أما علمت أخي أنك ستسأل عن هذا المال يوم القيامة ؟ من أين ؟ وفيم ؟ فهل عندك الجواب ، إذا قال لك الرب تبارك وتعالى مقررا لك وأنت بين يديه لا ترى إلا ما قدمت عن يمينك وعن شمالك ، وترى النار تلقاء وجهك ، مالك هذا من أين اكتسبته ، أمن حلال هو أم من حرام ، هل للربا فيه نصيب ؟ هل للسحت فيه نصيب ؟ هل للرشوة فيه نصيب ؟ هل هو مال يتيم استضعفته فأكلته ؟ هل هو حق مسكين استغفلته فسرقته ؟ ثم فيم أنفقته ؟ أعلى أهل الفجور والخنا ؟ أعلى أهل التمثيل والغنا ؟ هل سررت بأهل الفسق يستقبل استقبال الأبطال والفاتحين ؟ ثم تأتي أنت فتقول مثل قول سلفك : أهلكت مالا لبدا . يقولها افتخارا ، ومباهاة واغترارا ، حتى إنه يعبر عنه بالإهلاك ، ولا يقول أنفقت مالا ، ولكن يقول أهلكت مالا ، لأنه أنفقه غير مكترث به ، وغير راج لمنفعته ، فضياع ماله وهلاكه عنده سواء ، فافتخر هذا الدعي بإهلاكه ماله في غير وجهه ، ولم يضعه في مواضعه ، فلو وضعه في مواضعه لقال أنفقت ، أو تصدقت ، والتعبير بالهلاك للمال مناسب من جهة أخرى ، فلن ينفعه ماله ذلك أبدا في الآخرة ، ما أغنى عني ماليه ، فلم يطعم جائعا ، ولم يفك رقبة ، أو يواسي به مسكينا ، وعبر عنه باللبد : أي الكثير، تلبد الشيء إذا اجتمع ، أيحسب أن لم يره أحد ؟ أيظن هذا الإنسان المتفاخر بالإنفاق في وجوه الشر والفسق أن أعماله تخفى على عالم السر والنجوى ؟ أو يظن أنه لن يحصى عليه إنفاقه ، ولن يحاسب على اكتسابه ؟ فالله تعالى يراه وهو عليه رقيب ، ويوم القيامة له حسيب ، يوم لا ينفع المال ولا الحبيب .
أيها الأحبة : إن الله تعالى سمى المال خيرا فقال : وإنه لحب الخير لشديد ، وقال : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية . وذلك لما يمكن صاحب المال الوفير من بذله في وجوه الخير ، جهادا في سبيل الله ، وحجا وصدقة ، وبرا وصلة ، ويذر ورثته أغنياء ، ويجري العمل به من بعده إذا انقطع عمله ، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ...، الحديث . فهو زينة الحياة الدنيا ، لمن أحسن استعماله ، واتقى الله في أصله ومكسبه ، وإلا فإنه يصبح نوعا من العذاب يعذب به صاحبه شعر بذلك أم لم يشعر . فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ، فاستبقوا الخيرات عباد الله ، وليكن لكم في أبي الدحداح رضي الله عنه أسوة حسنة ، فإنه لما نزل قول الله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ، قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال : نعم يا أبا الدحداح . قال : أرني يدك يا رسول الله ، قال : فناوله يده ، قال : فإني أقرضت ربي حائطي ، وحائطه فيه ستمئة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها ، قال : فجاء أبو الدحداح فناداها ، يا أم الدحداح ، قالت : لبيك ، قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل . أخرجه ابن أبي حاتم من حديث عبدالله بن مسعود .
فاتقوا الله وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ، واعملوا لتدخلوا في قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . وتذكروا قوله صلى الله عليه وسلم : سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، وذكر منهم : رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه . وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : لا حسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ،،، الحديث . وحين قال : ما نقص مال من صدقة ، وحين قال : أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز ، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله الجنة ، أخرجه البخاري . فيا ليت شعري أين أغنياؤنا يسمعون هذا الوعد ، ويؤمنون به ، ويتبعون هديه ، ويعملون بمقتضاه ، فليتهم يعلمون أن الله قد من عليهم بمنة زادت على غيرهم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وحقا حقا ، وصدقا صدقا ، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله ذي الفضل والإحسان ، البر الكريم المنان .(/2)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يختص برحمته من يشاء والله واسع عليم ، يعطي ويمنع ، ويخفض ويرفع ، فمن رفعه أعطاه خير ما يعطاه إنس أو جان ، جنة عليا ورحمة ومغفرة ورضوان . ومن وضعه فله الخزي والعار ، ومستقره النار ، وبئس القرار ، وذلك أعظم الخسران .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، كان أجود الناس ، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، حتى عاتبه ربه فقال له : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ، فيا له من كريم النفس بعيد عن السرف والطغيان .
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، أولي البذل والعطا ، والجود والإحسان ، خرجوا من ديارهم ، وأموالهم ، وآثروا على أنفسهم فاستحقوا بذلك البذل والإنفاق أعالي الجنان ، وسلم تسليما .
أما بعد ،،، فأوصيكم بتقوى الله ، فمن اتقى الله وقاه ، ومن توكل على الله كفاه ، ومن سأل الله أعطاه ، ومن اكتفى به أعزه وأغناه ، ونصره وآواه .
أيها المسلمون : قالت عائشة رضي الله عنها : دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل ، فلم تجد عندي شيئا غير تمرة ، فأعطيتها إياها ، فقسمتها بين ابنتيها ، ولم تأكل منها ، ثم قامت فخرجت ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته ، فقال : من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار .
فانظر يا رعاك الله كيف لا يوجد في بيت النبوة إلا تمرة ؟ وانظر يا رعاك الله كيف جادت بها الصديقة رضي الله عنها وهي لا تجد غيرها !! وانظر يا رعاك الله كيف كانت تلك التمرة سترا لتلك المرأة من النار ! وانظر يا رعاك الله إلى نفسك واسألها : هل تصدقت في شهري هذا ؟ في يومي هذا ؟ هل عودت أبنائي على الصدقة من خير ما أجد ؟ هل تتصدق وأنت صحيح شحيح ، تخاف الفقر وتأمل الغنى ؟ هل وقفت يوما متأملا قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة . هل حاولت أن تتبع قراءتك لهذه الآية بالعمل ؟ هل جربت في يوم أن تجمع تلك الخصال التي ما اجتمعت في عبد إلا دخل الجنة : أن تصبح صائما ، وتتصدق على مسكين ، وتتبع جنازة ، وتعود مريضا ؟ أتعجز عن فعل ذلك ؟ أم تراك فيما قيل لك من الزاهدين ؟ عجل أخي الحبيب فإن مما يتمناه المحتضر أن يؤخر إلى أجل قريب : ليصدق ويكون من الصالحين . يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ، وتأمل كيف عبر هنا بالخسران لمن فعل ذلك ، فإنه لما انشغل بماله فإنه كان يريد الربح ، وتنمية المال فأخبره مولاه أن ذلك خسران مبين ، وليس ربحا ولا تنمية ، فإن من عصى الله فقد خسر خسرانا مبينا ، ومن أطاعه فقد فاز فوزا عظيما ، وتأمل كيف قال المسكين : فأصدق ، ولم يقل فأتصدق ، وطلب المهلة لأجل قريب ، ليفعل ذلك مبالغة في الإكثار من الصدقة في أجل قصير ، فبادر ما دمت في زمن المهلة ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان ،،،
إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور .
هذا ، وصلوا على المبعوث رحمة للعالمين ، امتثالا لأمر مولاكم ، واقتداء بالملائكة المقربين : إن الله وملائكته يصلون على النبي ...
من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا .
قاله فضيلة الشيخ / عادل بن سالم الكلباني(/3)
أهل الفترة ومن في حكمهم
من صفات الله سبحانه وتعالى التي قررها في كتابه ، وأكد عليها في آيات كثيرة صفة العدل ، فالله عز وجل حرَّم الظلم على نفسه ، وحرَّمه على عباده ، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } ( النساء :40 )
ويوم القيامة يتجلى هذا العدل الإلهي في أجلى صوره وأبهى حلله ، ومن تلك الصور التي يتجلى فيها عدل الله سبحانه معاملته لأولئك الذين ماتوا ولمّا تبلغهم دعوة الرسل ، سواء ماتوا قبل بعثة الرسل وهم المسمون " أهل الفترة " ، أو حال دون معرفتهم بدعوة الرسل عيب خَلْقيٌ ، كالصمم والجنون ، فهؤلاء لا يدخلهم الله الجنة لقصور أعمالهم عن دخولها ، ولا يدخلهم النار لعدم قيام الحجة عليهم ، بل يختبرهم سبحانه يوم القيامة فيأمرهم بدخول النار فمن أطاع كانت عليه برداً وسلاماً ، وأدخل الجنة ، ومن عصى سحب إليها ، والدليل على ما ذكرنا ما رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أربعة يحتجون يوم القيامة ، رجلٌ أصم لا يسمع شيئا ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول : ربِّ لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول ، فيأخذ مواثيقهم ليطيعُنَّه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار ، .. فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً ) وفي رواية : ( فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها ) .
فهذا هو حال من مات ولما تبلغه دعوة الإسلام ، يختبر في الآخرة ، كما اختبر غيره في الدنيا ، فمن امتثل وأطاع كان من أهل الجنة ، ومن أبى وعصى كان من أهل النار ، جزاء وفاقاً ، وليس أمام الإنسان عند تأمل هذا الحكم الإلهي إلا أن يسلم بعظيم حكمته سبحانه ، ويقرَّ بكمال عدله ، فلم يظلم سبحانه هؤلاء فيدخلهم النار ، لكونهم معذورين بعدم قيام الحجة عليهم ، ولم يدخلهم الجنة لكون الجنة لا تدخلها إلا نفس مؤمنة ، فجعل سبحانه الآخرة في حقهم دار ابتلاء ، لينجو من يطيعه ، ويهلك من يعصيه ، نسأل المولى عز وجل أن يحيينا على الإسلام وأن يميتنا على الإسلام ، حتى نلقاه وهو راضٍ عنا ، والحمد لله رب العالمين .(/1)
أهلُ القبلة والمتأوّلون ...
...
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين..
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها وصلّوا صلاتنا وستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقّها، وحسابهم على الله))[رواه الإمام البخاري في صحيحه].
مقدّمة وتوطئة:
جناية النّمطيّة المخطئة على الشّريعة الإلهيّة
معنى النّمط لغة:- الطّريقة، ونقصد بالنّمطية هنا أيّة طريقة لترتيب الأحكام أو العلوم الشّرعيّة ووضعها في قوالب معيّنة تصبح محكومة بها، تقصر أو تطول بحسبها.
عندما ضعف الإهتمام بالسّنّة النّبويّة وقلّت العناية بها حاول أهل الإسلام تسهيله على الدّارس والشّارح والمفتي وذلك بجمعه في أنماط محدّدة من خلال إعادة معظم أفراد النّمط في صيغة واحدة، وكان لهذا الفعل مع صواب بعض صوره أضراره الشّديدة على الدّين والشّريعة بعضها من جهة الأصل وبعضها من جهة إعمال النّاس لها بطريقة مخطئة.
صور الأنماط التي اجتهدها الأئمة مع الشرعية الإلهية:
1- التّعريفات.
2- القواعد الفقهيّة.
3- الشّعارات والألقاب.
4- الزّمر الفقهيّة والعقديّة.
نموذج لجناية التّعريفات الحدّية على الشّريعة
إنّ أعظم نموذج لهذه النّمطيّة المخطئة في تعريف مصطلح شرعي من خلال قالب حدّيّ هو نموذج تعريف الإيمان.
فحين غزت الأمّة المسلمة فلسفة اليونان، وسيطر المنطق الأرسطي على عقليّة المتكلّمين من أصوليّين وفقهاء، حاولوا تعريف الإيمان من خلال قالب الحدود الأرسطيّة، وكانت النّتيجة مفجعة ومدمّرة، وعادت على الدّين بالتّزوير والتّخريب، ولن أطيل في شرح هذه الظّاهرة ونتائجها فقد كفانا إيّاها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابيه الرّائعين "الرّد على المنطقيّين" وكتاب "الإيمان الكبير" فارجع إليهما لأهمّيّتهما في هذا الباب، ثمّ توسّع في ذلك توسّعا رائعا لا مزيد فوقه الشّيخ الدّكتور/ سفر الحوالي –فكّ الله أسره من سجون طواغيت آل سعود– في كتابه "ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي".
نموذج لجناية الزّمر الفقهيّة والعقديّة المخطئة على الشّريعة
حين رتّب الفقهاء الشّريعة على تقسيم: العبادات والمعاملات والأخلاق، والعقائد، ماذا كانت النّتيجة؟ بلا شكّ أنّها مفسدة للشّريعة، وهو إفساد نرى آثاره في حاضرنا، لأنّه في زمننا وصلت الآثار إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، فالمعاملات ليست من العبادات، فهذا له حكمه وقاعدته، وهذا له حكمه وقاعدته الأخرى، والعقائد غير الأحكام الفرعيّة فهذه لها قواعدها ومظانّها، وهذه لها قواعدها ومظانّها المختلفة، وكذلك العقائد يقينيّة!! والأحكام ظنيّة!! يقول ابن تيمية في كتاب "الإستقامة":- فصل مهمّ عظيم في هذا الباب: وذلك أنّ طوائف كبيرة من أهل الكلام من المعتزلة –وهو أصل في هذا الباب-… ومن اتّبعهم من الفقهاء يعظّمون أمر الكلام الذي يسمّونه أصل الدين، حتّى يجعلون مسائله قطعيّة، ويوهنون من أمر الفقه الذي هو معرفة أحكام الأفعال، حتى يجعلوه من باب الظّنون لا العلوم، وقد رتّبوا على ذلك أصولا انتشرت في النّاس حتّى دخل فيها طوائف من الفقهاء والصّوفية وأهل الحديث لايعلمون أصلها ولا ما تؤول إليه من المفاسد مع أنّ هذه الأصول التي ادّعوها في ذلك باطلة واهية،.. ذلك أنّهم لم يجعلوا لله في الأحكام حكما معيّنا، حتّى ينقسم المجتهد إلى مصيب ومخطئ، بل الحكم في حقّ كلّ شخص ما أدى إليه اجتهاده، وقد بيّنا في غير هذا الموضع ما في هذا من السّفسطة والزّندقة، فلم يجعلوا لله حكما في موارد الإجتهاد أصلا، ولا جعلوا له على ذلك دليلا أصلا… ومن فروع ذلك أنّهم يزعمون أنّ ما تكلّموا فيه من مسائل الكلام هي مسائل قطعيّة يقينيّة(1).
وانظر ما أدت إليه محاولات البعض من تقسيم نمطي للشريعة من فقه غريب لا يمت إلى فقه السلف في شيء، وذلك في تقسسيم الدين إلى ثوابت ومتغيرات، والكل يحاول توسيع دائرة المتغيرات ليعطوا مساحة واسعة لدخول الإجتهادات الجديدة المخالفة لمواقف السلف، ولم يفلح أحد في وضع خط علمي موضوعي فاصل بينهما، بل هي الذاتية والنسبية والإعتبارية.
* مثال آخر لهذه الجناية:-
حين غزا التّتار بلاد المسلمين ووصلت هجمتهم بقيادة قازان بلاد الشام، وكانوا قد أعلنوا إسلامهم على المذهب الشيعي قبل ذلك، وقازان معه إمام ومؤذن، فلما قارب شرهم دمشق وقلعتها طرح الناس مسألة قتالهم، وتحت أي قسم من أقسام الجهاد وتبويباته –التي درج الفقهاء على تقسيمها في هذا الباب– يقاتل هؤلاء التتار.. ولندع ابن كثير يحدثنا عن هذه المشكلة التي واجهت الناس يومذاك:(/1)
قال رحمه الله:- وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو؟ فإنهم يظهرون الإسلام، وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه، فقال الشيخ تقي الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليّ ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك(2).
فإذا اختلف الناس في أي نوع من أنواع الجهاد يمكن إدخال قتال التتار، وابن تيمية رحمه الله تعالى احتاج أولا إلى إخراج نوع قتال الخوارج من زمرة البغاة، فإن عامة كتب الفقه المبوبة على طريقة المتأخرين قد عدت قتال الخوارج من نوع قتال البغاة، بل حتى صار معنى الخوارج عندهم: من خرجوا على الإمام العدل، وقد شرح ابن تيمية أولا خطأ هذا التبويب وهذا التقسيم، ثم سمى قتالهم نوعا آخر –قتال الممتنعين عن الشرائع– وقد أدخل فيه رحمه الله قتال الخوارج وقتال مانعي الزكاة(3)، وهو نمط إذا تعامل الناس معه بإطلاق سيفسد الكثير من التفصيلات في أحكام قتال كل طائفة، فالخوارج يقاتلون قتال أهل التأويل المسلمين كما هو معلوم، ومانعوا الزكاة قاتلهم الصحابة رضي الله عنهم قتال المرتدين، فعلم أن زمرة الممتنعين عن الشريعة لا تعني تفسير نوع القتال بمقدار أن تحل إشكالا حصل زمن ابن تيمية في قتال التتار ولذلك من حمل معنى الممتنعين عن الشريعة أنهم كفار مطلقا فقد أخطأ وهو مثل خطأ من حمله على أنهم ليسوا كفارا مطلقا… والله أعلم.
نموذج جناية عدم فهم القواعد الفقهية على الشريعة الإلهية
القاعدة الفقهية: هي حكم كلّي ينطبق على جزئياته ليتعرف أحكامه منه(4).
وقد حاول المتأخرون وضع الشريعة في قواعد محددة تسهل حل المشكلات، وقد وصلت جهود بعضهم إلى جمعها في سبع عشرة قاعدة كما ذكر ابن نجيم الحنفي في "الأشباه والنظائر"(5)، ومع تقييدات هؤلاء العلماء من قولهم إن هذه القواعد أكثرية لا جزئية وأنه لا يجوز الفتوى بما تقتضيه القواعد والضوابط لأنها ليست كلية بل أغلبية(6)، إلا أنهم مع ذلك قالوا: إن هذه القواعد ترد إليها فروع الأحكام، وبها يرتقي الفقيه إلى درجة الإجتهاد…
وبهذا العمل زهد الناس في السنة النبوية الشريفة، فلماذا حفظ مئات وألوف الأحاديث، والمسألة أسهل من ذلك: حفظ سبع عشرة قاعدة فقط، بل يرتقي المرء إلى مرتبة الإجتهاد، وكانت النتيجة بعد ذلك هو جعل القواعد الفقهية المصدر الوحيد عند بعضهم للإجتهاد والفتوى، وما هذا الذي نسمعه اليوم من القول باعتماد المصالح كمصدر من مصادر الشريعة إلا نتيجة لاتخاذ قاعدة (المشقة تجلب التيسير) لاسقاط أي حكم شرعي يشعر المرء بأنه مشقة عليه(7).
وفعلهم هذا جرأ الجهلة وغمار الناس بالفتوى والقول على الله بغير علم، فصار المرء يكفيه أن يفهم روح الشريعة والدين ويفهم مقاصدهما حتى يقول ما يريد ويفتي كما يحب ، وينسب ذلك كله لشرع الله ودينه.
نموذج لخطأ التعامل مع الأفراد والجماعات من خلال الشعار مطلقا
هذا النموذج آثرنا التوسع فيه لأهميته وهو تعريف أهل القبلة ودخول المتأولين فيه.
والمقصود بأهل القبلة هم المسلمون، وعامة مصطلحات الأئمة من أهل السنة والأوائل إنما تم اعتمادها من خلال القرآن والسنة الصحيحة، وذلك لحرصهم الشديد أن يتم البناء العلمي للمسلم الموحد من المصدر المعصوم –الوحي– ولأن دلالة الألفاظ الشرعية على المراد الإلهي تعتبر أقرب الطرق في الوصول إلى مراد الشارع، وأسلمها من الدخن والغلط، ومصطلح أهل القبلة تداوله الأئمة في عباراتهم وكتبهم للتعبير عن حقيقة وقد تعامل معه التابعون فمن بعدهم مثل:
1- الإمام محمد بن سيرين: قال:- لا نعلم أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا من غيرهم من التابعين تركوا الصلاة على أحد من أهل القبلة تأثماً.
2- الإمام النخعي: قال:- لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد من أهل القبلة.
3- الإمام عطاء بن رباح: قال:- صل على من صلى إلى قبلتك.
4- قال أبو إسحاق الفزاري:- سألت الأوزاعي وسفيان الثوري هل تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة وإن عمل أي عمل؟ قال: لا.
وعن الشافعي وأحمد اسحق وأبي ثور وأبي عبيدة مثله(8).
وقول الأئمة وإن عمل أي عمل، المقصود به غير المكفرات لقوله صلى الله علية وسلم في الحديث القدسي:- ((يقول الله تعالى:…. من لقيني بقراب الأرض خطيئة لايشرك بي شيءا لقيته بقرابها مغفرة))[رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه].
بل ورد هذا اللقب على مسامع الصحابة رضي الله عنهم، فقد سأل سليمان بن قيس اليشكري جابر بن عبد الله: أفي أهل القبلة طواغيت؟ قال: لا، قلت: أكنتم تدعون أحداً من أهل القبلة مشركاً، قال: لا.(9).
والمقصود بأهل القبلة في هذه النصوص هم أهل البدع الذين يقيمون الصلاة وينتسبون للإسلام.(/2)
وفي رواية عن أبي سفيان:- قلت لجابر (بن عبد الله): كنتم تقولون لأهل القبلة: أنتم كفار؟ قال: لا، قلت: فكنتم تقولون لأهل القبلة أنتم مسلمون؟ قال: نعم.(10).
ومصطلح أهل القبلة تداوله الأئمة للرد على المخالف كذلك(11)، المصطلحات السنية لا يمكن حدها بتعريف كتعريف المناطقة –جامع مانع – كما سنرى في مصطلح (أهل القبلة وحال المتأولين معه).
وقد تم التعبير عن الإسلام بالقبلة، لأن الصلاة على الجملة هي الأمر الجامع لكل الطوائف والفرق المنتسبة للإسلام، وهي التي لم يختلف المسسلمون حولها ولورود الحديث المتقدم في المقدمة ولذلك سمى أبو الحسن الأشعري كتابه في الفرق والملل "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" وهو عنوان يعبر عن موقف كما سيأتي بيانه.
وهذا المصطلح نشأ للرد على أهل البدع، فإن دلالته عند أهل السنة بفضل الله تعالى أوسع من أي طائفة أخرى سوى المرجئة، فإنه كما سيأتي ما من طائفة مبتدعة إلا وقصرت الإسلام على جماعتها وطائفتها، وأخرجت المخالفين لهم من الإسلام، إلا أهل السنة والجماعة فإنهم أرحم وأرأف.
وينحصر الخلاف بين أهل السنة وعموم الطوائف في أربعة أقسام من المنتسبين للإسلام:
1- المتأولين أصحاب البدع المكفرة هل هم من أهل القبلة؟
2- الفساق والعصاة هل هم من أهل القبلة؟
3- المخالفين لأهل السنة من أهل البدع هل هم من أهل القبلة؟
4- التكفير باللزوم (المآل) وإخراج من كفر بلازم قوله هل هو من أهل القبلة؟
ومعنى التكفير بالمآل: أنهم لايصرحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم(12).
وقد رأيت أن المخالفين هم المتأولون، وأن المصطلحين يدلان على معنى واحد، فجمعت الحديث عنهما في باب واحد، والتكفير باللزوم فرع عن تكفير المتأولين فما دام أنه استقر معنى الأصل فقد استقر معنى الفرع.
أما دخول الفساق في مصطلح أهل القبلة فلن ننشغل به لشهرته بين الناس، مع وجود المخالفين اليوم لأهل السنة في هذا الباب كالأباضية، ولكن بفضل الله تعالى هو أمر مشهور معلوم.
وابتدأت لعظيم الفائدة ببيان كيف يسلم المرء حقيقة؟ وكيف يحكم عليه بالإسلام؟ وعلاقة الحكم بالحقيقة، والله الموفق.
...................................................................
(1) ... الإستقامة ص47 وما بعدها/120، واقرأ ما بعدها فإنه مهم جداً لشرح خطأ هذه النمطية وأن نتيجتها الزندقة وتدمير الشرعية وما قاله شيخ الإسلام في النتائج هو ما نراه اليوم بأجلى صوره وأوضحها ،فحسبنا الله ونعم الوكيل.
(2) ... البداية والنهاية14/24.
(3) ... انظر مجموع الفتاوى28/502– 503.
(4) ... التلويح على التوضيح1/20.
(5) ... الاشباه والنظائر ص15
(6) ... نقلا عن القواعد الفقهية لعلي النّدوي ص293 وانظر التفصيل هنال لرد هذه الطريقة في الإستدلال.
(7) ... ولعل الدكتور/ صلاح الصاوي والشيخ/ يوسف القرضاوي هما من أجلى النماذج في عصرنا هذا بالإعراض عن السنن والفتوى بالقواعد الفقهية.
(8) ... شرح السنة للالكائي رقم1968وقول محمد بن سيرين كذلك في حديث رقم2018، وانظر قول الأوزاعي تفصيلا في حديث رقم2023.
(9) ... السابق ح رقم2008.
(10) ... السابق ح رقم2009.
(11) ... كقول صاحب التعريفات الجرجاني) في تعريف أهل الأهواء:- (هم) أهل القبلة الذين لا يكون معتقدهم معتقد أهل السنة.
(12) ... بداية المجتهد2/492
كيف يسلم المرء حقيقة؟
يسلم المرء بالتوحيد، والتوحيد يعبر عنه بالكلمة الطيبة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وهي عقد التزام بين العبد وربه، ومعناها: أنه لا يعبد إلا الله، ولا يعبده إلا بما شرع، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: فإن التوحيد أصل الإيمان، وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار؛ وهو ثمن الجنة، ولا يصح إسلام أحد إلا به(13).
وقال: دين الإسلام مبني على أصلين وهما: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأول ذلك ألا تجعل مع الله إلهاً آخر… والأصل الثاني: أن نعبده بما شرع على ألسنة رسله(14).
وقال في "التوسل والوسيلة": دين الله هو الإسلام مبني على أصلين: على أن يعبد الله وحده لايشرك به شيء، وعلى أن يعبد بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذان هما حقيقة قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله(15).
وقولنا عقد التزام يتضمن التزام الظاهر والباطن (لأننا نتكلم عن حقيقة الإسلام) وهو يعني:-
1- العلم بمعنى هذه الكلمة، فمن نطقها غير عالم بالمعنى المجمل لها فلا يكون مسلماً، قال الله تعالى(فاعلم أنه لا إله إلا الله)[محمد19] وقال تعالى: (إلا من شهد بالحق)[الزخرف86]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة))[رواه مسلم1/41وأحمد1/6926من حديث عثمان رضي الله عنه].(/3)
2- الصدق والإخلاص القلبي لها، فمن نطقها بلسانه وهو شاك بها غير صادق في قولها فلا يعتبر مسلماً في الحقيقة، وإن كان مسلماً في الظاهر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله))[رواه البخاري1/109]. وقال صلى الله عليه وسلم((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار))[رواه البخاري ومسلم].
3- الإنقياد والقبول لها، فما دامت الكلمة تعني قبول المرء بعبوديته لله، فهذا يعني أن يمتثل العبد أوامر إلهه ويقبل أخباره كذلك، وأي رد لأي أمر أو خبر هو نقض لهذا العقد، قال ابن تيمية في الإقتضاء:- والشهادة بأن محمداً رسول الله تتضمن:
أ- تصديقه في كل ما أخبر.
ب- طاعته في كل ما أمر.
قال ابن القيم:-ومن تأمل ما في السيرة والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرارفقط، بل المعرفة والإقرار والإنقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً.اهـ(16).
قال ابن حجر:- إن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام(17).,وههنا ننبه إلى نقطة مهمة وهي أن قبول العمل ليس هو الدخول فيه، فقبول العمل شرط الإسلام ولا يصح إلا به، أما الدخول في العمل فهناك أعمال تعتبر شرطاً وهناك أعمال تعتبر من الواجبات(أي من واجبات الإيمان) فالنطق بالشهادتين شرط لصحة الإسلام، والصلاة(على الصحيح) كذلك، وأما بر الوالدين والإحسان إلى الجار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر…. إلخ فقبولها شرط لصحة إسلام المرء، وأما الدخول فيها فهي من مكملاته الواجبة(18).
ونحن هنا نتكلم عن حقيقة الإسلام، أما كيف يحكم على الإسلام في الظاهر فهذا في النقطة التالية.
بم يحكم على المرء بالإسلام؟
من المعلوم أن الحكم يكون بالظاهر، وهو الذي ينبئ عن الباطن والحقيقة، (على الأغلب وتستثنى بعض الظروف كالإكراه وحال المنافق).
والظاهر الذي من خلاله يحكم على المرء بالإسلام يعرف من خلال ثلاث أمور(19):-
1- النص. 2- الدلالة. 3- التبعية.
1- النص:- ونعني بها أن يأتي الرجل بالكلمة الطيبة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا أتى الرجل بالكلمة على لسانه يجب الحكم عليه بالإسلام، لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً، تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة)[النساء94].
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: هذه الآية نزلت في سبب قتيل قتلتة سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما قال: إني مسلم، أو بعدما شهد شهادة الحق، او بعدما سلم عليهم لغنيمة كانت معه، أو غير ذلك من ملكه فأخذوه منه… وذكر حديث أسامة رضي الله عنه وقتله الرجل بعدما أسلم.
فهذه الآية تدل على أن من أظهر الإسلام(أي كلمته) أو ألقى تحية أهل الإسلام يجب الكف عنه.
وقال صلى الله عليه وسلم:-((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها))[البخاري ومسلم].
وقال:- ((من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله تعالى))[مسلم].
قال الكاساني:- النص هو أن يأتي بالشهادتين أو يأتي بهما مع التبري مما هو عليه صريحاً(20).
وههنا مسائل عدة نعرض عن شرحها مخافة التطويل إذ ليس شرح هذا الباب هو المقصود منها: أن الكلمة إذا علم منها أن المرء أراد بها الإخبار دون الإقرار لا تعتبر إسلاماً، قال ابن تيمية: وأيضاً فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نشهد إنك رسول ولم يكونوا مسلمين بذلك لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم، أي نعلم ونجزم أنك رسول الله، قال: فلم لا تتبعوني؟ قالوا: نخاف من اليهود، فعلم أن مجرد العلم والإخبار ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للإلتزام والإنقياد مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم(21)، وكذا إذا لم يتبرى من دينه الذي هو فيه.(انظر بدائع الصنائع للكاساني).
2- الدلالة:- قال الكاساني:- الدلالة:- نحو أن يصلي كتابي أو واحد من أهل الشرك(22).
والقصد منها هو أن يأتي المرء بعمل من أعمال الإسلام الظاهرة والتي لا يشاركهم بها أهل الأديان الأخرى وأهمها في ذلك الصلاة والهدي الظاهر، فإنه بذلك يحكم عليه بالإسلام.
وقد إختلف أهل العلم في المشرك إذا أتى بعمل من أعمال أهل الإسلام كصلاة الجماعة هل يسلم أم لا. ولا حاجة هنا لتفصيل هذه المسألة والدليل مع الحاكمين بإسلامه(23).(/4)
3- التبعية:- قال الكاساني:- فإن الصبي يحكم بإسلامه تبعاً لأبويه عقل أو لم يعقل ما لم يسلم بنفسه إذا عقل ويحكم بإسلامه تبعاً للدار أيضاً(24).
فالمرء يحكم بإسلامه تبعاً لأبويه وللدار، فهذه مسألة من المسائل الكثيرة التي تبنى على الدار وأحكامها، وهذا فيه رد على الإمام الشوكاني والشيخ صديق حسن خان حين زعما أن أحكام الدار لا قيمة لها في الأحكام الشرعية ولا يستفاد من هذا التقسيم شيء، رحم الله الجميع..
والحكم بالظاهر –النص والدلالة والتبعية– على المرء بالإسلام له شرط وهو عدم تلبس المرء بأي ناقض من نواقض الإسلام المجمع عليها، وهذه المسألة كذلك لا تعمل بلإطلاق إذ لابد من اعتبار وجود الموانع حين اعتبار النواقض كالجهل والإكراه.
وهذا الباب كما ترى فيه رد على المكفرين للأمة بالإحتمالات، أوالذين يتوقفون بالحكم على الأمة بالإسلام حتى يتبينوا براءتهم من الشرك لوجود الإحتمال، وكذلك فيه رد على من ترك الصلاة وراء أئمة المساجد بالعموم مخافة تلبسهم بالشرك، فكل هذه الأقوال مبناها على قواعد بدعية أهمها ترك الحكم بالظاهر من أجل احتمالات ظنية، وجامع هذا الباب مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم:- ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ما لنا وعليه ما علينا)).
وههنا نقطة مهمة وهو أن البراءة من الشرك في الباطن شرط لإسلام المرء، ولكنها ليست شرطاً لك لتحكم عليه بالإسلام. ومعنى هذا أن التحقق من المرء وأنه بريء من الشرك وكافر بالطاغوت بباطنه للحكم عليه بالإسلام ليس من طريقة أهل السنة والجماعة، وإنما هي من سبيل أهل البدع، فمن لم يأت بالنواقض علناً ولم تشتهر عنه فلا يجوز امتحانه أبريء هو منها أم لا، وفعل ذلك هو عمل بدعي لم يثبت قط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعله، أو فعله أصحابه من بعده رضي الله عنهم، وهذه البدعة لها أصول عن الخوارج الأوائل لكنها اليوم تكاد تكون أجّل وأوضح عند كثير من أفراخهم منالأغيلمة ومن جماعات الغلو.
علاقة الحقيقة بالحكم
روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب الإيمان بسند صحيح إلى أبي قلادة التابعي أنه قال:- حدثني الرسول الذي سأل عبد الله بن مسعود، فقال: أنشدك بالله أتعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أصناف:-
مؤمن السريرة مؤمن العلانية.
وكافر السريرة كافر العلانية.
مؤمن العلانية كافر السريرة.
فقال عبد الله: اللهم نعم(25).
قال الشيخ سفر الحوالي:- فلم يكن في واقع الجيل الأول ولا في تصوره وجود المؤمن السريرة كافر العلانية، أي التارك للإيمان(أو من أتى بناقض) المؤمن بقلبه كما تزعم المرجئة.
وانطلاقاً من هذا يقول الخطّابي:- قد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في الظاهر(26).
وبهذا تعلم خطأ صاحب"الجامع في طلب العلم الشريف" الشيخ/ عبد القادر بن عبد العزيز، حين أوجد قسماً رابعاً، وجعله محتملاً وهو الحكم على الرجل بالكفر والردة مع احتمالنا أن يكون مسلماً.
قال في حكمه على أنصار الطواغيت:- فحكمنا بكفرهم إنما هو على الظاهر ولا نقطع بكفرهم كممتنعين على الحقيقة لاحتمال قيام مانع من التكفير في حق بعضهم، مع التذكير بأنه لا يجب علينا البحث عن الموانع فالحكم عليهم إنما هو على الظاهر(27).
والشيخ وقع هنا في خطأ جسيم لأنه جوز تكفير الرجل مع احتمال أن يكون مسلماً في الباطن، وهذا القول قول مبتدع لا يعرف له سلف، وقد وقع في هذا الخطأ لسببين:-
أولهما:- إعمال القواعد العامة من غير النظر إلى الإستثناء، والقاعدة التي أعملها هنا هي تبعض الأحكام، وقد رأيت أن لهذه القاعدة استثناء.
ثانيهما:- خلطه لكلام الأئمة في نوع القتال وبين الحكم على الأعيان والأفراد. فقد يقاتل القوم مقاتلة المرتدين ونسميهم بطائفة ردة مع عدم تسمية أفرادهم وأعيانهم مرتدين لوجود موانع في بعض أفرادهم، فمجرد وجود إحتمال المانع يجب إعماله والإهتمام به، وهو ههنا أقر بإحتمال وجود الموانع، بل إنها هي الأغلب في واقعنا، فإعمالها هو الواجب. قال الشيخ/ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب:- لا يقال إنه مجرد مجامعة ومساكنة المشرك يكون كافراً، بل المراد أنه من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين وأخرجوه معهم كرهاً فحكمه حكمهم في القتل وأخذ المال لا في الكفر(28).
فما ذكره الشيخ/ عبد القادر،(حفظه الله وهدانا الله وإياه) من كلام الأئمة أن حكم الجاهل هو حكم الطائفة فالمقصود به حكمه في القتل وأخذ المال لا حكمه في الكفر، وقد اهتدى الشيخ لهذه المسألة في رده على كتاب الشيخ/ عبد المجيد الشاذلي "حد الإسلام وحقيقة الإيمان" لكن فاتته ههنا – والكمال لله وحده.
وكتاب الشيخ "الجامع في طلب العلم الشريف" فيه غلو في مواطن عدة.. أذكر بعضها ذكراً سريعاً وإن كان الكتاب يحتاج إلى مناقشة واسعة للكثير من أبحاثه:-(/5)
1- غلوه في عدم إعذار صاحب "الرسالة الليمانية" في خطأه في فهم الموالاة.
2- غلوه في تسمية الموالاة (موالاة المشركين) قسماً واحداً لا تحتمل إلا الكفر الأكبر.
3- غلوه في تسمية بعض الجماعات الإسلامية العاملة للإسلام أنهم ليسوا من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم(2/906).
4- غلوه في تسمية من خالفه في بعض الحقوق الشخصية بالمنافقين والضالين.
5- حكمه على من خالفوه في بعض الحقوق الشخصية بأنهم يستحقون القتال كما يستحق المرتدون القتال سواء بسواء.
6- غلوه في إطلاق التكفير على عموم البرلمانيين والمنتخبين دون قيود كان ينبغي أن توضع باهتمام.
وهذا ليس تقليلاً من قيمة الكتاب لكن الله أبى أن يتم إلا كتابه.
دخول المتأولين والمخالفين في أهل القبلة
هذه المسألة من أشرف المسائل وأرحمها وأعدلها عند أهل السنة والجماعة، فإن المستبصر بها يقيناً يعلم أن طريق هذه الطائفة هي أرحم الطرق في تعاملها مع المخالف، وهذه المسألة كذلك من الفروق المهمة بل من أعظم الفروق بيننا وبين المخالفين، فإن عامة الفرق البدعية كما سيأتي قد تنكبت عن الهداية في هذه المسألة... قال ابن تيمية رحمه الله تعالى:- إن المتأول الذي قصده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفر ولا يفسق، إذا إجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، أما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، إنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم(29).
بل هذه المسألة هي عمدة المسائل في الحكم على الرجل بأنه سني أو مبتدع، فإن الخوارج –والذين هم رؤوس أهل البدع– يحكم عليهم بالبدعة والخارجية عند كثير من أهل السنة لمجرد وجود هذه المسألة عندهم. فإن أهل البدع عموماً يكفرون المخالف المتأول ولا يعذرونه، وقد سرت هذه البدعة كما قال ابن تيمية في طوائف من المنتسبين لأهل السنة والجماعة، وبسبب هذا السريان (كما سيأتي) عدم فهمهم لكلام الأئمة في إطلاق تكفير أهل البدع.
فالزيدية نصوا في كتبهم على تكفير المتأولين، قال الهادي في "حدائق الأزهار":- والمتأول كالمرتد. قال الشوكاني في الرد عليه، ههنا تسكب العبرات، ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا لسنة، ولا لقرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لما غلت مراجل العصبية في الدين، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء، والسراب البقيعة(30)... الخ. فارجع إليه لأهميته.
وكثير من المتكلمين المنتسبين لأهل السنة كفروا المتأولين.... قال أبو منصور البغدادي في كتابه "أصول الدين":- المسألة الرابعة عشر من هذا الأصل في أنكحة أهل الأهواء وذبائحهم ومواريثهم: أجمع أصحابنا على أنه لايحل أكل ذبائحهم وكيف نبيح ذبائح من لا يستبيح ذبائحنا، وأكثر المعتزلة مع الأزارقة من الخوارج يحرمون ذبائحنا وقولنا فيهم أشد من قولهم فينا... وأجمع أصحابنا على أن أهل الأهواء لا يرثون من أهل السنة(31).
بل وسمى دار أهل البدع دار ردة، قال:- ومنهم من جعلهم مرتدين ولم يقبل الجزية، وفي إسترقاق أولادهم خلاف بين أصحابنا(32).
وأما الشيعة الروافض فتكفيرهم للمخالف المتأول مشهور معلوم، ففي "مجالس الأنوار" للمجلسي قال:- عن هارون بن خارجة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- إنا نأتي هؤلاء المخالفين فنسمع منهم يكون حجة لنا عليهم؟ قال: لا تأتيهم ولا تسمع منهم، لعنهم الله، ولعن مللهم المشركة(33).
وقد عقد المجلسي بابا بعنوان: باب كفر المخالفين والنصاب(34).
والنصاب عندهم هم أهل السنة.
وهم يكفرون الزيدية كذلك، قال المجلسي:- كتب أخبارنا مشحونة بالأخبار الدالة على كفر الزيدية وأمثالهم من الفطحية والواقفة(35).
والواقفة هم الذين يتوقفون في إمامة علي بالنص.
وعلى الجملة فهي سمة أهل البدع عموماً، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:- أهل البدع إذا خالفته قال: كفرت، وأما السني فإذا خالفته قال: أخطأت.
قال ابن تيمية رحمه الله: والخوارج تكفر أهل الجماعة وكذلك المعتزلة يكفرون من خالفهم وكذلك الرافضة، ومن لم يكفر فسق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق(36).
تنبيه:-(/6)
نحن ههنا في نسبة هذه الأقوال للمذاهب إنما هو على الأغلب و الأشهر وإلا فقد وجد في هذه المذاهب البدعية من وافق أهل السنة في عدم تكفير المتأولين، وهذا التنبيه مهم لئلا ندخل في النمطية الخطأ ويتم تعاملنا مع الناس جميعاً من خلال الشعار.
(13) ... مجموع الفتاوى24/235.
(14) ... السابق1/310.
(15) ... التوسل والوسيلة ص162.
(16) ... زاد المعاد 3/42.
(17) ... فتح الباري7/697.
(18) ... انظر تفصيل هذه المسألة جيداً في معارج القبول2/418 وما بعدها.
(19) ... بدائع الصناع للكاساني الحنفي ص102 وما بعدها ج7.
(20) ... بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ص102 وما بعدها ج7.
(21) ... الإيمان ص135.
(22) ... بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ص102 وما بعدها ج7.
(23) ... انظرها في كتاب الإصطلام في الخلاف بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله لأبي المظفر السمعاني1/29.
(24) ... بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ص102 وما بعدها ج7.
(25) ... الإيمان لأبن أبي شيبة ص23 نقلاً عن > ظاهرة الإرجاء <للشيخ الدكتور/ سفر الحوالي، فك الله أسره من سجون المرتدين... 2/642-643.
(26) ... ظاهرة الإرجاء2/643.
(27) ... 2/616.
(28) ... مجموعة الرسائل والمسائل المجلد الثاني القسم الأول ص135.
(29) ... منهاج السنة النبوية5/239-240.
(30) ... انظر "حدائق الأزهار" والرد عليه قي السيل الجرار للشوكاني 4/584. وانظر رد العلامة الجهبذ محمد بن إبراهيم الوزير اليماني على شيخه الزيدي في "العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم2/150 وما بعدها".
(31) ... ص240 وما بعدها.
(32) ... ص242 –243.
(33) ... مجالس الأنوار2/216.
(34) ... السابق76/131.
(35) ... السابق37/34.
(36) ... منهاج السنة5/158.
قول أهل السنة في المتأولين المخالفين
مقدمتان لابد منهما:-
* المقدمة الأولى:
قال أبوالوليد الباجي(الإمام المالكي):- والذي أذهب إليه أن(الحق في واحد) وأن من حكم بغيره فقد حكم بغير الحق، ولكننا لم نكلف إصابته، وإنما كلفنا الإجتهاد في طلبه، فمن لم يجتهد في طلبه فقد أثم، ومن اجتهد فأصاب فقد أجر أجرين، أجر الإجتهاد وأجر الإصابة في الحق، ومن اجتهد فأخطأ فقد أجر أجراً واحداً لاجتهاده ولم يأثم لخطئه... والدليل على ذلك قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهما شاهدين* ففهمناها سليمان)[الأنبياء78–79]، قال الحسن البصري رحمه الله: ((حمد الله سليمان على إصابته وأثنى علىداود لاجتهاده ولولا ذلك لضل الحكام))(37).
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: فالمجتهد المستدل –من إمام وحاكم وعالم وناظر ومناظر ومفت وغير ذلك– إذا اجتهد واستدل، فاتقى الله ما استطاع، كان هذا هو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله البتة خلافاً للجهمية المجبرة، وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر، وقد لا يعلمه خلافاً للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هذا باطل كما تقدم، بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب(38).
وقال ابن حزم: لم يأمر الله تعالى قط الحاكم بإصابة الحق لأنه تكليف ما ليس في وسعه، إنما أمره بالحكم بالبينة العادلة عنده، أو اليمين أو الإقرار أو بعلمه، فما حكم به من ذلك في موضعه فقد حكم بيقين الحق، أصاب صاحب الحق أو لم يصب(39).
وقول ابن حزم:(أو بعلمه) هو خلاف القول المختار، فإن القاضي والحاكم لا يجوز له أن يقضي بعلمه، لكن لايجوز له أن يحكم بخلافه، والمسألة من مسائل الخلاف.
وقال: ليس كل من اجتهد واستدل ليتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأموراً به أو فعل محظوراً(40).
* المقدمة الثانية:
لا يؤثم المخطأ من المجتهدين في هذه الأمة لا في الأصول ولا في الفروع (عبيد الله بن الحسن العنبري)(41).
قال ابن تيمية: هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي (إمام أهل الظاهر) وغيرهم: لا يؤثمون مجتهداً مخطئاً لا في المسائل الأصولية ولا في الفرعية، كما ذكر ذلك ابن حزم وغيره، ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية ويصححون الصلاة خلفهم، والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ولا يصلى خلفه.
وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين، أنهم لايكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحداً من المجتهدين المخطئين، لا في مسألةعملية ولا علمية. قالوا: والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم. وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلمو بذلك في أصول الفقه ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره(42).(/7)
قوله رحمه الله: إلا الخطابية، ليس لعلة كفر أعيانهم ولكن لمذهب هذه البدعة فهم يجيزون الكذب لمذهبهم... ثم شرح الشيخ رحمه الله هذا القول وتوسع فيه وذلك بالرد على المفرقين، وأنه لا يوجد ضابط صحيح للتفريق بين ما هو أصل وما هو فرع في هذه المسألة، فارجع إليه لأهميته، ولولا مخافة الإطالة لذكرته هنا.
معنى التأويل
مصطلح التأويل يختلف معناه من باب لآخر، ومن مسألة لمسألة، ولا بد من معرفة مراد المتكلم لهذا المصطلح فهو في كتب الأصول على معنى، وعند المتكلمين على معنى، وهو في القرآن الكريم على معنى آخر(43).
والتأويل أو التأول هما بمعنى واحد، ومعناهما هنا: أن يظن المجتهد المسلم غير الدليل دليلاً. ومعنى هذا التعريف هو أن يبحث المجتهد أو الناظر أو العالم عن حكم الله تعالى أو عن خبره، أو يبحث عن معنى ما يريده الله أو ما يريده رسوله صلى الله عليه وسلم فيخطئ مراد الله أو حكمه ولا يصيبه.
فهو إذا ملتزم في الأصل بكلمة الإسلام غير ناقض لها، لكن في بحثه عن مقتضياتها ولوازمها وواجباتها من أجل تحقيق عبودية الله تعالى في نفسه أخطأ إصابة المراد.
وهناك أسباب لوقوعه في هذا الخطأ أذكر بعضها ذكراً سريعاً:-
1- غلبة قاعدة عقلية أو شرعية على ذهنه مع جزمه بصوابها ثم رد باقي المسائل إليها.
2- أخذه بالحديث الضعيف ورده للصحيح.
3- التقليد.
4- عدم معرفته إلا بقول واحد يظن أنه قول أهل الإسلام الوحيد.
5- خطأه في التفسير لضعفه في اللغة أو لإعماله قاعدة في غير محلها أو بطريقة مخطئة(44).
وهذه الأسباب فيما هو ظاهر لنا وإلا فإن بعضهم كما سيأتي يتحايل في رد الشريعة وعدم قبول الأمر أو رد الخبر بحجة التأويل، ولكن ليس لنا إلا الحكم بالظاهر، أما الباطن فأمره الى الله، إلا في ما ظهر لنا عن طريق القرائن والدلائل فنحكم بها.
مراتب التأويل (التأول)
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: إن من أكفر المسلم نظر: فإن كان بغير تأويل استحق الذم، وربما كان هو الكافر، وإن كان بتأويل نظر إن كان غير سائغ استحق الذم أيضاً ولا يصل إلى الكفر، بل يبين له وجه خطئه ويزجر بما يليق، ولا يلتحق بالأول عند جمهور العلماء، وإن كان بتأويل سائغ لم يستحق الذم بل تقام عليه الحجة حتى يرجع إلى الصواب، قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس يأثم إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب وكان له وجه في العلم(45).
إذاً المخالف لنا يقسم إلى ثلاثة أقسام:-
1- مخالف غير متأول.
2- مخالف متأول بتأويل غير سائغ.
3- مخالف متأول بتأويل سائغ.
وهذا الذي ذكره الإمام الحافظ رحمه الله تعالى في المسائل العملية وتطبيقه على المسلمين كذلك، وحين تضطرد المسائل على أهل البدع المنتسبين للإسلام سنجد أن أقسام المتأولين كذلك تنقسم إلى هذا التقسيم:-
1- متأولين كفرة.
2- متأولين وهم من أهل القبلة ويقسمون إلى قسمين:
أ- معذور بعدم التكفير ويزجر ويذم.
ب- معذور بعدم التكفير لا يذم ولا يزجر ويبين له خطؤه ويعلم.
وشروط العذر بعدم التكفير:-
1- أن يكون له وجه في كلام العرب.
2- أن يكون له وجه في العلم(أي تحتمله قواعد العلم).
والخلاف بين ما ذكره ابن حجر من تسمية أهل القسم الأول(مخالف غير متأول) وبين تسميتنا لهم(متأولين كفرة) هو فرق لفظي فقط، لأنه ما من أحد من المنتسبين للقبلة إلا ويزعم أن مأخذه الكتاب والسنة حتى الباطنية والقرامطة كما سيأتي، فتسميتهم بالمتأولين أولى بالصواب(46).
وهذا التقسيم علمي فقط على العموم، أما تطبيقه على الأعيان فهو أمر قضائي له طرقه وأساليبه ،ومقصدنا هنا بيان القواعد العلمية في هذه المسألة، ولأن الحكم على المعين بالتكفير له تعلق بمسألة إقامة الحجة، وهي مسألة إعتبارية ذاتية تعود إلى اطمئنان العالم المجتهد، وليست مطلقة تلزم كل أحد، قال الشاطبي: إلا أن هذه الخاصية راجعة في المعرفة بها إلى كل أحد في خاصية نفسه، لأن اتباع الهوى أمر باطن لايعرفه غير صاحبه إذا لم يغالط نفسه إلا أن يكون عليها دليل خارجي(47).
ولابن تيمية رحمه الله تعالى تفصيل في مراتب المتأولين للمسائل الخبرية والأوامر(48).
أقوال بعض أهل العلم من أهل السنة في المتأولين
1- قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر، أنزلوه منزلة الجاهلية(49).
فهذا قتال المسلم للمسلم، أي أن المسلم استحل دم المسلم لكن بتأويل لكتاب الله تعالى فلم يضمن المخطئ كما لم يضمن المصيب فرفع الإثم والضمان بسبب التأويل.(/8)
2- سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن حكم من استحل محرماً؟ فقال: المستحل لحرمة الله إذا كان مقيماً عليها باستحلال لها غير متأول لذلك ولا نازعاً عنه رأيت استتابته منها، فإن تاب ونزع عن ذلك ورجع تركته وإلا فاقتل لمثل الخمر بعينها والزنا وما أشبه هذا، فإن كان رجل على شيء من هذا على جهالة للإستحلال، ولا رداً لكتاب الله تعالى، فإن الحد يقام عليه إذا غشي منها شيئاً(50).
فهو قول منه رحمه الله بعذر المتأول، وأما قوله: (فإن الحد يقام عليه إذا غشي منها شيئاً) فإنه فيما أظن لا يخالف ما قاله الإمام الزهري في القول المتقدم، فقول أحمد رحمه الله هو فعل عمر رضي الله عنه مع قدامة بن مظعون حين حده على شرب الخمر وهو مستحل له متأول قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا)[المائدة 93]، وهذا يدل على تعدد مراتب المتأولين في إعذارهم بإقامة الحد والتضمين وهذا أمر مهم فانتبه له وإياك والتعامل مع هذه المسائل بحدية مطلقة أو من خلال عمومات فإنها من أفسد شيء في هذا الباب.
3- قال الخطابي رحمه الله تعالى: قوله: ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة))، فيه دلالة على أن هذه الفرق كلها غير خارجين من الدين، إذ النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم كلهم من أمته، وفيه أن المتأول لا يخرج من الملة وإن أخطأ في تأوله(51).
وقوله هذا رحمه الله تعالى هو قول أهل السنة في عدم تكفير الفرق التي تنتسب لأمته صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من الخوارج أو القدرية أو المرجئة أو الروافض. قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم(الخوارج) مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم وفعلهم لذلك متقربين إلى الله تعالى(52).
ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: وكذلك سائر الثنتين وسبعين فرقة، من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقاً بل كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافراً في الباطن وإن أخطأ في التأويل كائناً ما كان خطؤه(53).
والحديث هذا (تفترق أمتي) حديث صحيح ضعفه جماعة من أهل العلم لعدم فهمهم لمعناه حين ظنوا أن مقصود الحديث هو تكفير الطوائف المنتسبة لأهل القبلة سوى طائفة واحدة كما صنع الإمام ابن الوزير في كتابه "العواصم والقواصم"(54)، وكذلك الإمام ابن حزم في "الفصل"(55)، وهذا خطأ في فهم الحديث، وهم رحمهم الله معذورون لاجتهادهم… فالحديث يحكم بضلال أهل البدع وخروجهم عن الحق واستحقاقهم الوعيد، واستحقاق الوعيد غير انفاذه عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة والخوارج، ولذلك لايحكم بخلودهم في النار ولا بتكفيرهم، وهذا ليس على إطلاقه كذلك، فهناك طوائف كما سيأتي تنتسب للإسلام ولكنها كفرت مع تأولها. وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يتحدث عن الباطن مع أن الفريقين ممن هو مسلم في الظاهر والباطن، أو مسلم في الظاهر كافر في الباطن لنفاقه وزندقته، وهذا هو المقصود هنا أي الحكم بالإسلام لهما مع اختلاف باطنهما إلا إذا تبين لنا من خلال الظاهر قرائن كافية للحكم عليه بالزندقة والإلحاد كما تقدم من كلام الشاطبي رحمه الله.
4- قال الإمام البغوي في "شرح السنة" في شرحه لحديث فضل الحسن بن علي رضي الله عنهما: ((إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين))[رواه البخاري]… قال رحمه: وفي هذا الحديث دليل على أن واحداً من الفريقين لم يخرج بما منه في تلك الفتنة من قول أو فعل عن ملة الإسلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم كلهم مسلمين مع كون إحدى الطائفتين مصيبة والأخرى مخطئة، وهكذا سبيل كل متأول فيما يتعاطاه من رأي أو مذهب إذا كان له فيما يتأوله شبهة وإن كان مخطئاً في ذلك وعلى هذا اتفقوا على قبوله شهادة أهل البغي ، ونفوذ قضاء قاضيهم(56).
5- قال النووي رحمه الله تعالى: المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع(57).
وقول النووي هذا لابد فيه من تفصيل وهو أن العلماء اختلفوا في تسمية الخوارج: هل هم طائفة كفر أم لا؟ لاختلافهم في ما عندهم أهو مكفر أم لا؟ فإن دخلوا في بدعة مكفرة بتأويل دخلوا في بحثنا هذا، وإلا فلا مدخل لهم هنا لعدم تسمية طائفتهم بطائفة كفر، وأما قوله: كسائر البدع، فليس على إطلاقه إذ هناك من الطوائف ما أجمع الأئمة على أن لهم أقوالاً مكفرة فسموهم طائفة كفر مع التوقف في تكفير أعيانهم كما سيأتي، فتنبه لهذا حفظني الله وإياك.
وهكذا فنصوص الأئمة في هذا كثيرة جداً، وقد ألف الإمام الفحل ابن حزم الظاهري كتاباً له سماه "الصادع والرادع على من كفر أهل التأويل من فرق المسلمين والرد على من قال بالتقليد" وهو كتاب لم يطبع بعد، ولكنه أشار إلى هذا في كتبه الأخرى ك"الفصل…" و "الإحكام…" وذكره الذهبي في ترجمته في السير فارجع إليه.(/9)
وقد فصل في هذه المسألة كثيراً بأدلتها ابن الوزير الصنعاني في كتابه متقدم الذكر "العواصم والقواصم"(58) فارجع إليه لأهميته.
وعنوان كتاب أبي الحسن الأشعري "مقالات الإسلاميين" يدل على مراده، ذلك أنه سمى المختلفين مسلمين ونص على هذا بقوله، فقد قال الإمام الذهبي: رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي: سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد دعاني فأتيته، فقال: أشهد علي أني لا أكفر أحداً من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف في العبارات.
قلت(الذهبي):- وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن، فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم(59).
وقول الأشعري: كلهم يشيرون إلى معبود واحد، ذلك لأن الخلاف بين الناس يومذاك كان أشهره في موضوع أسماء الله وصفاته.
قال الإمام ابن الوزير نقلاً عن إمام زيدي (اسمه أبو سعد المحسن بن محمد بن كواته): مع الجهل والتأويل رباط التمسك بالديانة لم ينحل فإذا أقدم مع العلم فقد انحل(60).
وأما كتاب الغزالي "قانون التأويل" فهو كتاب لا يوثق به بل هو فاسد المباحث، وقد أخذه في الحقيقة من كتب الفلسفة وعلى الخصوص كتاب "الأضحوية" لابن سينا، وهو متأثر به جداً في كثير من كتبه، وكتابه هذا وضعه لإعذار الملحدين من أمثال ابن سينا ولما فعله هو من تأويلات باطنية في كتبه مثل "مشكاة الأنوار وجواهر القرآن والمضنون به على غير أهله".. وعلى الجملة فكتب أبي حامد الغزالي يحذر منها ولا يحتج بشيء منها إلا إذا وافقت السلف. وقد ناقشه ابن تيمية موسعاً في كتابه الموسوم بالسبعينية ، فارجع إليه.
(37) ... إحكام الفصول في إحكام الأصول للإمام البجي ص708–709. ومحقق الكتاب هو عبد المجيد التركي وهو دكتور محاضر بجامعة السربون وهو من أكابر المجرمين من العلمانيين الذين يعتبرون أن القرآن كتاب مواعظ خلقية وليس كتاب أحكام وشرع، فليحذر مقدمة كتابه هذا ومن كتابه الآخر "مناظرة في أصول الشريعة الإسلامية بين ابن حزم والباجي" … فهو يقول: ولست أتردد لحظة في أن أرد ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
(38) ... منهاج السنة النبوية5/111.
(39) ... الإحكام في أصول الأحكام5/77.
(40) ... منهاج السنة5/98.
(41) ... السابق5/78.
(42) ... السابق5/87وما بعدها.
(43) ... يراجع للتوسع في هذا الباب كتاب محمد السيد الجلنيد "الإمام ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل" ، وكتاب "الصواعق المرسلة" لابن القيم(1/175وما بعدها). لمعرفة التأويل... وانظر بتأمل وتبصر ما كتبه ابن القيم في إقبال النفوس الجاهلة على التأويل في "الصواعق"(2/435) وكتاب ابن القيم هذا من أهم مصادر شرح ظاهرة التأويل الفاسد في الأديان السابقة وفي الإسلام فلا ينبغي لطالب العلم تفويته.
(44) ... هذه الأسباب تستطيع النظر إليها في الكتب التي ألفت في الدفاع عن الأئمة وأنهم أرادوا الخير فأخطأوه، وأنفعها في هذا الباب كتاب ابن تيمية رحمه الله "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، وهو وإن كان عامة شواهده في المسائل الفرعية فإنه قد تقدم أنه لافرق بين المسائل العملية والمسائل الخبرية ولا بين الأصول والفروع. وانظر "الصواعق المرسلة" لابن القيم رحمه الله فإنه نقل كلاماً نفيساً لابن حزم رحمه الله تعالى وشيئاً من كلام ابن تيمية في الرفع(2/520–561).. وكتاب ابن القيم مليء بشرح الحجج النفيسة لحصول التأويل الفاسد عند أهل البدع وهو يرجع الأسباب الجالبة للتأويل إلى أربعة أسباب فارجع إليها في(2/500وما بعدها).
(45) ... فتح الباري12/304.
(46) ... انظر في هذا "العواصم والقواصم"4/176 حيث سمى القرامطة متأولين ولكن تأويلهم ليس بعذر لهم في رد تكفيرهم، وكذلك ما قاله الغزالي في كفر بعض من زعم التأول وهو في الحقيقة مكذب كما في التفرقة وهو في "بغية المرتاد"ص346.
( 47) ... الإعتصام2/225.
(48) ... انظرها في مجموع الفتاو3/387.
(49) ... منهاج السنة النبوية4/454.
(50) ... الجامع للخلال2/505 مسألة رقم1412.
(51) ... البيهقي في السنن الكبرى10/208.
(52) ... المغني12/276.
(53) ... الإيمان206.
(54) ... 1/186–187.
(55) ... 3/247–248.
(56) ... شرح السنة14/126-127.
(57) ... شرح صحيح مسلم2/50.
(58) ... العواصم والقواصم2/316 وما بعدها، وكتابه هذا نموذج فريد لنقاش أهل الطوائف من خلال كتب أئمتهم ومذاهبهم، فإن ابن الوزير رحمه الله نشأ زيدياً ثم خلع التقليد فهدي إلى الحق، فعابه مشايخه وشنوا عليه الحروب فقام يكشف لهم الحق من خلال كتبهم ومذاهب أئمتهم، فليت أصحاب المذاهب جميعاً يسلكون هذا السبيل فإنه ما من مذهب إلا وقد اختلط فيه الخير بالشر، وإن الخير الذي فيها كاف لدلالتها على بقية الخير في غيرها والله الموفق.(/10)
(59) ... سير أعلام النبلاء 5/88، وهو في السنن الكبرى للبيهقي10/207.
(60) ... العواصم والقواصم2/329.
القاعدة على المستوى العلمي
قال ابن تيمية رحمه الله: وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين:
* أحدهما أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقاً، فإنه منذ بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف: مؤمن به، وكافر به مظهر الكفر، ومنافق مستخف بالكفر(61). ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة ذكر أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتين في الكفار وبضع عشر آية في المنافقين…..
وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة. وأول من ابتدع الرفض كان منافقا. وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق، ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم.
ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطناً وظاهراً، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة؛ فهذا ليس بكافر ولامنافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقاً أوعاصياً؛ وقد يكون مخطئاً متأولاً مغفوراً له خطأه؛ وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين.
* والأصل الثاني: أن المقالة تكون كفراً: كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب وكذا لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول.اهـ(62)
تطبيقات على المتأولين
القصد من كل ما تقدم هو بيان القواعد العلمية العامة، وسيتبين لنا أن تطبيق هذه القواعد يختلف من إمام لآخر وذلك بحسب ما ظهر له من علامات وما احتف بالواقع من قرائن، وهذا يدل على أن الإعذار متفق عليه لكن إعذار زيد من الناس أو طائفة من الناس وعدم إعذار عمرو أو طائفة أخرى هو أمر اجتهادي نسبي اعتباري.
سئل ابن المبارك: على كم افترقت هذه الأمة؟ فقال: الأصل أربع فرق: هم الشيعة والحرورية والقدرية والمرجئة… فقال له السائل: لم أسمعك تذكر الجهمية… قال: إنما سألتني عن فرق المسلمين(63).
وهذا النص يستفاد منه أمران:-
الأول: عدم تكفير طوائف أهل البدع.
الثاني: أنه استثنى الجهمية وعدهم مشركين.
وقوله رحمه الله إن الجهمية ليسوا مسلمين معلوم خلاف العلماء حوله في عدم تكفير أعيان المعتزلة وهم ورّاث مذهب التجهم في باب الأسماء والصفات، بل قال آخرون من أصحاب الإمام أحمد وغيره: بل الجهمية داخلون في الاثنين وسبعين فرقة(64)، وسيأتي تفصيل هذه المسألة عند شرحنا لألفاظ أئمة السلف في تكفير بعض طوائف أهل البدع.
* الشيعة:-
الشيعة شعار تندرج تحته طوائف عدة، وحكم الأئمة على كل طائفة بحسب عقيدتها وبمقدار معرفتهم بها ومن هذه الطوائف:
أ- الإمامية الإثني عشرية:-
وهذه الطائفة ككل طوائف أهل البدع تتطور مع الزمن وفيها أقوال متعددة، كل إمام فيها له مذهب وقول خاص(ونقصد العقائد لا الأحكام)… قال ابن تيمية عنها: ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلال شر منهم، لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان وأبعد عن حقائق الإيمان منهم، وهؤلاء الرافضة إما منافق أو جاهل، فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقاً أو جاهلاً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم(65).
ومع قوله هذا فيهم فإنه يقول عنهم: والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضاً لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه(66).
وهذا مع أن الأئمة سموا الرافضة طائفة كفر، قال البخاري: قال عبد الرحمن بن مهدي: هما ملتان
الجهمية والرافضة(67). بل أطلق ابن تيمية عليهم جملة وصف النفاق فقال: والرافضة حالهم من جنس المنافقين(68).
وبهذا نعلم وجوب التفريق بين الحكم على الطائفة بالكفر وبين الحكم على أعيانها كما سيأتي تفصيلاً إن شاء الله تعالى وكذلك بين الحكم على أئمتهم وبين عوامهم كما تقدمت القاعدةالعلمية من كلام شيخ الإسلام..
ثم لابد من النظر إلى قول بعض الرافضة الغلاة من القول بتحريف القرآن الكريم أو إعتقاد البدأ على الله تعالى، أو تكفير عامة الصحابة، فإن هذه المسائل لم يعذر الأئمة فيها بالتأويل، ولذلك كفروا الباطنية الإسماعيلية القرامطة كما سيأتي… وعلى هذا فلا بد من النظر حينئذ إلى أمرين عند الحكم على الطائفة أو الشخص:(/11)
أولهما: عدم التعامل مع الطوائف المعاصرة من خلال الشعار، لأنه يتغير مفهومه وأفراده الداخلون فيه من زمن لآخر ومن مكان لآخر.
ثانيهما: لا بد من التعامل مع الأفراد بغير الطريقة التي يحكم بها على الطائفة في مسألة التكفير فيفرق بين العالم والجاهل وبين من أقيمت عليه الحجة ومن لم تقم.
ب- الشيعة الغلاة:-
ومنهم القرامطة الإسماعيلية فقد كفرهم العلماء طائفة وأفراداً ومنعوا من عدهم مسلمين(69).
قال ابن تيمية: فكيف بالقرامطة الباطنية الذين يكفرهم أهل الملل كلها من المسلمين واليهود والنصارى(70).
ويقول: لكن القرامطة أكفر من الإتحادية بكثير(71). والإتحادية هم الذين يقولون باتحاد المخلوق بالخالق، تعالى الله عما يقول الظالمون.
وقال: فإن الذي إبتدع الرفض كان منافقاً زنديقاً، وكذلك يقال عن الذي ابتدع التجهم، وكذلك رؤوس القرامطة والخرمية وأمثالهم لا ريب أنهم من أعظم المنافقين، وهؤلاء لايتنازع المسلمون في كفرهم(72)
* النصيرية *:
قال ابن تيمية: هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين(73).
واعلم أن قوله رحمه الله: وضرره أعظم من ضرر الكفار المحاربين… لا ينبغي أن يستفاد منه التكفير، فقد يكون ضرره أعظم وليس بكافر، فقد ذكر الغزالي فضيلة قتل أقوام، وأن قتل الواحد منهم أفضل من قتل مائة كافر وتوقف في تفكيرهم(74).
* الدرزية:-
قال ابن تيمية : وكفرهؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم(75)، لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين بل هم الكفرة الضالون فلا يباح أكل طعامهم، وتسبى نسائهم، وتأخذ أموالهم فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم بل يقاتلون أينما ثقفوا ويلعنون كما وصفوا، ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ، ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يضلوا غيرهم(76).
فانظر إلى تفريق شيخ الإسلام بين الطوائف، فأنت تراه توقف في تكفير أفراد الرافضة وأعيانهم وهم متأولون مع تسميتهم طائفة ردة من البعض، ولم يقبل تأويل الباطنية والنصيرية والدرزية وهى طوائف تنتسب للمسلين.
والسبب أن تأويل الروافض وإن كان غير سائغ لكنه عذر يمنع إلحاق أعيانهم بالكفر إلا بشروط، وأما الباطنية فتأويلهم لا شبهة لهم فيه ولا دليل عليه لا من جهة اللغة ولا هو من العلم في شيء بل بين أن دعواهم التأويل كذب وتحايل.
ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن طوائف من الروافض انضمت إلى الباطنية مع جهلهم بما يقولون في الباطن(77) فحينئذ لا بد من التعامل مع هذا العين بحسبه والله أعلم.
تفريق العلماء بين من أنكر علم الله تعالى السابق والشامل لما سيكون وبين من نفى خلق الله تعالى لأفعال العباد
قال ابن تيمية: وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال(78).
وكلاهما متأول والفرق بين الأمرين: أن شبهة منكر العلم ضعيفة جداً، فالنصوص المثبتة للعلم صريحة محكمة مفسرة لا تحتمل دخول الشبهه عليها، ولذلك لا قيمة لادعائه الإجتهاد، بخلاف شبهة القدرية الذين قالوا: ان الإنسان يخلق أفعاله، فإن قولهم هذا لهم فيه من الشبه العقلية الكثير ولهم كذلك بعض إحتمالات بعض معاني النصوص النقلية التي فهموها على غير مرادها.
وقال ابن حزم رحمه الله: وقد تسمى باسم الإسلام من أجمع جميع فرق الإسلام على أنه ليس مسلما، مثل طوائف من الخوارج غلوا فقالوا: إن الصلاة ركعة بالغداة وركعة بالعشي فقط…، وقالوا: إن سورة يوسف ليست من القرآن، وطوائف كانوا من المعتزلة ثم غلوا فقالوا بتناسخ الأرواح وآخرون قالوا إن النبوة تكتسب بالعمل الصالح(79).
وهذا النص يبين خطأ التعامل مع الطوائف على صنف واحد، وكذلك خطأ التعامل مع المعين باسم طائفته إذا تميز عنهم بقول فهاهي طوائف من الطوائف التي لم يحكم الأئمة بكفر أعيانها حكم ابن حزم عليهم بالكفر لقولهم أقوالاً من القسم الأول والذي لايعذر فيه صاحبه بعذر التأويل ، فتنبه لهذا حفظني الله وإياك.
تخريج كلام الأئمة في تكفير طوائف أهل الأهواء والبدع
ورد جملة من النصوص من كلام أئمة السلف في تكفير أهل البدع وقد أخطأ أقوام في فهم كلامهم هذا، فمنهم من حملها على الكفر الأصغر ونفى عنهم التكفير مطلقاً ومنهم من أخذها على إطلاقها فكفر أعيانهم وطائفة أخرى فصلت.
من هذه النصوص:-
1- تكفير القائلين بخلق القرآن ومنها ما قاله الإمام أحمد رحمه الله تعالى: من قال القرآن مخلوق فهو عندنا كاف(80)، وكقول سفيان بن عيينة: من قال مخلوق (أي القرآن) فهو كافر ومن شك في كفره فهو كافر(81).
2- تكفير الجهمية/ تقدم.
3- تكفير الروافض/ تقدم وغيرها..
4- تكفير القدرية.
5- تكفير شاتم الصحابة.
وهناك عبارات جامعة للأئمة في إطلاق تكفير أهل البدع مثل:-(/12)
1- عن الحسن البصري قال: أهل الهوى بمنزلة اليهود والنصارى.
2- عن محمد بن سيرين قال: كانوا يرون أهل الردة وأهل تقحم الكفر أهل الأهواء(82).
يقول ابن تيمية رحمه الله في افتراق الناس في فهم كلام الأئمة:-
والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار وما من الأئمة إلا من حكي عنه في ذلك قولان كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع وفي تخليدهم، حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يطلق كفر أحد من أهل الأهواء وإن كانوا أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والإلحاد(83).
وقال: وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافراً(84)، فيتعارض عندهم الدليلان، وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم من كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رآهم قالوا: من قال كذا فهو كافر، اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه(85).
وبهذا يعلم أن بعضهم حمل كلام الأئمة على الكفر الأصغر، ونفى تكفيرهم جملة أو تكفير بعض أفرادهم عيناً ومن هؤلاء:
1- الإمام البيهقي.. قال: والذي روينا عن الشافعي وغيره من الأئمة في تكفير هؤلاء المبتدعة فإنما أرادوا به كفراً دون كفر(86).
2- الإمام البغوي.. قال: وأجاز الشافعي شهادة أهل البدع والصلاة خلفهم مع الكراهية على الإطلاق فهذا القول منه دليل على أنه أطلق على بعضهم اسم الكفر في موضع أراد به كفراً دون كفر(87).
وآخرون قالوا بتكفيرهم طوائف وأفراداً وإخراجهم من الملة جملة.. قال ابن تيمية: وهو قول الأكثرين(88).
وقد تبين خطأ هذا الاختيار والصحيح التفصيل كما تقدم.. وهذا لا يعني أبداً عدم تكفير أعيان بعض المتأولين مطلقاً فهذا القول خطأ كخطأ من يقول بتكفيرهم مطلقاً.
فإن الإمام أحمد نقل عنه تكفير أعيان بعض الجهمية كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى(89).
وليعلم أن هذا الذي تقدم هو في البدع المكفرة لا في البدع التي لا تعد كفراً، فهذه لا يدور حولها هذا الحديث.
الفرقان بين المتأولين والملحدين
بعد هذا التطواف في كلام الأئمة رحمهم الله تعالى تبين الفرق بين من قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فأخطأ السبيل ولم يصب المراد وبين من هو في شقاق مع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لايقيم شاناً لأمره ولا يلتفت إلى ما جاء به إلا بعين الازدراء والتحقير، همه المعاندة والإعراض، إذا وقعت به واقعة لا يلتفت أبداً إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر فيها، فهذا وإن قال كلمة الإسلام(لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فإنه من أكفر خلق الله تعالى ومن أبعدهم عن دينه، ولذلك كان من حجج بعضهم في عدم تكفير المبدلين لشرع الله تعالى من الحكام أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى لم يكفر المأمون ولا المعتصم مع قولهم بأقوال مكفرة عنده كقولهم بخلق القرآن وبقول جهم في الأسماء والصفات، فشتان بين من أراد الحق فأخطأه وهو يريد أن يحقق لا إله إلا الله في نفسه وأمته وبين من رفع شعار العلمانية وزعم أن الله تعالى لا حق له في التشريع والقضاء.
ثم تبين لك الفرقان بين الزنادقة كالإسماعيلية والقرامطة والدرزية ومن شابههم في هذا العصر ممن يقولون إن القرآن (إفراز) واقعي أو إن القرآن كتاب مواعظ لا أحكام أو كتاب أدب لا كتاب هداية، أو يقولون إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم غير ملزم لنا بل هو ملزم لعصره فقط، أو يقولون إن حكم الله تعالى لا ينفع اليوم وليس له قيمة في إصلاح الحياة، وبين المتأولين الذين وإن قالوا ما هو كفر من المقالات، وقالوها متأولين آية أو حديثاً، أرادوا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ففاتهم المراد، فهم وإن كانوا ضلالاً وقالوا كلمة الكفر إلا أن تكفير الواحد منهم لابد من إعمال قواعد قضائية فيه وذلك من تحقق شروط وإنتفاء موانع، ثم هذا لايعني أبداً أن لا يكفر المتأول أبداً فقد يغلب على نظر العالم والناظر والمفتي زندقة الواحد منهم مع قوله بعدم كفر آخر يقول بقوله وليس هذا من التعارض والاضطراب في شيء وإن بدا هذا اضطراباً وتعارضاً عند من لا يعرف هذا الباب من العلم.
((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم))(/13)
والحمد لله رب العالمين
(61) ... ما قاله شيخ الإسلام هنا يؤيد ما تقدم من علاقة الحكم بالحقيقة وأنه لا يوجد قسم رابع.
(62) ... الفتاوى3/352–353–354.
(63) ... الإبانة الكبرى للعكبري1/377.
(64) ... الفتاوى3/350.
(65) ... منهاج السنة5/160–161.
(66) ... الفتاوى28/500.
(67) ... خلق أفعال العباد للبخاري ص125.
(68) ... منهاج السنة6/424.
(69) ... انظر فضائح الباطنية للغزالي ص151 واحتججت هنا بكلام الغزالي لأن الغزالي واسع الخطو في إعذار كما هو في كتابه (التفرقة بين الإسلام والزندقة) فهو لم يكفر أحد في التأويل إلا إذا كان في أصول العقائد!! وانظر رد شيخ الإسلام عليه في(السبعينية) قال رحمه الله: وبهذا يظهر ضعف ما ذكره من أنه لا معنى لزندقة هذه الأمة إلا ما ذكره من الزندقة المقيدة التي هي مذهب الفلاسفة، فإن الزندقة في هذه الأمة وغيرها باتفاق أئمة المسلمين أعم من هذا كما يذكره الفقهاء كلهم في باب توبة الزنديق وسائر أحكامه(بغية المرتاد ص339).
(70) ... الفتاوى35/141.
(71) ... السابق35/144.
(72) ... بغية المرتاد ص241، وهو السبعينية.
* ... النصيرية يلقبون أنفسهم اليوم بالعلويين وهي تسمية نصرهم فيها الفرنسيون عند احتلالهم لبلاد الشام وانخدع بها كثير من المسلمين.
(73) ... الفتاوى 35/149.
(74) ... انظر [بغية المرتاد]ص345 ونص الغزالي في التفرقة.
(75) ... زوّورت بعض الجماعات البدعية هذه الكلمة التي قالها الإمام وزعمت أنها في حق الروافض وهذا كذب على الشيخ وإنما المقصود بها الدرزية، والجماعة المعنية من جماعات الغلو.
(76) ... الفتاوى35/16–162.
(77) ... السابق35/144.
(78) ... مجموع الفتاوى3/352، وهذا الكلام ينطبق عليه بعض الانطباق ما قلناه في تعليقنا على كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى فاهتم به.
(79) ... الفصل2/114.
(80) ... عبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة1/107 رقم12.
(81) ... السابق1/112 رقم25.
(82) ... شرح أصول الاعتقاد للالكائي حديث رقم/233 وح رقم234.
(83) ... الفتاوى7/618-619.
(84) ...
وهذا الذي قاله الإمام رحمه الله في غاية النفاسة في كشفه لتردد الأئمة في تكفير بعض الأعيان مع وجود القاعدة التي أصلوها ، فإن القاعدة التي لديهم هو تكفيره فلما أرادوا الحكم عليه امتنعوا من ذلك حين رأوا ما فيه من صلاح ذاتي- أعمال صالحة، ذكر الله، صلاة الليل، صدقات… -وما رأوا من هم لديه ورغبةً في خدمة دين الله تعالى فوقعوا في الحيرة فعادوا على القاعدة بالتغيير، وهذا يقع مع الكثيرين وإلى يومنا هذا ولولا مخافة الإطالة لذكرت صوراً متعددة لهذا الذي قاله الإمام، وهو يبين لك كذلك أن المرء لا تحكمه القاعدة فقط في الحكم والفتيا بل لا بد من اطمئنان نفسه في الحكم على المعين، وسمي هذا التعارض بين القاعدة والواقع من تعارض الأدلة، فاهتم لهذا جداً واعذر أخاك بما يرى في الحكم على المعينين ولا تراه أنت، مع التنبه أن الفتوى والأحكام هي لأهل العلم وليس للجهلة والأغمار.. والله الهادي.
(85) ... الفتاوى12/487–488.. وهذا الموطن فيه كلام نفيس جداً في هذه المسألة فارجع إليها.
(86) ... السنن الكبرى10/207.
(87) ... شرح السنة1/228.
(88) ... مجموع الفتاوى12/487.
(89) ... الفتاوى12/489، وكذلك سمى ابن تيمية كبراءهم بالزنادقة.(/14)
الفصل الثاني
أهم أدلة أهل التعطيل والتأويل ، والرد عليها
ـــــــــــــــــــــــ
ويشتمل هذا الفصل على ما يلي
ـــــــــــــــــــ
أولا : إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة .
ثانيا : ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية .
ثالثا : ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات .
رابعا : الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى .
خامسا : تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم ، في الاستواء وكلام الله تعالى ورؤيته جل وعلا .
@@@@@@@@@@@@@
أولا : إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة :
ــــــــــــــــــــ
قد يستدل القائلون بتأويل الصفات ومن يجعل منهم نصوصها من المتشابه الذي لا يراد ظاهره بأدلة كثيرة ، وقد ينزعون في بعض الأحيان إلى الاستدلال بالسمع ، لكن تعويلهم الأعظم على الأدلة العقلية(1) وهي متنوعة .، [[ كما ذكر الرازي في تفسيره 7/170، ولهذا قال في المواقف في علم الكلام ( ودلائله يقينية يحكم بها العقل ، وقد تأيدت بالنقل ) ص 8 ، فجعل الاعتماد على الأدلة العقلية ، وأما النقلية فهي تؤيدها فحسب]]
وفي تفصيل القول فيها تطويل يخرجنا عن مقصود هذا الكتاب ، غير أن لهم في هذا الباب أدلة تجري مجرى الأصول لغيرها ، ومنها تفرع كثير من الاستدلال العقلي عندهم ، فإذا ذكرت وبين وجه الجواب عنها اتضح بذلك السبيل الذي اتبعوه في الحكم على هذه النصوص بالتشابه بالمعنى الذي أرادوه .
ويتضح بذلك أيضاً طريق الجواب عن غيرها من الأدلة العقلية بما ينقض زعم من زعم ، أن الأدلة العقلية قد تناقض الوحي الإلهي ، وإن الواجب في هذه الحال التصرف فيه ليلائمها ويتفق معها ، فإن لم يستطع ذلك قدمت الأدلة العقلية على نصوص الوحي ، وأحسن الظن فيها ـ أي نصوص الوحي ـ : بأنها مما يراد به الابتلاء ، لا اعتقاد ما دلت عليه.(2) [[ ينظر ما ذكره الرازي في الاستدلال على صحة هذا الأصل عنده ، أساس التقديس ص 172]]
ولابد من تقديم جملة مشتملة على ركنين قام عليهما ما سيذكر من الأدلة .
فيقال:
أما الركن الأول :
ـــــــــ
فهو أن هؤلاء المتكلمين - وهم القائلون بتأويل نصوص الصفات - قد اعتقدوا مسائل رأوها قاطعة ، دل عليها براهين محكمة ، وبنوا عليها أموراً عظيمة كإثبات وجود الله ، وأنه صانع العالم ، ورأوا أنها إذا ابتنى عليها هذا الذي هو أصل الدين ، فلا يجوز تقديم ما جاء في السمع عليها ، لأن في ذلك تقديم الفرع على أصله .
وبيان هذا أنهم قسموا ما في العالم من الموجودات إلى قسمين :
جواهر وأعراض ، ولتكون القسمة حاصرة ، جعلوا الجوهر هو المتحيز ، وهو ما يشار إليه بالذات الإشارة الحسية .
والعرض موجوداً قائما بمتحيز ثم جعلوا الجواهر قسمان : ما يقبل القسمة ، وهو الجسم ، وما لا يقبلها لا وهماً ، ولا فعلاً ن ولا فرضا ، ً وهو الجوهر الفرد .
واعتقد أكثرهم أن الأجسام متركبة في الحقيقة من هذه الجواهر الصغيرة التي هي في غاية الحقارة ، وهي في حقيقة الأمر متماثلة تتجمع لتكون الأجسام .
والأجسام كلها في هذا العالم متكونة منها(1) ،[[ ينظر في الجواهر والأجسام المواقف ص 182ـ 188، شرح العقائد 46ـ 56]] ، لا فرق بين جسم وآخر في أن أصله هذه الجواهر ، والاختلاف الظاهر فيها راجع إلى اختلاف الأعراض القائمة بها .
فجسم النار وجسم الثلج متماثلان إلا أن أعراضاً قامت بالجسم الناري كالحرارة والطافة جعلته بهذه الصفة ، والبرودة والرطوبة جعلت الثلج بهذا الشكل ، واختلاف أحجام الأجسام راجع إلى كثرة هذه الجواهر فيها وقلتها وهذه الجواهر متماثلة (2) .[[ ينظر في تفصيل القول بتماثل الأجسام مع المصدرين السابقين ، درء التعارض 1/116، 5/194ـ 2020، 7/112ـ 114 ، وقد ذكر أن القول الصحيح في انقسام الأجسام أنها تتجزأ حتى تصير إلى أجسام أخرى ،كما يستحيل الماء إلى هواء بالحرارة وأن القول بالجوهر الفرد لا يقول به أكثر العقلاء ، والأجسام غير متماثلة عندهم أيضا ، وينظر كذلك تلبيس الجهمية 1/518، والدرء 3/442، 445، وقد عزى الجرجاني القول بتماثل الأجسام إلى المتكلمين ، التعريفات للجرجاني 75، والآمدي كذلك ، نقلا عن الدرء 4/176]]
وطائفة قليلة لم تعتقد قسمة الأجسام إلى هذه الجواهر الصغيرة ، لكنهم اتفقوا جميعاً على أن الجسم هو ما يمكن الإشارة إليه مما ينقسم ، ويعنون بانقسامه أن يتميز فيه شيء عن شيء ، فيكون فيه يمين ويسار أو فوق وتحت ، وإن كان انقسامه بمعنى انفصاله إلى أجزاء مما لا يقع .(/1)
وأما الأعراض فهي كالألوان ، والطعوم ، والروائح ، والأصوات ، وما يسمونه الكيفيات النفسية كالعلم ، والإرادة ، والقدرة ، وكل ما لايمكن الإشارة إليه من الموجودات ، ولا يقوم بنفسه كالاجتماع ، والافتراق ، والحركة ، والسكون ، وزعم أكثرهم أن الأجسام لا تخلوا من الأعراض ، أما من قال بالجواهر الفردة فلأنها متركبة منها فلا تخلوا من عرض الاجتماع ، وقال بعضهم لاتخلوا من الحركة ، والسكون ، أو الاجتماع ، والافتراق ، وقال بعضهم : لا تخلوا من جميع أنواع الأعراض . [[ ينظر الإرشاد للجويني ص 44ـ 45، والتمهيد للباقلاني ص 39ـ 40 ، وشرح العقائد ص 55ـ 57 ، والمواقف ص 101]]
واشتهر عند الأشعرية أن العرض لا يبقى زمانين ، بل هي ـ أي الأعراض ـ تتجدد حالاً فحالاً ولما أورد عليهم بأن المشاهدة قاضية ببقاء الأعراض قالوا : لا دلالة لها كالماء الدافق من الأنبوب يجري مستمراً وهو أمثال تتوارد(4) . [[ ينظر المواقف 101، والتمهيد ص 38]]
هذا و لهم في هذه المباحث تفاصيل ، وجدال طويل ومعارضات ، وأدلة يسودون بها الصفحات في الجوهر والعرض ، فكم تناظروا في الجوهر الفرد ، وهل السكون عرض ، وأن الأجسام متماثلة في الأصل ، وينقض بعضهم قول بعض في تفاصيل تتعلق بالجواهر والأعراض ، مما لا يخفى على المطلع على طائفة من كتبهم ولو كانت قليلة.
لكن هذه الجملة المتقدمة أظهرت أعظم مسائل جواهرهم وأعراضهم ، بما فيهم المعتزلة وهي مادة غالب كلامهم في باب الصفات ، وإنما قدمت لتتضح دلائلهم فيما يأتي.
وأما الركن الثاني :
ــــــــــ
فهو أن المتكلمين أحدثوا طرقاً في إثبات حدوث العالم وصانعه ، بنوا عليها صحة الدين ، ورأوا اطرادها ، وقد بنوها على ما تقدم في الركن الأول .
ورؤوسها ثلاث طرق ، وهي :
الطريقة الأولى :
ــــــــــــ
يقولون فيها ما مثاله(1) [[ ينظر في هذه الطريقة ، الإرشاد للجويني ص 39ـ 48، ولمع الأدلة له ص 76ـ 80، التمهيد 41، 42، شرح العقائد ص 54ـ 56]]
العلم أما جوهر أو عرض ، فإذا ثبت حدوثهما فالعالم حادث ، ونحن نثبت حدوث الأعراض ونبني عليه حدوث الجواهر ، فنقول : إن الجواهر لا تتعرى عن الأعراض البتة ، فأما إن صح وجود الجوهر الفرد ، فلا تنفك الجواهر عن عرض الاجتماع ، أو الافتراق ، وأما إن لم يصحّ فالحركة والسكون ، أو غيرها من الأعراض .
والأعراض حادثة لأنها تتعاقب على محالها التي هي الجواهر ، فنستيقن حدوث الطارئ منها من حيث وجدت ونعلم حدوث السابق من حيث عدمت ، لأن وجود الشيء بعد عدمه أو عدمه بعد وجوده دليل على حدوثه ، والحوادث لابد لها من مبدأ ، إذ لا يصحّ حوادث متسلسلة لا أول لها ، ويعنون بالحادث ما سبقه عدم .
فينتج من هذه المقدمات حدوث الجواهر إذ ما لا ينفك عن الحوادث التي لها مبدأ ، حادث مثله ضرورة ، فينتج حدوث العالم ، إذ هو بأسره ، جوهر أو عرض ، والحادث لابد له من محدث أحدثه وهو الله تعالى .
وقد عد بعضهم هذه الطريقة ، العمدة في إثبات وجود الله ، وجعل الدين مبنيا عليها(1) . [[ حكاه ابن تيمية عن أبي المعالي ، الدرء 1/303، ويدل عليه كلامه في الإرشاد ص 151]]
الطريقة الثانية :
ــــــــــــ
وهي مبنية على القول بتماثل الأجسام ، وأشهر من قال بها أبو المعالي رحمه الله ، فإنه استدل بأن الأجسام في الأصل متماثلة ، وإنما يحصل الاختلاف بينها لاختصاص كل جسم بأعراض تخصه ، كما تقدم بيانه ، واختصاص كل جسم بما له من الصفات دون غيرها - كالحيز الذي هو فيه دون غيره ، والحد والنهاية الذي هو عليها دون غيرها - مفتقر إلى مخصص خصصه على هذه الصفات ، والمفتقر إلى غيره حادث والحادث لابد له من محدث وهو الله جل وعز.
وقد يسمون هذه الطريقة ، طريقة إمكان الأعراض ، والممكن عندهم هو ما لايجب وجوده ولا عدمه ، والواجب يجب وجوده ، والممتنع ما يجب عدمه وظاهر أن الممكن محدث والمحدث بحاجة إلى محدث(2) . [[ ينظر في هذه الطريقة ، الرسالة النظامية 16ـ 27، وقد ذكر ابن رشد أن الذي استنبطها هو أبو المعالي ، ثم شرحها ابن رشد بإيجاز ووضوح ، مناهج الأدلة ص 144، وينظر أيضا مقدمة الدكتور محمود حسين للكتاب ص 15 ، وكذلك الدرء لان تيمية 3/75ـ 76، وهذه الطريقة تنصب على إثبات الصانع بدون توسط إثبات حدوث جميع الجواهر ، كما صرح بذلك الرازي فيما نقل عنه في المصدر السابق ]] .
الطريقة الثالثة :
ـــــــــــ
وهي مبنية على تركيب الأجسام من الجواهر المفردة ، ويقال فيها : إن الأجسام مركبة ، والمركب مفتقر إلى أجزائه ، والمفتقر إلى غيره ممكن ، والممكن محدث ، وإذا كانت الأجسام ممكنة محدثة فالأعراض التي لا تقوم إلاّ بها أولى بالإمكان والحدوث ، فالعالم محدث والمحدث لابد له من محدث(3) . [[ ينظر شرح المواقف للجرجاني 3/2، 5]]
استنباط مما مضى :
ـــــــــــ(/2)
ويستنبط من هذه الطرق ، أنها كلها ، مبنية على الجسم ، بالاصطلاح الذي وضعوه ، ومضمونها أن الشيء إذا كان في جهة ، ويشار إليه فهو جسم حادث ، وإن دليل حدوثه من ثلاث جهات:
الجهة الأولى : عدم انفكاكه عما يطرأ ويزول فهذا يدل على الحدوث.
الجهة الثانية : اعتوار الصفات الجائزة إياه - أي التي يجوز ألا تكون كما هي - كوجوده في حيز معين أو مقدار معين وحد معينين ، دون غيرها - فهذا يدل على افتقاره إلى مخصص وهو دليل على الإمكان ، والممكن لابد له من مؤثر يرجح جانب وجوده على عدمه فهو محدث.
الجهة الثالثة: تركيبه دليل على افتقاره إلى ما تركب منه والافتقار دليل الإمكان .
ملحوظة :
ـــــ
يلاحظ أن الطرق السابقة هي استدلال بحدوث الجواهر ، وإمكانها كما هي الأولى والثالثة ، وإمكان الصفات - وهي الأعراض - كما هي الثانية ، وبقي الاستدلال بحدوث الصفات ، وقد يذكر مع الطرق السابقة أيضاً ، لكن الطريقة الأولى والثانية أشهر ، والأولى من الثانية وهي في الأصل للمعتزلة(1) [[ ممن ذكرها الرازي فإنه قال : الاستدلال على الصانع إما أن يكون بالإمكان ، أو الحدوث ، وكلاهما إما في الذات ، وإما في الصفات ، وينظر معالم أصول الدين للرازي ص 38 ، وذكر مثل هذا في المواقف ص 266، وقد اقتصر على هذه الطريقة الأشعري في اللمع ص 17ـ 18 ، واقتصر على الأولى كل من الجويني في إرشاده ولمعه ، والباقلاني في تمهيده ، والتفتازاني كما تقدم عنهم جميعا ، وكذلك اقتصر عليها السنوسي في شرح أم البراهين (151ـ 154) ]]
( والاستدلال بحدوث الصفات ، هو جزء من طريقة القرآن فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدث في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان ، وغير ذلك من الحوادث ، لكن القائلين بالجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا إستدلالاً بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها لكن تغير صفاتها). [[ ينظر كلام ابن تيمية الدرء 3/83]]
ولهذا يقول الرازي في التمثيل لهذه الطريقة (( مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء انساناً )) [[ عزاه في حاشية الدرء إلى نهاية العقول في دراية الأصول للرازي مخطوط ، ينظر العزو في الدرء 3/ 82]] وليس في هذا دليل على حدوث الجواهر الحاملة لهذه الأعراض - كما لا يخفى - ولهذا عاد الأشعري رحمه الله بعد ذكر هذه الطريقة إلى الاستدلال على حدوث النطفة - التي مثل بها لهذه الطريقة - بعدم انفكاكها عن الأعراض كما ذكر في الطريقة الأولى السابقة . [[ ينظر اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع ص 18ـ 19]] .
كما أن هذه الطريقة ليس فيها ما يقتضي إلاّ يكون صانع العالم جسماً ، بالمعني الكلامي ، كما قال الرازي ( والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها ، أن الأول يقتضي ألا يكون الفاعل جسماً ، والثاني لا يقتضي ذلك ) [[ ينظر العزو إلى كتاب الرازي دراية الأصول الذي مر ذكره آنفا ]] ، واقتضاء طريقة الإمكان لما ذكر بسبب بناؤها على تماثل الأجسام .
وسيأتي الكلام على هذه الطريقة القرآنية ، وأنها ليست في حدوث الصفات فحسب ، بل الله تعالى أشهدنا حدوث الذوات ، والصفات ، ليجعل ذلك دليلاً على نفسه تبارك وتعالى .
وهكذا ، استعمل أهل الكلام ، الجواهر والأعراض ، وأحكامهما لاثبات حدوث العالم ثم إثبات صانعه ، وهو الله عز وجل ، فرأوا أن الاستدلال بالسمع مبني على هذه الأدلة العقلية ، التي اثبت بها وجود الله منزل الوحي - سبحانه وتعالى - ، فقدموها ، وحكموا بها على الوحي كما سيأتي عند ذكر أدلتهم على أن نصوص الصفات من المتشابه الذي يجب حمله على خلاف ظاهره .
فإن هذه الطرق أنتجت لهم الأدلة التي سيستدلون بها على معارضة السمع وصرفه عن ظاهره .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
ثانيا : ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدليل الأول :
ـــــــ
أن إثبات الصفات لله ، على أنها معاني زائدة على ذاته لا يخلو الأمر فيها ، إما أن تكون حادثة فيلزم حلول الحوادث بذاته ، أو تكون قديمة فيلزم أن يكون لله تعالى مماثلا في أخص وصفه وهو القدم ، فيتعدد القدماء ، وما لا يلزم منه إلاّ الباطل فهو باطل .(1)
[[ ينظر شرح الأصول الخمسي لعبد الجبار الهمداني ص 195ـ 196]] .
وفيما تقدم ما يبين معنى قولهم (يلزم حلول الحوادث) وأنهم استدلوا بهذا على حدوث ما تحل به الحوادث ، ولذلك منعوا هذا هنا .
الدليل الثاني :
ــــــــ
أن إثبات الصفات ، نسبة للأعراض إليه سبحانه وتعالى ، والأعراض لا يجوز أن يوصف الله بها إذ هي دليل على أن ما قامت به فهو جسم حادث(2). [[ المصدر السابق 201]]
الدليل الثالث :
ــــــــ
أن إثبات الصفات يلزم منه نسبة التركيب إلى الله ، وانه مركب من الذات والصفات والمركب مفتقر إلى غيره فهو ممكن ، والله تعالى واجب الوجود بنفسه.(1) [[ ينظر المجموع 6/339]](/3)
وقد تقدم كيف جعل التركيب دليلاً على الإمكان والحدوث ،وأنه من البراهين المستعملة في إثبات حدوث العالم الذي يعتمد عليه إثبات الصانع منزل المحكم والمتشابه .
وهذه الأدلة هي أهم ما يستدلون به على نفي الصفات ، ومن هنا جاء القول بأن نصوص الصفات من المتشابه عندهم ، لأنها تدل على خلاف ما قررته هذه البراهين المحكمة عندهم ، كما قال القاضي عبد الجبار (فأقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه أدلة العقول )(2) [[ متشابه القرآن له 1/8]] ، فمثل هذه الأدلة حملته على جعل نصوص الصفات من المتشابه الذي عرفه بأنه (ما خرج ظاهره عن أن يدل على المراد)(3) [[المصدر السابق 1/19]] ، فهذه هي أهم أدلة المعتزلة .
@@@@@@@@@@@@@@@@@
ثالثا : ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات :
ـــــــــــــــــــــــــ
وأما أدلة غيرهم من أهل التأويل ، فما هي ببعيد عن هذه الأدلة ، بل هي نابعة من عين واحدة ، وهذا بيان أهم ما استدلوا به على نفي الصفات الفعلية ، ثم صفة العلو ، ثم الصفات الذاتية ، كالوجه واليدين.
النوع الأول : أهم ما استدلوا به على نفي الصفات الفعلية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
استدلوا على تأويل آيات ، وأحاديث صفات الأفعال ، التي تدل على أن الله يقوم به من الصفات ما يتعلق بالمشيئة ، كالمجيء يوم القيامة والنزول في ثلث الليل الأخير واستوائه على العرش بعد أن لم يكن مستوياً ونداؤه لموسى لما جاء عند شاطئ الوادي الأيمن وغير هذه النصوص التي تدل على أفعال الله في وقت دون وقت .
بأنها يلزم من ظاهرها قيام الحوادث بذات الله ، والحوادث هي ما سبقه العدم ، ولهذا السبب قالوا ليس لله صفة تقوم به إلاّ أن تكون قديمة غير متعلقة بالمشيئة ، ولهذا قالوا بالكلام النفسي ، وإن الله (يخلق لمن يشاء من عباده علما ضرورياً بكلامه ، من غير توسط حروف وصوت ودلالة )(4) [[ هذه عبارة الغزالي في المستصفى 120]] ، وقال من قال منهم إن كلامه لا يسمع (5) [[ ينظر شح العقائد النسفية 94ـ 95]] ، خشية القول بأن الله يتكلم في دون وقت ، فيكون وجود بعض أفراد الكلام سبقه عدمه وهو معنى الحدوث الذي إذا قام بالشيء دل على حدوثه .
وبه استدل على حدوث العالم واثبات الصانع ، ولهذا جعل أبو المعالي القول بظاهر حديث النزول يؤدي إلى (طرفي نقيض إحداهما الحكم بحدوث الإله ، والثاني القدح في دليل حدوث العالم )(1) [[ أما أبو المعالي فعبارته ( ولا وجه لحمل النزول على التحول ، وتفريغ مكان وشغل غيره ، فإن ذلك من صفات الأجسام ونعوت الأجرام ، وتجويز ذلك يؤدي إلى طرفي نقيض ... إلخ ) الإرشاد 151، وقوله ( التحول وتفريغ مكان وشغل غيره ) يريد به حلول الحوادث ، ولذلك قال إنه يلزم منه القدح في دليل حدوث العالم ، وقد ذكر في أوائل كتابه أن الدليل على حدوث العالم قيام الأعراض الحادثة ، في جواهر العالم ، والأعراض الحادثة تتجدد ، وتأتي وتزول ، هذا مع أن المثبتين للنزول لا يقولون هو تفريغ مكان وشغل غيره ، بل هذا لا يقوله إلا من لايفهم من صفات الله تعالى ، إلا ما يلزم من نقص المخلوقات ، بل يقولون ينزل كيف يشاء نزولا ندرك حقيقته ، وينظر أيضا في دليهم على نفي الصفات الفعلية قواعد العقائد 186]]
وجعل الرازي أول البراهين الدالة على تأويل المجيء قوله (ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصحّ عليه المجيء والذهاب فإنه لا ينفك عن المحدث ، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم ان كل ما يصحّ عليه المجيء والذهاب وجب أن يكون محدثاً مخلوقاً فالإله القديم يستحيل أن يكون كذلك.(2) . [[ أساس التقديس 102]]
قال ابن تيمية ( وبهذه الطريقة ، نفوا أن يقوم به فعل من الأفعال ، فنفوا أن يكون الرب استوى على العرش بعد أن لم يكن مستوياً)(3) . [[ بيان تلبيس الجهمية 1/143]]
وهكذا استدل هؤلاء على تأويل نصوص هذا النوع من الصفات بالدليل الذي اخترعه المعتزلة واثبتوا به وجود الصانع سبحانه.
النوع الثاني: أهم أدلة تأويل صفة العلو.
ـــــــــــــــــــــ
الدليل الأول :
ـــــــ
إن القول بأن الله فوق العالم يوجب إما أن يكون منقسماً أو غير منقسم ، فإن كان منقسماً كان مركباً ، وقد تقدم ما يلزم من التركيب ، وأن لم يكن منقسماً كان في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ ، وذلك باطل باتفاق العقلاء ، هذا على القول بوجود الجوهر الفرد ، ومن ينفي الجوهر الفرد يقول كل ما كان مشاراً إليه ، فإنه لابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسماً فثبت أن القول بأنه مشار إليه يفضي إلى الباطل فهو باطل.(4) [[ ينظر هذا الدليل في أساس التقديس ص 45، وتفسير الرازي 11/173، وقدمه في الموضعين ]] .
الدليل الثاني :
ـــــــ(/4)
قال أبو المعالي (والدليل على ذلك أن كل مختص بجهة ، شاغل لها ، متحيز ، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها ، وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلوا عنها وما لا يخلوا عن الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر ) .
وقد اقتصر على هذه الحجة في كتابه الذي سماه لمع الأدلة (1) [[ لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل الملة للجويني 95]] ، وهي مبنية على الدليل الذي استدل به على حدوث العالم وهو الاستدلال على حدوث الجواهر بحدوث الأعراض فقبول الاجتماع والافتراق دليل على حلول الحوادث الدال على حدوث ما حلت به ، إذا الاجتماع والافتراق ، أعراض وما قامت به الأعراض لا يخلوا منها وهي حادثة .
وما قامت به الحوادث حادث كما تقدم بيانه في أدلة حدوث العالم ، وقد صرح هذا الإمام بأن طرد دليل حدوث الجواهر يوجب القول بنفي العلو ، قال في الإرشاد ( إذ سبيل الدليل على حدوث الجواهر قبولها للمماسة والمباينة على ما سبق فإن طردوا دليل حدث الجواهر ، لزم القضاء بحرث ما اثبتوا متحيزاً ، وإن تفضوا الدليل فيما ألزموه انحسم الطريق إلى إثبات حدث الجوهر)(2) . [[ الإرشاد للجويني ص 9 ، واستدل الغزالي بأن القول بالجهة يوجب حلول الحوادث من جهة أنه إما أن يكون متحركا ، أو ساكنا ، وكلاهما أعراض حادثة ، ينظر قواعد العقائد ص 158، واقتصر أيضا على هذه الحجة ]]
الدليل الثالث :
ــــــــ
أن القول بأن الله فوق العالم يوجب إما أن يكون غير متناه وهو باطل ،وإما أن يكون متناهيا فيلزم أن يكون مفتقراً إلى من خصصه بهذا المقدار دون غيره ، وإما أن يكون متناهيا من بعض الجوانب دون بعض ، فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهيا غير الآخر وذلك يوجب القسمة والتجزئة(3) . [[ ينظر تفسير الرازي 12/ 174، وأساس التقديس له ]]
النوع الثاني : أهم ما استدلوا به على نفي صفات الذات .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
وأهم ما استدلوا به على نفيها ، أنها توجب التجسيم ، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى : أنها لا تطلق إلاّ على الأجسام في الشاهد .
الجهة الثانية : أنها تدل على التركيب وهو من صفات الأجسام .
ثم يقولون بعد هذا أن القول بالجسم يلزم منه الحدوث من جهة الأعراض أو التركيب أو الانقسام ويلزم التماثل مع سائل الأجسام عند من يقول به فيجوز عليه ما يجوز عليها من النقص والحدوث ، ولهذا قد يقولون اختصاراً أنها توجب التشبيه ، والمقصود عندهم أن الأجسام متماثلة ، وهو قول عامة المتكلمين(1). [[ ينظر في هذا الدليل تفسير الرازي ( 12/42، ومجموع الفتاوى 6/69، 6/109، 13/303 ]]
أما الصفات التي تكون ذاتية باعتبار وفعلية باعتبار آخر:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كالمحبة ، والرحمة ، والرضا ، والغضب ، والحياء .
فقد سلكوا في نفيها مسلكين :
الأول : من جهة كونها صفات فعلية ، يلزم منها حلول الحوادث ، وهذا في مثل ما ذكره النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من حديث الشفاعة من أن الله يغضب يوم القيامة غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله(2) ، [[ رواه البخاري الفتح 8/395]] ومثل قول الله تعالى { فاتبعوني يحببكم الله } آل عمران (31) ، فإن ظاهره أن المحبة تكون بعد الاتباع ، ولهذا يقولون ظاهره التغير(3) . [[ التمهيد للباقلاني 47]]
الثاني : من جهة أنها تدل على النقص والحدوث.
أما المحبة ، فقد قيل في دليل نفيها أن الله تعالى يتقدس أن يميل أو يمال إليه ، حكاه الجويني عن طائفة من الأصحاب(4) [[ الإرشاد 212]] ، ويظهر أن المراد ما ذكره ابن تيمية عمن ينفيها أنه احتج بأن المحبة تقتضي مناسبة بين المحب والمحبوب ، توجب للمحب بدرك محبوبه فرحاً ، وهذا يقتضي الحاجة ، إذا ما لا يحتاج إليه الحي لا يحبّه ، والله غني لو جازت عليه الحاجة للزم حدوثه(5). [[ مجموع ابن تيمية 11/358، وينظر كذلك 10/74، 6/69، 6/114]]
أما الرحمة والغضب والرضا والحياء وأمثالها : فلأن الرحمة خور في الطبيعة ، والغضب غليان الدم في القلب لطلب الانتقام ، والرضى رقة وسكون في الطبع والحياء انكسار ، وهذه أمارات النقص ولا يجوز أن يتصف الله بها.(6) [[ ينظر تفسير الرازي 1/262، والتمهيد للباقلاني ص 47 ، ومجموع ابن تيمية 6/117ـ 123]]
ملاحظات على هذه الأدلة :
ــــــــــــــ
ويلاحظ على هذه الأدلة التي هي عمدتهم في حكمهم على نصوص الصفات أنها من المتشابه الذي لا يراد به الظاهر مما دل عليه ، أمور :
الأول : أن ينبوعها واحد ، وهو ما أحدث من القول في الجواهر والأعراض ، ثم بناء إثبات وجود الله على ذلك ، ومعلوم أن مصدر هذه البدع من كتب الفلسفة .(/5)
الثاني: أن الألفاظ المستعملة عندهم ، لا سيما التي ينفون بها عن الله ما ينفون ، كالجسم والجوهر والعرض والتركيب والانقسام والحيز ، اصطلاحات خاصة بهم ، يريدون بها معاني خاصة لا يعرفها أكثر الناس من لغتهم ولا من عرفهم ، وقد يتوهم السامع انهم ينفون بها ما يعلمه من معناها اللغوي وليس الأمر كذلك كما سيأتي بيانه .
الثالث: انهم يستعملون فيما يبحثون فيه في المطالب الإلهية ، قياس الخالق على المخلوق قياساً شمولياً أو تمثيلياً .
يوضح ذلك مثال ، وهو أن :
حقيقة دليلهم في نفي العلو هو انهم يقولون :
ظاهر الشرع أن الله في جهة ،وكل ما كان في جهة فهو جسم ، حادث فظاهر الشرع أن الله جسم حادث ، وهذا هو قياس الشمول بعينه .
وأما قياس التمثيل فمثل أن يقال : المجودات في جهة أجسام حادثة في الشاهد ، والله تعالى في ظاهر النصوص في جهة ، فالله تعالى في ظاهر النصوص جسم حادث قياساً للغائب على الشاهد ، ثم ينتج من القياسين وجوب صرف الظاهر.
وهذا لا يستطاع الانفصال عنه ، وذلك أن الذي يريد أن لا يعول إلاّ على العقل في هذه الأمور الغيبية لابد له من استعمال القياس ، ولازم قياس التمثيل أن الله تعالى يدخل هو وغيره تحت قضية كلية واحدة تستوي أفرادها ، ولازم قياس التمثيل أن لله تعالى مماثل لا يقاس عليه وسيأتي الكلام على هذا وبطلانه .
فهذا إجمال لأهم أدلة أهل التأويل لصفات الله تعالى .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
رابعا : الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويتجه في تنظيم الرد أن ينفصم إلى شقين :
الأول عام .
والثاني أجوبة تفصيلية على أفراد الأدلة ،
أما الشق الأول العام في الرد على القائلين بتأويل نصوص الصفات :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فينشطر إلى قسمين أيضا :
أما القسم الأول فيقال فيه :
ما بنيت عليه هذه المقالة ، وهي أن نصوص الصفات من المتشابه المؤول ، من الأدلة العقلية ، التي اعتبرت محكمة لاستكمالها ما ينبغي اشتراطه لافضاء النظر العقلي إلى العلم ، قد تنازع فيها أرباب النظر والكلام أنفسهم ، وبعض القائلين ببعض هذه الأدلة في وقت رجع عنها في وقت آخر وأبطلها .
ويوضح هذا أمور :
الأول : إن قولهم في الدليل الأول ، الجواهر لا تتعري عن الأعراض ، والأعراض حادثة فالجواهر كذلك ، قد تنازع فيها أرباب الكلام أنفسهم ، فخالف في المقدمة الأولى بعض المعتزلة ، وأورد أبو المعالي في الرد عليهم ما هو من جنس ما يردون به عليه (1) . [[ ينظر الإرشاد للجويني 44، فقد جوز الصالحي من المعتزلة خلو الجواهر عن الإعراض ، وإذا جاز هذا سقط هذا الدليل على حدوث الجواهر ، وبالتالي لايمكن جعل هذا الدليل حجة في صرف ظواهر الوحي التي تقضي باتصاف الله تعالى بالصفات الفعلية الاختيارية كالاستواء وغيره ، ولهذا قال أبو المعالي ( فإذا جوز الخصم عروّ الجواهر عن الحوادث مع قبوله لها صحة وجوازا ، فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري تعالى للحوادث ) ص 46]]
وأما المقدمة الثانية ، فقد قال ابن رشد ( وذلك إن الجسم السماوي وهو المشكوك في إلحاقه بالشاهد ، الشك في حدوث أعراضه ، كالشك في حدوث نفسه لأنه لم يحس حدوثه لا هو ولا أعراضه)(2) [[ ينظر مناهج الأدلة 149]] ، يريد أن الأجسام السماوية لا يمكن الاستدلال على حدوثها بحدوث الأعراض القائمة بها لأنها لم يشاهد حدوث أعراضها .
فهذا يوضح أن ما بنوا عليه قاعدتهم الكلية وهي إن ما يقوم به ( ما يأتي ويزول هو حادث ) ، أمور مشكوك فيها ، ولا يصح إن يصرف الشرع عن ظاهره لأدلة عقلية متنازع فيها ، لا يقوم عليها دليل عقلي قاطع .
ولهذا فقد صرح كبرائهم أنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ما سموه (حلول الحوادث بذات الله ) ، ذكر ابن تيمية ذلك عن الرازي في كتابه المطالب العالية ، وذكر أنه آخر كتبه الكلامية ، وعن الآمدي في كتابه أبكار الأفكار(3) . [[ ينظر جامع الرسائل تحقيق محمد رشاد سالم 2/8ـ9]]
وهذا يبين أنه لا يجوز معارضة الوحي بأدلة عقلية قد تنازع فيها العقلاء ، وليس المقصود هنا إثبات قدم الجواهر ، والأعراض ، فإن المسلمين بل وأرباب الملل متفقون على أن الله خالق كل شيء ، وموجده من العدم .
وليس إثبات هذا مقصوراً على طرق المتكلمين ، وإنما المقصود هنا ، أنهم جعلوا ما ليس مسلما صارفا للنصوص السمعية القطعية عن ظاهرها وهذا لا يجوز قطعا.
الثاني: إن دليلهم الثاني في إثبات حدوث العالم مبني على تماثل الأجسام وعلى أنها مركبة من الجواهر الفردة ومعلوم إن هذا لا يمكن إثباته ، ولهذا توقف فيه الأذكياء منهم ، كماعزي ابن تيمية التوقف فيه إلى أبي المعالي ، والرازي من الأشعرية ، وأبي الحسين البصري من المعتزلة(1) . [[ ينظر تلبيس الجهمية 1/496، وصرح التفتازاني في شرح العقائد بضعف أدلة الجوهر ، وحكى عن الرازي التوقف فيه ص 52 ]](/6)
ولهذا قال ابن رشد ( وان عنوا بالجوهر الجزء الذي لا ينقسم ، وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد ، ففيه شك ليس باليسير وذلك إن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفاً بنفسه ، وفي وجوده ، أقاويل متضادة شديدة التعاند)(2) [[ مناهج الأدلة 138]]
وبهذا يعلم إن ما يستدل به على نفي العلو من أنه يلزم منه أن يكون ما هو في جهة جسماً مركباً من الجواهر ، و يكون جوهراً فرداً ، مبني على تخيلات لا أدلة عقلية.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ومن العجب أن كلامه - الآمدي - وكلام مثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام ، وقد ذكر النزاع في تماثل الأجسام وان القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على أنها مركبة من الجواهر المنفردة وأن الجواهر متماثلة ، ثم إنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر أنه لا دليل على تماثلها ، فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاماً بلا علم ، بل بخلاف الحق ، مع أنه كلام في الله تعالى وقد قال تعالى {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون} الأعراف (33)(3) . [[ ينظر الدرء 4/176]]
الثالث : أن قولهم في الدليل الثالث على حودث العالم ، المركب ممكن لأنه مفتقر لأجزائه وهي غيره ، قد ضعفه بعضهم أيضاً ، وذكر أن العقل لا يوجب أن المركب حادث ما لم يجب حدوث أجزائه(1). [[ كما نقل ابن تيمية عن الآمدي الدرء 4/247]]
فهذا أيضاً يدل على أن ما توهم أنه دلالات محكمة ، لا أحكام فيها ، بل إذا نشط مخترعوها لإبطالها فما أسهل ذلك ، ولهذا فان هؤلاء الجدليين يثبتون أموراً تارة ، وينفون ما أثبتوه تارة أخرى ، كما دل على ذلك ما تقدم2) . [[ ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية في المصدر السابق ، أن عالما مشهورا في الكلام والجدل اجتمع بالشيخ إبراهيم الجعبري يوما ، فقال له ( بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم من المعارضة فما وجدته ) وقال ابن تيمية أيضا ( وكذلك حدثني من قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال ( أبيت بالليل وأستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي ، وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء ، وبالعكس ، وأصبح وما ترجح عندي شيء 3/263]]
وهو مما يدل على صدق مقالة الآلوسي التي نقلها عنه رشيد رضا في المنار قال ( وقد صرح السيد الآلوسي تبعاً لغيره من المحققين العارفين بما حققناه هنا فيعلم الكلام والمتكلمين على آية الظن في باب الإشارة من هذا السياق فقال ما نصه ( وما يتبع أكثرهم إلاّ ظنا )) ، ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلاّ قليل، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالعقل بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلاً سالماً من قيل وقال ونزاع وجدال ))(3) . [[ تفسير الآلوسي 11/124]]
ومن المعلوم أنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الأمر بإثبات الصانع بهذه الطرق التي يلزم منها نفي الصفات ، ولو كان أصل الدين متوقفاً عليها - كما يقوله بعضهم - لما قبل صلى الله عليه وسلم إيمان متبعيه حتى يلقنهم أحكام هذه الجواهر والأعراض وكيف تدل على حدوث العالم واثبات صانع.
ولهذا صرح العلماء بذم هذه الطرق وذم الكلام فيما هذا سبيله مما ليس فيه فائدة في الحياة الدنيا بله أن يكون فيه نفع ديني بوجه(4) [[ ذم العلماء للكلام مشهور حدا ، كقول الشافعي حكمي على أهل الكلام ، أن يضربوا بالحديد والنعال ويطاف بهم بين العشائر والقبائل ،ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام ) وقول أحمد ( لا يفلح صاحب كلام أبدا ) ، وقال مالك ( لاتجوز شهادة أهل البدع ، وقال ابن خويز منداد ( أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا ، هم أهل الكلام ، فكل متكلم فهو من أهل البدع ، وقال أبو يوسف ( من طلب العلم بالكلام تزندق ) ينظر الدرء 7/146ـ 159، ومجموع ابن تيمية 16/472، 473، وبيان تلبيس الجهمية 1/101، 123، وقال أبو حامد وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ماهي عليه ، وهيهات ، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة ، وبعد التغلل في إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام ، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود ) إحياء علوم الدين 1/97]]
والعلم بافتقار المحدث إلى محدث وبأن العالم محدث ،أبين في العقل من يتكلف له هذه التنطعات .(/7)
وإلا ما سمّي الله ما في الكون مما يدل على وجوده آيات ، والآية هي العلامة الواضحة التي تدل على الشيء بلا حاجة إلى توسط أمور أخرى كما قال تعالى {إن في خلق السموات والأرض لآيات لأولى الألباب } آل عمران (190) ، وقال {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} فصلت (53) ، وقد تنوعت آيات الذكر الحكيم وبهرت العقول في الاستدلال على الربوبية بما هو أوضح وأقرب إلى الفطرة من كلام المتكلمين .
مثل ذكر خلق السموات وبروجها والشمس والقمر والليل والنهار ، وما في الأرض من جبال وأنهار ، وجنات وأشجار ، والفلك التي تجري في البحار ، وخلق الإنسان في أطوار ، وتصريف الرياح وإنزال الأمطار ، فإذا أخذت هذه الآيات بمجامع قلب الشاك ، التفت إلى قلبه فوجد فيه العلم بأن لهذه الحوادث محدثاً علماً ضرورياً فطرياً ، (فهذه الطريق هي الصراط المستقيم الذي دعا الله الناس منه إلى معرفة وجوده ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى)(1) [[ ما بين القوسين عبارة ابن رشد في مناهج الأدلة 153، وينظر في هذا الدليل الشرعي لاثبات الصانع ، الذي أشار إليه ابن رشد هنا ، مناهج الأدلة لان رشد 150ـ 153، ومع أن هذا الرجل فيلسوف إلا أنه صرح أن طريقة القرآن في إثبات وجود الله ، تخالف طرق المتكلمين ، وأنها تنحصر في طريقين ، طريقة العناية ، وطريقة الاختراع ، ومثل للأولى وللثانية بالآيات ، وقال ابن تيمية بعد أن ذكر كلامه : قلت ذكره لهذين النوعين ،كلام صحيح حسن في الجملة ، وإن كان في ضمنه مواضع قصر فيها ) تلبيس الجهمية 1/176، وينظر كذلك هذا المصدر 1/176ـ 181 ]]
فإن الإنسان مركوز في فطرته أن الحوادث التي يشهدها لابد لها من محدث ، وان لهذا العالم مبدعاً أبدعه ، فإذا نبه على ما في الكون من آيات تدل على خالقه اشتاقت فطرته إليه . [[ كما يدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة ) رواه البخاري ينظر فتح الباري 3/246]]
ويدل على هذا أن الأمم التي بعث إليها الأنبياء كانوا مقرين بوجود الله وأنه خالقهم ، وإنما بعثت الرسل ليعبدوا الله وحده ،وأما فرعون فلم ينكر الرب بجهل ولكن جحوداً ، كما قال تعالى ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً ) النمل (14) .
وإذا علم أن معرفة الخالق لا تحتاج إلى هذه الطرق الملتوية التي التزم أصحابها من أجلها نفي الصفات ، علم أن هؤلاء المتكلمين أضاعوا أوقاتهم فيما أقر به غالب بني آدم بما فطروا عليه ، ومن طرأ عليه الشك فإن طريقة القرآن كافيه في إزالته ، ومن أنكر فلجحود وهوى ولا تنفع الحجة حينئذ.
ولما كانت هذه الطرق التي سلكوها مبتدعة ، أفضت إلى ما هو بدعة في الشرع وجناية على القرآن والسعة واتهامهما بإظهار خلاف الحق في هذا الباب العظيم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً السبب في مخالفة أهل التأويل للكتاب والسنة :(وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة ، وهي ألفاظ مجملة مثل (متحيز ) ، (ومحدود) ، (وجسم) ، (ومركب) ،ونحو ذلك ونفوا مدلولها، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة ومدلولاً عليها بنوع قياس ، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض ، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء فوجب طرد الدليل بالحدوث ولإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ، إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح فرأوا ذلك يعكر عليه من جهة النصوص فصاروا أحزابا ...)(1) [[ ينظر مجموع ابن تيمية 13/304]]
وأما القسم الثاني فيقال فيه:
ــــــــــــــــ
إن هذه الأدلة المتقدمة ترجع إلى استعمال القياس في المطالب الإلهية كما تقدم التنبيه عليه ،وأنه يلزم منه أن يكون الله وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها في قياس الشمول ، أو يكون هو سبحانه والمقيس عليه مستويان في قياس التمثيل .
وبطلان هذا أوضح من أن يتكلف الرد عليه ، وهو يدل على بطلان أدلتهم ، فإن الله تعالى لا يستدل عليه بالشاهد من جهة هذين القياسين ، ولكن يصح أن يستدل عليه بالشاهد من جهة قياس الأولى الذي ليس فيه المحذور من القياسين المتقدمين ، فإذا دخل في قضية كلية مع غيره لا يجعل مستوياً مع أفرادها في حكم لكن يجعل له المثل الأعلى ، ومثاله أن يقال : القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض مثلاً ، والله تعالى أحق بالغني عن كل محل من كل قائم بنفسه.
وإذا استدل عليه بالشاهد يقال مثلاً : كل كمال يستحقه موجود من جهة وجوده ، فالله تعالى أحق به إذ هو واجب الوجود ، وكل نقص يتنزه عن موجود لكمال وجوده فالموجود الواجب أحق بالتنزه عنه .(1) [[ ينظر في إبطال استعمال القياسين ، والتمثيل لقياس الأولى درء التعارض 7/322ـ 323]](/8)
وبهذا يمكن الاستدلال العقلي على بعض الصفات فإن السمع والبصر والعلم كمال في المخلوق فواهب الكمال أحق به ، وكذلك الرحمة والكلام فإن الذي يقدر على الكلام أكمل من الذي لا يقدر عليه ، والذي يرحم أكمل من الذي لا يرحم ، وكذلك الذي يغضب في موضع الغضب أكمل من الذي لا يغضب ، فالله تعالى أولى بهذه الكمالات من المخلوقات .
وقد استعمل في القرآن هذه الطريقة في التنبيه على الاقيسة العقلية التي تسمى في القرآن (ضرب الأمثال) كما قال تعالى { ويجعلون له البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } النحل (56) ، فبين أن الذي ينزهون أنفسهم عنه ، الله تعالى أولى بالتنزه عنه .
وكما استدل بالنشأة الأولى على الآخرة ،وبخلق السموات والأرض على خلق الناس ، إذ القادر على الإبداع قادر على الإعادة ، والقادر على خلق الأعظم قادر على خلق الأدنى من باب أولى(2) [[ ينظر في ذكر أمثلة هذا القياس من القرآن الدرء 7/363]]
وكقول الله تعالى : (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم ، فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ، كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ) الروم (28) .
يقول الله تعالى : إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك للمالك يشرك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم ، فكيف ترضون ذلك لي ، وأنا أحق بالكمال والغنى منكم ؟ وهذا يبين أن الله تعالى أحق بكل كمال من كل أحد.(1) [[ ينظر الرسالة الأكملية لابن تيمية 17]]
ولو إن أهل التأويل استعملوا هذا القياس فحسب لما أوقعهم في التأويل ، وذلك انهم لما قاسوا الله على خلقه ، جعلوا ما يلزم من إطلاق الصفات عليه هو بعينه اللازم من إطلاقها على مخلوقاته ، ولذلك يقولون النزول تفريغ مكان وشغل آخر، والاستواء يقتضي الحاجة إلى العرش والرحمة ضعف ورقة ، ومثل هذه العبارات التي تدل على أنهم يقيسون الله على خلقه تعالى عن ذلك .
وإذا كان بعض المخلوقات لا يصح قياسه على غيره في لوازم ما يطلق عليه من الصفات ، فالروح لها نزول ، وصعود ، وأفعال ، ولا يلزم من ذلك ما يلزم من أفعال البشر للاختلاف بينهما فكيف بالله تعالى .
أما الشق الثاني ، وهو الرد التفصيلي :
ــــــــــــــــــــــ
1ـ : الجواب عن أدلة المعتزلة :
ــــــــــــــــــ
الجواب عن الدليل الأول:
ــــــــــــــــ
وهو قولهم ، إثبات الصفات يلزم منه مشاركة الله في صفة القدم أو حلول الحوادث ، ويقال في الجواب: (أن الله لم يزل متصفاً بصفات الكمال ، صفات الذات وصفات الفعل) (2) [[ شرح الطحاوية 126]] (ولا يحدث له وصف متجدد لم يكن ، تعالى عن ذلك)(3) [[ شرح الطحاوية 129]] ، ولكن إثبات الصفات وان الله لم يزل متصفا بها لا يلزم منه أن يكون الإله أكثر من واحد.
فليس يجب إن تكون صفة الإله إلها ، ووصف الصفة بالقدم ليس المراد أنها توصف بها على سبيل الاستقلال ، فإن الصفة لا تقوم بنفسها ولا تستقل بذاتها ، ولكنها تكون قديمة بقدم موصوفها ، فإن الصفة تابعة للموصوف ، قديمة بقدمه وباقية ببقائه ونحن إذا ذكرنا الله بلفظ مظهر أو مضمر ، دخل في مسمى اسمه صفاته ، فمن قال دعوت الله أو عبدته لم يرد بذلك انه دعا ، أو عبد ذاتا مجرده عن الصفات ، فإن وجود مثل هذه الذات في الأعيان ممتنع ، وإنما المراد أنه دعا أو عبد الله الحي القيوم القدير السميع البصير الموصوف بالعلم والقدرة وسائر صفات الكمال(1). [[ ينظر ابن تيمية السلفي للشيخ خليل هراس ص 98، وما هنا عبارة عن اختصاره لكلام ابن تيمية في مناهج السنة 1/233، 237]]
وأما أفراد بعض صفات الله مما يحدث في وقت دون وقت ، فليس فيه تجدد صفة لله تعالى قال شارح الطحاوية (أن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع ، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن ، ألا ترى أن من تكلم اليوم ، وكان متكلماً بالأمس لا يقال أنه حدث له الكلم ، ولو كان غير متكلم لآفة كالصغر والخرس ثم تكلم يقال حدث له الكلام ، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة بمعنى أنه يتكلم إذا شاء وفي حال فعله يسمى متكلماً بالفعل)(2) [[ ص 128]]
وإطلاقهم على هذا حلول الحوادث لا يصيره ممنوعاً ما لم يمنع من ذلك الكتاب والسنة .
الجواب عن الدليل الثاني :
ـــــــــــــــــــ
وهو قولهم إثبات الصفات يلزم منه الأعراض الدال الجسمية ، وهو باطل إذ لا يلزم من إثبات الصفات إن تكون كصفات المخلوقين أعراضاً دالة على حدوثهم ، كما لا يلزم من إثباتكم أسماء الله فتقولون هو حي عليم قدير أن يكون حادثاً لأن ما يسمى بهذه من المخلوقات حادث ، وإثبات صفات الله فرع عن إثبات ذاته فكما إن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك صفاته ليست أعراضاً تدل على الحدوث كصفات المخلوقين(3) . [[ ينظر في هذا الجواب مجموع ابن تيمية 3/20]]
الجواب عن الدليل الثالث :
ـــــــــــــــ(/9)
وأما قولهم بالتركيب فهو من تأثرهم بالمنطق اليوناني الذي هو أصل هذا البلاء ، فإنهم يعنون بالتركيب في إثبات الصفات ، وأنها زائدة على ذاته وما يفهم من كل صفة يختلف عما يفهم من الأخرى ، يعنون به مثل تركيب الأنواع من الجنس والفصل ، كما يقال الإنسان حيوان ناطق ، فالحيوانية مشتركة بينه وبين سائر الأنواع ، والناطقية يمتاز بها عن غيره ، وجعلوا الإنسان مركب من هذين الأمرين ، ثم جعلوا هذا المعنى هو التركيب الذي يلزم من إثبات الصفات وقالوا هو ممتنع يلزم منه الافتقار ، واستعملوا كلمة التركيب يوهمون بها نفي النقص عن الله وهم إنما أرادوا هذا المعنى الخاص بهم .
فيقال لهم ( هذا التركيب أمر اعتباري ذهني ليس له وجود في الخارج كما أن ذات النوع من حيث هي عامة ليس لها ثبوت في الخارج ، فإن الإنسان الموجود في الخارج ليس فيه ذوات متميزة بعضها حيوانية وبعضها ناطقية وبعضها ضاحكية وبعضها حاسية ، بل العقل يدرك منه معنى ونظير ذلك المعنى ثابت لنوع آخر فيقول : فيه معنى مشترك ، ويدرك فيه معنى مختصاً ثم يجمع بين المعنيين فيقول هو مؤلف بينهما).(1) [[ ما بين القوسين كلام ابن تيمية مع بعض التصرف المجموع 6/346، وما تقدم كذلك من نفس المصدر ، وينظر كذلك في الجواب على دليل التركيب الدرء 5/142ـ 145]]
فهل يجوز أن يجعل هذا التخيل الذهني حقيقة واقعة ، ثم يقال إن إثبات الصفات ظاهرة التركيب؟ بل الذات الحية العالمة لا يتصور انفكاكها عن صفة الحياة والعلم .
فهذا ما شغبت له المعتزلة على ظاهر نصوص الوحي ، غاية ما فيه تخيلات أخذوها من ملاحدة الفلاسفة.
2ـ : الرد على أدلة القائلين بتأويل بعض الصفات:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب عن أدلة تأويل صفات الأفعال كالمجيء والاستواء
وهو ما يسمونه حلول الحوادث ، وهو فرع عن قياس أفعال الله تعالى وصفاته بأفعال المخلوقين وصفاتهم وإن ما يلزم إذا أطلقت عليهم هو ما يلزم الباري سبحانه إذا أطلقت عليه ، وفيما تقدم كفاية في الجواب عن هذه الشبهة ، وقال شارح الطحاوية (وحلول الحوادث بالرب تعالى ، المنفي في علم الكلام ، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب أو سنة ، وفيه إجمال : فإن أريد بالنفي انه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة ، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن فهذا نفي صحيح ، وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية ، من أنه لا يفعل ما يريد ولا يتكلم بما شاء ، إذا شاء ، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى ، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان ، كما يلي بجلاله وعظمته فهذا نفي باطل ).(1) [[ شرح الطحاوية 129]]
الجواب عن أدلة نفي العلو ، وتأويل النصوص الدالة عليه :
أما قولهم إن إثبات العلو يقتضي التجسيم ، ثم يلزم بعد ذلك ما يلزم الأجسام من التماثل عند من يقول به أو الافتقار إلى المخصص أو الانقسام والتركيب فالجواب عن هذه الشبهة : أن هذه الألفاظ المجملة ، يريدون بها تعظيم ما يزعمون أنه يعارض الوحي ، وإلاّ فإذا بين ما يريدون بها ظهر بطلانها لكل من لم تنحرف فطرته.
فإن التجسيم ، تفعيل من الجسم ، والجسم المعقول في اللغة ، وعرف الناس الجسد وهو البدن ، فإذا نفوه توهم السامع أنهم ينفون عن الله البدن الذي هو من جنس أبدان المخلوقات .
وإنما يريدون به المنقسم مما يشار ، والذي لا ينقسم هو الجوهر الفرد ، هذا عند عامتهم ، وقد يريد به بعضهم ماله عمق وأبعاد وتميز لجهاته ، ثم يقولون إذا أشير إليه لزم أن يكون منقسماً أو مركباً أو جوهراً فرداً وكله باطل ، فإذا أريد بنفي الجسم أي ليس من جنس أبدان المخلوقات فهو حق ، بل هو سبحانه ليس من جنس ما هو ليس بجسم بالمعنى اللغوي ، من مخلوقاته كالروح والهواء والملائكة فإنه سبحانه لا مثله ولا كفؤ له (2) . [[ ينظر في هذا الجواب المجموع 17/317]]
وإن أريد بنفي الجسم أي ليس مركباً من الأجزاء ، المفردة فيقال :
أولاً : تركب الأجسام من ذلك لا يعلمه جمهور العقلاء ، وليس عليه برهان صحيح
وثانياً : لا ريب أن الله تعالى ليس مركباً من أجزاء كتركب المخلوقات من أجزائها تعالى عن ذلك .
وإن أريد بنفي الجسم أي ليس منقسماً فيقال :
ما تعنون بالانقسام : إن عنيتم أن ذاته لا تقبل التفريق والتجزئة والانفصال فهو حق وإن عنيتم انه لا تتميز ذاته عن غيره بحيث يشار إليه وينظر إليه يوم القيامة فهو باطل.
ومثل هذا يقال في جميع ما اصطلحوا عليه وجعلوه قانونا يحكم على نصوص الكتاب والسنة ، بأن المراد منها خلاف الظاهر .
مثل لفظ الافتقار ، فإن عني به أن الله مفتقر إلى غيره مما هو خارج عن ذاته فباطل وليس في إثبات صفاته هذا المعنى ، ولا في إثبات علوه على خلقه .(/10)
ومثل لفظ الجهة ، وقولهم لو كان فوق العالم للزم أن تحويه الجهة وللزم أن تكون قديمة معه وللزم أن لا يكون عاليا عليها ، ونحو ذلك من الكلام المشتبه ، فإن الجهة إما يراد بها أمر وجودي فإن كان كذلك فهو مخلوق ومن يقول بالعلو على المخلوقات لا يقال له : يلزمك أن يكون ليس عاليا على بعضها فإن هذا لا معنى له
وإن كانت أمراً عدمياً - وهو الصحيح - بمنزلة الأشياء الإضافية ، فلا يلزم من الأمر العدمي كل هذه اللوازم إذ هو لا شيء ، ومثل هذا يقال في الحيز والمكان.
وبمثل هذا التفصيل يجاب عن سائر ما يشغبون به على نصوص الوحي من الألفاظ المجملة المشتبه ، ويبين أنها مباحث عقلية محضة متنازع فيها وأكثرها باطل ، والصحيح منها لا يخالف الكتاب والسنة(1) . [[ ينظر في الجواب على أدلة نفي العلو ، مجموع الفتاوى ( 17/ 313ـ 325) ، والدرء ( 4/156ـ 162) و ( 4/220 فما بعدها ، وينظر في مسألة الجهة ، كتاب أقاويل الثقات لمرعي الكرمي ص 92ـ 95]]
الجواب عن أدلة نفي صفات الذات :
أما قولهم يلزم التجسيم لأنها في الشاهد لا تكون إلاّ للأجسام ، فالجواب عنه ، أن صفات المعاني كذلك لا تكون في الشاهد إلاّ للأجسام ، هذا على سبيل المعارضة وقد تقدم ما يريدون بلفظ الجسم والرد عليهم .
وأما قولهم تدل على التركيب ، كما فعل المعتزلة في سائر الصفات ، فإن عنوا بذلك ما عناه المعتزلة فقد تقدم الجواب عنه ، وإن عنوا أنه قد ركبه مركب ، أو كان متفرقاً فاجتمع ، أو ما يمكن تفريقه ، فهذا لا يقوله مؤمن بالله تعالى ، وإن عنوا تركيب الجواهر المفردة ، فقد تقدم الجواب عنه ، وإن عنوا أن هذه الصفات متمايزه والمفهوم من بعضها ليس هو المفهوم من الآخر فليس في هذا محذور ، ولا هو ممتنع على الله تعالى عما يقولون(1) . [[ ينظر في هذا الجواب مجموع ابن تيمية 6/109، وهذه الألفاظ كالجسم ، والجوهر ، والتركيب ، والانقسام ، لاتثبت ، ولا تنفى إلا بعد الاستفسار عن معانيها ، فما كان حقا اثبت ولم يستعمل إلا اللفظ الذي لا يحتمل غيره ، وما كان باطلا نفي ولا تطلق هذه الألفاظ المشتبهة على الله تعالى لما فيها من الإجمال الذي يشتمل على الحق والباطل ، أفاده ابن تيمية المجموع 17/304]]
الجواب عما ذكروه في نفي المحبة ، وسائر ما ذكر:
أما المحبة فيقال : ما المراد بقولكم مناسبة بين الخالق والمخلوق أهو التوالد أو القرابة أو المماثلة فكله باطل ، أم المراد هو الموافقة في معنى من المعاني ، فهذا حق ، فإن الله وتر يحب الوتر ، جميل يحب الجمال، عليم يحب العلم ، محسن يحب المحسنين ، مقسط يحب المقسطين وليس في هذا إلاّ إثبات صفات الكمال لله ، ليس فيه نقص بوجه من الوجوه .
وأما قولهم يقتضي الحاجة فيلزمهم مثله في الإرادة ، فإنها لا تكون إلاّ لمناسبة بين المريد والمراد ، وملائمة بينهما في ذلك تقتضي الحاجة ، وإلاّ فما لا يحتاج إليه الحي لا ينتفع به ولا يريده فهل يقال فيها ظاهرها غير مراد ، أم يقال إرادة الله تعالى لائقة به لا يلزمها ما يلزم من إرادة المخلوقات من النقص ، فكذلك المحبة.(2) [[ ينظر مجموع ابن تيمية 6/117]]
وأما ما جعل ظاهره النقص والتغير كالرحمة والغضب والرضا والحياء ، فيجاب عنه بعدم تسليم أن الرحمة خور في الطبيعة لأنه مذموم والرحمة محمودة ، وكذلك الحياء محمود ، وليس هو انكسار كما قيل ، والغضب ليس هو غليان الدم لطلب الانتقام ، وقد يقارنه ذلك ، وقد لا يكون للانتقام ، ويقال أيضاً إن كل ما يلزم من رحمة المخلوق وغضبه ورضاه وحياءه فليس بلازم لله تعالى إذ هو ليس كمثله شيء في صفاته ، كما أنه لا يلزم من إثبات السمع لله ، ما يلزم من صفة السمع للمخلوق من الاعتماد على الهواء في نقل الصوت وغير ذلك .
قال ابن عابدين في حاشيته، : (وهل وصفه سبحانه بالرحمة حقيقة أو مجاز عن الإنعام ، أو إرادته لأنها من الأعراض النفسانية المستحيلة على الله ، فيراد غايتها ؟ ، المشهور الثاني والتحقيق الأول ، لأن الرحمة التي هي من الأعراض هي القائمة بنا ، ولا يلزم كونها في حقه تعالى كذلك حتى تكون مجازاً كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات معانيها القائمة بنا من الأعراض ، ولم يقل أحد : أنها في حقه تعالى مجاز).(1) . [[ يعني لم يقل أحد من أهل السنة ، ينظر حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1/7]]
قال العلامة الألوسي المفسر (كون الرحمة في اللغة رقة القلب إنما هو فينا ، وهذا لا يستلزم ارتكاب التجوز عند إثباتها لله تعالى ، لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته كسائر صفاته ، ومعاذ الله تعالى أن تقاس بصفات المخلوقين ، وأين التراب من رب الأرباب ، ولو أوجب كون الرحمة فينا رقة القلب ارتكاب المجاز في الرحمة الثابتة لله لاستحالة اتصافه بما نتصف به .(/11)
فليوجب كون الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر ، ما نعلمه منها فينا ، ارتكاب المجاز أيضاً فيها إذا أثبتت لله تعالى ، وما سمعنا أحداً قال بذلك ، وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك ، وكلها بمعانيها القائمة فينا يستحيل وصف الله تعالى بها ، فأما أن يقال بارتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبته إليه عز شأنه ، أو بتركه كذلك ، واثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه ، والجهل بحقيقة تلك الحقيقة كالجهل بحقيقة ذاته )(2) . [[ تفسير الآلوسي 1/60]]
وما قاله هذان الإمامان في صفة الرحمة ، يقال مثله في سائر الصفات التي فينا أعراض نفسانية كالغضب والرضى والحياء ، يوصف الله بها كما يوصف بسائر صفاته وتجهل حقائقها كما تجهل حقيقة ذاته جل عز .
وبهذا الجواب يتبين قيمة الأدلة العقلية التي زعم أنها تصرف نصوص الصفات عن ظاهرها ، وتلقى بها في حظيرة المتشابه بالمعنى الذي أراده أهل التأويل.
وهذه الأجوبة تعضد ما ذكر في البراهين المحكمة الدالة على صحة مذهب السلف ، من أنه يستحيل أن يظهر الله سبحانه وتعالى غير الحق في الكتاب المهيمن على سائر كتبه ، ثم يحيل الناس في معرفة الحق على أدلة عقلية في غاية الخفاء ، ولا يفهمها إلاّ من هو حاد الذهن ، ذكي العقل ، بله أن يعرف نسبتها إلى الحق أو الباطل .
مثال هذا لازم قولهم إن هذه الظواهر الكثيرة في إثبات العلو لا يراد ظاهرها ، أن يكون الله سبحانه وتعالى عما يقولون ، قد أظهر خلاف الحق الذي أراد من المؤمنين أن يعتقدوه ، ثم أحالها في معرفة ما يعتقدونه على معرفة أن العلو يلزم منه الجسمية وذلك بطريقة الجواهر والأعراض .
وأن المشار إليه لا يكون إلاّ جسماً والجسم إما منقسم ، وإما جوهر فرد ، وكلاهما مستحيل على الله تعالى ، أما الأول فلأنه يلزم منه الافتقار ، لأن المركب مفتقر إلى أجزائه أو يلزم منه الافتقار إلى مخصص خصصه بهذا القدر دون غيره ، إلى آخر ما يماثل هذا الكلام .
مثل ما ذكره إمام المتأخرين من أهل التأويل ، أبو المعالي ، قال : (كل مختص بجهة شاغل لها متحيز ، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلو عنهما وما لا يخلو عن الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر)،(1) [[ لمع الأدلة للجويني 95]] واقتصر على هذه الحجة في كتابه الذي سماه لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة ، ثم قال بعد هذا الدليل ( فإذا سألنا عن قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى ) قلنا المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو ، ومنه قوله استوى فلان على المملكة أي استولى عليها واطردت له )(2) . [[ المصدر السابق ]]
وهذا كالتصريح بأن القعدة التي صرفت هذا الظاهر هي هذا الكلام الشبيه بالألغاز ، فهل يلزم من هذا إلاّ أن الله أظهر في آياته الباطل ، وأحال الناس في أعظم مسائل الدين على ما هو شبيه بالألغاز .
@@@@@@@@@@@@@@
@@@@@@@@@@@@@@
خلاصة مهمة جدا :
ـــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــ
وبما تقدم نستخلص النتائج التالية :
الأولى :
ـــــ
أن القول الصحيح في باب الصفات ، هو مذهب السلف ، وهو إثبات جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة ، بعد النظر الصحيح في النص ، ومعرفة معناه حسب اللغة والسياق وسائر ما يستعان به على تفسير النصوص الشرعية ، فإذا تبين دلالته على صفة لله تعالى أثبتت ولم تصرف عن ذلك لتوهم تشبيه أو تجسيم أو دعوى مخالفة العقل .
الثانية :
ـــــ
أن جميع الصفات تثبت على هذه الطريقة ، ولا يفرق بين ما ذكر في القرآن والحديث ، وما دل عليه العقل وما لا يدل عليه .
الثالثة :
ــــــ
أن دعوى مخالفة نصوص الصفات ، لأدلة عقلية لا يتطرق إليها الشك ساقطة ، فإن هذه الأدلة المتقدمة هي أعظم ما عول عليه المؤولة ، فإذا كانت بهذه المثابة فكيف بغيرها.
الرابعة :
ــــــ
أن بعض نصوص الصفات يصحّ أن تكون من المتشابه بالمعنى الذي رجح في هذا البحث ، وذلك من جهتين :
الأولى : الاشتباه الحاصل للقاصر في العلم لغموض أو تعدد في معان اللفظ ، الذي يكون له أكثر من معنى ، أو تعارض متوهم بين معان نصوص القرآن كما ظنه بعض الناس بين نصوص العلو والمعية ، وهذا التشابه نسبي إضافي يزول بعد رده إلى المحكم ، ويرجع إلى الوضوح ، وهذا عام في هذا الباب وغيره.(/12)
الثانية : تشابه خاص يكون في مثل هذا الباب ، وهو أن من صفات الله ما يلق أيضاً على المخلوقات فيشتبه أيضاً على غير الراسخين في العلم ، ويظنون في هذه النصوص الظنون الباطلة ، وهذا التشابه المنسوب إلى هذه الآيات ، يزول بعد رده إلى المحكم أيضاً ، وإن كان قد يبقى على من لم يرسخ في العلم ، ويحاول طلب حقيقته فيؤدي إلى الفتنة ، إذ هو طالب لما لا سبيل إلى الدنو منه ، بله الوقوف على حقيقته ، وفتنته إما إنكار الصفات ، صفات الله ، أو تشبيهها بصفات خلقه تعالى الله عن ذلك ، وأما الراسخون فعلموا أن هذه من المتشابه الذي لا يعلم حقيقته إلاّ الله فلا يزالون يسألون الله العصمة من الوقوع في الفتنة قائلين (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب).
والذي يدل على صحة إطلاق المتشابه على بعض الصفات ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك فقال : ما فرق هؤلاء يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه.(1) . [[ ينظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 483، والإسناد المنقول ظاهر الصحة ، قال المصنف ( وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس ، فذكره ]]
وكذلك فعل الأئمة فالإمام أحمد سمى ما نمسك به الجهمية متشابها ، قال (وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بشراً كثيراً ).(2) [[ ينظر رسالة الرد على الجهمية ، للإمام احمد ص 65، ضمن مجموعة عقائد السلف ، وذكر ابن تيمية أن كلام احمد يحتمل إرادته التشابه اللازم لبعض الآيات ، وذكر ما يدل على جواز هذا الإطلاق ينظر المجموع 17/383]]
والفتنة التي وقعت في هذا الباب هي أعظم فتنة وقعت بين المسلمين ، فأحرى ما ينطبق عليه قوله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) ، هو هذا الباب .
لكن لا يخفي أن أكثر نصوص الصفات ، لا يتطرق إليها التشابه بوجه ، وهي محكمة غاية الإحكام كاتصاف الله تعالى بالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والرحمة والرضوان ومحبته للطيب ومقته للخبيث ، وأنه فوق كل شيء ولا يخفي عليه شيء ، ولا يعجزه شيء ، وليس كمثله شيء وأنه خالق كل شيء سبحانه وتعالى ، ونحو ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العلى .
@@@@@@@@@@@@@@
@@@@@@@@@@@@@@
خامسا
ـــــــــ
تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم
ـــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــ
وتتمة لهذا البحث ، نتناول ثلاثة أمثلة ، لصفات وصف الله تعالى بها نفسه في الكتاب ، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة ، ثم شن الغارة عليها أهل الكلام والتأويل الباطل ، وصرفوها عن ظاهرها ، اتباعا لأدلة زعموها عقلة قطعية ، وقد تقدم أنها
شبه تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
وهذه الأمثلة هي : في صفة الاستواء ، و الكلام ، والرؤية
@@@@@@@@@@@
المثال الأول : آيات الاستواء:
ــــــــــــــــ
ــــــــــــــــ
فإن الله تعالى قد تمدح ومدح نفسه في سبع آيات من كتابه باستوائه على العرش ، ولم يذكر صفة الاستواء إلاّ مقرونة بغيرها من صفات الكمال والجلال القاضية بعظمته وجلاله(1) ، جل وعلا:
قال تعالى { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ، يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } الأعراف (54).
وقال تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه ، ذلك الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون } يونس (3).وقال تعالى { الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون } الرعد (2) .
وقال تعالى { تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى ، الرحمن على العرش استوى ، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى } طه (4) ، (5) ، (6) .
وقال تعالى : { الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ، الرحمن فسئل به خبيرا } الفرقان (59).
وقال تعالى { الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) السجدة (4).
وقال ( هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون خبير ) الحديد (4).(/13)
وقد فسر السلف الاستواء بالعلو على العرش ، كما تقدم عن مجاهد (1) [[ تقدم تخريجه في الجزء الأول من هذا الكتاب ]] ، وهو معناه في اللغة كما روى اللالكائي عن أبي العباس ثعلب أنه قال (استوى على العرش : علا)(2) [[ شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/399]] ، وروى أيضاً عن داود بن علي الإصبهاني الظاهري قال : كنا عند ابن الأعرابي - اللغوي المشهور - فأتاه رجل فقال له : ما معنى قول الله عز وجل (الرحمن على العرش استوى) فقال هو على العرش كما أخبر ، فقال يا أبا عبد الله : ليس هذا معناه ، إنما معناه استولى ، قال أسكت ما أنت ولهذا ، لا يقال : استولى على الشيء إلاّ أن يكون له مضاد)(3) .[[ المصدر السابق 3/399، وعزاه الحافظ في الفتح إلى كتاب الفاروق للهروي 13/406، وينظر أيضا الذهبي مختصر العلو 195، واللسان 14/414]]
وقال الحافظ في الفتح (ونقل محي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع ، وقال أبو عبيد والفراء بنحوه)(4) [[ فتح الباري 13/406]]
فهذه نصوص محكمة لا شك في دلالتها على أن الله تعالى مستو على عرشه استواء يليق به ، وقد أجمع على هذا السلف وقال بقولهم كثير من العلماء في مختلف العصور إلاّ من ظن أن ذلك يعارض دليل إثبات الصانع ، من أهل الكلام وقد تقدم الكلام عليه.
ومع هذا كله فقد ادعي بعض من لا يثبت هذه الصفة أن اللفظ من الألفاظ المتشابهه التي تحتمل عدة معاني يريد بذلك إبطال دلالته على ما أجمع عليه السلف، قال ابن القيم (ومن هذا قول الجهمي الملبس : إذا قال لك المشبه ( الرحمن على العرش استوى ) فقل له : العرش له عندنا له ستة معان ، والاستواء له خمسة معان فأي ذلك المراد؟ فإن المشبه يتحير ولا يدري ما يقول ويكفيك مؤونته .
فيقال لهذا الجاهل الظالم الفاتن المفتون : ويلك ما ذنب الموحد الذي سميته أنت واصحابك مشبها ، وقد قال لك نفس ما قال الله ، فوالله لو كان مشبها كما تزعم لكان أولى بالله ورسوله منك ، لأنه لم يتعد النص .
وأما قولك للعرش سبعة معان أو نحوها ، وللاستواء خمسة معان فتلبيس منك ، وتمويه على الجهال وكذب ظاهر ، فإنه ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلاّ معنى واحد ، وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معان فاللام للعهد ، وقد صار بها العرش معيناً وهو عرش الرب ، جل جلاله الذي هو سرير ملكه الذي اتفقت عليه الرسل وأقرت به الأمم إلاّ من نابذ الرسل.
وقولك: الاستواء له عدة معان ، تلبيس آخر ، فإن الاستواء المعدي بأداة (على) ليس له إلاّ معنى واحد ، وأما الاستواء المطلق فله عدة معان ، فإن العرب تقول (استوى كذا) إذا انتهى وكمل ، ومنه قوله تعالى (ولما بلغ أشده واستوى) ، وتقول : (استوى وكذا) إذا ساواه ، نحو قولهم استوى الماء والخشبة واستوى الليل والنهار ، وتقول (استوى إلى كذا) ، إذا قصد إليه علوا وارتفاعا ، نحو استوى إلى السطح والجبل ، و(استوى على كذا ) أي إذا ارتفع عليه وعلا عليه ، لا تعرف العرب غير هذا فالاستواء في هذا التركيب نص لا يحتمل غير معناه ، كما هو نص في قوله (ولما بلغ أشده واستوى) لا يحتمل غير معناه ، ونص في قولهم استوى الليل والنهار في معناه لا يحتمل غيره)(1) . [[ ينظر الصواعق المرسلة 1/195ـ 196]]
ولا ريب أن الاستواء في الآيات السابقة يدل على معنى العلو ، لا غيره فهو محكم ، وقد دخل الاشتباه على من دخل عليه من أهل التأويل ، لا من تعدد ما يراد باللفظ لكن من وجه آخر وهو كون الاستواء يطلق على الخالق والمخلوق فيشتبه على غير الراسخين في العلم من هذه الجهة ، وإن كان قد حاول كثير ممن اشتبهت عليهم هذه الآيات أن يدعوا أن معنى الاستواء فيها ليس هو العلو، والذي حملهم على ذلك ظنهم أن جعله بهذا المعنى يقتضي التجسيم .
وبهذا يعلم أن ما ذكره السيوطي في الإتقان من التأولات في معنى الاستواء كله خلاف الحق(1) [[ الإتقان 2/8ـ 9 ]] والحق أن الاستواء هو العلو ، والله أعلم.
=============
@@@@@@@@@@@@@@@@
المثال الثاني : آيات الكلام :
ــــــــــــــ
ــــــــــــــ
وهذه المسألة ، مسألة الكلام لها طرفان ، أحدهما صفة الكلام لله تعالى ، والثاني تكلم العبد بكلام الله .
وقد اتفق المنتسبون إلى القبلة على نسبة الكلام إلى الله تعالى، ولكنهم اختلفوا في وجه ذلك وأهم الأقوال هي :
القول الأول : وهو قول سلف الأمة وأئمة السنة والحديث وهو أن الكلام صفة من صفات الله تعالى يتكلم بما شاء ومتى شاء وكيف شاء ، والقرآن كلامه تكلم به على الحقيقة ، قال شارح الطحاوية ( تاسعها : انه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء ، وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام قديم ، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً ، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة)(1). [[ ص180]](/14)
واتفق أصحاب هذا لقول على أن القرآن تكلم به رب العزة على الحقيقة ، فسمعه جبريل وبلغه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما سمعه ، وعلى الإنكار على من يقول إن القرآن مخلوق ، وجاء عن كثير منهم تكفير قائل هذه المقالة.
روى اللالكائي عن عمرو بن دينار أنه قال (سمعت مشيختنا من سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق)(2) [[ شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/235]]، ثم ذكر اللالكائي من مشيخته من الصحابة والتابعين خلقا.(3) .[[ المصدر السابق 2/235ـ 236]]
ثم روي عن خمسمائة رجلا من التابعين واتباعهم ومن بعدهم كلهم يقول القرآن كلام الله غير مخلوق.(4) [[ المصدر السابق 2/234ـ 312]]
ثم قال (فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخيرين ، على إختلاف الأعشار ومضي السنين والأعوام)(5) . [[ المصدر السابق 2/312]]
ثم روى عن مالك وابن أبي ليلى وابن عيينه وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن المبارك ، وابن الماجشون وغيرهم تكفير من يقول القرآن مخلوق(6) . [[ المصدر السابق 2/313ـ 330]]
وقيام الإمام أحمد رحمه الله في محنة خلق القرآن المقام الذي صيره إماما لأهل السنة معلوم مشهور (( ومواجهته للخلفاء والقضاة وأهل البدع بكلمة الحق وصبره الذي يضرب به المثل في غالب كتب التراجم والتاريخ مسطور ، وما كان إنكاره وإنكار علماء السنة في وقته إلاّ على قولين ، قول من يقول إن الله لا يوصف بالكلام ، وقول من يقول إن القرآن المنزل مخلوق .
والأدلة على صحة هذا القول وموافقته للوحي المنزل كثيرة جداً ، فإنهم قالوا بمقتضى ما دلت عليه أي الكتاب وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، التي تنص على أن الله يتكلم وينادي ويناجي ويقول ، وأنه يتكلم بكلام في وقت ويتكلم بغير عين هذا الكلام في وقت آخر ، كما نادي موسى لما بلغ الوادي المقدس وينادي ويتكلم يوم القيامة بكلام ، لم يتكلم بعينه قبل يوم القيامة وهو كثير جداً لا يستطاع حصره إلاّ بكلفة شديدة ولكن يذكر بعض ذلك ، فمن ذلك :
قال ابن تيمية (هذا وقد أخبر سبحانه عن نفسه بالنداء في أكثر من عشرة مواضع ، فقال تعالى (ويوم يناديهم أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) ، (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة واقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ) وقال (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) ، وذكر سبحانه ندائه لموسى في سورة (طه) و (مريم) و(الطس) الثلاث ، وفي سورة النازعات ، وأخبر أنه ناداه في وقت بعينه فقال تعالى (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ) وقال تعالى (هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ) وقال ( وما كنت بجانب الغربي إذ نادينا) ، واستفاضت الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة أنه سبحانه ينادي بصوت : نادى موسى ، وينادي عباده يوم القيامة بصوت ويتكلم بالوحي بصوت ، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال : أن الله يتكلم بلا صوت وبلا حرف ، ولا أنه انكر أن يتكلم بصوت أو حرف)(1) . [[ مجموع ابن تيمية 12/304]]
القول الثاني:
قول المعتزلة، القائلين إن كلام الله خلق من خلق الله وهو حرف وأصوات يخلقها الله تعالى بائناً عنه، ولا يوصف بصفة الكلام كما لا يوصف بشيء من الصفات أصلاً، ولهذا ذكر القاضى عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة، مسألة القرآن في قسم أفعال الله (2) .[[ ينظر شرح الأصول الخمسة ص 528]] وهم بهذا القول ينسبون إلى الله تعالى ما يقوم بغيره من الصفات وهو مما يعلم بطلانه قطعاً ، وليس المقصود هنا الكلام على هذا القول ، لكن ذكر ما تبين الفرق بينه وببين القول الثالث .
القول الثالث:
هو قول الأشعرية وقولهم في الكلام والقرآن يحتاج إلى تفصيل ، وذلك أنهم قالوا كلام الله صفة قائمة به لازمة لذات الله ، أزلا وأبداً كلزوم صفة الحياة والعلم ، وهو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ليس بحرف ولا صوت وانقسامه إلى الأمر والنهي والخبر والنداء والاستفهام بحسب التعلق ، أي صفة واحدة متعلقة بمتعدد ، كتعلق العلم الواحد بجميع المعلومات عندهم ، ويسمون هذا ( الكلام النفساني ) ، أما القرآن المؤلف من السور والآيات فمخلوق عندهم خلق إما في اللوح المحفوظ أو في جبريل أو في النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، قال الأيجي في المواقف (قالت المعتزلة - أصوات وحروف يخلقها الله في غيره - يعني كلام الله - كاللوح المحفوظ أو جبريل ، أو النبيّ ، وهو حادث ، وهذا لا ننكره لكن نثبت أمراً وراء ذلك هو المعنى القائم بالنفس ونزعم أنه غير العبارات.(1) [[ ص 294]](/15)
فالقرآن عبارات مخلوقة دالة على الكلام النفسي عندهم ، ويسمى القرآن كلام الله مجازاً عند بعضهم، وعند البعض الآخر يطلق ( كلام الله ) بالاشتراك اللفظي على المعنى القائم بالذات وعلى المخلوق المؤلف من السور والآيات الدالة على المعنى القائم بذات الله الذي هو صفة من صفاته وهو المسمي بالكلام النفسي.
قال السعد في شرح العقائد ( فإن قيل لو كان كلام الله تعالى حقيقة في المعنى القديم مجازاً في النظم المؤلف لصح نفيه عنه بأن يقال ليس النظم المنزل المعجز المفصل إلى السور والآيات كلام الله تعالى والإجماع على خلافه وأيضا المعجز المتحدى به، هو كلام الله حقيقة مع القطع بأن ذلك إنما يتصور في النظم المؤلف المفصل إلى السور والآيات، إذ لا معنى لمعارضة الصفة القديمة .
قلنا : التحقيق أن كلام الله تعالى اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم، ومعنى الإضافة كونه صفة لله تعالى وبين اللفظي الحادث المؤلف من السور والآيات، ومعنى الإضافة أنه مخلوق لله تعالى ليس من تأليفات المخلوقين ) [[ ينظر شرح العقائد ص 94 ـ 95، وينظر في هذا المذهب ، أصول الدين للبغدادي ص 106، إرشاد الجويني ص 117 ـ 119 ، المستصفى للغزالي ص 120 ، قواعد العقائد له ص 182ـ 183 ]]
فالقرآن كما هو واضح من كلام السعد هذا - عند أصحاب هذا القول - مخلوق، دال على المعنى الواحد القائم بذات الله اللازم له لزوم الحياة والعلم والصفات الغير متعلقة بمشيئته وقدرته، وكذلك التوراة، والعبرانية والإنجيل السرياني، عبارات دالة على ذلك المعنى الواحد، فكلام الله معنى ، إن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وكل هذه العبارات مخلوقة. (1)
[[ ينظر في هذا التبصير في الدين ص 150 ، مجموع ابن تيمية 12/165]]
وهذا المصنف المنقول كلامه في أول المثال، يبدوا أنه ممن يوافق أصحاب هذا المذهب، في أصل مذهبهم وإن خالفهم في تأويل النصوص الناقضة لهذا المذهب كما سيأتي.
والذي دعاهم إلى اختراع هذا القول الغريب (2) [[ ذكر أبو نصر السجزي في كتاب الرد على من أنكر الحرف والصوت ، أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان في أن الكلام لايكون إلا حرفا وصوتا حتى خالف في ذلك ابن كلاب ومن تبعه ص 89 ، وكذلك ذكر ابن تيمية أنه لم يقل بهذا القول في الكلام إلا هذه الطائفة المجموع 6/528]]
، الذي دعاهم إلى هذا الاختراع ، هو إنكارهم قيام الأفعال والأمور الاختيارية بالرب تعالى ، ويسمون هذه المسألة (حلول الحوادث )(3) [[ ينظر قواعد العقائد للغزالي ص 185]] ، مع إرادتهم موافقة السلف الذين يثبتون صفة الكلام لله تعالى ويعظمون الإنكار على من قال كلام الله مخلوق بل ويكفرونه مع أن أئمة الدين المتقدمين في عصور السلف لم يفرقوا في إنكارهم بين من ادعى أن الكلام مخلوق أو ادعى أن القرآن مخلوق .
ومسألة قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى كالاستواء والنزول والغضب والرضى والكلام التي يسميها هؤلاء حلول الحوادث ، ويجعلون نصوصها من المتشابه المراد به خلاف الظاهر قد مضى الكلام عليها ، وابطال قولهم فيها جملة وتفصيلاً ، والمقصود هنا الكلام على هذا المثال خاصة بما يبين أثر معرفة المحكم والمتشابه في تفسير آيات هذا النوع ، والتي تقدم بعضها .
وينبغي تقديم ما يدل على بطلان هذا القول في كلام الله ثم الرد على تأويلاتهم بما ، وبه يتبين أن هذه الآيات محكمة لا اشتباه فيها عند الراسخين في العلم ، وإنما اشتبهت على من تعلق بشبه من الكلام ، قدمها على نصوص الوحي .
ويدل على بطلان قولهم في كلام الله أدلة أهمها :
الدليل الأول :
ــــــــــــ
أن قوله تعالى ( وكلم الله موسى تكليما ) وقوله ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } النساء (164) ، الأعراف (143) ، وقوله (فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ، وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ) طه (11) ، دليل على أنه تكليم سمعه موسى ، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة ، ومن قال إنه يسمع فهو مكابرة ، ودليل على أنه نادى والنداء لا يكون إلاّ صوتاً مسموعاً ولا يعقل لفظ النداء بغير صوت مسموع.(1) [[ ينظر مجموع الفتاوى 12/130]]
الدليل الثاني :
ــــــــ
أن الله تعالى قال ( ولقد نعلم إنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) النحل (103) ، وهؤلاء المشركون إنما كانوا يقولون إنما يعلم محمداً هذا القرآن العربي بشر ، لم يكونوا يقولون إنما يعلمه بشر معانيه فقط ، بدليل قوله (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) فإنه تعالى أبطل قول الكفار بأن لسان الذي ألحدوا إليه لسان أعجمي ، وهذا القرآن ألفاظ عربية ، فدل هذا على أن القرآن لفظه ومعناه من الله لا من غيره(2) . [[ المصدر السابق 12/123]]
الدليل الثالث :
ــــــــــ(/16)
أن قوله تعالى (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) ، القصص (62) ، وقوله ( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ) القصص ( 65) ، دليل على وقوع النداء بظرف محدود وهو ذلك اليوم ، يوم القيامة ، وكذلك قوله تعالى ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) البقرة (34) وقوله { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين ، فإن أصحاب هذا القول يقولون إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل الكلام المعين لازم لذاته لزوم الحياة لذاته . [[ مجموع ابن تيمية 12/130ـ 131]]
الدليل الرابع :
ــــــــــــ
أن القول بأن الكلام معنى واحد يلزم منه التناقض فإن موسى مثلاً إن كان سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله وإن سمع بعضه ، فقد تبعض ، وكلاهما ينقض قولهم فإنهم يقولون إنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض .(2) [[ينظر شرح الطحاوية 197]]
الدليل الخامس :
ـــــــ
إن قولهم معنى واحد هو أمر بكل مأمور وخبر عن كل مخبر به وسائر ما ذكروه غير متصور ، ولهذا كان أبو محمد ابن كلاب رأس هذه الطائفة ومخترع هذه المقالة ، لا يذكر في بيانها شيئاً يعقل بل يقول هو معنى يناقض السكوت والخرس (3) . [[ ينظر المجموع لان تيمية 6/295ـ 296، 12/194]]
الدليل السادس :
ــــــــ
أنه معلوم بالاضطرار أنا إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن معنى ذلك هو معنى القرآن ، بل معاني هذا ليست معان هذا ، وكذلك معنى (قل هو الله أحد ) ليس هو معنى (تبت يدا أبي لهب ) ، ولا معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين وإذا جوز ان تكون الحقائق المتنوعة شيئاً واحداً ، فليجوز أن يكون العلم والكلام والسمع والبصر صفة واحدة.(4) [[ المصدر السابق 12/122، وشرح الطحاوية 191]]
فهذا أهم ما يدل على بطلان قولهم ، وهم قد جعلوا الكلام اسماً للمعنى فقط ، واطلاقه على اللفظ من قبيل مجاز ، لأنه دال عليه ، وقالوا بناء على هذا أن القرآن ليس كلام الله حقيقة لأن الكلام هو المعنى أما الألفاظ فتسمى كلاماً من باب المجاز .
والصحيح المعلوم من اللغة أن الكلام يتناول اللفظ والمعنى جميعاً كما يتناول اسم الإنسان الروح والبدن جميعاً ، ومما يدل قطعا على هذا الحديث المتفق عليه (أن الله تجاوز لأمتي عما حدثت له أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل )(5) [[ رواه البخاري الفتح 9/388]] ، والحديث الذي رواه النسائي وأبو داود وعلقه البخاري بصيغة الجزم (إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنما أحدث إلاّ تكلموا في الصلاة )(6) .[[ رواه النسائي في سننه 3/19، وأبو داود 1/567]]
وقد اتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته ، واتفقوا على أن ما يقوم بالقلب أثناء الصلاة من معاني تتعلق بغير الصلاة من أمور الدنيا أنها لا تبطل الصلاة وإنما يبطل الصلاة التكلم بذلك ، فعلم باتفاق المسلمين أن هذا ليس بكلام .(1) [[ شرح الطحاوية 191]]
وقد استدلوا على قولهم ببيت من الشعر ، قال شارح الطحاوية (وأما من قال إنه معنى واحد واستدل عليه بقول الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وانما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
فاستدلال فاسد ، ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا : هذا خبر واحد ، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه ، وتلقيه بالقبول والعمل به ، فكيف وهذا البيت قد قيل انه موضوع ، منسوب إلى الأخطل ، وليس في ديوانيه ؟ وقيل إنما قال (إن البيان ففي الفؤاد ) ، وهذا أقرب إلى الصحة(2) .[[ قال الإمام أبو نصر السجزي رحمه الله في الرد على من أنكر الحرف والصوت ، ( وتعلقوا بشبه منها قول الأخطر أن البيان لفي الفؤاد ... فذكر البيت ، ثم قال : فغيروه وقالوا : إن الكلام لفي الفؤاد ) 92]]
وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به ، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله واتحد اللاهوت والناسوت ، أي شيء من الإله بشيء من الناس . أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب ؟ وأيضاً فمعناه غير صحيح إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه ، وإن لم ينطق به ولم يسمع منه)(3) . [[ شرح الطحاوية ص 198، وينظر مجموع الفتاوى 6/296ـ 297]]
ويدل على أن اسم الكلام يتناول اللفظ والمعنى أنه إذا أريد استعماله في حديث النفس خاصة فإنه يقيد بما يدل عليه ، فيقال : قلت في نفسي ، وحدث نفسه ، ونحوه فإن أطلق دل على اللفظ والمعنى معاً ، فهذا ما يدل على بطلان هذا القول .
وقد سلكوا في تأويل النصوص الكثيرة الدالة على ضد قولهم مسلكين مشهورين ،
إبطال تأويل النصوص المؤيدة لمذهب السلف :
ـــــــــــــــــــــــ
أما المسلكان : فالأول :
ـــــــــــــــــ(/17)
وهو مسلك غريب وقول عجيب ، ما ذكره في حاشية على شرح أم البراهين قال (ليس معنى كلم الله موسى تكليما أنه ابتداء الكلام بعد أن كان ساكتا ، ولا أنه بعد ما كلمه سكت ، وانما المعنى أنه أزال الحجاب عن موسى وخلق له سمعاً وقواه حتى أدرك كلامه القديم ثم منعه بعد ذلك ورده لما كان عليه قبل سماع كلامه)(1) . [[ حاشية الدسوقي على شرح أم البراهين للسنوسي ص 113 ، وانظر المستصفى للغزالي 120 ، فقد ذكر قريبا من عبارته ، وهذا التأويل بمني على جواز سماع الكلام النفسي ، وقد قال به بعض الاشعرية ينظر نظم الفرائد ص 15، 16]]
وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم أنهم يقولون (إن التكليم والنداء ليس إلاّ مجرد خلق إدراك المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ، ولا تكليم بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعاً لما كان موجوداً قبل سمعه بمنزلة جعل الأعمى بصيراً لما كان موجوداً قبل رؤيته ... فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي)(2) . [[ مجموع ابن تيمية 12/132، 12/175]]
ولا ريب أن هذا التأويل المتكلف لم يخطر على بال أحد سمع آيات القرآن الواردة في هذا الصدد من نزولها إلى يومنا هذا ، ما لم يتلقنه من أصحاب هذا المذهب ، ثم عليه بعد ذلك أن يرغم نفسه على تصوره إن استطاع ذلك ، نعم ، لا سيما إذا فسر له سماع هذا الكلام النفسي بأن مصحح السماع هو الوجود كما أن مصحح الرؤية كذلك ، كما يقولون ، وقد التزم من أجل هذا جواز رؤية الروائح والملموسات والطعوم (3) .
[[ أما الرؤية ـ أعني رؤية الروائح .. إلخ ، فذكره في المواقف ص 302 ، جوابا على من ألزمهم بأن مالا يوجد لاتصح رؤيته ، فذكروا أن مصحح الرؤية الوجود فقط ، والتزموا من اجل ذلك صحة رؤية الروائح والمطعومات ، والملموسات ، وأما السماع فكذلك نقله في نظم الفرائد عن الاشعري ، أنه يتعلق بكل موجود والكلام النفسي موجود فيصح سماعه ص 16 ، وحكاه ابن القيم عن الاشعري ومن اتبعه قال ( وعنده ذلك المعنى سمع من الله حقيقة ، ويجوز أن يرى ، ويشم ، ويذاق ، ويلمس ، ويدرك بالحواس الخمس ، إذ المصحح عنده لإدراك الحواس هو الوجود فكل موجود تعلق الادراكات كلها به ، كما قرره في مسالة رؤية ما ليس في جهة من الرائي ) مختصر الصواعق لابن القيم 513]]
ويكفي في نقض هذا التأويل المتكلف ، مصادمته الواضحة لنصوص الكتاب والسنة ، التي تنص على أن الله كلم موسى ، وناداه ، وناجاه ، وسأله فأجاب ، ورد عليه ، فهل هذا كله كان أزلاً ، وسيبقى أبداً ملازما لذات الله ، كلزوم الحياة ، وكيف يعقل أنه لم يزل ربنا تعالى ، ينادي موسى ويكلمه ، قبل أن يخلق السموات والأرض، ويجيب على قوله (رب أرني أنظر إليك ) بقوله (لن تراني) قبل وجود الكائنات ، والتأويل إذا بلغ إلى هذا الحد ، فلا يلام من يسميه تلاعبا بكتاب الله .
والمسلك الثاني :
ـــــــــــــ
هو أن الله خلق صوتا في الشجرة ، أو في الهواء فسمعه جبريل أو غيره ، فالذي سمعه موسى ، وتسمعه الملائكة ، وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم ، ليلة المعراج من كلام الله ، أصوات وحروف مخلوقة خلقها الله فدلت على المعنى الواحد اللازم لذات الله ، ومع أنها متعددة ، متبعضة ، إلاّ أنها دالة على معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ، وهذا المسلك هو الذي تقدم عن الايجي أنه حكاه وقال لا ننكره ، وحكاه الرازي عن أهل السنة من أهل ما وراء النهر ، ويقصد بهم أصحاب الكلام النفساني(1) . [[ ينظر تفسير الرازي 22/16]]
وبهذا المسلك - وكذلك الذي قبله - صرح أصحاب هذا القول بخلق القرآن ، فأما الأولون فقالوا إن الله تعالى خلق في جبريل إدراكا أدرك به المعنى النفسي ، فعبر عنه بألفاظه فكان القرآن ، أو أن جبريل ألقى المعنى إلى محمد فأنشأه بلفظه(2) . [[ قال أبو نصر السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ( وأيضا فلو كان غير حرف ، وكانت الحروف عبارة عنه ، لم يكن بد من أن يحكم لتلك العبارات بحكم ، إما أن يكون الله أحدثها في صدر أو لوح أو أنطق بها بعض عبيده ، فتكون منسوبة إليه ص 191]]
وهذا تصريح بخلق القرآن ، فإن المخلوقات وأفعالها كلها مخلوقة .
وأما هؤلاء فيقولون : خلق في جبريل ، أو في اللوح المحفوظ ، أو في الهواء حروفاً ، هي القرآن العربي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم بلغ جبريل هذا المخلوق للنبي صلى الله عليه وسلم .(3) [[ مجموع ابن تيمية 12/378]](/18)
فإذن أوّل ما يدل على بطلان هذا المسلك - وكذلك الذي قبله - أنه تصريح بخلق القرآن ، الذي اتفقت الأمة وكلمة أهل العلم في عصور السلف على إنكاره والبراءة من قائله ، وهو مع ذلك تناقض بين من قائله - أن كان من أصحاب هذا المذهب - فإنه إنما يحتج على المعتزلة الذين ينسبون الكلام إلى الله مع قيامه بغيره - لأنهم يقولون حروف وأصوات يخلقها في غيره - بأن الموصوف بالشيء هو ما قام به ذلك الشيء ، ولا يوصف الشيء بما قام في غيره ، كما قال السعد في شرح العقائد ( والمعتزلة لما لم يمكنهم إنكار كونه تعالى متكلما ذهبوا إلى أنه تعالى متكلم بمعنى إيجاد الأصوات والحروف في محالها ، وإيجاد أشكال الكتابة في اللوح المحفوظ ، وإن لم يقرأ على اختلاف بينهم وأنت خبير بأن المتحرك من قامت به الحركة لا من أوجدها ، وإلاّ لصح اتصاف الباري تعالى بالأعراض المخلوقة له تعالى عن ذلك علواً كبيراً )(1) . [[ شرح العقائد النسفية 92ـ 93]]
فمن ينكر على المعتزلة نسبة الكلام إلى الله مع القول بأنه أوجده في غيره ، كيف ينسب إلى الله الكلام الذي أوجده في غيره ، فيقول القرآن المؤلف من السور والآيات مخلوق خلقه الله في غيره ، كاللوح المحفوظ أو جبريل أو محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو مع ذلك كلام الله.
فإن قال : إنما هذا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ، لزمه أن كل كلام خلقه الله فهو كلامه ، وهذا يشمل كل كلام في الوجود وهذا من أبطل الباطل ، وما قال به إلاّ أهل وحدة الوجود من الزنادقة المنتسبين إلى التصوف .
فهذا أهم ما يدل على بطلان هذين التأويلين ، والحق الذي لا ريب فيه أن الآيات التي نصت على اتصاف الله بالكلام هي على ظاهرها اللائق بالله تعالى ، وأن الله تعالى موصوف بصفة الكلام ، وهو متكلم بما شاء متى شاء ، كيف شاء ، بكلام سمعه موسى ويسمعه جبريل وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم ، بصوت لا يماثل صوت المخلوقين كما أن سائر صفاته لا تماثل صفات المخلوقين .
ولينظر إلى هذا الاعتقاد ما أحسنه وأسهله وأوفقه لنصوص الوحي ، وذلك القول مع ما جر إليه من تأويلات ، ما أشد تكلفة ، وأبعد تصوره ، وأصعبه على النفوس السليمة ، يتجرعه المؤمن ولا يكاد يسيغه ، ويأتيه الباطل من كل مكان ، فالحمد لله الذي جعل عقيدة الإسلام سهلة ميسورة قريبة إلى النفوس والفطرة واضحة في التصور والعلم .
فليس في آيات الكلام اشتباه ، ولا هي من المتشابه عند أهل الرسوخ في العلم ، ولكنها إنما اشتبهت على من عارضها بعقله الضعيف ، واصطلاحهم على أن المتشابه هو ما يراد به خلاف ظاهره هو الذي أدى إلى تأويل آلاف النصوص وجعلها من المتشابه وإدعاء أنها من المراد به خلاف الظاهر قال ابن القيم (ولا تستبعد قولنا أكثر من ثلاثة آلاف ، فكل آية ، وكل حديث إلهي وكل حديث فيه الإخبار عما قال الله تعالى أو يقول وكل أثر فيه ذلك إذا استقرئت زادت على هذا العدد)(1) .[[ مختصر الصواعق لابن القيم 518]]
وبما مضى يتبين أن الآيات الواردة في مسألة كلام الله تعالى وأنه يكلم ملائكته وجبريل ومن شاء من أصفيائه ، ويكلم من شاء يوم القيامة وأهل الجنة وهي كثيرة جداً في القرآن كلها محكمة لا اشتباه فيها عند أهل العلم الراسخين فيه من أهل السنة ، وتفسيرها تلاوتها واعتقاد ظاهر ما دلت عليه مع تنزيه الله عن مماثلة خلقه .
ويبقى الكلام في قوله تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}، التوبة (6) ، وهو الطرف الثاني من مسألة الكلام ، وهو قراءة العباد كلام الله وتسمى مسألة اللفظ وهذه المسألة من المسائل الدقيقة وقد اشتبهت على كثير ممن ينتسب إلى السنة والحديث .
وسبب اشتباه هذه المسألة أن الكلام ، وجوده العيني يتحد مع وجوده اللفظي ، فالذي يبلغ بلفظه الكلام الذي تكلم به غيره يبلغه بنفس المرتبة الوجودية التي حصلت له في الأول .
وبيان هذا أن للشيء أربعة مراتب ، مرتبة في الأعيان ومرتبة في الأذهان ، ومرتبة في اللسان ، ومرتبة في الخط ، وهذه المراتب الأربعة تتحقق منفصلة في الأعيان القائمة بنفسها كالشمس مثلاً ، فوجودها الخارجي شيء ، ووجودها الذهني شيء ، ووجودها اللساني شيء ، ووجودها في الكتاب شيء ، أما العلم مثلاً فتتحد فيه المرتبتان الذهنية والخارجية ، والكلام تتحد فيه المرتبتان اللفظية والخارجية ، فلا جرم حصل الاشتباه العظيم في مسألة تكلم العباد بالقرآن(1) . [[ ينظر في علاقة مسألة الكلام بمراتب الوجود ، مختصر الصواعق المرسلة ص 535، مجموع الفتاوى 12/239 ، 12/289، 12/385]](/19)
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيانا واضحا لهذا الإشكال ويحسن إيراده بألفاظه قال رحمه الله (ومما ينبغي أن يعرف ، أن كلام المتكلم في نفسه واحد وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم ، به ، فإذا أنشد المنشد ، قول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ، كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه ، مع أن أصوات المنشدين له تختلف ، وتلك الأصوات ليست صوت لبيد ، وكذلك من روى حديث (إنما الأعمال بالنيات) فإن هذا الكلام كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لفظه ومعناه ويقال لمن رواه أدي الحديث بلفظه ، وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول ، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله لفظه ومعناه ، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم )(1) . [[ مجموع ابن تيمية 12/171]]
وقال ( ومن المعلوم أنه إذا سمع الناس كلهم كلام محدث يحدث بحديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كقوله ( إنما الأعمال بالنيات ) قالوا : هذا كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، أو هذا كلامه بعينه ، لأنهم قد علموا أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تكلم بذلك الكلام لفظه ومعناه وتكلم بصوته ، ثم المبلغ له عنه بلغه بصوت نفسه ، فالكلام كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هو الذي تكلم بمعانيه وألف حروفه بصوته والمبلغ له بلغة بفعل نفسه وصوت نفسه ، فإذا قالوا : هذا كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، كانت إشارتهم إلى نفس الكلام الذي هو الكلام حروفه ونظمه ومعانيه ، لا إلى ما اختص به المبلغ من حركاته وأصواته ، بل يضيفون الصوت إلى المبلغ فيقولون صوت حسن ، وما كان في الكلام من فصاحة حروفه ونظمه وبلاغة معانيه فإنما يضاف إلى المتكلم به ابتداء لا إلى المبلغ له ، ولكن يضاف إلى المبلغ حسن الأداء كتجويد الحروف وتحسين الصوت ولهذا قال تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله )(2) . [[ المصدر السابق ]]
وقال رحمه الله ( كما في الاسم والمسمى ، فإن اسم الشخص وإن ذكره أناس متعددون ، ودعا به أناس متعددون ، فالناس يقولون إنه اسم واحد لمسمى واحد ، فإذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، وقال ذلك هذا المؤذن ، وهذا المؤذن ، وهذا المؤذن ، وقاله غير المؤذن ، فالناس يقولون إن هذا المكتوب هو اسم الله واسم رسوله ، كما أن المسمى هو الله ورسوله ).(1) [[ المصدر السابق 12/291]]
فقوله تعالى (فأجره حتى يسمع كلام الله ) المقصود الكلام نفسه من حيث هو هو وإن كان إنما سمع بواسطة التالي وصوته.
والمشار إليه عند قراءة القارئ للقرآن ، (بهذا كلام الله ) ليس هو ما يمتاز به قارئ عن قارئ إذ كان من المعلوم ، أن ما يسمع من كل قارئ فهو كلام الله وأن صوت هذا القارئ ليس هو صوت ذلك ، بل المشار إليه ، هو الحقيقة المتحدة ، وهو كونه كلام الله بقراءة جميع القراء .(2) [[ المصدر السابق 12/281]]
ومما ينبغي أن يعلم أن هذا الاشتباه لا ينحل إلاّ لمن يتيقن أمرين :
الأول : أن الله تكلم بالقرآن بكلام سمعه جبريل منه سماعاً حقيقياً وأنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاه عليه وعرضه عليه فسمعه -صلى الله عليه وسلم- وبلغه للأمة كما سمعه ولم يزل ينقل بالتواتر كما تكلم الله به أول مرة كلاماً حقيقياً بصوت نفسه سبحانه وتعالى .
الثاني : أن الكلام يضاف إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً ، فلا يقال عمن روى حديث ( إنما الأعمال بالنيات ) هذا كلامك ، وقولك ، بل يقال كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقوله .
ولا تشتبه هذه المسألة إلاّ على من ينكر أحد هذين الأمرين أو يجهله ، وبهذا فقوله تعالى (حتى يسمع كلام الله ) هو كلام الله بأصوات القارئين فلا إشكال ولا إشتباه فيه إذا رد إلى المحكم.
فهذا ما يتعلق بهذا المثال .
@@@@@@@@@@@@@
المثال الثالث : آيات الرؤية :
ــــــــــــــ
ــــــــــــــ
وهي من المسائل الكبار التي خالف فيها أهل البدع السنة ، واتبعوا ما تشابه عليهم من القرآن كما قال القاضي عبد الجبار المعتزلي ، عند قوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) ،.
قال (يدل على أن الله تعالى لا يجوز أن يرى بالأبصار والعيون ، على وجه ، في كل وقت من غير تخصيص)(1) . [[ متشابه القرآن لعبد الجبار 1/255]]
وقد أثبتها أهل السنة واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة .
وأما الكتاب فقوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )
وقد صرح ابن كثير رحمه الله بتواتر أحاديث الرؤية .(/20)
ومما يدل على ذلك من كتاب الله أيضاً قوله تعالى (كلا أنهم يومئذ عن ربهم لمحجوبون ) قال ابن كثير ( قال الإمام الشافعي رحمه الله : هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ وهذا الذي قاله الإمام الشافعي - رحمه الله - في غاية الحسن وهو استدلال بمفهوم الآية ، كما دل منطوق قوله ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم - عز وجل - في الدار الآخرة ، رؤية بالأبصار في عرصات القيامة ، وفي روضات الجنات الفاخرة(1)) . [[ تفسير ابن كثير 8/373]]
ومما يدل على الرؤية من كتاب الله أيضاً قوله تعالى ( قال رب أرني انظر إليك ...) ، قال شارح الطحاوية رحمه الله (الاستدلال منها على ثبوت الرؤية من وجوه :
الأول : أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه بل هو عندهم من أعظم المحال .
الثاني : أن الله لم ينكر عليه سؤاله ، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله وقال (إني أعظك أن تكون من الجاهلين ).
الثالث : أنه تعالى قال (لن تراني ) ولم يقل (إني لأرى ) أو ( لا تجوز رؤيتي ) أو ( لست بمرئي ) ، والفرق بين الجاوبين ظاهر ، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعام ، فقال أطعمنيه ، فالجواب الصحيح أنه لا يؤكل ، أما إذا كان طعاماً صح أن يقال إنك لن تأكله ، وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى ثم ذكر وجوها أخرى ، هذه أهمها.(2) . [[ شرح الطحاوية ص 207 ، وقوله عندهم في الوجه الأول يعني المعتزلة ، فإنهم لا يجوزون على الأنبياء حتى الصغائر فكيف بجهل ما يستحيل على الله ]]
وقد تقدم ما يدل على ذلك من السنة ويدل على ذلك أيضاً إجماع المسلمين قبل حدوث بدعة إنكار الرؤية .
وقد استدل المعتزلة بقوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) كما تقدم عن القاضي عبد الجبار ، وجعل الزمخشري قوله تعالى ( لتدركه الأبصار ) محكما ، وقوله تعالى ( إلى ربها ناظرة ) متشابها(1) . [[ الكشاف 1/412]]
وحاول القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه متشابه القرآن ، تأويل ما استدل على الرؤية من آية الأعراف ، وحاول الزمخشري تأويل قوله تعالى ( إلى ربها ناظرة ) بما يقطع ببطلانه .
أما قوله تعالى ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب ارني انظر إليك ، قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ، فما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صاعقا ، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) الأعراف (143) .
قال القاضي عبد الجبار (قالوا : ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يجوز إن يرى ،وما يدل على أنه يجوز أن يظهر ويتجلى ويحتجب ، فقال ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ، قال رب أرني انظر إليك ) فلو لم تجز الرؤية عليه لم يكن ليسأل ذلك ، كما لا يجوز أن يسأل ربه اتخاذ الصاحبة والولد ، إلى ما شاكله من الأمور المستحيلة عليه )(2) . [[ متشابه القرآن له 1/291]]
ثم قال ( وقد اختلف أجوبة شيوخنا رحمهم الله في ذلك ، فمنهم من قال إنما سأل ذلك عن لسان قومه ، لأنهم سألوه ذلك فأجابهم بأن الرؤية لا تجوز عليه ، فلم يقنعوا بجوابه ، وأرادوا أن يرد ذلك من الله تعالى ، ولذلك قال تعالى (يسألك أهل الكتاب إن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ) النساء (153) ، ولذلك قال الله تعالى (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) ولو كانت المسألة صدرت عنه لأمر يخصه لم يجز أن يقول ذلك ، وقد بينا أن السائل إذا سأل لأجل غيره حسن أن يسأل ما يعلم أنه محال ، لكي يرد الجواب فتقع به الإبانة ، إذا كان عنده أن ذلك إلى زوال الشبهة أقرب)(3) . [[ 1/293]]
وهذا أحسن ما حكى عن شيوخه من تأويلات وهو كما لا يخفى من ابعد التأويل ولا يدل عليه الخطاب من قريب ولا من بعيد .
فإن قوله تعالى ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً السماء فقد سألوا موسى أكبر في ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ، ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك ، وآتينا موسى سلطاناً مبيناً ) النساء (153).(/21)
مع قوله تعالى { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } البقرة (55) ، يدل على أنهم سألوا رؤية الله عن عناد وتعنت ، كما يفسره قوله تعالى ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) فادعوا أنهم لن يؤمنوا إلاّ إذا رأوا الله جهرة ، فعاقبهم الله بالصاعقة ، فماتوا ثم بعثهم ،وفي تعقيب أخذه لهم على سؤالهم (بالفاء ) دلالة على وقوع صعقهم عقيب سؤالهم ، وقوله تعالى ثم اتخذوا العجل دليل على أن اتخاذهم العجل قد وقع لما انطلق موسى إلى ميقات ربه وكلمه ، فأخبره سبحانه (فإنا فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ) ، وفي هذا دلالة على أن سؤال موسى رؤية ربه كان بعد سؤال قومه الذي وقع منهم قبل ذلك تعنتا وعنادا ، فعوقبوا عليه ، فكيف يعود موسى ويسأل ربه أن يجعل الذين أخذهم الله بالصاعقة يرونه بعد أن كانت عقوبتهم بسبب طلبهم الرؤية ؟ وكيف يطلبون الرؤية بعد أن صعقوا عقوبة على طلبها ؟
وأيضاً فإن موسى قال (رب أرني أنظر إليك ) وهذا صريح في أنه طلب الرؤية لنفسه ، فتركه ما دل عليه الخطاب لأمور بعيدة مجرد تحكم .
وأيضاً فإن السياق يدل على أن موسى طلب الرؤية لنفسه فإن الله قال ( ولما جاء موسى لميقاتنا ، وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك ) فعقب طلب الرؤية على سماع الكلام ، ففيه إشارة إلى أنه لما سمع الكلام استأنس وظن أن الله يعطيه الرؤية كذلك في الدنيا فبين له ربه سبحانه أنه لا تجوز في الدنيا ، إذ لا تطيقها الجبال الرواسى فكيف بالبشر الضعيف في بنيته الدنيوية الضعيفة ، ولهذا قال بعد ذلك ( يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ) ، أي خذ نعمتي عليك وأشكر عليها ، وهي الكلام والرسالة ، ولا تطمع فيما لا يكون لأحد ولا طاقة لأحد به(1) . [[ تفسير ابن كثير 3/471]]
وقوله ( وقد بينا أن السائل إذا سأل لأجل غيره حسن أن يسأل ما يعلم أنه محال ، لكي يرد الجواب فتقع به الإبانة ، إذا كان عنده أن ذلك إلى زوال الشبهة أقرب ) ، لا معنى له ، فإن بني إسرائيل لم يسمعوا ما جرى بين موسى وربه من الخطاب ولم يروا دك الجبل ، وإلاّ لصعقوا كما صعق موسى ، بل كانوا في أثناء هذا يعبدون العجل ، كما قص القرآن ، فما فائدة أن يسأل موسى ربه أن يري نفسه بني إسرائيل مع علمه أنه مجال لتزول الشبهة عنهم إذا لم يكن بنوا إسرائيل شاهدين لهذا ، فما أبعد هذا .
وبالجملة فهذا إلى اللعب أقرب منه إلى التأويل ، وهو دليل واضح على أن أهل البدع يجعلون الآية من المتشابه لمجرد مخالفتها لمذهبهم ، يريدون بذلك صرفها عن نقض أقوالهم ، فالله المستعان .
وأما قوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) فإنه يدل على الرؤية من وجوه :
الأول : أن لفظ ( نظر ) إذا عدي بإلى دل على نظر العين ، كما أنه إذا عدي بفي دل على التفكر كما قال تعالى (أفلم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ) ، وإذا عدي بنفسه فمعناه الانتظار ( انظرونا نقتبس من نوركم )(1) . [[ ينظر شرح الطحاوية 205 ]]
قال الجوهري ( النظر : تأمل الشيء بالعين ، وكذلك النظران بالتحريك ، وقد نظرت إلى الشيء)(2) . [[ الصحاح 2/830]]
وقال ابن فارس ( النون والظاء والراء أصل صحيح ، يرجع فروعه إلى معنى واحد وهو تأمل الشيء ومعاينته، ثم يستعار ويتسع فيه ، فيقال نظرت إلى الشيء ، أنظر إليه إذا عاينته ... ويقولون نظرته أي انتظرته )(3) .[[ معجم مقاييس اللغة 5/444]]
الثاني : أنه أضافه إلى الوجوه التي محل الأبصار فهذه قرينة تدل على أن المراد نظر العين(4) . [[ شرح الطحاوية 205]]
الثالث : أن المقام بيان النعيم ، فالمناسب ذكر تمتعهم بالنظر إلى الله ولو قيل أن المراد ينظرون رحمة ربهم لكان في ذلك تنقيص لهم لأن المنتظر للشيء مشغول القلب بوقت حصوله .
الرابع : في قوله (وجوه يومئذ ناضرة) إشارة إلى رؤية الله عيانا ، فكأنها اكتسبت النضرة.بسبب رؤية الله تعالى كما أن من يرى الشيء الحسن يتبين أثر ذلك في وجهه ، فكيف بمن يرى الله تعالى .
فهذه الوجوه تبطل تأويل النظر بانتظار الثواب كما فعل القاضي عبد الجبار في متشابه القرآن.
وأما قول الزمخشري ( إلى ربها ناظرة ، تنظر إلى ربها خاصة ، لا ننظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم المفعول ، إلاّ ترى إلى قوله - إلى ربك يومئذ المستقر - إلى ربك يومئذ المساق - إلى الله تصير الأمور - إلى الله المصير - وإليه ترجعون - عليه توكلت وإليه أنيب - كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص ، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلاق كلهم )(1) . [[ الكشاف 4/192]]
ثم جعل هذا دليلاً على أن معنى النظر إلى الله عنده ( أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلاّ من ربهم ) كما قال(2) . [[ المصدر السابق ]](/22)
فجوابه أن الاختصاص على ظاهره فإن الله تعالى إذا تجلى لأهل الجنة ينظرون إليه ، كما تواتر في السنة ، فلا تتوجه الوجوه والأنظار إلاّ إليه وكأنها لا ترى إلاّ هو ، وسبحان الله ، كيف يتصور أن تطلب العيون نظراً إلى غير الله إذا تجلى بعظمته ، وكيف لا تعمى عن سواه إذا أزال رداء الكبرياء عن وجهه الكريم ؟ بل هذا أعظم لذّات الجنة وليس بين هذا النعيم وسائر نعيم الجنة وجه مقارنة أصلاً كما تقدم في حديث مسلم (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ).
وفي الوجوه الأربعة المتقدمة رد على قوله ( والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلاّ من ربهم).
وأما الاستدلال بقوله ( لا تدركه الأبصار ) فقد اشتبه عليهم ويتبين برده إلى المحكم معنا الصحيح ، فإنه لا ريب أن ما دلت عليه الآيات السابقة والأحاديث المتواترة من حصول رؤية المؤمنين ربهم ، محكم غاية الأحكام ، فقوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) لا يدل على عدم الرؤية بل هو أدل على وقوع الرؤية ، وذلك أن الآية ذكرت في ( سياق التمدح ومعلوم أن المدح ، إنما يكون بالصفات الثبوتية .
أما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به ، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمرا وجوديا ، كمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن كمال قيوميته ، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة ، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة ونفي الشريك والصاحبة والولد المتضمن كمال الربوبية والألوهية وقهره ، ونفي الأكل والشر المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه ، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته ، ونفي المثل المتضمن كمال ذاته وصفاته ، ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمرا وجوديا ، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه .
فمعنى الآية إذن ، يرى ولكن لا يدرك ولا يحاط به فيكون قوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) يدل على كمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به ، فإن (الإدراك) ، هو الإحاطة بالشيء ، وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى { فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا} الشعراء (62) ، فلم ينف موسى الرؤية وإنما نفى الأدراج ، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر ، وبدونه فالرب تعالى يرى ولا يدرك ، كما يعلم ولا يحاط به علما ، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية ، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه)(1) . [[ شرح الطحاوية 208]]
وهذا ختام كتاب ( أم البراهين ) والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأجمعين .(/23)
أهم كتبه
الحقيقة الكبرى في الكون والحياة
هي حقيقة الإيمان والتوحيد كما يعرضها منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ . هي كبرى الحقائق في الكون كله ، وبها ترتبط سائر الحقائق ، وهي أخطر قضيّة في حياة الإنسان ، في حياة كلّ إنسان ، وفي حياة البشرية كلها . وكل قضية أو حقيقة ترتبط بقضية الإيمان والتوحيد ، فكراً وإيماناً ، وممارسة وتطبيقاً ، فإنها تكون خيراً وصلاحاً ، فإذا انفصلت عن قضية الإيمان والتوحيد أصبحت فتنة وفساداً في الأرض ، وهلاكاً في الدار الآخرة .
والدعوة إليها هي الهدف الربانيّ الثابت الأَول ، وهي القاعدة الصلبة للنظرية العامة للدعوة الإسلامية ، وهي العنصر الرئيس الذي يمتدّ في جميع مراحل العمل وجميع ميادينه .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
التوحيد وواقعنا المعاصر .
الحقيقة الكبرى في الكون والحياة .
الولاء بين منهاج الله والوقع .
النية في الإسلام .
الخشوع .
**************8
الحوافز الإيمانية بين المبادرة والالتزام المنهاج الرباني
القرآن والسنة واللغة العربية ...
إنه أساس العلم كله . وطلب العلم منه فرض فرضه الله ورسوله .
لتدبر منهاج الله مفتاحان رئيسان هما : صفاء الإيمان والتوحيد وصدقهما ، وإتقان اللغة العربيّة . ثمّ تأتي بعد ذلك العوامل الأخرى .
على كل مسلم أن يصاحب منهاج الله صحبةً منهجيّةً ، صحبة عمر وحياة كلٌّ على قدر وسعه الصادق.
للمنهاج الرباني دور رئيس هام في كل مرحلة من مراحل الدعوة وخطواتها وأهدافها ، لا يعدله دور أي مصدر آخر ولا يقوم مقامه .
أهم الكتب والدراسات حولها
دور المنهاج الرباني في الدعوة الإسلامية .
منهج المؤمن بين العلم والتطبيق .
منهج لقاء المؤمنين .
لماذا اللغة العربية .
قبسات من الكتاب والسنة تدبر وظلال .
سائر كتب التربية والبناء .
حتى نتدبر منهاج الله .
النظرية العامة
للدعوة الإسلامية
...
...
تهدف النظرية العامة للدعوة الإسلامية للتذكير بالأسس الربانيّة ولإرسائها في الواقع الفكري والتطبيقي، الأسس الضرورية للقاء المؤمنين وبناء الأمة المسلمة الواحدة. وهي تكشف لنا شدّة الترابط بين مسؤولية الفرد ومسؤولية الأمة. وتبرز أخطر القضايا التي يحتاجها الواقع الإسلامي، وتوفّر لنا حسن الموازنة، وسلامة المضيّ على صراط مستقيم. وهي نابعة من الكتاب والسنة ملبّية لحاجة واقعنا اليوم.
تتألف النظرية العامة للدعوة الإسلامية من ستة بنود وخمس مراحل.
البنود الستة هي :
أ - القاعدة الصلبة : وهي قضية الإيمان والتوحيد والدعوة إليها والبذل والتخطيط لها.
ب - الركنان الرئيسان : المنهاج الرباني ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ والواقع الذي ندرسه من خلال المنهاج الرباني. الزاد الرئيس للداعية : الإيمان والتوحيد وصدقهما والمنهاج الرباني ووعي الواقع الذي يُدْرَس من خلاله، تؤلف هذه كلها الزاد الرئيس الضروري للداعية.
ج – المشكلات الأربع الكبرى في الواقع : والتي ترتبط بواحدة منها أو أكثر ، أو أي مشكلة أخرى جزئية، والتي بغير معالجتها لا يتيسّر النجاة مما يعانيه الواقع، والتي تتحوَّل عند الداعية إلى أسس أربعة. المشكلات الأربع الكبرى هي: الخلل في التصور لقضية الإيمان والتوحيد، والخلل في البذل لها، هجر منهاج الله، عدم وعي الواقع من خلال منهاج الله، الخلل في الممارسة الإيمانية .
د - عناصر التنفيذ : الأسس الأربعة : التي يجب توافرها عند الدعاة وهي: صفاء الإيمان والتوحيد، تدبر منهاج الله, وعي الواقع من خلاله، سلامة الممارسة الإيمانيّة. النهج الإيمانيّ للتفكير : وهي طريقة التفكير التي يتميّز بها المؤمن، بيَّن الله سبحانه وتعالى لنا خصائصها في المنهاج الرباني . النهج والتخطيط العام للدعوة . النهج والتخطيط لكل ميدان تخوضه الدعوة . الإدارة والنظام : والإشراف والمراقبة، والمتابعة والتوجيه، والتعاون والتنسيق. ميزان المؤمن : الذي يُنزل الناس منازلهم . المؤسسات الإيمانية : نظريتها وخصائصها . التقويم الدوري : نظريته، وأنواعه، ونماذجه .
هـ – المضيّ على الصراط المستقيم : دون توقف ولا تراجع ولا انحراف، وتحقيق الإتقان والإحسان مع المضيّ .
و - إلى الهدف الأكبر والأسمى : الجنَّة والدار الآخرة ورضوان الله, الهدف الذي حدّده الله سبحانه وتعالى لنا، لترتبط به كل الأهداف، ولتظلّ القلوب متعلقة به مع المسيرة والمضيّ.
أما المراحل الخمس فهي :
أ - التزود بالزاد الرئيس للداعية .
ب – دراسة الميدان وتحديد مشكلاته الكبرى .
ج – النهج والتخطيط .
د – المضي على الصراط المستقيم.
هـ- الهدف الأكبر والأسمى ـ الدار الآخرة ورضوان الله والجنة ـ .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
النظرية العامة للدعوة الإسلامية .
نهج الدعوة وخطة التربية والبناء .
موجز النظرية العامة للدعوة الإسلامية وأساس لقاء المؤمنين .
موجز النظرية العامة للدعوة الإسلامية والنهج العام وأساس لقاء المؤمنين .
الدعوه الاسلاميه:(/1)
بيان وبلاغ وتعهد
...
...
* تبليغ رسالة الله إلى الناس كافة كما أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ، والبدء بقضية الإيمان والتوحيد حتى ترتبط القلوب بربها مؤمنة خاشعة ، وحتى ترتبط بالكتاب والسنة واللغة العربيّة .
* تبليغ رسالة الله إلى الناس من خلال نهج وخطة نابعة من منهاج الله ، ملبية لحاجة الواقع ، من خلال مراحل مدروسة ، يمكن أن تنحصر في خمس مراحل : مرحلة التعارف ، مرحلة الإيمان والتوحيد ، مرحلة التثبت ، مرحلة العرض والدراسة ، مرحلة الالتزام . ولكل مرحلة دراستها وخصائصها وخطتها .
* الدعوة والبلاغ وقضيّة الإيمان والتوحيد تمثّل الهدف الربّانيّ الثابت الأول في مسيرة الدعوة الإسلامية .
* دور المنهاج الرباني في هذه المرحلة دور عظيم لا يعدله دور أي مصدر آخر ، ويستمر دوره الرئيس العظيم في جميع المراحل والخطوات والأهداف .
* المنهاج الربانيّ ـ قرآناً وسنّةً ولغة عربيّة ـ هو المصدر الأول لتحديد الدعوة الإسلامية وتصورها ونهجها وخطتها ووسائلها وأهدافها .
* ما ذا نقصد بمصطلح الدعوة الإسلامية ؟! : نقصد به المصطلح الذي يضمّ جميع ميادين النشاط لتبليغ رسالة الله ودينه الإسلام إلى الناس كافة كما أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ابتداءً بالدعوة والبلاغ ، والتربية والبناء ، والإعداد والتدريب ، وبناء الأجيال المؤمنة ، والجهاد في سبيل الله ، وبناء الأمة المسلمة الواحدة ، وعمارة الأرض بحضارة الإيمان ، والنشاط الاجتماعي والاقتصادي والإعلامي والسياسي وغير ذلك . على أن تجمع الدعوة الإسلامية المؤمنين في الأرض وجهودَهم صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص ، ليوفوا بالعهد والأمانة . وهي دعوة ربّانيّة أمر بها الله سبحانه وتعالى وبيّن لنا خصائصها وأسسها ، ونهجها ، وأهدافها ، وفصّلها تفصيلاً في المنهاج الرباني .
* هل الدعوة الإسلامية متحققة بخصائصها الربّانية وأسسها في واقعنا اليوم ؟! وهل هي تجمع المؤمنين والدعاة والعاملين صفّاً واحداً كما أمر الله سبحانه وتعالى ؟! وهل تحقّقت أُخوة الإيمان التي أمر الله بها عمليّاً في واقع المسلمين ؟!
* ما هو السبيل إلى تحقيق ذلك في واقعنا اليوم؟! ومسؤولية من تكون هذه القضيّة الهامة؟! الدراسات التي نقدمها والجهود التي تُبذل تهدف إلى ذلك وندعو إليه ونسعى إليه . والمسؤولية مسؤولية كلّ مسلم
...
أهم الكتب والدراسات حولها
دور المنهاج الرباني في الدعوة الإسلامية .
منهج المؤمن بين العلم والتطبيق .
النظرية العامة للدعوة الإسلامية نهج الدعوة وخطة التربية والبناء .
موجز النظرية العامة في الدعوة الإسلامية والنهج العام وأساس لقاء المؤمنين .
واقع المسلمين أمراض وعلاج .
الحقيقة الكبرى في الكون والحياة .
ميزان المؤمن
...
...
* يَرُدُّ المسلم والأمة كلها جميع القضايا إلى منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغةً عربيّة ، ردّاً أميناً ، ليكون منهاج الله هو المصدر الأول والمرجع الأول .
* وجعل الله للناس ميزاناً يزن فيه بعضهم بعضاً ، حتى يتيسَّر إنزال الناس منازلهم كما أمر الله ورسوله .
* نسمّي هذا الميزان بقواعده الثابتة ميزان المؤمن ليكون بدلاً من ميزان المصالح والهوى .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
منهج المؤمن بين العلم والتطبيق .
فقه الإدارة الإيمانية في الدعوة الإسلامية .
التربية في الإسلام النظرية والمنهج
الأهداف
...
...
* ما هي الأهداف ؟! : نقسم الأهداف إلى خمسة أنواع مترابطة ترسم كلها معاً الصراط المستقيم الذي بينه الله لنا :
1- الهدف الأكبر والأسمى ـ الجنة والدار الآخرة ورضوان الله ـ.
2- الأهداف الربّانية الثابتة : الدعوة والبلاغ ، التربية والبناء والإعداد والتدريب ، بناء الجيل المؤمن ، الجهاد في سبيل الله ، الأمة المسلمة الواحدة في الأرض لتكون كلمة الله فيها هي العليا ، عمارة الأرض بحضارة الإيمان والتوحيد .
3 - الأهداف المرحلية : التي تنقل المسلم من هدف ثابت إلى هدف ثابت ، والتي تضعها الطاقة البشرية المؤمنة بالدراسات المفصلة . وكلما انتقل المؤمنون إلى هدف رباني ثابت جديد عمل هذا الهدف الجديد مع الأهداف التي كانت قبله ، حتى تصبح الأهداف الربانيّة الثابتة تعمل كلها معاً .
4 - الهدف العام : النجاة من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة .
5- الهدف المرحلي : لقاء المؤمنين على أسس ربّانيّة ونهج مفصّل وخطة مدروسة تنبع من منهاج الله وتلبي حاجة الواقع .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
لقاء المؤمنين الجزء الثاني ـ الأهداف .
النظرية العامة للدعوة الإسلامية نهج الدعوة وخطة التربية والبناء .
موجز النظرية العامة للدعوة الإسلامية والنهج العام وأساس لقاء المؤمنين .
التربية والبناء
والإعداد والتدريب
...
...
* لهذا الميدان دراساته ونهجه وخطته المفصّلة في كتب الدعوة .(/2)
* المنهاج الفرديّ : جزءٌ رئيس من الخطة . وهو باب الدراسة وميدانها ، وله نموذج محدّد ، ونهج يمارسه المسلم مستعيناً بكل إمكانات الواقع المتوافرة . منهج لقاء المؤمنين : وهو جزء رئيس كذلك من الخطة . وله نهجه المحدَّد وخطته المفصَّلة ، وهو ميدان التدريب .
* دور المنهاج الرباني في البناء والتربية وفي جميع المراحل والخطوات والأهداف .
* الخطة اليومية ، والخطة الأسبوعية ، والخطة السنوية : نماذج تطبيقية ، تهدف إلى تنظيم وقت المسلم وجهده وعطائه حتى لا يتبدّد .
* التقويم الدوري : جزء رئيس من النهج والخطة . وهو على أنواع وبصورة دورية . تقويم منهج اللقاء ، تقويم عطاء المسلم الأسبوعي ، التقويم الشهري ، التقويم كل ستة أشهر ، التقويم السنوي . ولكل تقويم نموذجه .
* التدريب : وله خطته المفصلة كذلك ونماذجه . وهو على أنواع مترابطة فيما بينها : التدريب الفوري ، التدريب المرحلي ، التدريب الدوري ، التدريب المستمر .
* الإدارة والإشراف : يتّم النشاط كله خاضعاً لنظام محدّد من الإدارة والإشراف والمراقبة ، والمتابعة والتوجيه ، والتعاون والتنسيق . وهنالك نماذج للإشراف : بيان الإشراف على المناهج الفردية ونماذج المتابعة والتوجيه ، والتذكير والنصح .
* قضايا منهجيّة أخرى : نعرض نظرية التربية في الإسلام ومناهجها ، والتصور النظريّ لكل قضية ومناهجها التطبيقية.
...
أهم الكتب والدراسات حولها
التربية في الإسلام النظرية والمنهج .
دور المنهاج الرباني في الدعوة الإسلامية .
منهج المؤمن بين العلم والتطبيق .
منهج لقاء المؤمنين .
النهج الإيماني للتفكير .
النظرية العامّة للدعوة الإسلامية نهج الدعوة وخطة التربية والبناء .
الجهاد في سبيل الله
...
...
* إنه فرض فرضه الله على المؤمنين ماضٍ إلى يوم القيامة .
* وهو يمثل الهدف الربانيّ الرابع إذا استكمل شروطه وأسسه .
* وهو جهاد ممتدّ من مجاهدة النفس إلى مجاهدة أعداء الله الذين يصدون عن سبيل الله ، على نهج واعٍ وخطة مدروسة ، وإِعداد صادق .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
لقاء المؤمنين الجزء الثاني ـ الأهداف .
بناء الأمة المسلمة الواحدة والنظرية العامة للدعوة الإسلامية.
المسؤولية الفردية في الإسلام : أسسها ، تكاليفها ، تميزها.
كتب التربية والبناء .
بناء الأمة المسلمة الواحدة
وعمارة ألأرض
...
...
* إن بناء الأمة المسلمة الواحدة هو فرض فرضه الله على المسلمين ، لا يحلّ لهم إلا أن يكونوا أمة مسلمة واحدة تكون كلمة الله فيها هي العليا ويحكمها منهاج الله .
* فبناء ألامة المسلمة الواحدة وعمارة ألارض بحضارة ألإيمان يمثلان الهدفين الربانيين الثابتين الخامس والسادس في مسيرة الدعوة الإسلامية .
* إنهما ثمرة نجاح لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن ، والأهداف الربانيّة التي سبق ذكرها .
* إن قيام الأمة المسلمة الواحدة التي يحكمها منهاج الله وتكون كلمة الله فيها هي العليا ، حاجة للبشر كلهم ، حاجة للإنسان ، وضرورة للمؤمنين .
* الأمة المسلمة الواحدة رابطتها أعظم رابطة بين الناس . إنها أخوّة الإيمان التي أمر بها الله سبحانه وتعالى . إنها رابطة متميزة لا تنشأ في واقع الحياة إلا إذا كان الولاء الأول للمسلم لله وحده، وعهده الأول مع الله وحده ، وحبّه الأكبر هو لله ولرسوله ، مع استقرار سائر خصائص الإيمان والتوحيد استقراراً صافياً في القلوب . ومن هذا الولاء الأول والعهد الأول والحب الأكبر تنشأ الموالاة بين المؤمنين ، وتنشأ العهود بينهم ، وينشأ التراحم والتوادد ، ليكونوا صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص ، كما أمر الله .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
لقاء المؤمنين الجزء الثاني ـ الأهداف .
بناء الأمة المسلمة الواحدة والنظرية العامة للدعوة الإسلامية .
المسؤولية الفردية في الإسلام : أسسه ، تكاليفها ، تميّزها
منزلة اللغة العربيّة
...
...
* بعد نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم انتقلت اللغة العربيّة نقلةً واسعة من كونها لغة العرب وحدهم إلى كونها لغة الوحي والنبوّة الخاتمة والقرآن الكريم ، لغة دين الإسلام ، لغة كل مسلم .
* يجب أن يكون من مناهج التربية والبناء تدريب المسلم على التحدّث باللغة العربية الفصحى ، مع التدريب على غرس الإيمان وتنميته ، وتدبر منهاج الله .
* يجب أن يمتدّ التدريب على ذلك من البيت برعاية الوالدين منذ الزواج والحمل والولادة والعمر كله ، إلى المدارس والمعاهد ، وسائر ميادين الحياة .
* إتقان اللغة العربيّة عبادة كريمة وواجب وحاجة ضرورية لتدبّر منهاج الله .
* يجب الاستفادة من السنوات الأولى للطفل ، فلا يُتَحَدَّث في البيت إلا باللغة العربية الفصيحة ، حتى يتعلمها الطفل سليقة وفطرة دون عناء .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
لماذا اللغة العربية .
الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته
الشعر المتفلت بين النثر والتفعيلة وخطره
الأدب الإسلامي في موضوعاته ومصطلحاته(/3)
الحداثة من منظور إيماني
الكتب الوضعية البشرية
...
...
* للكتب الوضعيّة التي تضعها الطاقة البشريّة المؤمنة دور غير دور المنهاج الرباني . فلا يصحّ أن يحلّ أي كتاب بشريٍّ محلّ المنهاج الرباني أو يُظَنَّ أنه يؤدي دوره .
* الكتاب الوضعيّ البشريّ يدرس الواقع الآنيّ ويحلّله ويفهمه من خلال المنهاج الرباني .
* الكتاب البشريّ يضع نهجاً وخطة عمل في واقع مرحلي ، في أيِّ ميدان من ميادين العمل : الاجتماعي ، والسياسي ، والاقتصادي ، والأدبي و غير ذلك . على أن يقوم النهج والخطة على أساس الإيمان والتوحيد والمنهاج الربانيّ والواقع الذي يُدرَس من خلاله .
* يردّ الكتاب البشري على المذاهب غير الإيمانيّة ويكشف عيوبها بردّها إلى منهاج الله .
* وضع المناهج التطبيقية ونماذجها ، وطرح النظريَّات الضرورية في ميادين الحياة المختلفة النابعة من منهاج الله والملبيّة لحاجة الواقع المتجدد الذي يُفهم من خلال منهاج الله : مثل دراسة العلمانيّة والديمقراطية والردّ عليها .
* دراسة العيوب والأخطاء ، والخلل والتقصير ، في الفكر والممارسة ، ووضع الحلول والعلاج المناسب .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
منهج المؤمن بين العلم والتطبيق .
النظرية العامة للدعوة الإسلامية نهج الدعوة وخطة التربية والبناء.
الحقيقة الكبرى في الكون والحياة .
النهج والتخطيط
...
...
* النهج والتخطيط ضرورة للعمل الإسلامي . فلا يصحّ أن يسير المؤمن أو الأمة في أي عمل دون توافر شروط رئيسة مع الإعداد والإمكانات : صدق النيّة الواعية وإخلاصها لله رب العالمين ، والوعي في النيّة يعني اليقظة وتحديد الهدف والدرب الذي يوصل إلى الهدف ، ثمّ النهج والتخطيط ، ثم الإدارة والتنظيم ، ثم التقويم الدوري والمرحلي ، وعند الانتهاء تُراجَع المسيرة كلها وتُقوَّم وتُحدَّد الأخطاء ليتجَنَّبها المؤمن ، ويعرف الصواب ليمضي عليه .
* فما هي أسس التخطيط ؟! نوجزها بما يلي :
أولاً : إخلاص النيّة اليقظة الواعية لله.
ثانياً : جمع المعلومات وترتيبها وتنسيقها .
ثالثاً : عمل الدراسات الضروريّة للموضوع الذي سينفّذ .
رابعاً : تحديد الهدف بصورة جليّة .
خامساً : تحديد الدرب الذي يوصل إلى الهدف .
سادساً : اقتراح حلول بديلة للاستفادة منها في حالة ظهور صعوبات أو خطأ فيما سبق اقتراحه .
سابعاً : التقويم الدوري والمرحليّ ، والوقفة الإيمانيّة ، والمراجعة .
ثامناً : وجود نظام إداريٍّ مفصّل يجمع الجهود وينسّقها .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
النظرية العامة للدعوة الإسلامية نهج الدعوة وخطة التربية والبناء .
الفقه امتداده وشموله في الإسلام بين المنهاج الرباني والواقع .
فقه الإدارة الإيمانية في الدعوة الإسلامية .
كتب التربية والبناء .
كتب دراسة الواقع .
الواقع
دراسه الواقع من خلال منهاج الله
...
...
* يجب دراسة الواقع دراسة منهجيّة من خلال منهاج الله ، لتكون مصاحبة لدراسة المنهاج الربّانيّ .
* دراسة الواقع من خلال منهاج الله تمثل الركن الثاني من الركنين الرئيسين من النظرية العامة .
* نقسم دراسة الواقع للتسهيل إلى ثلاثة أقسام :
الواقع الشخصيّ
الواقع الآنيّ
الواقع المنهجي
* تدخل دراسة الواقع في نظرية المنهاج الفردي ، ونظرية منهج لقاء المؤمنين ، والنظرية العامة للدعوة الإسلامية ، وتدخل في بنود التدريب .
* دراسة الواقع من خلال منهاج الله تحتاج إلى التدريب المنهجيّ الذي يتم في منهج لقاء المؤمنين .
* دراسة الواقع المنهجي من خلال منهاج الله تهدف إلى معرفة الأخطاء ومعالجتها .
* وتهدف إلى دراسة أهم قضايا الواقع الفكرية : كالشورى والديمقراطية ، والعلمانيّة ، والتعامل مع مجتمع غير مسلم ، ودور المرأة المسلمة ، الصحوة الإسلامية ، وغيرها .
وتهدف كذلك إلى دراسة أهم أحداث الواقع في دراسات تحليلية مباشرة أو من خلال الأدب والشعر والملاحم مثل : فلسطين ، البوسنة والهرسك ، كوسوفا ، الشيشان ، حرب لبنان ، الجزائر ، سقوط الخلافة ، الإسلام في الهند ، الإسلام في تركيا ، وغير ذلك .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
المسلمون بين العلمانية وحقوق الإنسان الوضعية .
دور المنهاج الرباني في الدعوة الإسلامية .
على أبواب القدس .
منهج المؤمن بين العلم والتطبيق .
فلسطين بين المنهاج الرباني والواقع.
منهج لقاء المؤمنين .
عبدالله عزام أحداث ومواقف .
واقع المسلمين أمراض وعلاج .
وجميع الدواوين والملاحم الأدبية والكتب الأدبية .
الشورى وممارستها الإيمانية .
وكتب أخرى .
الشورى لا الديمقراطية .
الصحوة الإسلامية إلى أين .
التعامل مع مجتمع غير مسلم من خلال الانتماء الصادق إلى الإسلام .
بناء الأمة المسلمة الواحدة والنظرية العامة للدعوة الإسلامية .
الفقه
...
...(/4)
* تدرس هذه السلسلة الفقه المبنيّ على قواعد الإيمان والتوحيد ومنهاج الله والواقع الذي يُرَدُّ إلى منهاج الله ليبرز الحقَّ في الواقع ويردَّ الباطل ، ولا يقدِّم مسّوغاتٍ لما نهى الله عنه ورسوله ، ولا مسوغات للوهن والعجز والاستسلام .
* نبرز امتداد الفقه في الإسلام وشموله لجميع ميادين الحياة وعصورها وقضاياها . وامتداد المسؤولية في جميع المستويات .
* نصحح المفهوم الخاطئ لبعض القضايا لدى بعض الناس : مثل : ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة. في سبيل الله ، بني الإسلام على خمس ، منزلة الذِّكر ودوره ، وغير ذلك مما يحتاج إلى تصحيح.
* كيف نردّ القضايا إلى منهاج الله .
* نبيّن أن التيسير هو التزام ما شرع الله وما بيّن لنا الله سبحانه وتعالى من رُخَص ثبتت بالكتاب والسنة . وأن الوسط كذلك هو التزام شرع الله ، فقد جعله الله وسطاً ميسّراً . وبيّن منهاج الله حدود اليُسر والوسط ، وحدود المغالاة التي نُهِيَ عنها ، وحدود الضعف الذي نهي عنه كذلك .
* نبيّن كذلك مسؤولية المسلم نفسه في تحديد موقفه من بعض القضايا ،حيث لا يغني عنه عند الله رأي الأخرين، وقد زوَّده الله بالوسع الصادق الذي يمكنه من الوفاء بمسؤولياته .
* ندرس الفقه كذلك في ميدان الإدارة الإيمانيّة وأهميته ، والقضايا التي يعالجها .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
الفقه امتداده وشموله في الإسلام بين المنهاج الرباني والواقع .
فقه الإدارة الإيمانية في الدعوة الإسلامية .
قبسات من الكتاب والسنة تدبر وظلال الجزء الأول.
قبسات من الكتاب والسنة تدبر وظلال الجزء الثاني.
سائر الكتب تمثل مساهمة في دراسة الفقه أو في ممارسة منهاج الله في الواقع .
الأدب الملتزم بالإسلام
...
...
* ندرس نظريته وخصائصه الإيمانيّة والفنيّة ، ولادة النص الأدبي والموضوع ، الجمال الفني وعناصره ونظريته ، الملحمة في الأَدب الملتزم بالإسلام وضرورة مفارقتها للتصور الوثنيّ اليوناني الأسطوري ، النقد أو النصح الأدبيّ وقواعده وعناصره ، أدب الوصايا والمواعظ ودوره ومنزلته .
* دراسة المذاهب الأدبية الغربيّة والردّ عليها وتحديد الموقف منها : الحداثة ومذاهبها المختلفة ، البنيوية ، التفكيكية ، الأسلوب والأسلوبيّة .
* طرح تصورات إيمانيّة ونظريات تقابل النظريات الغربيّة وتردّ عليها في الفكر والأدب : العلمانية والديمقراطية ونظريّة المعرفة ومصادر المعرفة ، وحقوق الإنسان التي أبرزها الإسلام وأغناها وضيعتها العلمانية بين زخارف الشعار وظلام الممارسة .
* الشعر الملتزم بالإسلام وباللغة العربيّة ، ودور هذا الشعر في مسيرة الدعوة الإسلامية ، والردّ على مذهب الشعر الحرّ بكل أشكاله ونماذجه .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته .
النقد الأدبي المعاصر بين الهدم والبناء .
أدب الوصايا والمواعظ في الإسلام منزلته ونهجه وخصائصه الإيمانية والفنية .
لماذا اللغة العربية .
الأدب ألإسلامي في موضوعاته ومصطلحاته.
الشعر المتفلت بين النثر والتفعيلة وخطره .
دراسة
المذاهب الأدبية الغربية
والرد عليها
...
...
* نقدم دراسات عن المذاهب الفكرية والأدبية الغربية : مثل العلمانية , الحداثة ومذاهبها , البنيوية , التفكيكية , الأسلوب والأسلوبية , من خلال الكتاب والسنة .
* نأخذ من تجارب الأمم الأخرى الصناعة والعلوم التطبيقية . وأما في العلوم الإنسانية فنردها إلى منهاج الله لنأخذ الصالح ونعيد صياغته ونربطه بالإيمان والتوحيد ورسالة الإسلام ، ونرفض الباطل . ذلك كله على أساس ميزان رباني . ولا نأخذ التصور للكون والحياة والإنسان عنهم ، فعندنا التصوّر الحق الكامل الذي يجب أن ندعو كافة الناس إليه .
* نريد أن نأخذ من غيرنا اللبن الخالص لا الفرث والدم مستشهدين بقوله سبحانه وتعالى :
[ وإن لكم في الأنعام لعبره نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ]
" النحل 65 "
...
أهم الكتب والدراسات حولها
الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته .
الحداثة في منظور إيماني .
تقويم نظرية الحداثة وموقف الأدب الإسلامي منها .
الأسلوب والأسلوبية بين الأدب الملتزم بالإسلام والعلمانية.
الشعر المتفلت بين النثر والتفعيلة وخطره
المسلمون بين العلمانية وحقوق الانسان الوضعية .
الشعر والملاحم
...
...
* نؤمن بالشعر العربي الأصيل الذي يلتزم جمال بناء اللغة العربية المتميز ، ولا نؤمن بما يسمى بالشعر الحر مهما كانت أشكاله ، والحسن منه يدخل في باب النثر .
* ندعو إلى تصور جديد للملحمه في الأدب الملتزم بالإسلام لنتحرر من التصور الوثني اليوناني وأمثاله , ولنقدم تصورا نابعا من الكتاب والسنة واللغة العربية وحاجة الامة المسلمة , حتى لاتضيع الجهود فيما لا يغني .(/5)
* نؤمن أن الشعر والملاحم يجب أن يكون سلاحاً من أسلحة الدعوة الإسلامية ملتزماً النهج الإسلامي ليساهم في بناء أمتنا ونشر الحضارة الإيمانية في الأرض كلها .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
ملحمة فلسطين .
* الدواوين الشعرية :
ملحمة الأقصى .
ديوان الأرض المباركة .
ملحمة الجهاد الأفغاني .
ديوان موكب النور .
درة ألاقصى .
ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين
ملحمة البوسنة والهرسك .
ديوان جراح على الدرب .
ملحمة الإسلام في فلسطين إلى لقاء المؤمنين .
ملحمة الإسلام في الهند .
ديوان مهرجان القصيد .
ملحمة القسطنطينية .
ديوان عبر وعبرات .
ملحمة الغرباء .
أكثروا ذكر هاذم اللذات ـ أب يرثي ابنه.
ملحمة أرض الرسالات .
* الملاحم
قانون الفطرة
...
...
* إنه النظام أو القانون الثابت الذي فطر الله الناس عليها ، والذي علّمنا الله بعض خصائصه .
* إنه يفسر لنا كثيراً من قضايا الأدب الملتزم بالإسلام ، وقضايا التربية ، وكيف يتولد النصّ الأدبيّ لدى الأديب أو العطاء بصفة عامة . وكذلك يفسّر لنا كثيراً من قضايا علم النفس ، والاجتماع ، وغير ذلك.
* إن قانون الفطرة يبين لنا أن الحق الأول للإنسان هو حماية فطرته من أن تنحرف أو تلوّث أو تفسد . وهذا الحق الأول للإنسان أهملته حضارة الغرب وحذفته من اعتبارها ، بل على العكس أثارت كل العوامل التي تفسد الفطرة وتحرفها .
* قضية الإيمان والتوحيد هي قضيّة الفطرة أولاً ، لأن الفطرة هي العامل المشترك بين جميع خلق الله في جميع العصور ، والله يريد من جميع خلقه أن يؤمنوا .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
الأسلوب والأسلوبية بين الأدب الملتزم بالإسلام والعلمانية.
التربية في الإسلام : النظرية والمنهج .
الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته .
النهج الإيماني للتفكير .
الوسع الصادق والوسع الكاذب
...
...
* الوسع الصادق : هو الوسع الحقيقيّ الذي وهبه الله للإنسان ، والذي يحاسِبه على ضوئه يوم القيامة ، والذي تقوم عليه التكاليف .
* الوسع الكاذب : هو الوسع الذي يدّعيه الإنسان أو يتوهّمه ليسوّغ به عجزه وتقصيره وعدم وفائه بأمانته وعهده مع الله .
* هذا التصور للوسع ضروري في جميع ميادين الحياة حتى تحدَّد التكاليف والمناهج والنظريات على ضوء ذلك ، وحتى تصح الموازنة وتقدير الحدود والحقوق والمسؤوليات.
* وهذا التصوّر ضروريّ حتى لا يخدع الناس بعضهم بعضاً.
...
أهم الكتب والدراسات حولها
المسؤولية الفردية في الإسلام : أسسها وتكاليفها وتميزها .
النظرية العامة للدعوة الإسلامية نهج الدعوة وخطة التربية والبناء .
موجز النظرية العامة للدعوة الإسلامية والنهج العام وأساس لقاء المؤمنين .
التربية في الإسلام : النظرية والمنهج
المرأة
ومنزلتها في الإسلام
...
...
* لم يكن هنالك مشكلات خاصة بالمرأة في عصر النبوة الخاتمة والخلفاء الراشدين ،حينما كان دين الله هو الذي يحكم .
* فقد جعل الله للرّجل مسؤوليات وللمرأة مسؤوليات ، في صورة تترابط بها المسؤوليات كلها ، حتى يسهل على الرجل الوفاء بها ، ويسهل على المرأة الوفاء بها ، وليظلّ الرجل رجلاً ، وتظل المرأة مرأة ، وليقوم التعاون بين الرجل والمرأة على أساس ذلك من خلال المنهاج الربانيّ الذي فصّل كلّ شئ تفصيلاً.
* ظهرت مشكلة المرأة اليوم حين تسلل الفكر العلماني إلى قلوب بعض المنتسبين إلى الإسلام ، وأصبحت المرأة اليوم بين نهجين : الإسلام أو العلمانيّة ، وعلى المرأة أن تختار وتتحمل مسؤولية اختيارها ، وعلى المؤمنين التذكير والنصح والدعوة الصادقة إلى الله ورسوله .
* الإيمان والتوحيد هي القضية الكبرى والأخطر ، والقضيّة المشتركة للرجل والمرأة . فإذا صدق الرجل والمرأة في الإيمان والتوحيد والعلم بمنهاج الله عرف كلٌّ حدوده ومسؤولياته وحقوقه في جو من الطهر والتآلف والسكن حين تكون المرأة زوجةً أو أماً أو بنتاً أو أختاً أو رحماً يصان ويوصل .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
النظرية العامة للدعوة الإسلامية ـ نهج الدعوة وخطة التربية والبناء.
المرأة بين نهجين الإسلام أو العلمانية .
قبسات من الكتاب والسنة تدبر وظلال .
قضايا أخرى عامة تدرسها هذه السلسلة
...
...
* نشير إلى موضوعات أخرى نجد دراستها في هذه السلسلة من كتب الدعوة . ونكتفي هنا بذكر عنوانها ليعود المسلم إلى الكتب الخاصة بها :
العهد مع الله .
عهد الله .
الولاء الأول لله والعهد الأول مع الله والحب الأكبر لله ولرسوله .
البيعة وواقعنا المعاصر .
الأسس الواجبة في العهد في واقعنا اليوم .
محاسبة النفس .
النصح وأدبه وخصائصه .
الرأي وحدوده .
الحرية في الإسلام وحدودها ، وتفلتها في التصوّر العلماني .
الوقت : تقديره وتدبيره .
التعامل مع مجتمع غير مسلم من خلال الانتماء الصادق إلى الإسلام .
دراسة الواقع وقضاياه الفكرية : الشورى وممارستها الإيمانية . وغيرها .
دراسة الواقع وأحداثه مثل قضية فلسطين وغيرها .(/6)
حوار الأديان : حوار أم تقارب أو تنازل .
أسس تدبر منهاج الله والنهج والتخطيط لذلك .
العلمانية : نشأتها ومسيرتها وكيف تسللت إلى العالم الإسلامي وأهم نتائجها .
أسس الخلاف بين الإسلام والعلمانية .
الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل .
التعاون النصراني اليهودي .
قيام الحركة الصهيونية وقيام دولة اليهود بالدعم الدولي والأمريكي .
حقوق الإنسان في الإسلام ومسؤولياته والحق الأول والأكبر ، ونماذج من الحقوق .
غياب التصور الإيماني للاقتصاد وسيطرة النظام الربوي الرأسمالي .
ملامح فاصلة بين النثر والشعر ، والشعر بين البنيوية والشاعرية .
أمانة الكلمة والفكرة .
مع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " يا معشر النساء ….." وقضايا وموضوعات أخرى متعددة .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
لكل موضوع من الموضوعات المذكورة أعلاه كتاب أو أكثر يظهر في قائمة الكتب .
موضوعات ومصطلحات
...
...
* من خلال هذه الدراسات والأبحاث وضعنا مصطلحات خاصة جديدة يفرضها الموضوع والبحث . كما وضعنا مفهوماً جديداً لمصطلحات سابقة .
* من هذه المصطلحات الجديدة :
- الوسع الصادق والوسع الكاذب .
- الطبقة العائمة .
- قانون الفطرة .
- وغيرها .
* ومن المفاهيم الجديدة لمصطلحات سابقة :
- الملحمة .
- ولادة النص الأدبي والموضوع .
- الجمال الفني وعناصره والعوامل المؤثر فيه .
- الأسلوب .
- وغيرها .
* توضيح معنى بعض المصطلحات الإيمانية :
- في سبيل الله .
- النهج والتخطيط .
- الموازنة الأمينة .
- وغيرها .
...
أهم الكتب والدراسات حولها
النهج في موضوعاته ومصطلحاته
وسائر كتب النهج
مقالات في الدعوة والفكر والواقع
الافتتاح
هذا موقعك- موقع لقاء المؤمنين- يا أخي المسلم ! وهذه صفحتك ! إنها صفحة تدرس بعض قضايا الواقع الفكرية أو بعض أحداثه من خلال منهاج الله , نرد فيها كل فكر وحدث نعرضه إلى الكتاب والسنَّة ردّاًً أمينا مع البينة والحجة آيات وأحاديث , لنقدِّم بذلك النصيحة الخالصة لله ولرسوله وللمؤمنين , لكلِّ مسلم وبيت مسلم وجماعة وحركة , لكل من صحت نيته وصدقت عزيمته للوفاء بالأمانة التي خلق للوفاء بها , وللوفاء بالعهد الذي أخذه الله منه , والذي سيحاسبه عليه يوم القيامة .
إن هذه الصفحة تنضم إلى سائر الصفحات في هذا الموقع لتقدِّم النهج المترابط الذي ندعو إليه , والذي نرجو أن يكون قاعدة للقاء المؤمنين , وللنجاة من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة , ولمعالجة بعض أمراض واقع المسلمين اليوم على أساس من قواعد الإيمان و التوحيد ومنهاج الله , على طريق بناء الأمَّة المسلمة الواحدة .
الفقه
--------------------------------------------------------------------------------
فريضة طلب العلم ومسؤولية المسلم الذاتية
أمانة " الكلمة " و " الفكرة "
آيتي الصوم
ادعُ إِلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
الاجتهاد بين الخطأ والإثم
العهد الذي بيننا الصلاة
بُني الإسلام على خمس
ذكر الله
في سبيل الله
مع الآية الكريمة من سورة فاطر
فقه النفرة في سبيل الله
إِشراقة الحج
الرِّبا بين النهج الرباني والنهج العلماني جديد
إشراقة شهر رمضان المبارك وواقع المسلمين اليوم جديد
مع الأحداث
--------------------------------------------------------------------------------
الانهيار آية ونذير وعبرة
على أي أساس نتعايش
العراق والأحداث الأخيرة
مع قضية الحجاب جديد
مشروع الشرق الأوسط الكبير! جديد
قضايا فكرية
--------------------------------------------------------------------------------
الحق الأول والأكبر للإنسان : حماية الفطرة التي فطر الله الناس عليها
امتداد حقوق الإنسان
موجز المسيرة التاريخية
الحرية في ميزان الإسلام
حرية العقيدة وحرية الرأي
اختلاف الاقتصاد بين الإسلام والرأسمالية
المرأة اليوم وشعار مساواتها بالرجل !
حكمة التوازن في خلق الكون وفي سنن الله الثابتة جديد
مراحل التفكير ومراحل النهج الإيماني وخطواته جديد
من واقع المسلمين
--------------------------------------------------------------------------------
المسلمون والواقع الدولي
البعد الإنساني للأمة المسلمة الواحدة
الوقت الضائع في حياة المسلمين
لماذا يعادون الإسلام ويحاربونه
أيها المسلم ! فكّر ! فإنّك مكلّف ومسؤول ومحاسب !
العصبيات الجاهلية
قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صُدورهم أكبر !
مع الدعوة الإسلامية
--------------------------------------------------------------------------------
الداعية بين الابتلاء والتمحيص والفتنة
معالم رئيسة في واقع العمل الإسلامي
تمزق العمل الإسلامي
الالتزام في العمل الإسلامي ضعفه وأسس علاجه ومراحله جديد
بين النهج والتخطيط وبين الشعار! جديد
الفرق بين بناء وبناء … آية وعبرة ! جديد
الإدارة بين الدعوة الإسلامية والحياة العامة جديد
قواعد في الرأي والنصيحة في الإدارة الإيمانية جديد(/7)
فقه الإدارة الإيمانيّة في الدعوة الإسلامية جديد
الدعوة الإسلامية بين جوهرها في منهاج الله وبين مسيرتها المعاصرة جديد
وقفة مع نهج الدعوة الإِسلاميّة جديد
فلسطين
--------------------------------------------------------------------------------
وقفة مع الأحداث في فلسطين
دولة اليهود قامت بين الدعم الدولي والأمريكي
للمسلمين حق مشهود ولليهود باطل مردود
المسلمون و مسلسل التنازلات إلى أين؟ وإلى متى ؟
التصور الإيماني لقضية فلسطين (الحلقة الأولى) جديد
التصور الإيماني لقضية فلسطين (الحلقة الثانية) جديد
التصور الإيماني لقضية فلسطين (الحلقة الثالثة) جديد
لمحة موجزة ووقفات مع قضيّة فلسطين جديد
بيان ونصح
--------------------------------------------------------------------------------
بيان ونصح للمسلمين بعامة
دعوة ونداء
نصيحة وبيان
الأدب الإسلامي والنصح الأدبي (النقد)
--------------------------------------------------------------------------------
بين التقليد والتجديد
وقفة ورأي مع قصيدة كعب بن زهير " البردة "
الأدب بين الجمال والزخرف
الحداثة وأثرها في موضوعات الأدب الإسلامي
نظريّة الملحمة في الأدب الملتزم بالإسلام
لماذا اللغة العربية ؟ !
مع مفهوم الأدب الإسلامي جديد
الأسلوب والأسلوبية جديد
الحداثة العربية ! جديد
الحوارات
--------------------------------------------------------------------------------
حوار مع الدكتور عدنان علي رضا النحوي في مجلة الأسرة : حول "الانتفاضة"
حوار مع الدكتور عدنان علي رضا النحوي في مجلة اليمامة : حول "حوار الأديان"
حوار لصحيفة اللواء الأردنية مع الدكتور عدنان علي رضا النحوي في باب " نجوم حاضرة العطاء" جديد
حوار موقع : " الشبيبة الإسلامية المغربية " جديد
حوار مجلة الفرقان مع الدكتور عدنان علي رضا النحوي جديد
ردود وتعقيبات
--------------------------------------------------------------------------------
تعقيب على كلمة الأستاذ حمدي عبد العزيز شهاب في مجلة الرسالة جديد
وقفة مع الحداثة العربية جديد
تعقيب على حوار " الدستور " مع د. الزيات جديد
ـ النظرية العامة للدعوة الإسلامية
النجاة من فتنة
الدنيا وعذاب الآخرة
... ...
الهدف الأكبر والأسمى : الدار الأخرة ورضوان الله والجنة
بالنجاة من فتنة الدنيا وعذاب الأخرة
... ...
الهدف الأكبر
والأسمى
... ...
... ...
نمو الإتقان
والإحسان
... ...
نمو الإتقان والإحسان في الجهد البشري المؤمن من خلال المضي على الصراط المستقيم وعلى أساس من الإيمان والتوحيد ومنهاج الله ووعي الواقع من خلالهما ، الإتقان والإحسان الذي يرافق عمل المؤمن من بدايته
... ...
المضي على الصراط
المستقيم
... ... ... ...
سلامة الممارسة الإيمانية وتحقيق الأهداف الربانية الثابتة في الواقع البشري والأهداف المرحلية
... ...
8 ـ التقويم الدوري .
7 ـ المؤسسات الإيمانية .
6 ـ ميزان المؤمن .
5 ـ الإدارة والنظام : المسؤوليات والصلاحيات وحدودهما ،
الإشراف ، المتابعة ، التنسيق ، التوجيه ..
4 ـ النهج والتخطيط لكل ميدان تخوضه الدعوة :
أ ـ ميدان الدعوة والبلاغ والبيان .
ب ـ ميدان التربية والبناء والإعداد .
ج ـ ميدان التدريب على الممارسة الإيمانية .
د ـ ميدان الأدب ودوره في الدعوة الإسلامية .
هـ ـ ميدان الجهاد في سبيل الله .
و ـ كل ميدان جديد تخوضه الدعوة .
3 ـ النهج والتخطيط العام للدعوة : إخلاص النية لله ، النظرية العامة ،
أسس النهج والتخطيط ، الأهداف والمراحل والدرب ، الوسائل والأساليب .
2 ـ المنهج الإيماني للتفكير .
1 ـ الأسس الأربعة السابق ذكرها .
... ...
عناصر التنفيذ
... ... ... ...
تتحول المشكلات الرئيسة إلى أسس أربعة بعد معالجتها في نفس الداعية
... ...
4 ـ اضطراب الممارسة الإيمانية في الواقع البشري .
3 ـ غياب دراسة الواقع وعدم وعيه من خلال منهاج الله .
2 ـ هجر الكثير من الناس لمنهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربية .
1 ـ الخلل في التصوّر لقضية الإيمان والتوحيد والبذل لها .
... ...
القضايا والمشكلات الأربع الكبرى الرئيسة في الميدان
الزاد الرئيس للداعية المؤمن
ومنطلقه
... ...
الركن الأول المنهاج الرباني تدبراً وممارسة
... ... الركن الثاني الواقع دراسته من خلال منهاج الله ... ... ...
الركنان
الرئيسان
...
قضية الإيمان والتوحيد هي القاعدة الصلبة للدعوة الإسلامية وجوهرها ، والقضية الكبرى في حياة كل إنسان ، والحقيقة الكبرى في الكون ، والهدف الثابت الأول في الدعوة ، والمنطلق والزاد الأول للداعية .
2ـ المنهاج الفردي نظريته ومراحله في جداول :
أ ـ نظرية المنهاج الفردي في جداول :
أ ـ 1 : البنود الرئيسة الأساسية في النظرية :
المنهاج الربّاني
... ...
الواقع
... ...
الممارسة الإِيمانيّة والتدريب(/8)
أ ـ 2 : البنود الرئيسة والمساعدة لتدبّر منهاج الله وممارسته :
المنهاج الربّاني
... ...
الواقع
... ...
العلوم المساعدة
... ...
فقه الدعوة
... ...
الممارسة الإِيمانيةوالتدريب
أ ـ 3 : البند الأول وفقراته :
المنهاج الربَّاني
القرآن الكريم
...
السنة المطهرة
...
اللغة العربية
أ ـ 4 : الفقرة الأولى وعناصرها :
القرآن الكريم
التلاوة
...
الدراسة
...
الحفظ
...
المراجعة
أ ـ 5 : الفقرة الثانية وعناصرها :
السنّة
الدراسة
...
المراجعة
أ ـ 6 : الفقرة الثالثة وعناصرها :
اللغة العربية
النحو والصرف
...
البلاغة
...
الأَدب الإِسلامي
...
الخط العربي
أ ـ 7 : البند الأول وفقراته وعناصره :
المنهاج الربّاني
القرآن الكريم
...
السنة المطهرة
...
اللغة العربية
التلاوة
...
الدراسة
...
الحفظ
...
المراجعة
...
الدراسة
...
المراجعة
...
النحو والصرف
...
البلاغة
...
الأدب الإسلامي
...
الخط العربي
... ... ... ... ... ... ... ... ...
أ ـ 8 : البند الثاني وفقراته :
الواقع
الشخصي
...
الآني
...
المنهجي
أ ـ 9 : العلوم المساعدة :
العلوم المساعدة
السيرة
...
الخلفاء الراشدون
...
حياة الصحابة والتابعون
...
التاريخ الإسلامي
...
علوم القرآن
...
مصطلح الحديث
...
أُصول الفقه
أ ـ 10 : الممارسة الإيمانية :
قواعد أساسية للتذكير والمراجعة
الدورّية
...
التدريب على قواعد الممارسة الإيمانية
...
الأشهر
...
الشعائر والأذكار
...
التذكير بالقواعد الأساسية
...
التدريب على الممارسة الإيمانية
...
التدريب على الدعوة والبلاغ والبيان
...
التدريب على قواعد : صحية ورياضية واجتماعية وإعلامية والتدريب على النهج الإيماني للتفكير ( مشكلة وحلها ) رعاية المواهب وتنميتها
ب ـ مراحل المنهاج الفردي في جداول : ـ
· المرحلة الأُولى :ـ
المنهاج الرباني
...
الواقع
...
الممارسة الإيمانية
القرآن الكريم
...
اللغة العربية
...
(1) أهمية دراسة الواقع في النظرة الإِيمانية.
(2) نظريته :
ـ الشخصي .
ـ الآني .
ـ المنهجي .
...
(1) أسس التوحيد .
(2) الشعائر التعبدية .
(3) القواعد الإيمانية الأَساسية للممارسة الإِيمانية .
(4) قضية للتدريب على التفكير والحل ، وتنمية المواهب .
التلاوة
...
حسب مستوى المسلم
· المرحلة الثانية :ـ
المنهاج الرباني
...
الواقع
...
الممارسة الإِيمانية ( العمل الصالح )
القرآن الكريم
...
السنة
...
اللغة العربية
...
(1) الإنسان وطبيعته ودراسة الناس .
(2) الدراسة النامية .
(3) الواقع الآني .
...
(1) الشعائر .
(2) المحاسبة والتذكير .
(3) الذكر والدعاء وأسس التوحيد .
(4) مجاهدة النفس وسائر أبواب الجهاد .
(5) المبادرة الذاتية .
(6) التزام المؤمن لحدوده وانزال الناس منازلهم .
(7) الدعوة إِلى الله ورسوله والمساهمة في إعداد القوة في الأُمة لتحقيق أَهداف لقاء المؤمنين والجهاد في سبيل الله
(8) قضية للتدريب على التفكير والحل ، وتنمية المواهب .
التلاوة
...
الدراسة
...
...
...
حسب المستوى
· المرحلة الثالثة : ـ
البند
...
المنهاج الربانّي
...
الواقع
...
العلوم المساعدة
...
فقه الدعوة
...
الممارسة الإِيمانية والتدريب عليها
الفقرة
...
القرآن الكريم
...
السنة
...
اللغة العربية
...
ـ الشخصي.
ـ الآني .
ـ المنهجي .
...
السيرة والصحابة .
...
(1) فقه الشعائر .
(2) التوحيد وواقعنا المعاصر .
(3) الولاء بين منهاج الله والواقع .
(4) النية في الإسلام وبعدها الإنساني .
(5) الحوافز الإيمانية بين المبادرة والالتزام .
(6) المسئولية الفردية .
...
(7) الشعائر والأذكار .
(8) تذكير بما سبق .
(9) النصيحة .
(10) الرأي .
(11) السمع والطاعة في الإسلام .
(12) قضية للتدريب على التفكير والحل وتنمية المواهب .
العناصر
...
التلاوة والتدبر
...
الدراسة
...
الحفظ والتدبر
...
المراجعة
...
الدراسة
...
المراجعة
...
النحو والصرف
المرجع
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
المعدل
...
اليومي
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
الأسبوعي
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
الشهري
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
السنوي
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
الأشهر
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ج ـ المنهاج الفردي لمرحلة التأهيل :
1 ـ الدراسة والتدبر
البند
...
المنهاج الرباني
...
الواقع
...
موضوعات مختارة من كتب الدعوة مع التدريب
...
موضوعات مختارة من الدراسة التوجيهية مع التدريب
...
موضوعات مختارة من فقه الإدارة الإيمانية مع التدريب
...
العلوم المساعدة السيرة والصحابة والتابعون
الفقرة
...
القرآن الكريم
...
السنة
دراسة ومراجعة
...
اللغة العربية
...
إذاعة
...
صحيفة
...
مجلة
...
الدراسة المنهجية
...
العلم التخصصي
العنصر
...
تلاوة
...
دراسة
...
حفظ
...
مراجعة
...
دراسة وحفظ
...
فقرة من الملحق
...
المرجع
...(/9)
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
المعدل
...
اليومي
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
الأسبوعي
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
الشهري
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
السنوي
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
الخطة الأسبوعية
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
البداية
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
محرم
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
صفر
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ربيع الأول
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ربيع الثاني
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
جمادى الأولى
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
جمادى الثانية
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
رجب
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
شعبان
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
رمضان
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
شوال
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ذو القعدة
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ذو الحجة
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ملحق العلوم المساعدة
السيرة
...
صحابة وتابعون
...
التاريخ الإسلامي
...
علوم القرآن
...
مصطلح الحديث
...
أصول الفقه
ملحق اللغة العربية
النحو والصرف
...
البلاغة
...
الأدب الإسلامي
...
الخط العربي
ج ـ المنهاج الفردي لمرحلة التأهيل
2 ـ الممارسة الإيمانية والتدريب
قواعد إيمانية أساسية
(للتذكير والمراجعة )
...
التدريب على قواعد في الممارسة الإيمانية والتطبيق
...
الشهر
...
الشعائر
...
التذكير بالقواعد الأساسية
...
التدريب على الممارسة الإيمانية ـ
و مشكلة للتدريب على التفكير والحل ، تنمية المواهب
...
التدريب على الدعوة والبيان
...
التدريب على قواعد في النشاط
...
1ـ الإيمان والتوحيد .
2ـ النية .
3ـ الولاء .
4ـ العهد .
5ـ الأهداف .
6ـ النظرية العامة للدعوة .
7ـ النهج والخطة .
8ـ الروابط الإيمانية يتم التذكير بهذه القضايا تذكيراً سريعاً بين فترة وأخرى كل ستة أشهر على الأقل .
ويتم مراجعتها مراجعة عملية مع بداية كل عام والتركيز على المراجع لها وربطها بالكتاب والسنة والواقع . ويكون هناك مراجعة وتركيز أوسع من ذلك كل عدد من السنين حسب الحاجة التي يشعر بها الداعية .
...
1ـ قضايا إيمانية في حياة الفرد المسلم .
أ ـ النية : وسائل وأساليب التذكير والتجديد والتثبيت .
ب ـ حسن أداء الشعائر والخشوع فيها .
ج ـ الأذكار خلال اليوم كله من الاستيقاظ وحتى النوم .
د ـ مجاهدة النفس وأبواب الجهاد في سبيل الله كلها .
هـ ـ الإنفاق في سبيل الله .
رـ الممارسة الإيمانية وخصائصها .
زـ المبادرة الذاتية .
ح ـ. معرفة المسلم لحدوده .
ط ـ الموازنة بين المسئوليات المختلفة وبين العبادة الذاتية للمسلم
2ـ قضايا إيمانية في حياة الأسرة المسلمة .
أ ـ الدعوة ومراحلها المختلفة .
ب ـ الآداب الإسلامية في العلاقات والمعاملات والنوم والطعام وغير ذلك .
ج ـ النوم المبكر والاستيقاظ المبكر .
د ـ وسائل الراحة والتنشيط .
هـ ـ حدود العلاقات مع ذوي القربى والأرحام والأصحاب .
3 ـ قضايا إيمانية في الحياة الاجتماعية .
أ ـ الآداب العامة في المجتمع والنشاط الاجتماعي .
ب ـ إنزال الناس منازلهم .
ج ـ الموازنة بين مسئوليات الفرد والأمة .
د ـ السفر والرحلات .
هـ ـ الرياضة والقواعد الصحية .
و ـ التعاون وتنمية روح الجماعة بين أفراد الأمة .
4 ـ قضايا إيمانية في حياة الأمة .
أ ـ رد الأمور إلى منهاج الله .
ب ـ النصيحة وآدابها وقواعدها .
ج ـ حرية الرأي وحدوده .
د ـ السمع والطاعة .
هـ ـ الموازنة عند تحديد الرأي والموقف .
و ـ الخطأ والصواب .
ز ـ آداب الاختلاف وحدوده .
ح ـ الإدارة والنظام .
ط ـ النهج والتخطيط .
ي ـ الشورى وممارستها الإيمانية .
5 ـ التقويم .
أ ـ قواعد التقويم على أساس منهاج الله .
ب ـ التقويم الدوري .
ج ـ امتداد التقويم : النهج ، الوسائل ، الأسلوب ، العمل والممارسة .
6ـ ميزان المؤمن .
يستمر التدريب مع تجدد القضايا الإيمانية وقواعدها من الكتاب والسنة وعلى ضوء حاجة الواقع المتجددة .
...
صلاة الجماعة
...
صلاة الفجر في المسجد
...
الصيام
...
القيام
...
نوافل أخرى
...
الصحي
...
الاجتماعي
...
الإعلام
...
الاقتصاد
3 أيام في الشهر
...
3 ليال في الشهر
الخطة الأسبوعية
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
محرم
...
...(/10)
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
صفر
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ربيع الأول
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ربيع الثاني
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
جمادى الأولى
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
جمادى الثانية
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
رجب
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
شعبان
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
رمضان
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
شوال
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ذو القعدة
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ذو الحجة
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
دـ المنهاج الفردي للأبناء
المرحلة الابتدائية والمتوسطة: الدراسة والممارسة :
1 ـ الدراسة والتدبر .
البند
...
المنهاج الرباني
...
الواقع
...
قصص من السيرة والصحابة والتابعين
الفقرة
...
القرآن الكريم
...
السنة
...
اللغة العربية
...
إذاعة
صحيفة مجلة
...
الواقع المنهجي مبسَّط
العنصر
...
تلاوة وتدبر
(4)
...
حفظ وتدبر
(2)
...
مراجعة
(3)
...
دراسة ومراجعة
(4)
...
النحو و الأدب
(5)
...
(6)
...
(7)
...
(8)
المرجع
...
...
...
...
...
...
...
...
المعدل
...
اليومي
...
...
...
...
...
...
...
...
الأسبوعي
...
...
...
...
...
...
...
...
الشهري
...
...
...
...
...
...
...
...
السنوي
...
...
...
...
...
...
...
...
الخطة الأسبوعية
...
...
...
...
...
...
...
...
البداية
...
...
...
...
...
...
...
...
محرم
...
...
...
...
...
...
...
...
صفر
...
...
...
...
...
...
...
...
ربيع الأول
...
...
...
...
...
...
...
...
ربيع الثاني
...
...
...
...
...
...
...
...
جمادى الأولى
...
...
...
...
...
...
...
...
جمادى الثانية
...
...
...
...
...
...
...
...
رجب
...
...
...
...
...
...
...
...
شعبان
...
...
...
...
...
...
...
...
رمضان
...
...
...
...
...
...
...
...
شوال
...
...
...
...
...
...
...
...
ذو القعدة
...
...
...
...
...
...
...
...
ذو الحجة
...
...
...
...
...
...
...
...
د ـ المنهاج الفردي للأبناء :
المرحلة الابتدائية والمتوسطة : الدراسة والممارسة : ـ
(2) الممارسة الإيمانية والتدريب
قواعد إيمانية أساسية
(للتذكير والمراجعة )
...
التدريب على قواعد في الممارسة الإيمانية والتطبيق
...
الشهر
...
الشعائر
...
التذكير بالقواعد الأساسية
8،4،3،2،1
...
التدريب على الممارسة الإيمانية
2،1 ـ مشكلة للتدريب على للتفكير والحل ، وتنمية المواهب
...
التدريب على قواعد النشاط
...
1ـ الإيمان والتوحيد .
2ـ النية .
3ـ الولاء .
4ـ العهد .
5ـ الأهداف .
6ـ النظرية العامة للدعوة .
7ـ النهج والخطة .
8ـ الروابط الإيمانية يتم التذكير بهذه القضايا تذكيراً سريعاً بين فترة وأخرى كل ستة أشهر على الأقل .
ويتم مراجعتها مراجعة عملية مع بداية كل عام والتركيز على المراجع لها وربطها بالكتاب والسنة والواقع . ويكون هناك مراجعة وتركيز أوسع من ذلك كل عدد من السنين حسب الحاجة التي يشعر بها الداعية .
...
1ـ قضايا إيمانية في حياة الفرد المسلم .
أ ـ النية : وسائل وأساليب التذكير والتجديد والتثبيت .
ب ـ حسن أداء الشعائر والخشوع فيها .
ج ـ الأذكار خلال اليوم كله من الاستيقاظ وحتى النوم .
د ـ مجاهدة النفس وأبواب الجهاد في سبيل الله كلها .
هـ ـ الإنفاق في سبيل الله .
رـ الممارسة الإيمانية وخصائصها .
زـ المبادرة الذاتية .
ح ـ. معرفة المسلم لحدوده .
ط ـ الموازنة بين المسئوليات المختلفة وبين العبادة الذاتية للمسلم
2ـ قضايا إيمانية في حياة الأسرة المسلمة .
أ ـ الدعوة ومراحلها المختلفة .
ب ـ الآداب الإسلامية في العلاقات والمعاملات والنوم والطعام وغير ذلك .
ج ـ النوم المبكر والاستيقاظ المبكر .
د ـ وسائل الراحة والتنشيط .
هـ ـ حدود العلاقات مع ذوي القربى والأرحام والأصحاب .
3 ـ قضايا إيمانية في الحياة الاجتماعية .
أ ـ الآداب العامة في المجتمع والنشاط الاجتماعي .
ب ـ إنزال الناس منازلهم .
ج ـ الموازنة بين مسئوليات الفرد والأمة .
د ـ السفر والرحلات .
هـ ـ الرياضة والقواعد الصحية .
و ـ التعاون وتنمية روح الجماعة بين أفراد الأمة .
4 ـ قضايا إيمانية في حياة الأمة .
أ ـ رد الأمور إلى منهاج الله .
ب ـ النصيحة وآدابها وقواعدها .
ج ـ حرية الرأي وحدوده .
د ـ السمع والطاعة .
هـ ـ الموازنة عند تحديد الرأي والموقف .
و ـ الخطأ والصواب .
ز ـ آداب الاختلاف وحدوده .
ح ـ الإدارة والنظام .
ط ـ النهج والتخطيط .
ي ـ الشورى وممارستها الإيمانية .
5 ـ التقويم .
أ ـ قواعد التقويم على أساس منهاج الله .
ب ـ التقويم الدوري .(/11)
ج ـ امتداد التقويم : النهج ، الوسائل ، الأسلوب ، العمل والممارسة .
6ـ ميزان المؤمن .
يستمر التدريب مع تجدد القضايا الإيمانية وقواعدها من الكتاب والسنة وعلى ضوء حاجة الواقع المتجددة .
...
صلاة الجماعة
...
صلاة الفجر في المسجد
...
الصيام
...
القيام
...
نوافل أخرى
...
الصحي
...
الرياضي
3 أيام في الشهر
...
3 ليال في الشهر
الخطة الأسبوعية
...
...
...
...
...
...
...
...
...
محرم
...
...
...
...
...
...
...
...
...
صفر
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ربيع الأول
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ربيع الثاني
...
...
...
...
...
...
...
...
...
جمادى الأولى
...
...
...
...
...
...
...
...
...
جمادى الثانية
...
...
...
...
...
...
...
...
...
رجب
...
...
...
...
...
...
...
...
...
شعبان
...
...
...
...
...
...
...
...
...
رمضان
...
...
...
...
...
...
...
...
...
شوال
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ذو القعدة
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ذو الحجة
...
...
...
...
...
...
...
...
...
د : المنهاج الفردي للأبناء
المرحلة الثانوية : الدراسة والممارسة : ـ
1ـ الدراسة والتدبر :
البند
...
المنهاج الرباني
...
الواقع
...
فقه الدعوة
...
علوم مساعدة
سيرة
الفقرة
...
القرآن الكريم
...
السنة
...
اللغة العربية
...
إذاعة
صحيفة مجلة
...
الواقع المنهجي
العنصر
...
تلاوة وتدبر
(4)
...
حفظ وتدبر
(2)
...
مراجعة
(3)
...
دراسة ومراجعة
(4)
...
النحو ـ البلاغ ـ الأدب
(5)
...
(6)
...
(7)
...
(8)
...
(9)
المرجع
...
...
...
...
...
...
...
...
...
المعدل
...
اليومي
...
...
...
...
...
...
...
...
...
الأسبوعي
...
...
...
...
...
...
...
...
...
الشهري
...
...
...
...
...
...
...
...
...
السنوي
...
...
...
...
...
...
...
...
...
الخطة الأسبوعية
...
...
...
...
...
...
...
...
...
البداية
...
...
...
...
...
...
...
...
...
محرم
...
...
...
...
...
...
...
...
...
صفر
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ربيع الأول
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ربيع الثاني
...
...
...
...
...
...
...
...
...
جمادى الأولى
...
...
...
...
...
...
...
...
...
جمادى الثانية
...
...
...
...
...
...
...
...
...
رجب
...
...
...
...
...
...
...
...
...
شعبان
...
...
...
...
...
...
...
...
...
رمضان
...
...
...
...
...
...
...
...
...
شوال
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ذو القعدة
...
...
...
...
...
...
...
...
...
ذو الحجة
...
...
...
...
...
...
...
...
...
د : المنهاج الفردي للأبناء :
المرحلة الثانوية : الدراسة والممارسة
(2) الممارسة الإيمانية والتدريب .
قواعد إيمانية أساسية
(للتذكير والمراجعة )
...
التدريب على قواعد في الممارسة الإيمانية والتطبيق
...
الشهر
...
الشعائر
...
التذكير بالقواعد الأساسية
...
التدريب على الممارسة الإيمانية
(1 ـ 5) ـ
و مشكلة للتدريب على التفكير والحل وتنمية المواهب
...
التدريب على الدعوة والبيان
...
التدريب على قواعد في النشاط
...
1ـ الإيمان والتوحيد .
2ـ النية .
3ـ الولاء .
4ـ العهد .
5ـ الأهداف .
6ـ النظرية العامة للدعوة .
7ـ النهج والخطة .
8ـ الروابط الإيمانية يتم التذكير بهذه القضايا تذكيراً سريعاً بين فترة وأخرى كل ستة أشهر على الأقل .
ويتم مراجعتها مراجعة عملية مع بداية كل عام والتركيز على المراجع لها وربطها بالكتاب والسنة والواقع . ويكون هناك مراجعة وتركيز أوسع من ذلك كل عدد من السنين حسب الحاجة التي يشعر بها الداعية .
...
1ـ قضايا إيمانية في حياة الفرد المسلم .
أ ـ النية : وسائل وأساليب التذكير والتجديد والتثبيت .
ب ـ حسن أداء الشعائر والخشوع فيها .
ج ـ الأذكار خلال اليوم كله من الاستيقاظ وحتى النوم .
د ـ مجاهدة النفس وأبواب الجهاد في سبيل الله كلها .
هـ ـ الإنفاق في سبيل الله .
رـ الممارسة الإيمانية وخصائصها .
زـ المبادرة الذاتية .
ح ـ. معرفة المسلم لحدوده .
ط ـ الموازنة بين المسئوليات المختلفة وبين العبادة الذاتية للمسلم
2ـ قضايا إيمانية في حياة الأسرة المسلمة .
أ ـ الدعوة ومراحلها المختلفة .
ب ـ الآداب الإسلامية في العلاقات والمعاملات والنوم والطعام وغير ذلك .
ج ـ النوم المبكر والاستيقاظ المبكر .
د ـ وسائل الراحة والتنشيط .
هـ ـ حدود العلاقات مع ذوي القربى والأرحام والأصحاب .
3 ـ قضايا إيمانية في الحياة الاجتماعية .
أ ـ الآداب العامة في المجتمع والنشاط الاجتماعي .
ب ـ إنزال الناس منازلهم .
ج ـ الموازنة بين مسئوليات الفرد والأمة .
د ـ السفر والرحلات .
هـ ـ الرياضة والقواعد الصحية .
و ـ التعاون وتنمية روح الجماعة بين أفراد الأمة .
4 ـ قضايا إيمانية في حياة الأمة .
أ ـ رد الأمور إلى منهاج الله .
ب ـ النصيحة وآدابها وقواعدها .(/12)
ج ـ حرية الرأي وحدوده .
د ـ السمع والطاعة .
هـ ـ الموازنة عند تحديد الرأي والموقف .
و ـ الخطأ والصواب .
ز ـ آداب الاختلاف وحدوده .
ح ـ الإدارة والنظام .
ط ـ النهج والتخطيط .
ي ـ الشورى وممارستها الإيمانية .
5 ـ التقويم .
أ ـ قواعد التقويم على أساس منهاج الله .
ب ـ التقويم الدوري .
ج ـ امتداد التقويم : النهج ، الوسائل ، الأسلوب ، العمل والممارسة .
6ـ ميزان المؤمن .
يستمر التدريب مع تجدد القضايا الإيمانية وقواعدها من الكتاب والسنة وعلى ضوء حاجة الواقع المتجددة .
...
صلاة الجماعة
...
صلاة الفجر في المسجد
...
الصيام
...
القيام
...
نوافل أخرى
...
الصحي
...
الرياضي
3 أيام في الشهر
...
3 ليال في الشهر(/13)
أهمية أعمال القلب
يتناول الدرس جانبا من جوانب الإيمان وهو أعمال القلوب فيبين أهميته ومنزلته في الإيمان، وحياة القلوب وموتها، وأقسام القلوب، ثم يبين جملة من أعمال القلب الأساسية، ويتناول موقف أهل البدع وضلالهم في أعمال القلوب .
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد؛
فإنها لفرصة عظيمة أن نلقي الضوء على جانب عظيم، ومهم جداً من جوانب الإيمان، وهو ما يتعلق بأعمال القلوب التي غفل كثير من الناس عن أهميتها، وحال هذه القلوب من التزكية، فإذا صلحت هذه القلوب فإن الحال يكون كما في الحديث : 'إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ' رواه البخاري ومسلم وابن ماجه والدارمي وأحمد . وهذا الدين إنما نزل في حقيقته لتزكية القلوب، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم أنه: ' دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ ' رواه أحمد . ودعوة إبراهيم هي قوله:} رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [ 129 ] { سورة البقرة ، فإبراهيم عليه السلام دعا الله: أن يبعث في هذه الأمة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأهداف . وقد استجاب الله سبحانه وتعالى دعوة إبراهيم عليه السلام كما في قوله: }هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [ 2 ] { سورة الجمعة ، ونلحظ هنا أن التزكية تقدمت على التعليم _ ولاشك أن الإنسان لا يمكن أن يتزكى إلا بأن يتعلم الهدى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم _ وهذا من باب تقديم الغاية على الوسيلة التي تؤدي إلى هذه الغاية، فالأصل : هو تزكية هذه القلوب التي هي موضع نظر الله من العبد كما في الحديث:' إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ' رواه مسلم.
حياة القلب وموته: فالحياة : حياة القلب، والموت:موت القلب، والمرض:مرض القلب، ولذلك نجد آيات كثيرة تتحدث عن أعمال القلوب وتبين لنا أهمية القلب فمثلاً، لما جاء الأعراب، وقالوا : } قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [14] { سورة الحجرات، فالأعراب أسلموا بمعنى:حصل منهم الانقياد الظاهر، وأصل الإقرار، والتصديق بالقلب،ولكن لم يصل القلب بعد إلى أن يكون قد آمن حقاً، فالإيمان في الحقيقة هو إيمان القلب،ولهذا قال: } وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ[7] { سورة الحجرات ، والتقوى أيضاً هي تقوى القلب، كما قال الله: }ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [32] { سورة الحج ، ويقول صلى الله عليه وسلم:'التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ' رواه مسلم، وأحمد .والتقوى تشمل كل أعمال الخير والبر والصلاح، ولاسيما إذا أفردت .
أقسام القلوب : القلوب تسلم، أو تقسو، أو تمرض :
أما سلامة القلوب : فكما في قول الله : }يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ [88] إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [89] {سورة الشعراء، أي: خالص متجرد من الشرك، أو النفاق، أو الرياء . ويقول الله عن سلامة القلب : }إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [84] {سورة الصافات، فإبراهيم عليه السلام حقق ذلك، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإقتداء به؛ لأن قلبه عليه السلام سلم من الشرك، ومن الولاء لغير الله، ومن المداهنة، أو الرياء، أو النفاق، فخلص، وتجرد، وتطهر لله وحده لا شريك له .
و أما مرض القلب : فكما قال الله: }أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ[50 ] {سورة النور، وقال: }فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً [10 ] {سورة البقرة، فالقلوب إذن هي التي تطمئن، وتسلم من المرض، فتكون كما قال الله: }الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[28 ] {سورة الرعد .
وأما موت القلب : فإنه إذا اشتد به المرض؛ حصل الموت، والموت:هو القسوة كما في قول الله: }ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ [74] {سورة البقرة ، وفي قوله تعالى أيضاً : }فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم [ 22] {سورة الزمر .
أعمال القلوب: الأعمال القلبية كثيرة جداً منها :(/1)
الوجل: كما في قوله تعالى : }وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [60] {سورة المؤمنون،وفي قوله تعالى : }الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [2] {سورة الأنفال.
وهي قطعاً محلها القلب ؛ ولذلك يقول الله: } وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا[165]{ سورة البقرة ، ويقول: }قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [31]{ سورة آل عمران .
الإخلاص: وبالإخلاص يكون الفارق بين المؤمنين وبين المنافقين، فإذا أردنا أن نفرق بين المؤمنين والمنافقين فالصدق والإخلاص أساس ذلك وهما أعظم أعمال القلوب ومعهما المحبة واليقين ، قال تعالى: } وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ[5]{ سورة البينة.
الإخبات: وهو دليل على كمال الانقياد والإذعان ، و الإخبات هو: الخضوع الكامل المطلق، فليس لديه أي اعتراض على ما يأتي من عند الله تبارك وتعالى ، فهو مسلم كما قال الله عز وجل: } فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[65]{ سورة النساء.
الإنابة:} وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [54]{ سورة الزمر ، الإنابة ومعناها قريب من معنى الإخبات، و أناب في اللغة معناه: عاد ورجع، فالإنابة: أن يعود الإنسان ويرجع إلى الله رجوعاً كلياً متجرداً خالصاً لله، يرجع عن كل ما لديه من أهواء، و شهوات، و نوازع ويجعل همه هو رضاء الله.
الخشية: العلماء بالله هم الذي يخشون الله، كما قال تعالى:}إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [28]{سورة فاطر ، ولا خير في علم لا يؤدي إلى خشية الله .
الخشوع: } أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [16]{سورة الحديد .
الفرح: }قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [ 58]{سورة يونس.
كيف ضلت الأمة في أعمال القلوب ؟ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، والسلف الصالح، فهموا كتاب الله تبارك وتعالى، وأقاموه علماً وعملاً، علموا أهمية الإخلاص واليقين والصدق والمحبة وغير ذلك من أعمال القلوب، فتحققت فيهم العبودية الكاملة لله، وعلموا أن لا إله إلا الله ليست كلمة تقال باللسان، وعلموا أن الإنسان إذا انقاد بقلبه وخضع وخشع، فلابد أن يعمل وأن تنقاد جوارحه؛ ولذلك كانت حياتهم واقعاً وترجمة وتجسيداً لهذه الحقائق الإيمانية التي تعيشها قلوبهم . أما في العصور المتأخرة لأهل السنة والجماعة فإنه اعتراهم قدر من الضعف، وانحسر مفهوم شهادة أن لا إله إلا الله، ولم تعد بتلك القوة وفي تلك القمة العالية التي كانت عليها القرون الثلاثة، ولذلك كم من المسلمين ومن طلاب العلم من يدرك شروط لا إله إلا الله؟ وما هي شروط لا إله إلا الله؟ شروطها: العلم والإخلاص واليقين والصدق والقبول والمحبة والانقياد، إذاً رجعنا لأعمال القلب التي نتحدث عنها، فـ :'لا إله إلا الله' تقتضي هذا وهذه شروطها وأساسيات الإيمان .
موقف أهل البدع من أعمال القلوب
الطائفة الأولى :أهل الكلام، فهذا هو الجويني يقول: إن الإيمان هو التصديق دون سائر أعمال القلب والجوارح. وإذا تجرد التصديق عن العمل، عن بقية أعمال القلب والجوارح؛ فإنه يصبح في الحقيقة علماً مجرداً أو معرفة مجردة لا أكثر ولا أقل، فترتب على هذا الكلام خطر عظيم، وهو الواقع في أحوال المسلمين اليوم، فإنهم اعتقدوا أن الكفر هو التكذيب، ما دام أن الإيمان هو التصديق، أو الصدق، فإن الكفر هو التكذيب، فمن اعتقد أن الله حق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فقد صدق وهو مؤمن، فأهملوا التوكل والاستعانة واليقين والإخلاص ... وغير ذلك؛ فاستُعين بغير الله، واستُغيث بغير الله، ودُعي غير الله، وعُبد غير الله؛ فامتلأت بلاد العالم الإسلامي بالقبور، والأضرحة، والمشاهد، والمزارات، وأصبح الناس يتقربون ويطوفون ويدعون ويبتهلون ويتضرعون ويذبحون ويهدون، وكل هذه الأمور تقع، وإذا قلت: هذا شرك، وهؤلاء يقعون في الشرك، قالوا: أين الشرك، أين الكفر؟ لأنهم تعلموا أن الكافر هو الذي كذب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمن به، وهذا يطوف... يدعو... يستغيث، ويذبح لغير الله... للولي... للشيخ، لكنه مصدق !!!(/2)
الطائفة الثانية :والتي انحرفت انحرافاً عظيماً في أعمال القلوب: وهم الصوفية وما أدراك ما الصوفية؟ الصوفية في الحقيقة لم يهملوا أعمال القلب، بل انحرفوا فيها انحرافاً عظيماً، فهم من جنس الضالين. فأكثر ما يدعون ويتكلمون عن أعمال القلوب، ولكن كيف يفهمون أعمال القلوب؟ التوكل مثلاً هل فهموه على حقيقته؟ ماذا يعتقد الصوفية في التوكل؟ هو التواكل، التواكل، وترك الأخذ بالأسباب: مثلاً يريد أن يذهب من بغداد، أو من خراسان إلى بيت المقدس، فيخرج في البرية من غير زاد ، وذلك ثقة في الله، وتوكلاً عليه، ولا يأخذ أي شيء، وهكذا يهيم في الصحراء... هذه الدرجة العليا من التوكل عند الصوفية، فسبحان الله! كيف حال الأمة الإسلامية لو كانت أخذت بذلك؟ لو أخذت بذلك؛ لتركت الأسباب، ولتواكلت، ولأفنُيت تماماً، فيفنيها التتار والصليبيون وأمثالهم، والمقصود من هذا النموذج بيان خلل الصوفية في فهم أعمال القلوب كالتوكل. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما نسمع ونقول إنه سميع مجيب.
من محاضرة أهمية أعمال القلب
الشيخ/ سفر الحوالي(/3)
أهمية الأدب في حياة المسلم
يتناول الدرس الأدب الذي هو من صميم هذا الدين وقد غفل عنه كثير من الناس، وهو ضروري للمسلم مع الله، ومع الرسل، ومع الخلق . وضروري له في أحواله، فتحدث عن الأدب ماهو وما أهمية هذا الأدب،و أنواع الأدب،و نماذج من أدب الأنبياء والصالحين مع الله ،وأقوال العلماء في أهمية الأدب .
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، فالحمد لله الذي أنزل علينا هذا الدين، وأنزل فيه الأدب الذي تصلح به الحياة، وهذا الأدب الذي هو من صميم هذا الدين أمر غفل عنه كثير من الناس، وهو ضروري للمسلم مع الله، ومع الرسل، ومع الخلق . وضروري له في أحواله، حتى لو كان لوحده؛ فبالأدب يعرف المسلم ماذا ينبغى أن يكون عليه حاله في طعامه وشرابه، وفي سلامه واستئذانه، وفي مجالسته وحديثه، وفي طرائفه ومزاحه، وفي تهنئته وتعزيته، وفي عطاسه وتثاؤبه، وفي قيامه وجلوسه، وفي معاشرته لأزواجه وأصدقائه...وغير ذلك من الآداب التي لا حصر لها . ومنها آداب أوجبها الله على الصغير والكبير، والمرأة والرجل، والغنى والفقير، والعالم والعامي؛ حتى يظهر أثر هذا الدين في الواقع .
ولاشك أن من جوانب العظمة لهذا الدين هذه الآداب التي جاءت في هذه الشريعة التي تميز المسلمين عن غيرهم، وتظهر سمو هذه الشريعة، وكمالها وعظمتها . والدين أدب كله، فستر العورة من الأدب والوضوء وغسل الجنابة من الأدب، والتطهر من الخبث من الأدب؛ حتى يقف بين يدي الله طاهراً ؛ ولذلك كانوا يستحبون أن يتجمل المرء في صلاته يقف بين يدي ربه، حتى كان لبعضهم حلة عظيمة اشتراها بمال كثير يلبسها وقت الصلاة، ويقول: ' ربي أحق من تجملت له في صلاتي ' .
ما هو الأدب؟
قال ابن حجر:' الأدب: استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً، وعبر بعضهم عنه بأنه: الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك' . كذلك مما ورد في تعريفه الأدب أنه: حسن الأخلاق وفعل المكارم . وقال ابن القيم رحمة الله:' الأدب اجتماع خصال الخير في العبد ومنه المأدبة: الطعام الذي يجتمع عليه الناس' فإذا هو فيه معنى الدعاء إلى الشيء والاجتماع عليه، وكذلك يطلق الأدب في اللغة على الجمع، وسمى الأدب أدباً؛ لأنه يؤدب الناس- أي: يجمعهم إلى المحامد- والأدب هو الخصال الحميدة.
استعمالات كلمة الأدب في كتب أهل العلم
? بمعنى : خصال الخير: مثل آداب الطعام والشراب، وآداب النكاح...ونحو ذلك .
? كل ما هو مطلوب سواءً كان واجباً أو مندوباً: كما يفعله بعض الفقهاء؛ لذلك بوبوا، فقالوا: آداب الخلاء والاستنجاء، مع أن منها مستحب، وواجب،فقولهم: أن هذا الشيء من الآداب لا يعني أنه فقط مستحب بل ربما يكون واجباً .
? بمعنى الزجر والتأديب: كما جاء في حديث:'عَلِّقُوا السَّوطَ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُ الَبَيْتٍ فَإٍنَهُ أَدَبُ لَهُمْ 'رواه عبد الرزاق والطبراني وحسنه الألباني بطرقه . فإذا قيل أدبه يعنى: عاقبه وزجره .
أهمية الأدب
لا شك أن الأدب في الإسلام أمر مهم جداً، وأنه يتحتم على الإنسان المسلم الالتزام بالآداب الشرعية في جميع الأمور وقد حث الإسلام المسلم أن يعتني بالآداب في أولاده وذريته، ويؤدبهم بآداب الإسلام كما قال تعالى }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا...[6] {سورة التحريم . قال على رضى الله عنه: ' علموهم وأدبوهم' . ومما جاء في النصوص الشرعية في معاني ما يتعلق بالأدب والتأديب: قول النبي صلى الله عليه وسلم :' ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ... وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَّاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ' رواه البخاري ومسلم . وقوله صلى الله عليه وسلم:'كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أن يكون أربعة... وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ ' رواه النسائي وهو حديث صحيح . يعني: ترويضه وتعليمه .
أنواع الأدب
? أولا الأدب مع الله سبحانه: وله أمثلة كثير، منها:
نهي المصلى عنه رفع بصره إلى السماء، فهذا من كمال أدب الصلاة أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقاً خافضاً طرفه إلى الأرض وما يرفع بصره إلى فوق، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله .
النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: قال شيخ الإسلام: أنها من الأدب مع الله سبحانه ؛ لأن القرآن كلام الله، قال:' وحالتا الركوع السجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله ألا يقرأ في هاتين الحالتين' .
ألا يستقبل بيته – الكعبة- في قضاء الحاجة ولا يستدبر، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورجح ابن القيم رحمه الله أن هذا الأدب يعم الفضاء والبنيان.
وضع اليد اليمنى على اليسرى على صدره في الوقوف في الصلاة .(/1)
السكوت في الصلاة:ذكر أهل العلم في قوله تعالى: } الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ[23] {سورة المعارج . معنيين:
الأول: دائمون بمعنى: مستقرون ثابتون، لا يكثرون الحركة كما يفعل كثير من الناس من تحريك النظارة، والساعة، وغطاء الرأس، واللعب، أو العبث بالأنف، والجيب، ونحو ذلك من الأشياء .
والثاني: المحافظة على الوقت لا يخرجونها عن وقتها فهم دائمون يداومون على الصلوات في أوقاتها ويحافظون على أوقاتها كما أنهم دائمون في الخشوع والطمأنينة .
نماذج من أدب الأنبياء والصالحين مع الله
? إبراهيم عليه السلام :لما قال:}الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ[78]وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ[79] {سورة الشعراء.لم يقل: والذي يمرضني ويشفين، وإنما قال:}وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ[80] { فنسب إبراهيم عليه السلام المرض إلي نفسه، ونسب الهداية والطعام والسقيا والشفاء إلى الله رب العالمين، مع أن الله هو الذي يمرض ولا شك، وهو الذي يشفي لكن لم ينسب المرض إلى الله عز وجل أدبا مع الله .
? المسيح عليه السلام :لما سأله الله عز وجل أو يسأله يوم القيامة: }وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ...[116]{ سورة المائدة . فبماذا أجاب عيسى عليه السلام؟ ما قال: لم أقل ذلك؛ وإنما قال: }سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ[116] {سورة المائدة.
? الخضر عليه السلام: والراجح أنه كان نبياً، ومن أدبه لما ذكر السفينة قال:}فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا...[79] {سورة الكهف. ولم يقل: فأراد ربك أن أعيبها؛ لما صارت المسألة فيها عيب نسبها إلى نفسه . ولما ذكر الجدار قال: } فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا[82] {سورة الكهف. مع أن ذلك كله بأمر الله وقدره .
? الصالحون من الجن: قالوا: } وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا[10] {سورة الجن. ما قالوا: أشر أراده ربهم بهم، أم اراد بهم ربهم رشداً وإنما قالوا: }أَشَرٌّ أُرِيدَ{ فجعلوا الفعل مبنيا للمجهول.
? موسى عليه السلام: لما نزل مدين قال: : }رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ[24]{ سورة القصص. ولم يقل: أنا فقير إلى خيرك يا رب، ومحتاج، ولم يقل أطعمني مثلاً .
? آدم عليه السلام:لما أهبط من الجنة إلى الأرض قال:}قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[23] ]{ سورة الأعراف. ولم يقل: ربى قدرت على هذه المعصية .
? أيوب عليه السلام:قال:}مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[83] {سورة الأنبياء . وهذا أكثر أدباً من أن يقول:عافني واشفني ، وإنما قال: }وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[83] {سورة الأنبياء.وأدب الأنبياء مع الله كثير.
? أما نبينا صلى الله عليه وسلم: فقد ضرب المثل العظيم في الأدب مع ربه كما ذكر المفسرين في قوله: }مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى[17] {سورة النجم . أي أن النبي لما ارتفع إلى السماء؛ ما زاغ بصره وما طغى، فإنه لم يزغ يميناً أو شمالاً، ولا طغى، فنظر أمام المنظور وإنما كان مطرقاً: }مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى[17] {سورة النجم فهذا وصف لمقامه صلى الله عليه وسلم، وهذا من كمال الأدب.
? الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا من أنواع الأدب العظيمة، ويشمل أشياء كثيرة جداً، فمن ذلك:
? التسليم له والانقياد لأمره .
?
تصديق خبره وتلقيه بالقبول، ولا يستشكل قوله، وإنما تستشكل الأفهام .
? لا يقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، ولا يدعى نسخ سنته .
? لا ترفع الأصوات فوق صوته صلى الله عليه وسلم؛لأن ذلك سبب لحبوط العمل، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا ترفع الأصوات فوق حديثه إذا قرئ ولا عند قبره .
? الأدب مع الخلق
وهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، فالأدب مع الوالدين يختلف عن الأدب مع العالم ،ومع الأقران،ومع الأجانب، ومع أهل البيت، هذا من جهة ما يتعلق بما حولك من المخلوقين.
أما الأحوال ففيها آداب حتى لو كنت وحدك، وما عندك ولا مخلوق، مثل: آداب النوم مثلاً فإذا للمخلوقين آداب وللأحوال آداب فمن آداب الأحوال: آداب الأكل فلو كنت تأكل، ولو لوحدك تأكل بيمينك، وتسمى وتأكل من وسط الطعام ...آداب الشراب ... آداب الركوب ... آداب الدخول ... وهكذا، ولأجل عظم هذا الموضوع؛ صنف العلماء فيه تصنيفات عظيمة .
من أقوال العلماء في أهمية الأدب(/2)
التمسك بالآداب الشرعية يقود إلى التمسك بالدين كله، ومن بعض أقوال العلماء في الأدب:
يقول النبي صلى الله عليه- وهو إمام العلماء- :' إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ' رواه أبوداود وأحمد . الهدي الصالح، وحسن السمت الهدى الصالح هذا هو الأدب .
وقال النخعى:' كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه، نظروا إلى سمته وصلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه'. فأولاً ينظرون إلى: أدب العالم والمحدث، فإن وجدوه أديباً محدثاً؛ أخذوا عنه .
قال ابن عباس:'اطلب الأدب، فإنه زيادة في العقل، ودليل على المروءة، مؤنس في الوحدة وصاحب في الغربة ومال عند القلة' .
وقال ابن المبارك رحمه الله:'لا ينبل الرجل بنوع من العلم ما لم يزين علمه بالأدب' وقال رحمه الله أيضا:' طلبت العلم، فأصبت منه شيئاً، وطلبت الأدب، فإذا أهله قد بادوا' . وقال أيضا:'نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم ' . هناك أناس عندهم علم كثير لكن ما عندهم أدب، ولذلك نفروا الناس، وما أخذ أحد عنهم بسبب عدم الأدب .
سئل الحسن البصري عن أنفع الأدب، فقال:'التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك'.
من محاضرة: أهمية الأدب في حياة المسلم للشيخ/ محمد صالح المنجد .(/3)
أهمية الإصلاح..وبماذا يتحقق؟
صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان *
</TD
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن الإصلاح مطلب عظيم كل يتمناه وكل يطلبه لكن بماذا يتحقق الإصلاح؟ هنا تختلف الوسائل وتتنوع النتائج فكثير من الناس يظن أن أسباب الإصلاح هي إعطاء الناس ما يشتهون في هذه الحياة وهو ما يسمونه الديمقراطية؛ أي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه ولا يُحكم فيه بشرع الله الذي خلقه ويعلم مصالحه، بل كل وميوله وما يهواه.
وهذا في الواقع لا يحقق إصلاحاً لأن أهواء الناس تختلف ورغباتهم تتنوع، بل إن النتيجة من وراء ذلك هي الفساد؛ قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (71 سورة المؤمنون)؛ ولذلك لم يكل الله الناس إلى أهوائهم ورغباتهم بل رسم لهم طريقاً يسيرون عليه في حياتهم وهو ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه؛ فكل شريعة سماوية اتباعها والعمل بها في وقتها إصلاح ما لم تنسخ إلى أن جاءت شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فنسخت ما سبقها من الشرائع وتضمنت صالح البشرية إلى أن تقوم الساعة؛ فلا صلاح ولا إصلاح إلا باتباع هذه الشريعة والتحاكم إليها. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59 سورة النساء). وسمّى الله اتباع شرعه إصلاحا ومخالفة شرعه إفساداً قال تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} (85 سورة الأعراف)؛ فإصلاحها باتباع شرعه وإفسادها بمخالفة شرعه؛ فالله أصلح الأرض بإرسال الرسل وإنزال الكتب فإذا قام الناس باتباع الرسل وعملوا بكتب الله صلحت أرضهم وإذا كانوا بخلاف ذلك أفسدوا في الأرض وإن كانوا يزعمون أنهم يصلحون فيها كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (11 و12 سورة البقرة). والإصلاح المتمثل باتباع شرع الله ضمان من الهلاك كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (117 سورة هود). والإصلاح في الأرض إنما يتحقق بتحكيم شرع الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (40 و41 سورة الحج). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (.. ولحدّ يقام في الأرض خير لها من أن تمطر أربعين صباحاً) وهذا هو إصلاح الأرض وإصلاح أهل الأرض وما خالفه فهو تدمير للأرض ومن عليها وإن ادعى أصحابه أنه تعمير وإصلاح؛ فهذا من تسمية الأشياء بأضدادها ومن غش الخلق. وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فمنافقو اليوم مثل إخوانهم من منافقي الأمس ينادون بالإصلاح ويدعون أن الإصلاح باتباع أنظمة الكفر وتعطيل الشرع ولكن {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (32 سورة التوبة). وكما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله -: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها). وكان الناس قبل هذه الشريعة في ضلال مبين. قال الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (26 سورة الأنفال). ربما يقول قائل: هل نترك كل ما عند الكفار؟ فنقول له: ما عند الكفار من المنافع الدنيوية من المصنوعات والمنتوجات والخبرات النافعة قد أباح الله لنا أخذه منهم والانتفاع به بعد أن نشتريه بأموالنا، وهذا في الأصل خلقه الله لنا؛ قال تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (32 سورة الأعراف)، إنما الممنوع أن تستورد منهم الأنظمة المخالفة لديننا وعقيدتنا ونتخلى عما أعطانا الله من شرعه المطهر ودينه القيم فنخسر الخسران المبين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* عضو هيئة كبار العلماء(/1)
الجزيرة عدد 11777 الأحد 14 ذو القعدة 1425(/2)
أهمية التدين وحاجة البشرية إليه ...
...
02-03-2004
يكتسب التدين أهميته من كونه فطرة فطر الله عباده عليها ، وركزها في نفوسهم ، فما من أحد من العالمين إلا ويجد ذلك من نفسه ،بحيث لا يستطيع العيش بدونه إلا مع حرج وضنك ، وحاجة الإنسان إلى التدين أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب . ويكتسب التدين أهميته أيضا بالنظر إلى آثاره الإيجابية، على الفرد والجماعة على حد سواء .
وقد تضافرت الدلائل الشرعية والحسية على أن التدين فطرة فطر الله الناس عليها ، فمن أدلة الكتاب قول الحق سبحانه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } (الأعراف:172) قال جمع من المفسرين في معنى الآية : إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه ، وأمرهم بعبادته وأخذ عليهم الميثاق بذلك ، فهم وإن نسوا قصة أخذه إلا أن حقيقته باقية في نفوسهم ، وهي ما يعبر عنه القرآن بالفطرة ، كقوله سبحانه : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (الروم:30) ومن أدلة السنة ما ثبت في " الصحيحين " عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كل مولود يولد على الفطرة ) وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله : .. إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا ) . ومعنى " الفطرة " في الآية وفي حديث أبي هريرة هو التوحيد ، ومعنى " الحنفاء " في حديث عياض رضي الله عنه : أي المائلين عن الشرك إلى التوحيد ، فقد اتفقت أدلة الكتاب والسنة على أن التدين جِبِلَّةٌ إنسانية خُلقت مع الإنسان ووجدت بوجوده ، إلا أن تنشئة الإنسان وتربيته - إن كانت على خلاف منهج الله وشرعه - تؤثر سلبا على جبلة التدين وتنحرف بها عن مسارها الصحيح .
أما الشواهد الحسية على ذلك ، فنلمسها من خلال : حاجة الإنسان إلى قوانين وأخلاق تنظم حياته ، وتضبط سلوكه ، ليتميز بذلك عن سائر الحيوان، فإن الناس إما أن يعيشوا من غير دين ينظم حياتهم ، ويضبط سلوكهم، وإما أن يتخذوا لهم من يشرّع لهم دينا ، وإما أن يكونوا على الدين الحق الذي جاءهم بالبينات والهدى ، فيكونوا بذلك على وفاق مع فطرتهم التي فطروا عليها ، فتنتظم أمور حياتهم خير انتظام ، فإن اختاروا الأول عاشوا في بهيمية نكراء يأكل الضعيف منهم القوي ، وكان اختلافهم عن سائر الحيوان بالشكل والصورة فحسب ، وإن اختاروا الثاني فقد اختاروا العبودية لطائفة من البشر ، تتسلط عليهم، وتذيقهم من ظلمها سوء العذاب ، فلم يبق إلا أن يحتكموا إلى الدين الحق ليأخذوا منه شرائعهم ، ويبين لهم ما يحل لهم فيأتوه ، وما يحرم عليهم فيجتنبوه ، وهنا تكمن قمة السعادة ، ولا سعادة حقيقية للإنسان - أي إنسان - إلا باتباع الدين الذي ارتضاه الله لعباده بقوله : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلام } (آل عمران: 19) فهو سبب فوزه وسعادته في الدنيا والآخرة ، وفي الإعراض عنه خسران الدنيا والآخرة ، قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران:85) .(/1)
ومن الأمور الحسية التي تدل على أن التدين ضرورة إنسانية ، ما يحسه الإنسان في نفسه من ضعف أمام بعض مظاهر الكون ، كالرياح العاتية ، والبحار الهائجة ، والزلازل ، والبراكين ، فإن الإنسان مهما عظمت قوته ، وعظم ذكاؤه ، فإنه يبقى ضعيفا أمام هذه الظواهر التي ابتلى الله بها عباده ، فيعلم الإنسان من نفسه أن لا قدرة له على دفعها ، أو الاحتراز منها ، فمن هنا عظمت حاجة الإنسان إلى إله يلجأ إليه ويتوكل عليه . وقد دأب البشر منذ القدم على تلمس الآلهة لتحميهم من هذه الظواهر ولتدفع عنهم شرها ، فعبد قوم الشمس ظنا منهم أنها الأقوى ، وعبد آخرون القمر،كما قال تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } (يونس:18) وقال أيضا : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ } (النحل:73) وهكذا تنقل الإنسان بين مظاهر الطبيعة يعبد بعضها خوفا من البعض الآخر . ولعل مما يدل على هذه الحقيقة - حقيقة حاجة النفس البشرية إلى إله يحميها ويدفع الشر عنها - قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } (الإسراء:67) فهؤلاء قوم مشركون ، عاينوا الأهوال والمحن ، فانكشفت عنهم شبه الضلال ، وتساقطت آلهة الزيف ، وتجلت في نفوسهم حقيقة الإله الحق ، فتقربوا إليه ، وسألوه النجاة والرحمة .
وينضم إلى تلك الدلائل الشرعية والحسية ، في تقرير هذه القضية ما نشهده واقعاً من الحياة التعيسة التي يحياها الملحدون ، فهم وإن تنعموا بملذات الدنيا ونعيمها إلا أنهم فقدوا أغلى ما فيها وهو الإيمان بالله عز وجل ، فهم يتقلبون في ظلمات الشك وبحار التيه النفسي ، ما يدفع بالكثيرين منهم إلى التخلص من حياتهم - رغم بذخ عيشهم - وذلك بسبب ما يعيشونه من خواء روحي مرير ، يجعل من الحياة - مهما توفرت لهم فيها سبل الراحة - أمرا لا يطاق ، وصدق الله إذ يقول : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ( 124 ) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا ً(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } ( طه : 124 - 126 ) .
وبهذا يتضح لك - أخي الكريم - مدى التضافر والتآزر بين الأدلة الشرعية والنفسية والحسية على أهمية التدين في حياة الإنسان ، والأمر إذا عظم شأنه، كثرت أدلته ، وظهرت حججه ، واستعصت أن يدفعها دافع ، أو ينازع فيها منازع ، إمعانا في إقامة الحجة على العباد ، وصدق الله العظيم إذ يقول : { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (يوسف: 21).(/2)
أهمية التوحيد في القرآن الكريم ...
الشيخ/صالح الفوزان ...
...
التوحيد هو الأصل الذي بنيت عليه الملة الحنيفية؛ فالاهتمام به اهتمام بالأصل، وإذا تدبرنا القرآن الكريم وجدنا أنه بيَّن التوحيد تبيانًا كاملاً، حتى إنه لا تخلو سورة من سور القرآن إلا وفيها تناول للتوحيد، وبيان له ونهى عن ضده . وقد قرر الإمام ابن القيم رحمه الله أن القرآن كله في التوحيد؛ لأنه:
- إما إخبار عن الله وأسمائه وصفاته، وهذا هو التوحيد العلمي الذي هو توحيد الربوبية .
- وإما أمر بعبادة الله وحده لا شريك له ونهي عن الشرك، وهذا هو التوحيد العملي الطلبي، وهو توحيد الألوهية .
- وإما أمر بطاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ونهي عن معصية الله ومعصية رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا من حقوق التوحيد ومكملاته .
- وإما إخبار عما أعد الله للموحدين من النعيم والفوز والنجاة والنصر في الدنيا والآخرة، أو إخبار عما حل بالمشركين من النكال في الدنيا والآخرة، أو إخبار عما حل بالمشركين من النكال في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة من العذاب الدائم والخلود المؤبد في جهنم، وهذا فيمن حقق التوحيد، وفيمن أهمل التوحيد. (1) [مدارج السالكين: 468/3 بتصرف]
إذن فالقرآن كله يدور على التوحيد . وأنت إذا تأملت السور المكية تجد غالبها في التوحيد؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك . ما نزلت عليه أغلب الفرائض من زكاة وصيام وحج وغير ذلك من أمور الحلال والحرام، وأمور المعاملات، ما نزل هذا إلا بعد الهجرة في المدينة . إلا الصلاة فقد فرضت عليه في مكة ليلة المعراج حين أسري به -صلى الله عليه وسلم- (2) ولكن كان هذا قبيل الهجرة بقليل .
ولذلك كان غالب السور المكية التي نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة، كلها في قضايا التوحيد، مما يدل على أهميته، وأن الفرائض لم تنزل إلا بعد أن تقرر التوحيد، ورسخ في النفوس، وبانت العقيدة الصحيحة؛ لأن الأعمال لا تصح إلا بالتوحيد، ولا تؤسس إلا على التوحيد .
وقد أوضح القرآن أن الرسل عليهم الصلاة والسلام أول ما يبدءون دعوتهم بالدعوة إلى التوحيد قبل كل شيء، قال تعالى : ? ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ? [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : ? ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون ? [ الأنبياء : 25 ] ، وكل نبي يقول لقومه : ? يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ? [ الأعراف : 59 ] ، ها هو شأن الرسل البُداءةُ بالتوحيد .
وكذلك أتباع الرسل من الدعاة والمصلحين أول ما يهتمون بالتوحيد؛ لأن كل دعوة لا تقوم على التوحيد فإنها دعوة فاشلة، لا تحقق أهدافها، ولا تكون لها نتيجة . كل دعوة تهمش التوحيد ولا تهتم به؛ فإنها تكون دعوة خاسرة في نتائجها . وهذا شيء مشاهد ومعروف .
وكل دعوة تركز على التوحيد؛ فإنها تنجح بإذن الله وتثمر وتفيد المجتمع، كما هو معروف من قضايا التاريخ .
ونحن لا نهمل قضايا المسلمين بل نهتم بها، ونناصرهم ونحاول كف الأذى عنهم بكل وسيلة، وليس من السهل علينا أن المسلمين يقتلون ويشردون، ولكن ليس الاهتمام بقضايا المسلمين أننا نبكي ونتباكى، ونملأ الدنيا بالكلام والكتابة، والصياح والعويل؛ فإن هذا لا يجدي شيئًا .
لكن العلاج الصحيح لقضايا المسلمين، أن نبحث أولاً عن الأسباب التى أوجبت هذه العقوبات التي حلت بالمسلمين، وسلطت عليهم عدوهم .
1- ما السبب في تسليط الأعداء على المسلمين ؟
حينما ننظر في العالم الإسلامي، لا نجد عند أكثر المنتسبين إلى الإسلام تمسكًا بالإسلام، إلا من رحم الله، إنما هم مسلمون بالاسم؛ فالعقيدة عند أكثرهم ضائعة : يعبدون غير الله، يتعلقون بالأولياء والصالحين، والقبور والأضرحة، ولا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يصومون، ولا يقومون بما أوجب الله عليهم، ومن ذلك إعداد القوة لجهاد الكفار ! ! هذا حال كثير من المنتسبين إلى الإسلام، ضيعوا دينهم فأضاعهم الله عز وجل .
وأهم الأسباب التي أوقعت بهم هذه العقوبات هو إهمالهم للتوحيد، ووقوعهم في الشرك الأكبر، ولا يتناهون عنه ولا ينكرونه ! من لا يفعله منهم فإنه لا ينكره؛ بل لا يعده شركًا . كما يأتي بيانه إن شاء الله . فهذه أهم الأسباب التي أحلت بالمسلمين هذه العقوبات .(/1)
ولو أنهم تمسكوا بدينهم، وأقاموا توحيدهم وعقيدتهم على الكتاب والسنة، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولم يتفرقوا لما حل بهم ما حل؛ قال الله تعالى : ? ولَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَويٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوا الزَّكَاةَ وأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونَهَوا عَنِ المُنكَرِ ولِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ? [ الحج : 40-41 ] ، فبين أنه لا يحصل النصر للمسلمين إلا بهذه الركائز التي ذكرها الله سبحانه وتعالى وهي : إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وأين هذه الأمور في واقع المسلمين اليوم ؟ أين الصلاة عند كثير ممن يدَّعون الإسلام ؟ !
وقال تعالى : ? وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوفِهِمْ أَمْناًَ ? لكن أين الشرط لهذا الوعد ؟ ? يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ? [ النور : 55 ] ، فبين أن هذا الاستخلاف وهذا التمكين لا يتحقق إلا بتحقق شرطه الذي ذكره وهو عبادته وحده لا شريك له، وهذا هو التوحيد، فلا تحصل هذه الوعود الكريمة إلا لمن حقق التوحيد بعبادة الله وحده لا شريك له، وعبادة الله تدخل فيها الصلاة والصيام والزكاة والحج، وجميع الطاعات .
ولم يقل سبحانه : يعبدونني فقط بل أعقب ذلك بقوله : ? لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ? ؛ لأن العبادة لا تنفع مع وجود الشرك، بل لا بد من اجتناب الشرك أيًّا كان نوعه، وأيًّا كان شكله، وأيًّا كان اسمه . وهو : " صرف شيء من العبادة لغير الله عز وجل " .
هذا هو سبب النجاة والسلامة والنصر والتمكين في الأرض، صلاح العقيدة وصلاح العمل . وبدون ذلك فإن العقوبات والنكبات، والمثلات قد تحل بمن أخل بشيء مما ذكره الله من القيام بهذا الشرط، وهذه النكبات، وهذا التسلط من الأعداء سببه إخلال المسلمين بهذا الشرط وتفريطهم في عقيدتهم ودينهم، واكتفاؤهم بالتسمي بالإسلام فقط .
2- معنى التوحيد :
إذن ما التوحيد الذي هذه أهميته، وهذه مكانته ؟
التوحيد [في اللغة]: مأخوذ من وحَّد الشيء إذا جعله واحدًا، والواحد ضد الاثنين والثلاثة فأكثر، فحاصله أنه ضد الكثرة, فالشيء الواحد هو الشيء المستقل المتوحد الذي لا يشاركه غيره .
وأما في الشرع فالتوحيد هو : " إفراد الله بالعبادة " بمعنى : أن تجعل العبادة كلها لله عز وجل ? ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ? [ الأنفال : 39 ] ؛ بدليل قوله تعالى : ? ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ? [ الذاريات : 56 ] ، وقوله تعالى : ? واعْبُدُوا اللَّهَ ولاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ? [ النساء : 36 ] ، وقوله تعالى : ? فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ولَو كَرِهَ الكَافِرُونَ ? [ غافر : 14 ]
هذا هو التوحيد في الشرع : إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه .
3- أنواع التوحيد :
التوحيد : أنواع ثلاثة مستقرأة من كتاب الله عز وجل . وليس تقسيم التوحيد إلى ثلاثة جاء من قبيل الرأي، أو من قبيل الاصطلاح، وإنما هو مستقرأ من كتاب الله عز وجل .
النوع الأول : توحيد الربوبية وهو : " إفراد الله جل وعلا بأفعاله " ؛ من الخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمور، فيعتقد المرء أن الله وحده الخالق الرازق المدبر الحي الذي لا يموت .
النوع الثاني : توحيد الألوهية وهو : " إفراد الله جل وعلا بأفعال العباد التي يتقربون بها إليه سبحانه وتعالى"؛ كالدعاء والخوف والرجاء والرهبة والرغبة والتوكل والاستقامة والاستغاثة والذبح والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة . فيجب أن تكون العبادة بجميع أنواعها لله سبحانه لا يصرف منها شيء لغير الله . هذا هو توحيد العبادة، أو توحيد الألوهية، وهو التوحيد العملي، وهو توحيد الطلب والقصد وتوحيد الطاعة .
النوع الثالث : توحيد الأسماء والصفات وهو : " الإيمان بما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الأسماء والصفات " .
هذه أنواع التوحيد مستقرأة من كتاب الله عز وجل .
فكل آية في القرآن تتحدث عن أفعال الله من الخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمور فهي في توحيد الربوبية، وهذا كثير في القرآن:(/2)
- قال تعالى : ? قُل لِّمَنِ الأَرْضُ ومَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ . قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَواتِ السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ . قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهُو يُجِيرُ ولاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ? [ المؤمنون : 84-89 ] .
- وقال تعالى : ? قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ومَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ? [ يونس : 31 ] .
وهكذا كل آية فيها ذكر خلق السماوات والأرض، وخلق المخلوقات، فإن هذا في توحيد الربوبية .
وكل آية فيها ذكر العبادة : بأن تتحدث عن الأمر بعبادة الله والنهي عن الشرك، فإن هذا في توحيد الألوهية .
وكل آية تتحدث عن أسماء الله وصفاته، فإن هذا في توحيد الأسماء والصفات .
فكل هذه الأنواع في كتاب الله، ولذلك قال العلماء : التوحيد ثلاثة أقسام : توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات .
ما جاءوا بهذا من عندهم، وإنما استقرءوه من كتاب الله سبحانه وتعالى، وسيأتي لهذا زيادة بيان إن شاء الله.
4- التوحيد عند المتكلمين
هناك من يقول : التوحيد نوع واحد فقط، وهو توحيد الربوبية وهو : الاعتراف بأن الله هو الخالق الرازق المحي المميت، إلى آخر ما جاء من أفعال الله وصفاته جل وعلا . وعلى هذا جميع علماء الكلام والنظار الذين بنوا عقيدتهم على علم الكلام . , عقائدهم موجودة، وإذا قرأت في كتبهم لا تجد فيها إلا إثبات توحيد الربوبية، فمن اعترف به عندهم فهو الموحد وليس عندهم توحيد الألوهية ولا توحيد الأسماء والصفات، ولذلك لا يعدون عبادة القبور ودعاء الأموات شركًا، وإنما يقول أماثلهم : هذا توجه لغير الله، وهو خطأ . ولا يقولون : هذا شرك .
وبعضهم يقول : إن هؤلاء الذين يدعون الأموات، ويستغيثون بالمقبورين ليسوا بمشركين؛ لأنهم لا يعتقدون أن هؤلاء الأموات أو هذه المعبودات تخلق وترزق وتدبر مع الله، فما داموا لم يعتقدوا ذلك فإنهم ليسوا مشركين، ولا يعد عملهم هذا شركًا . وهو إنما اتخذوا هذه الأشياء وسائل و وسائط بينهم وبين الله شفعاء .
هذه مقالتهم، كما قال المشركون من قبل : ? مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ? [ الزمر : 3 ] ، وقال تعالى عنهم : ? ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ? [ يونس : 18 ]
ويقول علماء الكلام : إن عبادة القبور والتعلق بالأموات والاستغاثة بهم ليس بشرك، وإنما هي توسل، وطلب للشفاعة، واتخاذ وسائط إلى الله عز وجل . ولا يكون شركًا إلا إذا اعتقدوا أن هذه الأشياء تخلق وترزق وتدبر مع الله عز وجل ! !
هذا يصرحون به في كتبهم وفي كلامهم .
والذي ينكر من أهل الكلام على من يقع في هذا الأمر يقول : هذا من باب الخطأ، وهؤلاء جهال وقعوا في هذا الجهل لا عن قصد؛ بل لجهلهم .
لكن الأكثر لا ينكرون عليهم؛ بل يقولون : هذا اتخاذ وسائط وشفعاء عند الله عز وجل، وليس شركًا .
وأنا لم أتقول على القوم شيئًا لم يقولوه؛ بل هذا موجود في كتبهم التي ردوا بها على أهل التوحيد، ودافعوا بها عن أهل الشرك .
وأما الأسماء والصفات فإثباتها عندهم يقتضي التشبيه، فنفوها عن الله عز وجل، وهؤلاء هم : الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية، كلهم نفوا توحيد الأسماء والصفات، تنزيهًا لله –بزعمهم- عن مشابهة المخلوقين، فصار التوحيد منحصرًا عندهم في توحيد الربوبية فقط، وليس عندهم توحيد الألوهية ولا توحيد الأسماء والصفات .
وينكرون على من يقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، حتى إن كاتبًا عصريًا منهم يقول : تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام هو من التثليث ! بلغت الوقاحة به إلى أن يشبهه بدين النصارى . والعياذ بالله .
5- الخطأ في تقسيم التوحيد :
ومن المعاصرين من يقسم التوحيد إلى أربعة أقسام، فيقول : التوحيد أربعة أنواع : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الحاكمية . ويستند في هذا إلى أن التقسيم اصطلاحي، وليس توقيفيًا، فلا مانع من الزيادة على الثلاثة .
ويقال لهذا : ليس التقسيم اصطلاحيًا، وإنما يرجع في التقسيم إلى الكتاب والسنة . والسلف حينما قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام استقرءوها من الكتاب والسنة .(/3)
أما الحاكمية فهي حق . يجب أن يكون التحاكم إلى شرع الله عز وجل، لكن هذا داخل في توحيد العبادة لأنه " طاعة الله عز وجل " ، السلف ما أهملوا توحيد الحاكمية حتى يأتي واحد متأخر فيضيفه، بل هو عندهم داخل في توحيد العبادة " توحيد الألوهية " ! لأن من عبادة الله جل وعلا طاعته بتحكيم شرعه، فلا يجعل قسمًا مستقلاً . وإلا لزم من ذلك أن تجعل الصلاة قسمًا من أقسام التوحيد، وتجعل الزكاة قسمًا، والصيام قسمًا، والحج قسمًا، وكل أنواع العبادة أقسامًا للتوحيد، ويجعل التوحيد أقسامًا لا نهاية لها ! وهذا غلط . بل أنواع العبادة كلها تندرج تحت قسم واحد وهو توحيد الألوهية، فإنه جامع لها مانع من دخول غيرها معها .
ومنهم من يزيد على الأقسام الأربعة قسمًا خامسًا ويسميه : اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- . وهذا غلط . فاتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- حق ولا بد منه، لكن اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من لوازم التوحيد، ولذلك لا تصح شهادة : أن لا إله إلا الله، إلا بشهادة أن محمدًا رسول الله .
فمن لازم الشهادة لله بالتوحيد الشهادة للرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، وهذا من لوازم التوحيد وليس قسمًا مستقلاً من أقسام التوحيد . ومخالف التوحيد يقال له مشرك أو كافر . ومخالف المتابعة يكون مبتدعًا .
هذه أقوال المخالفين لأهل السنة في تقسيم التوحيد وهم بين مفرط ومفرط .
المُفرِط هو : الذي زاد على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام .
والمفرِّط هو : الذي اقتصر على نوع واحد وأهمل البقية؛ بل أهمل الأهم، الذي هو المطلوب، وهو توحيد الألوهية .
أما توحيد الربوبية، فجميع الأمم مقرة به، لم ينكره إلا شذاذ من الخلق، أنكروه تكبرًا وعنادًا مع اعترافهم به في قرارة أنفسهم . فجميع الخلق مقرون بأن الله هو الخالق الرازق المحي المميت المدبر، لكن ليس هذا هو التوحيد المطلوب .
6- التوحيد الذي طولب به البشر :
التوحيد المطلوب هو توحيد الألوهية، ولهذا كان الرسل كلهم يبدءون دعوتهم لأقوامهم بقولهم : ? اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ? يدعون إلى توحيد الألوهية كما أخبر القرآن عنهم ذلك لأن توحيد الألوهية هو الذي تنكر له البشر واجتالتهم الشياطين عنه .
وأما توحيد الربوبية فهو شيء حاصل وموجود ومستقر في النفوس . والاقتصار عليه والاكتفاء به لا ينجي العبد، ولا يدخله في زمرة الموحدين المؤمنين، ولذلك قاتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- كفار قريش، وهم يقرون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، قاتلهم واستحل دماءهم حتى يقروا بتوحيد الألوهية؛ قال -صلى الله عليه وسلم- : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ) .(3)
فهذا دليل على أن المطلوب الأعظم من الخلق هو توحيد الألوهية، ولذلك لم يقل -صلى الله عليه وسلم- : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقروا بأن الله هو الخالق الرازق المحي المميت؛ لأنهم مقرون بهذا . بل قال : ( حتى يقولوا لا إله إلا الله ) أو " يشهدوا أن لا إله إلا الله " .
7- بيان أنواع التوحيد الثلاثة من القرآن :
سبق أن قلنا : إنها مستقرأة من القرآن الكريم . والآيات التي تؤخذ منها أنواع التوحيد الثلاثة كثيرة، منها :
سورة الفاتحة – وهي أول سورة في المصحف – فيها أنواع التوحيد الثلاثة : فقوله : ? الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? فيه توحيد الربوبية؛ لأن الآية أثبتت ربوبية الله لجميع العالمين- وهم كل ما سوى الله – والرب هو المالك المدبر .
وقوله : ? الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مَالِكِ يَومِ الدِّينِ ? فيه توحيد الأسماء والصفات؛ لإثبات وصف الله في الآيتين بالرحمة والملك، وإثبات أسمائه : الرحمن، الرحيم، المالك، وقوله : ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ? فيه توحيد الألوهية؛ لدلالة الآية على وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة والاستعانة .
كذلك سورة الناس –وهي آخر سورة في المصحف- فيها أنواع التوحيد الثلاثة :
فقوله : ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ? هذا توحيد الربوبية . ? مَلِكِ النَّاسِ ? هذا توحيد الأسماء والصفات . ? إِلَهِ النَّاسِ ? هذا توحيد الألوهية .
كذلك أول نداء في المصحف هو في نوعي التوحيد، وذلك في قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً والسَّمَاءَ بِنَاءً وأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ? [ البقرة : 21-22 ] .(/4)
لما ذكر سبحانه وتعالى أقسام الناس الثلاثة ( المؤمنين والكافرين والمنافقين ) وجه عباده نحو الاهتداء بهداية القرآن، فعقب ذلك بقوله : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ? وهو نداء عام لكافة الخلق لأمرهم جميعًا بإفراد الله بالعبادة وعدم إشراك أي أحد معه . وهذا هو توحيد الألوهية .
ثم جاء بتوحيد الربوبية دليلاً عليه، فقال : ? الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً والسَّمَاءَ بِنَاءً وأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ?
أليست هذه أفعال الله جل وعلا ؟ هذا توحيد الربوبية، ذكره سبحانه وتعالى دليلاً على توحيد الألوهية وبرهانًا عليه . فكما أنه يفعل هذه الأشياء وحده فإنه لا يستحق العبادة أحد غيره؛ بل هي حق خالص له سبحانه .
ذكر في هذه الآية نوعي التوحيد : توحيد الألوهية؛ لأنه المقصود الأعظم، وذكر توحيد الربوبية دليلاً على الألوهية ومستلزمًا له، وأمر بذلك جميع الناس كما قال في آية أخرى : ? ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ? [ الذاريات : 56 ] فأخبر أن هذين العالمين العظيمين ( عالم الجن وعالم الإنس ) لم يخلقا إلا للقيام بعبادة الله وإفراده بها وتوحيده في ألوهيته .
ثم نهى عن الشرك في آخرها فقال : ? فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ? : ? أَندَاداً ? : أي : شركاء تصرفون لهم شيئًا من العبادة ? وأَنتُمْ تَعْلَمُون ? أنه لا شريك له في ربوبيته يشاركه في هذه الأمور : خلق السموات والأرض وإنزال المطر وإنبات النبات . أنتم تعلمون أنه لا أحد يشارك الله في هذه الأمور، فكيف تشركون معه غيره في العبادة ؟ !
وقال سبحانه وتعالى : ? وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ? [ البقرة : 163 ] هذا في توحيد الألوهية، والإله معناه : المعبود، والألوهية : العبادة والحب .
ومعنى الآية : ومعبودكم بحق معبود واحد، ? لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُو ? ، أي : لا معبود بحق سواه .
وقوله : ? الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ? هذا داخل في توحيد الأسماء والصفات؛ إذ فيه إثبات اسمين لله، وإثبات صفة الرحمة .
وقوله : ? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَواتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ الَليْلِ والنَّهَارِ والْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ومَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا وبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ والسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَومٍ يَعْقِلُونَ ? [ البقرة : 164 ] هذا في توحيد الربوبية، ذكره الله دليلاً وبرهانًا على توحيد الألوهية؛ ولذا أخبر أن في ذلك آيات، أي دلالات وبراهين على استحقاق الله للعبادة دون غيره .
ففي هذه الآية أقسام التوحيد الثلاثة، وهكذا تجدها متجاورة في القرآن الكريم .
8- الحكمة من تقرير القرآن لتوحيد الربوبية :
والقرآن إنما يذكر توحيد الربوبية –مع أن الكفار مقرون به – من أجل أن يبين دلالته ويقيمه برهانًا على توحيد الألوهية، فيحتج عليهم بما أقروا به من باب الإلزام لهم :
كيف تقرون لله بالربوبية، ولا تقرون له بالألوهية والعبودية ؟ !
كيف تصرفون العبادة لمن لا يشارك الله في شيء من مخلوقاته ؟ ! هذا من التناقض .
? قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَواتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَو أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? [ الأحقاف : 4 ] ، ? هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ? [ لقمان : 11 ] ، ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً ولَو اجْتَمَعُوا لَهُ وإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ والْمَطْلُوبُ ? [ الحج : 73 ] لو سلط الله عليهم الذباب ما استطاعوا أن ينتصروا لأنفسهم منه، والذباب أضعف شيء، فلو سلط الله الذباب والبعوض على الناس ما استطاعوا أن يتخلصوا منه، يقتلون منه ما يقتلون ثم يكثر عليهم ويغمرهم .
وقيل : المعنى لو أن الذباب أخذ شيئًا مما على الصنم من الطيب والزينات التي يجعلونها عليه، فإن الصنم لا يستطيع أن يسترد ما أخذه الذباب منه .
? ضَعُفَ الطَّالِبُ والْمَطْلُوبُ ? : ? ضَعُفَ الطَّالِبُ ? : هو المشرك، ? والْمَطْلُوبُ ? : هو الصنم، وقيل الذباب .
إذا كان كذلك فكيف تُجعل هذه شركاء الله الخالق الرازق المحي المميت القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء، سبحانه وتعالى ؟ ! أين العقول ؟ ! وأين الأفهام ؟ ! نسأل الله العافية .(/5)
9- التوحيد في آية الكرسي :
آية الكرسي : ? اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولاَ نَومٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَواتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ ولاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَواتِ والأَرْضَ ولاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وهُو العَلِيُّ العَظِيمُ ? : [ البقرة : 255 ]
هذه أعظم آية في كتاب الله عز وجل، تشتمل على ربوبية الله وعبادته وعلى أسماء الله وصفاته، جمع الله فيها بين النفي والإثبات : نفي النقائص والعيوب عنه، وإثبات الكمال له سبحانه وتعالى .
وفي أولها توحيد الألوهية : ? اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو ? أي : لا معبود بحق إلا هو . ثم ذكر توحيد الربوبية بقوله : ? الحَيُّ القَيُّومُ ? وهذا فيه إثبات الحياة والقيومية لله .
وقوله : ? لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولاَ نَومٌ ? : هذا نفي، نفى الله عن نفسه النقص والعيب، من صفات النقص المنفية ( النوم والسِّنة ) .
قوله : ? لَّهُ مَا فِي السَّمَواتِ ومَا فِي الأَرْضِ ? : هذا إثبات لربوبيته، فهو مالك السماوات والأرض ومن فيهن .
وقوله : ? مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ? : هذا نفي، نفى أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه؛ وذلك لكمال عظمته سبحانه وتعالى . وأن أحدًا لا يجرؤ أن يشفع عنده إلا بعد إذنه .
قوله : ? يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ ? : هذا إثبات، فيه إثبات كمال العلم لله عز وجل، يعلم كل شيء : الماضي والحاضر والمستقبل، لا يخفى عليه شيء، علمه شامل محيط .
قوله : ? ولاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ ? : هذا نفي، نفى عن الخلق أن يعلموا شيئًا من علم الله، إلا بما أطلعهم الله عليه، وإلا فإنهم لا يعلمون الغيب، لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه .
وقوله : ? وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَواتِ والأَرْضَ ? : الكرسي مخلوق من مخلوقات الله، وهو مخلوق عظيم، السماوات والأرض بالنسبة إليه كسبعة دراهم ألقيت في فلاة –وهي الصحراء الواسعة- أو في ترس –وهو صحن كبير- ما تكون سبعة دراهم في فلاة أو في ترس ؟ ! فكرسي الله جل وعلا أكبر من السماوات والأرض، وهو غير العرش، والعرش أعظم من الكرسي .
وما الكرسي في العرش إلا كحلقة حديد ألقيت في أرض فلاة .
هذا الكرسي، فكيف بعرش الرحمن سبحانه وتعالى ؟ !
إذن فالمخلوقات بالنسبة لله صغيرة جدًا وليست بشيء . وإذا كان مخلوق من مخلوقات الله -وهو الكرسي- وسع السماوات والأرض وهو دون العرض، فالله جل وعلا أعظم من كل شيء .
وقوله : ? ولاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ? أي : لا يشق عليه سبحانه ولا يثقله، ولا يكرثه حفظ السماوات والأرض، وحمايتهما من الفساد والتغير، وإمساكهما ? وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ? [ الحج : 65 ] ، ? رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ? [ الرعد : 2 ] ? إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَواتِ والأَرْضَ أَن تَزُولا . . ? [ فاطر : 41 ] والله سبحانه ليس محتاجًا إلى السماوات والأرض، ولا إلى العرش، ولا إلى الكرسي، وليس محتاجًا إلى المخلوقات، وإنما مخلوقاته هي المحتاجة إليه سبحانه وتعالى .
وقوله : ? وهُو العَلِيُّ ? بذاته وقدره وقهره فوق عباده ? العَظِيمُ ? الجامع لصفات العظمة والكبرياء .
فهذه الآية اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة .
10- التوحيد في سورة الكافرون والإخلاص :
في القرآن الكريم سور اختصت بتوحيد الألوهية مثل : ? قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ . لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . ولاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . ولاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ . ولاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ ? هذه السورة مخصصة لتوحيد الألوهية، توحيد العبادة .
وسبب نزولها هو : أن المشركين طلبوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعبدوا ربه سنة، وهو يعبد آلهتهم سنة (5)(4) فأنزل الله هذه السورة في البراءة من عبادة الأوثان وتخصيص الله جل وعلا بالعبادة .
وقوله : ? لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ? كرر هذه الجمل للتأكيد .
وقوله : ? لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ ? هذا من باب البراءة وتيئيس المشركين من هذا المطمع .(/6)
وفي القرآن أيضًا سورة خاصة بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات، هي : سورة الإخلاص ? قُلْ هُو اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ . ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ? ، فيها نفي وفيها إثبات، نفي النقائص عن الله، وإثبات صفات الكمال له سبحانه وتعالى، كما في آية الكرسي . وهذه السورة خالصة في صفات الله عز وجل، ولهذا جاء أن صحابيًا كان يكثر قراءة هذه السورة، فسئل عن ذلك ؟ فقال : إني أحبها؛ لأنها صفة الرحمن، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : ( أخبروه أن الله تعالى يحبه ) . (5)
11- أنواع التوحيد في سورة الزمر :
سورة الزمر من أولها إلى آخرها تدور على التوحيد بأنواعه الثلاثة : توحد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات . وأنت إذا تأملت السورة من أولها إلى آخرها وجدتها كذلك .
فقوله : ? تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ . إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ . أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ ? [ الزمر : 1-3 ] وقوله : ? قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ . وأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَولَ المُسْلِمِينَ . قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ . قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي ? [ 11-14 ] هذا ونحوه في توحيد الألوهية، فالسورة كلها تضمنت أنواع التوحيد الثلاثة .
وكذلك غيرها من سور القرآن وآياته متضمنة أنواع التوحيد الثلاثة فلا تكاد تجد سورة من القرآن تخلو من ذكر التوحيد، وبعض السور خالصة في نوع واحد أو أكثر من أنواع التوحيد . وأكثر السور المكية في بيان التوحيد، والدعوة إليه .
وهذا يدل على أهمية التوحيد ومكانته من الدين، وأنه يجب على المسلمين العناية به تعلمًا وتعليمًا وعملاً؛ قال تعالى : ? فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ ? [ محمد : 19 ] وهذا خطاب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكل واحد من أمته، أمرهم بالتعلم قبل العمل، تعلم العلم، ولا سيما علم التوحيد؛ لأن العمل إذا لم يؤسس على علم ! فإنه لا يكون صحيحًا .
فلا بد أن يتعلم الإنسان أولاً ثم يعمل، ولا يعمل بدون علم .
ولذا قال سبحانه : ? إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وهُمْ يَعْلَمُونَ ? [ الزخرف : 86 ] ? شَهِدَ بِالْحَقِّ ? يعني : نطق بلسانه وقال : لا إله إلا الله، ? وهُمْ يَعْلَمُونَ ? ما يشهدون به من معنى هذه الكلمة ومقتضاها وما تدل عليه، ويعملون بها بعد العلم والمعرفة .
فلا بد من ثلاثة أمور : النطق بلا إله إلا الله وإعلان ذلك ومعرفة معناها، والعمل بمقتضاها ظاهرًا وباطنًا .
فالقرآن إذن كله في التوحيد وأنواعه، وحقوقه ومكملاته، وجزاء من عمل به وجزاء من أعرض عنه، كله يدور على هذه المعاني .
هذا هو التوحيد الذي يجب على المسلمين أن يهتموا به قبل كل شيء؛ حتى يتحقق لهم النصر والعز والتمكين في الأرض، فهذه الأمور لا تتحقق إلا بتحقيق التوحيد الذي خلق الله الخلق من أجله وأمرهم به من أولهم إلى آخرهم .
فكيف يهون من شأن التوحيد ؟ ! فيقال : الناس الآن في مشكلات ! المسلمون في ضيق وفي مضايقة من الأعداء !
يجب أن يعلم أن أعظم قضايا المسلمين هو الإتيان بالتوحيد، فتجب العناية به قبل كل شيء، وأن نخلص الناس من الجهل بالتوحيد، ونخلصهم من الشرك، والبدع والخرافات؛ حتى يتحقق لهم النصر كما تحقق لمن كان قبلهم من قرون هذه الأمة الذين حققوا التوحيد قولاً وعلمًا وعملاً، فمكن الله لهم في الأرض، كما في قوله تعالى : ? وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوفِهِمْ أَمْناً ? لكن بشرط : ? يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ? ? ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ? [ النور : 55 ] أي : الخارجون عن طاعة الله عز وجل .
هذا هو التوحيد، وهذه أنواعه، وهذه أهميته، وهذه دلالة القرآن الكريم عليه .
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل التوحيد المتمسكين بالكتاب والسنة، الداعين إلى الله على بصيرة، بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن .
ونسأله أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويصلح ولاة أمور المسلمين وعلماءهم .
________________________________________
(1) [مدارج السالكين: 468/3 بتصرف]
(2) [ كما في حديث الإسراء المتواتر، ومن آحاده الحديث المتفق عليه عن أنس : البخاري : كتاب التوحيد، باب ( 37 ) ، رقم ( 7517 ) ، [ 13/583 ] . ومسلم : كتاب الإيمان، باب ( 74 ) ، رقم ( 162 ) . ](/7)
(3) [ أخرجه البخاري ( رقم 2946 ) ، ومسلم ( رقم 21 ) . ]
(4) [أخرجه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم في تفسيرهم]
(5) [ متفق عليه من حديث عائشة : البخاري : كتاب التوحيد، باب ( 1 ) رقم ( 7375 ) ، [ 13/425 ] ومسلم : كتاب صلاة المسافرين، رقم ( 813 ) . ]
من موقع الشيخ فوزان
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=352&CID=2#s1(/8)
أهمية الدعاء وكيفيته في السنة النبوية
محمد بن إبراهيم الحمد 20/9/1425
03/11/2004
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فيمكن الحديث عن هذا الموضوع، من جهتين:
الأولى: من جهة أهميته:
للدعاء أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة منها:
1_ أن الدعاء طاعة لله وامتثال لأمره _عز وجل_: قال_تعالى_:[وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] (غافر:60)، وقال:[وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] [الأعراف:29].
فالداعي مطيع لله، مستجيب لأمره.
2_ السلامة من الكبر: قال-تعالى-:"وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" [غافر:60].
قال الإمام الشوكاني في هذه الآية: (والآية الكريمة دلت على أن الدعاء من العبادة؛ فإنه-سبحانه وتعالى- أمر عباده أن يدعوه، ثم قال:"إن الذين يستكبرون عن عبادتي".
فأفاد ذلك أن الدعاء عبادة، وأن ترك دعاء الرب-سبحانه- استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار.
وكيف يستكبر العبد عن دعاء من هو خالق له، ورازقه، وموجده من العدم، وخالق العالم أجمع، ورازقه، ومحييه، ومميته، ومثيبه، ومعاقبه؟!
فلا شك أن هذا الاستكبار طرف من الجنون، وشعبة من كفران النعم (1).
3_الدعاء عبادة: للآية السابقة، وكما جاء عن النعمان بن بشير-رضي الله عنهما- أن رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ قال:"الدعاء هو العبادة" (2).
4_الدعاء أكرم شيء على الله: فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي_صلى الله عليه وسلم_ أنه قال:"ليس شيء أكرم على الله_عز وجل_ من الدعاء" (3).
قال الشوكاني في هذا الحديث:(قيل وجه ذلك أنه يدل على قدرة الله_تعالى_ وعجز الداعي).
والأولى أن يقال: أن الدعاء لمَّا كان هو العبادة، وكان مخَّ العبادة كما تقدم_كان أكرم على الله من هذه الحيثية؛ لأن العبادة هي التي خلق الله_سبحانه_ الخلق لها، كما قال _تعالى_:[وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون]الذاريات: 56. (4)
5_ الدعاء محبوب لله_عز وجل_: فعن ابن مسعود-رضي الله عنه- مرفوعًا:"سلوا الله من فضله؛ فإن الله يحب أن يُسأل" (5).
6_الدعاء سبب لانشراح الصدر: ففيه تفريج الهم، وزوال الغم، وتيسير الأمور، ولقد أحسن من قال:
وإني لأدعو اللهَ والأمرُ ضيِّقٌ *** عليَّ فما ينفكُّ أن يتفرجا
ورُبَّ فتىً ضاقت عليه وجوهُهُ *** أصاب له في دعوة الله مخرجا (6)
7_الدعاء سبب لدفع غضب الله: فمن لم يسألِ الله يغضبْ عليه؛ قال رسول الله_صلى الله عليه وسلم_:"من لم يسأل الله يغضبْ عليه" (7).
ففي هذا الحديث دليل على أن الدعاء من العبد لربه من أهم الواجبات، وأعظم المفروضات؛ لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه (8).
ولقد أحسن من قال:
لا تسألنَّ بُنَيَّ آدمَ حاجةً *** وسل الذي أبوابُهُ لا تحجبُ
اللهُ يغضبُ إن تركت سؤالَه*** وبنيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضبُ
8_ الدعاء دليل على التوكل على الله: فَسِرُّ التوكل على الله وحقيقتُهُ هو اعتماد القلب على الله وحده.
وأعظم ما يتجلى التوكل حال الدعاء؛ ذلك أن الداعي حال دعائه مستعين بالله، مفوض أمره إليه وحده دون سواه.
ثم إن التوكل لا يتحقق إلا بالقيام بالأسباب المأمور بها، فمن عطَّلها لم يصح توكله، والدعاء من أعظم هذه الأسباب إن لم يكن أعظمها.
9_ الدعاء وسيلة لكبر النفس وعلو الهمة: فبالدعاء تكبر النفس وتشرف، وتعلو الهمة وتتسامى؛ ذلك أن الداعي يأوي إلى ركن شديد، ينزل به حاجاته، ويستعين به في كافة أموره، وبهذا يقطع الطمع مما في أيدي الخلق، فيتخلص من أسرهم، ويتحرر من رقهم، ويسلم من مِنَّتِهم؛ فالمنة تصدع قناة العزة، وتنال نيلها من الهمة.
وبالدعاء يسلم من ذلك كله، فيظل مهيب الجناب، موفور الكرامة، وهذا رأس الفلاح، وأسُّ النجاح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية(وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته_ قويت عبوديته له، وحريته مما سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له_ فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه) (9).
10_ الدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكياسة: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن النبي_صلى الله عليه وسلم_قال:"أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام" (10).
فأضعف الناس رأيًا، وأدناهم همة، وأعماهم بصيرة_من عجز عن الدعاء؛ ذلك أن الدعاء لا يضره أبدًا، بل ينفعه.
11_ ثمرة الدعاء مضمونة_بإذن الله_: فإذا أتى الداعي بشرائط الإجابة فإنه سيحصل على الخير،وسينال نصيبًا وافرًا من ثمرات الدعاء ولا بد.
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ يقول:"ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل، أو كف عنه من سوء مثله، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم" (11).(/1)
وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- عن النبي_صلى الله عليه وسلم_ أنه قال:"ما من مسلم يدعو، ليس بإثم ولا بقطيعة رحم_ إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها" قال: إذًا نكثر، قال:"الله أكثر" (12).
وعن أبي هريرة_رضي الله عنه_عن النبي_صلى الله عليه وسلم_ قال:"ما من مسلم ينصب وجهه إلى الله، يسأله مسألة إلا أعطاه إياها، إما عجلها له في الدنيا، وإما ذخرها له في الآخرة ما لم يعجل".
قالوا: يا رسول الله، وما عَجَلَتُه؟
قال: يقول: دعوتُ دعوت، ولا أراه يستجاب لي (13).
ففي ما مضى من الأحاديث دليل على أن دعاء المسلم لا يهمل، بل يعطى ما سأله، إما معجلاً، وإما مؤجلاً، تفضلاً من الله_جل وعلا_ (14).
قال ابن حجر(كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعِوَضِهِ) (15).
قال بعضهم في وصف دعوة:
وساريةٍ لم تَسْر في الأرض تبتغي *** محلاً ولم يَقْطَعْ بها البيد قاطعُ
سرت حيث لم تَسْر الركاب ولم تُنِخْ *** لوردٍ ولم يَقْصُرْ لها القيدَ مانعُ
تَحُلُّ وراءَ الليلِ والليلُ ساقطٌ *** بأرواقه فيه سميرٌ وهاجعُ
تَفَتَّحُ أبواب السماءِ ودونها *** إذا قرع الأبوابَ مِنْهُنَّ قارعُ
إذا أوفدت لم يَرْدُدِ اللهُ وفدَها *** على أهلها والله راءٍ وسامعُ
وإني لأرجو الله حتى كأنني *** أرى بجميل الظنِّ ما اللهُ صانعصانعُ(16)
12_ الدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزوله: قال_عليه الصلاة والسلام_:"ولا يرد القدر إلا الدعاء" (17).
قال الشوكاني عن هذا الحديث:(فيه دليل على أنه_سبحانه_ يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وقد وردت بهذا أحاديث كثيرة) (18).
وقال:(والحاصل أن الدعاء من قدر الله_ عزَّ وجلَّ _ فقد يقضي على عبده قضاءً مقيدًا بأن لا يدعوه، فإذا دعاه اندفع عنه) (19).
13_ الدعاء سبب لرفع البلاء بعد نزوله: قال_صلى الله عليه وسلم_:"من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئًا يعطى_ أحبَّ إليه من أن يسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل؛ فعليكم عباد الله بالدعاء) (20).
ولهذا يجدر بالعبد إذا وجد من نفسه النشاط إلى الدعاء والإقبال عليه أن يستكثر منه؛ فإنه مجاب، وتقضى حاجته بفضل الله، ورحمته، فإنَّ فَتْحَ أبواب الرحمة دليل على إجابة الدعاء (21).
وقال:"لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة" (22).
ومعنى يعتلجان: أن يتصارعان، ويتدافعان.
14_ الدعاء يفتح للعبد باب المناجاة ولذائذها: فقد يقوم العبد لمناجاة ربه، وإنزال حاجاته ببابه _ فَيُفْتَح على قلبه حال السؤال والدعاء من محبة الله، ومعرفته، والذل والخضوع له، والتملق بين يديه _ ما ينسيه حاجته، ويكون ما فتح له من ذلك أحبَّ إليه من حاجته، بحيث يحب أن تدوم له تلك الحال، وتكون آثر عنده من حاجته، ويكون فرحه بها أعظمَ من فرحه بحاجته لو عجلت له وفاته تلك الحال (23).
قال بعض العُبَّاد:(إنه لتكون لي حاجةٌ إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح لي من مناجاته، ومعرفته، والتذلل له، والتملق بين يديه _ ما أحبُّ معه أن يُؤخِّر عني قضاءها، وتدوم لي تلك الحال) (24).
15_ حصول المودة بين المسلمين: فإذا دعا المسلم لأخيه المسلم في ظهر الغيب_ استجيبت دعوته، ودل ذلك على موافقة باطنه لظاهره، وهذا دليل التقوى والصدق والترابط بين المسلمين، فهذا مما يقوي أواصر المحبة، ويثبت دعائمها، قال _ تعالى _:"إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا" [مريم:96]، يعني: يَوَدُّن، ويُوَدُّن، يُحِبُّن، ويُحَبُّن، والدعاء _ بلا شك _ من العمل الصالح.
16_ الدعاء من صفات عباد الله المتقين: قال _ جلَّ شأنه _ عن أنبيائه _ عليهم السلام _:"إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين" [الأنبياء: 90]، وقال عن عباده الصالحين:"والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" [الحشر:10]، إلى غير ذك من الآيات في هذا المعنى.
17_ الدعاء سبب للثبات والنصر على الأعداء: قال _ تعالى _ عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده:"قالوا ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين" [البقرة:250]، فماذا كانت النتيجة؟ "فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت" [البقرة:251].
18_ الدعاء مَفْزَعُ المظلومين، وملجأ المستضعفين: فالمظلوم _ أو المستضعف _ إذا انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، ولم يجد من يرفع عنه مظلمته، ويعينه على من تسلط عليه وظلمه، ثم رفع يديه إلى السماء، وبث إلى الجبار العظيم شكواه _ نصره الله وأعزه، وانتقم له ممن ظلمه ولو بعد حين.(/2)
ولهذا دعا نوح _ عليه السلام _ على قومه عندما استضعفوه، وكذَّبوه، وردُّوا دعوته.
وكذلك موسى _ عليه السلام _ دعا على فرعون عندما طغى، وتجبر، وتسلط، ورفض الهدى ودين الحق؛ فاستجاب الله لهما، وحاق بالظالمين الخزي في الدنيا، وسوء العذاب في العقبى.
وكذلك الحال بالنسبة لكل من ظُلِم، واستُضْعِف؛ فإنه إن لجأ إلى ربه، وفزع إليه بالدعاء _ أجابه الله، وانتصر له وإن كان فاجرًا.
قال الإمام الشافعي وما أجمل ما قال:
وربَّ ظلومٍ قد كفيت بحربه*** فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ
فما كان لي الإسلامُ إلا تعبدًا *** وأدعيةً لا تُتَّقى بدروع
وحسبك أن ينجو الظلومُ وخلفه*** سهامُ دعاءٍ من قِسيِّ ركوع
مُرَيَّشة بالهدب من كل ساهرٍ *** منهلة أطرافها بدموع(25)
وقال:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه *** وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن *** له أمدٌ وللأمد انقضاءُ (26)
19_ الدعاء دليل على الإيمان بالله، والاعتراف له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات: فدعاء الإنسان لربه متضمن إيمانه بوجوده، وأنه غني، سميع، بصير، كريم، رحيم، قادر، مستحق للعبادة وحده دون من سواه.
الثانية : من جهة كيفيته:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أما كيفية الدعاء من ناحية الهيئة الجسمية، والأقوال المسنونة في الافتتاح والانتهاء، وما جرى مجرى ذلك يحتاج إلى بسط وإطالة، وإليك شيئاً من ذلك:
1_ الثناء على الله قبل الدعاءِ، والصلاة على النبي": فعن فضالة بن عبيد قال: بينما رسول الله"قاعدًا إذ دخل رجل، فصلى فقال: اللهم اغفر لي، وارحمني.
فقال رسول الله":"عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله، وصلِّ علي ثم ادعه".
ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على النبي"، فقال له النبي":أيها المصلي ادع تُجب(27).
وقال _ عليه الصلاة والسلام _:"كل دعاءٍ محجوب، حتى يصلي على النبي- صلى الله عليه وسلم- (28).
2_ الإقرار بالذنب، والاعتراف بالخطيئة: ولذلك فإن دعاء يونس _ عليه السلام_ من أعظم الأدعية إن لم يكن أعظمها، وما ذلك إلا لأنه ضمنه اعترافه بوحدانية الله _ عز وجل _ وإقراره بالذنب والخطيئة والظلم للنفس، كما قال_تعالى _ عنه:"فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" [الأنبياء: 87] (29).
وكذلك الحال بالنسبة للدعاء العظيم المسمى بسيد الاستغفار، والذي يعد أفضل صيغ الاستغفار، ومن أسباب أفضليته أنه تضمن الإقرار بالذنب، والاعتراف بالخطيئة، كما جاء في حديث شداد بن أوس- رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال:"سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
من قالها في النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي _ فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح _ فهو من أهل الجنة" (30).
3_ التضرع والخشوع، والرغبة والرهبة: قال_ تعالى _ عن أنبيائه _ عليهم السلام_:"إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين" [الأنبياء: 90].
4_ الجزم في الدعاء، والعزم في المسألة: فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله"_ قال:"لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة؛ فإنه لا مُسْتَكْرْهَ له" (31).
5_ الإلحاح بالدعاء: فهو من الآداب الجميلة، التي تدل على صدق الرغبة فيما عند الله _ عز وجل _ ثم "إن الله يحب الملحين في الدعاء"، كما جاء في حديث عائشة _ رضي الله عنهما _ (32).
6_ الدعاء في كل الأحوال: وذلك في الشدة والرخاء، وفي المنشط والمكره؛ لحديث أبي هريرة-رضي الله عنه- قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب _ فليكثر من الدعاء في الرخاء" (33).
7_ تجنب الدعاء على الأهل، والمال، والنفس: لأن الدعاء يقصد منه جلب النفع ودفع الضر، والدعاء على الأهل، والمال، والنفس _ لا مصلحة وراءه، بل هو ضرر محض على الداعي نفسه؛ فماذا سيجني من فساد أهله، وماله، ونفسه؟
ولهذا قال _ عليه الصلاة والسلام _:"لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم" (34).
8_ الدعاء ثلاثًا: كما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود الطويل، وفيه: فلما قضى النبي- صلى الله عليه وسلم-"صلاته _ رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، ثم قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش" (35).
9_ استقبال القبلة: فعن عبدالله بن زيد-رضي الله عنه- قال:=خرج النبي- صلى الله عليه وسلم- "إلى هذا المصلى يستسقي، فدعا، واستسقى، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه" (36).(/3)
وفي البخاري:=استقبل رسول الله"الكعبة فدعا على قريش" (37).
10_ رفع الأيدي في الدعاء: قال أبو موسى الأشعري ÷:=دعا النبي-صلى الله عليه وسلم-"ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه (38).
وقال ابن عمر _ رضي الله عنهما _: رفع النبي- صلى الله عليه وسلم-يديه، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد" (39).
وعن سلمان الفارسي-رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال:"إن ربكم _ تبارك وتعالى _ حييٌّ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردها صفرًا خائبتين" (40).
ورفع اليدين إنما يكون في الدعاء العام، وما ورد الدليل على مشروعية رفع اليدين فيه، كرفع اليدين في الدعاء عند الصفا والمروة، وفي الاستسقاء يوم الجمعة ونو ذلك، لأن هناك أدعية لا ترفع فيها الأيدي مثل دعاء دخول المنزل، والخروج منه، ودخول الخلاء، والخروج منه.
11_ السواك: ووجه ذلك أن الدعاء عبادة باللسان؛ فتنظيف الفم عند ذلك أدب حسن؛ ولهذا جاءت السنة المتواترة بمشروعية السواك للصلاة، والعلة في ذلك تنظيف المحل الذي يكون الذكر به في الصلاة (41).
12_ أن يقدم بين يدي دعائه عملاً صالحًا: كأن يتصدق، أو يحسن إلى مسكين، أو يصلي ركعتين، أو يصوم، أو غير ذلك؛ ليكون هذا العمل وسيلة إلى الإجابة.
ويدل على ذلك حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- "حكى عنهم أن كل واحد منهم توسل بأعظم أعماله التي عملها لله _ عز وجل _ فاستجاب الله دعاءهم، وارتفعت عنهم الصخرة، وكان ذلك بحكايته"سنة لأمته.
13_ الوضوء: كما في حديث أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه- لما فرغ النبي-صلى الله عليه وسلم- "من حنين، وفيه قوله:فدعا بماء، فتوضأ، ثم رفع يديه، فقال: "اللهم اغفر لعبيد بن عامر"، ورأيت بياض إبطيه (42).
14_ أن يكون غرض الداعي جميلاً حسنًا: كأن يتوسل الداعي إلى الله فيما أجاب دعوته _ أنه سيترتب على تلك الإجابة عمل صالح، كأن يقول آمين: اللهم ارزقني مالاً؛ لأسلطه على هلكته في الحق، ولأنصر به دين الإسلام، أو: اللهم ارزقني علمًا؛ كي أعلم العباد دين الله، وأنشر الخير بينهم، أو: اللهم ارزقني زوجة؛ لأتعفف بها عن المحارم وهكذا...
ويشير إلى ذلك قوله _ تعالى _ عن موسى _ عليه السلام _ قول:[قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرًا من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري؛ كي نسبحك كثيرًا، ونذكرك كثيرًا، إنك كنت بنا بصيرًا]طه: 25_35.
فماذا كانت النتيجة؟ لقد أجاب الله سؤله، ومنَّ عليه مرة أخرى.
ويشير إليه _ أيضًا _ حديث ابن عمرو _ رضي الله عنهما _ قال: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-:"إذا جاء الرجل يعود مريضًا _ فليقل: اللهم اشفِ عبدَك فلانًا؛ ينكأْ لك عدوًّا، أو يمشِ لك إلى الصلاة" (43).
15_ الطموح وعلو الهمة: فمن الآداب التي يحسن بالداعي أن يتحلى بها _ أن يكون طموحًا، ذا نفس كبيرة، وهمة عالية، راغبًا فيما عند الله من عظيم الثواب.
ويومىء إلى هذا المعنى _ دعاء نبي الله سليمان _ عليه السلام _ عندما قال _ كما أخبر الله عنه _:"رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب"ص:35،
فنبي الله سليمان _ عليه السلام _ حصل منه ما حصل عندما آلى أن يطوف على نسائه جميعًا؛ لتلد كل واحدة منهن مجاهدًا يجاهد في سبيل الله، ولم يستثنِ _ عليه السلام _ ولم يقل: إن شاء الله (44).
وعندما أدرك ما وقع فيه لم يكتف بأن يسأل الله المغفرة فحسب، ولكنه _ لكبر نفسه، وعلو همته، وعلمه بسعة فضل ربه _ سأله مع ذلك أن يهب له ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده!
فماذا كانت النتيجة؟ لقد استجاب الله دعاءه، وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، ثم قال _ تعالى:"هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب" ص: 39_40.
16_ البكاء حال الدعاء: فعن عبدالله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهما _ أن رسول الله"تلا قولَ الله _ عز وجل _:"رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس فم تبعني فإنه مني" [إبراهيم:36]، وقول عيسى:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" [المائدة:118]، _ فرفع يديه وقال:"اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله _ عز وجل _: يا جبريل اذهب إلى محمد _ وربك أعلم_ فسله ما يبكيك؟" فأتاه جبريل _ عليه السلام _ فسأله، فأخبره رسول الله"بما قال _ وهو أعلم_.
فقال الله: "يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك" (45).(/4)
17_ إظهار الداعي الشكوى إلى الله، والافتقار إليه: قال_ تعالى _ عن أيوب _ عليه السلام _:[وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين]الأنبياء: 83، وعن زكريا _ عليه السلام _ دعاءه:[رب لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين]الأنبياء: 89، وعن يعقوب _ عليه السلام _ قوله:"إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" [يوسف:86]، وعن موسى _ عليه السلام _ دعاءه:"رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" [القصص:24].
قال ابن المبارك :(قدمت المدينة في عام شديد القحط، فخرج الناس يستسقون، فخرجت معهم، إذ أقبل غلام أسود، عليه قطعتا خيش، قم اتَّزر بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقه، فجلس إلى جنبي، فسمعته يقول: (إلهي أخْلَقَتِ الوجوهَ عندك كثرةُ الذنوب، ومساوىء الأعمال، وقد حَبَسْتَ عنا غيث السماء؛ لتؤدب عبادك بذلك، فأسألك يا حليمًا ذا أناة، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل _ أن تسقيهم الساعةَ الساعةَ)، فلم يزل يقول: الساعة الساعة حتى اكتست السماء بالغمام، وأقبل المطر من كل جانب) (46).
18_ أن يتخير جوامع الدعاء ومحاسن الكلام: بدلاً من التطويل، والحشو، والتفصيل الذي لا لزوم له؛ فقد كان رسول الله"يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك (47).
قال الخطابي:(ولْيَتَخَيَّرْ لدعائه، والثناء على ربه أحسن الألفاظ، وأنبلها، وأجمعها للمعاني؛ لأنه مناجاة العبد سَيِّدَ السادات، الذي ليس له مثل، ولا نظير) (48).
19_ أن يبدأ الداعي بنفسه: عن أبيِّ بن كعب-رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه (49).
والبداءة بالنفس حال الدعاء ترد كثيرًا في القرآن، كما في قوله _ تعالى_:"ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان" [الحشر: 10].
وهذا ليس بلازم لمن أراد أن يدعو لغيره كما هو وارد في كثير من الأدعية، حيث يدعو الإنسان لغيره دون نفسه.
وقد يقال: إذا أراد الدعاء لنفسه ولغيره فليبدأ بنفسه ثم يُثَنِّي بغيره، وإذا أراد الدعاء لغيره فَحَسْب فلا يلزم أن يبدأ بنفسه، كما مر في دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم- لعبيد بن عامر-رضي الله عنه-؛ حيث دعا لعبيد دون أن يدعو لنفسه.
20_ أن يدعو لإخوانه المؤمنين: فهذا من مقتضيات الأخوة، ومن أسباب إجابة الدعوة؛ قال _ تعالى _:"واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات" [محمد:19].
وذكر عن نوح _ عليه السلام _ قوله:"رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنًا وللمؤمنين والمؤمنات"[نوح:28].
وقال _ عليه الصلاة والسلام _:"من استغفر للمؤمنين والمؤمنات _ كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة" (50).
ويحسن أن يُخص بالدعاء _ الوالدان، والعلماء، والصالحون، والعبَّاد، ومن في صلاحهم صلاح لأمر المسلمين كأولياء الأمور وغيرهم...
ويحسن به _ أيضًا _ أن يدعو للمستضعفين والمظلومين من المسلمين، وأن يدعو على الظالمين الذين في هلاكهم نصر للإسلام والمسلمين، وراحة للمستضعفين والمظلومين.
21_ خفض الصوت، والإسرار بالدعاء: قال _ تعالى _:"ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين" [الأعراف:55].
وعن أبي موسى- رضي الله عنه- قال: (كنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- فجعل الناس يجهرون في التكبير، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-:"أيها الناس، اربعوا على أنفسكم؛ إنكم لا تَدْعِون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم") (51).
هذا ولخفض الصوت والإسرار بالدعاء _ فوائد عديدة، وأسرار بديعة، وقد أشار العلامة ابن القيم إلى شيء منها، فمن ذلك ما يلي:
(أولاً _ أنه أعظم إيمانًُا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع دعاءه الخفي، وليس كالذي قال: إن الله يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا.
ثانيًا _ أنه أعظم في الأدب والتعظيم: ولهذا فإن الملوك لا تُخاَطَبُ، ولا تُسْأَل برفع الصوت، وإنما تخفض عندهم الأصوات بمقدار ما يسمعونه، ومن رفع صوته عندهم مقتوه، ولله المثل الأعلى؛ فإذا كان يسمع الكلام الخفي _ فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت.
ثالثًا _ أنه أبلغ في التضرع والخشوع: الذي هو روح الدعاء، ولبه، ومقصوده؛ فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، ولا يتأتى ذلك مع رفع الصوت، بل مع خفضه.
رابعًا _ أنه أبلغ في الإخلاص.
خامسًا _ أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء؛ فإن رفع الصوت يفرقه، ويشتته.
سادسًا _ أنه دال على قرب صاحبه من الله: وأنه لاقترابه منه، وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه، فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.
وهذا من النكت السرية البديعة جدًا.
سابعًا _ أنه أدعى لدوام الطلب والسؤال؛ فإن اللسان _ والحالة هذه _ لا يمل، والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته؛ فإنه قد يكل لسانه، وتضعف بعض قواه، وهذا نظير من يقرأ أو يكرر رافعًا صوته؛ فإنه لا يطول له ذلك، بخلاف من يخفض صوته.(/5)
ثامنًا _ أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع، والمشوشات، والمضعفات؛ فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يَدْر به أحد، فلا يحصل هناك تشويش، ولا غيره.
وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة، والخبيثة من الجن والإنس، فشوشت عليه ولا بد، ومانعته، وعارضته، ولو لم يكن إلا أنَّ تعلقها به يفرق عليه همته، فيضعف أثر الدعاء _ لكفى.
ومن له تجربة يعرف هذا، فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة.
تاسعًا _ الأمن من شر الحاسدين؛ ذلك أن أعظمَ النعم نعمةُ الإقبالِ على الله، والتعبد له، والانقطاع إليه، والتبتل إليه، ولكل نعمة حاسد على قدرها دَقَّتْ أو جَلَّتْ.
ولا نعمة أعظم من هذه النعمة؛ فأنْفُسُ الحاسدِينَ المنقطعين متعلقةٌ بها، وليس للمحسود أسلمُ من إخفاء نعمته عن الحاسد، وأن لا يقصد إظهارها له، وكم من صاحب قلب وجَمْعِيَّةٍ وحال مع الله قد تحدث بها، فسلبه إياها الأغيار، فأصبح يقلب كفيه (52).
22_ ألا يتكلف السجع: ذلك أن حال الداعي حال ذلة وضراعة، والتكلف لا يناسب ذلك.
قال بعضهم:(ادع بلسان الذلة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق) (53).
قال الخطابي×:(ويكره في الدعاء السجع، وتكلف صفة الكلام له) (54).
ويوضح ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من نصيحة ابن عباس _ رضي الله عنهما _ لأحد أصحابه، ومما قال فيها:(فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه؛ فإني عهدت رسول الله"وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب) (55).
والسجع هو الكلام المقفى بدون وزن، والمنهي عنه من السجع هو التكلف فيه؛ لأنه ينافي الخشوع والخضوع _ كما مر _.
أما إذا جاء السجع على اللسان سليقة، وفطرة ومطاوعة بلا تكلف _ فلا بأس بذلك؛ لكثرة الأدعية المسجوعة من الكتاب والسنة، والتي مر وسيمر بنا شيء منها.
23_ الإعراب بلا تكلف: فالإعراب عماد الكلام، وجماله، ووشيه؛ فيحسن بالعبد وهو يناجي ربَّه أن يُعْرب عما يقول قدر المستطاع، خصوصًا إذا كان إمامًا يدعو والناس يُؤَمِّنون خلفه، على ألا يَصِلَ ذلك إلى حد التكلف، وألا يجعل همته مصروفة إلى تقويم لسانه؛ لأن ذلك يذهب الخشوع الذي هو لب الدعاء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(ينبغي للداعي إذا لم تكن عادته الإعراب ألا يتكلف الإعراب، قال بعض السلف: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع.
وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء، فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس؛ فإن أصل الدعاء من القلب، واللسان تابع القلب، ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه أضعف توجه قلبه) (56).
24_ ألا يدعو بانتشار المعاصي: فالمعاصي من الفساد، والله لا يحب الفساد، بل اللائق به أن يدعو بانتشار الخير بين الناس.
25_ اختيار الاسم المناسب، أو الصفة المناسبة حال الدعاء: كأن يقول: يا رحيم ارحمني، يا كريم أكرمني، يا شافي اشفني، رب هب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب وهكذا.
26_ ألا يحجر رحمة الله في الدعاء: كأن يقول: اللهم اسق مزرعتي وحدها، أو اللهم أصلح أولادي دون غيرهم، أو ربِّ ارزقني وارحمني دون سواي.
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال:(قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في صلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلَّم النبي- صلى الله عليه وسلم- قال للأعرابي: "لقد حجَّرتَ واسعًا" _ يريد رحمة الله) (57).
27_ التأمين على الدعاء من المستمع:كما في قصة دعاء موسى وهارون _ عليهما السلام _ على فرعون وآله.
قال المفسرون: كان موسى يدعو، وهارون يؤمن (58).
ولهذا قال _ تعالى _:"قد أجيبت دعوتكما" [يونس،89].
28_أن يسأل الله كل صغيرة وكبيرة: وهذا الأمر يغفل عنه كثير من الناس، فتراهم لا يلجأون إلى الله ولا يسألونه إلا إذا نزلت بهم عظائمُ الأمور، وشدائدها.
أما ما عدا ذلك فلا يسألونه؛ لظنهم أنه أمر يسير لا داعي لسؤال الله من أجله.
وهذا خطأ؛ فاللائق بالمسلم أن يسأل ربه كل صغيرة؛ فلو لم ييسر الله أكل الطعام _ مثلاً _ لما استطاع الإنسان أكله، ولو لم ييسر لبس النعل لما استطاع الإنسان لبسه.
قال":=سلوا الله كل شيء، حتى الشسع (59)، فإن الله _ تعالى _ لو لم ييسره لم يتيسر". (60)
فقوله: حتى الشسع إشارة أن ما فوقه أولى وأولى.
(1) تحفة الذاكرين للشوكاني ص28.
(2) رواه الترمذي(2969) التفسير، سورة البقرة، وقال: حسن صحيح، وأبو داود(1479) الصلاة، باب الدعاء، وابن ماجة(3828) الدعاء، باب فضل الدعاء، وقال الألبانيفي صحيح الجامع(3407) صحيح
(3) رواه أحمد 2/362، والبخاري في الأدب المفرد(712) باب فضل الدعاء، وابن ماجة(3829) الدعاء، باب فضل الدعاء، والترمذي(3370) الدعوات، باب فضل الدعاء، وصححه الحاكم في المستدرك1/490، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد(549).
(4) تحفة الذاكرين ص30.
(5) رواه الترمذي(3571) الدعوات، باب انتظار الفرج، وضعفه، وانظر الضعيفة(492).
(6) عيون الأخبار لابن قتيبة، 2/287.(/6)
(7) أخرجه أحمد 2/442، والترمذي(3373)، وابن ماجة(3827) الدعاء، باب فضل الدعاء، وصححه الحاكم(1/491)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد(512).
(8) انظر تحفة الذاكرين للشوكاني ص31.
(9) العبودية ص94_95.
(10) رواه ابن حبان،الموارد:1939، كتاب الأدب، باب ما جاء في السلام، وكتاب الدعاء(60)، باب العجز في الدعاء، وقال الألباني في صحيح الجامع(1044): صحيح، وانظر الصحيحة(154).
(11) رواه أحمد 3/18، والترمذي(3381) الدعوات، باب ما جاء في أن دعوة المسلم مستجابة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع(5678).
(12) أخرجه البخاري في الأدب المفرد(710)، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد(547): صحيح.
(13) أخرجه أحمد 2/448، والبخاري في الأدب المفرد(711)، والخطابي في شأن الدعاء(9) وقال الألباني في صحيح المفرد (548): صحيح بما قبله.
(14) انظر تحفة الذاكرين ص33.
(15) فتح الباري 11/95.
(16) عيون الأخبار لابن قتيبة 2/286_287.
(17) أخرجه أحمد5/277، وابن ماجة(90) في المقدمة، باب القدر، والترمذي(139) القدر، باب لا يرد القدر إلا الدعاء، وحسنه الألباني في صحيح الجامع(7687)، وانظر الصحيحة(154).
(18) تحفة الذاكرين ص29.
(19) تحفة الذاكرين ص30.
(20) أخرجه الترمذي(3548) وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو ضعيف في الحديث، ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وقال الألباني في صحيح الجامع(3409): حسن، وانظر: المشكاة(2234)
(21) انظر تحفة الذاكرين ص28.
(22) أخرجه الطبراني قي الدعاء 2/800(33)، والأوسط (2519)، والحاكم 1/492، والبزاز_ كما في كشف الأستار للهيثمي_ 3/29(2165) من طريق زكريا بن منظور الأنصاري قال: حدثني عطاف الشامي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. قال الحاكم: هذا صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بأن في سنده زكريا مجمع على ضعفه.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/146: فيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. وقال الألباني في صحيح الجامع (7739): حسن، وانظر المشكاة(2234).
وأخرجه أحمد 5/234، والطبراني في الكبير 20/103 (201) من طريق شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل بنحوه.
قال الهيثمي في المجمع 10/146: وشهر بن حوشب لم يسمع من معاذ، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة.
(23) انظر مدارج السالكين لابن القيم، 2/229.
(24) مدارج السالكين، 2/229.
(25) ديوان الشافعي، تحقيق: د. محمد عبدالمنعم خفاجي، ص109.
(26) ديوان الشافعي، ص75.
(27) رواه الترمذي (3476) الدعوات، وأبو داود (1481) الصلاة، باب الدعاء بمعناه، وقال الألباني في صحيح الجامع (3988): =صحيح+.
(28) أخرجه الطبراني في الأوسط(مجمع الزوائد 10/160) عن علي، والديلمي في الفردوس (4791) عن أنس، وانظر سنن الترمذي(486) الصلاة، باب فضل الصلاة على النبي"عن عمر موقوفًا، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4523).
(29) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 10/237_336 فقد بسط × القول في هذا الدعاء العظيم في إجابة مطولة عن سؤال حول هذا الدعاء.
(30) رواه البخاري (6306) الدعوات، باب أفضل الاستغفار، والترمذي (3393) الدعوات.
(31) رواه البخاري(6339) الدعوات، باب ليعزم المسألة، ومسلم(2678) الذكر والدعاء، باب العزم بالدعاء.
(32) أخرجه الطبراني في الدعاء 2/795 (20)، والعقيلي في الضعفاء الكبير 4/452، وابن عدي في الكامل 7/2621، وغيرهم.
من طريق بقية بن الوليد حدثنا يوسف بن السفر عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله": "إن الله يحب الملحين في الدعاء".
قال الحافظ في الفتح 11/95: وأخرج الطبراني في الدعاء بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة مرفوعًا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء".
وقال في تلخيص الحبير 2/95 عن الحديث السابق: تفرد به يوسف بن السفر عن الأوزاعي وهو متروك وحكم عليه الألباني في الإرواء 3/143 بالوضع، وفي السلسلة الضعيفة 2/96 ( 637) بالبطلان.
(33) أخرجه الترمذي (3382) الدعوات، باب أن دعوة المسلم مستجابة، والحاكم 1/544، والطبراني في كتاب الدعاء (44) و (45) باب الحث على الدعاء في الرخاء، وحسنه الألباني في الصحيحة (593)، وصحيح الجامع(6290)
(34) رواه مسلم (3009) الزهد في حديث جابر الطويل، وأبو داود(1532).
(35) مسلم (1794) الجهاد والهجرة، باب ما لقي النبي"من أذى المشركين.
(36) رواه البخاري ( 6343) الدعوات، باب الدعاء مستقبل القبلة، ومسلم (894) الاستسقاء.
(37) البخاري (3960) المغازي، باب دعاء النبي"على كفار قريش.
(38) رواه البخاري (4323) المغازي، ومسلم (2498) فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي موسى الأشعري.
(39) رواه البخاري (4339) المغازي، باب بَعْثِ النبي خالدًا إلى بني جذيمة، والنسائي 8/237 آداب القضاة.(/7)
(40) رواه أبو داود (1488) الصلاة، باب الدعاء، والترمذي (3556) الدعوات، وابن ماجة (3865) الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء، وقال الألباني في صحيح الجامع (2070): حسن.
(41) انظر تحفة الذاكرين ص44.
(42) رواه البخاري (4323)، ومسلم (2498).
(43) رواه أبو داود (3107) الجنائز، باب الدعاء للمريض، وهو حديث حسن كما في صحيح الجامع(466).
(44) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/35_39.
(45) رواه مسلم (202) الإيمان، باب دعاء النبي"لأمته، وبكائه شفقة عليهم.
(46) إحياء علوم الدين، 1/308.
(47) رواه أحمد 6/189، وأبو داود (1482) الصلاة، باب الدعاء،والحاكم 1/539، والطبراني في الدعاء (50) باب ما كان النبي يستحب من الدعاء، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4949).
(48) شأن الدعاء ص15.
(49) رواه الترمذي (3385) الدعوات، باب ما جاء أن الداعي يبدأ بنفسه وقال حسن غريب صحيح، وأبو داود(3984) القراءات، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4723).
(50) مجمع الزوائد 10/210 وقال: إسناد جيد، وحسنه الألباني في صحيح الجامع(6026).
(51) رواه البخاري (6384) الدعوات.
(52) انظر بدائع الفوائد 3/6_10، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 15/15_20.
(53) إحياء علوم الدين، 1/306.
(54) شأن الدعاء ص17.
(55) البخاري (6337) الدعوات، باب ما يكره من السجع في الدعاء.
(56) مجموع الفتاواى، 22/489.
(57) رواه البخاري(6010) الأدب، باب رحمة الناس والبهائم.
(58) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/411.
(59) الشسع: أحد سيور النعل وهو الذي يدخل بين الأصبعين، ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل. انظر لسان العرب، 8/180.
(60) أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (356) باب ما يقول إذا انقطع شسعه، والترمذي 4/292 الدعوات، وضعفه الشيخ الألباني في الضعيفة (1362)، ولكن الحديث صحيح من قول عائشة موقوفًا عليها _ رضي الله عنها _، انظر مسند أبي يعلى (4560) 8/45، وعمل اليوم والليلة (357)، قال الهيثمي في الحديث: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبيد الله وهو ثقة. المجمع 10/150.(/8)
أهمية الدعوة إلى الله تعالى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }(1) .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }(2) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (3) .
أما بعد :
يقول الله تعالى : }يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }(4) .
هذا الخطاب إلى الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس بشيراً ونذيراً ، يأمره الله جل وعلا بإبلاغ ما أنزله إليه ، وهو عليه الصلاة والسلام الذي صرف وقته وجهده وماله ، بكل الوسائل ، كل ذلك في الدعوة إلى الله ، يخاطبه ربه بقوله :{ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } إذا كان هذا في حق النبيّ الكريم ، فكيف بحال علماء ودعاة المسلمين ، بل كيف بنا نحن في هذا العصر ، ألا نتذكر قول رسولنا صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه (( فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ))(5) .
إذن واجبنا في الدعوة إلى الله يحتم علينا أن ندعوا الناس كافة إلى دين الله عز وجل وإقامة حجته عليه وإزالة عذر الجهالة عنهم كما قال تعالى : { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }(6) .
وهذا للناس كافة فكيف بمن أتوا إلى بلادنا ومكثوا فيها سنين عدداً وقد وفروا علينا عناء السفر وتكلفة المال والجهد والوقت بل ما موقفنا إذا علمنا أنهم يعودون إلى بلادهم أفواجا ولم يبلغوا ، ثم ماذا قدمنا للنسبة الكبيرة من هؤلاء الذين يبحثون بكل شغف للتعرف على الإسلام وكيفية الدخول فيه ليس هذا فقط بل ما دورنا مع إخواننا المسلمين الذين لا يجيدون اللغة العربية الذين يعيشون بيننا في مكاتبنا وأسواقنا وحتى في بيوتنا خاصة وأنهم سيرجعون إلى بلادهم فيصبحون بعد ذلك دعاة حق مؤيدين لدين الله ، إنه من الملاحظ أن هناك نقصاً واضحاً وتقصيراً بيناً في هذه الساحة المهمة ألا وهي الدعوة إلى الله .
إن تبليغ دعوة الله للناس واستقبال الراغبين في الدخول في دين الله ، ومن ثم الاهتمام والرعاية بكل مسلم جديد وتعليمه أمور دينه التي لا يجوز له الجهل بها ، وكذلك توعية ورفع مستوى العلم الشرعي عند المسلمين الذين لا يتحدثون اللغة العربية ، إن هذا كله يجب أن يتم بطرق مدروسة ، وخطى ثابتة بعيداً عن الاجتهادات الفردية الحماسية التي نطاقها محدود جداً ولن تؤدي الغرض الذي كلفت به هذه الأمة .
وبعد هذا العرض الموجز لأهمية الدعوة إلى الله أجمل بعض النقاط التي يمكن للشباب المسلم المشاركة بها في دعوة هذا الجمع الغفير من غير المسلمين :
1- الكلمة الطيبة مع إظهار عزة المسلم واستعلائه بدينه واقتناعه به .
2- القيام بمساعدة من يجدونه منهم بحاجة إلى مساعدة وليكن ذلك من باب البر المسموح به لا من المودة المحرمة .
3- الصدق والأمانة في المعاملة وإعطاء كل ذي حق حقه .
4- تقديم الهدية ولو متواضعة .
5- إسماعهم صوت الإسلام بواسطة الكتاب أو الشريط أو الكلمة الطيبة .
6- إحضار من يمكن إحضاره إلى الدروس والمحاضرات التي تقام في مكاتب الدعوة مثل مكتب التعاون في البطحاء في الرياض .
7- معاشرة من يسلم منهم واستضافته ومواساته وإشعاره بالأخوة الإسلامية .
8- ترغيب من يسلم في طلب العلم والاستزادة منه .
9- تذكير المسلم حديثاً أو من ولد مسلماً بوجوب الدعوة إلى الله على علم وبصيرة .
وهناك أشياء يدركها الإنسان حين يشارك في هذا العمل تعينه على فهم رسالته وتفتح له أبوابا جديدة لا يعلمها من قبل واهم من ذلك كله أن تكون الدعوة همه وغايته وأسلوب حياته ، والإخلاص لله ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم منطلقه ومبدؤه والاستعانة بالله عونه وعلى الله توكله .
هذا ما تيسر ذكره وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
مكتب التعاون للدعوة والإرشاد
قسم الجاليات
_______________________________________________
(1) سورة آل عمران : آية 102.
(2) سورة النساء آية : 1.(/1)
(3) سورة الأحزاب آية : 70-71.
(4) سورة المائدة آية : 67.
(5) رواه البخاري ومسلم .
(6) سورة النساء آية 165.(/2)
أهمية الصلاة في الإسلام
أخي الحبيب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه رسالة من أخ ناصح لك مشفق عليك يتمنى لك الفلاح في الدنيا والآخرة ويحب لك الخير أينما كنت
أخي :
قال الله تعالى :{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ(الذريات:55) } وقال تعالى {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (الأعلى:10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (الأعلى:11) } ومن لا تنفعه الذكرى فهو من الذين قال الله في حقهم {وإذا ذكروا لا يذكرون} أيها المسلمون اعلموا أن من أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة قال تعالى { والذين هم على صلواتهم يحافظون ، أولئك هم الوارثون ، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } وقال تعالى : { والذين هم على صلاتهم يحافظون ، أولئك في جنات مكرمون } وقال تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ، إلاّ من تاب وآمن وعمل صالحاً} قال ابن عباس رضي الله عنهما ليس معنى أضاعوها تركوها بالكلية ولكن معنى أضاعوها أخروها عن أوقاتها ، وقال تعالى :{فويل للمصلين ، الذين هم عن صلاتهم ساهون} أي غافلون عنها متهاونون بها حتى يفوت وقتها، وقال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } قال المفسرون المراد بذكر الله في هذه الآية الصلوات الخمس ، وقال تعالى:{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ) وقال صلى الله عليه وسلم ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ) .
وقصة ابن أم مكتوم الأعمى وعدم ترخيص النبيّ له بالصلاة في بيته لأنه يسمع الأذان ، وصلاة الخوف كل ذلك يدل على وجوب الصلاة مع الجماعة وأن المتخلف عنها بلا عذر فاسق ساقط العدالة لا تقبل شهادته ، وأما من ترك الصلاة أو بعضها فهو كافر ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ( بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ) وقال عمر:(لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر ) وقال الله تعالى: مخبراً عن أصحاب النار {ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين ، ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين ، حتى أتانا اليقين ، فما تنفعهم شفاعة الشافعين} ومما يجب التنبه له أمور:
الأول منها ما ابتلي به بعض الأئمة من التخفيف في الصلاة وعدم الطمأنينة فيها ، وقد ورد في الحديث: ( من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم ، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم ) وفي رواية: (من أم قوماً فليتق الله وليعلم أنه ضامن مسئول ، فإن أحسن كان له من الأجر مثل أجر من صلى خلفه ، وإن أساء فعليه وزره ووزرهم ) فليتق الله من أم قوماً وليحسن الصلاة طلباً لبراءة ذمته والحصول على الأجر العظيم .
الثاني: ما ابتلي به أكثر المأمومين من مسابقة الإمام في الصلاة وهذا من كيد الشيطان لإبطال عمل الإنسان ، وقد ورد في الحديث: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أو يسجد قبله أن يجعل الله رأسه رأس حمار ، أو صورته صورة حمار ) وفي الرواية الأخرى ( الذي يخفض رأسه قبل الإمام إنما ناصيته بيد الشيطان ) ومن كيد الشيطان ومكره الالتفات في الصلاة ، ورفع البصر فيها، إلى السماء وقد ورد في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الالتفات في الصلاة ، فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد وفي صحيح مسلم لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم ) وفي رواية أخرى: (أو لتخطفن أبصارهم) .(/1)
الثالث : ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيه فصلى الرجل ثم جاء فسلم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام ثم قال له أرجع فصل فإنك لم تصل ثلاث مرات فقال له في الثالثة والذي بعثك بالحق يا رسول الله ما أحسن غيره فعلمني فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم معك (إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم أركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم اجلس حتى تطمئن جالساً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً وافعل ذلك في صلاتك كلها ) وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود ) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (أشد الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قيل وكيف يسرق من صلاته ، قال لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا القراءة فيها ) .
الرابع: كثير من الناس إذا مرض ترك الصلاة مدة مرضه ويدعي أنه سيقضيها وهذا والعياذ بالله تفريط وإضاعة للصلاة التي هي عمود الإسلام ، وقد قال الله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا } وربما مات في مرضه وهو تارك للصلاة فيختم له بشر خاتمه ، وقد قال الله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) وقال: ( صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك) فما دام العقل ثابتاً فالواجب لا يسقط بحال، وأداؤه على حسب الاستطاعة ، فتنبهوا أيها المسلمون لهذه المسائل فإن خطرها عظيم ، كيف يكون حال من مات تاركاً للصلاة نعوذ بالله من سوء الخاتمة وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .(/2)
أهمية العقيدة وأثر الإعلام الغربي عليها
د. جعفر شيخ إدريس
عقيدة التوحيد هي جوهر الدين وأساسه، فالتأثير فيها سلبا أو إيجابا هو أخطر التأثيرات على دين المسلم. ولما كان الإعلام من أقوي المؤثرات إن لم يكن أقواها في عصرنا هذا على حياة الناس الفكرية والسلوكية، كان البحث في تأثير الإعلام الغربي على عقيدة المسلم المتعرض له، من أهم ما ينبغي أن ينشغل يه الباحثون.
لذلك سرني أن يكون النظر فيه ضمن اهتمامات هذه المناسبة المباركة، وإن كنت أعلم أنني لن أستطيع أن أوفيه حقه. ولما كان البحث في هذا التأثير لا يتم إلا ببيان المكانة العظيمة التي تحتلها العقيدة في الهدي الإسلامي، وبالتالي في حياة المسلم الملتزم به، فقد كان من التوفيق أيضا ان يطلب من الناظر فيه البدء ببيان هذه المكانة العظيمة.
أهمية العقيدة
أقول إذن مستعينا بالله ومبتدئا حديثي هذا بسؤال:لماذا جعلت العقيدة أساس الدين وركنه الأول؟ ربما تبادر إلى أذهان بعض الناس ولا سيما أناس في عصرنا هذا الذي يرفع من قدر الظاهر المحسوس، أن الجدير بهذه المكانة هو الأعمال الصالحة الظاهرة كالإنفاق وحسن معاملة الناس والجهاد لرفع راية الدين؟ فلماذا جعلت لشيء باطني غير عملي؟ مع أننا إنما نقوم الناس بحركات جوارحهم لا بحركات قلوبهم وما يكمن في ضمائرهم؟
الجواب الموجز هو أن ما في الباطن مقدم على ما في الظاهر لأنه هو أساسه ومصدره. فما من عمل ظاهري حسن كان أم سيئ إلا وله أساس باطني. هذه حقيقة يعلمها كل إنسان من نفسه، ولو كان يعلم ما في نفوس الآخرين كما يعلم نفسه لكان تقويمه لأعمالهم بأساسها الباطني هذا. تصور لو أن إنسانا أهدي إليك هدية قيمة، لكنك شاهدته في قلبه يقول لك: "ما أحقرك؛ والله إنك لا تستحقها ولا أقل منها، ولولا أني أطمع منك في أكثر منها لما أعطيتك إياها."
هذا علم غيبه الله عنا فلم يبق لنا إلا الحكم بالظاهر والاستدلال به أحيانا على ما في الباطن. أما الخالق سبحانه فإنه عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولهذا كان تقويمه سبحانه للناس بهذا الباطن الذي هو أساس الظاهر
إن أصل تكريم الباطن هو أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون الإنسان من عنصرين من مخلوقاته، عنصر الطين وعنصر الروح، فجعل المكون من الطين هو صورته المرئية، وجعل العنصر الروحي حقيقته الخفية. لكنه سبحانه جعل بين ظاهر الإنسان وباطنه صلة ونسبا. فالروح إنما تسكن في الجسد، وإنما تبدو تصرفاتها وتأثيراتها عليه وبوساطته؛ وربما كان هذا هو السر في أن بعض أعمال الروح تنسب إلى أعضاء جسدية لصلتها الخاصة بها. إن القلب الجسدي ليس هو الذي يعقل كما يحدثنا شيخ الإسلام بن تيمية، وعليه فإن السلامة والمرض المنسوبتان إليه في الكتاب والسنة ليستا أحوالا جسدية كما هو المشاهد، وإنما هي أحوال روحية نسبت إلي ما يلائمها من الأعضاء الجسدية.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعل الإنسان إنسانا بجوهره الروحي الداخلي الخفي لا بشكله الجسدي الخارجي. فالروح هي محل الإدراك والإيمان والتصورات والإرادات والمشاعر. والإنسان إنما يتحرك ويتصرف بما يعتقد، حقا كان أو باطلا، وبما يتصور واقعا كان أم وهما. وإذا كان الأمر كذلك كان ما يظهر لنا من صلاح الإنسان أو فساده السلوكي راجعا بالضرورة إلي صلاح معتقداته وتصوراته أو فسادها. وإذن فالجانب الذي نسميه عمليا في حياة الإنسان والذي قد نخطئ فنظنه أهم جانبيه، إنما هو أثر وناتج عن جانبه الداخلي الذي قد نجنح إلي التقليل من أهميته فنصفه بالنظري أو المثالي. كلا. إنه لهو الجانب الفعال الذي يحدد مصير الإنسان والذي ينبغي لذلك أن تكون العناية به أكبر،
وكما جعل الله تعالى غذاء الجسد وبقاْءه في بعض المطاعم والمشارب، وجعل مرضه أو موته في غيرها، فقد جعل غذاء الروح وبقاءها في بعض العلوم وجعل مرضها وموتها في حرمانها منها، وجعل حياته الروحية هي حياته الحقيقية، وموتها هو موته الحقيقي.
والحقائق التي يمكن للإنسان أن يعلمها كثيرة، والعلوم النافعة كثيرة، لكن أشرف العلوم وأجلها نفعا هو العلم بالله ربا لا رب سواه وإلها لا معبود بحق إلا إياه. هذا هو العلم الذي لا تحيا القلوب إلا به، ولا يكون الإنسان مخلوقا كريما إلا بمعرفته، والاعتراف به.
نعم. الاعتراف، لأن هذا العلم لا يؤتي ثماره إلا إذا اختار من علمه أن يعترف بما علم ويؤمن به. فالروح لا تحيا بالمعرفة وحدها بل لا بد أن تنضم إليها الإرادة، إرادة الإيمان.
وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك، فيؤمنوا به، فتخبت له قلوبهم.
فتأثير هذا العلم معتمد على قبوله أو رفضه لا على مجرد اكتسابه:
وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون. وأما الذين في قلوبهم مرض فزادته رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون. [التوبة:125]
وما تغني الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون.[ ](/1)
فإذا ما عرف الإنسان ربه وآمن به تفجرت ينابيع الخير في قلبه ثم فاضت على جوارحه بمقدار علمه وقوة إيمانه. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى كما جعل الروح جوهر الإنسان، فقد جعل الإيمان به منبع كل خير فيه. ولذلك كانت الدعوة إليه والتذكير به مفتاح كل دعوة إلى فكر قويم وسلوك مستقيم، وكانت الدواء الذي لا غناء عنه لكل أنواع الانحرافات السلوكية. ولذلك كانت البداية به في جهود الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لإصلاح المجتمعات التي بعثوا إليها. يدعو أحدهم قومه إلى إفراد الله تعالى بالعبودية ثم يدعوهم بعد ذلك إلى تفاصيل الشريعة وإلي ترك ماهم عليه من أنواع الانحرافات السلوكية، خلقية كانت أم اقتصادية أم سياسية أم اجتماعية.
فالإيمان هو الذي يهيئ النفوس لعبادة الله وينشط الجوارح لها
وإذا حلت الهداية قلبا نشطت للعبادة الأعضاء
وهو الذي يهيئها لقبول تفاصيل الشريعة. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها:
لقد نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام. ولو نزل تشربوا الخمر، لقالوا لا ندع الخمر أبدا. ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا. لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لجارية ألعب: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده. [البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن]
وهو السبب الأساس لحل المشكلات الاقتصادية والسياسية والخلقية. أقول إنه الأساس ولا أقول إنه يغني عن التفاصيل التشريعية المبنية عليه، ولا عن الأسباب الطبيعية والاجتماعية التي جعلها الله أسبابا مؤثرة. وهو السبب الأساس لبقاء النعم المادية وزيادتها. والكفر والإخلال به هو السبب الأساس لنقصانها وزوالها.
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين. أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم.
ثم:
فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل أنهار.
وإلى عاد أخاهم هودا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون.
ثم:
وياقوم استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا، ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين.
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب.
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره.[ ]
ثم:
ولا تنقصوا المكيال والميزان. إني أراكم بخير. وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط. وياقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ.
كذبت قوم لوط المرسلين. إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون. إني لكم رسول مبين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين.
أتأتون الذكران من العالمين. وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزوجكم بل أنتم قوم عادون.
ثم دمرنا الآخرين. وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون.
وأهم من هذا كله أن عقيدة التوحيد هي سبب السعادة النفسية
(ألا بذكر الله تطمئن القلوب) بل هو سبب السعادة الأبدية لأنها هي السبب الأساس لدخول الجنة وللنجاة من النار:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.[النساء:48]
يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.[الشعراء:88-89]
تأثير الإعلام على العقيدة
وسائل الإعلام ليست قاصرة ـ كما هو معروف ـ على الصحف والمجلات والراديو والتلفاز، بل تشمل الكتب العامة والسينما وربما المسرح وتشمل الآن الشبكة العالمية (الانترنت). لكنني أريد أن أضيف في هذا المقال إليها حتى الكتب المدرسية لعظم تأثيرها على الآلاف المؤلفة من أبناء المسلمين.(/2)
إذا استثنينا الإعلام الكنسي بكل وسائله ـ وهو إعلام لا يكاد يتعرض له المسلم ـ فربما استطعنا أن نقول إن الإعلام الغربي نادرا ما يتعرض للمسائل الدينية بطريقة مباشرة. فكيف يكون له إذن تأثير إيجابي أو سلبي على الدين؟ نعم إن له لتأثيرا أيما تأثير لأنه ليس من شرط التأثير أن يكون مباشرا، بل إن التأثير غير المباشر قد يكون أعظم من التأثير المباشر كما سنرى، وهو في غالبه تأثير سيء ، وإن كان لايخلو من بعض التأثيرات الحسنة. ونعني بالتأثير غير المباشر هنا تلك المعتقدات العلمانية الإلحادية المادية الشائعة في الغرب والتي تفترض صحتها والتي تكمن لذلك وراء تفسيراتهم للحوادث الطبيعية والاجتماعية والنفسية، وإن كان لا يصرح بها إلا نادرا.
التأثير السلبي
تأثيرات الإعلام الغربي السلبية على عقيدة المسلم كثيرة، نذكر منها فيما يلي بعض ما يحضرنا ونراه مهما:
أولا: من التأثيرات الشديدة الخفاء البالغة الضرر الاعتقاد السائد بين كثير من علماء الطبيعة والاجتماع، وبالتالي بين عامة المفكرين والصحفيين والمحللين في الغرب، أن التفسير العلمي للحوادث سواء كانت طبيعية أو اجتماعية هو ذلك التفسير القائم على افتراض أن هذا الكون مكتف بنفسه، وأن تفسير حوادثه ينبغي لذلك أن يكون من داخله، أعني أن الظواهر يجب أن تفسر بظواهر أخرى، وأن كل تفسير لشيء من حوادث الكون بإرجاعها إلي سبب خارج عنه هو تفسير خرافي غير علمي.
هذا هو المبدأ المفترض، لكنه لا يقرر بهذه الطريقة الصريحة التي ذكرتها، وإنما يفترض افتراضا، وقد يفترضه ويلتزم به حتى من لم يفكر فيه من العلماء الطبيعيين وسائر المفكرين، والصحافيين. من مظاهر افتراضهم له أنهم يقفون في تفسيرهم للحوادث عند أسبابها الدنيوية ظاهرة كانت أم خفية, ولا يتجاوزونها. وما ذلك للاعتقاد بأنها هي الأسباب الحقيقية الكافية. لكن المسلم مع اعتقاده بفاعلية الأسباب الطبيعية أو الاجتماعية أو النفسية، لا يقف عند حدودها، بل يذكر نفسه بأنها إنما صارت أسبابا بجعل الله لها أسبابا، وأن الفاعل الحقيقي إنما هو الخالق سبحانه.
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يارسول الله : أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله. [سنن الترمذي، كتاب الطب، باب ما جاء في الرقى والأدوية.]
قلت إن هذا المبدأ الإلحادي قليلا ما يصرح به، وأقول إن التزامه في الواقع قد لا يبدو فيه ما يخالف عقيدة المسلم، ما دام المسلم معترفا بتأثير الأسباب المخلوقة وفاعليتها. لكن الأمر في الحقيقة ليس كذلك. إن المتلقي إذا كان لا يسمع لله ذكرا أبدا في كل ما يخبر به من حوادث طبيعية واجتماعية يوشك أن يتأثر بذلك المبدأ فينسى هو الأخر ذكر الله تعالى، وينحو نحو أصحابه في تفسيره للحوادث، فلا تكون له فيها عبرة.
المبدأ الغربي الثاني الذي أراه أيضا ذا أثر سيئ، والذي أراه قد بدأ ينتشر حتى بين المسلمين في العالم الإسلامي بسبب التأثر بالثقافة الغربية التي تنقل عن طريق وسائل الإعلام، هو مبدأ النسبية. أعني نسبية الحقائق، والقيم. لقد أصبح من المسلمات عند كثير من الناس في الغرب أنه لا توجد حقيقة مطلقة، ولا قيمة مطلقة، وإنما الحقائق والقيم نسبية، أي إنها منسوبة وتابعة لزمانها أو مكانها أو الحضارة والثقافة التي ظهرت فيها، وهكذا. فما قاله الناس في العصر الفلاني، أو اعتقدوه في المكان الفلاني، أو رأوه حسنا في الحضارة الفلانية، كل هذا صحيح أو معقول بالنسبة لهم وإن كنا نراه نحن في ظروفنا أو زماننا أو حضارتنا على غير ما رأوه. وما دام الأمر كذلك فليس من حق أحد أن يقول إن فهمه لنص من النصوص هو الفهم الصحيح أو إن فهم خصمه خطأ. وأننا ينبغي لذلك أن نكون سلفيين في فهمنا للنصوص، فللسلف زمانهم ولنا زماننا، ولهم ظروفهم ولنا ظروفنا. بل قد رأيت بعضهم غلا في هذا الأمر حتى قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفسر القرآن لعصرنا لأنه لا يعرفه.(/3)
ثالثا الاعتقاد في المفهوم السلبي للحرية. وإذا كان الاعتقادان السابقان مما يفترض ولا يذكر، فإن هذا مما يكثر ترداده والتصريح به، والدعوة إليه، والتفاخر به، في كل أجهزة الإعلام. وقد أثر لذلك في الناس تأثيرا بالغا حتى صار من المسلمات حتي عند كثير من المسلمين. إن الحرية بمعنى أن الله تعالى أعطى الإنسان المقدرة على الاختيار كما أعطاه المقدرة على العمل، أمر لا شك فيه، بل ربما كان هو مما يتميز به الإنسان. وقد شاء الله تعالى أن يجعل الإنسان شائيا، ومسؤولا عن مشيئته، (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا). فالمنازعة ليست إذن في كون الإنسان ذا إرادة ومشيئة واختيار، وإنما هي في الطريقة التي تستعمل بها هذه المشيئة أو الحرية التي منحها الله تعالى للإنسان. المفهوم السلبي للحرية يجعلها غاية في ذاتها، بمعنى أن كرامة الإنسان تزداد بازياد استقلاله في اتخاذ قراره، أيا كان ذلك القرار. أي إن العبرة في الاختيار لا فيما يختار. وعليه فكلما مكن الإنسان من أن يفعل ما يشاء كان هذا أكرم له وأكثر تحقيقا لإنسانيته. هذا المفهوم السلبي للحرية مفهوم قديم وإن تزيى بزي حديث. إنه المفهوم المرتبط بالاستكبار والكفر. وهو المفهوم الذي لجأ إليه قوم شعيب في احتجاجهم على أمره لهم بعبادة الله وعدم الظلم في المعاملات المالية. (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)[ ] وهو المفهوم الذي ذمه الله تعالى في قوله (أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟)[ٍالقيامة:36] أي لا يؤمر ولا ينهى. فالإسلام يعلمنا أن كرامة الإنسان لا تتحقق بمجرد الاختيار، لأن هلكة الإنسان قد تكون فيما يختار. (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدي فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون) [فصلت: 17] وإنما تتحقق باختياره للحق وللخير، ولما يختار له ربه (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا)[ الأحزاب:36]
رابعا: في الإعلام الغربي هجوم على المسلمين ولا سيما العرب، هجوم قال عنه الأستاذ إدوارد سعيد إنه من النوع الذي لم يعد مقبولا في الغرب حين يوجه لليهود أو السود أو الآسيويين أو الأفارقة. يتهم العرب بعدم الأصالة وبالمحافظة وبعدم المقدرة على التحضر، وبالارهاب، بل وبالتواكل وبالقذارة، ثم يقال إن سبب هذا كله هو الإسلام. هذا كلام يبدو لأمثالنا سخيفا لا يستحق حتى أن يرد عليه، لكن ينبغي أن لا نقلل من تاثيره على شاب في مقتبل عمره، ولد في بلد غربي وترعرع فيه. عندما ظهر كتاب الآيات الشيطانية طلب مني إخواننا في مجلة Impact أن أكتب نقدا له. فعندما قرأته قلت لهم كلاما فحواه أنه كتاب سخيف ثقيل ما أظن أحدا سيكمل قراءته، فأرى لذلك أن لا تهتموا به، بل اتركوه ليموت. لا زلت أذكر ردهم. قالوا إن الكاتب معروف في أوساط الشباب ذوي الأصول الهندية الباكستانية، وأنهم قارئوه لا محالة.
خامسا: يكثر في الإعلام الغربي الحديث عن الدين بطريقة هازلة، ولإثارة الضحك، حتى فيما يتعلق بالخالق سبحانه وتعالى. ويكثر فيه وصف الخالق بكلمات لا احترام فيها، كما نرى ذلك مثلا في عنوان الكتاب الذي دخل ضمن أكثر الكتب بيعا في أمريكا. إن اسمه: سيرة الله. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. إن كثيرا من المسلمين المعاصرين لا يدرون أن الكلام عن الخالق بمثل هذه الطريقة يخرج صاحبه عن ملة الإسلام. ألم يقل الله تعالى عن بعض أمثال هؤلاء
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب. قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم.
سادسا: ومما يتصل بهذا أنهم لم يعودوا يأخذون الدين مأخد الجد، لكنهم يصورون هذا بأنه تسامح، وسعة أفق، ويصمون كل من يبدو منه استمساكا شديدا بالدين بالتطرف، أو ضيق الافق والتعصب وعدم العقلانية، وهكذا. لذلك تعجب كثير من الغربيين من الضجة التي أثارها المسلمون بسبب ما قاله مؤلف الآيات الشيطانية عن الله تعالى. وقد تأثر الإعلام في البلاد العربية والإسلامية بهذا الانحراف فعاد هو الآخر يطبقه على كل من يبدو منه شدة استمساك بنصوص الكتاب والسنة، وعاد يمدح كل منتسب للعلم يبدو منه هذا النوع من التحلل.(/4)
سابعا: الإعلام الغربي ـ التلفاز والمجلات والقصص والأفلام والانترنت ـ مليء بإثارة الشهوات الجنسية بكل نوع من صور الإثارة، بالكلمة والصورة، بالشعر والقصة، بأخبار المنحرفين وبنشر الفضائح. قد يقال لكن ما علاقة هذا بالعقيدة التي هي موضوع بحثنا؟ وأقول نعم. إن الإنسان قد يقع في المعاصي الجنسية ويظل مع ذلك محتفظا بإيمانه وصفاء عقيدته. لكن من هنالك صلة بين الشهوات والشبهات كما نبهنا إلى ذلك علماء السلف. فالذي يكثر يشتد ضعفه أمام الشهوات يضعف قلبه، فيكون مهيأ للتأثر بالشبهات المتعلقة بالعقيدة، كتلك التي ذكرناها آنفا.
ثامنا: وهنالك شبهات مباشرة وجدت في الانترنت مرتعا خصبا لها، شبهات يثيرها خصوم الإسلام المختصون بمحاربته على صعيد الفكر، ويثيرها أهل الأهواء من المنتسبين إلى الإسلام من مفكرى الفرق الضالة. كلاهما أصبح يتستر وراء هذه الشبكة ويعلن فيها ما قد يتردد من التصريح به في وسائل الإعلام الأخرى. وقد رأيت بعض الشباب يتابعون ما ينشر في أمثال هذه الصفحات، ثم يأتون ليسألوا عن كيفية الرد عليها، لأن علمهم بالدين قليل، والشبهات قوية مضلة.
تاسعا: وربما كان سبب هذا كله أن في الغرب عدم اطمئنان إلى الدينين الشائعين فيه، وعدم ثقة برجالهما، بل وشك في إمكانية الاستقامة. وهذا داء في الغرب قديم أكثر ما يظهر في الأدب، حتى لقد قال احد نقادهم ـ أظنه الدوس هكسلي ـ إنه لا يوجد في أبطال روايات شكسبير رجل خير. وأنت تلاحظ هذا في القصص التي يقرؤها الناس بشغف. إن الشخصية المستقيمة أو المتدينة في القصة كثيرا ما ما تصور بأنها شخصية منافقة تفعل في الخفاء ما يخالف مسلكها الظاهري، حتى لقد أصبحت المجاهرة بالسوء نوعا من الصدق مع النفس والصراحة. وبما أن الغربيين لا يعرفون دينا غير دينهم فإنهم لا يتحدثون عن اليهودية والنصرانية بخصوصهما وإنما يتحدثون عن الدين بصفة عامة. ومن هنا يأتى خطر كلامهم على الطفل او الشاب المسلم الذي يعيش بين ظهرانيهم، بل حتى الذي يتعرض في بلده الإسلامي لإعلامهم وثقافتهم.
الآثار الحسنة
مع كل ما ذكرنا من مثالب الإعلام الغربي فيما يتعلق بالعقيدة، فإن له محاسن تتعلق بها ليس من الإنصاف تجاهلها. من ذلك:
أولا: أن البلاد الغربية أضحت في زماننا هي موطن الكشوف العلمية والتقدم في العلوم الطبيعية، وأضحى إعلامها هو المختص بإذاعتها على المستوى العالمي حتى لو حدث الاكتشاف في بلد غير غربي. فهنالك قنوات تلفازية كالقناة الأمريكية المساة Discovery وقناة وكالة Nasa وهنالك مجلات أسبوعية كمجلة Scientific American ومجلة Discovedry الأمريكية، ومجلة New Scientist الإنجليزية، وهنالك البرامج العلمية التي لا تكاد تخلو منها إذاعة غربية. وقد تطورت هذه الكشوف تطورا هائلا، فأظهرت من عجائب صنع الله تعالى في العالم الخارجي وفي المخلوقات الأرضية الدقيقة ما يكاد يجعل من المستحيل على الملحد أن يستمر في الادعاء بأن كل هذا إنما حدث مصادفة وبغير قوة مدبرة. ولهذا فقد بدأ بعض هؤلاء الملحدين يتراجعون عن إلحادهم وصار بعضهم يشك فيه. أما المؤمنون بوجود الخالق فقد زادتهم هذه الكشوف إيمانا. وأما المسلمون منهم فإنها لا تكون بالنسبة لهم تأكيدا لوجود الخالق فحسب، بل زيادة يقين بدينهم وعودة إليه إن كان قد حدث عنه منهم بعد.
ثانيا: من الحقائق التي لا يزال العقلاء من المفكرين الغربيين يكررون التذكير بها ويجذرون من مغبتها، والتي يراها المعايش لهم والمتتبع لأخبارهم في إعلانهم، أنه قد صاحب بعدهم عن القيم الدينية تدهور في الحياة الخلقية؛ فالمخدرات والإباحية الجنسية، تزداد انتشارا حتى بين الصغار من طلاب المدارس، ويزداد معها اللجوء إلى العنف والقسوة. وقد اعتبر بعض المسلمين بهذا فرجعوا إلى دينهم بعد أن كانوا قد بعدوا عنه. سئل أحدهم: ما الذي أعادك إلى دينك؟ فأجاب: قلت في نفسي إذا كانت هذه هي نتيجة الطريق الذي أنا سالكه فإنها نهاية لا أريدها. بل إن كثيرا من الآباء والأمهات في أمريكا صاروا يفرحون بإسلام أبنائهم وبناتهم حين يرون التغيير الذي طرأ عليهم. لقد صار الغرب هي هذا المجال عبرة لكل عاقل معتبر. نسأل الله تعالى أن يهديهم للدين الحق ويقيهم من مصائر هذا الطريق الذي هم سالكوه.(/5)
ثالثا: بالرغم مما في الشبكة العالمية من العيوب التي ذكرناها، إألا أنها أتاحت للمسلمين فرصة لم تتح لهم من قبل في وسائل الإعلام الأخرى لتعريف الغربيين بالإسلام وللرد على الشبهات التي تثار حوله، ولتكون منبرا مفتوحا للحوار بين المسلمين أنفسهم وللرد على أسئلة السائلين منهم ومن غيرهم. ونحن وإن لم نكن قد استفدنا من هذه الوسيلة الجديدة الفائدة التي تبيحها لنا إلا أن الشباب المتابعين لما ينشر في صفحاتها الإسلامية ـ وما أكثرهم ـ قد انتفعوا بها، وشغلوا بها عن المداومة على مشاهدة التلفاز. ولم يقتصر نفعها على المسلمين، بل إن بعض المشاركين من غير المسلمين يطلع عليها ويبدي لأصاحبها ويكتب لهم فيها مستفسرا أو طالبا لمزيد من المعرفة. بل لقد كانت سببا لهدايتهم بعضهم إلى الإسلام.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(/6)
أهمية العقيدة والدعوة إليها
أم زياد المالكي
أرسل الله - سبحانه - رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون وجاءوا من عند الله مبشرين ومنذرين متحدين على هدف واحد ويدعون إلى عقيدة واحدة التي هي محور دعوة جميع الرسل من نوح - عليه السلام - إلى خاتمهم وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي بعث رحمة للعالمين، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وسار على نهجهم السلف الصالح، يستلهمون سر وحدتهم من صفاء العقيدة الخالصة التي لم تشبها شائبة، فأصبحوا بذلك سادة الدنيا وفتح الله لهم أبواب الخير في كل مكان ورفعوا راية التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها، لأن الذي بدءوا به هو الأهم قبل المهم، وانطلاقهم في دعوتهم من تحقيق كلمة التوحيد(لا إله إلا الله محمد رسول الله) لأن ذلك هو الأساس الذي أمروا أن يبدءوا به.
قال الله - تعالى -: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ) وقال - تعالى -: (واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) والعقيدة مهمة جداً لنيل المقصود في الآخرة، أساس كل عمل وتكفر الذنوب والكبائر إذا صدرت عن إخلاص وقوة إيمان يدل لذلك ما رواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص من حديث صاحب البطاقة حيث ينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يأتي ببطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبدوه ورسوله) فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فتطيش السجلات، وتثقل البطاقة.
فالعقيدة هي رأس الأمر كله والجسد لا يستقيم بلا رأس، ولكن الأمر اليوم قد تبدل في أهمية العقيدة والدعوة إليها، فقد يرتكز الداعي إلى أمور لا تستقيم إلا بالعقيدة، فبعضهم يدعو إلى مكارم الأخلاق أو يدعو إلى السياسة الصحيحة وبعضهم يدعو إلى صفاء النفوس وطهارتها، لكن لا أهمية لهذه الأمور إن لم يكن الأساس قد وضع لها، وهي العقيدة الصافية الخالصة من كل شائبة فتراهم يبدءون بالدعوة إلى بعض الفروع، ويزعمون أنها متى أقيمت فسوف يأتي الأمل تلقائياً..
إن الدعوة الصحيحة هي التي تقام على ما قامت عليه دعوة السلف الذين جعلوا الدين وحدة متكاملة ينطلق في السياسة والأخلاق وجميع الأمور من العقيدة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة، وعند الهتاف بأن الدعوة لا بد أن تكون على العقيدة لا يعني إهمال الجوانب الأخرى أنما يعني وجوب التأسيس وتكون أعمالنا من منطلق العقيدة.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:(/1)
أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة
القسم : إملاءات > رسائل
كتاب العلم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه ، وأمينه على وحيه نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واتبع هداهم إلى يوم الدين .
وبعد : فإني أحييكم أيها الإخوة وأيها الأبناء بتحية الإسلام فأقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ثم إني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا ومفيدا لنا جميعا وموصلا لما يرضيه ويقرب إليه ، قاضيا على كثير من أسباب الفساد والبلاء ، وعونا على ظهور الحق ودرء الباطل . ثم إني أشكر القائمين على هذا المشروع على دعوتهم لي للتحدث إليكم والإجابة عن أسئلتكم ، وأسأله سبحانه أن يجزيهم على عملهم خيرا ، وأن يجعلنا وإياهم من الهداة المهتدين ، وأن يوفقنا جميعا لما فيه إظهار الحق وإدحاض الباطل ، وإجابة السائلين بما يوافق الصواب للحق الذي يرضي المولى عز وجل . والعنوان كما سمعتم ( أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة ) ، هذا هو عنوان كلمتي التي ألقيتها بين أيدي إخواني وأبنائي .
ولا ريب أن العلم هو مفتاح كل خير ، وهو الوسيلة إلى أداء ما أوجب الله وترك ما حرم الله ، فإن العمل نتيجة العلم لمن وفقه الله ، وهو مما يؤكد العزم على كل خير ، فلا إيمان ولا عمل ولا كفاح ولا جهاد إلا بالعلم ، فالأقوال والأعمال التي بغير علم لا قيمة لها ، ولا نفع فيها بل تكون لها عواقب وخيمة ، وقد تجر إلى فساد كبير .
وإنما يعبد الله ويؤدي حقه وينشر دينه وتحارب الأفكار الهدامة والدعوات المضللة والأنشطة المنحرفة بالعلم النافع ، المتلقى عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهكذا إنما تؤدى الفرائض بالعلم ، ويتقي الله بالعلم ، وبه تكشف الحقائق الموجودة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام ، قال جل وعلا في كتابه العزيز : {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}[1] فجميع ما يقدمه أهل الباطل وما يلبسون به في دعواتهم المضللة وفي توجيهاتهم لغيرهم بأنواع الباطل وفي تشبيههم غيرهم فيما جاء عن الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كله يندحض ويكشف بما جاء عن الله ورسوله بعبارة أوضح ، وبيان أكمل ، وبحجة قيمة تملأ القلوب وتؤيد الحق ، وما ذاك إلا لأن العلم المأخوذ من الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، علم صدر عن حكيم عليم ، يعلم أحوال العباد ويعلم مشكلاتهم ويعلم ما في نفوسهم من أفكار خبيثة أو سليمة ، ويعلم بما يأتي به أهل الباطل فيما يأتي من الزمان ، كل ذلك يعلمه سبحانه ،
وقد أنزل كتابه لإيضاح الحق وكشف الباطل ، وإقامة الحجج على ما دعت إليه رسله عليهم الصلاة والسلام ، وقد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ، وأنزل كتابه الكريم تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين .(/1)
وإنما يعمل أهل الباطل وينشطون عند اختفاء العلم وظهور الجهل ، وخلو الميدان ممن يقول : قال الله وقال الرسول ، فعند ذلك يستأسدون ضد غيرهم وينشطون في باطلهم ، لعدم وجود من يخشونهم من أهل الحق والإيمان وأهل البصيرة ، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه كل شيء إجمالا في مواضع ، وتفصيلا في مواضع أخرى قال عز وجل : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[2] وهذا كلام الحكيم العليم الذي لا أصدق منه . {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قيلاً}[3] وأوضح سبحانه في قوله : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[4] أنه مع كونه تبيانا لكل شيء فيه هدى ورحمة وبشرى . فهو بيان للحق وإيضاح لسبله ومناهجه ودعوة إليه بأوضح عبارة وأبين إشارة ، ومع ذلك فهو هدى للعالمين في كل ما يحتاجون إليه في ذكر ربهم والتوجه إلى ما يرضيه ، والبعد عن مساخطه ، ويبين لهم طريق النجاح وسبيل السعادة مع كونه رحمة في بيانه وإرشاده ، وهدى وإحسانا وبشرى ، وتطمينا للقلوب بما يوضح من الحقائق ويرشد إليه من البصائر التي تخضع لها القلوب وتطمئن إليها النفوس ، وتنشرح لها الصدور ، بوضوحها وظهورها يقول سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[5] ويقول سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً}[6] ويقول سبحانه : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[7] ولولا أن كتابه عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهما الهداية والكفاية لما رد الناس إليهما ، ولكان رده إليهما غير مفيد ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وإنما رد الناس إليهما عند التنازع والخلاف لما فيهما من الهداية ، والبيان الواضح ، وحل المشكلات والقضاء على الباطل ، ثم ذكر أن هذا شرط للإيمان فقال سبحانه : {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ثم ذكر أنه خير للعباد في العاجل والآجل وأحسن عاقبة ، يعني أن ردهم ما يتنازعون فيه إلى الله والرسول خير لهم في الدنيا والآخرة وأحسن لهم في العاقبة . ومن هذا يعلم أن في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الأمين حلا لجميع المشكلات وبيانا لكل ما يحتاجه الناس في دينهم ، وفي القضاء على خصوماتهم ، كما أن في ذلك النصر للداعي إلى الحق والقضاء على خصمه بالحجة الواضحة ولهذا يقول سبحانه : {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}[8] والمثل يعم كل ما يقدمون من شبهة يزعمونها حجة ، ومن مذهب يدعونه صحيحا ، ومن دعوة يزعمون أنها مفيدة ، كل ذلك يكشفه هذا الكتاب وما جاءت به سنة رسوله عليه الصلاة والسلام .
فجميع ما يقدمونه من مشكلات وشبهات ودعوات مضللة ومذاهب هدامة كل ذلك يكشفه العلم بهذا الكتاب وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومعلوم أن الأفكار الهدامة والمبادئ الضالة والمذاهب المنحرفة كثيرة ، والملبسون للحق بالباطل لا يحصون ، وكذلك دعاة الباطل والمؤلفون في الصد عن سبيل الله لا يحصيهم إلا الله ، وهم يلبسون على الناس باطلهم بما يحرفون من الكلم ، ولقد كثر الخطباء والمتكلمون في الإذاعات وفي التلفاز وفي كل مجال : في الصحافة والمجتمعات وفي كل نافذة ، كل يدعو إلى نحلته ، وينادي إلى فكرته ، ويمني غيره ويدعوة إلى الباطل ، ولا مخرج من هذه المحن ، ولا طريق للتخلص منها والقضاء عليها إلا بعرضها على هذا الميزان العظيم الكتاب والسنة ، ففي عرضها على هذا الميزان العظيم تمحيصها وبيان حقها من باطلها ، ورشدها من غيها ، وهداها من ضلالها ، وبذلك ينتصر الحق وأهله ، ويندحر الباطل وأهله ، فإذا تقدم دعاة الشيوعية والاشتراكية المنكرون لوجود الله والقائلون : ( لا إله والحياة مادة ) المكذبون بالحق والمنكرون لكتاب الله وما ورد فيه من الأدلة النقلية والعقلية على وجود الباري وقدرته العظيمة وعلمه الشامل فارجعوا إلى كتاب الله واقرؤا من آياته ما يرشد إلى دلائل وجوده سبحانه ، وأنه الصانع الحكيم لهذه الأشياء والموجد لها والخالق لها سبحانه .(/2)
وقد أرشد سبحانه في كتابه الكريم إلى ذلك ، وبين أنه رب العالمين وأنه الخلاق العليم وأنه خالق كل شيء وأنه ينصر الحق ، ويقيم الأدلة على ذلك في مواضع كثيرة من كتابه ، ليعتمد عليها طالب الحق ، يقول سبحانه : {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[9] ثم يقول سبحانه بعدها : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[10] ويقول تبارك وتعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[11] ويقول : {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ علماًً}[12] ويقول سبحانه : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}[13] ويقول : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[14] إلى آيات كثيرة يرشد بها سبحانه أنه رب العباد ، وأنه رب العالمين ، وأن الرسل جاءت بهذا ، كما قال جل وعلا : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[15] ويقول تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[16] ويقول سبحانه : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[17] ويقول جل وعلا : {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[18] ويقول سبحانه : {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[19] ويقول سبحانه : {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ }[20] ثم يبين الأدلة في مواضع كثيرة ، عندما يتأملها المؤمن يعرف أن الدليل النقلي مؤيد بالدليل العقلي المشاهد المحسوس ، ولهذا ذكر سبحانه بعد قوله : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} الحجة على ذلك فقال : {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[21] والمعنى أن هذا الخالق لنا هو المستحق أن نعبده لكونه خلقنا ، ولأنه يرعى مصالح العباد ، وهذا أمر معلوم بالفطر السليمة والعقول الصحيحة ، فهم لم يخلقوا أنفسهم فقد خلقهم بارؤهم ، فالله هو الخالق بالأدلة النقليه والعقلية ، ثم قال سبحانه : {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }[22] بين سبحانه وتعالى كيف تدرك هذه الأشياء المشاهدة المخلوقة التي يدركها العقل ويدركها كل إنسان ، فجعل الأرض فراشا لنا ننام عليها ، ونسير عليها ، ونرعى المواشي عليها ، ونحمل عليها ، نزرع عليها الأشجار ، ونأخذ منها المعادن إلى غير ذلك ، ثم أنزل من السماء ماء من السحاب ، أنزل المطر فأخرج به الثمرات لنا . من الذي أنزل المطر؟ من الذي أخرج هذه الثمار التي يأكلها الناس والدواب مما زرعوا ومن غير ما زرعوا؟ كلها من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته العظيمة وأنه رب العالمين . أرض مستقرة أرساها ربنا بالجبال التي جعلها أوتادا لها ، وجعلها ممهدة ساكنة نعيش عليها ، ونطمئن نحن ودوابنا وسياراتنا فوقها ، وتطير في فضائها طائراتنا ، ونتمتع بجميع ما خلق فيها ، والسماء كذلك خلقها فوقنا ، وزينها بالكواكب السيارات والثوابت ، وجعل فيها الشمس والقمر ليعلم العباد قدرة الخالق العظيم ، والعلي الكبير الذي لا شريك له في ذلك سبحانه وتعالى .(/3)
ثم هذه المزروعات الكثيرة ، والثمار المنوعة التي فيها المنافع الكثيرة ، والمصالح العظيمة ، مع اختلاف أشكالها وألوانها ، وأحجامها وطعومها ، ومنافعها إلى غير ذلك ، هنا تظهر قدرة الله سبحانه ، واستحقاقه للعبادة كما قال عز وجل : {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[23] فهو سبحانه يبين لنا في هذه الآيات التي نشاهدها ونراها ونحس بها : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} هذه السموات مع اتساعها وارتفاعها وما فيها من عجائب وغرائب ، وهذه الأرض مع سعتها وانبساطها وما فيها من أنهار وجبال وغير ذلك ، ثم اختلاف الليل والنهار وما أنزل من السماء من ماء وما أخرج من البحر من أشياء تنفع الناس ، وما يحمله ماؤها من البواخر التي أمسكها على ظهر هذا الماء ، تحمل حاجات الناس ، وتحملهم أيضا من بلاد إلى بلاد . ثم أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وبث فيها من كل دابة ، وتصريف الرياح ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض . هذه الآيات العظيمة لمن تدبرها ترشده إلى وجود بارئها وخالقها الذي خلقه وأوجده من العدم وأنه رب العالمين سبحانه وتعالى ، وأن هذه المخلوقات لا قوام لها إلا به سبحانه كما قال عز وجل : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}[24] فهذه الآيات التي نشاهدها والدلائل التي نقرؤها ونعلمها إنما ينتفع بها ذوو العقول السليمة والبصائر المستقيمة ولهذا قال سبحانه في آخر الآية : {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} والرسل عليهم الصلاة والسلام ، هم أصدق الناس ، وقد أقاموا الأدلة والمعجزات على صدقهم ، وقد أخبرونا بهذا وأن هذا صنع الله ، وأنه ربنا وخالقنا ، وأنه الرحمن ، وأنه الرحيم ، وأنه السلام ، وأنه القدوس ، إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى ، كما أخبر جل وعلا في كتابه العظيم أنه الحكيم العليم القادر على كل شيء جل وعلا ، وفي هذا أبلغ رد على دعاة الشيوعية والدهرية والاشتراكية وغيرهم ممن أنكروا وجود الله ، فهل هذه المخلوقات وهل هذه الموجودات تخلق نفسها وتنشيء نفسها . ؟ هل يقول هذا عاقل ؟ بل كوب الماء لو قلت لعاقل إنه خلق نفسه لقال إنك مجنون ، وهكذا كوب الشاي وكوب القهوة والملعقة والعصا ، كلها معروف من صنعها فكيف بهذا العالم العظيم الذي أنشأه الخالق سبحانه من العدم ، وجعل فيه من الآيات والمنافع ما لا يحصى ، فهو المبدع سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، ثم هذا الخالق قد بين أسماء تليق بذاته ، وبينت الرسل صفاته وأسماءه ودلوا عليه وأرشدوا إليه ، وقامت الدلائل على صدقهم ، وعلى رأسهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، أصدق الأنبياء وأفضلهم ، قد بعثه الله بكتابه العظيم ، والرسالة العامة التي أوضح بها كل شيء ، ثم يأتي دعاة الماسونية الذين يريدون أن يردوا الناس إلى الأحوال البهيمية ، والمساواة في كل شيء ويحاربوا مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ليجعلوهم كالبهائم لا يميزون حقا من باطل ولا خيرا من شر ، وهذا كله خلاف ما دعت إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وخلاف ما دل عليه القرآن الكريم المعجز ، وهو أيضا خلاف ما دلت عليه العقول الصحيحة ، والفطر السليمة التي فطر الله العباد عليها ، فإن الله سبحانه فطر الناس على الاعتراف بمكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال والعدل والحق ، وكراهة الظلم والعدوان والأذى . لقد فطر الله العباد على تمييز الأب من الابن ، والأخ من الأخت ، والزوجة من الزوج ، حتى البهائم ميزوا هذا عن هذا .
كذلك من ادعى الإباحية ، وأنه لا حرج على الإنسان في أي حال أن يعمل ما يشاء ويستبيح ما يشاء من مهازل ومساوئ ، كلهم ملحدون وضالون ، وقد أبطل الله هذا المذهب ، وبين سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل ، وأنزل الكتاب لبيان حقه على عباده ، وما أحل من الطيبات ، وما حرم من الخبائث ، وما أوصى به سبحانه وتعالى عبادة من التمسك بما جاءت به الرسل ، ونبذ ما خالفه .(/4)
ولقد أوضح سبحانه في الكتب المنزلة من السماء تفصيل الحلال من الحرام ، والهدى من الضلال ، والمعروف من المنكر ، والخير من الشر . فالإباحيون والماسونيون قد أعرضوا عن ذلك كله ، ونبذوه وراء ظهورهم ، فلا خلقا كريما استقاموا عليه ، ولا عقلا صحيحا تمسكوا به ، فلم يأخذوا بما جاءت به الرسل من الهدى والتمييز بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، ومن تأمل كتاب الله عز وجل ، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، وتأمل أحوال العالم : عرف أن الحق كله فيما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ، من بيان ما أباح الله وبيان ما حرمه سبحانه ، وأنهم بعثوا ليميزوا بين الطيب والخبيث ، وبين الحلال والحرام ، بما شرع الله ، حتى تسير المجتمعات على هدى وبيان ، وعلى خير ورشاد ، وعلى الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة ، التي تحفظ للإنسان عقله ودينه ، وماله ونفسه ، وذريته وزوجته وغير ذلك .
ولا يتعدى عليه غيره فيأمن المجتمع ، وتستقيم الأحوال والأخلاق ويأمن الناس ، وتحصل لكل إنسان حريته ، في أخذه وعطائه ، وبيعه وشرائه ، وتعاطي ما يسر الله له من الحلال وتملكه ما كسب بالطرق الشرعية ، وتصرفه بما ينفعه ولا يضره .
وأما من دعا إلى أفكار أخرى كدعوة القاديانية وأشباههم ، ممن دعا إلى اتباع نبي جديد ، أو رسول جديد ، فدعواه باطلة وأفكاره مضللة زائفة؛ لأن الله عز وجل بين في كتابه المبين أن محمدا عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين ، وقد جاء ذلك في الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبشرت به النبوات السابقة ، قال تعالى : {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}[25] ولكن هناك أشباه الأنعام ، تلتبس عليهم كل دعوى ، ويخفى عليهم كل شيء ، ولا يميزون بين حق وباطل ، ولا يفرقون بين هدى وضلال . فكل ما يدعيه الداعون وينعق به الناعقون يلتبس عليهم : لعدم العلم والبصيرة ، ولهذا ارتفع صوت هذا الرجل ، أعني مرزا غلام أحمد بدعواه الباطلة ، فاتبعه من الناس من هم أشباه الأنعام ، وصدقوا بما قاله ، وما كتبه في هذا الباب ، مما يخالف نص الكتاب العزيز ، وما تواترت به السنة عن المصطفى عليه الصلاة والسلام ومن كونه خاتم الأنبياء والمرسلين .
كيف يحدث مثل هذا ، وكيف يشتبه على من هم من بني آدم ، الذين هم من أصحاب العقول ، والذين يقرءون ويكتبون ، وبطلانه من أوضح الأشياء وأظهرها ، ولكن الله عز وجل يري عباده من العجائب والعبر ما فيه عظة وذكرى لكل ذي لب ، قال سبحانه وتعالى : {لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[26] وهكذا البهائية والبابية وأشباههم ، ممن ادعوا دعاوي باطلة ، وضلوا في هذا السبيل ، ولبسوا على أشباه الأنعام من البشر ما يدعون إليه من باطلهم ، فزعم كبيرهم أنه نبي ، ثم ادعى أنه رب العالمين . ومع ظهور باطلهم ، نجد لهم أتباعا ودعاة وأندية تروج باطلهم ، وتدعو إليه وربما كان الكثير منهم يعرف الحق ويعلم أنه مبطل في دعواه ، ولكنه يتظاهر بتأييد الباطل ، لما له من غرض في ذلك في هذه الحياة الدنيا فتابعهم في طريق الباطل ، وهم أشبه بالأنعام ، بل هم أضل منها ، كما قال الله عز وجل : {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سبيلاً}[27] وقال سبحانه وتعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [28] لقد ضل هؤلاء ضلالا بعيدا ، كما ضل أصحاب فرعون بفرعون ، وأصحاب النمرود بالنمرود .
فهذا المسكين الذي يتبول ويتغوط ويأكل ويشرب ، ويتألم من كل شيء ، كيف يكون ربا ، وكيف يكون إلها ، وكيف يجوز هذا عليه ، وعلى أتباعه؟ ولكن الأمر كما قال الله سبحانه : {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[29] وكما قال سبحانه وتعالى : {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالْأَنْعَامِ}[30] وكما قال عز وجل : {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ}[31] الآية .
وهكذا الدجال الذي يأتي في آخر الزمان يتبعه جم كثير من كل جاهل ، وأعمى بصيرة لما يروجه من الباطل ، ويأتي به من خوارق العادات التي تشتبه على أشباه الأنعام .(/5)
وكل نحلة ، وكل دعوة باطلة تجد لها اتباعا وأنصارا بغير قلوب ، ولا هدى ، أما طريق السلف الصالح فهو أوضح من الشمس في رابعة النهار ، لما قام عليه من البراهين الساطعة ، والحجج النيرة ، والأدلة القاطعة ، لكل من عنده أدنى بصيرة ورغبة في طلب الحق ، وقد بين الله في كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين أن الخير والفلاح يكونان في التمسك بكتاب الله العظيم ، وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم ، وأتباعهم بإحسان ، فيرد دعاة الحق على هؤلاء المنحرفين بما علموا من كتاب الله ، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وبما علموا بعقولهم الصحيحة ، وبصائرهم النافذة ، وفطرهم السليمة على هدى ما علموه من كتاب الله ، وسنة رسوله ، وما علموه من مخلوقات الله عز وجل ، من الدلالة على قدرته ، وعظمته ، واستحقاقه للعبادة ، وصدق رسله عليهم الصلاة والسلام ، وأن ما أتوا به هو الحق ، وهو ما دل عليه كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، من بيان الحلال والحرام والهدى والضلال ، وما شرع الله لعبادة ، وما نهى عنه ، وما أخبر به من الجنة والنار ، إلى غير ذلك .
وأن ما أنكره هؤلاء وغيرهم من الشيوعيين وسائر الملاحدة من البعث والنشور والجنة والنار وغير ذلك من شئون اليوم الآخر كله باطل ومخالف للأدلة القطعية .
وهم جميعا حجتهم داحضة وباطلهم واضح ، فإن الأدلة الدالة على بعث الموتى ووقوفهم أمام رب العالمين كثيرة لا تحصى ، وأن كل ما خلقه الله في هذه الدنيا شاهد على قدرته سبحانه ، ووجوب الاعتراف بألوهيته وحده ، فالأرض الميتة ينزل الله عليها المطر فيخرج منها النبات بعد موتها ، ويخرج منها جل وعلا ما شاء من الثمار .
فالذي أخرج هذا النبات ، وأنعم علينا بهذه الثمار ، هو الله سبحانه وتعالى ، الذي أنزل هذا المطر وأحيا به الأرض الميتة التي أخرجت النبات والثمار ، هو الذي سيحيي الموتى ، ويبعثهم من قبورهم ، ويقف كل واحد أمامه عز وجل للحساب على ما عمل ، وما اكتسبت يداه في هذه الدنيا .
وهكذا الإنسان : خلق الله أبانا آدم من تراب ، ثم جاءت منه الذرية خلقهم سبحانه من ماء مهين ، ثم تحولوا إلى علقة ، ثم إلى مضغة ، ثم إلى إنسان سوي له سمع وبصر ، وعقل وإدراك وجوارح ، ثم يتدرج ويكبر ، حتى يصير إنسانا عظيما ، فيأخذ ويعطي ويفكر ويتعلم وينتج .
وأن هذه الآيات العظيمة كلها تدل على قدرة الله عز وجل ، وتدل على صدق الرسل وإخبارهم بأن هناك- أي في الآخرة- مجتمعا لديه سبحانه ، يؤيد فيه الحق ، ويجزي أهله بأحسن الجزاء ويدخلهم الجنة ويقيهم عذاب النار ، ويذل أعداءه ويخلدهم في النار أبد الآباد . ثم إن كل عاقل في هذه الدار يشاهد من يظلم ، ومن تؤخذ حقوقه ، ومن يعتدى عليه في ماله وبدنه وغير ذلك ، ثم يموت الظالم ولم يرد الحقوق ، ولم ينصف المظلوم ، فهل يضيع ذلك الحق على المظلومين المساكين المستضعفين؟ !
كلا . . فإن الخالق العظيم الحكيم العليم حدد للإنصاف موعدا ، ذلك الموعد هو يوم القيامة ، ينصف فيه المظلوم الذي لم يعط حقه في الدنيا كاملا من الظالم فينتقم منه ويعاقبه بما يستحق . إن هذه الدار ليست دار جزاء ولكنها دار امتحان وابتلاء ، وعمل وسرور وأحزان ، وقد ينصف فيها المظلوم فيأخذ حقه فيها ، وقد يؤجل أمره إلى يوم القيامة لحكمة عظيمة ، فينتقم الله من هؤلاء الظالمين ، كما قال سبحانه وتعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}[32] ففي هذا اليوم الرهيب ينصف الله المظلومين ، ويعطيهم جزاءهم ، وينتقم لهم من الظالمين ، وقد يعجل الله سبحانه للظلمة العقوبات في الدنيا ، كما فعل في أمم كثيرة ، وقد يؤجل ذلك للمظلومين والظالمين ، ثم تعطى الحقوق في هذا اليوم العظيم ، يوم القيامة الذي تشخص فيه الأبصار ، وكل ذلك حق .
فالحكيم العليم القادر على كل شيء لا يفوت على المظلومين حقهم ، ولهذا أخبرنا أن هناك بعثا ونشورا ، وأن هناك جزاء وحسابا ، وقد قامت على هذا الأدلة من القرآن والسنة ، وإجماع الأمة ، والعقول الصحيحة ، والفطر السليمة ، ودلت على أنه لا بد من جزاء وحساب ، وأن البعث حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، كل ذلك جاءت به الكتب السماوية ، والسنة النبوية ، وأجمع عليها المسلمون .
ومع ذلك فالفطر السليمة والعقول الصحيحة تشهد بذلك ، وإننا نشاهد ظالمين ومظلومين لم يقتص من الظالمين للمظلومين ، ولم تؤخذ منهم الحقوق ، فلا بد لهم من يوم يحاسبون فيه ، ويجازى فيه كل إنسان على ما قدم .(/6)
إننا نجد مؤمنين صالحين موفقين مجتهدين في سبيل الخير ، لم ينالوا ما ناله غيرهم من أولئك الذين تعدوا حدود الله ، وظلموا عباد الله ، وهم مع هذا لديهم الأموال العظيمة ، والقصور الشاهقة ، والخدم والمتاع . وجمع غفير من الأخيار المتقين ، محرومون لم ينالوا من هذا شيئا ، فلابد من موعد ولابد من لقاء مع ربهم ، يعطون فيه من المنازل العالية ، والأجر العظيم ، ويتكرم عليهم سبحانه بأنواع الفضل ، جزاء صبرهم وأعمالهم الصالحة ، فينالون الثواب الكبير ، والمنازل العالية ، والخير الجزيل ، والإحسان العظيم ، والقصور والجواري والخيرات التي لا تحصى ، على ما فعلوا من خير ، وعلى ما قدموا من عمل صالح ، ويجازي سبحانه هؤلاء الظالمين ، المفرطين المعرضين ، الذين ركنوا إلى الدنيا ، وغرتهم شهواتها وانساقوا وراء مفاتنها ، بما يستحقون من العذاب والنكال ، وسوء المصير ، وما ذلك إلا لتفريطهم ، وإعراضهم عن الله ، وتعديهم حدوده ، ومقابلتهم نعمه بالكفران ، وظلمهم عباده ، وإدبارهم عن طاعته . فهؤلاء يجازيهم الله عز وجل بما يستحقون . وهذه الأمور العظيمة إذا تأملها صاحب العقل الصحيح ، والفطرة السليمة ، عرف أن المعاد حق ، وعلم أن ما يدعيه الملحدون والشيوعيون والوثنيون وغيرهم ممن ينكرون الآخرة ومعاد الأبدان : من أبطل الباطل ، واتضح له أن دعواهم ساقطة ، وأقوالهم زائفة .
وهكذا أصحاب النحل والدعوات المضللة ، والأفكار الهدامة ، كلها على هذا السبيل ، إذا تأملها ذو العقل الصحيح ، والبصيرة النافذة ، والفطرة السليمة ، عرف بطلانها وعرف أدلة زيفها ، من الكتاب والسنة المطهرة ، ومن الكتب الصحيحة ، فإنه سبحانه خلق الشواهد ، وأقام الدلائل على الحق ، من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبما أودع في العقول من فهم وإدراك ، وبما خلق في هذه الدنيا من مخلوقات ، وأوجد فيها من كائنات ، تشهد له بالحكمة ، وأنه الخلاق العليم ، الرزاق الكريم ، القادر على كل شيء ، والمستحق لأن يعبد وحده لا شريك له .
والجدير بطالب العلم ، أينما كان أن يقبل على كتاب الله ، وأن يجعل تدبره وتعقله ، من أكبر همه ، ومن أعظم شواغله ، وأن تكون له العناية الكاملة بقراءته ، وتدبر ما فيه من المعاني العظيمة ، والبراهين الساطعة ، على صحة ما جاء به الرسل ، وعلى صدق ما دل عليه الكتاب ، وعلى بطلان ما يقول به أهل السوء ، أينما كانوا ، وكيفما كانوا .
ومن تدبر القرآن طالبا للهدى أعزه الله ، وبصره وبلغه مناه ، كما قال سبحانه وتعالى : {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[33] وقال عز وجل : {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ}[34] وهكذا السنة المطهرة إذا تأملها المؤمن ، وتأمل موقفه صلى الله عليه وسلم مع أعدائه وخصومه في مكة والمدينة عرف الحق ، وأن أهل الحق منصورون وممتحنون ، ومن فاته النصر في الدنيا فلن يفوته الجزاء والعوض في الآخرة ، كما قال عز وجل : {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[35] فقد وعد الله سبحانه بالنصر للعاملين في الدنيا والثواب في الآخرة ، قال عز وجل : {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[36] فقد وعد الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين ، الذين يعملون للحق ، ويقيمون الصلاة ، ويؤدون الزكاة لمستحقيها ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، وعدهم جل وعلا بالنصر ، وهو يعم النصر في الدنيا والتمكين فيها والنصر والرضى من الله سبحانه يوم القيامة ، يوم يقوم الأشهاد . وفي هذا عزة للمؤمنين ، وذلة للكافرين ، فالمؤمنون يفوزون بالجنة ، والكافرون تعلو وجوههم الذلة والندامة ، والنار تكون مثواهم ومصيرهم . وفي هذا المعنى يقول سبحانه وتعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شيئاً}[37] والآيات في هذا المعنى كثيرة .(/7)
ومن تأمل أحوال أهل العلم الموفقين الذين نبغوا في هذه الأمة وتدبروا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وعلموا في ذلك ما يعينهم على فهم كتاب الله وعلى فهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهما صحيحا من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم والتابعين لهم بإحسان من أئمة الإسلام فيما كتبوا وما نقل عنهم ومن سار على نهجهم من أهل الصدق والوفاء والبصيرة كأبي العباس بن تيمية رحمه الله وتلميذيه : العلامة ابن القيم والحافظ ابن كثير وغيرهم ممن برزوا في هذا الميدان من أئمة هذا الشأن .
نعم من تأمل أحوالهم ، وفتح الله عليه بفهم ما قالوا وما كتبوا رأى العجب العجاب ، والعبر الباهرة ، والعلوم الصحيحة ، والقلوب النيرة ، والبراهين الساطعة ، التي ترشد من تمسك بها إلى طريق السعادة وسبيل الاستقامة .
وبذلك يحصل له بتوفيق الله سبحانه ، تحقيق الغاية المطلوبة ، وتحصين نفسه بالعلوم والمعرفة والطمأنينة إلى الحق ، الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، ودرج عليه سلف هذه الأمة . ويتضح له أن من خالفهم من دعاة الزيغ والضلال ، ليس عندهم إلا الشبهات الباطلة ، والحجج الزائفة ، التي لا تسمن ولا تغني من جوع . ويعلم حقا أن طالب العلم في الحقيقة هو الذي يميز الحق من الباطل ، بأدلته الظاهرة ، وبراهينه الساطعة ، ويقرأ كتب الأئمة المهتدين ، ويأخذ منها ما وافق الحق ، ويترك ما ظهر بطلانه ، وعدم موافقته للحق ، ومن هؤلاء الأئمة المبرزين الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، وأنصاره في القرن الثاني عشر وما بعده ، قد برزوا في هذا الميدان ، وكتبوا الكتابات العظيمة الناجحة ، وأرسلوا الرسائل إلى الناس وردوا على الخصوم ، وأوضحوا الحق في رسائلهم ومؤلفاتهم ، بأدلة من الكتاب والسنة ، وقد جمع من ذلك العلامة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله جملة كثيرة في كتابه المسمى : ( الدرر السنية في الأجوبة النجدية ) .
والأدلة التي كتبها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتلاميذه من تأملها وتبصر فيها رأى فيها الحق المبين ، والحجج الباهرة ، والبراهين الساطعة التي- توضح بطلان أقوال الخصوم ، وشبهاتهم ، وتبين الحق بأدلته الواضحة .
وهم رحمة الله عليهم مع تأخر زمانهم- قد وفقوا في إظهار الحق وبيان أدلته ، وأوضحوا ما يتعلق بدعوة التوحيد ، والرد على دعاة الوثنية ، وعباد القبور ، وبرزوا في هذا السبيل ، وكانوا على النهج المستقيم ، نهج السلف الصالح ، واستعانوا في هذا الباب بالأدلة الواضحة التي جاءت في الكتاب والسنة النبوية ، وعنوا بكتب الحديث ، وكتب التفسير ، وبرزوا في هذا الميدان حتى أظهر الله بهم الحق ، وأذل بهم الباطل ، وأقام بهم الحجة على غيرهم ، ونشر بهم راية الإسلام ، وقامت راية الجهاد ، وأجرى الله على أيديهم من نعمه وخيره الجزيل ما لا يحصى ، وأصبح أهل الحق في سائر الأمصار الذين عرفوا كتبهم ، وصحة دعوتهم ، وسلامة منهجهم ، ينشرون دعوتهم ، ويستعينون بما ألفوا في هذا الشأن على خصوم الإسلام وأعداء الإسلام في كل مكان ، من أهل الشرك والبدع والخرافات .
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لما يرضيه ، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا ، وأن يجعلنا هداة مهتدين ، وصالحين مصلحين ، وأن يمنحنا الفقه في دينه ، كما أسأله عز وجل أن ينصر دينه ، ويعلي كلمته ، ويصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، وأن يولي عليهم خيارهم ، وأن يصلح قادة المسلمين ، ويجعلهم هداة مهتدين ، وأن يوفقهم لتحكيم الشريعة والتحاكم إليها ، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير ، وينصر بهم الحق ، إنه جل وعلا جواد كريم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
________________________________________
[1] - سورة الفرقان الاية 33.
[2] -سورة النحل الآية 89.
[3] -سورة النساء الآية 122.
[4] - سورة النحل الآية 89
[5] -سورة يونس الآية 57.
[6] - سورة النساء الآية 59.
[7] -سورة الشورى الآية 10.
[8] - سورة الفرقان الآية 33.
[9] - سورة البقرة الآية 163.
[10] -سورة البقرة الآية 164.
[11] -سورة البقرة الآيتان 21-22.
[12] -سورة طه الآية 99.
[13] -سورة الإسراء الآية 23.
[14] - سورة الفاتحة الآية 5.
[15] - سورة النحل الآية 36.
[16] -سورة الأنبياء الآية 25.
[17] -سورة الحج الآية 62.
[18] -سورة الزمر الآيتان 2-3
[19] - سورة الزمر الآية 62.
[20] - سورة فاطر الآية 3.
[21] -سورة البقرة الآية 21.
[22] -سورة البقرة الآية 22.
[23] -سورة البقرة الآيتان 163-164
[24] - سورة الروم الآية 25.
[25] - سورة الأحزاب الآية 40.
[26] - سورة الحج الآية 46.
[27] - سورة الفرقان الآية 44.
[28] - سورة الأعراف الآية 179.
[29] - سورة الحج الآية 46.
[30] - سورة الفرقان الآية 44.
[31] - سورة القصص 50.
[32] - سورة إبراهيم الآية 42.
[33] - سورة الإسراء الآية 9.
[34] - سورة فصلت الآية 44.(/8)
[35] - سورة غافر الآيتان 15-25.
[36] - سورة الحج الآيتان 40-41.
[37] - سورة النور الآية 55.(/9)
أهمية اللغة العربية
الحلقة (19) الجمعة 12 ربيع الأول 1396- 12 آذار 1976 تتمة الهجرة
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد:
فما زلنا بصدد البحث في موضوع الهجرة إلى الحبشة، وكان حديث الجمعة الماضي ينصب على هذا الموضوع أيضاً وإن ما دعاني إلى أن أولي عناية خاصة لهذه القضية التي ربما مَرَّ عليها كثير من الدارسين للسيرة مر الكرام، دون أن تستلفت انتباههم إلى ما تحمله من دلائل وما تثيره من قضايا خطيرة أقول: إن ما حملني على ذلك أنني وجدت المستشرقين الذين امتهنوا الدراسات الإٍسلامية بنية الكيد والدس والطعن، يرون في هذه الهجرة بداية اتصال بين الإسلام والمسيحية أدى إلى إخصاب الإسلام بالكثير من عقائد النصرانية وتلوينه بالعديد من اتجاهاتها. كما وجدت أن فريقاً من الدارسين للسيرة من المسلمين بالذات قد ذهبوا إلى أن هجرة الحبشة حلقة في سلسلة البحث عن مستقر للدعوة الإسلامية.
وكنت منذ زمن طويل أعجب لهذه العقول، ولكني لا آبه لمثل هذه الاتجاهات في التفكير وأحاول أن أهون من شأنها وأن أقلل من خطرها، والإنسان كل إنسان بلا حاجة إلى أن يوقع نفسه في أوهام الغرور، كل إنسان طالما هو حي يفكر ويدرس ويلاحظ يتطور وكلما حقق على صعيد الفكر بلوغ مرحلة فهو قادر بالمثابرة والدأب على أن يتجاوز هذه المرحلة انطلاقاً منها وتأسيساً عليها. ومنذ زمن ليس بالبعيد تكشفت لي حقيقة بسيطة تتعلق بالدراسات الإسلامية عموماً وبدراسته من الزاوية التاريخية على وجه الخصوص وانتويت في نفسي أمراً أعرف تماماً قصور وسائلي فيه وأعرف بصدق أن المسألة التي انتويتها لا يقوم لها الأفراد وإنما هي بحاجة إلى جهود جماعية مكثفة ولكن ما الحيلة ونحن في العالم العربي وفي العالم الإسلامي ما زالت تسودنا روح الفردية في العمل وما زال ظننا بالعمل الجماعي والجهد المشترك سيئاً، فلذلك قررت أن أنهض بالمهمة على ما سوف يعتورها من قصور ونقص إلى أن يأذن الله تعالى لهذه الأمة أن تعي تماماً فوائد العمل المشترك وفوائد المجهود الجماعي.
وكانت بداية المباشرة في هذا المجهود صيف هذا العام في أوائل الصيف قررت أن أتناول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومضيت في ذلك شوطاً لا بأس به، وإن كان ضمن حدود المقدمات، لم ندخل صلب الموضوع ولم نحاول أن نتعرف بعد، حتى على بدايات الحركة، لكن ضرورة إثارة موضوع الهجرة دفعت إلى الأمام في ذهني قضية الهجرة إلى الحبشة وهنا ملاحظة أحب أن أبينها لإخوتي جميعاً وهي ملاحظة هادية في مجال الدراسات الإسلامية عامة والتاريخية منها على الخصوص؛ نحن حتى الآن تعودنا أن نتناول الحوادث بصورة متجزئة أي أننا نأخذ حادثاً معيناً، واقعة تاريخية خاصة نقص قصتها ونحاول أن نستنتج منها ما شاء الله أن نستنج، هذه الطريقة غلط ليس هذا وحسب ولكنها أيضاً طريقة تزّيف الواقعة التاريخية من حيث أنها تعطيها على العموم تفسيراً زائفاً ومشوهاً.
في الدراسات التاريخية لا بد لنا أن نضع المنظور التاريخي كله أمام أعيننا ولا بد لنا من أن نعمل جغرافية كاملة للحدث التاريخي أي لا بد من أن نربط الحدث التاريخي بسلسلة الحوادث التي سبقته من جهة ولا بد لنا من أن نعامله هو والسلسلة كلها على ضوء المعطيات الأساسية للدعوة بالذات، من هنا كنت متحرجاً جداً كما ذكرت لكم في أول مرة منذ خطبتين في تناول هذا الموضوع، كنت أخطط في ذهني أن بيني وبين هذه القضية مرحلة قد لا تقل عن سنتين على أقل تقدير لأنني أردت أن يكون الكلام على هجرة الحبشة وتوابعها جائياً في سياق الكلام على مجمل السيرة، لكن الله شاء أن يطرح الموضوع في هذه الأيام وليكن...
في الجمعة الماضية طرحنا على أنفسنا سؤالين؛ الأول ما دام الإسلام ما زال في بداياته، والقرآن لم يتنزل منه إلا الشيء اليسير، والدعوة بعد غضة طرية وجديدة في قلوب الناس وعقول الناس، ألا يشكل بالنسبة للمسلمين نوعاً من المغامرة أن نرسلهم إلى أرض غريبة عنهم، الدار غير الدار، واللسان غير اللسان، والدين غير الدين، ونظرنا فوجدنا أن الأحوال السائدة في النصرانية لا تسمح بإعطاء شيء من هذه التأثيرات، وأن الأحوال السائدة في الجزيرة العربية قبل الإسلام وإبان مجيء الإسلام شهدت دخول قبائل كثيرة من قبائل العرب في النصرانية، وإذاً فالمسلمون لا يمكن أن يتأثروا بشيء من هذه العقائد التي سوف يقابلونها في الحبشة.(/1)
سؤال آخر: الحبشة من حيث هي جزء من الإمبراطورية الرومانية، هل كانت هذه الحبشة وهل كانت الإمبراطورية الرومانية عموماً؛ قادرة على اجتذاب اهتمام المسلمين القلائل الذين هاجروا إليها؟ وكان جوابنا في كل مرة عن هذين السؤالين بالسلب: أن لا.. ذلك كان من خلال تحليل تاريخي طويل لا أقول بأنه تحليل معمق بل أعترف بصراحة أنه كانت فيه فجوات وهي فجوات لا بد أن تكون نظراً لطبيعة الوقت الممنوح للإنسان على المنبر، ولطبيعة الأحاديث التي تقال على المنابر، وللمستوى العلمي الذي يجب أن نراعيه حين نحدث الناس. نحن اليوم أمام أمر آخر يتعلق بنفس الموضوع... التفسير التاريخي يمكن أن يمارى فيه لأنه فهم والفهم يختلف باختلاف الطبائع واختلاف الأمزجة واختلاف الاستعدادات واختلاف التكوين الثقافي واختلاف الهوى الإنساني طالما أننا يمكن من خلال التحليل التاريخي ومن خلال تفسير الواقعة التاريخية أن نتعرض لتساؤلات فلنعامل المسألة على ضوء أكثر ثباتاً وأكثر رسوخاً هل كان يمكن من قبل النبي صلى الله عليه وسلم أن يفكر بأن يجعل من الحبشة داراً ومستقراً للدعوة؟ كما سارعنا في الجمعة الماضية بالنفي نسارع الآن أيضاً بالنفي على أساسين الأول: تاريخي صرف. والثاني تابع لقوانين النبوة وقوانين الدعوة بالذات ونبدأ بالمنظور التاريخي.
ذكرت لكم في الجمعة الماضية أن الهجرة إلى الحبشة كانت في رجب من السنة الخامسة للمبعث. والنبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة على رأس ثلاثة عشر عاماً من المبعث فبين الهجرة إلى الحبشة وبين الهجرة إلى المدينة ثماني سنوات، ماذا كان الموقف خلال السنوات الثمان التي مرت بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة لنضع في اعتبارنا القضية التي روج لها كتاب مسلمون لهم وزنهم ولهم اعتبارهم لنضع في اعتبارنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدف من هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة أن يقودوا طليعة البعث إلى الحبشة لكي تكون الحبشة مقراً ومنطلقاً للإسلام. بعد ذلك ماذا جرى، جرى أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعالن الناس بالدعوة فبشر وأنذر ولم يترك وسيلة إلا سلكها من أجل إيصال البلاغ والبشارة والإنذار إلى الناس وكان يلقى ما يلقى صلوات الله عليه من صَدٍّ ومن تكذيب ومن مجابهة ومن أذى وكان يصبر.
لكن رد الفعل في المجتمعات لا يكون باستمرار آخذاً منحى الأذى فأنا أستطيع أن أضغط عليك فإذا أفلحت بالضغط عليك فكان بها، وإذا لم أفلح بهذا الضغط فَعليَّ أن أجرب وسيلة أخرى، والناس منذ كانوا يجربون هذه الوسائل إذاً لا أستطيع أن أجعلك توافقني على منهجي وعلى رأيي بالقوة وبالإرهاب فلأحاول أن أشتريك فلأحاول أن أرغبك وهذا كان لكي تعلموا أن هذا الأمر ليس بدعة العصر الحاضر؛ شراء الذمم وشراء الضمائر وقيادة الناس من باب المصالح والشهوات والأطماع الدنيوية شيء قديم رافق البشرية منذ كانت وعرفت الصراع بين الآراء والاتجاهات المتضاربة.
جاء الناس المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه الإغراء قالوا له:
إن كنت تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد نساءً زوجناك ما شئت من نسائنا وإن كنت تريد ملكاً سودناك علينا أي جعلناك ملكاً علينا فلا نقطع أمراً دونك.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على أن يبين لهم أنه رسول من الله إليهم. ونذير لهم بين يدي عذاب شديد، ثم نزل البلاء مرة أخرى وذهب من ذهب من المسلمين إلى الحبشة وَشَرِيَ الأمر وحَقِبَ بينهم وبين المسلمين وجاء الوفد القرشي المشرك إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكافله وحاميه.. هذا كان بعد الهجرة إلى الحبشة قالوا له:
يا أبا طالب إن لك فينا سنَّاً ومنزلةً وشرفاً وإننا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه؛ فإما أن تكفه عنا وإما أن ننازلك وإياه حتى يهلك أحد الفريقين.
أي أن قريشاً أنذرت أبا طالب إما أن يكف محمد صلوات الله عليه عن الدعوة بتاتاً أو أنها هي الحرب المعلنة والتي لا تضع أوزارها إلا بفناء المسلمين أو فناء المشركين فجاء أبو طالب وكان رجلاً يحب عافية قومه لا يميل إلى العنف ويريد استبقاءهم فاستدعى إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له:
يا ابن أخي إن قومك جاءوني فقالوا كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.
ماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب؟ يقيناً إن الزمان وقف في تلك اللحظة ليسمع الحكم عليه من شفتي محمد صلى الله عليه وسلم، في تلك اللحظة كانت الدنيا كلها معلقة على طرف لسان محمد صلى الله عليه وسلم، إن قال لا أخذت اتجاهاً معيناً، وإن قال نعم أخذت الدنيا اتجاهاً آخر، كان الرد بلا تردد:
يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه.(/2)
وانتهى الأمر وعاد النبي صلى الله عليه وسلم مستعبراً يظن أن عمه قد بدا له فيه بداء وأنه قد ضعف عن نصرته وأنه خَاذِله فاستعبر لا لأنه خاف ولكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة يكاد يفقد الثقة في العون الأرضي عموماً لتبقى له ثقته بالله تبارك وتعالى، عندها ناداه عمه وقال له:
انطلق يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
مضى النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الدعوة، فكروا بهذه الحادثة حينما نخطط لكي ننتقل من أرض نشعر أن كل ما فيها يعادينا، أن كل ما فيها يحاربنا أن كل ما فيها يدفعنا في صدورنا، حينما نفكر بأن ننتقل إلى أرض أخرى أليست الكياسة والعقل والروية وحسن التصرف يقتضي جميعاً منا أن نلاين طالما نحن نريد أن ننتقل من هذه الدار فلماذا نزيد البلاء على أنفسنا، لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يفكر بأن يجعل مستقره في الحبشة لكان موقفه مع قومه أكثر ليونة مما كان عليه مع أننا نرى أنه وقف موقفاً أشد صلابة من الصخر.. هذا واحد.
الشيء الثاني أن البلاء تصاعدت وتيرته -والمسلمون في الحبشة- تصاعدت وتيرته بصورة مخيفة.. في السنة الخامسة في رجب قلنا هاجر أول فوج من المسلمين إلى الحبشة في مطلع المحرم من السنة السابعة للمبعث، قررت قريش المقاطعة العامة وأن تطبقها على بني هاشم مسلمهم وكافرهم على سواء وكان ما يعرف في التاريخ الإسلامي -بحصار الشِّعْب- حصر المسلمون والكافرون من بني هاشم أيضاً في شِعْب أبي طالب في مطلع المحرم من السنة السابعة، كم مضى من السنة الخامسة إلى الحصار؟ سنتان لم يحصل خلالها أي اتصال بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المسلمين الموجودين في الحبشة إذا اعتبرناهم طليعة بعث يفتش عن مستقر لهذه الدعوة ولم يجر أي اتصال بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين نجاشي الحبشة وملك الحبشة بصورة باتة، الحصار كان حادثاً رهيباً سوف أشرحه إذا مد الله في عمرنا وأشرح أرجاعه بالنسبة للمسلمين وبالنسبة للمشركين على سواء ولكني أكتفي بأن أقول إن الحصار استمر من مطلع المحرم في السنة السابعة من الهجرة إلى السنة العاشرة للهجرة سنتان ونصف وبعضهم يمتد به إلى ثلاث سنوات لاقى المسلمون خلالهما أهوالاً لا تطاق يحدثنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في حديث معبر عن الحالة العامة التي كان يقاسي ويعاني منها المسلمون في تلك الأيام يقول:
إن الجهد والجوع بلغ من المسلمين مبلغاً لا يتصوره العقل، إنْ كان الرجل ليخرج من الشِّعْب يمر فلا يتكلم معه أحد لا يبيعه أحد لا يشتري منه أحد، والمسلمون يرجعون في المساء إلى الشِّعْب لا يسمعون إلا بكاء الصبيان وتضور الرجال والنساء من الجوع قال: خرجت ذات يوم أنا وصاحب لي في الليل لأبول قال فلما أخذت أبول سمعت تحت بولي خشخشة فمددت يدي في الظلام فإذا قطعة جلد يابسة قال فأخذتها وغسلتها وحرقتها واستففتها أي التهمتها فتقويت بها ثلاثة أيام.
يبلغ الجهد والجوع من المسلمين لشدة الحصار هذه الدرجة التي تدفع المسلمين إلى أن يأكلوا ما لا يؤكل لو كان لنا أمل في أن ننتقل إلى دار أخرى فلماذا كل هذا العناء؟ ولماذا كل هذا النصب؟ مع ذلك سوف ننظر أيضاً في السنة العاشرة فُكَّ حصار الشِّعْب وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وخرج المسلمون في السنة العاشرة بعد ارتفاع الحصار كانت رحلة الطائف والناس يعرفونها ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ماشياً على قدميه يقطع في الذهاب والإياب ما لا يقل عن مئة وأربعين كيلو متراً في تلك الأيام الشديدة القيظ لكي يصل إلى بني ثقيف في مستقرهم في الطائف، لماذا ذهب يرجو أن يجد عند قبيلة ثقيف رغبة في إيواء محمد صلى الله عليه وسلم وفي إيواء المسلمين معه وأن يقبلوا هذه الدعوة لتستقر في الطائف كي تكون القاعدة وتكون المنطلق للإسلام للدين الجديد لو أننا كنا نفكر بأن نجعل الحبشة هي قاعدة الانطلاق هل يعقل أن نمد يدنا هنا وهنا نضع أتباعنا في الحبشة يفتشون عن موطئ قدم ثم نذهب إلى الطائف نحاول أن نقنعهم بأن يقبلونا ويقبلوا ديننا معنا؟ هذا تصرف لا يعقل أيضاً.(/3)
خلال هذه الفترة التي نتحدث عنها كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله يطوف في القبائل يرحل إلى منتجعاتهم وأماكن إقامتهم لأي غرض يعرض عليهم هذا الدين وذات يوم استقر هو وأبو بكر عند إحدى قبائل العرب فقرأ عليهم القرآن وشرح لهم مبادئ الإسلام وطلب منهم أن يؤووه وأن يؤازروه وأن ينصروه، قالوا له والله إن هذا الذي تدعو إليه لحسن؛ ولكن إذا نحن تابعناك على دينك أتجعل لنا الأمر من بعدك يعني نكون نحن خلفاءك بعد أن تموت هنا تتميز أخلاق النبوة عن أخلاق الزعامة، أخلاق النبوة وفاء مطلق للقيم وللمبدأ الذي يحمله الإنسان وأخلاق الزعامة وصولية ومخادعة وكذب وتدجيل، المهم أن نحقق في عملنا ربحاً راهناً ويومياً ودع الأمور للغد، الغد هو يحل مشاكله فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه عرض معقول في بادئ الرأي العرض معقول جداً نحن نحميك ونقبل معك الإسلام نسلم ونجرد سيوفنا ورماحنا ونجيش رجالنا لنصرك في وجه العرب جميعاً تحت شرط واحد هو أن نكون من بعدك الخلفاء، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال بغير تردد: إن الأمر لله يضعه حيث يشاء، لا مجال للمساومة نحن طلاب دين ولسنا طلاب دنيا ونحن جنود الله تبارك وتعالى يضع الواحد منا حيث شاء في الوقت الذي يشاء ومن أراد هذا الإسلام عن رغبة وصدق توجه فبها ونعمت، ومن أراد الإسلام رغبة في الدنيا فالله تعالى غني عنه وغني عن العالمين قالوا له أفنهدف نحورنا للعرب حتى إذا استتب لك الأمر كان الأمر لغيرنا دوننا اذهب لا حاجة لنا بأمرك. وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً.
ولكي تدركوا كيف تكون -وهذا كلام يوجه إلى الشباب بخاصة- لكي يعرفوا كيف تعالج الواقعة التاريخية؟ كيف يعالج الحدث التاريخي؟ خلال الفترة التي كان المسلمون فيها في الحبشة في المرحلتين المكية والمدنية على السواء؛ جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين نجاشي الحبشة اتصالان، اتصال عام في عام الوفود حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم كُتُبَهُ إلى ملوك العالم القديم وأمراء العالم القديم جميعاً يدعوهم إلى الإسلام أرسل إلى كسرى وإلى قيصر وإلى مصر المقوقس ومن جملة من أرسل إليهم أرسل كتاباً إلى نجاشي الحبشة يدعوه إلى الإسلام وقبل ذلك كان أرسل إليه رسالة، لاحظوا بماذا تتعلق هذه الرسالة، لم تكن وصية بالمسلمين ولم تكن متعلقة بشأن من شؤون الدعوة ولم تكن متعلقة بدعوة النجاشي ورعية النجاشي إلى الإسلام؛ كانت متعلقة بأمر شخصي خاص -أقول شخصي تحت المنظار العام- ولكننا كما سوف نلاحظ بعد تحليل الحدث وبعد محاولة تفسيره سنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصرف تصرفاً شخصياً على الإطلاق وإنما يتصرف باستمرار لمصلحة الدعوة، ومن أجل الدعوة، كانت أم حبيبة بنت أبي سفيان من جملة النساء المهاجرات إلى الحبشة، مات زوجها عنها في الحبشة وترملت هناك؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى النجاشي يأمره أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأن يجهزها ويرسلها إليه في المدينة، كان ذلك بعد الهجرة -بالله عليكم- ماذا تفهمون بعد هذه الواقعة ربما يتصور الكثير أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتهى أم حبيبة، وهذا كلام لاكته ألسنة لا تعرف ماذا تقول، قاله أناس لا يدرون ماذا يخرج من رؤوسهم؛ لكننا سننظر: ضعوا المسألة في الإطار التاريخي أبو سفيان ماذا يعني أبو سفيان؟ سيد الوادي، زعيم قريش غير منازع قائد القافلة التي كان مجيئها سبباً لإثارة حرب بدر ثم هو قائد الحملة التي نكلت بالمسلمين في أحد، ثم هو قائد جيش الأحزاب المحزب والمجمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ثم هو السيد المطاع في مكة إنسان هذا شأنه لو أننا تألفناه فإن تألفنا إياه سيعود إلى الدعوة بمنافع كبيرة.
محمد صلى الله عليه وسلم من؟ رجل من بني هاشم وبني المطلب بنو هاشم تاج الأمة العربية، بشهادة الأعداء والخصوم على السواء، ومحمد بشهادة الأعداء والخصوم درة هذا التاج، فحين يصهر محمد صلى الله عليه وسلم إلى أبي سفيان -ولو رغماً عن إرادته ولو من غير الرجوع إلى رأيه واستشارته- فإنما يفتح الطريق أمام أبي سفيان لكي يكون أقرب إلى الدعوة وأقل عنفواناً وشراسة في مكافحة الدعوة؛ وفعلاً صحت فراسة النبي صلى الله عليه وسلم، زُفَّت أمُّ حبيبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصل الخبر أبا سفيان أترون أبا سفيان غضب؟ لا.. حينما قيل له:
إن محمداً صلى الله عليه وسلم أعرس بابنتك أم حبيبة.
قال. هو الفحل لا يُجْدَعُ أنفه.(/4)
وهذا كلام تقوله العرب كناية عن العز ة القساء التي لا ترام، التي هي من خصائص الزعماء العظام جداً، فالفحل من الإبل لا يمكن أن يضرب على أنفه بالعصا لأنك متى ضربت فحل الإبل الذي هو فحل على الحقيقة على أنفه بالعصا هاج هيجاناً لا تقف عند حد قتلك بل سيقتل معك آخرين أيضاً، كذلك الرجال الأعزة في العرب كانوا يشبهون بهذا الفحل فأبو سفيان اعترف وأقر بأن الإصهار إلى محمد شرف يناله الإنسان ولو كان من غير رأيه، ولو كان من دون استشارته ماذا كان بعد ذلك؟ كان بعد ذلك أن عهد وعقد الحديبية فسخ وجاء أبو سفيان، حين شعر بتهديد المسلمين لمكة في المدينة، يحاول أن يشد العقد ودخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته أم حبيبة فلما دخل أراد أن يجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعته ابنته عنه وكفت الفراش.
قال: ما هذا يا بنيه؟
قالت: هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت امرؤ كافر نجس لا تجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم.
ما هذا؟ أمر غريب كل شيء كان يتصوره أبو سفيان إلا أن يمنع من الجلوس على فراش النبي في بيت ابنته بالذات إذاً ما شأن محمد هنا بدأ قلب أبي سفيان يتحول عن العداوة الشرسة التي كان يضمرها للإسلام والمسلمين وبدأ يحاول أن يدخل محمد صلى الله عليه وسلم مكة لكن من غير قتال...
وفي الواقع ذلك الكتاب الصغير، تلك الوصاة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي لكي يزوجه أم حبيبة رضي الله عنها كان الهدف منها يرتد إلى أين..! إلى مسقط رأس النبي صلى الله عليه وسلم إلى قلب الجزيرة العربية إلى مكة المكرمة لأن هذه البقاع هي التي قدر الله تعالى، أن تكون مقراً ومأوى لهذه الدعوة الكريمة التي جددت ما اندرس من تعاليم الأبوين الكريمين إبراهيم وإسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما جميعاً وبالفعل جاءت الحوادث مصدقة كل هذا وحين توجه النبي صلى الله عليه وسلم ليفتح مكة كان موقف أبي سفيان رضي الله عنه عاملاً هاماً جداً في فتح مكة بغير قتال.
إذاً نحن من تسلسل الحوادث التاريخية نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفكر يوماً ما في أن يجعل من الحبشة داراً ومستقراً ومنطلقاً لدعوة الإسلام لكن يبقى السؤال: لماذا؟ هنا لا بد لنا من أن نرجع لنعامل المسألة أو ننظر في المسالة في ضوء قوانين الدعوة بالذات.
جاءت النبوة ما هي النبوة؟ في الواقع باختصار صلة بعالم الغيب، ما لونها ما كيفيتها؟ الله أعلم نحن لا ندري عنها شيئاً إلا ما أخبرنا به الله تبارك وتعالى بقوله:
{ ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء } .
وإلا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم ولا هذه الأوصاف التي وصفت بها أحوال النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يأتيه الوحي وكل هذا سبق لي أن تكلمت عنه في أوائل الصيف الماضي لا أريد أن أعيد شيئاً منه بإطلاق إنما أريد أن أقرر أن حادث النبوة حادث خارق حين كان الله تعالى يرسل رسلاً إلى الناس، كانت الناس تتعجب حينما يأتيها الرسول فيقول أنا مرسل إليكم من قبل الله تبارك وتعالى يتعجب الناس هل صحيح..! كيف يمكن أن يكون الرسول بشراً مثلنا ابتداء من نوح عليه السلام كما قص الله علينا في سورة الأعراف:
{ لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم... ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم } .
هنا موضع التعجب كذلك في نفس السورة يحدثنا الله تعالى عن هود صلوات الله عليه فيقول: { وإلى عاد أخاهم هوداً } وحين يقتص النبأ يقول لهم هود بعد أن: { قالوا له إنا لنراك في سفاهة } .
{ قال يا قومي ليس بي سفاهة ولكني رسول رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون } .
فالناس إذاً كانت تعجب كيف يمكن أن يكون النبي بشراً من سائر البشر هذا التعجب هو الذي قاد إلى الضلالة التي جعلت المسيحية في رأيها السائد والغالب تعتقد أن عيسى ليس بشراً من الناس وإنما هو إله، فرد الله عليهم كما جاء في سورة المائدة:
{ ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون } .
هذا التعجب أزاله الله تعالى أزاله بماذا أزاله بلفت نظرهم جواباً على تساؤل:
{ وقالوا لولا أنزل عليه ملك } .
فقال الله لهم -من الذين قالوا؟ كفار العرب المشركون: لولا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ملك:(/5)
{ وقالوا لولا أنزل عليه ملك } ماذا قال الله؟ قال { ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون } لا يمهلون { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون } ماذا يفهم من هذا؟ يفهم أن الشيء الذي تصورته العرب -كما تصورته الأمم السابقة- أن وحي الله إلى الناس أمر عظيم، وأنه كذلك لا يسوغ ولا يمكن أن يحمله إلى الناس بشر من جملة الناس ولهذا كانوا يقولون: { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً } -كما جاء ذلك واضحاً في سورة الفرقان- فالله تعالى لفت نظره إلى أن رؤية الملائكة على الحقيقة لا تتم إلا يوم القيامة وحين يرون الملائكة على الحقيقة (فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) وكما قال الله تبارك وتعالى: { وقال الذين كفروا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجراً محجوراً } .
حين ترى الملائكة على الحقيقة على أصل خلقتها فإن ذلك سيكون يوم القيامة فإذاً طلب الناس المشركين بدافع من تعجبهم أن يرسل الله إلى الناس بشراً رسولاً طلبهم أن يكون الرسول ملكاً طلب غير ممكن وغير متيسر أولاً لأن رؤية الملائكة على الحقيقة لا تكون إلا يوم القيامة ويوم القيامة ينتهي كل شيء، وشيء آخر: { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون } لو أن الله تعالى أذن بأن يرسل إلى الناس ملكاً لكانت الحكمة الربانية قاضية بأن يكون الملك على صورة الرجل، وإذاً يعود الالتباس مرة أخرى إلى وضعه الذي هم فيه لأنهم يرون أمامهم صورة الرجل، لا يرون حقيقة الملك لأن المرسل إليه من أناس رجال من بني آدم فالذي يرسل إليهم رجل من أبناء آدم أيضاً ولهذا نجد الله تعالى يقول في سورة الإسراء:
{ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } .
علامَ يدل هذا؛ يدل على أول قوانين النبوات وهو وحدة الجنس لا بد في النبوة من وحدة الجنس الملائكة ترسل إليهم ملائكة والرجال من بني آدم يرسل إليهم رجال من بني آدم وليس غير، فطلب المشركين والكافرين أن يكون الرسول ملكاً من الملائكة طلب لا يعقل وطلب لا معنى له هذا أول قوانين النبوات فما هو القانون الثاني؟
القانون الثاني أن الله تعالى قضت حكمته من حيث أن الرسول مبلغ مبين عن الله جل وعلا أن يكون هذا الرسول مرسلاً بلسان قومه، فلا يصح أن يرسل العجمي إلى العرب كما لا يصح أن يرسل العربي إلى العجم من هنا نرفض بصورة باتة الفكرة القائلة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدف من الهجرة إلى الحبشة أن يتخذها مستقراً للدعوة لأن الدار غير الدار، ولأن اللسان غير اللسان ماذا يقول الله؟ يقول الله تعالى:
{ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم } .
كل نبي من أجل التفاهم يرسل إلى أمة من الأمم لا بد أن يرسل بلسان قومه من أجل ذلك يقول الله تعالى في وصف القرآن الكريم:
{ إنه بلسان عربي مبين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } .
ثم يقول بعد ذلك:
{ ولو نزلناه -يعني القرآن- على بعض الأعجميين لقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين } .
هكذا يبين الله تعالى الأمر في سورة الشعراء لو أن الرسالة نزلت على رجل من الأعاجم لقرأ عليهم القرآن بلغة غير لغتهم وبلسان غير لسانهم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين لأن الإفهام مستحيل، فالرسول يرسل ليبين والبيان مؤسس على الإفهام، والإفهام مستحيل مع اختلاف اللسان فإذاً القانون الأول من قوانين النبوات وحدة الجنس أي أن أبناء آدم تكون الرسل إليهم من أبناء آدم. والقانون الثاني وحدة اللسان فلا بد أن يكون الرسول من لسان القوم المرسل إليهم لكي يتم البيان ولهذا نجد الله تعالى يقول في أخريات سورة مريم:
{ فإنما يسرناه -أي القرآن- بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر قوماً لُدَّا } فالأمر أمر تيسير ومن الواضح البديهي جداً أن القرآن لو كان بغير لغة العرب ما كان ميسراً على الإطلاق.(/6)
وصلنا إلى هنا -ونحن نقارب الساعة في الحديث- لكني أريد أن أستمر أنا أقدر تماماً أن الإخوة الذين تكلفوا المجيء في هذا الجو غير المريح راغبون في السماع لكني أنذركم بأننا وصلنا إلى مأزق خطر قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس من العرب بلغة العرب، لتنطلق الدعوة بعد استقرارها من بلاد العرب بالذات لكن هل العرب هم كل الناس؟ طبعاً لا، هناك أمم كثيرة تعمر المسكونة وهنالك لغات متعددة يتكلم بها الناس على وجه الأرض هذا واحد. ضعوه في حسابكم.. الشيء الثاني نحن نعلم أن الرسالة الإسلامية رسالة محمد صلوات الله عليه وآله رسالة عامة إلى الناس عامة أي أنها موجهة إلى العرب وإلى غير العرب على السواء فإذا كان الأمر كذلك فحين يكون القرآن ميسراً للفهم والتذكر بالنسبة للعرب أهل اللسان فهو غير ميسر بالنسبة للذين يتكلمون لغة أخرى غير اللغة العربية كيف نوفق بين هذين الأمرين هذا واقع راهن بالأحرى المسألة ليست مسألة توفيق إنما هي مسألة محاولة للتعرف على الحلول التي وضعها الإسلام في ضوء أهدافه العامة والنهائية، انتبهوا يا شباب الإسلام يهدف إلى أن ينتشر في الدنيا جميعاً لا خلاف على ذلك ووعاء الإسلام عربي فهل معنى ذلك أن الإسلام يريد أن يعمم اللغة العربية على الناس جميعاً بسرعة نقول نعم ونشد رأينا في الآتي:
أولاً كل دارس للتاريخ وخاصة التاريخ القديم يعلم أن الذين درسوا المسألة كانوا يظنون أن موطن الحضارات الأولى كان في مصر ثم تبين خطاً هذا الرأي وانتقلوا إلى الظن بأن موطن الحضارات الأولى كان فيما بين النهرين أي بلادنا هذه، ثم تبين خطأ هذا الرأي، واستقر رأي معظم الباحثين على أن الموطن الأول للحضارات والمهد الأول للجنس البشري كان في جزيرة العرب ويحدثنا القرآن عن أحوال سابقة وعن أزمنة سحيقة كانت الجزيرة العربية خلالها تتفجر بالعيون والأنهار وتنتشر فيها البساتين وكانت معمورة بالقرى والظلال حتى إن سكانها اشتاقوا إلى رؤية الصحراء فقالوا كما ذكر القرآن:
{ ربنا باعدْ بين أسفارنا } أرادوا بأن يشعروا بلذة السفر، فلا يخرجوا من ظل إلى ظل ولا من قرية إلا إلى قرية ثم حصل جفاف شديد سبب هجرات، موجات من الهجرة وأنا أعرف أن الحبشة من أقرب البلاد إلى العرب لأن موجات الهجرة عرفت طريقين في الماضي السحيق الطريق الذي هو طريق الحبشة والصومال وساحل أفريقيا الشرقي والجنوبي، والطريق الثاني هو صحراء سيناء وأن الموجات التي عرفت بالفينيقيين والآراميين والكلدانيين والآشوريين وما أشبه ذلك هي موجات عربية وأن إبراهيم عليه السلام رجل من العرب، ولكن بعدهم عن الوطن الأم جعل اللسان يتبدل وجعل اللغة تختلف وقبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يزيد على ثلاثمائة عام كانت لغة اليمن مغايرة للغة عُلْيا قريش، كان الواحد من أهل الحجاز لا يستطيع التفاهم مع الواحد من أهل اليمن نظراً لتباين اللغات ونحن مهما يكن من أمر سواء قلنا إن الإنسانية انتشرت من آدم وحواء أو قلنا إن الإنسانية انتشرت من قرد أو قلنا إنها تفرعت من الأميبيا فلا شك عند جميع الدارسين أن الإنسانية المنتشرة اليوم تفرعت من الوحدة أي أن الكثرة نتيجة للوحدة وأن أصل الحياة واحد ليكن قرداً ليكن أميبيا ليكن آدم المهم أن أصل الانتشار واحد وأن التفرق إلى أمم وأقطار وشعوب عارض، وما كان عارضاً فهو على شرف الزوال انتبهوا جيداً أنا أقول كلاماً ربما يكون مفاجأة للكثيرين، ولكنه هو الحقيقة العلمية التي هي أصلب من الصخر ما دام الأمر كذلك وما دام أن الله تعالى يشير بصراحة إلى وحدة الأصل وإلى غاية الخلق فيقول:
{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى -هذه وحدة المنشأ- وجعلناكم شعوباً وقبائل -لأي شيء؟- لتعارفوا } .
كيف يتم التعارف مع فناء الأوطان ومع اختلاف الأجناس والألوان ومع تعدد الألسنة واللهجات لا يمكن من تمام التعارف.. أن يعيش الناس إخوة متفاهمين وشرط التفاهم أن يتكلموا جميعاً لغة واحدة ومن هنا فإننا نجد أن الإسلام قرر اللغة العربية وعاء لهذا الإسلام بهدف أن تنتشر العربية مع انتشار الإسلام فلا يوجد شعب يعتنق الإسلام إلا ويتكلم بعدها العربية.
هنا نقف أمام سؤال بسيط يثيره إخواننا الذين يزايدون بقضية القومية العربية يقولون إن من مقومات القومية كذا ومن مقومات القومية كذا باختصار أقول لهم: لا يوحنا الدمشقي الذي كان في عصر الأمويين يشكك ويطعن في الإسلام تحت حماية الدولة الأموية، ولا غيره من أمثال ميشيل عفلق ومنيف الرزاز وأنطوان سعادة وأشباههم من النصارى الذين يريدون أن يفلسفوا لنا القضية القومية العربية لا هؤلاء ولا ذاك، أعرب من محمد صلى الله عليه وسلم سيد العرب وأصفاهم على الإطلاق بماذا يعرف القومية يقول:
"يا أيها الناس إن العربية ليست من أحدكم بأم ولا أب -يعني ليست عنصرية- وإنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي".(/7)
رأيتم؛ إذاً فمسألة العنصر إذاً سخافة لا يقف عندها أحد من الناس إلا من سفه نفسه واستهتر بعقله وعقول الناس، من هذا المنطلق نحن نقول: إن الإسلام أراد أن يقضي على الفوارق وأن يذيب الجنسيات وأن يستوعب الألسنة بانتشاره كيف؟ كل مسلم مطالب بالصلاة تمام، كل مصلٍ لابد له أن يقرأ القرآن.. حقيقة هذه.. القرآن عربي فإذاً كل مسلم لابد له أن يعرف اللغة العربية لكي يستطيع قراءة القرآن، أذكر قضية فقهية بهذه المناسبة يشفِّع بها البعض على إمام الأئمة أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيقولون إن أبا حنيفة رضي الله عنه أجاز قراءة القرآن بالأعجمية لمن لا يحسن العربية، أحب أن أبين المسألة فالخلاف بين الشافعي والحنفي بالنسبة لمن لا يحسن العربية أن الإمام الشافعي قال لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية على الإطلاق، فالإنسان الذي لا يعرف العربية عليه أن يتعلم اللغة وإلى أن يتعلمها، فحين يصلي يقف في الصلاة ويدعو ولا يقرأ القرآن، وأما أبو حنيفة: قال: لا لا داعي لهذا التكلف كله يقف ويقرأ القرآن بلغته -منقولاً إلى لغته- ويصلي فهو خلاف على الشكل، ولكن الجميع متفقون على أن المسلم مطالب بأن يتعلم اللغة العربية، من هذه العتبة ننطلق إلى العالم الواسع لنقول إن العربية تنتشر مع انتشار الإسلام، ضرورة معرفة كل إنسان عربي كل إنسان مسلم للغة التي نزل بها القرآن وللغة التي نطق بها محمد صلى الله عليه وسلم ولو أن الأمور جرت بعد الخلافة الراشدة على النهج الذي أراده الإسلام لوجدنا اليوم ما يقرب من مليار نسمة يتكلمون اللغة العربية، ولكن الخلافة الراشدة مضت والذين جاءوا من بعد مع الأسف ملوك وحكام يهمهم المجد الدنيوي، ولا يهمهم سيادة المعنى الإسلامي في غاياته النهائية ولقد أذكر أنه حينما استقلت الباكستان في أواخر الأربعينيات وكانت تعد مئة وعشرين مليون مسلم كانت لغتها الإنكليزية بفعل الاستعمار الطويل في الهند فكتبت إلى جامعة الدول العربية تطلب إليها إيفاد المدرسين والمعلمين لكي يقدموا اللغة العربية لغة رسمية في الباكستان وإذا كان خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس ومن جاء بعدهم بعد ذلك طلاب دنيا فحكام اليوم خونة ومأجورون ومارقون فلذلك لم يجب أحد منهم طلب الباكستان ولو أنه أجيب لأضيف إلى الأمة العربية خلال هذه الفترة التي لا تتجاوز ربع قرن أكثر من عددهم بالفعل.
هذا من حيث المبدأ، تعالوا ننظر إلى الضرورات وحسبي في هذا الميدان أن أضع أمامكم حقائق رقمية، الخبراء يقدرون تقديرات مخيفة يقولون إن العالم في عام 1850 بلغ تعداده مليار نسمة واقتضى وصوله إلى المليارين ثمانين سنة أي في عام 1930 بلغ عدد سكان العالم ملياري نسمة يعني ألفي مليون نسمة ثم بلغ عام ألف وتسع مئة وسبعين 1970 ثلاثة مليارات ويفترض أنه الآن يقارب لأربعة مليارات نسمة هذا الانفجار السكاني يقدر أنه في عام ألفين سيكون سكان العالم متراوحين بين ستة مليارات وسبعة مليارات نسمة ليس هذا هو الشيء المخيف في الموضوع، الشيء المخيف أن ثلثي هذا الرقم يسكنون في دول العالم الثالث يقدر أنه في عام ألفين ستكون في آسيا أربعة مليارات نسمة وستكون في أفريقيا 650 مليون نسمة وسيكون في أوربا ست مئة مليون نسمة وسيكون في أمريكا الجنوبية اللاتينية أربع مئة وخمسون مليون نسمة، وسيكون في الاتحاد السوفياتي 420 مليون نسمة وسيكون سكان أمريكا الشمالية 400 مليون نسمة هذا الانفجار السكاني يذكرني بحادثة لطيفة تروى فيما يتعلق بقضايا الحرية يقال: إن إنكليزياً وفرنسياً كانا مسافرين في قطار وكان الفرنسي بما عرف عن الفرنسيين من رعونة يقرأ جريدته ويفتحها على سعة يديه وكان الإنكليزي ذا أنف طويل فأصابت إصبع الفرنسي أنف الإنكليزي نبهه بلطف ماذا قال له: أنا حر قال له يا أخي حريتك تنتهي عند حدود أنفي بعد حدود أنفي لا حرية لك أبداً.
الانفجار السكاني في الواقع سيسبب مشكلة هذا الأنف بالذات لأن الإبقاء على واقع القومية الذي تجاوزه الزمن والذي أصبح هذا الوقت زمن التكتلات الكبيرة هذا الانفجار السكاني لو أبقينا على القضايا القومية بنفس المفاهيم سوف يكون تطاحن وتكون نتيجته دمار البشرية لاسيما في ظل الرعب النووي المخيف والهيدروجين الذي يدمر كل ما على الأرض هنا تُفْتَحُ أمام الإسلام -في آفاقه التي تكلمنا عنها- إمكانيات لا حد لها إمكانيات هائلة على الإطلاق.(/8)
في الجمعة الماضية في كلامنا جردنا إخواننا اليساريين من مبرر المزايدة علينا كمسلمين فيما يتعلق بقضايا العدل الاجتماعي -وأقيد اليساريين الذين لا يلتزمون بالماركسية أما الذين يلتزمون بالماركسية فلا شيء لنا معهم، في هذه الجمعة ابنا أننا نحن المسلمين بالفعل دعاة العروبة الصحيحة الإنسانية وإذا كان دعاة القومية العربية يقولون العربية تمتد من المحيط إلى الخليج فنحن نحمل لواء عروبة إسلامية تمتد على ظهر الكرة الأرضية عموماً، فأينا بالله عليكم أقوم قيلاً وأينا أهدى سبيلاً وأينا أقدر على أن نعطي هذه الأمة مكانة ممتازة إنسانية وذات رسالة إنسانية وذات رسالة وهي رسالة حقيقية فعلاً لأنها تقوم على دعائم الحرية البشرية والكرامة الإنسانية. وهذا درس ينبغي أن لا يغيب عن الأذهان مع عتب أو مع حسرة..
نحن المسلمين أو بالأحرى نحن دعاة الإسلام قصرنا في عشرات السنوات الماضية ما كنا نملك الرؤية الواضحة فتركنا اهتمامات العالم العربي تتسرب من بين أيدينا تلقفها نايف حواتمة وما أشبه ذلك من هذا النثار الذي لا تعرف له أصلاً من أين جاء، أي بقعة من الأرض لفظته كما يلفظ القذر لا تدري؛ تلقفها هؤلاء فإذا هم يزايدون علينا ميشيل وحنا و.. عرب أما أحمد ومحمد وعبد الرحمن فليسوا عرباً، هذا عجيب هذا تلاعب بالواقع وتزييف لكن من المسئول عنه نحن تركنا قضايا الأمة العربية لم نهتم بها كنا مأخوذين بسحر العالمية مع أن العالمية هدف والهدف لا يلغي الطريق مع أن العالمية هدف والهدف لا يلغي المنهج وكنا غافلين عن تعرف المنهج من خلال المعطيات الحقيقية لهذه الدعوة ولهذا الدين مع أنها كانت قريبة منا.
لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل الجزية من العرب؟ بالنسبة لغير العرب، الإنسان منهم مخير بين الإسلام أو القتل أو الجزية لكن العربي: إما الإسلام وإما السيف واحد من أمرين لأن رسول الله لا يقبل من العربي ابن إبراهيم بن إسماعيل عليهما السلام إلا أن يكون مسلماً فقط لا شيء غير الإسلام لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي في آخر حياته: (لا يجتمع بجزيرة العرب دينان) حتى إذا كانت خلافة عمر أجلى اليهود الذين كانوا يزرعون خيبر لحساب المسلمين أجلاهم إلى الشمال حتى لم يبق في الجزيرة العربية إلا العرب لماذا كان عمر وهو الخليفة الراشد الملهم، لا البطل الملهم الملهم، لماذا كان يقول: أوصي الخليفةَ من بعدي بالأعراب خيراً فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام؟ كل ذلك لأن العرب حملة الرسالة أهل اللسان هل معنى ذلك أننا نعطيهم امتيازاً لنسقط في العرقية والعنصرية؟ لا. وإنما نحن نرتب عليهم مسئولية وفعلاً في هذه الأيام مسئولية العالم مسئولية الدنيا مسئولية المصير البشري تتوقف على وعي المسلمين وعلى وعي المسلمين في العالم العربي قبل أي أحد لهذه المهمة إن أحسنوا التصرف بها وحدة وتجاوزاً للخصومات والخلافات واهتماماً برسالتهم التي هي الإسلام فسوف يقدمون الخدمة التي أراد الله أن يقدموها للعالم وإلا فشأنهم شأن أمم كثيرة بادت والله تبارك وتعالى غير عاجز عن أن يأتي بقوم آخرين خيراً منا نحن { فإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } أسأل الله تبارك وتعالى أن لا يجعلنا من أبناء ذلك اليوم وأن لا يحرمنا من شرف الجندية تحت لواء محمد صلى الله عليه وسلم وأن لا يحرمنا من شرف الدعوة إلى الله في ظل مبادئ الإسلام وفي ظل آيات القرآن الكريم وإلى الجمعة القادمة إن شاء الله سأنظر في موضوع الهجرة من زاوية أخرى هي زاوية الضمانات والاحتياطات أو بتعبير أدق من زاوية الدروس المستفادة من تاريخ النبوات السابقة على الإسلام وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(/9)
أهنئكم وأعزيكم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، كما ينبغي لجلال وجهه الكريم ، وعظيم سلطانه القديم ، الحمد لله رافع السماء بغير عمد ، وناصر الأنبياء بغير عضد ، وفالج الخصماء بغير شريك أو ولد . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، بالغ الحجة ، واسع الرحمة ذي الطول ، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله ، وصفيه من خلقه وخليله ، شهادة أتكئ عليها يوم ينصب الميزان ، وأحتمي بها يوم تزفر النيران ، وألوذ بها يوم لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان . وأصلي وأسلم على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، ومن تبعه بإحسان وسار على هديه بإتقان إلى يوم الدين ، صلى الله وسلم وبارك عليك يا حبيبي يا رسول الله ، بلغت الرسالة وأديت الأمانة، ونصحت الامة وكشفت الغمة ، وتركتنا على محجة بيضاء ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك او ضال
.
وبعد يا عباد الله :
أوصيكم وإياي بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته ، وأحذركم من عصيانه ومخالفة أمره ، واعلموا ان التقوى وقاية ، وأن المعاصي غواية ، وأنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله وبعد أيها المسلمون:
أني أقف أمامكم اليوم لأقدم لكم شعورين مختلفين متناقضين ، فإني أهنئكم وأعزيكم في موقف واحد .
أما التهنئة فإني أهنئكم بأن نساءكم قد ولدت لكم أبطالا عجزت نساء الخلق عن أن تلد مثلهم، فهاهم في العراق قلة قليلة العدة والعتاد توقع الخسائر الكبيرة الفادحة في اعتى جيش في العالم، جيش أمريكا، حتى باتت العراق مستنقع لا يقوى الكفار على القاء فيه ولا الخروج منه فلا يعرفون أي مصيبة تلك التي حلت بها بدخولهم للعراق، وهاهم أيضا الأبطال في افغانستان الذين تعجز امريكا بسببهم من السيطرة على افغانستان فيحرمون أمريكا وشريكتها بريطانيا من أن يهدا لهم بال أو يستقر لهم قرار في افغانستان وكذا الأمر في الشيشان،
وها هم أيضا الابطال في فلسطين وفي لبنان الذين أثخنوا دولة يهود بالجراح حتى باتوا ينتظرون يوما لانهاء الحرب وتعرضت حكومتهم الى الانتقاد والمحاسبة لما وقع بهم من خسائر ومصائب وكل هذا من قلة قليلة العدة والعتاد ايضا أمام الجيش الذي طالما وصفوه بانه أقوى او من اقوى الجيوش في الشرق الأوسط ، فحقا إني أهنئكم بما أنجبتم من أبطال ضربوا للعالم أروع مثال في كيف يكون الرجال .
أما أني معزيكم فإنه اعزيكم بحكامكم ومسوؤليكم ومن تسموا بولاة أموريكم، ففي الوقت الذي يضحي فيه أبناءكم بأغلى ما يملكون ، بالنفس والأهل والمال والولد ، فإن حكامكم يفرطون بكل ما لكم بأبخس الأثمان أو بلا ثمن ، فانظروا ماذا صرح فؤاد السنيورة قال :"" يجب علينا أن نسعى الى تنفيذ قرار 1701 وكذلك قرار 1559 " داعيا المجتمع الدولي والمحلي الى السعي الى تنفيذهما بأسرع وقت، بل كذلك وافق الوزراء والنواب في لبنان على هذين القرارين ، تصوروا يا عباد الله، هذه الجرأة والوقاحة .
هل تعرفون على ماذا ينصان القراران وهل تعرفون على ماذا يوافق الوزراء والنواب ويدعون المجتمع الدولي لتنفيذه ؟ انا اخبركم به
انها تنص على وقف الأعمال العسكرية الحربية دون وقف لإطلاق النار ، وتنص على انسحاب جند حزب الله الى شمال الليطاني، ونشر قوة قوامها خمسة عشر الفا من الأمم المتحدة ، وتنفيذ اتفاق الطائف القاضي بنزع سلاح حزب الله ، ثم اطلاق سراح الأسيرين الاسرائيلين اللذين اسرهما حزب الله في عملية قتالية دون قيد أو شرط ، في الوقت الذي ترك فيه موضوع الأسرى اللبنانيين معلقا. هذا ما نص عليه القرار .
قرار يحقق لأسرائيل أكثر مما كان يمكن ان تحققه بحرب لعشر سنوات،
فأي مصيبة تلك التي يرتكبها من يوافق على ان يكون جنوب لبنان خاضع لسلطان الكفار من خلال جيوش تتصدرها جيوش بريطانيا وفرنسا والمانيا ، تلك الجيوش التي اشترطت اسرائيل ان تخلو من اي جيش تابع لدولة لا يربطها بإسرائيل علاقات دبلوماسية ، بمعنى انه زيادة على ان هذا امر حرمه الله من فوق سبع سموات بأن يكون السلطان للكافرين على المسلمين حيث قال تعالى :""ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " فإنه علاوة على ذلك جيش المقصود منه حماية امن يهود وابقاء المنطقة خالية مما يمكن ان يهدد يهود .
وأي جريمة تلك يا عباد الله التي يقترفها من يوافق على القرار الذي يفضي الى التسوية مع يهود والمساعدة في عيشهم عيشا طبيعيا في المنطقة من خلال هذه الاتفاقيات التطبيعية المفضية الى الاعتراف بشرعية دولة يهود . حقا انها خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين ودماء شهدائهم .
لذلك فإني معزيكم بحكامكم ، فأبناؤكم يقاتلون ويستشهدون ويقفون كالأبطال وحكامكم من بعدهم يخونون ويسالمون ويبيعون البلاد والعباد بأرخص الأثمان .(/1)
ولكن ياليت العزاء قد اكتمل بأن دفنا الحكام في مقبرة جماعية نكتب عليها آيسون من رحمة الله ، ولكن وا حسرتاه فهم أموات وما هم باموات ، اموات أمام اعدائكم احياء عليكم .
أيها المسلمون :
لعل قولي هذا تعرفونه وتعرفون ما هو أكثر منه ولربما يقول بعضكم قولا أبلغ فيهم من قولي هذا ولكني اقول هذا الكلام وأذكركم به لتحزموا أمركم تجاه حكامكم . فإن رسول الله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله.
فقد بات واضحا لكل صغير وكبير فساد الحكام وأمرهم وأنهم هم أس الداء والمصائب ، مما يعني أنه يجب عليكم أن تقوموا أنتم بواجبكم .
فلا يكفي ولا يجوز منا أن نعرف واقع الحكام وندرك فسادهم وضرورة تغييرهم ثم لا يكون لنا نصيب أو سهم في العمل للخلاص منهم .
فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعتبر من ادرك هذه الحقيقة ولم يعمل للتغير بأنه شريك لهم ، ولا أظن أحدا منا يرضى ان يكون شريكا لهؤلاء المجرمين في حق انفسهم بما سينالونه من عقاب عند الله وبحق أمتهم لما فرطوا بها وعلى الملأ.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .. فيا فوز المستغفرين اتسغفروا الله .
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، والصلاة والسلام على سيدنا المجتبى، آلله خير ام ما يشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
عباد الله :
هذه الأحداث العصيبة وتلك الجرائم الكبيرة تمر علينا في وقت نستذكر فيه أمرا عظيما، والذي ترجع اليه كل مصائبنا في حكامنا .
ففي الثامن والعشرين من شهر رجب الخير لسنة 1342 هـ، الموافق للثالث من آذار لسنة 1924م, وقعت أكبر جريمة في حق المسلمين، حيث تمكنت الدول الأوروبية بقيادة بريطانيا من إلغاء دولة الخلافة العثمانية الإسلامية، ولم تخرج الجيوش البريطانية المحتلة لمضيق البوسفور وإستانبول العاصمة إلا بعد أن اطمأنت إلى نجاح عميلها مصطفى أتاتورك في تركيا من إلغاء دولة الخلافة، وإقامة الجُمهورية العلمانية على أنقاضها، وإخراج الخليفة من البلاد.
وفي صبيحة الثالث من آذار من ذلك العام أعلن المجلس الوطني الكبير موافقته على إلغاء الخلافة وفصل الدين عن الدولة، وفي الليلة ذاتها أرسل مصطفى كمال أمراً إلى حاكم إستانبول الذي استولى على المدينة بفضل سماح القوات البريطانية وتمكينها له بالسيطرة عليها، يقضي بأن يغادر آخر خليفة عثماني عبد المجيد تركيا قبل فجر اليوم التالي، وأُجبر الخليفة بالفعل على الخروج من تركيا باتجاه سويسرا وتم تزويده بحقيبة فيها بعض الثياب وبضعة جنيهات، وبذلك نفذ أتاتورك شروط إنجلترا وأوروبا للاعتراف بالجمهورية الجديدة، واعترفت الدول الأوروبية باستقلال تركيا في الرابع والعشرين من تموز من نفس العام وفقاً لمعاهدة لوزان، وانسحبت بالتالي القوات المحتلة البريطانية من إستانبول العاصمة والمضائق، وغادر القائد العسكري البريطاني هارنجتون تركيا، وقال وزير الخارجية البريطاني كرزون أمام مجلس العموم البريطاني: «القضية أن تركيا قد قُضي عليها، ولن تقوم لها قائمة، لأننا قضينا على القوة المعنوية فيها: الخلافة والإسلام».
فهذا الحدث الجسيم، وهو هدم الخلافة، لا شك بأنه يعتبر منعطفاً خطيراً في حياة الأمة الإسلامية، فقبل هذا الحدث كان المسلمون يعيشون في ظل دار الإسلام، ومن لم يستظل بظل الدولة الإسلامية كانوا يستطيعون الانتقال إلى الدولة للعيش كرعايا فيها، وللتمتع بالحياة الإسلامية، وإبراء أعناقهم من وجوب وجود بيعة لخليفة امتثالاً لقوله : «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».
ولكن بعد هدم الدولة لم يتمكن أي مسلم من أمة لا إله إلا الله من الالتزام والتقيد بفرض العيش في دار الإسلام والاندماج في جماعة المسلمين. لذلك كانت هذه المناسبة الحزينة جديرة بالتأمل لخطورتها على مستقبل الشعوب الإسلامية، ولاتخاذ العبر منها، وعليه كانت ذكرى سقوط الخلافة مختلفة متميزة وليست ككل الذكريات. فهي ليست ذكرى دينية بالمعنى الشرعي وإن كان لها علاقة تتصل بأعظم واجبات الدين ألا وهي وجوب إقامة الدولة الإسلامية لتطبيق شرع الله تعالى على الناس. وهي ليست ذكرى احتفالية كسائر الذكريات المعهودة البهيجة، وإن كان العمل لإحياء معانيها ينشر السعادة والفرحة في جميع شعوب المعمورة، وليس في جنس أو شعب واحد من شعوبها. وهذه الذكرى وإن كانت غير شائعة بين سواد المسلمين إلا أن إشاعتها تثير في الناس دوافع العمل السياسي الصحيح، ونوازع الوحدة السياسية الفورية للشعوب الإسلامية.(/2)
فهي إذاً فعلاً ذكرى، ولكنها ليست كسائر الذكريات، إنها ذكرى حزينة وأليمة لأنها تتعلق بسقوط أعظم دولة عرفتها البشرية. وبسقوطها سقطت المفاهيم الدولية المبنية على المبادئ والقيم الرفيعة والأخلاقيات، وحلَّت محلها المفاهيم الدولية المبنية على المصالح والأهواء والماديات.
وبسقوط الدولة العثمانية بوصفها آخر دولة خلافة للمسلمين في العام 1924م، لم يتبق للأمة الإسلامية منذ ذلك التاريخ دولة حقيقية تمثلهم، ولم يعودوا يحيون في جماعة إسلامية يقودها خليفة مبايع شرعاً على العمل بكتاب الله وسنة رسوله .
والمسلمون منذ سقوط الخلافة لم يذوقوا طعم الانتصار والعزة والكرامة ولو لمرة واحدة، فهم لم يكسبوا معركة قط، ولم يفوزوا بحرب أبداً، فحروبهم بعد عهد الخلافة لم تُنتج سوى الهزائم والنكسات والنكبات، وأما سلمهم الذي ينادون به ويروجون له فلم يكن سوى الاستسلام بعينه للأجنبي، ولم يتمخض عنه إلا الخيبة والسراب والأوهام.
ولقد عبَّرَ أمير الشعراء أحمد شوقي عن حس المسلمين ومشاعرهم الجياشة إزاء إلغاء الخلافة تعبيراً صادقاً وذلك من خلال قصيدة رائعة رثى فيها الخلافة فقال:
ضَجَّتْ عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ
وبَكتْ عليكِ ممالكٌ ونَواحِ
الهندُ والهةٌ ومصرُ حزينةٌ
تَبْكي عليكِ بمَدمَعٍ سَحّاحِ
والشّامُ تسْألُ والعِراقُ وفَارسٌ
أَمَحَا من الأرضِ الخلافةَ ماحِ؟
عباد الله :
اعلموا أن ما نحن فيه هو بسبب غياب سلطان شرع الله، وما خيانة الخائنين وجبن المتآمرين الا لغياب خليفة المسلمين. فبغياب دولة الإسلام غاب الإسلام عن الحياة وبهدم دولة الإسلام ضاعت كرامة المسلمين وعزهم واعراضهم وبلادهم وأموالهم ، وها انتم ترون بام اعيينكم كيف أننا نقتات على فتات ما يسمح به الحكام ، ونرزح تحت ظل احتلال غاشم وتسفك دماؤنا ليل نهار وتسلب اموالنا صباح مساء ، وكلكم يرى ذلك .
لذلك كان حرياً بكل مسلم مهما كان انتماؤه، ولأي جهة كان ولاؤه، أن تستوقفه هذه الذكرى، وأن يعيد حساباته من جديد، وأن يفكر ملياً ثم يشارك بما يملك من قوة من أجل جعل إعادة دولة الخلافة همّه الأول، لإبراء ذمته من هذا الفرض العظيم الذي يطوق عنقه، وليشارك مع العاملين بنصيب من هذا الفضل العظيم الذي -إن شاء الله- سيعم البشرية بإشراقاته وأنواره.
اللهم اني داع لكم فامنوا يرحمكم الله .
اللهم يا ذا الجلالة والأكرام ويا ذا العزة والسلطان أعزنا بالإسلام وأعز الإسلام بقيام دولة الإسلام.
اللهم عجل لنا بنصرك واتنا بفرج من عندك ولا تبخل علينا من فضلك.
اللهم ايقظ النائم وصح الغافل واشحذ الهمم والعزئم ولا تبقي فينا عميلا ولا خائن ولا تذر من بيننا متامرا الا وقد اهلكته . وأخر دعوانا ان الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.
وأنت يا مقيم الصلاة أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
خطبة جمعة
ابو بكر عساف(/3)
أوائل الشهور رجب وشعبان ورمضان وشوال وذي الحجة 1427هـ
ومحرم 1428 هـ) وذلك باعتبار الحساب الفلكي
عبد الله بن سليمان المنيع 11/7/1427
05/08/2006
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله سيدنا ونبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
وبعد..
فهذا بيان بالحساب الفلكي لولادة أهلة الأشهر رجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذي الحجة لعام (1427 هـ) وشهر محرم لعام (1428هـ) وذلك لتعلق عبادة صوم رمضان، وعيد الفطر، ويومي عرفه وعيد الأضحى، وصوم يوم عاشوراء بأوائل هذه الشهور.وقد ظهر لي وجاهة التمهيد لذلك بتقديم مجموعة من الفوائد تتعلق بالقناعة بهذا البيان لمن رائده الحق والتواصي به.
الفائدة الأولى:
الاقتران: ومعناه اختفاء ضوء القمر المنبعث من الشمس لحجبها القمر أثناء اقترانه بها ومدة ذلك قصيرة جدا قد لاتتجاوز بضع ثوان من الدقيقة
الفائدة الثانية:
الولادة: ومعناها انفصال جزء من القمر عن الشمس بحيث تكون الشمس غرب هذا الجزء من القمر ويكون هذا الجزء من القمر شرقها ويضيء ذلك الجزء المنفصل عن حجب الشمس بقدر انفصاله . وبعض الفلكيين لايفرقون بين الاقتران والولادة فبعضهم يعبر عن الولادة بالاقتران وبعضهم يعبر عن الاقتران بالولادة، والصحيح التفريق بين الحالين حيث إن الاقتران يسبق الولادة بزمن يسير مما يدل على التفريق بينهما في الحدث. وقد أخذ تقويم أم القرى بعدم التفريق.
الفائدة الثالثة:
إمكان الرؤية: ومعنى هذا أن الهلال وإن كان مولودا قبل غروب الشمس إلا أن رؤيته في الأفق لا تكون إلا على زاوية معينة ودرجة معينة على اختلاف بين القائلين بذلك في تقدير التعيين والتحديد فإن تخلف هذا الشرط فلا اعتبار لأي رؤية تٌدَّعى وإن كان الهلال مولودا. وبمزيد من التأمل والنظر والإيمان بقدرة الله تعالى على أن يهب لبعض عباده من قوة الإبصار مايستطيع بها متابعة جريان القمر مع الشمس خلفها أو أمامها. بمزيد من التأمل في ذلك لم تظهر لي وجاهة هذا الشرط – إمكان الرؤية بعد الولادة – فمتى ولد الهلال قبل غروب الشمس وجاء من يشهد برؤيته تعين بعد إجراء تعديله قبول شهادته بالرؤية، ولا اعتبار لشرط إمكان الرؤية.
الفائدة الرابعة:
الاعتبار الفلكي لبداية الشهر و نهايته: اتجه جمهور الفلكيين على اعتبار ساعة قرينتش البريطانية هي الآلية الزمنية التي ينتهي بها الشهر أو يبتدئ.
فإذا ولد الهلال قبل الساعة الثانية عشرة مساء بتوقيت قرينتش فما بعد الثانية عشرة صباحا يعتبر أول شهر جديد، وينتهي الشهر الحالي بولادة الهلال قبل الثانية عشرة مساء. وإذا ولد الهلال بعد الثانية عشرة ودقيقه أو بعد ذلك صباحاً فتعتبر تلك الليلة والنهار الذي يليها هو آخر يوم من الشهر ويبدأ الشهر الجديد بعد الساعة الثانية عشرة من مساء ذلك اليوم أي في منتصف الليلة القابلة. وقد خالف هذا الاتجاه قرار مجلس الوزراء السعودي رقم 143 وتاريخ 22/8/1418هـ ومضمون المقصود منه أن الاعتبار بغروب الشمس من مكة المكرمة بمعنى أن الهلال إذا ولد قبل غروب الشمس، فما بعد غروب الشمس يعتبر أول الشهر، وإن ولد بعد غروب الشمس اعتبر ما بعد الولادة آخر الشهر، ويبدأ الشهر، الجديد بعد غروب شمس ذلك اليوم الذي هو آخر الشهر وهذا الإجراء هو المتفق مع الاتجاه الشرعي في رؤية الهلال بعد غروب الشمس أو عدم رؤيته. وقد أخذ بهذا القول تقويم أم القرى فكان هذا سببا من أسباب العناية والدقة والثقة في تقويم أم القرى.
الفائدة الخامسة:
اعتبار الحساب الفلكي في حال النفي لا في حال الإثبات.
ومعنى هذا أن الحساب الفلكي إذا قرر أن الهلال لا يولد إلا بعد غروب الشمس فيجب الأخذ به ورد أيِِِ دعوى رؤية تخالفه.
لأن الشمس غربت قبل ولادته. وأما إذا قرر الحساب الفلكي بأن الهلال ولد قبل غروب الشمس فإذا لم يُرَ الهلال بعد غروب الشمس فلا يجوز على القول المختار إثباتُ دخول الشهر بالحساب الفلكي المثبت لدخول الشهر.ويمكن أن توضح هذه الفائدة بالأحوال التالية:
الحال الأولى:
أن يولد الهلال قبل غروب الشمس ويُرَى الهلال بعد غروب الشمس، فهذه الحال يثبت فيها دخول الشهر بالاعتبارين الشرعي والفلكي.
الحال الثانية:
أن يولد الهلال قبل غروب الشمس ولكنه لم ُيَر بعد غروبها، فهذه الحال وإن ثبت دخول الشهر فلكيا إلا انه لم يثبت دخوله شرعا لانتفاء رؤية الهلال وقد قال صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته).
الحال الثالثة:
أن يولد الهلال بعد غروب الشمس ولم يتقدم أحد بالشهادة برؤيته بعد غروب الشمس فهذه الحال تعني أن الليلة التالية لغروب الشمس هي آخر ليلة من ليالي الشهر الحالي حيث لم يثبت دخول الشهر فلكيا ولا شرعا.
الحال الرابعة:(/1)
أن يولد الهلال بعد غروب الشمس، ومع ذلك يتقدم من يدعى رؤية الهلال بعد غروب الشمس، فيجب في هذه الحال العمل بخبر الفلك في نفي صحة الرؤية بعد غروب الشمس، ورد دعوى رؤية الهلال بعد غروب الشمس مهما كانت . لاستحالة صحة الرؤية حيث إن الهلال لا وجود له بعد غروب الشمس لأنه غرب قبلها فكيف ُيَرى والحال كذلك ؟
فهذه الأحوال الأربعة توضح معنى القول بالأخذ بما يقوله علم الفلك في النفي لا في الإثبات.
الفائدة السادسة:
هي تكميل للفائدة الرابعة وردُّ على القائلين بأن الفلكيين مختلفون فيما بينهم في إثبات أول الشهر فبعضهم يدخله مثلا بيوم الأربعاء وبعضهم يدخله بيوم الخميس، وهذا يعني اختلافَهم في تحديد وقت الولادة، والصحيح أن الاختلاف واقع في تحديد وقت بدء دخول الشهر لا في تحديد وقت الولادة وهو اختلاف اصطلاحي لا يتعلق بوقت ولادة الهلال فجميع علماء الفلك مجمعون على وقت الولادة لكل هلال , ولكن بعضهم يعتبر دخول الشهر إذا كانت الولادة قبل الثانية عشرة مساءً بتوقيت قرنيتش . أما إذا كانت الولادة بعد الثانية عشرة مساء فتعتبر الليلة واليوم الذي يتلوها آخرَ الشهر. والبعض الآخر يرى أن الاعتبار بولادة الهلال قبل غروب الشمس فإذا ولد الهلال قبل غروب الشمس كان ذلك اليوم آخر الشهر، والليلة التالية لغروب الشمس هي ليلة أول يوم من أيام الشهر الجديد. وإن كانت ولادة الهلال بعد غروب الشمس ولو بزمن يسير كساعة مثلا فتكون الليلةُ والنهارُ الذي يتلوها هو آخرُ يوم من أيام الشهر الحالي.
ونتيجة هذا الاختلاف في الاصطلاح تظهر في المثال التالي:
هلال شهر رمضان لأحد الأعوام مثلا ولد ليلة الإثنين الساعة الحادية عشرة مساءً بتوقيت مكة المكرمة والساعة الثامنة مساءً بتوقيت قرنيتش، وعليه فإن القائلين باعتبار توقيت غرينتش يقولون بأن أول شهر رمضان هو يوم الثلاثاء والقائلون باعتبار ولادة الهلال قبل غروب الشمس يقولون بأن أول شهر رمضان هو يوم الأربعاء. هذا الاختلاف ليس مرده الاختلاف في تحديد وقت الولادة وإنما مرده الاختلاف في تحديد وقت ابتداء الشهر في ضوء وقت الولادة وفق ما تم الاصطلاح عليه عندهم.
الفائدة السابعة:
حال القمر في النصف الأول من الشهر وحاله في النصف الآخر من الشهر.
الحقيقة الطبيعية للقمر أن نقص استدارته في النصف الأول من الشهر، يكون في الجهة الشرقية حتى الرابع عشر من الشهر ومن السادس عشر من الشهر إلى آخر الشهر يكون نقص الاستدارة من الجهة الغربية للقمر، حيث إن الاستدارة تتعلق بقرب القمر من الشمس، ففي النصف الأول من الشهر يكون قرب القمر من الشمس في الجهة الغربية وفي النصف الثاني يكون قرب القمر من الشمس في الجهة الشرقية.
هذه الفائدة تساعد من كان في مكان يجهل فيه الجهات الأصلية تساعده على معرفة الشرق والغرب إذا كان القمر مشاهدا، وبمعرفة الجهة تتيسر معرفة القبلة للصلاة والاتجاه.
الفائدة الثامنة:
قد يرى الهلال في آخر الشهر وبعد غروب الشمس وقبل ولادته بمعني أن الشمس غربت ثم رؤي الهلال بعد غروبها وقبل ولادته.
هذه الحال قد تكون حجة لمن يتردد في قبول النتائج الفلكية، ومن تلك النتائج استحالة رؤية الهلال بعد غروب الشمس، والحال أن الهلال لا يولد إلا بعد غروبها فما تفسير هذه الظاهرة وماهو الرد عليها؟
نعم قد تحصل هذه الحال في شهر من شهور السنة إلا أن هذه الحال ليست نقضا لقاعدة استحالة رؤية الهلال بعد غروب الشمس قبل ولادته، لأن هذه الرؤية ليست رؤية حقيقية للهلال، وإنما هي رؤية لانعكاس الهلال خلف الشمس، والحال أنه أمامها ومتقدم عليها، بدليل أن قرني الهلال في هذه الحالة متجهان إلى الغرب جهة الشمس، إذ الهلال قبل ولادته لا يزال في وضعه الطبيعي آخر الشهر حسبما جاء وصف هذه الحال في الفائدة السابعة.
الفائدة التاسعة:
في معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب" إلى أخر الحديث.
ذهب بعض أهل العالم إلى أن وصف أمة الإسلام بالأمية وصف مدح وثناء وتَمَيُّز، ولهذا فلا يلزمنا الأخذ بنتائج العلم لأننا غير مكلفين بها ولا بتحصيلها، ولا بالعمل بمقتضاها، ومن ذلك علم الفلك وتحصيله والأخذ بنتائجه فلا يلزمنا تعلمه ولا الأخذ بنتائجه.(/2)
والذي يظهر لي أن هذا الفهم غير صحيح ومتناقض مع موقف الإسلام من العلم والعلماء وأن التقوى مصدر العلم وخشية الله نتيجته. والذي يبعدنا من التناقض ويؤكد خطأ هذا الفهم موقفُ الإسلام من العلم والإشادة به والحض علي تعليمه وحصر خشية الله تعالى على العلماء على سبيل الحصر الإضافي، وبعدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التناقض مع مواقف الإسلام، فرسول الله صلى لله عليه وسلم يقرر واقع المسلمين في عصره. فالقراءة والكتابة اللتان هما آلية تحصيل العلم مفقودتان لدى غالب المسلمين في ذلك الزمن ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وما أتاها. فطالما أن العلم المُحَصِّل للحقائق مفقود فالبديل عنه مافي الوسع، وهو ما ذكره صلى الله عليه وسلم بأن الشهر هكذا وهكذا و هكذا.وفي بعض الروايات: فاقدروا له. وفي رواية فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما.
ومن المعلوم أن الأُميَّة جهل، والجهل ليس محلا للمدح والثناء، والله -سبحانه وتعالي- يقول: "هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون". وعصورنا المتأخرة صار فيها المسلمون ذوي علم ودراية وقدرة على القراءة والكتابة، والحساب والاختراع، والاكتشاف، والتميز في مجالات علمية مختلفة في الفلك، والطب، والهندسة، والتقنية، والطاقة، والتكنولوجيا بمختلف اختصاصاتها. وهذا يؤكد زوال الأمية بين المسلمين. ومتى وجدت الرخصة للاضطرار أو الحاجة المُلِحَّة للمجتمع والمنزلةِ منزلةَ الضرورة للفرد، فإن زوال موجبها يعني رفعها، فمتى استطاع المسلمون التوصُّلَ إلى ما تتحقق به أمور عباداتهم، ومعاملاتهم، وشؤون حياتهم بوسائل علمية تنتفي بها أحوال الظن، والحدس، والتخمين إلى حقائق علمية تُعطِى اليقين، فليس الشك كاليقين . ومن المعلوم لدى أهل العلم أن الرخصة تزول بزوال موجبها ومقتضاها، والله أعلم.
وبعد فنستعين بالله تعالى في بيان أوائل الشهور: رجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذي الحجة، لعام (1427 هـ) وشهر الله الحرام – محرم – (1428هـ) وذلك وفق الحساب الفلكي.
1-هلال شهر رجب:
يولد هلال شهر رجب، يوم الثلاثاء (29 /6 / 1427هـ) (الساعة 7:32 صباحا) ويغرب (الساعة 7:31 مساء يوم الثلاثاء بعد غروب الشمس بسبع وعشرين دقيقة) حيث أن الشمس تغرب (الساعة 7:04) ويمكث الهلال بعد غروب الشمس سبعا وعشرين دقيقة. ونستخلص من ذلك ما يلي:
أ-جواز ترائي الهلال ليلة الأربعاء الموافق 26 / 7/2006م
ب- اعتبار يوم الأربعاء أول يوم من شهر رجب، وذلك باعتبار الحساب الفلكي
ج- في حال عدم رؤية الهلال ليلة الأربعاء فيعتبر يوم الأربعاء تمام الثلاثين لشهر جمادى الثانية، ويوم الخميس أول يوم من شهر رجب، وذلك اعتباراً بالمقتضى الشرعي
د- لا يجوز ترائي الهلال ليلة الثلاثاء الموافق 29 /6 /1427حيث أن الهلال لا يولد إلا في صباح يوم الثلاثاء.
2- هلال شهر شعبان:
يولد هلال شهر شعبان (الساعة 10:11 من مساء يوم الأربعاء) الموافق 29 / 7 / 1427 هـ - أي ليلة الخميس – ويغرب القمر مساء الخميس الموافق 30 /7 /1427 هـ (الساعة 7:15 بعد غروب الشمس بثلاثين دقيقة) حيث تغرب الشمس (الساعة 6:45) ونستخلص من هذا ما يلي:
أ- جواز ترائي الهلال ليلة الجمعة الموافق 25 /8 /2006 م
ب- عدم جواز ترائي الهلال ليلة الخميس الموافق 30 / 7 /1427هـ حيث أن الهلال غير مولود تلك الليلة وإنما ولادته صباح الخميس وإذا جاء من يدعي الرؤية فيجب رد دعواه مهما كانت.
ج- يعتبر يوم الجمعة أول يوم من شهر شعبان الموافق 25 / 7 / 2006م فلكيا.
د- يعتبر يوم الخميس 24 / 7 /2006 م هو تمام الثلاثين لشهر رجب وذلك حسب التقويم الفلكي.
3- هلال شهر رمضان:
يولد هلال شهر رمضان (الساعة 2:46 من ظهر يوم الجمعة) الموافق29 / 8 / 1427 هـ ويقول تقويم أم القرى إن الهلال يغرب ليلة السبت مساء الجمعة (الساعة 6:17) وتغرب الشمس بعده، وذلك في (الساعة 6:18) أي بعد غروبه بدقيقة. وهذا القول من تقويم أم القرى يحتاج إلى تفسير فلكي إذ كيف يولد قبل غروب الشمس بثلاث ساعات واثنتين وثلاثين دقيقة، ومع ذلك يغرب قبل الشمس بدقيقة؟
نستخلص من هذا مايلي:
أ- طالما أن هلال شهر رمضان ولد بعد ظهر يوم الجمعة (الساعة 2:46) أي قبل غروب الشمس بثلاث ساعات ونصف تقريبا، فإن قاعدة ولادة الهلال قبل غروب الشمس تعنى أن الليلة التالية لغروبه هي ليلة أول يوم من الشهر.
وهذا يدل على جواز ترائي الهلال مساء الجمعة ليلة السبت، فإن رؤي فالرؤية صحيحة، ويكون يوم السبت هو أول يوم من أيام شهر رمضان وبهذا يتفق الحساب الفلكي مع الرؤية الشرعية في اعتبار يوم السبت أول شهر رمضان.(/3)
ب- على افتراض صحة ما اتجه إليه تقويم أم القرى بأن هلال شهر رمضان غرب قبل الشمس بدقيقة مع أنه قد ولد قبل غروبها بثلاث ساعات ونصف تقريباً، فإذا وجد لهذه الظاهرة تفسير فلكي معقول فلا يجوز ترائي هلال شهر رمضان مساء يوم الجمعة ليلة السبت لكون الهلال غرب قبل الشمس بدقيقة فلا يمكن رؤيته بعد غروبها وغروبه قبلها!؟
وعلى هذا القول يكون يوم السبت الموافق 23 / 9 / 2006م هو تمام الثلاثين لشهر شعبان، ويكون يوم الأحد الموافق 24 / 9/2006م هو أول يوم من شهر رمضان، وذلك باعتبار الحساب الفلكي.
ج-يجوز ترائي الهلال ليلة الأحد مساء السبت، وذلك بناء على القول بغروب القمر قبل الشمس بدقيقة ليلة السبت مساء الجمعة، فإن رؤي كان يوم الأحد الموافق 24 / 9 /2006م هو أول يوم من شهر رمضان.
4- هلال شهر شوال:
يولد هلال شهر شوال (الساعة 8:15 من صباح يوم الأحد) الموافق 29 / 9 /1427 هـ، ويغرب القمر مساء يوم الأحد ليلة الإثنين (الساعة 5:52) وتغرب الشمس في هذا اليوم الأحد الساعة 5:51 أي قبل غروب القمر بدقيقة واحدة.
نستخلص من ذلك ما يلي:
أ- يكون يوم الإثنين 23 / 10 / 2006 م هو يوم عيد الفطر، وهو أول يوم من شهر شوال وذلك باعتبار الحساب الفلكي.
ب-يجوز ترائي الهلال ليلة الإثنين مساء يوم الأحد الموافق29 / 9 /1427 هـ لولادة الهلال قبل غروب الشمس، فإن رؤي صار يوم الاثنين أول يوم من شهر شوال، باعتبار الرؤية الشرعية، وإن لم يُرَ صار يوم الإثنين تمام الثلاثين لشهر رمضان، وصار يوم الثلاثاء الموافق 24 / 10 /2006م هو يوم عيد الفطر، وهو أول يوم من شهر شوال وذلك وفق المقتضى الشرعي.
ج- لايجوز ترائي هلال شهر شوال ليلة الأحد مساء السبت الموافق 28 / 9 /1427هـ لكون الهلال لم يولد إلا صباح الأحد.
د- يمكث الهلال بعد غروب شمس يوم الأحد الموافق 29 / 9 /1427هـ دقيقة واحدة، ثم يغرب ِتلْوَها وقد تتعذر رؤية الهلال بعد غروب الشمس حيث أن مكثه بعدها دقيقة واحدة فقط إلا أن ذلك لا يستحيل لسقوط شرط اشتراط إمكان الرؤية لدينا.
5- هلال شهر ذي الحجة:
يولد هلال شهر ذي الحجة (الساعة 5:02 من مساء يوم الإربعاء ليلة الخميس) الموافق 29 / 11 /1427 هـ أي قبل غروب الشمس باثنتين وأربعين دقيقة.
وعلى قاعدة أن الهلال إذا ولد قبل غروب الشمس فإن الشمس تغرب قبله، ولو كان بزمن يسير لايتجاوز الثواني، وبناء على هذه القاعدة فإن ليلة الخميس تعتبر أول ليلة من ليالي شهر ذي الحجة، ويعتبر يوم الخميس أول يوم من شهر ذي الحجة، ويكون يوم الجمعة هو يوم عرفه 9 /12/1427هـ وذلك وفق الحساب الفلكي، ولكن تقويم أم القرى خالف هذه القاعدة، وقال: إن هلال شهر ذي الحجة بالرغم من أنه ولد قبل غروب الشمس باثنتين وأربعين دقيقة إلا أنه يغرب قبل الشمس بأربع عشرة دقيقة حيث يغرب (الساعة 5:30) وتغرب الشمس بعده (الساعة5:44) وهذا في الواقع مخالف لقاعدة ولادة الهلال إذ كيف يولد قبل غروب الشمس بساعة إلا ربع تقريباً ويغرب قبلها ؟
فنحن في حاجة تحت وطأة هذا الإشكال إلى حله حلاً علمياً فلكياً معقولا.
وبناء على ما اتجه إلى القول به تقويم أم القرى فلا يجوز ترائي الهلال ليلة الخميس حيث إن الهلال يغرب قبل الشمس بربع ساعة تقريبا، ويعتبر يوم الخميس مكملا شهر ذي القعدة ثلاثين يوما، ويكون يوم الجمعة هو أول يوم من أيام شهر ذي الحجة.
ومما يلفت النظر ويعطي المزيد من التشكيك في صحة ما اتجه إليه تقويم أم القرى في اعتبار يوم الجمعة الموافق 22/ 12/2006م هو أول يوم من أيام شهر ذي الحجة أن القمر يغرب ليلة الجمعة مساء الخميس (الساعة 6:31) وتغرب الشمس قبله (الساعة 5:44) بمعنى أن الهلال يمكث بعد غروب الشمس سبعا وأربعين دقيقة. فهل هذا المكث معقول لليلة الأولى من الشهر؟
والذي يظهر لي أخذاً بقاعدة ولادة الهلال دون تقييدها بشرط أن ليلة الخميس يجوز ترائي الهلال فيها، فإذا رؤي فالرؤية صحيحة متفقة مع الحساب الفلكي، ويكون يوم الخميس هو أول يوم من شهر ذي الحجة والوقوف بعرفة يكون يوم الجمعة 9 /12 /1427هـ والله أعلم.
6- هلال شهر محرم 1428هـ:
يولد هلال شهر محرم عام 1428 هـ (الساعة 7:02 من صباح يوم الجمعة) الموافق 29 / 12 / 1427هـ ويغرب القمر (الساعة 6:23) وتغرب الشمس قبله (الساعة 6:02) ويمكث بعد غروب الشمس 21 دقيقة وذلك مساء يوم الجمعة ليلة السبت.
ويستخلص من ذلك النتائج التالية:
أ-يكون يوم السبت الموافق 20 / 1 /2007م هو أول يوم من شهر محرم 1428هـ .حسب التقويم الفلكي
ب- يكون يوم الإثنين الموافق 10 / 1 /1428 هـ هو اليوم العاشر-عاشوراء- وعليه فيكون صوم عاشوراء ويوم قبله ويوم بعده هو أيام الأحد والإثنين والثلاثاء، الموافق 9, 10, 11 / محرم 1428 هـ فمن صام الأحد والإثنين فقد صام عاشورا ومن صام الإثنين والثلاثاء فقد صام عاشورا
ج- يمكث الهلال مساء الجمعة ليلة السبت بعد غروب شمس هذا اليوم 21 دقيقة .(/4)
د- نظراً إلى أن ولادة الهلال لا إشكال فيها حيث يمكث الهلال بعد غروب الشمس 21 دقيقة وذلك مساء الجمعة ليلة السبت فإن يوم السبت هو أول يوم من شهر محرم 1428 هـ بدون أشكال، ولا تردد في قبوله والأخذ به.
هذا ما تيسر إيراده -والله المستعان- وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.(/5)
أوراق متناثرة في تاريخ الصحافة الإسلامية .. (1)
20-3-2005
بقلم مبارك القحطاني
"...كانت المجلة تسدّ ثغوراً كثيرة من ثغور العمل الإسلامي ، و يقوم الشيخ محمد رشيد رضا بتحرير أغلب موادّ المجلة بنفسه ، و يقوم بتصحيحها و فهرسة مجلداتها مما يسبب له الكثير من الإرهاق و العنت .
..."
إن الحديث حول تاريخ الصحافة الإسلامية سيكون خِداجاً ما لم يتطرّق إلى فارس هذا الميدان " محمد رشيد رضا " رحمه الله و مجلته العتيدة " المنار " ، هذا الرجل الفاضل الفذّ الذي انعقد له لواء الريادة و الأسبقية في مجال إرساء دعائم العمل الصحفي في سبيل الدعوة إلى الله تعالى في هذا العصر ، و انتقاله بهذا الميدان نقلةً واسعةً ناضجةً ، لا يملك المسلم المعاصر إزاءها إلا إزجاء أعطر آيات العرفان و الشكر له و لجهوده الرائدة .
إذ كان رحمه الله رجلاً بأمّة ، حمل هموم العالم الإسلامي و وضعها نصب عينيه ، و شخّص الأدواء التي تهدّ كيانها ، و طفِق بحثاً لها عن الحلول الناجعة ، مجتهداً في اتخاذ الأساليب الإصلاحية السليمة المنسجمة مع منطلقات الشريعة وأصولها ، فكان لهذه المجلّة وقعٌ طيب و صدى إيجابيّ في كل أصقاع العالم الإسلامي على مدى سبعة و ثلاثين عاما هو عمر هذه المجلة .
من هنا ، كانت هذه اللمحة السريعة في تعريف الإخوة القراء بهذه الشخصية الرائدة ، و دورها البارز في مجال نشأة الصحافة الإسلامية ، كجزء من العرفان و الوفاء الذي يلزمنا تجاه روّاد الإصلاح و الدعوة إلى الله تعالى في كلّ عصر و مِصر .
• من هو الشيخ محمد رشيد رضا ؟
وُلِد الشيخ محمد رشيد رضا في في قرية قلمون بالقرب من طرابلس الشام عام 1282هـ الموافق 1865 م ، و تلقّى تعليمه فيها . و كان في بداياته واعظاً متصوّفاً ، ثم تأثر بمدرسة الأفغاني و محمد عبده بعد قراءته لأحد أعداد مجلتهما العروة الوثقى ، و ارتحل إلى مصر عام 1315 هـ ، و تنقّل من الإسكندرية إلى القاهرة التي استقرّ به النوى فيها عام 1315 هـ ، و التقى بالأستاذ محمد عبده و لازمه ، و أفصح له عن رغبته بإصدار مجلة تعتني بأحوال المسلمين ، و طرق إصلاح واقعهم المتردّي ، لكن الأستاذ محمد عبده لم يكن متحمساً لإنشاء مجلة لاقتناعه بعدم جدواها في مقاومة الصحف التي تهتم بأخبار الخديوي و الإنجليز مثل " المؤيد " و المقطم " و الأهرام " ، إلا أن محمد رشيد رضا أقنعه بصحة رأيه و ضرورة إنشاء المجلة للتصدي لمهمة الإصلاح المنشودة ، و أنه في هذا السبيل على استعداد للمغامرة و تحمّل تبعات هذه المغامرة ، و قال له : " إن معالجة قضايا التربية و التعليم و نشر الأفكار الصحيحة لمقاومة الجهل و الأفكار الفاسدة التي فشت في الأمة كالجبر و الخرافات ، هي الباعث لي على إنشاء هذه الجريدة ، و إنني أسمح أن أنفق عليها سنة أو سنتين من غير أن أكسب شيئا " .
• إنشاء المجلة و انتشارها :
ولما صحّ العزم من الشيخ محمد رشيد رضا قام بإنشاء المجلة ، و أطلق عليها اسم : " المنار " ، و طبعها في مطبعة التوفيق القبطية ، فصدر أول أعدادها في تاريخ 22 من شوال عام 1315 هـ ، الموافق 15 مارس من عام 1898 م . يتألف العدد منها من ثمان صفحات كبيرة ، تتوسّطها كلمة المنار بخطّ كبير . و قوبلت المجلة حين إصدارها بالترحاب و الإهتمام من شتى طبقات المجتمع المثقفة ؛ إذ كان أكثر المشتركين فيها من الطبقة المتعلمة و على الأخصّ من فئة المحامين و القضاة الأهليين . و كانت في بداية صدورها أسبوعية ، لكنها اضطرّت لظروف معينة إلى أن تكون نصف شهرية ، ثم إلى شهرية شبه منتظمة . و مع ذلك كان انتشارها في إطار ضيق فلم يزِد المشتركون فيها عن الثلاثمائة ، إذ كان من أسباب ضيق انتشارها منع السلطات العثمانية المجلة من الدخول إلى و لاياتها ، بسبب مواقفها المعارضة للسياسة العثمانية آنذاك .
و لكن الناس في تلك الأقطار بدأوا في التسامع بها ، و ازداد الطلب عليها لا سيما على ما فاتهم من أعدادها السابقة ، و في عام 199 أُعيد طباعة مجموعة أعداد السنة الأولى ، و بيعت بأربعة أمثال قيمتها . فطار ذكرها و انتشر في جميع أنحاء العالم الإسلامي حتى وصلت إلى الهند و سومطرة . فكان لانتشار هذه المجلة في العالم الإسلامي آثار إيجابية في نشر الأفكار الإصلاحية التي طرحها الشيخ محمد رشيد رضا بين ظهراني المسلمين ، إذ يقول المستشرق " هاملتون جب " في كتابه " وجهة الإسلام " : " و لم يشرق ( منار ) الإسلام على المصريين وحدهم ، و لكنه أشرق على العرب في بلادهم و خارجها و على المسلمين في أرخبيل الملايو الذين درسوا في الجامعة الأزهرية ، و على الأندونيسي المنعزل الذي ظل محافظاً على علاقاته بقلب العالم الإسلامي بعد عودته لبلاده النائية على حدود دار الإسلام " ا هـ .(/1)
و استمرّت المجلة على هذا الحال من الإنتشار و الذيوع في العالم الإسلامي رغم ما تعرّضت إليه من مصاعب جمة ؛ فقد كانت المجلة تسدّ ثغوراً كثيرة من ثغور العمل الإسلامي ، و يقوم الشيخ محمد رشيد رضا بتحرير أغلب موادّ المجلة بنفسه ، و يقوم بتصحيحها و فهرسة مجلداتها مما يسبب له الكثير من الإرهاق و العنت .
و من جملة العقبات التي جابهها إلى جانب ذلك العقبة المادية ؛ فكان يعاني من مطل المشتركين في تسديد قيمة اشتراكاتهم ، لأن المجلة لم تكن تتلقى أي مساعدات مالية من الخارج بسبب استقلاليتها الفكرية ، و عدم انضوائها تحت راية حزب أو جهة حكومية أو أحد الأعيان القادرين . و كان كثيراً ما يطرح قضيّة مطل المشتركين في المجلّة تارةً بالتلميح ، و أخرى بالتصريح ، مما يدل على الحرج البالغ الذي كانت تتعرّض إليه المجلة بسبب هذه المشكلة ، و تداعياتها على عمليّة نشر المجلة .
• الإتجاه السلفي في مجلة المنار :
كما رأينا في عرضنا السريع لسيرة الشيخ محمد رشيد رضا ، أنه قد مرّ بعدة أطوار في حياته الفكرية ، فكان في بداياته صوفياً ، ثم متأثّراً بمدرسة الأستاذ محمد عبده العقلانية ، ثم انتهى أخيراً إلى مرحلة اقترب فيها كثيراً من المدرسة السلفية ، و هذه المرحلة الأخيرة - و هي الأهم - برزت في مادّة المجلة بشكل واضح ، و نستطيع تحديد أهم ملامح هذا الإتجاه وفق ما يلي :
أولا : شنّت حرباً شعواءً على الشركيات و البدع المنتشرة بين المسلمين في مصر ، و غيرها من دول العالم الإسلامي ، كبدع البناء على القبور و تعظيم الأضرحة ، و الإستغاثة بالمخلوقين فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، و حثت المسلمين على وجوب العودة إلى الكتاب و السنة و آثار السلف الصالح في فهم قضايا التوحيد و الشريعة .
ثانيا : دفاعها عن أعلام الدعوة السلفية ، و ركّزت على عَلَميْن شامخين من أعلام هذه المدرسة هما : شيخ الإسلام ابن تيمية ، و الإمام المجدّد محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله ؛ فقد كان يهتبل كل فرصة مواتية لبيان مكانة هذين العلَمَين و مآثرهما و دورهما في الإصلاح و التجديد ، و الدفاع عنهما و دحض الشبهات و المفتريات التي عادةً ما يثيرها أعداؤهما . و كذا نشرت المجلة العديد من فتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية ، و فصولاً من كتب ابن القيم رحمهما الله تعالى ، للتنبيه على قيمة هذه الكنوز العلمية . ثالثا : حاربت المجلة التعصّب المذهبي و دعت إلى فتح باب الإجتهاد ، و إلى التمسّك بنصوص الكتاب و السنة الصحيحة بدلاً من التعصّب لمقالات المشايخ و الأئمة و الجمود عليها ، يقول محمد رشيد رضا رحمه الله : " و لا نعرف في ترك الإجتهاد منفعة ما . و أما مضارّه فكثيرة و كلها ترجع إلى إهمال العقل ، و قطع طريق العلم ، و الحرمان من استقلال الفكر ، و قد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد فصاروا إلى ما نرى " ا هـ .
و استقطبت المجلة أقلاماً عُرفت بسلفيتها أمثال العلامة محمود شكري الألوسي ، و العلامة جمال الدين القاسمي رحمهما الله ، و كانت له مراسلات مع علامة القصيم الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله . و مما يحسن ذكره في هذا المقام أن العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله قد وقعت بيده نسخة من هذه المجلة تحتوي بحثاً علمياً كتبه الشيخ محمد رشيد رضا عن كتاب " إحياء علوم الدين " لأبي حامد الغزالي ، فأعجبه هذا البحث لما انطوى عليه من نقد علمي ، و موازنة بين حسناته و سيئاته ، فكان هذا المقال دافعاً له للإنصراف إلى طلب علم الحديث الذي كان فيما بعد فارسه الذي لا يُشقّ له غبار في هذا العصر !
• معارك المنار الفكرية :(/2)
لم يكن طريق الشيخ محمد رشيد رضا و مجلته نحو الصدارة ممهّداً بالورود ، خالياً من الأشواك ؛ إذ كانت مجلته غرضاً للكثير من السهام بسبب مواقفها التي تبنّتها إزاء العديد من القضايا الشرعية و الفكرية ، فتعرّض الشيخ رشيد إلى أعداءٍ كُثُر نازلهم على جبهات مختلفة ، يقول الشيخ في هذا الصدد : " أُجاهدُ البدع و المبتدعين ، و الدجالين و الخرافيين و المعممين الجامدين ، و الملاحدة و الجاحدين ، و المستبدين الظالمين ، و أفنّد شبهات الماديين ، وضلالات دعاة النصرانية المغاوين من غير اعتماد على ملك أو حكومة ، أو مظاهرة حزب أو جمعية ، أو مساعدة غني بماله ، أو كاتب بقلمه " ا هـ . فتعرّضت مجلة المنار إلى هجوم شديد على صفحات مجلة الأزهر في مقالات كتبها الشيخ " يوسف الدجوي " حول قضايا التصوّف و التوسّل و الشفاعة و الإجتهاد ، فردّ الشيخ محمد رشيد رضا عليه بمقالات في المنار و في بعض الصحف المصرية اليومية ، و جمعها أخيراً في كتاب واحد باسم " المنار و الأزهر " . و تعرّض أيضاً لهجوم من محسن العاملي و أحمد عارف الزين و عبدالحسين شرف الدين ، و ردّ عليهم بسلسلة مقالات في مجلة المنار ، و فنّد شبهاتهم و نقضها بأسلوب علمي رصين . و كان للأقباط - بطبيعة الحال - نصيبٌ من الهجوم على الشيخ و مجلته ، فقد هاجمته جريدة " مصر " القبطية ، و اتهمته بالهجوم على المسيحية و أهلها ، و ألّبت عليه الإنجليز و الحكومة المصرية . فتعرّض الشيخ إلى مضايقات من الإنجليز الذين ضغطوا عليه بعدم نشر شيءٍ يمسّ السياسة على خلاف باقي الصحف ، بحجة أن المنار مجلة أدبية . و تعرض كذلك إلى مضايقاتهم عند مغادرته إلى الشام ، فحاولوا منعه من العودة إلى مصر .
• موقف المنار من التغريب و الغزو الفكري :
لم يكن الشيخ محمد رشيد رضا متقوقعاً في برجه العاجي ، أو منكفئاً حول ذاته ، بل كان يتفاعل مع قضايا مجتمعه و ما يعانيه من أدواءٍ فكرية ، و ما يتعرّض إليه من هجمات مسعورة يشنّها الأعداء ، فوقف من خلال مجلته المنار سدّاً منيعاً في وجه مدّ الغزو الفكري الذي بدأ ينفث سمومه في جسد الأمة الإسلامية عموما ، و مصر خصوصا ، و تناول بالفضح أساليب التغريب و الغزو الفكري المتترّسة بحِراب الإستعمار الإنجليزي في مصر ، و كشف النقاب عن وجهها الشائه القبيح في كل أعداد مجلة المنار إما تصريحاً أو تلميحاً ، و في هذا الصدد يلخّص الدكتور " سامي الكومي " موقفه إزاء الإستعمار و آثاره السلبية في العالم الإسلامي قائلاً : " إعلان حرب لا هوادة فيها على ما اقترن بدخول الأوروبيين إلى مصر و غيرها من البلاد الإسلامية من الإنحلال الخلقي و العادات الضارة ، ففي مقال بعنوان " الجيوش الغربية المعنوية في الفتوحات الشرقية " ، يقول : " إن الغرض من الفتوح و الإستعمار تكثير المال و تنمية الثروة ، و إن الدول الأوروبية توفّر على نفسها القتال حتى لا اريق دماء أبنائها و تسلّط الأمم الشرقية جيوشاً معنوية أقوى من الجيوش المادية ، فأن الأوروبيين ساقوا عليه – الشرق – خمسة فيالق هي الخمر و الميسر و الربا و البغاء و التجارة فنسفوا بذلك ثروته ، و قتلوا غيرته و أضعفوا همته و أفسدوا ما كان له من بقايا أدب و دين " . ا هـ .
لهذا لم يكن مفاجئاً أن يقف الشيخ محمد رشيد رضا موقفاً مشرّفاً عندما أطلّت فتنة اللغة العامية برأسها و رفعت عقيرتها النشاز في محاولة خبيثة لطمس الهوية العربية الإسلامية للمجتمع المصري عن طريق محاربة اللغة العربية لقطع أوثق رباط يربط المسلمين في مصر بالقرآن الكريم الذي هو الركن الركين للهوية الإسلامية .
فتولّت بعض المجلات ذات النزعة التغريبية كِبْر هذه الخطة الهدّامة كمجلة " المقتطف " ، و " المقطّم " ، و مجلة " الأزهر " التي أصدرها الإنجليزي " ويليام كوكس " ( و هي غير مجلة الأزهر الصادرة عن جامعة الأزهر ) ، و أخذت على عاتقها نشر هذه الفكرة تحت سمع و بصر الإنجليز . فوقعت في يد الشيخ رشيد كراسة مطبوعة تدعو إلى استخدام اللغة العامية بدل الفصحى ، و كتابتها بحروف لاتينية ، فتصدّى لها في مقالين طويلين بعنوان " صدمة جديدة على اللغة العربية " ، و فنّد آراء مؤلف الكراسة بحجج قوية واضحة ، أبان فيها عوار هذه الدعوة الضالة ، و ما يراد منها من أهداف خبيثة .
• نهاية المجلة :(/3)
توُفّي الشيخ محمد رشيد رضا في 23 من جمادى الأولى لعام 1354 هـ ، الموافق 1935 م ، بعد أن استكملت المنار مجلدها الرابع و الثلاثين و شرعت في الخامس و الثلاثين ، فكان لوفاة الشيخ و انقطاع المجلة وقعاً محزناً في العالم الإسلامي ، فطالب الكثيرون من العلماء و الأدباء و المؤرخين بإعادة إصدارها مرة أخرى لسدّ الفراغ الكبير الذي أحدثه توقفها ، فأصدر أخوه " محي الدين رضا " عددين فقط ، و لكنه لم يستطع الإستمرار . توقّفت بعد هذا المجلة لمدة عامين ، ثم تولّت جماعة الإخوان المسلمين زمام المجلة ، برئاسة الشيخ " حسن البنا " رحمه الله ، فصدرت ستة أعداد منها ، ثم توقّفت نهائياً في شعبان 1359 هـ ، الموافق سبتمبر عام 194 م ، لينطفيء آخر إشعاع انبثق من هذا " المنار " الشامخ الباذخ ، فرحم الله الشيخ و أجزل له المثوبة عنا و عن أمة الإسلام . و الله ولي التوفيق .
____
المراجع :
1 – " رشيد رضا و دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب " ، للدكتور : محمد بن عبدالله السلمان ، من منشورات نادي القصيم الأدبي ببريدة . الطبعة الأولى 1988 .
2 – " الصحافة الإسلامية في القرن التاسع عشر " ، للدكتور : سامي الكومي ، دار الوفاء ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1992 .
3 – " الأعلام " ، خير الدين الزركلي ، دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة التاسعة ، 199 .
أوراق متناثرة في تاريخ الصحافة الإسلامية .. (2)
16-6-2005
بقلم مبارك القحطاني
"...مجلة الشهاب الجزائرية ومؤسسها الشيخ المجاهد عبدالحميد بن باديس ظاهرة فريدة في مسيرة الحركات التصحيحية في العالم الإسلامي وفي هذه الدراسة استعراض موثق لمسيرتها ولجهود مؤسسها..."
دعوة الإمام المجدّد " محمد بن عبدالوهاب " شجرةٌ مباركةٌ آتت أُكُلها ثماراً يانعة في كل بقعة مدّت إليها ظلالها الوارفة ؛ فلا توجد حركة إصلاحية معاصرة في عالمنا الإسلامي إلا ولها قِسطٌ من التأثّر بهذه الدعوة المباركة يتفاوت بمقدار ما يسّرته الظروف من إمكانية الإتّصال بها ، سواءً كان ذلك عن طريق التلقي المباشر ، أو السماع و القراءة عنها من خلال مصادر موضوعية و منصفة .
و إذا يمّمنا شطر المغرب العربي سنجد في طليعة المتأثّرين بها في هذا العصر الشيخ المجاهد الداعية " عبدالحميد بن باديس " رحمه الله رحمة واسعة ، و مِن ورائه جمعية العلماء التي أنشأها علماء الجزائر أثناء الإستعمار الفرنسي ، فقد كان لهذه الجمعية – و على رأسها الشيخ عبدالحميد - دورٌ بارز و حاسم في مسيرة المعركة الجهادية ضد الغزو الفرنسي ، إذ بذلت جهوداً عظيمة في سبيل إنشاء قاعدة جماهيرية جهادية ، تقوم على أسسٍ تربويةٍ سليمةٍ ، و ركائزَ عقائدية راسخةٍ ، تصمد أمام زمجرة الأعاصير و عتوّها . من هنا ، كانت هذه اللمحة السريعة للوقوف على دور المجاهد عبدالحميد بن باديس رحمه الله في هذه المعركة ، عن طريق تسليط الضوء على مجلة " الشهاب " الجزائرية ، و تأثيرها الإعلامي الفاعل في مسيرة النضال ضد الغزو الفرنسي في الجزائر.
الإستعمار الفرنسي للجزائر :
اقتنصت فرنسا حالة الضعف و التشرذم التي مرّت بها الجزائر فاجتاحتها عسكرياً في عام 183 م ، و أقامت فيها حكومة استعمارية تحكم هذا الشعب المسلم بقوة الحديد و النار ، و عملت في الوقت ذاته على جعْل الجزائر قطعةً من فرنسا، فأصدرت في عام 1834 أمراً عاماً بتحويل الجزائر من أرض محتلّة إلى ملكية فرنسية . و بذلت في سبيل ذلك كل وسعها في عملية منظمة لمسخ هويّة هذا الشعب العربي المسلم عن طريق " فَرْنَسَته " ، و تحويله إلى تابعٍ ذليلٍ للثقافة الفرنسية يدور في فلكها ، و يقتات على الفتات المتساقط على موائد تلك الثقافة .
و لما كان تباين الناس و تفاوتهم في كل بلد أمر منطقي و طبيعي ، فقد وُجِد في هذا البلد خَوَنة باعوا دينهم و بلادهم بعَرَضٍ من الدنيا قليل ، و آخرون مصابون بداء الهزيمة الفكرية و يحملون بين جوانحهم نفسيات ممسوخة قابلة للإنسلاخ عن هويتها الحضارية ، هذا إلى جانب الطرق الصوفية التي كانت تنفث في الغالب روح اليأس و التخاذل بين ظهراني المسلمين . فاستمالت فرنسا هذه الفئات ، و جعلتهم يؤدّون أدواراً خبيثة و مشبوهة لخدمتها و خدمة مخططاتها في الجزائر .
فأبحرت الجزائر في لجة معتمة من الضياع و التمزّق و الإستلاب الإقتصادي و الثقافي ، الأمر الذي دمّر كيان هذه الدولة المسلمة ، و جذبها إلى حافّة الهلاك و اليأس .(/4)
و لكن سنّة الله تعالى في الكون قد اقتضت أن يتسلّل نور الأمل من ظلمة اليأس ، و أن يولد الرجاء من رحم القنوط ، ففي مثل هذه العتمات الحالكة يظهر دور العلماء و الدعاة الصادقين ، و تسطع مواقفهم المشهودة حينما تهتدي الأمة بأنوارهم ، فتهوي نحوهم الأفئدة ، و تتطلّع إليهم الأنظار ، إذ وهب الله تعالى هذا البلد رجالاً صادقين من أهل الشريعة ، حملوا أمانة العلم ، و قاموا بما يُمليه عليهم دينهم و علمهم في مثل هذه الظروف الصعبة السوداوية .
و كان الشيخ " عبدالحميد بن محمد بن مصطفى بن مكي بن باديس " أحد أولئك الأبطال العاملين ، الذين شمّروا عن ساعد الجد ، و أدّوا دوراً نضاليّاً مشرّفاً في هذه المعركة ، يختال به تاريخ الجزائر فخراً ما تعاقب الليل و النهار .
الشيخ عبدالحميد بن باديس و ثقافته :
وُلِد الشيخ الجليل عبدالحميد بن باديس في مدينة " قسنطينة " في شرق الجزائر عام 1889 م ، لأسرة ذات وجاهة و علم ، فحفظ القرآن الكريم ، و تلقى العلم على يد علماء مدينته قسنطينة ، ثم ارتحل إلى تونس عام 198 لاستكمال دراسته في جامعة الزيتونة . و هناك تلقّى العلم على يد ثلّة من المشايخ الفضلاء .
ثم شدّ الرحال إلى الحجاز في عام 1913 لأداء فريضة الحج ، و عرج في رحلته تلك على مصر و التقى بالعديد من علمائها و رجالاتها ، فكان لهذه الرحلات أثر كبير في صياغة شخصيته و عقله ، فقد تعرّف على السلفية عن كثب ، و عاين بنفسه نقاء هذه الدعوة و صفاءها .
من خلال التحصيل العلمي الطيّب الذي حازه الشيخ ، و الرحلات المفيدة التي قام بها إلى الحجاز و مصر و تونس ، انقدح في ذهنه أن ما يجري في الجزائر كان بسبب عزوف أهلها عن النهج الأصيل المنبثق من مشكاة القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة ، و استسلام غالبية الناس للخرافات و البدع التي لم ينزل الله بها من سلطان ، فأورث هذا الإنحراف في جسد الجزائر الداء العضال ، الذي انتهى بوقوعها غنيمة باردة في يد فرنسا . و على ضوء هذا الفهم يكون الإستعمار الفرنسي للجزائر نتيجةً حتمية لحالة الضعف و الإنحطاط الذي هو مكمن الداء ، فكان لزاماً أن يشرع بعملية الإصلاح ، و لكن انطلاقاً من مستوىالجذور والأسس .
فعاد الشيخ ابن باديس إلى الجزائر ، يحمل في ذهنه مشروعاً إصلاحياً طموحاً ، و رأى أن هذا المشروع يتطلّب وسيلةً تحقّق له الإنتشار ، و تضمن له الوصول إلى كافة شرائح المجتمع ، و في نفس الوقت لا تتعرّض إلى طائلة المستعمر الفرنسي و بطشه ، فوجد أن أفضل وسيلة متاحة هي : الصحافة ، فاتّجه إليها .
و شارك الشيخ في جريدة اسمها " النجاح " صدرت في عام 1919 ، ساهم فيها تأسيساً و تحريراً ، و كانت مقالاته تُمهر باسم مستعار هو " القسنطيني " أو " العبسي " .
و لكنه رأى أن هذه الجريدة لم تكن على مستوى تطلّعاته و مشروعه الفكري الإصلاحي ، فتركها ليؤسّس صحيفته الخاصة ، و أنشأ جريدة اسمها " المنتقد " .
غير أن السلطات الفرنسية أغلقتها بعد صدور 18 عدد منها ، بسبب تبنّيها خطاً ثوريّاً يستفزّ المستعمر ، و يثير حفيظته . فاستفاد الشيخ من هذا الدرس ، و قام بإنشاء جريدة أخرى اسمها : " الشهاب " مستغلاً الخبرات التي حصل عليها هو وإخوانه في المجال التحريري و الفنّي في جريدة " المنتقد " . فصدر أوّل عدد منها في عام 1926 م ، و استمرّت حتى أغلقتها السلطات الفرنسية بسبب بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939 م .
الأساليب الإصلاحية في مجلة " الشهاب " :
و من خلال استقراء موادّ مجلة " الشهاب " ، نستطيع أن نحدّد أهمّ الأساليب الإصلاحية التي سارت عليها المجلة ، و أن نحصرها في محوريْن اثنين ، هما :
1 – تصحيح عقائد الناس و أعمالهم .
2 – الإهتمام بالتعليم .
فهاتان القضيتان كانتا أهم الملامح التي تشكّل سمة الخطاب الإسلامي في هذه المجلة الرائدة ، فعلى صعيد إصلاح عقائد الناس وأعمالهم أفصح الشيخ عن المنهج الذي تبنّاه فيها ، إذ يقول : " قمنا بالدعوة إلى ما كان عليه السلف الصالح من التمسك بالقرآن الشريف و الصحيح من السنة الشريفة و قد عرف القائمون بتلك الدعوة ما يلاقونه من مصاعب و قحم في طريقهم من وضع الذين شبّوا على ما وجدوا عليه آباءهم من خلق التساهل في الزيادات و الذيول التي ألصقها بالدين المغرضون أو أعداء الإسلام الألداء و الغافلون من أبناء الإسلام " ا هـ .
أما على صعيد التعليم ، فقد كان يرى فيه أمضى سلاح لمقاومة المعتدي و طرده من أرض الجزائر ، لذلك اهتمّ به اهتماما عظيماً و أولاه كل عنايته و وقته و مَلَكاته ، حتى وصفه الأستاذ أنور الجندي رحمه الله بقوله : " و هو الذي ينشيء المدارس و المعاهد في طول البلاد و عرضها ثم هو الذي يمضي يومه كاملاً في حلقة الدرس يفتتح الدروس بعد صلاة الصبح حتى ساعة الزوال بعد الظهيرة ، و من بعد المغرب إلى صلاة العشاء .(/5)
و إذا خرج من المعهد ذهب رأساً إلى إدارة جريدته " الشهاب " يكتب و يراسل " البصائر " و يجيب على الرسائل فيقضي موهناً من الليل ، حتى إذا نودي لصلاة الصبح كان في الصف الأول " ا هـ .
و اهتمّ الشيخ كذلك بتعليم المرأة الجزائرية المسلمة اهتماماً خاصّاً ؛ لأنه يرى أن دور المرأة المتعلمة المتديّنة مهم جدا في تنشئة جيل مجاهد يحمل تبعات العقيدة و يضحّي في سبيلها ، و كان يرى أيضاً أن جهل الأم من أهمّ أسباب الهزيمة التي حاقت بمجتمعاتنا الإسلامية ، يقول : " إن البيت هو المدرسة الأولى ، و المصنع الأصلي لتكوين الرجال ، و تديّن الأم هو أساس حفظ الدين و الخلق ، و الضعف الذي نجده من ناحيتها في رجالنا معظمه نشأ من عدم التربية الإسلامية في البيوت و قلة تدينهن " ا هـ .
وألْحَقَ الشيخ القول بالعمل ، فلما تأسّست جمعية التربية و التعليم ، حرص الشيخ رحمه الله تعالى أن يكون تعليم البنات مجاناً ، و ذلك تشجيعاً لهن على طلب العلم ، و الإغتراف من مناهله .
أما عن الأساليب التربوية التي انتهجها الشيخ في المجلة ، فقد اتّخذ الشيخ ابن باديس رحمه الله في مقالاته في المجلة أسلوباً تربويّاً تعليمياً يربط المسلمين بكتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلّم ، و يوثّق صِلاتهم بها ؛ فقام بتفسير القرآن الكريم ، وشرح السنة النبوية شرحاً علمياً منهجياً في سلسلة اسمها " مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير " ، تناول فيها أيضا الكثير من القضايا المعاصرة التي طُرحت في الساحة الفكرية كإحدى تبعات الهزيمة الفكرية للمسلمين ، و انقلاب الكثير من المفاهيم و اختلالها في العالم الإسلامي المُستضعف ، مثل مفهوم : " الحضارة " ، فقد تناوله في معرض تفسير قوله تعالى ( و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) ( الأنبياء 15 ) ، فقال الشيخ : " رأى بعض الناس أن المدنية الغربية المسيطرة اليوم على الأرض ، و هي مدنية مادية في نهجها و غايتها و نتائجها . فالقوة عندها فوق الحق و العدل و الرحمة و الإحسان ، فقالوا إن رجال هذه المدنية هم الصالحون الذين وعدهم الله بإرث الأرض و زعموا أن المراد بـ " الصالحون " في الآية الصالحون لعمارة الأرض ، فيا لله للقرآن و الإنسان من هذا التحريف السخيف كأن عمارة الأرض هي كل شيئ و لو ضلت العقائد و فسدت الأخلاق و اعوجت الأعمال و ساءت الأحوال و عذبت و الإنسانية بالأزمات الخانقة و روّعت بالفتن و الحروب المخرّبة الجارفة ، و هدّدت بأعظم حرب تأتي على الإنسانية من أصلها و المدنية من أساسها " . ا هـ .
مجلة الشهاب و قضايا الأمة الإسلامية :
بالرغم مما كانت تتعرّض له الجزائر المسلمة من محن و تحديات عصيبة ، كان بالإمكان أن تفرض على أهلها طوقاً من العزلة و الإنكفاء على الذات و الانشغال عن قضايا المسلمين خارج البلاد ، غير أن هذا لم يحصل مع الشيخ ابن باديس الذي كان يمدّ ناظريه خارج حدود بلاده متابعاً و راصداً الكثير من القضايا التي تمسّ الأمة الإسلامية ، و منها قضية فلسطين و تطوّراتها ، و قد كانت هذه القضية من أهم القضايا التي تطرّق إليها و تناولها بالنقاش و التحليل ، يقول رحمه الله في مجلة " الشهاب " : " تزاوج الإستعمار الإنكليزي الغاشم بالصهيونية الشرهة فأنتجا لقسم كبير من اليهود الطمع الأعمى الذي أنساهم كل ذلك الجميل و قذف بهم على فلسطين الآمنة و الرحاب المقدسة فأحالوها جحيما لا يُطاق و جرحوا قلب الإسلام و العرب جرحاً لا يندمل " . ا هـ .
بل إن الشيخ رحمه الله أبان عن متابعة طيبة لأدوار اليهود الخبيثة ، و أساليبهم في إذكاء الفتن ، و زرع القلاقل بين الشعوب و الدول عندما تعرّض إلى " البلاشفة " في روسيا و علاقاتهم الخفية باليهود ، إذ يقول : " إنهم لا يفرّقون بين دين و دين بل يضطهدون أهل الأديان جميعاً إلا أن اليهود سالمون من هذا الأضطهاد و متمتّعون بحقوق لا تتسنّى لأحدٍ سواهم ، بل الحكومة كلها في أيديهم " .
و يقول أيضا : " النفاق و الدهاء فاليهود بلشفية في الظاهر ، و هم في الباطن لا يفرطون في مثقال ذرة من يهوديتهم ، و بهذا المكر الكبّار نجحوا دون سائر أهل الأديان " ا هـ .(/6)
و في الوقت الذي كان يهتمّ فيه بقضايا المسلمين في المشرق ، كان ينعى على المشارقة ، و يتألّم من تجاهلهم لأحوال إخوانهم في المغرب العربي ، الأمر الذي لا يجد له تفسيراً سوى ضعف الرابطة الإيمانية ، و انحلال عراها في قلوب الكثير من أبناء الأمة الإسلامية ! لهذا أطلقها زفرةً حرّى على صفحات المجلة قائلاً : " مضت حقبة من التاريخ كاد المشرق العربي أن ينسى هذا المغرب ، و إلى عهد قريب كانت صحافة الشرق – غالبا – لا تذكره إلا كما تذكر قطعة من أواسط أفريقية و مجاهيلها .. و لكن هذا المغرب العربي – رغم التجاهل من إخوانه المشارقة – كان يبعث من أبنائه من رجال السيف و القلم من يذكّرون به و يشيدون باسمه و يلفتون نظر إخوانه المشارقة إلى ما فيه من معادن العلم و الفضيلة و منابت للعزّ و الرجولة و معاقل للعروبة و الإسلام " . ا هـ .
و هكذا ، كانت مجلة " الشهاب " في مسيرتها المباركة مشعل نور ، و نبراس هداية يضيء للجزائريين الطريق ليتلمّسوا نحو الخلاص ، في تلك الظلمات الحالكة و الظروف العصيبة التي مرت بها تلك البلاد المسلمة . إلا أن الشيخ بسبب هذا التأثير الإعلامي القوي و الفاعل لهذه المجلة ، واجه الكثير من المصاعب و العقبات التي وقفت في سبيله ، حتى أنه كاد أن يدفع حياته ثمناً لمبادئه و ثباته عليها ؛ حينما قام أحد أفراد الطرق الصوفية بمحاولة اغتيال الشيخ في عام 1927 م ، و لكن الله تعالى لطف و سلّم .
نهاية المجلة :
توقفت المجلة غداة اندلاع الحرب الحرب العالمية الثانية في شهر سبتمبر من عام 1939 م ، على يد السلطات الفرنسية ، و توفّي الشيخ عام 194 م بعد حياة حافلة بالعطاء و الجهاد و الدعوة مخلّفاً وراءه ذكراً عاطراً و ثناءً وافرً . و لا نجد وصفاً لأثره الكبير في الجزائر المسلمة أدقّ من كلمات يسيرات قالها عنه المفكر الجزائري " مالك بن نبي " رحمه الله :" لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات ابن باديس فكانت ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدر يتحرك، ويالها من يقظة جميلة مباركة". و قال عنه أخوه الأديب الشاعر الجزائري " محمد العيد آل خليفة " رحمه الله ، أبياتاً صادقة ، منها قوله :
بمثلك تعتزّ البلاد و تفخر *** و تزهر بالعلم المنير و تزخر
طبعت على العلم النفوس نواشئا *** بمخبر صدقٍ لا يدانيه مخبر
رحم الله الشيخ عبدالحميد بن باديس رحمة واسعة على ما قدّم للإسلام و المسلمين ، و أعلى منزلته في عليّين ، و الله تعالى و لي التوفيق .
----------
المراجع :
1 – كتاب " آثار ابن باديس " ، عمّار الطالبي ، مكتبة الشركة الجزائرية ، الجزائر ، الطبعة الأولى ، 1966 .
2 – كتاب " عبدالحميد بن باديس ، العالم الرباني ، و الزعيم السياسي " ، الدكتور : مازن مطبقاني ، دار القلم ، دمشق ، الطبعة الأولى ، 1989 .
3 – كتاب " عبدالحميد بن باديس ، و بناء قاعدة الثورة الجزائرية " ، بسّام العسلي ، دار النفائس ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1986 .
أوراق متناثرة في تاريخ الصحافة الإسلامية .. (3)
05-7-2005
بقلم مبارك القحطاني
"...صدر العدد الأول من مجلة " الكويت " ، و تحت عنوانها كُتِبت عبارة : " مجلة دينية تاريخية أدبية أخلاقية - شهرية " ، و أفصح الشيخ في ديباجة هذا العدد عن منهجها الإصلاحي ، و عن فحوى أبوابها في تعريف مختصر..."
عندما تسمو الهمم ، و ترتقي النفوس ، و تهفو الأفئدة إلى معانقة ذُرى القمم ، فإن العقبات ما تملك إلا أن تتضاءل ، و المصاعب ما تلبث إلا أن تتلاشى و تذهبَ جُفاءً ، و ما أصدق القائل :
إذا صحّ عزم المرء فالبحر ضحضح *** و إن خار ، فالنضح اليسير عباب
و إذا ما أجال الإنسان بصره ذات اليمين و ذات الشمال ، ارتدّ إليه طرْفه بِصُوَرٍ مشرقةٍ من الإنجازات الكبيرة التي كان وقودها و محرّكها الأوّل : علوّ الهمم ، و سموّ النفوس .
و ما نحن بصدده من الحديث حول الشيخ المصلح الكويتي الكبير " عبدالعزيز الرشيد " رحمه الله ليس إلاّ أنموذجٌ واضحٌ ، و برهانٌ لائحٌ لهذا الصنف النادر من الرجال ؛ فقد طمح هذا الشيخ الجليل إلى إنشاء مجلة في وقت كان الجهل ضارباً بأطنابه بين ظهراني دولته " الكويت " و بقية دول الخليج العربي ، حتى كان من يعرف القراءة و الكتابة يُعدّ أستاذاً جليلاً و صدراً مقدّماً في ذاك المجتمع البسيط الذي شَغَلته قسوة الحياة ، و معركة الصراع من أجل البقاء عن الإشتغال بطلب العلم و تحصيله ، و إنزاله منزلته الحقّة .
لكن الشيخ عبدالعزيز الرشيد صاحب الهمة العالية ، و النفس الأبيّة التوّاقة و المتطلّعة لنهضة بلده و مجتمعه ، لم تفتّ في عضده تلك العقبات ، بل استصغرها ، و اعتصم بحبل الله تعالى ، و بذل ما لديه من أسباب متاحة ، حتى كلّل الله جهوده بالنجاح فأنشأ أول مجلّة في الخليج العربي ، و هي مجلّة : " الكويت " ، مشيّداً بذلك حجر الأساس في البنيان الثقافي في دولة الكويت .
من هو الشيخ عبدالعزيز الرشيد ؟(/7)
وُلِد الشيخ الجليل عبدالعزيز الرشيد في الكويت عام 1887 م ، الموافق 135 هـ ، في مِهاد أسرة متديّنة متوسّطة الحال ، و لما كبرأدخله والده الكتّاب فحفظ كتاب الله تعالى .
و كان مشغوفاً منذ نعومة أظفاره بالعلم و الإطلاع ، فسمح لها والده بحضور حلقة علاّمة الكويت الشيخ " عبدالله خلف الدحيّان " رحمه الله العامرة بدروس الفقه الحنبلي و النحو و غيرها ، فاعتنى الشيخ به غاية الإعتناء ، ذلك لما رآه عليه من أمارات النجابة و مخايل الذكاء ، فمكث الولد عبدالعزيز معه سنتين يغترف من هذا النمير العذب حتى اشتدّ عوده ، ثم شرع في رحلته الطويلة في طلب العلم فشدّ الرحال إلى مدينة " الزبير " و " الأحساء " ، ثم إلى بغداد و تلقّى العلم على يد علاّمة العراق " محمود شكري الآلوسي " و أخيه " علاء الدين " رحمهما الله ، ثم إلى الشام و مصر و الحجاز .
إنشاء المجلة :
من خلال هذه الرحلات اتّسعت مدارك الشيخ ، و اطّلع على الكثير من الأمور المستجدّة ؛ و أدرك أهمية الصحافة و دورها الخطير في عملية الإصلاح و الرقيّ بأحوال المسلمين ، فكتب الشيخ في العديد من المجلات و الصحف . ثم رأى إنشاء مجلة في الكويت تساهم في نهضة هذا البلد الذي كان حينذاك في مسيس الحاجة إلى وسائل الإصلاح و أساليب الرقيّ الحضاري .
و لكن العقبات الحائلة دون ذلك كانت كثيرة و مثبّطة ، بيد أنها بفضل من الله تعالى تبدّدت عندما عرض هذا المشروع على الشيخ الفاضل " يوسف بن عيسى القناعي " رحمه الله الذي شجّعه و شدّ من أزره ، فنفخ بتشجيعه هذا روح الإصرار و قبول التحدّي في نفس الشيخ عبدالعزيز الرشيد ، فبادر الأخير بعرض هذا الأمر على أمير الكويت آنذاك الشيخ " أحمد الجابر الصباح " رحمه الله ، فقابله بالموافقة و التشجيع شريطة أن يُطِلعه على أوّل عدد من هذه المجلة قبل السماح له بطباعتها ، و بعد الموافقة أصدر أمراً بتعيين الشيخ الفاضل يوسف القناعي مراقباً على المجلة ، و انحلّت بهذا أولى العقبات .
أما العقبة المادية فقد تجاوزها الشيخ عندما وفّر بعض المال من تجارته الخاصة ، تكفي لطباعة العدد الأوّل من المجلة ، فطبع الشيخ مجلته التي أطلق عليها اسم " الكويت " في المطبعة العربية التي يملكها الأستاذ " خير الدين الزركلي " في مصر ، و شُحِنت المجلة ، وبعد أسبوعين وصل العدد الأول إلى الكويت عن طريق البحر ، و كان ذلك في رمضان من عام 1246 هـ ، الموافق مارس 1928 م .
و لم تكن المجلة تُباع أعداداً متفرّقة في السوق ، بل تعتمد على نظام الإشتراكات السنوية السائد آنذاك .
موضوعات المجلة :
صدر العدد الأول من مجلة " الكويت " ، و تحت عنوانها كُتِبت عبارة : " مجلة دينية تاريخية أدبية أخلاقية — شهرية " ، و أفصح الشيخ في ديباجة هذا العدد عن منهجها الإصلاحي ، و عن فحوى أبوابها في تعريف مختصر بكل باب و هي : الدين ، و ردّ الشبهات على الدين ، و الأخلاق ، و القديم و الجديد ، و الأدب ، و التاريخ ، و التراجم ، و الفتوى ، و اللغة ، و متفرقات الفوائد ، و التقريظ و الإنتقاد .
فاتخّذت المجلة في موضوعاتها طابعاً متنوّعاً و ضارباً في كل غنيمة معرفية بسهم ، حتى وصفها الدكتور محمد حسن عبدالله بقوله : " يمكن تصنيفها كمجلة ثقافية تعني بقضايا العصر بصفة عامة ، فهي من نوع مجلة الهلال في مصر مثلاً ، و إن كانت صلتها بالدين و التراث أكثر أصالة و وضوحاً " . ا هـ .
و كان الشيخ عبدالعزيز الرشيد رحمه الله يمتاز بثقافة موسوعية ، علاوةً على تمكّنه من الأساليب الكتابية الرفيعة سواء كان ذلك نثراً أم شعراً ، فيرفد موادّ المجلة بهذا المواهب التي ظهرت آثارها جليّة على صفحاتها، لكونه هو الذي يقوم بنفسه بتحرير جميع أبواب المجلة في أعدادها الأولى ، ثم ساهم معه بعض الكُتّاب لاحقاً ممن استقطبهم من العلماء و الدعاة و الأدباء من جميع أنحاء العالم العربي ، منهم على سبيل المثال : محمد رشيد رضا ، و محمود شكري الآلوسي ، و عبدالقادر المغربي ، و عبدالعزيز الثعالبي ، و محمد الخضر حسين ، رحمهم الله تعالى ، و غيرهم كثير .
المجلّة و قضيّة الإلحاد :(/8)
تناولت المجلة الكثير من القضايا و ذلك لتنوّع أبوابها و اهتماماتها كما رأينا ، و هنا سنركّز على أبرز القضايا التي اهتمّت بها المجلة لا سيّما تلك التي تندرج أساليب معالجتها داخل الإطار الشرعي ، و على رأسها قضية : " الإلحاد " ؛ فقد انشغلت المجلة بهذه القضية و أوْلتها أهميةً بالغةً ، و هذا في واقع الأمر يعكس درجة الوعي التي كان يتمتّع بها الشيخ رحمه الله ؛ إذ كان الإلحاد في ذلك الوقت في بداية سريان سمومه في جسد الأمة ، عن طريق الكثير ممن طُمس على قلوبهم و أبصارهم من أبناء المسلمين ، فجعلوا يشيعون هذه الجرثومة الخبيثة و ينشرونها بما أوتوا من مواهب بيانية و عقلية ، فكان لزاماً على المخلصين من أبناء الإسلام التصدّي لهذا المدّ الجارف بكل و سيلةٍ متاحة ، و كشف عواقبها الوخيمة على الدين و الأخلاق .
فنجد هنا أن الشيخ قد خصّص أوّل موضوع في المجلة لهذه القضية ، و كان بعنوان : " الدين ، مزاياه و كونه ضروريّاً " ، ثم دأب على نشر كتاب علامة الشام جمال الدين القاسمي رحمه الله الموسوم بـ " دلائل التوحيد " في المجلّة منجّماً على حلقات ، و قد تولّى القاسمي في هذا الكتاب الردّ على شبهات الملحدين و تفنيدها بأدلة كلامية جدلية .
و إلى جانب هذا خصّص موضوعاً للنقاش بعنوان : " أي العقيدتين ستنتصر في هذا العصر أعقيدة التديّن أو الإلحاد ؟ " فكانت الردود القيّمة من الكُتّاب و المفكّرين و العلماء تنهال عليه بما يشفي الغليل ، و يكشف زيف الإلحاد ، و هشاشة مبادئه .
و في باب رد الشبهات على الدين تطرّق الشيخ رحمه الله إلى الدفاع عن السنة النبوية ضد مطاعن المستشرقين و أذنابهم ، و بخاصة ما يثيرونه حول حجّية الحديث النبوي و التشكيك في صحّته ، فناقش هذه القضية و فنّد شبهات أصحابها منبّهاً على خطورة هذه القضية و مجافاتها لروح البحث العلمي ، إذ يقول : " الحديث أو السنة هي أقوال النبي صلى الله عليه و سلم و أفعاله و تقريراته ، و قد أجمع علماء الإسلام على وجوب العمل بما صحّ منها ، و الأخذ بما ترمي إليه في كل أمر و لم يخالف في ذلك إلا من لا يُعتدّ به من المنتسبين إلى الإسلام ظاهراً ، و قد أضمر في باطنه له البغض و العداء ، و ما زال أمثال أولئك الشذّاذ يظهرون في كل عصر و مصر ، و يجاهرون بمثل هذا الرأي السمج بدون خجل و لا حياء " . ا هـ .
ثم يسوق رحمه الله شبهاتهم ، و يكرّ عليها بالإبطال بحجج قوية و متينة مستنداً على ثقافته الشرعية الثريّة ، و منهجه السلفي الواضح البيّن .
قضيّة تغريب المرأة و إفسادها :
و من القضايا المهمّة التي تناولها الشيخ بالتحليل و المتابعة في مجلّته قضيّة :الحجاب و الدعوة إلى السفور ، فقد وقف بالمرصاد لمحاولات نزع حجاب المرأة المسلمة ، و إخراجها من فطرتها لتزاحم الرجال فيما اختصّهم الله تعالى به ، و نبذ ما قد خلقها الله تعالى لأجله من رعايةٍ للأولاد و تنشئةٍ للأجيال المسلمة .
و اهتمامه بهذه القضية كان دليلاً آخر على وعيه و إحاطته بما يجري في العالم الإسلامي من مكائد و دسائس ، رغم أن بلده الكويت كانت بعيدة آنذاك عن حبائل هذه الدعوة الخبيثة ، إلا أن الشيخ كان يحمل همّ الأمّة بأسرها و لم ينكفيء على قضايا بلده .
و من جهة أخرى يُحسب له هذا النذير كإحراز قصب السبق في دقّ ناقوس الخطر من بوادر تغريب المرأة الكويتية خصوصاً ، و الخليجية عموماً.
و هو في نقاشه لدعاة السفور و نزع الحجاب لم تكن تأخذه غُلواء الردود و فرْط الحماس للرأي ، فيفقد رجاحة العقل و معايير الإنصاف و العدل ، بل كان يُقرّر حقّ المرأة في التعلّم و التهذيب و لكن بما يتوافق مع فطرتها ، و خصوصيّتها الأنثوية ، يقول : " و بعد ، فنحن و إن كنا من خصوم سفور المرأة و كشف الحجاب ، فلسنا من خصوم تعليمها و تهذيبها ، كيف و نحن نرى العلم في الشرع الإسلامي فرضاً على كل مسلم و مسلمة ، و نراه فوق هذا زينة لكلا الجنسين ؟ نعم نراه كذلك إلا أن للرجل نصيباً منه لا يسوغ للمرأة مشاركته فيه ، و للمرأة منه نصيباً منه لا يسوغ لها تعدّيه . يجب عليها قبل كلّ شيء الإشتغال بما يصلح دينها و عقيدتها و ما ينعم بيتها و أولادها ، و ما يهذّب آدابها و أخلاقها مما لا يخرجها عن طبيعتها و لا يبعدها عما خُلِقت له أو يشغلها عن واجبتها الضرورية . " أ هـ .
و في باب التقريظ والإنتقاد كان يتابع أحدث الكتب المتعلّقة بهذه القضية ، و منها على سبيل المثال كتاب " المرأة بين الماضي و الحاضر " ، لمحمود افندي خيرت ، و كتاب " المدنية و الحجاب " ، لسليم افندي حمدان .
و يورد أحياناً مقالاتٍ مترجمةً لبعض رجال الفكر الغربيين و شهاداتهم في قضايا المرأة و انحرافها و ما آل إليه أمرها في مجتمعاتهم .(/9)
و قد كان الشيخ رحمه الله يتبنى أسلوباً معيّناً في الردّ على المخالف المكابر ، فلا يذكر في مناقشته شيئاً من النصوص الشرعية التي لا ينقاد لها المكابرون ، بل يورد أقوال من هم في موضع التوقير و الإحترام عند المخالف ، حتى تكون الحجة أبلغ ، و تقطع على الخصم سُبُل الإلتفاف و المناورة ، إذ يقول : " و لو كان من نخاطبهم اليوم في شأنهم من الإنصاف في شيء لاكتفينا معهم بسرد ما قال الله و رسوله عليه السلام و ما قاله علماء الإسلام في أمرها ، و لكنهم و هم لا يحترمون إلا آراء أمثال أولئك الحكماء و الفلاسفة فقد رأينا من الحكمة برّاً بوعدنا السابق أن نخاطبهم بلسانهم و أن نعرض عليهم آراءهم فيما ننعيه من آثار سيئة في الفرد و المجتمع و ما تجرّه من مصائب على عشّاقها " . ا هـ .
الصراع بين القديم و الجديد في الأدب :
و من القضايا التي شغلت المجلّة قضيّة : الصراع بين القديم و الجديد في الأدب ، و في واقع الأمر كان الإهتمام بتلك القضية رجْعَ صدى للمعركة الدائرة في مصر ، و التي انقسم حولها الأدباء إلى فريقين : الأول : بزعامة الأديب " مصطفى صادق الرافعي " رحمه الله ، و الثاني : بزعامة " سلامة موسى " ، فانحاز الشيخ — بطبيعة الحال — إلى صفّ مصطفى صادق الرافعي الذي يمثّل أصالة الأدب العربي و المحافظة على تراثه و عراقته ، و وقف في وجه سلامة موسى و محاولاته انتقاص الأدب العربي و الحطّ من قيمته ، و ناقش الشيخ رحمه الله بعضاً من أدلة سلامة موسى مناقشةً موضوعيةً تنمّ عن علوّ كَعْبٍ في قضايا الأدب و الفكر مع إلمامٍ بالمتغيّرات ، فمثلاً عالج قضية الحرية التي طرحها موسى كحجة في تبرير الخروج على قوانين الأدب و رسومه ، فقال معقّباً على كلام سلامة موسى : " إذا كانت الحرية التي يتطلّبها للأدب هي أن يأخذ أبناؤه من كل أدب قديماً أو حديثاً و أن لا يجمد على استعمال قوانينه القديمة التي استبان عوارها لأهل البصر و الفكر ، و أن يتدرّجوا فيه كما يتدرّجون في شئونهم الحيوية ، و أن يقتبسوا من أدب مجاوريهم ما يزيده بهاءً و جمالاً … إذا كان سلامة يريد هذا فإنا نعاهده على الدعوة إليه و على السير في سبيله … و لكن الذي يحزننا و ( ياللأسف ) أن ( حضرته ) يريد بالحرية للأدب ما هو أوسع مما سمعت، يريد أن يكون أدب البشر أحطّ من أدب الحيوانات العُجْم ، و أن يرجع إلى الوراء خطوات واسعة لا تُحصى ، يريد أن يجري الأديب لمسافة في كل موضوع بحريّة لا قيد فيها و لا شرط ، فيصوّر ما يخالج ضميره من إلحاده و زندقته و آرائه المتطرّفة و أفكاره السقيمة كما يهوى و يشاء ، و أن يرسم بريشة قلمه من المهازل و الصور و الأوصاف ما يندى له حتى جبين المعتوه عرَقاً " . انتهى بتصرّف .
و إلى جانب هذا الجدل حول القديم و الحديث زخرت المجلة بإبداعات شُعراء شتىّ من الكويت و الخليج العربي و الجزيرة العربية ، نشروا الكثير من إنتاجهم الأدبيّ خلال هذا النافذة التي أشرعها لهم الشيخ عبدالعزيز الرشيد ليتعرّف العرب على الإنتاج الأدبي و العلمي لإخوانهم في هذه البلاد التي تكاد تكون معزولة عنهم ، و نذكر منهم : صقر الشبيب ، و خالد الفرج ، محمود شوقي الأيوبي ، و محمد بن عثيمين ، و عبدالله العبدالقادر الإحسائي ، و محمد الفراتي ، و عبدالمحسن أبا بطين ، و غيرهم الكثير ممن كانت المجلّة توثيقاً و تخليداً لأعمالهم الأدبية .
نهاية المجلة :
توقّفت المجلة بعد عامين من صدورها ، و بعد أن أكملت عشرين عدداً في مجلّدين ، و كان هذا التوقّف المفاجيء و المؤلم لمحبّي المجلة و متابعيها بسبب سفر الشيخ عبدالعزيز الرشيد إلى أندونيسيا من أجل الدعوة و التدريس في تلك البلاد ، و لبث الشيخ فيها يمارس أنشطة الدعوة و التدريس و الصحافة حتى توفّاه الله تعالى عام 1937 م ، بعد حياة حافلة و زاخرة بالعطاء الدعويّ السخيّ .
و بالرغم من قِصَرِ عُمر مجلته الكويت إلا أنها كانت ذا أثرٍ كبيرٍ و ملموسٍ في مسيرة الصحافة الكويتية خصوصاً ، و الصحافة الإسلامية عموماً . و المُطالع لتقاريظ كبار رجال العلم و الفكر و الأدب المنشورة في المجلة سيلمس حقيقة حجمها الكبير ، و أثرها الفاعل في العالم العربي .
فرحم الله تعالى الشيخ رحمة واسعة و رفع مكانته في عليين على ما قدّم من نصرةٍ للدين ، و خدمةٍ لبلده و مجتمعه ، و الله تعالى وليّ التوفيق .
----------
المراجع :
1 — أعداد " مجلة الكويت " مارس 1928 — مارس 193 م ، أصدرها الشيخ عبدالعزيز الرشيد ، تصوير و نشر دار قرطاس .
2 —" الشيخ عبدالعزيز الرشيد ، سيرة حياته " ، د . يعقوب الحجي ، مركز البحوث و الدراسات الكويتية ، 1993 م .
3 — " صحافة الكويت ، رؤية عامة بين الدوافع و النتائج " ، د . محمد حسن عبدالله ، منشورت مجلة دراسات الخليج و الجزيرة العربية ، 1985 م .
أوراق متناثرة في تاريخ الصحافة الإسلامية .. (4)
19-7-2005
بقلم مبارك القحطاني(/10)
"...تصدّى الأزهر من خلال مكانته العلمية المرموقة و موقعه المؤثّر في الجماهير المسلمة لحملات التغريب و مسخ الهويّة الإسلامية للشعب المصري ، ذلك بأساليب تتناسب مع طبيعة المرحلة و مقتضياتها ، لذا كان الإهتمام منصبّاً في مطلعِ القرنِ العشرينِ ميلادي على وسيلةِ الصحافة..."
إذا عُدّت قلاع الدفاع عن الإسلام في هذا العصر ، فإن الأزهر سيكون في طليعتها ؛ إذ كان الأزهر و ما زال شوكةً في حلوق أعداء الإسلام ، و رُمحاً في صدور كلّ من يحاول العبَث بثوابت الأمة و سلخها عن دينها .
فتصدّى الأزهر من خلال مكانته العلمية المرموقة و موقعه المؤثّر في الجماهير المسلمة لحملات التغريب و مسخ الهويّة الإسلامية للشعب المصري ، ذلك بأساليب تتناسب مع طبيعة المرحلة و مقتضياتها ، لذا كان الإهتمام منصبّاً في مطلعِ القرنِ العشرينِ ميلادي على وسيلةِ الصحافة ؛ فأصدر الأزهر عام 1924 م صحيفة " المؤتمر الإسلامي " ، لكنها لم تستمرّ طويلاً ، و توقّفت بعد صدور خمسة أعداد منها .
و في شهر أكتوبر من عام 193 أصدَر الأزهر صحيفة " نور الإسلام " ، و رَأس تحريرها الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله ، و أوضح في أول عدد منها أسباب إصدارها ، و منها :
1 - تعرَض الدين الإسلامي لهجمات مسعورة شنّها طائفة من الملحدين و العلمانيين في الصحف و المجلات .
2 - الذود عن حمى الشريعة الإسلامية ، و تقرير حقائق الدين على وجهها الصحيح ، و مواجهة نشاط البعثات التبشيرية في مصر ، و العمل على هداية الناس و إرشادهم إلى الحق .
أما أهدافها فقد كانت على النحو التالي :
1 - نشر آداب الإسلام و إظهر حقائقه نقية من كل لبس .
2 - الكشف عما ألصق بالدين من بدع و محدثات .
3 - التنبيه على ما دس في السنة من أحاديث موضوعة .
4 - دفع الشبه التي يحوم بها مرضى القلوب على أصول الشريعة الإسلامية .
5 - العناية بسير العظماء من رجال الإسلام .
6 - نشر المباحث القيمة في العلوم و الآداب .
7 - لا تتعرض المجلة للشئون السياسية أو مهاجمة الأديان أو الطعن في رجال الدين و التعريض بهم .
8 - تبتعد عن إثارة الفتن بين أبناء الوطن الواحد .
أبرز موضوعات المجلة و كتابها :
اهتمّت المجلة بتفسير القرآن الكريم ، و سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم ، و شرح السنة النبوية ، فخصّصت أبواباً ثابتة لهذه المقالات ، و أبواباً خاصة للفتاوى رداً على أسئلة القرّاء ، و حفلت المجلة بالكثير من الأبحاث العلمية المتعلّقة بعلوم الشريعة ، مثل : قضايا الإنحراف عن الدين و علله و آثاره و دوائه ، و البعث ، و الزكاة ، و صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان و مكان ، و علاقة الشريعة الإسلامية بالأخلاق ، و ضرورة الدين للعمران ، هذا إلى جانب بعض الفصول المترجمة من كتب أجنبية منتقاة ، مثل كتاب " السيرة النبوية " لرينيه و سليمان بن إبراهيم الجزائري .
و نشرت أيضاً سلسلة مقالات عن أثر الثقافة الإسلامية في تطور النهضة الفكرية بقلم الشيخ : " محمد صادق عرجون " .
و ضمت المجلة نخبة من الكتاب المبرزين بنتاجهم و كتاباتهم من الأزهر و خارجه ، مثل : الشيخ محمد الخضر حسين ، و الشيخ محمد عرفه ، و الشيخ محمد البهي ، و الشيخ محمود شلتوت ، و محمد أحمد الغمراوي ، و محمد بخيت المطيعي ، و عبدالعزيز الثعالبي ، و أمين الخولي ، و زكي مبارك ، و كثيرون غيرهم .
معارك المجلة الفكرية :
اصطدمت المجلة منذ بداياتها بالكتابات المنحرفة عن الإسلام ، و التيار الإلحادي القويّ آنذاك الذي كان ينادي بأن يتحكم العقل و العلم في مسيرة الحياة دون أيّ تدخّل من النصوص الشرعية ، أو سيطرة للدين على شئون الحياة . فهاجم الشيخ محمد الخضر حسين دعاة العلمانية و فصل الدين عن الدولة بدعوى أن الجمع بين السلطتين الدينية و الزمنية سبب لتأخر المسلمين ، و كذلك هاجم الدكتور محمد البهي هذا التيار المتأثّر بالغرب ، و أرجع سبب محاربته للدين إلى الإعجاب غير المتعقّل بالغرب عبر وسائل الغزو الفكري في المجتمعات الإسلامية ، فيقول : " إن الصورة في ذهن الشرقي عن أوروبا صورة مبالغ فيها نحو الكمال و الرقي الإنساني بفضل الدعاية الثقافية و الأدبية التي تقوم بها الأفلام السينمائية و مدارس الإرساليات الأجنبية ، و النشرات التي تحمل طابع البحث العلمي " ا هـ .
و تعرضت المجلة أيضاً إلى فضح أنشطة التنصير في العالم الإسلامي ، و كشف مخطّطاته الرامية لهدم الدين الإسلامي ، و إزالته بشتى الوسائل الخبيثة من قلوب المسلمين ، فنقلت عن مجلة العالم الإسلامي التي يحرّرها القس " زويمر " مخطّطات التنصير في العالم الإسلامي ، تحت غطاء المستشفيات و المدارس و الأعمال الخيرية ، و خير مثال على ذلك هو مستشفى " هنري " في أسيوط .(/11)
و كذلك قامت المجلة بعرض الشبهات التي يقذفها المنصّرون و المستشرقون في مؤلفاتهم إلى المسلمين البسطاء بغية زعزعة الدين في قلوبهم ، و تولّت المجلة الردّ على هذه الشبهات بأساليب منهجية علمية ، و ممن تولّى الردّ عليهم في هذا السبيل الكاتب " محمد فريد وجدي " ، فقد ردّ على " اندريه هارفيه " ما كتبه في جريدة كوكب الشرق المصرية من شبهات كاذبة على الإسلام . و كذلك تولّى وجدي الردّ على المستشرق " فرنك فوستر " الذي كتب سلسلة عن تاريخ الإسلام ، فنبز الرسول صلى الله عليه و سلم ببعض التهم الكاذبة ، و كشف زيفها و بطلانها بحجج قوية متينة .
و خاضت المجلة العديد من المعارك الفكرية على الكثير من الجبهات ، و عبر العديد من المحاور الفكرية ، إلا أن الباحث الدكتور " جمال النجار " في دراسته القيّمة عن صحافة الإتجاه الإسلامي في مصر بين الحربين العالميتين يجمل القول عن أبرز إهتمامات مجلة نور الإسلام - كما يراها - على النحو التالي :
1 - " تفسير آيات من القرآن الكريم و بيان ما في الذكر الحكيم و السنة النبوية المشرفة من أصول الأخلاق الفاضلة ، و قواعد الأدب الكريمة التي يجدر بالمسلم أن يتبعها .
2 - متابعة الحركة الفكرية العالمية و ترجمة بعض ما يجيء في الصحف الأجنبية من مباحث علمية أو مقالات صحفية تتحدث عن الإسلام ، و مقاومة تيار الإلحاد و دعاته من العلمانيين و الملحدين الذين يروّجون لفصل الدين عن شئون الحياة العامة .
3 - مهاجمة التبرج و التعري و السفور و الإختلاط بين الجنسين ، و مهاجمة الدعوة إلى تقليد المرأة المصرية للمرأة الأجنبية في كل أنماط الحياة ، و الدفاع عن الشرعية الإسلامية و أصولها و بيان فساد النظريات و المذاهب الوضعية التي تتعارض معها .
4 - التصدي لحركة التبشير النصراني في العالم الإسلامي ، و فضح خطط و تآمر المبشرين على المسلمين ، و دحض الشبهات التي يثيرها المستشرقون ضد الإسلام .
5 - الدعوة إلى إدخال الدين في المدارس الحكومية و محاربة المدارس الأجنبية والدفاع عن اللغة العربية ، و بحث مسألة ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية ، و التصدي ، للمذاهب الضالة و الحركات الهدامة المنتسبة إلى الإسلام كالصوفية و القاديانية و البابية و البهائية . " ا هـ .
هذا و من المؤسف له أن المجلة قد خاضت معارك فكرية مع التيار السلفي في مصر ، كما حصل في معركة الشيخ يوسف الدجوي مع الشيخ رشيد رضا صاحب المنار ، حول بعض القضايا العقدية التي استنفدت جهوداً كان ينبغي صرفها إلى صدّ أعداء الإسلام الحقيقيين .
و في عام 1935 م بدأت مرحلة جديدة من عمر المجلة بعد أن تغير اسمها إلى اسم " الأزهر " ، و أصبح فريد وجدي مدير تحريرها .
أوراق متناثرة في تاريخ الصحافة الإسلامية .. (5)
20-8-2005
بقلم مبارك القحطاني
"...في مواجهة هذا البحر المائج المتلاطم من الغارات الوقحة على مسلّمات الأمة و ثوابتها ، انبعثت صرخات مخلصة تذبّ عن دينها و هويّتها ، إلاّ أنها كانت أصواتاً مبحوحة و مشتّتة تفتقد عوامل الترابط و التنظيم ، فضاعت أصداؤها في خضمّ هدير أمواج التغريب ..."
تعرّضت مصر في مطلع القرن العشرين ميلادي إلى شلاّل هادر من قوى الغزو الفكري المدمّر ، يمارس العبث بثوابت الأمّة الإسلامية و تخريب قيَمِها الأصيلة مشمولاً برعاية الإستعمار الإنجليزي الجاثم على أرض الكنانة آنذاك ، والذي كانت تلوذ به و تنضوي تحت جناحه هذه القوى المخرّبة .
و لقد بلغ هذا المدّ الطامي مداه حينما أصدر " طه حسين " كتابه : " الشعر الجاهلي " الذي شكّك في وجود إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام رغم ذكرهما في القرآن الكريم ، و كذلك كتاب الشيخ " علي عبدالرازق " الموسوم بـ " الإسلام و أصول الحكم " الذي أنكر فيه وجود نظام سياسي في الإسلام ، و ادّعى بأنّ الإسلام دين روحي فقط و لا يختلف في هذا السبيل عن النصرانية ، ليوفّر بذلك تبريراً " شرعيّا ً" يهوّن على المسلمين مصيبة إلغاء الكماليّين للخلافة الإسلامية ، و تحويلها إلى دولة علمانية.
في مواجهة هذا البحر المائج المتلاطم من الغارات الوقحة على مسلّمات الأمة و ثوابتها ، انبعثت صرخات مخلصة تذبّ عن دينها و هويّتها ، إلاّ أنها كانت أصواتاً مبحوحة و مشتّتة تفتقد عوامل الترابط و التنظيم ، فضاعت أصداؤها في خضمّ هدير أمواج التغريب و الغزو الفكري الصاخبة .
و في عام 1926 التقى مجموعّة من الشباب المسلم المتحمّس في دار المطبعة السلفية في شارع خيرت في القاهرة ، منهم : محب الدين الخطيب ، و أحمد تيمور باشا ، و أبو بكر يحيى باشا ، و عبدالرحمن قراعة ، و السيّد محمد الخضر حسين ، و علي جلال الحسيني ، و غيرهم من الشباب المسلم الذي ذهبت نفسه حسرات على ما آل إليه الحال في أرض الكنانة من عدوان سافر على ثوابت الأمة و هويّتها العربية الإسلامية ، و آلمه الضعف الذي اعترى المسلمين فمنعهم من الدفاع عن دينهم .(/12)
فتمخّض هذا الإجتماع عن إنشاء جمعية لمقاومة هذه الإنحرافات و مجالدة المفسدين بالحجة و البيان .
و بعد إنشائها بأشهر بدا لهم أن الجمعية بحاجة إلى صحيفة تعبّر عن رأي هذه الجمعية ، و تساهم في توصيل أفكارها لأكبر شريحة من الرأي العام و لا سيّما الشباب المثقف المسلم .
لكن الحصول على إمتياز صحيفة إسلامية في ظل تلك الظروف كان أشبه بالمستحيل ، بيد أن الأستاذ الجليل " أحمد تيمور باشا " رحمه الله بذل جهوداً طيبة و مشكورة لا ستصدار امتياز مجلّة ، فوُفّق في هذا السبيل ، و أصدرت تلك المجموعة مجلّة أُطلِق عليها اسم : " الفتح " ، و صدر أوّل عددٍِ منها في يوم 29 ذي القعدة من عام 1344 هـ ، الموافق 1 يونيو 1926 م ، و تسلّم رئاسة التحرير فيها الشيخ الأزهري عبدالباقي سرور ، ثم بعد ذلك تولى دفّتها الأستاذ محب الدين الخطيب رحمهما الله حتى إغلاقها .
و كانت المجلّة في موضوعاتها و مادّتها الإعلامية سيفاً مصلتاً في نحور دعاة الغزو الفكري و التغريب و التنصير و الإستشراق ، هذا إلى جانب اهتمامها بأحوال المسلمين في كل مكان ، فسدّت بذلك ثغرةً كبيرةً رغم إمكانياتها المتواضعة ، و ضيق هامش الحرية الممنوح لها .
فكانت مجلة " الفتح " بحق منبراً حراً أصيلاً لا نظير له ، بفضل الروّاد و العمالقة من أمثال : أحمد محمد شاكر ، و أخيه : محمود ، و شكيب أرسلان ، و مصطفى صادق الرافعي ، و شيخ الإسلام في الدولة العثمانية : مصطفى صبري ، و محمد الخضر حسين ، و علي الطنطاوي ، و تقي الدين الهلالي ، و غيرهم ممن طرّزوا حواشي هذه المجلة بإبداعاتهم ، و آثارهم القيّمة .
المجلة و التغريب و الغزو الفكري :
تولّت المجلة مهمّة الردّ على " طه حسين " بعد إصداره كتابه " الشعر الجاهلي " الذي تضمّن جرأة كبيرة على القرآن الكريم ، و أشعل بكتابه هذا فتيل المواجهة بين طه حسين و حزبه التغريبي و بين العلماء و الدعاة ، فانبرى له العديد من كُتّاب " الفتح " و فنّدوا شبهاته و آرائه الخطيرة أمثال : عبدالرزاق الحسني ، و عبدالباقي سرور ، و غيرهم ، و عن هذه المعركة تقول المجلة مشيرةً إلى مصدر أفكار طه حسين : " ما في الكتاب من مسألة إبراهيم و إسماعيل مسروق من كلام جهلة المبشرين كصاحب مقالة في الإسلام ، و ما ذكر عن الشعر الجاهلي مسروق من متعصّبة المستشرقين لمرجليوث ، فالفكرة على سخافتها ليست له في الموضعين . " ا هـ .
و تابعت المجلة تطوّرات قضية طه حسين في المحاكم المصرية ، و محاضر التحقيق و الإستجواب ، و ما صدر بحقه من أحكام .
و إلى جانب الرد على طه حسين تصدّت المجلّة إلى افتراءات و هجمات دعاة التغريب في مصر ، أمثال : أحمد لطفي السيد ، و سلامة موسى ، و توفيق الحكيم ، و حسين فوزي ، و ميشيل عفلق ، و محمود عزمي ، و إسماعيل أحمد أدهم ، و غيرهم .
و مما يجب أن يُذكر في هذا المقام أن مجلة الفتح قد أحرزت قصب السبق في كشف حقيقة الحركة الماسونية في وقت كان الغموض يلفّها و يسدل حولها ستاراً كثيفاً من التعتيم و التزييف ، إذ تقول المجلة : " إن جل نبغاء المسلمين المستورين كانوا يدينون بالماسونية أكثر مما يتظاهرون بالإسلام ، و الماسونية بُنيت قواعدها على صرح سليمان لأنها ظاهراً إنسانية و باطناً صهيونية محضة ، و الدليل على ذلك أنها اليوم لم تتظاهر بعاطفة نحو ضحايا اليهود ، و إنما تظهر الجمود و تعمل سرّاً لقمع التعصّب الإسلامي ابتغاء حماية اليهود ، فكان المسلمون يخافون من كلمة التخويف ( التعصب الإسلامي ) التي كان يلقيها الأوروبيون لإرهاب العالم فلذلك اجتنبوا كل سعي شريف إرضاء للأجانب " ا هـ .
المجلة و الفرق الضالة المنتسبة للإسلام :
لقد اضطلعت المجلة منذ أعدادها الأولى في الردّ على الفرق الباطنية المنتسبة للإسلام ، و كشف النقاب عن جذورها الفكرية و العقائدية ، تقول المجلة في مجلدها الأول : " هذه النحلة من ولائد الباطنية تغذّت من ديانات و آراء فلسفية و نزعات سياسية ، ثم اخترعت لنفسها صورة من الباطل و خرجت تزعم أنها وحي سماوي ، تقوم دعوة الباطنية على إبطال الشريعة الإسلامية ، أصلها طائفة من المجوس راموا عند شوكة الإسلام بتأويل الشريعة على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم ، و قالوا لا سبيل إلى دفع المسلمين بالسيف لغلبتهم و استيلائهم على الممالك و لكننا نحتال بتأويل شرائعهم إلى ما يعود إلى قواعدنا و يستدرج الضعفاء منهم ، فإن ذلك يوجب اختلافهم و اضطراب كلمتهم " . ا هـ .(/13)
و ركّزت المجلة في هذا السياق على طائفة القاديانية الخبيثة التي انتشرت في القارة الهندية و بدأت تغزو العالم الإسلامي ، فقالت المجلة : " ادّعى ميرزا غلام أحمد النبوة و أنه هو المسيح الموعود ، و بعد أن ادعى النبوة و أنه أوحي إليه من الله تعالى بدأ يدعو الناس لاتباعه ، فلم يعدم أنصاراً بسبب الجهل من جهة و بفضل أولياء أمره و أمر تابعيه من جهة ثانية ، و قد تمكن من إيجاد جماعة سماها " الأحمدية " يقولون باستمرار النبوة غير التشريعية ، و بعدم انقطاع الوحي " . ا هـ .
و كتب الأستاذ : مسعود الندوي " رحمه الله من لكنو بالهند مقالات أوضح فيها الفرق بين الأحمدية و القاديانية ، و خطورة كلٍ منهما على الإسلام .
و كذلك حذّرت من خطر فرقة التيجانية التي تتظاهر بالتصوّف و الزهد ، و نبّهت إلى خطورة انتشارها في بلدان المغرب العربي ، لكونها تمنح الولاء للإستعمار الفرنسي ، و توطّد أركانه في تلك البلاد ، إذ تقول : " إن صاحب السجادة الكبرى ألقى خطاباً بين يدي الكونترول سيكلوني الفرنسي ، تحدّث فيها عن الخدمات الجليلة التي قامت بها الطائغة التيجانية لفرنسا في توطيد الإستعمار الفرنسي و في سبيل تسهي مهمة الإحتلال على الفرنسيين ، و في إشارات التعقّل التي كانت تسبّبها هذه الطريقة الصوفية لمريديها " اهـ .
مجلة الفتح و قضايا التربية و التعليم :
كان من الطبيعي أن تهتم مجلة الفتح بقضية التربية و التعليم ، و أن توليها ما تستحقّه من اهتمام ، لا سيما و قد أدرك الغيورون في مصر خطر البرنامج الدنلوبي الذي زرعته بريطانيا في قلب وزارة التعليم المصرية ، فقام " دنلوب " الخبير الإنجليزي بصياغة المناهج التربوية وفق الرؤية الغربية التي تتوافق مع سياسات بريطانيا تحت حجة تطوير المناهج ، فقالت المجلة محذرةً من خطورة هذا البرنامج على النشء في مصر : " إن الطريقة الدنلوبية علّمت شباب مصر أن العروبة و الإسلام شيء أجنبي طرأ على مصر و احتلّتها كاحتلال الفرس و البطالسة و الرومان و الانجليز ، مع أن العروبة و الإسلام هما روح مصر و كيان مصر ، بل هما مصر منذ نحو أربعة و عشرين قرناً إلى الآن " ، ثم تقول : " إن التعليم الدانلوبي في المدارس أهمل آداب الإسلام و تاريخ الإسلام و أمجاد الإسلام فخرج لنا أبناء محرومين من سلاح الفضائل الإسلامية ، و في التعليم يجب أن نبني في الشباب المصري الإعتماد على النفس في حياته الإستقلالية و الإقتصادية ، و الإعزاز بتاريخه القريب الذي تكوّنت به قوميّته الحاضرة منذ أربعة عشر قرناً " . ا هـ .
و كشفت المجلة النقاب عن الدور التخريبي الذي تلعبه الجامعة الأمريكية في القاهرة في أكثر من عدد ، من ذلك ما قام به أحد الطلبة فيها من كشف للمراجع التي التي يرشد أستذتها الطلاب إلى قراءتها ، و من بينها كتاب خبيث مليء بالطعن و التطاول على مقام النبي صلى الله عليه و سلم . نهاية المجلة :
استمرت مجلة الفتح في مسيرتها الميمونة حتى عام 1366 هـ ، الموافق 1948 م ، و كان سبب توقّفها هو موجة التضييق على العمل الإسلامي التي سادت مصر بعد هزيمة 1948 أمام اليهود ، فنال مجلة الفتح ما نال غيرها من الأذى و الإغلاق و المصادرة ، و جفّ مدادها بعد اثنين و عشرين عاماً من الجهاد الثقافي المتميّز الذي لا نجد وصفاً له أفضل و أصدق من وصف الأستاذ " مصطفى السباعي " رحمه الله ، إذ قال : " و ما كنا نتصل بالفتح حتى بدأنا نعرف واجبنا في الحياة كشبّان مسلمين ، و أخذنا ندرك خطر ما يبيته الإستعمار من وسائل الكيد للمسلمين ، و تأجّجت في أفئدتنا نار الحمية لدين الله ، و النقمة على أعدائه ، و شعرنا بأن الفتح هو همزة الوصل بيننا و بين أقطار الإسلام " . ا هـ .
----------
المراجع :
1 - " تاريخ الصحافة الإسلامية " ، أنور الجندي رحمه الله ، القاهرة ، توزيع دار الأنصار .
2 - " الأعلام " ، خير الدين الزركلي ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1989 .
3 - " اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر " ، د . حمد بن صادق الجمال ، الرياض ، عالم الكتب ، 1994.
أوراق متناثرة في تاريخ الصحافة الإسلامية .. (6)
25-11-2005
بقلم مبارك القحطاني
"...استمرّت الصحيفة على هذا الوتيرة في ظل إدارة محمد عبده ، و انتظم صدورها و أصبحت صحيفة رسمية تصدر في كل يوم عدا يوم الجمعة ، و امتلكت مطبعتها المستقلّة ، و استقطبت العديد من الكتّاب الأكفّاء ، و انتشرت بين الإدارات و الدواوين و النظارات و المحاكم الشرعية في مصر و السودان و جهات من هرر ..."(/14)
يكاد يتّفق الباحثون على أن صحيفة الوقائع المصرية أوّل صحيفة عربية بما يعنيه مصطلح الصحيفة من معنى ؛ إذ أُنشئت صحيفة الوقائع في القاهرة كامتداد لملخّص اسمه " الجورنال " يحوي تنظيم حسابات الأقاليم و المصالح و شئونها الإدارية و كشوف الأقاليم البحرية و القبلية و المحاصيل في مصر و غيرها من الأمور التي تهمّ الخديوي " محمد علي " مع بعض كبراء الدولة ، لكن هذا الملخّص لم يعد يكفي نظراً لاتّساع الدولة و تشعّب حاجاتها و قضاياها ، فصدر الأمر من الوالي " محمد علي باشا " بإنشاء صحيفة " الوقائع " في عام 1828م .
و لكن هذه الصحيفة لم تكن متاحة لكافة طبقات المجتمع ، بل كانت مقصور تداولها على النخبة فقط من كبار الملاّك و العلماء و تلاميذ المدارس الملكية و المبعوثين في أوروبا ، و كان عددهم بسيطا جدا إذ كان لا يتعدّى 600 قاريء ! .
إلى جانب هذا كانت اللغة العربية في هذه الصحيفة مهملة ، حتى كانت اللغة العربية إلى اللهجات العامية أقرب ، إذ تصدرالصحيفة باللغة التركية و تُترجم إلى اللغة العربية في وقت واحد ، لكن القائم على تحرير الصحيفة - و كما يرى بعض الباحثين - كان رجلاً تركيّاً أو ذا ميول تركية؛ حيث كان يترجم المضمون من اللغة التركية إلى العربية بدون عناية و اهتمام بالأساليب العربية أو اختيار للألفاظ السليمة التي تؤدي دورها بشكل صحيح .
بيد أن هذا الأمر تغيّر بعد تولّي " رفاعة رافع الطهطاوي " شأن الصحيفة عام 1842 م ، فقد أوْلىعناية باللغة العربية و جعلها هي الأصل ، و تشغل الجانب الأيمن في الصحيفة بدلاً من اللغة التركية كما كان في السابق . و اهتمّ أيضاً بشأن نشر المادّة الأدبية ، و استقطب أدباء معروفين مثل " أحمد فارس الشدياق " الكاتب الأديب ، و السيّد " شهاب الدين " تلميذ رفاعة و مساعده .
و نشرت الصحيفة بعض القصائد الشعرية و مقتبسات من مقدّمة ابن خلدون ، و كتب فيها رفاعة الطهطاوي أوّل مقال كامل يُنشر في الصحافة المصرية تحت عنوان " تمهيد " ، و كان ذلك في العدد رقم 623 في غرّة ربيع الثاني عام 1258 هـ ( 1842 م ) ، و كان أول عدد بعد تولّي رفاعة الإشراف على الصحيفة .
و قد كان هذا المقال الرائد الذي كان ردّاً على افتراءات بعض المستشرقين على الإسلام ، أشبه بالنواة و اللبنةالأساسية في طريق تأسيس صحافة إسلامية ذات طرح عصري ؛ إذ جمع في رؤيته بين الأصالة و المعاصرة و القدرة الفائقة على التحليل و النفاذ إلى دقائق الأمور .
يقول الدكتور عبداللطيف حمزة عن هذه النقلة الإيجابية في عمر الصحيفة : " ثم دخلت الوقائع المصرية في طور ثانٍ من أطوار حياتها ، و ذلك بمجيء رفاعة رافع الطهطاوي إليها ، و ذلك في عام 1842 " ا هـ .
لكن هذا الإزدهار لم يدُم طويلاً إذ ابتعد رفاعة عن تحرير الصحيفة بعد صدور عددين منها فقط ، و عادت الصحيفة القهقرى إلى ما كانت عليه في السابق من هبوط في اللغة العربية ، و اضمحلال في المستوى التحريري ، و كانت أيضا تصدر بصورة متقطّعة و غير منتظمة .
و امتدّ التدهور في الصحيفة حتى عام 1865 م ، حينما أصدر الخديوي عباس أمراً بترتيب الصحيفة و تنظيمها . و لكن العهد الزاهر لها بدأ منذ عام 1880 م ، عندما تولّى تحريرها الأستاذ " محمد عبده " بناء على أمر من الخديوي توفيق ، و استهلّ الأستاذ محمد عبده عمله في الصحيفة بإعداد تقرير لإصلاح الصحيفة ثم رفعه إلى رياض باشا ، الذي اهتمّ بهذا التقرير و كافأ بدوره الأستاذ بتعيينه رئيساً لتحريرها .
و ضمّ الأستاذ إليه نخبة من الكُتّاب ممن كانوا يشاركونه اتجاهه الفكري و السياسي ، و هم : عبدالكريم سليمان ، و سعد زغلول ، و سيّد وفا .
و كان لهذه الإدارة الجديدة أثر طيب في رفع مستوى الصحيفة و تطويرها ؛ إذ لم يخلُ عدد منها من مقال يتناول القضايا السياسية و الإجتماعية و الأدبية ، و كان الشيخ رشيد رضا — رحمه الله — يتحدّث عن هذه النقلة النوعية التي أحدثتها هذه الإدارة الجديدة ، قائلاً :
" و إن العجيب حقا أن ترى صاحب عمامة أزهرية يدخل في حكومة مطلقة بعيدة في أعمالها عن رجال العلم و الدين ، فيشرف من نافذة غرفة تحرير الجريدة الرسمية على نظارات الحكومة و مجالسها و محاكمها ، ثم يشرف من نافذة أخرى على الأمة فيقوّم من أخلاقها و يصلح ما فسد من عاداتها ، و يطلّ من نافذة ثالثة على الجرائد العربية ، فيعلّمها حسن التحرير و يدرّبها على الصدق في القول " أ هـ .
استمرّت الصحيفة على هذا الوتيرة في ظل إدارة محمد عبده ، و انتظم صدورها و أصبحت صحيفة رسمية تصدر في كل يوم عدا يوم الجمعة ، و امتلكت مطبعتها المستقلّة ، و استقطبت العديد من الكتّاب الأكفّاء ، و انتشرت بين الإدارات و الدواوين و النظارات و المحاكم الشرعية في مصر و السودان و جهات من هرر ، و تعاونت مع وكالتي " رويتر " و " هافاس " للأخبار منذ منتصف عام 1880 م .(/15)
بيد أن الذي يهمنا في هذا المقام هو الجانب الإسلامي في خطاب الصحيفة الإعلامي ، و الذي تمثّل كما رأينا بتولّي الأستاذ رفاعه الطهطاوي و كذلك الأستاذ محمد عبده زمام الصحيفة ، إذ نستطيع من خلال استقراء مسيرة الصحيفة تحديد محورين اثنين كانا يمثّلان ركائز الخطاب الإسلامي فيها ، و هما :
1 - محاربة البدع و الخرافات الشائعة آنذاك في المجتمع المصري .
2 — الحفاظ على اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن و السنة .
أما في مجال محاربة البدع و الخرافات التي انتشرت في المجتمع المصري ، فقد كانت جهود الأستاذ محمد عبده واضحة في هذا الصدد ، إذ ركّز على إبطال و إنكار بدع المآتم و الجنائز و الحشيش و خرافات التصوّف ، و نبّه على وجوب رجوع المسلمين إلى الكتاب و السنة على فهم السلف الصالح ، إلاّ أنه لم يسلم بنفسه من الشطط و بعض الإجتهادات العقلانية المنحرفة ، كما هو معلوم .
أما في مجال اللغة العربية و العناية بها ، فقد عمل على الحفاظ على اللغة العربية و العضّ عليها بالنواجذ على اعتبار أنها لغة القرآن الكريم و السنة النبوية ، و أن جهل المسلمين بها هو الذي سبّب انتشار البدع و الخرافات بين ظهرانيهم ، يقول الدكتور سامي عبد العزيز الكومي : " و قد ظهر أثره في النهوض باللغة العربية أثناء توليه رئاسة الوقائع في ثلاث نواحي :
ا — مقالاته ذات المستوى العالي في أسلوبها و أفكارها .
ب — إن إلزام إدارات الحكومة و نظارتها بنشر أخبارها و حوادثها في الجريدة الرسمية قد اقتضى أن اضطر الجاهلون باللغة و التحرير إلى استدعاء المعلمين أو المبادرة إلى المدارس الليلية ، ليتعلموا كيفية التحرير و عم ذلك المديريات ، كما عم النظارات ، و ذلك هو تاريخ إصلاح التحرير في مصالح الحكومة .
جـ — كان لإشرافه على المطبوعات و إدارتها و لفت نظر الصحف إلى تجويد تحريرها و تحسين أسلوبها و إلا أنذرت كان لذلك أثره في جعل الجرائد تلبي دعوته ، شأنها شأن الدواوين فأصبحت تتسابق إلى إظهار مزاياها في التحرير حتى تعجب إدارة المطبوعات و المشرف عليها " أ هـ .
ختاما ، لقد كان لصحيفة الوقائع المصرية دور طيب و إيجابي في التمهيد لنشوء الصحافة الإسلامية رغم ما شابها من انحرافات فكرية فرضتها طبيعة بعض اتجاهات القائمين عليها مثل رفاعة الطهطاوي و محمد عبده ، لكن هذا لم يمنعها من ترك بصمات هامة في تنظيم و تأسيس العمل الصحافي وفق الشكل الذي يتناسب مع طبيعة العصر و مقتضياته الأعلامية ، و متّسق كذلك مع طبيعة العمل المهني في مجال الصحافة من النواحي التحريرية و الفنية ، الأمر الذي نراه ماثلاً في جميع الصحف و المجلات الإسلامية هذه الأيام . و الله تعالى ولي التوفيق .
---------
المراجع :
1 — الصحافة الإسلامية في مصر في القرن التاسع عشر ، د . سامي عبدالعزيز الكومي ، دار الوفاء ، القاهرة ، الطبعة الأولى 1992 .
2 — قصة الصحافة في مصر ، د . عبداللطيف حمزة — رحمه الله - ، مطبعة المعارف ، بغداد ، 1967 .
3 — تاريخ الصحافة العربية ، الكونت فيليب دي طرازي ، المطبعة الأدبية ، بيروت ، 1913(/16)
أول خطبة لمسجد أبي بكر
(5)
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
من يهد الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صلّ على هذا النبي الكريم وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أوصيكم عباد الله وإياي بتقوى الله، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون فبفضل الله تعالى وعونه وبجهود المحسنين من أبناء هذه الأمة تم بناء هذا المسجد وإنا لنرجو إن شاء الله تعالى أن يواصل رسالته التي قام من أجلها، وإن هذا المسجد لآية على ما يفعل الجهد المشترك بين أبناء الأمة فمن القروش القلائل أمكن بعون الله جل وعلا أن يشاد لله بيت يذكر فيه اسمه، وكلي رجاء إلى المولى القدير أن يضاعف هذه الجهود ويبارك عليها وأن يزيد المسلمين والمؤمنين حرصاً على التمسك بشعائر دينهم.
أيها الإخوة في هذا المسجد لا نبدأ بداية جديدة وإنما نواصل نهجنا الذي اختططناه فالخطبة هنا وصلٌ لما كان في غير هذا المسجد، وعليه فنحن إذن بصدد إكمال الحديث عن سورة العلق من حيث فاتحة الوحي الإلهي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، في الجمعة الفائتة كان من توفيق الله جل اسمه أن تحدثنا عن صدر:
)اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى(.
وأظن أننا وقفنا في الحديث عند هذه الآية وفي ختام السور الأربعة سنحاول أن نعطي تلخيصاً دقيقاً للأغراض والمهمات التي كلف المسلمون بها في أوليات الدعوة.
أما الآن فنتابع.. قال الله جل وعلا بعد ذلك:
(إن إلى ربك الرجعى).
هذه الآية جاءت بعد إشارة بليغة عما يصد الناس عادة عن الهدى، ويردهم عن سبيل التقوى.
)كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى(.
الإنسان يتجاوز حده وينسى مقداره ويظن في نفسه غير الحق حين يشعر بنازع الاستغناء عن أية معونة خارج ذاته تسنده وتعينه وتسدده، ونسيان الإنسان لقدره مصيبة من المصائب الكبيرة فيرحم الله شيخ المعرة فلقد كان يقول:
وإذا النفوس تجاوزت أقدارها حد البعوض تغيرت سجراؤها
لمجرد أن يجاوز الإنسان قدره ولو جناح بعوضة تتغير السجراء يعني تتغير الطبيعة إن الإنسان الذي يطغى ويبغي ما حصيلة ذلك؟ شعوره بأنه غير صائر إلى يوم يحاسب فيه عما قدمت يداه، لو أن الإنسان علم أن بعد هذه الدار داراً يقف فيها الإنسان بين يدي حكم عدل وبين يديه كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنه مسؤول ومُشَدَّدٌ عليه في المسألة. بقيت حقيقة البشرية ماثلة أمام عينيه فالآية:
(إن إلى ربك الرجعى).
مجرد تذكير بهذه الحقيقة الضخمة التي يراها الإنسان دائماً وأبداً حين يودع الأب والأخ والولد والصديق والقريب والبعيد يودعهم إلى دار لا عودة منها إلى هذه الدنيا ولكن الإنسان ربما يشعر وهو يسير خلف جنازة بهذا الشعور الذي يستولي على الإنسان في أوقات الشدائد شعور النقلة والرحلة من هذه الدار. لكنه ينسى هذا لمجرد أن يهال التراب على الميت.
كلا (إن إلى ربك الرجعى) مهما طال الأمر فالموقف غداً بين يدي الله تبارك وتعالى واعتقاد بعض الناس من الملاحدة والكفار أنه لا مرجع ولا مآل ولا آخرة ولا قيامة ولا حشر ولا نشر ولا حساب؛ لوثة تصيب العقل الإنساني فتخرجه عن حد السلامة والاستقامة لكن الإنسان الذي يستقيم طبعه، يدرك دون ريب -من مجرد الحوادث الدنيوية- من سياق الأحداث اليومية، أن بعد هذه الدار داراً.. دعك من كل هذا وخذ المسألة مسألة حساب رحم الله أبا العلاء لقد كان يقول بيتين يحملان معنى الطرافة والنكتة لكن تعبيرهما عميق، يقول:
قال المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد .. قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بنادم أو صح قولي فالخسارُ عليكما
حسب المسألة حسبة مادية، إن قلت ليس بعد هذه الدار داراً ثم كان بعد ذلك دار وكان حساب وكان ثواب وعقاب؛ فمن الخاسر ويحك ألست أنت الذي أنكرت بغير سند من حجة ولا برهان وبغير سند من قضية العقل السليم. وإن قلت بعد هذه الدار دار، وثمة حساب وثواب وعقاب ثم لم يكن شيء بعد ذلك، فأية خسارة تكون عليك؛ الأمر لديك سواء، مخرج القضية عند أبي العلاء مخرج الطرفة والنكتة لكن دلالتها عميقة.
هذه الآية تنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخاطب بها قوماً، ضَلَّ معظمهم عن هذه الدار، وطغت أكثريتهم الساحقة وتجاوزت أقدارها فقال لهم بهذا الجزم والحسم والقطع (إن إلى ربك الرجعى) صِيْغَةُ إخبارٍ مُؤكدٍ -غاية التأكيد- لأنها قضية لا تحتمل نقاشاً ولا أخذاً ولا رداً، ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك:
)أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟ أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى؟ ألم يعلم بأن الله يرى(.(/1)
تلاحظون أن هذه الآيات، صياغتها معجزة في البساطة. أرأيت الذي ينهى..؛ يخبر الله جل وعلا عن واقعةٍ. روت بعض كتب الحديث وكتب السيرة إجمالاً، أن أبا جهل فرعون هذه الأمة -لعنه الله تعالى – لقي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يصلي فانتهره ونهاه عن الصلاة فأغلظ له النبي صلى الله عليه وسلم في المقال فقال أبو جهل للنبي عليه السلام:
يا محمد لِمَ تتوعدني وأنا أكثر أهل هذا الوادي نادياً؟
فأنزل الله جل وعلا هؤلاء الآيات؛ هؤلاء الآيات معانيها عميقة، بالرغم من بساطة التعبير. تشترك حتى الصياغة، حتى أسلوب الأداء، يشترك في تأدية المعنى المراد لاحظوا، افتحوا أذهانكم. واقرؤوا:
)أريت الذي ينهى(؟.
هنا انتهت الآية وجاءت الآية الأخرى:
(عبداً إذا صلى).
ماذا نستنتج من قطع الكلام بقوله ينهى. انتهى الكلام عند ينهى انتهت الآية هنا، ثم جاءت الآية الأخرى (عبداً إذا صلى) لاحظوا أننا ندرك جميعاً حينما نقول نهى فلانٌ فلاناً. عن أي شيء يكون النهي، النهي يكون عادة عن الفعل المنكر والقبيح.
أما عن المعروف من الأفعال، عن الخير عن البر، عن التقوى، ففي العادة، لا يكون ثمة نهي، وقفت الآية عند قوله (ينهى) ليأخذ الفكر استراحة يسحب فيها النفس ثم يهجم بعد ذلك ما هو هذا الشيء المنهي عنه؟ ينهى عبداً إذا صلى.
يا سبحان الله هل إذا قام إنسان ببر وبمعروف وخير يستحق أن ينهى وأن يُقَّرعَ وأن يرد، لا ما هكذا عَهِدَ البشرُ ولا هكذا يتصرف العقلاء، فصياغة الآية بهذا الشكل ماذا أدت، أدت إلى تشنيع الصورة وتغليظ الأمر الذي قام به أبو جهل، ويقوم به من هم على شاكلة أبي جهل حين يكون ثمة نهي، فمن المعقول أن يكون النهي عن المنكر وعن القبيح، أما عن الطيب من الأفعال، وعن البر والتقوى، فالنهي هنا شيء يدعو إلى الدهشة ويدعو إلى الاستغراب، بل يدعو إلى الإنكار أيضاً.
الصياغة تؤدي معنى آخر.. الله جل وعلا يقول:
(أرأيت الذي ينهى، عبداً).
لماذا لم يقل ينهى رسوله أو ينهى محمداً، ثمة لطيفة. هذه اللطيفة هي أن الناهي عبد والمنهي عبد وفكرة الإسلام الأساسية. تحرير الإرادة الإنسانية، بحيث يشعر كل مخلوق من بني البشر أنه مساو لكل مخلوق من بين البشر، لا سادة ولا عبيد ومن هنا حُصِرت الأوامر والنواهي، بالآمر الناهي وهو الله جل وعلا، والعبد مهما يكن شأنه ومهما يعلُ مقامه، فليس له أن يأمر وليس له أن ينهى، إلا أن يكون أمره ونهيه تبعاً لأمر الله جل وعلا ونهيه، حتى النبي عليه الصلاة والسلام، إنما يطاع لأن الله جل وعلا أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فالطاعة ليست لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها امتثال لأمر الله جل وعلا وإلا ففي الحقيقة أن العباد كلهم متساوون والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة).
ومن مقتضيات الأخوّة بين العباد؛ عدم استعلاء بعضهم على بعض، لماذا يفعل الإسلام هذا. ويأتي بقضية يطرحها في المجتمع الإنساني. قبل ألف وأربع مئة سنة يوم كانت الدنيا تعرف الآلهة من الفراعين وتعرف السادة من المتحكمين في رقاب العباد، وتعرف وتعرف من التفرقات التي ما أنزل الله بها من سلطان قال ذلك ربنا. وجاءت هذه القضية بهذا الحسم وبهذا التشديد لكي يبقى الناس شاعرين بمعان الأخوة والمساواة فيما بينهم لأن الأخوة والمساواة هما الدعامة التي لا سبيل إلى إنهاض أية دعوة وأية رسالة بدونها تصوروا مجتمعاً ينقسم إلى فئات وينقسم إلى طوائف وينقسم إلى طبقات وينقسم إلى سادة وعبيد، هل يمكن أن تشيع الأخوة والمحبة والتضامن بين أفراد هذا المجتمع. لا.
إن هذا المجتمع. بالصورة التي قلنا عنها الآن. مجتمع مُتَعادٍ، مُتَنافرٍ، متخالف، يفتقر إلى أقل المقومات التي ترشحه لأداء رسالة كبرى في هذا الوجود، الإسلام حريص على أن يشعر الجميع، أن لهم رباً واحداً، وأنهم تحت هذه الربوبية، عبيد يتكافئون لا ريب، أما حين تنتكس الأحوال، ويتعبد الناس بعضهم بعضاً فثمة شذوذ ينبغي أن يصحح في الحال، الإسلام في الحقيقة حريص على هذه الناحية، غاية الحرص حتى الرسول صلى الله عليه وسلم بما له من جلال وكمال وبما يحتل في قلوب المسلمين من منزلة. لم يكن يسمح لأحد من أصحابه أن يذيب شخصيته في شخصيته صلى لله عليه وسلم مع بعد الفارق بين المستويين.
تصوروا إنساناً مثل محمد صلى الله عليه وسلم بمكانه من الله ومكانته من عباد الله، يرفض أن يسير أحد خلفه كان يفضل أن يسير بين أصحابه، ويفضل أن يسير في الساقة خلف الأصحاب. هو في مقام يرفض أن يقوم له أحد من الناس، ويقول:
(من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار).
كان يحرص عن تنمية الشخصية الإنسانية لأن الشخصية الإنسانية النامية، هي عماد الحركة الإسلامية لا غير أما الإمعات والتافهون والأذناب. فهم عبء على الإنسانية، وعبء على هذا الإسلام لاحظوا مدى الحرص.(/2)
شهد الفضل بن الربيع وزير الخليفة هارون الرشيد في عز الأمة وسيادتها عند شريح القاضي عفواً شهد عند أبي يوسف القاضي، فرد شهادته فعاتبه الخليفة هارون الرشيد، قال له:
يا أبا يوسف لمَ رددت شهادة الوزير؟
قال يا أمير المؤمنين سمعته يقول لك أنا عبدك فإن كان صادقاً في هذا الكلام فلا شهادة للعبد، وإن كان كاذباً فلا شهادة لكاذب. وَرَدَّ شهادةِ الوزير، هذا التصرف مبني على ماذا..؟ مبني على حرص أبي يوسف ومن على شاكلة أبي يوسف بالحفاظ على معالم الشخصية الإنسانية أن لا تزول.
هنا حينما نقرأ:
(أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى).
يعظم الله جل وعلا من شأن هذه الواقعة كيف يجيز عبد لنفسه أن ينهى عبداً مثله. أليس في هذا اعتداء على اختصاصات الرب جل وعلا. الله فقط هو الذي يأمر وهو الذي ينهى:
(أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى).
يكون هذا الخطاب مساغاً حينما يُصرفُ إلى أبي جهل صاحب الواقعة ويكون تأويل الكلام: أرأيت أيها الكافر وأنت تنهى هذا العبد عن طاعة الله، أرأيت إن كان هذا العبد على هدى وعلى تقوى أرأيت لو كان هذا العبد يأمر بتقوى الله والصلاح والإصلاح، أنت بَعدُ مصرٌ على أن تظل تنهاه؛ هنا تعظيم المسألة وفيها أيضاً لفت نظر إلى أن الإنسان حين يأمر وينهى عليه أن يتذكر شيئاً شديد اللصوق بإنسانيته حينما ننهى عن الشيء لمجرد أن نريد ذلك دون أن نفقه ودون أن نتبين ودون أن نعرف فذلك عدوان.
أنا لا أستطيع أن أتهجم عليك وأنهاك دون أن أعرف الأمور على حقيقتها فأبو جهل يهجم على النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن العبادة، وعن البر والتقوى دون أن يعرف حقيقة الدعوى التي يدعو إليها هذا النبي الكريم فكلف نفسك وانظر في جملة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسم إن رأيت منكراً فانْهَ عنه وإن رأيت معروفاً فخذ به، ويحك فذلك هو كمال الإنسانية.
من هذا الباب تهجم كثير من المغاليك الذين لا يعقلون والجهلة والسخفاء والمغرورين والممرورين على هذا الإسلام دون أن يقرؤه، دون أن يعرفوه، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة النظر فيه نحن نسمع من أبنائنا الذين تربوا في حجورنا والذين يحملون أسماء إسلامية عداء مراً لهذا الإسلام، وصداً عنيفاً عن سبيل هذا الدين، ولو أنك سألت أحدهم هل يحسن أن يقيم الصلاة لوقف حائراً مبهوتاً، ويحك انظر في هذا الدين تَعرَّف على مناهجه، تعرف على شرائعه فإن رأيت أمراً مُنْكراً فانْهَ عنه، وإلا فما شأنك ألست بهذا تحطم إنسانيتك وتسيء إلى معنى البشرية، فيك:
)أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى(.
الله الذي خلق هذا الخلق ناظر ومطلع على طاعة الطائع ومعصية العاصي وأمر الآمر بالمعروف وأمر الآمر بالشر والمنكر مطلع على كل هذا ومحصيه، وسوف يجازي كل إنسان وفقاً لناموس العدل الذي لا يحيد عنه قيد شعرة ثم يقول الله جل وعلا:
كلا لئن لم ينته - يعني أبو جهل عن عناده واستكباره- لنسفعاً بالناصية. الناصية مقدم شعر الرأس وكلمة سفع في لغة العرب تدل على معنيين تدل على اللفح البسيط بالنار الذي يترك شيئاً من السواد كما تدل على الجذب والشد بقوة، وكلا المعنيين مراد في هذه الآية. كلا لئن لم ينته أبو جهل عن مراغمته للنبي عليه السلام. لنَجُرنَّه من ناصيته والجر من الناصية يرمز إلى منتهى الإذلال لأن أعلى ما في الإنسان ناصيته. فحين يجر من أعلاه ليمرغ بالتراب يذل غاية الإذلال فإن كان الأمر أمر جر وجذب وتمريغ بالتراب فقد ذاق أبو جهل ذلك في بدر حينما جندل بسيوف المسلمين وسحب برجله وألقي في القليب قليب بدر.
وإن كان المراد بالسفع النار فذلك ملاقيه لا محالة لأن أبا جهل وأمثاله مصيرهم إلى النار، كلا لئن لم ينته عن عُتُوه واستكباره لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة فيما تقول وتدعي، خاطئة فيما تأتي من العمل، هنا عندنا فرق بين قول القائل خاطئ ومخطئ، المخطئ لا عقاب عليه؛ قال عليه الصلاة السلام.
رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان.
ولكن الخاطئ يقال للذي يتعمد الخطيئة وهو مسؤول ومحاسب عن عمله ومن هنا جاء البناء في الآية؛ ناصية كاذبة خاطئة آي أنها خاضت بالباطل خوضاً ووصلت إلى هذا الخطأ الذي ستحاسب عليه، وتعذب من جرائه، كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه.
قلنا لكم قبل قليل إن أبا جهل قال لرسول الله صلوات الله عليه وسلامه:
بمَ تهددني يا محمد وأنا أكثر أهل هذا الوادي نادياً.
فليدع ناديه. سندعو الزبانية، النادي: هو منتدى القوم، المكان الذي يجتمعون فيه، ولا يسمى المكان نادياً إلا إذا كان القوم مجتمعين فيه أما إذا كان خالياً من البشر فلا يسمى المكان نادياً فالنادي هو مجتمع القوم.
)كلا لا تطعه واسجد واقترب(.(/3)
سنقول كلمتين حول هؤلاء الآيات الله جل وعلا يحرض أبا جهل فليدع ناديه سندعو الزبانية هذا تهديد لأبي جهل لكن بالنسبة لنا نحن المسلمين ماذا يعني، يعني أمراً في غاية الخطورة. يعني أن علينا نحن معاشر المسلمين أن لا ننسى لحظة واحدة. أن المعارك التي نخوضها مع أعداء الله لا نخوضها بجهدنا وحولنا وقوتنا هنالك الله هنالك قوة الله التي لا تغالب والتي رمز الله إليها هنا في كلمة الزبانية وهم الملائكة الغلاظ الشداد الذين يدُّعون المشركين دعاً عنيفاً إلى نار جهنم.
حينما نتصور أنا نلقى أعداء الله بالجهد البشري وحده نلغي تجربة الإسلام بالكامل ماذا كان قوام جيش المسلمين في بدر، ثلاث مئة، كم كان عدد المشركين؛ ألف أو يزيد، ماذا كان سلاح المسلمين في بدر؟ سيوف ملفوفة بالخرق، ماذا كان رَكُوبهم فرسان كانوا حفاة وكانوا عراة وكانت أجسامهم فرائس لسوء التغذية والشروط المعاشية التعيسة كان تسلحهم أهزل ما يتصور الإنسان، ولقوا جيشاً معداً مدرباً سميناً دهيناً ومع ذلك ما تحملت المعركة أيها الإخوة إلا ضحوة من نهار فإذا المشركون يعطون أمتعتهم للمسلمين. وإذا المسلمون يقتلون المشركين كيف يشاءون بقوة الساعد أم بقوة السيف الملفوف بالخرق، لا.. بل بقوة الله العلي القدير.
الله جل وعلا حين يعرف منك أيها المسلم استقامةً مطلقةً على الطريق، وصدقاً كاملاً للرغبة فيما عنده والتوجه إليه فأنت تضرب بيد الله، وتمشي برجل الله، والله جل وعلا يقول:
(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).
النبي صلى الله عليه وسلم لِيَقلْ من شاء أنها خرافة حين اشتد القتال في بدر حمل كفاً من الحصى واستقبل بها المشركين، وحصبهم في وجوههم وقال:
شاهت الوجوه.
فما بقيت عين مشرك إلا ودخل فيها من هذا التراب.
الله جل وعلا أنزل رُعْبَه على المشركين، وأمر ملائكته بتثبيت المؤمنين وكان ما كان من نصر مؤزر، كل معارك الإسلام كانت بهذا الشكل؛ اقرءوا إن شئتم فتوح العراق تجدوا أن جيش المسلمين كان يساوي واحداً إلى عشرة بالنسبة إلى جيوش الكافرين.. ثلاثون ألفاً أو سبعة وعشرون ألفاً فقط هم الذين دوَّخوا العراق ودوَّخوا فارس وشردوا كسرى وأنهوا كل هذه الخرافة وحققوا قول النبي صلى الله عليه وسلم إن مات كسرى فلا كسرى بعده، بأية قوة كان ذلك، بقوتهم لا ولهذا كان عمر رضي الله عنه يكتب دائماً إلى قادة الجيوش كلاماً يردده باستمرار يحذرهم فيها من الذنوب، ويأمرهم بالطاعة ويقول لهم بصريح العبارة:
إننا لا نقاتل الناس بقوتنا نحن، ولكنا نقاتل الناس بهذا الدين، مهما استمسكنا بعرى هذا الدين أعزنا الله وإذا نحن تخلينا عن هذا الدين أذلنا الله.
أقول هذا الكلام وأنا أشعر في حلقي بغصة وأشعر أن قلبي يكاد يُعْتصر بين جنبي، أقول هذا الكلام وبين عيني أمتي وقومي وعشيرتي، تعد 800 مليون من المسلمين تدمرهم وتحطمهم شراذم اليهود، فلا يجدون مفراً في هذه الأيام العجاف أيام الذل، وأيام الخنوع، إلا أن يدعو إلى السلام، أي سلام يا مجرمون؛ سلام يقوم بيننا وبين اليهود. كيف يكون ذلك، كيف يستقيم أن يجتمع الماء والنار؟
أيها المنكح الثريا سهيلاً عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقلّ، يماني
أي سلام يكون بيننا وبين هؤلاء القوم وقد انتهكوا المحرمات وداسوا المقدسات ودمروا مساجد المسلمين ولم يخفوا في يوم من الأيام أضغانهم أمن أجل أن تحفظوا مراكزكم؟ أمن أجل أن تبقوا على كرسي مهتزة مهترءة قد نخره دود العفن، تفعلون هذا يا مسلمون أمن قلة؟ كلا والله، اليهود مليونان ونصف مليون وأنتم ثمانمائة مليون، ولكنكم فشلتم وتنازعتم وغرتكم الأماني وضللتم الطريق كنتم ذات يوم تريدون من الشرق أن ينصركم على إسرائيل وكنتم قبلها تطرقون أبواب الغرب وتبين لكم أن السم الزعاف في الشرق والغرب على حد سواء.
وقلتم نحن عرب والقضية عربية وتذرعتم بعالم عربي مستطيل مستعرض يعد اليوم مئة وأربعين مليوناً من البشر، فذهبت الخلافات بكل هذه القوة، ولكنكم لو أدركتم لعلمتم أن قضية العدوان على ديارنا هي قضية الإسلام، وقضية المسلمين وأن المعركة فيها ينبغي أن تخاض تحت راية الله، وأن أية راية أخرى ستعود بكم إلى الدمار، وستقودكم إلى الهزيمة ومن يعش يره.
ثم يقول الله جل وعلا:
(كلا لا تطعه واسجد واقترب).
هذا الخطاب لمن لمحمد صلى الله عليه وسلم حينما تكون داعياً إلى الإسلام وتجد في وجهك الصد والعناد والحرب والشراسة في العدوان فماذا تفعل هل تستخذي هل تذل هل تحاول أن تجد لقاء بينك وبين أعداء الله هل تمد الجسور بينك وبين هؤلاء الخصوم؟ لا هنا قضية قاطعة كلا يعني ما ينبغي لك يا محمد أن تطيع أبا جهل ومن على شاكلته ولكن اسجد واقترب اثبت في المواقع التي وضعك الله فيها أَدِمْ طاعة الله نفذ ما طلبه الله منك تقترب من الله وتقترب من نصره.(/4)
في قوله جل وعلا (اسجد اقترب) دلالتان: الأولى هذه الدلالة التي قلناها قبل قليل. وهي أن الخطة المثلى للنصر الكامل على أعداء الله هي المزيد من التمسك بأوامر الله جل وعلا وعدم المهادنة مع أعداء الله تبارك وتعالى.
والدلالة الأخرى أن وسيلة القرب من الله جل وعلا هي إدامة الصلاة وإطالة السجود بين يدي المولى جل وعلا، جاء أحد الأصحاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال:
يا رسول الله ادع الله أن يجعلني رفيقك في الجنة.
تعجب النبي صلى الله عليه وسلم رفيق الرسول عليه السلام يا رجل أين أنت وأين هذه المنزلة قال له النبي صلى الله عليه وسلم.
أو غير ذلك؟
يعني هل تريد أن أدعو لك بغير هذه الدعوة.
قال لا شيء غير ذلك ادعُ الله أن يجعلني رفيقك في الجنة.
قال له: لا بد.
قال: لا بد.
قال: إذاً أعني على نفسك بكثرة السجود.
المنزلة عالية منزلة النبيين والمرسلين منزلة خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم؛ رجل من الأصحاب يطلب نفس المنزلة أن يكون رفيق الرسول عليه السلام في هذه المنزلة ما هي الوسيلة؛ كثرة التقرب إلى الله تبارك وتعالى بإدامة السجود هذه الدلالة عسى أن تنفعنا جميعاً في إكثارنا من الصلوات والعبادات لا سيما أيها الإخوة وقد أظلتنا شهور مباركة نحن الآن في شعبان وعما قليل يأتي رمضان مواسم رحمة وخير وبركة الشقي فيها والمحروم من حرم الخير في هذه الأيام.
في الأسبوع القادم وما يليه إن شاء الله سوف نمر على بقية السور الأربعة آملين أن نعطيكم بعدُ تلخيصاً أميناً ودقيقاً لجملة المهمات التي كلف بها النبي صلى الله عليه وسلم محاولين في الوقت نفسه قياس ردود الأفعال التي كانت تصدر من المجتمع المشرك والتعرض على وسائل المجابهة التي سلكها المسلمون بقيادة نبيهم صلى الله عليه وسلم عسى أن يكون في ذلك لنا تبصيرٌ بالطريق الذي يجب أن نسير فيه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.(/5)
أول خطوة في الجنة
هل تعرف اللؤلؤ والياقوت ؟
إنها تلك الأحجار الكريمة التي يتصارع عليها البشر في كل مكان الآن وربما تحدث بسببها الجرائم وترتكب من أجلها الموبقات.
ستقول [ بالطبع أعرفها ]
حسنا أحب أن أبشرك أنك ستدوس عليها بقدمك بإذن الله تعالى وأنت في الجنة جعلني الله وإياك من أهلها.
نعم أيها الحبيب ستدوس عليه بقدمك لأنها ستكون الحصى المفروش على أرض الجنة وإذا كنت لا تصدقني اقرأ هذا الحديث الشريف:
عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث تكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة قال فيه: [[ وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت, وتربتها الزعفران ]]. [الترمذي و أحمد و صححه الألباني ]
أريدك أن تتخيل معي هذا المشهد....
بعد أن تفتح أبواب الجنة وتشم رائحة الجنة الطيبة تخطو أول خطوة فيها بيمينك تطأ قدمك على أرضها فترى اللؤلؤ والياقوت وهو يلمع تحت النور الذي يأتي من بعيد..
آآآه نسيت أن أخبرك...
الجنة أخي الحبيب لا تضاء بالشمس ولا بالقمر ولا حتى بالنجوم ولكنها تضاء بنور وجه الله تبارك وتعالى ذلك النور الذي انهارت أمامه الجبال في الدنيا [ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ].
وليس اللؤلؤ فقط هو الذي سيلمع ولكن أيضا البيوت والقصور ستلمع تحت هذا النور....
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [[ قلت يا رسول الله مم خلق الخلق ؟ قال: من الماء قلت ما بناء الجنة ؟ قال: لبنة من الفضة, ولبنة من ذهب, ملاطها [الملاط: الطين ]المسك الأذفر ]]. [الترمذي و أحمد و صححه الألباني ]
يا للروعة.....
طوبة من ذهب وطوبة من فضة وبينهما المسك , هل تتخيل معي رائحة هذه القصور وكيف سيكون بريقها في نور الرحمن وهي تتلألأ كألف كوكب درى ويتداخل معها بريق اللؤلؤ والياقوت في أرض الجنة ...
مشهد رائع أليس كذلك...؟
وسيزداد عجبك إذا علمت أن هناك خياما من اللؤلؤ وقصورا من الذهب الخالص..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[ إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً, للمؤمن فيها أهلون, يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً ]] [البخاري ومسلم].
يا الهي..... ما كل هذه الروعة..... خيمة من اللؤلؤ الخالص طولها ستون ميلا , أي أنك لا ترى آخرها, اللهم اجعلنا من أهلها يا رب العالمين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[ دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب فقلت لمن هذا القصر ؟ قالوا: لشاب من قريش, فظننت أني أنا هو فقلت: ومن هو ؟ قالوا عمر بن الخطاب ]] [الترمذي و قال حسن صحيح] .
أظن أخي الحبيب أن شوقك للجنة يزداد حينا بعد حين وهذا هو المطلوب
فالحياة في رحاب الجنة تزيد المرء ثباتا وترقق القلب وتعلي الهمة ,
ولا يزال في جعبتنا الكثير والكثير
فابق معنا ولن تندم بإذن الله.....(/1)
أول ليلة في القبر
... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين .
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
وأشهد أن محمد عبده ورسوله ، بعثه ربه هاديا ومبشرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بأذنه وسراجا منيرا .
بلغ الرسالة وادى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حتى أتاه اليقين .
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه تسليما كثيرا .
فأرقت موضع مرقدي يوما ففارقني السكون
القبر أول ليلة بالله قلي ما يكون
ليلتان اثنتان يجعلها كل مسلم في مخيلته :
ليلة وهو في بيته مع أطفاله وأهله .
منعما سعيد ، في عيش رغيد في صحة وعافية ، يضاحك أطفاله ويضاحكونه .
والليلة التي تليها مباشرة ليلة أتاه الموت فوضع في القبر ، أي ليلتين ؟
ليلة ثانية وضع في القبر لأول مرة ، وذاك الشاعر العربي يقول :
فارقت موضع مرقدي يوما ففارقني السكون ، يقول :
انتقلت من مكان إلى مكان ، وذهبت من موضع نومي في بيتي إلى بيت آخر فما أتاني النوم .
فبالله كيف تكون الليلة الأولي في القبر ؟
يوم يوضع الإنسان فريدا وحيدا مملقا إلا من العمل ، لا زوج ولا أطفال ولا أنيس :
(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) .
أول ليلة في القبر بكى منها العلماء ، وشكا منها الحكماء ، ورثا إليها الشعراء ، وصنفت فيها المنصفات .
أول ليلة في القبر .
أتي بأحد الصالحين وهو في سكرات الموت لدغته حية .
وكان في سفر ، نسي أن يودع أمه وأباه وأطفاله وإخوانه ، فقال قصيدة يلفظها مع أنفاسه هي أم المراثي العربية في الشعر العربي . يقول وهو يزحف إلى القبر :
فلله دري يوم أترك طائعا
بني بأعلى الرقمتين وداريا
يقول لا تبعد وهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا
يقول : كيف أفارق أطفالى في لحظة ؟
لماذا لا أستأذن أبوي ؟
أهكذا تختلس الحياة ، أهكذا أذهب ؟
أهكذا أفقد كل ممتلكاتي ومقدراتي في لحظة ؟
ويقول عن نفسه :
يقول لي أصحابي والذين يتولون دفني ، لا تبعد أي أبعدك الله .
وأين مكان البعد إلا هذا المكان ؟
وأين الوحشة إلا هذا المنقلب ؟
وأين المكان المظلم إلا هذا المكان ؟
فهل تصور متصور هذا ؟
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعلى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) .
كلا ، الآن تراجع حساب ، الآن تتوب ، الآن تنتهي عن المعاصي .
يا مدبرا عن المساجد ما عرفت الصلاة .
يا معرضا عن القرآن ، يا متهتكا في حدود الله .
يا نشئا في معاصي الله .
يا مقتحما لأسوار حرمها الله .
الآن تتوب ، أين أنت قبل ذلك ؟
أول ليلة في القبر .
قال مؤرخو الإسلام :
مات الحسن ابن الحسين من أولاد على ابن ابي طالب رضي الله عنه وأرضاه .
كان عنده زوجة وأطفال وكان في الشباب .
والموت لا يستأذن شابا ولا غنيا ولا فقيرا ولا أميرا ولا ملكا ولا وزيرا ولا سلطان .
الموت يقصم الظهور ويخرج الناس الدور وينزلهم من القصور ويسكنهم القبور بلا استئذان .
الحسن ابن الحسين مات فجأة ، نقلوه إلى المقبرة .
فوجدت عليه امرأته وحزنت حزنا لا يعلمه إلا الله .
أخذت أطفالها وضربت خيمة حول القبر .
( وهذا ليس من عمل الإسلام ولولا أن مؤرخو الإسلام ذكروه ما ذكرته ) .
ضربت خيمة حول القبر وأقسمت بالله لتبكيا هي وأطفالها على زوجها سنة كاملة .
هلع عظيم وحزن بائس .
وبقيت تبكي فلما وفت سنة أخذت إطناب الخيمة وحملتها وأخذت أطفالها في الليل .
فسمعت هاتفا يقول لصاحبه في الليل :
هل وجدوا ما فقدوا ؟ هل وجدوا ما فقدوا ؟
فرد عليه هاتف آخر قال :
لا ، بل يئسوا فانقلبوا .
ما وجدوا ما فقدوا ، ما وجدوا ضيعتهم ، ولا وديعتهم :
كنز بحلاون عند الله نطلبه
خير الودائع من خير المؤدينا
قال : لا بل يئسوا فانقلبوا .
ما كلمهم من القبر ، ما خرج إليهم ولو في ليلة واحدة ، ما قبل أطفاله ، ما رأى فتاته ، لا .
ولذلك هذه أول ليلة ولكن لها ليالى أخرى إذا أحسن العمل .
قل الله ، جل الله :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) .
أتي أبو العتاهية يقول لسلطان من السلاطين غرته قصوره ، وما تذكر أول ليلة ينزل فيها إلى القبر .
ونحن نقول لكل عظيم ولكل متكبر ، متجبر أما تذكر أول ليلة ؟(/1)
هذا السلطان بنى قصورا في بغداد ، فدخل عليه الشاعر يهنئه بالقصور يقول له :
عش ما بدأ لك سالما في ظل شاهقة القصور .
عش ما بدا لك سالما عش ألف سنة ، عش مليون سنة سالما معافا مشافا .
يجري عليك بما أردت مع الغدو مع البكور .
ما تريد من طعام ، ما تريد من شراب هو عندك ، ولكن اسمع ماذا يقول :
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنا ما كنت إلا في غرور
فبكى السلطان حتى أغمي عليه : فهناك تعلم موقنا ما كنت إلا في غرور .
أول ليلة في القبر .
وأنا أطالب نفسي وإياكم آيا معاشر المسلمين أن نهيئ لنا نورا في القبور أول ليلة .
ووالله لا ينور لنا القبر إلا العمل الصالح بعد الإيمان .
لنقدم لنا ما يؤنسنا في القبر يوم ننقطع عن الأهل ، والمال ، الولد والأصحاب .
خرج عليه الصلاة والسلام إلى تبوك :
وفي ليلة من الليالي نام هو والصحابة ، وكانوا في غزوة في سبيل الله .
قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه :
قمت آخر الليل فنظرت إلى فراش الرسول صلى الله عليه وسلم فلم أجده في فراشه . فوضعت كفي على فراشه فإذا هو بارد .
وذهبت إلى فراش أبي بكر فلم أجده على فراشه .
فالتفت إلى فراش عمر فما وجدته .
قال : وإذا بنور في أخر المخيم وفي طرف المعسكر ، فذهبت إلى ذلك النور ونظرت .
فإذا قبر محفور ، والرسول عليه الصلاة والسلام قد نزل في القبر .
وإذا جنازة معروضة ، وإذا ميت قد سجي في الأكفان .
وابو بكر وعمر حول الجنازة، والرسول صلي الله عليه وسلم يقول لأبي بكر وعمر (( دليا لي صاحبكما)).
فلما أنزلاه ، نزله صلي الله عليه وسلم في القبر، ثم دمعت عيناه عليه الصلاة والسلام ثم التفت إلى القبلة ورفع يديه وقال:
(( اللهم إني امسيت عنه راض فأرض عنه))، (( اللهم إني أمسيت عنه راض فأرض عنه)).
قال: قلت من هذا؟
قالوا : هذا أخوك عبد الله ذو البجادين مات في أول الليل.
قال ابن مسعود: فوددت والله أني أنا الميت : (( اللهم إني أمسيت عنه راض فأرض عنه)).
وإذا رضي الله عن العبد أسعده.
وإنما هي مسألة لمن نسي الله وأوامر الله وانتهك حدود الله.
نقول له: هل تذكرت يا أخي أول ليلة في القبر؟
كان عمر بن عبد العزيز أميراً من أمراء الدولة الأموية، يغير الثوب من حرير في إلىوم أكثر من مرة، الذهب والفضة عنده.
الخدم القصور، المطاعم المشارب كل ما اشتهي وكل ما طلب وكل ما تمني.
ولما تولى الخلافة، ملك الأمة الإسلامية انسلخ من ذلك كله لنه تذكر أول ليلة في القبر.
وقف على المنبر يوم الجمعة فبكي وقد بايعته الأمة.
وحوله الأمراء والوزراء والشعراء والعلماء وقواد الجيش ، فقال:
خذوا بيعتكم.
قالوا: ما نريد إلا أنت.
فتولاها فما كر عليه أسبوع أو أقل إلا وقد هزل، وضعف وتغير لونه ما عنده إلا ثوب واحد.
قالوا لزوجته: ما لعمر تغير؟
قالت: والله ما ينام الليل، والله إنه يأوي غلي فراشه فيتقلب كأنه ينام على الجمر ويقول :
آه توليت أمر أمة محمد، يسألني يوم القيامة الفقير والمسكين والطفل والأرملة.
يقول له أحد العلماء يا أمير المؤمنين:
رأيناك قبل أن تتولى الملك وأنت في مكة في نعمة وفي صحة وفي عافية ،فما لك تغيرت؟
فبكي رضي الله عنه حتى كادت أضلاعه تختلف ، ثم قال للعالم وهو ابن زياد:
كيف بك يا ابن زياد لو رأيتني في القبر بعد ثلاثة أيام.
يوم أجرد عن الثياب ، وأوسد التراب، وأفارق الأحباب، وأترك الصحاب.
كيف لو رأيتني بعد ثلاث ، والله لرأيت منظرا يسوءك ؟
فنسأل الله حسن العمل .
والله ، والله لو عاش الفتي في عمره . . . .
أسمع .
والله لو عاش الفتى في عمره
ألفا من الأعوام مالك أمره
متنعما فيها بكل لذيذة
متلذذا فيها بسكنا قصره
لا يعتريه الهم طول حياته
كلا ولا ترد الهموم بصدره
ما كان ذلك كله في أن يفي
فيها بأول ليلة في قبره
والله لو عاش ألف سنة ، وما طرقه هم ولا غم ولا حزن .
والله لا يفي بأول ليلة في القبر .
ووالله لننزلنها جميعا ، أول ليلة .
فيا عباد الله ، أسال الله لي ولكم الثبات ، ماذا أعددنا لضيافة تلك الليلة ؟
يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم :
( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من النار )
كان عثمان بن عفان الخليفة رضي الله عنه إذا شيع جنازة بكى حتى يغمى عليه فيحملونه إلى بيته كالجنازة إلى بيته . قالوا : ما لك ؟ قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
( القبر أول منازل الآخرة فإذا نجا العبد فيه أفلح وسعد ، وإذا خسر والعياذ بالله خسر آخرته كلها ) .
والقبر روضة من رياض الجنان
أو حفرة من حفر النيران
إن يكون خيرا فالذي من بعده
أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شرا فما بعد أشد
ويل لعبد عن سبيل الله صد
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين .
فأستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم .
الحمد لله رب العالمين ، ولي الصالحين ، ولا عدونا إلا على الظالمين .(/2)
والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أتيت القبور فناديتها .. .. أين المعظم والمحتقر ؟
أتيت القبور . قبور الرؤساء والمرؤوسين .
قبور الملوك والمملوكين .
قبور الأغنياء والفقراء فناديتها أين المعظم والمحتقر ؟
تفانوا جميعا فما مخبر
وما ماتوا جميعا ومات الخبر
فياسائلي عن أناس مضوا
أما لك في ما مضى معتبر
تروح وتغدو بنات الثرى
فتمحو محاسن تلك الصور
أرأيت قبرا ميزا عن قبور ؟
أأنزل الملك في قبر من ذهب أو فضة ؟
ووالله لقد ترك ملكه وقصوره وجيشه وكل ما يملك ، ولبس قطهة من القماش كما نلبس وأنزل التراب .
ولدتك أمك باكيا مستصرخا
والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمى لنفسك أن تكون إذا بكوا
في يوم موتك ضاحكا مسرورا
لكن كثيرا من الناس علموا بالقبر ، وأول ليلة فأحسنوا العمل ، لذلك متهيئون دائما .
يريدون الله والدار الآخرة ، ثبتهم الله في اليل والنهار .
يترقبون الموت كل طرفة عين .
خرج رجل من الصالحين وشيخ من المشايخ أعرفه من مدينة الرياض .
خرج بزوجته وكانت صائمة ولية من اؤلياء الله . خرج يريد العمرة ،
والغريب في تلك السفرة أنها ودعت أطفالها ، وكتبت وصيتها ، وقبلت أطفالها وهي تبكي . كأنها ألقي في خلدها أنها سوف تموت .
( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) .
ذهب واعتمر بزوجته وهو وإياها في بيت أسس على التقوى ، إيمان وقرآن وذكر وقيام وصيام وعبادة . لا يعرفون الغيبة ولا الفاحشة ولا المعاصي .
عاد معها فلما كان في الطريق إلى الرياض ، أتى الأجل المحتوم إلى زوجته .
(وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) .
(يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) .
ذهب إطار السيارة فانقلبت ووقعت المرأة على رأسها ، لكنها إن شاء الله شهيدة .
(أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ).
خرج وزوجها من الباب الآخر ، ووقف عليها وهي في سكرات الموت تقول :
لا إله إلا الله محمد رسول الله ، الله ، الله ، الله .
وتقول لزوجها : عفي الله عنك ، اللقاء في الجنة ، بلغ أهلي السلام .
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) .
أسأل الله أن يجمع تلك الأسرة في الجنة ، وأن يجمعنا وأحبابنا وأقاربنا في الجنة .
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تاسينا
إن كنا عز في الدنيا اللقاء ففي
مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
عاد الرجل إلى الرياض ودفن زوجته ، دخل بيته وحده بلا زوجة ، دخل بيته واستقبله الأطفال ، لكن حياة سهلة وبسيطة ، ولكن الموقف المرعب أن واحدة من الطفلات بنت ، قامت تقول أين أمي ؟
قال : سوف تأتي .
قالت : لا والله لا بد أن أرى أمي .
وانهار الرجل .
ونقول لتلك الطفلة سوف ترينها بأذن الله في جنة عرضها السماوات والأرض .
يعمل لها العاملون ،ليست كدنيانا الحقيرة والسخيفة التي يعمل لها الذين لا يريدون الله والدار الآخرة .
(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) .
فاعمل لدار غدا رضوان خازنها
الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها
والزعفران حشيش نابت فيها
يا إخوتي في الله :
يا شيخا كبيرا احدودب ظهره ودنى أجله ، هل أعدت لأول ليلة ؟
يا شابا مصطلحا متنعما غره الشباب والمال والفراغ هل أعدت لأول ليلة ؟
إنها أول الليالى :
وإنها إما أول ليلة من ليالى الجنة .
أو أول ليلة من ليالى النار .
عباد الله :
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه .
وصلوا على أصحابه ، وترضوا على أحبابه .
أسأل الله أن يصلح ولاة الأمر ، وأن يهديهم سواء السبيل .
أسأل الله أن يصلح شباب الإسلام ، وأن يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وأن يكفر عنهم سيئاتهم .
وأن يهيئهم بعمل صالحا لأول ليلة من ليالى القبر .
أسأل أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت .
ولا يظلم أبصارنا وبصائرنا .
ولا يجعلنا قوما انحرفوا عن منهج الله واشتروا معاص الله ، وغفلوا عن آيات الله ، فعموا ، وصموا ، وابتعدوا .
سبحانك ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .(/3)
أولياء الله وأحباؤه ...
الدكتور كامل سلامة الدقس
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه". وروى الطبراني في الكبير عن أمامة: يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فأكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وعقله الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته، وإن استنصرني نصرته، وأحب ما تعبدني به النصح لي). بدأ هذا الحديث القدسي بالتهديد الشديد والوعيد الصارم بأن من عادى لله ولياً فقد تعرض للهلاك ومحاربة الله له لأن من عادى من أحب الله خالف الله ، ومن خالف الله عانده ومن عانده أهلكه، وهل يوجد مؤمن يدخل الإيمان قلبه يجرؤ على أن يعمل عملاً يسبب له أن يعلن الله عليه الحرب؟ وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة، فمن والى أولياء الله أكرمه الله. والحديث على هذا يرسم في الخيال معركة تدور بين قوتين غير متعادلتين قوة العزيز الجبار في ناحية وعلى الناحية الأخرى ذلك المخلوق القزم الذي لا يكاد يُرى يقف في وجه الله معلناً الحرب عليه! فيا للهول! إن مجرد تصور مثل هذه المعركة في الخيال ليملأها هولاً ورعباً يقطع نياط القلب. كيف يخطر ببال هذا المخلوق الهزيل لأن يقف في معركة أمام ملك من ملوك الأرض؟ فإذا استحالت هذه المعركة فكيف يتجرأ على الوقوف في وجه ملك الملوك سبحانه وتعالى!! ألا فليطامن هؤلاء الطواغيت الذين يعتدون على عباد الله من كبريائهم وإذا دعتهم قدرتهم إلى ظلم هؤلاء فليتذكروا قدرة الله! وتأمل كيف صور الحديث هذه المعركة بألفاظ دقيقة موحية مصورة لمعناها (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) فللصورة وجهان أولهما أن أولياء الله وأحباؤه في كنف الله وفي حمايته ونصرته، يقف الله سبحانه معهم ويمدهم بالنصرة والتأييد وهذا المعنى مأخوذ من قوله( من عادى لي وليا) فهؤلاء الأولياء لله تخت رايته وحمايته فقال إنهم لي وليسوا لأحد غيره سبحانه ومن كان الله معهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .. فأنت تشعر بأن كلمة (ولياً) توحي إليك بمعنى الدنو والقرب من قولك ولِيَهُ يليه إذا دنا منه وقربن والوالي في اللغة هو المحب والصاحب الحليف، والجار والشريك والقريب فاختيار هذه الكلمة أدق من السحر. لأنها تصور أبدع تصوير تلك العناية الربانية والرعاية السماوية الشاملة من الله تعالى لأوليائه الطيبين الكرام.. فلا يمكن أن يخطر بالبال أن يدع الله تعالى نصرتهم وتأييدهم. لأن هذا غير جائز في حق البشر فكيف في حق البشر فكيف يجوز في حقه سبحانه!! وكلمة "آذنته" شديدة الجرس ثقيلة الوقع على النفس ترسم بجرسها الذي تلقيه في الأذن وبوزنها التي تلقيه في الخيال معنى الإنذار والتهديد والوعيد الشديد فمد الحرف الأول (آ) والوقوف على النون في المقطع (آذن) وما فيه ممن حبس صوت النفس، ثم حركة التاء بالضم بعد السكون بعد هذا الوقف كل ذلك يبهر النفس ويملأ القلب روعة ورهبة . ولذلك نظير في كتاب الله حيث قال تعالى (فأذنوا بحرب من الله) وهذا يشير إلى استفادة رسول الله صلى الله عليه وسلم من لغة القرآن لفظاً ومعنى. والعبارة كلها (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) عبارة مصورة لمعناها أجمل تصوير في طريقة تركيبها وترتيب كلماتها، وتأمل جملتي الشرط والجواب. ترى اقتران جملة الشرط بالجواب بالفاء التي توحي بسرعة نصرة الله تعالى لأوليائه دون إبطاء (من عادى لي ولياً- فقد آذنته بالحرب). وإذا ما تم تقرير هذه الحقيقة وترسيخها بهذا الإيقاع الحاسم من أول عبارة في الحديث يعود الرسول عليه الصلاة والسلام مبيناً من هم أولياء الله الذين يستحقون هذه الكرامة والمنزلة العالية والرفيعة؟ فما أجمل الإيضاح بعد الإبهام إذ أنه يبعث في النفس عنصر الإثارة والتشويق. فقد تهيأت النفس والقلب والعقل معاً لمعرفة هذه الفئة الممتازة التي استحقت النصرة والتأييد من الله سبحانه. فقال ( وما تقرب إلي عبدي بشيء احب إلي مما افترضته عليه… ) وتأمل المناسبة الدقيقة بين معنى الولي الذي قلنا أنه يحمل معنى القرب (تقرب) بهذه الصيغة التي تصور المعنى أبدع تصوير فوزن الفعل (تفعل) يوحي ببذل الجهد والمكابدة والمعاناة ومجاهدة النفس ومغالبة الهوى في محاولة العبد التقرب من مولاه عز وجل ومن مواطن رحمته لينال المثوبة والتكريم. فهذه العبارة (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه). تحمل حقيقة جديدة تكشف بوضوح من الذين يستحقون أن يكونوا عباد لله وأولياء محبين له يحبهم ويحبونه(/1)
فأوضحت أن أداء الفرائض كما شرعها الله سبحانه يعد من أحب الأعمال إلى الله . ولا يكتفي الرسول صلى الله عليه وسلم بالوقوف عند هذه الحقيقة وهذه الدرجة من درجات المؤمنين الصالحين بل يترفع بهم درجة أخرى ليزدادوا قرباً من الله فقال:(وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها). وهذا من باب التمثيل والتصوير، وهو أسلوب ذكره القرآن الكريم كثيراً واستخدمه في الكشف عن المعاني الدقيقة والمقامات الجليلة . والمراد من اجتهد في التقرب إلى الله تعالى بالفرائض ثم بالنوافل قربه إليه ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه كما جاء في الحديث الصحيح (اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا الذي يعبد الله كأنه يراه حقاً يمتلئ قلبه بمعرفة الله ومحبته وعظمته، وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة. عند ذلك لا تتحرك أعضاؤه إلا في طاعة فلا يرهف العبد سمعه، ولا يرفع صوته، ولا يحرك لسانه، إلا بالله وفيما فيه رضاه ولا يعمل بيده عملاً يغضب الله، ولا يسعى برجله إلى أمر فيه معصية الله. وهناك رواية أخرى لهذا الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) رواه الشيخان . ومعنى هذا أن من تقرب إلى الله بطاعة قليلة جازاه بمثوبة كبيرة ، وكلما ازداد العبد في الطاعة ازداد الله في ثوابه، وإن أتى بالطاعة على التأني أتاه الله بالثواب على السرعة… ومتى أكثر العبد من الطاعات والبعد عن المخالفات أوجب ذلك حب الله. فإذا أحبه رزقه محبته، فيصير الشخص لا يرى إلا الله ولا يسمع إلا الله ولا يمشي إلا لله ولا ينطق إلا بالله، أي أن العبد متى اجتهد في الفرائض والنوافل امتلأ قلبه بمعرفة الله ومحبته وعظمته حتى يصير قلبه من المعرفة شاهداً له بعين البصيرة، ومتى وصل العبد إلى هذه الرتبة صار جديراً بأن يجيب الله دعاءه وأن يحقق له رجاءه وأن ينصره في مواطن حاجته إلى النصر. ألا ما أروعها من صورة وما أطيبها وأسعدها من حياة يعيش فيها المؤمن في كنف الله وينعم برضاه ويفتح عليه أبواب رحمتهن ويفيض عليه محبته. وألا ما أقلها من كلفة وما أبسطها من مجاهدة إذا كانت هذه ثمرتها فالناس اليوم يكدون ويكدحون في سبيل عرض من أعراض الدنيا الزائلة ويبذلون في ذلك قصارى جهدهم! ألا إنه جهد ضائع وتجارة كاسدة ما دامت في غير الطريق الذي شرعه الله، وليست في سبيل الله . ومن هنا فقد كان الحديث صريحاً دقيقاً حين قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي) فهنا إصرار من العبد الرباني على رضا مولاه بالتقرب إليه بفعل الطاعات الزائدة عما فرضه الله على سائر خلقه فهو قد أدى الفرائض على أكمل وجه، ولكنه لم يكتف بذلك لأنه يود أن يزداد قرباً من الله، وان يحظى بأكرم المنازل وأقربها عند الله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون1! وقد اختار الرسول عليه والصلاة والسلام الألفاظ والعبارات الدالة على هذا الإصرار والرغبة الصادقة في إخلاص العبودية والطاعة إلى الله، فقد قال: ( ولا يزال) بهذا التعبير الموفق الذي يدل على الدوام والاستمرار، ثم أعقبه بكلمة (عبدي) تلك الكلمة المهذبة الرقيقة الكريمة عند الله وعند عباده (سبحان الذي أسرى بعبده) ولطف الإضافة الذي يوحي بالمودة والحنو والقرب، (عبدي) ولم يقل (ما يزال العبد) مثلاً وإلا لضاع هذا المعنى الكريم، ثم قال (يتقرب) بصيغة الفعل المضارع الدال على الاستمرار مع ما في هذا الاستمرار من استفراغ الوسع والطاقة ومجاهدة النفس وقطع علائق القلب من شهوات الدنيا وملذاتها، ووزن الكلمة يوحي بذلك فتقرب بمعنى تفعل يدل على المعنى دلالة صريحة وواضحة. وتأمل ثمرة هذه التقرب القريبة، فأنت مازلت تتأمل ذلك الرجل القائم الصائم العابد يجاهد نفسه ويكثر من الطاعات وإذ بك تراه شخصاً آخر غير الذي كنت تعرف، فقد هذبته الطاعة، وصقلته المعرفة والصلة الطيبة بالله، فإذا به لا ينطق إلا بخير، ولا يسمع إلا الخير ، ولا يفعل شيئاً إلا أن يكون في سبيل الله لتحقيق رضاه! يا الله ما أروعها من صورة وما أبدعه من مثل وما أروع الإيمان والطاعة وإخلاص النفس لله رب العالمين إذ يتحول الإنسان من إنسانيته العادية الهابطة إلى تلك الدرجة الربانية العالية! وحقيق على أكرم الأكرمين أن يكرم هؤلاء المحبين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم له فقال الرسول عليه الصلاة والسلام مبشراً لهم (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) فحينئذ إذا سأل العبد المؤمن الصالح ربه أعطاه ما سأل وإن استعاذ(/2)
به من شيء أعاذه !! وتأمل تأكيد هذا المدد وهذا العون الإلهي لهذا العبد الرباني في قوله (لأعطينه) بتوكيد الفعل المضارع باللام ونون التوكيد، ومثله (لأعيذنه) ويا سبحان الله ! فهل يحتاج الإنسان إلى مثل هذا التوكيد من مولاه، ومن أصدق من الله قيلاً؟ ومن أوفى بعهده من الله! ولكنها البلاغة النبوية العالية التي تحلق بالنفس إلى أعلى عليين! هكذا عشنا في ظلال هذا الحديث الأدبية ، وروائعه الفنية، وتمتعنا بجمال التصوير والتعبير مع كل عبارة من عباراته بل مع كل كلمة من كلماته. وإنك لتجد متعة أروع إذا نظرت إليه نظرة كلية بعد تلك النظرة الجزئية التحليلية. فتأمل كيف بدأ الحديث بأن ذكر سبحانه أن معاداة أوليائه محاربة له، وكيف أخذ يذكر بعد ذلك مباشرة وصف أوليائه الذين تحرم معاداتهم وتجب موالاتهم ، وهم الذين يتقربون إليه بما يقربهم منه، كما أن أعداءه هم الذين يبتعدون منه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه. فقسم أولياء الله المقربين إلى قسمين: أحدهما: من تقرب إليه بأداء الفرائض . والثاني: من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل. فظهر بذلك أن من ادعى أن هناك طريقاً إلى التقرب إلى الله تعالى وموالاته ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كاذب في دعواه. فبعد الإجمال جاء التفصيل، وقبل الإجمال والتفصيل بدأ الحديث بمقدمة قوية حاسمة في إيقاعها مهددة لأعداء أولياءه، ثم ختم الحديث بنفس القوة والروعة التي بدأ بها من حيث قوة التعبير والحسم والتأكيد على ما جاء في المقدمة. فقال في بداية الحديث (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) وقال في الخاتمة: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه). فالمقدمة من الخاتمة والخاتمة من المقدمة. كلاهما تكمل الأخرى وتوضحها وتؤكد نفس الحقيقة بطرق متنوعة. وبين المقدمة والخاتمة رأينا تبياناً لصفات هؤلاء الكرام البررة الذين يتقربون إلى الله بفعل الطاعات ولا يكتفون بالفرائض بل يحرصون على النوافل، حتى يتولاهم الله برعايته وعنايته. وأنت ترى هذا الحديث كالحديقة الغناء إذا تأملت أشجارها شجرة شجرة راعك ما ترى، وإذا تأملتها مجتمعة ملأتك بهجة وسروراً، ودهشة وإعجاباً. ومن هنا فترى لزاماً علينا أن نتعرف على معنى التقرب من الله سبحانه؟. وقال الجنيد: إن الله تعالى يقرب من قلوب عباده على حسب ما يرى من قرب قلوب عباده منه، فانظر ماذا يقرب قلبك! وقال العلماء: إن من أعظم ما يتقرب بع العبد إلى ربه من النوافل كثرة تلاوة القرآن، وسماعه القرآن بفهم وتدبر. ولذا روى الترمذي عن أبي أمامة مرفوعاً: (ما تقرب العبد إلى ربه بمثل ما خرج منه) يعني القرآن. وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تعالى أهلين من الناس". قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: "هم أهل القرآن"، أهل الله وخاصته. وفي الحديث: "ما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل الزهد في الدنيا، ولا تعبدني بمثل أداء ما افترضته عليه". ولاشك أن الزهد في الدنيا ينشأ عن صحة الإيمان بالله، وعن تفضيل ما عند الله على ما عند الناس، والطموح إلى دار الخلود بما فيها من نعيم مقيم، وهذا يقتضي حسن العبادة وحسن القيام بالفرائض أولاً، وما يتبعها من السنن والنوافل ثانياً. وفي رواية أخرى لهذا الحديث الذي نحن بصدده: "ما تقرب إلي العبد بمثل أداء قرائضي، وإنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت رجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، إن سألني أعطيته، وإن دعاني أجبته". ومن النوافل كثرة ذكر الله تعالى بحضور القلب مع النطق باللسان، ولذلك قال معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، أخبرني بأفضل الأعمال وأقربها إلى الله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أن تموت ولساك رطب من ذكر الله") . ويقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم، إذا ذكرتني خالياً ذكرتك خالياً، وإذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير من الذين تذكرني فيهم). ويراد بالذكر هنا تمجيد الله تعالى وتقديسه وتسبيحه وتهليله وتكبيره، والثناء عليه بجميع محامده. وقد حث القرآن الكريم والحديث الشريف حثاً قوياً على مواصلة العبد ذكر ربه سواءً أكان منفرداً، أم مع الناس. وقد جاء في القرآن آيات كثيرة تنوه بشأن ذكر الله، وترفع من قدر الذاكرين: (واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار). وقوله: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخفية) وقوله: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). وللإمام ابن القيم عبارة جليلة في تصوير مكانة "الذكر لله" يقول فيها: "إن الذكر هو منزلة القوم الكبرى التي منها يتزودون وفيها يتجردون، وإليها دائماً يترددون، والذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً، وعمارة ديارهم التي تعطلت(/3)
عنها صارت بوراً" . من كتاب من روائع الأدب النبوي للدكتور كامل سلامة ال(/4)
أوَّاهُ يا رمضان كم نحن لك في اشتياق
م. حسن الحسن *
A_l_hasan@yahoo.dk
عقودٌ كثيرةٌ مضت، أدبر فيها رمضانُ يتيماً حزيناً متحسراً منكسراً كما أقبل. بات رمضان يزورنا ويغادرنا سريعاً، ربما لأنه مشفقٌ علينا، مذهولٌ لمصابنا وما حلّ بنا، مؤثراً أن لا يُسجل علينا في صفحاته البيضاء مآسينا وانحدارنا، محافظاً على ذاكرته عطرة، ومعانيه العظيمة والمقدسة طي سجلٍ ناصعٍ، وفي أوراقٍ يباهي بها التاريخ، ولا يمكن أن تتلفها ذاكرة فاسدة تتعمد نسيانها. كيف لا يفعل ذلك، ونحن أمام مشهدٍ هزيل مخجلٍ، تُلصَق فيه برمضانَ كلُّ آفة، من "فوازيرَ" ساقطةٍ، وترفيهٍ تافهٍ، وخيامٍ يشجو فيها أهلُ المجون والأهواء، وتُقترفُ فيها الفواحش والآثام من كل نوع ولون أمام مرأى ومسمع الجميع، احتفاء بشهر رمضان الفضيل! مما يندى له جبينُ المؤمنين، ويُسخطُ الله ربَّ العالمين .
إنه رمضان يا خلق، شهر القرآن، المعجزة الخالدة للأنام، أنزله الله فرقاناً بين الحق والباطل، وجعله حكماً على الناس، وشرعة لهم في الحياة، هبط من السماء للتدبر وللتلاوة ولتبيان أحكام الولاية، رابطاً الأرض بالسماء، راسماً للبشر طريق الخير والهدى والرشاد. بينما نجده الآن مقصىً عن الحياة، محاربٌ من قبل السلطان، غايةُ شأنِ تعظيمهِ تقبيلُه بالشفاه وركنُه على الرفوف والدقُّ له بالدفوف.
ورمضان شهر الانتصارات والفتوحات، فها هي بدرٌ الكبرى شاهدة، وفتح مكة لا يمحى من الذاكرة، فيه خرَّت عموريَّة صريعة خائرة بعد استغاثة الأسيرة بالخليفة صارخةً وامعتصماه، تلاها ملحمة عين جالوت التي ولت فيها فلول جيش التتار الجرار لا تلوي على شيئ سوى النجاة، والسلطان قطز يلاحقها ويصرخ في جيشه واإسلاماه، يرفع يديه إلى السماء مناجياً ربه، يا الله انصر عبدك قطز. أمَّا الآن، فالأقصى بين براثن يهود، أسيرٌ يئن ويستغيث وما من مغيث. وبغداد آه مما أصابها وويلٌ لمن خانها بغداد، مستنقعٌ فاضت فيه الدماء، وعلت فيها رايات الشرك والرجس والإلحاد. وأما أرض الشيشان فتشتكي إلى الله مصابها، وكل من تخلى عنها وباعها. ناهيك عما طال عباد الله في السجون والمعتقلات لأنهم يقولون "ربنا الله"، وفوق كل هذا ومع بزوغ كلِّ فجرٍ جديدٍ تنفجر مآسي مروعة تطوي سابقاتها، مما يوجع القلب ويدمي الكبد ويسيل العبرات.
ورمضانُ ذو الهيبة والجلال، جامعُ الأمة ومجيشُ الهمة، كان فيه المسلمون رهبان ليلٍ فرسان نهار، محرزين فيه أعظم الإنجازات وأبهاها. أما الآن فقد بات لكلِّ حاكمٍ عميلٍ هلال، ليمعن تمزيقاً بالمسلمين وصرفاً لهم عن وحدة جماعتهم. وبدلاً من الجدِّ والعطاء، حُوِّلَ رمضانُ إلى عطلة سنوية، أدمن الناس فيه الكسل والنهم وانتابهم فيه الخمول وكأنه شهر النوم في النهار والخدر والسهر في توافه الأمور إلى جوف الليل.
هكذا نلتفت لنجد رمضان شعيرةً مفرغة من أحكامها ومن تاريخها ومن ذاكرتها المضيئة بالعز والمجد والجاه. وهذا الإفراغ مقصودٌ منه تحويل الإسلام إلى دين كهنوتي لا أثر له في الحياة المراد للأمة عيشها. وهو ما يفسر انتقال عدوى تفريغ الإسلام من أحكامه وقدسية دلالاته إلى سائر أركان الإسلام وفروضه المتعلقة بالجماعة والمجتمع والدولة والأمة. حيث بات الجهاد مختصاً بالنفس، وأما قتال العدو الكافر الصائل فهو إرهابٌ مشجوب. وأما وجوب تغيير المنكر وإزالة الطغاة إنما هو إلقاء للنفس في التهلكة. وأما إقامة الإسلام في دولة الخلافة لحماية الأمة وإقامة الدين وعمارة الدنيا، فإنما هو ضربٌ من الخيال، بينما الإذعان للغرب والاستسلام للواقع الذي تشمئز منه قلوب وعقول الأسوياء فهو غاية الكياسة ومنتهى الفراسة وهكذا.
أولم يئن بعد كل ذلك التاريخ المجيد الناصع لرمضان أن يعود إلى سابق عهده؟ مضيئاً الجوانب المظلمة في حاضر الأمة القاتم، ومنيراً لها مستقبلها. ألم يئن الوقت أن يتحول رمضان إلى شهر توبة واستغفار لا شهر جرعة مكثفة من السفه الإعلامي والسياسي والضغط الاقتصادي الخانق لإشغال الناس عما يصلح لهم أمر دينهم ودنياهم، شهر وحدة وعزة لا فرقة وذلة، شهر نصرٍ وظفرٍ لا شهر نكباتٍ وحسرات.
وبرغم كل ما نراه من صدّ عن استعادة رمضان العز والمجد والنصر والظفر والشعيرة التي تجسد الشريعة بأمثل معانيها فإنه سيعود لا محالة، وعندها ستذرف العبرات، بل ستسيل الدموع على الخدود طويلاً طويلاً، وسيكبَّرُ اللهُ حقا، وستضج المآذن بالتكبير والتهليل والتسبيح والدعاء، وستعود المساجد رياضاً للجنة ومراكزاً للعلم وجامعاتٍ للعلماء، وسيمتطي الضباط والفرسان ركوبهم من جديد لمحاربة الأعداء لا لاعتقال الدعاة، وستكون وسائل الاتصال والدعاية والإعلام مسخرة لتوعية الأمة وبث روح الإيمان فيها التي تنعكس طمأنينة ورضى وانكباباً على تسخير الدنيا لصالح البشرية اكتشافاً واختراعاً وتيسيراً لعباد الله.(/1)
نعم سيعود رمضان ليكون منارةً جامعة مجسدة لمعاني الوحدة دافعة لوصل الخلق بالخالق في أسمى أشكال الوصال وأمتنها، وستخفق راية التوحيد وحدها في كافة ربوع دار الإسلام، لأنَّ موكب الدعوة إلى الله سائرٌ في طريقه رغم كل العراقيل والمعوقات والصعاب، ورغم كل القسوة والمعاناة والحرب الشعواء، فقد سكن الإيمان نفوس شباب مؤمن حقاً مسلمٍ حقاً باذلاً ما بين جنبيه ابتغاء مرضات الله، كما رسخت مفاهيم النهضة في عقولهم واستقرت في قلوبهم، ليقوم هؤلاء بالمهمة المسماة بالمستحيلة فيجعلوها ممكنة بل حتمية التحقيق مع وعدٍ خالصٍ من الله في نصر من نَصَره وبَذَلَ المهج والأرواح في سبيله، فحملوا الرسالة واضعين نصب أعينهم إقامة دولة الإسلام، خلافة راشدة على منهاج النبوة، لتجسد حياة تسر ساكن الأرض ويتباهى بها ملائكة السماء.
إنها لحظة نتشوق لرؤياك فيها يا رمضان، وتتشوق أنت يقيناً للقيانا فيها، فتمكث معنا طويلاً آنذاك، حيث يتواصل الليل بالنهار، بالعمل والدعاء والعلم والجهاد والاجتهاد، في خير ما ينفع الخلق ويرضي الخالق، فنتعانق سويةً ونعيد لحظات التاريخ الساحرة لتفخر بنا من جديد وتعيد فتح سجلك لتدون فيه قبسات من نور الإسلام وعظم إنجازات المسلمين.
* نائب ممثل حزب التحرير المملكة المتحدة(/2)
أي منهج أسلم؟
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحابته ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين وبعد:
من الأسئلة التي تعرض، نص سؤال ورد إلي، ولعل مثله يتردد على غيري ولعل في بيان جوابه خيراً.
أرسل إلي أحدهم ما نصه: سمعت أن بعض المبتدعة في العقيدة يقولون: مذهب السلف أسلم، ومنهجنا أعلم و أحكم، والسؤال: هل تعلمون مصدر هذا القول في كتبهم أرجو الإحالة إلى اسم الكتاب _إن علمتموه_ و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
فآثرت أن أكتب شيئاً فيه جواب ما قال، وأبين فيه أن بعض الأدلة التي تشير إلى قول أهل الحق من أهل السنة والجماعة.
أما من يذكر أن منهج السلف أسلم، فبعضهم يريد أنه أسلم وأعلم، وهذا حق، فهؤلاء يعنون به أن غيرهم خرج عن طريق السلامة،
وآخرون يرون أن منهج السلف أسلم، ومنهج الخلف أعلم وأحكم، فعند هؤلاء أن الخلف عرفوا الشبهات وطرق ردها، وعرفوا طرق إثبات وجود الخالق وتفاصيل ذلك.
وهذا الباطل مذكور في كتب بعض المتأخرين منقول عنهم، ومن هؤلاء الشيخ جلال الدين المحلي في شرحه على جمع الجوامع، كما في حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع للسبكي.
ومنهم كذلك ابن أبي شريف، كما في رسالة الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني، تأليف علي الصعيدي العدوي.
ونحو هذا أيضاً يذكر عن البيجوري، وكذلك هو موجود في شرح سنن ابن ماجة ولعله من كلام الدهلوي.
وقد نسبه أهل العلم كالشوكاني وغيره إلى الخلف ورده.
والصواب أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، وأدلة ذلك كثيرة متضافرة، منها:
قول الله _تعالى_: "وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ َأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ".
فانظر كيف جعل المتبعين بإحسان للسابقين من أهل الرضوان، فهل يتبع الأعلم الدون! هذا لا يكون.
وقد قال الله _تعالى_: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" ومعلوم أن أول من يدخل في هذا صحابته _رضوان الله تعالى عليهم_ فأثبت لهم العلم.
وشهد لهم بذلك، فقال: "ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق" وأول هؤلاء الصدر الأول من الصحابة، بخلاف المنافقين، ولهذا قال _سبحانه_: "حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً".
ودلائل هذا فيما ثبت عن أفرادهم لا تحصر فهذا أبوبكر كما في حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ رقى المنبر، فقال: "إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله" فبكى أبو بكر، وقال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا. فعجبنا لبكائه أن يخبر النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن رجل خير، فكان المخير رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وكان أبو بكر أعلمنا به.
وكذلك ما ثبت في الصحيح من حديث الزهري، عن حمزة بن عبدالله عن أبيه عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "بينما أنا نائم إذا أتيتُ بقدح لبنٍ، فقيل لي: اشرب، فشربت منه، حتى إني لأرى الريّ يجري في أظفاري، ثم أعْطَيْتُ فَضْلتي عمر، قالوا: فما أولْتَ ذلك؟ قال: العلم". حتى قال ابن القيم: "ومن أبعد الأشياء أن يكون الصواب مع مَنْ خالفه في فتيا أو حكم لا يعلم أن أحداً من الصحابة خالفه فيه، وقد شهد له رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بهذه الشهادة". وقد نقل قبل قول عبدالله يعني ابن مسعود يرويه عنه أبو وائل: والله لو أن علم عمر وُضِعَ في كفة ميزان وجُعِل علم أهل الأرض في كفة لرجَحَ علم عمر، قال فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: قال عبد الله: والله إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم.
وكذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ «أنه وَضَع للنبي _صلى الله عليه وسلم_ وَضُوءاً، فقال: مَنْ وضع هذا؟ قالوا: ابن عباس، فقال: "اللهم فَقهِّهْ في الدين"» وقال عكرمة: ضمني إليه رسولُ الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال: "اللهم علمه الحكمة".
إلى غير ذلك ومن أراد التفصيل فليرجع لـ(إعلام الموقعين عن رب العالمين) للإمام ابن القيم.
فالمنهج الأسلم والأعلم والأحكم هو منهج خير القرون، منهج أهل السنة والجماعة، فاشدد قبضتيك عليه، وخذه جميعه بشموله جانب العلم والعمل؛ الأخلاق والمعاملات.(/1)
ومما يؤثر عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قوله: "أيها الناس ، من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفت، أولئك أصحاب محمد _صلى الله عليه وسلم_ كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم أختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ، فالدين الخالص الذي يرضى به الله هو ما كان عليه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وصحابته الكرام علماً وعملاً واعتقاداً".
ويقول ابن القيم –رحمه الله- عنهم: "تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذباً صافياً زلالاً، وأيّدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً".
وخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات فبعد
في المنهج (2): ماذا أفعل؟
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، وبعد:
إن كثيراً من الطيبين يتحرق لحال الأمة وما ألم بها، ثم هم بعد ذلك مذاهب، فمنهم من يكتفي بموقف المتفرج، وينظر ماذا فعل غيره وماذا لم يفعل، ومن فعل ومن لم يفعل، ثم يعمد إلى فتح جراب اللائمة الذي ناء به كاهله، ليقوم بتوزيعها يميناً وشمالاً؛ على الحكام تارة، وعلى العلماء أخرى، وعلى الدعاة ثالثة، وعلى التجار رابعة، ... حتى يخلو وفاضه، ثم يحمل جراب اللائمة على ظهره خفيفاً فارغاً متأسفاً على حال الأمة محوقلاً! ولم يفكر يوماً أن يحسب نفسه مع الملومين، أو أن يجعل لها قسطاً من أرتال اللوم. شأنه شأن جحا ينسى حماره من العد دائماً! حاله حال ذلك المتفرج على مباراة بين فريقين، ينتقد من أخطأ، ويشجع من أصاب، وربما تحمس وتفاعل بصدق حقاً، إلاّ أنه متفرج ليس من الفريق المسلم وليس من الفريق الكافر، وإن كان يشجع فريق المسلمين، الذي لا يعد في الحقيقة نفسه واحداً من أعضائه!
فهذا قسم وقسم آخر خير من هذا القسم يعلم أن عليه أن يشارك وأن يفعل شيئاً، ولكنه ينتظر من الآخرين التوجيه، أو التحريك والدفع، وربما استدعاه منادياً بأعلى صوته قائلاً: ماذا أفعل.. إنني على استعداد لبذل كل قطرة من دمي؟
وليست تلك مبالغة بل نص سؤال ورد إلي.
وهنالك أقسام أخرى، وما يهمني الوقوف يسيراً مع هذين، أما القسم الأول فحسبنا أن نقول له:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... ...
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... ...
كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا ... ...
أبداً وأنت من الرشاد عديم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... ...
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويهتدى ... ...
بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... ...
عار عليك إذا فعلت عظيم
رجاء ادخل الحلبة، أو انزل للميدان، وقف في صف المسلمين إن كنت من أهل الإسلام فإن الأمر يخصك أنت أنت!
أما الآخر الذي يسأل ماذا أفعل فجوابه باختصار أنت من تحدد ذلك!
أحبتي الكرام، إن الأمة تحتاج أبناءها العاملين في كافة مجالات الحياة، فلو حاول كل إنسان نفع الإسلام والمسلمين في تخصصه وما يتقنه لارتفع أمر الأمة.
الأمة تحتاج إلى من يصلحها ويربيها ويجعلها مهيأة لمواجهة الأعداء فضلاً عن رفض العملاء والمندسين والعلمانيين وعدم السماع لهم أو إعانتهم فما أتي المسلمون في أصقاع كثيرة من قبل من يحسبون على الإسلام ويعدون من أهل الوطن.
الأمة تحتاج الإعلام الإسلامي الذي يبين قضاياها ويدعو الغير إليه ويجلي الحقائق كما هي عليه في أرض الواقع.
الأمة تحتاج السياسي الذي يطرح قضايها ويحاور وينافح عنها وفقاً لمنهج الله وشرعه.
الأمة تحتاج المؤسسات الاقتصادية والمالية التي تمثل عصب الحياة الدنيا وزينتها.
الأمة تحتاج المهندس والطبيب، تحتاج الإداري والمحاسب، تحتاج التاجر والعامل.
الأمة تحتاج المجاهد المرابط الذي يتتبع الثغور ويحمي البيضة.
بل يكاد يكون ما من مجال من مجالات العمارة والخير إلاّ والأمة تحتاج إلى الحادبين من أبنائها فيه.
فانظر –أخي الكريم- ماذا تحسن وأي شيء تتقن فأنت أعلم بنفسك وقدّر ما يناسبك، ثم شاور أهل العلم والعقل والتجربة والنظر، ثم استعن بالله ولا تعجز ولا تتأخر فالأمة تنتظرك لتنهض بها في مجالك.
نفع الله بي وبك، وعظم الأجر لي ولك، وجعلني وإياك من العاملين الباذلين الذين يرفع الله بهم الدين ويعلي شأن المسلمين.
في المنهج(3): من على صواب أنتم أم...؟
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، وبعد أيها الأخ الكريم..
فأسأل الله رب جبريل وميكائيل فاطر السموات والأرض أن يهديني وإياك لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.(/2)
ثم اعلم أنه ما منا إلاّ راد ومردود عليه، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلاّ محمداً _صلى الله عليه وسلم_، وليس شرطاً أن يكون الحق كله مع فلان والآخر ليس معه من الحق نصيب، فقد يصيب أحدنا في بعض ويخطئ في بعض وهكذا الآخر.
وحسبنا أن ما نقوله وندعو إليه هو ما نعتقد صوابه ونعرف دليله، بل نرى أننا قد عايشنا واقع بعضه، فلم يخب ظننا، وشهدنا واقع مجتمعات أخرى وعرفنا كيف كانت النتائج فيها.
ومع ذلك نقول في كل مسألة ليست من ثوابت الدين أو أموره القطعية، رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأينا غيرنا خطأ يحتمل الصواب، فمن وجد الدليل ورأى أن الصواب في طريق آخر فليتبع الدليل فالحق مبتغانا أنى كان صاحبه، وهو مقصودنا وإن أخطأنا طريقه، فمن رأى الدليل فعليه به، فالأمر كما قال الله _تعالى_: "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ..." (الإسراء: من الآية13)، "وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ" (القصص:65).
وأما المخالف فلا يسعنا إلاّ أن نبين له الحق الذي نعتقد بدليله، فإن أبى إلاّ الخصومة والجدال في الدين، فلا يسعنا إلاّ أن نتمثل قول الله _تعالى_: "قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً" (الإسراء:84).. "وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (سبأ: من الآية24)، والسلام، فإن الوقت أنفس من أن يبذل لمجادل مشاكس، والبشرية ظمأى تطلب من يوصل إليها غيث الوحي، فالاشتغال بها أولى.
فمن أشكل عليه الأمر، أو دخل في حيرة ولم يستطع التبين، فوصيتنا له بأن يكثر من الدعاء بقلب حاضر عسى الله أن يهديه لما التبس عليه أو ما اختلف فيه من الحق. وقد كان من هدي نبينا –وهو المسدد المعصوم _صلى الله عليه وسلم_ سؤال الله الهداية إذا قام من الليل فيستفتح الصلاة، ويقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"[رواه مسلم]، وقد وعد الحق _سبحانه_ عباده، فقال: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" (العنكبوت: من الآية69).
ومثل هذا عليه أن يجد في طلب العلم، ويحرص على ما ينفعه، ويتبع أقوال العلماء الكبار الراسخين، والأئمة المرضيين، فيما أو من أشكل عليه أمره إلى أن يتبين له الحق.
وليعلم أن الجرح والثلب، لا يقبل من كل من هب ودب، وإنما أهله هم الأئمة الأعلام، لا الصغار والأغمار، فمن ولغ في أعراض الدعاة والعلماء من هؤلاء الصغار فكلامه أقل من أن تلتفت إليه أو تنظر إلاّ مشفقاً عليه من قول الديان _سبحانه_: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً" (الأحزاب:58)، وأما من ولغ في أعراض أهل العلم والدعاة من النظراء والأمثال، فقد قرر علماؤنا أن كلام الأقران في بعضهم يطوى ولا يروى، ثم الله حسيبهم، وقد قيل:
لِأَمرٍ ما تَصَرَّفَتِ اللَيالي ... ...
وَأَمرٍ ما تُوُلِّيَتِ النُجومُ
إلى الديان يوم الدين نمضي ... ...
وعند الله تجتمع الخصوم
سَتَعلَمُ في الحِسابِ إِذا اِلتَقَينا ... ...
غَداً عِندَ الإِلَهِ مَنِ المَلومُ
فإذا قيل: إن الحق ينبغي أن يقبل ممن جاء به أياً كان، قلنا هذا صواب، ولكن فرق بين الحق الذي ظهر دليله وبان برهانه، وبين التقول والغيبة والطعن في الأشخاص بحكم، بحجة الجرح والتعديل، ولاسيما من النظراء والأغمار، فرق بين هذا وبين التخطئة أو الإرشاد في مسألة علمية بالدليل، دون إنزال حكم على المخالف فيها بتكفير أو تبديع أو معصية، فإن إنزال هذه الأحكام شأن لا يتولاه قرين فضلاً عن غر لم يطر شاربه، بل ربما جهل أبجديات الدين التي يباشرها أو سوف يسأل عنها!
وفي الختام أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يهدنا وإياكم لصالح الأقوال والأعمال والنيات، ولما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
أيتام على مائدة الهيئة!
محمد العبدالكريم 21/3/1427
19/04/2006
أنا جرحٌ يمشي على قدميهِ وخيولي قد هدَّها الإعياءُ
فجراحُ الناس بعضُ جراحي وبصدري من الأسى أشياءُ
المواطن السعودي قصة طويلة، اختُتمت بغزوة مثيرة، بدأت في فبراير ولما تنته.
قد كنتُ أطمعُ أن أموتَ ولا أرى ... ...
فوق المنابر من أمية خاطبا
فالله أخر مدتي فتطاولت ... ...
حتى رأيتُ من الزمان عجائبا
قال لي صاحب عزيز: حدّد موقفك.
عدوك الهيئة أم الهوامير أم كلاهما؟ وإن خُيرت بينهما فمن تختار؟
قلت له: البعض ارتضى لصوصية بعض الهوامير مقابل جبروت الهيئة، ومن حقهم؛ فالمقارنة بين أخفّ الضررين.
أما أنا فلن أختار، لأن ضميراً مستتراً ولغزاً محيراً يتوراى خلف حجاب
يجلس في السرداب.
ينتظر الساعة.
والساعة كانت مسلخاً بلون الدم!
في سوقنا يا صاحبي لا تدري أين المفر؟ كأنما جمع الشمس فيه والظلام، مرة يضيء، ومرة يتيه في بحر لجيّ، والصمت يطوق المكان.
ولماذا الصمت؟
الصمت ثقافتنا، وأسلوبنا في حياتنا، لا نستغني عنه، فهو قدرنا، وقد استَسْمنّا وهماً حتمياً أن كل بديل لا بد أن يكون أسوأ من "أيدلوجيا" الصمت، فلنسكت عن حقوقنا؛ لأننا جربنا رفع رؤوسنا، فقيل لنا: اسمع وأطع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك!!
جربنا يا صاحبي، فرأينا الهيئة:
تقتلُ كلَّ يوم واحداً منا ... ...
وتبحثُ كلَّ يومٍ عن ضحية
قد تختلف أسباب الصمت
فساكت لأجل الشرهة السنوية!
وآخر لأجل الثقافة الشعبية: السلامة لا يعدلها شيء.
وآخرون لأن الصمت يحفظ لهم منصبهم وعافيتهم، ويحقق لهم عائداً سنوياً، فمصلحة السكوت مقدمة على المصالح العامة!!
لكن مهما تعددت الأسباب، فالجميع مصر على الصمت إلى أجل غير محدود.
وهكذا تسير عجلة الحياة في مجتمعنا وجامعاتنا ومستشفياتنا... سيرة مملة، الكل يحذر وجميعهم يخافون، ولشدة الحذر تَمنَّع الإبداع، وتأخر الإنتاج، وغابت أكثر القيم؛ فهي معطلة لا تحضر؛ لأنها غير قابلة للنمو في ظروف كتلك، بل صار كل شيء يدخله التعقيد.
وما الشكوى من البيروقراطية، إلا دليل على وجود خطأ معرفي يسكن في ثقافتنا، فهي اللاعب الأساس في كل منشط حكومي، وهي نتاج للقمع الإداري وتحول القيمة والمبدأ إلى غايات دنيئة.
إذاً لا غرابة أن يُعتقل نصف الشعب السعودي داخل قانون الهيئة!
لا غرابة أن تُهندس القوانين وتُصمم لحماية القلة وإهمال حقوق الكثرة.
أما من يتغنى بقانون الهيئة أو إنجازاتها فقد أجيبهم بأن
القنابل عبقري صاغها
صدقوا.. ولكنه عبقري سافل
لم يعد للهيئة حظ ولا حضور جماهيري، إلا في قلب مكابر جبار، ، فمن الذي يطيق الصبر على قانونها إلا مخادع لضميره مكذّب لفطرته، وفي المثل: من استُغضب فلم يغضب فهو حمار.
المؤسف أن كل المطالب لإقالتها واستبدالها بقانون يحفظ الكرامة، ويقدم النظر الشرعي المصلحي العام لا يُؤبه لها، وليس هناك تعامل على أساس إنساني مبدئي، وهنا مكمن من مكامن الغرابة؛ فراية الشريعة التي تُرفع في كل مناسبة وبدون مناسبة تحولت بقانون الهيئة إلى شعار، حيث الإضرار العام، والمصالح الخاصة!!
قانون الشريعة: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، وقانون الهيئة يصنع البؤس الشقاء بمعدل عشرة بالمائة يومياً!
أتمنى ولو مرة واحدة أن تحرك المطالب الشعبية الخائفة!حسّ المسؤول.
نتمنى أن المطالب الشعبية تكون سبباً حقيقاً في تغيير تلك الوجوه البلهاء التي تجيب عن الأسئلة المختلفة بجواب واحد، وترى نفسها في مقام من لا يظهر! ولا يُسأل عما يفعل والناس يُسألون.
معذرة يا صاحب القرار؛ فحبل الفجيعة ملتف على رقبة عشرة ملايين مستثمر، فلا تعتب على مشنوق إذا اضطربا.
معذرة يا صاحب القرار؛ فعند الهيئة سيوف أطول من قاماته،ا وصراخ أضخم من أصواتها يلبسون قشرة الحضارة والروح جاهلية!
يطاولون الكبار ويضحّون بالصغار، والأمر في غاية الصعوبة، بل يحتاج إلى هدنة طويلة الأجل مع مجرمي السوق، وفي شريعتنا يجوز أن ندفع المال للكفار ليكفوا شرّهم عنا، فهل لدى هيئتكم ومن كتب لها قانونها، عمق شرعي للدلالات الشرعية؟
معذرة أنتم من صنع الهيئة، ومهما يكن عليها من مسؤولية، فلن تتحمل أكثر من مسؤوليتكم عن كل مسؤول معيار تنصيبه ولاؤه، وليست خبرته حتى صار بلداً أسوأ من أسوأ برميل قمامة كما يقول علي الصراف.
لن نُحمّل الهيئة مسؤولية زائدة، وإن كنا نطلب منها أن تستعجل الرحيل، فقد طفح الكيل وآن لها أن تسمع قولاً ثقيلا.
نحن لا نجهل من هي؛ فقد غسلناكم جميعاً وعصرناكم .. وجفّفنا الغسيلا.
نحن نرجو كل مَن فيه بقايا خجل .. أن يستقيلا
نحن لا نسألُكم إلا الرحيلا
وعلى رغم القباحات التي خلفتموها
سوف لن ننسى لكم هذا الجميلا
ارحلوا
أم تحسبون الله لم يخلق لنا عنكم بديلا؟!
أيُّ إعجاز لديكم؟
هل من الصعب على أي امرئ .. أن يلبس العارَ
وأن يصبحَ للجهل عميلا؟!
أيُّ إنجاز لديكم؟
هل من الصعب على القرد إذا ملك المدفع أن يقتل فيلا؟!(/1)
ما افتخار اللص بالسلب
وما ميزة من يلبد بالدرب ليغتال القتيلا؟!
توقيع:
العصافير التي تحترف الحرية تموت خارج الأوطان(/2)
أين أنت عندما تنشر الصحف ؟
أخيتي ... الغالية:
عدنا لنكمل رحلتنا سويًا إلى دار القرار، بعد أن توقفنا في المرة السابقة عند مشهد الحساب الذي يتميز فيه الناس إلى ثلاثة أصناف، فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب، ومنهم من يحاسب حسابا يسيرا، ومنهم أصحاب الحساب العسير عياذا بالله.
ولأنه سبحانه لا يظلم أحدا، فلابد أن يتم حجته على خلقه، فيرى كل إنسان مغبة ما قدمت يداه في الدنيا بأم عينه يوم القيامة، وهنا يأتي مشهد تطاير الصحف, إنه ذلك المشهد الذي لا يذكر فيه أحد أحدًا، ولا يفكر في خَل خليله.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكرت النار فبكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[[ ما يبكيك؟]] قلت: ذكرت النار، فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال [ أما في ثلاثة مواطن، فلا يذكر أحد أحدًا:
عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه, في يمينه, أم في شماله من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوز ]] [1].
ولك أخيتي الحبيبة: أن تتخيلي هذه الصحيفة أو هذا الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فإن كنت أخيتي من أهل السعادة ممن رضي الله عنهم في الدنيا والآخرة، أعطاك الله كتابك بيمينك وأظهر لك في ظاهر الكتاب الحسنات وفي باطنه السيئات.
ثم يأمرك الله أن تبدئي في القراءة، فتقرئين السيئات، فيصفر لونك، ويتغير وجهط، وترتعد فرائصك، فإذا أنهيت قراءة السيئات، وجدت في آخر الكتاب، هذه سيئاتك قد غفرتها لك؛ فيتهلل وجهك، ونسعدين سعادة لا تشقين بعدها أبدًا.
ثم تواصلين القراءة، حتى إذا وصلت إلى آخر الكتاب؛ قرأت الحسنات؛ فازداد وجهك إشراقًا، وازداد فرحًا وسرورًا، وقال لك الملك جل جلاله: انطلقي إلى أخواتك -أي من أهل التوحيد والإيمان- فبشريهم أن لهن مثل ما رأيت، فتنطلقين أيتها الغالية، وكتابك بيمينك، والنور يشرق من وجهك، تقولين لأخواتك المؤمنات: ألا تعرفنني؟! فيقولون: من أنت؟ لقد غمرتك كرامة الله!! فتقولين: أنا فلانة بنت فلان، انظروا هذا كتابي بيميني.
اقرأوا هذا الكتاب معي، شاركوني الفرحة والسعادة، انظروا هذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذه زكاتي، وهذه صدقتي، وهذا حجي، وهذا قيامي لليل، وهذا بري بوالدي، وهذا إحساني للأهل والجيران، وهذا أمري بالمعروف، وهذا نهيي عن المنكر، وهذا بعدي عن الغيبة والنميمة، وهذا بعدى عن ظلم العباد.
وهذا حجابي، وهذا حيائي، وهذه طاعتي لزوجي، وهذه تربيتي لأبنائي في سبيل الله، وهذا، وهذا، وهذا ...
[[فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ [19]إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ [20]فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ [21]فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [22]قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [23]كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ]] [الحاقة:24:21].
أما إن كانت المرأة من أهل الشقاوة، ممن غضب الله عليهم في الدنيا والآخرة، ينادى عليها: أين فلانة بنت فلان؟ هلم إلى العرض على الله جل وعلا، فنتخطى الصفوف؛ لترى نفسها بين يدي الله تعالى، فتعطى كتابها بشمالها، أو من وراء ظهرها.
فتقرأ؛ فيسود وجهها، ثم تكسى من سرابيل القطران، ويقال لها: انطلقي إلى من هم على شاكلتك؛ فبشريهم أن لهم مثل ما رأيت.
فتنطلق في أرض المحشر، وقد اسود وجهها وعلاه الخزي والذل والعار, وكتابها بشمالها أو من وراء ظهرها، فتقول: لمن هم على شاكلتها، ألا تعرفنني؟! فيقولون: لا، إلا أننا نرى ما بك من الخزي والذل فمن أنت؟!!
فتقول: أنا فلانة بنت فلان، وهذا كتابي بشمالي، ولكل واحدة منكم مثل هذا، فلقد شقيت شقاوة لا تسعد بعدها أبدًا، ثم تصرخ بأعلى صوته، وتقول كما حكى الله تعالى لنا:
[[وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ [25] وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ [26] يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [27] مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ [28] هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ [ 29] خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [ 30] ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [ 31] ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [32] إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [33] وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [34] فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ [ 35] وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [36] لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ ]][الحاقة: 25- 37]
تخيلي أخيتي أنك في هذا المشهد العظيم, ترى من أي الفريقين سوف تكوني؟!ممن تنادى وهو فرحة فخورة [[هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ]] أم ممن تعض على أصابعها من الندم والخزي والعار، تقول [[يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ]].
لحظة الحقيقة:(/1)
ثم تأتي بعد ذلك اللحظة الحاسمة، اللحظة التي يدرك الإنسان فيه حقيقة مصيره عند الله جل وعلا، وحقيقة وزنه الفعلي في الدنيا والآخرة.
إنها لحظة تقرير المصير النهائي لكل إنسان، فيعلم فيها أي الفريقين فريقه؟ وأي الدارين داره؟!
والوزن بالقسط فلا ظلم ولا يؤخذ عبد بسوى ما عملا
فبين ناج راجح ميزانه ومسرف أوبقه عدوانه
ففي ختام ذلك اليوم ينصب الميزان، لوزن أعمال العباد، فإنه [ إذا انقضى الحساب؛ كان بعده وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها ] [2].
إنه ميزان حقيقي، له كفتان، لكن ليس كموازين الدنيا، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: [[يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك ]] [3].
وهو ميزان دقيق، لا يزيد ولا ينقص:
[[وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ]] [الأنبياء : 47].
فيالها من لحظة رهيبة، تلك التي يعلم الإنسان فيها نهاية مصيره، فإما فلاح دائم، وإما خسران دائم.
قال جل وعلا: [[ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ[101] فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [102] وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [103] تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ]] [المؤمنون: 101 – 104].
انظري أخيتي إلى دقة عدل الله تعالى، من ثقل ميزانها -ولو بحسنة واحدة- سعدت سعادة لا شقاوة بعدها أبدًا، ومن خف ميزانها -ولو بسيئة واحدة- شقيت شقاوة، لا سعادة بعدها أبدًا.
وكوني حذرة أخيتي، ولا تستهيني بصغار الذنوب ظنًا أنها لا تأثير لها، فربما بكلمة واحدة حرام, أو نظرة واحدة حرام, أو أصغر من ذلك بكثير, يكون سبب في خفة الميزان ثم الشقاوة.
أما من استوت موازينها -أي: استوت حسناتها مع سيئاتها-؛ فهي من أهل الأعراف، الذين قصرت بهم سيئاتهم؛ فلم يدخلوا الجنة، ومنعتهم حسناتهم من أن يدخلوا النار، يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فإذا التفتوا إلى أهل الجنة سلموا عليهم:
[[سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ]] [الأعراف : 46]
أي: لم يدخل أهل الأعراف الجنة وهم يرجون رحمة الله، ويطمعون أن يدخلوا دار النعيم، وإذا التفتوا إلى الناحية الأخرى، ورأوا أهل الجحيم؛ تضرعوا إلى الرحمن الرحيم ألا يجعلهم مع القوم الظالمين.
قال جل وعلا: [[وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [46] وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]] [الأعراف: 46 – 47].
فكيف يحتقر أحدنا بعد ذلك حسنة مهما بدت صغيرة، وكيف يتهاون بمعصية مهما بدت صغيرة، فبحسنة واحدة يثقل الميزان، وبسيئة واحدة يخف الميزان, بل بكلمة واحدة قد تنال من الله الرضوان، وبأخرى قد تنال منه السخط والحرمان، كما قال صلى الله عليه وسلم:
[[ إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا، يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا، فيهوي بها في جهنم ]] [4]، ومن ثم فقد قال صلى الله عليه وسلم: [[ اتقوا النار ولو بشق تمرة]] [5]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
هزة الإيمان: فريد مناع.
[1] صححه الألباني في صحيح الجامع [ 1245].
[2] التذكرة للقرطبي، ص69.
[3] صححه الألباني.
[4] رواه البخاري كتاب الرقائق، باب حفظ اللسان [6478].
[5] رواه البخاري كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة [1328].(/2)
أين الثقة بالنفس ؟
قالت إحدى الفتيات:
هكذا حالي سريعة التسليم بالهزيمة، دائمًا أخاطب نفسي [لن أستطيع أن أكمل] هكذا يكون ردي إذا بدأت محاولة في المذاكرة واتخاذ قرار التفوق، على الرغم أني متأكدة أنني أستطيع ذلك، فكل قدراتي تقول هذا، ومهما شجعني من حولي فإنني أتقدم قليلاً ثم أجد نفسي مكفهرة ألقي ما في يدي صارخة [لا لن أستطيع] ترى ما الذي يمنعني من التقدم ؟ , إنه الشعور بالنقص الذي يجعل لدي دائمًا إحساسًا بالخوف من عدم النجاح إنه الشعور بعدم الثقة في النفس.
عزيزتي الفتاة الدارسة:
إن الثقة هي طريق النجاح، والناجح لا بد أن يتمتع بالثقة في النفس، وإن الوقوع تحت وطأة الشعور بالسلبية والتردد وعدم الاطمئنان للإمكانات هو بداية الفشل إن الهزيمة النفسية هي بداية الفشل بل هي سهم مسموم إن أصابت الإنسان أردته قتيلاً والسؤال الآن: ما هي الثقة بالنفس ؟
يقول جوردون بايرون: [[ إن الثقة بالنفس هي الاعتقاد في النفس والركون إليها والإيمان بها ]]
وأوضح من هذا تعريف د/ أكرم رضا: [[ هي إيمان الإنسان لا نعني الغرور أو الغطرسة، وإنما هي نوع من الاطئمنان المدروس إلى إمكانية تحقيق النجاح والحصول على ما يريده الإنسان من أهداف، فالمقصد من الثقة بالنفس هو الثقة بوجود الإمكانات والأسباب التي أعطاها الله للإنسان، فهذه ثقة محمودة وينبغي أن يتربى عليها الفرد ليصبح قوى الشخصية , أما عدم تعرفه على ما معه من إمكانات ومن ثم عدم ثقته في وجودها فإن ذلك من شأنه أن ينشأه فردًا مهزوز الشخصية لا يقدر على اتخاذ قرار، فشخص حباء الله ذكاء لكنه لا يثق في وجود لديه، فلا شك أنه لن يحاول استخدامه ]].
ولكن ينبغي مع ذلك أن يعتقد الواثق بنفسه أن هذه الإمكانات إنما هي نعم الله تعالى وأن فاعليتها إنما هي مرهونة بعون الله وتوفيق للعبد، وبذلك ينجو الإنسان الواثق بنفسه من شرك الغطرسة والغرور.
واستمعي إلى قول سليمان عليه السلام لما سمع النملة تقول لبني جنسها: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18].
فماذا كان رده عليه السلام ؟ {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] , فمع ثقته بنفسه وبما حباه الله عز وجل من ملك وإمكانات وقدره على فهم لغة الحيوانات إلا أنه عليه السلام لم ينسى أن ينسب كل ذلك إلى محض فضل الله ومنه.
ثمرات الثقة بالنفس:
1ـ الثقة بالنفس تشعرك بأن حياتك متميزة عن حياة الآخرين.
2ـ تجعلك مدركة تمامًا لإمكانات وقدراتك ونقاط القوة ونقاط الضعف فيك فتدفعك إلى الإنطلاق.
3ـ تدفعك لاتخاذ القدوة واختيار النموذج المناسب لك في الحياة دون تقليد أعمى، وهذه خطوة ضرورية لتحقيق النجاح والتميز في الحياة.
4ـ الثقة بالنفس هي التي توضع لك هدفك وتدفعك إلى الوصول إليه.
5ـ تنتشلك من براثن العجز والسلبية والهزيمة النفسية التي هي السبب الأساس في الهزيمة، فإن الهزيمة النفسية كانت السبب الأساس في انهزام الجيوش العسكرية.
وهذا الربعي بن عامر لما أرسله سعد بن أبي وقاص ليفاوض قائد الفرس رستم دخل ربعي بثيابه الرثة ورمحه وبغلته على رستم في إيوانه وبين حراسه وجنده، ودارت مفاوضات قذفت الرعب في قلب رستم وكانت بداية لهزيمة الفرس إذ سأل رستم ربعيًا فقال له: ما الذي جاء بكم؟ فقال ربعي بكل ثقة: [[إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة]] فخاف رستم وأيقن أنه لن يستطيع أن يكسب الجولة مع هذا الصنف من البشر. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: [[ونصرت بالرعب مسيرة شهر]].
لم لا أحاول؟
فبدلاً من أن تستمعي لمن يقول لك إنك لن تستطيعي، عليك أن تسمعيها لم لا أحاول ؟ استخدمي فرشاتك في تلوين لوحتك، ولا تدعي أحدًا يلونها لك فغالب الناس لا يكون عنده إلا اللون الأسود القاتم، وإذا كنت تخافين كلام الناس عنك إذا فشلت فلم لا تحاولين النجاح ؟
العمل المباشر:
إذا كانت ثقتك بنفسك ضعيفة فاجعلي العمل دافعًا مباشرًا يؤدي إلى استعادتها، وهذا واقع حي في حياة كثير من المشاهير فهذا ثيودر روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأسبق اشتهر بأنه من أشهر الرماة وأشهر المغامرين في عالم الصيد في عصره، كل هذا بعين واحدة فقد كان أعور , كذلك أبو العلاء المعري أصبح من أبرع الأدباء والشعراء مع أنه كان أعمى , وابن خلدون الذي فقد أسرته فما أقعده هذا أن يكتب أعظم مؤلف في علم الاجتماع.(/1)
فإذا كان هؤلاء من أصحاب هم الدنيا قد تحدوا ظروفهم، واجتهدوا للعمل الدائب المباشر من أجل تحقيق النجاح فما بالكِ وأنت مسلمة صاحبة رسالة وتحملين هم الآخرة، أفلا تواصلين الليل بالنهار في عمل دائب حثيث من أجل تحقيق النجاح لتستعيدين ثقتك في نفسك لتخدمي بها أمتك ودينك ؟ , أما تستطيعين ذلك وأنت تسمعين دعاء نبيك صلى الله عليه وسلم: [[وأعوذ بك من العجز والكسل]].(/2)
أين الخلل وما العمل 3
بسم الله الرحمن الرحيم
أين الخلل وما العمل
( مجموعة مقالات )
3- ضعف القدرة على إيجاد البدائل الإسلامية المناسبة
هذا خلل ثالث وقع فيه المسلمون وازدادوا بسبب ذلك تخبطا فوق تخبطهم.
فبعد هذا التطور الكبير والثورة الصناعية أصبح المجتمع الإسلامي مجتمعا مستهلكا أكثر من كونه منتجا وبالتالي دخل في مجال التبعية بشتى أشكالها وأنواعها ومن المعروف أن الاقتصاد هو الذي يحدد كثيرا من سياسات الدول .
والمسلمون لن يخرجوا من هذه التبعية إلا إذا استطاعوا أن يلغوا هذه التبعية بشتى أنواعها وذلك عن طريق إيجاد البدائل الإسلامية المناسبة وفي كل المجالات .
فمن الميزات الكثيرة التي يتمتع بها الإسلام أنه لم يأت على مشكلة إلا ويفندها ويضع لها الحلول فهو لم يكتف بطرح المشكلة فقط بل كان له في معالجة المشكلة خطوات مهمة
1- التعريف بالمشكلة وأبعادها . 2- تفنيد هذه المشكلة ومسبباتها. 3- طرح الحل والبديل المناسب لهذه المشكلة .
والخطأ الكبير الذي وقع به المسلمون أنهم كانوا يعرضون المشكلة دون التطرق إلى أسبابها المختلفة ودون التطرق إلى البديل المناسب لهذا الأمر أو ذاك .والإسلام علمنا أن نتعامل مع كل مشكلة تطرأ على أساس من المناقشة والحوار لإيجاد بديل مناسب وحل مناسب لهذه المشكلة فمثلا الرسول الكريم عليه السلام عندما جاءه رجل يشكو الفقر تعامل مع هذا الأمر على أنه مشكلة لابد لها من حل وليس مجرد إنسان يحتاج إلى قوت يقوته
نظر فوجد أن مشكلة الفقر لا تحل إلا بتضافر عوامل وهي :
نية الرجل للعمل ووجود أداة يعمل بها وفترة زمنية .
وبهذه النظرة النبوية أوجد النبي عليه السلام حلا لهذه المشكلة ولم يكتف بطرح المشكلة.
إن عدم قدرة المسلمين على إيجاد البدائل الإسلامية أفرز أخطاء كثيرة وكثيرة ما زلنا نعاني منها حتى الآن منها :
1- استمرار الفقر في المجتمع المسلم : مع أن الإسلام وعد بالغنى فأخبرنا بأنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وحث على العمل في مواضع كثيرة كقوله عليه السلام "اليد العليا خير من اليد السفلى" لكن المجتمع المسلم ما زال يعاني من الفقر وذلك لأسباب عديدة منها عدم القدرة على إيجاد بدائل وآليات جديدة .
فمن ذلك مثلا الزكاة فالزكاة كفيلة بالقضاء على الفقر في المجتمع المسلم لو أنها وزعت بآليات جديدة غير الآليات السلبية التي توزع بها اليوم فمن الخطأ في آليات توزيع الزكاة هو تفتيت الكمية الكبيرة من الزكاة إلى أجزاء صغيرة بحيث تضيع قيمتها الاقتصادية والشرائية وبالتالي فالإنسان الفقير الآخذ للزكاة لن تقيم هذه الزكاة أوده إلا أياما معدودة ويقعد كامل العام وهو لا يدري ما يفعل وأفضل الحلول أن يجتمع عدد من التجار في محلة واحدة وأن يجمعوا زكاتهم ويعطوها لشخص واحد على أن يقوم هذا الشخص بتنميتها وبالنتيجة يصبح هذا الشخص قادرا على دفع الزكاة بعد عامين على الأقل إن الدراسة الإحصائية والاقتصادية لمثل هذا الأمر ستؤدي إلى تخفيف نسبة الفقر من 10% إلى حاولي 50 % خلال عشر سنوات .
2- إدخال قوانين أجنبية إلى البلاد الإسلامية :
لقد ظلم كثير من المسلمين الإسلام بعبارات عديدة وكثيرة ومن هذه العبارات التي لاقت رواجا عبارة إغلاق باب الاجتهاد
وهي أخطر كلمة جابهت المسلمين حيث إن هذه الكلمة تعني " أننا نحن المسلمين غير قادرين على إيجاد الحلول للمشاكل الجديدة وعلى غيرنا أن يقوم بحلها "
وهذا ما جعل كثيرا من القوانين الأجنبية تدخل البلاد الإسلامية
ومن ذلك ما حصل في الدولة العثمانية حيث استنجد السلطان العثماني بأشياخ السلطنة لحل بعض المشاكل العالقة في أراضي السلطنة لكن أشياخ السلطنة كانوا قد تشددوا في المذهب الحنفي ولم يرضوا أن ينتقلوا إلى اجتهاد آخر مما جعل السلطان يغضب ويطلب من خبراء فرنسيين حل هذه المشكلة بقانون فرنسي ما زال يعمل به حتى الآن في بعض البلاد الإسلامية .
وبالتالي فإن أصعب ما يواجهه المسلمون اليوم هو عدم القدرة على إيجاد بدائل مختلفة إسلامية لحل كثير من المشاكل.
3 - الفشل في التربية:
وهذه طامة أخرى وقع بها المسلمون نتيجة عدم وجود البدائل الإسلامية المناسبة
فبدلا من أن تكون تربيتنا لأولادنا نابعة من الإسلام ولها هدف إسلامي واضح تركنا تربيتهم للظروف المحيطة وللعوامل المختلفة الواردة علينا من شتى أقطار العالم
وأبسط مثال على ذلك هو هذا الكم الهائل من الرسوم المتحركة التي يشاهدها أطفالنا و التي قد صنعت بأيد غربية وربما حاقدة على الإسلام ونتيجة لهذا الأمر تجد كثيرا من التصرفات التي يتصرفها الأطفال عن تقليد لهذه الأفلام المتحركة تخالف معتقداتنا السمحة وربما لا ينتبه كثير من الآباء لهذا الأمر مع العلم أن الطفل يشكل 70% من معارفه وأساسياته خلال السنوات السبع الأولى من عمره(/1)
ولعل هناك مشاكل كثيرة في هذا الباب لم نأت على ذكرها لكن الذي يجب أن نعلمه هو أن إيجاد البدائل الإسلامية مهمة كل مسلم على المستوى الفردي والجماعي وإننا إذا لم نحقق هذه البدائل المختلفة فسنبقى في ظل التبعية وينطبق علينا قوله عليه السلام :" لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه " البخاري
والحمد لله رب العالمين
م. عبد اللطيف البريجاوي(/2)
أين الخلل وما العمل 4
( مجموعة مقالات )
4 - السقوط في التبرير
م. عبد اللطيف البريجاوي
</TD
هذا خلل من نوع آخر وقع فيه المسلمون وازدادوا بسبب ذلك تخبطا فوق تخبطهم .إنه السقوط في التبرير وعدم الجرأة على مراجعة الأخطاء وهذه صفة لا زمت بني إسرائيل في كثير من تصرفاتهم فقال الله عنهم في سورة الأعراف " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون " (163) الأعراف
قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية " ... وأن إبليس أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت, فاتخذوا الحياض; فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها, فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء, فيأخذونها يوم الأحد ..".
فطريقة الاعتداء كانت هي عبارة عن تبرير لهم واقتنعوا وأقنعوا أنفسهم بهذا التبرير فكان جزاؤهم أن مسخهم الله قردة وخنازير قال تعالى :
" ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" (65) البقرة
إنها عقوبة من الله لم يعاقب بها قوم غيرهم وذلك لأنهم اعتدوا وبرروا لأنفسهم ما نهاهم الله عنه
إن هذه الصفة لم تقتصر على بني إسرائيل فقط بل و يا للأسف الشديد تعدت هذه الصفة وغيرها إلى كثير من المسلمين فوقعوا بها
إن سقوط المسلمين في عقلية التبرير جعل كثيرا من الأخطاء تتراكب وتتواكب لتشكل حملا ثقيلا على صدر الأمة لا يزاح إلا بالاقتناع الكامل بضرورة الجرأة على مراجعة أخطاء الماضي ونفي عقلية التبرير والخروج من هذا الكبرياء المزيف .
لقد كان من ميزة الأخيار في هذه الأمة الأخذ بالأمر دون التبرير والسقوط فيه
فالصحابة رضوان الله عليه كانت ميزاتهم كثيرة ومن هذه الميزات أنهم لم يبرروا لأنفسهم خطأ ارتكبوه بل كانوا يسارعون إلى تصويب الخطأ وفق الخيارات الصحيحة
فمن ذلك مثلا قصة كعب بن مالك ورفيقاه الذين لم يبرروا لأنفسهم ما ارتكبوه من تقصير في عدم خروجهم إلى غزوة تبوك مع النبي عليه السلام كما فعل غيرهم من المنافقين بل واجهوا الخطأ واعترفوا به وسعوا إلى إزالته بالطرق الشرعية حتى تاب الله عليهم وكانت النتيجة لهذه الجرأة قرآنا يذكر قصتهم وتوبة الله عليهم إلى يوم الدين
ويوم وقف السلطان عبد الحميد رحمه الله رافضا كل الرفض أن يسمح لليهود بالدخول إلى فلسطين ( ومن كان يمنعه وهو خليفة المسلمين وكانت الضغوطات الأجنبية على أوجها والضعف في بلاده يستفحل) فكان بإمكانه أن يوافق متذرعا بتبريرات مختلفة لكنه وقف وقفة البطل الأوحد في ساحات الوغى ولم يسمح لعقلية التبرير أن تدخل إلى خلافته ودفع بذلك ما دفعه ! والحياة مواقف !!.
لكن الكثير من المسلمين اليوم وقعوا في عقلية التبرير ولم يقتصر الأمر على الأفراد بل تعداه إلى الشعوب والدول
فعلى صعيد الأفراد مثلا ترى كثيرا من الناس يتذرعون لأتفه الأسباب ويتحججون بضائقة مادية ( حقيقية أو وهمية ) ليمدوا أ يدهم إلى الربا والرشوة بحجة عدم القدرة على الإنفاق ويبررون لأنفسهم ما حرمه الله
وعلى صعيد الدول ترى الكثير من الدول الإسلامية تبرر لنفسها بطريقة أو بأخرى التعامل مع ألد أعداء المسلمين بحجة المصالح واختلال ميزان القوى وغير ذلك
إن عقلية التبرير من أخطر ما يصاب به العقل المسلم من مرض فهي عقلية المصلحة وعقلية المنافع الآنية لا تأبه بالضوابط ولا بالقيم
ومن أهم الأسئلة التي يمكن أن تطرح على بساط البحث لماذا يقع الإنسان عموما والمسلم خصوصا في عقلية التبرير ؟؟
الحقيقة أن هناك أسبابا كثيرة منها :
1- الكبر : وهو من أول الأسباب وأهمها التي تجعل عقلية التبرير تتسرب إلى عقل الإنسان المسلم فهو يرى نفسه أنه أكبر من أن يتراجع عن خطأ ارتكبه وأن الحق في جانبه وأنه لا يقول إلا حقا وأن غيره دائما على خطأ وقد عرف النبي عليه السلام الكبر فقال : "الْكِبْرَ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ وَغَمَطَ النَّاسَ " أبو داود قال النووي : بطر الحق هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا ( وغمط الناس ) : أي استحقارهم وتعييبهم " .
2 – حب الدنيا : وهو من الأسباب المهمة في عقلية التبرير فالذين لم يذهبوا مع رسول الله إلى غزوة تبوك جعلوا يتذرعون الحجج الواهية لأنفسهم وللناس لتبرير هذا التقصير لكن كعبا وضح ذلك قائلا " .. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه .."
فكان حب الدنيا سببا مهما من أسباب السقوط في هذه العقلية .
3 – الجهل : وهو آفة في كل الحالات والأوقات فمن لا يعرف الخير من الشر والحق من الباطل تلتبس عليه الأمور ويدخل في حيزات كبيرة من عقلية التبرير .
إن عقلية التبرير من أخطر ما يصيب الأفراد والدول والشعوب وإن بني اسرائيل لما سقطوا في عقلية التبرير مسخهم الله إلى قردة وخنازير(/1)
والمسلمون لما سقطوا في هذه العقلية عوقبوا بعقوبة المسخ ولكن ليس إلى قردة وخنازير تكرمة لهذه الأمة ولكنها عقوبة المسخ بين الأمم حتى أصبحوا أمة ممزقة لا سيادة لها ,لا يهاب لها جانب ولا تستشار في أمر من أمورها .
ومن المهم أن نؤكد على نقطة بالغة الأهمية وهي أن عقلية التبرير ليست هي عقلية الاستراتيجية الإسلامية التي تختار الأنسب من بين كل الاحتمالات بل هي تلك العقلية التي تفعل الخطأ عيانا وجهارا ثم تأبى أن تعود عنه متذرعة بحجج واهية وأسباب بالية وللحديث بقية والله ولي التوفيق(/2)
أين الخلل وما العمل
( مجموعة مقالات )
5 - التقييم السطحي للأحداث
م. عبد اللطيف البريجاوي
هذا خلل من نوع لآخر إنه السذاجة والبساطة في تقييم الأحداث التي جرت أو التي تجري دون القراءة المبصرة والواعية لهذه الأحداث مما يجعل الرؤية لدينا ضبابية وغير واضحة ويبنى على ذلك كثير من الاستراتيجيات المختلفة والتي تكون غالبا فاشلة بسبب هذا التقييم السطحي .
إن العقلية الإسلامية - على الرغم من كونها تحاسب الناس عل ظاهر الأمر وتكل السرائر إلى الله – إلا أنها كانت عقلية تنظر إلى الأحداث بعمق يستوعب الحدث بكل أبعاده منطلقا ومستقرا وأهدافا و وثمارا وكانت تحول هذه النظرة العميقة للأحداث إلى نظرة تستفيد منها خلا ل مراحلها القادمة .
ولقد علمنا القرآن الكريم أن تكون نظرتنا للأحداث الجارية والسابقة والتي سوف تأتي ذات نظرة عميقة وليست سطحية فعندما وصف القرآن الكريم الكلمة الطيبة بقوله تعالى :
" ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء(24) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون " (25)إبراهيم
تكلم لنا عن عمق هذه الكلمة فتكلم عن :
1- الأصل : " أصلها ثابت "
2- الهدف : " وفرعها في السماء "
3 - النتائج والثمار: " تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها "
وهذه قاعدة ذهبية في تقييم الأحداث والأمور " أن نبحث في أصلها وجهتها وأهدافها " .
و علمتنا السنة كذلك أن ننظر بعمق إلى الأحداث ولا نكتفي بالنظرة السطحية فمثلا لما وقعت مشكلة بين الأنصار والمهاجرين في إحدى الغزوات كما يروي البخاري وغيره عن جابر رضي الله عنه قال : ( كنا في غزاة فكسع (أي ضرب ) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ما بال دعوى الجاهلية " قالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال: " دعوها فإنها منتنة "
فلم تكن نظرة النبي إلى هذا الحدث الخطير نظرة سطحية بسيطة ( أن الأمر هو رجل ضرب رجلا وانتهى الأمر ) لكنه نظر إلى هذا الأمر نظرة عميقة وتحليلية مما استدعى تدخله المباشر والسريع لحسم الأمر
لقد كانت نظرة النبي عميقة جدا إلى أبعد ما يمكن أن تصور و يتضح ذلك من تحليل هذه الحادثة :
1- نظر النبي إلى أصل هذا الفعل فوجد أنه من أفعال الجاهلية وأن هذا الفعل الذي حصل من ضرب رجل لآخر استدعى إلى عقولهم أفعال الجاهلية وبرز هذا واضحا في تتداعيهم وتجمعهم كلا في جهة كما صرح - بذلك ابن حجر في شرحه للحديث-
2- ونظر إلى آثار هذا الفعل فوجد أنه مدخل كبير من مداخل الحاقدين على الإسلام فوصف هذا الفعل بقوله دعوها فإنها منتنة وهذا ما فعله عبد الله بن أبي حيث روى البخاري أنه لما سمع عبد الله بذلك قال:" فعلوها أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل "
والمثال الثاني في الرؤية النبوية العميقة للأحداث هو أن عمر كما يروي البخاري وغيره
قال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه "
فالنبي عليه السلام راعى هذا الأمر الإعلامي الذي يمكن أن تسير به الركبان ويتحدثوا بقتل النبي لهذا الرجل ولم ينظر إلى أنه له السلطة المطلقة في المدينة يفعل ما يشاء .
إن الخلل الذي وقع به المسلمون في التقييم السطحي للأحداث جعل المسلمين يقعوا فريسة لكثير من الذين اتخذوا الإسلام وسيلة للوصول إلى مآربهم فساروا خلفهم وأذعنوا لهم دون أن يعلموا أن وراء الأكمة ما وراءها.
وقد سببت هذه العقلية مشاكل فكرية واجتماعية كثيرة منها :
1- انتشار فكر التعميم : وهي أخطر ما أصاب العقل المسلم فنتيجة لعدم الرؤية العميقة والسابرة للأحداث انتشر فكر التعميم للخير والشر فمن يشتهر بشره وسوء أفعاله قد يبدو منه فعل واحد أو أكثر من أفعال الخير فيتناول الناس هذا الخير وينسون كل الأفعال الشريرة والسيئة ويعممون هذه الأفعال على كثير من أفعاله السابقة فمثلا تبرعت إحدى عارضات الأزياء بجولة في إفريقيا لمعالجة مرض الإيدز فمشى الإعلام بذلك وأكبر من هذا الخير ونسي أنه بجسد هذه العارضة وأمثالها ينتشر ذلك المرض الفتاك وكما قال الشاعر
شر الخير نعممه وخير الشر نعممه
والأمر في التعميم وانتشار فكره يقاس على الأفراد والشعوب والدول
2- الصورة المسبقة في الأذهان لأي فعل : حيث أنه ما من خير جديد ينبت في المجتمع إلا ونبدأ نقيسه على عمل قديم أو جديد مشابه قد فشل فنحكم عليه بالفشل نتيجة الصورة الذهنية المسبقة لأمثال هذا لفعل دون النظر إلى عمق الحدث فربما تغيرت الظروف وتغيرت الرجال وغير ذلك.
إن هذه الصورة المسبقة في الأذهان دون الولوج والتقييم العميق للأحداث قتلت كثيرا من الحالات الإيجابية في المجتمع المسلم وحالت دون حسن نمو الحالات الأخرى(/1)
إن عدم التقييم العميق للأحداث والرؤية المجتزأة والسطحية كانت إحدى العوامل الكبيرة في وقوع المسلمين في أزمات كثيرة وكثيرة أوصلت المسلمين إلى هذا الحال الذي ندعو الله أن يرزقنا العمل لتحسينه وإزالة الشوائب منه .. آمين(/2)
أين الخلل؟!..
(قصة قصيرة) د. أبوبكر محمد عثمان*
كانا صديقين منذ الطفولة والمراحل المختلفة للدراسة حتى تخرجا من الجامعة في كليتين مختلفتين حسب ميول كل منهما؛ فصار أحدهما مهندساً والآاخر باحثاً اجتماعياً.. كانت الصداقة حميمة لابتدائها من الصغر؛ حيث انغرست محبة كل منهما في قلب الآخر مع أنهما كانا مختلفين في تركيبهما؛ فكان أحدهما قصيراً نحيفاً أبيض اللون، بينما الآخر فارع الطول، ممتلئ، قمحي اللون، وكلما سارا جنباً إلى جنب صارا مثار المزاح من أصدقائهما؛ فيقال عنهما العشرة (أي الواحد بجوار الصفر)، وكانا يعلمان ذلك فلا يثير غضبهما، أو نفورهما من بعضهما، أو هجومهما علي قائله.. كانا يقضيان أمسيات أيام الدراسة، وطول مدة الإجازه الدراسية سويًّا في ليالي سمر، أو رحلات جماعية؛ وقلما يفترقان؛ اللهم إلا عند دخول كل منهما بيته.
اختار كل منهما فتاة فخطبها، وكان كل منهما يخرج للنزهة مع خطيبته يحرسها محرم كأب أو أخ؛ فيلتقي الستة على الموعد في احدى الحدائق العامة أو المطاعم المناسبة؛ فيتناولون السندوتشات، والمشروبات الباردة، والساخنة؛ حسب حالة الطقس؛ يتجاذبون أطراف الحديث، وكل معجب بخطيبته؛ ويتطلع إلى اليوم الذي يجمعهما فيه عش الزوجية، أو ما يسمونه القفص الذهبي.
اجتهد كل منهما في إعداد بيت الزوجية، وتأثيثه، ثم اتفقا علي يوم واحد يعقدان فيه القران، ويحتفلان فيه بالزواج السعيد.. افترقا فقط ثلاثين يوماً قضى فيها كل عروسين شهر العسل في مدينة مختلفة.
عادت كل أسرة إلى منزلها، واستقرت فيه، ثم أخذوا يتبادلون الزيارات التي تجمع الأربعة في مكان واحد، غير أن طول مدة صداقة الزوجين جعلت الزوجتين تتساهلان في قدر الاحتشام الواجب عند وجود رجل غريب غير محرم.
فكانت شدة دهشة أحدهما باكتشاف خطوط جمال في زوجة صديقه كما لو أنه لم يكن رآها من قبل!!، ولم يجد في زوجته ما يعادلها؛ فأخذ يدقق النظر خفية أولاً، ثم علانية؛ حتى لاحظت هي ذلك؛ وبفطرة المرأة عرفت مغزى نظراته؛ فهي نظرات عاشق معجب؛ وهي نظرات لم تجدها من زوجها الحلال؛ فلم تغض بصرها؛ بل أرسلته؛ يبحث؛ ويدقق؛ ووقع في قلبها إعجاب بخصال في شخصيته لم تكن قبل ذلك تلفت نظرها.
تغير قلبها من ناحية زوجها، كما تغير قلب ذاك من ناحية زوجته؛ فحدثت مبادئ النفور بين كل زوجين؛ وبدأ كل زوج يكتشف كل يوم نقيصة في زوجته؛ تقابلها ميزة في زوجة صديقه، وكذلك فعلت الزوجتان؛ وبدأت المشاكل.
حتى تشجع أحدهما؛ وقال لزوجته: أعتقد أن حياتنا أصبحت غير ذات معني؛ ويجب أن نفترق؛ ولفرط تعلقها بصديقه قالت له: لا بأس؛ فلنخرج بالمعروف؛ كما دخلنا بالمعروف.. كيف تتردد؟!؛ فهذه هي العقبة الوحيدة التي تمنعها من الحصول على مأربها؛ وها هي تزول دون جهد منها؛ وأخفى الزوج دهشته من سرعة استجابتها؛ حتي دون تتردد؛ وافترقا.
انتظر الآخر ثلاثة أشهر؛ وهو واثق أنهما لن يتراجعا؛ ثم خطبها؛ وتزوجها.. ادعت الأخرى أنها غضبت لزواج زوجها بأخرى؛ فطلبت الطلاق؛ فأجابها إلى طلبها؛ فخطبها الآخر؛ وتزوجها؛ وهكذا تبادل الزوجان الزوجتين!!.. فأين الخلل؟!..(/1)
أين الله؟ ...
سئل شيخ الإسلام أبو العبّاس أحمد بن تيمية - رحمه الله -:عَنْ رجلين اختلفا فِي الاعتقاد. فقال أحدهما: من لاَ يعتقد أنّ الله - سُبْحَانَهُ و تعالى - فِي السّمَاء فَهُوَ ضال. وقال الآخر: إنّ الله - سُبْحَانَهُ - لاَ ينحصر فِي مكان، وهما شافعيان فبينوا لَنَا مَا نتبع من عقيدة الشّافعي - رضي الله عنه -، وَمَا الصّواب فِي ذلك؟
الجواب: الحمد لله، اعتقاد الشافعي - رضي الله عنه -واعتقاد"سلف الإسلام"كمالك، والثوري،والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وَهُوَ اعتقاد المشايخ المقتدى بهم كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم. فإنّه لَيْسَ بَيْنَ هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع فِي أصول الدين.وكذلك أبو حنيفة - رحمة الله عَلَيهِ -، فإنّ الاعتقاد الثابت عَنْهُ فِي التوحيد والقدر ونحو ذَلِكَ موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقاد هؤلاء هُوَ مَا كَانَ عَلَيهِ الصّحابة والتّابعون لهم بإحسان، وَهُوَ مَا نطق بِهِ الكتاب والسنة.
قَالَ الشافعي فِي أوّل خطبة"الرّسالة": الحمد لله الَّذِي هُوَ كَمَا وصف بِهِ نفسه، وفوق مَا يصفه بِهِ خلقه. فبيّن رحمه الله- أنّ الله موصوف بِمَا وصف بِهِ نفسه فِي كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك قَالَ أحمد بن حنبل: لاَ يوصف الله إِلاَّ بِمَا وصف بِهِ نفسه، أَوْ وصفه بِهِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف وَلاَ تعطيل، ومن غير تكييف وَلاَ تمثيل، بل يثبتون لَهُ مَا اثبته لنفسه من الأسماء الحسنى، والصفات العليا، ويعلمون أَنَّهُ ((لَيْسَ كمثله شيء وَهُوَ السميع البصير))لاَ فِي صفاته، وَلاَ فِي ذاته، وَلاَ فِي أفعاله. إِلَى أَنْ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات والأرض وَمَا بينهما فِي ستة أيّام ثُمَّ استوى عَلَى العرش؛ وَهُوَ الَّذِي كلّم موسى تكليماً؛ وتجلّى للجبل فجعله دكاً؛ وَلاَ يمثاله شيء من الأشياء فِي شيء من صفاته، فليس كعلمه علم أحد، وَلاَ كقدرته قدرة أحد، وَلاَ كرحمته رحمة أحد، وَلاَ كاستوائه استواء أحد، وَلاَ كسمعه وبصره سمع أحد وَلاَ بصره، وَلاَ كتكليمه تكليم أحد، وَلاَ كتجليه تجلي أحد.
والله سُبْحَانَهُ قَدْ أخبرنا أنّ فِي الجنة لحماً ولبناً، عسلاً وماءً، وحريراً وذهباً.
وَقَدْ قَالَ ابنُ عبّاسٍ - رضي الله عنهما -: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مما فِي الآخرة إِلاَّ الأسماء.فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ المخلوقات الغائبة ليست مثل هَذِهِ المخلوقات المشاهدة - مَعَ اتفاقها فِي الأسماء- فالخالق أعظم علواً ومباينة لخلقه من مباينة المخلوق للمخلوق، وإن اتّفقت الأسماء.
وَقَدْ سمّى نفسه حياً عليماً، سميعاً بصيراً، وبعضها رؤوفاً رحيماً؛ وليس الحيّ كالحيّ، وَلاَ العليم كالعليم، وَلاَ السميع كالسميع، وَلاَ البصير كالبصير، وَلاَ الرؤوف كالرؤوف، وَلاَ الرحيم كالرّحيم.
وقال فِي سياق حديث الجارية المعروف: (أين الله؟) قالت: فِي السّمَاء. لكن لَيْسَ معنى ذَلِكَ أنّ الله فِي جوف السّمَاء، وأنّ السَّمَاوَات تحصره وتحويه، فإن هَذَا لَمْ يقله أحد من السّلف الأمة وأئمتها؛ بل هم متفقون عَلَى أنّ الله فَوْقَ سماواته، عَلَى عرشه، بائن من خلقه؛ لَيْسَ فِي مخلوقاته شيء من ذاته، وَلاَ فِي ذاته شيء من مخلوقاته.
وَقَدْ قَالَ مالك بن أنس: إن الله فَوْقَ السماء، وعلمه فِي كلّ مكان فمن اعتقد أنّ الله فِي جوف السّمَاء محصور محاط به، وأنّه مفتقر إِلَى العرش، أَوْ غير العرش - من المخلوقات - أَوْ أَنْ استواءه عَلَى عرشه كاستواء المخلوق عَلَى كرسيّه: فَهُوَ ضال مبتدع جاهل، ومن اعتقد أنّه لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَات إله يعبد، وَلاَ عَلَى العرش ربّ يصلّى لَهُ ويسجد، وأنّ محمداً لَمْ يعرج بِهِ إِلَى ربّه؛ وَلاَ نزل القرآن من عنده: فَهُوَ معطّل فرعوني، ضال مبتدع - وقال- بَعْدَ كلام طويل- والقائل الَّذِي قَالَ: من لَمْ يعتقد أَنّ الله فِي السّمَاء فَهُوَ ضال: إن أراد بذلك من لاَ يعتقد أنّ الله فِي جوف السّمَاء، بحيث تحصره وتحيط بِهِ: فَقَدْ أخطأ.
وإن أراد بذلك من لَمْ يعتقد مَا جاء بِهِ الكتاب والسنة، واتفق عَلَيهِ سلف الأمة وأئمتها، من أنّ الله فَوْقَ سماواته عَلَى عرشه، بائن من خلقه: فَقَدْ أصاب، فإنه من لَمْ يعتقد ذَلِكَ يكون مكذباً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، متبعاً لغير سبيل المؤمنين؛ بل يكون فِي الحقيقة معطّلاً لربّه نافياً لَهُ؛ فَلاَ يكون لَهُ فِي
الحقيقة إله يعبده، وَلاَ ربّ يسأله، ويقصده.
والله قَدْ فطر العباد – عربهم وعجمهم - عَلَى أنّهم إِذَا دعوا الله توجّهت قلوبهم إِلَى العلوّ، وَلاَ يقصدونه تحت أرجلهم.
ولهذا قَالَ بعض العارفين: مَا قَالَ عارف قط: يَا الله!! إِلاَّ وجد فِي قلبه - قبل أَنْ يتحرّك لسانه - معنى يطلب العلو، لاَ يلتفت يمنة وَلاَ يسرة.(/1)
ولأهل الحلول والتعطيل فِي هَذَا الباب شبهات، يعارضون بِهَا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وَمَا أجمع سلف الأمة وأئمتها؛ وَمَا فطر الله عَلَيهِ عباده، وَمَا دلّت عَلَيهِ الدلائل العقلية الصحيحة؛ فإن هَذِهِ الأدلّة كلّها متفقة عَلَى أنّ الله فَوْقَ مخلوقاته، عالٍ عَلَيْهَا، قَدْ فطر الله عَلَى ذَلِكَ العجائز والصبيان والأعراب فِي الكتاب؛ كَمَا فطرهم عَلَى الإقرار بالخالق - تعالى -.وَقَدْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - فِي الحديث الصحيح: (كلّ مولود يولد عَلَى الفطرة؛ فأبواه يهودانه، أَوْ ينصّرانه، أَوْ يمجسانه، كَمَا تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هَلْ تحسّون فِيهَا من جدعاء؟) ثُمَّ يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم: ((فطرة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا، لاَ تبديل لخلق الله)).
وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الأعراب والصبيان فِي الكتاب، وعليك بِمَا فطرهم الله عليه، فإن الله فطر عباده عَلَى الحق، والرّسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لاَ بتحويل الفطرة وتغييرها.
وأمّا أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية ونحوهم: فيريدون أَنْ يغيّروا فطرة الله، ويوردون عَلَى النَّاس شبهات بكلمات مشتبهات، لاَ يفهم كثير من النَّاس مقصودهم بها؛ وَلاَ يحسن أَنْ يجيبهم.
وأصل ضلالتهم تكلّمهم بكلمات مجملة؛ لاَ أصل لَهَا فِي كتابه؛ وَلاَ سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ وَلاَ قالها أحد من أئمّة المسلمين، كلفظ التحيّز والجسم، والجهة ونحو ذَلِكَ.
فمن كَانَ عارفاً بحل شبهاتهم بينها، ومن لَمْ يكن عارفاً بذلك فليعرض عَنْ كلامهم، وَلاَ يقبل إِلاَّ مَا جاء بِهِ الكتاب والسنّة، كَمَا قَالَ: ((وَإِذَا رأيت الَّذِينَ يخوضون فِي آياتنا فأعرض عنهم حتّى يخوضوا فِي حديثٍ غيره)). ومن يتكلّم فِي الله وأسمائه وصفاته بِمَا يخالف الكتاب والسنّة فَهُوَ من الخائضين فِي آيات
الله بالباطل.
وكثير من هؤلاء ينسب إِلَى أئمّة المسلمين مَا لَمْ يقولوه: فينسبون إِلَى الشافعي، وأحمد بن حنبل، ومالك، وأبي حنيفة: من الاعتقادات مَا لَمْ يقولوا. ويقولون لمن تبعهم: هَذَا اعتقاد الإمام الفلاني؛ فَإِذَا طولبوا بالنّقل الصحيح عَنْ الأئمة تبيّن كذبهم.
وقال الشافعي: حكمي فِي أهل الكلام: أَنْ يضربوا بالجريد والنّعال، ويطاف بهم فِي القبائل والعشائر، ويقال: هَذَا جزاءُ من ترك الكتاب والسنّة، وأقبل عَلَى الكلام.
قَالَ أبو يوسف القاضي: من طلب الدين بالكلام تزندق.
قَالَ أحمد: مَا ارتدى أحد بالكلام فأفلح.
قَالَ بعض العلماء: المعطّل يعبد عدماً، والممثّل يعبد صنماً. المعطّل أعمى، والممثّل أعشى؛ ودين الله بَيْنَ الغالي فِيهِ وَالجافي عَنْهُ.
وَقَدْ قَالَ - تعالى -: ((وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً)) والسنّة فِي الإسلام كالإسلام فِي الملل. انتهى والحمد لله ربّ العالمين.
[مجموع الفتاوى (5/256-261)].
شيخ الإسلام ابن تيمية(/2)
أين المفر .. ؟
لا يفتأ المرء أن يجد نفسه محاصراً بين هموم الدنيا ، تضيّق عليه كما تضيّق الأنقاض على الجاثم تحتها ، تكاد أن تمضي به إلى الشذوذ في الفكر و العمل ، فكيف الخلاص ؟ و إلى أين المفر ؟
سؤال يطرح نفسه في كل وقت ، و خاصة الآن ، بعد فوات الأوان ، و ضيق الحال ، و خشونة العيش ، و مرارة الحزن و الشعور ، و الدنو من الحياة التي تظهر الرغد و الحب ، و تبطن الخشونة و السقم و البغض …
الآن ! و قد لاح في الأفق ريح سموم لا تلبث أن تلفح وجهي ، و تحم قلبي ، و تلهب عيني ، و تسقم نفسي و جسدي ، و تُبكي مَن حولي رأفة بي و شفقة على حالي ، فما الذي غير الأمور و الأحوال على هذا النحو .؟ بعد اللهو و السهو ، لأصبح كما قال رب العزة { صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون } فما الذي حدث ؟؟
الآن ، و بعد أن غمرت عباب البحر ، و شققتُ دروب البر ، لأوقظ نفسي من سبات أمسي ، فلا ألبث أن أجد نفسي عاجزة عن الهمس ، قاصرة الطرف ، هلك عنها المال و السلطان ، و ذهب عنها رنين الدرهم و الدينار ، و بريق السلطان و المنصب و الأركان ، فإلى أين المفر الآن !!؟
إلى أين المفر ؟ سؤال اشتد إلحاحه ، بعد أن طال الأمد ، و ضاق البلد ، و التهب الكبر، فأين المنفذ و المخرج من الأمر الذي طال شرحه و عمق تأثيره و ازداد استفحاله ، و يَئِس حاله و اشتد ..؟
و بعد طول بحث و تمحيص ، و تفكير حصيف حريص ، وجدتُ الإجابة عن هذا
السؤال ، عندما لجأتُ إلى عقلي لأستدعي ما فيه من معلومات و مبادئ و نذر ، فعثرتُ على جزء من الذكر الحكيم ، نُقِش على جنبات نفسي و عقلي ، قوله تعالى { الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب }
أخي المؤمن : كن ممن أدرك نفسه ، و تنبه إلى سقمه و جزه ، و سمع القول فأتبع أحسنه ، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب و ألقى السمع و هو شهيد ..
توجه بقلبك إلى الله ، و لا تهجر كتاب ذكره الحكيم { فيها كتب قيمة } فتصبح ممن شُغل عقله و حوصرتْ نفسه بسؤال العصر ...(/1)
أين تضع صدقتك؟
خالد أحمد*
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أين تضع صدقتك؟ سؤال مهم وصعب في آن واحد، ويحتاج في الإجابة عليه إلى قدر كبير من الحكمة، لذلك لا عجب أن نرى أنّ آية الحكمة:(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)[1] قد وردت ضمن آيات الإنفاق في سورة البقرة لتنبّه إلى أنّ وضع المال في موضعه يحتاج إلى حكمة المنفق.
ولحكمة ما لم يترك ربنا أمر تحديد مصارف الزكاة للبشر، بل عين سبحانه وتعالى مصارفها الثمانية في كتابه ونصّ عليها نصاً في سورة التوبة، و مع ذلك فقد ضيع مجتمعنا بعض هذه المصارف, والله المستعان.
ونحب أن نلقي نظرة على بعض وجوه الإنفاق الواجب والمستحب سائلين الله عز وجل أن يؤتينا الحكمة وأن يلهمنا الرشد ويقينا شرور أنفسنا.
من هو المسكين:
عرّف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسكين بقوله: ((ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان, ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس))[2], فالمساكين إذاً أقوام يتدثرون بالقناعة ويتزينون بالعفاف (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) [3]"وهؤلاء لا يحصلون في شبكة الطالب إلا بعد البحث عنهم وسؤال أهل كل محلة عمن هذه صفته"[4]
وهنا يأتي دور الأخوة الخاصة بعد الأخوة العامة, ويأتي دور فطنة المؤمن ليلحظ أحوال أخيه ويشعر بحاجته, من مدخله ومخرجه, ومسكنه وملبسه و جميع أحواله سعياً لسد خلته كما قال الشاعر:
فالمسلم يعرف حاجة أخيه ويبحث له عن حل إما بعون مباشر منه إن كان مستطيعا، أو بحض غيره على الإنفاق.
من هم أولى المحتاجين بالصدقات؟
ذكر صاحب مختصر منهاج القاصدين صفات تجعل أصحابها مقدمين على غيرهم في أولوية الإنفاق عليهم، هذه الصفات هي:
[1] التقوى والعلم: وذلك من أجل زيادة همتهم في طلب العلم، وتوجيه طاقتهم لما ينفع الناس، حتى لا ينشغلوا بحاجتهم عن تعليم الناس.
[2] أن يكون ممن يرى الإنعام من الله وحده: و أما الذي عادته المدح عند العطاء، أو الذم عند المنع، فلا يقدم.
[3] أن يكون صائناً لفقره ساتراً لحاجته (وقد سبق الكلام عنهم).
[4] أن يكون ذا عائلة أو دَين، أو محبوساً، فهؤلاء من المحصورين والإنفاق عليهم إطلاق لحصرهم.
[5] القرابة والرحم فتكون الصدقة عليهم صدقة وصلة.
"وكل من جمع خلتين أو أكثر كان عطاؤه أفضل" انظر مختصر منهاج القاصدين ص 43 – 44.
وقد سبق وصف الغارمين بأنهم من المحصورين وأن التصدق عليهم إطلاق لحصرهم. وقد كثر المدينون في مجتمعنا ومنهم الصادق الذي أحصره الدين وأقعده فأهمه بالليل وأذله بالنهار، وما أثقل الدين على مثل هذا، و واجب على صاحب الدين إنظاره لقوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) البقرة 280 ،ومنهم المتلاعب بأصحاب الأموال من الدائنين المماطل لهم المضيع لأموالهم في الباطل فليس من الحكمة في شيء مساعدة أمثال هؤلاء على ظلمهم للناس.
أما ابناء السبيل فرغم كثرتهم فقلة من الناس من يفطن لهم، ويدخل فيهم من تغرب للعلم النافع أو لطلب منفعة دينية أو دنوية مشروعة واجتمعت عليهم مرارة الغربة و شدة الحاجة وقسوة من انقطع بهم السبيل عندهم.
وأكثر الأسهم حاجة للحكمة ـ في نظري القاصر ـ هو سهم "في سبيل الله"، الذي وجهه بعض العلماء إلى الغزو والغزاة، ووسعه آخرون ليشمل كل وجوه الخير والقربات والطاعات من تكفين الموتى وإعطاء الحجيج وبناء الجسور وعمارة المساجد وطلبة العلم وإعداد الدعاة وبعثهم إلى مواطن الدعوة وإنشاء المدارس التي تعلم الإسلام وتصون الناشئة, فإذا أخرجت من زكاتك للغزاة والغزو والرباط فلا أقل من أن توجه صدقة التطوع لهم.
موازنات:
قال الشيخ سعيد حوى رحمه الله: "فالذي لا يُفْطن له هو الأولى، وكذلك المصالح التي لا يُفطن لها هي الأولى وأصحابها هم الأولى". فالفقير إذا كان طالب علم نافع أو داعية، أولى من غيره ومصلحته أعم, ومصلحة المريض أعجل من غيره, فكم ضيع مجتمعنا علماً ودعوة بتضييع صاحبها وكم تألم مريض ولم يفطن له وكم فتن الأعداء محتاجاً بالمال، والله المستعان.
كثير من أهل الخير ينفقون في زخرفة المساجد أموالاً طائلة كان يمكن الاقتصاد ـ اتباعاً لسنة المصطفى صلى الله عيه وسلم، وتوجيه مالها إلى عمارة المساجد بالعلم النافع، والعلماء الأكفاء.
وأخيراً: فلنتذكر عظمة الإسلام في "فرض الإناث" في كثير من زكاة الأنعام لتنتج عند آخذيها فيكتفون ثم ينفقون بعد حين ولأجل إعانتهم على النجاح. والله من وراء القصد وهو يهدي السيبل.
----------
[1] البقرة 296
[2] متفق عليه
[3] البقرة 273
[4] مختصر منهاج القاصدين ص 43.(/1)
أين تكمن المشكلة??
يداك أوكتا وفوك نفخ:
مفكرة الإسلام : إنني لا أذكر حقيقة نهاية القصة ولعل نهايتها لا تعنينا كثيرًا هل غرق الرجل أم أنقذه أحد؟ لكنني أذكر جيدًا هذه العبارة التي نعنون بها فقرتنا هذه.
بداية القصة تحكي أن رجلاً أراد أن يعبر نهراً ولم يكن لديه ما يعبر عليه، وبعد البحث وجد قربة من جلد فأمسك بها ونفخها بفمه ثم قام بربطها وإغلاقها ثم أخذ يسبح في النهر وهو يتخذها وسيلة لتحقيق طفوه وهو لا يعرف السباحة [معلومة استطرادية] وفي منتصف النهر ينفك الرباط الذي عقده بيده ويخرج الهواء الذي نفخه بفمه, فقيل له: 'يداك أوكتا ـ أي ربطت ـ وفوك نفخ' وفمك قام بالنفخ فلا تلم أحدًا, وتنتهي القصة التي لم تستغرق حكايتها أكثر من دقائق قليلة معدودة لكنها تحمل في داخلها من المعاني الكثير، وعليها دار كثير من الأمثال العربية العامة، والشعبية، 'على نفسها جنت براقش'.
ولن أعدم من الأخوة القراء أمثلة على ذات النسق تدور في أذهانهم ترادف ذات المعنى الذي ذكرت.
ترى ما علاقة هذا المثل بأني أريد حل مشكلتي مع ابني أو ابنتي، إن العلاقة حقيقة 'وطيدة' للغاية فدعنا مثلاً نتأمل نوعية محددة من المشاكل ألا وهي ما يعرف إجمالا بالمشاكل الجنسية. إن نظرة سريعة على هذه النوعية من المشاكل تعطينا انطباعًا محددًا أن الأباء والأمهات كانوا في غفلة تامة عن توعية أبنائهم بهذه القضية المحورية وإحاطتها بالقدر اللازم من الرعاية والتعليم والتوجيه مما دفع الأبناء إلى التعلم من المصادر الأخرى المتاحة في المجتمع سواء من الأصدقاء أو المجلات أو الإنترنت أو غيرها، وسنلاحظ حتمًا أن تعلم هذه الثقافة من هذه المصادر لا بد أنه سيفرز سلوكيات مرفوضة يعاني منها الآباء والأمهات ويبذلون الجهد في البحث عن حلول سريعة لها بينما هم يعانون من آثارها المدمرة على نفسيات الأبناء والبنات.
وليس الحديث هنا منصبًا على الترجيح بين مدرستين إحداهما تشجع التعليم المفتوح لهذه المعاني، والأخرى ترى وجوب الحياء وعدم طرح هذه النوعية من المشاكل والكلام فيها، لكنني فقط أنبه أن عدم مراعاة الآباء والأمهات للمرحلة العمرية وجوانبها النفسية والجسدية والانفعالية له أكبر الأثر في حدوث الخلل عندما ينمو الابن والابنة وينضجان بعيدًا عن التوجيه المباشر وغير المباشر الذي يحكم الشرع الرباني.
لقد عبر الدكتور أكرم رضا في كتابه 'بلوغ بل خجل' عن بدء مرحلة المراهقة، إن الابن في هذه المرحلة يتعلم المشي من جديد، وهو تعبير بليغ دقيق عن واقع حال الابن والابنة في هذه المرحلة, وهو كذلك توضيح لما ينبغي أن تكون عليه صورة الأبوين في هذه المرحلة أثناء التعامل مع أبنائهما وهو تعامل تظلله الرحمة ويغمره الحنان والتشجيع ومد الأيدي لإقالة العثرة والوقوف بعد السقوط, وتلمس لمواطن وقوف قدمه واحدة بعد الأخرى حتى يجيد المشي ويتعلمه, فينطلق وقد بدأ يتكيف مع أعضائه سواء الجسدية التي حدث لها في هذه المرحلة طفرة نمو قوية أو أعضائه النفسية بتحوله من طفل إلى رجل.
إننا نولي أبناءنا عناية شديدة عندما يخطون أولى خطواتهم على أقدامهم وتتعلق عيوننا بتلك الأقدام الصغيرة وهي ترتفع وتهبط على الأرض وقلوبنا تهفو معها، ونرقب الأيدي وهي ترتكز على الجدران وما تطوله الأيدي مما يصلح للاعتماد والاتكاء عليه ثم لا نتمالك أنفسنا من أن تبلغ أقصى درجات الفرح والسرور، ونحن نسمع بتسرب أصابعه من بين أيدينا لخطو أولى تلك الخطوات معتمدًا على نفسه بغير معونة منا، ويتناقل الخبر أن الوليد قد بدأ بالمشي وتأتي التهاني تباعًا ثم ها نحن هنا ووليدنا ينتقل من كونه طفلاً إلى اكتمال النضج وبدء تحقيق معاني الرجولة والقوة، فنرى أن كل ما يلزمنا تجاه وليدنا مطعمه ومشربه وأن يسمع الكلام ولا يكون مزعجًا.
ترى أين المشكلة حقًا أهي لديه أم لدينا؟
حالة أخرى 'لا أعرف شيئًا عن أبنائي هم صامتون في البيت مرحون متكلمون خارجه، أبنائي لا يتكلمون معي عن حياتهم'.
وهنا سنسأل نحن سؤالاً محددًا هل عودت أبناءك على فتح حوار معهم؟
هل كنت تناقشهم في أمور حياتهم وتسأل عن تفاصيلها؟
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
هل عندما تصدر الأوامر إليهم خاصة تلك المتعلقة بشئون حياتهم كنت تعرضها للنقاش عليهم وتسمع رأيهم وتقبل منه ما يوافق الصواب وتنصح فما يتعلق بالخطأ.
هل كنت تترك لهم مجالاً للتجربة والخطأ والعودة بعد ذلك إليك بحصيلة تجاربهم ليشاركوك فيها؟
الإجابة بنعم على ما سبق من الأسئلة لا يمكن أن يصحبها الشكوى من المشكلة المذكورة إذن ثانية نحن سبب رئيسي في كثير مما نشتكي من أولادنا بشأنه.
حالة أخرى 'ابني يحب' ابني يعاكس' ابني...'.(/1)
العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تبدأ بشغل حيز في تفكير وكيان الإنسان منذ بدء عملية ومرحلة البلوغ، إن ضبط هذه العلاقة منذ البداية يجعلنا حقيقة مطمئنين إلى عبور أبنائنا لأزماتهم بشكل ثابت راسخ، وإن هذه الأزمات ما هي إلا أزمات عابرة تمر بمساعدة من لطيف الإشارة ودقيق التوجيه عميق الدعاء الخالص.
فلا بد هنا من توضيح حدود علاقة الرجل بالمرأة، وما هو الحب الحقيقي وكيف يبنى في البيوت على أساس التقوى والعشرة الطيبة، وحدود علاقة المحارم، ويرى الشاب والشابة من طبيعة التعاملات العائلية والمنزلية ما يؤكد هذه الصور.
والخلاصة أن كثيرًا من مشاكل البلوغ إنما يتحمل المسئولية فيها الأباء، وأن السبيل لحلها هو سد الثغرات قبل وقوعها، والحوار الناجع والفعال لتدارك ما يطرأ أولاً بأول.
وتعالَ معي نتأمل هذا المثل النبوي الشريف:
وجاء شاب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال يا رسول الله: 'أتأذن لي في الزنا؟' فهاج القوم وماجوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه .. أقبل يا ابن أخي فأجلسه بجوره ثم قال له: أترضاه لأمك؟ قال: لا يا رسول الله. قال: فكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم .. ثم مسح على صدره ودعا له... الحديث بكامله.
إنني هنا أريد لفت الانتباه إلى نموذج تربوي لم يوجد مثله قط، وهو النموذج النبوي، تعالَ معي نتأمل بعض ملامح هذا النموذج من هذا الحوار اللطيف الدائر بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا الشاب.
أولاً: مجيء الشاب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستأذن في الزنا، أليس لهذا المشهد دلالات عجيبة؟
[1] إنه يرى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المربي المنوط بحل المشكلات واللجوء إليه بعد اله تعالى وفي ذلك دلالة واضحة على ما أثمره الخطاب النبوي والرباني في النفوس من بث الوازع الديني فيها، وعلاقة استشعار الشاب أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستفهمه ويرحمه ويرفق به.
[2] خطاب الشاب يوحي بأنه في أزمة فكأنه في صراع بين دواع الشهوة والرغبة في تخفيف أدارها وتصريف طاقتها وبين الخطاب الرباني القوي المانع من التصرف المحرم، وبذا يكون الخطاب الرباني قد أدى الرسالة في صون الإنسان من المحرم.
[3] نوجه إليك عزيزي الأب عزيزتي الأم سؤالين على الفقرة السابقة:
أـ هل يأتي ابنك أو ابنتك ليحادثك في هذه الأمور ويشتكي من ضغطها عليه؟
أو هل تحادثه فيها بالصورة الشرعية التي سنبينها بإذن الله تعالى؟
ب ـ هل حديث الابن أو الابنة يكون مقياسًا واضحًا لمدى النجاح في أثر الخطاب الرباني والوازع الديني الذي تربى داخلها؟
ثانياً: معاملة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للشاب ومعاملة القوم:
هاجوا وماجوا ...... دعوه, أقبِل يا ابن أخي.
[1] لا بد من توفير المناخ السليم حتى يمكن علاج المشكلات علاجًا ناجعًا, إن إحساس الابن أو الابنة أن باستطاعته مناقشة المشكلات بهدوء مع طرف من الأطراف هو الدافع الأساسي لفتح هذه المشكلة، وسماحة لهذا الطرف بعرضها وبيان التوجيه الأمثل لحلها، ألا نشتكي نحن من عدم معرفتنا بمشاكل أبنائنا ونحن الذين نغلق الباب عليهم ونمنعهم من أن يتوجهوا للحديث معنا إما لإغلاقنا قنوات الحوار معهم منذ النشأة الأولى، فهي تسير في اتجاه واحد من السلطة الأعلى إلى الأدنى, أو خوفًا من العقوبة بمجرد معرفة نوعية المشكلة بدون البحث عن حل لها.
[2] إنه ليس فقط فتح المجال لطرح الشكوى, لكن أيضًا الترفق والرحمة الغامرة في الموطن الذي تتم مقابلته عادة بالاستهجان والاحتقار والتقليل من الشأن, فهو يناديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ 'يا ابن أخي' وهو الذي يستأذن في الزنا، فتأمل ما أعظم هذا الخلق، وبمعنى أدق ما أعظم هذا النموذج التربوي المتفهم لدوافع النفس البشرية، ونوازعها وما يدور فيها ثم هو بعد ذلك مثال الطبيب الحاني الرفيق.
ثالثًا: شكل الحوار 'أترضاه لأمك ... لأختك ...'
وهذا في حد ذاته يعتبر مرجعًا تربويًا لمنهج الإسلام في صيانة الفرد والمجتمع.
[1] إنه أولاً يحدد أن العلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة وثيقة لا تنفك، فكل امرأة مسلمة هي أم أو أخت أو زوجة أو ابنة ... وأن ما لا يرضاه الفرد لنفسه ولا لأهله لا ينبغي له أن يرضاه لغيره ولا لأهل غيره.
[2] طبيعة الحوار وأنه يتجه إلى ثوابت الفطرة التي يغرسها المجتمع المسلم في نفوس أبنائه، وهذا ما تكلمنا عنه عندما وضحنا الفرق بين الأزمة الحقيقية والأزمة العابرة, فهذه الثوابت تم غرسها في أبناء هذا المجتمع بأكثر من وسيلة, فلا تحتاج أكثر من إحيائها عند الاحتياج إليها.
[3] الحوار نفسه كوسيلة لقياس النفس البشرية داخليًا، ومن ثم تحديد العلاج المطلوب على أساس هذا القياس وقد كان كافيًا في حالة الشاب التوجيه إلى بيان الضرر الواقع على المجتمع ومن ثم الواقع عليه بصورة شخصية حتى نوفر له دافعًا آخر يمنعه من المعصية والزنا.(/2)
[4] إن سرعة استجابة الشاب للخطاب النبوي الشريف ليؤكد ما ذكرناه سابقًا، أن أبناءنا عندما نحسن رعايتهم والاستعداد لأزماتهم، والتهيؤ لما سيأتي عليهم من المراحل المختلفة، فهم حينئذ لا يحتاجون أكثر من لطيف الإشارة، ودقيق التوجيه، وعميق الدعاء.
قاعدة: 'ما لا يدرك كله لا يترك جله'.
إننا ونحن نقرر الحقيقة السابقة أن كثيراً من أزمات أبنائنا ومشاكلهم إنما نساهم نحن فيها بصورة قوية واضحة لا ينفي أنه ينبغي لنا العمل بالقاعدة 'ما لا يدرك كله لا يترك كله'
فاستدرك ما فات واستعد لما سيأتي ولا يوجد أبدًا داعٍ لفقدان الأمل في تدارك ما فات، فالله تعالى بيده العون كله، وإليه يرجع الأمر كله بأسرع بالخطى {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}, فليس هناك وقوف, بل هو الانطلاق والاستدراك، وإلا فهو المزيد مما لا نحب من التأخر والدخول في مشاكل أخرى نحن في أشد الغنى عنه(/3)
أين قَلَمُكِ ؟!
- أختي المسلمة ...
لعلكِ تقرأين وتسمعين الهجمة ضدكِ والتي تارة تكون بدعوى أنكِ مظلمومة ! وتارة أنكِ مضطهدة ! وأخرى أنكِ مسلوبة الحقوق ! وأنكِ معطلة ! وأنكِ ينبغي أن تتحرري من القيود ... وأنكِ ... ! وأنكِ ... ! سلسلة لا تنتهي من العبارات المنمقة التي ظاهرها الرحمة وباطنها تغريب مخطط له لتصبحي سلعةً رخيصةً كما في الغرب ، ومع الأسف تأثر بظاهرها بعضهن - وهن قلة - سواء علمن أم لم يعلمن ، وهذه الهجمةُ صُنعت في بلاد الغرب ، وبُثت في بلاد المسلمين وتولى كِبر بثها نفر من أبناء جلدتنا ممن يتكلمون بألسنتنا - مع الأسف - وفُتنوا بكلّ ما عند الغرب عُجَرَهِ وَبُجَرَهِ .
- أختي المسلمة ...
السؤال الذي يطرح نفسه : أين أنتِ من هدف هؤلاء ؟ ... أين رأيك ؟ ... أين صوتك ؟ ... أين وقفتكِ ضد هذا المد التغريبي ؟ لقد بذلوا أوقاتهم وأعمارهم لِما يهدفون إليه ويخططون من أجله ، وأنتِ صاحبة الشأن والمستهدفة لا بد أن يكون لك صوت مسموع للوقوف في وجه تيار التغريب والتحرير .
- أختي المسلمة ...
من أقوال العرب : '' القلم أحد اللسانين '' ... فالقلمُ وسيلة قوية للتأثير والتعبير والوقوف في وجه الأقلام المسمومة ، ولذلك نجد دعاة التغريب استغلوه وأسسوا له المنابر المؤثرة ، فأنتِ صاحبةُ الحقّ لكِ رأي آخر في مقابل رأيهم لا بد من ظهوره ، فإذا وهبكِ الله قلماً سيالاً فلا تتردي في الردّ عليهم بالحجة والبرهان والسنة والقرآن ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) (الأنبياء 18) ، وبيان حقيقة مكانة المرأة في الإسلام ، وأنها مصونةٌ محفوظةٌ ، فاكتبي مقالاً أو بحثاً أو كلمةً في مجلةٍ أو جريدةٍ ، وإذا أغلقت دونك تلك المنابر فقد فتح اللهُ لكِ أبواباً أخرى مثل ( الشبكة العنكبوتية ) فالمواقع التي تقبلُ رأيكِ كثيرة جداً ولله الحمد .
- أختي المسلمة ...
لقد كان لبعض الأخواتِ - جزاهن الله خيراً - إسهامٌ مشكورٌ في الوقوف ضد موجة التغريب من أمثال د. أميمة الجلاهمة ود. نورة السعد ود. نجاح الظهار ومشاعل العيسى وغيرهن ولكن الميدان بحاجة إلى أقلام كثيرة لأن دعاة التغريب قد أجلبوا عليكِ بخيلهم ورجلهم ، وجعلوا من المرأة قضية الأمة التي إذا لم تحل فإن العالم سيعيش في شقاء عظيم - زعموا - ! ، وضربوا صفحاً عن قضايا أكبر وأعظم .
- أختي المسلمة ...
أختم بهذه الآيات ... يقول الله : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) ''يونس : 81 '' ، ويقول : ( قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) ''المائدة : 100''، ويقول : ( وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) ''الإسراء : 81'' .
zugailamm@yahoo.com
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل(/1)
أين نحن من الإسلام أفرادا ومجتمعات وأمة..؟*
... خطبة العيد ألقاها: الأستاذ الشيخ الطيب برغوث
مقاصد العيد: إن عيد الأضحى المبارك، بما يحمله من معاني عقدية وروحية وأخلاقية واجتماعية وتاريخية وإنسانية متكاملة، جعله الله تعالى مناسبة سنوية خالدة، ليراجع فيها المسلمون أنفسهم، ويتوبوا إلى الله من ذنوبهم وأخطائهم، ويصلحوا ما اختل من العلاقات فيما بينهم، ويجددوا صلتهم بسنن الله في الحياة، ليمضوا على طريق العبودية الصحيحة لله تعالى، التي هي وظيفة الإنسان في هذه الحياة. كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56).
كيف يفقد العيد معناه؟ فإذا لم يحقق المسلمون هذه المقاصد في عيدهم، فإن عيدهم يفقد معناه، ويتحول إلى مجرد عادة اجتماعية متكررة، خالية من أية روح أو تأثير على حياتهم. وهذا لا شك يعد نقمة عظيمة يسلب بها الله تعالى البركة من حياة المسلم، وهو أمر ملحوظ مع الأسف الشديد، إذ كم الأعياد مرت علينا وعلى مجتمعاتنا وأمتنا ولم ننتفع بها كثيرا، كما تدل على ذلك أحوالنا بضعفها واضطرابها. فلنحاول تحقيق معاني العيد ومقاصده في حياتنا، حتى نحوله إلى نعمة تزرع البركة والسعادة في حياتنا.
________________________________________
إن الإسلام يعطينا من بركاته، ويفيض علينا من مصادر القوة فيه، بقدر عمق قربنا منه؛ فهما وتمثُّلا، ويشح علينا بذلك بقدر ابتعاد فهمنا وتمثلنا الذاتي له، عن حقائقه ومقاصده ومناهجه
________________________________________
كيف نحقق مقاصد العيد في حياتنا؟ وتحقيق مقاصد العيد في حياتنا، تبدأ من مراجعة أوضاعنا مع الله، ومع أنفسنا، ومع خلق الله. وفقا لسنة الله المطردة في التغيير والإصلاح والتجديد، التي علمنا إياها في كتابه العزيز، في قوله تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )( الرعد: 11 ). ومدخل هذه المراجعة يكون عبر مراجعة علاقاتنا بالإسلام، لأن الإسلام هو المنهج الذي ارتضاه الله تعالى للبشر ليحققوا من خلاله عبوديتهم الحقة له سبحانه، وينجزوا خلافتهم في الأرض، ويهيئوا أنفسهم لمراحل الحياة الأخروية التي تنتهي بالمؤمنين إلى الخلود في الجنة، وبغير المؤمنين إلى مصائب لا يعلم بشاعتها إلى الله سبحانه وتعالى. كما قال سبحانه: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19) وقال كذلك: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران: 85).
فالإسلام هو الذي يعرفنا بالله ويبعدنا عن الشرك به، وهو الذي يعرفنا بأنفسنا ووظيفتنا في الوجود، وبمصيرنا بعد الموت، وبحقوقنا في الدنيا والآخرة، وهو الذي ينقذنا من دوامات القلق العقدي والعبثية الوجودية، وهو الذي يعرفنا بعلاقاتنا بغيرنا من المخلوقات، ويحدد سلطاننا علينا، وسلطانها علينا.. فإذا اضطربت معرفتنا بالإسلام اضطربت تبعا لذلك علاقاتنا بكل شيء في الحياة.
ماذا يمثل الإسلام بالنسبة للمسلم؟ فالإسلام إذن هو المنهج الأكثر كفاءة وقدرة لتحقيق عبودية الإنسان لله تعالى في الأرض، ومن ثم إنسانية الإنسان، على اعتبار أن إنسانية الإنسان في أبعادها الشمولية المتكاملة، لا تتحقق إلا عبر العبودية لله تعالى، فالإنسان يكون إنسانا بقدر ما يكون عبدا لله، لأنه بقدر ما يكون عبدا لله، بقدر ما تكتمل حريته، وبقدر ما تكتمل حريته تتحدد مسئوليته ومن ثم فاعليته في الحياة. والعكس صحيح، فإن الإنسان بقدر ما تنتقص عبوديته لله بقدر ما تسلب منه حريته، وتتبعثر إرادته، وتتشتت مسئوليته، وتتضاءل فاعليته الاجتماعية، وهو ما نبه عليه القرآن في مثل قوله تعالى: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} (الحج: 31).
والإسلام بمنطقه التوحيدي، وبمنهجيته التربوية والاجتماعية التكاملية، يشكل فعلا المنهج الأكفأ والأقدر على استنقاذ الإنسان من أخطار الشرك العقدي، وعذابات التمزق النفسي، ومحن الفسوق الاجتماعي، وفتن الدجل السياسي. وبهذا فهو يمثل بحق الثروة الأكثر أهمية في حياة الإنسان على الإطلاق، بقدر ما يتمكن من معرفتها واستثمارها جيدا، بقدر ما يحقق عبوديته وإنسانيته وسعادته الدنيوية والأخروية. قال تعالى: {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه نَسلكه عذابا صعدا} (الجن: 16، 17).
كيف نحقق المراجعة الصحيحة لأنفسنا في هذا العيد؟ ومن هنا فإن المراجعة الجدية الصحيحة لأنفسنا في هذا العيد، تبدأ من مراجعة علاقاتنا بالإسلام، من خلال استعراض موقفنا الحياتي العملي من حقوقه السبعة على كل واحد منا. فليعرض كل منا نفسه على هذه الحقوق السبعة، ثم يقرر بنفسه أين هو من الإسلام؟ وأين الإسلام منه؟ وماذا عليه أن يفعل لكي يستدرك أو يعمق ليمضي قدما على طريق العبودية الممتعة لله تعالى.(/1)
حقوق الإسلام السبع على المسلم: وحقوق الإسلام على المسلم ليست محصورة بإطلاق في هذه المداخل أو المجالات السبعة، بل هناك غيرها، ولكننا اقتصرنا على هذه السبع هنا لأهميتها القصوى. وهي على التوالي:
حق المعرفة الصحيحة بشرائعه: لأن المعرفة الصحيحة بشرائع الإسلام هي الشرط الأساس للاستفادة منه، وبدون هذه المعرفة الصحية لا يمكن للمسلم أن يستفيد من الإسلام، بل يكون في خطر عظيم. وقد بينت سنن الله في استخلاف البشر عبر التاريخ، أن الجهل بشرائع الإسلام كان السبب الرئيس الذي كان وراء التعاسة والضنكية التي عاشها البشر باستمرار، مما استدعى توالي الرسالات السماوية عبر التاريخ، لتصحيح مسار حركة الاستخلاف البشري في الأرض، وتعليم الناس سنن الهداية التي تجنبهم الانحرافات الاجتماعية والنكبات الحضارية المميتة. كما جاء ذلك مفصلا في القرآن الكريم الذي نكتفي منه بالإشارة إلى قوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} (النحل: 36).
والإسلام لم يتحول في حياة كثير من المسلمين إلى مذاهب فقهية متنافرة، وإلى فرق كلامية متنابذة، وإلى ملوك ودويلات طوائف متناحرة، وإلى عصبيات جاهلية منتنة، وإلى فرق صوفية خرافية، وإلى ظاهريات حرفية صارمة، وإلى جماعات حركية وأحزاب سياسية متدابرة، وإلى اشتراكيات ورأسماليات وقوميات ووطنيات وعلمانيات وديمقراطيات شكلية متصارعة، بل وإلى استعمار مبرر وحبذ! يغتصب الأوطان، وينتهك الأعراض، وينهب الخيرات، ويستنزف الثروات.. إلا بسبب الجهل بحقائقه العقدية – أي الإسلام - ومقاصده الاجتماعية وأحكامه العملية، ومناهجه الفكرية والروحية والتربوية.
فماذا عرفت عن الإسلام؟ وماذا بذلت من جهد ووقت ومال من أجل تطوير وعيك بالإسلام والارتقاء به إلى مستوى الرسالية المطلوبة، أو على الأقل إلى مستوى ضمان المعلوم من الدين بالضرورة؟
حق التَّمَثُّلِ الذاتي الصحيح لشرائعه: والمعرفة وحدها لا تكفي، بل لا بد من تجسيدها في حياتك العملية بشكل شامل وصحيح. «فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل» كما جاء في الأثر. وازدواجية السلوك اعتبرها الإسلام من أسباب المقت الكبرى كما جاء ذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2، 3). فالمسلم لن يتذوق حلاوة الإيمان، ولن يستشعر عظمة الإسلام، ولن يدرك النقلة الهائلة التي تحدث في حياته إلا بعد أن يعيش الإسلام تدريجيا ويستقيم عليه أولا بأول.
فماذا طبقت من شرائع الإسلام في حياتك الفكرية والروحية والسلوكية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية..؟ وهل طبقت ذلك تطبيقا صحيحا؟ وهل رأيت أثر ذلك في حياتك وعلاقاتك بالله وبالناس؟
حق التَّمَثُّلِ الاجتماعي الصحيح لشرائعه: أي ماذا عملت حتى يتحول الإسلام إلى حالة اجتماعية ولا يبقى حالة فردية معزولة، سرعان ما يختنق ألقها الذاتي، وتنكفئ على نفسها تحت ضراوة الضغط الاجتماعي المضاد؟ هل التزمت باحترام قيم المجتمع الصحيحة، وعملت على حمايتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لأن الإسلام دين اجتماعي جاء ليصلح ويُرَقِّي الحياة الاجتماعية كلها، ولم يأت لأفراد منعزلين هنا وهناك، ومعزولين عن وقاع حياتهم.
حق الدعوة الصحيحة إليه: على اعتبار أن ذلك واجبا شرعيا على الأمة كلها، يؤدي منه كل فرد فيها ما يستطيعه. كما قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} (يوسف: 108). فحق كل من اتبعه، كما يقول ابن القيم في تعقيبه على الآية، أن يدعو إلى ما دعا إليه.. فلا يكون الرجل أو المرأة من أتباعه حقا حتى يدعو كل منهما إلى ما دعا إليه، ويكون ذلك على بصيرة، كما نصت الآية صراحة.
فهل وعيت هذا الحق الخطير من حقوق الإسلام عليك؟ وهل ساهمت بما تستطيع في مجهود الدعوة إلى الإسلام والتعريف الصحيح به؟ بلسانك وسلوكك اليومي. وهل أعنت العلماء العاملين والدعاة المستنيرين على ذلك؟ وهل وقفت معهم وأمددتهم بما تستطيع من عون مادي ومعنوي؟ وهل أنقذت نفسك من أخطار خذلان هؤلاء العلماء والدعاة أو تعويق دورهم أو الوقوع في المس بسمعتهم؟ وهل برَّأت ذمتك من حقوق المسلمين وغير المسلمين عليك، وأديت ما عليك نحوهم؟(/2)
حق المساهمة في بناء نموذجه الاجتماعي والحضاري: وهل وضعت نفسك وعلمك ومالك وجهدك في خدمة عالمية الإسلام، عبر المساهمة في بناء نموذجه الاجتماعي والحضاري العالمي، الذي به يستطيع أن يواكب وينافس النماذج الاجتماعية والحضارية البشرية الأخرى، ويتجنب ما فيها من سلبيات؟ هل تمكنت من تجاوز التفكير الذاتي والعرقي الضيق، وارتقيت بوعيك واهتمامك وهمومك إلى مستوى العالمية الإسلامية بل والكونية الإسلامية، التي تذوب فيها الأعراق والألوان والعنصريات الجاهلية، وترتفع فيها موازين وقيم التقوى والصلاح والخيرية؟ ماذا قدمت لكي تحقق استراتيجية ظهور الإسلام وريادته الحضارية كما ورد تخطيطها في قوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (الصف: 9). أين طموحاتك واهتماماتك وهمومك من هذه الاستراتيجية التي يرتبط بها التوازن العالمي بل والتوازن الكوني؟
حق الدفاع عنه والحماية له: حتى لا تُشوَّه صورته، ولا تُجتزأ حقائقه، ولا تُغيَّب مقاصده، ولا تعطل أحكامه، ولا يزيَّف تاريخه. فماذا قدمت للإسلام حتى لا يُشوَّهَ ولا تُزيََََّفَ حقائقه؟ ولا تُغَيَّبَ شرائعه أو تُهمَّشَ في حياة المسلمين؛ أفرادا ومجتمعات ودولا..؟ هل قاومت تشويه الإسلام في نفسك ابتداء وفي محيطك ثانيا؟ ماذا قدمت من وقتك أو جهدك أو مالك أو علمك أو جاهك أو سلطانك ونفوذك.. من أجل حماية الإسلام من التشويه الداخلي والخارجي؟ هل ساهمت بكل ذلك في رفع الشبهات عن الإسلام؟ أو أعنت من يتولى ذلك من العلماء والدعاة، ولم تخذلهم ولم توالي خصومهم من قوى الفسوق الاجتماعي والسياسي المناوئة للإسلام؟
ونذكر هنا موقفا جليلا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقفه دفاعا عن الإسلام لما تهددته أخطار الردة، واحتاج إلى الحماية والنصرة. فقد روي أن كثيرا من الصحابة كانوا مع منطق الملاينة والرفق بالناس وتأليف قلوبهم، خوفا من حرب أهلية تعصف بالإسلام في بداية انتقاله من القيادة النبوية المعصومة إلى القيادة البشرية الرشيدة، ومنهم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، الذي أشار على أبي بكر بقوله: يا خليفة رسول الله: تألف الناس وارفق بهم، فقال له الصديق بحزم وعزم عجيبين:
"أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام! قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي!؟ والله لو منعوني كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، ولو خذلني الناس كلهم لجاهدتهم بنفسي". بل وتجاوز ذلك إلى القول: بأنه لو خالفته يمينه لقاتلهم بشماله! ولو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء أهل المدينة!!
إن الدفاع عن الإسلام وحمايته، صنفه علماء الأمة في مقدمة الكليات أو المقاصد الحياتية الخمسة التي يجب حفظها ورعايتها قبل غيرها، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ النسل، لأن في حفظ الدين أو الإسلام حفظ ورعاية لها جميعا، وفي نقص أو ضياع الدين نقص أو ضياع لها جميعا كما أسلفنا.
حق الاعتزاز به: وأخيرا، هل استطعت أن ترتقي بوعيك ومشاعرك وسلوكك ومواقفك وطموحاتك.. إلى مستوى الشعور بأن الإسلام يعطيك القيمة والمكانة التي تستحقها في الحياة؟ هل وصلت إلى مستوى الشعور بأن سعادتك تزداد كلما اقتربت أكثر من تحقيق مقاصد الإسلام في حياتك؟ هل أصبح هذا الأمر عندك يقينا راسخا؟ هل تذوقت طعم ذلك وأدركت حلاوته؟ وفي الحديث الصحيح: «ذاق طعم الإيمان، من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا» (البخاري برقم: 34). وفي الحديث الصحيح كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (البخاري برقم: 6841).
وكان الخليفة العملاق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله". وهو ما تؤكده حقائق التاريخ على طول الخط، إذ ارتبط صعود الخط الحضاري للأمة، باعتزاز أجيالها عامة ونخبها الفكرية خاصة بالإسلام، في حين اقترن خط الضعف والتقهقر الحضاري بضمور هذا الاعتزاز وذبوله في هذه الأجيال والنخب، وهو ما يجب أن تدركه الأمة وتُرَبى عليه الأجيال حتى تذوق طعم العزة وحلاوتها، كما أشارت إلى ذلك الأحاديث النبوية السابقة.(/3)
الاعتزاز البعيد عن منطق الاستعلاء الأجوف: والاعتزاز الذي يربِّينا عليه الإسلام، بعيد تماما عن منطق الاستعلاء والاستكبار الأجوف الجهول، بل هو اعتزاز انفتاح على الرشد والصواب والحكمة والخير أينما كان، وعند من كان، والبعد عن الغرور واستصغار الآخرين أو احتقارهم أو التعالي عليهم. فالإسلام علمنا كيف تكون علاقاتنا بالآخرين، وكيف نستفيد منهم وكيف نفيدهم، بدون تعالي أو ممنونية، ولكن بثقة وتواضع ومحبة. وفي ذلك جاء قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13).
ولا شك أن رفع مستوى اعتزاز أجيال الأمة إلى هذه الذرى المتقدمة من الرسالية، يتوقف على نوعية الوعي الفكري والتربوي الذي تمنحه الأسرة والمسجد والمدرسة ووسائل الإعلام ومختلف المؤسسات الاجتماعية الأخرى في المجتمع.. لهذه الأجيال، بحيث تنشأ متوازنة الفكر والنفس والسلوك، بعيدة عن شذوذات وعقد الاستعلاء الأجوف، أو الدونية المذلة، أو الإمعية البليدة.
حظك من العيد: إذا استطعت أن تراجع نفسك اليوم، بكل صدق وجدية، وشرعت في التوبة النصوح بعد ذلك، واستدراك النواقص على ضوء هذه الحقوق السبعة للإسلام عليك، فإنك تكون قد أخذت حظك الموفور من عيد الأضحى المبارك، وبدأت صفحة جديدة من حياتك، على طريق العبودية الخالصة الممتعة لله تعلى.
دعاء: اللهم وفقنا لمراجعة أنفسنا، وأعنا على حملها على التوبة والاستقامة على صراطك المستقيم، وتولنا برحمتك وعنايتك إنك نعم المولى ونعم النصير. وأصلح اللهم لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، وصل اللهم على محمد وآله وصحبه وتابعيه بإحسان إلى يوم الدين.
________________________________________
* هذه خطوط عريضة لخطبة عيد الأضحى التي ألقاها الشيخ الطيب برغوث بمسجد الجمعية الإسلامية بمدينة تراندهايم بمملكة النرويج يوم الخميس: 10 ذي الحجة 1426 هـ الموافق: 20 .01 . 2005 . في حشد كبير من مختلف البلدان الإسلامية(/4)
أين نحن من هذا ؟ ما قولكم ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم خير الانام اما بعد:
قال احد العلماء في الغرب,ذهبت الى بلاد الغرب فرأيت اسلاما بغير مسلمين وذهبت الى بلاد المسلمين فرأيت مسلمين بغير اسلام ، فاحمد الله اني اسلمت قبل ان ارى العرب من المسلمين.
لماذا نحن المسلمين في سبات , نحن مسلمون بالاسم فقط فالقليل القليل منا من يصلى والقليل القليل ممن يصلون يعبدون الله حق عبادته , اصبح المسلم المؤمن حق الاسلام ، عملة نادرة ولا يوجد حتى من يشجعه بل وتذمونه لاعلائه الحق واتباع اوامر الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم, فمنكم من يقول ( معقد) ومنكم من يتهمه بانه رجعي ..
لكن اريد ان اسأل سؤالا ؟
لماذا ارى الاسلام يجتاح اوروبا وامريكا واسيا وافريقيا وكل القارات ؟
لماذا الاسلام وليس غيره؟
لماذا هناك ازدياد دائم حتى وان كانت هناك اعمال يتبرأ منها الاسلام ، لكننا نرى ازديادا واقبالا على اعتناق الاسلام!
لماذا اسلم هؤلاء وهم لهم ديانة اخرى؟
اليس لأنهم وجدوا العبادة الصحيحة ؟
اليس لأنهم ادركوا ان الدين عند الله هو الاسلام ؟
اليس لانهم وجدوا به دين الحق ؟
هذا عند الغرب وهم الان يطبقون تعاليم الاسلام .
حتى ان فتياتهم الان يلبسن الحجاب الكامل.
لكن فلننظر لحالنا نحن اين نحن من الاسلام ؟ اين ابناء المسلمين اين
بنات المسلمين ؟ هل نطبق تعاليم الاسلام هل نصلي ؟ انا ارى القليل من
المتحجبات وارى القليل من المصلين ، استحي ان اقول عن هؤلاء اللاتي يدعين الاسلام انهن اخواتي في الله ، اي اسلام هذا ؟ انا لا ارى مسلمات ويلبسن القصير ولا ارى مسلمات وثيابا ممزقا لا ارى مسلمات والمكياج يعتلي وجوههن ، الا يستحين ؟ اين الاهل اين النخوة اين العروبة اين الخجل ؟ ( نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات... ) الا ترين هؤلاء الشباب ؟ اتردن ان ينظر اليكن من لا يستحي ولا يخجل ؟ من لا يهتم بعرضه ؟ فلنر كم ازدادت اعمال الاغتصاب والتأخر في التعليم وغيره .. هذا الامر ينطبق ايضا على شباب المسلمين . هذا الذي يركب السيارة وينطلق بها في الشوارع في منتصف الليل ويشغل المسجل باعلى
صوت بكلام حتى هو لا يفهمه ، فقط لاثارة الانطباع ، والمشكلة الاكبر ان هناك فتيات يستلطفن ذلك ، ومنهم من ينتظر بعد المدرسة وينظر بعينيه الى اعراض المسلمات . الا يخجل الا يوجد عنده اخوات ؟ الا يدرك ايضا أن له اختا يمكن ان ينظر اليها أحد ايضا ؟ وانا اقول اين هم الشباب ؟ الا تخافون على اعراضكم ؟ لماذا تسمحون لاخواتكم بالتبرج والسفور والتعري ؟ نحن مسلمون . ايتها الفتيات انتن اخواتنا في الله . اريد ان اقول لكن ان الفتاة كاللؤلؤة محفوظة في صدفة ، اللؤلؤة تكون جيدة حسنة المنظر اذا لم يمسها احد ، وهي محفوظة في الصدفة ، فاذ ما فتحت الصدفة ( البيت) اصبحت عرضة للسرقة والمس بها .
خاتمه:
اني احثكم على طاعه الله . نريد مسلمين بحق ، نريد افعالا نريد من الداخل ومن الخارج مسلمين ، الاسلام ينتظركم ، الاسلام يبكي على حالكم، نحن الشباب الذين سنعلي الاسلام ورايته (خير امتي في شبابها ) نريد عقولا تحب الاسلام .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(/1)
أيها الأبطال لا تخدركم تسريباتهم الإعلامية!
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
http://www.islam-online.net/Arabic/news/2005-01/28/article05.shtml
احتلال العراق هدف أساسي من أهداف العدوان اليهودي والصليبي المعاصر، وقد تحقق لهم هذا الهدف الذي كان الجيش العراقي القوي يقض مضاجعهم، ويخيف اليهود ودول الغرب كلها، خشية أ ن يكون من أهم العقبات التي تعترض سيطرتهم على منطقة البلدان الإسلامية وبخاصة الدول العربية المحيطة بالأرض المباركة، ولهذا استدرجوا الرئيس العراقي السابق استدراجا مكنهم من احتلال العراق الذي كان داخلا في مخططاتهم لتغيير خارطة العالم.
فقد حرضوه على إقحام جيشه في معارك مع إيران استمرت ما يقارب عقدا من الزمان، أزهقت فيه من الأرواح الملايين من الجانبين، غالبهم من الجيش العراقي، وأعيق كذلك مثلهم أو أكثر، وأكلت الأخضر واليابس من المال، وأهلكت الحرث والنسل.
وانتهت الحرب بغير تحقيق أي هدف إلا الهدف الأمريكي واليهودي، وهو تحطيم ذلك الجيش وإضعافه، وتحطيم قوته وسلاحه البري والجوي، وإضعاف دول المنطقة، وبخاصة الدول الخليجية، في سياستها واقتصادها، وزعزعت الأمن فيها بعد أن مضرب المثل للأمن والاستقرار.
ثم حرضوا ذلك الزعيم الطاغي على بعض جيرانه، ليبدأوا هم في تحطيم هذا الشعب وحصاره، فاحتل جارته الصغيرة: الكويت بجيوشه الجرارة، فكان ذلك سببا لوقوف غالب الدول العربية ضده، خشية من شره، وتدخل المخطط الأمريكي بجيوشه الجرارة، برية وبحرية وجوية، فقتلت من قتلت من الجيش الأمريكي والمدنيين العراقيين، وأفسدوا ما بقي في العراق من مرافق، ووجدوا مسوغا لبقاء جيشهم في المنطقة، بحجة حمايتها من هذا المعتدي.
ثم جيشوا جيوشهم واستعدوا بترسانات أسلحتهم الحديثة للقضاء هذه المرة على كل مرافق العراق ومقوماته، من جيش وحكومة وعمارة وطاقة، وكانوا يظنون –كما قال لهم عملاؤهم من العراقيين- أنهم سيفرغون من العراق، بعد إسقاط تمثال الرئيس العراقي في وسط بغداد، فيرتبوا هذا الشعب ترتيبا يحقق لهم ما يصبون إليه من السيطرة الكاملة عليه وعلى من والاهم من العراقيين الذين كانوا قد وظفوهم في مؤسساتهم الاستخبارية، فيصبحون هم المنفذين لأوامرهم ونواهيهم.
ثم يتحولون إلى البلدان المجاورة للعراق فيطبقون فيها ما طبقوه في العراق، لتصبح جميع دول المنطقة شبيهة بالولايات الأمريكية، أقول شبيهة وليست مماثلة لها، لأن بعض تلك الولايات لها قوانينها التي تجعل لها شخصيتها ولا تخضع الخضوع الكامل للقادة المتهودين.
ولكن القوم فوجئوا بأن هذا الشعب المسلم العريق، لا يمكن أن يكون لقمة سائغة للمطامع اليهودية والصليبية، وإن ظاهرهم بعض أبنائه طمعا في الفوز بكراسي الحكم التي لا يقدرون على اعتلائها إلا بعون المعتدين المحتلين وحمايتهم، فقد أنف أبطال العراق العريق، من أن يناموا على ضيم، فقاوموا المحتل وجاهدوه، وقلبوا فرحته ترحة، وغروره إذلالا ووبالا، برغم ما قام به ها العدو ومن ظاهره من تدمير وقتل وعدوان على كل ضرورات الحية بما يملك من قوة وعتاد.
فهاهو يفقد الرجال والسلاح والمال، وينطبق عليه قول الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال(37)]
لقد أرهق المعتدي شعبه، بكثرة الضرائب لقتل الأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ وأئمة مساجد يستعبد الناس ويسمي استعبادهم تحريرا، ينشر الرعب ويزعم بأنه يطارد الإرهابيين.
وإن الطريق أمامه لطويل طويل، وهو ينال هذه الخسائر في شعب واحد اعتدى عليه، له حدود واضحة يستطيع أن يحمي بعضها ويضغط على جيرانه أن تحمي حدودها، فكيف لو شمل عدوانه شعوبا أخرى؟ إنه ستخلط على جيشه الحدود ويأتيه رجال الجهاد والمقاومة من كل فج وصوب، ويتسع الخرق على الراقع.
والآن يحاول أن يسرب إلى العراقيين عن طريق وسائل الإعلام، أنه سيسحب جيشه بعد الانتخابات، وهي لا تخلو من أحد أمرين:
الأمر الأول: أن يقصد بذلك خداع المقاومين لعدوان الذين أعلنوا الاستمرار في مطاردة قوته برا وجوا وسيكون بحرا، فلا ينامون وفي بلدهم جندي أجنبي واحد، والمقاومون لا يمكن أن يخدعهم المخادع، "مقتدين بقول عمر رضي الله عنه: "لست بالخب ولا الخب يخدعني".(/1)
الأمر الثاني: أن يكون جادا في سحب قواته، لأن كثيرا منهم قد هربوا من العراق، خائفين من ضربات المقاومة الباسلة التي رأوها بأم أعينهم في زملائهم، فمنهم من طلب اللجوء السياسي إلى دولة أخرى ومنهم من أصيبوا بأمراض نفسية من هول ما رأوا من الرجال الشجعان.
إنه يصرح بأنه سيسحب جيشه إذا طلبت ذلك منه الحكومة الجديدة بعد الانتخابات القادمة، وهو يعلم أن حكومات العراق القديمة والجديدة ÷ي أحرص على جيشه من نفسها، لأنها تعلم أنه قد لا تستطيع البقاء بعد انسحابه، لفقدها القوة التي تحميها وقد دمرها كما دمر كل شيء في العراق.
ثم لو صدق في سحب جيشه بطلب منها، فإنه قد رتب لنفسه قواعد عسكرية ليس من السهل عليه مغادرتها بدون ضربات تجبره على الانسحاب، فما احتل جيش معتد شعبا وخرج منه باختياره غالب، والأمثلة على ذلك لا تخفى في التاريخ القديم والحديث.
وسل عن ذلك غزاة الصليبيين القدامى في القدس، وسلهم عن غزو فيتنام...(/2)
أيها الدعاة .. بينوا دين الله
بيان الحق والصبر على عواقب ذلك من مقاصد بعثة الرسل وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل بيان الحق أتم قيام وعلى هذا الدرب سار أهل السنة من بعده وصمدوا في سبيل الصدع بالحق والمحافظة على أصول الدين وحفظ عقائد الناس وهذا بعض مما تناوله درسنا.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد، ، ،
فإن الله سبحانه أراد أن يُبين الحق للناس، وأن لا يكون لأحد عذر أن لا يبلغه الحق والدين؛ ولذلك أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [...لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ...] رواه البخاري ومسلم . فقام الأنبياء بالبيان، وبعدهم كان العلماء وطلبة العلم وكل من علم حقًا لزامًا عليهم أن يسيروا على طريق الأنبياء، وأن يُبينوا، قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ[187] } [سورة آل عمران] . وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ[159] } [سورة البقرة] .
فهذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم أن يبينوا للناس الحق أن يبينوا للناس أحكام الشريعة، ولا يكتمون ذلك، فمن كتم ما أنزل الله، وغش عباد الله؛ فـ { يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ } أي: يبعدهم، ويطردهم عن قربه ورحمته، { وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } جميع الخليقة . وأما الذين يعلمون الناس الخير، ويبينون الحق؛ فان الله يصلي عليهم، وملائكته تصلي عليهم، حتى الحيتان والأسماك وسائر الحيوانات والبهائم، حتى النملة في جحرها، كلٌ جزاؤه من جنس عمله .
وتوعد الله الذين يكتمون ما أنزل لقاء شيء من الحياة الدنيا: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[174] } [سورة البقرة] . فالذي يريد الحطام الدنيوي ليكتم ما أنزل الله، ويخفي الحق، أو يقول الباطل: { مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ } فالثمن الذي اكتسبوه من أعظم المحرمات ، وسيكون نارًا في بطونهم يوم القيامة، { وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ } بل يسخط عليهم، ويعرض عنهم، ومن أعرض الله عنه، فالنار مثواه . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ] رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة وأحمد. والجزاء من جنس العمل فكما ألجم نفسه بالسكوت عن الحق؛ ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة.
وقد قال الله سبحانه: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ...[213] } [سورة البقرة] . وقال عز وجل: { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ[39] } [سورة النحل] . إذاً: بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه.(/1)
وما هي وظيفة النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ } لماذا ؟ { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[44] } [سورة النحل] . ولذلك فان النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ كافة الوسائل في البلاغ والبيان، صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي:[ يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ -لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ- فَقَالَ: [أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ] قَالُوا نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا قَالَ:[فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ[1] } [سورة المسد]. رواه البخاري ومسلم .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف على القبائل: فعن رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدِّيلِيَّ قَالَ إِنِّي لَمَعَ أَبِي رَجُلٌ شَابٌّ أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْبَعُ الْقَبَائِلَ وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ وَضِيءٌ ذُو جُمَّةٍ يَقِفُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَبِيلَةِ وَيَقُولُ: [ يَا بَنِي فُلَانٍ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ آمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تُصَدِّقُونِي حَتَّى أُنْفِذَ عَنْ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ] فَإِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَقَالَتِهِ قَالَ الْآخَرُ مِنْ خَلْفِهِ يَا بَنِي فُلَانٍ إِنَّ هَذَا يُرِيدُ مِنْكُمْ أَنْ تَسْلُخُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَحُلَفَاءَكُمْ مِنْ الْحَيِّ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْشٍ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ فَلَا تَسْمَعُوا لَهُ وَلَا تَتَّبِعُوهُ فَقُلْتُ لِأَبِي مَنْ هَذَا قَالَ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ . رواه أحمد، حديث صحيح .
ورحل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بقاع أخرى، وذهب إلى الطائف ليبلغ الحق ولم يكن يحابي أحدًا لا كبيرًا ولا صغيرًا .
وكان عليه الصلاة والسلام يناظر لأجل بيان الحق: كما ناقش وفد نصارى نجران لما جاءوا إليه في شأن عيسى عليه السلام وقال الله: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[59] } [سورة آل عمران] .
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يكرر الكلمة، إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه من أجل البيان.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بقول فصل لو عده العاد لأحصاه، ولم يكن يستعجل استعجالًا لا يفهم معه السامع .
وكان يرفع صوته للبيان: قال عبد الله بن عمرو:تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: [ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ-مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا-] رواه البخاري ومسلم. وكذلك فإنه صنع المنبر ليصعد عليه ليكون أبين و أوضح .(/2)
وكان عليه الصلاة والسلام أبعد الناس عن أساليب التعمية والإلغاز والإشارات الخفية: ولما فتح عليه الصلاة والسلام مكة كان هناك نفر قد سبوا النبي عليه الصلاة والسلام، فأمر بإهدار دمائهم ومنهم ابن خطل وابن أبي سرح أمر أن يقتلوه، ولو رأوه متعلقًا بأستار الكعبة فقتل ابن خطل ، وَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: [أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ] فَقَالُوا مَا نَدْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ أَلَا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ قَالَ: [إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ] رواه أبوداود والنسائي . هذا ليس من شأن النبي، النبي واضح في كلامه، واضح في أفعاله، ليس عنده إشارات خفية.
وحتى لما مات عليه الصلاة والسلام عند موته ولسانه يقبض مع روحه جاهد لكي يقول لنا: [الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] حَتَّى جَعَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَجْلِجُهَا فِي صَدْرِهِ وَمَا يَفِيصُ بِهَا لِسَانُهُ. رواه أحمد وابن ماجة .
ومن بيانه عليه الصلاة والسلام أنه لا يُمكن أن يُؤخر ما يحتاج إليه الناس عن وقت الحاجة، وهي القاعدة العظيمة:' لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة': ويجب على المفتين عندما يسألون، ويعرفون الحق أن يجيبوا بلا مواربة، أن يجيبوا بلا تلاعب، أن يجيبوا بصريح العبارة، أن يجيبوا جوابًا يفهمه الناس .
إن من المصائب اليوم: أن يسأل بعض المفتين، فيسكت .
ويسأل بعضهم، فيجيب إجابة مغماة معماة، لا يعرف ما هو القصد فيها .
ومن أكبر المصائب في هذا الباب أن يسأل، فيجيب بالباطل؛ إرضاءً لفلان وعلان .
يا عباد الله .. إن أضرار عدم البيان شنيعة: منها:
خفوت دين الله ..وخفاء الحق .. واستشراء المنكر؛ لأنه لم يُبَيَّن فهو يستشري وينتشر .. وخذلان أهل الحق، لو بين لانتعش أهل الحق، وانتصر أهل الحق، وكان ذلك دعمًا لهم .. ومن أكبر المصائب لعدم التبيين: وقوع العامة في الضلال، ويَتَخذ الناس رؤوسا جهالًا، يفتون بغير علم، فيضلون ويضلون .
وكان الإمام أحمد رحمه الله يقدر موقعه في الأمة، و أن الناس ينظرون إليه: ولذلك لما طلب منه القول بخلق القرآن أبي، ولما هدد بالقتل، وقال له تلميذه: يا أستاذ قال الله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا[29] } [سورة النساء] . قال : يا مروذي، اخرج فانظر، فخرج إلى الساحة قال: فرأيت خلقًا لا يحصيهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر، قال لهم المروذي :ماذا تعملون ؟ قالوا: ننتظر ما يقول أحمد فنكتبه، فقال الإمام أحمد : يا مروذي أُضِلُّ هؤلاء كلهم .
والبويطي رحمه الله الشافعي لما امتحن في قضية خلق القرآن لم يجب: فقال له والي مصر المكلف من قبل الخليفة بامتحانه وتعذيبه حتى يقر، قال له بينه وبينه علاقة حسنة: قل فيما بيني وبينك، لماذا لا تريد أن تكتب وتقر بما أمر به الخليفة ؟ قال: إنه يقتدي بي مائة ألف ولا يدرون المعنى، ناس من العامة تقلدني لا تستطيع أن تميز، فأمر به فحمل إلى بغداد، فقال البويطي رحمه الله: لئن دخلت عليه- يعني: الخليفة- لأصدقن، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه مات في هذا الشأن قوم في حديدهم .
ونقل ابن كثير رحمه الله عن وهب: أُتِيَ رجلٌ من أهل زمانه إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنزير، فأعظم الناس مكانه، وهالهم أمره، وهذا رجل كان عالمًا يحبه الناس، والملك يريد أن يفتن الناس على أكل لحم الخنزير، وأشفق الناس على هذا العالم، فقال له صاحب شرطة الملك سرًا بينه وبينه: أيها العالم اذبح جديا مما يحل لك أكله ثم ادفعه إلى حتى اصنعه لك على حده فإذا دعا الملك بلحم الخنزير أمرت به فوضع أي الجدي بين يديك فتأكل منه حلالًا ويرى الملك والناس أنك إنما أكلت لحم الخنزير، فذبح ذلك العالم جديًا، ثم دفعه إلى صاحب الشرطة فصنعه له، و أمر الطباخين إذا أمر الملك أن يقدم إلى هذا العالم لحم الخنزير أن يضعوا بين يديه لحم ذلك الجدي . واجتمع الناس لينظروا أمر هذا العالم هل يأكل أم لا ؟ وقالوا: إن أكل أكلنا وان امتنع امتنعنا.(/3)
فجاء الملك، فدعا لهم بلحوم الخنازير، فوضعت بين أيديهم، ووضع بين يدي ذلك العالم لحم ذلك الجدي الحلال المذكى، فألهمه الله، فقال: هب أنى أكلت لحم الجدي الذي أعلم حِلَّهُ أنا - يقول لنفسه- ، فماذا أصنع بمن لا يعلم، والناس إنما ينتظرون أكلي ليقتدوا بي، وهم يعلمون أني إنما أكلت لحم الخنزير، فيأكلون اقتداء بي، فأكون ممن يحمل أوزارهم يوم القيامة، لا أفعل والله، وإن قتلت وحرقت بالنار . وأبى أن يأكل، فجعل صاحب الشرطة يغمز إليه، ويومي إليه، ويأمره بأكله أي إنما هو لحم الجدي، فأبى أن يأكل، ثم أمره الملك أن يأكل، فأبى، فألحوا عليه فأبى، فأمر الملك صاحب الشرطة بقتله فلما ذهبوا به ليقتلوه، قال له صاحب الشرطة: ما منعك أن تأكل اللحم الذي ذكيته أنت ودفعته إلي أظننت أني أتيتك بغيره وخنتك فيما ائتمنتني عليه؟ ، قال له العالم : قد علمت أنه هو، ولكن خفت أن يتأسى الناس بي، وهم إنما ينتظرون أكلي منه ولا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير، قال: وكذلك كل من أُريد على أكله فيمن يأتي من الزمان يقول : قد أكله فلان فأكون فتنة لهم ، فقتل رحمه الله . ونقل ابن كثير بعدها العبارة:' اتقوا زلة العالِم فإنه إذا زل زل بزلته عالَم' .
إن بيان الحق أمر عظيم وخصوصًا في هذا الزمان الذي كثر فيه الجهل، وقل فيه العلم، وكثر فيه أهل الباطل ونعيقهم: وقد قال عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة في زمن عافية الأمة وقوتها قال :'إني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينًا لا يرون الحق غيره' . فهو يستشعر عظم المسئولية: كيف سيغير الآن في واقع انحرافات ظنها الناس حقًا، فماذا نقول نحن عن عصرنا !
من أعذار عدم الإخبار بالحكم :
إذا سئل الإنسان، وهو لايعلم، فيجب أن يقول: لا أعلم، ولا يتكلم بما لا يعلم، فكيف يقول لنفسه: إن سكت كتمت العلم ولا يوجد عنده علم أصلا .
وكذلك إن كان يظن ظنًا، والسائل يجره قل فيها ..أفتى فيها ..هيا عجل، فإنه لا ينزلق ولا يتكلم إلا بما يقطع أنه يعرفه وأنه حق .
أن تكون المسألة المسئول عنها لم تقع بعد، فإذا كانت لم تقع بعد بعيدة الوقوع، فانه يسع العالم أن يسكت .
أن يتبين للمسؤول أن السائل لا يطلب الحق، يريد فتوى ليستغلها، أو يأتي على نية إذا قال لنا الشيخ ما نحب أخذنا به، وإلا تركناه، وهذا فعل اليهود: { ...إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا...[41] } [سورة المائدة] . أي: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاستفتوه إن أجابكم بما تريدون خذوه، وان لم تؤتوه فاحذروا، فماذا قال الله لنبيه: { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ...[42] } [سورة المائدة] . فأنت بالخيار، غير ملزم بالبيان هنا لقصد السائل الباطل.
ألا يكون الجواب مؤديًا إلى مفسدة أعظم ، ومن خوف المفسدة أن يكون عقل السائل لا يحتمل الجواب .
أما التعذيب والإكراه فانه يُجَوِّزُ في حالات أن يكتم العلم إذا خشي التعذيب الذي لا يطيقه، أو القتل إلا إذا كان جوابه سيترتب عليه إضلال الأمة فإنه يجب عليه أن يتحمل القتل ويجود بنفسه لله تعالى ويتكلم بالحق لا غير .
وكذلك لو كان الشيء الذي يخشى القتل من أجله لا يترتب عليه فوات علم يحتاجه الناس .
وكذلك إذا كان غيره أعلم منه في البلد فيجوز أن يحيل عليه ولا يتكلم، ويقول: اذهبوا فاسألوا فلانًا أعلم مني، وكان الصحابة تأتيهم المسألة تدور فيها بينهم حتى ترجع إلى الأول كلهم يخشى الفتيا .
و أما الأسباب غير الصحيحة لكتم العلم ، فمثل :
الخوف على المنصب والجاه: فهذا قيصر عرف الحق لكن لما لاحظ أنه إذا أعلنه فإن قومه سيخلعونه من الملك، رجع عنه عدو الله، فمات على النصرانية، فهذا سبب غير مبرر لكتم الحق أبدًا ، فكان يجب عليه أن يبلغ الحق ولو خُلِعَ من الملك .
وكذلك الخلع من الوظيفة: قال ابن القيم : ناظرت بعض علماء النصارى فلما تبين له الحق بهت، فقلت له وأنا وهو خاليين : ما يمنعك الآن من اتباع الحق ؟ قال : إذا قدمت على هؤلاء الحمير-هكذا لفظه، قال ابن القيم يعني: أتباعه- فرشوا لنا البسط تحت حوافر دابتي، وحكموني في أموالهم ونساءهم ولم يعصوني فيما آمرهم به، و أنا لا أعرف صنعة، ولا احفظ قرآنًا، ولا نحوًا، ولا فقه، فلو أسلمت؛ لدرت في الأسواق أتكفف الناس، لا أنا بقيت على منصبي في النصرانية، ولا أنا صاحب علم فأترأس في الإسلام، فمن الذي يطيب نفسا بهذا !! فقلت له: هذا لا يكون وكيف تظن بالله أنك إذا آثرت رضاه على هواك أنه يخزيك ويذلك ويحوجك، ولو فرضنا أن هذا أصابك فما ظفرت به من الحق والنجاة من النار فيه أتم العوض عما فاتك أهم مما يفوتك، قال: دعنا الآن من هذا !!.(/4)
إذًا: هذه أشياء لا يسوغ كتم الحق من أجلها أبدًا . اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذين يقولون بالحق وبه يعدلون، نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم انصر المجاهدين، وأعلي كلمة الدين، واكبت اليهود والصليبيين والمشركين، اللهم زلزلهم، اللهم انصرنا عليهم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين .
من خطبة:'أيها الدعاة .. بينوا دين الله' للشيخ/ محمد بن صالح المنجد(/5)
أيها الرجال كفوا !
زينب بنت فهد البابطين
</TD
إن الناظر في عالمنا اليوم يرى كثرة التدخل في شؤون الغير ، وعالم المرأة له قصب السبق في ذلك ؛ فأقحم في ميدان فسيح مفتوح على مصراعيه لكل والج بحجة الدفاع عن حقوق المرأة تارة ، وإنصاف المرأة تارة أخرى ؛ فدين كره لأنه لم يعطي المرأة حقها ! ودولة لم تعترف بذاك الدين ؛ لأنه سيقف حجر عثرة أما تقدم المرأة ! ؛ ودولة أزيلت من الخارطه ؛ لأنها زادت المرأة تخلفاً ؟ والدولة الأخرى تصب عليها الأنظار لأن المراة فيها لم تسر مع الركب .......
ومؤسسة قلعت من جذورها بحجة تطوير المرأة ، ورئيس دولة لن يشهد احتفالاً معتبراً لأن المرأة ستكون فيه محتجبة ! .وأناس زج بهم في عالم السجون بتهمة وقوفهم أمام تقدم المرأة . وكم .... وكم .....فأشبه ما تكون المرأة في عصر التقدم والحضارة بمسمار جحا ! .فأصبحت المرأة ذريعة لتصفية بعض الحسابات ، ووسيلة لتحقيق الأطماع الدنوية ؛ لاسيما العسكرية أوالتجارية .
ولهذا تكثر الصيحات والنداءت والتوجعات بين الفينة والأخرى ترتفع تارة وتهبط أخرى معلبة بثوب الرحمة والشفقة على المرأة ورد حقوقها إليها .....وإضافة تخلف كثير من الدول عن مصافاة الدول المتقدمة إلى حال وضع المرأة فيها ؛ مع أن جل الدول التي نسبت إليها هذا السبب ، وأخذت على عاتقها تحسين وضع المرأة بزعمهم لم يزدها ذلك إلا تخلفاً فلهم الذين سايروا تلك الدول المتقدمة سياسياً، أو اقتصادياً ، أو صناعياً .......ولهم الذين حافظوا على حال وضع المرأة عندهم .
وإن عجبك ليصل إلى منتهاه حين ترى أن هذه الصيحات والتوجعات تخرج من شقائق النساء ، فهل هو رحمة بهن ، أو الإحسان بأنهن لا يستطعن أن يطالبن بحقوقهن ، أو أن وراء الأكمة ما وراءها ، مع أن هناك فئام من المجتمع يتعطشون إلى من يأخذ لواء المطالبة بحقوقهم كالفقراء والشباب العاطلين عن العمل ، والعمال ..... فحولوا موجة صيحاتكم وتوجعاتكم إليهم وانشغلوا بأنفسكم ـ بارك الله فيكم ـ
مع أن هذه الشعارات قد ظهرت حقيقتها للعالم بجلاء ، وانتكست في أول مسيرتها الذي على إثره بدأت الصيحات تلو الصيحات تتطالب بعودة المرأة إلى وضعها الحقيقي في جميع أنحاء العالم ، لاسيما في الدول التي تزعم أنها أعطتها حقوقها ، وأحلت عنها قيود الحرية . ومع هذه كله إلا أن هناك مؤامرة تحاك ضد المرأة السعودية من الخارج بمباركة من الداخل من فئام من الناس ممن تلوثت ثقافتهم بأفكار الغرب ممن لم يرضيهم حال المرأة السعودية من كرامة وحشمة وعمل لائق بها ما بين مدّ وجزر ؛ إلا أن يقظة القائمين على هذا المجتمع المبارك ـ وفقهم الله ـ وحذر المجتمع من هذا المؤامرة المغطاة بثوب الرحمة والحب والحرص على تقدم المرأة السعودية تخمد في مهدها ؛ إلا أن أصحاب هذه المؤامرة لا يهنأ لهم بال حتى نبدأ من حيث انتهى الناس ، فهم يعيدون الكرة تلو الأخرى مستغلين منفذ الضعف ، والجو المناسب ، وانشغال الأمة بالأمور الصعاب ، ولهذا نلاحظ أن الصيحات والتوجعات لحال المرأة بدأت تطفوا على صُحفنا ، وشدة إلحاحٍ على ولاة الأمر بتغير حال المرأة بعد أحداث سبتمبر .
وما إن تصبح صبيحة كل يوم إلا وتصبّحك بعض الصحف بالمرأة السعودية واختناقاتها ؛ إلا ويتبادر إلى ذهنك حال المرأة في العصر الحجري ، والأخرى تبادرك بمطالبة لبعض حقوق المرأة كفتح مدرجات الملاعب أمام المرأة السعودية . وما إن يعقد مؤتمر صحفي مع بعض المسئولين إلا وتنهال عليه جملة من الأسئلة تدور في فلك المرأة ؛ مع أن القائمين على هذا البلد المبارك من لدن عهد المؤسس إلى هذا الوقت لم يألوا جهداً في إنصاف المرأة ، وإعطائها حقوقها ، وتوفير كل ما يناسبها مراعياً في ذلك جانب حفظ العرض ، وطبيعة المرأة السعودية ، بدأً بالأهم فالأهم ، لأنهم يعلمون أن كيان المرأة كيان لا يستهان به ؛ بصلاحه تصلح شرائح كثيرة من المجتمع . ولسان حالهم يقول : لم نفتح الدنيا بأمهات ما جنات وإنما فتحناها بأمهات عفيفات .وما نشاهده اليوم من تقدم في التعليم ، ودور التربية ، وتغطية شاملة في كثير من مجالات المرأة بفريق نسائي كامل إلا شاهد على ذلك الاهتمام . ولهذا نستطيع أن نجيب بكل ثقة مَنْ تكلم ، وطالب ، وألح أن تُقحم المرأة في مجالات ليست من اختصاصها أن يناقش و لا يلقي شوارد الأفكار جزافاً ، وليعلم أن المرأة السعودية ليست بدرجة كافية من الغباء حتى تصطادها خيوط هذه المؤامرة ، وأن وضعها الديني والعرفي يساعدها في الوقوف أمام هذا الشعارات ، وأن ولاة الأمر لها بالمرصاد .
وأن المرأة في هذا البلد وصلت إلى درجة علية من التعليم والثقافة والوعي تؤهلها بالمطالبة بحقوقها لو نُقص شيءٌ منها ، وأنها ليست بحاجة إلى وكلاء ومحامين عنها ، وأنها لم تُخِّول أحداً ممن انطلت عليه هذه الصيحات والشعارات من بنات جلدتها .(/1)
فيأيها الرجال كفوا واشتغلوا بأنفسكم فقد كفيتم . أختي : كوني على حذر من تلك الشعارات البراقة ، ولا تكوني جسراً تمرر عليه تلك الشعارات ؛ فإن وراء الأكمة ما وراءها ، واعتبري بحال وضع المرأة في المجتمعات التي تلقفت مثل هذه الشعارات ، وانخدعت بها ؛ فالسعيد من وُعظ بغيره .
عجباً ممن يزعم أن المرأة السعودية مهضوم حقها ويدندن حول وضعها السياسي ، وقيادة السيارة ، والأندية الرياضية ، والتجنيد العسكري ..........وغير ذلك مما لا يناسب دين المرأة ، و مقوماتها الجسمية ، أو وضعها العرفي . فطبيعة المرأة لا يناسبها كثير ممن يدندن حولها دعاة حقوق المرأة ، ولو عرفوا تلك الطبيعة حق المعرفة ، لخمدت تلك الصيحات والتوجعات ، فالمرأة لها ظروفها الفسيولوجة التي تختلف بها تماماً عن الرجل اختلافاً كثيراً ، فهي تمر عليها أطوار غريبة ، فمثلاً حالها من بدء الحمل إلى الوضع مع أنها أشهر معدودة فأقرب الناس إليها ـ وهو زوجها ـ قد لا يحسن لا التعامل ولا التكيف معها ، فما بالك بالأبعدين .......! فليس بهذا الكلام تنقص بحق المرأة ، فأنا واحدة من هذا العالم ؛ لكن أهل مكة أدرى الناس بشعابها ، وصاحب الدار أعلم الناس بما في داخل الدار ، وقد علم كل أناس مشربهم .
وفي الأخير نعيد تكرار المطالبة بالكف عن صيحات وتوجعات الترهات والخزعبلات ؛ حتى تنام المرأة وهي قريرة العين بعيد عنها هاجس الخوف من أن تُقحم إلى ما لا تحمد عُقباه ، وأن يُبدأ بها من حيث انتهى الناس ! .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أختكم
زينب بنت فهد البابطين
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(/2)
أيها الشاب الفطن
دار القاسم
أخي الحبيب...
أرجو أن تقرأ هذه الرسالة بنفس الهدوء الذي كتبت لك به بعيدا عن الانفعال أو اتخاذ موقف سلبي قبل أن تستكمل قراءتها فالعاقل الفطن من يستمع ويقرأ للنهاية ثم هو و شأنه !
قد يقوم البعض منا بأعمال يكون دافعه لها الشهوة المجردة دون التفكير المتعقل لعواقبها ومن ذلك ما يقوم به المعاكس للنساء لذا نقول له: دعنا نقف معك قليلا ونلقي الضوء على ما تقوم به:
1 ـ إن الفتاة التي تعاكسها هي من أفراد مجتمعك ويعني ذلك أنك تساهم في إفساده إرضاء لشهوتك وكان من المفترض ـ وأنت ابن الإسلام ـ أن تسهم في إصلاحه. فهل ترضى لمجتمعك وفتياته الفساد؟!
2 ـ إن الفتاة التي تعاكسها وتسعى إلى أن تفعل بها الفاحشة أو أنك قد فعلت: إنما هي في المستقبل إن لم تكن زوجة لك فهي زوجة لقريبك أو لأحد من المسلمين وكذلك الفتاة التي عاكسها غيرك وساهم في إفسادها قد يبتليك الله بها عقوبة لك في الدنيا قال تعالى: الخبيثات للخبيثين [النور:26].
3 ـ إن فساد النساء يعني فساد المجتمع وقد يبدأ من شخصك أو مما تساهم في تنشيطه وينتهي في المستقبل مع قريباتك ومن أفسدتها اليوم أنت أو غيرك قد تكون صديقة لزوجتك أو أختك أو قريبتك ويقمن بإفسادها ودلالتها على طريق الغواية.. فهن جزء لا يتجزأ من مجتمعك وقد حذر نبيك من مغبة الأمر فقال : { فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني اسرائيل كانت في النساء } [رواه مسلم].
4 ـ إن كانت الفتاة ترضى أن ترتبط معك في علاقة محرمة فما ذنب أهلها بتدنيسك لعرضهم؟ ثم هل طواعيتها لك عذر مقبول لاعتدائك؟! بمعنى آخر لو أن أحدا من الناس بنى علاقة غير مشروعة مع أحد قريباتك ثم اكتشفت ذلك فهل يكفيك عذرا أن يقول لك من هتك عرضك: هي التي دعتني لذلك لتغفر له خطيئته؟ وأسوق لك حديث الشاب الذي جاء إلى الرسول فقال له: { ائذن لي في الزنا فقال : أتحبه لأمك لابنتك لزوجتك لعمتك لخالتك، وكان يقول: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك فقال : ولا الناس يحبونه لبناتهم وأخواتهم وعماتهم وخالاتهم، أو كما قال } [رواه أحمد عن أبي أمامة].
5 ـ لو خيرت بين الموت أو أن يهتك عرضك ماذا تختار؟ إذا كيف ترضى لنفسك الوقوع في محارم الناس؟! قال الرسول : { من قتل دون أهله فهو شهيد } [رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو صحيح].
6 ـ ما هو الشعور الذي ينتابك وأنت تعيش في مجتمع خنته وهتكت محارمه وأفسدت نسائه؟
7 ـ هل يكفيك من الفاحشة أن تقوم بها مرة ـ مرتين ـ ثلاث أم أن الشيطان يريد لك الهلاك؟ فالأمر لا يتوقف وهو مسلسل سقوط خطير في دنياك وآخرتك قال تعالى: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [فاطر:6].
8 ـ سمعت عن القول المأثور ( الجزاء من جنس العمل ) فهل أنت مستعد أن تبتلى في عرضك الآن أو حتى بعد حين مقابل التنفيس عن شهواتك؟ قد تقول: أتوب قبل أن أتزوج أو أرزق بنتا ! فأسألك: هل تضمن أن الله يقبل توبتك ولا يبتليك؟! قال تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها [الشورى:40]. واعلم أن الذئاب كثير ولك أم وأخت وزوجة وبنت وابنةعم وابنة خال.. فاحذر وانتبه !
قال الشافعي رحمه الله:
عفوا تعف نساؤكم في المحرم *** وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنى دين فإن أقرضته *** كان الوفاء بأهل بيتك فاعلم
9 ـ إذا صنف الناس إلى صنفين: مصلحين ومفسدين فأين تصنف نفسك؟ وقد نهى الله عز وجل عن الفساد قال تعالى: ولا تفسدوا الأرض بعد إصلاحها.. [الأعراف:56].
10 ـ ما هو شعورك وأنت تفعل الفاحشة بزانية يدخل عليك والداك وإخوانك وكل صديق يثق بك ويحبك وكل عدو يود أن يشمت بك ثم الناس كلهم ويرونك على هذه الحال بل ما هو موقفك وأنت بعيد عن أعينهم في مأمن لكن عين الله تراك؟ وهل تذكرت وقوفك بين يدي الله في أرض المحشر عندما { ينصب لكل غادر لواء فيقال: هذه غدرة فلان } كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري.
11 ـ إن كنت ذكيا وحاذقا واستطعت بذكائك التلاعب بأعراض المسلمين دون أن يكتشف أمرك فما هو موقفك من قول الله تعالى: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [إبراهيم:42].
12 ـ هل تظن أن ستر الله عليك في هذا العمل كرامة؟ لا بل قد يكون استدراجا لك لتموت على هذا العمل وتلاقي الله به { إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته } [رواه البخاري ومسلم]، { ومن مات على شيء بعثه الله عليه } [السلسلة الصحيحة:1/ 282].
13 ـ ثم لنفترض أن الله ستر عليك، أفلا تستحي منه وتتوب، وإلى متى وأنت تفعل الذنوب؟!
14 ـ نهاية طريق حياتك الموت ثم توفى كل نفس ما كسبت [البقرة:281]، فهل تستطيع أن تشذ عن الخلق وتغير هذا الطريق؟! إذا لماذا لا تستعد للموت وما بعده والقبر وظلمته والصراط وزلته !؟! واعلم أنك تموت وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك.(/1)
15 ـ روى البخاري في صحيحه أن رسول الله قال: { إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما قالا لي انطلق ـ وذكر الحديث حتى قال: فأتينا على مثل التنور فإذا فيه لغط وأصوات فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا } فلما سأل عنهم الملائكة قالوا: { وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني }. فهل تود أيها الشاب أن تكون منهم؟!
16 ـ قد تقول لا أستطيع الزواج لغلاء المهور فهل الحل الوقوع في الحرام؟! ثم إن سلوكك طريق الحرام تواجهك فيه مصاعب وتسعى جادا لتذليلها بجهدك ومالك وفكرك وأنت مأزور غير مأجور فلماذا لا تكون لك هذه الهمة في طريق الحلال فتواجه الصعوبات، وأنت مأجور لك الأجر وحسن المثوبة والذكر الحسن؟ قال : { ثلاث حق على الله عونهم ـ ذكر منهم ـ الناكح يريد العفاف } [أخرجه الترمذي والنسائي وحسنه الألباني].
فماذا تختار؟
إن ممارسة الشيء والاستمرار عليه مدعاة لحبه والدعوة إليه فيخشى على من داوم فعل هذه الفاحشة أن يستسيغها حتى في أهله بعد حين فيصبح ديوثا والعياذ بالله من ذلك.
أخي المسلم...
قد تكون المرأة التي بدأت معها علاقة غير مشروعة عن طريق الهاتف متزوجة وفي لحظة ضعف أو غياب وعي استرسلت معك في الحديث ثم قمت بالتسجيل كالعادة ثم بدأت بتهديدها.. الخ، هل تعلم أنك بهذا العمل قد ارتكبت جريمة شنعاء؟!! ليس في حق المرأة فقط بل وفي حق زوجها الذي أفسدت عليه زوجته والرسول يقول: { ليس منا من خبب ـ أفسد ـ امرأة على زوجها } [رواه أبو داود]، ثم في حق أطفالها إن كان لديها أطفال فما ذنبهم أن يدنس عرضهم ويفرق بين أبويهم وقد يكون ذلك أيضا سببافي ضياعهم وانحرافهم. والمسؤول عن ذلك كله هو أنت فما هو عذرك أمام الله؟
وختاما...
نتمنى أن لا تكون ممن قال الله فيهم: وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد [البقرة:206]، ولكن عد إلى الله واعلم أن التوبة تَجُب ما قبلها واسع إلى االتوبة النصوح قبل أن توسد في قبرك وتحصى عليك أعمالك.
قال تعالى: فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم [المائدة:39].
وقال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى الله وأسلموا له.. [الزمر:53-54].
أخي الشاب..
اغتنم شبابك قبل هرمك وحياتك قبل موتك واجعل هذا الذكاء وهذه الفطنة لنفع الإسلام والمسلمين ورفع شأن راية الدين. جعلك الله هاديا مهديا إماما في الخير والهدى ورزقنا جميعا العفاف والتقى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/2)
أيها الشباب هذا طريق الرزق
د. فيصل بن سعود الحليبي 11/8/1424
07/10/2003
تواجه الأمة اليوم داءً خطيرًا ، ووباءً مستشريًا، يستهدف أهم شريحة فيها، ويقصد عنصرًا حيويًا من عناصر سؤددها ونهوضها، ومع هذا فإنه ليس داءاً جديدًا ، ولكنه وجد في هذا الزمن فرصًا أكثر للانتشار والسريان، حتى بدأت بعض المجتمعات تتأقلم معه ، وتبرر له ذيوعه ، وتتشاغل عن أخطاره ، وتنسب آثاره الموبوءة إلى أسباب أخرى !!
إنه داء البطالة الذي سرى في دماء شبابنا ، يقتل فيهم همتهم ، ويستل منهم انتماءهم لدينهم وأمتهم ، ويقعدهم عن العطاء ، ويقنعهم بالكسل ، مصوّرًا لهم أنهم فريسة قلة فرص العمل ، وأن هذه هي أقدارهم فحسب .. وأن هذا هي أرزاقهم التي كُتبت لهم!.
ولعل من المجدي في حل هذه المشكلة ألا يترك الشباب العاطل عن العمل يخوض غمار هذه القضية وحده ، مع قلة خبرته ، وكثرة المغريات حوله؛ بل أن نعزز صلتنا بشبابنا، ونقرب إليهم طريق العمل الشريف ونسهله لهم، ونرشدهم إلى أول الطريق، مشرفين على خطواتهم فيه، ولعلي هنا في هذه العجالة أضع معالم يسيرة ومحددة في ذلك:
أولاً: إقناع الشباب بشرف العمل ، وأنه من سنن الأنبياء والشرفاء ، فما من نبي إلا ورعى الغنم، وكان النبي-صلى الله عليه وسلم- رزقه تحت رمحه ، وكان داودُ حدادًا ، وكان نوحٌ نجارًا ، وبالمقابل فإنه لابد من إقناعه أيضًا بدناءة البطالة والاتكال على الآخرين ، فقد سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم-: أيّ الكسب أطيب ، فقال : "عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور" [رواه البزار وصححه الحاكم] .
ويقول عمر -رضي الله عنه-: "أرى الفتى فيعجبني ، فإذا قيل لا حرفة له سقط من عيني"، ويقول كذلك : "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة".
ولقد شوهد الصديق -رضي الله عنه- في اليوم التالي لتوليه خلافة الأمة بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد جعل على رأسه حزمة من الثياب متوجهًا بها إلى السوق ليبيعها.
أما أبو الوليد الباجي العالم المالكي - رحمه الله؛ فقد آجر نفسه لحراسة درب بغداد في الليل؛ ليستعين بأجرته في النهار.
وكان إبراهيم بن أدهم -رحمه الله- يسقي ويرعى ويعمل بالكراء، ويحفظ البساتين ويحصد بالنهار ويصلي بالليل.
ثانيًا: أمرهم بتقوى الله تعالى ، والتضرع إليه ، وسؤاله التوفيق والسداد ، في أن يدلهم على باب من أبواب الرزق ، لأن من (مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
ثالثًا: أن يؤمن الشباب بأن العمل الشريف عبادة ينال عليها الأجر والثواب لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك ، فإنه قال : "لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ" [رواه البخاري].
رابعًا: تذكيرهم بوجوب التوكل على الله في طلب الرزق ، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث الصحيح : "لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا" [رواه أحمد وغيره].
خامسًا: ألا يترددوا في قبول أيّ عمل يعلم يقيناً أنه يرضي الله تعالى ولو بمقابل يسير ، فالرزق الحلال يباركه الله تعالى ، والحرام ممحوق البركة في الدنيا والآخرة .
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ...
ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
سادسًا: ألا يجعلوا أعين الناس مانعاً لهم من مزاولة أعمالهم التي تيسرت لهم، فإن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة ، لكنها خطوة مشحونة بالعزم ، وصدق الإرادة .
سابعًا: أن يحذّر الشباب أن يقعوا فريسة لاستدرار أموال الناس والتذلل بين أيديهم؛ وقد رزقهم الله أسباب الرزق ، من قوة وعقل وشباب وصحة ، فلقد كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه على العمل والكد ، ويحذرهم من عار المسألة وذل الافتقار للخلق.
فها هو ذا عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- يخرج من مكة مهاجراً ، لا يملك من ماله إلا ما يرتديه من الثياب ، فيقدم المدينة فقيراً ، فعرض عليه أخوه من الأنصار سعد بن الربيع -رضي الله عنه- أن يناصفه ماله فأبى ذلك ، وقال : دلوني على السوق ، فنزل وعمل في التجارة ، حتى أصبح من أغنياء الصحابة ، ينفق على الجيوش في سبيل الله ، ويسير القوافل لنصرة دين الله ، ولما مات وأرادوا تقسيم تركته يقولون: لو رفعت أي حجر من بيته لرأيت قطعة من الذهب.
ثامنًا: أن يذكّر الشباب وخصوصًا في بداية طريق العمل بأهمية الصبر ، وأنه مفتاح الرزق ، وأن يُحكى لهم عن الأجداد كيف عاشوا وصبروا حتى فتح لهم الله كنوز الأرض ، وقديمًا قالوا:
إني رأيت وفي الأيام تجربة ... ...
للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقلّ من جدّ في أمر يحاوله ... ...(/1)
استصحب الصبر إلا فاز بالظفر
تاسعًا: أن نقضي على أسباب انقطاع الشباب من العمل بعد الاتصال به ، وذلك بدعمهم نفسيًا وماديًا ، وألا نتركهم وحدهم بلا عون أو مساعدة .
عاشرًا: أن نحثهم على الإخلاص في أعمالهم ، والمثابرة فيها ، والأمانة في تحمل مسؤوليتها ، والتميز في أدائها؛ فإن الله يقول : (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) ، ويقول كذلك : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، ويقول النبي-صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح : "إن الله يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه".
أسأل الله تعالى أن يوفق أمتنا لما فيه خير لها في الدنيا والآخرة(/2)
أيها الطالب كيف تقضي عطلتك الصيفية؟
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
الفراغ نعمة إن استغل استغلالاً حسناً، ولكن سرعان ما ينقلب إلى نقمة وبلاء إن لم يُعرف قدره، فما أكثر الجاهلين بقيمة هذه النعمة المغبونين فيها، "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ"، ولهذا جاء في المثل: "الوقت من ذهب"، و"الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، سيما مع اجتماع المال والشباب: "إن الفراغ، والشباب، والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة".
واجب أولياء الأمور في البيوت، والمدارس، والمراكز الصيفية، ووزارة الشباب، وغيرها من المؤسسات، أن تعد البرامج النافعة، وتضع الخطط الهادفة لاستغلال طاقات الشباب والاستفادة من مواهبهم وقدراتهم وملكاتهم الذهنية والجسدية، خاصة في العطل الصيفية، بما فيه نفع لهم ولأهليهم ولمجتمعهم، وبما يحول بينهم وبين الانحرافات والممارسات الخاطئة السالبة، فهم أمانة في أعناقهم.
وسائل الاستفادة من الشباب في العطل الصيفية لها مساران:
1. فردي.
2. جماعي.
المساران ينبغي أن يشملا الأغراض التالية:
1. الأعمال الجادة المفيدة له ولأهله ولمجتمعه.
2. تنمية مقدراته وملكاته ومواهبه.
3. الترويح البريء.
4. صرفه عما يضره.
الجانب الفردي
• مساعدة والديه وأهله في عملهم، زراعياً كان أم حرفياً، أم تجارة، ونحوها.
• الاطلاع العام.
• زيارة الأقارب وصلة الأرحام والأصدقاء.
• ممارسة أي عمل يكتسب منه إن كان محتاجاً، والاجتهاد في توفير قدر من احتياجاته الدراسية.
• تنمية مواهبه وملكاته بالتدريب على ما يهواه.
• حضور الدروس في المساجد والمحاضرات.
• ارتياد المكتبات العامة.
الجانب الجماعي
يحتاج إلى إنشاء مراكز صيفية، مكتبات عامة، حوافز مالية وتشجيعية قيمة، وسائل ترحيل، عمل استبيان يوضح ميول واتجاهات ورغبات الطلاب، وعلى ضوئه يقسمون إلى هذه المجالات:
• قوافل جماعية، دعوية، تعليمية، تثقيفية، لمناطق السودان المختلفة.
• دورات لتحفيظ القرآن.
• العُمَر الجماعية.
• الرحلات الجماعية لبعض المناطق السياحية، والصناعية، والزراعية.
• معسكرات مقفولة.
• دورات علمية هادفة مكثفة.
• الاشتراك في مواسم الحصاد.
• دورات تقوية.
• عمل حلقات لمحو الأمية وتعليم الكبار.
• المساهمة في الأعمال الطوعية والإنسانية.
• حملات نظافة للأماكن العامة.
• حملات تشجير للشوارع الرئيسية.
• عمل دورات توعية، مرورية وغيرها.
• معسكرات رياضية.
• معسكرات عسكرية.
• إعداد صحف ومجلات حائطية في المساجد والمدارس والأندية وغيرها.
• معسكرات لتعليم السباحة والرماية.
الحرص والتشجيع على الآتي في طول العام وفي العطلة خاصة
• الصلوات المكتوبة في المساجد.
• حضور الدروس التي تقام في المساجد.
• الارتباط بالمسجد، عن طريق التأذين، وكنسه، ونظافته، وتشجيره، وعمل صحف.
• حضور المحاضرات والاشتراك في الدورات التعليمية.
• الاعتماد على النفس في غسل وكي الملابس ونحوها.
• قراءة والاستماع إلى المفيد النافع في الدين والدنيا.
• التعلق بمعالي الأمور، وأن يكون للمرء هدف يسعى لتحقيقه في عمره القصير.
الحذر من الآتي
• كثرة النوم.
• كثرة الولوج والخروج في المواقع الساقطة.
• الاهتمام بسفاسف الأمور، نحو تشجيع الفرق الرياضية، وقراءة ما يتعلق بها وبالفن في الصحف ونحوها.
• الجلوس في الطرقات والدكات والميادين العامة.
• مصاحبة الأشرار والخروج والدخول معهم.
• الدخول على النساء الأجانب.
• الذهاب إلى الأسواق والجلوس في المقاهي والمطاعم.
• متابعة المسلسلات والاستماع للأغاني.
• الجلوس من غير عمل.
هل تعلم أيها الشاب أن الإمام الشافعي جلس للفتيا والتدريس وهو في سن الخامسة عشرة؟ وأن أسامة بن زيد رضي الله عنه قاد الجيش في غزوة مؤتة ولم يبلغ العشرين؟ وأن أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل رضي الله عنه مات وعمره أربع وثلاثون سنة؟ وهل تعلم أنه لن تزول قدماك عن الصراط حتى تُسأل فيما تُسأل "عن شبابك فيما أبليت"؟ وأن الشباب هم عدة هذه الأمة ونصرتها في جميع العصور؟
وفقك الله لما يحب ويرضى، وبصرك لما فيه خيرك في الدنيا والدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.(/1)
أيها الظلمة .. رويدا ..
فإن موعدكم الصبح أليس الصبح بقريب
د / إبراهيم بن عثمان الفارس
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد :
إن الناظر في أحوال الناس اليوم ليرى أمرا عجبا من ظهور الظلم وتفشيه وتكشيره عن أنيابه ... وتمر علي حالات مريعة من الظلم الظاهر البين والتي يقف المرء أمامها محتارا يضرب كفا على أخرى من وصول الناس إلى هذه الدرجة من السؤ .
فهذا زوج يظلم زوجته ولا يبالي ..........
وذاك أب لا يلقي بالا للظلم الذي يوقعه على بعض أبناءه ..........
وثالث يظلم أمه لكي يرضي زوجه ..........
وتاجر يظلم من استأمنه على ماله ..........
وصاحب عقار يظلم من يتعامل معه ..........
وكبير يظلم من هو دونه ..........
ومسئول يظلم مرؤوسه ..........
وهكذا تكبر الدائرة وتتضخم ............. فإلى هؤلاء أوجه هذا النداء :
أيها الظالم :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً ******* فالظلم آخره يفضي إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه ******* يدعو عليك وعين الله لم تنم
والظلم مجاوزة الإنسان حده ، واستطالته بالجور على غيره ، وهو إحدى طبائع النفس البشرية ، تظهره القوة ، ويخفيه الضعف .
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ******* ذا عفة فلعله لا يظلم
وقد حذر الإسلام من الظلم أشد التحذير ، وبين آثاره المشينة ، وعواقبه الوخيمة ، ونتائجه المدمرة ، على الفرد والمجتمع .
* فقال سبحانه وتعالى ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) [ الشعراء 227 ]
* وقال( إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [ القصص 50 ]
* وقال عز وجل ( إنه لا يفلح الظالمون ) [ الأنعام 21 ]
* وقال تبارك وتعالى ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ الشورى 42 ]
* وقال( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [ ابراهيم 42 ]
* وقال سبحانه وتعالى ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) [ غافر 18 ]
* وعن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا …الحديث )
* وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الظلم ظلمات يوم القيامة )
* وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ، فقال رجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره ؟ قال تحجزه أو تمنعه من الظلم ،فإن ذلك نصره )
أما والله إن الظلم شؤم ******* وما زال الظلوم هو الملوم
إلى ديان يوم الدين نمضي ******* وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في المعاد إذا التقينا ******* غداً عند المليك من الظلوم
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ( بئس الزاد إلى المعاد ، العدوان على العباد )
أما ميمون بن مهران فيقول( الظالم والمعين على الظلم والمحب له سواء )
أيها الظالم :
اعلم إن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ، فإنه مهما كان ذليلاً ضعيفاً ، أو مهاناً وضيعاً ، فإن الله ناصره على من ظلمه ، ومؤيده على من اعتدى عليه ، فالله تبارك وتعالى يرفع دعوة المظلوم إليه فوق الغمام ويقول لها ( وعزتي وجلالي ، لأنصرنك ولو بعد حين ) ، والمظلوم لا ترد دعوته ، ولو كان كافرا أو فاجرا ، فإن كفره أو فجوره إنما هو على نفسه ، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر ، والإمام العادل ، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ، ويقول الرب : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ) وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ، ففجوره على نفسه ) وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا ، فإنه ليس دونها حجاب)
وهذا تحذير شديد ، وإنذار ووعيد ، موجه من المصطفى صلى الله عليه وسلم للظالمين ، حيث يقول {( إن الله عز وجل يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ) ثم قرأ ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)[ هود 102 ] }
ويقول أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه ( إياك ودعوات المظلوم ، فإنهن يصعدن إلى الله كأنهن شرارات من نار)
الظلم نار فلا تحقر صغيرته ******* لعل جذوة نار أحرقت بلدا(/1)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة )
أيها المظلوم صبراً لا تهن ******* إن عين الله يقظى لا تنام
نم قرير العين واهنأ خاطراً ******* فعدل الله دائم بين الأنام
وإن أمهل الله يوماً ظالماً ******* فإن أخذه شديد ذي انتقام
أيها الظالم :
اعلم أن الظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة :
ديوان لا يغفر الله منه شيئا وهو الشرك به ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به . يقول عز وجل ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ) [ النساء 48 ] ويقول سبحانه وتعالى ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) [ لقمان 13 ]
وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئاً ، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً ، فإن الله تعالى يستوفيه كله ، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه)
وديوان لا يعبأ الله به ، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل ، فإن هذا الديوان أخف الدواوين ، وأسرعها محواً ، فإنه يمحى بالتوبة ، والاستغفار ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة ، ونحو ذلك فعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ) بخلاف ديوان الشرك فإنه لا يمحى إلا بالتوحيد ، وديوان المظالم ، لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها ، واستحلالهم منها ، ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل ، حرم الجنة على أهله ، فلا تدخل الجنة نفس مشركة ، وإنما يدخلها أهل التوحيد ، فإن التوحيد هو مفتاح بابها ، فمن لم يكن معه مفتاح ، لم يفتح له بابها .
أيها الظالم :
علمت مما سبق ، إن الظلم مرتعه وخيم ، وعاقبته أليمة ، وآثاره سيئة ، وقد بين الله سبحانه وتعالى في الكتاب العزيز ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عاقبة الظلمة فالله الله في نفسك التي بين جنبيك أحفظها في الدنيا من الآفات الخطيرة ومنها الظلم لتسعد في الآخرة وتنعم ، وترتاح في الدنيا وتغنم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
مع تحيات أخوك(/2)
أيها العاصي ويحك أقلع
أحبتي :
اسمحوا لي أن أرجع بأسماعكم إلى الوراء آلاف السنين ، ولكن آمل أن يكون هذا الرجوع فيه استصحاب لعيني البصيرة .
إنها اللحظات التي تسبق وجود الإنسان في هذه الدنيا .
انظر 00
انظر 00 هذا راكع وهذا ساجد .
الكون كله يوحد الله 000 كله طائع لمولاه .
اسمع زجل التسبيح يسمع في كل الأرجاء .
تسبحه نغمات الطيور * * * يسبحه الظل تحت الشجر
يسبحه النبع بين المروج * * * وبين الفروع وبين الثمر
يسبحه النور بين الغصون * * * يسبحه المساء وضوء القمر
الله
الشمس والبدر من أنوار حكمته * * * والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه والوحش مجده * * * والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت الصخور الصم قدسه * * * والنحل يهتف حمدا في خلاياه
الله
" وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " .
أحبتي :
حدث أذهل البشرية 00 هذا آدم قد خلقه الله من طين ثم أمر الله الملائكة بالسجود له إذا نفخ فيه الروح " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين " .
قبحك الله يا إبليس لقد عصيت ملك الملوك وتكبرت على من خلقك ولم تك شيئا فحق عليه اللعنة إلى يوم الدين .
إنها المعصية وعلى رأسها الكفر بالله .
ولكن منذ ذلك اليوم تسمع في دنيانا هذه عن معاص ٍ في حق الملك ما يشيب من هوله الولدان .
آدم عليه السلام يسكنه ربه الجنة فيوسوس إليه اللعين إبليس فيقع آدم في المعصية .
نعم عصى آدم ثم ماذا ، " وعصى آدم ربه فغوى " إنها الغواية بعيدا عن الله ، ولكن آدم الذي اجتباه ربه تلقى كلمات من ربه فتاب عليه وهدى .
أخي :
عينا البصيرة التي حدثتك عنها قبيل قليل تظهر خروج آدم من الجنة بمعصية واحدة ، فيا ويح من هو خارجها ثم يوالي المعصية تلو المعصية .
من نعصى ؟
ثم ليت شعري من نعصى ؟ !
إنه
الله
الذي خلقنا من العدم وأسبغ علينا وافر النعم .
أيها العاصي
ألا تستحي ؟ !!!
حياتك كلها هبة من ؟ نَفَسَك من أعطاك إياه ؟ و كم و كم تعرضنا للهلاك فحفظنا والفضل له ، و نعمه تغمرنا والفضل له .
ألا استحى المرء من كثرة نعمه علينا ؟ .
هب البعث لم تأتنا رسله * * * وجاحمة النار لم توقدِ
أليس من الواجب المستحق * * * حياء العباد من المنعم
الله
فيا عجبا كيف يعصى الإ له أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية * * * تدل على أنه واحد
فإن لم يقنع الترغيب فإن نذر الله إلينا تترى :
" إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد * وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد "
ولو شاء ربك لما أبقى على ظهرها من دابة " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة "
وإلا فأين عاد الشداد الذين جابوا الصخر بالواد ؟ أين فرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ؟ أين ثمود؟ أين القياصرة ؟ أين الأكاسره ؟ .
والجواب : " فلما آسفونا انتقمنا منهم أجمعين " أي فلما أغضبونا انتقمنا منهم ".
" فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد " .
ولماذا نقلع ؟
أخي إما أنك تستشعر حرارة المعصية أو أنك لا تشعر بها .
، فإن كنت لا تشعر فويحك أسرع لأنه الران ، وهل تدري ما الران ؟
طبقة تغطي القلب لكثرة المعاصي فلا يشعر بعدها بحرارة الذنب .
قال تعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " .
أي أنه حصل هذا الران بسبب كسب الذنوب والمعاصي .
رأيت الذنوب تميت القلوب * * * وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب * * * وخير لنفسك عصيانها
، فهل يعقل أنك وصلت إلى هذا ؟
فإن كان ذلك كذلك فأسرع وأقلع وعد وأنب .
، وإن كنت تستشعر فهذا أوجب لأن تسارع إلى الإقلاع .
إنها المعصية :
تظلم الوجه : قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما : إن للسيئة سوادا ً في الوجه .
وتضيق الصدر : " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ".
وتظلم القلب وتميته :
رأيت الذنوب تميت القلوب * * * وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب * * * وخير لنفسك عصيانها
وتحرم نور العلم :
قال الإمام الشافعي :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي * * * فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور * * * ونور الله لا يهدى لعاصي
وتحرم الرزق : روى أحمد من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه .
ناهيكم يا عباد الله بما يحل بالبلاد والعباد من قحط وجدب وانتشار للأمراض والأوبئة وما يحل من زلازل مدمرة وبراكين حارقة ورياح وأعاصير عاصفة مع الابتلاء بجور السلطان وتسلط الأعداء .
وفي ظل هذا الفساد العام يموت السمك في الماء والطيور في الهواء .
يقول أبو هريرة رضي الله عنه : والذي نفسي بيده إن الحبارى لتموت هزلا في وكرها بظلم الظالم .(/1)
إنه فساد عام في الدنيا كلها لا يحلو للحياة معه طعم ، وصدق الله إذ يقول : " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " .
فإلى متى يا عباد الله ؟ !
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا وأمددنا بأموال وبنين واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهارا .
عباد الله :
كل هذا هين أمام ما ينتظر في الدار الآخرة من عذاب أليم وخزي مقيم الغمسة الواحدة فيه تنسي نعيم الدنيا كله .
" ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء 0000 يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار * ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ".
فإلى متى يا عباد الله ؟ !
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا وأمددنا بأموال وبنين واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهارا .
أحبتي :
إن من نعم الله علينا جميعا أن فتح لنا بابا للتوبة لا يغلق إلى يوم القيامة ونادى علينا جميعا ، فيا ترى لماذا يدعونا ؟
" يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى " .
سبحان الله ما أحلم الله المعصية في حقه ثم ينادي علينا :
" وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " .
فاللهم توبة تمحوا بها ما سلف وما كان .
وصلي وسلم يا ربي على خير تواب أواب نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وكل أواب .
كتبها من يرجو عفو ربه /
أيمن سامي
المشرف العام على موقع الفقه(/2)
أيها الليبراليون .. وإنَّ لكم في الاقتصاد لعبرة !
02-3-2006
بقلم عبدالله الخزمري
"...إن هذا النجاح يوصلنا إلى حقيقة دامغة وهي أن الشعوب الإسلامية رفضت رفضاً مطلقاً منطلقات الليبرالية الاقتصادية استجابة لأمر الله وأمر رسوله وتحملت جراء ذلك الكثير من العنت والتعب حتى فرضت قناعتها..."
تتناقل وسائل الإعلام هذه الأيام عزم كثيرٍ من البنوك الأمريكية فتح نوافذ للتمويل الإسلامي تلبية لرغبات عملائها المتزايدة للتمويل وفق ضوابط الشريعة الإسلامية .
إذاً، لم تعد الحاجة لفتح نوافذ إسلامية للتمويل والمتاجرة مقتصرةًً على البلاد الإسلامية وإنما تجاوزتها لفتح معاملات مصرفية إسلامية في بنوك غربية تعمل في مجتمعات ليبرالية خالصة .
مثل هذه التجربة الثرة والغنية يجب ألا نغفلها وأن نثير النقاش حول دلالاتها وإيحآتها الفكرية والسياسية والاجتماعية. فكما يعلم الجميع أن عمر المعاملات المصرفية في البنوك وشركات التمويل لا يتجاوز عقدين الى ثلاثة عقود من الزمن . وقد كان الاقتصاديون ينظرون بتحفظ كبير إلى نجاح فكرة ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي جهلاً منهم بغزارة البدائل الإسلامية حيناً وانحرافاً فكرياً ومنهجياً أحياناً أخرى .
وقد ترتب على هذه النظرة السوداوية قيام البنوك في فترة الستينات والسبعينات في مجملها على نظام المصرفية الرأسمالية المعروفة والتي تعتمد الفائدة " الربا" وسيلة للإقراض أو الاقتراض متجاهلة النصوص الكثيرة والمتوافرة والدالة على حرمة هذه المعاملات وخطرها على الفرد والمجتمع، بل ومتجاهلة رفض المجتمعات الإسلامية لهذه المعاملات وهروبها منها .
استطاعت بعض الشركات والمصارف قراءة الواقع قراءة صحيحة فتلمست تطلع شريحة كبيرة من الناس إلى البديل الإسلامي فقامت بإنشاء مصرفية إسلامية بأسلوب عصري يستفيد من التقدم التكنولوجي والمعطيات الاقتصادية ويتوافق في الجانب الأخر مع الضوابط الإسلامية التي وردت بها النصوص وأجمع عليها علماء الأمة . ولم تكن دهشة المتابعين فقط من كثرة البدائل والحلول الإسلامية بل ومن سرعة نجاح تلك الحلول والبدائل وتفوقها على بدائلها التقليدية .
أما أرباح و نتائج المصارف الإسلامية ونجاحاتها المتتالية في كل برامجها وأفكارها الخلاقة فقد أصبحت حديث كل الاقتصاديين محلياً وعالمياً بالرغم من حداثة التجربة وقلة الموارد . وكنتيجة طبيعية لهذا النجاح بدأ العديد من البنوك والمصارف العربية والخليجية تحديداً فتح نوافذ استثمارية وتمويلية إسلامية ولحق بها بعد ذلك الكثير من المصارف العالمية .
ويجب أن ننبه هنا إلى نقطة مهمة في هذا السياق ألا وهي أن الوعي الشرعي والاستثماري المتنامي لدى المجتمعات الإسلامية أصبح يفرق وبشكل واضح بين بنك وأخر حتى ولو كانا يقدمان نفس الخدمات الاستثمارية الشرعية وبدأت مطالبة من نوع جديد وهي أن تقيم البنوك وشركات التمويل هيئات شرعية محترمة من الجمهور ليس لوضع الضوابط الشرعية للمعاملات المختلفة فقط وإنما أيضاً للرقابة الفعلية على مدى جدية البنك في تطبيقه لهذه الضوابط ورصد التجاوزات وتصحيح الأخطاء متى وجدت .
أيها السادة : إن هذا النجاح يوصلنا إلى حقيقة دامغة وهي أن الشعوب الإسلامية رفضت رفضاً مطلقاً منطلقات الليبرالية الاقتصادية استجابة لأمر الله وأمر رسوله وتحملت جراء ذلك الكثير من العنت والتعب حتى فرضت قناعتها على النخب الاقتصادية المثقفة والتكتلات الاقتصادية وأجبرت المصارف للتحول ولو تدريجياً إلى المصرفية الإسلامية بما تحمله من تميزٍ ونجاح أثبتته النتائج الرائعة التي ينعم بها كلا الطرفين المصارف ودور التمويل في جانب والمسلم الذي أصبح ينام مرتاح الضمير قرير العين بعيداً عن ظلال الرهبة من الحرب التي كانت تعلنها تلك القلاع على الله في الجانب الأخر .
كانت هذه ليبرالية الاقتصاديين وكيف تحولت مع الوقت إلى مثلبة وعيب تتبرأ منه البنوك يوماً بعد أخر حتى أصبح رؤساء البنوك والمسؤلون فيها يؤكدون أنهم لا يكتفون بتقديم البديل الإسلامي فقط وإنما يعينون هيئات شرعية في بنوكهم لتأخذ على أيديهم إن هم أخطأوا أو تجاوزوا الخطوط الحمراء؛ بل ودفع هذا الضغط الشعبي الكثير من البنوك إلى أن تتحول بكامل معاملاتها إلى البدائل الشرعية لتحضى بجزءٍ من الكعكة التي تقدمها الشعوب لكل من يتوافق عمله مع معتقدات هذه الشعوب وأفكارها وسلوكها .(/1)
ويبقى السؤال الآن : هل يعي دعاة الليبرالية سياسياً واجتماعياً فداحة الخطأ الذي يرتكبونه في حق وجودهم وشعبيتهم، وهل لهم أن ينظروا إلى هذه التجربة بعين المعتبر بغيره.؟! فإن كانوا يريدون أن يكون لهم موطأ قدم في مجتمعاتنا الإسلامية فليقيموا برامجهم وفق الضوابط الشرعية ومن يدري فقد نحتاج في يومٍ من الأيام لمطالبتهم ليس فقط بأن تكون منطلقاتهم شرعية وإنما ليكون لديهم هيئات للرقابة الشرعية حتى تطمئن قلوبنا إلى أن ما يدعون إليه من برامج إصلاحية مزعومة منسجمة فكراً وسلوكاً مع معتقدات الأمة وثوابتها .
فكم من مدعٍ وصلاً بليلى .... ولكن.... هل تقر لهم ليلى بذاك .
وان كانت ليلى لا تستطيع الآن لسبب أو لأخر أن تبدي وجهة نظرها في أدعياء الحب فلا نشك بأنها ستستطيع ذلك !(/2)
أيها المتطاولون المسرفون.. لو عرفتم محمداً لأسلمتم له طائعين!!
د. أسماء الحسين 12/1/1427
11/02/2006
أبهذا الرحيم تهزؤون؟! كيف من رجل السلام الأول تسخرون أيها الخاسرون؟! بل كيف على الإله الخالق تتجرؤون؟!!
أيها المتحاملون جهلاً وغروراً في الدنمرك وفي السويد، في أوروبا وفي أمريكا، وفي إسرائيل، في الشرق والغرب، وفي كل مكان من هذا العالم ما عُبِد الله بشيء مثل العقل، وما تصفون أو تعتدون به قولاً أو كتابة أو رسماً، وما تفعلون من منكرات، وما تتطاولون على رموز الدين، وما تسيئون لمقدسات المسلمين ودستورهم الخالد القويم، لا يدل على عقل أو بصيرة بل مؤشر جهل وضلال خطير، وفأل شقاء أكيد!
نعم إنه الجهل؛ الجهل بالله تعالى ومكانته وشدة عقوبته، والجهل بالدين الإسلامي الذي لم يكن يوماً ظاهرة ستتلاشى أو تضعف بل عقيدة تسمو وتبقى، ودين يسود ويقوى، فيدخل فيه الناس أفواجاً إلى أن تقوم الساعة، دين قيم مهيمن خالد، دين يحترم الأنبياء والمرسلين، ويقر احترامهم، بل ويستلزم وجوباً الإيمان بهم، كما هو الجهل بالسيد القائد العظيم رسول رب العالمين خاتم الأنبياء والمرسلين الشاهد المبشر النذير الرحمة المهداة للعالمين، من اقترن اسمه بتوحيد الله الخالق القدير، ومع عظمة هذا الرجل المرسل بالحق تراه لا يريد علواً في الأرض ولا تمجيداً، بل اتباعاً ونجاة للعالمين كافة من عذاب الله المهين.
ويا أمة الإسلام في كل مكان من هذا العالم:
صباح الحقائق المتكشفة لكل أعمى بصيرة منكم!
أسعد الله صباحكم بكل حقيقة تنجلي.. هل ترون الحقائق بوضوح تتكشف تظهر الآن واقعاً ملموساً ودليلاً إضافياً على ما يدور حولنا نحن المسلمين، وما يُحاك ضدنا؟ هل عرفتم الأخ من العدو، والصاحب من المخادع الكاذب؟
هل نعرف الحقيقة الآن؟ هل ندرك من هو الآخر؟ ذاك الذي لطالما حسبناه أو بعضُنا رمزاً للحضارة والرقي، وهو ليس إلا مخالفاً ومؤكداً أنه لا يرضى عنكم وعن إسلامكم يا من ترضون بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً؟!
أما أنتم يا من بضاعتهم رُدّت إليهم، أيها الناطحون برؤوسكم الجبال الشامخة:
هل تعرفون رسول الله هذا الذي إياه له تتعرضون؟! لا والله ما عرفتموه، لو عرفتم محمداً يا شعوب غير الإسلام –المتطاولون منكم خاصة- عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام- حق المعرفة لأسلمتم لمرسله الإله الواحد، بل لبكيتم ندماً أن تتعرضوا لشخصه الطاهر المطهر، أو أن تريدوا النيل منه بل وتصروا على ذلك!!
كيف لمن هو مضرب المثل في حسن الخلق والإصلاح وقدوة في أحسن الآداب ومدرسة في أروع الشمائل، رمز الحلم والرفق والرحمة والعفو عند المقدرة، والحب للخير والإعمار والسلام، المتسامح الكريم الذي لم يزده مع كثرة الأذى إلا صبراً، وعلى إسراف الجاهل إلا حلماً، الشكور لربه الصابر الأمين أصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأوفاهم ذمة، وأشدهم حياء، من كان خلقه القرآن، ومن أدبه ربه فأحسن تأديبه، قال الله تعالى مخاطباً له مثنياً عليه:(وإنك لعلى خلق عظيم) الذي لا يرضى لكم إلا الجنة، ويصف ويمهد طريقها لكم أن يُقال فيه ما قيل أو يكتب عنه ما كتب؟!
أمينٌ مصطفى بالخير يدعو كضوءِ البدرِ زايله الظلامُ
وانظروا لقطرة من سجاياه عليه الصلاة والسلام:
• لقد شُجّت وجنتاه وكُسرت رباعيته ودخل "المغفر" في رأسه صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
• لم ينتصر لنفسه من مظلمة يوماً قط ما لم تكن حرمة من محارم الله.
• عفا عمن سحره.
• تآمر عليه المنافقون، فتجاوز عنهم وسامحهم.
• يقابل الإساءة بالإحسان، والأذى بالإكرام.
• ولم يكن ضعيفاً بل أشجع إنسان على الإطلاق، فقد كان يتقي به المجاهدون إذا حمي البأس واشتد الحنق.
• لم يتراجع عن معركة قط، وكان أقرب المقاتلين إلى العدو، وما لقي كتيبة إلا كان أول من يضرب، وقد نهى عن قتل النساء والشيوخ الكبار والولدان، وإزهاق الأنفس المعصومة دون حق، وكذا نهى عن إتلاف الزرع، والإفساد في الأرض.
• محمد عليه الصلاة والسلام نبينا وحبيبنا وقدوتنا كان دائم البشر، لين الجانب ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحّاش، وقد زكت نفسه عن الرياء والإكثار وما لا يعنيه، لا يذم أحداًَ، ولا يعبره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم في غير حاجة، بل فيما يرجو عند الله تعالى ثوابه.
• وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أباً، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يوقّر الكبير، ويرحم الصغير، ويرفد ذا الحاجة، ويؤنس الغريب، ولا فضل لأحد عنده إلا بالتقوى.
• يحب –بأبي هو وأمي- المساكين ويجالسهم، ولا يحقر فقيراً، ولا يدع أحداً يمشي خلفه، ولا يحب أن يتميز بين أصحابه، يتفقد أصحابه، ويؤلف بينهم وكان في خدمة أهله.(/1)
• أشد الناس لله تعالى خشية، وأكثرهم له شكراً وتواضعاً، ومع أنه أقربهم عنده منزلة، مع هذا يقول لمن دخل عليه وقد أصابته منه رعدة: "هون على نفسك فإني لست ملكاً وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد".
• مع كل هذا لا يريد إطراء، أو تجاوزاً في الثناء، بل لا يرضى منا قولاً في حق نفسه إلا الشهادة بأنه عبد الله ورسوله فحسب.
أين هذه السجايا من سجايا ملوك العالم وسادتها؟!
أنى لمن ينبذ العنف والإرهاب والظلم والاعتداء على أي إنسان بغير حق مهما كانت ديانته، ويحذر من البغي والإفساد في الأرض، بل ويوصي بالرفق حتى للحيوان، ويأمر بالعدل ويحث عليه أن يُصور بمن يحمل ما هو رمز للدمار والخراب والتهديد والرعب فوق رأسه؟!
إن توقير النبي عليه الصلاة والسلام واحترامه واجب أكيد، وفي هذا يقول الله تعالى: (...فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[لأعراف: من الآية157]. أما الاستخفاف به وبما جاء به فما هو من الكفر ببعيد، بل هو كفر عتيد، وعقوبته شديدة حتى لدى المسلم أو لو كان فاعله مؤمناً.
يقول سبحانه:(...قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التوبة: 65-66].
أيها المناصرون المتبعون يا أحباب الرحمة المهداة:
هل يكون ما حدث أو يحدث لكم درساً وعبرة وضارة نافعة لتتحدوا وتقوى شوكتكم وتتقوا الله حق تقاته وتعظموا الله في قلوبكم حق التعظيم؟ أم نعود نُلدغ من جحر الكافر مراراً وتكراراً لا سمح الله، وقد صفت سماء مداركنا، واتضحت السبل أمامنا لنعبر بمأمن من العدو؟
يا أحباب محمد، أيها المخلصون الصامدون، أبشروا (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، رسولكم دليلكم إلى الجنة، إلى السعادة والنعيم، وأنتم أيها المستهزئون الطاغون أبشروا أيضاً فقائدكم يقودكم إلى المقاطعة وليست الاقتصادية في الدنيا وحسب، بل مقاطعة الخير والنعيم عنكم، بل وإلى بئس المصير إن أصررتم وتماديتم، وتحسبون أنكم إيانا تعادون بل عداؤكم ليس معنا نحن المخلوقين بل مع الله تعالى الخالق العظيم الذي جعل طاعة الرسول من طاعته، وحبه من حبه سبحانه، ومن يحارب الله تعالى أو يتجرأ على ذلك إلا كل ظالم لنفسه مبين. إنه سبحانه حسبنا ونعم الوكيل، قال تعالى:(إنا كفيناك المستهزئين) [الحجر:95]، إنها والله بشرى بالنصر من الله تعالى وبحوله، وهي سنته في الكون، قال سبحانه:(...قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ)[التوبة: من الآية64]. وقال وقوله الحق:(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الشعراء:6]. وقال أصدق القائلين: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة:6].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.(/2)
أيها المربون: لكل مقام مقال
لقد كان صلى الله عليه و سلم رحيما رفيقاً، يحدثنا عن رأفته ورحمته أحد الشباب من أصحابه؛ فعن مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- قال: أتينا إلى النبي صلى الله عليه و سلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم رحيماً رفيقاً، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه قال:"ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم، وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" ([1]).
لكن حين يتطلب الأمر الحزم فقد كان صلى الله عليه و سلم كذلك، ففي موقف آخر يأتيه شاب من أصحابه شاكياً له ما أصابه من المشركين، وقد بلغ به الأذى والشدة كل مبلغ وهو خباب بن الأرت -رضي الله عنه- فهاهو يروي الموقف فيقول -رضي الله عنه- :أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة - وقد لقينا من المشركين شدة - فقلت :ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال:"لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد مادون عظامه من لحم أوعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله" ([2]).
وهاهو في موقف آخر أيضاً مع أحد الشباب فعن أسامة بن زيد بن حارثة -رضي الله عنهما- قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم قال فلما غشيناه قال لا إله إلا الله قال فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم قال: فقال لي: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذاً، قال:" أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" قال: فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم([3]).
لقد كان صلى الله عليه و سلم يضع لكل موقف مايناسبه؛ ففي الموقف الأول شاب يأتي إليه من أصحابه، وهو في آخر أيامه صلى الله عليه و سلم فإن غادره لن يلقاه أخرى حتى يموت، وهي فرصة للتعلم والاستزادة لن تتكرر في حياته، لكنه لرحمته ورفقه صلى الله عليه و سلم لم يؤكد عليه البقاء والاحتساب لطلب العلم بل لصحبته ومجالسته صلى الله عليه و سلم.
بل إن الأمر يتجاوز ذلك كله ليبادر هو، ويدرك مافي نفوسهم دون أن يطلبوا هم منه ذلك؛ فيبادرهم آمراً إياهم بأن ينصرفوا إلى أهلهم.
وفي الموقف الثاني يأتيه شاب غض الشباب يشتكي إليه شدة الأهوال التي لقيها من المشركين، فيحمر وجهه ويغير جلسته.
ولربما يتصور بعض الناس أنه كان من الأولى في الموقف الأول الحزم، وتعويد الشاب على الجدية في طلب العلم، وتحمل الغربة وشدتها، والتعاطف في الموقف الثاني مع هذا الذي تعرض للأذى وجاء يسأل النبي صلى الله عليه و سلم الدعاء.
لكنه الحكيم صلى الله عليه و سلم والمربي، وهو الذي يضع لكل مقام مايناسبه، فما أجدر من يقتدي به من المربين أن يضع الحزم في موضعه، وأن يضع التعاطف والرفق في موضعه.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه البخاري (631)
([2]) رواه البخاري (3852)
([3]) رواه البخاري (6872) ومسلم (96)(/1)
أيها المسلم فكّر فإنّك مكلّف ومسؤول ومحاسب !
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
كثير من المسلمين اليوم يتحدّثون عن " التغيير "، عن تغيير واقعهم من الهزائم والهوان إلى النصر والعزَّة . ولكن معظم الذين يتحدَّثون يتحدَّثون حديث الأماني وهم على أرائِكهم لاهون ، أو في غفوتهم ساهون:
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)
[ البقرة: 78 ]
وآخرون يتنقلون هنا وهناك ، يتحدّثون عن التغيير ويبحثون عن آليته ، ويضعون آمالهم وأمانيهم في هذا الموقع أو ذاك ، ليقوم هذا الموقع بالتغيير المطلوب ، وكأنّه ليس لهم دور ولا عليهم مسؤوليّة ، ينظرون دائماً إلى غيرهم لا إلى أنفسهم ! ويطالبون غيرهم ولا يطالبون أنفسهم .
ومن هؤلاء من يصبح تبعاً لهذا الموقع أو ذاك ، يُعطّل قواه الفكرية والنفسية ، ويعطّل علمه ومواهبه وقدراته ، في تبعية عمياء ، يجعل هذا الموقع أو ذاك وثناً يضع فيه كلّ آماله وأمانيه ، حتى يُصدَم بعد سنين طويلة أو قصيرة حين تهوي الأصنام ولا تتحقّق الآمال والأحلام والظنون ، ولا يقع تغيير إلا إلى الأسوأ. وإلى ابتلاء أشدّ :
(وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ )
[البقرة : 167 ]
هذه التبعية العمياء ينكرها الإسلام ويحاربها . وأوّل معاني الحرب عليها أن جعل الله مصير التابع والمتبوع على الصورة التي عرضناها من التبعية العمياء على الضلال ، جعل الله مصير هؤلاء وهؤلاء في النار ، في جهنم وبئس المصير ، يتلاومون كما رأينا في الآيات السابقة وكما نرى في الآيات التالية :
(وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ)
[ غافر : 47-48 ]
وكذلك :
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ، وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
[ سبأ : 31-33 ]
هذه الآيات الكريمة تتحدّث عن التبعية العمياء للكافرين المستكبرين الذين تبعهم المستضعفون ، فلم يشفع لهم ضعفهم أمام المستكبرين عند الله يوم القيامة . نورد هذه الآيات لتكون نذيراً لمن ينتسب إلى الإسلام ، حتى لا يكون تبعاً لضلال أو فساد ، وحتى يدرك أن التبعية العمياء لا تنقذه من العذاب إن ضلّ بها، مهما ظنّ لنفسه من أعذار ، وحتى يدرك كلّ من ينتسب إلى الإسلام أن عليه مسؤولية مهما ظنّ في نفسه ضعفاً ، وأنّه محاسب ما دام قد بلغ سن التكليف ، وأنّه لا مفرّ من ذلك مهما خدّرته زينة الحياة الدنيا ، وخدعته أوهامه ، أو خدعه المستكبرون!
لا مفرّ من يوم الحساب فإنه حق . ويوم القيامة لا يغني مولى عن مولى شيئاً ، ويأتي الخلق كلّهم يومئذ يحاسبون فرداً فرداً :
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ، يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ، إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
[ الدخان : 40-42 ]
وكذلك :
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ )
[ الانفطار :17-19 ]
وكذلك :
(فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)
[ عبس : 33-37 ]
وكذلك :
(إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)
[ مريم : 93-95 ](/1)
هذه الصورة يجب تثبيتها في النفوس أولاً ، حتى تظلّ تقرع النفوس والقلوب ، وتذكّرها بهول يوم البعث وهول الحساب ، الحقّ اليقيني الذي لا شكّ فيه و لا مراء :
(فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)
[ الذاريات :23]
وكذلك :
(وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ)
[ يونس : 53 ]
إنّ هذا الحق اليقيني يجعل من كلّ إنسان مكلّف شرعاً مسؤولاً في الدنيا والآخرة ومحاسباً . فإذا لم تثبت هذه الحقيقة الهامّة الكبيرة ، حقيقة المسؤولية ، إذا لم تثبت في النفس و تستقرّ في القلب ، فيكون جزء هام من الإيمان والتوحيد قد تعطّل ، ويكون قد فقد الإنسان الحافز الهام ، الحافز الإيماني من فطرته التي فطره الله عليها .
والمسؤولية الفرديّة بصورتها الإيمانية الربّانية أساس لا غناء عنه لارتباط المسلم بالمسلم ، ولبناء أخوّة الإيمان التي أمر الله بها ، ولارتباط المسلم بأمّته المسلمة حقّ الارتباط وأصدقه !
وبهذا التصوّر تصبح المسؤوليّة الفرديّة أساساً لبناء الأمّة المسلمة الواحدة في واقعنا اليوم ، وأساساً لبناء مسؤولية الأمّة كلّها ومستوياتها المختلفة .
إنّ " التغيير " أمر هام . وقد يكون التغيير للخير وقد يكون للشرّ . والواقع يكشف لنا النماذج من هذه ومن تلك .ولكن اللحظات الحالية من واقع المسلمين يكشف أنّ قوى الفتنة والفساد والشرّ أوسع في الساحة وأبعد أثراً وأكثر جمعاً للعدة والعدد . والأخطر من ذلك أنهم أكثر بذلاً لضلالهم وفسادهم وفتنتهم ، وأنّهم يُشْعِلون لهيب ذلك في الأرض كلّها .
ثمّ يتساءل الملايين من المسلمين و يقولون أَنَّى هَذَا ؟! ويردُّ عليهم كتاب الله، كما ردَّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد معركة أُحد :
(قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ... ) !
[ آل عمران : 165 ]
قد يختلف هؤلاء على توزيع الغنائم ، ولكنهم لا يختلفون على نشر الفساد والشرّ والفتنة . وهم كذلك سرعان ما يجدون وسيلة للتفاهم على الغنائم وتوزيعها بينهم ، بدلاً من الصراع بينهم .
ويأتي السؤال الذي يعلنه بعضهم ويخفيه بعضهم : لماذا تحلّ هذه الهزائم بالمسلمين ، وهم على أصحّ دين ؟! ويكاد لا يشعر بعض من يتساءلون بهذا السؤال أنّه هو نفسه أحد أسباب هذه الهزائم ؟!
لماذا تتساقط ديار المسلمين في أيدي أعداء الله ؟! ولماذا ينزل الذلّ والهوان بالمسلمين ؟! ولماذا تمتلئ الأرض من دمائهم وأشلائهم هنا وهناك ، وهم لا يستطيعون دفاعاً عن أنفسهم ؟!
كلّ ما يجري في هذا الكون ، مهما صغر أو كبر ، فإنّه يجري بأمر الله وقضائه وقدره ، وبعلمه وبحكمته . فما أصابنا هو من قضاء الله وقدره !
وقضاء الله حقّ لا ظلم معه أبداً ، فالله حرّم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرّماً :
(وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )
[ غافر : 20 ]
وقال سبحانه وتعالى :
(إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
[ يونس : 44 ]
إذن لا بدّ من أن ننظر في أنفسنا . فالخلل هناك ، في النفوس ، وما يجول في الصدور . لابدّ من النظر في ذلك . ولا بدّ من الوقفة الإيمانية التي ندعو إليها بشدّة ، بصورة متكررة ، ندعو إليها أنفسنا وندعو كلّ مسلم وكلّ جماعة ، لتراجع المسيرة وتقوّمها ولتدرك أين الخلل والخطأ فتعالجه ، وأين الصواب فتمضي عليه.
ولكن هذه الوقفة الإيمانية تحتاج إلى توافر ميزان حقّ أمين ، توزن به الأمور والأحداث والمواقف والرجال دون أن يعصف الهوى والمصالح بحقيقة هذه الوقفة والمراجعة والتقويم .
ولا يصحّ الميزان بأيدي الناس إلا إذا راجعوا أولاً أنفسهم ، ونظروا في داخلها نظرة محاسبة أولاً ، ثمّ نظرة معالجة وتغيير ، حتى يصبح منهاج الله هو الميزان .
إذا أخذنا الكبر والغرور ، ومضى كلّ منّا على ما هو عليه ، يعيد الخلل والخطأ ويمارسه ، ولا يقرّ بالخطأ ولا يشعر بالخلل ، فإنّ الهزائم تتوالى والفواجع تمتدّ ، والبلاء يشتدّ إما عقاباً وتذكيراً وإمّا ابتلاءً وتمحيصاً :
(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )
[ الأنفال : 25 ]
وكذلك :
(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)
[ الأعراف : 164-165 ](/2)
إنّ هذا كلّه يعني أنّ كلّ مسلم يجب أن يفكّر ، يجب أن يستفيد من هذه الطّاقة التي وضعها الله فيه . وبنظرة أوسع فيجب على كلّ إنسان أن يُفكّر حتى يصل إلى الحقّ والإيمان والتوحيد إذا شاء الله له ذلك ، أو يضلّ إذا فسد أمره فأضلّه الله ، والله يقضي بالحقّ ولا يظلم أحداً .
والمسلم له منهج للتفكير نسمّيه " النهج الإيماني للتفكير " ، يتبعه المسلم حين يفكّر حتى لا يضلّ ولا يزيغ . ولا بدّ من تدريب المسلم على النهج الإيماني للتفكير ، حتى ينظر في نفسه النظرة الأمينة ، ويحاسبها ويعرف مواطن الصّلاح والشرّ ، والقوّة والضعف ، فيجاهد نفسه ليثبت على الحقّ وينبذ الباطل .
تنمو طاقة التفكير مع نموّ الطفل كما تنمو سائر قواه . فإمّا أن يستمرّ النموّ مع الفطرة السليمة برعاية الوالدين المؤمنين وبفضل من الله ، وإمّا أن ينحرف التفكير مع فساد الفطرة بفساد الأبوين والمجتمع وبقدر من الله حقّ . وفي جميع الحالات فإنّ التفكير في مرحلة النموّ أو بعض مراحله يحتاج إلى تدريب ورعاية . ويزداد التدريب أهميّة وخطورة كلّما تقدّم الإنسان في مراحل نموّه ، حتى يعرف ويتعلّم، ويؤمن ويتحمّل المسؤولية ، ويجابه المشكلات وينهض لمعالجتها .
إنّ طاقة التفكير ضرورية للنظر في النفس ولمحاسبتها ومعالجتها في مسيرة من مجاهدة النفس .
نخلص ممّا عرضناه إلى ضرورة توافر قدرات وقواعد حتى يستقيم النظر في النفس ومحاولة تقويمها ومعالجتها :
أولاً : الإيمان والتوحيد المغروسان في الفطرة ومدى صفائهما .
ثانياً : التفكير وعدم تعطيل الطاقة التي وهبها الله لنا .
ثالثاً : الميزان العادل الأمين ، توزن به الأمور والقضايا والمواقف والناس.
فكّر أيها المسلم ! فإنّك مكلّف ومسؤول ومحاسب ! والتفكير هو أوّل تكليف كلّف الله به عباده ليعرفوه به ، ويعبدوه به ، ويطيعوه . والتفكير مرتبط بالفطرة التي فطر الله الناس عليها ، تحمل الإيمان والتوحيد ليروي جميع قوى الفطرة ريّاً متوازناً ، لتؤدّي كلّ قوّة وغريزة الدور الذي خُلِقتْ له . فاحرص على سلامة فطرتك وعُدْ إليها ، لتمدّك بالغذاء الّلازم وتُعينك على الاستقامة في التفكير والنهج والكلمة والسلوك .
ولن تستطيع أيها المسلم أن تفكّر على النهج الإيماني للتفكير،
حتى تُغيّر ما بنفسك !(/3)
أيها المسلمون ماذا تنتظرون بعد كل ما يحدث لكم؟
بثّت شبكة «سي بي إس نيوز» الأميركية، مساء 28/4 صوراً لجنود أميركيين يعذِّبون معتقلين مسلمين في سجن «أبو غريب» بطريقة لا يتصور أن فاعلها من البشر: كومة من المعتقلين عرايا فوق بعضهم، رجل مغطى رأسه وجسمه، وأوصلت أسلاك كهربائية إلى يديه، وتم إبلاغه أنه إذا سقط من أعلى صندوق يقف عليه فسيصعق بالكهرباء. سجناء ربطوا بالأسلاك من أعضائهم التناسلية، كلاب يهاجمون سجناء... شريط فيديو يحوي أكثر من ألف صورة، قال عنها رامسفيلد إنه من غير المناسب عرضها؛ لأنها بالغة الإساءة... وكشف تقرير سري للجنة الدولية للصليب الأحمر تفاصيل بعدد أنواع التعذيب التي تعرّض لها السجناء، وأكد هذا التقرير أن 90% من السجناء اعتقلوا خطأ في عمليات دهم وحشية، بالغة العنف.
أما مسؤولة السجن الضابط جانيس كاربينسكي، فقد ذكرت أن قسم التعذيب في السجن كان يخضع للإشراف المباشر لضباط الاستخبارات العسكرية، وكشفت صحيفة «واشنطن بوست» أن وزارة الدفاع الأميركية كانت قد وافقت سلفاً على لائحة تتضمن 20 وسيلة لاستجواب المعتقلين، وأن هناك تعليمات رسمية تسمح للمحققين باستخدام أساليب تهدف إلى إرهاق المعتقلين جسدياً ونفسياً قبل إخضاعهم للاستجواب، ما يعني أن ممارسات التعذيب كانت منهجية ومدروسة، وموافقاً عليها من كبار المسؤولين في البنتاغون، وليست فردية أو استثنائية. وفي هذا الصدد، أكدت صحيفة «واشنطن بوست» أن استخدام كل هذه الأساليب يستوجب الحصول على إذن من كبار المسؤولين في البنتاغون، وأنه يتعين على المحققين أن يثبتوا أن هذه المعاملة القاسية أملتها الضرورة العسكرية، وأن يرفقوها بـ «مراقبة طبية ملائمة».
إن عمليات التعذيب هذه بدأت تتكشف فصولها المأساوية منذ أشهر، وقد ظهر من التحقيقات أن المسؤولين السياسيين والعسكريين، كانوا على علم بتفاصيلها، ولم يكونوا يكترثون بمآسيها، حتى تناولها الإعلام، وصارت تشكل فضيحة لا تطال أولئك الذين يحكمون في البيت الأبيض وَحْدَهم، وإنما أميركا كلها؛ لذلك انبرى الكونغرس إلى التحقيق، لا لمعرفة الحقيقة الضائعة، وإنما لتجميل ما يمكن تجميله من تلك الصورة البشعة التي تسقط أميركا حضارياً، وتسقط مصداقيتها، ولإظهار أن مثل هذه التصرفات غريبة عن القيم الأميركية، ومن المتوقع أن تنتهي مسرحية الجلسات بكبش فداء لتتخلص من العار الذي وصمت به.
إن هذه الممارسات تدين أميركا وتهينها أكثر من غيرها، وتبين زيف حضارتها... إنها تظهر الوحش الأميركي على حقيقته. إن أميركا دولة متوحشة قامت على المجازر والمذابح والتطهير العرقي والإبادة، وتاريخها منذ بدايته حتى اليوم لا يخفى على أحد، وهو أكبر شاهد على طبيعتها الإجرامية، وليس لدى حكامها وسياسييها أي قيم أو مُثُل، دأبهم السيطرة على العالم كله، والتفرد باستعماره، والتفرد بنهب خيراته، لقد أصبح العالم غابة يحكمها الوحش الأميركي، وعلى جانبه بعض الوحوش التي تخضع لتحكمه، وتنتظر فُتاته... والمسلمون دائماً هم الضحية.
تجاه ما حدث لم يحرك حكام المسلمين المجرمون ساكناً ضد أميركا؛ لأنهم مدانون أكثر منها، ولأن سجونهم ملأى بالمسلمين، وعمليات التعذيب لهم قائمة ليل نهار، وخوفاً من أن يفتحوا الباب على أنفسهم. ومن سخريات ما جرى، أن بوش اعتذر لملك الأردن عما جرى... وشهد شاهد من أهله.
أما المسلمون فقد أصيبوا في الصميم، وتأثروا، وغضبوا، وبكوا... ولكن ذلك كله لن يغير واقعاً فحساب المسلمين آخرهم عند أميركا. بل إنهم ليسوا بحساب أحد، فمن هم بحساب أنفسهم؟ وماذا منتظرون؟! لقد تداعت عليهم الأمم، وأحيطوا بالظالمين من كل مكان، وكل يوم يمر عليهم يحمل لهم مأساة، هل ينتظرون الفرج والمخرج من الله هكذا من غير عمل؟! إنه لا مخرج لهم إلا بالتقوى، وتقوى الله تفرض عليهم أن يستعينوا به ويعملوا على تغيير هذه الأنظمة الفاسدة، العميلة، المأجورة، وإقامة حكم الله، وجعل كلمة الله هي العليا.
إن عدم تحرك المسلمين وسكوتهم عما يجري لهم، يطمع بهم حكامهم وأعداءهم... إن عليهم أن يرفعوا الخوف من قلوبهم من حكامهم، كما هو مرفوع من أعدائهم وأن يعبروا بأقسى التعابير ضدهم، وأن يقوموا بأعمال جدية تجعل الآخرين يحسبون ألف حساب، وأن يدفعوا أبناءهم من أهل القوة لكي يأخذوا على أيدي الحكام الظالمين الذين يحكمون المسلمين بالكفر، ويمكّنون لأميركا ويهود ولدول الغرب في بلادهم، ويمنعون المسلمين من أن يأخذوا دورهم في الحياة... إن من طريقة تنفيذ فروض الكفايات، أن يدفع من لا يستطيع تحقيق الفرض بأنفسهم أي المسلمين، أن يدفعوا الذين يستطيعون من أهل القوة؛ لذلك كان على المسلمين أن لا يتركوا فرداً من أبنائهم أو معارفهم إلا ويحثّونه على القيام بحق الله عليه في إزالة هذه الأنظمة، وإقامة حكم الإسلام بتسليمه لمن يستطيع الحكم به، للفئة المخلصة الواعية التي نذرت نفسها لهذا الأمر.(/1)
إن أهل القوة من أبناء المسلمين يجب أن يندفعوا لإقامة حكم الله بقوة؛ وإلا وقع الإثم الكبير عليهم. والقيام بذلك فرض عليهم من الله سبحانه، فإذا لم يقوموا به فإنهم يقعون بالإثم، لذلك كان عليهم أن يقوموا بهذا الفرض لأنه أمر من الله سبحانه، ويجعلوا أساس القيام بهذا الفرض الإيمان بالله، وأن الله ينصر من ينصره فهو القوي العزيز. وأنه إذا نصر الله عباده فلا غالب لهم. فإن الثقة بنصر الله يجب أن لا تغيب عن بال أهل القوة. كذلك عليهم أن تكون ثقتهم بالتغيير قوية لأن الأمة معهم، والأمة الإسلامية إذا اجتمع أمرها على الإسلام لا تُغلب، ذلك وعد من الله غير مكذوب، والواقع يحدثنا بذلك؛ فأهل فلسطين لم يُغلبوا بالرغم من تخلي الحكام الخونة عنهم وتسليم أمرهم للمجرم شارون. وأهل العراق، وأهل الفلوجة من أهل العراق خاصة، ثبتوا أمام أميركا التي تراجعت أمام صمودهم... وأهل الشيشان وأهل كشمير... فكيف إذا قام حكم الله، وقاد الخليفة جيوش المسلمين، فإن أحداً لن يثبت أمامهم... إن مقاومة الشعوب لا تُغلب، فكيف إذا كان المقاومون مجاهدين... إن المسلمين إنما غُلِبوا بسبب تآمر الحكام عليهم، وجَعْلِ القوة التي بيدهم على المسلمين... إنه ليس على المسلمين إلا أن يحوّلوا القوة من يد حاكمهم إلى يدهم... لذلك نقول: إن غضب الله كبير على المسلمين إذا لم يدفعوا أبناءهم من أهل القوة لأخذ الحكم من هؤلاء الحكام المجرمين بالقوة، وإن غضب الله أكبر على أهل القوة إذا لم يقوموا بحق الله عليهم، من أخذ الحكم من غير أهله وتسليمه إلى أهله، إلى المسلمين، إلى المخلصين الواعين الذين نذروا أنفسهم لهذا الأمر، والذين يعرفون كيف يقومون بحق الله إذا قام، بذلك يتحقق نصر الله كما وعد، قال تعالى: { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } وقال تعالى: { إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } قرآن كريم(/2)
أيها المسلمون.. صلوا من أجل البابا !!
أمير سعيد
موقع مفكرة الإسلام
شخصياً، لن تعتريني الدهشة إذا ما طلب إلينا شيخ الأزهر أن نجأر إلى الله في صلواتنا راجين منه سبحانه أن يعافي لنا بابا الفاتيكان, ولن أتعجّب لو نشبت المنيّة أظفارها في 'الحبر الأعظم' أن يحثنا -رأس المؤسسة الدينية المصرية- على أن تتراص صفوفنا بعد صلاة الجمعة لإقامة صلاة الغائب على الزعيم الروحي الكاثوليكي.
لن يرتفع حاجباي ولن تتسع حدقتاي -ذاهلاً- إن سمعت ذلك، فتلك -للأسف- هي إحدى الأعراض الجانبية للحالة 'التسامحية' التي تمر بنا, والتي تحدونا أن نتدخل على أعلى المستويات الدينية الرسمية لنطلب من مسلمة لجأت إلى الأزهر بكل تاريخه البارق العريق -ممثلاً في شيخ الأزهر- أن تعود لدينها السابق درءاً للفتنة, { أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } , وتدعونا إلى السكوت عن اختطاف الطبيبتين المسلمتين ماريان وتيريزا -ثبتهما الله- في جوانتنامو الأديرة, وتحدونا أن نغض الطرف عن منظمات التنصير تصول في بلداننا وتجول -كما في الجزائر بصفة خاصة والمغرب العربي عموماً التي تنجح منظماتها كل يوم في حذف اسم مسلم من قائمة المسلمين أو عبر شبكات غرف البال توك التي تستهدف مصريين وخليجيين-, وتحدونا أن نطلب من محجبات فرنسا على -لسان شيخ الأزهر- أن يخلعن الحجاب تساوقاً مع الإسلام الفرنسي, وتحدونا أن نمتنع عن الإفتاء بشأن الاحتلال الأمريكي للعراق لأن ' علماء كل بلد يفتون أهلها' بحسب شيخ الأزهر.
ونعمد إلى نسف هذه القاعدة بالدعوة لعدم مقاطعة الانتخابات العراقية -برغم قرار هيئة علماء العراق بالمقاطعة- كما جاء في تصريح شيخ الأزهر أيضاً!!
لن أندهش إذا ما اختطفت وفاء وماري وماريان وتيريزا واختفت زينب وأخواتها, ما دام شيخ أزهرنا يرى الفتنة في إسلام امرأة أو مقاومة محتل..
لن, ولم أندهش حين منع الرجل من الحديث لزوار معرض الكتاب قبل أسابيع لكيلا يتعرض للإحراج ساعة يسأله الشباب عن وفاء بأي ذنب خطفت؟؟ وكيف استباح لنفسه التطوع لإرضاء الباباوات بتسليمها, وحثها على كتمان إيمانها -مثلما ورد على لسانه-؟؟
ولن أندهش إذا ما نقلت إذاعة الفاتيكان عن شيخ الأزهر قوله: 'إن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني رجل سلام ومحبة، وأنا أكنّ له كل حب وتقدير, وأدعو الله العلي القدير أن يتم له الشفاء ويزيده عافية', واصفاً إياه بأنه 'علامة مضيئة في تاريخ الحضارات التي تتلاقى وتتعاون على الخير والمنافع' لا يتعامل مع مرضه إلا بـ 'مشاعر صاحب عقل سليم وخلق كريم يؤدي واجبه رغم المرض، ولا يتمسك بها إلا من أعطاهم الله صدق العزيمة والإخلاص وصدق النية في العمل'. (مفكرة الإسلام نقلاً عن إذاعة الفاتيكان: 5/3/2005].
لن أندهش أبداً, وأنا أستمع لمعظم وسائلنا الإعلامية -بما فيها تلك الحيادية نوعاً ما وكذا 'العربية'- وهي تطلعنا أولاً بأول على آخر أخبار صحة البابا وكأنه من بقية السلف!!
وحياة هذا البابا أو مماته لا تعنيني كثيراً؛ إذ استتب الأمر لرجالات اليهود في الفاتيكان بمقدمه, ونفد السهم من قوس الصهيونية، ولم يعد الأمر قاصراً على رجل واحد فقط أرسى قواعد هيمنة اليهود على دين الكاثوليك..
نعم فبرغم جهوده الجبارة في هذا الصدد, فإن حياته أو مماته لن تعني تغيراً يذكر حيث أدى الرجل دوره تماماً ولم يعد في جعبته ما يمنحه لليهود آجلاً..
ولنعد للقصة من بدايتها..
كارلو فوتييلا (أو يوحنا بولس الثاني), تولّى منصب بابا الكنيسة الكاثوليكية في روما بعد أيام من تسميم البابا السابق يوحنا بولس الأول، والذي لم ينصّب سوى ثلاثين يوماً، وفقاً لمصادر مسيحية أردنية.
والبابا في حقيقة الأمر هو منتج متميز لصناعة كاثوليكية/يهودية مشتركة, مرَّ إنتاجه بعدة مراحل إنتاجية ومحطات دينية واستخبارية فائقة الدقة, بعض هذه المحطات تغلفّه السرية القاسية, وبعضها بات اليوم مكشوفاً للباحثين.
ولن ندّعي العلم ببواطن الأمور ولا التنجيم, إذ كثير من الحقائق بات متاحاً نستطيع من خلاله رسم صورة دقيقة عن هذا الرجل الذي يتمنى له شيخ الأزهر الشفاء العاجل ليعود إلى عمله المضني والشاق, وقليل منها جاثم في باطن الغيب لكنه لا يحول دون رؤية الصورة بخطوطها العريضة على الأقل..
أولى هذه المحطات هي النقطة الفاصلة في حياته, والتي ندعوكم إلى اصطحابه منها, تحديداً وهو في الثامنة عشرة من عمره, في رحلته من التشيك إلى بولندة, حيث كان الرجل يهودياً على الأشهر من الترجمات المنشورة عنه (لا يعترف الفاتيكان بذلك) ثم بدّل دينه لمّا عَبَر الحدود التشيكية (موطنه الأصلي) إلى بولندة مع بدايات الحرب العالمية الثانية عام 1939 (حين اعتبر اليهود وقتها أنفسهم مضطهدين)، ثم تنصّر إثر ذلك فترهبن فصار كاهناً في أعقاب الحرب العالمية 1945.(/1)
وقبل أن نغادر لمحطة أخرى, ثمّة ما يمكن الوقوف عنده مليّاً إذا ما استصحبنا رحلة مارتن لوثر من اليهودية إلى المسيحية وتأسيسه للبروتستانتية, ورحلة كارل ماركس من اليهودية إلى الإلحاد الشيوعي ووضع نظريته 'الماركسية', ورحلة عبد الله بن سبأ من اليهودية إلى الإسلام ظاهرياً وإنشائه لملّة الإثني عشرية, ورحلة مصطفى كمال (ابن زبيدة اليهودية, حيث الأب لا يعلمه إلا الله) من اليهودية إلى الإسلام ظاهرياً وتبنّيه للقومية الطورانية التركية.
وإذا ما توقفنا عند هؤلاء، اقتربنا قليلاً من فهم هذه المحطة الهامة من تاريخ الكاهن الأكبر.
المحطة الثانية تنعطف بنا إلى حياة مهندس الوثيقة البابوية التي صدرت عام 1965 واختصاراً للجهد هو ذاك كارلو فوتييلا (أو يوحنا بولس الثاني فيما بعد) الذي كان له 'شرف' وضع هذه 'وثيقة تبرئة اليهود من دم يسوع المسيح', واليهود عند واضعي الوثيقة المخزية هم أهل المنحة التي أعطاها لهم الرب -بزعمهم-, وهي أرض كنعان (فلسطين), وبحسبها فاليهود بريئون من دم المسيح (اعتقاد المسلمين أن المسيح عليه السلام حقيقة لم يصلب بل رفعه الله إليه, وإن كان ذلك لا يعفي اليهود من إرادة التآمر ذاته)..
ثم ثالثة الأثافي أتت في طيّات الوثيقة أن 'المسيح كان يهودياً، وسيبقى يهودياً'..
وهكذا تمضي عشرون عاماً على البابا في أحضان الفاتيكان، لا تردّه عن أصل يؤمن به لا يفارقه وإن غادر التشيك إلى جمهورية الكرادلة..
المحطة الثالثة من حياة كارلو فوتييلا, تلك التي تنقلنا لمشهده وهو يتوّج 'حبراً أعظماً'- كأحد أصغر من يتولون المنصب (58 عاماً حينذاك)- على رأس الكنيسة الكاثوليكية في العام 1979، بعد أن مات البابا السابق يوحنا بولس الأول -ميتة ياسر عرفات- بعد شهر واحد من اعتلائه منصبه الخطير وبدون مرض خطير!! حينها وجد كارلو الطريق إلى رأس الفاتيكان معبّداً, وتولّى الرجل منصبه, وكانت إحدى فاتحات شهية الباحثين في وضعه المثير للجدل بشكل واسع، هو تفرد كارلو من حيث كونه الأول منذ خمسة قرون الذي يعتلي سدّة الكهانة في الفاتيكان من خارج إيطاليا. وقد بدأ الرجل من فوره العمل على ثلاثة محاور هي الأبرز من محاور تحركاته:
الأول: ترسيخ الاختراق اليهودي للفاتيكان:
وتدجين الكنيسة الكاثوليكية مثلما دُجِّنَت الكنيسة الإنجيلية, ومد أواصر الصداقة الدينية والسياسية مع 'إسرائيل'.
'لو كان المسيح عليه السلام يهوديا؛ فإنه لشرف عظيم لبابا روما أن يكون يهوديا هو أيضا', قال البابا, وزاد: 'إن اليهود أعزاؤنا وأشقاؤنا المحببون، وهم بحق الشقيق الأكبر'..
إن البابا الذي لم يكن قد مضى على مكوثه في منصبه أكثر من ثلاث سنوات حتى أفاض من 'كرمه' على اليهود، فاعترف بـ'دولة إسرائيل' في العام 1982 (عام الاجتياح والمذابح الصهيونية الرهيبة في لبنان), لم تخل نصائحه في كتاب تعليماته لـ'المسيحيين' أن يحبوا اليهود لأنهم شعب المسيح (اليهودي بالطبع وفقاً للبابا البولندي الجنسية), أولئك الذين أحاطهم البابا بـ'مكرمة' زيارته لكنيسهم في روما وصلاته فيه وسط ذهول 'مسيحي' الكنيسة الشرقية بعد ذلك بأربع سنوات، ثم توجيهه اللوم أخيراً قبل عامين من الألفية الثالثة لأتباعه المتسببين في ما يقال عن الهولوكوست اليهودي الذي ينسب للنازي إقامته لليهود.
الثاني: العمل على تفكيك الاتحاد السوفيتي:
آخر كتب البابا 'الذاكرة والهوية' الذي يلقى الآن رواجاً كبيراً بسبب الحالة الصحية للبابا, أماط فيه اللثام عن قناعته الشخصية بأن التركي محمد على أغا الذي حاول اغتياله أوائل الثمانينات لم يتصرف من تلقاء نفسه, معبّراً عن اعتقاده بأن الكتلة الشيوعية السابقة ربما كانت وراء مؤامرة محاولة اغتياله.
لماذا تقدم تلك الكتلة على محاولة اغتياله؟ الجواب ليس عند البابا, وإنما لدى العديد من خبراء السياسة الأوروبية الذين يكادون يجمعون على علاقة سرية باتت معلومة لدى قطاع عريض من الخبراء، تجمع ما بين يوحنا بولس وجهاز الاستخبارات الأمريكي, جرى تفعيلها مبكراً، وبدت أول نتائجها في الزيارة التي قام بها كارلو في العام 1978 لبلده الثاني بولندة, داقّاً هناك أولى مسامير الكنيسة الكاثوليكية في نعش الشيوعية.
والخطة كانت محكمة؛ بولندة ذات الثمانية والثلاثين مليون نسمة -هم الأكثر كثافة سكانية بين دول أوربا الشرقية، مقر حلف وارسو, قاعدة اليهود الخلفية في أوربا ومفرزة الزعماء الصهاينة-, من هناك تحرك البابا, ومن هناك أطلق عباراته النارية: 'إن المسيح لا يقبل أن يكون الإنسان أداة إنتاج فقط، فعلى العامل ورب العمل والدولة والكنيسة نفسها أن يتذكروا أنه لا يمكن فصل المسيح عن عمل الإنسان', فلتعوا الدرس أتباع منظمة تضامن 'ليخ فاونسا' الزعيم العمالي المثير للجدل، والذي أضحى بعدُ زعيماً لبلاده كلها:
إن المسيح يحارب الشيوعية, لا تكونوا اشتراكيين, نفهم من الكاهن الأكبر..(/2)
الجموع المحتشدة لم تأكل من عزيمتها و'إيمانها' السنون: 'نريد الله في مدارسنا، نريد الله في منازلنا، الله هو ربنا'..
البابا السابق المسموم كان نصيراً للعمال والفلاحين, لم يكن مناسباً للمرحلة فلفظته المرحلة والحياة على حد سواء, ذاك كارلو أنضج فكراً وأنسب للمرحلة بجذوره الشرقية العريقة وتطلعاته نحو الديمقراطية. وعلى ذكر الديمقراطية؛ فتلك ليست تدخلاً من الكهنوت في الدنيا ولا تنطبق عليها 'دع ما لقيصر لقيصر, وما لله لله', وإنما: 'إن على الكنيسة مشاركة الشعب في كفاحه من أجل الديموقراطية', قال البابا..
فالديمقراطية إذن ليست نظرية سياسية تجعل للكنيسة سلطاناً سياسياً, هكذا أريد للكاثوليكية في تلك اللحظة أن تنطق, ليأتي بعدها الرئيس الأمريكي لـ'يبشر' العالم بالديمقراطية, ويعطف على كلام البابا الكاثوليكي كلام رهبان البيت الأبيض البروتستانتيين, حين بدا الحيز الفكري بينهما ضيقاً بـ'فضل' البابا الذي جمع الشمل كلٌ في 'حب إسرائيل'. (للتذكرة فقط, فالبابا جاء متزامناً مع انتخاب رونالد ريجان اليميني رئيساً للولايات المتحدة).
البابا ليس كشيخ الأزهر -الذي يتمنى على الله أن يمن على الأول بالشفاء-, له دور سياسي عملاق, ألم تر إلى المذيع بالتليفزيون الأمريكي حين قال متحدثاً عن 'معجزات' البابا: 'في سنة واحدة أسقط عيدي أمين, وأحل حاكماً مسيحياً محله وأسقط بوكاسا الحاكم الإفريقي المسيحي الذي تجرأ واعتنق الإسلام، أسقطته قوات أكبر دولة كاثوليكية في العالم'..
ودور الرجل في تقويض أركان الشيوعية لا ينكر, تحدث -كما ذكرنا آنفاً- عنه كثير من المحللين والكتاب, منهم صاحبا كتاب ' صاحب القداسة' الإيطاليان اللذان أثبتا فيه العلاقة المريبة التي تربط هذا الرجل بجهاز C.I.A.
بيد أننا نعطف بتلك الحادثة المريبة التي تدل على حماسة الرجل ضد الشيوعية والاشتراكية, وهي بعيدة لكنها قريبة المعنى, في نيكاراجوا حيث تورط كاردينال كاثوليكي في الانخراط في حكومة شيوعية كوزير للثقافة, عندها لما زاره البابا لم يكترث بتوسلات الكاردينال آرنست التي أبدى فيها ولاءه للكنيسة, لكن 'الحبر الأعظم' بكل 'سماحة' وبّخه وأهانه أمام عدسات التلفزة، معنّفاً له على تورطه في حكومة شيوعية (لعل المشهد هذا في 'تسامحه الديني' يشابه ما أثبتته الصحافة المصرية شبه الرسمية لشيخ الأزهر وهو يصفع أحد الحضور لخطبة الجمعة التي كان يلقيها بالجامع لما اعترض عليه !!)..
وإذا بعدنا عن الشيوعية ودور البابا, لمسنا تدخّلاً استخبارياً لافتاً للبابا في الشرق الأوسط, وثّقه تقرير هام للمركز الإعلامي الفلسطيني من بيت لحم, جاء فيه: 'من المثير أنّ البابا يوحنا بولس السادس، يملك أحد أكبر أجهزة جمع المعلومات في الأراضي الفلسطينية، حيث تزوّد الكنائس الكاثوليكية بشكلٍ يوميّ الفاتيكان بأحداث الأراضي الفلسطينية و بشكلٍ تفصيليّ، و إن كان لا يعرف من يستفيد من هذه المعلومات و تحليلها في النهاية'. وإن كان التقرير لا يدّعي علمه بالجهة المستفيدة، فإنه على أفضل الأحوال حين يكون الفاتيكان مستقلاً، فإنه حينئذ يعد من الجهات الاستخبارية، وإلا عُدَّ -على أسوأ الفروض- من توابعها 'الاستعمارية'..
الثالث: تحريك قوافل التنصير بأسرع وتيرة شهدتها الكنيسة من أيام الاحتلال المباشر في القرنين المنصرمين:
ليس لدينا إحصاءات دقيقة, لكن بالإمكان أن نزعم أن هذا البابا هو أكثر بابوات روما من حيث عدد جولاته التنصيرية, وغير التنصيرية, فنادراً ما تعثر على بقعة مهمة في المعمورة لم 'تحظ' بزيارة البابا, لا سيما تلك المسلمة التي لم يكن بسهولة متاحاً من قبل أن يتطلع لزيارتها البابا, كأرض الشام المباركة -التي كانت مطمع الحملات الصليبية دوماً وقد زارها إبان احتفالات انصرام الألفية الثانية-, وأرض الكنانة التي استقبله فيها سيد طنطاوي وقت أن كان مفتياً للديار المصرية, وإفريقيا بطولها وعرضها, لا سيما زيارته للسودان (أو أرض السود) أوائل التسعينات، التي نُصِبَ فيها لأجله صليباً في الساحة الخضراء بطول 12 متراً.
وجولته لـ نيجيريا وبنين والجابون وغينيا الإفريقية.
والرجل لما أقعده المرض، لم يتوانَ عن حثّ أنصاره أن يسيحوا في الأرض متلمّسين خطاه, في تسونامي دعا المنظمات التنصيرية إلى الإسراع إلى هناك بعد حدوث الزلزال مباشرة, فكانوا هناك بعد قليل من ذلك لم يؤخرهم روتين ولا إجراءات معقدة, فلاقاهم المنكوبون قبل أن ينحسر المد.
وفي دارفور لما اعتراها ما اعتراها، خاطب البابا جمعاً من المنصّرين قائلاً: 'إنني أحدثكم عن دار فور، تلك المنطقة التي تشهد كارثة إنسانية وهي بحاجة إلى صلواتكم، هلمّوا إليها إنها بحاجة إلى كلمة المسيح', وفي كل مكان تعرّض لمشكلة من ديار الإسلام كان البابا هناك أو العديد من أتباعه..(/3)
وليس من عجب أن تقفز عدد المنظمات التنصيرية من 15 ألف منظمة إلى 27 ألفاً في عهده, وهو صاحب التصريح 'لابد أن يتنصر العالم', وإذا كان المسلمون في ازدياد والكاثوليك في تناقص؛ فإن ذلك يصبح آكد.
وإذ الأمر كذلك، فإن الرجل يصبح يسير في اتجاه لا يلتقي أبداً مع طموحات وتطلعات لجان الحوار بين الأديان المنبثقة عن الأزهر، وتصبح تمنيات شيخ الأزهر له بالشفاء العاجل محل تأمل..
أما نحن, فلن نصلي أبداً من أجل البابا!!(/4)
أيهما أخطر؟!
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
كان العراق يرزح تحت نظام حكم استبدادي "دكتاتوري" يتربع على قمته شخص واحد، يأمر وينهى ويسجن ويعتقل ويقتل، ويتصرف في شئون الشعب الداخلية والخارجية السلمية والحربية، لم تنج من عدوانه طائفة دون أخرى، بل لم ينج منه أعوانه وبعض أقاربه وأسرته.
هذا الاستبداد وهذه الدكتاتورية كانت دكتاتورية فرد واحد في كل أنحاء العراق وفي خارجه، لم يكن يجرؤ على الوقوف أمام جبروته أحد من أعوانه سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، ومعلوم ما ترتب على استبداده من آثار خطيرة على شعبه وعلى الشعوب المجاورة، ولكن استبداده "دكتاتوريته" كانت سهل الفهم سهلة الإزالة للقادرين عليها.
وكانت الإدارة الأمريكية في حرب الخليج الثانية قادرة على تلك الإزالة بعد انتصارها على القوات العراقية في حرب الخليج الثانية، لأن المستبد مني بخسائر فادحة وهزيمة منكرة، وكانت القوات التي سميت بـ(قوات التحالف) لا زالت مسيطرة على المنطقة وكانت قادرة على دخول العاصمة بغداد والقضاء على المستبد "الدكتاتور"ولكنها لم تفعل ذلك، بل تركته في مكانه يتصرف كما يشاء في شعبه ويهدد بتصريحاته جيرانه.
وبدلا من القضاء عليه في حينه، خططت لإضعاف الشعب المظلوم وحرمانه من أقل ما يجب له من حقوق الإنسان، من الغذاء والدواء والتعليم والأمن بصفة عامة، لمدة عشر سنوات.
وهي في تلك الفترة تحيك المؤامرة ـ ليس على الشعب العراقي وحده ـ وإنما على شعوب المنطقة كلها، واضعة تحقيق أهدافها في هذه الشعوب، العراق أنموذجا ومثالا يحتذى بعد نجاح خطتها فيه لما تريد تطبيقه في بقية الشعوب العربية.
واتخذت لشرعية عملها في العراق وسائل ودعاوى كاذبة، وأعظمها دعوى أن نظام العراق يملك أسلحة دمار شامل يهدد بها جيرانه ـ ومعلوم أن المراد بجيرانه هنا عام قصد به الخاص وهي الدولة اليهودية التي كانت ترتعد فرائصها من الجيش العراقي الذي يعد أقوى جيش في المنطقة ـ واستبدت القيادة الصليبية الأمريكية بالأمر، وداست على تقرير "لجنة تقصي الحقائق" التي صرحت بأنها لم تجد في العراق أسلحة دمار شامل، كما داست على قرارات هيئة الأمم المتحدة ـ وبخاصة معارضة بعض الدول الكبرى في مجلس الأمن للغزو الأمريكي للعراق ـ وأخذت تجمع عملاءها من العراقيين الذين تربى كثير منهم في مقر المخابرات الأمريكية "C.I.A " وبعض قادة الطوائف الحاقدة على غيرها في العراق وفي المنطقة العربية المجاورة، مع ما يغلب على ظننا أنها تواطأت معها بعض الدول المجاورة للعراق الطامعة في تحويله إلى دولة طائفية تتفق مع مبادئ تلك الدولة وأهدافها.
وهدف القيادة الأمريكية من ذلك كله، إيجاد حكم مستبد "دكتاتوري" جماعي معقد يدمر العراق ويجزئه تجزئة يصعب معها توحيده كما تصعب إزالة الاستبداد الجماعي المعقد.
إن هذا الاستبداد الجماعي المعقد في العراق يتكون من عناصر من المخططين اليهود والقادة الصليبيين من الأمريكان، ومن بعض الدول المجاورة وطوائفها ذات المراجع المحركة لها في داخل العراق وخارجه، ومن بعض الأحزاب العراقية ـ في الشمال ـ المتعاونة مع الجميع لمآرب خططت ولا زالت تخطط لتحقيقها.
وهذا الاستبداد الجماعي المعقد ينصب على طائفة معينة هي أهل السنة الذين وجدت أمريكا منهم الصمود والمقاومة الجهادية التي أقضت مضجعها في أفغانستان وفي فلسطين ضد الحليف المدلل "اليهود" وفي العراق الذي ظنوا أنهم بعد دخوله بسهولة وإسقاط صنم المستبد "الدكتاتور" السابق قد حققوا هدفهم وهو احتلال العراق والعبث به كما يريدون.
ومن أهم مظاهر هذا الاستبداد الجماعي المعقد اصطفاف القوات الأمريكية وألوية ما سمي بالجيش العراقي في جحافل موحدة لقتل أهل السنة في محافظاتهم ومدنهم وقراهم ومنازلهم، وبخاصة في المناسبات التي يرغب الفريقان المعتديان تحقيقها في غياب أهل السنة وتحييدهم عن أي مشاركة إيجابية في الشأن السياسي العراقي، كما حصل في الانتخابات السابقة التي جرت في وقت تحترق فيه الفلوجة وغيرها من مناطق أهل السنة، وكما هو الحال الآن في الاستفتاء على الدستور تحت أزيز الطائرات وصواريخ الدبابات على الرمادي وغيرها.
إنهما استبدادان: أحدهما فردي سهل الفهم وسهل الإزالة وهو النظام العراقي السابق، واستبداد جماعي معقد هو الاستبداد اليهودي الصليبي الطائفي الحزبي في العراق، فأي الاستبدادين أخطر عند أولي الألباب(/1)
أيهما أفضل الطلاق أم المسامحة؟
مفكرة الإسلام : هل تعرف ما هي أخطر علاقة إنسانية ؟
العلاقة الزوجية هي من أخطر العلاقات الإنسانية لماذا ؟
وذلك لأنها هي العلاقة الوحيدة التي تحدد مستقبل وتاريخ المجتمع بل الأمة بأكملها.
فالاستقرار الأسري الذي ينتج عن تفاهم وحب ونجاح في العلاقة بين الزوجين يعطي المجتمع أولادًا منتجين ومتوازنين وبه يعمر الكون وتزدهر الدنيا , لكن الزواج الناجح قد يبدأ ناجحًا ثم تظهر بعد ذلك العوائق والعقبات والمشكلات ، وإن لم نحسن التعامل مع هذه المشكلات فستكون حجر عثرة أمام النجاح الأسري.
ومن هذه المشكلات عدم الولاء للأسرة ، فعندما تُفقد المصداقية والولاء فإن بنيان الأسرة يهتز بل وسيتحطم.
إن كثيرًا من الأزواج لا يحاولون مواجهة التغيرات والتوترات التي تنشا في حياتهم ، وإنما يتركون الأمور تتراكم حتى تصل إلى حد لا يُحتمل ، والمشكلة أنه يصعب على الإنسان أن يتكلم بهدوء وموضوعية عندما يكون شديد الانزعاج والغضب ، فنجد الأزواج هنا بدلاً من أن يحددوا وقتًا مناسبًا للحديث الهادئ والشامل ، فإنهم يحاولون التنفيس عما في أنفسهم من الانزعاج والغضب بالكلام عن عوارض المشكلة وبسرعة ، وفي أوقات غير مناسبة ، مما يزيد في المشاعر والمواقف السلبية بين الطرفين... إن المشكلات التي لا تعالج بشكل سليم تخرّب كل ما هو جيد وحسن في العلاقات الزوجية.
ولا شك هنا أن أسلوب تفكير الإنسان في تضخيم الحدث وجعله مشكلة كبيرة جدًا أو أنه يمكنه التعامل مع الحدث بروح معنوية عالية له أثره في علاج المشكلة ، فلا يوجد شيء في علاج المشاكل الزوجية اسمه مستحيل ، والإنسان يستطيع بما أتاه الله من علم وإرادة أن يذلل الصعوبات ويعالج المشكلات ، وإذا لم يستطع أن يعالج المشكلة من جذورها فليحاول احتواء المشكلة واستيعابها فإن ذلك يخفف عليه وطء المشكلة.
ولابد عند التعامل مع المشكلة التي نحن بصددها وهي الخيانة الزوجية والمشاكل الزوجية عمومًا من الحفاظ على عدة أمور:
* النظرة الصحيحة للمشاكل الزوجية.
* إعطاء المشكلة حجمها الطبيعي.
* عدم تضخيم المشكلة أو تعقيدها.
* النظر إلى الجانب الإيجابي في المشاكل الزوجية.
* التعامل مع المشاكل الأسرية بنفسية مطمئنة أي: الرضا بقضاء الله والصبر على الابتلاء.
والسؤال الآن في حال اكتشاف خيانة الزوج ماذا تفعل الزوجة ؟
هل تطلب الطلاق أم تسامح الزوج وتبدأ حياتها من جديد ؟
ونحن نرى أنه في حال اكتشاف خيانة الزوج أولاً على المرأة أن تتماسك وتبتعد عن الغضب الشديد الذي يطيح بالبيت ولتعلم أن المرأة الذكية لا يمكنها فقط أن تحتفظ بزوجها بل يكون في استطاعتها أن تستعيده إليها حتى لو انزلق نحو امرأة أخرى.
ولا شك أن المحبة والود الصادق كفيل بأن يضمد الجراح مهما كانت عميقة ، وجزاء الزوجة التي تتمتع بهذا القدر الكبير من ضبط النفس عادة ما يكون مضاعفة حب زوجها له.
إذن الستر أولى:
إذا كان الزوج يُرجى منه خير ورجع وندم وتاب عن فعلته ، فإنه يستحب أن تستر عليه زوجته ولا تفضح أمره ، وعليها أن تنصحه وتذكره بالله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: [[من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة]].
فالستر مستحب للغريب فما بالنا بالقريب , فإن الستر هنا أولى وخصوصًا لما يترتب على الفضيحة من ضرر نفسي واجتماعي للأبناء عند افتضاح أمر أبيهم.
ونحن نقول للزوج: حتى وإن أسهمت الزوجة ولو بقدر من السلبية والابتعاد وجدانيًا عن الزوج أو بإهمال في جانب من الجوانب ، فإن هذا ليس مبررًا للخيانة الزوجية ، أليس من الأولى أن يلجأ هذا الزوج إلى النصح والإرشاد للزوجة لتهتم بنفسها مثلاً وبيان أهمية ذلك في تقوية العلاقة بينهما ، كما عليه أن يوفر لزوجته خادمة لتساعدها في المنزل إن استطاع ويشجعها ويثني عليها عندما يراها جميلة ومهتمة ، ويفصح لها كيف يريدها أن تكون سواء في لبسها وشعرها وغير ذلك من الجوانب التي تلفت نظره فيكون أكثر تحديدًا مع زوجته فيما يريده منها.
فقد تكون الزوجة غافلة عن هذه الأمور ، أو قد لا تعير بعض الأمور أهمية كبرى مع أنها تمثل أهمية كبيرة لدى الزوج ولابد للمرأة أن تهتم بتفهم سيكولوجية زوجها وأيضًا على الزوج تفهم ذلك وتعلم الاحتياجات العاطفية والفسيولوجية أمر ضروري لاستمرار العلاقة الزوجية.
الطلاق أولى:(/1)
أما إذا كان الزوج عاصيًا لربه ، خائن لنفسه ولزوجه ، يترك الصلاة أو يؤخرها عن مواقيتها ويتخلف عن الجماعة ، ويطيل السهر على الشاشات مع الأفلام الخليعة والمناظر الهابطة التي تزرع الشر في القلوب وتدفع إلى ارتكاب المعاصي ، أو إذا كان الزوج يتعاطى المخدرات أو غيرها ، ومن الطبيعي أن تتوفر فيه صفات اللامبالاة والاستهتار وإهمال الزوجة والأبناء فهنا لابد من تدخل من يُردع هذا الزوج ، وللزوجة أن تطلب مساعدة ومشورة من تثق به كأن يكون هذا الشخص كبير وحكيم في الأسرة ، أو أخصائي نفسي أو متخصص في الاستشارات الأسرية لديه خبرة في معالجة مثل هذه المشاكل.
فإذا لم يصل الزوجان إلى حل لهذه المشكلة ، وكان من المستحيل الحياة مع مثل هذا الزوج فللزوجة أن تطلب الطلاق لتفر بنفسها وأولادها من هذا الزوج الضائع.
الطلاق... أم المسامحة؟ [2]
مفكرة الإسلام : إذا لم يتوافر الشعور بالأمان لدى كل من الزوجين ، فإن الولاء للمؤسسة الزوجية سينتهي حتما لعدم شعور أحدهما بالأمان تجاه الآخر والاطمئنان له , ولعل حاجة المرأة للشعور بالأمان أكثر منها بالنسبة للرجل.
ولكن عندما يصعب على الزوجين حل المشكلة والتفاهم فيما بينهما واتخاذ كل سبل العلاج والسعي للإصلاح بينهما ، وإذا استحالت الحياة ووقع الضرر عليهما بسبب خيانة الزوج فهو لا يريد زوجته وهي أيضا لا تريده زوجا لها فكما يقال: [[ فإن آخر الدواء الكي]] , أي الطلاق.
قال تعالى: [[ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ]].
المسامحة والتغيير
وذلك بأن يحاول كل طرف أن يكون المبادر أولا إلى المسامحة والعفو , وذلك بعد التأكد من انتهاء هذه المشكلة وصلاح حال الزوج والرجوع إلى طريق الجادة.
وغالبا نرى في المشاكل الزوجية أن الزوجين قد لا يصلون إلى قناعة واحدة في معرفة من هو المخطئ ومن هو المصيب في موقف معين فنرى كلا من الزوجين يلوم الآخر، ويحاول الانتصار لنفسه وهو الدفاع عنها ، والانتقام من الآخر وكشف عيوبه وتقصيره وقد يكون آخر ما يخطر في ذهن الواحد منهما في هذا الموقف أن يعذر الآخر ويسامحه.
إن المسامحة والمغفرة تحتاج إلى قرار فالمعذرة ليسب مجرد عواطف ، وإنما موقف وقرار وتنفيذ وقد يبقى الإنسان منفعلا وغضبانا حتى بعد المسامحة وهذا أمر معتاد إن من السهل أن يقول الواحد: [فاعف واصفح] ولكن التطبيق شيء آخر.
ومن الصعوبة أيضا نسيان الإساءة وتجاوزها ولكنه مع ذلك يستطيع أن يتخذ ذلك القرار ويتجاوز الإساءة ويسعى إلى تحديد موعد للجلوس والحديث الهادئ في موضوع الخلاف ، للتخفيف من المشاعر السلبية ، والسعي لعدم احتمال تكرر ما حدث وعادة ما يساعد هذا الحديث على زيادة فهم كل منهما للآخر ويمكنهما من تحسين الحوار بينهما.
ولابد بعد هذا أن يقرر كلا منهما بأنه لن يعود لذكر الموضوع في ساعات الغضب والاختلاف وقد يحتاج الزوجان بعد ذلك لبعض الوقت لتتعمق بينهما مشاعر الثقة والاطمئنان , ومع المسامحة لابد من التغيير والتغيير يأتي من الداخل لا من الخارج يقول تعالى: [[ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم]].
وهناك مثل حديث يضرب في ذلك:
[[ شاب في العشرين من عمره قرر أن يغير العالم كله خلال عشرين سنة.
وبعد عشرين سنة وحينما صار في الأربعين من عمره وجد صعوبة ذلك ، وأنه لم يستطع أن يغير العالم فقرر أن يغير بلده خلال عشرين عاما.
وبعد عشرين عاما وحينما صار في الستين من عمره وجد أنه لم يصنع شيئا ، فقرر أن يغير من مدينته خلال عشرين عاما.
وبعد عشرين عاما وحينما صار في الثمانين من عمره ، قرر أن يغير من أسرته.
وبعد عشرين عاما وحينما صار في المائة من عمره ، ووجد أنه لم يغير شيئا اكتشف أخيرا الحقيقة المرة [[أن التغيير يبدأ من الذات]].
تعتقد كثير من الزوجات أنها تحاول تغيير زوجها وتطلب منه التغيير ولكن دون جدوى ولا تفكر هي في تغيير نفسها لتتعامل مع هذا الزوج , وعلى الزوجة أن تنظر لنفسها وتكتب عيوبها وتحاول تغييرها ولكن من الصعب على الإنسان أن يلتفت لنفسه والأسهل منه أن ينظر إلى الآخرين ويتهمهم.
إن التغيير النفسي هو طريق السعادة الزوجية. وانظر معي عزيزي القارئ إلى هذه القصة الطريفة:
أراد شخص أن يدفع الحصان من الخلف إلى الأمام بضعة أمتار والحصان ثابت متصلب يرفض أن يتقدم فرأى الخيال هذا المشهد
فقال الخيال للرجل: هل تسمح لي أن أقدمه لك ؟
قال: تفضل ، فذهب الخيال أمام الحصان ووضع إصبعه الإبهام في فمه وبدأ الحصان يلمس إصبعه وبدأ الخيال يقدم إصبعه والحصان يتبعه إلى الأمام ثم أوقفه عند الهدف المنشود والرجل ينظر إليه باستغراب شديد.
ثم التفت الخيال إلى الرجل قائلا: [إذا أردت أن تحرك الحصان ففكر فيما يحبه هو لا فيما تريد أنت].
نخلص من ذلك بقاعدتين:
الأولى: تغيير الذات لتغيير الآخرين.
الثانية: فهم النفسية وما يريد الآخر ، ومعرفة ما يحب كل طرف وما يكره واستثمار ذلك في فن احتواء المشاكل الزوجية.(/2)
أيهما قتل الآخر
أ.د/ناصر بن سليمان العمر 4/1/1423
18/03/2002
جاء في صحيح مسلم عن صهيب أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :(( كان مَلِكٌ فيمَنْ كان قبلكم ، وكان له ساحرٌ ، فلما كبر قال للملك : إني قد كبرتُ فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاماً يعلمه ، فكان في طريقه إذا سلك راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه ، فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحرَ مرّ بالراهب وقعد إليه ، فإذا أتى الساحرَ ضربه فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا خشيتَ الساحرَ فقل حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناسَ ، فقال : اليوم أعلم الساحرُ أفضل أم الراهب أفضل ؟ فأخذ حجراً فقال : اللهمّ إن كان أمر الراهبُ أحبَّ إليك من أمر الساحر فأقتل هذه الدابة حتى يمضي الناسُ ، فرماها فقتلها ، ومضى الناسُ ، فأتى الراهبَ فأخبره ، فقال له الراهب : أيْ بُنيَّ ، أنت اليوم أفضل مني ، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستُبتلى ، فإن ابتُليتَ فلا تدلّ عليّ ، وكان الغلامُ يُبْرئ الأكْمهَ والأبرص ويداوي الناسَ من سائر الأدواء ، فسمع جليسٌ للملك كان قد عميَ ، فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال : ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي اللهُ فإن أنت آمنت بالله دعوتُ اللهَ فشفاك فآمن بالله فشفاه اللهُ ، فأتى الملكَ فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : مَنْ ردَّ عليك بصرَكَ ؟ قال : ربّي ، قال : أوَ لكَ ربٌّ غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلَّ على الغلام ؛ فجيء بالغلام ، فقال له الملكُ : أي بني قد بلغ من سحرك ما تُبْرئُ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي اللهُ ، فأخذه فلم يزلْ يعذبه حتى دلّ على الراهب فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدعا بالمئشار فوضع المئشارَ في مفرق رأسه فشقّه به حتى وقع شقّاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه ، فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ، فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبلَ ، فقال : اللهم اكفنيهم بما شئتَ ، فرجف بهم الجبلُ فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم اللهُ ، فدفعهم إلى نفر من أصحابه ، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور ، فتوسطوا به البحرَ ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به ، فقال : اللهمّ اكفنيهم بما شئتَ ، فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم اللهُ ، فقال للملك : إنك لستَ بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناسَ في صعيد واحد ، وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي،،،
ثم ضع ِالسهْمَ في كبد القوسِ ثم قل : باسم الله ربّ الغلام ، ثم ارمني ، فإنك إذا فعلتَ ذلك قتلتني ، فجمع الناسَ في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ٍ ، ثم أخذ سهماً من كنانته ، ثم وضع السهمَ في كبد القوس ، ثم قال : باسم الله ربّ الغلام ، ثم رماه فوضع السهمَ في صدغه ، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات ، فقال الناسُ : آمنا برب الغلام ،،، آمنا برب الغلام ،،، آمنا برب الغلام ، فأُتيَ الملكُ فقيل له : أرأيتَ ما كنتَ تحذرُ ؟ قد ، والله نزل بك حذرُك ، قد آمن الناسُ فأمر بالأخدود بأفواه السكك وأضرم النيران ، وقال : مَنْ لم يرجع عن دينه فأحموه فيها ، أو قيل له : اقتحم ، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌّ لها ، فتقاعستْ أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أمّة اصبري فإنك ِ على الحقّ )) .
كلما بعد الناس عن عهد النبوة ، ازدادت حاجتهم إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ، يتفيئون في ظلالهما ، ويشربون من معينهما ، ويهتدون بهديهما ؛ التزاماً بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ( تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً : كتاب الله وسنتي ) ففيهما الشفاء والغناء والهدى .
وفي هذه الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة ؛ من تكالب أعدائها عليها ورميهم إياها عن قوس واحدة ، وحيث دبّ الوهنُ واليأس في قلوب بعض المسلمين ، وآخرون حادوا عن الحكمة ، وضلوا عن سواء السبيل ، فقد قمتُ بدراسة حديث الغلام وأصحاب الأخدود ، ووجدت فيه من الوقفات والدروس والعبر ما أراه علاجاً ناجعاًًًًً لكثير من مشكلات الأمة ، ومن هنا رأيت أن أضع هذه الدراسة أمام أحبتي ؛ لتكون لهم زاداً في الطريق ، وعوناً على تخطي العقبات والصعاب ، وتجاوز بنيات الطريق ، وسلوكاً لنهج الحكمة " ومن يؤتَ الحكمة فقد آوتي خيراً كثيراً " .
فأقول مستعيناً بالله ومتوكّلاً عليه ؛ سائلاً إياه التوفيقَ والسداد :(/1)
1) ما أشبه الليلة بالبارحة ، فاستخدام السحرة من قِبل أهل الدنيا قديم ، وكثير من زعماء العالم ـ اليوم ـ يستخدمون السحرة وأشباه السحرة ، بل إن بعض ما يتخذه هؤلاء من قرارات مبني على ما يقوله السحرة ويدعونه ، وهو ضلال وإفساد في الأرض ، والله لا يُصلح عمل المفسدين ، وكلما بعد الناس عن الدين والهدى والوحي الصادق ؛ لجأوا إلى أمثال هؤلاء السحرة والكهّان ، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل
2 ) أن الأرض لا تخلو من مؤمن بالله ، ولا يكون خلوّها من المؤمنين إلا في آخر الزمان عند قيام الساعة ، وعندما بُعِثَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان هناك من الحنفاء ؛ كورقة وغيره ، ولذلك كان هذا الراهب على الدين الصحيح ، في أمة لا تعرف لها رباً إلا الملك ، مع أنه قد يكون في البلدان الأخرى من المؤمنين مَنْ لا نعلمهم.
3 ) جواز تخفّي الإنسان بدينه إذا خاف على نفسه ، ولذلك لم يكن الملك يعرف عن هذا الراهب شيئاً ، ولذلك قال الراهب للغلام ( فلا تدل عليّ ) ، وكان في مكة أناس مؤمنون يتخفّون بدينهم ، قال سبحانه : " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم " .
4 ) أن هذا الراهب كان يعمل في السرّ ؛ حيث يدعو إلى التوحيد وعبادة الله ، وهذا من أدلة جواز العمل سراً إذا اقتضت المصلحة ذلك ، والأدلة في ذلك كثيرة جداً ، كما في دار الأرقم ، ودعوى النسخ لا دليل عليها ، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ،ومن الأدلة على ذلك حديث حذيفة : (( فابتُلينا حتى أصبح أحدنا لا يصلي إلا سراً )) ، ويدل على ذلك قوله تعالى : " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصرَ بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشّر المؤمنين "
5 ) جواز الكذب عند الخوف على النفس ظلماً ، وبخاصة أمام العدو .
6 ) أهمية التربية الفردية ؛ حيث إن هذا الغلام الذي أحيا اللهُ به أمة ً ؛ نتاج تربية الراهب ، ومن أقوى أسباب بقاء الإسلام في روسيا بعد قيام الشيوعية هو التربية الفردية سراً ، بل هكذا قام الإسلام أوّلاً.
7 ) ذكاء هذا الراهب وفراسته ، حيث توسّّم في هذا الغلام النجابة َ والأهلية لقيادة أمته ، وإخراجها من الظلمات إلى النور ، فكانت فراستُه في محلها ، وتوقّعُه في موضعه.
وهكذا يجب أن يعتنيَ المربّون بتلاميذهم ، ويختارون منهم مَنْ يُتوقّع أن يكون لهم دورٌ في قيادة أمتهم وريادتها ، ويُعدّونهم لذلك كما أعد الراهبُ الغلامَ .
8 ) صحة الكرامات ، وأن الله يُجريها على يد مَنْ يشاء من عباده المؤمنين ، وهي وسيلة من وسائل النصر والتأييد والتثبيت ، ومع أهمية الإيمان بها ، يجب البعد عن الغلو فيها ، والاعتماد عليها ، كما لا يجوز إنكارها ، أو التقليل من شأنها ، فلا غلوّ ولا جفاء ، ولا إفراط ولا تفريط.
9 ) الابتلاء سنة ماضية ، وكما أخبر ورقةُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سيُبْتلى ، كذلك أخبر هذا الراهبُ الغلامَ ، وهي سنة جارية ، فالمرءُ يُبتلى على قدر دينه ، وهو مصداق قوله سبحانه : " ألم * أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " وغير ذلك من الآيات والأحاديث الصريحة في هذا الشأن ، ولذا فعلى الدعاة إلى الله أن يُعدّوا أنفسهم لذلك ، ولا يعلم المسلم من أين يأتيه البلاء ،،، نسأل اللهَ السلامة والعافية .
10) قوة توحيد هذا الغلام ؛ حيث أعاد الفضلَ لأهله ، فقال : (( إنما يشفي اللهُ )) وهذا دليل على إيمانه وصدقه وتجرده .
11) أهمية استخدام النعم التي يكرم الله بها المرءَ في الدعوة إلى الله والترفع عن الدنيا وحطامها ، حيث استثمر الغلامُ إكرامَ الله له بشفاء المرضى من أجل خدمة دينه وعقيدته ، بينما هناك آخرون يستخدمون دينهم من أجل دنياهم ، بل من أجل دنيا غيرهم ، وهناك من جعل العلم والدعوة وسيلة للتكسّب وجمع الحطام (( يبيع دينَه بعرض من الدنيا )) ، وقد استثمر يوسفُ ـ عليه السلام ـ نعمة َ(( تعبير الرؤيا )) من أجل دعوة أهل السجن ، وإظهار براءته ، وبعد ذلك سياسة الأمة ، وقيادتها بالعدل والتوحيد .
12 ) أنه لا مانع من إخبار الإنسان بما هو مقدم عليه من بلاء أو فتنة ، حتى يستعد لذلك ، ولا يُفاجأ به ، حيث إن ذلك من وسائل التثبيت ، والصبر على الأذى ، وقد أخبر يوسفُ أحدَ صاحبي السجن بما سيحصل له ، وكذلك أخبر ورقة رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأخبر الإمامُ الشافعيُّ الإمامَ أحمد بما سيحصل له من بلاء بناءً على رؤيا رآها وهو في مصر ، فأرسل إلى أحمد في ذلك.(/2)
13) نِعْمَ الجليسُ جليسُ هذا الملك الذي حمد نعمة َالله عليه ، وكان جريئاً بالحق لا تأخذه في الله لومةُ لائم ، وفقد منصبه ومكانته ، بل ضحى بكل متع الدنيا ، وتحمل الأذى والتعذيب ثم الموت ، ونال الشهادة في سبيل الله ، فهنيئاً له ،،، ولا نامت أعين الجبناء والمنافقين والمتكسّبين بالدين ،،، " فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ".
14) شجاعة الغلام وقوته في الحق أمام هذا الملك الظالم ، حيث أعلن توحيده ، وثبت عليه ، ولاقى في ذلك ما لاقى
15) أنه لا لوم على من دل ظالماً على مسلم إذا كان هذا بسبب الأذى والتعذيب مما لا طاقة له به ، فالإنسان له حد في التحمل والصبر ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، ولا يجوز أن نلوم من عذره الله ، ولذلك لم يلم ِ الغلامُ جليسَ الملك ، ولا الراهبُ الغلامَ ، ولكن ذلك لا يكون إلا بعد بذل الوسع والطاقة ، واستنفاذ الفرص
16) مع خوف الراهب من الملك ، وإشفاقه من الأذى ، فقد ثبت ثباتاً عجيباً ، وصمد صموداً نادراً ، وهو يمثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية وإذا لقيتموهم فاصبروا )) ، وقد نال الشهادة في سبيل الله صابراً محتسباً ؛ مقبلاً غير مدبر.
وكذلك فعل بالجليس فلم يصده عن دينه مع حداثة عهده بالإسلام ، وطول مجالسته للملك ، فلقي ربه صابراً محتسباً ، مقبلاً غير مدبر ، وكذلك بشاشة ُ الإيمان إذا خالطت القلوب تمكّنتْ منها ، وفي قصة الجليس وإيمانه وقتله شبه ٌبقصة سحرة فرعون ،،، رحمهم الله أجمعين .
17) إكرام الله للغلام بهذه الكرامات من أجل أن يتم أمر الله في نصرة دينه وإعلاء كلمته على يديه ، ويشرع للمؤمن أن يسأل الله أن يمده بكرامات من عنده ؛ تثبيتاً لقلبه ، وبرهاناً في دعوته ، وكبتاً لأعدائه وخصومه ، وقد سأل إبراهيم ـ عليه السلام ـ ربه ، فقال : " ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " ، وسأل بنو إسرائيل عيسى ـ عليه السلام ـ أن يسأل الله لهم أن ينزل عليهم مائدة من السماء " قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " فسأل عيسى ـ عليه السلام ـ ربه فاستجاب له " قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ".
ويدخل في ذلك : القَسَم على الله ، فمن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره .
18) تأمل هذا الدعاء الجامع : (( اللهم اكفنيهم بما شئت )) وهو أولى من كثير من الأدعية التفصيلية حيث إن تفويض الأمر لله يغني عن اجتهاد البشر ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، والخير كل الخير فيما يختاره الله وقد يختار الإنسان في دعائه لهلاك عدوه أمراً لا يتحقق فيه ما أراد " وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " ، بل قد يكون فتنة له وبلاء ، وقد قيل للحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .
19 ) كيف عرف الغلام أن الملك لن يستطيع أن يقتله ، وأن طريقة قتله هي كما ذكر مع أنه ليس بنبي ؟ قد يكون ذلك إلهاماً ؛ حيث ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن فيمَنْ قبلنا محدّثون ، والظاهر أن هذا منهم ، وهي كرامة من الله له ، يدل على ذلك ما سبق من كرامات منذ صغره ؛ ابتداء من هدايته على يد الراهب وما تلا ذلك حتى قتل ـ رحمه الله ـ.
20) في هذا الحديث دليل على جواز العمليات الاستشهادية ، فإذا كان هذا الغلام قد دلّ الملك على مقتله من أجل مصلحة غلب على ظنه تحققها ، فمن باب أولى جواز الإقدام على ما فيه نكاية بالعدو ، وتحقيق مصالح كبرى ، ولو كان في ذلك قتل النفس ، والأدلة على ذلك كثيرة جداً ، والقول بالعمليات الاستشهادية له ضوابط ، ليس هذا مكان تفصيلها ، ومن أهمها : غلبة الظن على تحقق النكاية بالعدو ، وإرهابه ، والحد من طغيانه ، على ألا يترتب على ذلك مفاسد تغلب على تلك المصالح ، ولذلك لا بد أن يكون القرار للقيام بمثل تلك الأعمال صادراً عن جهات تتوافر فيها شروط الأهلية لاتخاذ مثل هذه القرارات الخطيرة .
21)قال سيد ـ رحمه الله ـ : ( في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان وأن الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية ، في نفوس الفئة الخيّرة الكريمة الثابتة المستعلية لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة .
ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئاً آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.(/3)
إن الحياة الدنيا وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ، ومن متاع وحرمان ، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان ، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة . إن الناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب ، ولكن الناس لا ينتصرون جميعاً هذا الانتصار ، ولا يرتفعون هذا الارتفاع ، ولا يتحررون هذا التحرر ، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق ، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده ، تشارك الناس في الموت ، وتنفرد دون كثير من الناس في المجد ، المجد في الملأ الأعلى ، وفي دنيا الناس ـ أيضاً ـ إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال.
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة ، وليست شيئاً آخر على الإطلاق ، وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان ، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة ) أ . هـ
ما أحوجنا إلى هذا الفهم الذي يؤصل قاعدة مهمة من قواعد النصر ، وهي أن الانتصار هو انتصار المبادئ والثبات عليها ، وليس هو البقاء على ظهر الأرض والعيش فيها ، فكم من قتيل قد انتصر ، وكم من حيّ قد انهزم ويعيش كما تعيش الأنعام ، بل أضل سبيلاً
يا شيخ ُصبراً مضت أيامنا دولاً ... ...
كم من(قتيل)علا والخصم في الحفر
22) عجيب أمر هذا الغلام ! لماذا دلّ الملكَ على مقتله ؟ ولماذا ، وقد منعه الله من كيدهم لم يؤثر البقاء ليبلغ رسالة ربه ، ويدل الناس على الدين الحق ، ويُبقي على حياته سالماً ؟ هذا سؤال يتبادر إلى الأذهان والفهوم التي لم تعرف حقيقة الانتصار ، وإلا لو تأملت قليلاً لوجدت أن الغلام قد سلك بفعله طريق أعظم الانتصارات والمجد والخلود .
** إن الغلام قد أدرك بتوفيق من الله وحده ـ أن كلمة واحدة في لحظة حاسمة صادقة ، تفعل ما لا تفعله آلاف الكلمات في عشرات السنين .
إن الحياة موقف ، يتميز فيها الصادق من غيره ، وقد سنحت فرصة ثمينة لا يجوز تفويتها ، ولا يليق تبرير ضياعها ، وكما قيل : إذا هبت رياحك فاغتنمها ، وقد هبت رياح هذا الغلام ، وهل رياحه إلا تبليغ رسالة ربه وإنقاذ قومه وعشيرته من النار ، ولو دفع حياته ثمناً في سبيل تحقيق هذه الغاية ، وما أرخصها من نفس في سبيل تحقيق هذا الهدف العظيم .
** إنه انتصار الفهم ، وانتصار الإرادة ، وانتصار العقيدة ، عندما تتحول في صدر صاحبها إلى قوة مؤثرة ، وحياة صادقة ، وليست على هامش حياته وسلوكه وتفكيره .
إن هذا الغلام قد انتصر عدة مرات في معركة واحدة ، وموقف واحد :
ـ انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته ، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور.
ـ وانتصر بقوة إراداته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب ، متخطّياً جميع العقبات ، مستعلياً على الشهوات وحظوظ النفس ، ومتع الحياة الدنيا .
ـ وانتصر على هذا الملك الذي أعمى الله بصيرته ، فأخرب ملكه بيده لا بيد غيره ، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
إن الغلام أقدم على ذلك وهو يعي حقيقة ما يفعل ، أما المَلِك فأعمته سَكْرة ُالمُلْك ، وشهوة السلطان عن أن يدرك ما خطط له هذا الغلام ؛ في هذه المعركة الفاصلة التي مات فيها فرد ، وحيت أمة ، بل حتى الفرد لم يمت ،،، " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون".
ـ وانتصر الغلام عندما وقع وتحقق ما كان يتصوره ويتوقعه ويخطط له ، وقدم نفسه من أجله ، فآمن الناس وقالوا جميعاً : آمنا بالله رب الغلام .
إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ وسلامة التقدير ، نجاح باهر وفوز ظاهر ، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم .
ـ وانتصر الغلام عندما فاز بالشهادة في سبيل الله ، فكل الناس يموتون ، ولكن القليل منهم مَنْ يستشهدون.
ـ وأخيراً انتصر عندما خلّد اللهُ ذِكْرَه فيمن بعده ؛ قدوة وأسوة وذكراً حسناً للأجيال فجعل الله له لسان صدق في الآخرين.
23) وتتويجاً لهذه الانتصارات المتلاحقة تأتي نهاية القصة عندما آمن الناس برب الغلام ، آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت ، وهنا جُنّ جنون الملك وفقد صوابه ، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف ، في محاولة يائسة للإبقاء على هيبته وسلطانه ، وتعبيد الناس له من دون الله.
فها هو يحفر الأخاديد ، ويوقد النيران ، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين فيها ، وهنا تأتي المفاجأة المذهلة ، فبدل أن يضعف من يضعف ، ويهرب من يهرب ، لا تسجل الرواية أن أحداً منهم تراجع أو جَبُنَ أو هرب.
بل نجد الإقدام والشجاعة والاقتحام ، وكأن الغلام قد بثّ فيهم البطولة والثبات ، وها هم يجدّون في اللحاق به ، وهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداء لدينهم ، تموت الأجسام وتحيا عند خالقها .(/4)
والحالة الفريدة التي وردت في الرواية ، هي تلك المرأة التي خافت على رضيعها ـ لا على نفسها ـ وحُقَّ لها أن تخاف ، حيث إن ذلك رحمة وشفقة ًلا جُبْناً وخوفاً ، ولكنها قد أرضعته الإيمانَ والشجاعة والإقدام ، فطلب منها الإقدام فأقدمت .
وإذا كانتِ النفوسُ كباراً ... ...
تعبتْ في مرادها الأجسامُ
24) أي أمة تلك ؟ وأي قوم أولئك ؟ مع الزمن الطويل الذي عاشوه في الظلام ، والسنوات التي استعبدهم فيها هذا الملك ، ومع قصر المدة التي عرفوا فيها الإيمان فقد عرفوا المنهج حق المعرفة ، وكأنهم عاشوا فيه كما عاش الراهب طول عمره ، أو تربّوا عليه كما تربى الغلام في صباه.
إنه الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب ، ولامس الأرواح يفعل العجب .
لقد رأينا في قصة الراهب وجليس الملك والغلام انتصاراً فردياً ، ولكننا في قصة أولئك المؤمنين نرى انتصاراً جماعياً ، قلَّ أن يحدث له في التاريخ مثيلاً كما حدث لسحرة فرعون " فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين ".
إن كل هذه الانتصارات المتلاحقة ثمرة طبيعية لصفاء العقيدة ، ووضوح المنهج ، وسلامة الطريق ، ومن ثم الفهم العميق لحقيقة الانتصار.
فهل يعي ذلك أولئك الذين يروْن أن حياتهم تحت حماية عدوهم بذل واستصغار مع شيء قليل من حطام الدنيا ؛ خير لهم من الموت بشرف وعزّ وكرامة .
مَنْ يهنْ يسهل ِالهوانُ عليه ... ...
ما لجرح ٍبميّتٍ إيلامُ
وصدق عنترة :
لا تسقِني ماءَ الحياةِ بذلّةٍ ... ...
بلْ فاسقني بالعزّ كأسَ الحنظل
25 ) وقبل أن نغادر هذه القصة العجيبة يرد سؤال في الأذهان :
ماذا حلّ بهذا الملك وحاشيته وجنده ؟
وهل ذهبت دماء هؤلاء المؤمنين وأرواحهم دون انتقام من الله ممن قتلهم ؟ إننا لا نجد في القرآن ولا في السنة أي ذِكْر لهؤلاء الظلمة ، وماذا كان مصيرهم في الدنيا ، ولله في ذلك حكم قد تخفى علينا . نعمْ ،،، وردتْ آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير : " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق " . ولكن سنة الله الجارية" فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" وقال سبحانه لنبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون " . وَوعْدُ الله ِالذي لا يتخلف : " إن ربك لبالمرصاد " . والعزاء للمؤمنين على مرّ الأجيال : " إنهم يكيدون كيداً * وأكيد كيداً * فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً " . والحذر الحذر من اليأس والقنوط وسوء الظن بالله : " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " ، " ولا تحسبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون " . " ولا تحسبنّ الله مخلفَ وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ".
وبعد :
أخي الكريم ، وبعد هذه السياحة في هذه القصة العجيبة ، والجولات البطولية ؛ التي لم يلتبس فيها الحق بالباطل ، ولا النور بالظلام ـ اسأل نفسك بتجرّد :
مَن الذي انتصر في هذه المعركة الفاصلة ؟
أهو المَلِك أم الغلام ؟
هل انتصر الملأ أو المؤمنون ؟
والتاريخ يُعيد نفسَه ، وتتغير الرسوم والأشخاص والدول ، وتبقى الحقائق والثوابت والمبادئ .
" إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،(/5)
أيوب عليه السلام النبي الصابر)
الحَمْدُ لِلَّهِ نحمده و نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا ومن سيئات أعمالنا, مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ? يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً? [النساء:1]. ? يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ? [ سورة البقرة الآية: 153 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - : "ما أعطي أحد عطاء خيراً له وأوسع من الصبر".وبعد:
فالإنسان مخلوق ضعيف لا يستطيع القيام بالأعباء والتكاليف إلا بالاستعانة والإعانة، وتختلف توجهات الناس وطرائقهم في استعاناتهم فهناك من يستعين بالمخلوقات كمن يستعين بالجن، أو الملائكة أو الكهنة، وهناك من يستعين بالدول والمخلوقين فيما لا يقدرون عليه. فمثلهم كمثل الغريق الذي يستنجد بالغريق طالباً منه النجاة؟!
أما المؤمنون فقد أمرهم الله أن يستعينوا على أمورهم وأن يواجهوا الحياة وأحداثها وفتنها وابتلاءاتها بالرضى والصبر واللجوء إلى الله سبحانه فهو الولي الحميد الرؤوف الرحيم القوي العزيز.
وقد تحدثنا عن جوانب من الصبر في بيان فضله وأهميته في كل شأن من شؤون الحياة واليوم نَذكُر ونُذكِّر بنماذج من الصابرين على البلاء من أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.
صبر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في القيام بأمر الله فقد أخبرنا الله في كتابه كيف امتُحِن هذين النبيين الكريمين، فقد كلف الله إبراهيم في رؤيا منامية أن يذبح ولده إسماعيل، فيتجه بصبر عجيب لطاعة أمر ربه ، فيقول لابنه إسماعيل: ? فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى? [الصافاتك102] أي أمرني ربي بذبحك في رؤيا منامية ، ورؤيا الأنبياء حق ، فيقول الابن البار بأبيه الطائع لربه ? قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ ? [الصافات:102].
وأسلما أمرهما إلى الله صابرين، وشرعا في تنفيذ التكليف، فلما ظهر صدق إسلامهما وتسليمهما وطاعتهما لله رب العالمين، أنزل الله لهما كبش الفداء، وتوقف أمر ذبح الوالد لولده، وتم الذبح للكبش، ثم كانت سنة الأضاحي فيما بعد.
وفي عرض القرآن الكريم لهذه القصة والحادثة إشادة بفضيلة الصبر على تنفيذ أوامر الله مهما كانت شاقة وصعبة على النفس، وفيها توجيه لإعداد الأنفس للصبر على المكاره والمصائب المرتقبة والإقدام عليها بشجاعة وبطولة، وهو نموذج فريد من روائع الصابرين.
يقول الله تعالى في سورة الصافات في معرض ذكر قصة إبراهيم مع قومه ? فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الْأَسْفَلِينَ(98)وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِي(99)رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ(100)فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ(101)فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ... ? –أي صار شاباً قادراً على السعي والكسب والعمل- ? ... قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ(102)فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ(106)وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(107)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ(108)سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ(109)كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ? [الصافات:98-110].
إنه استسلام وصبر عظيم عجيب، فقد حصل المقصود من الاختبار والطاعة وظهرت مبادرة إبراهيم لربه، وبذله ولده للقربان ، كما ضحى ببدنه للنيران، وجعل ماله مبذولاً للضيفان .. إنها نماذج فريدة ومعالم هادية تنير دروب البشرية طوال عهودها ودهورها.
ومن روائع أمثلة الصبر على المصائب والمكاره التي يبتلي الله بها عباده صبر نبي الله أيوب عليه السلام.(/1)
فقد كان أيوب عليه السلام عبداً صالحاً ، امتحنه الله بالغنى فبسط له الرزق الكثير ، ورزقه الأهل والبنين فكان من الشاكرين، وقد ذكر المؤرخون أنه كان أميراً غنياً محسناً، ثم امتحنه الله بالمصائب ، فقد المال والأهل والولد ، ونشبت به الأمراض المضنية المضجرة ، فكان من الصابرين، وتلقى كل ذلك بالحمد والثناء على ربه، وبالتسليم والرضى، فكان في حالتي السراء والضراء مثالاً رائعاً لعباد الله الصالحين ، إذ كان شاكراً أيام النعمة ، ثم كان صابراً أيام المصائب المتوالية ، وكانت له امرأة مؤمنة من أحفاد يوسف عليه السلام ، رافقته زمن نعمته وصحته، وزمن بؤسه وبلائه، فكانت في الحالتين مع زوجها شاكرة صابرة. ومن اللطائف في قصة أيوب عليه السلام، أن الشيطان حاول أن يفسد نفسه، فيوسوس له بأن يضجر من المصائب التي تكاثرت عليه، ويتسخط على المقدور ، فلم يظفر الشيطان بما أراد فحاول أن يدخل إليه عن طريق زوجته ، فوسوس لها ، فجائت إلى أيوب وفي نفسها الضجر مما أصابه من بلاء ، وأرادت أن تحرك قلبه ببعض ما في نفسها، فغضب أيوب ، وقال لها: كم لبثت في الرخاء؟ قالت: ثمانين –أي ثمانين عاماً-قال لها: كم لبثت في البلاء؟ قالت سبع سنين. قال: أما أستحيي أن أطلب من الله رفع بلائي، وما قضيت فيه مدة رخائي!! ولما اشتد به الضر، وطال الزمن، وهجره الناس حتى زوجته الوفية، واجتاز فترة الامتحان بنجاح ، فكان عبداً صبوراً نادى ربه : ? أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ?.
كما قال تعالى: ? وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ? [الأنبياء:83-84]
أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، يبين افتقاره إلى الله تعالى ، لطفاً في السؤال، وحفظاً للأدب في الخطاب. إنه دعاء وتضرع وافتقار ، لا جزع ولا شكاية، ولذا قال سبحانه مثنياً عليه: ?... إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ? [ ص:44]
فاستجاب الله دعاءه وكشف ما به من ضر وآتاه أهله ومثلهم معهم وعوضه شيئاً كثيراً. وقد بين الله تعالى لنا في سورة "ص" كيف جاء الفرج إلى أيوب فقال سبحانه: ? وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ(41)ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ(42)وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ(43)وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ? [ص: 41-44].
لقد أوحى الله إليه أن يضرب الأرض برجله، فامتثل ما أمر به، فأنبع الله له عينا باردة الماء، وأمره أن يغتسل فيها ويشرب منها ، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى ، والسقم والمرض الذي كان بجسده ظاهراً وباطناً، وأبدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة، وجمالاً تاماً ومالاً كثيراً، حتى صب له من المال صباً، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثى في ثوبه، فناداه ربه عز وجل: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يارب، ولكن لا غنى لي عن بركتك".. وأخلف الله له أهله وضاعف له العدد.
وفي أثناء مرضه كان قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط على أمر طوى القرآن ذكره، فأنزل الله عليه ما يتحلل به من يمينه فقال له : ? وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ ... ? [ ص:44] أي خذ بيدك حزمة صغيرة من حشيش أو أعواد خفيفة فيها مائة عود أو أكثر، فاضرب به زوجتك، وتحلل بذلك من يمينك.
أيها الأخوة المؤمنون وهكذا يذكر الله لنا أمثلة الصابرين الشاكرين ليكونوا لنا أسوة حسنة نقتدي بهم ، فنصبر مثل صبرهم، أو مثل بعض صبرهم، كلما اقتضت حكمة الله تعالى أن يبتلينا بشيء من مصائب الحياة الدنيا في الأنفس ، أو في الأموال أو الأولاد ، أو في الثمرات ، حتى يكون لنا عنده أجر الصابرين ، ونرتقي عنده إلى منازل المحسنين المقربين العابدين أولو الألباب.
? قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ? [الزمر:10].
يبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة فضل الصابرين على البلاء، ومالهم من أجر عظيم عند الله عز وجل.(/2)
من ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة" أي: احتسب أجره عند الله صابراً على قضائه وقدره.
وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون؟ فأخبر أنه كان عذاباً يبعثه الله تعالى على من يشاء ، فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين ، فليس عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً ، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد".
وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "إن الله عزوجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة".
وفي البخاري عن عطاء بن رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت بلى، قال هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي، قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك، فقالت أصبر، فقالت إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها).
وفي الموطأ من حديث عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مرض العبد يبعث الله له ملكين، فقال انظروا ماذا يقول لعواده، فإن هو إذا جاءوه حمد الله وأثنى عليه رفعا ذلك إلى الله وهو أعلم، فيقول إن لعبدي إن توفيته أن أدخله الجنة وإن أنا شفيته أن أبدله لحماً خيرا من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته".
وفي الصحيح من حديث أسامة بن زيد قال: أرسلت ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه أن ابناً لي احتضر فائتنا ، فأرسل يقرئها السلام ويقول إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب ، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرُفع الصبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأقعده في حجره ونفسه تقعقع كأنها شن ، ففاضت عيناه ، فقال سعد يا رسول الله ما هذا؟ قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله عباده الرحماء) نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين الصادقين الصابرين وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
صحيح البخاري: كتاب الزكاة: باب: الاستعفاف عن المسألة: الحديث رقم:(6105) .
سنن النسائي: كتاب الغسل و التيمم. باب الاستتار ثم الاغتسال : برقم: (409) .
صحيح البخاري: باب العمل الذي يبتغي به وجه الله: برقم: (6060) .
صحيح البخاري: كتاب الطب: باب أجر الصابر في الطاعون : برقم:(5402) .
حبيبتيه: عينيه
صحيح البخاري: باب فضل من ذهب بصره : ( 5329) .
صحيح البخاري: باب فضل من يصرع من الريح:(5328) .
موطأ مالك : باب ما جاء في أجر المريض : برقم:(1682) .
تتحرك وتضطرب، والشن القربة
صحيح البخاري: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم, كتاب الجنائز يعذب الميت ببعض بكاء أهله برقم:( 1224) .(/3)
أيَّتُها القافلة ..
د. فيصل بن سعود الحليبي 2/5/1425
20/06/2004
أيتها القافلة.. مع هدأة التاريخ.. ومن بين ضواحي جذوره العتيقة انطلقتْ مواكبكِ المباركة، تحفك رعاية الرحمن سبحانه، ويقود ركابكِ أفضل المخلوقين، بأهداف واحدة، وغايات نبيلة،
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
هكذا انطلقتِ.. مشحونة بالعزم، مملوءة بالتفاؤل، قد حملتِ على رواحلكِ كل ألوان الصبر الجميل، وتزودت بالتقوى، موقنة بالوصول وإن طال الطريق.
ولم تكن مسيرتك هادئة الليل أو مسرورة النهار، بل كانت مشوبة بالحذر، تتخطفها رياح الباطل، وتحوم حولها ذئاب الحقد، ويقطّع سكونها نباح الجهل ونقيق الضحالة، هكذا سرتِ غير آبهةٍ بهذا أو ذاك.. لا تقفين.. ولا تتحولين.. ولا حتى تستريحين.. فيا لك من قافلة !!
عجيبة أنت أيتها القافلة .. وأعجب شيء يستوقفني فيكِ هذا الإصرار الغريب، فمع كل السدود.. أنت سائرة، ومع كل القيود.. أنت ماضية، تسيرين سرًّا.. وتمضين جهرًا.. هكذا خفاقة الراية.. عالية لا تعرف النزول أو الوقوع ولو صُوبت نحوها السهام المسمومة، أو قصدتها الرماح البغيضة.
أي روحٍ لكِ تتأبى على الإزهاق.. وأيُّ عزم لكِ لا يعرف الخمول.. ألم يقتل ربانكِ من أنبياء ورسل وخلفاء وقادة وعظماء؟! لكنكِ ما زلت تسيرين.. !! أو لم يستحرِ الذبح في أبنائك عبر التاريخ فلاقوا من العذاب ما تئن له الأرض وتبكي له السماء؟! لكنكِ ما زلت تسيرين..!! أو لم تقطع أوصال أتباعك أممًا وشعوبًا.. تتباين لغاتهم.. وتتباعد أوطانهم.. لكنكِ ما زلت تسيرين.. !! أو يمكن أن يكون هذا القرآن الذي يتلوه أصحابكِ هو روحك التي لا يمكن أن تزول..؟! هنيئًا لك ِ هذه الروح.. لكن احذري فالأعداء له بالمرصاد، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، وامضي به راشدة قوية فـ ( َاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
غير أني أيتها -القافلة الكريمة- ألمح في عينيك لمعانًا مثيرًا.. لا أدري.. أهي إهلالة دموع .. أم بريق أمل..؟!
أما الدموع.. فلا ألومكِ عليها.. وقد رأيتِ أحبابك تغص بهم سجون الظلمة، وتتناثر جثثهم هنا وهناك، ويسبي ظعائنك أرذل الخلق وأحقرهم عند الله، ويعتدي على ديارك ومقدساتك قطّاع الطريق فلا تتحرّك لنصرتك الجيوش، ولا تنهض من أجلك الدول.
وأما الأمل؛ فهو الذي آمل أن يكون بريقه في عينيك.. ولم لا وهذه طلائع التضحية بالنفوس تقدم نفسها رخيصة من أجلك.. تتلذذ بالموت في سبيل وصولك سالمة قوية آمنة، وهذه الأصوات الشجية ترتل القرآن في كل صقعٍ وبلد، قد أحبته من صميم فؤادها، وأقسمت على السير تحت ظلاله الوارفة، ولم لا تأملين.. وهذه جهات الخير والبذل تتنافس في مدك بالعون والمساعدة، لا تألو جهدًا في عطائها، ولا تقصر في سخائها، والناس من حولها تفرح بالنفرة في سبيل الخير؟!.. فلتبرق عيناك بالأمل.. فإن الطموحات الكبار ما زالت تشق طريقها نحو هدفك المنشود، تنظر لك الطريق، وتحرسك من أذى المتربصين بك.
ألا سيري أيتها القافلة نحو النصر، لا تلتفتي لنعيق التخذيل، ولا لهمهمات الذائبين، حتى تردي على حوض الحبيب –صلى الله عليه وسلم-، هناك حيث تلتقي القلوب العاملة الصابرة ، فتلتئم الجروح ، ويحسن اللقاء ، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَوْضِ" [رواه البخاري] .
ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ " [رواه مسلم].
وصدق القائل: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ)(/1)
أَجْهِزْ عليه
شعر:د. عبد الرحمن العشماوي
حينما أَجْهزَ ذلك الجنديُّ المتوحش على ذلك الجريح في أحد مساجد الفلُّوجة الصامدة كان على يقين ... أنَّ دمه سيذهب هَدْراً.
أَجْهِزْ عليه بطَلْقةٍ من iiنارِ
أَجْهِزْ عليهِ كما تشاءُ iiفإنَّما
هو واحدٌ من أُمَّةٍ قد iiفرَّطتْ
مَزِّقْ بِرَشَّاشِ احتلالِكَ iiجسمَهُ
فَجِّرْ بطلقَتِكَ الدَّنيئةِ iiرأسَهُ
فَجِّرْ ولا تَخْشَ العقابَ iiفإنَّهُ
هو ليسَ أوَّلَ مَنْ ظَفِرْتَ بقتلِهِ
لانَتْ أصابِعُها فما شَدَّتْ iiبها
هو مسلمٌ دَمُهُ حرامٌ ، iiإنَّما
آذيتَ بيتَ اللهِ حينَ iiدخلْتَهُ
دنَّسْتَ بالقدمِ الرخيصةِ iiساحَهُ
مُتَبَخْتِراً تمشي على iiأشلائِنَا
ما كانَ أوَّلَ مسجدٍ ذاقَ iiالأسَى
لو أنَّ عيسى شاهدَ الظُّلْمَ الذي
لَمَشَى براياتِ الجهادِ iiلِصَدِّكُمْ
عيسى نبيُّ اللهِ مثلُ iiمُحمَّدٍ
لَسْتُمْ نَصارى للمسيحِ ، iiوإِنَّما
هَمَجِيَّةٌ رَعْنَاءُ لم تَرْعَوْا iiبها
هذا قَتِيلُكَ بين نَصْرٍ iiعاجلٍ
أَطْفَأْتَ شَمْعَةَ رُوحِهِ iiبرصاصةٍ
أَكْسَبْتَهُ أملَ الشهادةِ ، iiوانتهَى
واللهِ لولا أنَّ أُمَّتَنا iiرَمَتْ
خَضَعَتْ لقوْمِكَ واستبدَّ بها iiالهوَى
لولا تنكُّبُها طريقَ iiرَشادِها
واللهِ لولا ضَعْفُ أُمَّتِنَا iiلَمَا
وَلَمَا وَطِئْتَ بِرِجْلِ غَدْرِكَ iiمسجداً
ولما شربتَ الكأسَ فيهِ iiمُدَنِّساً
أنا لا أَلُومُكَ ، فالمَلامةُ iiكلُّها
كلُّ المَلامةِ للذينَ iiتشاغَلُوا
كلُّ المَلامةِ للذينَ iiتنافَسُوا
باعُوا الكرامةَ والإِباءَ iiبشهوةٍ
يتَشاتَمُونَ على iiفضَائيَّاتِهِم
فَلُّوجةُ العَزَماتِ تَلْقَى iiوحدَها
وغُثاءُ أُمَّتِنَا على بابِ iiالهوَى
يا جُنْدَ آكِلَةِ اللحومِ إلى iiمتَى
سِرْتُمْ على آثارِ ( كِيمَاوِيِّكُمْ ii)
ما هذهِ صفةُ الشجاعةِ إِنَّما
أينَ الحضارةُ !! أصبحتْ iiأُكذوبةً
لا تَفْرَحُوا بالنَّصْرِ ، فَهْوَ iiهزيمةٌ
أنَّى يَنالُ النَّصْرَ مَنْ لا iiيَرْعَوِي
فَلُّوجةَ العَزَماتِ ، أُخْتَ iiحَلَبْجَةٍ
أَثَرُ الجريمةِ سوفَ يَبْقَى iiشاهداً
سَيَجِيءُ نصرُكِ حينَ تَرْفَعُ iiأُمَّتِي ... لا تَخْشَ من نَقْدٍ ولا iiاستنكارِ
هو واحدٌ من أُمَّةِ iiالمليارِ
في دينها فتجلَّلتْ iiبالعارِ
وانْظُرْ إليهِ بمُقْلَةِ iiاستحقارِ
واصْعَدْ إلى المحرابِ ( بالبُسْطَارِ)
من أُمَّةٍ نَسِيَتْ معاني iiالثَّارِ
من أُمَّةٍ منزوعةِ iiالأظفارِ
حَبْلاً ولا رَبَطَتْ خيوطَ iiإِزارِ
حلَّلْتَهُ بطبائعِ iiالأَشرارِ
مُتباهياً بعقيدةِ iiالكفَّارِ
ومشَيْتَ مِشْيَةَ خادعٍ iiمكَّارِ
فوقَ المصاحفِ مِشْيَةَ iiاستكبارِ
وبكى نهايةَ صَرْحِهِ iiالمُنْهارِ
يجري وما فيكُم من الأَوْضَارِ
عن ظُلْمِكُمْ ، ولنُصْرَةِ iiالمُختارِ
يترفَّعانِ بنا عن ( iiالأضرارِ)
جَنَحَ الصَّليبُ بكم إلى iiالأَوْزَارِ
مِقدارَ محرابٍ وحُرْمَةَ iiدارِ
وشهادةٍ لاقَى أعزَّ iiخِيارِ
حتى دَنَا من رَبِّهِ iiالغفَّارِ
بكَ ما اقتَرَفْتَ إلى طريقِ iiبَوَارِ
بزِمامِ مركَبِها إلى iiالشُّطَّارِ
ومَشَتْ بلا وَعْيٍ إلى iiالجزَّارِ
حتى هَوَتْ في ذِلَّةٍ وصَغارِ
فَرِحَتْ يَداكَ بِلَمْسَةٍ iiلجدارِ
وقَطَعْتَ فيهِ عبادةَ الأخيارِ
بالموبقاتِ براءةَ الأَسحارِ
لمُخادعٍ من أُمَّتِي iiومُمَارِي
عن مجْدِهِم بالنَّايِ iiوالقِيثَارِ
في عِشْقِ غانيةٍ وشُرْبِ iiعُقَارِ
قَتَلَتْ رُجولَتَهُم ولِعْبِ iiقِمَارِ
متجاهلينَ فظائعَ iiالأَخبارِ
صَلَفَ الغُزاةِ وقسوةَ الأخطارِ
يَسْرِي بهم نحوَ المَذَلَّةِ iiسارِي
تَبْقَوْنَ في دوَّامةِ الإعصارِ
يا شَرَّ مَنْ سَارُوا وشَرَّ iiمَسَارِ
هيَ من صفاتِ الخائنِ iiالغدَّارِ
لمَّا بَدَتْ مكشوفةَ iiالأسرارِ
أَلقَتْ بكم في حُفْرةِ الأَقذارِ
عن هَتْكِ أَعراضٍ وقَتْلِ iiصِغَارِ
لا تَيْأَسِي من نُصْرةِ iiالقهَّارِ
عَدْلاً يَهُزُّ ضمائرَ الأَحرارِ
عَلَمَ الجهادِ ورايةَ iiالأَنصارِ(/1)
أَصلها ثابت وفرعها في السماء ( 1 )
د. عبد الكريم بكار
سيظل للكلمة أثرها الفعال في تغيير أفكار الناس وأمزجتهم ومشاعرهم وواقعهم، وذلك إذا استوفت شروطاً معينة.
وليس أدل على رفعة مكانة الكلمة في حياة البشر من أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام - كانوا يجيدون استخدامها في التعبير عن الحقائق الراسخة والربط بينها وبين واقع البشر ورصيد الفطرة المتبقي لديهم.
فهذا نوح - عليه السلام - يجادل قومه باستفاضة، حتى ضج قومه من ذلك حين قالوا: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) [هود: 32]، وهذا إبراهيم - عليه السلام - يكرمه الله - تعالى -، فيهبه من قوة الحجة ما يفحم قومه: (وتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام: 83].
وهذا موسى - عليه السلام - يقول: (واحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه: 27، 28]، ثم يطلب من الله - تعالى -أن يتفضل عليه بإشراك هارون معه في التبليغ لفصاحة لسانه حين يقول: (وأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ) [القصص: 34].
والله - تعالى -يقوم لخاتم أنبيائه: (وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء: 63].
وكل هذا قبس مما نسبه الباري - جل وعلا - لنفسه حين قال: (قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام: 149] وحجج النبيين ومضامين خطابهم للخلق - في الأصول - واحدة أو تكاد، مما يجعل جذور الكلمة الطيبة ضاربة في أعماق الزمن من لدن نوح - عليه السلام - إلى خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يجعل حركة التاريخ كلها في سياقٍ عامٍ واحدٍ، هو: التأكيد على أهمية الكلمة الطيبة في إنقاذ البشرية من الضلالة.
ونحن في كثير من الأحيان نستخف بقيمة الكلمة، ومع أهمية العمل إلا أن لكل منهما مجاله الذي لا يصلح فيه غيره، وفى تاريخنا الإسلامي أمثلة كثيرة جداً غيَّرت فيها الكلمة مسار شخص أو مدينة، بل قارة، فمما يذكرون في هذا الصدد أن وفداً من بعض بلاد أفريقية وفد حاجاً، فالتقى بالإمام مالك بن أنس صاحب المذهب؛ فأثنى مالك على والي ذلك البلد خيراً، وتمنى لو رزقت المدينة مثله في عدله وصلاحه.
فبلغ ذلك والي ذلك البلد الإفريقي، فأمر بتدريس كتب مالك في بلده، وأدى ذلك إلى انتشار المذهب المالكي في أرجاء أفريقية!
وما أظن أن ما حدث كان يخطر للإمام على بال.
وقد تغني الكلمة الواحدة غناء جيش أو جيوش، كما حدث في غزوة الأحزاب حين أسلم نعيم بن مسعود، واستخدم عدم علم المشركين بذلك في تبديد الثقة بين قريش واليهود على ما هو مشهور.
وقد أدركت الشركات والمؤسسات التجارية قيمة الكلمة في التأثير على المشتري ودفعه إلى شراء ما لا يحتاج له، قال أحدهم: لو كان لي عشرة دولارات لتاجرت بواحدٍ وصنعتُ دعاية بالتسعة الباقية.
وإذا أردت أن تشل فاعلية شخص ما، فيكفى أن تقنعه: أن عمله غير ذي فائدة.
والآية التي نحن بصددها زاخرة بالمعاني والصور التي تجعل الكلمة في أرقى حال جمالاً وكمالاً ونفعاً.
ولنقرأ الآية وما تلاها لنقتبس شيئاً من نورها، قال الله - جل وعلا -: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا ويَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم: 24-25]، لقد شبه الباري -عز اسمه - الكلمة الطيبة بشجرة طيبة، وهذه الشجرة الطيبة تتصف بثلاث صفات أساسية: ثبات أصلها وعمق جذورها، ثم ذهاب فروعها وأفنانها في السماء، ثم نفعها الدائم للخلق باستمرار أكلها وثمارها.
ولنفصل القول في تنزيل هذه الصفات على الكلمة الطيبة.
1 - ثبات الأصول: حين نعرف أن أصول دعوات الأنبياء - عليهم السلام - واحدة، تركزت في الدعوة إلى التوحيد الخالص وعبادة الله - تعالى -وإقامة الحق والعدل في الأرض وإعمارها بما يسمح بإقامة مجتمع التوحيد؛ ندرك أي جذور ضاربة تمتلكها الكلمة الطيبة على اتساع أمداء الزمان والمكان، وندرك أي رصيد من المنطق العام الذي بناه الأنبياء تستند إليه، وأي رصيد ضخم من الفطرة يؤازرها في عملية البلاغ المبين.
وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: » أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد «.
قال ابن حجر: ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع -[فتح الباري 489/6] فالكلمة الطيبة إرث موروث متصل بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.(/1)
ولكن المشكلة أن التفريق بين الأصول والفروع قد لا يتهيأ لكل الناس مما يجعل الخلط بينهما وارداً، وحينئذ فقد يجمد ما ينبغي أن يتطور، وقد يتطور ما ينبغي أن يثبت.
واليوم نتيجة لعلميات الضغط الفكري التي تمارسها التيارات المادية، نجد أن كثيراً من الكتاب والمفكرين الذين لهم صبغة إسلامية بدأوا يتزحزحون عن كثير من مواقعهم، مصطحبين معهم أفكاراً أو أحكاماً عليها الإجماع، أو السواد الأعظم من علماء المسلمين، بل بعض الأصول التي ليست موضع نزاع.
ويحضرني هنا ما كتبه أحد الذين لهم نفس إسلامي عن لقائه مع القسس الذين يعيشون في بعض بلدان العالم الإسلامي، حيث أثنوا على كتاباته، وسألوه عن الوضع الذي ينبغي أن يكونوا عليه وهم يعيشون بين المسلمين؟ وقد أجابهم بقوله: أول ما نطلبه من النصراني الذي يعيش بيننا أن يتمسك بنصرانيته…! ! وهذا المطلب عجيب غريب، وهو غني عن كل تعليق.
فهل يصح لهذا و أضرابه أن يدعي أنه يكمل مهمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الرسالة وهداية الخلق؟ !.
وقريب من هذا الفتاوى التي صفق لها كثيراً الذين في قلوبهم مرض، من أمثال: إباحة الربا الذي تتعامل به البنوك اليوم، ومن مثل: القول بعدم وجود حد للردة في الشريعة….الخ. وإذا استمر هذا النهج على ما هو عليه اليوم فسنجد أنفسنا أمام دين يقبل كل إضافة كما يقبل أي حذف، ويصبح قابلاً للتشكيل على ما يشتهي أهل الأهواء والشهوات، لأنه صار شيئاً ليس بذي طعم ولا لون ولا رائحة… ولكن ذلك لن يكون - بإذن الله - ما نشط أهل الحق في توضيحه والذود عن حياضه.
2 - مرونة الأساليب وتنوعها: على مقدار ما تكون جذور الكلمة الطيبة وأصولها راسخة ثابتة تكون أساليبها مرنة نامية منوعة، وهذا في حد ذاته أحد مقتضيات ثبات الأصول؛ فأحوال البشر وأفهامهم مختلفة، ولذلك تعدد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وتنوعت شرائعهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: (ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم: 14]، فالرسول يكلم الناس بلغتهم التي يتكلمون بها على أوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالات، والهدف هو: أن يبين لهم ما يدعو إليه، وقد أخذ الأسلوب القرآني من العرب كل مأخذٍ، وتحداهم وطاولهم في التحدي، وأقام عليهم الحجج الدامغة التي تناسب أوضاعهم الفكرية آنذاك.
واللغة في أبسط تعاريفها هي: مجموعة الإمكانات التعبيرية في بيئة من البيئات، وهذه الإمكانات التعبيرية تتسع باتساع حضارة اللاغين بها، واتساع غنى الخلفيات الثقافية لديهم، وهذه الإمكانات دائمة التغيير والتشكل تمر بعين الأطوار التي يمر بها الكائن الحي من الولادة إلى الموت وما بينهما من مراحل.
ولغتنا الفصحى تنمو ضمن أطر صارمة، فالفاعل لن ينمو ليصبح مجروراً، والمضاف إليه لن ينمو ليكون مرفوعاً، ولكن بين تلك الأطر مساحات واسعة شاسعة تتحرك فيها اللغة على مستوى التراكيب والدلالات والأصوات، وتلك الحركة تساير وتناغم شلالات الثقافة في الأمة في تنوعها ودرجة عنفها.
لغة العصر:
من سمات حركة التاريخ أن دور العبادة تظل كهوفاً لنوعٍ أو لأنواعٍ من العلم مهما ساءت أحوال الأمة الثقافية، وعلى امتداد تاريخنا الإسلامي كان علماء الشرع يشكلون السواد الأعظم من الكتاب والباحثين والمفكرين، مما جعل اللغة التي يتكلم بها الصفوة من الناس هي عين اللغة التي يتحدث بها الدعاة، لأنهم هم الذين شكلوها، وعلى ألسنتهم تطورت ونمت...
ولكن الزمان قد اختلف، حيث إن اللغة التي يتكلم بها النخبة اليوم تكونت من جهد ثقافي متنوع، فأجهزة الإعلام والجرائد والمجلات والقصص والروايات والكتب التي صنفها باحثون تنوعت ثقافاتهم مضامين وأساليب، وبفعل وسائل الاتصالات الحديثة صار العالم بمثابة قرية صغيرة تكثفت فيها الآراء والاتجاهات والثقافات...
وكان في هذا تحدٍ عظيم لكل من يريد مخاطبة الناس والتأثير فيهم، إذ أن الخلفية الثقافية للمخاطبين صارت أكثر تعقيداً بسبب ثراء الساحة الثقافية وتنوعها، مما أسفر عن وجود حواجز كثيرة، على الكلمة أن تتجاوزها قبل الاستقرار في الذهن أو العاطفة، كما صار التزام الدقة في أداء الكلمة شرطا أساسيا للحيلولة دون أن يساء فهمها، كما صار اختيار العبارات المناسبة للحقيقة التي يُراد إيصالها للمخاطب أمراً ضرورياً جداً.
فإذا كانت الحقيقة التي نريد توصيلها أدبية أو حضارية فإن العبارة القادرة على اختراق الحجب هي التي تحمل في تركيبها قابلية تعدد المعاني عند مختلف الدارسين، بحيث يكون لكل منهم فيها خطة من التفسير و التأويل، بشرط أن يكون ذلك ضمن طاقة التركيب اللغوي الذي بين يديه.
أما الحقيقة العلمية الكونية أو العقدية أو الفقهية: فينبغي أن تصاغ بعبارة غاية في الدقة لا تدع مجالاً إلا لمعنى واحد، كما أن في تلك المعنى لا يجد دقة صياغته إلا في تلك العبارة.(/2)
فإذا لم يراع المتحدث أو الكاتب هذا أحدثت عباراته للناس فتناً، وأوقعته في الريبة مع سلامة قصده، وفتحت عليه من نوافذ النقد ما لا قبل له به.
من خصائص لغة العصر:
يتمخض عن تلاطم الأفكار والثقافات المختلفة قناعات ومفاهيم عند السواد الأعظم من الناس، وهذه المفاهيم قد تكون صحيحة، وقد لا تكون لأنها لا ترتكز في أكثر الأمر على حقائق موضوعية بقدر ما تنبع من قوة الفعاليات على الساحات الثقافية والفكرية، وهذه القناعات تشكل مفردات التركيب الذهني لدى الناس، مما يجعل امتصاصهم للمعلومات التي يطلعون عليها ذا سمات خاصة تنسجم مع ذلك التركيب.
وحينئذ فإن الداعية مطالب بمعرفة تلك القناعات والمفاهيم، كما أنه مطالب بتحسس التركيب الذهني السائد في عصره حتى يخاطب الناس بلسانهم، ومن هذه الخصائص: أ- اعتماد الإحصاء بدلاً عن الفلسفة:
كانت الفلسفة تسمى ملكة العلوم، وذلك بسبب تأثير منهج أرسطو في منحنيات الفكر البشري ومساراته، وقد كان الناس إلى عهد قريب يسمون من أوتي فيهم مقدرة خاصة على التعبير بـ (الفيلسوف)، بل إن بلداً مثل بريطانيا مازال يستخدم كلمة (فلسفة) في شهادات التخصصات العليا لديه.
وقد تأثر الفكر الإسلامي قديماً بالمنطق الأرسطاليسي، وتسربت مقولاته وأقيسته إلى كثير من كتب الأصول والفقه والعربية، بل والعقيدة.
ذلك الفكر الذي لا يقيم للتجربة أدنى وزن، ومن الطرائف المتناقلة في هذا: أن أرسطو كان يزعم أن أسنان الرجل أكثر من أسنان المرأة! ولو أن زوجته فتحت فمها وعدَّ أسنانها لعرف أن زعمه حديث خرافة..
وقد أدركت أوربة في أوائل عصر نهضتها ألا نهضة ولا تقدم قبل نبذ الفكر الأرسطي القياسي، ثم الاتجاه إلى التجريب لتتويجه ملكاً على العلوم المادية، ومن ذلك اليوم بدأت قناعات الناس تنحو منحى لغة الرقم لاستفتائها والبناء عليها، وهذه نقطة إيجابية إذا أحسنا التعامل معها، ولكن كثيرين منَّا مازالوا غير واعين لهذه الحقيقة، مما يجعلهم يستمرون في سوق الحجج العقلية مع توفر أرقام واقعية تدعم قوله، وتؤيده، فعلى سبيل المثال: فإن تقديم نماذج واقعية ذات أرقام محددة على ما يكن أن ينتج من الأمن والرخاء نتيجة تطبيق الحدود والنظام الاقتصادي الإسلامي - أجدى وأنجع بكثير من سرد مجلدات من العلل والحجج العقلية التي تشرح فوائد الالتزام بالإسلام، أو تلك التي توضح سلبيات الربا وتطبيق القوانين الوضعية.
ومن المفيد هنا أن نقول: إن أرسطو أنشأ فن الجدل ليسد الثغرات التي يتركها الاستقراء الناقص للأحداث والأفكار؛ كما أنشئت فلسفة التاريخ فيما بعد لتسد النقص في التفاصيل التاريخية، أما اليوم فقد أضحى الإحصاء إحدى أهم سمات عصرنا البارزة، مما يسهل استخدامه حتى نخفف من الجدل والمماحكات اللفظية العقيمة.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:(/3)
أَوَكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم؟!
د. سامي بن إبراهيم السويلم 1/4/1424
01/06/2003
سورة البقرة من أعظم سور القرآن، وقد استغرق وصف حال بني إسرائيل أكثر من 100 آية، ولم يكن ذلك من باب التسلية القصصية أو الترف الإخباري؛ بل كان لحكم وغايات عظيمة، من أهمها: أن يعتبر المسلمون من حال بني إسرائيل، وألا يكونوا مثلهم، ولا يسيروا بسيرتهم.
وكان مما انتقده القرآن على اليهود نقضهم العهود، كما قال تعالى: {أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} [البقرة 100]. فذم اليهود على تشرذمهم وتمزق كلمتهم وكثرة انقسامهم، ولذلك كلما عاهدوا عهداً انشقت عنهم طائفة، ونبذت العهد ونقضته. وإذا كان هذا مما ذم الله تعالى به اليهود؛ فمن البدهي أن ينهى المسلمين عنه، وأن يأمرهم بخلافه، وهو ما جاء في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"، وفي المسند والسنن أنه عليه الصلاة والسلام قال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم".
وهذا الحديث من جوامع الكلم ومن أمارات النبوة، إذ جمع المعاني العظيمة في عبارات يسيرة؛ فقوله عليه الصلاة والسلام: "يسعى بذمتهم أدناهم" أي: من أعطى من المسلمين عهداً لكافر؛ فإن سائر المسلمين يلتزمون بهذا العهد، ولو كان الذي أعطاه من أدنى المسلمين في سلّم القرار السياسي والعسكري.
وفي شرح السنة: "أي أن واحداً من المسلمين إذا أمّن كافراً حرم على عامة المسلمين دمه، وإن كان هذا المجير أدناهم، مثل: أن يكون عبداً، أو امرأة، أو عسيفاً تابعاً، أو نحو ذلك، فلا يخفر ذمته."
وأوضح مثال على ذلك قصة أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها في الصحيحين وغيرهما، أنها أجارت رجلاً من المشركين، فبلغها أن أخاها علي بن أبي طالب رضي الله عنه سيقتله، فشكت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال عليه السلام: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ."
فليس من شأن المسلمين أن يكونوا كاليهود (كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم)؛ بل هم يد واحدة وكلمتهم واحدة، ويسعى بذمتهم أدناهم كما قال المصطفى عليه الصلاة السلام.
"نفي لهم بعهدهم"
وفي صحيح مسلم (1787) أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي، فأخذنا كفار قريش، قالوا إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، قال حذيفة رضي الله عنه: فأخذوا منّا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرناه الخبر، فقال: " انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم".
فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- في حالة حرب مع المشركين، ومع ذلك يفي لهم بعهدهم ويستعين الله عليهم!. ولا عجب أن كان حليفه النصر، فالله لا ينصر قوماً بالغدر والخيانة {إن الله لا يحب الخائنين}[الأنفال 58].
وفي مسند أحمد وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أمّن رجلاً على دمه فقتله؛ فإنه يحمل لواء الغدر يوم القيامة"، وفي لفظ: "إذا اطمئن الرجل إلى الرجل، ثم قتله؛ رفع له لواء الغدر يوم القيامة"، وفي رواية: "من أمّن رجلاً على دمه فقتله؛ فأنا برئ من القاتل، وإن كان المقتول كافراً" (السلسلة الصحيحة حديث 440).
فكيف ننتظر النصر إذا تبرأ منا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
وقد ذكر أهل العلم ممن تصدى لهذا الموضوع ما أورده المفسرون عند قوله تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور} [الحج 38]. قال القرطبي: "روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة ; أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال ، فنزلت هذه الآية؛ فوعد فيها سبحانه بالمدافعة، ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر". فهل تجد عن السلف أوضح من هذا البيان؟!
وتأمل كيف ربطت الآية بين دفاع الله عن المؤمنين وبين التحذير من الخيانة، وما يتضمنه ذلك من أن المؤمنين ليس من شأنهم الخيانة، وأن نصر الله لا يتنزل على الخائنين.
"ولا تخن من خانك"
ليست الانتهازية من أخلاق المسلمين، ولا مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" من مبادئهم. فلا يكفي أن تكون الغاية مشروعة؛ بل لا بد أن تكون الوسيلة إليها مشروعة كذلك. أما التوسل للمشروع بالممنوع فهذا مما قرر أهل العلم أنه من الحيل المذمومة المنهي عنها (انظر إعلام الموقعين، دار ابن الجوزي، 5/302).
وفي المسند أن بشير بن الخصاصية قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: " إن لنا جيرة من بني تميم لا تشد لنا قاصية إلا ذهبوا بها، وإنها تجيء لنا من أموالهم أشياء أفنأخذها؟" فقال عليه الصلاة والسلام: "لا". وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من طرق أنه قال: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" (الصحيحة 423).(/1)
إن الفرق بيننا وبين أعدائنا أننا أصحاب رسالة وقيم وحضارة تهدي البشرية وتقودها إلى الفضيلة، أما هم فهم لا يريدون سوى العلو في الأرض بأي طريق كان. فلا يجوز أن نكون مثلهم ولا أن نجاريهم في أساليبهم الدنيئة.
والغريب أن من يتبعون هذه الأساليب إذا قيل لهم: إن المعركة غير متكافئة ولا بد للنصر من شروطه وأسبابه، قالوا: إن النصر لا يكون بالعدد ولا بالعدة وإنما بالإيمان، ثم هم يلجؤون إلى ما ينافي الإيمان! فالإيمان يوجب الصدق والوفاء ويحرم الغدر والخيانة. فكيف ننتصر على أعدائنا إذا لم نكن نملك لا العدد ولا العدة، ولا موجبات الإيمان؟!
"وآمنهم من خوف"
لقد أمر الله تعالى قريشاً بعبادته بعد أن ذكر منته عليهم بالأمن، فقال: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}، فرتب الأمر بالتوحيد وعبادة الله وحده على الأمن من الخوف والطعم من الجوع، وهو مما يبين أن الإسلام إنما ينتشر في بيئة الأمن والاستقرار والرخاء، لا في بيئة الخوف والجوع والقلق. ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- كل شهر عند رؤية الهلال: "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام" رواه أحمد وغيره.
ولا شك أن الإسلام لم يأت ليبدل أمن الناس خوفاً؛ بل العكس هو الصحيح، وهذه إنما هي شبهة المشركين الذين قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}؛ فرد الله عليهم بقوله: {أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون} [القصص 57].
قال يحيى بن سلام: "يقول: كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غيري، أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي؟!" (تفسير القرطبي).
وإنما يكون الخوف عقوبة من الله على من خالف أمره، كما قال سبحانه في القرية التي كفرت بأنعم الله: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}. فكيف يستحل مسلم أن يجلب الخوف والقلق للمجتمع الإسلامي باسم الإسلام؟ وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- (كما في صحيح مسلم) قد دعا على من شق على المسلمين بقوله: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه"، فكيف بمن يتسبب في أعظم المشقة ألا وهي الخوف والاضطراب والفوضى، مع كونه لا يملك من ولايتهم شيئاً؟!
من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه
قضت حكمة الله –تعالى- في خلقه وأمره أنه {لكل أجل كتاب} [الرعد 38]، وأنه {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} [الحجر 5]. وأن سنة الله -تعالى- لا مبدل لها: {فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا} [فاطر 43]. فمن رام خرق هذه السنن أو الالتفاف عليها كانت النتيجة نقيض مقصوده، وقد أدرك أهل العلم هذا المعنى من نصوص كثيرة، وعبروا عنه بالقاعدة المعروفة: من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الخمر- كما في الصحيح-: "من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة"، وقال: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة".
ومن أهم ما تراعى فيه هذه القاعدة الإصلاح والتغيير، ولهذا أُمر النبي عليه الصلاة والسلام بالصبر في مكة 13 عاماً على أصناف الاضطهاد والتنكيل والاستبداد، ولم يكن ذلك عبثاً ولا مضيعة للوقت؛ بل كان بناءً تدريجياً لقاعدة المجتمع المسلم، التي سيقوم عليها فيما بعد. ولذلك قال عمر -رضي الله عنه-: "إنما ينقض الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية". فالجاهلية التي أشار إليها رضي الله عنه هي التي صمد المسلمون أمامها دون رفع السلاح طوال العهد المكي، فصبروا وثبتوا حتى تمكن الإيمان في قلوبهم، وتجردوا من حظوظ أنفسهم، وأصبح انتصارهم لله - تعالى- ولدينه، لا لأنفسهم وأهوائهم.
ولا يرتاب عاقل أن منهج العنف مخالف لسنة الله - تعالى- وشرعه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب الرفق في الأمر كله"، وقال: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه"، وفي رواية: "لا يكون الرفق في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"، وفي رواية: "من يحرم الرفق يحرم الخير" (هذه الروايات في الصحيحين).
والعنف نتيجة لاستعجال النتائج، وقلة الصبر، ومغالبة سنن الله الكونية. ولكن النتيجة الطبيعية للعنف هي في الغالب نقيض مقصود صاحبه، فيترتب عليه استفحال المنكر وتسلط الأعداء أكثر من ذي قبل، ولو لم يكن من مساوئ هذا المنهج إلا هذا لكفى، فكيف والشرع جاء بذمه، والتحذير منه، والأمر بضده؟(/2)
والله تعالى شرع القتال حتى لا تكون فتنة، أما إذا كان القتال والمواجهة المسلحة هي نفسها تفضي إلى الفتنة، فهي محرمة لأنها مناقضة لمقصود الشرع، وفي صحيح البخاري أن رجلين أتيا إلى ابن عمر -رضي الله عنه- في فتنة ابن الزبير، فقالا له:" إن الناس صنعوا، وأنت ابن عمر، وصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم- فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: " يمنعني أن الله حرم دم أخي"، فقالا: ألم يقل الله: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}؟ فقال: " قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله".
وفي صحيح مسلم أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- لما اجتنب الفتنة التي جرت بين الصحابة -رضي الله عنهم جميعاً- قال له رجل: ألم يقل الله {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}؟ فقال سعد: " قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة".
ومن تناقض أنصار العنف أنهم يبررون موقفهم بأن الرفق لا يأتي بنتيجة، وأن الأمة تنحر من أقصاها إلى أقصاها، ولم نفعل من أجلها شيئاً. فإذا ما وقعت عمليات العنف، وتبين أن ضررها أضعاف نفعها، وأن الأمة لم تزدد بذلك سوى نحراً وذلاً وانهزاماً، وقيل لهم: ماذا استفدنا من العنف؟ قالوا: ليست العبرة بالنتائج، وإنما بالمبادئ! ولكن ألم تتركوا المبادئ من أجل النتائج؟ فلا استمساك بالمبادئ، ولا تحقيق للنتائج!
"متاع قليل"
كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يتألم كثيراً إذا رأى من قومه جحود الحق ومكابرة الرسالة، وهي أوضح من الشمس للعيان، ونزل القرآن مراراً يعاتبه في المبالغة في هذا الجانب: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} [الشعراء 3]، وقوله تعالى {باخع نفسك} أي قاتلها من الغم والحسرة على عدم إيمانهم، وقال جل شأنه: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِين}
[الأنعام:35] .
فمن ظن أنه سيجمع الناس على الهدى، أو أنه سيمحو الكفر من على وجه الأرض، فهو من الجاهلين، بنص القرآن؛ بل ثبت في صحيح مسلم أن الساعة تقوم والروم أكثر الناس، فإذا رأى المسلم علو الكافرين في الأرض وظهورهم فيها؛ فليعلم أن الدنيا بأسرها لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، وأن مصير هؤلاء يتحدد في الآخرة، وليس في الدنيا: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} [آل عمران 196-197].
كما يجب ألا نيأس من رحمة الله – تعالى- بهذه الأمة ونصره لعباده المؤمنين، ومن قال هلك الناس فهو أهلكهم، ولكن حكمة الله - تعالى- فوق عقول البشر وأجل من أن يحيط بها مخلوق، وكما أمرنا أن نستجيب لأمر الله الشرعي؛ فنحن مأمورون بالاستجابة لأمره الكوني.
أما المصادمة والمواجهة مع السنن الإلهية، فستكون نتيجتها كما قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام: "إن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أب(/3)
أُماه
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
قُومِي انْظُري أُمَّاهُ لُوْ تَرَكَ الأَسَى
عَيْنَاً وَضُمِّينيِ لِصَدْرِ حَنَانِ
وَتَبَسَّمِي وَالمَوْتُ يَنْشُر ظِلُّهُ
وَتَغِيبُ في طَيَّاتِهِ الشَّفَتَانِ
مُدِّي إلَيَّ يَدَاً تُعَانِقُني ، وَهَلْ
تَقْوى ؟ وَقَدْ وَهَنَتْ لِذَاكَ يَدَانِ
وَتَكَلَّمِي ! أُمَّاهُ إنِّي سَامِعٌ
لُغَةَ الوَدَاعِ ومُنْصِتٌ لِبَيَانِ
حَتَّى سَكَنْتِ إِلى الخُلُودِ وخَالَطَتْ
قَسَمَاتِ وَجْهِكِ عَبْرَةُ الحَدثَانِ
وتَمَثَّلتْ صُوَرُ المَنيةِ وَانْطَوَى
أَمَلٌ وَغَاب بِلُجَّةِ الأحْزَانِ
أُمَّاهُ أَطلَقَها الفُؤادُ وَمَازَجَتْ
صَوْتَ النُّوَاحِ مَدَامِعُ الأَجْفَانِ
وَنُقِلْتِ للبَيْتِ الَّذِي غَادَرْتهِ
حِينَاً ! مُحَمَّلَةً عَلى الأَكْفَانِ
وَقَضَيْتِ فِيْهِ لَيْلَةً وَكَأَنَّها
عُمْرٌ وبَعْضُ العُمْرِ لَيْسَ بِفَاني
يُلْقِي عَلَيْكِ بَنُوكِ مِنْ أَكْبادِهِمْ
قِطَعَاً تَذُوبُ بِمَدْمَعٍ هَتَّانِ
وَأَسَىً إذَا مَا مَسَّ جَانِبَ صَخْرةٍ
لأَذَابَهَا في ثَوْرَةِ البُرْكَانِ
****
****
يَا أَيُّها الجَسَدُ المُسَجَّى أَيْنَ مَا
حُمِّلْتَهُ في خَافِقٍ وَجَنَانِ
وَجَوَارِحٍ بَرَدَتْ وَعَيْنٍ أُغمِضَتْ
وَفَمٍ يُكَتِّمُ سِرَّهُ وَبَنَانِ
أَيْنَ الرِّوَايَةُ إذْ تَلَوتِ فُصُولَهَا
وَطَوَت صَحَائِفَها يَدُ الأَزْمانِ
****
****
يَا أيُّهَا الإِخْوَانُ أَيْنَ جُمُوعُكُمْ
تسْعَى تُقِلُّ مُطيَّبَ الجُثْمَانِ
وَالطَّرْفُ مُنْكَسِرُ أسَىً وَمُبَلَّلٌ
وَالْخَطْوُ فِيهِ تَمهُّلُ الرُّهْبَانِ
يَا أُمُّ تَبْكِيْكِ الرِّجَالُ كَأَنَّما
هُمْ نِسْوَةٌ بَكَّتْ عَلى شُبَّانِ
أَلخُفْرَةٍ يَطْوي السُّعَاةُ بِسَاطَهُمْ
يَتَسَابَقُونَ فَوَارِسَ المَيْدَانِ
****
****
مَالي عَجِبْتُ وَكَمْ أُوَدِّعُ صَاحِبَاً
في التُّرْبِ أُوْدِعُهُ بِدَمْعٍ قَاني
يَا قَبْرُ كَمْ هَطَلَتْ عَلَيْكَ مَدَامِعٌ
سَبَقَتْ وَكمْ حَرَّكْتَ مِنْ أَشْجَانِ
وَاليَوْمَ أُوْدِعُكَ الأُمُومَةَ إِنَّهَا
دُنْيَا تَنَفَّسُ عَنْ هَوَىً وَمَعَانِي
يَغْفُو عَلَيْكَ مِنَ النَّسِيمِ عَلِيْلُهُ
وَيُطِلُّ فَوْقَكَ وَارِفُ الأَغْصَانِ
****
****
يَا أُمُّ أَيْنَ مَرَابعٌ بَسَمتْ لَنَا
وَمَنازِلٌ سَعِدَت وَطِيْبُ مَكَانِ
كَانَتْ تَهِشُّ إذَا نَزَلْتِ ظِلاَلَها
وَتَمُوجُ في طَرَبٍ وَحلْوِ أَمَاني
وَلَكَمْ مَسَحْتِ ليَ الدُّمُوعَ بَراحَةٍ
نَشَرَتْ عَلى خَدَّيِّ ظِلَّ أَمَانِ
فَإِذَا سُرِرْتُ فَبَسْمَتي وَطَلاَقَتي
وَإِذَا شَكَوْتُ فَمَدْمَعِي وَلِسَاني
وَدَفَعْتِني لَمَّا خَشِيْتُ وَقُدْتِني
لَمَّا ضَلَلْتُ وَزِدْتِ مِنْ إيمانِي
عَجَباً إِذاً مَنْ لِلْدُّمُوعِ يَرُدُّهَا
يَوْمَ الفِرَاقِ وَمَنْ يُعيدُ جَنَانِي
بِالأَمْسِ أَضْحَكَني وَأَنْسَاني الأَسَى
أَمَلٌ ذَوَى وَاليَوْمَ قَدْ أَبْكانِي
****
****
يَا أُمُّ فَكَّ المَوْتُ قَيْدَاً قَاسِيَاً
وَطَرَحْتِ عَنْكِ غَلاَئِلَ الإِنْسَانِ
وَتَرَكْتِ خَلْفَكِ غَيْرَ آبِهَةٍ لَهَا
دُنْيَا وآثَرْتِ النَّعيمَ الثَّاني
****
****
1952
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان الأرض المباركة .(/1)
إباحة العقل .. أم عقل الإباحية ؟!
15-6-2006
بقلم أحمد دعدوش
"...حين أعلن العقل عن اختراع حبوب منع الحمل، وتخاطفت الأيدي ذلك العقار السحري الذي رفع صوت فرويد عالياً بعد أن تمكن من كسر آخر قيود الحياء الفطري في الإنسان..."
لم يدر في خلد الثائرين على الدين الكهنوتي في عصور النهضة أن يعجز العقل الإنساني عن إنقاذ البشرية من الهلاك، إذ حسبوا أن استبدال العقل باللاهوت سيخلصهم من تسلط الثاني على الأول، وأن عصر ازدهار الإنسانية قد لاحت بوادره ليخلصها من مآسي الماضي .
ولكن لم يلبث العقل أن أعلن عجزه عن سد هذا الفراغ، فحدا به الأمر إلى افتراض ازدواجية الحقائق، بل وغياب الحقائق المطلقة بالكلية، كما لم تجدِ محاولاته البهلوانية في رسم سياسات بناء الدولة والمجتمع، وصياغة النظم الأخلاقية والضوابط الاجتماعية، إذ سقطت المرجعية المقدسة بالجملة، وحل العقل المثْقل بالهوى والنقص البشري بديلا عن أي مصدر آخر .
مع بداية القرن العشرين، كان العالم قد دخل عصر الأزمة، تلك التي انتهت إلى اشتعال الحروب التاريخية المدمرة، والتي كادت تأتي على كل ما أبدعه العقل حتى ساعته . أسرع العقل من جديد لاحتواء الأزمة بعد أن فرغت الوحشية من دورها، وبُني العالم من جديد على الأيديولوجيا، ليعود الصراع بين عقلين يتنافسان لقيادة العالم، إما بالصراع الطبقي الذي سيقود إلى حكم البروليتاريا (الطبقة الكادحة)، أو بصعود البرجوازية (الطبقة الوسطى) لإحلال الديمقراطية ومبادئ الليبرالية، فالأمر سيان بينهما، إذ يسود العقل ويسقط المقدس، ويصبح الفرد إله نفسه، فماذا كانت النتيجة ؟
في عام 1957 خرج المتظاهرون الألمان للتنديد بأول فيلم إباحي يتم تصويره في عصر ازدهار العقل، ولعل أحداً من أولئك الغاضبين لم يخطر بباله أن العقل الذي تم تنصيبه إلها يُعبد سيسقط قريبا تحت أقدام المومسات .
في عام 1961 أعلن العقل عن اختراع حبوب منع الحمل، وتخاطفت الأيدي ذلك العقار السحري الذي رفع صوت فرويد عالياً بعد أن تمكن من كسر آخر قيود الحياء الفطري في الإنسان، وما هي إلا سنوات معدودة حتى انتشرت الملابس النسائية القصيرة في لندن وباريس ونيويورك، وتناقل الشباب أسطوانات البيتلز والروك آند رول، وخرج الألوف للتمرد في الأرياف وعلى قارعة الطرق في حملات منظمة تحت أسماء الهيبية والبوهيمية، وصارت دخائن الماريجوانا وروايات ساغان ودي بوفوار أكثر شيوعا من الكتب المدرسية .
أما اليوم، فيقف أنصار الحزبين الديمقراطي والجمهوري في أمريكا على طرفي حلبة الصراع، رافعين شعارات التأييد والرفض للإجهاض والشذوذ الجنسي، في الوقت الذي يعلن كلا الطرفين عجزهما - وبكل تواضع - عن إثبات أحقية أي منهما في امتلاك الحقيقة، ليس لشيء إلا لأنها نسبية، فالعقل وحده هو الحكم هنا، ومن ذا الذي يدعي رجاحة عقله على عقول الآخرين ؟
بالنتيجة، يقف اليوم طالب في إحدى الجامعات الأمريكية ليوزع منشورات بين زملائه حول رأيهم في الإباحية، ويحتج - معتمدا على حقه الليبرالي - ضد إغلاق الجامعة لقناتها التلفزيونية بعد بثها لبعض الأفلام الإباحية التي قام ببطولتها، كما تتصاعد الحملة في جامعات أخرى بعد قيام الطالبات بحقهن في إقامة عرض للملابس الداخلية تحت اسم الجامعة، ويتساءلن عن حق الآخرين في منعهن من ذلك تحت مظلة الحرية الشخصية .
أما حفل الأوسكار فقد وجد نفسه مضطرا لقبول فيلم يحكي قصة شابين لوطيين من رعاة البقر، حيث يجري ولأول مرة استعطاف الجمهور تجاه "حاجات" هذه الفئة من المجتمع، بعد أن تمادى في ظلمهم وإقصائهم .
في ظل هذا الانفلات "العقلاني" للأخلاق الليبرالية، يتساءل الكاتب الأمريكي ويلسون براين كي في كتابه المترجم إلى العربية تحت عنوان "خفايا الاستغلال الجنسي في وسائل الإعلام" عن المصير الذي سينتهي إليه المواطن الأمريكي، وهو يرزح تحت وابل من الاستغلال الجنسي المكشوف عبر وسائل الإعلام التي بدأت فعلاً باغتصاب العقل الأمريكي وتوجيهه نحو مصالح الطغمة المتنفذة، وتراه ينتقل في الصفحات الثلاثمئة وعشرون بين حقيقة مؤلمة وأخرى، مما يعمق الشعور بأفول عصر تأله العقل المتماهي في الجسد، ويضع السؤال المحرج بإلحاح على من يملكون في أيديهم مفاتيح الهداية الإنسانية، فهل سيفعل المسلمون شيئاً، أم أن الليبرالية العربية ستطل برأسها في زهو بإنجازات العقل الغربي، وتلعن التخلف الذي وقف حائلا دون اللحاق بكل هذه الحضارة(/1)
إتباع حتى الممات ...
...
يسري صابر فنجر ...
</TD ...
الحمد لله الذي كتب الفناء على خلقه " كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ" (الرحمن:26ـ 27) الحمد لله الذي جعل الدنيا دار مفر لا دار مستقر ، وإن الآخرة هي دار القرار وما من يوم يمضي إلا ويقرب للآخرة ، وما من حي إلا ويسعى إلى موته ، ورحم الله الحسن البصري حين قال : يا ابن آدم إنما أنت أيام ، فإذا ذهب يومك ، ذهب بعضك ، والليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل أنت فيهما .
فالحمد لله أولاً وآخراً ، والحمد لله في الحياة وبعد الممات ، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجه وعظيم سلطانه.
وأصلي وأسلم على النبي محمد القدوة والأسوة في الحياة والممات في السراء والضراء ، في المنشط والمكره ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد
فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هيئته وشأنه وموته وكيانه كله لله " قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162_ 163) وورث ذلك عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين ، وورَّثوه لجيلين متعاقبين هم ( التابعون وأتباع التابعين ) فكانوا هم حملة لواء الحق وتواصوا به فنالوا الخيرية ، كما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" رواه البخاري (3378) ومسلم (4601)
ثم نال هذا الميراث دائماً وأبداً العلماء الذين هم شموس الحق وضياء المعرفة ونور الهداية وهم عُدول كل خلف كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يحمل هذا العلم من كل خلف عُدوله " رواه البيهقي وصححه الألباني
قال الشاعر:
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاء
ولا شك أن العلماء هم أعلى الناس منزلة وأكثرهم فضلاً بعد الأنبياء لأنهم يحملون ما حملوا ويؤدون ما أدوا ، فالعلماء أقرب الناس لله خشية وأتقاهم له سبحانه قال تعالى " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ" (فاطر:28) ؛ لذلك استحقوا من الله ـ عز وجل ـ الثواب الجزيل والعطاء الجميل ، الذي قال الله ـ عز وجل ـ فيه :" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ" (البينة:7_ 8) ويقبض الله العلم بموت العلماء ، ويبكيهم الحجر والمدر والبحر والنهر والنجم والشجر والسهل والوادي يبكيهم الأخضر واليابس ، والساكن والمتحرك تبكيهم السماء والأرض ، والشمس والقمر ، فضلاً عن الإنس والجن .
قال الجاحظ :
يطبب العيش أن تلقى حليماً *** غَذَاه العلم والرأي المصيب
ليكشف عنك حيلة كل ريب *** وفضل العلم يعرفه الأريب
وكان من علماء هذا الخلف وأئمة هذا القرن سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فقد قضى الله قضائه بالحق ، فألحق بالرفيق الأعلى ـ سماحة الشيخ ـ مودعاً بالدعاء ، محفوفاً بالثناء ، جاءه الأجل فشق إليه الطريق ، وأماط عنه حِياطَه الشفيق ، ونضا عنه طِبَّ كل طبيب ، فقبض ملك الموت وديعته في الأرض ، ثم استودع مسامعنا من ذكره اسماً باقياً ، ومحا عن الأبصار من شخصه رسماً فانياً ، فالحمد لله بارئ النسم بما شاء ، ومصرفها فيما شاء وقابضها حيث شاء اللهم هذا عبدك وابن عبدك نشأ في المأمور به من طاعتك ، ومات على الحق في عبادتك وعاش ما بينهما مجاهداً في سبيل دينك ، ناطقاً بالحق في مرضاتك ، ذاباً بقلمه ولسانه عن كتابك وسنة رسولك . ( بتصرف من كلام العلامة محمود شاكر في وفاة العلامة أحمد شاكر رحم الله الجميع)
فكانت حياة ـ سماحة الشيخ رحمه الله ـ موصولة بحياة السلف الكرام ، لذلك كانت خاتمته ووصيته وموته وتشييع جنازته موصولة أيضاً بخاتمتهم ووصاياهم ووفاتهم وجنائزهم ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ .
أما حياة ـ سماحة الشيخ رحمه الله ـ فمعلومة للجميع ، للقاصي والداني ، للصغير والكبير ، فماذا يخط القلم عن شخصه ، وأين هي العبارات التي توافق ما كان عليه في حياته ، إن الأعرابي لما نظر إلى القمر فقال إن قلت : رفعك الله فقد رفعك الله ، وإن قلت : جملك الله فقد جملك الله ، فماذا أقول في هذا الخلق العالي والسمت الرفيع والأدب الجم .
أما خاتمته ووصاياه : فقد قضى ـ سماحة الشيخ ـ ليلته الأخيرة بين صلاة وتسبيح ودعاء وصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن من ينظر نظرة تأمل لآخر أعمال الشيخ ووصاياه ثم ينظر نفس النظرة إلى حجة وداع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجد أموراً ثلاثة :(/1)
الأمر الأول : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان من آخر وصاياه " الصلاة ..... الصلاة " وكان آخر ما كتب ـ سماحة الشيخ رحمه الله تعالى ـ رسالة عن ( الجمع والقصر في الصلاة ) .
الأمر الثاني : قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها " إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام " وكان آخر مطوية كتبها ـ سماحة الشيخ رحمه الله تعالى ـ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الأمر الثالث :قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها " استوصوا بالنساء خيرا " وكان آخر ما وقع عليه ـ سماحة الشيخ رحمه الله تعالى ـ بيان عن مكانة المرأة ومنزلتها وإعطائها حقوقها الشرعية ، وكأني بسماحة الشيخ رحمه الله تعالى اتبع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خاتمة حياته ، فحمد الله وسبح واستغفر إحساساً منه لقرب أجله ، كما كانت سورة النصر إيذاناً لقرب أجل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما فهم ذلك ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ووافقه عمر ـ رضي الله عنه ـ .
وذلك كله من توفيق الله ورعايته لعبده المؤمن ، فمن نوى إتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعاش على ذلك ، مات على ذلك وبعث على ذلك وحشر مع من أحب .
أما جنازة ـ سماحة الشيخ ـ : فهي تذكرنا بما في بطون الكتب عن أئمتنا الأعلام وسلفنا الكرام أمثال الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم .
فقد نقل الذهبي قول السُّلمي : حضرت جنازة أبي الفتح القوًّاس مع الدار قطني ، فلما نظر إلى الجمع قال : سمعت أبا سهل بن زياد يقول : سمعت عبد الله بن أحمد يقول : سمعت أبي يقول : قولوا لأهل البدع : بيننا وبينكم يوم الجنائز ، وقد صدَّق الله ـ عز وجل ـ قول الإمام أحمد ، فكانت جنازته فوق الوصف والحصر ، قال الخلاَّل : سمعت عبد الوهَّاب الورّاق يقول : ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية ولا في الإسلام مثله ( يعني : من شهد الجنازة ) حتى بلغنا أن الموضع مُسحَ وحُرِز على الصحيح ، فإذا هو من ألف ألف ، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب ، ينادون من أراد الوضوء .
وقال أبو همَّام السًّكٌوني : حضرت جنازة شريك ، وجنازة أبي بكر بن عيا ش ، ورأيت حضور الناس ، فما رأيت جمعاً قط مثل هذا ( يعني :جنازة أبي عبد الله ) .
أما عن جنازة ـ سماحة الشيخ رحمه الله تعالى ـ وأصداء وفاته على قلوب الأمة الإسلامية جمعاء وألسنتها ووسائل إعلامها فقد صنف فيها تصانيف جمعت بين أحاسيس مرهفة وقلوب محزنة وأضواء متهافتة ، وألسنة ما قالت إلا ما يرضي الرب ـ عز وجل ـ فقد كان رحمه الله مثالاً حياً ملموساً عاش في خضم فتن القرن العشرين لله وبالله وعلى الله ، ومثالاً حياً أيضاً لجيل الصحوة المباركة في الوسطية السمحة بلا إفراط ولا تفريط فكان يجابه هؤلاء بالرفق واللين والحجة واليقين ،فرحم الله سماحة الشيخ وغفر له وأجزل له المثوبة
وختاما. فإن أردنا أن نموت متبعين فلا بد أن نلزم أنفسنا باتباع نبينا وما كان عليه سلفنا الكرام في منشطنا ومكرهنا ونترك كل سبيل يقذف بنا في أهواء المحن والفتن " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم " وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ...(/2)
إتحاف الأتقياء بفوائد من حديث الغرباء
طه أحمد المراكشي
abouabdlbar@yahoo.com
الحمد لله مسدي النعم,ومحي الرمم,وباعث محمد بشيرا ونذيرا للأمم,صلوات الله عليه وسلامه عليه,وعلى آله وصحبه أولي العزائم والهمم,وبعد
روى الأمام مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء"
هذا الحديث الشريف من دلائل النبوة وأمارات صدقه صلى الله عليه وسلم في ما أخبر به,وهو من جوامع كلمه وفواتحه وخواتمه التي اختصه الله بها دون المخلوقين,ففيه جملة نافعة من الحكم والآداب الصالحة, وفيه تثبيت لأهل الحق, وبيان أن الأسلام في أمكنة وأزمنة يعود غريبا بينهم ثم يظهر كما كان أول الأمر غريبا ثم ظهر,ولهذا قال:"سيعود غريبا كما بدأ",فهو لما بدأ كان غريبا ثم ظهر وعرف واستنار نوره استنارة الشمس في النهار وطار ذكره في الأمصار,وصار الناس يتكلمون به واصطبغوا بفضائله وتمشت فيهم أخلاقه كما يتكلم الناس اليوم بالحداثة ,فكذلك يعود حتى لا يعرف ثم يظهر ويعرف.فيقل من يعرفه في أثناء الأمر كما كان من يعرفه أولا.
وقد أتت على أعداء هذه الملة قرون ليقولون فيها هل للإسلام أثر؟,ثم أضلهم زمان صاروا يقولون فيه هل يقف شيء أمامه؟
هذه أمارة ظاهرة في هذه الديانة المباركة,بدأت غريبة ولم تزل تقوى حتى انتشرت وعمت,فهكذا تتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة ثم تظهر حتى يقيم الله منارها ويعلي كلمتها ويعز أهلها.
وقد ذكروا أن عمر بن عبد العزيز لما ولي, قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر.فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريبا,وقد حكى الأستاذ الفاضل "عثمان قدري مكانسي" عن غربة الدين والخمار في الجزائر في السبعينات من القرن الغابر,ثم بعد ذلك كيف صارت الديار الجزائرية شعلة دينية وقادة,بعد دروس شرائع الإسلام وأحكامه,ولهذا جاء في الحديث"إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" والتجديد إنما يكون بعد انطماس السبل وخفاء معالم الدين,فتأمل.
ثم إن الغربة والظهور تكون في أمكنة دون أخرى وفي أزمنة مختلفة,وقد يجتمع في زمن واحد في دارين من ديار المسلمين أو أكثر كلا الأمرين,وهذا واقع محسوس مشهود,فانك ترى بعض البلاد الأسلامية الدين فيها ظاهر والشعائر قائمة والسنة عالية مذكورة,وفي أخرى غلب عليها أهل الحداثة والعلمنة وتغولت فيها الضلالة, فاستضعفوا أهل المعرفة والأيمان .
ومع هذا فان أهل الأسلام مهما حصل لهم من الأذى والأغتراب فلا يجوز أن يكون ذلك باعثا لهم على الشك في نصر الله لهم والأرتياب,ولا أن يغتموا بقلة من يعرف حقيقة الإسلام,ولا تضيق صدورهم بذلك ولا يقع لهم شك في دينهم,كما كان الأمر حين بدأ,قال تعالى"فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك" بل إنه كلما خذل الإسلام ناس من أهله أتى الله بقوم يحبهم ويحبونه فيتولون المؤمنين دون الكافرين ويجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم كما قال سبحانه" فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين" وأبوبكروالصحابة هم ممن جاء الله بهم حين ارتدت العرب,وأهل اليمن أيضا وقد قالت جماعة من السلف أن قول الله تعالى" يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" أنها في الصحابة الذين قاتلوا أهل الردة,وليست الآية مختصة بهم بل تشملهم وتشمل غيرهم,والقاعدة المعروفة عند الفقهاء أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب,فيدخل فيها من أهل هذا الزمن أصحاب الحركات الإسلامية القائمة بالدين- بعد تخاذل العلماء وانتكاث الحكام- والناظر إلى أعمال هذه الحركات الإسلامية يجدها قد بارك الله فيها وشملها بألطافه وكلأها بالليل والنهار, فرغم قلة الحيلة وضعف الأعوان وتعدي الفجار,فقد حفظوا دعائم الإسلام وعضدوا الدين وحموا البيضة وأقاموا المنار.
وكذلك يحتاج أهل الغربة إلى معرفة البراهين والأدلة العقلية الدالة على صحة الإسلام,نظير ما احتاجوا إليه في أول الأمر,والقرآن طافح بالأدلة المنطقية والأقيسة الشمولية والتمثيلية الصحيحة,وضرب الأمثال العقلية,وذكر الأيات الآفاقية والنفسية الباهرة,والبراهين اليقينية الساطعة فعليهم استقرائها فيه وتفهمها لتثبيت أنفسهم واستزادة يقينهم,ومحاجة خصومهم .
والحق لا يعرف بكثرة الأتباع ولاكن الحق هو ما كان حقا في نفسه,وقد قال بعض السلف"اتبع سبل الهدى وإن قل السالكون واجتنب سبل الردى وإن كثر الهالكون" فلا يقتضي إذا صار غريبا أن المتمسك به يكون في شر,بل هو أسعد الناس كما قال في تمام الحديث"فطوب للغرباء" وطوبى من الطيب,فيكون يكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا.وهم في الآخرة أعلى الناس درجة وأرفعهم رتبة بعد الأنبياء عليهم السلام بما صبروا.(/1)
وجاء في الحديث"إن أمامكم أياما الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثله عمله " .
وروى ابو داود الطيالسي مرفوعا :"أمتي كالمطر لا يدرى أوله خيرأم آخره"
فهؤلاء الذين عضوا على دينهم بالنواجذ في أزمنة الغربة أولها وآخرها وما بين ذلك جمعهم جامع الغربة في إيمانهم لكثرة الكفاروصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم,فالأواخر إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضا غرباء,وزكت أعمالهم كما زكت أعمال أوائلهم.
قال القاضي أبو بكر بن العربي"
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بابٌ عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضاً انتهاؤه، وقد كان قليلاً في ابتداء الإسلام، وصعب المرام، لغلبة الكفّار على الحق، وفي آخر الزمان أيضاً يعود كذلك، لوعد الصادق، صلّى الله عليه وسلّم، بفساد الزمان، وظهور الفتن، وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب، كما قال، صلّى الله عليه وسلّم: " لتركبنّ سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ خربٍ لدخلتموه" وقال، صلّى الله عليه وسلّم: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ" فلا بد، والله تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق، أن يرجع الإسلام إلى واحد، كما بدأ من واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إذا قام من قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكّناً منه معاناً عليه بكثرة الدّعاة إلى الله تعالى."اه
وهذا الذي قاله القاضي أبوبكر رضي الله عنه,في أن الإسلام يرجع إلى واحد كما بدأ من واحد يحتمله قول النبي صلى الله عليه وسلم"ثم يعود غريبا كما بدأ" وهذا إنما يكون في آخر الدنيا أما قبل ذلك فلا
قال الأستاذ الحافل أحمد بن تيمية رضي الله عنه:"ويحتمل أنه في آخر الدنيا لا يبقى مسلما إلا قليل.وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة.وحينئذ يبعث الله ريحا تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ثم تقوم الساعة,وأما قبل ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق,لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم,حتى تقوم الساعة" وهذا الحديث في الصحيحين.
ثم قال "فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق أعزاء لا يضرهم المخالف و لا خلاف الخاذل.فأما بقاء الإسلام غريبا ذليلا في الأرض كلها قبل الساعة فلا يكون هذا."اه
والواجب على المومن إذا رأى تغير الأحوال وتغول أهل الضلال واستفحال الشر والزيغ,وكثر الطاعنين في الملة من الملحدة ومرضى القلوب,الواجب عليه أن يصبر ويحتسب,مع التوكل والثبات على دين الإسلام,وأن يومن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وأن العاقبة للتقوى.وهو منهي عن الجزع وأن ينوح كما ينوح أهل المصائب,ويستغفر لذنبه ويسبح ربه بالغدو والإبكار.فان وعد الله حق. والله نسأل أن يعلي بفضله كلمتي الحق والدين,ويذل بقدرته وقيوميته أهل الفساد الظالمين.(/2)
إثبات وجود الخالق و دعاوى الملحدين
أ.د. عمر عبد العزيز*
مقدمة:
لقد أراد المولى عز وجل أن يبتلى بني آدم حتى يمحص عباده، فضَلّ كثير من بني آدم وكفروا بالمولى عز وجل، فكان أن أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وأعطى كل رسول من الآيات ما يعينه على أداء رسالته فتبعه من تبعه، وأصر على الكفر الكثير. وقد اختلفت الآيات من رسول لآخر – عليهم السلام – وكانت آية خاتم الأنبياء المرسل للناس كافة القرآن الكريم .. معجزة دائمة، يتجدد إعجازه في كل زمان، وكان لزامًا على من تبعه وآمن به أن يحمل الرسالة من بعده ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور وينقذهم من عذاب الآخرة.
واستمر المسلمون حينًا من الدهر يحملون التكليف، فحملوا الرّسالة للصين شرقًا وإلى الأندلس غربًا، ثم توقف المد الإسلامي المنظم وراح ينتشر بفضل التجارة والمهاجرة، ثم تكالبت بلاد الكفر على خلافة المسلمين وبلادهم حتى انزوى الإسلام في العبادات والأحوال الشخصية؛ ونحمد الله بأنّ زماننا هذا قد شهد بداية الصحوة الإسلامية وعودة الوعي الإسلامي المتكامل للدين والدولة.
والنظرة العالمية للإسلام تحتم علينا أن نتوقف للتفكر في حال الأمم الموجودة حاليًا وتوجهاتها العقائدية لاستقراء الحجج والتفكر في أسلم الطرق للدعوة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحديث في بحثنا هذا سيختصر على شريحة من البشر اضلهم الشيطان فكفروا بالمولى عز وجل، وأنكروا وجوده تمامًا معتمدين في ذلك على فرضية اتخذوها دينًا. ولربما يتساءل سائل ألا يجدر بنا أن نتفكر في حالنا الآن ونسعى لنواجه التحديات الخارجية والداخلية؟ ولمثل هذا نتذكر معًا غزوة الخندق حيث تحرك الكفار بعدتهم وعتادهم وكبر أعدادهم يريدون محمدًا صلى الله عليه وسلم وصحبه في المدينة... قريش وغطفان من الخارج وبنو قريظة من الداخل وهنالك زُلزل المؤمنون ... ومن كانوا؟ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير البشر (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدًا) [الأحزاب: 10-11]. فاقترح سلمان الفارسي – رضي الله عنه – حفر الخندق حول المدينة حيث وافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند الحفر اعترضت الصحابة صخرة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وحمل المعول وسمى الله وهوى على الصخرة، ثم هتف رسول الله صلى الله عليه وسلم مكبرًا:
"الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس، ولقد أضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، وإن أمتى ظاهرة عليهم". ثم رفع المعول وهوى به على الصخرة مرة ثانية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أعطيت مفاتيح الروم، ولقد أضاء لي منها قصورها الحمراء وإن أمتي ظاهرة عليها" وبلا شك فإنّ المنافقين في المدينة كان لسان حالهم يقول أي ورطة نحن فيها ومحمد صلى الله عليه وسلم يحلم بقصور كسرى والروم، (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا) [الأحزاب: 12]. ولكن هو وعد الله الحق...، (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) [الصف: 8]. وقد اختار الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جواره، وترك فينا القرآن والسنة، وحمل كل من آمن بالله ورسوله عبء التبليغ عنه. ولذا كان لزامًا علينا أن نتفكر في كل حين في حال الأمم في هذا الزمان، ونعد لهم ما استطعنا من قوة لنخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن الله تعالى.
البشرية والدعوة الإسلامية:(/1)
لقد بدأ الله – سبحانه وتعالى – إعداد رسوله صلى الله عليه وسلم للدعوة منذ صغره، حيث اصطفاه من خيار قريش نسبًا ثم جعله صادقًا أمينًا هينًا لينًا حتى لا ينفض الناس عنه قبل سماع دعوته. وعندما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته جمع قريش وقال لهم "أرأيتم إن حدثتكم أنّ العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، قال: "فإني نذير لكم من بين عذاب شديد"(1). وقد قالوا قولهم هذا لأنهم ما عهدوا عليه كذبًا أو سوء خلق، وهذه هي القاعدة الأولى للداعية التي أوضحها الله لنا في رسوله، فيجب أن يتصف من يدعو لله سبحانه وتعالى بحسن الخلق والصدق سواء أن كان شخصًا أم دولة. وأذكر في هذا الخصوص حادثة صغيرة حدثت في محطة "يوستن" بلندن وأنا أجلس على أحد مقاعد المحطة، وعلى مقربة مني تجلس امرأة إنجليزية تقارب الستين عامًامن عمرهاولم تمر لحظات حتى رأيت شابًا أفريقيًا، حليق الرأس والذقن يضع على رأسه قبعة ويرتدي "جاكيت وبنطلون" ويحمل في يديه كوبًا من الشاي وبالأخرى أغراضًا له، وجلس هذا الشاب بقرب تلك المرأة وحياها وبدأ حديثًا عامًا معها وبعد قليل سألها عن دينها فقالت انها مسيحية فقال لها بأنه مسلم وليس هنالك فرق بين الإسلام والمسيحية وأننا نعبد نفس الإله مع وجود اختلافات. فسألته من أين هو؟، فأجاب بأنه "......." ثم سألته عما أتى به لإنجلترا، فقال لها بسبب الحروب الدائرة في بلاده "بين المسلمين" ثم راح يحدثها عن الإسلام وهي تجيب عيله باقتضاب وامتعاض يعرف معناه كل من عاشرهم لمدة، فلسان حالها يقول: مالي وإسلامك الذي فعل بك ما فعل!.
وهكذا فإن مصداقية حديثه عن الإسلام قد كذبها واقعه وحاله وواقع بلاده، فما كان من تلك المرأة إلا أن تنصرف عنه. ومعظم المسلمين الموجودين بالغرب والشرق كانوا يعكسون أسوأ صورة للإسلام وللمسلم، وإن كان حالهم الآن قد تغير كثيرًا في اتجاه الإسلام الحق.
والخارج من بلاد الإسلام يجد مللاً كثيرة لا تختلف عما كان عليه حال البشر العقائدي في بدايات رسالة الإسلام. وكان البشر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقسمون للأقسام العقائدية الآتية:
1- مؤمنون بمبدأ الألوهية ووجود الخالق
أ - المسلمون :
- مؤمنون
- منافقون (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) [الحجرات:14]، (بشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليمًا) [النساء:138].
ب - الكفار:
- أهل الكتاب: (واذكر كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) [البقرة: 109].
- المشركون: عبدة الأصنام: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون) [التوبة: 17].
- عبدة الشياطين والنار والأشخاص: (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فأجعل لي صرحًا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين)[القصص: 38].
2- غير مؤمنين بمبدأ الألوهية أو وجود الخالق:
(وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) [الجاثية:4].
ورغم أن أعداد البشر الآن قد بلغت أكثر من "6" مليار نسمة فإننا نجد أنهم لم يختلفوا كثيرًا في أقسامهم العقائدية، وأنّ حوالي ربعهم من المسلمين وربعهم من أهل الكتاب، والبقية إما أنهم لا يؤمنون بالله البتة أو أشركوا به. بمعنى آخر فإنّ الله سبحانه وتعالى في مخاطبته للبشر في القرن السابع الميلادي كان يعلم بأن خطابه عز وجل سيكون مستمرًا لنفس الفئات إلى يوم القيامة.
ومن هذا الكم الهائل من البشر الذين لا يؤمنون بالله نسبة كبيرة تتخذ من الداروينية وغيرها ذريعة جدلية للتهرب من حقيقة وجود الخالق، وربما مجموعة كبيرة ممن يطلق عليهم أهل الكتاب قد كفروا بالله واتبعوا تفسير هذه النظرية هروبًا من رجالات دينهم.
وقد حاول كثير من المنظمات والأفراد خوض سبل الدعوة في بلاد الغرب والشرق الكافرة، ولكن مازالت ثمار مجهوداتهم ضعيفة للغاية؛ والمستوى العلمي والاقتصادي لأهل تلك البلاد يتطلب دراية أكبر بأحوالهم وطرق النقاش معهم حتى يمكن للمسلم توصيل وجهة نظره، وهذا بلا شك يستدعي العمل على إزالة الحواجز لإيصال كلمة المولى عز وجل لخلقه، وإعداد ما استطعنا من قوة لذلك.(/2)
وبعض المسلمين أنفسهم يفتقرون إلى هذا البعد العلمي وعلى أعلى المستويات العلمية، فقد حدث في ندوة نظمتها جمعية الطلبة المسلمين بمانشستر عن الإعجاز العلمي في القرآن، وتطرق فيها للداروينية، حدث أن قال طالب دكتوراه في التاريخ الإسلامي من قطر عربي: وماذا يهمنى كمسلم هذا الإعجاز، فأنا والحمد لله أؤمن بالله ومتبع الإسلام ولا حاجة لي لإضاعة وقتي في هذه الأمور؟ وكان رد منظم الندوة عليه بأنّ الأمر كله للدعوة في سبيل الله ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم اتبع نفس المنطق لما خرج الإسلام من مكة.
وقد صارت الداروينية دينًا للبعض لا يقبل الجدال فيها، فهذا عميد إحدى كليات الطب الغربية في مؤتمر يعرض أبحاثًا عن انتقال الكهارل في غشاء الخلايا.. يقف ليقول هنالك مجال لم نتطرق له البتة وهو كيف نفسِّر كل هذه التغيرات وفقًا لنظرية الاختيار الطبيعي وهي النظرية التي اعتمد عليها داروين في تفسير التطور. وهذا يمثل قمة الصرح العلمي في الجامعة ورغم ذلك فهو لإيمانه بالداروينية لا يرى مفسرًا لكل مجريات الكون وغيرها.
القرآن والحجج:
لقد حث الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجتهد في الدعوة ويبشر وينذر (يا أيها المدثر، قم فأنذر) [المدثر: 1-2].
وقصّ عليه من القصص ما يؤيد استعمال الحجج في الرد على الكفار فسيدنا موسى – عليه السلام – طلب من المولى عز وجل أن يرسل معه هارون لأنه أفصح منه في المخاطبة (وأخي هارون هو أفصح منى لسانًا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون) [القصص:34].
وسيدنا إبراهيم – عيله السلام – قد حاج الملك:
(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) [البقرة:258]. وقد دعانا المولى عز وجل للجدال بالتي هي أحسن: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) [العنكبوت:46].
ودعانا ألا نسب الذين يدعون من دون الله (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) [الأنعام:109].
مما سبق يتضح جليًا أنّ استعمال الحجج القرآنية أمر رباني وسنة نبوية يجب اتباعه في سبيل الدعوة لله وأنه أحد الأساليب المكملة للطرح العملي للإسلام.
القرآن والتفاسير:
أورد د. محمد حسين الذهبي دراسة تفصيلية للتفسير والمفسرين نقتطف ونختصر منها الآتي:
إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفهم القرآن جملة وتفصيلا. وتفاوت الصحابة في فهمهم لمعاني القرآن الكريم، وأوضح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير منه، كما اجتهدوا في فهم بعض المعاني وأخذوا من أهل الكتاب بعضها. واستعانوا في اجتهادهم بمعرفة أوضاع اللغة وأسرارها، ومعرفة عادات العرب، ومعرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن، زيادة على قوة فهمهم وسعة إدراكهم، ومن مميزات التفسير في هذه المرحلة ندرة الاستنباط العلمي للأحكام الفقهية من الآيات القرآنية نظرًا لإتحادهم في العقيدة. ثم جاء التابعون واتبعوا نفس الأسس السابقة، إلا أنه قد ظهر فيهم من يُعمل عقله في تفسير بعض الآيات ودخلت في التفاسير كثير من الإسرائيليات والنصرانيات.
وتلى ذلك عهد التدوين للتفسير في بداية العهد الأموي. وفي العهد العباسي دونت تفاسير؛ اختلط فيها الفهم العقلي بالتفسير النقلي حتى كاد يقتصر تفسير من برع في فن من فنون العلم على العلم الذي برع فيه، فصاحب النحو تراه لا هم له إلا الإعراب، وصاحب العلوم العقلية تراه يُعنى في تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة كالفخر الرازي.
واعتمدت التفاسير المأثورة الموجودة حاليًا كجامع البيان في تفسيرالقرآن للطبري، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير لما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نقل عن الصحابة والتابعين. وقد كان الطبري لا يؤيد المفسرين برأيهم. والمراد بالرأي الاجتهاد بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالاتها ووقوفه على أسباب النزول ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن.
وقد اختلف العلماء من قديم الزمان في جواز التفسير بالرأي، ووقف المفسرون إزاء هذا الموضوع موقِفَين متعارضين:(/3)
- الأول: لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن وإن كان عالمًا أديبًا متسعًا في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار، وإنما له أن ينتهي لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة رضي الله عنهم، أو من الذين اخذوا عنهم من التابعين. ودليلهم على ذلك قول الله تعالى في سورة الإسراء: (ولا تقف ما ليس لك به علم) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ"(2).
- الثاني: جواز التفسير بالاجتهاد لقول الله تعالى:
(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمد:24]، وقوله (ولو ردوه إلى الرسول وألي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) [النساء:8]، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لابن عباس فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه تأويله".
والرأي المأخوذ به أنّ الجمود على المنقول تقصير وتفريط والخوض في التفسير لكل انسان غلو وافراط.
وقد اشترط العلماء لمن يريد أن يفسر برأيه أن يكون ملمًا بالعلوم الآتية:
اللغة والنحو الصرف والاشتقاق وعلوم البلاغة والقصص والناسخ والمنسوخ والأحاديث المبينة للتفسير والموهبة، ومن أمثلة التفاسير بالرأي الجائز "مفتاح الغيب" للفخر الرازي، وتفسير "الجلالين".
وقد بدأ التفسير العلمي للقرآن من قديم الزمان وهو التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية، وكان منهم الغزالي وجلال الدين السيوطي، وأضاف المؤلف بأن العلوم متغيرة، ويقين اليوم العلمي قد يدخله الشك في المستقبل بسبب تطور النظريات، وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه وبين ماجدَّ من نظريات وقوانين علمية. ومن التفاسير العلمية تفسير الشيخ طنطاوي جوهري "1870-1940" "الجواهر في تفسير القرآن الكريم" حيث عني المؤلف بإظهار الظواهر الكونية والعلمية بالتفصيل على حسب ما ظهر في زمانه من علوم، وأراد بذلك لفت الأنظار للكم الهائل من الآيات الكونية "سبعمائة"، ولم يجد تفسيره القبول من الكثيرين. وربما في تفسير سيد قطب "في ظلال القرآن"(3) نجد البعد عن الغلو في الجانبين، حيث نجد الكاتب رحمه الله استند على المأثور وأخذ من الرأي المقبول بغير أن يجزم بمراد الله – سبحانه وتعالى – من آياته.
وكان لذكر هذا أهمية كبيرة في موضوعنا هذا، حيث يتبين لنا الطريق في استعمال آيات القرآن بالصورة الجائزة، ونسأل الله أن يهدينا سواء السبيل فيما أردنا أيضاحه من الحجج القرآنية.
الإلحاد والداروينية:
تنتسب الحركة الفكرية الداروينية إلى الباحث الإنجليزي تشارلز داروين(4)(5) الذي صاحب رحلة السفينة "بيقل" من سنة 1831 إلى 1836م كعالم طبيعة، مما أتاح له الفرصة لمراقبة الأحياء المختلفة في الماء واليابسة، وكان نتاج ذلك كتابه "أصل الأنواع" الذي صدر في عام 1859م الذي طَرَح فيه نظريته في النشوء والإرتقاء، معتبرًا أنّ أصل الحياة كان خلية في مستنقع آسن قبل ملايين السنين، أي أنّ منشأ الحياة كان في الماء حيث تكونت الخلية الأولى ثم تطورت لكائنات ذات خلايا متعددة، واستمرت في التطور من أحياء صغيرة إلى أكبر وخرجت من الماء، وبدأت تقفز ثم تكونت لها أرجل ولبعضها أجنحة حتى ظهر الإنسان على الأرض.
وتفترض هذه النظرية الآتي:
1- أصل كل الأحياء من الماء.
2- بدأت الحياة بتكوين خلية ذات تركيب سهل ثم ارتقت في تكوينها لتكوِّن الكائنات الأخرى.
3- أن الأنواع المختلفة جميعها من منشأ واحد.
4- استمرارية الحياة وتطورها اعتمد على التنافس من أجل الحياة وكان البقاء للأحسن تبعًا للاختيار الطبيعي "Natural Selection" معتمدًا في ذلك على نظرية مالتوس في التطور السكاني.
5- الفروق الفردية داخل النوع الواحد تنتج أنواعًا جديدة مع مرور الأحقاب.
6- الطبيعة تعطي وتحرم بخبط عشواء.
وفكرة التطور هذه قد سبقه عليها العالم الفرنسي مارك بخمسين عامًا، وربما كانت بدايات التفكير فيها منذ القرن السادس الميلادي. ووجد داروين دعمًا يهوديًا لنشر نظريته، ورغم أنّ داروين لم يكفر بوجود الله إلا أنّ نظريته كما علق عليها العالم الفرنسي قريس: "هي أكبر النظريات المادية المضادة للدين، كما أنّ داروين لم يقل بأنّ أصل الإنسان قرد؛ بل هي فكرة عالم آخر يدعى هيقل أدخلها في عام 1868. ووجد كارل ماركس في كل هذا ضالته لينفي وجود الله عز وجل، ويفسر كل الكون على المادية المعتمدة على الكفر بالله.
وقد وجدت هذه النظرية رواجًا في أوربا المسيحية أيضًا؛ نسبة لانفكاك الناس من سلطان الكنيسة في ذلك القرن، ولتضارب آراء الكنيسة الدينية مع بعض الأساسيات العلمية. وقد تعرضت هذه النظرية لكثير من النقد العلمي مما حذا بمروجيها للتغيير فيها وإدخال قانون الطفرات "Mutation" لتفسير تطور الأنواع المختلفة، كما أرغموا على الاعتراف بوجود أصول عدة للأنواع المختلفة.(/4)
إن أسوأ ما تمخضت عنه هذه النظرية هو استعمالها في إنكار وجود الخالق، ورغم انحسار الاقتناع بها إلا أنّ معظم علماء العلوم الأوربية وتابعيهم قد اتخذوها دينًا لا يقبل النقاش، وإنّ التخلي عنها يعني بالنسبة لهم قبول ما رفضوه أولاً وهو وجود الله – سبحانه وتعالى –، وكتاب الأحياء الجزيئية المرجع الأساس في الجامعات الأوربية؛ يعتمد على النظرية في تفسير الظواهر الصحية في الإنسان ويسب الإنجيل والتوراة في مُقَدِّمتهِ، كما أنّ البديل لرفض النظرية هو قبول مبدأ الخالق كما قال أحدهم "إنّ نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميًا ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان، ونحن لا نؤمن بها إلا أنّ الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر"(6)، والناظر للنظرية بتجرد يجد أنها مجهود جبار في البحث والاستنباط. فإقراره بأن أصل الأحياء الماء أمر فيه كثير من الصحة، إذ أنّ الماء يعنى الحياة في كوكبنا ورغم انّ كل الأحياء يمثل جزءًا كبيرًا من تركيبها "60% من الإنسان" ولكن لا يعنى هذا بأنها كلها نشأت في الماء.
وقد أخبرنا المولى عز وجل بذلك: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) [الأنبياء:30] (والله خل كل دابة من ماء) [النور: 45] (ألم نخلقكم من ماء مهين) [المرسلات:20].
والفرق واضح بأن الأمر ليس تطورًا بل خلق. كما أنّ إقراره بأن أصل الأحياء خلية واحدة فيه أيضًا جانب من الصحة، إذ ليس كل الأحياء أصلها خلية واحدة، بل أصل كل نوع خلية واحدة، فالإنسان يبدأ بخلية واحدة من تلقيح البويضة بالحيوان المنوي، ولا يحتاج الأمر لأكثر من تسعة أشهر وعشرة أيام لتكوّن إنسان آخر، أي بمعنى أنه بطريقة تواجده هذه من خلية واحدة لم يحتاج لملايين السنين وهذا زيادة في الإعجاز. ويجب ألا يستهان بأمر الخلية.. فالسؤال الأساسي كيف تكونت الخلية، فالناظر للخلية وطريقة تركيبها وعملها، بداية من نواتها والجينات التي بها وصناعة البروتينات وانتقالها، وتنظيم الكهارل وتنظيم عمل الغشاء والمحافظة على مكوناتها بالطرق الموزونة المختلفة ونهاية بانقسامها، يجد أن التحدي في تكوين الخلية، وليس في تكوين الحيوان من الخلية، ومع ما يحدث الآن من تلقيح خارجي للبويضات قد يأتي اليوم الذي توضع فيه البويضة الملقحة خارج رحم المرأة لتنتج بشرًا آخر، وحتى الاستنساخ بدأ بخلية من جسم الحيوان. وكل التفسيرات التي وضعت لتفسير بداية الخلية وجيناتها أمر افتراضي خيالي لا غير، وقد كان تحدي المولى عز وجل ليس في خلق الإنسان فقط بل في أساس خلق الإنسان من خلية: (أفرأيتم ما تمنون، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) [الواقعة:58-59].
والحديث عن تطور الخلية الأحادية للمتعددة ثم للأحياء المختلفة؛ أمر افتراضي اعتمد على تفسير ظاهرة الموجود مع اكتشافات الحفريات ومعرفة تاريخها، فقد وجدت الخلايا الأحادية قبل بليون عام أو أكثر، وظهرت اللافقاريات قبل "500 – 600" مليون سنة مع الديدان والحشرات، وبدأت الفقاريات في الظهور قبل 450 مليون سنة ومثلها الأسماك، وظهرت الفقاريات البرية قبل 350 مليون سنة، وظهرت الثديات قبل 180 مليون سنة والطيور قبل 135 مليون سنة، وأول إنسان قبل حوالي 6 مليون سنة على حسب ما ذكر في نتائج حفرياتهم. وحاليًا في عالم الحيوانات فقط يوجد حوالي 1.5 مليون نوع(7). وبلا شك فإنّ الخلايا الأحادية مازالت موجودة حتى الآن كالباكتريا من غير أن نرى لها تطورًا، وأنّ هنالك من الأحياء ما هو موجود بصورته التي وجد بها في سحيق الزمان، وهذه المعلومات يمكن أن يستنبط منها بالتأكيد بأن الحيوانات في الأرض لم تظهر دفعة واحدة بكل أنواعها، وقد قال المولى عز وجل: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير) [العنكبوت:20].
ولكن لا يمكن أن نستنتج من غير برهان بأن الأنواع الأخيرة كانت نتاج تطور الأنواع الأولى بالطفرات والصدفة، بدليل تواجد الأحياء ذات الخلايا الواحدة حتى يومنا هذا.
وقانون الاختيار الطبيعي أمر يرفضه الواقع، إذ أنّ التنافس قد يكون بين النوع الواحد فمثلاً لا توجد علاقة بين غذاء النباتات وغذاء الحيوانات، ولا علاقة بين غذاء معظم الحشرات وغذاء الإنسان، فعلام التنافس إذن؟! وقد أوضح موريس بكاي بأنّ الغلبة ليست دائمًا للأقوى، فقد يقتل الحيوان الضعيف الحيوان القوي وقد يتزاوج القوي مع أضعف الإناث، وفي كل الأحوال فقد أثبت بأن أحياء النوع الواحد على حسب جيناتها لا يمكن أن تتحول لنوع آخر بالسهولة الموضوعة بها نظرية الطفرات، حيث إنّ التغييرات الطبيعية الناتجة في الأفراد في الغالب لا تنتقل للأبناء ولا يمكن لعاقل أن يتخيل بأن كل هذا النظام الكوني قد كان نتاج الصدفة وخبط عشواء.(/5)
وما يهمنا هنا ليس إثبات النظرية أو دحضها، فستأتي نظريات وتذهب أخرى، ولكن المهم في الأمر استعمال هذه النظرية أو غيرها في نفس وجود الخالق عز وجل. وتكليفنا بحمل الرسالة للناس كافة يحتم علينا التفكُر فيها، إذ بسببها سيهلك كثير من الناس في عذاب جهنم وقد كان هَم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنقاذ الناس من النار.
وقد تصدى كثير من المسيحيين لهذه النظرية ورفضوها، وتصدى لها بعض المسلمين منهم مالك بن نبي(8) ووحيد الدين خان(9) والشهيد سيد قطب، وقد تحدث عنها الشهيد سيد قطب في كتابه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته فقال "ولكن السادة الوضعيين حين كفروا بإله الكنيسة ثم كفروا بإله العقل لم يذهبوا لما هو أهدى.. لقد اقاموا من الطبيعة إلهًا.. ولكن ما هي هذه الطبيعة، ما هي هذه الطبيعة التي خلقت "العقل" والتي كما يقولون "تنقش الحقيقه في العقل"؟ أهي كائن محدد؟ أهي ذات كلية؟ أم هي هذه الأشياء المتفرقة من أجرام وأشكال وحركات وهيئآت؟؛ أهي شيء له حقيقة مستقلة عن تصور العقل الإنساني لها؟؛ أم هي الصورة التي تنطبع في العقل عن المحسوسات التي يدركها؟، أهي شيء له حقيقة في ذاته؟؛ وما ينطبق في العقل قد يطابق حقيقتها وقد لا يطابقها؟" وإذا كانت هذه الطبيعة قد خلقت العقل البشري فهل هي "خالق" له إيجابية الخلق من العدم؟ ولماذا إذن خلق العقل في الإنسان ولم تخلقه في الحيوان أو النبات؟ أهي ذات إرادة مميزة مختارة؟ تختار كائن بعينه من الكائنات لتمنحه هذه المنحة الفريدة؟ أم إذا كانت حقيقتها لا تتجلى إلا في الفكر البشري افلا يكون ظهور هذه الحقيقة إذن متوقفًا على وجود العقل البشري؟ فكيف تكون هذه الطبيعة خالقة له بينما هي لا تظهر إلا فيه؟.
وكل هذه التساؤلات بنيت على أساس أنّ من يؤمنون بوجود الإنسان نتاج الطبيعة قد جعلوا منها إلهًا.. وهم لم يفعلوا.. وقد جنحوا لتفسير مبدأ الخلق بالطبيعة هروبًا من الإقرار بوجود خالق ذي عقل وكينونة، ويضعون عقولهم بعد ذلك فوق الطبيعة ومتحكمة في متغيراتها.
القرآن والخالق:
إن المتدبر لكلام المولى عز وجل يجد أنه قد خاطب عقول الناس بكل مستوياتها، حيث لفت أنظارهم لأمور عامة مرئية أمامهم، تنطبق تفاصيلها على كل خصوصيات الحياة ويكون كل جديد من العلم فيها زيادة في تفاصيل إعجازها حتى يستمر المثل المذكور في القرن السابع الميلادي يحمل نفس مقدرات الإعجاز في كل الأزمان. وهذه حكمة المولى عز وجل، ولو أراد الناس ألا يعملوا عقولهم لفعل، ولما كان لنا الاختيار بمشيئته، ولكنه عز وجل اختار لنا منهج الاختيار ووهبنا الأفئدة وأرسل لنا الرسل مبشرين ومنذرين، ووجه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجاهد بالقرآن (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا) [الفرقان: 52].
فإذا نظرنا للآيات الخاصة بالدعوة لله سبحانه وتعالى، نجد أن معظمها يقيم الحجة على كل من ينكر وجود الخالق سواء اعتمد في ذلك على النظرية الداروينية أم لا؛ وقد أذهل الغربُ بعض المسلمين بتفوقه المادي وراحوا يحاولون التوفيق بين النظرية وبعض الآيات القرآنية(10)(11)(12) مثل ما ورد في سورة نوح (مالكم لا ترجون لله وقارًا، وقد خلقكم أطوارًا، ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا، وجعل القمر فيهن نورًا وجعل الشمس سراجًا، والله أنبتكم من الأرض نباتًا) [الآيات: 13-17]. فتمسكوا بقوله عز وجل "أطوارًا" على أنه يعني التطور، وغاب عنهم أساس الخلاف بأن الله سبحانه وتعالى قد قال "خلقكم" أي بقدرته وحكمته أوجدنا من العدم في أطوار من نطفة لعلقه لمضغة حتى يكتمل تكوين الإنسان.
وقد حاول د. كريم الدين حسنين التوفيق بين ما هو مشاهد من حقائق علمية وما هو غير معروف مطلقًا في تفسيره لآيات سورة [العنكبوت: 19-20] (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير، وقل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير) حيث اشار إلى أنّ البدء المُطلق للخلق أمر لم يشهده الله لأحد من خلقه بينما عملية النشوء أو النشوئية كما سماها فهي ما خاطبنا فيه الله بـ(أولم يروا كيف يُبدئ...) وفسّرها بعملية التطور والنشوء بطريقة متطورة الإبداء ثم الإعادة أي النشوئية والتي توافق نظرية التطور الداروينية، أما خلق الإنسان فيدخل في نطاق مُطلق القدرة الإلهية الذي لا يرتبط بالتطور (ثم الله ينشئ النشأة الآخرة...)(13).(/6)
والداروينية تنكر وجود مدبر لحركة التطور، والأهم من ذلك أن الله سبحانه وتعالى لو أراد لنا أن نوجد في هذا الكون بطريقة التطور لفعل، ولكنه خلق آدم ومنه حواء وجعل منهما ذرية البشر. وقد كان من قدرته أن عكس مجرى النظرية فجعل من بعض البشر قردة وخنازير (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانًا وأضل عن سواء السبيل) [المائدة: 60]، (فلما عتو عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) [الأعراف: 166].
فالأمر الأساسي الذي يهمنا ليس التطور؛ وإنما إنكار الخالق باستعمال النظرية أو غيرها. وسنحاول أن نتفكر في بعض الحجج والظواهر التي بينها المولى عز وجل في قرآنه الكريم بالخطوات الآتية:
1- ذكر الظاهرة.
2- عرض معظم الآيات القرآنية التي ذكرت فيها الظاهرة كحجة وذلك حتى يثبين أهميتها.
3- تفسير إحدى الآيات التي تؤكد الظاهرة من أحد التفاسير المأثورة "ابن كثير" ثم ذكر تفسيرها من ظلال القرآن.
4- محاولة تحليل الظاهرة كحجة علمية كدليل على وجود الخالق.
(سنريهم أياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) [فصلت: 53].
1/ الذكر والأنثى:
1. (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج) [الحج: 5].
2. (أولم يروا إلى الارض كم أنبتا فيها من كل زوج كريم) [الشعراء:7].
3. (وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) [لغمان: 10].
4. (وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) [ق:7].
5. (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) [النساء:1].
6. ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) [المؤمنون:27].
7. (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) [الذاريات: 49].
8. (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى) [النجم: 45].
9. (فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى) [القيامة: 39].
10. (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) [الزخرف: 12].
11. (وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجًا من نبات شتى) [طه: 53].
12. (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجًا) [الشورى: 11].
13. (وخلقناكم أزواجًا) [النبأ: 8].
وقال المولى عز وجل في سورة يس: 36:
14. (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنتب الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) وورد في تفسير ابن كثير(14) (سبحان الذي خلق الأزواج كلها) أي من زروع وثمار ونبات (ومن أنفسهم) فجعلهم ذكر وأنثى (ومما لا يعلمون) أي مخلوقات شتى لا يعرفونها وفي ظلال القرآن(15) ورد الآتي:
"ويلتفت عنهم بعد هذه اللمسة الرقيقه ليسبح الله الذي أطلع لهم النبت والجنان وجعل الزرع أزواجًا ذكرانًا وإناثًا كالناس وكغيرهم من خلق الله الذي لا يعلمه سواه. وهذه التسبيحة تنطلق في أوانها في موضعها وترتسم معها حقيقة ضخمة من حقائق هذا الوجود، حقيقة وحدة الخلق، وحدة القاعدة والتكوين فقد خلق الله الأحياء أزواجًا، النبات فيها كالإنسان ومثل ذلك غيرهما "مما لا يعلمون" وإنّ هذه الوحدة لتشي بوحدة اليد المبدعة التى توجد قاعدة التكوين مع اختلاف الأشكال والأحجام والأنواع والأجناس والخصائص والسمات في هذه الأحياء التي لا يعلم علمها إلا الله، ومن يدري فربما كانت هذه قاعدة الكون كله حتى الجماد".
والناظر لهذا الكم من الآيات التي يقرر فيها المولى عز وجل حقيقة مرئية لنا من أنفسنا وربما لا نراها في بعض خلقه وهي أنه أمامنا ذكر وأنثى من كل حي يجعلنا نتساءل إذا كان المولى عز وجل قد ذكر هذه الآيات كدلالة على الخلق وبالتالي وجود الخالق، فما يد القدرة الدالة على الخالق في ذلك؟.(/7)
وحملت هذا السؤال للكمبيوتر بجامعة مانشستر أبحث عن تفسير وجود الذكر والأنثى على الأرض وفقًا لنظرية التطور وفي كل المراجع التي وجدتها لا يوجد أي تفسير، إلا تفسير واحد هو افتراض يدعو للسخرية فقد تخيل الكاتب بأنه في مبدأ الكون كانت هنالك خلايا صغيرة وأخرى كبيرة، وفي سبيل البحث عن الغذاء اخترقت الخلايا الصغيرة الخلايا الكبيرة وبدأ التزاوج، ولا يوجد تفسير لما تلى هذه الخطوة الخيالية التي لا برهان عليها البته، أي بمعنى أنّ وجود الذكر والأنثى معضلة لا يمكن حلها بنظرية التطور أو بأي خيال آخر لأن المعنى البسيط لوجود الذكر والأنثى واختلاف طرق التناسل في الحيوانات المختلفة والنباتات يحتم وجود مبرمج ومخطط يعرف نهايات الأشياء الناتجة منذ بدايتها، ويعلم أنّ استمرارية النوع يتطلب توالده فجعل له زوجًا مكملاً ليتم التناسل بطريقة معينة ينتج عنها أحياء جدد. وبالطبع فإن ذلك لا مجال للصدفة فيه بقدرة الخالق، فكان حقًا أنّ يقول: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها).
وربما يتساءل أحدهم: فما بال الباكتريا تنقسم؟ والإجابة البسيطة: وهل ندري كل شيء عن الباكتريا حتى نقر بأنه ليس فيها الذكر والأنثى؟. وقد حدثنى محاضر في علم الباكتريا بأنه في البحث عن أسباب انتقال صفات الباكتريا المضادة للمضادات الحيوية لبعضها البعض وجد بأنه ينطلق من الباكتريا نتوء ليلتصق بالباكتريا الأخرى ثم تنتقل المعلومات بينهم "Conjugation" ولربما كان ذلك بداية اكتشاف الأزواج في الأحياء أحادية الخلايا.
إنّ المولى عز وجل يوضح لكل الناس بأنه من ينكر وجود الخالق فليفسر لنا وجود الأزواج في هذه الأرض. (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمفعه فاذا هو زاهق) [الأنبياء:18]، والله أعلم بما يريد في آياته.
2/ الرزق: الغذاء:
1. (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم) [الروم:40].
2. (وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات) [غافر:64].
3. (أمن يبدؤ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض) [النمل: 64].
4. (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم) [العنكبوت: 60].
5. (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقًا) [النحل: 73].
6. (وفي السماء رزقكم وما توعدون) [الذاريات: 22].
7. (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) [الذاريات: 58].
وقد قال المولى عز وجل في سورة [هود الآية:6]
8. (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين).
وفسرت في تفسير ابن كثير(16) بأن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بأنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض صغيرها وكبيرها، وأنه يعلم مستقرها أي يعلم أين منتهى سيرها في الأرض وأين تأوي إليه من وكرها وهو مستودعها.
وقال صاحب الظلال(17) وهذه صورة أخرى من صور العلم الشامل المرهوب، هذه الدواب وكل ما تحرك على الأرض فهو دابة من إنسان وحيوان وزاحفة وهامة، ما من دابة من هذه الدواب التي تملأ وجه البسيطة وتكمن في باطنها وتخفى في دروبها ومساربها، ما من دابة من هذه الدواب التي لا يحيط بها حصر ولا يكاد يلم بها احصاء إلا وعند الله علمها وعليه رزقها وهي تعلم أين تستقر وأين تكمن، من أين تجيء وأن تذهب، ويزيد على مجرد العلم تقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذه الحشد الذي يعجز عن تصوره الخيال حتى أنّ بعضها يتناول رزقه دمًا حيًا مهضومًا كالبعوضة والبرغوث".
إنّ أنواع الأغذية المختلفة باختلاف أنواع الأحياء أمر يدعو للدهشة والتساؤل: كيف كان لكل هذه الأحياء أن يتوفر لها الغذاء المناسب؟ قال تعالى: (والأرض مددناها وألقينا في رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون) [الحجر: 19]، والنباتات تتغذى بالتمثيل الضوئي ومحاليل الأرض، والحيوانات تتغذى على النباتات واللحوم، والطيور بعضها يتغذى على النباتات وبعضها على اللحوم، والحشرات بعضها يتغذى على الرحيق وعصارات النباتات وبقايا أكل الإنسان وبعضها يتغذى على الدماء! فإذا كان الغذاء الأول للخلايا الأولى من الوفرة بحيث أنها تكون خلايا متعددة فلم التنافس إذن؟ وإذا كان كل نوع غذاؤه يختلف عن الآخر، فكيف علمت الخلية التي ستنتهي لنبات بأنّ غذاؤه سيكون متوفرًا، والتي ستنتهي لضفدعة بأن الحشرات ستكون متوفرة لها؟ إنّ هذا أمر يستحيل حدوثه بالصدفة والتنافس وإنما يتطلب مدبرًا يعرف بأنّ وجود النحلة يستدعي وجود غذاء لها، ووجود الزهور يستدعي وجود غذاء مختلف، ووجود غذاء للجميع يحتاج لمكونات وأساسيات يجب توفرها في الأرض والسماء مثل الماء والكربون والأكسجين. فلذلك ذكر المولي عز وجل آيات الرزق كدليل واضح على قدرته وعلى أن هذا النظام يستدعي وجود خالق.. (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ).(/8)
وقد يختلف الغذاء حتى في النوع الواحد وبين الذكر والأنثى، وهذا ما نراه في أمر البعوض فإنّ أنثى البعوض تتغذى على الدم بينما الذكر يتغذى من الزهور! رغم أنّ بيضة البعوضة توضع في الماء وتكون حتى اكتمال نموها ذات غذاء واحد.. كما نجد بأن أنثى البعوض لها تركيب فمي يمكنها من غرز خرطومها في جلد الإنسان أو الحيوان بينما ينعدم ذلك عند الذكر.. فكيف حدث أن الظروف الطبيعية الواحدة أنتجت أحياء ذات طرق غذائية مختلفة في النوع الواحد؟ ولذلك ما كان لله أن يستحي أن يضرب مثلاً بالبعوضة (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضل به إلا الفاسقين) [البقرة: 26].
والنباتات رغم أنواعها المتعددة؛ إلا أن غذاءها في معظم الأحوال واحد. (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون) [الأنعام: 95]، (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفًا أكله والزيتون والرمان متشابهًا وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) [الأنعام: 141]، (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) [الرعد: 4].
وحتى النوع المسقي بالماء الواحد ينتج أشكالاً مختلفة.. فكيف يفسر ذلك من غير خالق؟.
ثم لماذا كل هذا الجمال في الزهور والخضرة في الأشجار.. (من كل زوج بهيج).. وإلى أي مغزى يتجه التطور بالنواحي الجمالية في النباتات.. التناسل.. أمر يحدث في الصبار كما يحدث في الزهور.. وحتى لو كان لهذا السبب فمن أدرى الزهور بأنها ستجذب النحل؟؛ وهل كانت الزهور حين كانت خلية واحدة تعلم بما سيحيط بها؟ إنه بلا شك صنع العزيز القدير.
3/ الحياة والموت:
1. (وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا) [النجم: 14].
2. (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم) [البقرة ].
3. (إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير) [فصلت: 39].
4. (وأنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون) [الحجر: 23].
5. (أنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير) [ق: 43].
6. (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم) [يس: 12].
7. (والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير) [آل عمران: 56].
8. (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) [الملك: 2].
9. (لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله) [الأعراف: 158].
10. (إن الله له ملك السماوات والأرض) [التوبة: 116].
11. (هو يحيي ويميت وإليه ترجعون) [يونس: 56].
12. (ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي ويميت) [الحج: 6].
13. (وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار) [المؤمنون: 80].
14. (هو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار) [غافر: 68].
15. (لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين) [الدخان: 8].
16. (له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت) [الحديد: 2].
17. (يحييكم ثم يميتكم ثم إليه ترجعون) [البقرة: 28].
18. (وجعلنا من الماء كل شيء حي) [الأنبياء: 30].
19. (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها) [الروم: 19].
20. (الم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم قإنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين).
وقد ورد في تفسير ابن كثير(18) "(ربي الذي يحيي ويميت) أي إنما الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها، وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له".
وقال صاحب الظلال في نفس الآية(19) "والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكررتان في كل لحظة المعروضتان لحس الإنسان وعقله وهما في الوقت نفسه السر الذي يحير، والذي يلجئ الإدراك البشري إلجاء إلى مصدر آخر غير جدي وإلى أمر غير أمر المخاليق ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء لحل هذا اللغز الذي يعجز عنه كل الأحياء".(/9)
وقد حدث أن دار نقاش مع فتاة انجليزية عن العقائد فقالت بأنها لا تؤمن بوجود خالق وإنما هي حياتها الدنيا وتريد أن تعيشها بمطالبها، فقلت لها سؤال بسيط لو استطعت أن تجيبي عليه يمكنك أن تعيشي حياتك كما تشائين فقالت ما هو؟ فقلت لها: أين كنت قبل أربعين عامًا.. وأين ستذهبين بعد الموت؟ فقالت: لا أدري فقلت لها ألا يدعوك هذا للتفكر في ماهية الحياة.. وكيف أنت الآن حية.. ولم تموتين؟ فقالت لا يهمني كثيرًا.. فقلت لها: ولكن يهمني أنا أمرك لأنني أعلم أين كنت وإلى أين ستذهبين وحينها رأيت الحيرة والاضطراب عليها.. فأضفت لِمَ لا تعطين لهذا الأمر قدره من التفكير.. وإن توصلت بأن هذه الحياة لا بد لها من واهب فتذكري بأنّ الإسلام هو طريق النجاة.. وهذه نفس الحجة أن الله يحيي ويميت.. أمر اختص به ولا أحد يشاركه فيه.
وإذا نظرنا للخلايا.. نجد أنّ تجمعها في أعضاء وأحياء لا يعني البتة بأنها ستكون كائنًا حيًا رغم حياة الخلايا، فبعث الحياة في الكائن الحي مختلف تمامًا عن حياة الخلايا.. ويتضح هذا في نقل الأعضاء، فنجد إنسانًا يعيش بقلب رجل آخر متوفي.. فقلت المتوفي مازال يعمل كخلايا وعضو، والقول بأنّ تطور الأحياء كان من خلايا لا يمكن أن يحدث إلا أن تبعث فيه الحياة، ولا يمكن أن تفسر إلا بوجود قوة أخرى غير مادية.. وأمر الموت أعجب، فلو قارنت بين ميت وحي بقربه لن تتمكن أن تعرف كيف مات هذا وما مصدر حياة الآخر.. وعلى حسب نظرية الاختيار الطبيعي فإن البقاء للأقوى.. ولكن القوي قد يموت قبل الضعيف، أي بمعنى أن فناء الخلايات لا يقترن بصحتها فقط، إنما بوجود قوة غير مادية بداخل ذلك الحي. أليس هذا بدليل كاف بأن أمر الحياة والموت لا يقتصر على مادة الأبدان فقط؟ وأليس هذا بدليل أن الحياة والموت من أمر الحي القيوم؟ ولله العزة والجلال.
4/ الطير:
1. (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء) [النحل: 79].
2. (وسخرنا مع داؤود الجبال يسبحن والطير) [الأنبياء: 79].
3. (الم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه) [النور: 41].
4. (وورث سليمان داؤود وقال يا أيها الناس عُلمنا منطق الطير) [النمل: 16].
5. (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير) [النمل: 17].
6. (وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد) [النمل: 20].
7. (ولقد آتينا داؤود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير) [سبأ: 10].
8. (والطير محشورة كل له أواب) [ص: 19].
وقال تعالى في سورة الملك الآية: 19:
9. (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير).
وورد في تفسير ابن كثير(20): "أي تارة يصففن أجنحتهن في الهواء وتارة تجمع جناحًا وتنشر جناحًا "ما يمسكهن" أي في الجو "إلا الرحمن" اي بما سخر لهن من رحمته ولطفه".
وقال صاحب الظلال(21) في الآية: "وهذه الخارقة التي تقع في كل لحظة تنسينا بوقوعها المتكرر ما تشي به من القدرة والعظمة ولكن تأمل هذا الطير وهو يصف جناحيه وفردهما ثم يقبضهما وهو في الحالين يظل في الهواء والرحمن يمسكهن بنواميس الوجود المتناسقة".
الناظر لهذه الآيات يستنتج بأن الطير أمة مثلنا ومثل كل أمم الأحياء وإنهم يسبحون ويعبدون الله وأن لهم لغة علمها الله عز وجل لسليمان – عليه السلام –. وهذه حقائق تصديقها يستدعى الإيمان بالله.. والباحث في تطور الطيور يجد خيالاً لا سند له فإذا كان تطور الخلية مقرونًا بوجود الغذاء لها فما الحاجة لأن يطير المسافات الخيالية، ولماذا نجد كل هذا الاختلاف في الأشكال والأنواع بين النعام والعصافير والنسور.. كلها طيور وغذاؤها يختلف وشكلها يختلف وحجمها يختلف.. ثم لم الهجرة من مكان لآخر، وكيف تعرف طريقها ذاهبة وآتية؟ وفي طائر "الموتون" كما ذكر موريس بكاي(22) أمر يستدعى التعجب فهو طائر يوجد باستراليا.. ويبدأ هجرته من ساحل استراليا ويتجه شرقًا في الباسفيك ويلتف حول شاطئ اليابان وبعد راحة قليلة في إحدى الجزر يتجه جنوبًا إلى الشاطئ الغربي لأمريكا حتى يصل كالفورنيا ومن هناك ينطلق حتى يرجع إلى استراليا.. في رحلة ستة اشهر يقطع فيها قرابة 15.000 ميل لا تتغير في خط سيرها أو زمانها والأعجب من ذلك أنها تترك صغارها لوحدهم باستراليا وما أن يقوى عودهم حتى يبدأوا نفس الرحلة بغير دليل، فمن علمهم الطريق.. ومن وضع فيهم كل هذه المعلومات عن الأماكن المختلفة والمسافات والزمن.. لا يمكن أن تكون الصدفة (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير).
5/ الحيوانات:
1. (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) [النحل: 5].
2. (وإن لكم في الأنعام لعبرة، نسقيكم مما في بطونها من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين) [النحل: 66].
3. (ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه) [فاطر: 28].(/10)
4. (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك، لا إله إلا هو فأنى تصرفون) [الزمر:6].
5. (جعل لكم من أنفسكم أزواجًا ومن الأنعام أزواجًا..) [الشورى:11].
6. (الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون) [غافر: 79].
7. (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا فهم لها مالكون) [يس: 71].
8. (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون) [الجاثية: 4].
وقال تعالى في سورة النور الآية: 45:
9. (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير).
وجاء في تفسير ابن كثير(23): "يذكر الله قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلق أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد (فمنهم من يمشي على بطنه) كالحية وما شاكلها (ومنهم من يمشي على رجلين) كالإنسان والطير (ومنهم من يمشي على أربع) كالأنعام وسائر الحيوانات ولهذا قال: (يخلق الله ما يشاء)".
ورد في ظلال القرآن(24): "وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعًا، وهو الماء وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلاً في الماء ثم تنوعت الأنواع وتفرعت الأجناس، ولكننا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل لا نزيد على هذه الإشارة شيئًا بإثبات الحقيقة القرآنية، منها الزواحف تمشي على بطنها، ومنها الإنسان والطير يمشي على قدمين، ومنها الحيوان يمشي على أربع، كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته وليس فلتة ولا مصادفة".
ورغم أن وجود الأنعام والحيوانات ككل دليل قاطع على وجود المدبر.. إلا أنني توقفت كثيرًا عند هذه الآية متفكرًا في أمر هذا المشي لم ذكره الله سبحانه وتعالى من دون حركات الجسم.. فلولا المشي والحركة بوضع هذه الدنيا لفنيت معظم الحيوانات.. فكيف تجد غذاءها؟ وكيف تتناسل؟ وكيف تحتمي؟ ولهذا أعطاها الخالق قدرة الحركة وأعطاها الوسيلة لذلك، ولو كانت قد تطورت من خلية بالصدفة لانتهت لنوع واحد من طرق الحركة.. ولننظر ما قاله موريس بكاي(25) في كتابه ما هو أصل الإنسان: "إنه من الصعوبة في بعض الأحيان التمييز بين التغيير في الشكل النافع والضار، فمثلاً لقد فقدت الثعابين أطرافها ولكن لا يعني هذا بأنها وضعت في مرتبة أقل حيث أن فقدان الأطراف قد صاحبه تغيير هيكلي وحشوي كبيران ونجد أن علماء الحيوانات في حيرة من تفسير هذه التغييرات وفقًا للداروينية".
حقًا إنها معضلة بالنسبة لهم ولذلك ذكرها المولى عز وجل... وستكون معضلة لكل من يريد أن يهرب من الإفراد بوجود خالق.. لأن وجوده أمر حتمي لظهورها.
وفي ذكر الحيوانات هدانا المولى عز وجل للنظر في خلق نواع واحد منها (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) [الغاشية: 17]، فلماذا الإبل بالذات؟ والعرب كانت لديهم الأغنام والبقر والخيل.. وقد ورد في تفسيرها عند ابن كثير(26): "يقول الله تعالى آمرًا عباده بالنظر في مخلوقاته الدالةعلى قدرته وعظمته.. فإنها خلق عجيب وتركيبها غريب فإنها في غاية القوة والشدة وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف، وتؤكل وينتفع بفروها ويشرب لبنها وتبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل". وقال صاحب الظلال(27): "والإبل حيوان العربي الأول، عليها يسافر ويحمل ومنها يشرب ويأكل ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل، فهي مورده الأول للحياة، ثم إن لها خصائص تفردها من بين الحيوان فهي على قوتها وضخامتها وضلاعة تكوينها ذلول يقودها الصغير فتنقاد.. "أفلا ينظرون إلى خلقها وتكوينها ثم يتدبرون كيف خلقت على هذا النحو المناسب لوظيفتها المحقق لغاية خلقها المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعًا! إنهم لم يخلقوها وهي لم تخلق نفسها فلا يبقى إلا أن تكون من إبداع المبدع المتفرد بصنعته التي تدل عليه وتقطع بوجوده كما تشؤ بتدبيره وتقديره".(/11)
واختيار الدعوة للنظر للإبل ليست قاصرة على العرب فقط.. وقد اكتشف لنا غير العرب من خصائصها العجيبة ما يدل على استمرارية الدعوة للإعجاز، فنجد مثلاً أنها يمكن أن تشرب كميات كبيرة من الماء في وقت قصيرة كما يمكنها أن تصبر على عدمه لأمد طويل.. وكيف تخزن هذا الماء وكيف تعيد استعماله.. أمر يحير.. ثم إن لها مقدرة على المحافظة على درجة حرارتها تتذبذب فيها درجة الحرارة بطريقة تختلف عن بقية الحيوانات وفوق هذا لا نجد لها شبيهًا في تسلسل الحيوانات لنقول بأنها تطورت من ذلك، فجعلها الله آية لكل البشر لينظروا فيها ويبحثوا في تركيبها ووظائفها وتوالدها ليكتشفوا من الأسرار التي تثبت وجود الخالق ولا شك.
6/ الجن:
1. (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) [الحجر: 27].
2. (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) [الرحمن: 74].
3. (يا معشر الجن والإنس الم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي) [الأنعام: 130].
4. (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) [الأعراف: 179].
5. (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56].
6. (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) [الرحمن: 33].
7. (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنًا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به) [الجن: 1].
8. (وإنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا) [الجن: 5].
9. (وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقًا) [الجن: 6].
10. (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) [السجدة: 13].
11. (الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) [الناس: 6].
وقد قال المولى عز وجل في سورة الرحمن الآيات: 15-16:
12. (وخلق الجان من مارج من نار، فبأي آلاء ربكما تكذبان).
وورد في تفسير ابن كثير(28): "(من مارج من نار) من لهب النار من أحسنها.. وكيفية خلقه من نار مسألة خارجة عن حدود العلوم البشرية والمصدر الواحد فيها هو هذا القرآن". وقال صاحب الظلال(29): "والمارج المشتعل المتحرك كألسنة النار مع الرياح! وللجان القدرة على الحياة في هذه الأرض مع الإنس ولكنا لا ندري كيف يعيش الجان وقبيله، وأما الأمر المستيقن فهو أنهم مخاطبون بهذا القرآن".
لقد كان العرب يؤمنون بالجن، وكان ركبهم قبل الإسلام حين يحل بواد يستأذن صاحب الوادي من الجن، وبعضهم قد عبد الجن لذلك عندما تحدث الله سبحانه وتعالى عن الجن كان خطابه اقراريًا توضيحيًا لأمر لم ينكروه مع عدم رؤيتهم له.. وفي هذه الآية عرفنا مم خلق.. من نار.. ربما ضوء وحرارة فما هي أهمية ذلك؟، إن وجود مخلوقات أو أحياء غير مادية بالنسبة لموضوعنا هذا يعني هدم كل النظرية، وبلا شك فإن كفر من تبع النظرية بوجود المولى عز وجل تلاه انكار وجود الملائكة والجن من الأحياء التي لا نراها، فهل إن أثبتنا وجود هذه الأحياء من الجن سيبقى شيء من النظرية؟ بلا شك لا، ولكن كيف السبيل؟ وهل يجوز ذلك؟، وإننا لنعرف من القرآن الكثير عن الجان فإنه يسمع ويرى ولهم قلوب، ومنهم الصالح والطالح، ومنهم الرجال، ومكلفون مثلنا تمامًا وسيحاسبون؛ وبعضهم يدخل الجنة وبعضهم يدخل النار أي أنه لا فرق بيننا وبينهم.. فتخيل مخلوق مثلك له آذان وأعين وقلب ويسمع ويرى ويؤمن ويكفر ويتخاطب ويأكل ورغم ذلك لا نراه بعين ولا بمجهر وقد أفرد الله سورة كاملة لهم "الجن" وخاطبهم مع الإنس في كل سورة الرحمن (فبأي آلاء ربكما تكذبان).
وربما ذلك بسبب دعوة سيدنا سليمان – عليه السلام – .. ولكن لم يحجر التعاون مع الجن، وجوز ابن تيمية الاستعانة بالصالحين منهم في عمل الخير كالعلاج وغيره.. وهذا يعني إمكانية الاتصال بهم.. فهل هناك طريقة لإثبات وجودهم؟ وفي نقاش دار بين مسلم وكافر متبع للداروينية سأل المسلم الكافر: هل تؤمن بالجن؟ فقال: لا فقال له: ما رأيك أن آخذك إليه، فاضطرب الكافر الأوربي اضطرابًا شديدًا لأن إثبات وجود أحياء غير مادية يعني بلا شك أن تطوى صفحات النظرية إلى يوم البعث والحساب.. وحسبنا أن نعلم أن وجود مخلوقات أخرى تتفق معنا في كل الوظائف والتكاليف وتختلف عنا تمامًا في التركيب أمر لا يمكن أن يوجد إلا بوجود خالق وجب علينا أن نعبده.. وتبارك الله أحسن الخالقين.
7/ الحشرات:
1. (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها) [البقرة: 26].
2. (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات) [الأعراف: 133].
3. (خشعًا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر) [القمر: 7].
4. (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) [العنكبوت: 41].(/12)
5. (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون) [النحل: 68].
6. (حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) [النمل: 18].
ولنبدأ بقول الكاتب الفرنسي موريس بكاي(30) عن الحشرات:
"إن الحشرات من الأحياء التي لم يحدث لها أي تطور منذ ظهورها على الأرض أوليس هذا أمر عجيب! لقد توقفت عند ذكر الله سبحانه وتعالى للحشرات.. البعوض والجراد والقمل والعنكبوت والنحل والنمل والذباب حتى أن ثلاث سور من القرآن مسماة على أسماء حشرات.. وكان للإقرار السابق بأنّ الحشرات لم يلاحظ فيها أي تطور مدعاة للتفكر في هذه المخلوقات التي ذكرها الله – سبحانه وتعالى – في كتابه مدللاً على مقدرته. وسنكتفي بالحديث عن الحشرات الاجتماعية.. النمل والنحل، فقد جاء في تفسير ابن كثير(31) في تفسير قوله تعالى: (حتى آتوا على وادي النمل...) أي حتى إذا مر سليمان – عليه السلام – بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل، قالت، نملة يا أيها النمل... اي خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم، ففهم ذلك سليمان منها...
وقد روى ابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: خرج سليمان – عليه السلام – يستسقى فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ولا غنى لنا عن سقياك وإلا تسقنا تهلكنا.. فقال سليمان ارجعوا فقد سُقِيتُم بدعوة غيركم".
وقال صاحب الظلال(32): "قالت نملة لها صفة الإشراف والتنظيم على النمل السارح في الوادي – ومملكة النمل كمملكة النحل دقيقة التنظيم تتنوع فيها الوظائف وتؤدي كلها بنظام عجيب يعجز البشر غالبًا عن اتباع مثله على ما أوتوا من عقل راق وإدراك عال – قالت هذه النملة للنمل بالوسيلة التي تتفاهم بها أمة النمل وباللغة المتعارفة بينها قالت للنمل: ادخلوا مساكنكم كي لا يحطمكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بكم... ونقف هنا أمام خارقتين لا خارقة واحدة خارقة إدارك سليمان لتحذير النملة لقومها، وخارقة إدارك النملة أن هذا سليمان وجنوده، فأما الأولى فهي مما علمه الله لسليمان وسليمان إنسان ونبي، فالأمر بالقياس إليه أقرب من الخارقة الأخرى البادية في مقالة النملة، فقد تدرك النملة أن هؤلاء خلق أكبر، وأنهم يحطمون النمل إذا داسوه وقد يهرب النمل من الخطر بحكم ما أودع الله فيه من القوى الحافظة للحياة، أما أن تدرك النملة أن هذه الشخوص هي سليمان وجنوده فهي تلك الخارقة التي تخرج على المألوف وتحسب في عداد الخوارق في مثل هذه الحال.
والمتدبر لهذه الآية يرى بأن الله – سبحانه وتعالى – قد أخبرنا بأن النمل أمة مثلنا تؤمن بالله وتعرف الرسل، وأن النمل يعيش حياة اجتماعية، أي يعيش معيشة تكافلية توزع فيها المهام فمنها الملكة ومنها الشغالات والذكور وبعض النمل يخزن غذاءه وزرعه، وبعضها يرعى في ذلك الموكب الرهيب والجيوش الجرارة المتحركة.. اختار لنا الله – سبحانه وتعالى – حديث نملة لا يعنينا أمرها ولا يهمنا إن تحطمت مساكنها، ولكن يهم المولى عز وجل أن يظهرها لنا في هذا الموقف ككائن له كينونته المقدرة وله حياته ومخاوفه.. ليلفت نظرنا إلى أممه الأخرى.. ولكن تصديق هذا الأمر يستدعى الإيمان بالله عز وجل.. وذكر المولى عز وجل هذه الحشرة لأمر يستدعى التفكر .. فإنها حشرة لم يعرف عنها أي تطور وتعيش حياة اجتماعية تماثل حياة أرقى الأحياء.. فكيف ظهرت للوجود.. وكيف يعقل بأن تكون أكثر رقيًا في نظامها من كل الحيوانات.. بل كل هذا من الحق.. المولى عز وجل؛ فأمر هذه النملة في الدعوة لله مثل جيش سليمان السائر ليقاتل من أجل إعلاء كلمة الله .
والنحل لا يختلف عن النمل فهي حشرات اجتماعية.. وفي تفسير ابن كثير(33) عن الآية؛ (وأوحى ربك إلى النحل ...) المراد بالوحي هنا الإلهام والهداية والإرشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتًا تأوي إليها ومن الشجر ومما يعرشون، ثم أذن الله تعالى لها إذنًا قدريًا تسخيريًا أن تأكل من كل الثمرات وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها أي سهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة ثم تعود كل واحدة منها إلى خليتها فتبني الشمع من أجنحتها وتتقيأ العسل من فيها ثم تعاود نشاطها إلى ما شاء الله.
والنحل يعيش في مجموعات اجتماعية قد يصل عددها في الخلية الواحدة إلى (80.000) من النحل والعمل تقوم به إناث النحل واستمرار الخلية يعتمد على استمرار الملكة.. وتقوم الشغالات بالدفاع عن الخلية.. أي كأنها دولة قائمة بذاتها، أمر لا يمكن أن يعقل بأنه نتاج تطور.. كيف علمت النحلة الأولى بأنها ستجد من يرافقها في رحلة حياتها وينتظم معها في كل هذا التنظيم؟ لابد لهذا من مدبر (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون).(/13)
والتحدي الذي وصفه الله تعالى لكل من يدعي الخلق.. كان أيضًا حشرة (يا ايها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) [الحج: 73].
وقال ابن كثير(34): "يقول تعالى منبهًا على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها (يا أيها الناس ضرب مثل) أي لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به (فاستمعوا له) أي أنصتوا وتفهموا (إن الذين..) أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك".
وعلق صاحب الظلال(35) على ذلك: "وخلق الذباب مستحيل كخلق الجمل والفيل لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز سر الحياة فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل ولكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير لأن العجز عن خلقه يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل!" فلكل من يدّعي بأنه ليس هناك خالق.. أو أن هنالك طريقة للخلق غير الله عز وجل.. فليخلق ذبابة.. ولنطبق ذلك على الداروينية:
1. الذباب حشرة.. ولم يوجد أي تطور في الحشرات!
2. الذبابة تتغذى على أنواع مختلفة .. ولها أشكال مختلفة.
3. الذبابة ذكر وأنثى.. وتتناسل فكيف يفسر التطور ذلك!
4. الذبابة حية .. تطير وتأكل وتتبرز وتموت.. فما سر ذلك؟.
فهذه الحشرة الصغيرة لوحدها تؤكد بأن لها خالق وأنها حجة لمن يدعي وجودها بالصدفة.. وحقًا قول المولى عز وجل: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم).
8- خلق الإنسان وخلق السموات والأرض:
وهذا يترك للقارئ للبحث والتفكر والتدبر للإجابة. من كل ما ذُكر سابقًا هل يمكن للإنسان والسموات والارض أن تظهر لحيز الوجود بالصدفة، حتى نطرح في تفكر آخر الدعوة لله من خلالها.
الخلاصة:
إن الدعوة لله تعالى بواسطة العلوم الطبيعية لها أثر في غاية الضرورة في هذا العصر الذي يثق بالعلم ثقة كبيرة، ولا ريب أن التجربة والبرهان لهي من أصدق الأدلة وأظهرها في إثبات الحقائق والإقرار بها، ولهذا كان استخدام الحجج القرآنية والبرهنة عليها من الأهمية بمكان في هذا المضمار، ولا شك أن العلوم الطبيعية ولا سيما علم الأحياء، يمكنها أن تساهم مساهمة إيجابية في مسائل العقيدة والتوحيد، فهي التي تشكل مرتكزًا محسوسًا يومئ بالحقائق القرآنية ويدل على الرؤى العقدية عند المسلمين والتي يمكن عبرها دحض دعوى الملحدين والمنكرين للخالق ووجوده.
----------
(1) الحديث، رواه البخاري.
(2) رواه الترمذي.
(3) سيد قطب: تفسير القرآن العظيم.
(4) الموسوعة المبشرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، ص 211.
(5) موريس بكاي: ما هو أصل الإنسان، ص 34.
(6) عبد السيد الزبير: كتاب الإيمان بين العلم والقرآن، ص 39.
(7) موريس بكاي: ما أصل الإنسان، ص 28.
(8) الظاهرة القرآنية.
(9) وحيد الدين خان: الإسلام يتحدى، مدخل علمى إلى الإيمان.
(10) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، ص 217.
(11) مُلخص إدريس وعلي موسى: الكون والحياة: من العدم حتى ظهور الإنسان.
(12) محمد شحرور: الكتاب والقرآن، قراءة مُعاصرة.
(13) د. كريم حسين: الخلق بين العنكبوتية والداروينية والحقيقة القرآنية، ص 263، 2001.
(14) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، المجلد الثاني، ص 700.
(15) في ظلال القرآن، الجزء الخامس ص 2967.
(16) تفسير ابن كثير المجلد الثاني، ص 538.
(17) في ظلال القرآن الجزء الرابع، ص 1856.
(18) تفسير القرآن العظيم لابن كثير المجلد الأول، ص 388.
(19) في ظلال القرآن، الجزء الأول، ص 297.
(20) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، المجلد الرابع، 470.
(21) في ظلال القرآن، الجزء الثالث، ص 3642.
(22) موريس بكاي: ما هو أصل الإنسان، ص 74.
(23) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، المجلد الثالث، ص 371.
(24) في ظلال القرآن، الجزء الرابع، ص 42.
(25) موريس بكاي، ما أصل الإنسان، ص 42.
(26) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، المجلد الرابع، ص 597.
(27) في ظلال القرآن، الجزء الثالث، ص 389.
(28) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، المجلد الرابع، ص 321.
(29) في ظلال القرآن، الجزء السادس، ص 3451.
(30) موريس بكاي: ما هو أصل الإنسان، ص 49.
(31) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، المجلد الثالث، ص 445.
(32) في ظلال القرآن، الجزء الخامس، ص 2636.
(33) تفسير القرآن العظيم لان كثير، الجزء الثاني، ص 710
(34) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، الجزء الثاني، ص 295.
(35) في ظلال القرآن.
* أستاذ وعميد كلية الطب بجامعة الرباط الوطني – السودان(/14)
إجراء عملية جراحية في رمضان، يمكن إرجاؤها
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ كتاب الصيام/ صيام أهل الأعذار/صوم الكبير والمريض
التاريخ ... 24/8/1424هـ
السؤال
أنا بحاجة لإجراء عملية جراحية ضرورية وغير مستعجلة جداً، ولكن بسبب طبيعة عملي أفضل أن أجريها في رمضان، فهل لي ذلك؟ علماً أنها توجب علي الإفطار في مدة العلاج بعد العملية خلال الشهر، أفيدوني جزاكم الله عنا خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
نعم يجوز لك أن تجري هذه العملية في رمضان ما دامت ضرورية لك في هذا الشهر أو غيره ما دام التبكير بإجرائها في صالح عملك، وعليك قضاء ما أفطرته من رمضان، ولا عليك إثم - إن شاء الله -، وإن استطعت تأجيل العملية إلى ما بعد رمضان حتى تسلم من القضاء لهذه الأيام التي أفطرتها لا سيما وأنك ستفطر شهر رمضان كله فهو أحسن.(/1)
إجلس بنا نؤمن ساعة
مقدمة
لماذا نحتاج إلى التربية الإيمانية ؟
الأول : الإيمان هو أفضل الأعمال
الثاني : الإيمان مناط النجاة يوم القيامة
الثالث : تفاوت الناس يوم القيامة على أساس الإيمان
الرابع: الإيمان يزيد وينقص
الخامس: الدعوة في الشرع إلى تجديد الإيمان وتعاهده
السادس : الإيمان هو الزاد في مواجهة الشهوات
السابع :الإيمان هو المعين على التوبة
الثامن :الإيمان هو المعين على الثبات عند الإبتلاء
التاسع :الإيمان هو زاد الداعية
العاشر:الإيمان هو الحل الأمثل لكثير من المشكلات التربوية
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد:
فعنوان حديثنا الليلة: (اجلس بنا نؤمن ساعة) وهي مقولة لمعاذ رضي الله عنه كان يقولها لأصحابه، وهو حديث عن التربية الإيمانية وحاجتنا إليها، وهو ليس خطاباً للمربين والموجهين وحدهم؛ فالتربية أعم وأشمل من أن تكون قاصرة على مايتلقاه المرء من الآخرين؛ فتربية الإنسان لنفسه ورعايته لها جزء من أداء المسؤولية الفردية التي حمله الله إياها، (لا تزر وازرة وزر أخرى)، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، (ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً) (إن كل من في السماوات والأرض إلا آت الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) .
هذه النصوص وغيرها تقرر المسؤولية الفردية، وأن كل إنسان مسؤول عن خاصة نفسه في عمله وسلوكه وحياته، ثم هو نتيجة هذه المسؤولية سيحاسب وحده، وسيلقى الله عز وجل وحده.
هذا مدخل بين يدي هذا الموضوع حتى لا نتصور أن الموضوع لا يعنينا بدرجة مهمة أو أن الموضوع إنما يخص المربين، ذلك أنه وإن كان المربون لهم نصيب من هذا الحديث ، إلا أننا يجب أن نقوم بتربية أنفسنا وندرك مسؤوليتنا تجاه أنفسنا، وينبغي أن يراجع كل منا نفسه ويشعر أنه وإن رزقه الله من يحسن تربيته وتوجيهه، وصار قدوة له أن ذلك لا يعفيه من المسؤولية عن نفسه بأن يجتهد في تربيتها وإصلاحها، وأن يتعرف على الأسباب والوسائل التي تعينه على التربية السليمة لنفسه .
التربية معشر الشباب لها جوانب عده، التربية إنما تسعى لاكتمال شخصية الإنسان، وأن تكون هي الشخصية المسلمة التي تمتثل بأمر الله عز وجل وتنتهي عما نهى الله تبارك وتعالى عنه، ولا شك أن النفس لها جوانب متعددة باعتبار أنها تسعى إلى تكميل النفس، وتسعى إلى الرقي بها
فالإنسان يحتاج إلى أن يربي نفسه في ميدان التعلم وطلب العلم وتحصيله، ويحتاج إلى أن يربي نفسه في ميدان الخلق والسلوك، والتعامل مع الناس، ويحتاج إلى أن يربي نفسه في ميدان العمل والبذل والعطاء في ميادين كثيرة، وهكذا فالتربية لاتقف عند جانب واحد.
ومن أهم هذه الجوانب وآكدها التربية الإيمانية، وقد آثرنا استخدام هذا المصطلح لأنه هو المصطلح الذي يربط الناس بالألفاظ الشرعية، بالإيمان الذي دلت عليه النصوص المتظافرة المتواترة، فأنت عندما تقرأ في كتاب الله عز وجل أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم كم تتكرر لديك كلمة الإيمان، وصف الناس بالإيمان، أو وصفهم بانتفاء الإيمان عنهم، أو الدعوة للإيمان أو بيان أثر الإيمان ونتيجته وثمرته، لا يكاد يخطئك ذلك في أي آية من كتاب الله عز وجل تقرؤها، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل كل ذلك إنما مداره على الإيمان لأن الأمر الذي يؤمر به المرء أو الذي ينهى عنه من حكم أو خلق أو سلوك، والوعد والوعيد والإخبار عن الهالكين والناجين، كل ذلك مرتبط بدائرة الإيمان فحين يؤمر المرء بأمر فإنه يؤمر بمقتضى الإيمان ونتيجته، وحين ينهى عن أمر فإنه ينهى عن ذلك بمقتضى إيمانه، وحين يأتي إخبار الله عز وجل عما أعد للصالحين الصادقين فإن هذا إخبار عن جزاء أهل الإيمان وثمرة الإيمان، وحين يخبر تبارك وتعالى عن عذاب المعرضين الغافلين فهو إخبار عن عذاب أولئك الذين تنكبوا طريق الإيمان وضلوا عنه، وقصص الأولين والآخرين هي أيضاً قصص أولئك الذين أعرضوا عن الإيمان، أو استجابوا للإيمان (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) ،فما قص الله عز وجل إنما هو قرية آمنت فجازاها الله عز وجل بجزاء المؤمنين في الدنيا والآخرة، أو قرية أعرضت عن الإيمان فعاقبها الله عز وجل وأخذها نكال الدنيا ونكال الآخرة.
آثرنا أن نستعمل هذا المصطلح و أن نتحدث حول هذا اللفظ لأنه المصطلح الذي جاء الشرع به ودلت عليه في نصوص القرآن والسنة، وتواترت نصوص السلف في الحديث حول هذا الأمر كما سيأتي شيء من ذلك .(/1)
وقد يستعمل الناس مصطلحات كالتربية الروحية أو غيرها وهي جوانب بعضها إما هو موروث من أهل التصرف، أو موروث من النصارى، أو هو لفظ مستحدث، وكلما اقتربنا والتزمنا بالألفاظ الشرعية كان ذلك أولى .
لماذا نحتاج إلى التربية الإيمانية ؟
يكاد يكون حديثنا هذه الليلة منحصراً في الإجابة عن هذا السؤال، إننا نحتاج للتربية الإيمانية لجملة أمور، منها:
الأول: الإيمان هو أفضل الأعمال:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله ( سئل أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور" متفق عليه.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال سألت النبي r أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله وجهاد في سبيله" قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: "أعلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها…" متفق عليه.
وعن عبد الله بن أبي قتادة عن أبي قتادة أنه سمعه يحدث عن رسول الله r أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال. رواه مسلم.
ولو استعرضت ما أجاب به صلى الله عليه وسلم أولئك الذين سألوه عن أفضل الأعمال لوجدت أن هذه الإجابات -مع اختلافها وتنوعها حسب تنوع حال السائل- إلا أنها كلها مدارها على الإيمان؛ فجعل صلى الله عليه وسلم أفضل هذه الأعمال هو الإيمان بالله عز وجل .
وحين جاء وفد عبد قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله لقد حال بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر فلا نصل إليك إلا في الشهر الحرام فمرنا بأمر فصل نأمر به من وراءنا، قال صلى الله عليه وسلم : آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع قال : آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان ؟ ثم ذكر صلى الله عليه وسلم شيئاً من شرائع الإيمان . والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله هذا الوفد أن يأمرهم بأمر فصل حين سأله هؤلاء أن يبين لهم أمراً يستغنون به ويعلمون به مَنْ وراءَهم إذ هم لا يستطيعون أن يصلوا إليه إلا في الشهر الحرام أمرهم صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالله وحده .
الثاني: الإيمان مناط النجاة يوم القيامة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله r:"لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"رواه مسلم.
الثالث: تفاوت الناس يوم القيامة على أساس الإيمان:
وهذا التفاوت له ميادين منها:
أ- تفاوت الناس على الصراط على أساس الإيمان، فهم يؤتون نوراً على قدر إيمانهم (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم).
والله عز وجل أمر عباده في الدنيا أن يسيروا على صراطه المستقيم، فيقول تبارك وتعالى آمراً إياهم بسؤاله الهداية :(اهدنا الصراط المستقيم) ، (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل) فأمر الله عز وجل الناس أن يسيروا على الصراط المستقيم في الدنيا، والمرء لا يستطيع أن يبصر الصراط إلا بالنور؛ فيبصر الصراط المستقيم في الدنيا بنور الإيمان فكلما قوي إيمان المرء في الدنيا أعطاه الله عز وجل بصيرة يبصر بها الصراط أمامه حتى لا يضل ولا يزيغ؛ فيصبح يرى الطريق أمامه واضحاً جلياً وإنما يلبس على المرء ويضل بسبب إعراضه كما قال تبارك وتعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون * ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً) إلى آخر الآيات .
ويوم القيامة يُعْطَى نوراً على الصراط في الدار الآخرة كما أعطي هذا النور، فعلى قدر إيمانه وسيره على الصراط المستقيم في الدنيا يُؤتَى نوراً يوم القيامة، وعلى قدر ثباته على صراط الدنيا يكون ثباته على الصراط يوم القيامة.
ب - تفاضل أهل الجنة فيما بينهم على أساس الإيمان . فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي r قال : "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: "بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين"رواه مسلم.
ج - تفاوت العصاة من الموحدين في النار مرتبط بالإيمان .(/2)
عن معبد بن هلال العنزي قال اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك –رضي الله عنه- وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فإذا هو في قصره فوافقناه يصلي الضحى، فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه، فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد r قال: " إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم...الحديث، وفيه: فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أَخِرُّ له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسْمَع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي فيقول انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان فأخرجه، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، فيقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل" رواه البخاري.
وفي حديث الشفاعة الطويل: "...فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا.." متفق عليه.
الرابع: الإيمان يزيد وينقص:
من عقيدة أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص وأن أهله يتفاضلون فيه، والأدلة على ذلك مشهورة، قال الإمام البخاري في صحيحه : كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس، وهو قول وفعل يزيد وينقص قال تعالى:(ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) ، (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) ، (والذين اهتدوا زادهم هداً وآتاهم تقواهم) ،(ويزداد الذين آمنوا إيماناً) وقوله: (أيكم زادته هذه إيماناً) وقوله جل ذكره :(فاخشوهم فزادهم إيماناً) وقوله تعالى:(فما زادهم إلا إيماناً وتسليماً) ثم حين أورد هذه الآيات نقل القول بذلك عن أبي القاسم اللالكائي في السنة عن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيدة وأيضاً قال رحمه الله لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص.
وينبني على مسألة زيادته ونقصه مسألة أخرى وهي تفاضل أهل الإيمان فيه فإذا كان يزيد وينقص فهذا يعني أن أهله يتفاضلون فيه كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ورأيت عمر بن الخطاب عليه قميص يجره " قالوا : فما أولت ذلك يا رسول الله، قال: "الدين ".وبوّب على هذا الحديث الحافظ ابن مندة في كتابه الإيمان باب ذكر ما يدل على أن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان وفضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: هذا حديث مجمع على صحته.
المقصود إذاً أن من الأمور المقررة عند أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص وأن أهله يتفاضلون فيه، وهذا يدعو الإنسان إلى أن يحرص على زيادة إيمانه قدر الإمكان ويحرص إذا علم أن أهل الإيمان يتفاضلون فيه أن يسعى إلى أن يصعد إلى المراتب العالية في هذا الإيمان، وفي المقابل أيضاً أن يحمي إيمانه من أن يصيبه النقص .
الخامس: الدعوة في الشرع إلى تجديد الإيمان وتعاهده:
روى الحاكم والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم" .
وروى ابن أبي شيبة في الإيمان وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: القلوب أربعة : قلب أجرد كأنما فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح فذلك قلب المنافق، وقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل شجرة يسقيها ماء طيب ومثل النفاق فيه كمثل قرحة يمدها قيح ودم فأيهما غلب عليه غلبه . هذا روي عن حذيفة موقوفاً عليه، وقد رواه بعضهم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم والموقوف أصح .(/3)
وروى ابن أبي شيبة في الإيمان عن علقمة أنه كان يقول لأصحابه : امشوا بنا نزدد إيمانا، وروى أيضاً ابن أبي شيبة في الإيمان والإمام أحمد وأبو عبيدة في الإيمان والبخاري تعليقاً، وصحح ذلك الحافظ ابن حجر عن معاذ رضي الله عنه أنه قال : اجلس بنا نؤمن ساعة . يعني نذكر الله تعالى .
وروى عن أسود بن هلال قال : كان معاذ يقول للرجل من إخوانه : اجلس بنا نؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله ويحمدانه على كل حال .
والنصوص كثيرة في الدعوة إلى تجديد الإيمان وتعاهده في النفوس، وقد صنف السلف في ذلك كتباً خاصة في الإيمان، والمقصود أن هذه الدعوة سواءً ما خاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته وأمرهم أن يسألوا الله عز وجل أن يجدد الإيمان في قلوبهم وأن يزيدهم
إيماناً , أو ما ورد عن سلف الأمة هذا يدعونا إلى أن نسعى إلى تعاهد الإيمان في نفوسنا وزيادته في قلوبنا.
وهو أيضاً يدفع ويدعو من يتولى التربية أن يجعل هذه القضية من أهم القضايا ومن الأولويات التي يتربى عليها الجيل والناشئة، ولعلنا نتساءل ونحن قد سمعنا هذه النصوص عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أن أحدهم كان يقول لصاحبه اجلس بنا نؤمن ساعة أو يقول امشوا بنا نزدد إيماناً.. كم هي المجالس التي نجلسها مع إخواننا؟ وكم يستغرق حديثنا عن هذه القضايا من وقتنا، وهل نحن حين نجلس مثل هذه المجالس يذكّر بعضنا بعضاً في قضايا الإيمان والخوف من الله عز وجل ونسعى إلى أن تكون هذه المجالس تزيدنا إيماناً؟ أو بعبارة أخرى أحدنا كثيراً ما يلقى أخاه في الله فأيًّا كان هذا اللقاء فهل هو يشعر حين يلقاه ويتحدثان أنهما يزدادان إيمانا؟ أو أنه يلقاه كما يلقى غيره، بل ربما كانت بعض المجالس إنما هي مدعاة لقسوة القلب والبعد عن الله تبارك وتعالى. وليس بالضرورة أن يكون الحديث في قضايا الإيمان والخوف من الله عز وجل ، موعظة يلقيها إنسان بعد الصلاة، أو مجلس علم يحضره، ليس بالضرورة هذا ولا ذاك، فأنت تتحدث مع أخيك في مجلس أو في سيارة أو حتى في الهاتف أو هنا وهناك- أيا كان هذا المجلس-هل يسمع أحدكم من أخيه وصية أو تذكيراً بالله عز وجل فيزداد بعضنا إيماناً من ذلك؟ وإذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا تواصوا وزاد إيمانهم وهم منهم في الإيمان والصلاح والتقوى فغيرهم من باب أولى.
السادس: الإيمان هو الزاد في مواجهة الشهوات
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: رجل دعته امرأة إلى نفسها فقال: إني أخاف الله عز وجل، فالذي منعه من مواقعة ما حرم الله تبارك وتعالى خوفه من الله عز وجل وإيمانه بالله تبارك وتعالى.
وقال تعالى (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) فيخبر تبارك وتعالى أن الشهوات قد زينت للناس وهذا، في أصل الفطرة بلا مثيرات، فما بالكم بهذا العصر الذي نعيشه وقد فتحت فيه الأبواب على مصراعيها، وصارت الشهوات تلاحق الشاب، وتلاحق الفتاة، وتلاحق الصغير والكبير في السوق والشارع بل حتى في المنزل، وصار الناس يشتكون من جحيم هذه الشهوات وآثارها وكيف أنها تصرف الكثير عن طاعة الله عز وجل وتجرف الكثير وربما كانت سبباً في الانحراف والغواية عافانا الله عز وجل وإياكم من ذلك، ولو تأملت حال الكثير ممن ضلوا وتنكبوا الطريق لوجدت أنهم إنما أتوا من قبل هذا الباب ومن هذا المدخل . ويتساءل ما العلاج وما الحل الآن أمام هذا السيل الجارف من الشهوات، التي صار الإنسان لا يكاد يستطيع أن يمنع أبناءه عنها ولا يستطيع المصلحون في المجتمع أن يمنعوا الناس من مقارفتها ولا من رؤيتها، سواء مايعرض على الشاشة أو في المجلات أو في الصحف؟حتى لو عوفي الإنسان من هذا كله ولم تتهيأ له في منزله، فإن الشاب قد لا يعدم أن يحدثه زميله في الفصل عن شيء من ذلك أو يدله عليه.
فالمقصود أن هذه الشهوات أصبحت مشكلة الجميع، سواء أكان الشاب نفسه الذي يخاف على نفسه هذه الشهوات وآثارها، أم الأب الذي يخاف على أبنائه، أم الأم التي تخاف على أولادها، أم الأستاذ والمربي الذي يخاف على هذا النشء الذي تعاهده في التربية والإصلاح، يخاف أن تجرفه هذه السيول فتفسد في لحظات ما بناه هو في دهور وسنوات، صارت مشكلة فعلاً يعاني منها الكثير ويتساءلون ما الحل ؟(/4)
الحل في الإيمان، الحل في تربية التقوى في النفوس، الإيمان الذي يجعل الشاب ويجعل الفتاة يعرضان عن أبواب هذه الشهوات وطرقها، الذي يجعله يغض بصره ابتداءً، الذي يجعله يشعر أن لديه قضية أكبر من قضية الشهوة، فبدل أن يفكر في الشهوة، وبدل أن تسيطر عليه صار مشغولاً بالله والدار الآخرة، صار مشغولاً بالسعي لزيادة الإيمان وتحقيق تقوى الله عز وجل ، مشغولاً بعيوب نفسه ومعاصيها وكيف يصلح نفسه، همه الشوق إلى لقاء الله عز وجل، وأنسه بذكر الله تبارك وتعالى وتلاوة كتابه وعبادته تبارك وتعالى، فصار لسان حاله يقول للناس –وهو يراهم صرعى الشهوات -: يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في واد، لكم هم ولي هم آخر.
فحين يقوى الإيمان في النفس تصبح هذه حالة الشاب وهذا لسان حاله، فيكون هذا بإذن الله عاصماً له وحامياً له حتى لو أتته الشهوات تسعى إليه فإنه يعرض عنها ويصبح ويقول كما حكى صلى الله عليه وسلم عن الذي تعرضت له الفتنة : إني أخاف الله عز وجل، وكما قال تبارك وتعالى عن يوسف عليه السلام :(معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي).
إننا نعيش اليوم مرحلة عمت فيها فتن الشهوات، وأصبحت تؤرق كثيراً من الصالحين ويخشون من أثرها، وهذا مدعاة لأن نراجع برامجنا التربوية، وأن يتساءل المربون علام يربى الناس وعلام تربى الأمة الآن؟
الملايين من المسلمين يرون أبواب الشهوات مفتوحة أمامهم، ويرون أبواب الفتن والضلال بكل ألوانه مشرعةً أمامهم فماذا يتلقون من الزاد في مواجهتها؟ ماذا يتلقى الطلاب في مدارسهم ؟ وماذا تتلقى الطالبات في مدارسهن ؟ هل يتلقون ويتعلمون ما يربي الإيمان في النفوس، وما يقوي الإيمان، ويصل بالله عز وجل؟
ماذا يسمع هؤلاء في وسائل الإعلام ؟ وماذا يقرؤون في الصحف التي يرونها صباح مساء ؟ ما مدى اعتناء وسائل التوجيه التي تخاطب الناس وتحدث الملايين بتربية الإيمان والتقوى في النفوس؟
فإذا كانت الأمة جادة في الإصلاح، وإذا كان شأن الدين والعقيدة قضية يعني الأمة فعلاً فيجب أن توجه وسائل التربية والتوجيه في الأمة إلى غرس الإيمان في النفوس، وإلى توجه وسائل التربية والتوجيه كلها في المجتمع لتحقيق هذه القضية، وماذا تريد الأمة من إنسان متعلم مثقف لكن قلبه خواء من الإيمان بالله عز وجل وتقواه ؟ وماذا تريد الأمة من فتاة متعلمة لكنها لا تخشى الله عز وجل طرفة عين ؟
وهذا يدعو الأب أيضاً إلى أن يعيد النظر في وسائل تربيته لأبنائه، وأن يدرك أن القضية لا تنتهي عند حد أمر أبنائه بالصلاة، ونهيهم عن مصاحبة جلساء السوء، لا تقف عند أمرهم بالطاعة ونهيهم عن المعصية، بل هو يحتاج إلى أن يجعل جو البيت جو إيمان، يجعل البيت يُربَّى على الإيمان والصلاح والتقوى، إذا كان ابنه يخرج في الشارع فيرى مظاهر الإغراء والإثارة وما يدعو للفساد، ثم يأتي للبيت فلا يرى إلا المجلة أو ما تعرضه الشاشة، أو هو على أحسن الأحوال لا يجد في البيت ما يزيده إيماناً وتقوى، وإذا كان والده صالحاً وكانت أمه صالحة فإنه لن يجد منهم إلا مجرد الأمر والنهي فقط.
والمربون الذين يتولون تربية الشباب هم الآخرون بحاجة إلى مزيد مراجعة، وأن ينظروا أين تقف التربية الإيمانية في سلم الأولويات التربوية لديهم؟ هل هي مهمة وأساسية أم لا ؟
إن العناية بهذا الجانب وإعطاءه الأولوية يختصر عليهم مراحل طويلة، ويحمي هذا النشء من مؤثرات كثيرة.
وهذا يدعو الشاب نفسه إلى أن يتعاهد نفسه وهو يشعر بالخطر الداهم الذي يحاصره ويهدده، يدعوه إلى أن يرى أن من مسؤوليته تجاه نفسه أن يتعاهد الإيمان في نفسه وأن يحرص على زيادة الإيمان وتربيته في نفسه، وأن يشعر أنه إن خسر ووقع في براثن الشهوات أو الشبهات خسر إيمانه وخسر دنياه وآخرته وهي قضية لا تحتمل المخاطرة أبداً .
السابع : الإيمان هو المعين على التوبة:
قد تُوقِع الإنسانَ نفسُه في المعصية في حالة ضعف أو غفلة واستيلاء الشيطان عليه، فإذا كان قد تربى على الإيمان وعلى التقوى لله عز وجل فإنه سرعان ما يستفيق ويبادر بالتوبة (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين* الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين* والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) إذاً هذه حال المتقين، إذا وقعوا في معصية أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله عز وجل فتجاوزا هذه المعصية.(/5)
وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى :(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون *وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) فالمتقون قد يصيبهم طائف من الشيطان، وقد يسول لهم الشيطان فيوقعهم في أمر محرم أو تقصير في واجب شرعي، لكن هذا الإيمان والتقوى في نفوسهم سرعان ما يدعوهم إلى التوبة والرجوع إلى الله عز وجل والازدياد من الحسنات؛ فيزدادوا إيماناً بعد إيمانهم ويعملوا من الطاعات أضعاف ما عملوا من السيئات حتى يكون ذلك مدعاة لتطهير أنفسهم من السيئات ورجسها وزيادة إيمانهم بعد ذلك.
إذاً فصاحب الإيمان حتى لو واقع المعصية فإنه أقرب الناس وأدعاهم إلى المبادرة بالتوبة والإقلاع والاستغفار منها.
الثامن : الإيمان هو المعين على الثبات عند الابتلاء
أخبر الله تعالى أن من لوازم الإيمان أن يُبتلى الإنسان :(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) ،(ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) وتأمل كيف جاء التعبير في الآية (من يقول آمنا) فلم يقل من يؤمن بالله لأنه لو آمن بالله حق الإيمان لما حصل له هذا الأمر، كما قال هرقل لأبي سفيان - رضي الله عنه - حين سأله عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل يرتد أحد من أصحابه سخطة لدينه؟ قال : لا، قال : كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا تفارقه أبداً.
والذي يعين الإنسان على الثبات بإذن الله عند الابتلاء وعند الإغراء إنما هو الإيمان بالله عز وجل، وأولئك الذين يعبدون الله على حرف هم أسرع الناس استجابة لداعي الفتنة والإغراء (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) .
التاسع : الإيمان هو زاد الداعية:
إن الداعية إلى الله عز وجل وطالب العلم هم أحوج الناس إلى التربية الإيمانية، ولماذا الداعية وطالب العلم بالذات؟
أولاً: لأن الإيمان بالله هو المعين على أمور الدعوة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيه الوحي يتحنث في غار حراء ويتعبد الليالي ذات العدد، فكان يحتاج إلى الصلة بالله عز وجل والإيمان به تبارك وتعالى حتى يكون ذلك خير معين له على القيام بأعباء هذه الدعوة.
وحين أتاه الوحي شرع الله له الاجتهاد في العبادة والطاعة (يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً * إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) هذا الأمر بقيام الليل والاجتهاد بالطاعة لأنه سيُلْقَى عليه قولاً ثقيلاً ، (إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً).
ثانياً :لأن الداعي إلى الله عز وجل وطالب العلم عرضة للآفات، عرضة للإعجاب بالنفس، عرضة للرياء، وعرضة لأن يسير وراء بريق الشهوة، والذي يعينه ويحميه من ذلك هو الإيمان بالله عز وجل، فالإيمان يشعره بأن كل ما يقدمه إنما هو لله عز وجل ، والذي يجعله يشعر بذنوبه وتقصيره في جنب الله سبحانه، والذي يجعله يشعر بأن ما قدم لن ينجيه إلا برحمة الله تبارك وتعالى.
ثالثاً: أن الداعية يدعو الناس للإيمان بالله عز وجل، وإذا كان المرء فاقداً لشيء كيف يستطيع أن يعطيه، وإذا كان يحتاج أن يربي الناس على الإيمان بالله عز وجل وتقواه وهو فاقد للإيمان والتقوى، وإذا كان يريد أن ينهى الناس عن معاصي الله عز وجل ، ويأمرهم بتقواه وهو يعاني من الجفاء في قلبه، يعاني من الضعف في إيمانه، يعاني من الخور في هذا الجانب فكيف يستطيع أن يحقق هذا الأمر ؟ (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب) ،(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) .
رابعاً: أن الذي يدعو إلى الله عز وجل هو أكثر الناس عرضة للبلاء والامتحان، والذي يعينه على الثبات هو الإيمان بالله عز وجل ، ولهذا تأتي الوصية بالتسبيح أو الصلاة والتوجه إلى الله عز وجل في كتاب الله عقب ذكر مايكيده الكفار بالنبي r ، ولا تكاد تجد أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يواجهه من أذى ومن ابتلاء إلا ويعقب بالأمر بالتسبيح والأمر بالصلاة والأمر بالطاعة لله عز وجل، لماذا ؟ لأنه هو الزاد المعين على الصبر (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب * ومن الليل فسبحه وأدبار السجود) ويقول (فاصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاًً) ويقول: (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً * ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاًً) .
وقد تكرر ذلك كثيراً في السور المكية: في سورة هود ،والإسراء , وطه، والإنسان، والمزمل.
العاشر: الإيمان هو الحل الأمثل لكثير من المشكلات التربوية:(/6)
كثيراً ما نشتكي من قسوة القلب والفتور والجرأة على المعاصي، كثيراً ما نشتكي ونتساءل عن الانحراف بعد الهدى وهي ظاهرة بدأت تكثر في هذا العصر وبالذات في هذه السنوات الأخيرة فما الحل لذلك؟
لا شك أن أعظم علاج لمثل هذه المشكلة إنما هو الإيمان بالله تبارك وتعالى، والاعتناء بالتربية الإيمانية، أن نربي أنفسنا على الإيمان بالله عز وجل ، وأن يربى الجيل ويربى الشباب على الإيمان بالله تبارك وتعالى ، ويغرس الإيمان في النفوس حينها سنجد أن هذه الظواهر تقل وتتلاشى كما قال هرقل لأبي سفيان لما سأله قال : هل يرتد أحداً من أصحابه سخطاً لدينه ؟ قال : لا، قال :كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا تفارقه أبداً.
لما مات النبي صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد كان عامة الذين ارتدوا من الذين قال الله عنهم : (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) ، أما السابقون الأولون: أهل بدر وأهل بيعة الرضوان الذين جاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، والذين دخل الإيمان في قلوبهم فلم يرتد أحد منهم.
ومن المشكلات التي يعاني منها كثير من الشباب أنه إذا ابتعد عن إخوانه ضعف وربما تجرأ على المعاصي، وربما تغيرت حاله وتبدلت.
ومن المشكلات التي نشتكي منها العلاقات العاطفية التي تكون بين الشباب أو بين الفتيات، والتي بدأت تنتشر في المجتمع حتى بدأت العدوى تسير إلى مجتمعات الصالحين والناس الأخيار.
المقصود أننا نعاني من مشكلات تربوية كثيرة، ويتردد السؤال ويتكرر ما الحل لهذه المشكلة ؟ وما العلاج لتلك ؟ لا شك أن الحل لهذه المشكلات هو في تعميق التربية الإيمانية هو تعميق الإيمان في النفوس، والصلة بالله عز وجل وحين نجعل الهم همًّا واحداً نختصر الطريق على أنفسنا بدلاً من أن نذهب نعالج كل مشكلة على حدة.
بل إن هذه المشكلات لو عالجناها بعلاج بعيدٍ عن التربية الإيمانية فسيبقى علاجاً مؤقتاً، سيبقى علاجاً لا يتوجه إلى مصدر الداء.(/7)
إحدى عشر وسيلة للتأثير في القلوب
هذه سهام لصيد القلوب، أعني تلك الفضائل التي تستعطف بها القلوب، وتستر بها العيوب وتستقال بها العثرات، وهي صفات لها أثر سريع وفعّال على القلوب، فإليك أيها المحب سهاماً سريعة ما أن تطلقها حتى تملك بها القلوب فاحرص عليها، وجاهد نفسك على حسن التسديد للوصول للهدف واستعن بالله.
الوسيلة الأول: الابتسامة :
قالوا هي كالملح في الطعام، وهي أسرع سهم تملك به القلوب وهي مع ذلك عبادة وصدقة، ( فتبسمك في وجه أخيك صدقة ) كما في الترمذي، وقال عبد الله ابن الحارث ( ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
الوسيلة الثانية : البدء بالسلام :
سهم يصيب سويداء القلب ليقع فريسة بين يديك لكن أحسن التسديد ببسط الوجه والبشاشة، وحرارة اللقاء وشد الكف على الكف، وهو أجر وغنيمة فخيرهم الذي يبدأ بالسلام، قال عمر الندي (خرجت مع ابن عمر فما لقي صغيراً ولا كبيراً إلا سلم عليه)، وقال الحسن البصري (المصافحة تزيد في المودة) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق ). وفي الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء ) قال ابن عبد البر هذا يتصل من وجوه حسان كلها.
الوسيلة الثالثة : الهدية :
ولها تأثير عجيب فهي تذهب بالسمع والبصر والقلب، وما يفعله الناس من تبادل الهدايا في المناسبات وغيرها أمر محمود بل ومندوب إليه على أن لا يكلف نفسه إلا وسعها، قال إبراهيم الزهري (خرّجت لأبي جائزته فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته ففعلت، فقال لي تذكّر هل بقي أحد أغفلناه ؟ قلت لا قال بلى رجل لقيني فسلم علي سلاماً جميلاً صفته كذا وكذا، اكتب له عشرة دنانير) انتهى كلامه.
انظروا أثّر فيه السلام الجميل فأراد أن يرد عليه بهدية ويكافئه على ذلك.
الوسيلة الرابعة : الصمت وقلة الكلام إلا فيما ينفع :
وإياك وارتفاع الصوت وكثرة الكلام في المجالس، وإياك وتسيد المجالس وعليك بطيب الكلام ورقة العبارة (فالكلمة الطيبة صدقة) كما في الصحيحين، ولها تأثير عجيب في كسب القلوب والتأثير عليها حتى مع الأعداء فضلاً عن إخوانك وبني دينك، فهذه عائشة رضي الله عنها قالت لليهود ( وعليكم السام واللعنة) فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مهلاً يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله) متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليك بحسن الخلق وطول الصمت فو الذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما ) أخرجه أبو يعلى والبزار وغيرهما.
قد يخزنُ الورعُ التقي لسانه …… حذر الكلام وإنه لمفوه
الوسيلة الخامس: حسن الاستماع وأدب الإنصات :
وعدم مقاطعة المتحدث فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه، ومن جاهد نفسه على هذا أحبه الناس وأعجبوا به بعكس الآخر كثير الثرثرة والمقاطعة، واسمع لهذا الخلق العجيب عن عطاء قال : ( إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه وقد سمعته قبل أن يولد).
الوسيلة السادسة : حسن السمت والمظهر:
وجمال الشكل واللباس وطيب الرائحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله جميل يحب الجمال ) كما في مسلم. وعمر ابن الخطاب يقول ( إنه ليعجبني الشاب الناسك نظيف الثوب طيب الريح )، وقال عبد الله ابن أحمد ابن حنبل ( إني ما رأيت أحداً أنظف ثوبا و لا أشد تعهدا لنفسه وشاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبا وأشده بياضا من أحمد ابن حنبل).
الوسيلة السابعة : بذل المعروف وقضاء الحوائج :
سهم تملك به القلوب وله تأثير عجيب صوره الشاعر بقوله:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم …فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
بل تملك به محبة الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أحبُ الناس إلى الله أنفعهم للناس )، والله عز وجل يقول { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين }.
إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى …….. مملوك لكل رفيق
وكن مثل طعم الماء عذبا وباردا ……… على الكبد الحرى لكل صديق
عجباً لمن يشتري المماليك بماله كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه، ومن انتشر إحسانه كثر أعوانه.
الوسيلة الثامن: بذل المال :
فإن لكل قلب مفتاح، والمال مفتاح لكثير من القلوب خاصة في مثل هذا الزمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلى منه خشية أن يكبه الله في النار ) كما في البخاري.(/1)
صفوان ابن أمية فر يوم فتح مكة خوفا من المسلمين بعد أن استنفذ كل جهوده في الصد عن الإسلام والكيد والتآمر لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه أن يمهله شهرين للدخول في الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لك تسير أربعة أشهر، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين والطائف كافراً، وبعد حصار الطائف وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في الغنائم يرى صفوان يطيل النظر إلى وادٍ قد امتلأ نعماً وشاء ورعاء.
فجعل عليه الصلاة والسلام يرمقه ثم قال له يعجبك هذا يا أبا وهب؟
قال نعم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم هو لك وما فيه.
فقال صفوان عندها : ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
لقد استطاع الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذه اللمسات وبهذا التعامل العجيب أن يصل لهذا القلب بعد أن عرف مفتاحه.
فلماذا هذا الشح والبخل؟ ولماذا هذا الإمساك العجيب عند البعض من الناس؟ حتى كأنه يرى الفقر بين عينيه كلما هم بالجود والكرم والإنفاق.
الوسيلة التاسعة : إحسان الظن بالآخرين والاعتذار لهم :
فما وجدت طريقا أيسر وأفضل للوصول إلى القلوب منه، فأحسن الظن بمن حولك وإياك وسوء الظن بهم وأن تجعل عينيك مرصداً لحركاتهم وسكناتهم، فتحلل بعقلك التصرفات ويذهب بك كل مذهب، واسمع لقول المتنبي:
إذا ساء فعل المرءِ ساءت ظنونه …… وصدق ما يعتاده من توهم
عود نفسك على الاعتذار لإخوانك جهدك فقد قال ابن المبارك ( المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم ).
الوسيلة العاشرة : أعلن المحبة والمودة للآخرين :
فإذا أحببت أحداً أو كانت له منزلة خاصة في نفسك فأخبره بذلك فإنه سهم يصيب القلب ويأسر النفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ( إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه ) كما في صحيح الجامع، وزاد في رواية مرسلة ( فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة)، لكن بشرط أن تكون المحبة لله، وليس لغرض من أغراض الدنيا كالمنصب والمال، والشهرة والوسامة والجمال، فكل أخوة لغير الله هباء، وهي يوم القيامة عداء (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
والمرء مع من أحب كما قال صلى الله عليه وسلم - يعني يوم القيامة -، إذا فإعلان المحبة والمودة من أعظم الطرقِ للتأثير على القلوب. فإما مجتمع مليء بالحب والإخاء والائتلاف، أو مجتمع مليء بالفرقة والتناحر والاختلاف، لذلك حرص صلى الله عليه وسلم على تكوين مجتمع متحاب فآخى بين المهاجرين والأنصار، حتى عرف أن فلانا صاحب فلان، وبلغ ذلك الحب أن يوضع المتآخيين في قبر واحد بعد استشهادهما في إحدى الغزوات.، بل أكد صلى الله عليه وسلم على وسائل نشر هذه المحبة ومن ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) كما في مسلم.
وللأسف، فالمشاعر والعواطف والأحاسيس الناس منها على طرفي نقيض ، فهناك من يتعامل مع إخوانه بأسلوب جامد جاف مجرد من المشاعر والعواطف، وهناك من يتعامل معهم بأسلوب عاطفي حساس رقيق ربما وصل لدرجة العشق والإعجاب والتعلق بالأشخاص. والموازنة بين العقل والعاطفة يختلف بحسب الأحوال والأشخاص، وهو مطلب لا يستطيعه كل أحد لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.
الوسيلة الحادي عشر: المداراة :
فهل تحسن فن المداراة؟ وهل تعرف الفرق بين المداراة والمداهنة؟ روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راءه قال بئس أخو العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل، قالت له عائشة يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عائشة متى عهدتني فاحشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس لقاء فحشه) قال ابن حجر في الفتح (وهذا الحديث أصل في المداراة) ونقل قول القرطبي ( والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا ).(/2)
إذا فالمداراة لين الكلام والبشاشة للفساق وأهل الفحش والبذاءة، أولاً اتقاء لفحشهم، وثانيا لعل في مداراتهم كسباً لهدايتهم بشرط عدم المجاملة في الدين، وإنما في أمور الدنيا فقط، وإلا انتقلت من المداراة إلى المداهنة فهل تحسن فن المداراة بعد ذلك؟ كالتلطف والاعتذار والبشاشة والثناء على الرجل بما هو فيه لمصلحة شرعية، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( مداراة الناس صدقة ) أخرجه الطبراني وابن السني، وقال ابن بطال ( المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة) .
المصدر : بتصرف من شريط طريقنا للقلوب.
((إحدى عشر وسيلة للتأثير على القلوب لإبراهيم الدويش )).
الكاتب :سعود المرزوق.(/3)
إحراقهم تجربة لإحراقنا!
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
مناطق أهل السنة في العراق تحرقها القوات الصليبية اليهودية، والجيش المسمى بـ(الجيش العراقي) الذي تدرب خارج حدود العراق، ودخل العراق بأسلحته ومعداته تحت حماية المحتلين الذين يبدو أنهم قد عقدوا مع زعماء هذا الجيش صفقة لتدمير أهل السنة في العراق أولا، ثم تمكينهم في المنطقة ثانيا، ليطوقوا بهم بعض الدول العربية في الخليج، وفي غيره.
وإن ما جرى ويجري من عدوان القوات الأمريكية وفيلق بدر وأتباعه من الجيش الذي تولى تدريبه هذا الفيلق بالتعاون مع هذه القوات إن ما جرى ويجري من الجانبين على مناطق أهل السنة منذ ثلاث سنوات لدليل واضح على أن الفريقين قد قررا حرق المحافظات والمدن السنية والقضاء على الأخضر واليابس فيها وإرغام من بقي فيها على قيد الحياة، للخضوع والسيطرة الكاملة للطائفة التي نصبها المحتل وسلمها مقاليد الأمور تمهيدا لضم العراق إلى الدولة التي انطلقت منها تلك الطائفة مؤتمرة بأوامرها، منفذة أوامر مراجعها الصادرة من خارج العراق وداخله.
وما الفدرالية التي يطالبون بإدراجها في مسودة الدستور إلا دليل آخر على تحقيق أهداف خطيرة في المنطقة.
إن دول الخليج العربي تعلم بما يحاك ضدها وضد شعوبها، ولكنها لا زالت تلتزم الأساليب الدبلوماسية كما جرت العادة ولم تقف إلى الآن الموقف الذي يقيها ويقي شعوبها من التخطيط الطائفي الذي يستهدف فصل المنطقة الجنوبية من العراق لضمها إلى الدولة التي يدين لها، ولتضم إليها بعد التمكن من ذلك مناطق أخرى، قد تكون دولا مجاورة بأكملها.
فعلى أهل السنة من الحكام والشعوب جميعا أن ينتبهوا لذلك ويتركوا المجاملات مع من قد يبادلونهم إياها بألسنتهم ويحفرون لهم بأيديهم.
وإن على العلماء والمفكرين ورجال السياسة والإعلام أن يبرزوا للناس الحقيقة المرة التي تحيكها الطائفة المتواطئة مع المحتلين ولم تعد خافية على أحد، فقد ظهرت نذرها واضحة في اليمن، وظهر ارتباطها بمثيلاتها في دول أخرى في أكثر من بلد من دول الخليج وغيرها، وكلها مرتبطة بمركزها المعروف.
وإن السكوت على ما جرى ويجري من إحراق أهل السنة في العراق ستترتب عليه مخاطر عظيمة، على أهل السنة في غير العراق، لأن إحراق أهل السنة في العراق ما هو إلا تجربة لتطبيق إحراق بقية دول أهل السنة المجاورة.
وإن قادة أمريكا الذين تورطوا في احتلال العراق، سوف لا يخرجون منه إلا بعد أن يحققوا أهدافهم التي من أهمها القضاء على أية قوة لا تستسلم لها استسلاما كاملا، وإذا لم يتحقق لها ذلك فستتخذ كل وسيلة لإشعال الحروب في المنطقة، أو تسليمها لمن تثق في تحالفه معها تحالفا يضمن لها ما تريد، ولا ينبغي أن تخدعنا تصريحات الجانبين المتحالفين التي يدل ظاهرها على خلاف حاد بينهما فمكرهما غير مأمون، والقرائن شاهدة.
وهاهي الأصوات العراقية من غالب الطوائف الخبيرة بما يجري، تحذر من تدخل سياسي وعسكري من دولة مجاورة تدخلا سافرا.
فالسكوت على إحراق المحتلين وعملائهم المتواطئين معهم لمناطق أهل السنة، سيعقبه ما لا تحمد عقباه على الساكتين، فهل ننتظر مصير المظلومين من إخواننا السنة في العراق؟!
((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة))(/1)
إحساس الميت بزائريه
السؤال :
هل الميت يفرح بزيارة أقاربه و يتباهى بين الموتى بالزيارة ؟
الجواب :
زيارة القبور سنّة مؤكدة للرجال ، مشروعة للنساء من غير إكثار فقد روى الترمذي و النسائي و ابن ماجة عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِى زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ » . قال الترمذي حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
هذا بالنسبة للحيّ فهو يتذكّر الآخرة و يستعدّ لها كلّما زار القبور و تفكّر في حال أهلها .
أمّا الميت فالصحيح أنّه يسمع كلام زائريه ، و الأدلّة على ذلك كثيرة منها ما رواه الشيخان و أبو داود و النسائي و أحمد عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ نَبِىُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ » .
و روى الشيخان و النسائي و أحمد عَنْ أَبِى طَلْحَةَ أَنَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلاً مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِى طَوِىٍّ – و هو البئر - مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا ، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلاَّ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِىِّ ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ « يَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ ، وَيَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا » . قَالَ فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لاَ أَرْوَاحَ لَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ » .
قلتُ : المستفاد من هذين الحديثين و غيرهما هو إثبات سماع الميت كلام محدّثه ( كما في حديث أبي طلحة و قوله صلى الله عليه و سلّم لعمر ) و يحسّ بحركة مشيّعيه ( كما في حديث أنس المتقدّم ) .
أمّا ابتهاجه و مباهاته بزيارة أهله ، فقد أثبته بعض أهل العلم ، و لا أعلم فيه دليلاً صحيحاً من الكتاب و السنّة .
و من المقرّر أن أهل السنّة و الجماعة يقفون في الإيمان بالغيب عند ما أثبته الله تعالى أو رسوله ، و لا يجاوزونه أو يتكلّمون فيه بآرائهم أو عقولهم المجرّدة ، إذ إنّ الخوض في الغيبيّات ليس ممّا يسوغ فيه الاجتهاد ، بل هو من القول على الله بغير علم .
قال تعالى : ( وَ لا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ) [ الإسراء : 36 ] .
و اللهَ أسأل لي و للسائل و القراء حُسن الختام .(/1)
إحساس مؤلم أن أكون مسلما ولا اعرف قيمة الإسلام
إحساس مؤلم أن أكون مسلما ولا اعرف قيمة الإسلام
إحساس مؤلم..أن يطول البعاد مع الله سبحانه و تعالى
* إحساس مؤلم..أن يخونني لساني لحظة الموت ولا ينطق بالشهادتين
* إحساس مؤلم..ألا استطيع أن أجيب على سؤال الملكين في القبر
* إحساس مؤلم..أن يقول الله لي يوم القيامة: عبدي استهونت بلقائي؟
* إحساس مؤلم..ألا نكون من الفائزين يوم القيامة
* إحساس مؤلم..أن يقول لنا النبي يوم القيامة...
.سحقا سحقاً...
* إحساس مؤلم..أن نتكلم عن فنان بالساعات ولا نستطيع أن نتكلم عن الله وقدرته لمدة خمس دقائق
* إحساس مؤلم..أن نرى شبابنا يقلد الغرب تقليد أعمى وينسى الرسول (صلى الله عليه وسلم )
*إحساس مؤلم..أن يضيع منا وقت الصلاة
* إحساس مؤلم.. عندما نحفظ الأغاني....ولا نحفظ شيء من كتاب الله
* إحساس مؤلم..عندما يهجر القرآن و يوضع على الرفوف
* إحساس مؤلم..أن يمتلئ ميزان سيئاتي و يخف ميزان حسناتي
* إحساس مؤلم..أن ينتهي الامتحان و تسحب منى ورقة الإجابة وأنا لم اكتب فيها شيئا
* إحساس مؤلم..أن أساعد في نشر الفاحشة لتدمير شباب المسلمين
* إحساس مؤلم..أن نترك أولادنا فريسة للتليفزيون و المسلسلات و الأفلام تبث فيهم القيم الهابطة وتميع الدين في عقولهم
* إحساس مؤلم..عندما يصبح فنان أو لاعب كرة هو قدوتي ولا اعرف شيئا عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)
* إحساس مؤلم..عندما نترك أعداء الإسلام يخدعون المرأة المسلمة ويكشفون عوراتها ويغررون بها تحت مسمى التحرر ويجعلونها تكره دينها
* إحساس مؤلم..عندما نهجر سنة النبي صلى الله عليه و سلم
* إحساس مؤلم..عندما يقبل الله تعالى الكثير من عباده ويفتح لهم باب التوبة وارفض أن أرجع إلى الله
* إحساس مؤلم..أن تخلو البيوت من التدين و طاعة الله وان تمتلئ بالخلافات نتيجة للبعد عن الله
* إحساس مؤلم..ألا نربى أولادنا على الدين ونرمى بهم في جهنم ونحن لا ندري
* إحساس مؤلم..أن يضيع عمري ولا اعرف المهمة التي خلقني الله من اجلها
* إحساس مؤلم..ألا يكون هدفنا الأساسي هو إرضاء الله و دخول الجنة
* إحساس مؤلم..أن نركب القطار ولا ندرك أننا حتما سننزل منه في محطة ما
* إحساس مؤلم..ألا يكون حب الإسلام و الغيرة على الدين يجرى في دمي وفي عروقي
* إحساس مؤلم..أن يغفر الله و يرحم و يسامح و يعفو ونحن في إصرار على المعصية
* إحساس مؤلم.. أن تنتشر الرشوة و الربا الزنا وأكل المال الحرام بين المسلمين
* إحساس مؤلم..أن ترى اهلك و أصحابك في بعد عن الله ولا تنصحهم
* إحساس مؤلم..أن يموت احد والدي و هو غاضب علي
* إحساس مؤلم..أن يدخل الصالحون الجنة و يتبوؤوا أماكنهم ولا أكون معهم
* إحساس مؤلم..أن من يحافظ على دينه أصبح غريبا متطرفا.(/1)
إحسان الأم إلى أبنائها العصاة
السؤال :
أنا أم لولدين عاصيَين مقصّرين في أداء ما افترض الله عليهما من واجبات ، و هما متزوجان ويعيشان بعيداً عني ، و أحياناً يحتاجون لمساعدتي المادّية ، فتدفعني عاطفة الأمومة لمساعدتهم ، و إعطائهم ما يُفرّج كُرَبَهُم ، عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من فرَّج عن مؤمن كربةً ...) الحديث .
فهل أنا مصيبةٌ في تصرّفي هذا ، و هل ينالني أجر من فرّج عن مسلمٍ كربةً من كُرَب الدنيا ، فيفرّج الله عنّي بها كُربةً من كُرَب يوم القيامة ؟
الجواب :
استشهاد الأخت السائلة بحديث ( من فرّج عن مؤمن ... ) يؤكّد لنا بأن ما يقترفه أبناها من معاصي واقعٌ في دائرة الصغائر و الكبائر ، و ليس فيه شيئ مخرجٌ من الإيمان كالكفر الاعتقادي ( كجحود الخالق ، أو الاستخفاف بالدين ، أو إنكار معلومٍ منه بالضرورة ، أو نحو ذلك ) ، و لا الكفر العملي كترك الصلاة بالكلّية أو استحلال المحرّمات المعلومةِ الحُرمة .
و ما دام الأبناء في دائرة الإسلام فلا يَحظُر الشرع بِرّهم و الإحسان إليهم ، و العمل على تفريج كُرَبِهم ، و إن كانوا من أهل الفسوق و العصيان .
و يجب على أمّهم المداومةَ على تذكيرهم بالله ، و دعوتهم إلى التوبة النصوح ، مع ترغيبهم في الثواب و ترهيبهم من العقاب ، عملاً بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) [ التحريم : 6 ] .
و معنى هذه الآية كما في تفسير ابن جرير الطبري أي : علموا بعضكم بعضاً ما تقون به من تُعلّمُونه النار , و تدفعونها عنه إذا عمِلَ به من طاعة الله , و اعملوا بطاعة الله ... و علموا أهليكم من العمل بطاعة الله ما يقون به أنفسهم من النار .اهـ.
و عسى الله أن تعالى يجعل أمّ الشبّان المقصودين من السؤال سبباً في هدايتهم ، فيكون لها من الأجر مثل أجورهم .
روى مسلمٌ و أصحاب السنن و أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الاثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا ) .
و روى الشيخان و غيرهما عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّه سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ يقول لعليّ رضي الله عنه : ( وَ اللَّهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ) .
فإذا جاز أو استحبّ للأم مساعدة أبنائها العصاة و الإحسان إليهم ، كانت جديرة بالثواب عند الله تعالى ، فقد قال تعالى : ( إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا ) [ الكهف : 30 ] ، و قال سبحانه : ( هَلْ جَزَاءُ الاحْسَانِ إِلا الاحْسَانُ ) [ الرحمن : 60 ] .
و روى مسلم و أصحاب السنن عدا النسائي و أحمد عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّه فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ) .
هذا ، و بالله التوفيق .(/1)
إحفظ الله يحفظك [2]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فهذه تكملة لبيان حديث وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما .
فقوله " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رُفعت الأقلام وجفت الصحف" يعدُّ تعبيرًا عن قدر الله جل وعلا , وأن جميع الأشياء النافعة والضارة تجري بقدره تعالى , وأنه لايمكن أن يتم شيء بغير قدره ولو اجتمع أهل الأرض جميعا على ذلك, وذلك يُشعر الإنسان بالطمأنينة إلى واقعه الذي يعيش فيه من غنى أو فقر , وصحة أو مرض ونحو ذلك, فيجب أن يُفهم أثر الناس في حصول الأشياء على أنه سبب لظهور قدر الله سبحانه في عالم الواقع , وبالتالي فإنهم لايُحمدون على خير ولايلامون على شر إلا بمقدار كونهم سببا في ذلك, لا على أنهم هم الموجدون له .
وإذا أيقن العبد أن الله تعالى قد كتب له وعليه وهو في بطن أمه رزقه وأجله وشقي أو سعيد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ([1]) , ثم علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك , ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع : برزقه وأجله وشقي أو سعيد , ثم ينفخ فيه الروح" ([2]) إذا أيقن العبد بذلك فإنه لايطلب الرزق والهداية إلا من الله تعالى , ويعلم أنه لن يتأخر ساعة ولن يتقدم عن أجله الذي قدره الله سبحانه له .
وقوله " جفت الأقلام وطويت الصحف" تعبير بليغ عن انتهاء تقدير الأقدار منذ الأزل وأنها لن تتغير ولن تتبدل .
والإيمان بقدر الله تعالى على هذا النحو يبعث على الشجاعة والإقدام على المخاطر , لأن الذي يدفع إلى التردد والجبن هو الخوف على النفس ورجاء البقاء مدة أطول في هذه الحياة , فإذا علم الإنسان أن أجله محدد فإنه يدرك أن إقدامه على المخاطر لن يقدم من أجله وأن إحجامه عنها لن يؤخر ذلك.
كما أن الإيمان بالقدر يبعث على اليقين وذلك بعدم الحزن على ماوقع من المكروه أو فات من المحبوب , وعدم البطر و الاختيال والفخر بما وقع من المحبوب كما قال الله جل وعلا: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)(لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[الحديد :22 –23]
فقد أخبر الله سبحانه بأن جميع المصائب التي تقع في الأرض وفي أنفس الناس قد كتبها عنده في كتاب وقدرها قبل أن تقع ليكون يقين الناس بذلك دافعا لهم إلى عدم الحزن على وجود النقم وعدم الفرح بوجود النعم الذي يؤدي إلى الفخر على الناس والخيلاء .
ومما يؤدي إلى عدم الحزن على المصائب شعور المصاب بها بأن عاقبتها خير له في دينه وأخراه بما يثاب عليه من الرضا بقضاء الله تعالى وقدره والصبر على المكروه .
وقوله " تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة " قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى : يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه فقد تعرف بذلك إلى الله وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة فعرفه ربه في الشدة ورعى له تعرُّفه إليه في الرخاء فنجاه من الشدائد بهذه المعرفة , وهذه معرفة خاصة تقتضي قرب العبد من ربه ومحبته له وإجابته لدعائه , فمعرفة العبد لربه نوعان : أحدهما المعرفة العامة وهي معرفة الإقرار به والتصديق والإيمان , وهي عامة للمؤمنين , والثاني معرفة خاصة تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية والانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له , وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون .
قال : ومعرفة الله أيضًا لعبده نوعان : معرفة عامة وهي علمه تعالى بعباده واطلاعه على ما أسرُّوه وما أعلنوه , كما قال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (قـ : 16 ) وقال (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم : 32 )
والثاني معرفة خاصة وهي تقتضى محبته لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه وإنجاؤه من الشدائد .
قال : وخرَّج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء" .(/1)
قال : وخرَّج ابن أبي حاتم وغيره من رواية أبي يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن يونس عليه الصلاة والسلام لما دعا في بطن الحوت قالت الملائكة عليهم السلام: يارب هذا صوت معروف من بلاد غريبة فقال الله عز وجل : أما تعرفون ذلك ؟ قالوا : ومن هو : قال: عبدي يونس , قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يُرفع له عمل متقبَّل ودعوة مستجابة ؟ ! قال: نعم , قالوا : يارب أفلا ترحم ماكان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء ؟ قال: بلى , قال : فأمر الحوت فطرحه في العراء " .
قال : وقال الضحاك بن قيس : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة , إن يونس عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله تعالى , فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى : (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ)(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات :143 –144] - وإن فرعون كان طاغيا ناسيا لذكر الله , فلما أدركه الغرق قال: آمنت , فقال الله تعالى:(آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس : 91 ) [يونس :91] ([3]) .
قوله " واعلم أن في الصبر على ماتكره خيرا كثيرا" في هذا بيان للمقام الثاني من مقامات مواجهة الأقدار المؤلمة , وهو الصبر على البلاء , وذلك فيما إذا لم يتحقق للإنسان المقام الأول وهو الرضا بقدر الله تعالى , وهذا المقام مبني على اليقين التام بأن ماجرى هو بقدر الله سبحانه , وعلامة الرضا السرور بما جرى والفرح بما يترتب عليه من الأجر الجزيل , والرضا بقضاء الله وقدره هو الكمال, أما المقام الثاني وهو الصبر على البلاء فهو واجب على المسلم لأن عدم الصبر يعدُّ تسخطا واعتراضا على قدر الله سبحانه .
وقوله " واعلم أن النصر مع الصبر " واضح من النصوص الشرعية الكثيرة كقول الله تعالى (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) [آل عمران :120] وقوله (وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال :46] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد "واعلموا أن لكم النصر ماصبرتم" , كما هو واضح من واقع المعارك الإسلامية كبدر ومؤتة واليرموك والقادسية .
وقوله " وأن الفرج مع الكرب " يعني أن نزول الفرج من الله تعالى يكون عند اشتداد البلاء, وهذا يعطي المسلم أملاً في عدم اليأس من رحمة الله تعالى .
" وأن مع العسر يسرا " فالعسر لا يدوم على المؤمنين وإن طال فإن نهايته اليسر من الله تعالى.
----------------------------
([1] ) يعني نطفة – كما جاء في حديث شعبة – فتح الباري 11/479 - .
([2] ) صحيح البخاري , رقم 6594 , القدر ( 11/477) , صحيح مسلم , رقم 2643 , القدر(ص 2036) .
([3] ) جامع العلوم والحكم /165-166 .(/2)
إحفظ لسانك
الحمد لله الكريم الوهاب، هازم الأحزاب، ومنشئ السحاب، ومنزل الكتاب، ومسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب، الواحد الأحد، العزيز الماجد، المتفرد بالتوحيد والتمجيد، ليس له مثل ولا نديد، هو المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، جل عن اتخاذ الصاحبة والولد، ولم يكن له كفوًا أحد، لم يزل حكيمًا قديرًا عليمًا خبيرًا، ولا يعزب عنه مثقال ذرة سبحانه وبحمده، خلق الأشياء بقدرته، ودبرها بمشيئته، وقهرها بجبروته، وذللها بعزته، فذلت له الرقاب، وحارت في ملكوته فطن ذوي الألباب، وقامت بكلمته السماوات السبع والأرض المهاد، وثبتت الجبال الرواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في جو السماء السحاب، وقامت البحار، وهو الله الواحد القهار، مغشي الليل النهار، خضع لعظمته المتعززون المتكبرون، وخشع له المترفعون، واستكان لربوبيته المتعظمون، ودان طوعًا وكرًها له الخلق أجمعون، نحمده على حَزَن الأمر وسهله، ونحمده كما حمد نفسه وكما حمده الحامدون من جميع خلقه، ونستعينه استعانة من فوَّض أمره إليه، وأقر أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، نستغفره استغفار مقرٍّ بذنبه، معترف بخطيئته، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. شهادة عبده، وابن عبده، وابن أَمَته، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته؛ إقرارًا بوحدانيته، وإخلاصَا لربوبيته، فهو العالم بما تبطنه الضمائر، وما تنطوي عليه السرائر، وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شئ عنده بمقدار. وأشهد أن محمدًا عبده ونبيه ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، أشرف من وطئ الحصى بنعله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، وجاهد في الله حق الجهاد، وقاتل أهل البغي والزيغ والعناد والفساد؛ حتى تمت كلمة الله، وقطع دابر الفساد، صلوات الله عليه وسلامه- من قائد إلى الهدى- وعلى آل بيته الطاهرين، وعلى أصحابه المنتخبين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، ومن سار على نهجهم واقتدى بهديهم من الفقهاء والزهاد والدعاة العاملين المشمرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا آمين آمين.
إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله، صلى الله وسلم عليه وآله ومن والاه. ) { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتنَّ إلا و أنتم مسلمون) } [ آل عمران: 102 ]. ) يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) } [ النساء: 1 ].
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً?[الأحزاب:70-71]
أما بعد: فالله تعالى أمركم ـ أيها المؤمنون ـ بتقواه وأن تقولوا قولاً سديداً مستقيماً عدلاً ووعدكم على ذلك إصلاح أعمالكم ومغفرة ذنوبكم.
أيها المؤمنون، إن اللسان من نعم الله الجليلة، ولطائف صنعه البديعة، به تتكلمون وتنطقون وعما في قلوبكم وأنفسكم تعربون. به يعبر الإنسان عن بغيته ويُفصح عن مشاعره، به يطلب حاجته ويدافع عن نفسه، ويعبر عن مكنون فؤاده، يحادث جليسه ويآنس رفيقه فإنه لا تعب في إطلاقه ولا مشقة في تحريكه، له في الخير مجال رحب كالذكر والشكر والكلمة الطيبة وقراءة القرآن وغير ذلك الكثير.
فإن لسان المرء مفتاح قلبه إذا هو أبدى ما يقول من الفم
وقد امتن الله به عليكم لتشكروه وتعبدوه قال تعالى: ?أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ? وقال سبحانه: ?الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علمه البيان?. فبه يتمايز الكفر من الإيمان، ويفترق أولياء الرحمن عن أولياء الشيطان؛ به يبلغ العبد وارف الجنان وبه يهوي في دركات النيران؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب". وفي رواية البخاري: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات في الجنة وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في نار جهنم". وروى الإمام أحمد والترمذي عن بلال بن الحارث رضي الله عنه قال:
قال رسول الله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه".(/1)
ولذلك كان علقمة رحمه الله وهو أحد رواة هذا الحديث يقول: "كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث". فكان يمتنع عن كثير من الكلام حتى لا يسجل عليه قول أو ترصد عليه كلمة من اللغو الذي لا فائدة فيه: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون [المؤمنون:1-3].
ويقول الله عز وجل: إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:17-18].
في هذه الآية تذكير للمؤمنين برقابة الله عز وجل التي لا تتركه لحظة من اللحظات، ولا تغفل عنه في حال من الأحوال، فيما يصدر عنه من أقوال، وما يخرج من فمه من كلمات؛ كل قول محسوب له أو عليه، وكل كلمة مرصودة في سجل أعماله: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:17-18]. يسجله الملكان في الدنيا ويوم القيامة ينكشف الحساب ويكون الجزاء.
فاتقوا الله عباد الله واحذروا ألسنتكم فإنها من أعظم ما يوقعكم في أسباب الهلاك واحفظوها فإن حفظها من أسباب الفوز والنجاة فقد تكفل صلى الله عليه وسلم لمن حفظ لسانه أو صان منطقه بالجنة دار السلام؛ ففي الصحيح من حديث سهل بن سعد قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من يضمن لي مابين لحييه ومابين رجليه أضمن له الجنة". متفق عليه. وفي الترمذي أن معاذاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الجنة، ويباعده عن النار فأخبره صلى الله عليه وسلم ببعض أبواب الخير وصنوف البر ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله". قال معاذ: بلى يا رسول الله؛ فأخذ بلسان نفسه وقال: "كف عليك هذا". فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال: "ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم".
فاتقوا الله عباد الله واحفظوا ألسنتكم عن كل ما يغضب الله ويسخطه وقيدوها بلجام الشرع فإن حفظ اللسان وصيانته من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"، متفق عليه.
وقد أحسن من قال في التحذير من آفات اللسان:
اِحفَظ لسانَكَ أيُّها الإنسانُ *** لا يَلدغَنَّكَ إنَّه ثُعبانُ
كم في المقابِرِ من لديغِ لِسانِه *** كانت تهابُ نِزالَهُ الشُجعانُ
ولكن تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته والحذر من مصا ئده، وأصبح آلة الشيطان في استغواء الإنسان، إذا تُرك له العنان يصول ويجول، يتحدث عن فلان ويغتاب فلان، يستهزئ بهذا ويشتم هذا. وقلة هم الذين أمسكا بعنانه، ووقفوا به عن مالا يعنيهم.
وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل بها من الطاعات.
وقد أحسن الإمام الشافعي، رحمه الله، حين قال:
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى *** ودينك موفور وعرضك صيّن
لسانك لا تذكر به عورة امرئ *** فكلّك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً *** فدعها وقل : يا عين للناس أعينُ
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى *** وفارق ولكن بالتي هي أحسنُ
** آفات اللسان كثيرة متنوعة، ولها في القلب حلاوة ولها بواعث من الطبع، ولا نجاة من خطرها إلا بالصمت أو التحرز من الكلام، ومنها: الكلام فيما لا يعني، الفحش والسب واللعن، السخرية والاستهزاء، كثرة المزاح، إفشاء السر وإخلاف الوعد والكذب، الغيبة، والنميمة، وغيرها من الآفات التي حذر الله – جل و علا- منها و أخبر أنها من الأعمال التي تحصى على ابن آدم ويحاسب عليها. والكلام أسيرك فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"، وحتى فضول الكلام الذي دون الضرر فإنه حسرات يوم القيامة، قال بعض السلف: يُعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات.
عبّر تعالى عن أهمية الكلمة وعظيم أثرها واستمرار نتاجها الطيب في قوله عزَّ وجلّ: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبةً كشجرةٍ طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكُلُها كلّ حين بإذن ربِّها، ومثل كلمةٍ خبيثةٍ كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار).
فالكلمة سكين ذو حدَّين:
إذا كانت حسنة وهادفة تنطلق من إرادة واعية ونية خير للبشر، فهي تصنع الحضارة والرقي وتبني المجتمع وتوجِّه الناس نحو الخير والبناء والصلاح.
(وهدوا إلى الطيِّب من القول وهدوا إلى صراط الحميد) الحج/24.
وإذا كانت سيئة تنطلق من إرادة العبث واللهو وعدم تحمُّل المسؤولية، فهي تقضي على كل صلاح وخير، وتهدم ما تبقى من سلامة في نفوس البشر وتعيث الفساد في ربوع البلاد وبين العباد.(/2)
ومن هنا أيها الأخوة كان حرياً بالمسلم أن يضبط لسانه، ويسائل نفسه قبل أن يتحدث عن جدوى الحديث وفائدته؟ فإن كان خيراً تكلم وإلا سكت والسكوت في هذه الحالة عبادة يؤجر عليها، وصدق رسول الله إذ يقول: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم.
واللسان هو ترجمان القلب، وقد كلفنا الله عز وجل أن نحافظ على استقامة قلوبنا واستقامة القلب مرتبطة باستقامة اللسان، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه".
وروى الترمذي عن رسول الله قال: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا".
إن كثيراً من الأمراض التي تصيب العلاقات الاجتماعية من غيبة، ونميمة، وسب، وشتم، وقذف، وخصام، وكذب، وزور وغيرها … فللسان فيها أكبر النصيب، وإذا سمح الإنسان للسانه أن يلغو في هذه الأعراض وغيرها كان عرضة للنهاية التعيسة وإلافلاس في الآخرة، وشتان بين إفلاس الدنيا وإفلاس الآخرة.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: المفلس من أمتي من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار"
وبالمقابل أيها الأخوة فإن ضبط المؤمن للسانه ومحافظته عليه وسيلة لضمان الجنة بإذن الله، وهذا وعد رسول الله: "من يضمن لى ما بين لحييه (يعني لسانه) وما بين رجليه (يعني فرجه) أضمن له الجنة" أخرجه البخاري.
لقد كان خوف السلف من آفات اللسان عظيماً. فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (وما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان ). وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعلت أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تكلم به.
وقال عمر رضي الله عنه: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بلسانه ويقول: ويحك قل خيرا تغنم، واسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم.
فاتقوا الله عباد الله واضبطوا ألسنتكم، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تتلفظوا، فما كان خيراً فتكلموا به، وما كان سوءاً فدعوه، واحذروا من آفات اللسان فإنها لا تزال بالمرء حتى تهلكه.
إن آفات اللسان كثيرة ومتنوعة، منها بذاءة في الألفاظ وفحش فى الكلام، و سب ولعن وشتم بأساليب عديدة، تجري على الألسنة بسهولة ويسر، ودون تفكير في العاقبة، ولا تطيب المجالس عند البعض، ولا يحلو الحديث إلا بهذه الأساليب الساقطة التي تناقض الحياء الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، والانكى من ذلك والاشد أن بعض النفوس استمرأته، ويرون أنه من باب المزاح والتسلية وقضاء الأوقات وتحلية المجالس، وما علم هؤلاء أنهم وقعوا بذلك في الفسق وأضاعوا أوقاتهم، وحملوا أنفسهم الأوزار.
يقول رسول الله: "سباب المسلم فسوق". رواه البخاري ومسلم.
وفي حديث البيهقي: "إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس يهوى به أبعد ما بين السماء وإلارض، وإن المرء ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه".
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "إياكم والفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش".
ويقول فيما روى الترمذي: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء".
فاتقوا الله أيها المسلمون وراقبوا أقوالكم وأعمالكم ولا تدعوا للشيطان عليكم سبيلاً: وقل لعبادى يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً [الإسراء:53].
إن آفات اللسان عديدة وكثيرة، ويمكن القول أنها لا تحصى، فهي بعدد كلمات الإنسان.
وكل كلمة سيئة فهي آفة، فيصبح معيار سعادة الإنسان أو شقائه هو ما يجري على لسانه.
إن ما يقع على اللسان من ألم وعذاب وعقاب أكثر مما تتعرض له باقي الجوارح، كما قال صلى الله عليه وسلم: "يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذّب به شيئاً من الجوارح فيقول: يا ربّ عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئاً؟ فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفك الدم الحرام، وانتهب المال الحرام، وانتهك بها الفرج الحرام، وعزتي وجلالي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئاً من الجوارح".
ولما كانت هذه الآفات كثيرة إلى حد لا يمكن تقصيها سنقف على بعضها مما يشكل أساس مساوى ء اللسان والمخل بقاعدة "القول السديد".
1- الغيبة:
الغيبة وما أدراك ما الغيبة؟ فاكهةُ كثيراً من المجالس الا ما رحم ربك؛ ما سلم منها الا من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى: الغيبة عرْفها أهل العلم بأنها ذكر العيب بظهر الغيب.(/3)
إن الناظر في حال أكثر الناس اليوم لاسيما أوقات الفراغ وإلاجتماعات يرى أمراً عجباً، وخطباً جللاً، يرى الناس، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، شبابهم وشيبهم، قد أطلقوا ألسنتهم، وتساهلوا في الاحتراز عن آفاتها وغوائلها يرى خوضاً في الباطل، وتحدثاً بالمعاصي، وترويجاً للمنكرات، يرى جهراً بالسوء من القول، فيرى الكذب والغيبة والنميمة، ويرى شهادة الزور والفاحش من القول يرى السب واللعن يرى اللغو والتشاغل بما يضر ولا يفيد كأننا لم نسمع قول الله تعالى: ?مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ? وكأن الله تعالى لم يقل: ? سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا?.
عباد الله هذه آفات خطيرة وأمراض فتاكة تورط فيها كثيرٌ من الناس إلا أن أخطرها جرماً وأكثرها انتشاراً وأصعبها علاجاً ذلك الداء الدوي الذي يهدم المجتمع ويفكك بنيانه ويقوض عرا التواصل فيه ويقصم أواصر الحب وإلاخاء فيوغر الصدور ويشحن النفوس ويفسد المودة ويبذر بذور العداء، ذلك الخلق المنحرف الدنيء الذي يبث الضغائن ويربي الأحقاد ويشيع الفاحشة والفساد بين المؤمنين أتدرون ما هي تلك الآفة وماهو ذلك البلاء أيها الإخوان؟
إنها الغيبة التي نطق القرآن العظيم بقبحها وتحريمها قال الله تعالى: ?وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ? وقد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً وحذر منها تحذيراً عظيماً فقال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم، وروى أحمد وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا استطالة المرء في عرض الرجل المسلم) والحديث لا بأس به.
أيها المؤمنون إن الغيبة جرمٌ كبير استهان به أكثر الناس وإنها من أربى الربا وأعظم الفجور.
أيها المؤمنون، إن الله تعالى أعد للوالغين في أعراض المسلمين عذاباً شديداً ونكالاً عظيماً ففي مسند الإمام أحمد بسند جيد عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل! فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" فاتقوا الله عباد الله فإن الغيبة كبيرة من كبائر الذنوب وعظائم الآثام. أيها المؤمنون، احفظوا ألسنتكم من الغيبة ومن كل آفة مهلكة فكم من إنسان جرد لسانه مقراضاً للأعراض بكلمات تنضح فحشاً وقبحاً وألفاظ تنهش الأعراض نهشاً إسراف في قبيح القول وسيئه تجن على العباد وانتهاك لحرماتهم همز ولمز حط وتنقيص فهذا طويل، وذاك قصير، وهذا أحمق، وذاك غبي وهذا كذا وهذا كذا. ففي المجلس الواحد تسمع من الوقيعة في الخلق والغيبة للناس ما يقلق النفس السوية، ويفسد الطوية، ويعكر القلب السليم، ويؤذي عباد الله المؤمنين فإنا لله وإنا إليه راجعون.
استهتار بالخلق واستخفاف بالحرمات سفه في العقل وضلال في الدين فإن الكلمة الواحدة من الغيبة لو مزجت أي خلطت بماء البحر لمزجته أي لغيرت لونه فما بالكم بالمجالس الطوال والكلمات العراض التي يتفوه بها هؤلاء ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا تعني أنها قصيرة فقال: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته).
فاحذروا أيها المؤمنون، احذروا هذه المجالس فإنها مجالس شر وبلاء تؤكل فيها لحوم المؤمنين وتنتهك فيها حرماتهم وتهدر أعراضهم فهي من أسباب العطب وموارد الهلاك.
والواجب على من جلس في هذه المجالس الإنكار على أهلها فإن في ذلك خيراً عظيماً، فيه القيام بما أوجب الله تعالى من إنكار المنكر حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) وفيه الذب عن أعراض المسلمين وفي ذلك عظيم الأجر وجزيل العطاء ففي المسند قال صلى الله عليه وسلم: (من ذب عن عرض أخيه بالغيبة – أي في غيبته– كان حقاً على الله أن يعتقه من النار)فاتقوا الله أيها المؤمنون وذبوا عن أعراض إخوانكم مروا المغتاب المتهوك بالمعروف وانهوه عن المنكر فإن لم تستطيعوا الإنكار عليه فلا يجوز لكم البقاء معه وهو على هذه الحال من أكل لحوم المسلمين فقوموا عنه حتى يخوض في حديث غيره.
اتقوا الله عباد الله وذروا ظاهر الإثم وباطنه، ذروا الغيبة والسيئ من القول ـ أيها المؤمنون ـ فإنه مما يحبط الحسنات ويذهب المروءات ويولج العبد الدركات.
أيها المؤمنون: إن الغيبة التي نهى الله ورسوله عنها ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عنها فقال: ( ذكرك أخاك بما يكره) فهذا ميزان قسط؛ وضابط عدل لتمييز الغيبة عن غيرها فكل من ذكر غيره بما يكرهه في غيبته فقد وقع في الغيبة لا محالة.
ومن المعروف أن الحيوان الوحيد الذي يأكل لحم أخيه ميتا هو الكلب.(/4)
إذا أردت أن تُدْرك قبح الغيبة فقدر أن الذي أغتيب هو أنت؟ أترضى أن يقع الناس في عرضك فتكون حديث المجالس كان نبينا صلى الله عليه وسلم يحذر من الغيبة قال جابر: كنا مع النبيصلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح منتنة قال صلى الله عليه وسلم أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين رواه الامام احمد في مسنده الغيبة سلعة رائجة فأن لله وإن اليه راجعون؛ الزوجة تغتاب زوجها والزوج يغتابها؛ والطالب يغتاب معلمه والموظف يغتاب رئيسه ورفقائه في العمل والقريب قد آذى قريبه؛ وحدث ولا حرج كغيبة الجار لجاره والأجير لرب العمل.
كان السلف يعدون ترك الغيبة من صالح الأعمال؛ قال وهيب أبن الوردي: والله لترك الغيبة عندي أحب الي من التصدق بجبل من ذهب؛ وقال عمر عليكم بذكر الله فأنه شفاء؛ وإياكم وذكر الناس فأنه داء؛ قال الحسن البصري يا أبن أدم إنك لن تصيب حقيقة الايمان حتى لاتعيب الناس بعيب هو فيك؛ كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتلاقون بالبُشْر ولايغتابون عند الغيبة ويرون ذلك أفضل الاعمال؛ ويرون خلافه عادة المنافقين؛ قال بعضهم أدْركنا السلف وهم لايرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض المؤمنين؛: كان سلفنا الصالح أهل التقى والورع يُبغِضون الغيبة ويذمون أهلها أشد الذم؛ سمع علي بن الحسين رجلا يغتاب آخر فقال له إياك والغيبة فأنها إدام كلاب الناس؛ وقال أبو عوف دخلت علىمحمد ابن سيرين رحمه الله فنلت من عرض الحجاج ابن يوسف عنده وكان الحجاج حاكماً ظالماً فقال لي محمد ابن سيرين يا أبا عوف إن الله حكم عدل فكما ينقم من الحجاج كذلك ينتقم للحجاج؛: غيبة الناس والوقوع في أعراضهم تسلطهم على حسناتك في يوم الدين.؟ كان الحسن البصري رحمه الله إذا بلغه أن أحداً إغتابه يرسل اليه بهدية ويقول له على لسان الرسول بلغني يا أُخي أنك أهديت الي حسناتك وهي يقيناً أعظم من هديتي هذه: قال أبو أمامة إن العبدليعطى كتابه يوم القيامة فيرى فيه حسنات لم يعملها؛ فيقول يارب أنا لي بهذا فيقول له هذا بما أغتابك الناس وأنت لا تشعر؛ كان عبد الله ابن المبارك رحمه الله يقول لو كُنْتُ مغتاباً أحداً لاغتبت والدي لانهما أحق بحسناتي من غيرهما؛ قال سعيد ابن جبير رحمه الله إن العبد ليعمل الحسنات الكثيرة فلا يراها في صحائفه فيقول يا رب أين حسناتى فيقال له ذهبت بأغتيابك الناس وهم لايعلمون (من عمل صالحا فلنفسه ومن اساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد )؛ وفي الصحيحين أن رجل قال في مالك أبن الدخشم ذاك منافق لايحب الله ورسوله فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال لاتقل ذلك الا تراه قد قال لا اله الا الله يريد بذلك وجه الله؛ وفيهما أن رجل قال في كعب أبن مالك حبسه برداه ونظره في عطفيه؛ فرد عليه معاذ بن جبل رضي الله عنه وقال بئس ما قلت؛ والله يارسول الله ما علمنا عليه الا خيرا: وإياكح والاصغاء الي الغيبة على سبيل التعجب؛ فأنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها؛ وأحياناً يقول لمن يغتاب الناس عنده أسكت وهو راغب في سماع تلك الغيبة ومائل اليها قلبه: يقول نبينا صلى الله عليه وسلم لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ! تأمل أخي في قول مالك أبن دينار رحمه الله ثم أستمع لأحاديث المجالس: قال رحمه الله كفى بالمرء إثماً الايكون صالحاً ثم يجلس في المجالس ويقع في أعراض الصالحين؟ نرى بعض الناس سلم منه أهل الفجور والفسق ولم يسلم منه أخوانه الصالحون؛ يتتبع زلاتهم ويفرح بعثراتهم إذا أراد أن تتجه اليه الأنظار أو أن يرفع نفسه في مجلس ما لم يجد سبيلاً الا الوقوع في أعراض الصالحين يغتاب العلماء والقضاة والدعاة الي منهج السلف وإلائمة والمؤذنين والقراء ويغتاب ولاة الأمر ليرفع نفسه؛ وللنفس في ذلك حظ؛ فكأنه يقول إن خطء هؤلاء يبرر أخطائي ويعفيني من المحاسبة على ذنوبي وإجرامي ونسي أن أوليك الابرار إن أخطائوا فخطائهم عن إجتهاد وهم مأجورون؛ فكيف يساوي بهم المصر على الذنب والفجور ليله ونهاره؟(/5)
فيامن لايخلو مجلس له من غيبة و وقوع في أعراض المؤمنين؛ إتقِ الله جل وعلا وأعلم أنك ناقص القدر عند الله وعند الناس؛ إن كنت تطلب بالغيبة رضا جلسائك فأعلم أن من طلب رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس فأشتغل بعيوب نفسك عن عيوب الناس؛ كل نفس بما كسبت رهينة؛ اترضى أن يفوز الناس بحسناتك وأجورك وتبوى أنت بالأثم وهم بما نالوه من قِبلك فرحون فأى صفقة أخسر من هذه إذا كنت تغتاب أهل الفضل والسنة لترفع من شأنك فبئس ما صنعت والله ثم والله ليفضحنك الله على روؤس الأشهاد؛ يقول الله سبحانه وتعالى كما في الحديث القدسي من عادى لي ولياً فقد أذنته بالحرب؛ أين هم الذين اغتابوا وتكلموا في الإمام أحمد إمام أهل السنة؛ وشيخ الاسلام ابن تيمية؛ وابن القيم؛ وإلامام المجدد ابن عبد الوهاب؛ وابن باز والعثيمين وغيرهما من أهل العلم والفضل؛ أين أولئك الذين اغتابوهم فضحهم الله جل وعلا على روؤس الأشهاد وأنجى عباده المؤمنين وخلصهم؛ أيها العبد المُفرط أياك وسوء الظن بأخوانك وإذا أطلعت على هفوة مسلم فانصحه في السر ولا تفضحه لا يخدعنك الشيطان بغيبة ذلك المسيء وإذا ما وعظته فلاء تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه لينظر اليك بعين التعظيم وتنظر اليه بعين الاحتقار؛ ولكن عظ أخاك وقصدك الإحسان اليه وقد أصابك الحزن لما وقع منه من خطء وإجرام تقصد تخليصه من نار جهنم؛ عظهُ وأنت مشفق عليه محب له لاترضى لنفسك بغيبته.
صُوَرٍ مستثناةٍ
أيها المؤمنون، إن الغيبة محرمة بالكتاب والسنة وإجماع أهل العلم وحكى الإجماعَ على تحريمها أئمّة أعلام كابن حزم والنووي وابن حجر والغزالي والقرطبي و غيرهم، ولم يرخّصوا في شيءٍ منها سوى ستّة صُوَرٍ مستثناةٍ من التحريم للحاجة إليها في جلب المصالح و درء المفاسد، و قد أحسَن من نظَمَها في قوله:
القدْحُ ليس بغيبة في ستة *** متظلمٍ ومعرف ومحذر
ومجاهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومن *** طلب الإعانة في إزالة مُنكرٍ
فمن ذلك المظلوم فإن له أن يتظلم بذكر من ظلمه واغتيابه عند من له قدرة على إنصافه وإحقاق حقه، ومن الصور النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم كذكر أهل الفسق والشر والكفر والبدع ليحذر المسلمون من فسقهم وشرهم أو ليأخذوا على أيديهم ويمنعوهم من الإفساد.
من الأمور التي لاتدخل في الغيبة المحرمة بل هي من النصيحة ذكر أهل الاهواء والفتنة وبيان مخالفاتهم وتحذير أهل الايمان منهم فليس ذا من الغيبة المحرمة: ها هو نبينا صلى الله عليه وسلم يذكر المسيح الدجال ويبين فتنته ومخرجه وما معه من الأمور العظام ثم يوصي أهل الأسلام بالبعد عنه وعدم مصاحبته ومن سمعه فلينأ عنه وليهرب بدينه فهل هذا ياعباد الله من الغيبة: وها هو رجل يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إذنوا له بئس أخو العشيرة؛ فهل هذا من الغيبة أيضاً: ولما قال ذو الخويصرة يا محمد إعدل فأنك لم تعدل قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق هذا الرجل يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وقراتكم عند قراتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فهل هذا من الغيبة: أم من النصيحة؟ فرق معاشر المؤمنين بين الغيبة والنصيحة إنما يعرف ذلك أهل العلم قال رجل للإمام أحمد وقد سمعه يقع في رجل ويحذر منه وكان أحمد شديدا في ذلك فقد قال في حق الكرابيسي؛ هتكه الله الخبيث؛ فقال ذلك الرجل للامام أحمد: لاتغتب المسلمين؛ فقال الامام أحمد: ياهذا إنما نحن نغتاب للمسلمين؛ ولما وقع قتادة وكان من أئمة السلف لما وقع وتكلم في عمرو بن عبيد المبتدع وحذر منه قال عاصم الأحول العلماء يقع بعضهم في بعض فقال له قتادة يا أحول وما تدري أن الرجل إذا أحدث ينبغي أن يذكر ليحذر والذي يقول لاتذكروا أهل الاهواء والفتنة ويحتج بأنها غيبة هو أحد رجلين إما جاهل حقه أن يأخذ سبورة ويجالس علماء السنة والتوحيد: وإما أنه رجل سيء القصد يميل اليهم أو هو منهم كما قال عقبة أبن علقمة كنت عند أرطاه أبن المنذري فسئل عن الرجل يماشي أهل السنة فاذا ذُكِرَ أهل الاهواء قال دعونا منهم لاتذكروهم فقال أرطاه أبن المنذري: هو منهم لايلبس عليكم أمره قال فتعجبت من ذلك وذهبت الي الأوزاعي وكان كشافاً عن هذه الامور إذا بلغته فسالته فقال صدق أرطاه القول ما قال:هذا ينهى عن ذكرهم متى يعُلموا ومتى يُحذروا إذا لم يبين ذكرهم وقيل للامام أحمدلما تكلم في أُناس وحذر منهم قيل له ياأمام أحمد أما تخشى أن تكون هذه غيبة قال إذا سكتُ أنا وسكتَ أنت؛ فمتى يعلم الناس الصحيح من السقيم: فأنتبهوا بارك الله فيكم من تحايل أهلِ الاهواء والبدع ولايستغل هذا الامر وهو تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الغيبة فأنه كما حذر منها؟ حذر من أهل الأهواء والفتن بأعيانهم وأوصافهم والله الموفق والهادي الي سوى السبيل.(/6)
*على المسلم أن يتقي الله تعالى العلي الكبير حق تقواه فيما يأتي ويذر وعلى المؤمن أن يتحقق من المصلحة في الكلام عن الغير وأن يتيقن أن هذا المتكلم فيه ممن تجوز غيبته فإن اشتبه عليه الأمر فالسلامة لا يعدلها شيء ولان تخطئ بالسكوت والعفو خير من أن تخطئ في الغيبة والعقوبة وإلأصل أن أخاك المسلم محفوظ الغيبة مصون العرض.
أيها المؤمنون، إن على العبد المؤمن أن لا يلج في الكلام عن الغير إلا على بصيرة وأن يقصد بكلامه النصح لله ورسوله وللمسلمين قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لابد له ـ أي لمن يتكلم في غيره بما يكره في غيبته ـ من حسن النية فلو تكلم بحق لقصد العلو في الأرض والفساد كان بمنزلة من يقاتل حمية ورياء، وإن تكلم لأجل الله تعالى مخلصاً له الدين كان من المجاهدين في سبيل الله من ورثة الأنبياء خلفاء الرسل".
أيها المؤمنون، إن الغيبة تعظم بحسب حال المغتاب فليست غيبة عامة الناس ودهمائهم كغيبة أهل العلم والتقى والصلاح قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ولذلك تغلظت الغيبة بحسب حال المؤمن فكلما كان أعظم إيماناً كان اغتيابه أشد ".
فاتقوا الله أيها المؤمنون واحفظوا ألسنتكم وصونوها فإنه من ترك لسانه مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار، فكم هم الذين تكلموا في أول الأمر بحق وهدى ثم استزلهم الشيطان فولغوا في أعراض إخوانهم زيغاً وهوى.
كما ينبغي للمؤمن أن لا يتعرض لغيبة أحد مطلقاً لأن هذا يعني انصرافه عن عيوب نفسه بحسب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امريءً انشغل بعيوبه عن عيوب الناس".
وليعلَم أنّ للتوبة من ذنبٍ كهذا لا بدّ من توفّر شروط التوبة العامّة الثلاثة، و هي:
1. الإقلاع عن الذنب.
2. الندم على ما فات من فعله.
3. العزم على عدم العودة إليه مستقبلاً.
و يضاف إلى هذه الشروط أن يتحلّل ممّن أساء إليه.
وعلى التائب منها أن يراعي المصلحة و المفسدة قبل أن يعتذر ممّن أساء إليهم، فإن لم تكن الغيبة قد بَلَغت المغتاب فالأولى عدم طلب السماح منه، والاكتفاء بالرجوع عن الغيبة أمام من سمعها، و تبرئة ساحة من طالته بالرجوع عنها، والتعريف بمحاسنه والثناء عليه بما فيه.
أمّا إذا كانت الغيبة قد بلغت المقصود بها، فإن غَلَب على ظنّ الواقع في الغيبة أنّ من سيعتذر منهم يقبلون اعتذاره بادرهم به، و إن رأى أنّ إصلاح ذات البين يمكن تحقيقها بالتلطّف و تقديم الهدايا إليهم فعَل، ودَرَءَ سيئاته بحسنات مثلها أو أكبر منها.
وإن غلَب على ظنّه أن اعتذاره لن يُجديَ معهم نفعاً، أو أنّه قد يؤدي إلى زيادة الفرقة و الضغينة في النفوس، فليلجأ إلى الإحسان إليهم بالدعاء، و ذكر محاسنهم، و الكفّ عمّا يسوؤهم أو يسيء إليهم، لعلّ الله يلهم الصفح، و يقيل عثرةَ صاحبهم فيغفر له، وهو أهل التقوى و أهل المغفرة.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الحجرات: ( قال الجمهور من العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يُقلع عن ذلك، و يعزم على أن لا يعود، و هل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نزاع، و أن يتحلل من الذي اغتابه.
و قال آخرون: لا يُشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربّما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذاً أن يُثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، و أن يرد عنه الغيبة بحسبه و طاقته لتكون تلك بتلك ).
2. النميمة، وهي كالغيبة في التحريم بالنصّ و الإجماع. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنّة نمّام". و في رواية: ( قتات)، والمعنى واحد، و قيل [ كما في فتح الباري ]: الفرق بين القتات و النمام أن النمام الذي يحضر فينقلها والقتات الذي يتسمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل ما سمعه.
والنميمة من الأسباب الموجبة لعذاب القبر، ففي المتفق عليه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال :" أما إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله".
3. تتبّع زلاّت العلماء، والتذرّع بها إلى الطعن في بعضهم، و النيل من آخرين، واتّخاذُهم عَرَضاً، بدعوى أنّ ذلك من النصيحة لله ولرسوله، ومن الذبّ عن شريعته الغراء المطهّرة.
رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: ( ويلٌ للأتباع من عثرات العالِم ). قيل: و كيف ذاك؟ قال: ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات، للشاطبي: 3 / 318 و الفتاوى الكبرى، لابن تيميّة: 6 / 96 ]. و عنه رضي الله عنه، أنّه قال: ( ويلٌ للعالم من الأتباع )؛ أي لما يتابعونه فيه و يتناقلونه عنه من الزلات.
فليتّق الله أقوام مثلهم كمَثَل الذباب لا يقعون إلا على الجِراح كما جاء في وصف شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله بعضَ من عاشوا في زمنه.(/7)
يا ناطحَ الجبلِ العالي لتَكْلِمَهُ *** أشفِق على الرأسِ لا تُشفِق على الجَبَلِ
4. السب وبذاءة اللسان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذئ) وقد عرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: انه لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صاخباً في الاسواق ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح والفحش هو التعبير عن الامور المستقبحة بالعبارات الصريحة اما السب فاخبثه واكفره (سب الدين) وهو ردة باجماع المسلمين وبه يحبط العمل والعياذ بالله قال تعالى: (ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا وإلاخرة واعد لهم عذابا مهينا) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
5. اللعن ـ واللعن عبارة عن الدعاء بالطرد وإلابعاد من الله تعالى وذلك غير جائز الا على من اتصف بصفة تبعده من الله وهو الكفر والظلم بأن يقول لعنة الله على الظالمين وعلى الكافرين وكل شخص ثبتت لعنته شرعا كقولك (فرعون لعنة الله) ابو جهل لعنه الله لانه ثبت ان هؤلاء ما توا على الشرك والكفر ولا يجوز ان يرمى مسلم بفسق او كفر من غير تحقيق.
6. السخرية:
وهي الاستهزاء بالآخرين وذكرهم بما يحقّرهم ويستهين بهم بقول أو إشارة أو فعل بحيث يؤدي للضحك عليهم وإلاهانة لهم، وهذا الأمر إنما يصدر من أهل الغفلة وناقصي العقول لأن الله تعالى يقول: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم".
7. التنابز بالألقاب:
وهو خطاب الآخرين بأسماء يكرهونها لأنها تشعرهم بالذم وقد جاء في ذلك: "ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان".
8. اللغو:
وهو الكلام الذي لا فائدة منه مطلقاً حيث لا يفيد في دنيا ولا آخرة، والإنسان ينبغي أن يكون مترفعاً عن سفاسف الأمور، والله يقول في محكم كتابه: "قد أفلح المؤمنون.. والذين هم عن اللغو معرضون". فينبغي على العاقل الا يتكلم فيما لا يعنيه بل يجب عليه ان يكثر من تسبيح الله تعالى وذكره قال صلى الله عليه وسلم: من حسن اسلام المرء تركه مالا يعنيه وقال عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه (ان من اكثر الموت وذكره رضى من الدنيا باليسير ـ ومن عد كلامه من عمله قل كلامه لا فيما يعنيه)
قال تعالى (لاخير في كثير من نجواهم الا من أمر بصدقه او معروف او اصلاح بين الناس).
وقال الربيع بن خيثم رحمه الله يقول (لا خير في الكلام الا في تسع) 1- تهليل 2- تكبير 3- وتسبيح 4- وتحميد 5- وسؤالك من الخير 6- وتعوذك من الشر 7- وامرك بالمعروف 8- ونهيك عن المنكر 9- وقراءتك للقرآن.
9. شهادة الزور:
فالزور تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، وهو يشمل الكذب وكل لهو باطل كالغناء والفحش، ومن صفات المؤمنين أنهم: "والذين لا يشهدون الزور".
10. المراء والجدل ـ وهذه آفة المجالس، ولايكاد مجلس يسلم منها والمراء هو كل اعتراض على كلام الغير باظهار خلل فيه في اللفظ أو في المعنى والجدال هو قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وان كان محقا وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وان كان مازحا وببيت في اعلى الجنة لمن حسن خلقه ).
11. الخصومة: فهي توغر الصدر وتهيج الغضب وتورث العداوة ومنها ينشأ الحقد والغل والحسد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أبغض الرجال الى الله الألد الخصم) وقال بعضهم اياك والخصومة فانها تمحق الدين
12. التشدق في الكلام وتكلف الفصاحة وهذا من التصنع المذموم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هلك المتنطعون) قالها ثلاثا والمتنطعون هم المبالغون في الأمور والمجاوزن الحدود في اقوالهم وافعالهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان من شرار امتي الذين غذو بالنعيم الذين يطلبون الوان الطعام والوان الثياب ويتشدقون بالكلام.
ولا يدخل في هذه الافة تحسين الفاظ الخطابة والتذكر من غير افراط واغراب فان المقصود منها تحريك القلوب وتشويقها وقبضتها وبسطتها فلرشاقة اللفظ تأثير.
13. الغناء والشعر المذموم قال صلى الله عليه وسلم: (ان من الشعر لحكمة).
فالمحمود الذى يدعو الى مكرمة ويشد العزائم لمقاتلة الكفار ويدعو الى العودة الى الله شريطة ان يخلو من الاختلاط ولا يصدر من امرأة ولا يصاحبه آلات موسيقية. أما المذموم فهو الذى يدعو الى رذيلة ويثير الغرائز الكامنة ويصاحبه اختلاط وتبرج وغير ذلك فقائله آثم والمستمع شريك المتكلم
14. المزاح كذبا
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول الا حقا فيجب عدم الافراط في المزاح قال صلى الله عليه وسلم (لا تكثر الضحك فان كثرة الضحك تميت القلب).(/8)
15. الاسترسال في القيل والقال، وبَسطِ الكلام، وإرسال المقال، وهذه آفةٌ مُوبِقةٌ، حذَّر منها صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
** فضائل اللسان:
كما سبق القول أن آفات اللسان لا تحصى كذلك فإن فضائل اللسان ومحاسنه لا حصر لها عند أهل الفضل وإلايمان، ولعل كل كلمة تصدر منهم هي فضيلة وكل مقولة حسنة وكرامة،
1- الصدق:
وهو من الصفات الخالصة للإنسان المؤمن كما أنَّه من صفات الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم: "هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله".
يقول عزَّ وجلّ: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين".
2- القول الحسن:
وهو من وصايا الله تعالى للمؤمنين؛ إذ يقول: "وقلْ لعبادي يقولوا التي هي أحسن".
وهو القول المتأدب الجميل الخالي من الخشونة والشتم وسوء الأمر، والكلام بهذه الصفة يقع في قلوب الآخرين فيترك آثاراً حسنة تعود بالخير على كِلاَ الطرفين حتى أن الله أوصى موسى وهارون أن يأتيا جباراً مثل فرعون: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى".
وبهذا المقام يرتفع الإنسان من مقام السوء والمبادلة بالمثل: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً"، أي ردُّوا رداً سالماً من الإثم أو الشتم ولم ينحدروا إلى مقام المسيئين، وهذا مقام لا يناله إلاّ من أخلصه الله لنفسه،
"وما يلقاها إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلاّ ذو حظٍ عظيم".
3- خفض الصوت:
إن للحديث آداباً منها خفض الصوت، والكلام دون جدال وصخب وصياح، مما يقلل من شأن المتحدث ويسلب منه الوقار والحياء، لذلك كانت وصية لقمان لابنه في جملة مواعظه له: "واغضض من صوتك".
خصوصاً في حال النقاش والحوار لإثبات الحجج فإن الله يوجِّه عبده في كيفية المناقشة بقوله: "وجادلهم بالتي هي أحسن". ومن جملة معاني "التي هي أحسن" أن يتكلم بصوت هاديء ومنخفض بشكل يعكس الثقة بالنفس والتمكن من الفكرة.
* اجتمع قيس بن ساعدة وأكثم بن صيفي، فقال أحدهما لصاحبه:
كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟
فقال: هي أكثر من أن تُحْصَى، وقد وجدت خصلة إن استعملها الإنسان سترت العيوب كلها.
قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان.
وقيل: ما ندمت على ما لم أقل مرة، وندمت على ما قلت مراراً.
و: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر مني على ردِّ ما قلت.
و:ما لم أتكلم بكلمة ملكتها، فإذا تكلمت بها ملكتني.
و: العجب ممن يتكلم بكلمة إن رُفعت ضرت، وإن لم تُرفع لم تنفع.
** إخوتي.. تداركوا أنفسكم قبل أن تفاجئوا يوم القيامة بذنوب كالجبال من آفات وسقطات اللسان.. يتعلق بك من بهته و يمسك بك من اغتبته.. ويقبض على رقبتك من استهزأت به.. حديثك تنساه بمجرد إطلاق الكلمة و انتهاء المجلس.. و لكنه محصىً عليك قال تعالى:" أحصاه الله و نسوه" موقوف أنت حتى يقتص منك.. يؤخذ من حسناتك لهم فإن فنيت.. أُخذ من سيئاتهم فحطت عليك..؟! مصيبة أن تفجع في ذلك اليوم بمثل هذا و أنت أحوج ما تكون للحسنة الواحدة..
** النجاة في الصمت
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال: (قال رسوال الله صلى الله عليه وسلم (من صمت نجا) رواه الترمذي.
اخي المسلم ـ اختي المسلمة: هذه وصية عظيمة وهى قليلة المبنى كثيرة المعنى واعلم اخي المسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان افصح الناس واعذبهم كلاما واسرعهم اداء واحلاهم منطقا حتى ان كلامه ليأخذ بمجامح القلوب ويسبي الارواح ويشهد له بذلك اعداؤه ـ وكان صلى الله عليه وسلم اذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين تقول السيدة عائشة رضى الله عنها (ماكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ولكن كان يتكلم بكلام بين مفصل يحفظه من جلس اليه) وكان كثيرا ما يعيد الكلام ثلاثا ليعقل عنه وكان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة ويتكلم بجوامع الكلم فصل لافضول فيه ولاتقصير وكان لايتكلم فيما لا يعنيه وكان لايتكلم الا فيما يرجو ثوابه، ووصية اليوم التي نتحدث عنها تعتبر من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فلقد كان من هديه كما ذكرنا سابقا طويل السكوت لا يتكلم في غير في حاجة وها هو يوصينا فيقول: (من صمت نجا) فاعلم اخي المسلم: اللسان يعد اخطر عضو في الانسان قال عنه الامام الغزالي رحمه الله تعالى (صغير حجمه عظيم طاعته وجرمه)
فمن كل ما سبق ذكره يتضح لنا ان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم علاج لهذه الآفة الا وهو (من صمت نجا) ـ فليت كل مسلم ومسلمة قبل ان ينطق بالكلمة يفكر فيها وفى عاقبتها ويتقى الله في هذه النعمة لان اللسان نعمة بدل ان اسخرها في معصية اجعلها طاعة لله رب العالمين فلنكثر من الذكر وقراءة القرآن الكريم وإلاستغفار والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/9)
و المرءُ – يا عبادَ اللهِ - بأصغَرَيه: قلبِهِ و لسانِه [ كما قال عمرو بن معد يكرُب ] و على صلاحهما و فسادهما يكون صلاح الإنسان أو فساده
إذا تبيّن عِظَم الداء فلا بدّ من التماس الدواء، و دواء من ابتليَ بشيءٍ من آفات اللسان أن يبادر إلى الإقلاع و التوبة إلى الله تعالى قبل أن لا يكون درهم و لا دينار.
فلنبادر يا عباد الله إلى التوبّة، إذ كلُّنا خطّاء، و خير الخطّائين التوّابون.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وألسنتنا من الكذب والفحش يارب العالمين.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.(/10)
إخبار الخاطب بمرض المخطوبة
السؤال :
أنا فتاة مريضة بالسكر فهل أخبر من يريدون خطبتي بالمرض قبل الخطوبة ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إذا كان المرض الذي تعاني منه المخطوبّة مستفحلاً فتاكاً يُخشى أن يعيقها أو يودي بحياتها ، أو تترتّب على كتمانها مفسدة كبيرة كتشوّه الأبناء و نحو ذلك ؛ فالواجب عليها أو على وليّها إخطار الخاطب بالأمر ، لأنّ في كتمانه تغرير و غش ، و قد روى مسلم و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ . أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّى » و في رواية : « فَلَيْسَ مِنِّا » .
أمّا إن كان المرض ممّا يظهر عادةً كحبّ الشباب و السمنة ، أو ممّا عمّت به البلوى في العصر الحديث كاليسير من مَرض السكّري أو ارتفاع ضغط الدم و ما إلى ذلك فلا أرى موجباً لإعلام الخاطب أو غيره به .
و الله أعلم .(/1)
إخراج زكاة الفطر نقداً
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ فقه المناسبات/شوال
التاريخ ... 28/09/1425هـ
السؤال
هل يجوز إخراج زكاة الفطر نقداً بدلاً من الطعام ، وذلك لحاجة الناس الآن إلى النقد أكثر من الطعام ؟
الجواب
إخراج القيمة في زكاة الفطر اختلف فيها العلماء على قولين :
الأول : المنع من ذلك . قال به الأئمة الثلاثة مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وقال به الظاهرية أيضاً ، واستدلوا بحديث عبد الله بن عمر في الصحيحين " فرض رسول الله زكاة الفطر صاعاً من تمر ، أو صاعاً من بر ، أو صاعاً من شعير ،(وفي رواية أو صاعاً من أقط)، على الصغير والكبير من المسلمين . ووجه استدلالهم من الحديث : لو كانت القيمة يجوز إخراجها في زكاة الفطر لذكرها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأيضاً نص في الحديث الآخر " أغنوهم في هذا اليوم"، وقالوا: غنى الفقراء في هذا اليوم يوم العيد يكون فيما يأكلون حتى لا يضطروا لسؤال الناس الطعام يوم العيد .
والقول الثاني : يجوز إخراج القيمة ( نقوداً أو غيرها ) في زكاة الفطر ، قال به الإمام أبو حنيفة وأصحابه ، وقال به من التابعين سفيان الثوري ، والحسن البصري ، والخليفة عمر ابن عبد العزيز ، وروي عن بعض الصحابة كمعاوية بن أبي سفيان ، حيث قال : " إني لأرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر " ، وقال الحسن البصري : " لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر " ، وكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله في البصرة : أن يأخذ من أهل الديون من أعطياتهم من كل إنسان نصف درهم ، وذكر ابن المنذر في كتابه (الأوسط) : إن الصحابة أجازوا إخراج نصف صاع من القمح ؛ لأنهم رأوه معادلاً في القيمة للصاع من التمر ، أو الشعير .
ومما سبق يتبين أن الخلاف قديم وفي الأمر سعة ، فإخراج أحد الأصناف المذكورة في الحديث يكون في حال ما إذا كان الفقير يسد حاجته الطعام في ذلك اليوم يوم العيد ، وإخراج القيمة يجوز في حال ما إذا كانت النقود أنفع للفقير كما هو الحال في معظم بلدان العالم اليوم ، ولعل حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " أغنوهم في هذا اليوم" ، يؤيد هذا القول ؛ لأن حاجة الفقير الآن لا تقتصر على الطعام فقط ، بل تتعداه إلى اللباس ونحوه .. ، ولعل العلة في تعيين الأصناف المذكورة في الحديث ، هي: الحاجة إلى الطعام والشراب وندرة النقود في ذلك العصر ،حيث كانت أغلب مبايعاتهم بالمقايضة، وإذا كان الأمر كذلك فإن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، فيجوز إخراج النقود في زكاة الفطر للحاجة القائمة والملموسة للفقير اليوم . والله أعلم .(/1)
إخلاص ساعة نجاة الأبد
رضوان سلمان حمدان
E-mail: radwan_hamdan@yahoo.com
قال الغزالي رحمه الله "فلذلك قيل: من سلم له من عمره لحظة خالصة لوجه الله نجا, وذلك لعزة الإخلاص وعسر تنقية القلب عن الشوائب"
إن الأمة المسلمة لا تخلو من الخير فهي أمة الخير إلى يوم الدين وما يصيبها اليوم إنما هو مرض لا تلبث أن تتعافى منه بالرجوع إلى صيدلية الإسلام, ومن أنجع الدواء اليوم "الإخلاص" في النية والقول والعمل....
اهتم الإسلام بعمل الباطن (القلب) اهتماما كبيراً وبنى عليه عمل الجوارح (الظاهر) فلا يصلح الظاهر إلا بصلاح الباطن, وأهم أعمال الباطن "الإخلاص" والذي هو شرط لقبول الأعمال الصالحة عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال سمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه : (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
رواه مسلم
ودليل إرادة التوحيد أن الله تعالى ذكر بعد الأمر بالعبادة إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهي من أعمال الجوارح ومن أهم أعمال الجوارح , أفردتا لبيان أهميتهما أولا , ولتكونا نموذجين ومثلين لأعمال الجوارح الظاهرة ؛ فالصلاة عبادة البدن والزكاة عبادة المال وباقي أعمال الإسلام إما بدنية وإما مالية وإما تجمع بينهما , فكانت الصلاة والزكاة نموذجين تامين لباقي الأعمال.
إن الله تعالى عندما يذكر العبادة ويأمر بها يقرنها بالاسم العَلَم على الذات الإلهية " الله " الاسم الجامع لكل أسماء الله وصفاته ولم يذكر تعالى اسما آخر مع العبادة والأمر بها.
يقول تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}النساء36{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ}الزمر2{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي}الزمر14
ولا تجد في القرآن الأمر بعبادة الرحمن أو الملك أو القدوس... الخ.
فاسم "الله" دالٌ بذاته على التوحيد {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}مريم65
إن الدعوة إلى التوحيد مقترنة بالإخلاص فلم يأمر تعالى أن نخلص في توحيدنا له سبحانه بمعنى لم يقل وما أمروا إلا ليعبدوا الله ويخلصوا بل جاء الإخلاص بصيغة "التلبُّس" بمعنى لا توحيد بلا إخلاص فإذا لم يكونوا مخلصين فهم غير موحدين.
وهذا هو الأساس الذي يبنى عليه الدين كله ,{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }التوبة109
وكل بناء لا يقوم على قواعد سليمة ومتينة لا يوشك حتى ينهار ويسقط ولن يصمد أمام أبسط الهزات والحركات, {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }الحج11
وكان هذا هو السر في أن جعل الإخلاص مع التوحيد في هذه الآية ولم يجعله مع إقام الصلاة وإيتاء الزكاة , لأن متانة البنيان بمتانة قواعده والعكس صحيح. هنا يكون الدين القائم الثابت الراسخ المعتدل المستقيم , إن علماءنا الأجلاء أدركوا هذا الأمر واعتنوا به عناية فائقة فكانوا يصدرون به أعمالهم , فالبخاري رحمه الله يبدأ جامعه الصحيح بالحديث الجليل الصحيح الذي رواه عن عمر بن الخطاب , قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). رواه البخاري
ونلحظ هنا تصدر الحديث ب"إنما" التي هي "أداة حصر تفيد هنا تقوية الحكم المذكور بعدها. و "أل" في الأعمال للاستغراق فالسياق يؤكد شمول الأعمال التي تتوقف على المقاصد والنيات صحة وكمالاً" منهل الواردين شرح رياض الصالحين د. صبحي الصالح.(/1)
ثم أليس في الفاتحة التي هي مفتتح القرآن الكريم افتتاح بالإخلاص "فالحمد لله" فيها الإخلاص لله وحده و "إياك نعبد وإياك نستعين" فيها الإخلاص لله وحده, ومعنى الإخلاص هنا واضح بيِّن.
ومن ذكر وإرادة الإخلاص بصور مختلفة في القرآن الكريم قوله تعالى:"في سبيل الله" فهي تعني الإخلاص يقول تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }البقرة261
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }البقرة190
ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }آل عمران29{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }الأنعام162
ومثل ذلك كثير...
*جوائز المخلصين في الدنيا والآخرة:
1- {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }البقرة261 "وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ" يقول ابن كثير: أي بحسب إخلاصه في عمله .
"فرُب عمل صغير تعظمه النية ورُب عمل كبير تصغره النية" كما قال ابن المبارك رحمه الله تعالى.
2- وجائزة ثانية للمخلصين أن الإخلاص يحفظ القلب نقياً طاهراً نظيفاً لا يغل ولا يحقد ولا يخون. عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يحدث عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة أئمة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن الدعوة تحيط من ورائهم).
3- مصعب بن سعد عن أبيه : (أنه ظن أن له فضلا على من دونه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).
4- إن الله ينجي عبده من الشدائد والآفات المهلكة. عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا فناء بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزىء بي فقلت إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون). رواه البخاري(/2)
5- إن المخلص يرفع الله درجاته ويزداد رفعة: عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي قال لا فقلت بالشطر فقال لا ثم قال الثلث والثلث كبير أو كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك فقلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي قال إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة ثم لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة). رواه البخاري
6- من يتخلف عن العمل الصالح لعدم قدرته واستطاعته فهو شريك للعاملين في الأجر. عن أبي سفيان عن جابر قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض). رواه مسلم
7- ويكفي جائزة الفوز بالجنة عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا من الأنصار أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله). رواه البخاري
* كيف نحقق الإخلاص؟:
1- أول أمر يعين العبد على الإخلاص تعظيم الله رب العالمين في النفس, فإذا علم العبد أن الله تعالى يعلم سره وجهره وأنه تعالى معه أينما كان وانه يراه في كل حركة وسكنة عندئذ يخلص العمل لله وحده فمن يخدع الناس لا يستطيع خداع رب الناس. {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }غافر19.{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ* إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }الشعراء218-220
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }المجادلة7
والآيات في ذلك كثيرة...
2- أن يحرص العبد على رضا الله وحده دون النظر إلى مدح الناس أو ذمهم
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أرضى الله بسخط الناس، كفاه الله، ومن أسخط الله برضا الناس، وكله الله إلى الناس) صحيح ابن حبان.
3- أن يحرص العبد على إخفاء العمل عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا حتى لا يدخل شيء في نفسه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل ذكر الله في خلاء ففاضت عيناه ورجل قلبه معلق في المسجد ورجلان تحابا في الله ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها قال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه).البخاري
4- أن يتوجه العبد إلى الله سبحانه بأن يرزقه الإخلاص ويستعين به وحده على ذلك,وصدق الشاعر:
إذا لم يكن عون من الله للفتى........ فأول ما يجني عليه اجتهاده
5- كثرة الدعاء فإن الدعاء ينشئ في النفس الحب والتذلل والخضوع والقنوت لله رب العالمين {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }الأعراف55
* مهما أخفى المرائي رياءه ونفاقه فإن الله سيكشفه بأن يخطئ ويزل لسانه ويقوم بأعمال تكشف حقيقته {وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ }محمد30
فمهما أخفى عيبته سيُفضح حتماًكما قال الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ...... وإن خالها تخفى على الناس
*على العبد أن يعلم أن الناس جميعا يُبعثون يوم القيامة على نياتهم, عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم قالت قلت يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم قال يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم). رواه البخاري
فاحرص أخي المسلم أن تقوم يوم القيامة كما وصف الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}القيامة22-23
وإياك أن تكون ممن وصف تعالى بقوله:{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ*تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}عبس40-41
*إن للإخلاص آثار يلمسها المسلم في نفسه وعمله:(/3)
فالإخلاص يدعو العبد إلى الإحسان في العمل, عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) مسند عائشة
إن الإخلاص يجعل العبد يهتم بنوع العمل لا بشكله أو حجمه, عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). رواه مسلم
الله تعالى يبارك العمل القليل الدائم بإخلاص ولا ينظر إلى العمل الخالي من الإخلاص مهما بلغت كثرته,{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً }الفرقان23.
أسأل الله العظيم أن يرزقنا الإخلاص وأن يثيبنا عليه.(/4)
إدارة الثقافة
د. عبد الكريم بكار 28/2/1426
07/04/2005
لو عدنا إلى أدبيّاتنا عبر القرون الماضية لوجدنا أن معظم تنظيرنا للشؤون الثقافية كان ينصبّ عليها بوصفها علوماً واختصاصات معرفيّة منظمة.
وربما سادت تلك النظرة بسبب قلة ما في أيدينا من المعارف والمعطيات المتعلقة بالإنسان باعتباره كائناً متعدّد الجوانب ومتعدّد الاحتياجات.
أما اليوم فإن المفهوم (الأنثروبولوجي) للثقافة آخذ في الانتشار والرسوخ؛ حيث إن هناك اعتقاداً متزايداً بمحدوديّة تأثير (العلم المجرّد) في صياغة السلوك الإنساني، وفي توجيه حركة الحياة اليومية. الثقافة كما بلورها علماء الإنسان هي ذلك النسيج المكون من العقائد والمفاهيم والنظم والعادات والتقاليد وطُرُز الحياة السائدة في بقعة محدّدة من الأرض. إنها طريقة عيش شعب بعينه، أو هي ما يجعل الحياة جديرة بالعيش، وكثير من مكونات الثقافة يستعصي على التخطيط والتنظيم؛ لأنها تشكل الخلفيّة (اللاواعية) لكل تخطيط وتنظيم. إن تنوع العناصر المكونة للثقافة يمنحها قوة هائلة في مواجهة الوافدات الأجنبيّة، وما يمكن أن تتعرض لها من ضغوطات داخليّة. إنه حين يتعرض أحد أنساق الثقافة للهجوم أو الهون، فإنها تعتمد في استمرارها واستعادة حيويّتها على باقي أنساقها، لكن نقطة قوة الثقافة هذه هي أيضاً نقطة ضعفها؛ حيث يعرّضها تنوّع مكوّناتها في أحيان كثيرة إلى ما يشبه الانقسام على الذات بسبب التصادم بين بعض أنساقها؛ وهذا ما يجعلنا في حاجة إلى ما سميناه (إدارة الثقافة).
أودّ هنا أن أدلي بالملاحظتين الآتيتين في هذه القضية:
1- في كل مجتمع نوعان من الثقافة: ثقافة عليا، وثقافة شعبيّة أو ثقافة نخبة وثقافة جماهيريّة. الثقافة العليا تتكون بطريقة واعية وتكون أكثر دراية ببنيتها العميقة، وذلك لأننا نتملكها عن طريق القراءة والتأمل والحوار الرفيع والمقارنة وطرح الأسئلة.. أما الثقافة الشعبيّة فإنها ليست كذلك، إنها تتكون بطريقة غير واعية وغير مقصودة، حيث يتشربها أبناء المجتمع ويتشبعون بها كما يتنفسون الهواء. ونقطة ضعفها هذه هي نقطة قوتها؛ حيث إن اختراقها من قبل الثقافات الأجنبية يكون عسيراً بسبب عشوائيّتها وكتامتها ورقابة المجتمع المشدّدة عليها. أما الثقافة العليا والتي نبدأ بنشرها منذ الصف الأول الابتدائي إلى ما لا نهاية. هذه الثقافة هي التي تمثل الأمة أمام الأمم الأخرى، وهذا ما يجعلها على درجة حسنة من المرونة والقدرة على التكيف وتمثل الرموز الثقافية الأجنبية، أي أن كثيراً من الاقتباس والتطوير يأتي عن طريقها. تنظيمها وتمثيلها الخارجي لثقافة الأمة يعرّضها لأمرين مزعجين:
الأول:سهولة اختراقها؛ حيث إن طريقة اكتسابها الواعية تفتح الطريق لغزوها وبالتالي تحويرها وتهجينها.
الثاني:جفول الوعي الشعبي من أصحابها والشعور بأنهم يتجاوزون حدودهم إلى درجة يسوغ معها اتهامهم بخيانة الأمة وبيعها للغرباء. ومع أن شيئاً من هذا ينطبق فعلاً على بعض المثقفين إلا أن المشكلة أن الثقافة الشعبيّة لا تملك المعايير المنهجيّة، ولا الأسس المنطقيّة التي تمكنها من الحكم الراشد على تصرفات النخبة، مما يجعل موقفها شاعرياً أكثر من أن يكون عقلانياً. وهي بدافع من الخوف من الانقطاع تلجأ في كسب قضيتها إلى التيارات النخبويّة الأكثر محافظة وتقليديّة لتقدم لها العون في كبح اندفاع التيارات المتحرّرة والمتطلعة إلى التحديث. وهذا يجعل من الثقافة الشعبيّة عاملاً مهماً في زيادة الانقسام بين تيارات الثقافة العليا.
يمكن القول: إن تطوير الثقافة الشعبيّة وتخليصها من العادات والسلوكات الخاطئة يقع على عاتق الصفوة أصحاب الثقافة العليا، لكن من الصعب أن يحصلوا على الاستجابة لمناشداتهم وطروحاتهم ما داموا موضع شك وريبة من أولئك الذين يحتاجون لخدماتهم.(/1)
في العالم الإسلامي قامت الثقافات الوطنية والمحلية منذ أمد بعيد بإفراغ طاقاتها على الحضّ والكفّ في الثقافة الإسلاميّة المستندة إلى الكتاب والسنة، واجتهادات الفقهاء، وصار من غير الممكن المضي قدماً في تطوير أيّ شأن محلي بعيداً عن مدلولات هذه الثقافة ورمزيّاتها وتحديداتها. وهذا يعني أن ثقافة النخبة لا تستطيع أن تصبح قوة محرّكة للناس ما لم تتشرب روح الدين، وما لم تلتزم بقطعياته وأُطُره العامة. إننا في مرحلة حرجة يحتاج فيها كل من يروم الإصلاح إلى ولاء الناس وحماستهم وتضحياتهم؛ لأن المفكر لا يملك أكثر من ناصية التنظير، والجماهير التي ستتحمل عبء التنفيذ؛ ولهذا فلا بدّ من الاستحواذ على رضاها وإعجابها. وستكون النخبة في وهم كبير إذا ظنّت أنها تستطيع إحداث تغييرات كبرى من غير مساندة حقيقية من طيف واسع من أبناء الأمة. وقد أثبتت التجارب الكثيرة الإسلاميّة وغير الإسلاميّة أن كل حمل يتم خارج رحم الأمة هو أشبه بالحمل الكاذب. وحين يجافي أهل الرؤية والخبرة روح الدين فإنهم يسلمون زمام الأمة إلى عناصر تملك الكثير من الحماسة والاندفاع والقليل من البصيرة والفهم لمتطلبات المرحلة.
إن طاقة ثقافة الأمة تكمن في المستوى الشعبي منها، على حين أن عقلها ورشدها في المستوى الصفوي. وهذا التفاوت هو دائماً مصدر للتوتر والنزاع، لكن في الوقت ذاته يمكن أن يكون مصدراً للتطوير نحو الأحسن والأقوم إذا أدرنا العلاقة بينهما بما هو مطلوب من الذكاء والوعي.
2- إن تنوع الأنساق المكونة للثقافة يحيل دائماً على إمكانية حدوث الصدام والنزاع، كما هو الشأن في التنوّع والتعدّد. ويبدو أن أشد أنواع التوتر تلك التي تقع بين الثقافة بوصفها (هُوِيّة) وسمات خاصة بالأمة، وبين الثقافة بوصفها تعبيرات عن نَزَعات استهلاكية أو تعبيرات عن تحرّكات لتلبية حاجات الجسد، أو تعبيرات عن التكيف مع ظروف ومعطيات شديدة القسوة. وكلّما أوغل الناس في مدارج الحضارة اشتد أُوار الصراع بين هذين النسقين من أنساق الثقافة؛ ذلك لأن ثقافة الهُويّة تتسم بالتعالي عن الانشغال بالواقع، وتنزع نحو المطلق. على حين أن التحضر يزيد وعي الناس نحو مصالحهم، ويفتح شهيّتهم على الاستهلاك، مما يفضي في نهاية المطاف إلى تضخم الثقافة المتعلّقة بتسيير الحياة اليومية وتحقيق المنافع الشخصية، وهذا يجعل الناس يشعرون ويظهرون بأنهم أكثر دنيويّة، وهو ما يثير حساسيّة الترميزات العميقة للهُويّة في الثقافة الإسلاميّة.
من الواضح اليوم أن ثقافة ما بعد الحداثة تشجع على انبعاث الهُويّات في كل أنحاء العالم من خلال عمل غير مقصود، وهو المناداة بالنسبيّة الثقافيّة والتأكيد على انعدام الأطر والمرجعيّات، وجعل الحقيقة شيئاً تابعاً للثقافة. وتكمّل العولمة المهمة حين نعتمد نظام التجارة أداة أساسية في تسليع كثير من مظاهر الحياة، وجعلها أموراً جاهزة للمتاجرة والمساومة. إن هذا الدفق الهائل من الرموز والصور الاستهلاكيّة يساعد -على نحو استثنائي- على انتشار الهُويّات المقاتلة دفاعاً عن الوجود، وقد لا يكون أمامنا لإدارة الصراع المحتدم في عمق الثقافة على هذا الصعيد إلا أن ندعم الأنشطة الروحيّة والأدبيّة والاجتماعيّة ذات النفع العام، وأن نحاول إضفاء المعنى على الأنشطة الدنيويّة من خلال الحرص على شرعيتها، وشرح ما يمكن أن يجعلها موصولة بالأعمال الأخرويّة. وما لم نفعل ذلك فإننا سنعاني من الانقسام والتمزق في أعماق ثقافتنا، وسنشعر بالكثير من تشتت الجذور وضياع الأهداف الكبرى(/2)
إدارة الفكر
د. محمد بن سعود البشر 10/3/1426
19/04/2005
المتأمل في موروثنا الفكري والثقافي والعلمي يجد ثراء يدعو للفخر والاعتزاز بما أنتجه العقل العربي المسلم في فروع المعرفة كافة، فلا يكاد فرع من فروع المعرفة أو العلوم يخلو من اسم عربي مسلم أبدع وتفوق وساهم في صناعة الحضارة الإنسانية الحقيقية، إن لم يكن له فضل السبق في وضع قواعد ومبادئ كثير من العلوم والمعارف التي قامت عليها الحضارة الغربية المعاصرة، وفي هذا السياق تبرز أسماء كثيرة من الأعلام العرب والمسلمين، مثل ابن سينا، وجابر بن حيان، وابن النفيس، وابن الهيثم، والرازي، وابن رشد، ولا تنتهي قائمة هؤلاء الأعلام حتى عصرنا هذا.. رغم كل ما تمر به أمتنا العربية والإسلامية من انكسارات وما تعيشه من ضعف وتقهقر.. تتضح شواهده على أصعدة كثيرة.
لكن.. كيف يكون لنا هذا الميراث الفكريّ الضخم، والذي لم ينقطع حتى الآن، ولا نصعد إلى مرتبة أعلى في ركب الحضارة وقائمة الأمم المتقدمة؟
إن الإجابة عن هذا السؤال المنطقي تكمن في أننا لا نجيد إدارة أو توظيف ما تنتجه عقول أمتنا من فكر وعلم وإبداع، ونفتقد القدرة على التعامل بروح الفريق أو الاستفادة من تراكم المعارف والعلوم التي نبغ فيها أسلافنا، والدليل على هذا أن أرفف مكتباتنا ومراكز بحوثنا تزدحم بمئات بل آلاف الدراسات والأبحاث العلمية التي تقدم حلولاً لكثير من مشاكل مجتمعنا، ولا يستفاد منها لعدة أسباب:
أولها: إن أصحاب هذه الدراسات أرادوا بها الترقي أو الحصول على درجة علمية بدرجة أكبر من الإسهام في خدمة بلادهم، فغلب على إنتاجهم النظرية البحتة والتي تفتقد إلى الآليات العملية للاستفادة منه.
وثانيها: إن كثيراً من مجتمعاتنا تتوهم أن الفكر غاية في ذاته، وليس وسيلة لصناعة التطوّر والتقدّم، وعلاج قضايا المجتمع، لذا نجد أن الاحتفاء بالفكر والمفكرين لا يصل أبداً إلى دعم منتجهم الفكري ليصبح اختراعاً علمياً أو عملاً إبداعياً، أو فكرياً أو مشروعاً اقتصادياً يستفيد منه أبناء الأمة.. هذا إذا لم يُمارس على الفكر والمفكرين نوعٌ من الوصاية المقيّدة للحرية في إعمال العقل. كما هو حادث في كثير من البلدان العربية والإسلامية، وهي الوصاية والقيود التي دفعت بالعقول العربية المفكرة إلى الفرار للخارج بحثاً عن مناخ أفضل، ويُضاف لذلك أننا نفتقد لمؤسسات إدارة الفكر التي تمتلك القدرة على الاستفادة من المنتج الفكري على الرغم من الاهتمام الملحوظ بعلوم الإدارة أو الفكر الإداري في كثير من بلادنا في الآونة الأخيرة.. وغياب مثل هذه المؤسسات يجعل من المنتج الفكري مجرّد بضاعة تعاني الكساد.
إن إدارة الفكر وتوظيفه لخدمة المجتمع تفوق كثيراً قدرة المفكر أو العالم أو الباحث الفرديّة مهما اجتهد في ذلك، وهو الأمر الذي تنبه إليه الغرب، فأنشأ المؤسّسات التي تتولى هذه المسؤولية، والتي يجتمع فيها العلماء في تخصّص ما، أو الباحثون المهتمون بمجال بعينه، فظهرت جمعيات أو هيئات شديدة التخصص في مجالات المعرفة المختلفة، ومن خلال دعم الدول لهذه الكيانات، سواء بالدعم المباشر من قبل الحكومات، أو ما تقدمه لها مؤسسات القطاع الخاص، من دعم وتمويل مقابل الاستفادة مما تنتجه عقول أعضائها من أفكار واختراعات وإبداعات.
أما في بلادنا، فإن هذه الكيانات – إن وجدت- فإنها تعاني من ضعف مصادر التمويل، وجهل كثير من مؤسسات القطاع الخاص، بل والحكومي بأهمية دورها، لذا ظلت هذه الكيانات مجرد مكاتب، وتحوّل المفكر داخلها إلى مجرد موظف يمارس أعمالاً بينها وبين الواقع مسافات شاسعة.. ليتراجع الفكر والمفكر إلى هامش المجتمع بدلاً من أن يكون في الطليعة قائداً في اتجاه النهضة والتقدم.
وخلاصة القول: إنه إذا أردنا أن يقود الفكر الحراك الاجتماعي ويوجهه الوجهة الأمثل، فلا بد أن نتجاوز العشوائية في إدارة المنتج العقلي، وأن نعلم أنه إذا كانت الإدارة هي رأس الحربة وحجر الزاوية لنجاح أي عمل، فإن إدارة الفكر هي محرك القاطرة.(/1)
إدارة المرأة للرجال
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ فقه الأسرة/ قضايا المرأة /عمل المرأة
التاريخ ... 19/07/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يوجد لدينا مدرسة إسلامية في أحد المساجد، قام الإمام المسؤول عن المسجد، والمركز الإسلامي بتعيين إحدى الأخوات كمديرة للمدرسة, علماً أن هنالك معلمين ومعلمات، رجالاً و نساء في المدرسة, قام بعض الإخوة الكرام بتبليغ إدارة المدرسة بأن ذلك لا يجوز شرعاً، ولقد وافقت الأخت التي قد عينت كمديرة للمدرسة أن تترك الوظيفة إذا تم إثبات أن هذا لا يصح شرعاً بفتوى شرعية، ما حكم تعيين المرأة كمديرة للمدرسة؟ وما حكم المدرسين الذين يعملون تحت المديرة إذا بقي الوضع على حاله؟ وهل يوجد دليل من القرآن أو السنة؟ أفيدونا،وجزاكم الله خيراً.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
المرأة في الإسلام شقيقة الرجل، وعامة التكاليف والأحكام الشرعية هي والرجل سواء، إلا ما دل الدليل على اختصاصها به، فكل خطاب في القرآن أو السنة بيا أيها الناس، أو يا أيها الذين آمنوا، فالمرأة مخاطبة به تماماً كالرجل، إلا ما اقتضته الفطرة بالتمييز بينها وبينه، وقد ورد عن أم سلمة – رضي الله عنها- سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: "أيها الناس"، وكانت في شغل فتركته وأسرعت ملبية للنداء، فاستغرب من كان عندها، فقالت لهم: أنا من الناس، والمرأة عليها مسؤولية في تقويم المجتمع وإصلاحه عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الاستطاعة قال تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"
[التوبة:71]، فالرجل والمرأة في دين الإسلام هما سواء في الولاية بعضهم على بعض إلا ما خصه الدليل، وما قد يتمسّك به بعض الناس في منع ولاية المرأة عن الرجل قوله تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا"[النساء: 34] فالقوامة في الآية معللة بعلتين، الأولى تفضيل جنس الرجال على جنس النساء أي دون تخصيص رجل معين، على امرأة بعينها، والثانية كون الرجل هو المطالب بالنفقة على المرأة، كما في قوله تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة"[البقرة: 228] فالدرجة إذاً إحدى علتي القوامة، وهي النفقة، وأيضاً قد يتمسك أولئك بالحديث الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم- "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخاري(4425)، والمراد به الولاية العامة للدولة أي لا تكون رئيسة ولا ملكة، ولا أميرة للمؤمنين، وهذا ما يفيده لفظ (أمرهم) في الحديث، أما ولاية بعض النساء على بعض الرجال فليس هناك نصوص شرعية من القرآن أو السنة تمنع منها، بل أجاز بعض العلماء -كأبي حنيفة وابن جرير الطبري وابن حزم-، أن تتولى المرأة القضاء في الفصل بين الناس في غير الحدود والقصاص، والقضاء أشبه بالولاية العامة، وعليه فلا بأس أن تتولى المرأة إدارة المدرسة في مركزكم الإسلامي، وعليها أن تلتزم بالحجاب الشرعي وعدم الخلوة بأحد من الرجال الأجانب، وأن تحسن الخطاب وتأمر بالخير، وتنهي عن الشر، ولا تخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وهذا الجواب إذا لم يترتب على تعيين هذه المرأة مديرة المدرسة شقاق ونزاع يلزم منه الفرقة والخلاف، فإن لزم حصول هذا تعين اختيار الرجل لإدارة المدرسة؛ ليزول به الشقاق والنزاع. والله أعلم(/1)
إدراج بعض المسائل التعبدية في عداد المعتقدات
الحمد لله حمدَ الشاكرين ، و صلى الله و سلم و بارك على نبيه محمدٍ الأمين ، و آله و صحبه أجمعين ، ثم أما بعد .
فقد استشكل على بعض من درس العقيدة الصحيحة ورود بعض العبادات في سياق المتون العقدية المتضمنة لمسائل الإيمان و الأمور التصديقية ، و سألني إزالة اللبس عنه فأجبته إلى ذلك ، و قلت مستعيناً بالله تعالى :
لا يُستغرب إدراج بعض المسائل التعبدية في عداد المعتقدات ، و ذكر بعض الفروع في كتب الأصول ، فقد كثر هذا في كتب الأئمة الثقات رضوان الله عليهم أجمعين ، و من ذلك قول الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله في عقيدته : ( و نرى المسح على الخفين في السفر و الحضر ، كما جاء في الأثر ) .
و نحو ذلك إدراج الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لمسائل من قبيل تحريم النياحة نكاح المتعة ، و إيجاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر [ انظر : فصل الخطاب في بيان عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ص : 40 ] .
و على هذا درج كثير من العلماء ، و هذا ليس من قبيل الخلط بين مسائل الأصول و الفروع ، أو إحلال مسألة في غير محلها ، و لكن له أسبابه و مسوغاته ؛ و منها :
أولاً : الرد على المبتدعة الذين عدوا بعد المنهيات من شعائر الدين ، كالرافضة الذين شرعوا النياحة و اللطم و العويل على الأئمة و أهل البيت الطاهرين سنّة جارية إلى يوم القيامة ، يتقربون بها إلى الله ، إلى جانب ما يخالط طقوس اللطميات من ترهات و شركيات .
و لما عدَّ الروافض النياحة مسألة عقدية في دينهم ، ورد ذكرها في كتب العقائد عند أهل السنة ، ليس لاعتبارها مسألة من مسائل التوحيد و الاعتقاد ، و لكن لبيان خلل اعتقاد من تقرب إلى الله ( أو إلى الأولياء و الصالحين !! ) بها .
ثانياً : بيان فساد بعض الأصول التي بنى عليها المبتدعة حكمهم الفقهي في آحاد المسائل ، كإنكار المسح على الخفين ، بزَعْمَيْن باطلين ؛ أولهما : ما نسبوه زوراً و بهتاناً إلى أئمة أهل البيت أنهم أجمعوا على المنع من المسح ، و اعتبروا صلاة المتوضئ بدون غسل الرجلين باطلة و إن كان ماسحاً على الخفين ، و كذلك صلاة من ائتم به ، و ما أكثر ما زعم القوم إجماع أهل البيت عليه ، و هو أبعد ما يكون عن مسائل الإجماع .
و ثانيهما : تعمد المبتدعة مخالفةَ أهلِ السنة و اعتبار ذلك شعاراً من شعارات أهل البدع ، كما هو الحال في موقفهم في مسألة المسح على الخفين ، المجمع على مشروعيته عند من يعتد بإجماعهم .
لذلك ناسب أن تذكر هذه المسألة في كتب أصول الاعتقاد لبيان فساد الأصول الذي اعتمد عليه المبتدعة في بيان حكمها ، و هو رد الإجماع الثابت ، و الاعتداد بإجماع أهل البيت دون غيرهم رغم تعذر إثباته ، و زعم الإجماع فيما ذاع فيه الخلاف .
ثالثاً : الرد على المبتدعة الذين اعتبروا الالتزام ببعض الفروع ( على فرض مشروعيتها ) شعاراً لمذهبهم ، كقولهم في التقيَّة : لا دين لمن لا تقيَّة له ، و قولهم في المتعة : من لم يتمتع فليس بشيعي .
و كفى لمعرفة بطلان هذين القولين تأمل ظاهرهما .
أما وجه ذكر مسائل من قبيل تحريم المتعة و التقية في كتب الأصول السُنِّية ، فهو البراءة من البدعة و أهلها ، فنحن نذكر قولهم : لا دين لمن لا تقية له ، ثم نبين فساد مذهبهم المقارب بين التقية و النفاق في هذه المسألة ، و وجه مخالفتنا لهم فيها .
و نذكر قولهم : من لم يتمتع فليس بشيعي ، لنعقبه بحكاية الإجماع المعتبَر عند أهل الحق على تحريم نكاح المتعة ، و نبين بالتالي مفاصلتنا لأهلها الذين اعتبروها أمارة فاصلة تميزهم عن العالمين .
و أخيراً ، لا غضاضة إذن في إيراد بعض مسائل العبادات في كتب أصول الدين ، حينما تقتضي مصلحة إظهار الحق ذلك ، و لا يعني ذلك أنها مسائل ملحقة بمسائل الأصول من حيث الحكم على المخالف فيها تبديعاً أو تفسيقاً أو تكفيراً ، بل هي مسائل فقهية تزم بزمامه ، و يحكم عليها بأحكامه .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .(/1)
إذا أردت أن تكون مستجاب الدعوة
أمير بن محمد المدري ...
1- أخلص لله في دعائك ولا تدعو إلا الله سبحانه، فإن الدعاء عبادة من العبادات، بل هو من أشرف الطاعات وأفضلِ القربات، ولا يقبل الله من ذلك إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم، قال الله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً) الجن:18 ، وقال تعالى: (فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) غافر: 14 ، و عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) رواه أحمد (1/293، 307)، والترمذي (2511)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7957)
2- إصبر ولا تستعجل الإجابة :فإن نفذ صبرك فأنت الخاسر .. أسأت الادب مع الله ، فصرت احد رجلين : إما منان وإما بخيل ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي)) رواه البخاري في الدعوات (6340)، ومسلم في الذكر والدعاء (2735). وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل)). قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: ((يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء)) رواه مسلم في الذكر والدعاء (2735).
وقال ابن القيم: "ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء أن يتعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله" الجواب الكافي (ص 10).
3- تب الى الله من كل المعاصي وأعلن الرجوع الى الله تعالى ، فإن اكثر اولئك الذي يشكون من عدم اجابة الدعاء آفتهم المعاصي فهي خلف من كل مصيبة .
قال عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) : بالورع عما حرم الله يقبل الله الدعاء والسبيح ،قال بعض السلف : لا تستبطئ الاجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي
اخي : ان مثل العاصي في دعائه كمثل رجل حارب ملكا من ملوك الدنيا ونابذه العداوة زمنا طويلا ، وجاءه مرة يطلب إحسانه ومعروفة . فما ظنك أخي بهذا الرجل ؟ اتراه يُدرك مطلوبه ؟ كلا فانه لن يدرك مطلوبه الا اذا صفا الود بينه وبين ذلك الملك .
4- إحرص على اللقمة الحلال : فلا تدخل بطنك حراما …. فإنه إذا اتصف العبد بذلك لمس اثر الاجابة في دعائة ووجد اثارا طيبة لذلك … قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((أيها الناس إن الله طيب لا يقبل الا طيبا وان الله امر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا اني بما تعملون عليم )) المؤمنون : 51 وقال : ( يا أيها الذين أمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم )) البقرة : 172 .
ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث اغبر يمد يديه الى السماء يارب يارب ومطعمه حرام ! ومشربه حرام ! وملبسه حرام ! وغذي بالحرام ! فأنى يستجاب لذلك ؟ ! )) رواه مسلم والترمذي
فهذا سعد بن أبي وقاص ( رضي الله عنه ) اشتهر بإجابة الدعاء … فكان إذا دعا ارتفع دعاؤه واخترق الحجب فلا يرجع إلا بتحقيق المطلوب ! .
يقول : ما رفعت الى فمي لقمة إلا وأنا عالم من اين مجيئها ؟ ! ومن أين خرجت . ذاك هو سر استجابة الدعاء ..اللقمة الحلال
5- أحسن الظن بالله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه)) أخرجه الترمذي (3479 )وحسنه الألباني في صحيح الجامع (245 ، وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني)) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675) ، فلا يمنعنك أخي من الدعاء ما تعلم من نفسك فقد أجاب الله دعاء شر الخلق ابليس وهو شر منك .
6- إحضر قلبك مع الدعاء ، وتدبر معاني ما تقول، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما تقدم: ((واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه)).
7- لا تعتدي في الدعاء، والاعتداء هو كل سؤال يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به، قال الله تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } الأعراف:55، فمن ذلك:
أن تسأل الله تعالى ما لا يليق بك من منازل الأنبياء،أو نتنطع في السؤال بذكر تفاصيل يغني عنها العموم،أو تسأل ما لا يجوز لك سؤاله من الإعانة على المحرمات،أو تسأل ما لا يفعله الله، مثل أن تسأله تخليدك إلى يوم القيامة، أو ترفع صوتك بالدعاء الى غير ذلك .(/1)
8- مر بالمعروف وانهى عن المنكر، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، فتدعونه فلا يستجاب لكم)) - رواه الترمذي في الفتن (2169) وحسنه، وأحمد (5/288)،
9- اذا دعوت الله تعالى فلتبدأ أولا : بحمده والثناء عليه تبارك وتعالى ثم بعدها : بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم .. ثم ابدأ بعد ذلك في دعائك ومسألتك .
10- استقبل القبلة، واختر أحسن الألفاظ وأنبلها وأجمعها للمعاني وأبينها، ولا أحسن مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة، لأنها أكثر بركة، ولأنها جامعة للخير كله.
11- أدع الله دعاء الراغب الراهب المستكين .. الخاضع .. المتذلل الفقير الى ما عند ربه تبارك وتعالى . أدع بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق .
أخي :أدع دعاء عبد فقير إلى ما عند ربه تعالى … محتاجا الى فضلة واحسانه … مقرا بذنوبه … خاضعا خضوع المقصرين … يرى انه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، قال ابن القيم رحمه الله: ": إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته وقوي رجاؤه فلا يكاد يرد دعاؤه" ،وقال ابن عطاء " تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه ، تحقق بذلك يمدك بعزه ، تحقق بعجزك يمدك بقدرته ، تحقق بضعفك يمدك بقوته ".
أخي . إذا انكسر العبد بين يديه وبكى وتذلل وأشهد الله فقره إلى ربه في كل ذراته الظاهرة والباطنة عندها فليبشر بنفحات ونفحات من فضل الله ورحمته وجوده وكرمه.
12- ترصد لدعائك الأوقات الشريفة وتخيّر وقت الطلب : كعشية عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، وخاصة العشر الأواخر منه، وبالأخص ليلة القدر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل، وبين الأذان والإقامة ،وعند سماع صوت الديك ،وعند التحام الصفوف في القتال ، وعند نزول الغيث .
13- إغتنم الحالات الفاضلة: كالسجود، ودبر الصلوات، والصيام، وعند اللقاء، وعند نزول الغيث.
14- إستغلَّ حالات الضرورة والانكسار، وساعات الضيق والشدة: كالسفر، والمرض، وكونك مظلوما.
15- إرفع يديك وابسط كفيك، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه)) أخرجه البخاري في المغازي (4323)، ومسلم في فضائل الصحابة (2498)، وعن سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين)) صححه الألباني في صحيح الجامع (1757).
16- قدِم بين يدي دعائك عملا صالحا كصلاة او صيام او صدقة … الا ترى اخي ان الدعاء بعد الصلوات ارجي للاجابة . لانه وقع بعد عمل صالح ، فالدعء يرفعه العمل الصالح ، فجرب اخي أن تدعو عقب دمعة من خشية الله ، أو حاجة مسلم قضيتها ، أو صدقة في ظلام الليل بذلتها ، أو جرعة غيظ تحمّلتها ما انفذتها وسرى سرعة الإجابة .
17- إخفض صوتك في دعائك …. فان الداعي مناج لربه تبارك وتعالى ، والله تعالى يعلم السر واخفي .
18- أدع الله بأسمائه الحسنى لأنها حسنة في الأسماع والقلوب ، وهي تدل على توحيده وكرمه وجوده ورحمته وافضاله ، (لله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) الأعراف : 180.
19- توسل الى الله بأعمالك الصالحة التي وفقك الله إليها .. فالعمل الصالح نعم الشفيع لصاحبة في الدنيا والآخرة اذا كان صاحبة مخلصا فيه .
20- كن عبداً ملحاحاً علي ربك سبحانه بتكرير ذكر ربوبيته، وهو أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء، فإن الإلحاح يدل على صدق الرغبة، والله تعالى يحب الملحين في الدعاء، وأعلم أن من يكثر قرع الباب يوشك أن يقتح له .
21- إجزم في دعائك وأعزم في المسألة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) رواه البخاري في الدعوات: (6339)، ومسلم في الذكر والدعاء: باب العزم بالدعاء (2679) واللفظ له
22- إبدأ بنفسك، ثم ادعو لإخوانك المسلمين، و خُص الوالدين، وأهل الفضل من العلماء والصالحين، ومن في صلاحه صلاح المسلمين.
23- اشهد مجالس الذكر : فالله يستجيب دعاء من يشهدون مجالس الذكر ويغفر لهم ببركة جلوسهم فيقول : "أشهدكم يا ملائكتي اني قد غفرت لهم " ، فيقول ملك من الملائكة :فيهم فلان ليس منهم وانما جاء لحاجة ، فيقول "فيقول :هم القوم لا يشقى بهم جليسهم " رواه الشيخان واحمد عن ابي هريرة
أخي ارتد ثياب الصالحين تحسب منهم ،وزاحم بمنكبيك مجالسهم،ترحم بسببهم .
24- كن من هؤلاء : فالله يستجيب للمضطر إذا دعاه ،وللمظلوم ولو كان فاجراً أو كافراً،ولمن يدعولأخيه بظهر الغيب وللوالدين على ولدهما وللإمام العادل وللمسافر حتى يرجع وللمريض حتى يبرأ ،وللصائم حتى يفطر ،فإذا استطعت أن تكون واحداً من هؤلاء فافعل .(/2)
أخيراً : أخي لا تظن أن دعواتك تخيب فإن لم ترى جواباً..
فربما لم يجبك ،لانه قد دفع عنك من البلاء مالا تعرف .
وربما لم يجبك لعلمه أن كف حسناتك لت ترجح يوم القيامة إلا بتأخير هذه الدعوات الى يوم القيامة .
وربما لم يجبك لعلمه أن ما طلبت شر لك ،فالمال الذي طلبت ربما أطغاك وأفسدك ، وإن كان ولداً ربما كبر فعقك وأجهدك ،وإن كان عملاً ربما فتح لك بابا من الحرام فكم من محبوب في مكروه وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وانتم لاتعلمون
وربما لم يجبك لأنك أدخلت الحرام في رزقك ، أو أسكنت شهوة في قلبك.
وربما ما أجابك لانه يريد أن يسمع الحاحك وانينك في الاسحار وفي جوف الليل ،
والله تعالى أعلى وأعلم
أمير بن محمد المدري
إمام وخطيب مسجد الإيمان – اليمن – عمران ...(/3)
إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك..."
هذه كلمات حفظتها في صغر سني عندما قالها والدي حفظه الله موبخاً أحد أخوتي والذي اعتدى على أحد العمّال ! وهي من أكثر الكلمات التي أسمعها دائما من والدي حفظه الله، ولا زال يرددها حين يرى ظلماً يقع على أحد الضعفاء الذين لايملكون حولاً ولا قوة إلا بالله سبحانه وتعالى.
تعود هذه الكلمات لذاكرتي كلما مرّ علي ذِكر أحد المسئولين - الذين يتهاون في حقوق الناس فيبخصها أو يتعمد ظلمهم فيسعى إلى قطع أرزاقهم ويتحكم في حال الضعفاء إما بضربهم أو سجنهم أو شتمهم - فأتساءل حينها:
كم من مسئول سمِع بهذه المقولة، و هل يدرك كل مسئول وصاحب منصب هذه الكلمات؟!
و هل يتذكر هؤلاء المسئولون وأصحاب المناصب الحكمة التي تقول ( لو دامت لغيرك ما وصلت إليك )
و هل يتذكر هؤلاء أن مصيرهم المحتوم مهما طال إما أن يموت أو يحال إلى التقاعد أو العجز ثم يصبح في المجتمع نسيا منسيا ولنا عبرة في الآخرين من الطغاة وغيرهم وكل الظلمة وأعوانهم والذين ألقاهم الناس في مزبلة التاريخ بين شريد وطريد وخائف مذعور أو رهين اعتقال سلبت منهم النعمة وأحاطت بهم المحن ونزعت عنهم الكرامة وأصبحوا عبرة لمن يعتبر .
بل هل يتفكرون في قوله تعالى (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ )؟ و هل يتعظون من قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من أعان على خصومة بظلم أو يعين على ظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ) رواه ابن ماجة ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ) وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم ) ؟
مساكين هم المسئولون وأصحاب المناصب الذين قٌدِر لهم أن يحكموا الناس، فظلموهم و تعالوا عليهم، مساكين!
أن على المسئولين وأصحاب السلطة من الحكام والوزراء أن يتقوا الله فيمن تحت أيديهم وأن يخافوا الله في الضعفاء ومن ليس لهم حول ولا قوة إلا بالله وليتذكروا أن لهؤلاء أطفال وزوجات وأن يتقوا عاقبة الظلم ومصير كل ظالم متكبر وأن مآله إلى القبر وكذلك أعوان الظلمة وهم عيون للظلمة وأيديهم التي يبطشون بها وعقولهم التي يفكرون !!
قيل ليحيى البرمكي وهو في السجن يا أبت أبعد الأمر والنهي صرنا إلى هذه الحال، قال لعلها دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها.
لاتظلمن إذا ما كنت مقتدراً *** فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم
حكي أن الحجاج حبس رجلا ظلما فكتب إليه رقعة فيها:
قد مضى من بؤسنا أيام ومن نعيمك أيام، والموعد القيامة، والسجن جهنم، والحاكم لا يحتاج إلى بينة، وكتب في آخرها:
وقال أبو العتاهية:
ستعلم يا نؤم إذا التقينا ... غدا عند الإله من الظلوم
أماوالله إنَّ الظُّلم شؤمٌ ... وما زال المسيء هو الظَّلوم
إلى دياَّن يوم الدّين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا غداً عند الإله من الملوم
وذكر الظلم في مجلس ابن عباس رضي الله عنه فقال كعب : إني لأجد في كتاب الله المنزل أن الظلم يخرب الديار فقال ابن عباس : تصديقه في القرآن العظيم ( فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا )
فيا أيها المسئول:
هلا إتعظت بغيرك من الظلمة فإن لكل ظالم نهاية ، ولا يبقى للإنسان إلا ما قدمه من خير وسيذكره الناس بالخير والتاريخ مليء بأصحاب الخير وأصحاب الشر ، فماذا يبقى للإنسان إلا عمله وذكره الحسن بين الناس لأنه حتما سيموت وسيقف أم رب العباد !!
و هلا إتقيت دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول الله ( وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ) و يقول صلى الله عليه وسلم ( اتقوا دعوة المظلوم فإنه تصعد إلى السماء كأنها شرارة ) و أن ( ثلاث دعوات يستجاب لهن لا شك فيهن ، دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد لولده . )
و أرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء(/1)
إذا سألت فسأل الله
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
د/ خالد سعد النجار
</TD
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى ، إما بموت عاجل أو غنى عاجل ) (1)
من أجل مقاصد الشريعة الإسلامية صيانة شخصية المسلم عن التبذل ، وحفظ ماء وجهه عن المهانة ، وهذا منبثق من عقيدة صافية خالصة تربط المسلم دائما بالله القدير ، في السراء والضراء ، والعسر واليسر ، والمنشط والمكره ... لأنه تعالى الغني بإطلاق ، المعطي المانع ، الضار النافع ، الخافض الرافع ، القوي الجامع
فالمؤمن في دوحة الإسلام قلبه معلق بالسماء ، إذا سأل سأل الله ، وإذا استعان استعان بالله ، هو تعالى حسبه وعضده ونصيره به يصول وبه يجول وبه يقاتل
( من أصابته فاقة ) أي حاجة شديدة وأكثر استعمالها في الفقر وضيق المعيشة ( فأنزلها بالناس ) أي عرضها عليهم وأظهرها بطريق الشكاية لهم وطلب إزالة فاقته منهم ، وخلاصته أن من اعتمد في سدها على سؤالهم ( لم تسد فاقته ) أي لم تقض حاجته ولم تزل فاقته ، وكلما تسد حاجة أصابته أخرى أشد منها ، لتركه القادر على حوائج جميع الخلق الذي لا يغلق بابه وقصد من يعجز عن جلب نفع نفسه ودفع ضرها ( ومن أنزلها بالله ) بأن اعتمد على مولاه ( أوشك الله ) أي أسرع وعجل ( بالغنى ) أي اليسار ( إما بموت عاجل ) قيل بموت قريب له غني فيرثه ، ولعل الحديث مقتبس من قوله تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه } الطلاق 2-3( أو غنى ) أي يسار ( عاجل ) أي بأن يعطيه مالا ويجعله غنيا (2)
وسؤال الله تعالى وحسن الالتجاء إليه مع الاستعفاف عن سؤال الناس أصل عظيم من أصول الدين شواهده كثرة من الكتاب والسنة ، قال تعالى { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } البقرة 273 قال المفسرون : ( يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ ) أي بحالهم (أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ ) أي من أجل تعففهم عن السؤال والتلويح به قناعة بما أعطاهم مولاهم ورضا عنه وشرف النفس ( تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ) بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم ، قال السدي : هي أثر الفاقة والحاجة في وجوههم وقلة النعمة ( لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ) الإلحاف : الإلحاح وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه ، وقيل معنى الآية : إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا فيكون النفي متوجها إلى القيد وحده ، والصحيح أنه نفي للسؤال والإلحاف جميعا فمرجع النفي إلى القيد ومقيده كقوله { ولا شفيع يطاع } غافر 18 وفيه تنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا واستحباب المدح والتعظيم للمتعفف عن ذلك ، قال ابن عبد البر : من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل وقد سئل عن المسألة متى تحل ؟ قال : إذا لم يكن عنده ما يغديه ويعشيه على حديث سهل بن الحنظلية . قيل لأبي عبد الله : فإن أضطر إلى المسألة ؟ قال هي مباحة له إذا اضطر . قيل له : فإن تعفف ؟ قال ذلك خير له ، ثم قال : ما أظن أحد يموت من الجوع ، الله يأتيه برزقه ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري ( ومن يستعفف يعفه الله ) وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ( تعفف ) (3) قال أبو بكر : وسمعته يُسأل عن الرجل لا يجد شيئا أيسأل الناس أم يأكل الميتة ؟ فقال : أيأكل الميتة وهو يجد من يسأله هذا شنيع ، قال وسمعته يسأل : هل يسأل الرجل لغيره ، قال : لا ولكن يعرض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار فقال ( تصدقوا ) ولم يقل أعطوهم (4)، وقال ( ألا رجل يتصدق على هذا ؟ ) (5) قال أبو بكر : قيل له [ يعني أحمد بن حنبل ] فالرجل يذكر الرجل فيقول إنه محتاج فقال : هذا تعريض وليس به بأس إنما المسألة أن يقول أعطه ، ثم قال : لا يعجبني أن يسأل المرء لنفسه فكيف لغيره والتعريض هنا أحب إلي . وقال إبراهيم بن ادهم : سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين الله تعالى فأنزل حاجتك بمن يملك الضر والنفع وليكن مفزعك إلى الله تعالى يكفيك الله ما سواه وتعيش مسرورا (6)(/1)
وقال صلى الله عليه وسلم ( ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة ولا اللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف واقرءوا إن شئتم يعني قوله { لا يسألون الناس إلحافا } ) (7) ( لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم ) (8) ( المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بدا ) (9) ( من سأل شيئا وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم قالوا : وما يغنيه؟ قال : قدر ما يغديه ويعشيه ) (10) (من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله ومن استكفى كفاه الله ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف ) (11) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفد ما عنده قال ( ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم ، ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يصبر يصبره الله ، وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر ) (12)
يقول ابن الجوزي : لما تلمحت تدبير الصانع في سوق رزقي بتسخير السحاب وإنزال المطر برفق والبذر دفين تحت الأرض كالموتى قد عفن ينتظر نفخة من صور الحياة فإذا أصابته اهتز خضرا ، وإذا انقطع عنه الماء مد يد الطلب يستعطي وأمال رأسه خاضعا ولبس حلل التغير ، فهو محتاج إلى ما أنا محتاج إليه من حرارة الشمس وبرودة الماء ولطف النسيم وتربية الأرض ، فسبحان من أراني كيف تربيتي في الأصل
فيا أيتها النفس التي قد اطلعت على بعض حكمه قبيح بك والله الإقبال على غيره ، ثم العجب كيف تقبلين على فقير مثلك ، يناديني لسان حاله [ بي مثل ما بك ] ، فارجعي إلى الأصل الأول واطلبي من المسبب ، ويا طوبى لك إن عرفتيه ، فإن عرفانه ملك الدنيا والآخرة (13)
alnaggar66@hotmail.com
------------------------------
الهوامش
(1) رواه أبو داود ــ كتاب الزكاة رقم 1642 وأحمد ــ مسند المكثرين من الصحابة رقم 3675، ورواه الترمذي بنحوه في كتاب الزهد رقم 2326 ، ورواه الحاكم وقال صحيح وأقره الذهبي ، والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع وقال ( حسن ) انظر حديث رقم : 6041 في صحيح الجامع . (2) أنظر عون المعبود ــ كتاب الزكاة ــ ج5 ص 46 ط دار الفكر ، وفيض القدير للمناوي ج2 ص 132 (3) حديث أبي سعيد الخدري ( ومن يستعفف يعفه الله ) رواه مسلم ــ كتاب الزكاة رقم 1745 وسيأتي نصه في نهاية المقال ، وحديث أبي ذر رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني ( صحيح ) انظر حديث رقم: 7819 في صحيح الجامع ، و نصه كالآتي ( يا أبا ذر! أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع ؟ تعفف ; يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد - يعني القبر - كيف تصنع ؟ اصبر ; يا أبا ذر : أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع ؟ اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك قال : فإن لم أترك ؟ قال : فأت من كنت معه فكن فيهم قال : فآخذ سلاحي ؟ قال: إذن تشاركهم فيما هم فيه ولكن إن خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق من طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار ) (4) الحديث رواه مسلم ــ كتاب الزكاة رقم 1691 (5) رواه أحمد وأبو داود عن أبي سعيد(صحيح) انظر حديث رقم: 2652 في صحيح الجامع. (6) انظر تفسير القاسمي [ محاسن التأويل ] ج3/4 ص 350 ط دار الفكر ، وتفسير القرطبي ج2 ص 1266 ط دار الغد العربي – مصر (7) رواه البخاري عن أبي هريرة ــ كتاب التفسير ، 2- سورة البقرة ، 48- باب لا يسألون الناس إلحافا (8) رواه البخاري ــ كتاب الزكاة رقم 1381 ، ومسلم واللفظ له ــ كتاب الزكاة رقم 1724 (9) رواه أحمد وأبو داود عن سمرة (صحيح) انظر حديث رقم: 6695 في صحيح الجامع (10) رواه أحمد وأبو داود عن سهل بن الحنظلية (صحيح) انظر حديث رقم: 6280 في صحيح الجامع (11) رواه أحمد والنسائي عن أبي سعيد ( صحيح ) انظر حديث رقم: 6027 في صحيح الجامع (12) رواه مسلم ــ كتاب الزكاة رقم 1745 (13) صيد الخاطر ــ ابن الجوزي ص 84 ط دار الحديث القاهرة بتصرف(/2)
إذا سرق السارق فاقطعوا يده
الكاتب: الأستاذ محمد أحمد الوزير
الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أما بعد :
فإن من المسائل التي وقع النقاش حولها في الدرس مع فضيلة شيخنا القاضي العلامة / محمد بن إسماعيل العمراني هو الاحتجاج بحديث ((إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، )) ففضيلته ممن يرى ضعفه ، ونقل له في الدرس من بعض الطلبة أن الشيخ الألباني يصححه ، فلما طلب من أخرجه لم يجب عليه فأردت تخريجه والكلام عليه وبيان الراجح من الأقوال فيه فأقول :
متن الحديث :
عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال: إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، انتهى. والواقدي فيه مقال ".
تخريج الحديث :
أخرجه الدارقطني في "سننه" عن الواقدي عن ابن أبي ذئب عن خالد بن سلمة، أراه عن أبي سلمة عن أبي هريرة به .
علة الحديث :
وعلة الحديث هو محمد بن عمر الواقدي ، وهو متروك بل متهم بالكذب ، فالحديث من طريقة ضعيف جدا ، ومثله لا يقبل في الشواهد والمتابعات .
الشواهد لهذا الحديث :
• وللحديث شاهد عدة وهي على التالي :
• الشاهد الأول : أخرجه أبو داود (1) من طريق مصعب بن ثابت عن محمد بن المنكدر عن جابر، قال: جيء بسارق إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول اللّه إنما سرق، فقال: اقطعوه، فقطع، ثم جيء به الثانية، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول اللّه إنما سرق، قال اقطعوه، فقطع، ثم جيء به الثالثة، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول اللّه، إنما سرق، قال: اقطعوه، فقطع، ثم جيء به الرابعة، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول اللّه إنما سرق، قال: اقطعوه، فقطع، ثم جيء به الخامسة، فقال: اقتلوه، قال جابر: فانطلقنا به، فقتلناه، ثم اجتررناه، فألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة، .
قال النسائي: حديث منكر، ومصعب بن ثابت ليس بالقوي في الحديث، انتهى.
طرق المتابعة :
ولكن جاء لمحمد بن مصعب متابعة قوية ـ وإن كان مثله لا يقبل في المتابعات ـ من طريق هشام بن عروة عن ابن المنكدر ، به .. الحديث )) .
الطريق الأولى : أخرجها الدارقطني في "سننه" عن محمد بن يزيد بن سنان ثنا أبي ثنا هشام بن عروة عن محمد ين المنكدر عن جابر ... به ))
الطريق الثانية : وأخرجه أيضاً عن عائذ بن حبيب عن هشام به،
الطريق الثالثة : وأخرجه الدارقطني أيضاً عن سعيد بن يحيى ثنا هشام به ... )) .
كلام أئمة الحديث على طرق المتابعة :
وقد تكلم الأئمة على الطرق الثلاث على التالي :
الكلام على الطريق الأولى :
قال الزيلعي في نصب الراية: ومحمد بن يزيد فيه مقال .
وقال الألباني : ومحمد بن زياد وأبوه ضعيفان .
الكلام على الطريق الثانية :
قال الزيلعي في الطريق الثانية : وعائذ بن حبيب شيعي له مناكير .
قال الألباني : وعائذ هذا صدوق كما في التقريب .
الكلام على الطريق الثالثة :
قال الزيلعي : وسعيد بن يحيى هو ابن صالح اللخمي، فيه مقال.
قال الألباني : بعد نقل كلام الزيلعي ، قلت : هو ـ أي المقال ـ يسير ، لا يمنع من الاحتجاج بحديثه ، و(قال الحافظ) في التقريب :
(( صدوق وسط ، ما له في البخاري سوى حديث واحد )) .
• الشاهد الثاني : أخرجه النسائي في "سننه" عن حماد بن سلمة أنبأ يوسف بن سعد عن الحارث بن حاطب اللخمي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتي بلص، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول اللّه إنما سرق، قال: اقتلوه، قالوا: يا رسول اللّه إنما سرق، قال: اقطعوه، فقطع، ثم سرق، فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر، حتى قطعت قوائمه كلها، ثم سرق الخامسة، فقال أبو بكر: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعلم بهذا، حين قال: اقتلوه، انتهى. ورواه الطبراني في "معجمه"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح الإِسناد، ولم يخرجاه .
قال الذهبي في التلخيص : بل منكر .
• الشاهد الثالث : أخرجه أبو نعيم في "كتاب الحلية - في ترجمة أصحاب الصفة" عن حرام بن عثمان عن معاذ بن عبد اللّه عن عبد اللّه بن زيد الجهني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: من سرق متاعاً، فاقطعوا يده، فإِن سرق، فاقطعوا رجله، فإِن سرق، فاقطعوا يده، فإِن سرق، فاقطعوا رجله، فإِن سرق فاضربوا عنقه، انتهى.
وقال الزيلعي : تفرد به حرام بن عثمان، وهو من الضعف بالمحل العظيم، انتهى.
• الشاهد الرابع : أخرجه الدارقطني في "سننه" ، والطبراني في "معجمه" عن الفضل بن المختار عن عبيد اللّه بن موهب عن عصمة بن مالك، قال: سرق مملوك أربع مرات، والنبي صلى اللّه عليه وسلم يعفو عنه، ثم سرق الخامسة، فقطع يده، ثم السادسة، فقطع رجله، ثم السابعة، فقطع يده، ثم الثامنة، فقطع رجله، وقال عليه السلام: أربع بأربع، انتهى.
قال الإمام الريلعي : ووهم عبد الحق في "أحكامه" فعزاه للنسائي، وتعقبه ابن القطان في(/1)
"كتابه"، وقال: ليس هذا الحديث بوجه عند النسائي، انتهى. وهو حديث ضعيف،
وقال عبد الحق: هذا لا يصح للإِرسال، وضعف الإِسناد،
وقال شيخنا الذهبي في "ميزانه": إنه يشبه أن يكون موضوعاً، وضعف الفضل بن المختار عن جماعة من غير توثيق.
• الشاهد الخامس : أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" أخبرنا ابن جريج أخبرني عبد ربه بن أبي أمية أن الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة، وعبد الرحمن بن سابط، قال: أتي النبي صلى اللّه عليه وسلم بعبد، فقيل: يا رسول اللّه هذا عبد قد سرق، ووجدت سرقته معه، وقامت البينة عليه، فقال رجل: يا نبي اللّه هذا عبد بني فلان، أيتام ليس لهم مال غيره، فتركه، ثم أتي به الثانية، فتركه، ثم أتي به الثالثة، فتركه، ثم أتي به الرابعة، فتركه، ثم أتي به الخامسة، فقطع يده، ثم السادسة، فقطع رجله، ثم السابعة، فقطع يده، ثم الثامنة، فقطع رجله، ثم قال: أربع بأربع، انتهى.
وعن عبد الرزاق رواه إسحاق ابن راهويه في "مسنده" بسنده، ومتنه،
• وكذلك رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" حدثنا محمد ابن أبي بكر عن ابن جريج أخبرني عبد ربه ابن أبي أمية بن الحارث عن الحارث بن عبد اللّه به.
قال البيهقي عقب إخراجه : وهو مرسل حسن بإسناد صحيح .
قال الشيخ الألباني : وابن أبي أمية لم يوثقه أحد ، وقال في التقريب (( مجهول )) .
المناقشة والترجيح :
أقول : والناظر المتأمل في الشواهد والمتابعات ، ستبين له التالي :
أن الشاهد الأول : إذا نظرنا إلى المتابعات ، يتضح صحيح الإسناد من طريق جابر، ولا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن ، ولذلك فإنه لا يعلم أن أحدا من العلماء قال إن السارق يقتل والحديث بهذا مشكل الاحتجاج به على القطع ، فإن قالوا : يحتج به على الزيادة على اليد والرجل ، فيقال : فلما لم تقولوا بالقتل ، فإن قالوا منسوخ ، قلنا وكذا الحديث بأكمله ، خاصة وقد قال الإمام : ابن قدامة في المغني ( 10 / 272) :
وأما حديث جابر ففي حق شخص استحق القتل بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر به في أول مرة وفي كل مرة .... )) ، وبناء على قوله فإن الحديث خارج عن محل النزاع .
والظاهر والله أعلم أن الحديث الاحتجاج به على الزيادة على قطع الرجل فيه نظر ، خاصة وقد قال الإمام النسائي عقب إخراجه أنه حديث منكر ، ولعله أن النكارة من جهة المتن لمعارضته للإحاديث
قوله: والحديث طعن فيه الطحاوي...
- الآثار: روى مالك في "الموطأ" عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن رجلاً من اليمن أقطع اليد والرجل قدم، فنزل على أبي بكر الصديق، فشكى إليه أن عامل اليمن ظلمه، فكان يصلي من الليل، فيقول: أبو بكر: وأبيك ما ليلك بليل سارق، ثم إنهم فقدوا عقداً لأسماء بنت عميس، امرأة أبي بكر الصديق، فجعل الرجل يطوف معهم، ويقول: اللهم عليك بمن بيَّت أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغ، زعم أن الأقطع جاءه به، فاعترف الأقطع، أو شهد عليه، فأمر به أبو بكر، فقطعت يده اليسرى، وقال: أبو بكر لدعاؤه على نفسه أشدّ عليه من سرقته، انتهى. ورواه عبد الرزاق في " مصنفه" أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة، قالت: قدم على أبي بكر رجل أقطع، فشكى إليه أن يعلى بن أمية قطع يده ورجله في سرقة، وقال: واللّه ما زدت على أنه كان يوليني شيئاً من عمله، فخنته في فريضة واحدة، فقطع يدي، ورجلي، فقال له أبو بكر: إن كنت صادقا فلأقيدنك منه، فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى فقد آل أبي بكر حلياً لهم، فاستقبل القبلة، ورفع يده، وقال: أظهر من سرق أهل هذا البيت الصالح، قال: فما انتصف النهار حتى عثروا على المتاع عنده، فقال له أبو بكر:
ويلك! إنك لقليل العلم باللّه، فقطع أبو بكر يده الثانية، قال ابن جريج: وكان اسمه جبر، أو جبير، وكان أبو بكر يقول: لجرأته على اللّه أغيظ عندي من سرقته، انتهى. قال محمد بن الحسن في "موطأه": قال الزهري: ويروى عن عائشة، قالت: إنما كان الذي سرق حلي أسماء أقطع اليد اليمنى، فقطع أبو بكر رجله اليسرى، وكانت تنكر أن يكون أقطع اليد والرجل، قال: وكان ابن شهاب أعلم بهذا الحديث من غيره، انتهى.(/2)
قوله: روي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال: إني لأستحيي من اللّه أن لا أدع له يداً يأكل بها، ويستنجي بها، ورجلاً يمشي عليها، قلت: رواه محمد بن الحسن في "كتاب الآثار"، وأخبرنا أبو حنيفة عن عمرو بن مرة عن عبد اللّه بن سلمة عن علي بن أبي طالب، قال: إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى، فإن عاد ضمنه السجن، حتى يحدث خيراً، إني أستحيي من اللّه أن أدعه ليس له يد يأكل بها، ويستنجي بها، ورجل يمشي عليها، انتهى. ومن طريق محمد بن الحسن رواه الدارقطني في "سننه" بسنده ومتنه، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" أخبرنا معمر عن جابر عن الشعبي، قال: كان علي لا يقطع إلا اليد والرجل، وإن سرق بعد ذلك سجنه، ويقول: إني لأستحيي من اللّه أن لا أدع له يداً يأكل بها، ويستنجي، انتهى. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: كان علي لا يزيد على أن يقطع السارق يداً ورجلاً، فإذا أتى به بعد ذلك، قال: إني لأستحيي أن أدعه لا يتطهر لصلاته، ولكن احبسوه، انتهى. وأخرجه البيهقي عن عبد اللّه بن سلمة عن علي أنه أتي بسارق، فقطع يده، ثم أتي به، فقطع رجله، ثم
أتي به، فقال: أقطع يده؟ بأي شيء يتمسح؟ وبأي شيء يأكل؟ أقطع رجله! على أي شيء يمشي؟ إني لأستحيي من اللّه، ثم ضربه، وخلده في السجن، انتهى.
- أثر آخر: قال ابن أبي شيبة حدثنا أبو خالد عن حجاج عن عمرو بن دينار أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن السارق، فكتب إليه بمثل قول علي، حدثنا أبو خالد عن حجاج عن سماك عن بعض أصحابه أن عمر استشارهم في سارق، فأجمعا على مثل قول علي، انتهى. حدثنا أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول أن عمر قال: إذا سرق فاقطعوا يده، ثم إن عاد فاقطعوا رجله، ولا تقطعوا يده الأخرى، وذروه يأكل بها، ويستنجي بها، ولكن احبسوه عن المسلمين، انتهى. وأخرج عن النخعي قال: كانوا يقولون: لا يترك ابن آدم مثل البهيمة ليس له يد يأكل بها، ويستنجي بها، انتهى.
قوله: وبهذا حاج عليّ بقية الصحابة فحجهم، قلت: في "التنقيح" قال سعيد بن منصور: ثنا أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه، قال: حضرت علي بن أبي طالب أتي برجل مقطوع اليد والرجل، قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: قتلته إذاً، وما عليه القتل، بأي شيء يأكل الطعام؟! بأي شيء يتوضأ للصلاة؟! بأي شيء يغتسل من جنابته؟! بأي شيء يقوم على حاجته؟!، فرده إلى السجن أياماً، ثم أخرجه، فاستشار أصحابه، فقالوا مثل قولهم الأول، وقال لهم مثل ما قال أول مرة، فجلده جلداً شديداً، ثم أرسله، وقال سعيد أيضاً: حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عائذ، قال: أتي عمر بن الخطاب بأقطع اليد والرجل، قد سرق، فأمر أن تقطع رجله، فقال علي: قال اللّه تعالى: ?إنما جزاء الذين يحاربون اللّه? الآية، فقد قطعت يد هذا، فلا ينبغي أن تقطع رجله، فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها، إما أن تعزره، وإما أن تودعه السجن، فاستودعه السجن، انتهى. وهذا الثاني رواه البيهقي في "سننه".
?
(1) نصب الراية، الإصدار للزيلعي كتاب السرقة. (فصل). باب ما يقطع فيه وما لا يقطع.
عند أبي داود في "الحدود باب السارق يسرق مراراً" ص 249 - ج 2.
عند الدارقطني في "الحدود" ص 364 - ج 2.
عند النسائي في "السرقة - باب قطع الرجل من السارق بعد اليد" ص 261 - ج 2، وفي "المستدرك - في الحدود - باب حكاية سارق قتل في الخامسة" ص 382 - ج 4.
عند أبي نعيم في "الحلية - في ترجمة عبد اللّه بن زيد الجهني".
عند الدارقطني في "الحدود" ص 346 وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ص 275 - ج 6: رواه الطبراني، وفيه الفضل بن المختار، وهو ضعيف، انتهى.
هكذا في النسخ التي نراجع عليها، ويتضح بالتأمل أن هنا سقطاً (البجنوري).
عند مالك في "الموطأ - في حد السرقة" ص 354.
عند محمد في "الموطأ - في الحدود - باب السارق يسرق، وقد قطعت يده، أو يده ورجله" ص 234، وعند الدارقطني في "الحدود" ص 365 - ج 2.
عند الدارقطني في "الحدود" ص 332.
عند البيهقي في "السنن" ص 273 - ج 8.(/3)
إذا علمت كل هذا لماذا لا تصلي
- إذا علمت : أن الله عز وجل يأمرك بالصلاة ؟… قال تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } .
- إذا علمت : أن الصلاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم قبل الموت!!...قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت : " الصلاة ، الصلاة ، وما ملكت إيمانكم " .
- إذا علمت : أن الصلاة مفتاح كل خير !!... قال ابن قيم الجوزية رحمه الله : { الصلاة مجلبة للرزق ، حافظة للصحة ، دافعة للأذى ، طاردة للأدواء ، مقوية للقلب ، مبيضة للوجه ، مفرحة للنفس ، مذهبة للكسل ، منشطة للجوارح ، ممدة للقوى ، شارحة للصدر ، منورة للقلب ، حافظة للنعم ، دافعة للنقم ، جالبة للبركة ، مبعدة من الشيطان ، مقربة من الرحمن } .
- إذا علمت : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة }
- إذا علمت : أن تارك الصلاة مع المجرمين في جهنم !!... قال تعالى { كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر ؟ قالوا : لم نك من المصلين } .
- إذا علمت : أن الصلاة مكفرة للذنوب !!… قال رسول الله صلى الله عيه وسلم : " ما من مسلم يتطهر ، فيتم الطهور الذي كتب الله عليه ، فيصلي هذه الصلوات الخمس الا كانت كفارة لما بينهن} .
- إذا علمت : أن المحافظة على الصلاة سبيل لدخول الجنة !!... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من حافظ على الصلوات الخمس ، ركوعهن ، وسجودهن ، ومواقيتهن ، وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة ، أو قال :- وجبت عليه الجنة ، أو قال :- حرم على النار } .
- إذا علمت : أنها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله!!... قال الرسول صلى الله عليه وسلم : { إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، فإن انتقص من فريضته شئ قال الرب عز وجل : انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل منها ما انتقص من فريضته ، ثم سائر أعماله على هذا "
وبعد هذا كله أخي في الله لماذا لا تصلي وترحم نفسك من الوقوع في الكفر؟؟(/1)
إذا فشت الفاحشة سهل ارتكابها 2/10/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
ما زلنا في رحاب سورة يوسف _عليه السلام_ والتي تعالج جملة من القضايا التربوية التي تحفظ الفرد والمجتمع، ومن تلك القضايا أن إفشاء المنكرات وتدوالها بين الناس يسهل على ضعاف النفوس ارتكابها كذلك من القضايا المهمة، أن الشماتة مرتدة على صاحبها لا محالة، فمن لم يستطع أن يأخذ بيد المبتلى فليكف عنه شره، وليتق الخوض في أعراض الناس؛ لأنها سبيل البلاء في الدنيا والهلاك يوم الحساب، فالنسوة لما عمدن إلى التفكه بامرأة العزيز والشماتة بها بعد أن شاع خبرها وقعن في ذات البلاء. يقول _تعالى_: "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (يوسف:30)..فأولاً: في قوله: "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ"، دليل على أن الخبر قد انتشر مع أن الأمر كان سراً، وحاول العزيز ولكن كانت محاولة ضعيفة عندما قال ليوسف ولامرأته – أي امرأة العزيز – "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ" (يوسف:29) فانتشر الخبر، وكل سر جاوز الاثنين شاع ، وهذا جانب مهم جداً في التعامل مع الأخبار الخاصة.
ومن أخطر القضايا الاجتماعية إفشاء الأسرار الخاصة، فكيف إذا كان مثل هذا الخبر الذي يلحق العار والشنار بصاحبه "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ"، ثم لا يصح إلا الصحيح. كيف؟ هؤلاء النسوة لم يقلن: إنه حدثت المراودة من يوسف، ولا مراودة بين يوسف وامرأة العزيز "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ" يعني هي التي تراود، وهذه شهادة ليوسف أن المراودة كانت من امرأة العزيز وليست من يوسف، وهذا يؤكد القاعدة المعروفة لا يصح إلا الصحيح ، والمرأة بهتت يوسف _عليه السلام_ ومع ذلك لا يصح إلا الثابت، ولذلك أقول لأصحاب المواقف، إذا كان موقفك سليماً وصحيحاً فاطمئن حتى لو بهتّ أو كذب عليك، سرعان ما يزول الكذب ويزول البهتان وتزول الإشاعة ولا يصح إلا الصحيح "امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ".
وهنا وقفة عجيبة: الذي يسمع هذه الآية يتصور أن هؤلاء النسوة صالحات أو طيبات؛ لأنهن حكمن على امرأة العزيز أنها في ضلال مبين، لماذا تراود فتاها؟ ولماذا تراود يوسف؟ والواقع ليس كذلك. فهذا أولاً مكر، وكما بين الله _جل وعلا_ "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ" (يوسف: من الآية31)، ثم أيضاً بقية القصة تؤكد على أنهن واصلن المراودة مع امرأة العزيز، وطلبن من يوسف _عليه السلام_ أن يستجيب لامرأة العزيز، ألم يقلن قبل ذلك إنها في ضلال مبين؟ والعبرة هنا أن البعض يريد أن يفشي سراً لبعض إخوانه أو أن ينقل خبراً فيظهر في موقف المنكر، فيقول: أرأيت كيف فعل فلان _هداه الله_ وهو غير صادق في هذا الأمر، وإنما أراد أن يفشي السر، وأن ينقل الخبر لمن لم يسمعه، وإلا فلم يكن صادقاً ولا ناصحاً.
وهكذا فعلت النسوة عندما قلن: "إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (يوسف: من الآية30)، وهذا نوع من المكر الذي يقع فيه بعض الناس، فإذا بلغه خبر خاص عن بعض إخوانه، قال: أرأيت فلاناً وقع في هذا الأمر، الله المستعان، يا إخوتي فلان صاحبنا وصديقنا وقع في أمر عظيم يجب أن نقف معه، وهو يكذب لا يريد أن يقف معه ولا أن يساعده، ولكن أراد أن يفشي سره وأن ينقل خبره للآخرين بهذه الطريقة التي هي نوع من المكر. "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ" (يوسف: من الآية31)، وهنا جاء مرة أخرى كيد النساء، وهنا جاء "إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ" (يوسف: من الآية28)، فلما سمعت بمكرهن جعلت هذه الخطة العجيبة الغريبة من أجل أن توقع هؤلاء النسوة وتبرئ نفسها لتعذر فيما فعلت، ففعلت ما فعلت، أي دعتهن وأعدت لهن هذا الإعداد للطعام ومتكأ، آتت كل واحدة منهن سكيناً، ثم قالت ليوسف: اخرج عليهن، فلما خرج عليهن، لما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم. هذا نوع أيضاً نوع من مكر النساء ومكر امرأة العزيز، وهي امرأة قادرة تملك السلطة والقوة، ففعلت هذا الفعل.(/1)
ثم تأملوا شماتة هؤلاء النسوة من امرأة العزيز "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (يوسف:30)، هذه شماتة وليست نصيحة، وهذا مزيد إفشاء للخبر، فارتدت الشماتة عليهن، ولذلك حدث منهن ما حدث، فلما وضعت لهن ما وضعت وحدث ما حدث، قلن: حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم. قالت: فذلكن الذي لمتنني فيه. يعني بينت أن هذا هو الذي أنتن أنكرتنه ولمتنني فيه، فإذن هن شريكات ويطلبن من يوسف _عليه السلام_ أن يستجيب للمرأة، فهذا دليل أن الشماتة ترتد على صاحبها، ولذلك يا أخي الكريم، إذا علمت أن أخاك قد ابتلي فلا تشمت به، وقلّ أن يشمت إنسان بإنسان إلا وقع في مثل ما وقع فيه، وقد ورد أثر قيل إنه حديث وهو ليس بحديث "لا تشمت بأخيك فيعافيه الله ويبتليك" هذه حكمة وهي صحيحة، كم من الناس شمت بأحد إخوانه فابتلاه الله _جل وعلا_، وعاقبه الله _جل وعلا_. فإذا رأيت المبتلى فاحمد الله _جل وعلا_، واسأله السلامة والعافية حتى لا تقع في مثل ما وقع فيه.
وفي موضوع الابتلاء، نجد هناك من يشمت فيمن ابتلي بدينه ويتعاطفون مع من ابتلي بدنياه، ومن ابتلي في دينه أعظم ممن ابتلي في دنياه؛ لأن الدنيا أمرها سهل، تذهب وتأتي، ولكن الدين أمره عظيم، فلنقف مع إخواننا ولا نشمت بأحد سواء كان في أمر دين أو أمر دنيا.
وقفة أخرى المكر لا يأتي إلا بالمكر، فلما مكرن بها مكرت بهن، "وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ" (فاطر: من الآية43).
وهنا مسألة مهمة جداً. إذا فشت المعصية سهل ارتكابها، وهذا باب يغفل عنه الكثير، إذا فشت المعصية في بلد أو مجتمع أو أسرة سهل ارتكابها. إذا استطعنا أن نفهم هذه الحقيقة استطعنا أن نتعامل مع كثير من القضايا، كيف؟ الأصل هو الستر على المسلم إلا من أفشى المعصية بشكل لا يصلح الستر عليه فيعاقب، ولذلك ذكر الله _تعالى_ في سورة النور "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (النور:19). إذا تساهل الناس فأفشوا المعصية ارتكبها كثير من الآخرين الذين لم يكونوا ليرتكبونها لو لم تفش، كانوا يتهيبون من الوقوع فيها.
فإدراك هذه القاعدة وهذا المفهوم يحصر المعصية، بينما إفشاؤها يسهل ارتكابها على كثير من الناس، مثلاً إذا علمت أن أحد أبنائك وقع في معصية، الأصل أن تستر عليه وتعالج الموضوع بحكمة؛ لأنه إذا أفشي بين أفراد الأسرة أنه يرتكب هذه المعصية كشرب الدخان مثلاً، يسهل ارتكاب المعصية منه ومن غيره ويزداد، ولذلك نلحظ أنه لو حكم وشهد رجلان بأن رجلاً قد قتل رجلاً فإنه تقبل شهادتهما ويقتص منه، بينما في موضوع الزنا، الفاحشة لابد من أربعة شهود، لماذا؟ لأن موضوع الزنا من ناحية الفاحشة أعظم وأخطر على المجتمع، ومن ارتكب الزنا وشهد أربعة فهذا قد أفشى وفضح نفسه، أما لو شهد ثلاثة بأنهم رأوه يفعل الفاحشة، لا تقبل شهادتهم بل يقام عليهم حد القذف. كل هذا من أجل ألا تفشو الفاحشة في الذين آمنوا، فمحاصرة الفحشاء والمنكر من عوامل استقرار المجتمع، هذا جانب يغفل عنه البعض ويتساهلون فيه ويخطئون في التعامل مع أبنائهم ومع من حولهم.
نسأل الله أن يحفظ مجتمعاتنا من الفساد، وأن يرد كيد الذين يسعون لإشاعة الفاحشة بين المسلمين عبر القنوات وغيرها من سائل الإعلام، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
إذا كان حر الصيف يؤذيك
دار القاسم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فيأخي الكريم: إن في تقلب الليل والنهار وتحول الفصول عبرة وعظة لنا، كما قال ربنا تبارك وتعالى ? يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ ?[ النور:44]، وقال جلّ شأنه: ? وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُور ?[ الفرقان:62] قال بعض السلف: من عجز بالليل كان له في أول النهار مستعتب - أي فرصة للاعتذار والاستغفار- ومن عجز بالنهار كان له في الليل مستعتب.
وإذا كان مثل هذا في الليل والنهار، فهو أيضاً في تعاقب الفصول التي هي أيام وليال.. فإن فيها عبرة للمعتبرين، وذكرى للمتذكرين، جعلنا الله وإياك منهم.
أخي الحبيب: حديثي إليك في هذه الأسطر عن فصل من هذه الفصول، ولعلك عرفته من خلال عنوان هذه الوريقات التي بين يديك، نعم.. إنه فصل الصيف.. هذا الفصل الذي يذكّر حرّه بأمور كثيرة، منها:
تذكر قول النبي كما في الصحيحين: ( اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فاذن لها بنفسين؛ نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم ) فالمؤمن يتذكر النار، عند رؤيته لأمور كثيرة: منها تذكره لها كلما لفحته رياح الصيف وألهبت وجهه الناعم بحرها.. ويقول في نفسه: إذا كان هذا من نفس جهنم فكيف بجهنم نفسها؟؟!! عياذاً بالله تعالى منها.
وإذا كنا- أخي الحبيب - لا نحتمل نار الدنيا وهي جزء من تسعة وستين جزءاً من نار الآخرة، فما الشأن في نار الآخرة؟؟!! ولذا قال بعض السلف: لو أخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا لقالوا فيها ألفي عام. يعني أنهم ينامون فيها ويرونها برداً.
ومن ذلك: تذكر أحوال السلف الصالح - رحمهم الله- الذين كانت قلوبهم حية.. نعم أخي.. فكل ما يرونه ويشاهدونه في الدنيا يذكرهم بالآخرة.. ومن ذلك أن بعض السلف كان إذا شرب الماء البارد في الصيف بكى وتذكر أمنية أهل النار حينما يشتهون الماء، فيحال بينهم وبينه، ويقولون لأهل الجنة: ? أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ </FONT>?[ الأعراف:50] .
ومن ذلك: أن بعض السلف كان إذا دخل الحمام في الصيف وشعر بحر المكان تذكر النار، وتذكر يوم تطبق النار على من فيها وتوصد عليهم، ويقال لهم: خلود فلا موت، فإذا خرجوا من الحمام أحدث ذلك التذكر لهم عبادة.
ومن ذلك أيضاً: أن بعض الصالحين صبّ على رأسه ماء من الحمام فوجده شديد الحر، فبكى وقال: ذكرت قوله تعالى: ? يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ?[ الحج: 29] فلا إله إلا الله ما أشد تذكرهم.. وما أعظم اعتبارهم!! ورأى عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله- قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فبكى، ثم أنشد:
من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار، يخاف الشين والشعثا
ويألف الظلّ كي تبقي بشاشته فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا
في ظلّ مقفرة غبراء مظلمة يطيل تحت الثرى في غمّها الليثا
تجهّزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
وكان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حرّ الظهيرة، يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار، فإن الساعة تقوم يوم الجمعة.
أخي الحبيب: وليس هذا فحسب! فهم - رضي الله عنهم- رغم انعدام وسائل التكييف والراحة ـ التي ننعم بها في زماننا والحمد لله ـ إلا أن ذلك لم يقطعهم عن طاعة من الطاعات، مهما كانت مشقتها على النفس، ومن تلك الطاعات التي كانت لا تنقطع في مثل هذه الحال: الجهاد في سبيل الله تعالى، ولعل أول ما يخطر في بالك تلك الغزوة العظيمة غزوة تبوك، التي خرج فيها سيد الخلق ـ بأبي هو وأمي ـ ، ومعه أصحابه - رضي الله عنهم - في شدة الحر، والتي لم تمنعهم عن النفير في الجهاد؛ لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولكنها منعت المنافقين الذين قالوا كما أخبر الله عنهم ? وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ ? [ التوبة:81] فجاءهم الجواب المناسب لمقالتهم: ? قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ? [ التوبة:81] أما من تخلف من الصحابة الصادقين بغير عذر، فقد تاب الله عليهم بعد ذلك في قصة مشهور.
أخي الحبيب: بعضنا يعجز عن مجاهدة نفسه على القيام ببعض الطاعات، وهو منطرح على فراشه الوثير تحت المكيف، آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده من ألوان الطعام الشيء الكثير، ومع ذلك يتثاقل عن صلاة الفجر جماعةً مع المسلمين، أو يتكاسل عن القيام بحقوق الوالدين، وصلة الأرحام.. إلى غيرها من أبواب الخير، أو يظن بمثل هؤلاء أن يجاهدوا أعداء الأمة وهم لم يستطيعوا جهاد أنفسهم؟!!(/1)
ومن ذلك أيضاً حرصهم على الصيام في الصيف لعظيم ثوابه، ولهذا كان معاذ بن جبل وغيره من السلف - رضي الله عنهم - يتأسف عند موته على.. أتدري على ماذا؟ أتظنه أسف عن قصر لم يشيّده؟! أم تراه أسف على صفقة تجارية لم يربحها؟! أم على إمرأة حسناء لم ينكحها؟! كلا، لا هذا ولا ذاك.. بل أسف على ظمأ الهواجر.. ولهذا كان بعض الصالحين يحرص على صيام أشد أيام الصيف حراً، فيقال له في ذلك، فيقول: إن السعر إذا رخص، اشتراه كل أحد وهذا ـ وربي ـ من علو الهمة.
فيا عبدالله: جاهد نفسك على هذه الطاعة العظيمة، التي اختصها الله – سبحانه - من بين العبادات بقوله الصوم لي وأنا أجزي به </B>)كما في الصحيحين، جاهدها ولو يوماً في كل عشرة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وإن ألم العطش في اليوم الحار سيذهب في أول شربة ماء، أما أجره؛ فأرجو الله تعالى أن تناله بل وتسرّ به يوم يقال في الدار الآخرة ? كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ </FONT>?[ الحاقة:24] ، ويوم ينادى الصائمون ليقال لهم: ادخلوا من باب الريان.
أخي: إن صيام الفرض يشترك معك فيه كل رجل من المسلمين، فأين همتك العالية؟ أين همتك التي لا ترضى بالوقوف عند الفرض في أعمال الخير؟ أين سلفك الصالح مع حرصهم على إتقان الفرائض لم يكونوا يتوقفون عندها، بل سمت هممهم إلى الذروة في المسابقة إلى الخيرات؛ لأنهم يعلمون أن سلعة الله ـ وهي الجنة ـ غالية، وأن دخولها وإن كان لن يتم إلا برحمة الله تعالى، إلا أن العمل سبب لذلك:
ومن يطلب الحسناء لم يغله المهر
أخي الحبيب: إن بعض الناس ربما هرب في الإجازة الصيفية من الحر الشديد الذي يصطبغ به جو الجزيرة العربية، ربما هرب إلى أماكن باردة، أو معتدلة، وهذا لا محذور فيه ـ إذا كان ذلك السفر مضبوطاً بضوابط الشرع ـ إلا أن الملاحظ أن بعض الناس- هداهم الله - يظن أنه بسفره للخارج قد خرج عن مراقبة الله.. فتراه يقتحم النار بأفعاله، نظر محرّم.. سماع محرّم.. مراقص، مشروبات محرّمة.. فواحش ـ والعياذ بالله ـ فإلى أولئك الفارين من الحر، والواقعين في أسباب غضب الرب جل جلاله يقال لهم: إلى أين تفرون؟ ومن أي شيء تهربون؟ إن المنافقين عصوا الله تعالى بجلوسهم في ظلال المدينة هرباً من الحرّ، وتركهم رسول الله وأصحابه -رضي الله عنهم- في حرّ الرمضاء استعداداً لقتال العدو، فياليتكم ـ معاشر الفارّين ـ تحولون هروبكم من الحر خارج البلاد إلى جهاد في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، ونشر الإسلام بصورته الصحيحة، كما خرج قدوتكم وحبيبكم للجهاد وقتال أعداء الله، ونشر الإسلام بين الناس، ليسعدوا به كما سعدت به أنت، وسعد به أهلك وعشيرتك.
إن الجهاد الذي نطالبك به، لا يحتاج إلى حمل السلاح الثقيل ! ولا يحتاج إلى خبرة بأساليب الحرب! بل هو جهاد، بالقدوة الحسنة التي تترجمها بأخلاق الإسلام، والبعد عن المحرمات، وجهاد بالكلمة الطيبة، في دعوة من تلاقيه من الناس ـ في أي أرض تذهب إليها ـ مسلماً كان أم كافراً، كل حسب ما يناسبه.
ولعلك تعتذر بأنك لست من حملة العلم الشرعي! أو لست من الدعاة! وما هذا ـ أيها الحبيب ـ بعذر، فمكاتب دعوة الجاليات منتشرة في كل مكان، وفيها كتب نافعة لأغلب لغات أهل العالم، وهل يكلفك ـ أيها الغيّور على دينك ـ الذهاب إليها لتأخذ معك بعض الكتب أو الأشرطة التي تناسب لغة البلد التي ستسافر إليها؟ لتكون بذلك داعية خير، ورسول سلام، وحامل دعوة، وما يدريك! فلعل الله تعالى أن يهدي على على يديك أحداً في سفرتك هذه إلى الإسلام، فهو ـ والله ـ خير لك من الدنيا وما فيها، وغير خاف عليك أن كل عمل صالح يعمله ذلك الذي اهتدى على يديك، فسيكون في ميزان حسناتك.
أخي .. رعاك الله:تمتع بما أحل الله لك، من وسائل تكييف، وراحة، وسفر، ولكن.. إياك أن تكون ممن يهرب من حر الدنيا ويقع فيها بسبب التعرض للحر الأكبر في نار جهنم أعاذنا الله وإياك والمسلمين منها، وتذكر ـ حفظك الله ـ أنك بخير عظيم مادمت تحمل همّ الدعوة إلى دينك ولو بإهداء كتيب أو إيصال شريط، ولا يكن ذلك الهندوسي القابع في زوايا بعض المزارع أو تلك الراهبة التي تعيش في غابات أفريقيا، لا يكن هؤلاء خيراً منا في الدعوة، مع أنهم يدعون إلى أديانهم الباطلة، ونحن ندعو ـ وبكلفة قليلة ـ إلى خير الأديان وخاتمتها وأكملها.
أسأل الله تعالى أن يحفظك وأن يبارك فيك أينما كنت، وأن يعيذنا وإياك من أسباب غضبه، وأليم عقابه، وأن يجعلنا جميعاً من الدعاة إلى سبيله على بصيرة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
إذا نشرت المرأة
السؤال :
ما الحكم فى الزوجة التي لا تطيع زوجها ، فهي تصر على ان تضع العطور عند الخروج من المنزل وتقول ان رائحتها ليست ظاهرة وكذلك ارتداء ملابس يرفضها الزوج مع العلم بانها محجبة وتراعى الله فى زيها و كذلك إصرارها على العمل حتى اذا ادى ذلك الي الطلاق وهى تقول ان الزوج يبالغ فى ارائة و طلباتة -فما هو رأى الدين فى ذلك وما هو حكم الله؟ وماذا يفعل الزوج معها ومع كل هذا العند و التحدى هل يطلقها؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
يتضمن سؤالكم عدة مسائل تحتاج إلى بيان كل منها على حدة :
المسألة الأولى : طاعة الزوج واجبة على زوجته ما لم يأمر بمعصية ، و من حقه عليها بذل نفسها و عدم التمنع من بذل ما عليها من استمتاع و خدمة بالمعروف و يلزمها طاعته في ترك الأمور المستحبة كالصيام و سفر الحج ، و الحج الذي ليس بواجب و أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه و لا تدخله أحداً إلا برضاه و أن تحفظه في نفسها و ولده و ماله و أما طاعتها له في الأمور الواجبة شرعاً فهي ألزم و أولى بالصون و المراعاة .
غير أن الطاعة الواجبة للزوج على زوجته مشروطة بكون المأمور به مما أباحه الله تعالى أو ندب إليه أو أوجبه ، أما إن كان معصية فلا سمع و طاعة فيها ، كائناً من كان مصدرها ؛ زوجاً أو غيرَ زوجٍ ، و لا تجوز مجارات رغبات أحدٍ باقتراف ما حرّم الله ، إذ لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق ، و لكنّ الطاعة في المعروف .
روى الشيخان و أبو داود و النسائي و أحمد عنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ ) .
و إذا تبين للمرأة وجوب طاعتها لزوجها ، و سألها أمراً لا معصية فيه ، أو صرفَها عن غير واجبٍ ، أو نهاها عن مكروهٍ أو محرّم ، فمن الحري بها أن لا تفرط فيما افترض عليها من طاعته ، و لها لقاء ذلك حافزان عظيمان :
أولهما : أن يبادرها الزوج بأداء حقوقها و ما أوجبه الله تعالى عليه تجاهها ، لقوله تعالى : ( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) [ البقرة : 228 ] .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : أَيْ وَ لَهُنَّ عَلَى الرِّجَال مِنْ الْحَقّ مِثْل مَا لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ ، فَلْيُؤَدِّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى الآخَر مَا يَجِب عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ ... وَ فِي حَدِيث بَهْز بْن حَكِيم عَنْ مُعَاوِيَة بْن حَيْدَة الْقُشَيْرِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُول اللَّه مَا حَقّ زَوْجَة أَحَدنَا ؟ قَالَ : ( أَنْ تُطْعِمهَا إِذَا طَعِمْت وَ تَكْسُوهَا إِذَا اِكْتَسَيْت وَلا تَضْرِب الْوَجْه وَ لا تُقَبِّح وَ لا تَهْجُر إِلا فِي الْبَيْت ) وَ قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنِّي لأُحِبّ أَنْ أَتَزَيَّن لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبّ أَنْ تَتَزَيَّن لِي الْمَرْأَة لأَنَّ اللَّه يَقُول : ( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) .اهـ.
و ثانيهما : تحصيل الأجر الجزيل عند الله تعالى ، و نيل رضاه ، لما روي عن أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ، قالت : قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّم : ( أيما امرأة ماتت و زوجها عنها راضٍ دخلت الجنة ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَ حسنه ، و الحاكم و صححه .
و روى أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إذا صلت المرأة خمسها و صامت شهرها و حفظت فرجها و أطاعت زوجها قيل لها : ادخلي من أي أبواب الجنة شئت ) . و روى نحوه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه .
و معنى هذا الحديث كما بينه الإمام المناوي في فيض القدير : ( إذا صلت المرأة خمسها ) المكتوبات الخمس ( و صامت شهرها ) رمضان غير أيام الحيض إن كان ( و حفظت ) و في رواية أحصنت ( فرجها ) عن الجماع المحرم و السحاق ( و أطاعت زوجها ) في غير معصية ( دخلت ) لم يقل تدخل إشارة إلى تحقق الدخول ( الجنة ) إن اجتنبت مع ذلك بقية الكبائر أو تابت توبة نصوحاً أو عفي عنها .اهـ.
فالواجب على كل من الزوجين أن يتقي الله في الزوج الآخَر ، و يحسن إليه ، محتسباً في ذلك جزيل الأجر ، و عظيم الثواب عند الملك الوهاب ، يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ .(/1)
إذا نشزت الزوجة
السؤال :
فما هو رأى الدين فى ذلك وما هو حكم الله؟ وماذا يفعل الزوج معها ومع كل هذا العند و التحدى هل يطلقها؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إذا عصت المرأة زوجها فيما تجب عليها فيه طاعته فهي آثمة ، و خاصة إذا أصرّت على ذلك غير مبالية برضاه من عدمه ، بل حتى بإيقاع الطلاق عليها بسبب ذلك .
و على الزوج و الحال كذلك أن لا يتعجل بإيقاع طلاق أو فراق بل يسعى للإصلاح بقدر المستطاع ، و معالجة ما قد يحدث من نشوذ زوجته بما يناسب ما جعله الله بينهما من المودة و الرحمة ، و لا يتجاوز ما هو مقرر شرعاً في هذه الحال كما في قوله تعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَ بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَ اللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ) [ النساء : 34 ] .
و ليس هذا مقام التوسع في عرض وسائل حل الخلافات الزوجية ، لأن المقام مقام فتيا و ليس مجلس قضاء ، و من القيام بواجب النصيحة للزوج – و قد طُلِبَت في السؤال – حثُّه على أن يستفتي أهل العلم و يستشير أهل الخبرة و الدراية في بلده فيما شجر بينه و بين أهله ، و لا يفتأ يراجع نفسه و يحاسبها بين الفترة و الفترة ، فقد يكون هو المخطئ المحقوق و إن بدا له خلاف ذلك في بداية الأمر ، و لذلك أرشد الله تعالى إلى الاحتكام إلى طرف ثالث في الخلافات الزوجية ، لأن من ينظر من خارج موقع الحدث يكون أقدر على إدراك حقائق الأمور و معالجتها ممّن هو طرف فيها .
قال تعالى : ( وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ) [ النساء : 85 ] .
هذا و اللهَ أسأل أن يوفقنا جميعاً لخير القول و العمل ، و أن يعصمنا من الضلالة و الزلل ، و أن يصلح ذات بيننا و يؤلف بين قلوبنا ، و يأخذ بأيدينا إلى ما فيه رضاه عنّا .
و صلى الله و سلم و بارك على نبيّه محمد ، و آله ، و صحبه أجمعين .(/1)
إذا هبت رياحك فاغتنمها 2/4/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، لا تزال وقفات سورة يوسف متصلة ولا يزال الحديث عن قوال الله: "قال اجعلني على خزائن الأرض" مستمراً، وفي هذه الوقفة أنبه على استغلال الفرص المناسب واستثمارها، كما استثمر نبي الله يوسف هذه الفرصة، ومن تأمل سيرة نبي الله يوسف يتضح له بجلاء أنه لم يكن غراً ساذجاً حاشاه بل كان يستثمر الفرص بدقة متناهية وفي كل لحظة، استثمر الفرصة عندما جاءه السجينان وقالا له: عبر لنا الرؤيا، فوجدها فرصة مواتية لأن يدعوهما إلى الله _جل وعلا_ قبل أن يعبّرها لهم.
واستثمر الفرصة عندما أراد أن يخرج الساقي فوجدها فرصة لأن يقول اذكرني عند ربك.
واستثمر الفرصة عندما جاؤوا وطلبوا منه تعبير الرؤيا فعبرها لهم ولم يمتنع لإدراكه ما قد يترتب على ذلك.
واستثمر الفرصة عندما قيل له اخرج من السجن، فوجدها فرصة سانحة لكي ما يظهر براءته ويشهرها على الملأ.
واستثمر الفرصة عندما قابل الملك وعرض عليه هذا العرض "إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ" فوجدها فرصة مناسبة لطلب الولاية على خزائن مصر.
فهل ننحن نقتنص الفرص المناسبة في الوقت المناسب؟ وهل نستثمر الفرص التي تسنح في حياتنا لأجل الدين كما فعل يوسف؟ كم أضعنا من الفرص؟
وهل هذا كان دأب سلفنا؟ عكاشة _رضي الله تعالى عنه_ عندما ذكر النبي _صلى الله عليه وسلم_ السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، قال: يا رسول الله ادع الله أن أكون منهم قال: أنت منهم، وقال للآخر سبقك بها عكاشة!
وورد عند مسلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "يأمر الله بإخراج أربعة من النار فيعرضون على الله فيقول واحد منهم يا رب إذ أخرجتني منها فلا تعدني إليها فيقول الله _جل وعلا_ لا تعيدوه" وهذا ضرب من استثمار الفرص.
ورجل آخر مرّ في الطريق فوجد غصن شجرة فأزاله فغُفر له.
و ثالثة بغي وجدت كلباً فسقته فغُفر لها.
كل ذلك استثمار للفرص، فانظر كيف كانت عاقبته، فهل نستثمر الفرص؟ كما استثمرها هؤلاء.
أم نضيعها واحدة إثر أخرى، ثم نلبس بعدها متأسفين حادبين على أمر الأمة! مفرطين في جنب الله؟
وفقني الله وإياكم للحرص على ما ينفعنا، والاشتغال بما يصلحنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.(/1)
إذن المسامحة
مفكرة الإسلام : إن الزواج علاقة قائمة على الحب والثقة والاحترام في المقام الأول وهناك ثلاثة أشياء إذا انعدمت في الحياة الزوجية كان الزواج غير ناجح وسينتهي عند منتصف الطريق أو عند أول نقطة خلاف بين الزوجين هذه الثلاثية هي:
عدم الثقة عدم الاحترام عدم الشعور بالأمان
عدم الثقة: فإذا فُقدت الثقة بين الزوجين ضعف الولاء والارتباط بالأسرة وحل الشك محل الثقة وظهرت المشاكل تباعًا.
عدم الاحترام: الاحترام بين الزوجين مهم جدًا في توثيق عُرى الأسرة، وأي مظهر من مظاهر عدم الاحترام سيكون بلا شك سببًا في تحطم الأسرة وانهيارها. وهنا تفقد العلاقة الزوجية جوها وودها وولاءها ويتمنى كل من الزوجين الفراق.
ومن احترام الزوج لزوجته أن يستمع إليها إذا تكلمت، وأن يستشيرها ويأخذ برأيها إن كان صوابًا، ولا يستهزأ بها أمام الآخرين سواء الأهل أو الأولاد، وعدم تشويه صورتها أمام نفسها ومقارنتها بغيرها من النساء أو أنها لا تصلح أن تكون زوجة لأن هذا له أثره السيئ على نفسية الزوجة. وفي سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم الكثير من المواقف التي تعلمنا مبدأ الاحترام وتقدير المشاعر الزوجية عند معاملته لزوجاته صلى الله عليه وسلم.
عدم الشعور بالأمان: إذا لم يتوافر الشعور بالأمان لدى كلا الزوجين فإن الولاء للمؤسسة الزوجية سينتهي حتمًا، وذلك لعدم شعور أحدهما بالأمان تجاه الآخر والاطمئنان لتصرفاته. وإذا أعطت الزوجة لزوجها الحب والحنان والتضحية ونسيت نفسها ثم قوبل هذا العطاء وهذه التضحية بالنكران أو الخيانة فإن ذلك يحطم الزوجة.
ومن علامات الأمان أن يبث كل من الزوجين همومه للآخر ويتحدث كل منهما عن طموحه وأحلامه، ويردد بين حين وآخر أنه بحاجة للطرف الآخر وأنه يشكر الله تعالى أن جمع بينهما في علاقتهما الزوجية وهذا من الإشعار بالأمان في القول، فدفاع كل واحد منهما عن الآخر عن ماله واسمه وسمعته وعمله بل وحتى عن عيوبه وأخطائه، هذا ما يزيد شعورهما بالارتياح وتحقيق الأمن. ولعل حاجة المرأة للشعور بالأمان أكثر منها بالنسبة للرجل ولهذا نقول للزوج لا تتضايق من ذلك، وكن صريحًا معها وأخبرها عن حبك وعن حاجتك لها، وخصوصًا إن كانت امرأة صالحة وتستحق ذلك.
ورأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أعلنها صراحة ليشعر زوجته السيدة عائشة رضي الله عنها بالأمان. حيث قال لها في حديث أم زرع الطويل: [[كنتُ لكِ كأبي زرع لأم زرع لكني لا أطلق]].
فاعفوا واصفحوا:
وذلك بأن يحاول كل طرف أن يكون المبادر أولاً إلى المسامحة والعفو، فإنه لا يمكن تجنب وقوع سوء فهم أو اختلاف أو مشكلة في أي علاقة زوجية، وحتى في أحسن العائلات كما يُقال، ويمكن لهذه الاختلافات والمشاكل أن تترك أثارًا سيئة على الزوجين إن لم يحسنا التصرف معها وخاصة أن الناس يمكن أن يروا الأمور من زوايا متعددة ومتباينة، وقد لا يصلون إلى قناعة واحدة في معرفة من هو المخطئ ومن هو المصيب في موقف معين. فنرى كلاً من الزوجين يلوم الآخر، ويحاول الانتصار لنفسه والدفاع عنها، والانتقام من الآخر، وكشف عيوبه وتقصيره. وقد يكون آخر ما يخطر في ذهن الواحد منهما في هذا الموقف أن يعذر الآخر ويسامحه أو يعتذر إليه.
وكما أن الحب عبارة عن اتخاذ قرار برعاية الطرف الآخر ومساعدته، وكذلك المسامحة والمغفرة تحتاج إلى قرار مشابه، فالمعذرة ليست مجرد عواطف وإنما موقف وقرار وتنفيذ، وقد يبقى الإنسان منفعلاً وغضبانًا وحتى بعد المسامحة، وهذا أمر معتاد.إنه من السهل أن يقول الواحد: 'اعف واصفح' ولكن التطبيق شيء آخر.
ومن الصعوبة أيضًا أن يحاول الإنسان نسيان الإساءة وتجاوزها، ولكنه مع ذلك يستطيع أن يتخذ ذلك القرار ويتجاوز الإساءة، ويسعى إلى تحديد موعد للجلوس والحديث الهادئ في موضوع المشكلة، للتخفيف من المشاعر السلبية، والسعي لتخفيف احتمال تكرار ما حدث. ويمكن للزوجين في هذه الجلسة التعبير عن مشاعرهما لما حدث ليس من باب الانتقاد، وإنما لمشاركة الطرف الآخر المشاعر والأفكار والعواطف.
والعادة أن يساعد هذا الحديث على زيادة فهم كل منهما للآخر، ويمكنهما من تحسين الحوار بينهما. ولابد بعد هذا من أن يقرر كل منهما بأنه لن يعود لذكر الموضوع في ساعات الغضب والاختلاف. وقد يحتاج الزوجان بعد ذلك لبعض الوقت لتتعمق بينهما مشاعر الثقة والاطمئنان.ويحتاجان لبناء جدار من الثقة عال يقيهما شر الخلاف وسوء فهم بعضهما لبعض.
وقاكما الله تعالى شر الخلاف والاختلاف وحفظ بيتكما من كل سوء وشر(/1)
إذن ولي الأمر بقنوت النوازل
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ كتاب الصلاة/ صلاة التطوع/الوتر والقنوت
التاريخ ... 28/2/1424
السؤال
ونحن نرى ما يجري في العراق الآن من مآسي فهل يشرع لنا القنوت؟ وهل يشترط الإذن من ولي الأمر بدعاء القنوت؟ وهل هناك ضابط للدعاء في قنوت النوازل؟
الجواب
نقتطف لك جزءاً من بحث للشيخ: د0 سعود بن عبد الله الفنيسان جواباً على سؤالك:
الدعاء مخ العبادة وهو أقوى سلاح يوجهه المسلم إلى العدو مباشرة دون خسائر مادية أو بشرية، وأفضل ما يكون في صلب الصلاة وما شرع القنوت في النوازل إلا من أجل الدعاء حيث العباد يناجون ربهم، فالقنوت جزء من الصلاة كتلاوة القرآن والتسبيح في الركوع والسجود فلا فرق بين هذا وذاك فكلا الحالين سنة ثابتة واجبة الاتباع فلا يجوز لأحد كائناً من كان أن يمنع الناس من الصلاة جماعة يناجون فيها ربهم عندما تنزل بهم نازلة أو تحل قريباً من دارهم، كما لا يجوز لأحد أن يزيد أو ينقص في أركان وواجبات الصلاة قال تعالى:"وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، وقال:"وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" فلا يجوز أن يمنع المظلوم أن يدعو على ظالمه؛ لحديث:"اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب"، كما لا يجوز لأحد أن يمنع المسلم أن يدعو لإخوانه المسلمين المستضعفين والمضطهدين في كل مكان من الأرض لما جاء في الحديث "إذا دعا المسلم لأخيه لظهر الغيب قال الملك ولك مثل ذلك".
هل القنوت في النوازل من المصالح المرسلة؟
المصلحة المرسلة قاعدة من قواعد الأصول التبعية في الشرعية تأتي بعد الأصول الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس).
ومعنى كونها تبعية، أي: أنها ليست أصلاً بنفسها بل تابعة لأحد هذه الأصول الأربعة، ومعنى كونها مرسلة أي مطلقة خالية من الدليل الخاص على موضع النزاع أو البحث إذ لو كان عليه دليل لألحق بالكتاب إن كان الدليل آية أو بالسنة إن كان الدليل حديثاً أو أثراً، والقنوت في النازلة –محل النزاع- ورد فيه دليل خاص بعينه، كالحديثين المشار إليهما أعلاه، فلا يدخل حينئذ قنوت النازلة تحت المصلحة المرسلة بحال، ومثال المصلحة المرسلة التي يجوز للحاكم التدخل فيها بالأمر أو المنع: كصيد الطيور وبيع السلاح في زمن معين لا على الإطلاق لأن صيد الطيور وبيع السلاح هو في الأصل مباح بأدلة الإباحة الشرعية العامة وهذه الإباحة غير محددة بزمن أو حال أو هيئة فمتى رأى ولي الأمر في المنع أو الجواز مصلحة راجحة للأمة جاز له الأمر أو المنع من ذلك ووجب على الناس الالتزام والاتباع.
وتحديد النازلة ليس موكولاً لأحد بعينه ولا أعلم أحداً من العلماء خصصها بولي الأمر حيث النازلة كارثة وضرر عام يلحق بالأمة يحسه الناس كلهم ولا تختلف على وقوعه أو وصفه أنظار الناس ولو كان موكولاً لولي الأمر أو آحاد الناس لارتبط بهؤلاء تشريع الصلاة بأركانها وواجباتها وسننها وهذا معلوم بطلانه لكل ذي عينين.(/1)
ويجب أن يعلم أنه ليس من السنة في دعاء القنوت أن يخرج عن سبب النازلة فيدعى على عموم الكفار بالموت والهلاك، والنازلة التي نزلت بالمسلمين هي الظلم والاعتداء عليهم بتدمير بلادهم وأخذ أموالهم وانتهاك حرماتهم، فالعلة في الدعاء على الكفار في النوازل هي تجدد الاعتداء والظلم على المسلمين، أما تكذيب الكفار لما جاء به الأنبياء وعداوتهم للمسلمين فهي ملازمة للكفر دوماً وأبداً، منذ كفر إبليس بربه وأهبطه من السماء إلى الأرض إلى قيام الساعة فوصف اليهود والنصارى بالكفر وصف كاشف لا ينتج الحكم وهو الدعاء عليهم بالهلاك، أما الظلم والاعتداء فهو الوصف المؤسس المنتج للحكم المذكور (القنوت)، وسنة الله أن الكفار أكثر عدداً من المسلمين قال تعالى:"وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين"، وحديث:"يا آدم أخرج بعث النار فيخرج من كل مئة تسعة وتسعون"، وما ورد من آثار في الدعاء على الكفار من أهل الكتاب فيراد بهم المحاربون منهم للمسلمين، وكان عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- إذا أبطأ عليه خبر جيوش المسلمين قنت فكان مما قاله ذات مرة:"اللهم ألعن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك ويقاتلون أوليائك" فوصفهم بالكفر والتكذيب ليس جديداً وكونهم يقاتلون أولياء الله في عهده –رضي الله عنه- هي العلة المسببة للدعاء عليهم باللعنة والهلاك، ومن لم يقاتلنا لا ندعو عليه بل ندعو له بالهداية وهذا معنى قول الله "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"[الممتحنة:8]، فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ومعنى ذلك أن من سالمنا سالمناه، ومن اعتدى علينا قاتلناه، أما منع ولي الأمر الناس من القنوت أصلاً فلا يجوز له ولا تلزم طاعته فيه، لأن القنوت في النازلة سنة نبوية ثابتة بدليلها الخاص وهي عبادة محضة فلا تدخل تحت نظر ولي الأمر، فهي كتحية المسجد تتعين إذا حصل موجبها وهو الدخول، وسيأتي لهذا مزيد بيان قريباً.(/2)
إرادة الصمود في شعر الاميري حسام عبد القادر صالح*
"لعل من أبرز جنايات السياسة على الأدب البنّاء والفن الرفيع أن اعتقلت الأستاذ عمر بهاء الأميري سفيرًا لسورية في كراتشي وجدة فترة من الزمن بعد أن أمضى جانبًا من العمر الذي مازال فتيًا صاحبه. في مختلف الأعمال.. خلف مكتب أنيق وأضابير منسقة تغص بمقررات وتقارير تفرضها طبيعة العمل الدبلوماسي والتخطيط السياسي الدقيق.. وقليلون من عامة الشعب وجماهير المسلمين هم الذين يعرفون الأستاذ الأميري شاعرًا مطبوعًا .. رقيق اللفظ في جزالة .. عميق الفكرة في وضوح .. غزير الإنتاج في غير تبذل أو اسفاف .. مبدعًا فيما يسيل من مشاعره وأحاسيسه المرفهة على الورق ليعلن عن شاعر كسبته دنيا السياسة وخسرته دنيا القلم والفكر والجمال.."
هكذا وصف الأديب الأستاذ يوسف العظم الشاعر الراحل عمر بهاء الدين الأميري.
لمحة عن حياة الأميري:
الأميري سوري الأصل ولد عام 1920م ونشأ وأتم دراسته في الأدب والعلوم والفلسفة في حلب، ودرس الأدب وفقه اللغة في السوربون بباريس والحقوق في الجامعة السورية بدمشق..
مارس (الأميري) المحاماة في نقابة المحامين بحلب وترأس المعهد العربي الإسلامي بدمشق ورحل إلى المغرب أستاذًا لكرسي الإسلام والتيارات المعاصرة في دار الحديث الحسنية بالرباط عام 1955م زائرًا ومحاضرًا في جامعات الرياض والإمام محمد بن سعود والأزهر والجزائر والكويت وصنعاء وعدد من الجامعات الإسلامية في باكستان وتركيا وأندونيسيا.
وقد كان سياسيًا إسلاميًا مخلصًا، شارك في الدفاع عن (القدس) وحمل السلاح مجاهدًا مع جيش الإنقاذ خلال حرب فلسطين عام 1948م، وأسهم في تأسيس حركة (سورية الحرة) وكان رئيسًا للجانب السياسي فيها، ومثل سورية وزيرًا وسفيرًا في وزارة الخارجية، وتوفي رحمه الله عام 1994م، ودفن بالمدينة المنورة.
شاعرية الأميري:
الأميري شاعر منذ بواكير عمره، يحكي عن نفسه ويقول: "..بدأت أقول الشعر وأنا طفل في التاسعة وأحرقت ديواني الأول وأنا ابن اثنتي عشرة .."(1) وعن شعره قال العقاد: "دعاء يتكرر، ويتجدد ولا يتغير، يطالعه القارئ، فيسعد بسحر البيان كما يسعد بصدق الإيمان"(2) ويتحدث عن شاعريته واسلاميته الإمام الراحل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي – رحمه الله – فقال: "الشاعرية في شاعرنا الأميري قوية مشبوبة موهوبة جياشة تستند على حظ من البيان العربي غير قليل وثروة من اللغة محيطة بالمعاني وان لايمان صاحبنا الوزير الشاعر وتقواه وتربيته الدينية ومحافظته على الشعائر دخلاً كبيرًا في تكوين شاعريته واضفاء جلال الدين عليها.."(3).
آثار الأميري الفكرية:
كان الأميري مثار اهتمام الأوساط الأدبية – محليًا وعالميًا – وقد وصفه أكثر من ناقد وأديب ب(اقبال العرب) اشارة إلى شاعر الإسلام الكبير محمد اقبال – رحمه الله –، وقد وضع الأستاذ محمد قطب (الأميري) في كتابه الرائع (منهج الفن الإسلامي) ضمن خمسة، أربعتهم سكينة بنت الحسين وابن الرومي وطاغور ومحمد اقبال، وذكره الشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي في كتابه (علاقة الأدب بشخصية الأمة) على رأس قائمة من الشعراء والأدباء والاسلاميين الذين غرسوا في تربة الأدب الاسلامي روائع ابداعاتهم(4) وكان (الأميري) حاضرًا في دراسات العديد من المستشرقين وترجمت بعض قصائده إلى عدد من اللغات.
الأميري والحركة الإسلامية:
لم يكن (الأميري) شاعرًا وأديبًا فحسب، بل كان من رموز الحركة الإسلامية ورائدًا من روّاد العمل الإسلامي المعاصر، وكانت له علاقاته الواسعة مع رجالات الأمة وقاداتها وكان قدوة عملية في إرساء أدب الخلاف بين من يتعامل معهم من الإسلاميين وأشعاره تشهد على رحلاته الخاصة لاصلاح "ذات بين" وقع هنا أو هناك، وكان – رحمه الله – ذا خلق جم وصدر رحيب.
إرادة الصمود في شعر الأميري:
وبعد؛ فإن أجمل وأروع وأكرم ما يسجل للأميري في هذه الساعات العصيبة من تاريخ أمتنا الزاحفة نحو المجد، أن ينزل الأميري الميدان بشعره في عصر كثر فيه المتآمرون على كرامة الأمة وأمجاد التاريخ من شعراء الجنس والإغراء والشهوة.
ولعل أبرز ما يشتفه الناظر من شعر (الأميري) .. تلك الإرادة الصلبة والصمود الشامخ في مواجهة شدائد الحياة ومفاتن الدنيا ومغريات الشهوات، على خلاف شعراء ادعوا الحداثة زورا وسقطوا عند أول اختبار للصلابة، وعاشوا أذلة الشهوات والمغريات تحت ثياب المرونة وواقعية الأدب ولافتات الفن للفن. و(الأميري) يصور – في روعة – الحقيقة المركبة في النفس البشرية ألا وهي الصراع بين الغرائز والأهواء الدنيا، وبين المبادئ والمثل العليا، ويختصر ذلك في جمالية مبدعة، ويقول:
"في نفسه ملك.. يلفه حلك .. كأنه فلك .."(/1)
إن (الأميري) يصور الاغراء وهو يستدرك الإنسان عن طريق الخطيئة والانحراف، ويصور استجابة النفس حتى لنوشك أن نقول أنه لا قدرة للنفس الضعيفة على المقاومة، ثم يصور لنا انتصار المثل والمبادئ على نوازع الشر ومهاوي الضلال تصويرًا يجعلنا نوقن أن نفس المؤمن لا تهزم، وإن الشيطان على الدوام يجثو في النهاية عند قدمي المؤمن الصادق في ضراعة ذليلة وتسليم مخذول، ويقول الأميري:
الأميري والشباب:
إن الذي يقرب (الأميري) من أجيال الشباب الناهضة انه (لا يرتدي مسوح الوعاظ ليقف فينا موجهاً ومرشدًا بأسلوب الأمر والنهي الجاف، بل إنه في شعره يبدو انسانًا ككل الناس له غرائزه وميوله وفيه نقاط الضعف المركبة في النفس؛ ومن يقرأ جل قصائده يلمس أنه كيف كان صادقًا في نقل تجاربه إلينا بصراحة وبلا مواربة لا كما يفعل بعض المتظاهرين الذين يريدون أن يوهموا الناس بأنهم من طينة أخرى، وإن وسوسات الشيطان وأحابيله ليس لها في حياتهم أي دور ولا في سلوكهم أي تأثير(5) وله من أبيات:
وأنت تجد (الأميري) يتألم من مفاتن الجمال ومغريات تستهويه وتصيبه، فيلوذ بجوار ربه ويعوذ بوزره، ويعترف بعجره وضعفه، وقد تلقى العلم في باريس الخلابة حيث الفتنة والإغواء وهو شاب ناشئ غض الشباب فحافظ على شرفه ومروءته وعاش عاليًا وغيره في سقوط.. ومن قصيدته الرائعة (ضراعة ثائر) يقول:
الأميري وصراع الهدى والهوى:
وهذا الصراع العنيف الذي عاشه الأميري – الشاعر الإنسان – ضد الثقلة والهبوط والقيد والضرورة القاهرة والتيه والانحراف لم يخلد به إلى التسليم والاتكالية وادعاء ضغط الواقع، بل حمل المسئولية وسار بكل إيجابية؛ يقول عنه صديقه الزبيري شاعر اليمن: (ظلت مشاعر صاحبنا مشغولة بهذه الحرب الخفية مع عوامل الاغراء والفتنة وفورة الشباب لا يصرفها عنه إلا نشاطه الإسلامي فقد كان هذا هو المجال الوحيد الذي يستطيع الهروب إليه من مرارة هذا الصراع، لذلك يقول زملاؤه الذين عاصروه في باريس وفي غير باريس بأن جهاده في سبيل القضية الإسلامية لم يكن في يوم من الأيام كما كان في فرنسا وطن المغريات والمفاتن ومن أبياته:
لقد تسامى (الأميري)بغريزته وحولها إلى قوة يناضل بها عن الإسلام فحمل على عاتقه عبئًا ضخمًا من أعباء الحركة الإسلامية، ولكنه في شعره يطلق نفسه على سجيتها فيتجلى فيها الألم والضيق من مرارة هذا الصراع وفي صمود المسلم وإصرار المجاهد يقول:
النصر مع الصبر:
إننا في عصر الهزائم والاستدراك هذا، أشد ما نحتاج إليه هو الصمود والصبر، ليتحقق ما نرجوه من نصر، فإن المسلم يوقن أن النصر مع الصبر، وجهاد النفس يسبق كل جهاد، فإذا لم ننتصر في معركتنا الصغيرة مع ذواتنا ودنيانا وهوانا وشيطاننا فلن ننتصر يومًا على جهلنا وتأخرنا وتخلفنا، ولن يكون لنا عندها في معين النهضة منهل، وهذا (الأميري) يدعو إلى الصبر والصمود بلغته الخاصة، فيقول في مقطوعته (زفرة):
الأميري .. مع الله:
و(الأميري) دائمًا في غمرة صراعه يتطلع إلى الله في حرقة ولهفة ألا يدعه يهوي؛ ولم يستطع الأميري نشر شعره – تأدبًا – قبل أن يكون عن الله ومع الله، فنشر أول دواوينه وكان بعنوان مع الله وهاهو ذا يناجي ربه في مقطوعته (شكوى) بقوله:
عندما يغيب الصمود:
ويرسم (الأميري) – بحزن – صورة الواقع الإسلامي عندما يفارقه الصمود، فتبرز الدنيا في أركانه، وينقلب الميزان؛ فيعلو الفاجر ويعجز الثقة:
ويخاطب (الأميري) المستقبل الغائب، في لوحة شعرية رائعة أسماها (افتحي الباب).. وكأنه قد رسم للغيب بابا والمسلم طارقه:
ولا تهدأ نفسه حتى يعلن عزمه على خوض الصعاب مادام الله معه في طريقه ومساره:
وهنا نتذكر الحديث النبوي الشريف عن حذيفة – رضي الله عنه – مرفوعًا: "يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا دعاء الغريق"، و(الأميري) لا يخوض صراعًا مع نفسه والصعاب إلا ويستغيث بربه أن يسدد خطاه، ويكمل مشواره في مقطوعته السابقة ويقول:
إرادة الصمود وإرادة التغيير:
كان هذا هو (الأميري) في شعره وصموده والتجاءه لربه، ونحن اليوم إذ نواجه الحملة الصليبية الجديدة على عالمنا الإسلامي، وسيل الإعلام الموجه على ثوابتنا بلا سدود، وافرازات العولمة تلف مجتمعاتنا، وتبعات الحاضر، وتطلعات المستقبل، في أعناقنا.. لا خيار لنا سوى تقوية صفوفنا الداخلية بارادة الصمود حيال عاديات العصر، والصبر على واجبات التغيير في ثقة بالنصر من الله العزيز الحكيم.. وهذا ديدن (الأميري) في شعره:
وبعد:(/2)
فإن (الأميري) .. ذلك الشاعر الشفيف، هو ذلك السياسي الوزير والمجاهد الأكاديمي السفير؛ فنحسبه – والله حسبه – قد سعى نحو المعالي، فأصبح للسياسيين قدوة، وللشعراء ندوة، وللشباب الحيارى في دواوينه حظوة؛ فقد تكلم كثيرًا عن اصطراع الهدى والهوى، والعفة والشهوة، لكنه كان دائمًا في انتصار؛ وهذا الأنموذج هو ما يشتاق إليه شباب اليوم شوقًا، ويهتزون لذكره طربًا.. أن كان قبلهم من رجال الحركة الإسلامية وأدبائها من أحس بمواجعهم وخاض صراعهم؛ بل من أخمد نار هواه.. وانتشى في علاه .. ألا رحم الله الأميري.
----------
(1)ديوان ألوان طيف – عمر بهاء الدين الأميري – 14 – بدون تاريخ
(2)ديوان مع الله – عمر بهاء الدين الأميري – 240 – دار الفتح – بيروت – 1392هـ
(3)المرجع السابق – 219.
(4)علاقة الأدب بشخصية الأمة – د/عبد الرحمن العشماوي – 150 – مطبعة العبيكان.(/3)