحر لا يعمل إلا مع كفر بالله ) [معارج القبول:1/512].
3- طرق الوقاية من السحر:
خير علاج للسحر أن يتقيه المرء قبل وقوعه إذ الوقاية خير من العلاج، والساحر إنسان ضال يحب الشر والإفساد، وهو يستعين على أغراضه الفاسدة بالشيطان، وقد بين القرآن كيف يحصن المسلم نفسه من الشيطان وأعوانه وأتباعه ومن ذلك:(/1)
1) تجريد التوحيد لله والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب وأن كل ما حوله بيد الله وأن لن يضره شيء ولا ينفه إلا بإذن الله قال تعالى: وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ [البقرة:102].
2) الاستعاذة بالله من الشيطان قال تعالى: وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ*وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [المؤمنون:98،97].
3) تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً [الطلاق: 2] وقال تعالى: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].
4) التوكل على الله والاعتماد عليه وهو من أقوى الأسباب في دفع كل الشرور عن العبد فمن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه قال تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
5) المحافظة على الأذكار اليومية من أذكار الصباح والمساء والنوم ونحوها، والتهليل مئة مرة في اليوم، وقراءة آخر آيتين من سورة البقرة، وأية الكرسي وغيرها من التحصينات الواردة في الكتاب والسنة.
4- طرق علاج السحر:
ما أنزل الله من داء إلا وله دواء وقد جعل الله للسحر كغيره من الأدواء أسباباً لإزالته ورفعه ومن ذلك:
1) وهو من أعظم الأسباب وأقواها على الإطلاق وهو سؤال الله تعالى أن يرفع عنه ما به من داء ويلجأ إلى الله بصدق وإخلاص ويتحرى أسباب الإجابة ومواطنها قال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62].
2) الرقى والتعاويذ الشرعية بكلام الله وكلام رسوله ، وكل كلام شرعي ليس فيه شرك ولا كفر من الاستعانة بغير الله أو نحو ذلك، وأن تكون بكلام عربي مفهوم، وأن لا يعتقد فيها التأثير بنفسها وإنما هي سبب من الأسباب.
3) استخراج السحر وإبطاله وهو من أبلغها وهو بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها.
4) استعمال الأدوية المباحة التي يعرفها الأطباء وأهل العلم مثل تناول سبع تمرات من عجوة صبيحة كل يوم وهي تقي من السحر قبل وقوعه، و تنفع في حله بعد وقوعه كما في صحيح البخاري عن النبي : { من اصطبح بسبع تمرات من عجوة ـ وفي رواية من تمر المدينة ـ لم يضره سحر ولا سم ذلك اليوم إلى الليل }. كذلك ما ذكره العلماء من أخذ سبع ورقات من سدر أخضر ودقها بين حجرين، ثم يضربه بالماء ويقرءا آية الكرسي والقواقل، ثم يحسوا منه ثلاث حسيات ثم يغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به. وذكر العلماء غيرها من أنواع النشرة التي يفك بها السحر [أنظر كلام ابن حجر في فتح الباري:10/233].
5) الحجامة في المكان الذي يصل إليه أذي السحر، فإذا ظهر أثره في عضو وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو نفع جداً.
فهذا أخي الكريم بعض الإشارات حول هذا الموضوع الكبير الذي عم خطره وتعدى ضرره، فأسأل الله العظيم أن يقيني وإياك شر الأشرار وكيد الفجار وأن يرفع الضر عن المتضررين بالسحر وغيره وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/2)
إنه الموت الذي يُحيي الموتى
أ.د/
جابر قميحة
komeha@menanet.net
الشاعر الفلسطيني أبو الطيب عبد الرحيم محمود (1913 - 1947م) الذي استشهد وهو يقاتل الصهاينة في موقعة الشجرة, هذا الشاعر البطل الشهيد عرفته شعرًا قبل أن أعرفه شاعرًا, عرفته كلمات قبل أن أعرفه رجلاً وإنسانًا, ففي أواخر الأربعينيات - ونحن تلاميذ صغار في المرحلة الابتدائية - كنا نتغني بكلماته القوية الرنانة الآسرة:
سأحمل روحي علي راحتي وأُلقي بها في مهاوي الردَي
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدي
كنا نردد هذه الكلمات - دون أن تنسب لقائلها, ولو نسبتٍ فلن يغني ذلك شيئًا» فما كان منا أحد - في هذه السن الباكرة - يعرف من هو عبد الرحيم محمود, وما كان أساتذتنا يقفون قصيرًا أو طويلاً إلا أمام الأسماء المتوهجة المشهورة, من أمثال أحمد شوقي, وحافظ إبراهيم, وخليل مطران, وإيليا أبي ماضي, وأحمد محرم.
كانت مأساة فلسطين في تلك الأيام في بداية نضجها المنكود: ولدت إسرائيل بعد مخاض اشترك فيه الاحتلال الإنجليزي, والصهيونية, والصليبية العالمية, والتقاعس العربي, وظلت أبيات عبد الرحيم محمود رنينًا في أذنيّ ذا عبق خاص, ونكهة غريبة, تختلف عما أجده في شعر الحماسة والوطنية الذي كنا نحفظه في هذه المرحلة. وكان تأثير البيت الأول أقوي في نفسي من تأثير البيت الثاني, لأني لم أكن مقتنعًا بمضمون شطره الثاني, وكنت أتحدث إلي نفسي: حياة تسر الصديق.. نعم, ولكن ممات يغيظ العدَي كيف? كيف.. والأعداء يسرهم أن يموت كل مواطن مناضل, وكل مكافح شريف. ؟
ثم تمر الأيام, واكتشف المعني الكبير الخالد في مثل هذا الممات الذي يغيظ الأعداء, ويثيرهم, ويحزنهم, بل يزلزل أركانهم, ويقوض بنياتهم, إنه الموت «الخالق البنّاء».. الموت المشًّيد المعٍلي, الموت الباعث الناشر, هو الموت الذي كشف أحمد شوقي عن مفهومه الجليل العظيم في قوله:
ولا يبني الممالك كالضحايا ولا يدني الحقوق ولا يحقُ
ففي القتلي لأجيال حياة وفي الأسري فديً لهمو وعتقُ
إنه مفهوم علوي يسبح في أفق قوله تعالي: {يخرج الحي من الميت}[الأنعام: 95], نعم.. لا بد من موت بالقوة, والحق, والثبات, ولو «مات» مثل هذا الموت, لماتت مثل هذه الحياة.
وبذلك استطعت أن أسبح في هذا الأفق بوجداني, قبل أن أعيشه بعقلي. ثم أهتدي للتفسير الذي كفاني وشفاني, تفسير ذلك «الموت الذي يغيظ العدى», وعرفت كيف تنتصر الحياة بمثل هذا الموت, وعرفت أن الحقيقة التاريخية التي لا تطمس تتلخص في أن الانتصارات الكبري تعتمد علي هؤلاء الذين تقدموا الصفوف, وقادوا الرجال, وجادوا بالنفوس, ومضوا في التاريخ شعلات, وقدٍوات تتفجر منها حيوات خالدات, تبني, وتعلي, ولا تموت.
إنها كلمات لا تحتمل الكذب أو التكذيب, كلمات تعكسها, وتجسدها - في قوة وأمانة - الانتفاضة الفلسطينية المباركة, ففي كل يوم تسيل دماء, ويسقط شهداء من الرجال والنساء والأطفال, وتنسف بيوت, وتحرق مزارع. وكل هذه التضحيات في مواجهات غير متكافئة, ومع ذلك زرعت الرعب في قلوب الصهاينة, وأطارت النوم من عيونهم, وجعلت أبناء الشعب الفلسطيني يدركون, ويؤمنون أنه لا حل لقضيتهم إلا بالحجر والرشاش, ومزيد من الدماء والشهداء.
فليخرس المطبعون من أذناب الثور الأمريكي, وليخرس طلاب الدنيا والأرصدة المتضخمة من رجال السلطة الفلسطينية وأشياعهم الذين يدعون الشعب الفلسطيني المناضل إلي السكينة والهدوء, وإلقاء السلاح, و«نبذ العنف», حرصًا علي السلام والسلامة, وحقنا للدماء, ليخرس هؤلاء جميعًا, فلا مكان لهم في مسيرة النضال.. مسيرة الموت الشريف, من أجل ميلاد جديد لحياة الكرامة, وكرامة الحياة(/1)
إنه من يتق ويصبر*
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
إن العفيف –وإن بلغ الغاية في تمام العفة- قد يرمى بالسوء ظلماً، ولكن كما قال الله _تعالى_ خبراً عن نبيه يوسف: "إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين"، فلتثق بالله كل عفيفة حصان رزان ولغ في عرضها والغ ولتعلم أن العاقبة لها، قذف جريجٌ عابدُ بني إسرائيل فأنطق الله الغلام شاهداً على براءته، وقذفت المعاذة المصطفاة المبرأة مريم _عليها السلام_ فقام عيسى _عليه السلام_ خطيباً رضيعاً مقرراً طهرها، وقذفت الصديقة بنت الصديق _رضي الله عنهما_، فتكلم الله _تعالى_ وأنزل من السماء براءتها.
ولما رمي يوسف _عليه السلام_ بالسوء ظلماً أنطق الله بالحق شاهداً من أهل قاذفته ببراءته وإدانتها، "... وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ" [يوسف:26]، بل لو ما قد القميص لكانت قرائن الأحوال تشهد لبراءته، فرجل عند الباب يلهث، وامرأة مهيئة، وقميص حسن المظهر لا يبدو عليه أثر شيء فعلى ماذا يدل هذا؟
لقد زعمت يمنٌ بأني أردتُها ... ...
على نفسها، تباً لذلك من فعلٍ
سلوا عن قميصي مثل شاهد يوسفٍ ... ...
فإن قميصي لم يكن قُد من قبلٍ
وقد عبر هنا بلفظ الشهادة مع أن الشاهد لم ير ما دار بينهما، وفي هذا دليل على أن الأثر يستدل به على المؤثر، ويشهد به إذا قويت دلائله، ولهذا شهد الله أنه لا إله إلاّ هو والملائكة وألوا العلم قائماً بالقسط أنه لا إله إلاّ هو، وأهل العلم ما رأوه، وإذا رأيت بقعة من الضوء في رقعة مظلمة، كان لك أن تشهد بأن في الجانب الآخر شيء يبعثها، والشهادة في اللغة من (شهد) أصل يدل على حضور وعلم وإعلام. ثم إن المشهود عليه في الآية قد جاء مفسراً فشاهدته: إن كان قيمصه قد من قبل فصدقت، وإن كان العكس فكذبت، ولم يقل: شهد أنه رآها ترواده، غير أن التعبير بلفظ الشهادة لايبعد أن يفهم منه الإشارة إلى وجود هذا الشاهد في بعض محال القصر فكأنه كان حاضراً وإن لم يكن في مكان يهيئ له أن يرى شيئاً ولهذا استخدم الدليل العقلي، وربما سمع الجلبة فاستشرف الأمر فصادف العزيز والمرأة ويوسف فاقتضى ذلك استشهاد العزيز له. وقد اختلف المفسرون في الشاهد، هل كان رضيعاً شهد الموقف فأنطقه الله -تعالى- أم كان راشداً استشاره العزيز فأشار عليه؟ والقول الأول لا دليل عليه، بل قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)(1) ولم يذكره منهم.كما أن الشاهد ساق دليلاً عقلياً تبين به مَن المخطئ، ومثل هذا الكلام لا يصدر إلا من راشد صاحب رأي. وعوداً على المراد فإن هذه الآيات تبين أن العفيف قد يرمى بالسوء جوراً، فإن كان ذلك فالله حسبه، وعليه أجره، ومن كان الله معه فأي كيد –مهما عظم- يضره؟
وإذا كان القوم قد بهتوا ذئباً، حيوان عرف جنسه بالغدر وضرب به المثل فيه، فلما كان البهتان برأه الله، فكذب الناس دم القميص وأبدوا أنه لا ذنب للذيب في تلك الأكاذيب، أفلا يليق بعد ذلك بعبد الله الصالح المفترى عليه بالزور جوراً أن يثق بتدبير الله الخير له؟ بلى والله، وإن عظم الكيد، وإن تتابع المكر: "... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ". [لأنفال:30].(/1)
إنها آيات الله حقًا .. أفلا نتدبر؟!
د. أسماء الحسين 14/12/1425
25/01/2005
عندما قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: من الآية28]؛ فلأنهم أقرب العالمين إلى التدبر والخشوع الحقيقي، والدعوة إلى الله على بصيرة، والجهاد في إيصال تلك الحقائق المتعلقة بالعبادة للناس، وهذا نهج الرسول -عليه الصلاة والسلام- ومن سار من بعده إلى يوم يبعثون.
ولأن القرآن هو الدستور الخالد الذي نستقي منه العلم والعبادات إلى يوم القيامة، وهو كلام الله الذي أوحى به إلى عبده ونبيه محمد -عليه الصلاة والسلام- والذي يتعدى واجبنا تجاهه الحناجر إلى المشاعر والسلوكيات. فالمتأمل بل المتدبر في كثير من آياته يستشعر هيبة الله تعالى وكلامه الحق، ولاسيما عندما يربطه بما يحدث في الكون، وكله في أصله بتدبير الله تعالى وحكمته؛ لنتأمل هذه الآية على سبيل المثال: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد:13]، ويقول سبحانه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: من الآية53]، وللأسف لا يزال بيننا –ممن تخطّى حدود التفاؤل إلى الغفلة يتجاهل عملية الربط هذه استنادًا إلى نفسيته المنغمسة في الصفاء المادي أو نصف علمه، والله تعالى يقول: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء: من الآية85] إذا كان هذا الأمر يشمل العلماء، فما حال أنصاف العلماء، بل ومن لا علم شرعياً لديه؟!
ولا أعلم: هل ينتظر مثل أولئك أو البعض منّا أن تقوم الساعة وهم ينظرون، وقد جاء أشراطها، أم يحل الأمر بأرضهم –لا قدّر الله- حتى يعلموا أنه الحق، ويسلموا تسليماً، ولنا في فرعون عدو الله، وقوم عاد وثمود عبرة وأيما عبرة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [النازعات:26]، ,هذا الكلام أعني به ليس غير المسلمين وحسب، بل أعني به أيضاً عدداً كبيراً من المسلمين ذوي الثقافة الدينية المحدودة، أو من ذوي التعايش السلمي –إن جاز لي التعبير- مع النصوص الشرعية، والعلم الشرعي، والغافلين من باب أولى .. والذين يتذكرون جيدًا أنصبتهم من الدنيا على حساب الآخرة، ولا يعني هذا أن المؤمن نفسه لا يخاف. بل لطالما خاف رسول الهدى والسماحة الأقرب إلى الله من أن يقع عذاب الله؛ فمن يأمنه؟!
وفي حديث صحيح قالت عائشة –رضي الله عنها-: "يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال: "يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ عُذِّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: هذا عارض ممطرنا" (رواه البخاري ومسلم).
وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أُرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أُرسلت به" (رواه مسلم).
ولنتأمل هذه الآية الكريمة، حيث يقول الله –عز وجل-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41] إن المتأمل في هذه الآية الكريمة ليدرك أن ما يحدث من كوارث وحروب وابتلاءات مرتبطة بعد إرادة الله في الغالب بمعاصي الخلق والإصرار على الذنوب، وظهور البدع، وغياب الدور الآمر الناهي في سبيل الخير والإصلاح ليس في بلاد بعينها، وإنما في بلاد العالمين قاطبة (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود: من الآية83]، ويقول الحق جلّ وعلا: (وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)[الرعد: من الآية31] وفي أهون التوقعات تأتي لإنعاش القلوب الخاملة.
وأما من يقول: وما ذنب المستضعفين أو الصالحين أن يعمهم مثل تلك الكوارث والابتلاءات التي نسمعها ونشاهدها اليوم؟
فيرد عليهم هذا الحديث: حيث خرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يومًا فزعًا محمرًا وجهه، يقول: "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام، والتي تليها، قالت زينب بنت جحش –رضي الله عنها- فقلت: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث" (رواه مسلم).
العلماء يدركون ذلك، أما غير العلماء فمنهم من ينكر ومنهم من يتجاهل، ومنهم من يريد قلب الحقائق رأسًا على عقب.(/1)
وحسبنا التأمل والتدبر فيما يحدث. حيث يخاف المسلم على دينه في وقت يكثر فيه ظهور الفتن، فيصبح المؤمن كافرًا ويمسي الكافر مؤمنًا، ويصبح بالفعل القابض على دينه كالقابض على الجمر في زمن يأتي أو يقترب كما قال عليه الصلاة والسلام.
ولنتأمل في حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل القتل، حتى يكثر فيكم المال فيغيض" (رواه البخاري).
وفي حديث رواه الوادعي وصححه الألباني: "رفع وهو يوحى إلي أني مكفوت غير لابث فيكم ولستم لابثين بعدي إلا قليلاً، بل تلبثون حتى تقولوا متى وستأتون أفنادًا يفني بعضكم بعضًا، وبين يدي الساعة موتان شديد وبعده سنوات الزلازل" (رواه الوادعي وصححه الألباني).
إن هذا الأمر لا يعني صفوة العلماء، والمستقيمين، وحسب، بل هي فرصة للمقصرين –ومن منا لم يقصر- والخطائين وكل ابن آدم خطاء للرجوع إلى الله –تعالى- وتفقد جوانب القصور، وعدم الإصرار على المعصية، أو كل ما ينأى بنا عن النهج المستقيم.
ويحذر الله تعالى ممن يستمع القول فيستهزئ به، أو يلمز القائلين الحق والداعين إليه، وليست القوانين أو البروتوكولات الدولية هي ما يعلي من شأن العلماء بل إنه الخالق –جلا وعلا- من يأمر بطاعتهم واحترامهم واتباعهم.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11].
وقد قال بعض المنافقين ما رأينا أرغب بطونًا ولا أجبن عند اللقاء من قرائنا هؤلاء.. فنزل قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) [التوبة:65]، إنني لأحترم رجلاً يقول: لا أعلم، أو يعترف بتقصيره، على رجل يدّعي أنه على حق وغيره على باطل، أو يخوض ويفتي بغير علم أو ينفي بشدة أن ما يحدث بسبب أعمال الناس بعد إرادة الله. ومع العلم أن الله تعالى يعفو عن كثير!
إن مقياس الصحة والتقدم الذي نحكم به على الأمم والشعوب يجب أن يؤطّر في إطار شرع الله –تعالى- ونهجه القويم (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)[التوبة: من الآية36]، وهذا المقياس من صنع الحق تبارك وتعالى، وليس من عند أنفسنا، حيث قال سبحانه: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[التوبة:109]، وقوله سبحانه في أساس التعامل بين الناس: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: من الآية13].
نعم التقوى والتي منها نرفع التقي بل والعالم كما رفعه الله تعالى، ونحبه دون أن نتقايض معه أي مصلحة مادية، ودون أن ننظر إلى أي القبائل ينتمي، ومن أي الجنسيات هو، ونتبعه ونناصره، بل ونحمد الله تعالى على وجوده بين ظهرانينا درءًا -بعون الله- للمفاسد والانحرافات والضلالات والكوارث.
وحذار من الاستهزاء بالعلماء ورثة الأنبياء وخلفائهم ممن تضع الملائكة أجنحتها رضا لهم، ومن يستغفر لهم من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، الذين فضلهم عظيم، وشأنهم جليل، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث رواه أبو داود وابن ماجة، وجاء في حديث آخر صححه الألباني: "إن الله عز وجل وملائكته، وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير" (الألباني وصححه).
نعم. والحذر من اتباع الأهواء، أو الحكم بغير علم، ودون الرجوع إلى النصوص الشرعية. وذوي العلم الشرعي، قال تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) [الرعد:32].
والرسول عليه البلاغ وعلى الله الحساب، نسأل الله ولينا ومولانا أن يجنبنا وبلادنا وبلاد المسلمين الفتن والشرور والمحن، ويهدينا سبحانه إلى صراطه المستقيم، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.(/2)
إنها آيات الله حقًا .. أفلا نتدبر؟!
د. أسماء الحسين 14/12/1425
25/01/2005
عندما قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: من الآية28]؛ فلأنهم أقرب العالمين إلى التدبر والخشوع الحقيقي، والدعوة إلى الله على بصيرة، والجهاد في إيصال تلك الحقائق المتعلقة بالعبادة للناس، وهذا نهج الرسول -عليه الصلاة والسلام- ومن سار من بعده إلى يوم يبعثون.
ولأن القرآن هو الدستور الخالد الذي نستقي منه العلم والعبادات إلى يوم القيامة، وهو كلام الله الذي أوحى به إلى عبده ونبيه محمد -عليه الصلاة والسلام- والذي يتعدى واجبنا تجاهه الحناجر إلى المشاعر والسلوكيات. فالمتأمل بل المتدبر في كثير من آياته يستشعر هيبة الله تعالى وكلامه الحق، ولاسيما عندما يربطه بما يحدث في الكون، وكله في أصله بتدبير الله تعالى وحكمته؛ لنتأمل هذه الآية على سبيل المثال: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد:13]، ويقول سبحانه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: من الآية53]، وللأسف لا يزال بيننا –ممن تخطّى حدود التفاؤل إلى الغفلة يتجاهل عملية الربط هذه استنادًا إلى نفسيته المنغمسة في الصفاء المادي أو نصف علمه، والله تعالى يقول: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء: من الآية85] إذا كان هذا الأمر يشمل العلماء، فما حال أنصاف العلماء، بل ومن لا علم شرعياً لديه؟!
ولا أعلم: هل ينتظر مثل أولئك أو البعض منّا أن تقوم الساعة وهم ينظرون، وقد جاء أشراطها، أم يحل الأمر بأرضهم –لا قدّر الله- حتى يعلموا أنه الحق، ويسلموا تسليماً، ولنا في فرعون عدو الله، وقوم عاد وثمود عبرة وأيما عبرة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [النازعات:26]، ,هذا الكلام أعني به ليس غير المسلمين وحسب، بل أعني به أيضاً عدداً كبيراً من المسلمين ذوي الثقافة الدينية المحدودة، أو من ذوي التعايش السلمي –إن جاز لي التعبير- مع النصوص الشرعية، والعلم الشرعي، والغافلين من باب أولى .. والذين يتذكرون جيدًا أنصبتهم من الدنيا على حساب الآخرة، ولا يعني هذا أن المؤمن نفسه لا يخاف. بل لطالما خاف رسول الهدى والسماحة الأقرب إلى الله من أن يقع عذاب الله؛ فمن يأمنه؟!
وفي حديث صحيح قالت عائشة –رضي الله عنها-: "يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال: "يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ عُذِّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: هذا عارض ممطرنا" (رواه البخاري ومسلم).
وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أُرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أُرسلت به" (رواه مسلم).
ولنتأمل هذه الآية الكريمة، حيث يقول الله –عز وجل-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41] إن المتأمل في هذه الآية الكريمة ليدرك أن ما يحدث من كوارث وحروب وابتلاءات مرتبطة بعد إرادة الله في الغالب بمعاصي الخلق والإصرار على الذنوب، وظهور البدع، وغياب الدور الآمر الناهي في سبيل الخير والإصلاح ليس في بلاد بعينها، وإنما في بلاد العالمين قاطبة (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود: من الآية83]، ويقول الحق جلّ وعلا: (وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)[الرعد: من الآية31] وفي أهون التوقعات تأتي لإنعاش القلوب الخاملة.
وأما من يقول: وما ذنب المستضعفين أو الصالحين أن يعمهم مثل تلك الكوارث والابتلاءات التي نسمعها ونشاهدها اليوم؟
فيرد عليهم هذا الحديث: حيث خرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يومًا فزعًا محمرًا وجهه، يقول: "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام، والتي تليها، قالت زينب بنت جحش –رضي الله عنها- فقلت: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث" (رواه مسلم).
العلماء يدركون ذلك، أما غير العلماء فمنهم من ينكر ومنهم من يتجاهل، ومنهم من يريد قلب الحقائق رأسًا على عقب.(/1)
وحسبنا التأمل والتدبر فيما يحدث. حيث يخاف المسلم على دينه في وقت يكثر فيه ظهور الفتن، فيصبح المؤمن كافرًا ويمسي الكافر مؤمنًا، ويصبح بالفعل القابض على دينه كالقابض على الجمر في زمن يأتي أو يقترب كما قال عليه الصلاة والسلام.
ولنتأمل في حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل القتل، حتى يكثر فيكم المال فيغيض" (رواه البخاري).
وفي حديث رواه الوادعي وصححه الألباني: "رفع وهو يوحى إلي أني مكفوت غير لابث فيكم ولستم لابثين بعدي إلا قليلاً، بل تلبثون حتى تقولوا متى وستأتون أفنادًا يفني بعضكم بعضًا، وبين يدي الساعة موتان شديد وبعده سنوات الزلازل" (رواه الوادعي وصححه الألباني).
إن هذا الأمر لا يعني صفوة العلماء، والمستقيمين، وحسب، بل هي فرصة للمقصرين –ومن منا لم يقصر- والخطائين وكل ابن آدم خطاء للرجوع إلى الله –تعالى- وتفقد جوانب القصور، وعدم الإصرار على المعصية، أو كل ما ينأى بنا عن النهج المستقيم.
ويحذر الله تعالى ممن يستمع القول فيستهزئ به، أو يلمز القائلين الحق والداعين إليه، وليست القوانين أو البروتوكولات الدولية هي ما يعلي من شأن العلماء بل إنه الخالق –جلا وعلا- من يأمر بطاعتهم واحترامهم واتباعهم.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11].
وقد قال بعض المنافقين ما رأينا أرغب بطونًا ولا أجبن عند اللقاء من قرائنا هؤلاء.. فنزل قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) [التوبة:65]، إنني لأحترم رجلاً يقول: لا أعلم، أو يعترف بتقصيره، على رجل يدّعي أنه على حق وغيره على باطل، أو يخوض ويفتي بغير علم أو ينفي بشدة أن ما يحدث بسبب أعمال الناس بعد إرادة الله. ومع العلم أن الله تعالى يعفو عن كثير!
إن مقياس الصحة والتقدم الذي نحكم به على الأمم والشعوب يجب أن يؤطّر في إطار شرع الله –تعالى- ونهجه القويم (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)[التوبة: من الآية36]، وهذا المقياس من صنع الحق تبارك وتعالى، وليس من عند أنفسنا، حيث قال سبحانه: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[التوبة:109]، وقوله سبحانه في أساس التعامل بين الناس: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: من الآية13].
نعم التقوى والتي منها نرفع التقي بل والعالم كما رفعه الله تعالى، ونحبه دون أن نتقايض معه أي مصلحة مادية، ودون أن ننظر إلى أي القبائل ينتمي، ومن أي الجنسيات هو، ونتبعه ونناصره، بل ونحمد الله تعالى على وجوده بين ظهرانينا درءًا -بعون الله- للمفاسد والانحرافات والضلالات والكوارث.
وحذار من الاستهزاء بالعلماء ورثة الأنبياء وخلفائهم ممن تضع الملائكة أجنحتها رضا لهم، ومن يستغفر لهم من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، الذين فضلهم عظيم، وشأنهم جليل، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث رواه أبو داود وابن ماجة، وجاء في حديث آخر صححه الألباني: "إن الله عز وجل وملائكته، وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير" (الألباني وصححه).
نعم. والحذر من اتباع الأهواء، أو الحكم بغير علم، ودون الرجوع إلى النصوص الشرعية. وذوي العلم الشرعي، قال تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) [الرعد:32].
والرسول عليه البلاغ وعلى الله الحساب، نسأل الله ولينا ومولانا أن يجنبنا وبلادنا وبلاد المسلمين الفتن والشرور والمحن، ويهدينا سبحانه إلى صراطه المستقيم، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.(/2)
إنها لذة الإيمان
روى الإمام البخاري وغيره عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم – أو تنتفخ – قدماه، فقيل له : يارسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟". وفي البخاري أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء. قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبا من قيامه"[رواه مسلم].
هذا كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق ابن رواحة حين قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه .. . إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا .. .. .. به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه .. .. .. إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وجاء في كتاب صفة الصفوة لابن الجوزي: عن سفيان بن عيينة قال: كان قيس بن مسلم يصلى حتى السحر ثم يجلس فيهيج البكاء فيبكي ساعة بعد ساعة ويقول: لأمر ما خُلقنا، لأمر ما خلقنا، وإن لم نأت الأخرة بخير لنهلكن.
وزار يوما محمد بن جحادة فأتاه في المسجد فوجده يصلي فقام قيس في الجانب الآخر يصلي دون أن يشعر به ابن جحادة .. فما زالا يصليان حتى طلع الفجر.
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي: كان عبد العزيز بن أبي رواد يوضع له الفراش لينام، فيضع عليه يده ويقول ما ألينك، ولكان فراش الجنة ألين منك. ثم يقوم فيصلي.
وفيه: كان عبد الرحمن بن مهدي يختم كل ليلتين.. يقرأ في كل ليلة نصف القرآن.
وعن معاذة العدوية زوجة صلة بن أشيم قالت: كان صلة بن أشيم يقوم الليل حتى يفتر فما يجيء إلى فراشه إلا حبوا. وقال ثابت البناني: ان رجالا من بني عدي قد أدركت بعضهم إن كان أحدهم ليصلي حتى ما أتى فراشه إلا حبوا ".. وذكروا مثل هذا عن علي بن الفضيل وجماعة .
إنها لذة الطاعة
... ... ...
إن كل هذا الذي سقناه من كثرة الصلاة وطول القيام فيها، وصبر النفس على تحمل مشاق البدن ليدل على أن هناك شيئًا يحمل المتعبدين على الإقبال على عبادتهم من غير ملل، والوقوف فيها من غير نظر إلى تعب أو كلل.. وهذا الشيء لا شك ينسي النفس همومها، ويورث القلب تعلقًا يشغله به عن الإحساس بالتعب، أو حتى الالتفات إلى تورم القدم ثم تفطرها وتشققها من طول الوقوف.
إنها لذة الطاعة، وحلاوة المناجاة، وأنس الخلوة بالله، وسعادة العيش في مرضاة الله؛ حيث يجد العبد في نفسه سكينة، وفي قلبه طمأنينة، وفي روحه خفة وسعادة، مما يورثه لذة لا يساويها شيء من لذائذ الحياة ومتعها، فتفيض على النفوس والقلوب محبة للعبادة وفرحًا بها، وطربًا لها، لا تزال تزداد حتى تملأ شغاف القلب فلا يرى العبد قرة عينه وراحة نفسه وقلبه إلا فيها، كما قال سيد المتعبدين صلى الله عليه وسلم: "حبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء.. وجعلت قرة عيني في الصلاة".
أي منتهى سعادته صلى الله عليه وسلم وغاية لذته في تلك العبادة التي يجد فيها راحة النفس واطمئنان القلب، فيفزع إليها إذا حزبه أمر أو أصابه ضيق أو أرهقه عمل، وينادي على بلال: "أرحنا بها.. أرحنا بها".
وهذا النوع من لذائذ القلوب والنفوس ذاقه السالكون درب نبيهم والسائرون على هديه وسننه، فجاهدوا أنفسهم وثابروا معها وصابروها في ميدان الطاعة حتى ذاقوا حلاوتها، فلما ذاقوها طلبوا منها المزيد بزيادة الطاعة، فكلما ازدادت عبادتهم زادت لذتهم فاجتهدوا في العبادة ليزدادوا لذة إلى لذتهم.. فمن سلك سبيلهم ذاق، ومن ذاق عرف.
قال بعض السلف: إني لأفرح بالليل حين يقبل لما يلتذ به عيشي، وتقر به عيني من مناجاة من أحب، وخلوتي بخدمته، والتذلل بين يديه، وأغتم للفجر إذا طلع لما اشتغل به.
وكان ثابت البناني يقول: "اللهم إن كنت أعطيت أحدًا الصلاة في قبره فأعطني الصلاة في قبري".
وقال سفيان الثوري: إني لأفرح بالليل إذا جاء، وإذا جاء النهار حزنت.
ولقد بلغت لذة العبادة وحلاوتها ببعض ذائقيها أن قال من شدة سروره: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه – يعني من النعيم – لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر مبديًا حزنه وتأسفه على الذين لم يشهدوا هذا المشهد: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها.. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله ومعرفته وذكره.(/1)
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة..
إنها الجنة التي لما دخلها الداراني قال: إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم... وإنه لتأتي على القلب أوقات يرقص فيها طربا من ذكر الله فأقول: لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب".
إنها الجنة التي تنسي صاحبها هموم الحياة ومشاقها، بل تنسيه تعب العبادة ونصبها، وكلل الأبدان وملالها، بل وتنسيه الجوع والظمأ، فتغنيه عن الطعام وتعوضه عن الشراب، فهو بها شبعان ريّان، كما في حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقيل له: إنك تواصل. قال: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني"[رواه البخاري ومسلم].
يطعمه اللذة والأنس والبهجة، كما قال ابن القيم: " المراد ما يغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه، وتنعمه بحبه والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها .. .. عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به . ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا شكت من كلال السير أوعدها .. .روح القدوم فتحيا عند ميعاد
فقوت الروح أرواح المعاني .. .. .. وليس بأن طعمت وأن شربت
... ... ...
أسباب تحصيل اللذة:
وبلوغ ما بلغه السلف في هذا الباب يحتاج إلى بذل أسباب بذلوها وسلوك سبيل سلكوها:
أولها: مجاهدة النفس
وتعويدها العبادة والتدرج فيها، ولابد من الصبر في البدايات على تعب العبادات وحمل النفس عليها تارة وتشويقها إليها أخرى حتى تذوق حلاوتها؛ فالتعب إنما يكون في البداية ثم تأتي اللذة بعدُ كما قال ابن القيم: "السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت قرة عين له وقوة ولذة"
وقال ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة.
وقال بعضهم: سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فمازلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك.
والأمر كما قال ربنا تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمعَ الْمُحسِنِينَ}[العنكبوت:96].
ثانيها: الإكثار من النوافل
بكل أنواعها ، وعلى اختلاف صفاتها وأحوالها ، والتنويع فيها حتى لا تمل النفس ، وحتى تقبل ولا تدبر، فتارة نوافل الصلاة، وتارة نافل الصوم، والصدقة ، والبر والصلة فإن كثرة النوافل تورث محبة الملك سبحانه كما في الحديث القدسي:" وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته : كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه".
ثالثها: صحبة المجتهدين وترك البطالين
فمن بركة صحبة أهل الصلاح: الاقتداء بهم، والتأسي بحالهم، والانتفاع بكلامهم، والنظر إليهم. قال جعفر بن سليمان: "كنت إذا وجدت من قلبي قسوة غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع كأنه وجه ثكلى". (وهي التي فقدت ولدها).
وكان ابن المبارك يقول: "كنت إذا نظرت إلى وجه الفضيل بن عياض احتقرت نفسي". وقد قالوا قديما من لم ينفعك لحظه لم ينفعك لفظه.
رابعها: تدبر القرآن
خصوصًا ما يتلى في الصلوات، فإن في القرآن شفاءً للقلوب من أمراضها، وجلاءً لها من صدئها، وترقيقا لما أصابها من قسوة، وتذكيرًا لما اعتراها من غفلة، مع ما فيه من وعد ووعيد، وتخويف وتهديد، وبيان أحوال الخلق بطريقيهم أهل الجنة وأهل السعير، ولو تخيل العبد أن الكلام بينه وبين ربه كأنه منه إليه لانخلع قلبه من عظمة الموقف، ثم يورثه أنس قلبه بمناجاة ربه، ولوجد من النعيم ما لا يصفه لسان أو يوضحه بيان.
وفي الحديث القدسي عند مسلم: "قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي وإذا قال؛ الرحمن الرحيم. قال الله تعالى؛ أثنى علي عبدي. وإذا قال مالك يوم الدين. قال: مجدني عبدي (وقال مرة: فوض إلي عبدي) فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل... فهذا مثال وعلى مثلها فجاهد.
خامسها: الإكثار من الخلوة بالله تعالى
فيتخير العبد أوقاتًا تناسبه في ليله أو نهاره، يخلو فيها بربه، ويبتعد فيها عن ضجيج الحياة وصخبها، يناجي فيها ربه، يبث له شكواه، وينقل إليه نجواه، ويتوسل فيها إلى سيده ومولاه. فلله كم لهذه الخلوات من آثار على النفوس، وتجليات على القلوب؟!(/2)
وقد قيل لبعض الصالحين لما أكثر الخلوة: ألا تستوحش؟ قال: وهل يستوحش مع الله أحد؟!!
وقال آخر: كيف أستوحش وهو يقول: وأنا معه إذا ذكرني؟!
فليتك تحلو والحياة مريرة .. .. .. وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر .. .. .. وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين .. .. .. وكل الذي فوق التراب تراب
سادسها: ترك المعاصي والذنوب
فكم من شهوة ساعة أورثت ذلا طويلا، وكم من ذنب حرم قيام الليل سنين، وكم من نظرة حرمت صاحبها نور البصيرة، ويكفي هنا قول وهيب ابن الورد حين سئل: ايجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: لا.. ولا من هم.
فأعظم عقوبات المعاصي حرمان لذة الطاعات وإن غفل عنها المرء لقلة بصيرته وضعف إيمانه أو لفساد قلبه.. قال ابن الجوزي : "قال بعض أحبار بني إسرائيل : يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني ؟ فقيل له : كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟
وأخيرا: الدعاء
فهو سبيل الراغبين، ووسيلة الطالبين، الشفيع الذي لا يرد، والسهم الذي لا يطيش.. فمتى فتح لك منه باب فقد أراد الله بك خيرا كثيرا.. فارفع يديك لمولاك واضرع إلى ربك بقلب خاشع وطرف دامع وجبهة ساجدة، مع قصد وتوجه وتحرق وتشوق وتعلق بالذي لا يخيب مؤمله ولا يرد سائله أن يمن عليك بلذة العبادات ويملأ بها قلبك ونفسك وروحك فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه.. وفي المسند: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين".
اللهم امين يا رب العالمين
صلى الله عليه وسلم خير الأنام محمد وعلى آله وصحبه اجمعي(/3)
إنهم فتية آمنوا بربهم
المحتويات
مقدمة
الوقفة الأولى :عظم شأن الشباب
الوقفة الثانية : الإيمان يعلي شأن صاحبه
الوقفة الثالثة: النعي على مشركي قريش
الوقفة الرابعة: للهداية أسباب
الوقفة الخامسة: عظم شأن التوحيد
الوقفة السادسة: عظم شأن الدعاء
الوقفة السابعة: حول الدليل والبرهان
الوقفة الثامنة: الصلة بالله عز وجل
الوقفة التاسعة: بذل الأسباب يعين على الثبات
الوقفة العاشرة: حفظ الله لهم
الوقفة الحادية عشرة: سنة الله في الأسباب والنتائج
الوقفة الثانية عشرة: مع اليائسين من النصر
الوقفة الثالثة عشرة: الصحبة الصالحة
الوقفة الرابعة عشرة: الانشغال بما يفيد وما يعني
الوقفة الخامسة عشرة: لقد كانوا أثرياء
الوقفة السادسة عشرة: الحذر فيما يستوجب ذلك
الوقفة السابعة عشرة: الشح بالدين والحرص عليه
الوقفة الثامنة عشرة: العواقب لا يعلمها إلا الله
الوقفة التاسعة عشرة: عبرة في زوال الدنيا
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشده أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد..
فعنوان هذه المحاضرة "إنهم فتية آمنوا بربهم" وهي بعض آية من سورة الكهف.
هذه السورة العظيمة يرددها المسلم ويقرأها كل أسبوع، وهذا يعني أن فيها من المعاني التي يحتاج الناس إلى تكرارها وإلى إعادتها. إننا دون أن نخوض في جدل وتساءل عن الحكمة وراء تكرار هذه السورة وقراءتها كل جمعة، فإننا نؤمن أنه لم يؤمر بتكرار هذه الآيات وقراءتها إلا أن فيها معان يحتاج الناس إلى أن يتذكروها، وأن لا تغيب عنهم.
هذه السورة العظيمة سميت بهذا الاسم "سورة الكهف" لأن فيها قصة هؤلاء الفتية الذين شهد الله لهم بالإيمان وأثنى عليهم وعدّلهم تبارك وتعالى. وهذه الكلمات ليست تفسيراً لهذه الآيات؛ فلست مختصاً بهذا العلم الذي له رجاله وفرسانه.
إنما هي وقفات وإشارات وعبر لبعض الدروس التي ينبغي أن نستفيدها من هذه القصة وبين يدي الحديث عن هذا الموضوع أرى أننا بحاجة إلى أن نؤكد أن هذا المعنى التربوي الذي يرد كثيراً في كتاب الله عز وجلّ – ونرى أن اهتمامنا به وعنايتنا به لا يتناسب مع المكانة التي أولاها القرآن الكريم إياه، إنها القصة؛ فالقرآن الكريم مليء بالقصص والله تبارك وتعالى أخبر أنه يقص علينا أحسن القصص في هذا الكتاب وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فقال :(فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) ، وأخبر تبارك وتعالى أن في قصص الأنبياء عبرة لأولي الألباب وأنه حديث صدق وحق (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى).
نعم لأن القصص تدخل فيها الأساطير والخرافات والأقاويل أما كلام الله عز وجل فيتنزه عن ذلك، إن هذا القرآن الذي هو كلام الله تبارك وتعالى وأنزله الله عز وجل على عباده من فوق سبع سماوات حين يكون مليئاً بالقصص والإشارة إليها والتعقيب فهذا يعطي المربين درساً مهماً في شأن القصة وأهميتها في التربية، وحين ندرك هذا المعنى نرى أننا نهمل شأن القصة أو لا نعتني بها كما ينبغي.
وأولى القصص التي ينبغي أن نعتني بها ما جاء في كتاب الله عز وجل وما قصه الله عز وجل في كتابه فهو دليل على أهمية هذا الموضوع وعلو شأنه .
إن كل واحد منكم يستطيع أن يطرح تساؤلاً حول موضوع يُختار للحديث عنه، وقد يرى أن هذا الموضوع ليس ذا بال وأهمية ومن حقه أن يرى هذا الرأي، لكن أن يقول امرؤ إن قصة جاءت في كتاب الله أو قصها النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليست ذا بال فهذا لا يمكن أن يجرؤ عليه مسلم ولا يقوله، وهي قضية لا مجال فيها للنقاش والجدل، قصة جاءت في كتاب الله فهذا يعني أننا في حاجة إلى أن نتدبرها وأن نقف عند معانيها وأن نقيس حالنا بحال الذين قص الله علينا شأنهم، وقصة قصها علينا النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن لها شأناً ولها قيمة، إنها قضايا تتجاوز مجرد الحديث التاريخي البحت الذي يعني بتسطير الأخبار والروايات والأحداث.
وحين نقرأ في كتاب الله ونحلل أساليب عرض القصة نرى أن القصة لا تأتي قصة مجردة تحكي أحداثاً مترابطة، إنما تأتي القصة وفي ثناياها الإشارة إلى العبر والعظات والدروس المهمة التي ينبغي على الناس أن يعوها.
ولهذا فحديثي سيكون عبارة عن جملة من الوقفات لا يجمعها جامع إلا أنها وقفات حول هذه القصة العظيمة التي جاءت في كتاب الله عز وجل.
الوقفة الأولى: عظم شأن الشباب:(/1)
أهل الكهف كما أخبر الله عز وجل فتية (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) وقال في الآية الأخرى (إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً) ،ولا شك أن هذا الوصف وهذه الكلمات لم تأت اعتباطاً، لم تأت لقضية تاريخية بحتة، والقصة أجملت أولاً في ثلاث آيات ثم فصلت، ووصفهم بالفتوة جاء في الموضعين كليهما: موضع الإجمال، وموضع التفصيل .
فماذا يعني وصف هؤلاء بأنهم فتية؟
يعني دلالات ، أولها سنة الله عز وجل في هذه الدعوة –وهي دعوة واحدة وأمة واحدة – (إن هذه أمتكم أمة واحدة) فالمؤمنون بالله أمة واحدة بدءاً بنوح عليه السلام، وإلى أن تختم بالطائفة المنصورة إذ ينزل عيسى مجدداً وحاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. أن يكون أتباع هذه الدعوات هم من الشباب، وهذا النموذج أمامنا: مجتمع يعج بالكفر والشرك بالله عز وجل يستفيق فيه هؤلاء الفتية وهؤلاء الشباب، وقبل ذلك قال قوم نوح :(ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) هم سذج الناس البسطاء الرأي الذين يتبعون كل ناعق.
وقال الله عز وجل عن أتباع موسى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملأهم أن يفتنهم) فأقران موسى عليه السلام ليسوا هم الذين آمنوا به واتبعوه، بل الذين آمنوا به هم الذرية قال ابن كثير رحمه الله حول هذه الآية:"يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه السلام مع ما جاء به من الآيات البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات إلا قليل من قوم فرعون من الذرية وهم الشباب على وجل وخوف منه ومن ملئه أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر، لأن فرعون لعنه الله كان جباراً عنيداً مسرفاً في التمرد والعتو، وكانت له سطوة ومهابة تخاف رعيته منه خوفاً شديداً".
وفي قصة أصحاب الأخدود أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الحدث وتلك القضية كانت على يد هذا الشاب الذي لم يبلغ العشرين من عمره.
وحين جاء النبي صل الله عليه وسلم أصبحت سيرته خير شاهد على ذلك؛ فالعشرة المبشرون بالجنة – وهم من أوائل الذين دخلوا في الإسلام ولهم قدم صادقة في دين الله عز وجل – كان خمسة منهم دون العشرين من أعمارهم، ويعجب القارىء لهذه السيرة كيف يصل هؤلاء إلى هذه المنزلة وكانوا لا يزالون في ريعان شبابهم ربما كان بعضهم ليس في وجهه شعرة واحدة.
وكثير من أوائل السابقين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وثبتوا على الإسلام في مكة كانوا من الشباب، ومن هؤلاء: سعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وسعيد بن زيد وخباب والأرقم ابن الارقم وعبدالله بن مسعود –رضي الله عنهم- وغيرهم كثير كانوا من هؤلاء.
وكذلك كان الأمر في المدينة فأول من أسلم منهم كان غلاماً صغيراً اسمه إياس بن معاذ، كما روى ذلك محمود بن لبيد - رضي الله عنه – قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله r فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: "هل لكم إلى خير مما جئتم له؟" قالوا: وما ذاك؟ قال: "أنا رسول الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال: إياس بن معاذ: يا قوم، هذا والله خير مما جئتم له. فأخذ أبو الحيسر حفنة من البطحاء، فضرب وجهه بها، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فسكت وقام وانصرفوا، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك.
قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه، فكانوا لا يشكون أنه مات مسلماً.
وحين جاء أولئك الذين اتبعوا مصعب رضي الله عنه إلى بيعة العقبة وهم صفوة الأنصار اجتمعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء العباس وهو على دين قومه ليطمئن على صدق هؤلاء الذين سينتقل إليهم ابن أخيه صلى الله عليه وسلم تفرس العباس في وجوه القوم فقال :"هؤلاء لا نعرفهم، هؤلاء أحداث".
إذا فأهل الكهف الذين ذكر الله خبرهم وأعلى شأنهم كانوا شباباً وفتية، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية :"فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب, وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل, ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله r شباباً, وأما المشايخ من قريش, فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً".
إن هذا يعني أن الصحوة التي تعم أرجاء العالم الإسلامي في عرضه وطوله حين قامت على الشباب ليست ظاهرة شاذة كما يحلو للبعض أن يصوروا ذلك، ويروا أنها إنما قامت على هؤلاء السذج بادي الرأي، فأصحاب هذه المقالة التي يرددونها اليوم متفقون مع قوم نوح الذين قالوا (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي).(/2)
ثانياً: إن كون أهل الكهف شباباً وفتية يعطي درساً مهماً وتساؤلا نطرحه ونحن نعيش أزمة في عالم الشباب الذين يتعلقون بالأمجاد والبطولات، فلماذا يتعلق أبناء المسلمين اليوم بالأمجاد الزائفة والبطولات الزائفة التي يصنعها الأعداء؟ أو تكون نتائج إغراق الأمة في لهو وعبث فارغ لا يعدو أن يفرغ قضية الأمة الكبرى والأساس من مضمونها ليخرج جيلا تتعلق البطولة والأمجاد لديه بتوافه الأمور، أليس اليوم الشباب في العالم الإسلامي وهم يعيشون هذه الأزمة بحاجة إلى أن يبرز أمامهم هذا النموذج وهذا البديل؟
ويتساءل المعلم اليوم بمرارة وأسى: أيعرف شباب المسلمين عن شأن أهل الكهف وعن شأن أصحاب الأخدود وعن شأن الشباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون عن أهل الفن واللهو والعبث الباطل الزائل؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل إجابة مرة، وهي تطرح مطلباً وتساءلاً ملحاً لكل من ولاه الله مسؤولية في تربيةٍ وتوجيه، إن الأمة أجمع..إن الأمة اليوم والشباب بوجه أخص يعانون من أزمة القدوة وهاهو البديل إن كنا جادين وصادقين، فلماذا لا تبرز هذه النماذج للشباب على أنهم المثل الأعلى ؟ إذا كان الشباب يبحثون عن البطولات والإنجاز والأمجاد فها هو إنجاز وها هو مجد أولئك الشباب الذين يستعلون على شهواتهم وعلى رغبات الدنيا ويستعلون على الفتن التي تأتيهم من هنا ومن هناك؛ فيعلنون إيمانهم بالله عز وجل، أيقارن هذا المجد بأمجاد هذه الدنيا الزائفة التي يتطلع إليها الشباب اليوم؟
إنك حين تسأل شباب الأمة اليوم عن قدوتهم وعن مثلهم الأعلى وعن الشخصية التي يتمنون أن يصلوا إليها وعن أمنيتهم في الحياة تدرك المرارة والأسى والحاجة الملحة إلى مثل هذا النموذج الذي لا يتطرق إليه الشك ولا الكذب إنه نموذج يعرضه أمامنا كتاب الله عز وجل.
ثالثاً: إن ارتباط هذه القضية بالشباب تعطي الشاب المسلم المعاصر ثقة بنفسه وثقة بطريقه ويشعر -وهو يسير على طريق يخالفه الناس من هنا وهناك- أن له امتدادا بعيداً يتجاوز هذه الحقبة الزمنية التي يعيشها، ليدخل ضمن هذه الدائرة الشباب الصادقون من سلف الأمة، والشباب الصادقون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم بل يتجاوز تاريخ الأمة المحمدية ليشمل تاريخ تلك الأمم ، أمة التوحيد منذ أن أهبط الله عز وجل آدم إلى أن تقوم الساعة فيشعر الشاب حين إذن بالاعتزاز وهو ينتمي إلى هذا المنهج، يشعر بالاعتزاز وهو يرى أنه لا يعيش غربة وأنه لا يعيش حالة شاذة وإن بدا من خلال النظرة القريبة التي يعيشها وينظر إليها.
إنه حين يقرأ كتاب الله عز وجل ويرى هذا النموذج البعيد على تلك القرون المتطاولة على مدى التاريخ يدرك أن له إخوة ساروا على الطريق نفسه، وهذا يدعوه إلى الثبات والثقة بالطريق الذي هو عليه ولسان حال تفكيره وهو يقرأ هذه النماذج "لست وحدك في الميدان ولست وحدك على الطريق وإن أصابك ما أصابك وإن رأيت ما رأيت".
إنه طريق طويل يتجاوز مدى الزمان،. ويتساءل أين الشباب العابثون اللاهون الساهون الذين متعوا أنفسهم بالشهوات؟ وأين أولئك الشباب الذين لم يستطيعوا أن يتجاوزوا أسر عصرهم وزمانهم أين هم على مدى التاريخ؟ ماذا حفظ التاريخ عنهم؟ وماذا سطر من أخبارهم وأحوالهم؟ أما هؤلاء –أهل الكهف- فهاهم على مدى التاريخ، يتحدث الناس ويتساءلون عنهم، عن أسمائهم، عن اسم ذلك الكلب الذي صحبهم، أين الكهف الذي عاشوا فيه؟ إلى آخر تلك التساؤلات -وإن كانت طائفة من هذه التساؤلات مما لاينبغي الاشتغال به- إلا أن هذا يعني أن أولئك حفظ شأنهم وبقي وبقيت قيمتهم وما عند الله عز وجل لهؤلاء وغيرهم من المؤمنين الصادقين أعلى وأتم من هذا الذكر الذي بقي في الدنيا .
الوقفة الثانية: الإيمان يعلي شأن صاحبه:
إن الإيمان والدين يرفع المرء مراتب ويتجاوز الاعتبارات التي يضعها الناس لدنياهم، ماذا يعني فتية من الشباب، فتية خالفوا قومهم - وشذوا بمنطق قومهم – عما هم عليه فذهبوا إلى غار فاختبؤوا فيه مدة طويلة ثم بعد ذلك ماتوا؟ لقد أعلى الله شأنهم، وأثنى عليهم، وشهد لهم بالإيمان وزيادة الهدى فهكذا الإيمان والصلة بالله عز وجل، إنها تتجاوز كل الاعتبارات التي يُعليها الناس اليوم من الجاه والنسب والمال وسائر المطامع،يتجاوز هذا كله لتبقى هي الرصيد الذي لا يزول ولا يفنى.
الوقفة الثالثة: النعي على مشركي قريش:
لقد بدأ الله تبارك تعالى الحديث عنهم بوصفهم بالإيمان (آمنوا بربهم وزدناهم هدى)، وهذا فيه إشارة وإيماء للمشركين الذين لم يؤمنوا وجاءوا يتساءلون عن أهل الكهف ما شأنهم؟ حدثنا عن فتية كانوا في غابر الزمان ؟ إنهم مؤمنون ومهتدون وأنتم ما شأنكم ؟ أنتم كفرتم بربكم وأعرضتم واستكبرتم عن اتباع أمره.
الوقفة الرابعة: للهداية أسباب:(/3)
قال عز وجل :(إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) إنها قضية مهمة كثيرا ما يشير إليها القرآن وقد نغفل عنها ألا وهي: أن الإيمان والعمل الصالح سبب للهداية والتوفيق، كما قال تبارك وتعالى في آية أخرى (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خير لهم وأشد تثبيتاً وإذا لآتينهم من لدنا أجر عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما) ، وقال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) ،وقال (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم)، وقال: (والذين قتلوا في سبيل الله -وفي قراءة أخرى قاتلوا في سبيل الله- فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم)، فالهداية والتوفيق من الله عز وجل لها أسباب، ومن أعظم أسباب الهداية والتوفيق اجتهاد المرء في العمل الصالح والإيمان وتقوى الله عز وجل.
وكما أن للهداية أسباباً، فللثبات عليه –وذلك من تمام الاهتداء أسباب- وهو معنى نحن أحوج ما نكون إليه في هذا العصر الذي أصبحنا نرى الناس يتهاوون صرعاً على جنبات الطريق ذات اليمين وذات الشمال ويتيهون ويضلون، والحديث اليوم الذي يسيطر على كثير من الشباب الصالحين الأخيار هو السؤال عن الثبات والهداية، وتأتي الإجابة هاهنا (إنهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى. وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض. لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططاً) فقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والأمر أولا وآخراً بيد الله تبارك وتعالى مقلب القلوب، فالثبات بإذن الله، والتوفيق والربط على القلوب إنما هو بيده عز وجل، وقد جعل الله لذلك أسباباً، فحين يشعر الشاب اليوم أن الفتن بدأت تتناوشه ذات اليمين وذات الشمال، ويشعر بالخوف والخطر على إيمانه - وينبغي أن يشعر بهذا الشعور- فعليه أن يدرك أن الله عز وجل هو الذي يربط على قلوب المؤمنين الصادقين، ومتى؟ حين يفعلون السبب.
الوقفة الخامسة: عظم شأن التوحيد:
لقد قال أهل الكهف(ربنا رب السموات والأرض) فهذا توحيد الربوبية، وذكروا توحيد الألوهية بقولهم (لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا) إنها دعوة واحدة: دعوة التوحيد، وهي دعوة الأنبياء (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)، وما أرسل الله عز وجل من رسول إلا أوحى إليه تبارك وتعالى هذه الكلمة، أوحى إليه: (لا إله إلا أنا فاعبدون)، وكما قال صلى الله عليه وسلم:" نحن معاشر الأنبياء وأولاد علات أو إخوة لعلات"، فقضية التوحيد هي قضية الأنبياء منذ آدم ونوح وهود وصالح كل هؤلاء ومن تلاهم ومن لم يقص الله علينا شأنهم كانت مقولتهم لقومهم (اعبدوا لله مالكم من إله غيره) وهي أيضا مقولة أهل الكهف الفتية الذين آمنوا بالله وزدناهم هدى.
والتوحيد هاهنا الذي يأخذ هذا القدر والمنزلة بمفهومه الواسع، وليس بالمفهوم الضيق الذي يحصره طائفة من الناس في دائرة ضيقة في قضايا معرفية بحتة. إن كثيراً من المسلمين اليوم يشعرون أن من الخلل بالتوحيد أن يقول أحدهم ماشاء الله وشئت، أو يقول لولا الله وفلان وهذه أمور ينبغي أن يُحذَّر منها الناس، لكن بعض من يحذر من قول ما شاء الله وشئت قد يقول في الثناء على مخلوق - بلسان الحال لا بلسان المقال-: ماشئت ماشاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار، إن أهل التوحيد لا يليق أبداً أن يكون في قلوبهم تعظيم لغير الله عز وجل، ولا أن تمتليء قلوبهم إلا بالتوجه إلى الله تبارك وتعالى، وأولئك الذين تعلقوا بالدنيا وتعلقوا بالشهوات وصارت هي الحاكم لكل ما يريدون أولئك الذين تمثل قضية الدنيا كل شيء لديهم ينبغي أن يراجعوا توحيدهم.
إنهم لو عظموا الله ووحدوا الله عز وجل، ولو امتلأت قلوبهم بتوحيد الله تبارك وتعالى وتعظيمه لما تجرأوا على ذلك، وأولئك الذين يتجرأون على شرع الله عز وجل فيحرم الله أمراً تحريماً صريحاً واضحاً ثم يتجرؤون على إباحته على رؤوس الأشهاد، أولئك ما قدروا الله حق قدره، وما وحدوا الله عز وجل حق توحيده.
لقد جاء الأمر بالحكم بشرع الله قريناً للأمر بعبادته (إن الحكم إلا لله أمر ألا تبعدوا إلا إياه) فكما أن المسلم لا يصلي ولا يسجد إلا لله عز وجل، فهو كذلك لا يحكِّم إلا شرع الله تبارك وتعالى، والفصل بينهما خلل في التوحيد، إذا فقد كانت قضية التوحيد هي قضية أهل الكهف، كما كانت قضية الأنبياء من قبلهم.
الوقفة السادسة: عظم شأن الدعاء:
فقد سمى الله عز وجل الدعاء عبادة، كما قال إبراهيم عليه السلام (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وادعوا ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا. فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله) فسماه الله عز وجل عبادة، وفي آية أخرى (وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادته سيدخلون جهنم داخرين) وقال صلى الله عليه وسلم "الدعاء هو العبادة".
لماذا كان الدعاء هو العبادة؟ ولماذا صار الدعاء قرين التوحيد؟(/4)
حين يدعو المرء غير الله فهذا يعني أنه يرجو غير الله، ويعني أنه يعظم غير الله عز وجل، ويعني أنه يشعر أن قضيته بيد فلان أو فلان، أما أولئك الذين دعاؤهم لله عز وجل خالصاً لوجهه فهم لا يرون لمخلوق عليهم فضلاً، ولا يرون لبشر عليهم منّة، ولا يرجون من مخلوق نوالاً، ولا يخافون من أحد غير الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عيك".
الوقفة السابعة: حول الدليل والبرهان:
لقد طالب أهل الكهف قومهم بسلطان وحجة (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان مبين) ذلك أن الدليل والحجة والبرهان منطق مهم ينبغي دائما أن يحكم ما نقول في كل قضية؛ فالحق أبلج والباطل لجلج، إن أولئك الذين يستخدمون أسلوب الإثارة والتهويل وإصدار الأحكام الجاهزة يفرون من منطق الحجة والبرهان ولا يخشى الدليل والبرهان والحجة ولا يفر من الحوار إلا أولئك الذين لا يملكون ما يقدمون ولا يستطيعون أن يقنعوا الناس بقضيتهم.
إن الله عز وجل دعا أولئك الذين تجرؤوا على الشرك فقال (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) ، ودعا أولئك الذين نسبوا الولد إلى الله عز وجل أن يأتوا ببرهان أو حجة، ونعى تبارك وتعالى على أولئك الذين يسيرون ويتبعون كل ناعق، وما جاء التقليد في موضع القرآن إلا موضع الذم والنعي، بل جاء التشبيه لأولئك الذين يسيرون خلف كل ناعق بالدواب (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي) إنهم الراعي حينما يسير بغنمه فهو ينعق بها ويصيح بها فالغنم تسمع صوت الراعي ولكن لا تفقه ما يقول، تسمعه يدعوها فتسير وراءه.
إن هذا المنهج ينبغي أن يسود في دعوتنا وأن تتربى عليه الأمة، وليس من مصلحة الأمة أن يغيب عنها الوعي أو أن تكون أمة مغفلة كالقطيع.
الوقفة الثامنة: الصلة بالله عز وجل:
لقد اعتزل أهل الكهف أقوامهم، ولجؤوا إلى الله وحده، وهم بذلك يرسمون لمن بعدهم منهجاً وطريقاً لاغنى لهم عنه، إنه الصلة بالله تبارك وتعالى.
وهاهو هذا الدرس نتلقاه من قصة موسى عليه السلام في سورة القصص (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين. ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهدني إلى سواء السبيل) ثم لما أوى إلى الظل قال (رب إن لما أنزلت إلى من خير فقير).
وحين ذكر الله تبارك وتعالى طائفة من أخبار الأنبياء في سورة الأنبياء قال عنهم: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) فحري بالدعاة أن لا تغيب عنهم هذه القضية في كل موقف وفي كل حين.
والمؤمن الموصول بالله يجد الطمأنينة والسكينة في كل ما يواجهه، فحينما أمر الله موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون قالا (ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغي. قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى)
الوقفة التاسعة: بذل الأسباب يعين على الثبات:
لقد أكرم الله تبارك وتعالى هؤلاء الفتية ووفقهم للثبات على دينه، بعد أن صدقوا مع الله وبذلوا الأسباب، ومنها:
1. أنهم آمنوا بالله عز وجل إيماناً صادقاً. 2. لما رأوا أن بقاءهم مع قومهم قد يكون سبباً لفتنتهم تركوا قومهم وأووا إلى الكهف فراراً بدينهم. 3. حين بعثوا أحدهم ليأتي بالطعام، أمروه بالحذر حتى لايشعر بهم قومهم فيردوهم (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً).
إذن فالمسلم حتى يثبته الله يحتاج أن يبذل الأسباب، وأن يجتهد فيبتعد عن مواقع الفتن ويحذر منها، ثم يكل أمره إلى الله، أما الذي يرمي نفسه في اليم ويسأل الله الثبات فهذا لم يعمل السبب الذي يستحق من أجله أن يوفَّق ويعان.
الوقفة العاشرة: حفظ الله لهم:
حين ذهب الفتية وغادروا قومهم رأوا كهفا فأووا إليه، ووصف الله حالهم فيه بقوله (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم وليا مرشداً. وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعباً) لقد حفظهم الله عز وجل وحماهم بأمور عدة:(/5)
ألاول: أن جاءوا إلى هذا الكهف فالشمس إذا طلعت تزاور عنهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال فاختير لهم هذا الموطن وهذا الكهف، وقد قال الحافظ ابن كثير عنه "فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال, لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه (ذات اليمين) أي يتقلص الفيء يمنة, كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة (تزاور) أي تميل, وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان, ولهذا قال: (وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال) أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه, وهو من ناحية المشرق, فدل على صحة ما قلناه, وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب, وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب, ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب, ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً, ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال, ولم تزل فيه إلى الغروب, فتعين ما ذكرناه, ولله الحمد".
الثاني: أنهم أصبحوا يقلبون ذات اليمين وذات الشمال حتى لا تبلى أجسادهم.
الثالث: أنهم ألقي عليهم الرعب بحيث لو رآهم أحد لفر منهم ورعب.
إنه حفظ الله تبارك وتعالى لأوليائه، فقد حفظهم من حيث لا يحتسبون ومن حيث لا يشعرون، فأَمر الله فوق ما يفكر فيه البشر، لقد كان من المحتمل أن يناموا تحت شجرة، أو في كهف في جهة المشرق، أو في جهة المغرب، وما كان يدور في بال أحدهم أبداً أنهم سينامون هذه القرون والسنين الطويلة؛ فاختار الله لهم أمراً لم يدر في بالهم.
الوقفة الحادية عشرة: سنة الله في الأسباب والنتائج:
تتجلى في هذا الحدث عظمة قدرة الله تبارك وتعالى –ومع ذلك فهؤلاء ليسوا بأعجب آيات الله- فقد بقى هؤلاء نائمين ثلاثمائة سنة، واختار لهم تبارك وتعالى هذا الكهف الذي مضت صفته، إن الله تبارك وتعالى قادر على أن يحفظهم ولو ناموا في مكان غيره.
لكن سنته تبارك وتعالى أن قدره يسير وفق أسباب طبيعية، ثم قد تأتي الخوارق بعد ذلك، وهذا فيه تربية للأمة؛ ذلك أنه حين يتعلق الجيل بالخوارق يبقى جيلاً غير عامل، وجيلاً لا يحمل المسؤولية.
وحينما نقول للجيل: إن الله سينصر دينه وسيتم كلمته يجب أن نقول إن النصر والتمكين لا يكون إلا على أعتاب التضحيات والبذل والجهد، فها هي مريم حين جاءها المخاض إلى جذع النخلة أوحى الله إليها (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا)، هل يستطيع أحد أن يهز جذع النخلة فيسقط عليه الرطب فضلاً عن امرأة تعيش في حالة الوضع؟
وفي قصة أصحاب الأخدود حين جاء الغلام ورأى الناس قد وقفوا، والدابة قد سدت الطريق، فدعا الله عز وجل قائلاً "اللهم إن كان دين الراهب أحب إليك من دين الساحر فاقتل هذه الدابة على يدي" وأخذ حجراً فرماها به فقتلها الحجر، إن الناس ليسوا عاجزين عن رمي الدابة بالحجر حتى يأتي هذا الغلام ويرميها، وحين دعا ربه فعل السبب، والأمر بيد الله عز وجل أولاً وآخراً.
إذن فسنة الله عز وجل أن يحفظ أولياءه، وأن يحفظهم من حيث لا يحتسبون، وأن يجري ذلك وفق السنن الطبيعية، ثم قد تأتي الخوارق بعد ذلك.
الوقفة الثانية عشرة: مع اليائسين من النصر:
إن شأن أهل الكهف كما ذكر تبارك وتعالى ليس بأعجب آيات الله (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) ، أين الناس اليوم الذين سيطر عليهم اليأس وتخيلوا أن مستقبل الدعوة والصحوة بيد الأعداء يفعلون ما يشاءون ويريدون.
ثمة فئات من الخيرين والصالحين الغيورين يشعرون أن مستقبل الدعوة والصحوة بيد أعدائها، ويتمنون أن يتكرم هؤلاء الأعداء ويتلطفون بأن يفرِّجوا هذه الأزمة، وماذا ينتظر من أعداء الملّة غير هذا؟ولماذا نتصور أن قضية الصحوة بيد أعدائها؟.
الوقفة الثالثة عشرة: الصحبة الصالحة:
في هذه القصة درس مهم في أثر الصحبة الصالحة ودور ذلك في الإعانة على الثبات، وتزداد الحاجة إليها خاصة في أوقات الفتن والمحن، أو في الأوقات التي يزيد فيها الفساد، كما كان الشأن لدى أهل الكهف.
بل قد ذكر المفسرون أن هذا الكلب الذي صحبهم استفاد الذكر الحسن، فقد صار المفسرون يتحدثون عن شأنه واسمه ولونه –بغض النظر عن الحاجة للخوض في ذلك-.
وأقوى من شأن الكلب وخبره دلالة على أثر الصحبة الصالحة قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الملائكة الذين يتتبعون مجالس الذكر قال: فيصعدون إلى ربهم فيقول لهم كيف تركتم عبادي؟ فيقول: تركناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك، قال فماذا يسألونني ومم يستجيرون….إلى آخر الحديث ، وفيه فلما قال الله عز وجل : أبشركم أني قد غفرت لهم قالوا: فيه فلان بن فلان عبد خطاء، ليس منهم إنما جاء لحاجة فجلس.(/6)