يقول الباحث الفيزيائي الفرنسي روبرت فوريسون الذي تعرض 4 مرات لمحاولة الاغتيال: (ان أسطورة غرف الغاز النازية كانت قد ماتت يوم 21/2/1979 على صفحات جريدة اللوموند عندما كشف 34 مؤرخ فرنسي عجزهم عن قبول التحدي بصدد الاستحالة التقنية لهذه المسالخ الكيمائية السخيفة.). و يضيف فوريسون أيضا: ( خلال التاريخ عرفت الإنسانية مائة محرقة حافلة بخسائر رهيبة بالأرواح وكوارث دموية، ولكن معاصرينا تعودوا أن يتذكروا واحدة فقط: محرقة اليهود، حتى أصبحت كلمة (المحرقة) تخص اليهود فقط، دونما حاجة إلى القول: محرقة اليهود. ولم تؤدي أية محرقة سابقة إلى دفع تعويضات مادية تشبه تلك التي طلبها ونالها اليهود لقاء كارثة (الشواة) التي يصفونها بأنها فريدة من نوعها وغير مسبوقة وهو الأمر الذي كان يمكن أن يكون صحيحاً لو كانت عناصرها الثلاثة (الإبادة المزعومة لليهود ، غرف الغاز النازية المزعومة ، الملايين الستة من الضحايا اليهود المزعومين) حقيقية.) ويقول أيضا: (لم يتمكن أحد، في معسكر اعتقال أوشفتز(5) أو في أي مكان آخر، أن يرينا عينة واحدة من هذه المسالخ الكيميائية. ولم يستطع أحد أن يصف لنا شكلها الدقيق وطرق تشغيلها، ولم يكشف أثر أو ملمح واحد لوجودها. لا توجد وثيقة واحدة ولا دراسة واحدة ولا تصميم واحد لها. لاشيء! لا شيء سوى (دلائل) عرضية مثيرة للشفقة... أحياناً، كما في معسكر أوشفتز، تعرض على السياح غرفة غاز أعيد تركيبها، ولكن المؤرخين، وسلطات متحف أوشفتز أيضاً، يعرفون جيداً، على حد قول المؤرخ الفرنسي المعادي للمراجعين اريك كونان: "أن كل شيء فيها مزيف").
ويضيف فوريسون أيضا: (تخيل لو أن أحدهم أخبرك عن طائرة قادرة على نقل ألفين أو ثلاثة آلاف راكب من باريس إلى نيويورك في نصف ساعة، ألن ترغب من أجل أن تبدأ بتصديق الأمر بمشاهدة صورة على الأقل من الشيء الذي يشكل قفزة تكنولوجية إلى الأمام لم يعرفها العلم أبداً من قبل؟! ولكن حسب القراءة التصفوية (لإبادة اليهود)، كان يتم وضع دفعات من ألفين إلى ثلاثة آلاف يهودي في حجرة غاز واحدة مزعومة في معسكر أوشفتز كل نصف ساعة فقط!! فأين هي هذه الحجرة؟ وأين تصميمها وآثارها؟ ألسنا في عصر العلوم الدقيقة والوسائل السمعية- البصرية؟ لمَ كل هذا الخجل المفاجئ عندما يتعلق الأمر بحجرة الغاز؟ لكن مروجي (المحرقة) تسير لعبتهم بيسر، فهم يعرضون عليك ما يماثل حمام منزلك أو مرآب سيارتك، ثم يقولون لك: "هذا هو المكان حيث كان الألمان يقتلون اليهود بالغاز في مجموعات من مائة أو ألف".. وأنت تصدق..!!) (6)
في الواقع كان من مصلحة الدول الاستعمارية، وخاصة بريطانيا -بشكل خاص- أن تروج لقضية الإشاعات حول حجم المجازر النازية بحق اليهود لأسباب اقتصادية، تتعلق بالرغبة في ترحيل اليهود إلى فلسطين لإقامة دولة لهم، ، ولكن هناك دول كثيرة مثل سويسرا تندم على ذلك. (7)
وحقيقة الأمر أن غرف الغاز كانت تستعمل لتطهير ملابس السجناء وحراسهم من جراثيم الأوبئة التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، وأما غرف المحرقات الصغيرة كانت تُستعمل لحرق جثث الموتى كوسيلة سريعة وفعالة للتخلص من الجثث المريضة. و يقول المؤرخون أن النازيين قد استعبدوا اليهود وغيرهم من الأقليات في مخيمات عمل تجمعية(Labor Concentration Camps) للمحافظة على استمرارية عمل صناعة الحرب الألمانية مالئين الفراغ الذي تركه العمال الألمان الذين ذهبوا للحرب، لذلك قد يكون النازيون غلاظ وقساة القلوب ولكنهم لم يقوموا بقتل الأيدي العاملة التي كانت تدير مصانعهم. (8)
أكذوبة 6 ملايين ضحية والتلاعب بالأرقام
يقول الكاتب اليهودي نورمان فنكلشتاين(9)-المعروف بمناهضته للصهيونية- في كتابه(صناعة الهولوكست..تأملات في استغلال المعاناة اليهودية): (مع نمو صناعة الهولوكوست، أخذ المنتفعون من هذه الصناعة يتلاعبون في أرقام الناجين، وذلك بغرض المطالبة بمزيد من التعويضات، وبدأ الكثيرون يتقمصون دور الضحية.) ويعلّق على ذلك ساخراً (لا أبالغ إذا قلت أن واحداً من كل ثلاثة يهود ممن تراهم في شوارع نيويورك سيدعي بأنه من الناجين. فمنذ عام 1993، إدعى القائمون على هذه (الصناعة) أن 10 آلاف ممن نجوا من الهولوكوست يموتون كل شهر، وهو أمر مستحيل كما يبدو، لأنه يعني أن هناك ثمانية ملايين شخص نجوا من الهولوكوست في عام 1945 وظلوا على قيد الحياة، بينما تؤكد الوثائق أن كل اليهود الذين كانوا يعيشون على الأراضي الأوروبية التي احتلها النازيون عند نشوب الحرب لا يزيد عن سبعة ملايين فقط.
ولا يقف الأمر عند حدود التلاعب بالأرقام بل يتجاوز ذلك إلى التلاعب بالحقائق نفسها. فيلاحظ أن "متحف إحياء ذكرى الإبادة النازية" في واشنطن، على سبيل المثال، يمر مرور الكرام على موضوع المذابح الجماعية التي ارتكبها النظام النازي في حق الغجر والسلافيين والمعاقين فضلاً عن المعارضين السياسيين.)(/2)
ويضيف فنكلشتاين: (كل الأدلة تقريباً تؤكد أن موضوع الإبادة النازية لليهود لم يصبح أمراً راسخاً في حياة اليهود الأميركيين إلا بعد اندلاع هذا الصراع (حرب يونيو/حزيران 1967 بين العرب وإسرائيل)، أما قبل عام 1967، فكانت المؤسسات اليهودية تميل إلى التقليل من شأن الإبادة النازية ليهود أوروبا، وذلك تمشياً مع الأولويات السياسية للحكومة الأميركية في فترة الحرب الباردة، والتي كانت تتطلب تأييد فكرة إعادة تسليح ألمانيا بل وتجنيد أعداد كبيرة من الجنود السابقين في "قوات الأمن الخاصة" للنظام النازي.(10)
ويقول ديفيد ايرفينغ : (اليهود لديهم مشكلة كبيرة في الوصول إلى 6 ملايين اسم، هناك نصب تذكاري في إسرائيل اسمه (ياد فاشيم) لوضع قائمة بأسماء ستة ملايين، ولم ينجحوا في الحصول إلا على حوالي اثنين أو ثلاثة ملايين، وتوقفوا عند ذلك) ويقول ايضا: (هذا هو مدى الأسطورة، أن ستة ملايين من اليهود ماتوا في المحرقة، وأن هتلر أمر بذلك، أو أنهم قتلوا في غرف الغاز،.. ولكننا لم نجد وثيقة واحدة على أن هتلر أصدر الأمر بذلك، والرقم ستة ملايين مثير للشك) (11)
حسب تقديرات الباحثين كالمؤلف البريطاني (ريتشارد هارد وود والمؤرخ الفرنسي، (بول راسينر) وغيرهما، لم يكن عدد اليهود في أوروبا، وخاصة في غربها، أو المنطقة الواقعة تحت ألمانيا النازية 6 ملايين. كان أقل من 3 ملايين، ثانياً هناك أخرى مهمة جدًّا، وهي أن المهاجرين إلى العالم الجديد، ومنه طبعًا الولايات المتحدة، والمهاجرين إلى جنوب بلاد الشام أو فلسطين، أيضًا اعتبروا من ضحايا (الهولوكست) عددًا. (12)
التعاون الصهيوني- النازي تاريخياً
حسب الوثائق العائدة الى فترة الحرب العالمية الثانية، أن ألمانيا النازية قد تعاونت مع الحركة الصهيونية لإشعال الكراهية ضد الساميين من أجل تهجير اليهود الى فلسطين لتأسيس الدولة الإسرائيلية. فقد سهلت البنوك الألمانية تسريب أموال اليهود الألمان من ألمانيا الى بنوك يهودية في فلسطين. وقد قامت الصهيونية بنشر معاداة السامية في جميع الدول الأوروبية وفي شمال إفريقيا وشجعت بعض الأعمال الإرهابية ضد تجمعات اليهود من أجل إقناعهم ودفعهم لهجرة البلاد التي كانوا يسكنوها وكانوا مواطنين فيها وذلك لدفعهم للهجرة الى فلسطين.
(في عام 1935 صدرت مجلة (لي كو) في فرنسا وفيه حوار مع (روزن برج) منظر النازية، ويقول فه أنه يؤيد الصهيونية ومعجب بها لتماثلها مع النازية. وفي نفس العام كتبت صحيفة الأجهزة السرية النازية "Das Schwars Skorps" الألمانية تقول: تجد الحكومة نفسها على اتفاق تام مع الصهيونية لرفضها الاندماج، ولذلك ستتخذ التدابير التي تؤدي إلى حل المسألة اليهودية.
ويقول الكاتب اليهودي سولفريد: لقد قدمت النازية فرصة تاريخية لتأكيد الهوية اليهودية واستعادة الاحترام الذي فقدناه بالاندماج، إننا مدينون لهتلر وللنازية. ) (13)
يقول ديفيد إيرفينغ : (هناك ملاحظة عن التاريخ الأول للنازيين،ان المستشار الألماني (بروننج) كتب في يومياته أن يهوديين قدَّموا أموالاً لتمويل الحزب النازي في ألمانيا)، ويقول ايرفينغ :( هناك بعض ما يثبت ان اليهود قاموا بالتضحية بالمسنين منهم، وإغراء النازيين بحرقهم في سبيل استدرار عطف العالم بعد ذلك لإقامة وطن لهم في فلسطين .. فلو نظرت إلى اليهود المجريين، ستجد أن قادتهم حاولوا التوصل إلى معاهدة مع (أدوف إيخمان)، بموجبها لو وافق (إيخمان) على تشجيع اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين فسوف يساعدونه على الإمساك ببقية اليهود، وإرسالهم إلى فلسطين، وهناك دليل على ذلك في الأرشيف الألماني...وزار (أدوف إيخمان) فلسطين عام 37، وقام بالتفاوض مع زعماء الصهاينة، ...لقد كان هتلر أهم أصدقاء اليهود، فبدون هتلر ربما لم تقم إسرائيل..)(14)(/3)
في 30 يناير1933 وصل هتلر إلى السلطة، وفي نيسان في نفس العام حصلت حادثة مهمة وهي رحلة قام بها ضابط نازي و زوجته مع شخص يهودي و زوجته إلى فلسطين والمشهورة برحلة (تاتش لار- منجلستان) جاؤوا إلى فلسطين لدراسة كيفية تهجير اليهود إلى فلسطين، وكانت هذه الرحلة في 21 حزيران، وفي 7 آب 1933 وقعت اتفاقية "الهافارا"، وهنا نصل إلى قضية خطيرة ومهمة جداً ويعتم عليها الإعلام والباحثون، والتي يخاف منها اليهود أكثر من موضوع الهولوكوست. و الهافارا هي الاتفاق الاقتصادي الذي عُقد عام 1933م واستمر تنفيذه حتى عام 1942م لتهجير يهود ألمانيا إلى فلسطين، وفعلاً في البداية كان اقتراح من مدير شركة الاستيطان بأن يفك الحصار عن ألمانيا –المفروضة من قبل الدول الأوروبية - بالطريقة التالية: أن يودع اليهودي الذي يريد الهجرة إلى فلسطين أمواله في بنك في ألمانيا، هذا البنك يشتري بها آلات زراعية وآلات عسكرية ومعدات ويرسلها إلى فلسطين، وهنا يأتي المزارع فيستعيد ثمنها من بنك في فلسطين، والهافارا معناها "الترانسفير".. فعندما وصلوا إلى هذا الاتفاق احتجت المنظمة الصهيونية لأن هذا الاتفاق حصل مع شركة خاصة، فعاد (هيدرج) الألماني ودعا مسؤول المنظمة الصهيونية العالمية مع رئيس الشركة الخاصة التي كانت عرضت مع (حاييم أورلوزوروف) الذي أرسله (بن جوريون) خصيصاً لهذه الغاية، وعُقد الاتفاق بين أربعة مسؤولين صهاينة مع اثنين ألمان ، وقع الاتفاق في برلين، وبمقتضى هذا الاتفاق حصلت عملية الهجرة ونقل "الرساميل" من ألمانيا إلى فلسطين. (15)
في أكتوبر 1933 فُتح خط مباشر بين "هامبورج" و "حيفا" بإشراف حاخامية هامبروج، وفي سنة 1935 صدرت صحيفة "الأجهزة السرية" الألمانية في افتتاحيتها تقول: لم يعد بعيداً الوقت الذي تصبح فيه فلسطين قادرة على استقبال أبنائها الذين فُصلوا عنها منذ أكثر من ألف عام ترافقهم تمنياتهم الطيبة. ...وظل خط هامبورج-حيفا يعمل حتى سنة 1942...) (16)
الهوامش:
(1): تجارة الهولوكوست الرابحة – للباحث المصري د. عبد الوهاب المسيري– موقع الجزيرة نت - 3/10/2004.
(2): ديفيد إيرفينغ: مؤرخ بريطاني يبلغ من العمر 67 عاما، ويعتبر من أبرز المؤرخين لأحداث الحرب العالمية الثانية، نشر ما يقارب من 30 كتابا، أعلن للمرة الأولى في سبتمبر عام 90 أمام اجتماع عام في مدينة (ميونيخ) الألمانية، بأنه لم تكن هناك غرف للغاز في (أوشفيتس)، واعتقل مؤخرا بتاريخ 17/11/2005 في العاصمة النمساوية الذي كان من المقرر ان يدلي بمحاضرة عن النازية أمام مجموعة من الطلبة.
(3): قناة الجزيرة الفضائية - برنامج بلا حدود: حقيقة مذابح اليهود على يد هتلر – مقابلة مع المؤرخ البريطاني ديفيد ايرفينغ في 4/6/2004
(4): الاعتراف بالمحرقة اعتراف بتمييز المعاناة اليهودية- د.ابراهيم ناجي علوش- جريدة الشعب المصرية 17/11/2005.
(5): معتقل أوشفتز: آخر معتقل من معتقلات النازيين الذي وقع بيد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية في تاريخ 27 كانون الثاني 1945 وهو نفس اليوم التذكاري الذي أقره الأمم المتحدة في قرار لها مؤخرا.
(6): (كفوا عن الصمت إزاء زيف "المحرقة")- ملخص عن ورقة روبرت فوريسون لمؤتمر بيروت "المراجعة التاريخية والصهيونية" بتاريخ 31/4/2001 - تلخيص وترجمة د. إبراهيم ناجي علوش.
(7): نفس هامش رقم (3)
(8): تخليد ذكرى محرقة اليهود – د. الياس عاقلة.
(9): نورمان فنكلشتاين: باحث يهودي من مواليد نيويورك عام 1953 من أبوين يهوديين ألمانيين، عانا محنة الإعتقال في مخيمات التعذيب النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو يحمل شهادة دكتوراة في العلوم السياسية، ألف ونشر عدة كتب لقيت رواجا وإهتماماّ عالمياّ، ويحاول المؤلف في كل كتبه ومقالاته ومحاضراته نقض النظرية الصهيونية ودحض شرعية قيام (إسرائيل).
(10): نفس هامش رقم (1)
(11) و (12): نفس هامش رقم (3)
(13): قناة الجزيرة – برنامج الاتجاه المعاكس: (الصهيونية والنازية) في تاريخ 15/5/2001، ضيف الحلقة: الكاتبة اللبنانية حياة الحويك عطية، الباحثة في تاريخ الصهوينية، وكاتبة في صحيفة الدستور الأردنية).
(14): نفس هامش رقم (3)
(15) و (16): نفس هامش رقم (13)(/4)
ألا أخبركم بخيركم من شركم
د/ خالد سعد النجار
</TD
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على أناس جلوس فقال ( ألا أخبركم بخيركم من شركم ) قال : فسكتوا ، فقال ذلك ثلاث مرات ، فقال رجل : بلى يا رسول الله أخبرنا بخيرنا من شرنا ، قال ( خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره ) (1)
أجمل ما في الدنيا أن تألف وتؤلف ، وتحب وتُحب ، فإذا ألمت بك شدة وجدت القاصي والداني والقريب والغريب حولك ..... حبا لا تملقا ، ومشاركة لا عطفا ، ومودة لا شفقة ، وهذا المنهج هو ما حرص على ترسيخه الإسلام ليجعل من المجتمع نسيجا فريدا رائعا ، فلما كان المعنى الجامع بين المسلمين الإسلام ، فقد اكتسبوا به أخوة أصيلة ووجب عليهم بذلك حقوق لبعضهم على بعض ، وكلما ازدادت المخالطة وصفا زادت الحقوق ، مثل القرابة والمجاورة والضيافة والصحبة والصداقة والأخوة الخاصة في الله عز وجل
( خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره ) أي من يؤمّل الناس الخير من جهته ويأمنون الشر من جهته ( وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره ) أي وشركم من لا يؤمّل الناس حصول الخير لهم من جهته ، ولا يأمنون من شره ، وإنما يرجى خير من عرف بفعل الخير وشهرته به ، ومن غلب خيره أمنت القلوب من شره ، ومتى قوي الإيمان في قلب عبد رجي خيره وأمن شره ، ومتى ضعف قل خيره وغلب شره . قال الماوردي : يشير بهذا الحديث إلى أن عدل الإنسان مع أكفائه واجب وذلك يكون بثلاثة أشياء : ترك الاستطالة ، ومجانبة الإذلال ، وكف الأذى ، لأن ترك الاستطالة آلف ، ومجانبة الإذلال أعطف ، وكف الأذى أنصف . وهذه أمور إن لم تخلص في الأكفاء أسرع فيهم تقاطع الأعداء ففسدوا وأفسدوا (2) ، وقول راوي الحديث ( فقال ذلك ثلاث مرات ) لما توهموا معنى التمييز تخوفوا من الفضيحة فسكتوا حتى قالها ثلاثاً فأبرز البيان في معرض العموم لئلا يفتضحوا
وهذا الحديث الجليل أصل في المروءة مع الخلق ، وذلك بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء ، والخلق الجميل ، ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره لنفسه ، وليتخذ الناس مرآه لنفسه فكل ما كرهه ونفر عنه من قول أو فعل أو خلق فليجتنبه وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله
وروضة السنة الغناء طالما دندنت حول هذا المعنى السامي فقال صلى الله عليه وسلم ( خير الناس أحسنهم خلقا ) (3) أي مع الخلق بالبشر والتودد والشفقة والحلم عنهم والصبر عليهم وترك التكبر والاستطالة ومجانبة الغلظة والغضب والحقد والحسد وأصل ذلك غريزي وكماله مكتسب (4) وقال صلى الله عليه وسلم ( خير الناس أنفعهم للناس ) (5) بالإحسان إليهم بماله وجاهه ، فإنهم عباد اللّه وعياله ، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله ، أي أشرفهم عنده أكثرهم نفعاً للناس بنعمة يسديها أو نقمة يزويها عنهم ديناً أو دنيا ، ومنافع الدين أشرف قدراً وأبقى نفعاً ، قال بعضهم : هذا يفيد أن الإمام العادل خير الناس أي بعد الأنبياء ، لأن الأمور التي يعم نفعها ويعظم وقعها لا يقوم بها غيره ، وبه نفع العباد والبلاد ، وهو القائم بخلافة النبوة في إصلاح الخلق ودعائهم إلى الحق وإقامة دينهم وتقويم أودهم ولولاه لم يكن علم ولا عمل .
وقال صلى الله عليه وسلم ( أحب العباد إلى الله تعالى أنفعهم لعياله ) (6) قال القاضي : ومحبة العبد لله تعالى إرادة طاعته والاعتناء بتحصيل فرائضه ، ومحبة الله تعالى للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعصية ، وفي الحديث رد على من رفض الدنيا بالكلية من النساك وترك الناس وتخفى للعبادة محتجاً بآية {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون } الذاريات 56 وخفي عليه أن أعظم عبادة الله ما يكون نفعها عائداً لمصالح عباده
وقال صلى الله عليه وسلم ( المؤمن يألف ويؤلف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ، وخير الناس أنفعهم للناس ) (7) قال الماوردي : بين به أن الإنسان لا يصلح حاله إلا الألفة الجامعة ، فإنه مقصود بالأذية ، محسود بالنعمة ، فإذا لم يكن ألفاً مألوفاً تختطفه أيدي حاسديه ، وتحكم فيه أهواء أعاديه ، فلم تسلم له نعمة ، ولم تصف له مدة وإذا كان ألفاً مألوفاً انتصر بالألف على أعاديه ، وامتنع بهم من حساده ، فسلمت نعمته منهم ، وصفت مودته بينهم ، وإن كان صفو الزمان كدراً ويسره عسراً وسلمه خطر ، والعرب تقول من قل ذل (8)
وقال أبو حاتم : لا يجب على العاقل أن يكافئ الشر بمثله ، وأن يتخذ اللعن والشتم على عدوه سلاحا ، إذ لا يستعان على العدو بمثل إصلاح العيوب وتحصين العورات حتى لا يجد العدو إليه سبيلا (9)(/1)
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ( إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة ، من تركه الناس اتقاء فحشه ) (10) أي لأجل قبح فعله وقوله ، أو لأجل اتقاء فحشه أي مجاوزة الحد الشرعي قولاً أو فعلاً ، وهذا أصل في ندب المداراة إذا ترتب عليها دفع ضر أو جلب نفع ، بخلاف المداهنة فحرام مطلقاً إذ هي بذل الدين لصلاح الدنيا ، والمداراة بذل الدنيا لصلاح دين أو دنيا ، بنحو : رفق بجاهل في تعليم ، وبفاسق في نهي عن منكر ، وتركه إغلاظ وتألف ونحوها مطلوبة محبوبة إن ترتب عليها نفع ، فإن لم يترتب عليها نفع بأن لم يتق شره بها كما هو معروف في بعض الأنام فلا تشرع، فما كل حال يعذر ولا كل ذنب يغفر ، وقال بعضهم : أُخذ من هذا الخبر أن ملازمة الرجل الشر والفحش حتى يخشاه الناس اتقاء لشره من الكبائر (11) وقال صلى الله عليه وسلم ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) (12) أي دواهيه جمع بائقة الداهية ، وجاء في حديث تفسيرها بالشر وهو تفسير بالأعم ، زاد في رواية ، قالوا : وما بوائقه ، قال : شره ، وذلك لأنه إذا كان مضراً لجاره كان كاشفاً لعورته حريصاً على إنزال البوائق به دل حاله على فساد عقيدته ونفاق طويته ، أو على امتهانه ما عظم اللّه حرمته وأكد وصلته ، فإصراره على هذه الكبيرة مظنة حلول الكفر به فإن المعاصي بريده ، ومن ختم له بالكفر لا يدخلها ، أو هو في المستحل أو المراد الجنة المعدة لمن قام بحق جاره ، قال ابن أبي جمرة : حفظ الجار من كمال الإيمان وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه ، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان بقدر الطاقة كهدية وسلام وطلاقة وجه وتفقد حال ومعاونة وغير ذلك ، وكف أسباب الأذى الحسية والمعنوية عنه وتتفاوت مراتب ذلك بالنسبة للجار الصالح وغيره (13)
alnaggar66@hotmail.com
------------------------------
الهوامش
(1) رواه الترمذي ــ كتاب الفتن رقم 2189 وقال حديث حسن صحيح ، ورواه أحمد ــ باقي مسند المكثرين من الصحابة رقم 8456 ، ورواه القضاعي في مسند الشهاب 2/228 رقم 1246 ، وابن حبان 2/285 رقم 527 والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع ) انظر حديث رقم: 2603 في صحيح الجامع ، وقال المناوي في فيض القدير 2/514 قال الذهبي في المهذب : سنده جيد وفي الباب أنس وغيره . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/541 : رواه أحمد بإسنادين ، ورجال أحدهما رجال الصحيح والحديث رواه أيضا أبو يعلى في مسنده عن أنس 7/16 رقم 3910 وابن أبي شيبة في مصنفه 7/91 عن سعيد المقبري رقم 34430
(2) فيض القدير للمناوي 1/452 بتصرف (3) رواه الطبراني عن ابن عمر (صحيح) انظر حديث رقم: 3287 في صحيح الجامع . (4) فيض القدير 2/4651 (5) رواه القضاعي في مسند الشهاب عن جابر (حسن) انظر حديث رقم: 3289 في صحيح الجامع. (6) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد عن الحسن مرسلا (حسن) انظر حديث رقم: 172 في صحيح الجامع. (7) رواه الضياء في الأحاديث المختارة عن جابر (حسن) انظر حديث رقم: 6662 في صحيح الجامع. (8) فيض القدير 2/897 (9) روضة العقلاء – أبي حاتم بن حبان / مكتبة السنة المحمدية ص 100 (10) رواه أبو داود والترمذي عن عائشة (صحيح) انظر حديث رقم: 2095 في صحيح الجامع. (11) فيض القدير 1/356 (12) رواه مسلم عن أبي هريرة ــ كتاب الإيمان رقم 66 (13) فيض القدير 2/457(/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
تعيش كثير من الشعوب الإسلامية في بلاد كثيرة ومدن متعددة في ركام من الأوهام وفساد في الأخلاق وهتك للأعراض وضياع للحقوق والممتلكات واضطراب في الأفكار وخمول وضعف في الإنتاج والعمل وتفلت متزايد وانحرافات منهمرة في العقيدة والمنهج وشؤن الحياة السياسية والحياة الاقتصادية في حين انتشار الدعوات القومية والأفكار العلمانية والتيارات الإلحادية والشعارات الصوفية والوثنية وقد استشرى هذا الفساد في أمتهم وكثير منهم مُنهمك فيما يضره ولا ينفعه غافل عمّا خلق له وعن مهمته ورسالته في هذه الحياة .
ومن أجل تحطيم هذه الانحرافات وهذه المعبودات من دون الله والأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان والتقاليد المخالفة للشريعة والأنظمة المنحرفة عن شرع الله .
فلابدَّ إذاًمن عودة إلى الإسلام بتصوره الثابت من الإستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءَ من الشرك وأهله وتحكيم شرع الله في أرضه وإخلاص العمل له .
فهذا أساس التوحيد وبدونه لا معنى للحياة قال الله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) } (1) أي يوحدون والتوحيد هو أصل الدين وأُسه وهو الحق الذي ينبغي أن لا تلين لأهل الحق قناة في القيام بحقوقه ومواجهة المجتمعات به وهو نظام العالم ورسالة المسلمين إلى كافة الأمم والشعوب قال تعالى { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) } (2) .
وقال تعالى { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) } (3) .
وقال تعالى { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (4) .
وحقيقة العبودية لله الواحد القهار إفراده بجميع أنواع العبادة والرغبة إليه والرهبة منه ومحبته ورجاؤه والانقياد له .
فمن ادعى الإيمان بالله وتوحيده ومحبته وخوفه ورجاءه ولم يستسلم لأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم وتحاكم إلى غير شرع الله ووالى أعداء الله فماصدق الله في دعواه بل هو متبع للشيطان مطيع له . قال الله تعالى { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } (5) .
وقوله { واجتنبوا الطاغوت } . قيل: الشيطان، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه علقه البخاري في صحيحه [ 8 / 251 ] بصيغة الجزم ووصله ابن جرير ( 3 / 18 ) وغيره وقيل الأصنام وما يعبد من دون الله وقيل غير ذلك .
وهي كلها حق وليس بينها تضاد ولا اختلاف . وقد عبَّر كلُّ واحد منهم عن المعنى العام ببعض أنواعه وهذا كثير في كلام السلف يفسَّرون الآية ببعض أفرادها ولا يقصدون بذلك الحصر .
__________
(1) سورة الذاريات .
(2) سورة آل عمران .
(3) سورة الأنعام .
(4) سورة النحل آية ( 36 ) .
(5) سورة آل عمران آية ( 31 ) .(/1)
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعريفاً شاملاً للطاغوت فقال ( الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع . فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم إلى الطاغوت وعن طاعته ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته ) . وقد أمر الله بالكفر بالطاغوت وقدَّمه على الإيمان بالله كما قدَّم النفي على الإثبات في كلمة التوحيد لا إله إلا الله ولا يصير المرء مؤمناً بالله حتى يكفر بالطاغوت بمعناه الشامل قال تعالى { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) } (1) .
وفي صحيح مسلم ( 23 ) من طريق مروان الفزاري عن أبي مالك عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ) .
وهذا توضيح لكلمة الإخلاص وأنه ليس المراد منها مجرد النطق فإن هذا لا يعصم الدماء والأموال ولا يخلص من عذاب النار . والمسألة في حقيقتها هي مسألة عمل بما تعنيه هذه الكلمة من توحيد الله وإخلاص العبادة له والبراءَة من كل معبود أو متبوع أو مطاع دون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد ذكر الله جل وعلا عن خليله إبراهيم في مقام المدح والثناء أنه تبرأ من قومه ومما يعبدون من دون الله فقال { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } (2) .
وقال تعالى { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) } (3)
وقال تعالى { وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16) } (4).
وغير ذلك من الأدلة الدالة على شرعية مفارقة أهل الكفر ومجانبة ضلالهم واعتزال مجالسهم .
وقد عطل هذا الأصل الكبير كثيرُُُُ من أبناء المسلمين وركنوا إلى الذين ظلموا أنفسهم والذين عثوا في الأرض فساداً وعطلوا شرع الله ودعوا إلى تحكيم القوانين الكفرية وحمايتها بالمال والرجال والبطش بمن ثار في وجهها ورفض التحاكم إليها .
قال تعالى { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } (5) .
والمراد بالطاغوت في هذه الآية الحاكم بغير شرع الله الذي جعل نفسه مشرَّعاً مع الله أو دون الله وقد سمّاه الله مشركاً في قوله { وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) } (6) .
وقال { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) (7) .
و سمّاه كافراً في قوله تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44) } (8) .
والكفر إذا أُطلق وعرّف بالألف واللام فيراد به الأكبر ، وما قيل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (( كفر دون كفر )) لا يثبت عنه . فقد رواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة ( 2 / 521 ) والحاكم في مستدركه ( 2 / 313 ) من طريق هشام بن حُجَير عن طاووس عن ابن عباس به . وهشام ضعفه الإمام أحمد ويحي بن معين والعقيلي (9) وجماعة وقال علي بن المديني قرأت على يحي بن سعيد حدثنا ابن جريج عن هشام ابن حجير فقال يحي بن سعيد خليق أن أدعه قلت أضربُ على حديثه ؟ قال نعم . وقال ابن عيينة لم نكن نأخذ عن هشام بن حجير ما لا نجده عند غيره .
وهذا تفرد به هشام وزيادة على ذلك فقد خالف غيره من الثقات
__________
(1) سورة البقرة .
(2) الممتحنة آية ( 4 ) .
(3) سورة مريم .
(4) سورة الكهف .
(5) سورة النساء آية ( 60 ) .
(6) سورة الكهف .
(7) سورة الأنعام آية ( 121 ) .
(8) سورة المائدة .
(9) انظر الضعفاء للعقيلي [ 4 / 337 – 338 ] والكامل [ 7 / 2569 ] لابن عدي وتهذيب الكمال [ 30 / 179 – 180 ] وهدي الساري [ 447 – 448 ] .(/2)
فذكره عبد الله بن طاووس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن قوله تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)} (1) قال هي كفر وفي لفظ (( هي به كفر )) وآخر (( كفى به كُفْره )) رواه عبد الرزاق في تفسيره ( 1 / 191 ) وابن جرير ( 6 / 256 ) ووكيع في أخبار القضاة ( 1/ 41 ) وغيرهم بسند صحيح وهذا هو الثابت عن ابن عباس رضي الله عنه، فقد أطلق اللفظ ولم يقيّد.
وطريق هشام بن حجير منكر من وجهين
الوجه الأول : تفرد هشام به .
الوجه الثاني : مخالفته من هو أوثق منه .
وقوله (( هي كفر )) واللفظ الآخر ( هي به كفر ) يريد أن الآية على إطلاقها (2) والأصل في الكفر إذا عرّف باللام أنه الكفر الأكبر كما قرر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في الاقتضاء [ 1 / 208 ] إلا إذا قيد أو جاءت قرينة تصرفه عن ذلك 0
وقول امرأة ثابت بن قيس ( ولكني أكره الكفر في الإسلام ) رواه البخاري ( 5273 ) عن ابن عباس .
لا يخالف هذه القاعدة ولا ينقض الأصل المقرر في هذا الباب فقد قالت
( في الإسلام ) وهذه قرينة بينة على أن المراد بالكفر هنا مادون الأكبر .
ولا يصح أن يقال عن الكفر الأكبر في الإسلام ولو أطلقت الكفر معرفاً باللام دون تقييده لتبادر إلى الأذهان حقيقة اللفظ وما وضع له فنفت هذا التوهم بتقييدها وهذا واضح للمتأمل .
وقد قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية ( 13 / 119 ) ( من ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدَّمها عليه من فعل هذا كفر بإجماع المسلمين )) .
وهذا حق لا خلاف فيه . وأعظم منه وأولى بنقل الإجماع على كفره من صدَّ عن شرع الله وبدَّل أحكام الدين وفرض على قومه تشريعات يتحاكمون إليها في أموالهم ودمائهم وأعراضهم زيادة على هذا حماية هذه التشريعات وتفريغ الجهود والطاقات في تقنينها والمجادلة عنها .
وقول بعض المعاصرين عن هذا الإجماع الذي نقله ابن كثير رحمه الله بأنه (( خاص بملوك التتار ومن تلبس بمثل ما تلبسوا به من نواقض الإسلام والتي منها الجحود والاستحلال للحكم بغير ما أنزل الرحمن ] هو مجرد ظن لم تسانده حقائق علمية ولا حجج قائمة .
وقد لحظت في أثناء قراءَة كلام الكاتب غارةً عمياء على حماة التوحيد ودعاة الإصلاح ومجازفات في الألفاظ والتعبير وسوء فهم لمقالات الأئمة وتحميل الكلام مالا يحتمل وأقرب مثال لذلك كلام الحافظ ابن كثير فقد قال فيه ما قال .
على أن الحافظ لم يتفرد بقوله ولا بنقله للإجماع . فخلق كثير من المتقدمين والمتأخرين يذكرون مثل هذا وأعظم .
وكيف لا يحكم بكفر من عطل الشريعة ونصب نفسه محللاً محرّماً محسناً مقبحاً وجعل محاكم قانونية لها المرجعية في الحكم والقضاء ولا يمكن مُساءَلتها أو التعقيب والاعتراض على أحكامها .
وحملُ الكاتب كفر التتار على الجحود والاستحلال ليس له وجه سوى تأثره بأهل الإرجاء من جعل مناط الكفر هو الاستحلال أو الجحود وهذا باطل في الشرع والعقل فالاستحلال كفر ولو لم يكن معه حكم بغير ما أنزل الله والآية صريحة في أنّ مناط الكفر هو الامتناع عن الحكم بما أنزل الله .
وكثير من المتأخرين متأثرون بمذاهب أهل الإرجاء الذين يقولون كل من أتى بمكفر من قول أو عمل فإنه كافر ولكنّ كفره ليس لذات العمل لكنه متضمن للكفر ودلالة على انتفاء التصديق بالقلب وعلامة على التكذيب .
وآخرون من غلاة المرجئة يمنعون من التكفير بالعمل (3) مطلقاً مالم يثبت عنه الجحود أو الاستحلال .
وهذا خلاف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين .
وقد اتفق أهل العلم على أن سب الله وسب الرسول صلى الله عليه وسلم كفرُُ ولم يشترط واحد منهم الاستحلال أو الاعتقاد بل يكفي في كفره مجرد ثبوت السب الصريح .
__________
(1) سورة المائدة .
(2) والحكم بغير ما أنزل الله مراتب متفاوتة والكلام في هذا المقام على الذين وضعوا القوانين المخالفة لشرع الله وحكموا فيها بين الناس وجعلوها قائمة مقام حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم .
(3) وقول بعض أهل العلم ( لا نكفر أحداً بذنب مالم يستحلَّه ) يقصدون بذلك الرد على الخوارج المكفّرين بمطلق الذنوب من الزنا والسرقة والكذب وشرب الخمر ونحو ذلك ولا يعنون بذلك امتناع التكفير بعمل كل ذنب فهذا باطل لم يقل به أحد من أهل السنة وقد تواترت الأدلة على خلافه فالذبح لغير الله والسحر والطواف على القبور وشبهها أعمال يكفر صاحبها بمجرد الفعل وفيه أقوال يكفر صاحبها بمجرد القول .
وقد اتفق الصحابة والتابعون وأهل العلم من المنتسبين للسنة على أن من قال أو فعل ما هو كفر صريح كفر دون تقييد ذلك بالجحود أو الاستحلال فإن هذا باطل لا أصل له وهو قول متناقض قد دل السمع والعقل على فساده .(/3)
واتفقوا على كفر المستهزي بالدين بدون شرط الاعتقاد أو الاستحلال بل يكفر ولو كان مازحاً أو هازلاًَ .
واتفقوا على أن التقرب للأموات بالسجود لهم أو الطواف على قبورهم كفر ، واتفقوا على أن إلقاء المصحف في القاذورات كفر .
وهذا قول كل من يقول بأن الإيمان قول وعمل قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وقد اتفق أهل السنة على أن الكفر يكون بالقول كا لإستهزاء الصريح بالدين ويكون بالفعل كالسجود للأصنام والشمس والقمر والذبح لغير الله .
والأدلة من الكتاب والسنة صريحة في كفر من أتى بمكفر وذلك بمجرد القول أو الفعل دون ربط ذلك بالجحود أو الاستحلال فإن هذا فاسد لم يقل به أحد من الصحابة والتابعين ولا الأئمة المعروفين بالسنة .
قال الله تعالى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} (1) ومناط الكفر هو مجرد القول الذي تكلموا به .
وقال تعالى { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) } (2) .
وبالجملة فكل من قال أو فعل ما هو كفر صريح كفر ما لم يمنع من ذلك مانع من الإكراه أو التأويل أو الخطأ كسبق اللسان أو الجهل المعتبر .
ومن الكفر المستبين ترك جنس العمل مطلقاً دون ربط ذلك بأعمال القلوب فمجرد الترك المطلق لجنس العمل كفر أكبر ولكن يستدل بانتفاء اللازم الباطن دون جعله شرطاً للحكم وهذا صريح الكتاب والسنة فالحكم واقع على أعمال الجوارح وليس على ما في القلوب فهذا لعلاّم الغيوب .
وقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله في فتح الباري ( 1 / 23 ) عن سفيان بن عيينة أنه قال : المرجئة سموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم وليسا سواء لأن ركوب المحارم متعمداًَ من غير استحلال معصية وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر .
وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ولم يعملوا بشرائعه .
ونقل حرب عن إسحاق قال : غلت المرجئة حتى صار من قولهم إن قوماً يقولون من ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفّره !! يُرْجى أمره إلى الله بعد إذ هو مقر . فهؤلاء الذين لاشك فيهم يعني المرجئة .
وروى الخلال في السنة ( 3 / 586 ) عن عبيد الله بن حنبل قال حدثني أبي حنبل بن إسحاق بن حنبل قال قال الحميدي وأُخبرتُ أن قوماً يقولون : إنَّ من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت أوْ يصلي مسندَ ظهرِه مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه إذا كان يقر الفروض واستقبال القبلة . فقلت : هذا الكفر بالله الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفعل المسلمين قال الله عز وجل { حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) } (3). قال حنبل قال أبو عبد الله أو سمعته يقول من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء به .
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله ( فكل من ترك شيئاً من الفرائض التي فرضها الله عز وجل في كتابه أو أكدها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته على سبيل الجحود لها والتكذيب بها فهو كافر بيّن الكفر لا يشك في ذلك عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر . ومن أقرَّ بذلك وقاله بلسانه ثم تركه تهاوناً ومجوناً أو معتقداًَ لرأي المرجئة ومتبعاً لمذاهبهم فهو تارك الإيمان ليس في قلبه منه قليل ولا كثير وهو في جملة المنافقين الذين نافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن بوصفهم وما أعد لهم وأنهم في الدرك الأسفل من النار نستجير بالله من مذاهب المرجئة الضالة (4) .
وقد حذر منهم أئمة السلف وبينوا فساد أقوالهم وخطورة بدعهم .
قال الإمام الزهري رحمه الله ( ما ابتدع في الإسلام بدعة هي أضر على أهله من هذه يعني الإرجاء )) (5) .
__________
(1) سورة التوبة .
(2) سورة التوبة .
(3) سورة البينة .
(4) الإبانة ( 2 / 764 ) .
(5) الإبانة ( 2 / 885 ) لابن بطة والشريعة ( 2 / 676 ) للآجري .(/4)
وقال الأوزاعي كان يحييى وقتادة يقولان (( ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء )) (1) .
وقال شريك ( هم أخبث قوم حسبك بالرافضة خبثاً ولكن المرجئة يكذبون على الله عز وجل )) (2) .
وكلام السلف في مثل هذا كثير فقد نصحوا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين و عامتهم ، وبينوا ضرر هذه البدعة وخطرها على الفرد والمجتمع وأنها أصل كل بلاء وانحراف في الأمة . ومطية كثير من الأفكار العفنة والآراء الضالة هو هذا الإرجاء الذي يقول بأن الإيمان قول واعتقاد أو مجرد تصديق ومعرفة وأنه لا يكفر أحد إلا بالاستحلال والتكذيب . { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) } (3) .
وخصوم التوحيد ودعاةُ التحلل من القيم والأخلاق والتخلص من الأوامر والنواهي يزيدون في هذا العصر ولا ينقصون ، وينادون بأن من قال لا إله إلا الله فإنه مؤمن ولو لم يعمل بشريعة الله !! والأحكامُ في نظرهم واعتقادهم تتعلق بالقلوب دون الأعمال والمتحذلق منهم من يقول بأن لا إله إلا الله لا تشمل كل جوانب الحياة فكان من إفك هذا الفكر نشر الفساد في الأرض وتعطيل الجهاد في سبيل الله وظهور الشرك والبدع والانحرافات السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية بين المسلمين ، وضاعت بذلك المفاهيم الشرعية فامتزج المذهب الإرجائي بالفكر العلماني القائم على فصل الدين عن الحياة والحياة عن الدين وتشكل لدى الكثير أن العبادة محصورة بالشعائر التعبدية في البيت والمسجد ولا علاقة للدين بالحكم والسياسة ويلوكون بألسنتهم كلمة الكفر " دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر " على أن هذه الانحرافات الجاهلية لم تقف عند حدّ أو ضابط فهي تهبط من سيء إلى أسوأ .
إنه الضلال والخروج عن صراط الله يحتوش المجتمعات ناهيك بالأفراد حتى يصيرهم عبيداً للهوى عبيداً للطاغوت عبيداًَ للمال عبيداًَ للتربة عبيداً للعرق ... إنهم يقعون فرائس لشهواتهم من حيث لا يشعرون .
وبقدر ما يبتعدون عن شرع الله وصراطه المستقيم ينالهم الذل من عبودية الطاغوت والدينونة للبشر .
وبقدر ما يخضعون للشرع ويُحَكِّمونه على الفرد والمجتمع والقوي والضعيف ويبتعدون عن الشرك والبدع والدينونة لأنظمة هيئة الأمم ومواثيقهم .. يستخلفهم الله في أرضه ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . قال تعالى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55) } (4) .
وقال تعالى { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (18)} (5) .
وحين قام الصحابة رضي الله عنهم بنصر الدين وإعلاء كلمة التوحيد والقيام بحقوقها وسارعوا إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وتطبيق شرع الله في أرضه والحكم بالعدل بين الناس .... مكنهم الله في الأرض واستخلفهم فيها ونصرهم على عدوه وعدوهم .
قال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) } (6) .
وقال تعالى مؤكداً هذا النصر { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) } (7).
وقال تعالى { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) } (8).
وهذا النصر لم يأت للمؤمنين بمجرد التمني والتحلي فحسب ! وإنما تحقق بالقيام بنصرة الدين فالله جل وعلا ينصر عبده الذي ينصر دينه ومن نصره الله فلا غالب له قال تعالى { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (160) } (9) .
__________
(1) الإبانة ( 2 / 885 – 886 ) .
(2) المصادر السابقة ( 2 / 886 ) وعبد الله بن أحمد في السنة ( 1 / 312 ) .
(3) سورة التوبة .
(4) سورة النور .
(5) سورة الزمر .
(6) سورة محمد .
(7) سورة الحج .
(8) سورة الروم .
(9) سورة آل عمران .(/5)
وأكبر عُدّة للمؤمنين وزاد على الكافرين والمجرمين هي تقوى الله وإصلاحُ النفس ظاهراً وباطناً وهذا لا ينافي الأخذ بأدوات النصر فقد قال تعالى { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)} (1) .
ولكن أعظم عوامل النصر وأجل مقِّوماته هو وجود المؤمنين الصادقين { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} (2).
وقد نصر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم يوم الغار بلا جيش ولا سلاح ونصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر بالملائكة ، ونصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وحزبه المؤمنين يوم الأحزاب بالريح والجنود وغير ذلك من نصر الله لجنده وحزبه بعوامل النصر الكثيرة .
فالشأن كل الشأن في وجود فئة مؤمنة تفهم الإسلام فهماً صحيحاً تعيش معه في كل مجالات الحياة وتقيم في ظله شعباً صادقاً يعرف الحق من الباطل والإسلام من الكفر لا يتنازل عن عقيدته ومراميه ولا يقبل المساومات والإغراءات للتنازل عن ذلك مهما أُوذي وعذب وسجن .
وماهي رزية ولا خسارة أن يؤذى أحد أو يقتل في سبيل دينه وعقيدته والثبات على دعوته وأفكاره وأقواله . وقد توعَّد فرعونُ السحرة حين آمنوا بربهم وهدّدهم بالقتل فما استكانوا لفرعون وما وهنوا وما ضعفوا ولم يكن من أمرهم إلا أن { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72)إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) } (3) .
فالإيمان حين تخالط بشاشتُه القلوب لا يلوي على الباطل ولا يتحول عن الحق مهما كان الابتلاء من الضرب والحبس أو القتل أو الابتلاء بالسرّاء من الإغراءَات بالمال والمنصب والجاه .
وفي صحيح البخاري ( 3612 ) من طريق إسماعيل عن قيس عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُرْدة له في ظل الكعبة قلنا له : ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا ؟ قال : كان الرجل فيمن قبلكم يُحْفَرُ له في الأرض فيجعل فيه فيجاءُ بالمنشار فيوضع على رأسه فيُشق با ثنتين وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ومايصده ذلك عن دينه والله ليُتمَّن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) .
فالفتن والمحن لا تزيد المؤمنين ولا سيما العلماء منهم إلا إيماناً بالله وتسليماً قال تعالى { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) } (4) .
وقد قيل كم من محنة انقلبت منحة
وهذا حق فكم من عالم قتل بنوايا خبيثة ومرامي سياسية فعاشت أفكاره وأقواله بين الناس وأصبحت شجْنة من بعده في أبناء المسلمين والأمثلة والأدلة على ذلك كثيرة .
المهم أن نقول الحق ولا نلبسه بالباطل وأن نصدع بما نعلمه ديناً وشريعة وعقيدة ومنهجاً قال تعالى { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) } (5) .
__________
(1) سورة الأنفال .
(2) سورة النور .
(3) سورة طه .
(4) سورة الأحزاب .
(5) سورة آل عمران .(/6)
وقد روى مسلم في صحيحه ( 3005 ) من طريق حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الملك والساحر والراهب والغلام .. الحديث وفيه ( ثم جيء بالغلام أي إلى الملك فقيل له ارجع عن دينك . فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك ؟ قال كفانيهمُ الله ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قُرْقُورة فتوسطوا به البحر . فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به . فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا . وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك ؟ قال كفانهيم الله فقال للمَلِكِ : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمُرُك به قال وما هو ؟ قال تجمَعُ الناس في صعيد واحد . وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كِنانتي . ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل : باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني .فجمع الناس في صعيد واحد . وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صُدْغِه . فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات فقال الناس : آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام . فأتي الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرُك قد آمن الناس فأمر بالأُخدود في أفواه السكك فخُدّت وأضرم النيران وقال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا حتى جاءَت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام : يا أُمه اصبري فإنك على الحق (1) )) .
وإنه لشيء عظيم وأمر كبير أن يذهب غلام أو رجال من البشر فداءً لدوافع معقولة وغايات مطلوبة فبقاء الحق مقدم على بقاء الجسد فأهل الحق يذهبون بأبدانهم وتعيش أفكارهم وكلماتهم .
وقد تحدث الحديث عن الغلام وعن تضحيته بدمه بُغْية إسلامِ الناس وإيمانهم بالله .
فتحقق القصد المطلوب ونفذ الأمر المنشود وسرى مراد هذا الغلام من وصول الإيمان والتوحيد إلى أعماق القلوب .
__________
(1) وفيه دليل على جواز العمليات الاستشهادية التي يقوم بها المجاهدون في سبيل الله القائمون على حرب الكفار والمفسدين في الأرض .
فقد قال الغلام المسلم للملك الكافر (( إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمُرُك به ) فدله على كيفية قتله حين عجز الملك عن ذلك فكان الغلام متسبباً في قتل نفسه مشاركاً في ذلك والجامع بين عمل الغلام والعمليات الاستشهادية واضح فإن التسبب في قتل النفس والمشاركة في ذلك حكمه مثل المباشر لقتلها .
والمقصود من الأمرين ظهور الدين وإعزاز أهله ، فإذا كان في العمليات الاستشهادية إعزاز للدين ونكاية بالمشركين وشفاء صدور قوم مؤمنين جازت هذه العمليات بدون كراهة والمصلحة تقتضي تضحية المسلمين برجل منهم في سبيل النكاية في الكفار وإضعاف قوتهم وقد رخص أكثر أهل العلم أن ينغمس المسلم في صفوف الكفار ولو تيقن أنهم يقتلونه والأدلة على هذا كثيرة .
وأجاز أكثر أهل العلم قتل أسارى المسلمين إذا تترس بهم الكفار ولم يندفع شر الكفرة وضررهم إلا بقتل الأسارى من إخواننا ، فيصبح القاتل مجاهداً مأجوراً والمقتول شهيداً .
وقد ثبت في دنيا الواقع فوائد هذه العمليات وكبير فعاليتها ، فقد أذهلت الأعداء وزرعت الرعب في قلوبهم وأصبحت ويلاً وثبوراً عليهم ، وكانت سبب رحيل أعدادٍ كبيرة من اليهود عن أراضي فلسطين وسبباً كبيراً في تقليل نسبة المهاجرين إلى الأرض المقدسة قال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوالله وعدّوكم … } سورة الأنفال آية 60 .
والقوة تكون بكل شيء يرهب اليهود والنصارى ويضعف قوتهم .
وقد كنت كتبت في هذه المسألة مقالات عديدة وفتاوى كثيرة وذكرت عشرات الأدلة على مشروعية هذه العمليات في سبيل قهر اليهود المغتصبين والنصارى المعتدين وبينت غلط التسوية بين هذه العمليات الجهادية وبين الانتحار المحرم بالإجماع وأن المنتحر يقتل نفسه من أجل هواه ونفسه نتيجة للجزع وعدم الصبر وضعف الإيمان بالقضاء والقدر ، بينما الفدائي يقتل نفسه أو يتسبب في قتلها من أجل حفظ الدين والعرض والتنكيل بالكفار المعتدين وطردهم من أراضي ومقدسات المسلمين وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .
وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد ... ) .(/7)
فآمن قومه ووحدوا ربهم وكانوا من قبل في ضلال مبين لا يعرفون الإسلام ولا الدين الحق يعبدون المادة والحياة ويدينون للبشر بالعبادة والطاعة وتهيمن عليهم أنظمة الملوك وتشريعاتهم .
غير أن هذا لم يدم فشعور الغلام بالمسؤلية وتقديره للقضية حال دون ذلك فأعلن في دنيا الواقع كلمة الحق وقدَّم دمه في سبيل صلاح البشر وتحطيم الوثنية ، حينها تحررت القلوب من عبوديتها لدين الملك للأحجار الحياة التراب وصوَّتت بروح عالية ونفس مطمئنة وقلوب ثابتة آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام . ولم ترضخ لبطش الجبارين ولا تعذيب المجرمين .
والمهزومون نفسياً وفكرياً والمرجفون والمخذّلون عن الجهاد والتضحيات ومواجهة الأفكار والمبادئ الجاهلية والتشريعات الكفرية لا يناصرون هذه البواعث الإيمانية .
وقد يخلطون بين الصبر على جور الحكام .... وبين الثبات على الإيمان ومواجهة الحاكمية الجاهلية والقرارات السياسية الضارة بالرعية ولم يزل الأئمة الصادقون والدعاة الناصحون في سائر قرون الإسلام يفرّقون بين الأمرين ويواجهون الأهواء والانحرافات الفكرية والسياسية والاقتصادية والعقدية وغيرها بعزيمة الصادقين وشجاعة المتقين متحملين الأذى الذي ينتاب أمثالهم من الآمرين والناهين ... فهذا دور العلماء وهذه رسالتهم قال تعالى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104) } (1) وقال تعالى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُون َ(110) } (2). وقال تعالى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) } (3) .
ومن وصايا لقمان الحكيم لابنه { يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) } (4) .
وفي صحيح مسلم ( 49 ) من طريق قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال . أولُ من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال : الصلاةُ قبل الخطبة فقال قد تُرك ما هُنالك فقال أبو سعيد أمّا هذا فقد قضى ما عليه . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان ) .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ما من نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراءَ ذلك من الإيمان حبة خردل )) رواه مسلم في صحيحه ( 50 ) من طريق عبد الرحمن بن المسور عن أبي رافع عن ابن مسعود .
وروى الدارمي في سننه ( 545 ) بسند صحيح من طريق الأوزاعي حدثني أبو كثير حدثني أبي قال أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع الناس إليه يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال : ألم تُنه عن الفتيا ؟ فرفع رأسه إليه فقال أَرقيب أنت عليّ لو وضعتم الصمصامة (5) على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أُنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذتها )) وعلقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم (6) .
وتاريخ العلماء ومواقف أئمة الإسلام في مثل هذا كثيرة (7) ولم يكن أحد منهم يجد أدنى حرج من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفتوى بما يعلم أنه الحق وإيصال الصوت الإسلامي إلى عالَمِهم والتحدث عن الإسلام وحقائقه ومقوَّماته وخصائصه .
وما كان يقبعون في بيوتهم ينتظرون الإذن السياسي في قول كلمة الحق والإنكار على أهل الباطل .
وأمّا الآن فقد أصبح كثير من أهل العلم موظفين لدى السلاطين فأخرست الأطماع ألسنتهم فلا يقدرون على القيام بالعهد والميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب .
__________
(1) سورة آل عمران .
(2) سورة آل عمران .
(3) سورة التوبة .
(4) سورة لقمان .
(5) السيف الصارم الذي لا ينثني قاله في مختار الصحاح ص ( 370 ) .
(6) فتح الباري ( 1 / 160 ) .
(7) راجع في ذلك الإسلام بين العلماء والحكام لعبد العزيز البدري . وكتاب مناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفاروق السامُرّائي .(/8)
ولا يستطيعون مصاولة الباطل ولا مقارعة الفساد ومن هنا كان أكثر أئمة السلف يَدْعون إلى الأعمال التجارية الحُرَّة دون التقيد بالأعمال الحكومية ويكرهون أُعطيات السلاطين وهدايا الملوك ويرفضون قبولها حتى لا يحملهم ذلك على المداهنة والنفاق وطاعة السلاطين في أغراضهم ونزواتهم .
وإني لأرمق بإجلال وإكبار عالِماً عَّزتْ عليه نفسُه فلم يُذِلَّها بالتردد على قصور السلاطين واستغنى عمّا في أيديهم فجعل العلم خادماً للدين وليس للسياسة . وسخّر الفتوى للديانة وليست للإعاشة .
وعبيد الدنيا والشهوات ينكرون هذا الكلام ويكافحون هذا الفكر ويعيشون في ظلمات التيه والرذيلة والشرود عن حقيقة الواقع .
والأغرب من هذا أن يطاردوا هذا الفكر باسم الدين والعلم أو التقدم والحضارة الجديدة .
وهيهات هيهات أن يكون للعلم والدين روابط بهذه الإ عوجاجات والتفلتات فالحق أبلج والباطل لجلج .
والحضارة الجديدة والتقدم يقومان على الشريعة الإسلامية وتطهير المجتمعات من الظلم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل .
وإن كان هناك تصور آخر للحضارة الجديدة والتقدم ينشأ عن التقاليد والعادات ونعرة الجاهلية والجهل بحقيقة هذا الدين فليس من الإسلام في شيء .. والتصور الحقيقي للإسلام يؤخذ عن الكتاب والسنة ولا يلتمس عند من اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً وضاق بأحكام الدين ذرعاً .
والذين يمارون في هذا لا يدركون مداخل الخلل ولا مفرق الطرق ويتحدث كثير منهم عن الدين والإسلام والشورى والحكم والمصالح والعدالة الاجتماعية بمجرد الأوهام والظنون . وأحياناً يتكلمون عن الشرع بلسان العلمانيين ويقولون عن الدين بأنه صلة خاصة بين العبد وربه ولا يتناول شئون الحياة .فيقصون الإسلام عن الحكم والتشريع والشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقد قال الله تعالى { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) } (1).
فالإسلام عبادة ومعاملة .. وشريعة ومنهج فمن آمن ببعض وكفر ببعض فهو كافر بالشرع كله فلا تنفعه صلاته وزكاته ولا حجه وصيامه قال تعالى { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) } (2).
وأحياناً يتحدثون عن الجهاد والمجاهدين بروح الانهزامية والعبث بأحكامه ومحو حقائقه .
ولا غرابة في هذا فهم أحرص الناس على حياة وعلى اتِّباع الشهوات واللذات .
والإيمانُ والجهادُ يَحْرمهم الكثير من ذلك ويقذف بهم في غمرات الموت .
وكم رأينا من رجالات يحملون اسم الإسلام ويتحدثون الحين بعد الحين عنه وهم قائمون على هذه الأفكار الشاذة والفهوم المنحرفة عن شرع الله قال تعالى { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون َ(15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} (3) .
والإسلام له أعداء في الداخل وأعداء في الخارج يلتقون عند مصالح مشتركة في عزل الإسلام عن الحياة والدفع بأهله في أحضان اليهودية والنصرانية ووضع العوائق أمام امتداده وتحرّك أهله بيد أنه غير ممكن للعصبة الجاهلية والفئة التي تشاق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحقق لها وعدها وأن تهيمن على الأرض وتستحوذ على البشر وإن استطاعت أن تهيمن على جوانب كثيرة في أيام مريرة فالأيام دول والعزة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين .
والوعد من الله بأنه ينصر دينه ورسوله وحزبه المؤمنين ويخزي الكافرين .. وعد محقق لا محالة .
والأوضاع القائمة على الشرك والكفر والتشريع الجاهلي واغتصاب الديار وانتهاك الأعراض والحجر على الأفكار الشريفة لن تدوم مهما تمهدت سبلها وقويت شوكتها وطال مكثها في الأرض وهذه حقيقة يجب الإيمان بها وبذل الطاقات وراءَ تحقيقها والشرط في ذلك أن نقوم بالإسلام ونحرك به الأجساد والقلوب وأن نعمل لله صادقين موقنين قال تعالى { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) } (4)وقال تعالى { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ (173) } (5).
__________
(1) سورة الأنعام .
(2) سورة البقرة .
(3) سورة البقرة .
(4) سورة الروم .
(5) سورة الصافات .(/9)
فالنصر للمؤمنين وعد من الله وما من شك في تحققه في واقع الحياة وإن تأخر عن حساب البشر واستبطأوا ذلك فقد خُلق الإنسان من عجل قال تعالى { أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) } . (1) وقال تعالى { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) } (2).
وروى الإمام أحمد في مسنده [ 4 / 103 ] بسند صحيح من طريق صفوان بن مسلم قال حدثني سَليم بن عامر عن تميم الداري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل . عزاً يُعِزُ الله به الإسلام وذُلاً يُذِلُ الله به الكفر .
وكان تميم الداري يقول . قد عرفْتُ ذلك في أَهل بيتي لقد أصاب مَنْ أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب مَنْ كان منهم كافراً الذل والصغار والجزية . ) .
والمبشرات في عودة الإسلام وظهور أهله واتصال حاضرهم بماضيهم كثيرة وهي متحققة لا محالة بعز عزيز أو بذل ذليل وما سرى إلى نفوس فئة من المسلمين من اليأس والعجز مما يرون من الحاضر الأليم .. جهالة لا قرار لها .
فمهما فَشَت الضلالةُ واستحكمت الغواية واستشرى الفسادُ وانْتُهِكَت الأعراض فسيبقى الإسلامُ وتَمْتدُّ رُقْعَتُه ويبلغُ ما بلغَ الليلُ والنهارُ بصدقِ العلماء وجهود الدعاة ودماءِ الشهداء .
فلا مجال للتخاذل والبَطَالة والقعود مع الخالفين فالإسلام يتحقق بالجد لا بالهزل وبالأعمال لا بالآمال وبالقلوب الصادقة لا النفوس الخائنة قال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) } (3) . وقال تعالى { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) } (4) .
وقد تمثلت حقيقة الإيمان بالله وحقيقة المبايعة مع الله في الصحابة رضي الله عنهم حين أنفقوا الأموال محتسبين وبذلوا النفوس صابرين وجاهدوا في سبيل الله مقبلين غير مدبرين حتى ضرب الحق بجرانه وعرفت البشرية ربها وأذعنت لباريها فلم يبق في الأرض إلا مسلم موحّد أو كافر ذليل رضخ للجزية واستسلم لسلطان الحق على أن يبقى في ذمة المسلمين وحمايتهم هذا يوم أنْ تمثلت حقيقة الإيمان بالله في جيل القرآن ويوم أن عرف المسلمون الأوَّلون مهمتهم في الحياة .
ونحن أبناءَ اليوم حين نسير على آثارهم ونمنح الدين نفوسنا ونمضي في طريق الحق غير هيَّابين للخلق نتجاوز الأيام العجاف والعلل العارضة والهزائم المخزية .. ونحطم عروش الكفر ونهزم عبيد الشهوات ونملك رقاب أعدائنا هذا ما وعدنا ربنا إذا أصلحنا شأننا وعُدْنا لرشدنا فالإسلام يعلو ولا يُعْلى .
ومن جميل حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حين خرج على المسلمين عاملُ كسرى في أربعين ألفاً فقام ترجمان فقال ليكلمني رجل منكم فقال المغيرة : سل عمَّا شئت قال ما أنتم ؟ قال نحن أُناس من العرب كنا في شقاء شديد وبلاء شديد نمص الجلد والنوى من الجوع ونلبس الوبَرَ والشَعَر ونعبد الشجر والحجر ، فبينا نحن كذلك إذ بعث ربُ السموات ورب الأرضين تعالى ذكرُه وجلَّت عظمته - إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه فأمرنا نبينا رسولُ ربّنا صلى الله عليه وسلم أن نُقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية ، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل منّا صار إلى الجنة في نعيم لم يَرَ مِثْلَها قط ومن بقي منا ملك رقابكم )) رواه البخاري (3159)
وعلى هذا الأساس نهض الإسلام وقويت شوكته وعزّ أهله ولن تذهب الليالي والأيام حتى يكون الدين كله لله فلا يهودية في الأرض ولا نصرانية ولا يبقى أحد من أهل الكتاب يؤدي الجزية .
__________
(1) سورة البقرة .
(2) سورة الروم .
(3) سورة التوبة .
(4) سورة التوبة .(/10)
وفي الصحيحين (1) من طريق ابن شهاب عن ابن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مُقْسِطاً فيكسِرَ الصليب ويقتل الخنزير ويضَعَ الجزية ويَفيضَ المال حتى لا يقبله أحد )) .
ومعنى قوله ( ويضع الجزية ) أي لا يقبل إلا الإسلام ليكون الدين كله لله فلا يبقى في الأرض لا يهودي ولا نصراني وهذا قول طائفة من الفقهاء والأئمة المجتهدين .
وقال آخرون معناه : أن المال يتنامى ويكثر حتى لا يوجد أحد يمكن صرف الجزية له فتترك الجزية لعدم الحاجة إليها .
وقالت طائفة ثالثة : إن المراد بوضع الجزية هو تقريرها على الكفار من غير محاباة وحينها يفيض المال .
وقد جاءت روايات كثيرة تؤيد القول الأول وأن عيسى يدعو إلى الإسلام ولا يقبل الجزية ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام .
وروى البخاري (2) من طريق جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر وراءَه اليهودي يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله )) . ورواه مسلم (3) من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة واتفق الشيخان (4) على روايته عن ابن عمر رضي الله عنهما .
وقد آن للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يعودوا لرشدهم ويُجْمِعوا أمرهم ويجاهدوا عدو الله وعدوّهم فأبناء المسلمين مثخنون في الدماء والجراح فوق أراضيهم وقد تحملوا الكثير من غدر اليهود ومكر النصارى وخبث سياساتهم في الديار والأعراض قال تعالى { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) } (5) .
ونحن المسلمين على امتداد تاريخنا لم نلق من اليهود والنصارى مآسي ومجازر أعظم ولا أنكى من مجازر حاضرنا المعاصر (6) حتى أقاموا سعادتهم على شقاوتنا ودولتهم على أراضينا وبعضُ المسلمين جثثُ ُ هامدةٌ لا يتحركون نحو الجهاد وتغيير الأوضاع ويؤثرون الانتظار وينتظرون الفرج دون مقاومة تذكر أو بذل يشكر .
والإسلام يرفض كل هذا ويرفض الخور والجهل والكسل ويرفض الدعوات التي ترمي إلى هلاك المسلمين وهتك حرماتهم ويأمر بالجهاد وقتال الناكثين والمعتدين وتطهير أراضي المسلمين من أيدي المغتصبين حتى يأتي وعد الله ونحن على ذلك قال الله تعالى { انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) } (7). وقال تعالى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) } (8) .
وقد اتفق أهل العلم على وجوب قتال الكفار المعتدين على بلاد المسلمين فإن اندفع شرُّهم بأهل البلاد التي أُحتُلت أو أُغتصبت كفى ذلك عن غيرهم وإن لم يحصل ردُّ كيدهم وإقصاؤهم فإنه يجب على من يقرب من العدو من أهل البلاد الأُخرى مناجزة الكفار وصدّ عدوانهم وهذا أمر معلوم بالشرع ولا ينازع فيه مسلم (9) .
__________
(1) البخاري ( 2222 ) ومسلم ( 155 ) .
(2) رقم ( 2926 ) .
(3) رقم ( 2922 ) .
(4) البخاري ( 2925 ) ومسلم ( 2921 ) .
(5) سورة الحج .
(6) وكارثة المسلمين سنة سبع عشرة وستمائة على أيدي التتار بلية عظيمة ومحنة كبيرة قال عنها ابن الأثير في الكامل ( 10 / 399 ) فلو قال قائل إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولاما يدانيها . ) غير أن التتار قوم أخلاط ليس لهم دين .. والحديث عن فتنة اليهود والنصارى على ما فيهم من تحريف .
(7) سورة التوبة .
(8) سورة البقرة .
(9) انظر شرح السنة للبغوي [ 10 / 374 ] وتفسير القرطبي [ 5 / 279 / 8 / 151 ] والمغني ( 10 / 366 ) والمحلى ( 5 / 341 ) وحاشية ابن عابدين ( 4 / 124 / 00 ) والسيل الجرّار ( 4 / 520 ) والجهاد والقتال في السياسة الشرعية ( 1 / 636 – 638 ).(/11)
قال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) } (1). وقال تعالى { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) } (2).
قال القرطبي رحمه الله قوله تعالى { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } حض على الجهاد وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب ويفتنونهم عن الدين فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده وإن كان في ذلك تلف النفوس ..) (3) .
فلهم بذلك أجر الشهداء المقتولين في سبيل الله قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من قُتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد .... الحديث رواه مسلم ( 1915 ) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة .
وقال تعالى عن الذين يُقتلون في سبيل الله ويضحون بأرواحهم { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) } (4).
وفي صحيح مسلم ( 1887 ) من طريق الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية فقال : أما إنّا قد سألنا عن ذلك فقال (( أرواحهم في جوفِ طيرٍ خُضر لها قناديلُ مُعَلّقة بالعرش تسرحُ من الجنة حيث شاءَت . ثم تأوي إلى تلك القناديل . فاطلع إليهم ربهم اطلاعة . فقال . هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي شيئ نشتهي ؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرّات . فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا قالوا : يارب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى . فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا )) .
وقال صلى الله عليه وسلم (( ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد ، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة )) متفق عليه (5) من حديث شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه .
وقد دلت الأحاديث الصحاح على أن الجهاد في سبيل الله من أفضل الأعمال والقائمين به أفضل العباد.
وهذا هو الذي دفع بالصحابة من المهاجرين والأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان إلى أن يتسابقوا في حلقة سباقه ويتنافسوا في نيل ثوابه وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما يعدل الجهادَ في سبيل الله عز وجل ؟ قال لا تستطيعوه (6) )) قال فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول (( لا تستطيعونه )) وقال في الثالثة (( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى )) . رواه مسلم في صحيحه ( 1878 ) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ورواه البخاري ( 2785 ) بمعناه من حديث أبي حصين عن ذكوان عن أبي هريرة وفي الصحيحين (7) من طريق الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله أي ّ الناس أفضل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله قالوا ثمَّ مَنْ قال : مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدعُ الناس من شرّه )) .
والنصوص الدالة على فضل الجهاد وأهله كثيرة فقد أدرك المجاهدون في سبيل الله من قبلهم وفاتوا من بعدهم . فلله در أرواح تضمها أجسادهم ودماء أُريقت في حماية الإسلام وكسر شوكة أعدائه .
__________
(1) سورة التوبة .
(2) سورة النساء .
(3) تفسير القرطبي ( 5 / 279 ) وانظر (( مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق [ 2 / 828 – 838 ] .
(4) سورة آل عمران .
(5) البخاري ( 2817 ) ومسلم ( 1877 ) .
(6) وفي نسخة ( لا تستطيعونه ) بالنون وهذا الأشهر في اللغة .
(7) البخاري ( 2786 ) ومسلم ( 1888 ) .(/12)
هذا وقد أثار بعض المنهزمين روحياً وفكرياً والمتأثرين بكتابات المستشرقين موضوع الجهاد وحصروه في جهاد الدفاع ضد العدوان وجهدوا في تأويل الأدلة القطعية في هذا وعموا عن الأدلة والبراهين الدالة على جهاد الطلب ليكون الدين كله لله وتستريح الشعوب المظلومة والمقهورة من ظلم الأنظمة والقوانين وكان وراء هذه الانهزامية هو الجهل بحقيقة الإسلام وحقيقة الجهاد في الشريعة الإسلامية قال تعالى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا ( أي عن الشرك وفتنة المؤمنين ) فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) } (1) .
وقال تعالى { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } (2).
وقال تعالى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) } (3).
وفي الصحيحين (4) من طريق شعبة عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله )) .
وهذه الأدلة كلها في جهاد الطلب وهو قصد الكفّار وغزوهم في ديارهم ولو لم يحصل منهم أيّ عدوان ليدخلوا في الدين كافة مالم يترتب على ذلك أضرار راجحة أو يمنع المسلمين من ذلك عجز أو ضعف .
والنوع الثاني من الجهاد هو جهاد دفع العدوان عن بلادنا وعامة بلاد المسلمين وهذا واجب بالإجماع وهو من الضروريات ومن الأمور المتفق عليها في الشرائع كلها وفي الأعراف الدولية والأنظمة والسياسات كلها وقد دل عليه السمع والعقل والفطرة وقد تقدم شيء من هذا وأن الله تعالى أوجب الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المستضعفين من المؤمنين من أيدي الكفرة المجرمين والله أعلم .
كتبه
سليمان بن ناصر العلوان
القصيم _ بريدة
7/ 8 / 1422هـ
الفهرس
العدد ... الموضوع ... الصفحة
1 ... المقدمة . ... 2
2 ... التوحيد هو أصل الدين . ... 3
3 ... حقيقة العبودية . ... 4
4 ... من ادعى الإيمان بالله ..... الخ . ... 4
5 ... الإشارة إلى أن السلف يفسرون الآية ببعض أفرادها ولا يقصدون الحصر . ... 4
6 ... قول ابن القيم في معنى الطاغوت . ... 5
7 ... توضيح كلمة الإخلاص . ... 6
8 ... الكلام على تحكيم القوانين . ... 7
9 ... تضعيف أثر ابن عباس كفر دون كفر . ... 8
10 ... الكلام على هشام بن حجير . ... 8
11 ... الأصل في الكفر إذا عرف باللام أنه الأكبر . ... 9
12 ... الحكم بغير ما أنزل الله مراتب متفاوتة . ( ح ) ... 9
13 ... نقل ابن كثير الإجماع على كفر الحاكم بغير ما أنزل الله وتعقب من أول هذا الإجماع . ... 10
14 ... شرح قول بعض أهل العلم ( لا نكفر أحداً بذنب مالم يستحله ( ح ) . ... 12
15 ... غلاة المرجئة يمنعون من التكفير بالعمل مطلقاً . ... 12
16 ... اتفاق أهل العلم على كفر ساب الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى كفر المستهزىء بالدين وعلى كفر من سجد للأصنام أو طاف على القبور أو ألقى المصحف في القاذورات . ... 12
17 ... اتفاق أهل السنة على أن الكفر يكون بالقول ويكون بالفعل . ... 13
18 ... من الكفر المستبين ترك جنس العمل مطلقاً ... ... 14
19 ... قول سفيان فيمن ترك جنس العمل . ... 14
20 ... قول إسحاق فيمن ترك أركان الإسلام . ... 15
21 ... قول الإمام أحمد في ذلك . ... 15
22 ... كلام لابن بطة في ذم المرجئة والتحذير منهم . ... 16
23 ... كلام الزهري على المرجئة . ... 16
24 ... كلام يحيى و قتادة على المرجئة . ... 16
25 ... كلام شريك على المرجئة . ... 17
26 ... بدعة الإرجاء أصل كل بلاء وانحراف . ... 17
27 ... من نتائج المذهب الإرجائي نشر الفساد وتعطيل الجهاد في سبيل الله . ... 17
28 ... امتزاج المذهب الإرجائي بالفكر العلماني . ... 18
29 ... خطورة كلمة : دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر . ... 18
30 ... بقدر ما تبتعد البشرية عن الصراط المستقيم ينالها الذل والاستضعاف وبقدر ما تحكم الشريعة في كل الجوانب ينالها التمكين والاستخلاف والتمثيل على ذلك . ... 18
31 ... أكبر عدة للمؤمنين هي تقوى الله . ... 20
__________
(1) سورة الأنفال .
(2) سورة التوبة .
(3) سورة التوبة .
(4) البخاري ( 25 ) ومسلم ( 22 ) .(/13)
32 ... فضل من أوذي في سبيل دينه وعقيدته . ... 21
33 ... المحن والفتن لا تزيد المؤمنين إلا إيماناً . ... 22
34 ... ضرورة الصدع بالحق . ... 23
35 ... مبحث جواز العمليات الاستشهادية ( ح ) . ... 24
36 ... بقاء الحق مقدم على بقاء الجسد . ... 26
37 ... التفريق بين الصبر على جور الحكام وبين الثبات على الإيمان ومواجهة الحاكمية الجاهلية . ... 27
38 ... بيان دور العلماء . ... 27
39 ... صدع أبي ذر بالحق . ... 29
40 ... السلف يكرهون أعطيات السلاطين . ... 30
41 ... الحضارة تقوم على الكتاب والسنة . ... 31
42 ... عبيد الدنيا يتكلمون عن الشرع بلسان العلمانيين . ... 31
43 ... الإسلام له أعداء في الداخل وأعداء في الخارج . ... 33
44 ... الأوضاع القائمة على الشرك ... لن تدوم . ... 33
45 ... المبشرات في عودة الإسلام . ... 35
46 ... تمثلت حقيقة الإيمان بالله في الصحابة . ... 36
47 ... من جميل كلام المغيرة . ... 37
48 ... بالتوحيد والجهاد نهض الإسلام وقويت شوكته . ... 37
49 ... الدعوة للجهاد وبيان غدر اليهود . ... 39
50 ... مآسي المسلمين في حاضرنا المعاصر . ... 39
51 ... كارثة المسلمين سنة سبع عشرة وستمائة ( ح ) . ... 39
52 ... اتفاق العلماء على وجوب قتال الكفار المعتدين على بلاد المسلمين . ... 40
53 ... فضل الشهداء والأحاديث الواردة في ذلك . ... 41
54 ... الجهاد في سبيل الله من أفضل الأعمال . ... 43
55 ... الرد على من حصر الجهاد في الدفاع . ... 44
56 ... الجهاد الدفاعي واجب بالإجماع . ... 46
57 ... فهرس الموضوعات . ... 47(/14)
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا
شعر: عبد يغوث
ألا لا تلوماني كفى اللَّومَ ما بيا وما لكما في اللوم خيرٌ ولا لِيا
ألم تعلما أنَّ الملامةَ نفعُها قليلٌ ، وما لومي أخي من شِماليا
فيا راكباً إمّا عرضتَ فبلِّغنْ نَدامايَ من نَجْرانَ أنْ لا تلاقِيا
أبا كربٍ والأيهمَينِ كليهِما وقيسا بأعلى حضرموتَ اليَمانيا
جزى اللهُ قومي بالكُلابِ ملامةً صريحَهمُ والآخرين المَواليا
ولو شئتُ نجّتني من الخيل نَهْدَةٌ ترى خلفَها الحُوَّ الجيادَ تَواليا
ولكنني أحمي ذِمارَ أبيكُمُ وكانَ الرماحُ يختَطِفْنَ المُحاميا
أقول وقد شَدُّوا لساني بنِسعةٍ أمعشرَ تَيْمٍ أطلِقوا عن لِسانيا
أمعشر تَيمٍ قد ملكتمْ فأسجِحوا فإنَّ أخاكم لم يكن من بَوائيا
فإن تقتُلوني تقتُلوا بيَ سيدا وإن تُطْلِقوني تَحْربُوني بماليا
أحقاً عبادَ اللهِ أنْ لستُ سامعاً نشيدَ الرِعاءِ المُعْزِبينَ المَتاليا
وتضحكُ منّي شيخةٌ عبشميَّةٌ كأنْ لم تَرَى قلبيْ أسيراً يَمانيا
وظلَّ نِساء الحيِّ حوليَ رُكَّدا يُراوِدْنَ منّي ما تُريد نِسائيا
وقد عَلمَتْ عرَسي مُلَيْكَةُ أنني أنا الليثُ مَعْدُوّاً عليَّ وَعاديا
وقد كنتُ نَحَّار الجَزور ومُعمِل ال مَطِيّ، وأمضي حيثُ لا حيّ ماضيا
وأنحَرُ للشَّرب الكرام مَطِيتّي وأصدعُ بين القَينَتَيْنِ رِدانيا
وكنتُ إذا ما الخيلُ شَمَّصها القنا لَبيقاً بتصريف القناةِ بَنَانيا
وعاديةٍ سومَ الجراد وزعتُها بكفي ، وقد أنْحَوا إليّ العَواليا
كأنّيَ لم أركب جواداً ولم أقلْ لخيليَ : كرّي، نفِّسي عن رجاليا
ولم أسبأ الزَّق الرَويَّ ، ولم أقل لأيسارِ صدق: أعظِموا ضوءَ ناريا(/1)
ألا ليت شعري
شعر: مالك بن الريب
ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً
بجنب الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا
فَليتَ الغضى لم يقطع الركبُ عرْضَه
وليت الغضى ماشى الرِّكاب لياليا
لقد كان في أهل الغضى لو دنا الغضى مزارٌ ولكنَّ الغضى ليس دانيا
ألم ترَني بِعتُ الضلالةَ بالهدى وأصبحتُ في جيش ابن عفّانَ غازيا
وأصبحتُ في أرض الأعاديَّ بعد ما أرانيَ عن أرض الآعاديّ قاصِيا
دعاني الهوى من أهل أُودَ وصُحبتي بذي ( الطِّبَّسَيْنِ ) فالتفتُّ ورائيا
أجبتُ الهوى لمّا دعاني بزفرةٍ تقنَّعتُ منها أن أُلامَ ردائيا
أقول وقد حالتْ قُرى الكُردِ بيننا جزى اللهُ عمراً خيرَ ما كان جازيا
إنِ اللهُ يُرجعني من الغزو لا أُرى وإن قلَّ مالي طالِباً ما ورائيا
تقول ابنتيْ لمّا رأت طولَ رحلتي سِفارُكَ هذا تاركي لا أبا ليا
لعمريْ لئن غالتْ خراسانُ هامتي لقد كنتُ عن بابَي خراسان نائيا
فإن أنجُ من بابَي خراسان لا أعدْ إليها وإن منَّيتُموني الأمانيا
فللهِ دّرِّي يوم أتركُ طائعاً بَنيّ بأعلى الرَّقمتَينِ وماليا
ودرُّ الظبَّاء السانحات عشيةً يُخَبّرنَ أنّي هالك مَنْ ورائيا
ودرُّ كبيريَّ اللذين كلاهما عَليَّ شفيقٌ ناصح لو نَهانيا
ودرّ الرجال الشاهدين تَفتُُّكي بأمريَ ألاّ يَقْصُروا من وَثاقِيا
ودرّ الهوى من حيث يدعو صحابتي ودّرُّ لجاجاتي ودرّ انتِهائيا
تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا
وأشقرَ محبوكاً يجرُّ عِنانه إلى الماء لم يترك له الموتُ ساقيا
ولكنْ بأطرف ( السُّمَيْنَةِ ) نسوةٌ عزيزٌ عليهنَّ العشيةَ ما بيا
صريعٌ على أيدي الرجال بقفزة يُسّوُّون لحدي حيث حُمَّ قضائيا
ولمّا تراءتْ عند مَروٍ منيتي وخلَّ بها جسمي، وحانتْ وفاتيا
أقول لأصحابي ارفعوني فإنّه يَقَرُّ بعينيْ أنْ (سُهَيْلٌ) بَدا لِيا
فيا صاحبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزِلا برابيةٍ إنّي مقيمٌ لياليا
أقيما عليَّ اليوم أو بعضَ ليلةٍ ولا تُعجلاني قد تَبيَّن شانِيا
وقوما إذا ما استلَّ روحي فهيِّئا لِيَ السِّدْرَ والأكفانَ عند فَنائيا
وخُطَّا بأطراف الأسنّة مضجَعي ورُدّا على عينيَّ فَضْلَ رِدائيا
ولا تحسداني باركَ اللهُ فيكما من الأرض ذات العرض أن تُوسِعا ليا
خذاني فجرّاني بثوبي إليكما فقد كنتُ قبل اليوم صَعْباً قِياديا
وقد كنتُ عطَّافاً إذا الخيل أدبَرتْ سريعاً لدى الهيجا إلى مَنْ دعانيا
وقد كنتُ صبّاراً على القِرْنِ في الوغى وعن شَتْميَ ابنَ العَمِّ وَالجارِ وانيا
فَطَوْراً تَراني في ظِلالٍ ونَعْمَةٍ وطوْراً تراني والعِتاقُ رِكابيا
ويوما تراني في رحاً مُستديرةٍ تُخرِّقُ أطرافُ الرِّماح ثيابيا
وقوماً على بئر السُّمَينة أسمِعا بها الغُرَّ والبيضَ الحِسان الرَّوانيا
بأنّكما خلفتُماني بقَفْرةٍ تَهِيلُ عليّ الريحُ فيها السّوافيا
ولا تَنْسَيا عهدي خليليَّ بعد ما تَقَطَّعُ أوصالي وتَبلى عِظاميا
ولن يَعدَمَ الوالُونَ بَثَّا يُصيبهم ولن يَعدم الميراثُ مِنّي المواليا
يقولون: لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونني وأينَ مكانُ البُعدِ إلا مَكانيا
غداةَ غدٍ يا لهْفَ نفسي على غدٍ إذا أدْلجُوا عنّي وأصبحتُ ثاويا
وأصبح مالي من طَريفٍ وتالدٍ لغيري، وكان المالُ بالأمس ماليا
فيا ليتَ شِعري هل تغيَّرتِ الرَّحا رحا المِثْلِ أو أمستْ بَفَلْوجٍ كما هيا
إذا الحيُّ حَلوها جميعاً وأنزلوا بها بَقراً حُمّ العيون سواجيا
رَعَينَ وقد كادَ الظلام يُجِنُّها يَسُفْنَ الخُزامى مَرةً والأقاحيا
وهل أترُكُ العِيسَ العَواليَ بالضُّحى بِرُكبانِها تعلو المِتان الفيافيا
إذا عُصَبُ الرُكبانِ بينَ ( عُنَيْزَةٍ ) و(بَوَلانَ) عاجوا المُبقياتِ النَّواجِيا
فيا ليتَ شعري هل بكتْ أمُّ مالكٍ كما كنتُ لو عالَوا نَعِيَّكِ باكِيا
إذا مُتُّ فاعتادي القبورَ وسلِّمي على الرمسِ أُسقيتِ السحابَ الغَواديا
على جَدَثٍ قد جرّتِ الريحُ فوقه تُراباً كسَحْق المَرْنَبانيَّ هابيا
رَهينة أحجارٍ وتُرْبٍ تَضَمَّنتْ قرارتُها منّي العِظامَ البَواليا
فيا صاحبا إما عرضتَ فبلِغاً بني مازن والرَّيب أن لا تلاقيا
وعرِّ قَلوصي في الرِّكاب فإنها سَتَفلِقُ أكباداً وتُبكي بواكيا
وأبصرتُ نارَ (المازنياتِ) مَوْهِناً بعَلياءَ يُثنى دونَها الطَّرف رانيا
بِعودٍ أَلنْجوجٍ أضاءَ وَقُودُها مَهاً في ظِلالِ السِّدر حُوراً جَوازيا
غريبٌ بعيدُ الدار ثاوٍ بقفزةٍ يَدَ الدهر معروفاً بأنْ لا تدانيا
اقلبُ طرفي حول رحلي فلا أرى به من عيون المُؤنساتِ مُراعيا
وبالرمل منّا نسوة لو شَهِدْنَني بَكينَ وفَدَّين الطبيبَ المُداويا
وما كان عهدُ الرمل عندي وأهلِهِ ذميماً ولا ودّعتُ بالرمل قالِيا
فمنهنّ أمي وابنتايَ وخالتي وباكيةٌ أخرى تَهيجُ البواكيا(/1)
ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد 23/7/1422
المشرف العام على موقع المسلم -أ.د ناصر بن سليمان العمر
* الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ولا عدوان إلا على الظالمين . أما بعد :
فنظراً لما تمر به الأمة الإسلامية من مرحلة حرجة في تاريخها ، إذ تكالب عليها الأعداء من كل جانب ، وتداعت عليها الأمم من كل حدب وصوب ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، وحيث نفذت أمريكا تهديدها وبدأت الحرب على المسلمين ؛ ابتداءً من أفغانستان ولا يعرف إلى أين تنتهي ؛ فقد صرح الرئيس الأمريكي في خطاب الحرب أن المعركة لن تقتصر على أفغانستان بل ستتعداها إلى غيرها ؛ فكثرت الأسئلة ، وتوالت الاستفسارات حول ما يجب على المسلم في مثل هذه الظروف ، حيث اختلط الحق بالباطل ، وكثر اللبس ، واهتزت الثوابت لدى كثير من المسلمين ، وأصبح المسلم في حيرة من أمره ، وبخاصة بعد أن تولت كثير من وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة وزر هذا التخبط ،وتكلم في هذه المسائل أناس ليس لهم من العلم الشرعي نصيب ، فانطلقوا يرجفون في الأمة ، ويشككونها في دينها وعقيدتها ، ويظاهرون عليها أعداءها ، كما فعله أسلافهم من المنافقين من قبل" فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " .
ونظراً لما أخذه الله على أهل العلم من وجوب البيان والنصح وحرمة الكتمان ؛ حيث قال تعالى : " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ".
وحرصاً على حماية الأمة والشباب ـ بصفة خاصة ـ من الانزلاق وراء هذه الفتن ، دون أن يدركوا أبعادها وآثارها ، وبياناً للحق وصدعاً به ؛ لذلك كله فإني ألخص الإجابة على ما وردني من أسئلة بما يلي ، فأقول :
أولاً :
يجب أن نعلم أن هذه الأحداث ابتلاء من الله وامتحان للأمة جماعات وأفراداً ؛ كما قال سبحانه : " ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون " ، وقال سبحانه : " الم ** أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " .
والابتلاء والامتحان شامل لابتلاء القلوب والأجسام ،وهو ابتلاء حسي ومعنوي ، فليكن المسلم متيقظاً حذراً ، وأن ينتبه إلى مواقفه وأقواله واعتقاده ونياته فيما يتعلق بهذه الأحداث العظيمة ؛ حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها فيخسر أولاه وأخره .
قال سبحانه : " ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين " .
ثانياً:
يجب أن ندرك أن المعركة في حقيقتها معركة بين الحق والباطل ، بين الإسلام والكفر ، بين الخير والشر ؛ كما أعلنها زعيم التحالف الغربي نفسه فصرح بأن الحرب حرب صليبية ، فلم يدع لنا أي مجال لأن نحملها على غير ذلك ، وأيده على هذه الحقيقة عدد من مساعديه ، بل وحلفائه ؛ كرئيس الوزراء الإيطالي ، ورئيسة وزراء بريطانيا سابقاً ( تاتشر ) ، وما صدر منهم بعد ذلك من تفسير لا يغير من الحقيقة شيئاً ؛ حيث إن برامجهم ومواقفهم تؤكد صحة ما أعلنوه ، وبخاصة بعد إعلان الحرب وتصريح الرئيس الأمريكي أن المعركة لن تقتصر على بلد معين ؛ بل ستتعداه إلى غيره ، مما يدل على ما يضمره القوم من شر وسوء طوية ومعركة مبيتة سلفاً " وما تخفي صدورهم أكبر " .
ثالثاً :
وجوب البراءة من المشركين واليهود والنصارى ، وإعلان مفارقتهم ، وحرمة الولاء لهم أو توليهم التزاماً بقوله تعالى : "يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم " .
وقوله سبحانه :" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه " وقال سبحانه :" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" .
وثبت في حديث جر ير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : " أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ، وهو يبايع ، فقلت : يا رسول الله ابسط يدك حتى أبايعك ، واشترطْ عليّ فأنت أعلم، قال :" أبايعك على أن تعبد الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتناصح المسلمين ، وتفارق المشركين " .
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير آية الممتحنة :" ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها ، فكيف توالونهم وتتخذون منهم أصدقاء وأخلاء " .
وقال الشيخ حمد بن عتيق ـ رحمه الله ـ :" فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب ذلك ، وأكد إيجابه ، وحرم موالاتهم وشدد فيها ، حتى إنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم ؛ بعد وجوب التوحيد ، وتحريم ضده " .(/1)
والأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف في هذا الباب أشهر من أن تحصر أو تذكر ، فليحذر المسلم أشد الحذر من موالاة أعداء الله ، أو أن يقع في قلبه محبة لهم فيضل عن سواء السبيل وينتفي عنه الإيمان" لا تجد قوما ًيؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " .
رابعاً :
حرمة مظاهرة المشركين واليهود والنصارى ، وإعانتهم على المسلمين ، وأن من فعل ذلك عالماً بالحكم طائعاً مختاراً غير متأول فقد برأت منه ذمة الله ، حيث إن المظاهرة والمناصرة أعظم أنواع التولي والموالاة ، قال الإمام الطبري ـ رحمه الله ـ في قوله تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين "
( معنى ذلك : لا تتخذوا ـ أيها المؤمنون ـ الكفار ظهوراً وأنصاراً ، توالونهم على دينهم ، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين ، وتدلونهم على عوراتهم ، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شي ء ، يعني فقد برئ من الله ، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ) أ . هـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " وإذا كان السلف قد سموا مانعي الزكاة مرتدين ؛ مع كونهم يصلون ويصومون ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين ، فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلاً للمسلمين " .
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ " إن الأدلة على كفر المسلم إذا أشرك بالله ، أو صار مع المشركين على المسلمين ، ـ ولو لم يشرك ـ أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم المعتمدين " .
وقال في نواقض الإسلام العشرة : " الناقض الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ، والدليل قوله تعالى :" ومن يتولهم منكم فإنه منهم " .
وقال أحد علماء نجد كما في الدرر 9 / 291 :" فمن أعان المشركين على المسلمين ، وأمد المشركين من ماله بما يستعينون به على حرب المسلمين اختياراً منه فقد كفر " .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ : " أما الكفار الحربيون فلا تجوز مساعدتهم بشي ء ، بل مساعدتهم على المسلمين من نواقض الإسلام لقوله عز وجل :" ومن يتولهم منكم فإنه منهم " .
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حدود الموالاة المكفرة فأجابت :" موالاة الكفار التي يكفر بها من والاهم هي محبتهم ونصرتهم على المسلمين ؛ لا مجرد التعامل معهم بالعدل " .
وقال الشيخ صالح الفوزان ـ وفقه الله ـ :" ومن مظاهر موالاة الكفار : إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين ، ومدحهم والذب عنهم ،وهذا من نواقض الإسلام وأسباب الردة والعياذ بالله من ذلك " .
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك ـ حفطه الله ـ : " فإنه مما لا شك فيه أن إعلان أمريكا الحرب على حكومة طالبان في أفغانستان ظلم وعدوان وحرب صليبية على الإسلام كما ذكر ذلك عن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ، وأنّ تخلي الدول في العالم عن نصرتهم في هذا الموقف الحرج مصيبة عظيمة ، فكيف بمناصرة الكفار عليهم ، فإن ذلك من تولي الكافرين ؛ قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )) وعد العلماء مظاهرة الكفار على المسلمين من نواقض الإسلام لهذه الآية ، فالواجب على المسلمين نصرة إخوانهم المظلومين على الكافرين الظالمين
خامساً :
وجوب الوقوف مع المسلمين المستهدفين بهذه الحرب الصليبية ، في أي بقعة من الأرض كل حسب استطاعته ، وعدم جواز التخلي عن أي مسلم يستهدف ظلماً وعدواناً ، والحرب على أفغانستان وحكومة طالبان ظلم وعدوان صريح، حيث لم تستطع أمريكا أن تقدم دليلاً مقنعاً على دور المسلمين في ما حدث في أمريكا ، وقد صرح بهذه الحقيقة أمير قطر بعد بدء الحرب وكذلك صرح قبله عدد من المسئولين العرب على أن أمريكا ليس لديها دليل ثابت على اتهاماتها ، بل قال أحد كبار المحامين البريطانيين : إن أدلة أمريكا على من اتهمتهم بالأحداث لا يمكن أن يقبل بها أي قاض أمريكي فضلاً عن غيره . ولذلك لا بد من نصرة إخواننا هناك وفي كل مكان .
قال سبحانه : "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " .
وقال صلى الله عليه وسلم :" انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " .
وقال صلى الله عليه وسلم :" المسلم أخو المسلم : لايظلمه ولا يخذله " كما في حديث أبي هريرة ، وفي حديث ابن عمر :" لا يظلمه ولا يسلمه " .
كما أن الوقوف مع هؤلاء المسلمين من أعظم ما يدفع الله به البلاء عن الأمة ، والمسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، كما بين المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والتخلي عنهم من أعظم أسباب غضب الله وحلول عقابه ، ومن خذل مسلما في مقام يستطيع فيه نصرته خذله الله .
سادساً:(/2)
الحذر من نقل المعركة إلى داخل بلاد المسلمين ، وإحداث الفوضى والاضطراب فيها ، فإن ذلك يسر الأعداء ، ويمكّنهم من تنفيذ مخططاتهم بضرب الأمة وتفريق صفوفها ، وإغراقها في مشكلات لا حصر لها ، وباب التأويل في هذا الأمر واسع ، فيجب إغلاقه وسدّ منافذ الشر ؛ لما يترتب على ذلك من مفاسد لا تحصى ، والضابط في ذلك هو مراعاة قاعدة تحقيق المصالح ودرء المفاسد ، فهي قاعدة عظيمة لا يجوز إغفالها ، وبخاصة في هذه الفتن التي تعصف بالأمة .
كما أنصح الشباب بالبعد عن الحماس غير المنضبط ، والاستعجال غير المدروس لما له من آثار في العاجل والآجل ، وأن تكون تصرفات المسلم محكومة بأدلة الكتاب والسنة وقواعد الشريعة، قال سبحانه :" فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً : كتاب الله وسنتي " .
سابعاً :
يحب أن نحسن الظن بالله ، وأن نعلم أنه مالك الملك ، لا يعجزه شيء ، وأنه لن يقع شيء إلا بقضائه وقدره ، وهو لا يقضي إلا الخير ، فلا بد من التفاؤل ؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس تفاؤلاً عند الأزمات الكبرى كما في الأحزاب وغيرها مع الأخذ بالأسباب المشروعة ، والبعد عن الإرجاف والخوف وتضخيم دور الأعداء ، " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ** فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ** إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ** ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً يريد الله ألاّ يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم " ، "وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " ، وأن نتذكر قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها ، وقوله :" لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم " .
وقوله :" فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً " ، وقوله :" لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم " .
وقوله :" ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ** ألم يجعل كيدهم في تضليل ** وأرسل عليهم طيراً أبابيل ** ترميهم بحجارة من سجيل ** فجعلهم كعصف مأكول " .
ولا بد من تقوية الإيمان ، وألا نخشى إلا الله ، وأن نتوكل عليه ، ونفوض أمرنا إليه ، " ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً " .
ثامناً :
أن نعلم أن ما أصابنا بسبب ذنوبنا ومعاصينا ، قال سبحانه :" وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير "، وقد نقل عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ :" ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ".
فلا بد من التوبة والإنابة والرجوع إلى الله ، والتضرع إليه ، والخروج من المظالم ، والربا ، مع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحكيم شريعة الله في كل صغيرة وكبيرة ؛ في أنفسنا وبيوتنا وما ولينا ؛ لعل الله أن يكشف ما بنا من سوء ، "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " .
ولا بد من الاستغفار القلبي والعملي "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " .
وينبغي التسلح بسلاح الدعاء ، فإن الله يجيب دعوة الداع إذا دعاه وبخاصة المضطر " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " .
" أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " .
" ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين " .
نسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وأن يرفع البلاء عن المستضعفين ، وأن يرد كيد الأعداء في نحورهم ، إنه سميع مجيب .
"اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزم اليهود والنصارى ومن حالفهم، وانصر المسلمين عليهم " .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
-----------------------------
*نشر هذا المقال في العديد من المواقع بتاريخ 23/7/1422 إبان غزو أفغانستان(/3)
ألب أرسلان - محطم الإمبراطورية البيزنطية
كتبه : شريف عبد العزيز
مقدمة
مفكرة الإسلام : هناك خلط كبير عند كثير من المسلمين الذين لم يتعرفوا على تاريخ أمتهم المجيد وذلك للأسف الشديد، فإنهم لا يميزون بين القوى المعادية التي حاربت الأمة الإسلامية في العصور والمراحل التاريخية، فهم جميعاً في نظر المسلمين 'صليبيين' وهذا وإن كان المسمى في حقيقته واحد إلا إن التفرقة واجبة للتعرف على فصول الصراع مع كل طرف على حدة وخلفيات وأبعاد وتداعيات هذا الصراع وهل مازال قائماً أم طوته الأيام والليالي، فلقد خاضت الأمة الإسلامية معارك كثيرة ومهولة مع عدوين كلاهما يرفع راية الصليب ويحارب باسمها وتحتها : العدو الأول الفرنجة أو نصارى غرب أوروبا الذين شنوا الحملات الصليبية الشهيرة في أواخر القرن الخامس الهجري '489' هجرية على الشام ومصر بدافع وتحريض مباشر من كرسي البابوية كبير الكاثوليك ولقد استمرت هذه الحملات قرابة القرنين من الزمان ومثلت ذروة الصراع بين الإسلام والنصرانية والشرق والغرب في منتصف العصور الوسطى، أما العدو الثاني : فهم الروم أو الرمان البيزنطيون أو نصارى شرق أوروبا والبلقان حيث الإمبراطورية البيزنطية القديمة العريقة حامية وراعية المذهب الأرثوذكسي، وكانت هذه الإمبراطورية الرومانية قد بسطت نفوذها على الشام والجزيرة الفراتية والأناضول ومصر وليبيا وتونس قبل ظهور الإسلام، وهذه الإمبراطورية هي أو عدو من خارج الجزيرة العربية يصطدم مع المسلمين وكان اللقاء مبكراً جداً في معركة مؤتة سنة '8' هجرية وظل الصراع قائماً بعدها ضد هذه الإمبراطورية وخاض المسلمون معارك رائعة ضدها وحققوا انتصارات عالمية عليها في مؤتة سنة 8 هجرية ثم تبوك سنة 9هجرية ثم اليرموك سنة 13 هجرية وحرر المسلمون الشام والجزيرة ومصر وليبيا وتونس من الرومان في عهد أبى بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولكن ظلت هذه الإمبراطورية قائمة حتى جاء بطلنا الباسل 'ألب أرسلان' فنالت على يديه الهزيمة العالمية التي غيرت مجرى التاريخ وأعادت ترتيب القوى العالمية وتحطمت الإمبراطورية البيزنطية وظلت تترنح بعد ضربة بطلنا الهمام 'ألب أرسلان' حتى خرجت من الساحة الدولية ولم يعد لها أثر ولا قوة .
القوة الجديدة وسنة الاستبدال
إن لله عز وجل سنناً لا تتبدل ولا تتخلف بإذن الله، وفقه هذه السنن من الأمور الهامة في حياة المسلمين أفراداً وأمماً، لأن هذه السنن من أهم دعائم بقاء الأمم واستمرارها وتمكنها وظهورها، وهذه السنن لا تعرف جوراً ولا محاباة، فهي جارية على خلق الله جميعاً مؤمنهم وكافرهم، فأيما أمة أو جماعة أو أفراد استوفوا شروطها وعملوا بمقتضياتها جرت عليهم السنن وجوداً وعدماً، سالباً وإيجاباً، ومن أعظم هذه السنن سنة الاستبدال التي جعلها الله عز وجل لحفظ دينه ونصرة شريعته .
وعمل هذه السنة يقتضى أنه إذا لم يقم الجيل المسلم القائم بأعباء الدين والواجب المناط به تجاه الدعوة والأمة، فإن الله عز وجل يستبدل هذا الجيل ويأتي بالجيل القادر على حمل مسئولية الدين والأمة، وهذا ظاهر صراحة في قوله عز وجل [وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم] سورة 'محمد' الآية '38'، وقد عملت هذه السنة في دولة الخلافة العباسية التي بلغت مبلغاً بعيداً في الضعف والتفكك وتسلط الغير عليها وقد واجهت التحدي الأكبر لوجودها وشرعيتها عندما ظهرت الدولة الفاطمية الباطنية الشيعية والتي استولت على مصر والشام والحجاز واليمن، وأصبح العالم الإسلامي مهيأ لظهور القوة الجديدة التي ستعيد لأمة الإسلام قوتها وشبابها، وكانت هذه القوة الجديدة : قوة السلاجقة وهي قبائل تركية ظهرت منذ أوائل القرن الخامس الهجري في سهول التركستان، وظلت في تقدم وتوسع وانتشار خاصة عندما آلت قيادة هذه القبائل للسلطان 'طغرلبك' الذي وسع نطاق نفوذ السلاجقة وأعلن ولائه الكامل للخليفة العباسي ولأهل السنة عموماً واتسعت دولة السلاجقة لتشمل خراسان وإيران وبلاد ما وراء النهر كلها .
كان لظهور هذه القوة الجديدة أثر بعيد على الساحة العالمية خاصة عند القوى المعادية للإسلام وهي ممثلة في الإمبراطورية البيزنطية الصليبية والدولة الفاطمية الشيعية، فكلاهما لا يرغب في قوة جديدة للمسلمين، وبالفعل وقع الصدام بين السلاجقة والبيزنطيين عدة مرات ولكن كانت معركة 'أرزن' على حدود أرمينية سنة 450 هجرية وفيها انتصر السلاجقة انتصارا عظيماً ثبت وضع ومكانة السلاجقة على الساحة الدولية وخريطة القوى العالمية .
واستمر 'طغرلبك' في جهاده ونصرته للخلافة العباسية والمسلمين حتى توفاه الله عز وجل سنة 455 هجرية وتولى السلطنة بعده بطلنا الجسور ألب أرسلان .
الأسد الباسل(/1)
هو السلطان الكبير والملك العادل، عضد الدولة، أبو شجاع ألب أرسلان محمد بن جفرى بك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق التركمانى، ومعنى ألب أرسلان بالتركية الأسد الباسل وكان حقاً منذ شبابه وقبل ولايته أسد باسلاً شجاعاً يستعين به عمه 'طغرلبك' في المهام الصعبة والجسيمة وكان في منزلة القائد العام للجيوش السلجوقية وهو دون الثلاثين من العمر وقد كلفه عمه 'طغرلبك' بأهم منصب في الدولة السلجوقية ألا وهو منصب حاكم إقليم خراسان المضطرب، فأبدى كفاءة وحزم وعزم شديد في مواجهة التحديات والصعوبات الكثيرة خاصة وأن دولة السلاجقة كانت مازالت بعد في مراحلها الأولى رغم قوتها وشبابها .
الخلافات الطارئة
لم يكد ألب أرسلان يستلم منصب السلطان حتى دبت خلافات طارئة داخل البيت السلجوقى، حيث ثار عليه بعض أقربائه منهم أخوه سليمان وعمه 'قتلمش' واضطر ألب أرسلان مكرها أن يقاتل الخارجين عليه، وقد نصره الله عز وجل على خصومه على الرغم ما إن عمه قتلمش قد حاربه بتسعين ألفاً، في حين ألب أرسلان كان في اثني عشر ألفاً فقط، ولما علم ألب أرسلان نبأ مقتل عمه في المعركة بكى بشدة وتأسف على نهايته .
بعد ذلك انشغل ألب أرسلان في القضاء على بعض الثورات الداخلية التي قام بها بعض حكام الأقاليم فلقد ثار حاكم إقليم 'كرمان' و غيره ،وعانى أيضاً ألب أرسلان من غارات القبائل التركمانية التي لا تنضوي تحت راية أحد وتعيش على السلب والنهب.
استراتيجية القيادة الناجحة
لقد ورث السلطان ألب أرسلان إمبراطورية عظيمة واسعة الأرجاء تمتد من سهول التركستان إلى ضفاف دجلة، بها الكثير من المدن الكبار والأقاليم الواسعة والشعوب المتباينة، لذلك فلقد كانت مسألة قيادة هذه الإمبراطورية في غاية الصعوبة وتحتاج لاستراتيجية حكيمة وقيادة قديرة، وهذا ما اتبعه الأسد الباسل 'ألب أرسلان' وذلك بإتباع الخطوات الآتية : ـ
أولاً :ـ استخدام الرجال الأكفاء
وكان ذلك حجر الزاوية في نجاح استراتيجية القيادة عند ألب أرسلان، فلقد استخدم ألب أرسلان في منصب الوزارة وهو أهم منصب في الدولة رجلاً قديراً كان سبب سعادة الدولة السلجوقية وهو الوزير العظيم 'نظام الملك' الذي جمع بين العلم والورع والحنكة السياسية والمقدرة القيادية وحب العلماء والصالحين والزهاد، ولقد استمر نظام الملك وزيراً طوال حكم ألب أرسلان وولده 'ملك شاه' من بعده أي استمر من سنة 455 هجرية ـ 485 هجرية، وهذا يؤكد على مدى أهمية البطانة الصالحة والرجال الأكفاء في المناصب الحساسة، فكم من وزيراً وقائد أضاع أمته أما بجهالة أو عمالة أو طمع في الدنيا، وكم عانت الأمة الإسلامية من رجال وسُد إليهم الأمر وهم من غير أهله، فضاعوا وأضاعوا وضلوا وأضلوا .
ثانياً :ـ تأليف الخصوم
عندما ظهرت القبائل السلجوقية اصطدمت بقوة مع الدولة السبكتكينية التي كانت تسيطر وقتها على خراسان وسهولها التركستان والسند، ودارت بين السلاجقة ومحمود بن سبكتكين ثم ولده مسعود معارك كثيرة وطاحنة استمرت قرابة الخمسين سنة في صراع بدا للعيان أنه لن ينتهي أبداً، حتى جاء الأسد الباسل إلى السلطة وقرر حسم هذا الصراع الطويل ليتفرغ إلى مهمته الأصلية: فتح القسطنطينية وفتح مصر، واستطاع ألب أرسلان أن يتألف خصمه اللدود الدولة السبكتكينية بأيسر السبل بأن صاهر سلطانها على ابنته فزوجها لابنه 'إياز'، ثم صاهر سلطان الدولة الخانية [بلاد ما وراء نهر جيحون[ على ابنته أيضا، فزوجها لابنه الآخر 'تكش' وهكذا استطاع ألب أرسلان أن يؤلف خصومه وألد أعدائه وجعلهم أقرباه وأهله وهذا من قمة الذكاء الاستراتيجي للقائد القدير .
كانت أيضا القبائل التركمانية من أشد خصوم السلاجقة رغم الاتفاق العرقي بين الطرفين فالسلاجقة أصلاً من التركمان، ولكن هذه القبائل الموجودة في منطقة الأناضول أو آسيا الصغرى كانت تعيش على السلب والنهب والإغارة على المسلمين والرومان على حد السواء، فقرر ألب أرسلان استغلال هذه الطاقة الهجومية عند هذه القبائل في الإغارة على الدولة البيزنطية وحدها دون المسلمين، وهو ما نجح فيه ألب أرسلان باقتدار، حتى أصبحت هذه القبائل هي أكبر تهديد يواجه الدولة البيزنطية وعنصر قلق دائم لها خاصة في منطقة 'أرمينية' .
ثالثاً:ـ إتباع أسباب البقاء(/2)
إن للبقاء أسباباً وللاستمرار عوامل ومعطيات من تناولها وعمل بها تم له البقاء والصمود حتى حين، وهذا ما أدركه السلطان ألب أرسلان جيداً،فسار في رعيته سيرة حسنة صالحة ضمنت له رضا الناس عنه، فقد كان ألب أرسلان كريماً، رحيماً، شفوقاً على الرعية، رفيقاً على الفقراء باراً بأهله وأصحابه ومماليكه، كثير الدعاء بدوام النعم عليه، كثير الصدقات، لم يعرف في زمانه جناية ولا مصادرة، فلا يأخذ من أموال الرعية إلا ما حل للدولة من خراج وزكاة، له سياسة عظيمة مع ولاته وعماله، فلقد كتب إليه بعض الوشاة في وزيره 'نظام الملك' فاستدعاه ثم قال له {خذ إن كان هذا صحيحاً، فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم}، كما كان ألب أرسلان شديد الحرص على حفظ مال الرعية فلقد بلغه يوماُ أن أحد مماليكه قد أخذ إزاراً لأحد الناس ظلماً، فأمر بصلبه حتى يرتدع باقي المماليك عن الظلم، وهكذا نرى هذا القائد الحكيم قد أدرك بفطرته القيادية أسباب البقاء فسار على طريقها واتبعها خير إتباع .
بين المطرقة والسندان
كما قلنا من قبل كانت الدولة السلجوقية الكبيرة تقع بين عدوين كبيرين كلاهما يتربص بهذه القوة الجديدة، العدو الأول الإمبراطورية البيزنطية عريقة العداء مع المسلمين، والعدو الثاني الدولة العبيدية الخبيثة في مصر، وكان ألب أرسلان في الحقيقة يريد أن يفتح مصر أولاً وذلك لعدة اعتبارات : منها تخليص العالم الإسلامي من حالة الفوضى القيادية في ظل وجود خلافتين كلاهما يدعى الأحقية والشرعية، ومنها القضاء على منبع تصدير الشرور والضلالات والاغتيالات في الأمة الإسلامية .
ومن أجل التفرغ لفتح مصر والشام كان لابد على الأسد الباسل ألب أرسلان أن يؤمن حدوده مع الأقاليم الأرمينية والجورجية التابعة للدولة البيزنطية والمتاخمة لبلاده، وكان كما ذكرنا آنفاً قد استعان بقبائل التركمان ووجه طاقاتهم القتالية لصالح المسلمين، فأغاروا على هذه الحدود وقاموا بدورهم في إضعاف القوى الدفاعية للدولة البيزنطية، ولكن هذه الغارات المقطعة لم تصرف همة الأسد ألب أرسلان لئن يسدد ضربة موجعة للدولة البيزنطية تنشغل بها حيناً من الدهر ريثما يقوم هو بمشروعه الكبير في فتح الشام ومصر وإسقاط الدولة العبيدية الخبيثة .
ضربة الأسد
هذه الضربة قام بها الأسد الباسل 'ألب أرسلان' بعد انتهائه مباشرة من خلافاته الطارئة مع عمه 'قتلمش' حيث توغل بجيوشه إلى قلب الأناضول قاصداً مدينة قيصرية الغنية التي فتحها ألب أرسلان في ربيع الثاني سنة 456 هجرية وغنم منها غنائم عظيمة، ثم توجه بعدها إلى أذربيجان ثم إلى أرمينية وبلاد الكرج 'جورجيا الآن' في جيش ضخم قسمه إلى جزأين، جزء يقوده ولده وولى عهده 'ملكشاة' ووزيره الشهير 'نظام الملك' واتجه ناحية القواعد الجبلية، والجزء الأخر يقوده ألب أرسلان نفسه وتوجه إلى مدينة 'آني' عاصمة أرمينية البيزنطية واجتمع مع الجزء الأول من الجيش على حصار المدينة العريقة لعدة شهور حتى فتحها في أواخر سنة 456 هجرية، وبذلك سيطر السلاجقة على أرمينية التي كانت بمثابة الحصن المنيع لبيزنطة من الشرق، وتلقت الدولة البيزنطية ضربة موجعة من الأسد الباسل جعلتها تعيد ترتيب أوراقها وتفكر في تغيير قياداتها وأسلوب معاركها وهذا ما سيظهر أثره في معركة ملازكرد .
العودة إلى الهدف الأول
بعد نجاح ألب أرسلان في فتح أرمينية البيزنطية والكرج قرر الأسد العودة إلى الهدف الأول وهو فتح الشام ومصر، فتوجه إلى شمال الشام الذي كان به العديد من أمراء المسلمين الموالين للدولة البيزنطية وأيضا موالين للدولة الفاطمية، وهاجم ألب أرسلان القلاع البيزنطية في الرها وأنطاكية وقيسارية، وأخضع بني شداد في حران وبني عقيل في الموصل وكان ولاؤهم للفاطميين، ثم عبر نهر الفرات واتجه إلى مدينة حلب ومنها إلى نفوذه كي يحمى ظهره من الخطر الشيعي حيث كان أميرها محمود بن صالح شيعياً فاطمياً .
الصحوة(/3)
في هذه الفترة الذهبية للدولة الإسلامية والتي كان فيها الأسد الباسل ناشراً رايات الجهاد على عدة جبهات، كانت الدولة البيزنطية تضطرم بروح انتقامية عارمة وتبحث عن القيادة القادرة على رد عادية السلاجقة والقبائل التركمانية التي أنهكت القوى الدفاعية للإمبراطورية العجوز ولقد وجدت الدولة البيزنطية ضالتها في القائد العسكري الشاب 'رومانوس ديوجين' الذي لمع نجمه بعد عدة انتصارات حققها في القتال ضد البوشناق في بلغاريا فانعقدت عليه الآمال وحطت عنده الرحال خاصة بعد ثلاثة انتصارات متتالية على بعض أمراء المسلمين في الفترة ما بين سنة 461 هجرية ـ 463 هجرية، فتربع إمبراطوراً على بيزنطة وتلقب برومانوس الرابع وأخذ في التحضير لعمل عسكري ضخم ضد المسلمين ينهي بها وجودهم في منطقة آسيا الصغرى والجزيرة وشمال الشام، وبالفعل بعد عدة شهور من توليه العرش البيزنطي بدأ العمل في سد المنافذ التي استخدمها السلاجقة في التدفق على أراضى الإمبراطورية، كما سعى إلى احتلال بعض المواقع الإستراتيجية في بلاد الشام والجزيرة الفراتية، وشن ثلاث حملات ضد إمارة حلب في الشام ثم الجزيرة فاستولى خلالها على مدينة 'منبج' ثم قام في الثالثة بالهجوم على أرمينية الإسلامية، فاستولى على كثير من الحصون وشحنها بالمقاتلين واستعد لمعركة حاسمة لم يكن يدرى أنها بالفعل ستكون حاسمة وللأبد ولكن عليه لا له.
معركة ملازكرد
حشد 'رومانوس' كل ما استطاع من القوى اللازمة لتحطيم الأمة الإسلامية، واستعان بالفرق الفرنجية من غرب أوروبا كمرتزقة في جيشه واستعان أيضا بالقبائل الروسية وكانت حديثة عهد بالنصرانية وانضم إليه كثير من الأرمن والجورجيين وتضخم جيشه حتى وصل لأكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل وفي نيته قلع الأمة الإسلامية من أساسها ومحو الإسلام كدين والمسلمين كأمة .
وصلت الأنباء للسلطان ألب أرسلان وهو في مدينة 'خوى' من أعمال أذربيجان فقرر رغم قلة جيشه الزحف باتجاه الجيش العملاق لوقف تقدمه بأرض الإسلام، في حين واصل رومانوس زحفه حتى وصل إلى مدينة ملازكرد [وتنطق أيضا منازجرد ومنازكرد ] وهي بلدة حصينة تقع على فرع نهر 'مرادسو' بقلب الأناضول وهذه المدينة مازالت موجودة حتى الآن بتركيا .
انطلق الأسد الباسل بمنتهي السرعة مستغلاً خفة حركته لقلة جيشه وذلك لنجدة المدينة المحاصرة وجاءت أول بشارات النصر عندما التقت قوات الاستطلاع المسلمة بطلائع الروم وكانوا من القبائل الروسية فانتصر المسلمون ووقع قائد الروم الروسي 'بازيلكوس' في الأسر .
ورغم هذا الانتصار المشجع إلا إن ألب أرسلان الذي كان يقدر مدى الفارق الكبير بين الجيشين أرسل إلى رومانوس يطلب الهدنة ولكن هذا الطلب جعل رومانوس يغتر بكثرته وتفوقه في العدد والعدة ورد على طلب السلطان بالهدنة بأن قال بلا هدنة إلا في الري] والري هي عاصمة الدولة السلجوقية ولم يعلم رومانوس أنه بذلك قد كتب نهايته ونهاية دولته البائسة .
الأسد بطل ملازكرد
لما وصل هذا الرد المستفز للأسد الباسل 'ألب أرسلان' حميت عزيمته واشتعلت الغيرة على الإسلام في قلبه واستوثق الإيمان في نفسه وتأكد من صحة عزم هذا الصليبي على إبادة الأمة الإسلامية وقرر التصدي له وحده وبمن معه من جنود، على الرغم من التفاوت الشاسع بين الجيشين فالروم البيزنطيون وحلفاؤهم أكثر من ثلاثمائة ألف، والمسلمين في خمسة عشر ألف فقط لا غير .
كان ألب أرسلان مؤمناً صادقاً غيوراً يعلم أن الله عز وجل سوف ينصره لأنه على الحق وعدوه على الباطل،وكان من عادة هذا السلطان الصالح أن يصطحب معه في غزواته وحملاته الجهادية العديد من العلماء والفقهاء والزهاد كقيادة روحية ومرجعية دينية، وكان معه في هذه المرة الفقيه الكبير [أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري] الذي قال لألب أرسلان هذه العبارة الرائعة [إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي يكون الخطباء فيها على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر] .(/4)
وبالفعل استجاب الأسد الباسل لهذه النصيحة الغالية التي تشرح بأوجز العبارات أسباب الانتصار المادية والمعنوية،فالمجاهدين يحتاجون تماماً للدعاء مثلما يحتاجون إلى السيف والرمح، وفي يوم الجمعة 7 ذي القعدة 463 هجرية ـ 26 أغسطس 1071 ميلادية قام ألب أرسلان وصلى بالناس وبكى خشوعاً وتأثراً ودعا الله عز وجل طويلاً ومرغ وجهه في التراب تذللاً بين يدي الله واستغاث به، ثم لبس كفنه وتحنط وعقد ذنب فرسه بيديه ثم قال للجنود {من أراد منكم أن يرجع فليرجع فإنه لا سلطان هاهنا إلا الله} ثم امتطى جواده ونادى بأعلى صوته في أرض المعركة {إن هزمت فإنى لا أرجع أبداً فإن ساحة الحرب تغدو قبري} وبهذا المشهد الذي ينفطر له أقسى القلوب وتخشع أمامه أشقى النفوس استطاع 'ألب أرسلان' أن يحول 15 ألف جندي إلى 15 ألف أسد كاسر ضاري .
وعند الزوال اصطدم الجيشان وألب أرسلان على رأس جيشه يصول ويجول كالأسد الهصور ودارت معركة طاحنة في منتهي العنف حاول البيزنطيون حسم المعركة مبكراً مستغلين كثرتهم العددية الضخمة، ولكن ثبات المسلمين أذهلهم وأنساهم كل المعارك التي خاضوها من قبل حتى أصيب الروم بالتعب والإرهاق وذلك عند غروب الشمس، فحاول 'رومانوس' الانسحاب إلى الخلف قليلاً للراحة ومواصلة القتال في اليوم التالي، وعندها انتهز الأسد الباسل الفرصة وشد بكامل جيشه على الرومان حتى أحدث بصفوفهم المنسحبة ثغرة، أنسال منها سلاح الفرسان الإسلامي إلى قلب الجيش البيزنطي وأمطروهم بوابل من السهام المميتة فوقعت مقتلة عظيمة وانكشفت صفوف البيزنطيين وركبوا بعضهم بعضاً وفرت الفرق الفرنجية المرتزقة من أرض المعركة ووقع في الأسر أعداد كبيرة منهم الإمبراطور 'رومانوس' نفسه.
بين الأسد وفريسته
في صباح اليوم التالي للمعركة أخذ القيصر الإمبراطور 'رومانوس' الأسير، وكان أول قيصر يقع في أسر المسلمين، إلى معسكر ألب أرسلان أو عرين الأسد، ووقف الفريسة بين يدي الأسد، ومن الطبيعي جداً بل لا أكون متجاوزاً إذا قلت أنه يجب على الأسد ألا يترك فريسته تفلت منه دون عقاب ولابد أن يبطش بها بما يليق بجرم هذه الفريسة التي سول لها شيطانها أن تنتهك حرمة الأسد، ولكن الأسد الذي جمع بين الشجاعة والبسالة والإيمان واليقين أضاف إلى كل هذه الخصال العظيمة فضيلة العفو والصفح عند المقدرة .
فبعد أن أناب ألب أرسلان رومانوس على جرائمه وضربه بيده ثلاث مقارع ووضع قدمه على هامة 'رومانوس' تحقيراً وإذلالاً له وجعله يقبل الأرض باتجاه بغداد حيث الخليفة العباسي لإظهار عز الإسلام وأهله ، قام بالعفو عن رومانوس نظير دفع فدية كبيرة وفك أسر كل الأسرى المسلمين في سائر بلاد الروم وإلزامه بالقسم بأغلظ الأيمان على عدم العودة مرة أخرى لقتال المسلمين .
الآثار الخطيرة لملازكرد
كانت الضربة الموجعة التي وجهها الأسد ألب أرسلان للإمبراطورية البيزنطية من أشد ما نالته هذه الدولة العريقة وكانت نذير السقوط الوشيك، فلقد فقدت الإمبراطورية لقب حامية الصليب وفتحت هذه المعركة الطريق لتدفق المسلمين في منطقة آسيا الصغرى وأقام السلاجقة دولة بالأناضول عرفت باسم سلطنة سلاجقة الروم، حيث إن ألب أرسلان بعد المعركة قام بعد المعركة بتعيين ابن عمه 'سليمان بن قتلمش' حاكماً على الأراضي المفتوحة بالأناضول [لاحظ أنه قد جعل سليمان بن قتلمش حاكماً رغم أن أباه قتلمش قد خرج عليه من قبل وقاتله، وذلك لتأليف بني عمومته وربما كنوع من راحة الضمير] .
كما كانت هذه المعركة من أهم الأسباب الدافعة لتحريك الحملات الصليبية من غرب أوروبا بعدما ضعفت شرق أوروبا أو الدولة البيزنطية، ووصل الأمر لئن يذهب قيصر القسطنطينية 'ميخائيل السابع' والذي توج على العرش بعد وقوع 'رومانوس' في الأسر إلى 'روما' مستنجداً ببابا روما كبير الكاثوليك راكعاً على ركبتيه، باكياً بين يديه طالباً من شن حرباً صليبية من ناحية الغرب على المسلمين .
مصرع الأسد
إن المرء ليعجب حقاً من خواتيم أبطال الإسلام وعظمائهم الذين خاضوا غمار الكثير من المعارك وطلبوا الموت من كل مظانه وتعرضوا له في جميع مواطنه ووقفوا له في كل سبيل طلباً للشهادة، ثم يأتيهم حمام الموت غدراً بيد عميل أو خائن أو طامع أو حاسد أو مأجور وهذا ما حدث للأسد الباسل وهو في ريعان شبابه '41 سنة' وهو في قمة ظفره وتمكنه وعلو شأنه حتى حاز بحق لقب سلطان العالم وسلطان الدنيا والدين .(/5)
وذلك عندما قام أحد الخارجين عليه واسمه 'يوسف الخوارزمي' بطعنه بالسكين والسلطان يعاتبه على جرائم ارتكبها هذا المجرم الخارجي، لتنتهي هكذا في لحظة حياة هذا الأسد بطعنة غادر مجرم، ليهلل لموته كل أعداء الإسلام شرقاً وغرباً وتلتقط الدولة الفاطمية أنفاسها ويهدأ روعها بعدما أوشكت على السقوط والتهاوي تحت ضربات الأسد ولقد قتل الأسد ألب أرسلان في 10 ربيع الأول سنة 465 هجرية، وبمصرعه ظهرت الأطماع والشرور ورفع أعداء الإسلام رؤوسهم، وكما قال الحكيم [إنما ضغت الثعالب عندما غاب الأسد] .
المراجع والمصادر :ـ
الكامل في التاريخ /البداية والنهاية / المنتظم في التاريخ / النجوم الزاهرة
تاريخ دول أل سلجوق / العبر في خبر من غبر / سير أعلام النبلاء
وفيات الأعيان / شذرات الذهب / أيام الإسلام / التاريخ الإسلامي
أطلس تاريخ الإسلام .(/6)
ألدعاء أعظم أنواع العبادة
...
فقة العبادات
الحمد لله رب العالمين، أمر بالدعاء ووعد بالإجابة، فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، توعد المجرمين بالعقاب، ووعد المتقين بالإثابة. وبعد:
فإن الدعاء أعظم أنواع العبادة، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي قال: « الدعاء هو العبادة » ثم قرأ: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60] [رواه أبو داود والترمذي. قال حديث حسن صحيح،
وصححه الحاكم]. وقد أمر الله بدعائه في آيات كثيرة، ووعد بالإجابة، أثنى على أنبيائه ورسله فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء:90]. وأخبر سبحانه أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فقال سبحانه لنبيه :
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
وأمر سبحانه بدعائه والتضرع إليه، لا سيما عند الشدائد والكربات. وأخبر أنه لا يجيب المضطر ولا يكشف الضر إلا هو. فقال: { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ
إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } [النمل:62].
وذم اللذين يعرضون عن دعائه عند نزول المصائب، وحدوث البأساء والضراء فقال: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا
بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } [الأعراف:94]. وقال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ
بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأنعام:43،42]. وهذا من رحمته وكرمه سبحانه فهو مع غناه عن خلقه يأمرهم بدعائه، لأنهم هم المحتاجون إليه قال
تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر:15]. وقال تعالى: { وَاللّهُ الغَنِيُ
وَأنتُمُ الفُقَرَآءُ } [محمد:38].
وفي الحديث القدسي: { يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من
كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون باليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم } [رواه مسلم].
فادعوا الله عباد الله، وأعلموا أن لاستجابة الدعاء شروطاً لابد من توافرها. فقد وعد الله سبحانه أن يستجيب لمن دعاه. والله لا يخلف وعده، ولكن تكون موانع القبول من القبول من قبل العبد.
فمن موانع إجابة الدعاء: أن يكون العبد مضيعاً لفرائض الله، مرتكباً لمحارمة ومعاصيه
فهذا قد ابتعد عن الله وقطع الصلة بينه وبين ربه، فهو حري إذا وقع في شدة ودعاه أن لا يستجيب له.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « تعرّف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة » يعني أن العبد إذا اتقى الله، وحفظ حدوده، وراعى حقوقه في حال
رخائه فقد تعرّف بذلك إلى الله وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة. فيعرفه ربه في الشدة، بمعنى أنه يفرجها له في الشدة، ويراعي له تعرّفه إليه في الرخاء فينجيه
من الشدائد. وفي الحديث: « وما تقرب إليّ عبدي يشيء أحب إليّ مما افترضته عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي
يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه » [رواه البخاري].
فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانه في حال شدته. كما قال تعالى عن نبيه يونس عليه الصلاة والسلام لما التقمه الحوت: {
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات:144،143] أي لصار له بطن الحوت قبراً إلى يوم
القيامة.
قال بعض السلف: ( إذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: { فَلَوْلَا
أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات:144،143]، وإن فرعون كان طاغياً لذكر الله: { إِذَا
أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ } [يونس:90] فقال الله تعالى: { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [يونس:91] ).
ومن أعظم موانع الدعاء: أكل الحرام
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : « الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام. فأنى(/1)
يُستجاب لذلك » [رواه مسلم]. فقد أشار النبي إلى أن التمتع بالحرام أكلاً وشرباً ولبساً وتغذية أعظم مانع من قبول الدعاء وفي الحديث: « أطب مطعمك تكن
مستجاب الدعوة » .
وقد ذكر عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه قال: ( أصاب بني إسرائيل بلاء فخرجوا مخرجاً، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى
الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إلى أكفاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام. الآن حين اشتد غضبي عليكم لن تزدادوا مني إلا بعداً ).
فتنبهوا لأنفسكم أيها الناس، وانظروا في مكاسبكم ومأكلكم ومشربكم وما تغذون به أجسامكم، ليستجيب الله دعاءكم وتضرعكم.
ومن موانع قبول الدعاء: عدم الإخلاص فيه لله
لأن الله تعالى يقول: { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [غافر:14] وقال تعالى: { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [الجن:18]. فالذين
يدعون معه غيره من الأصنام وأصحاب القبور والأضرحة والأولياء والصالحين كما يفعل عباد القبور اليوم من الإستغاثة بالأموات، هؤلاء لا يستجيب الله دعاءهم إذا
دعوه لأنهم لم يخلصوا له. وكذلك الذين يتوسلون في دعائهم بالموتى فيقولون: ( نسألك بِفلان أو بجاهه ) هؤلاء لا يستجاب لهم دعاء عند الله لأن دعاءهم مبتدع
غير مشروع، فالله لم يشرع لنا أن ندعو بواسطة أحد ولا بجاهه، وإنما أمرنا أن ندعوه مباشرة من غير واسطة أحد. قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة:186]، وقال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر:60]، وإن
استجيب لهؤلاء فهو من الاستدراج والابتلاء. فاحذروا من الأدعية الشركية والأدعية المبتدعة التي تروج اليوم.
ومن موانع قبول الدعاء، أن يدعوا الإنسان وقلبة غافل
فقد روى الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل
لاه » .
ومن موانع قبول الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم
عذاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم » [رواه الترمذي].
وقال الإمام إبن القيم: ( الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب. ولكن قد يتخلف عنه أثره إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما
فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جداً. فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً. وإما
لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليها ). وقال: ( الدعاء من أنفع الأدوية. وهو عدو
البلاء يدافعه ويعالجه. ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل وهو سلاح المؤمن. كما روى الحاكم في مستدركه من حديث على بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : « الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض » وروى الحاكم أيضاً من حديث إبن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: « الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء » ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : « إن الله يحب الملحين في الدعاء »
).
فالدعاء هو أعظم أنواع العبادة، لأنه يدل على التواضع لله، والإفتقار إلى الله، ولين القلب والرغبة فيما عنده، والخوف منه تعالى، والإعتراف بالعجز والحاجة
إلى الله. وترك الدعاء يدلك على الكبر وقسوة القلب والإعراض عن الله وهو سبب لدخول النار. قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60] كما أن دعاء الله سبب لدخول الجنة. قال تعالى: {
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ . قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ . فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا
عَذَابَ السَّمُومِ . إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } [الطور:25-28] يخبر سبحانه عن أهل الجنه أنهم يسألون بعضهم
بعضاً عن أحوال الدنيا وأعمالهم فيها، وعن السبب الذي أوصلهم إلى ما هم فيه من الكرامه والسرور أنهم كانوا في دار الدنيا خائفين من ربهم ومن عذابه، فتركوا
الذنوب، وعملوا الصالحات وأن الله سبحانه منّ عليهم بالهداية والتوفيق. ووقاهم عذاب الحريق. فضلاً منه وإحساناً، لأنهم كانوا في الدنيا يدعونه أن يقيهم
عذاب السموم، ويوصلهم إلى دار النعيم.
فادعوا الله أيها المسلمون، وأكثروا من دعائه مخلصين له الدين.(/2)
قال تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا
وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف:56-55].(/3)
ألعاب الأطفال.. فوائد تربوية ونفسية
ربى محمد الدرع 3/6/1427
29/06/2006
يُعرّف اللعب بأنه نشاط يعبر عن حاجة الفرد إلى الاستمتاع والسرور وإشباع الميل الفطري عنده، وهو ضرورة بيولوجية في بناء ونمو الشخصية المتكاملة للفرد، وهو سلوك طوعي، ذاتي، اختياري، داخلي الدافع غالباً أو تعليمي تكليفي يوافق النفس، وهو وسيلة لكشف الكبار عن عالم الطفل للتعرف على ذاته وعلى عالمه.
ويخفق الكثير من الآباء والمربين في تفهّم ماهية وطبيعة اللعب، فتعدّ "أم محمد" -وهي والدة لثلاثة أطفال- أن "لعب الأطفال مجرد رفاهية أو ترف، أو طريقة لقضاء الوقت بعيداً عن أنشطة أخرى أكثر أهمية"، وتضيف: "إن الأطفال لا يتعلمون شيئاً مفيداً أثناء اللعب، أو أنهم لا يتطوّرون أو يهيئون أنفسهم للمدرسة والحياة".
ويختلف العديد من خبراء التربية مع "أم محمد"؛ إذ يعدّون اللعب الوسيلة الأولى للتعلم في السنوات الخمس الأولى عند البشر، ويرى "عبد الله طه" المختص في بيع ألعاب الأطفال أن اللعب والألعاب يساهمان في تطوير المهارات الحسية والحركية عند الطفل، وذلك من خلال: تنمية المهارات الحركية والنمو الجسمي، واستثارة القدرات العقلية وتنميتها، وتنمية مدركات الطفل وتفكيره وحل مشكلاته، وجعل الطفل اجتماعياً؛ لأنه يشارك إخوته وأصدقاءه بما يملك من ألعاب. كما أنهما يسيطران على القلق والمخاوف والصراعات النفسية البسيطة التي قد يعاني منها الطفل، ويعملان على اكتشاف مقومات شخصية الطفل ومواهبه الخاصة التي تنعكس على حياته في المستقبل. وكذلك يعمل اللعب والألعاب على إثراء لغة الطفل وتحسين أدائه اللغوي وإغناء قاموسه اللفظي، واستهلاك طاقته الزائدة، وإعطائه الفرصة للحركة أو الجري، مما يعمل على فتح شهيته، ويشجعه على النوم السريع بعد مجهود اللعب، وبذلك ينمو نمواً طبيعياً وسلساً.
سلامة وأمان الألعاب
يحرص الوالدان "منى إبراهيم" و"أحمد عبد الله" على اختيار ألعاب لأبنائهما تكون آمنة، ويمكن تركها مع الطفل يلعب بها قدر ما يشاء دون الخوف من أن يبتلع شيئاً منها أو يلحق به أذى ما نتيجة استخدامها. ويتفق "حسن المصري" الذي يعمل في محل لبيع الألعاب، مع هذين الوالدين، ويقدم لهما بعض النصائح الإرشادية، كما يشرح المواصفات التي يجب أن تتمتع بها الألعاب مثل: أن تصمم وتصنع اللعبة بشكل لا يعرض مستخدمها لأية أخطار جسدية تؤذي الجلد أو الجهاز التنفسي أو العيون، وألاّ تكون الألعاب ذوات أحجام مما يمكن ابتلاعه أو دخوله إلى الأذن أو الأنف، وخاصة اللعب المصنعة للأطفال دون سن الثالثة. كما يجب ألاّ تحتوي الألعاب على أي مادة قابلة للانفجار. ومن الضروري وجود معلومات إرشادية أو دليل استخدام مع اللعبة يوضح طريقة الاستخدام وكافة الأخطار المتوقعة من جراء استخدامها إن وُجدت، مع ذكر الأعمار الملائمة للاستخدام شاملاً ذلك الحاجة إلى إشراف أشخاص بالغين متى كان ذلك ضرورياً. وألاّ يتعارض تصميم اللعبة أو شكلها مع الدين أو العادات أو التقاليد. ولا يجوز أن تحتوي اللعب على أي مواد أو عناصر مشعة قد تضر بصحة الطفل أو الآخرين.
قبل شراء اللعبة
يجب ألاّ يكون اختيار نوعية وطبيعة الألعاب أمراً اعتباطياً أو عشوائياً.. بل لا بد أن يتم ذلك على أسس علمية وصحية ونفسية تُجنّب تعرض الطفل لأية مخاطر، كما يجب أن تتناسب اللعبة مع سن الطفل ومستوى تفكيره.
تقول "أم وفاء" وهي أم لطفلة عمرها أربع سنوات، أنها تحرص على شراء أي لعبة تنال إعجاب ابنتها مهما كانت، "وإذا لم تعرف اللعب بها الآن فستكبر وتتعلم". وتخالف "سناء العلي" المختصة بمركز للتعليم المبكر "أم وفاء" بقولها: "هناك دراسة علمية توصلت إلى نتيجة تؤكد أن الألعاب التي تقوم بتحفيز عقول الأطفال من شأنها أن تعزّز وظائف التفكير لديهم طوال العمر. فقد توصل العلماء إلى أن المهارات التي يتعلمها الإنسان في مرحلة مبكرة من حياته ربما أدت إلى تغييرات دائمة في بنية العقل لديه". وأشارت "العلي" إلى أن اختيار لعب الأطفال يجب أن تُراعى فيه شروط كثيرة ترتبط بعمر الطفل، وباللعبة ذاتها، ويجب على الوالدين انتقاء ألعاب أطفالهم بعناية فائقة وتحت إشراف مختص.
وتقدم "نيفين صلاح" -الخبيرة في تربية الأطفال- نصائح يمكن أن يتم اختيار الألعاب حسب السن على أساسها وهي:
- من الولادة حتى الشهر السادس: يُنصح باختيار الألعاب المعلقة فوق سرير الطفل بألوانها وأشكالها المتنوعة؛ لأنها توفر للطفل فرصة ممتازة لتنمية الإدراك الحسي عنده والتنسيق بين الحواس.
- بين الشهر السادس والسنة الأولى: ننصح بتوفير المكعبات الصغيرة الخفيفة، دُمى حيوانات محشوة، أوانٍ مطبخية، ألعاب بلاستيكية خلال الاستحمام، كرة خفيفة، ألعاب بلاستيكية تحدث صوتاً عند إمساكها.(/1)
- في السنة الأولى والثانية: تناسب الطفل في هذه المرحلة المكعبات والعلب الفارغة، الدمى الكبيرة، العربات الصغيرة، هاتف للعب، ألعاب تركيبية خشبية أو بلاستيكية.
- من السنة الثالثة حتى الخامسة: ننصح بالألعاب التركيبيّة، التي يمكن فكها ثم تركيبها مرة أخرى، أدوات الرسم والتلوين، درّاجة أو عربة صغيرة بعجلات.
- من سن السادسة: يناسب الطفل القصص ذات الصور الجميلة والملونة، الألعاب الرياضية، ألعاب تركيبية متعددة، سيارات يمكن التحكم بها عن بعد.
ويضيف د. خالد المحمود، أستاذ جامعي متخصص في التربية، شروطاً عامة وفنية، ينبغي أن يأخذها الأهل والمربون بعين الاعتبار عند شراء الألعاب وهي: أن تكون اللعبة ملائمة لخصائص ومحددات نمو الطفل عند مختلف المراحل، وأن تتفق مع ميوله وتساعده على تحقيق حاجاته النفسية، كما يجب أن توفر المتعة له قدر الإمكان؛ لأن المتعة ستقوده للتعلم، وأن تزيد اللعبة من انتمائه لوطنه وهويته وتراثه، وألاّ تعلمه قيماً خاطئة أو عادات مخالفة للدين.
أما الشروط الفنية فيجب أن تكون اللعبة سهلة الحمل للطفل، وغير ثقيلة، وألاّ يكون بها جوانب حادة أو زوايا مدببة حتى لا تجرح الطفل، وأن تكون ثابتة الألوان حتى لا تؤذي الطفل إذا وضعها على فمه، وألاّ تكون ذات شرائط طويلة أو حبال حتى لا تلتف على رقبة الطفل فتؤذيه. كما يجب ألاّ تكون صغيرة جداً حتى لا يبتلعها الطفل، وألاّ تكون قابلة للكسر أو الاشتعال، وألاّ تكون مصنعة من مواد يمكن للطفل أن ينزع جزءاً منها بأسنانه(/2)
ألعاب الفيديو الخطر والبديل
د. خالد بن سعود الحليبي 13/12/1425
24/01/2005
المأزق /
مأزقنا مع أطفالنا يكمن في أنهم يعيشون في زمن تبعثرت فيه الحدود بين الثقافات، فلم يعد هناك مجال لخصوصية الثقافة في أي مكان في العالم ، ولذلك نعيش معهم جهاداً مستمراً لدرء الأخطار عنهم ، ولتقديم ما هو مفيد ونافع وممتع لهم دون أن يمسهم أذى تلك الثقافات التي لوثت حتى الهواء الذي يتنفسونه.
مجرد تسلية /
وإن كثيراً من الأمور التي نحيط أطفالنا بها هي في نظرنا مجرد تسليات ليس لها بعد آخر في منظورنا، الذي تعود تبسيط الحياة من حولنا حين يكون فيه ما يذهلنا عن واقعنا، ويبعدنا عن التأمل فيه، بينما نحن نألم كثيراً للأمور التي تنتج عن إهمالنا ذلك، كالآثار الصحية التي نراها على أجساد أولادنا، أو الضعف الدراسي الشديد الذي تفشى في صفوف البنين على وجه الخصوص .
البلاي ستيشن !!
ومن أبرز الظواهر في ألعاب الأطفال الحديثة ألعاب الفيديو المختلفة ، والتي اشتهر منها ما يسمى ( بلاي ستيشن ) ، حتى قدم في دعاية تقول : ( كيف ستكون حياتك بدون بلاي ستيشن ؟) ، وافتتن به أطفالنا بل وشبابنا؛ فأكل صحتهم وأوقاتهم ، وأوغل في التأثير على أعصابهم ، ولعلمي بأن هذه القضية ليست مسلمة عند كثير من الناس ، وإن كانت مسلمة بالنسبة لي على الأقل ، فقد احتجت هنا إلى التدليل .
تؤكد إحدى الدراسات على أن الأطفال المشغوفين بهذه اللعبة يصابون بتشجنات عصبية تدل على توغل سمة العنف والتوتر الشديد في أوصالهم ودمائهم ؟ حتى ربما يصل الأمر إلى أمراض الصرع الدماغي ، إذ ماذا تتوقع من طفل (( قابع في إحدى زوايا الغرفة وعيناه مشدودتان نحو شاشة صغيرة ، تمضي ببريق متنوع من الألوان البراقة المتحركة ، ويداه تمسكان بإحكام على جهاز صغير ترتجف أصابعهما من كل رجفة من رجفاته ، وتتحرك بعصبية على أزرار بألوان وأحجام مختلفة كلما سكن ، وآذان صاغية لأصوات وصرخات وطرقات إلكترونية تخفت حينا وتعلو أحياناً أخرى لتستولي على من أمامها ، فلا يرى ولا يسمع ولا يعي مما حوله إلا هي ))(1).
لقد اتصل بي أحد الآباء ، وذكر لي بأن له ابناً في الثالثة عشرة من عمره، وأنه مصاب بتشنج في يديه ، وإذا أصيب بالتشنج ازدادت رغبته في العدوانية مباشرة ، وربما ضرب حتى أمه إذا كانت بجانبه ، وبعد عدد من الأسئلة تبين أنه كان يلعب البلاي ستيشن خمس ساعات في اليوم تقريباً.
يقول الدكتور سال سيفر : إن (( ألعاب الفيديو [ مثل البلاي ستيشن ] يمكن أن تؤثر على الطفل فيصبح عنيفاً، فالكثير من ألعاب ( القاتل الأول ) " فيرست بيرسون شوتر " تزيد رصيد اللاعب من النقاط كلما تزايد عدد قتلاه ، فهنا يتعلم الطفل ثانية أن القتل شيء مقبول وممتع ))(2).
إن الطفل هنا يشارك في العنف بالقتل والضرب والتخريب والسحق والخطف ونحو ذلك ، وربما كان ذلك بمسدس في يده ، فتكون بمثابة تدريب شخصي فردي له .
مشاهد عارية /
ومن المشاهد كذلك أن هناك ألعاباً ذات صور عارية سواء في ( الكمبيتور ) أو في ألعاب البلاي ستيشن ، وتقوم هذه الألعاب بفكرتها الخبيثة بتحطيم كثير من الأخلاقيات التي يتعلمها الطفل في المجتمع المسلم ، وتجعله مذبذباً بين ما يتلقاه من والديه ومعلميه ، وبين ما يدس له من خلال الأحداث الجارية ، والصور العارية ، والألفاظ والموسيقى بوسائل تشويقية كثيرة؛ فالذكاء يصور على أنه الخبث ، والطيبة على أنها السذاجة وقلة الحيلة ، مما ينعكس بصورة أو بأخرى في عقلية الطفل وتجعله يستخدم ذكاءه في أمور ضارة به وبمن حوله .
وقد ذكرت لي إحدى الأمهات عبر رسالة لها: إنها اكتشفت طفلها وهو يلعب بلعبة؛ ملخصها أن الطفل الفائز هو الذي يستطيع أن يعري المرأة التي أمامه أكثر من الآخر، وآخر قطعة يسقطها الطفل عن جسدها تكون هي مكمن فوزه .. !
ألعابهم غير ألعابنا /
وللعلم فإن علماء الغرب (( استحدثوا ألعاباً إلكترونية واستبقوها لأنفسهم تسمى (المحكيات) ولاسيما في مجال الحروب ، قاموا بتطويرها حتى أصبحت أهم وسائل التدريب الحربي لديهم طلاباً وجنوداً ، بما تقوم به تلك النوعية من دور هام في مجالات الإدارة والتخطيط والتدريب ونظم التحكم والسيطرة باعتمادها على أحدث المستجدات في مجال ما يسمى بالحقيقة الافتراضية ، حيث يولد جهاز الكمبيوتر عالماً ثلاثي الأبعاد ، يتعامل معه المستخدم فينمي قدراته العلمية ، فيجيد بذلك فن التصرف بحكمة في المواقف الصعبة، ويتيح له تنمية قدراته العقلية أيضاً ؛ ليقوم باتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب )) (3).
آثار أسرية /(/1)
وربما أسهمت هذه الألعاب في بعث الشقاق الأسري بين الإخوة والأخوات ، نشرت جريدة الوطن باسم مراسلها في أبها الأستاذ سلطان عوض حادثة مفادها أن أبا كان يراقب لعب ابنه الكبير وعمره عشرون عاماً ، مع ابنه الصغير الذي يبلغ الثامنة من العمر لعبة كرة القدم في جهاز "البلاي ستيشن" وكان الأخ الأكبر متمكناً مع اللعبة أكثر من الصغير فأراد والدهما أن يدخل الفرحة إلى قلب ابنه الصغير وأشار للأخ الأكبر بالسماح لأخيه بالفوز عليه ، وعندما استطاع الأخ الأصغر تسجيل هدف في مرمى شقيقه غضب الأخ الأكبر وقام بإحراز هدف التعادل ومن ثم هدف الفوز لتنتهي المباراة مما جعل الأخ الأصغر ينفجر باكياً فغضب الأب من ابنه الأكبر بشدة وقام الأب بكسر جهاز اللعبة وضرب ابنه وطرده من المنزل ، وظل الابن في منزل عمه حتى سمح والده له بالعودة بشرط أن لا يدخل جهاز البلاي ستيشن إلى البيت مرة أخرى وإلا سوف يحدث ما لا تحمد عقباه. وهكذا تضيف هذه الأجهزة سبباً جديداً إلى قائمة أسباب التفكك الاجتماعي الأسري . ولك أن توسع هذه الحادثة بين الزوجين والوالد وولده والأشقاء إلى آخر ذلك .
ومن أجل الإسهام في وضع حلول لهذه المشكلة أضع هذه المقترحات بين يدي القارئ:
1. نوجه أولادنا ونرغبهم في شراء الألعاب المربية للذوق ، والمنمية للذاكرة .
2. شجع طفلك على مزاولة الألعاب الجماعية ، وتفضيلها على النشاطات الفردية ، فإذا هو اندمج فيها تقل احتمالات العودة إلى مشاهدة التلفاز(4). وأشير هنا إلى بعض الجهود الطيبة للكابتن صالح العريض وفرقته المتميزة ، من خلال برنامجه المتميز ( أفكار ومواهب ) ، الذي يشتمل على ألعاب رياضية وأساليب ترفيهية وقصص مسلية تمتاز بالجدة والتنوع ، وتستهدف غرس حب الخير والفضيلة في نفوس الأطفال ، وإعطاءهم ثقة في نفوسهم من خلال مشاركتهم في التعليق والحوار ، كل ذلك في أسلوب فني راق جداً ، وجذاب جداً . وهو يقدم برنامجه وهدفه واضح أمام عينيه ـ كما أخبرني بنفسه ـ وهو : ( تعليم الأطفال من خلال الترفيه ) (5).
3. توجيه الطفل إلى الألعاب ذات الطبيعية التركيبية والتفكيرية ، وأشير إلى كتيب الألعاب الحركية الذي أعده الأستاذ زيد الغيث ، وراجعه الكابتن صالح العريض ، وإلى ألعاب الذكاء، والبناء ، والمسابقات الثقافية في برامج الحاسب ، والألعاب التعليمية التي تصدرها شركة الفناتير .
4. توجيه الطفل إلى هواية مفيدة ودعمه بالمال والأدوات والمكان والتشجيع المستمر (6).
5. تحدد ساعات معينة للعب في الألعاب المختارة بعناية بحيث لا تزيد عن ساعة أو ساعتين على الأكثر متقطعتين غير متواصلتين ، حتى لا تضيع أوقات الأطفال هدراً، وأنبه على أن خبراء الصحة النفسية والعقلية أجمعوا على ضرورة قضاء75% من وقت فراغ الطفل في أنشطة حركية ، وقضاء 25% في أنشطة غير حركية ، بينما واقع أطفالنا أن جلوسهم أمام التلفاز يصل إلى حوالي 80% من أوقات يقظتهم ، وبخاصة في الإجازات(7). ولكن ينبغي أن نتنبه بأننا حينما نحدد معه وقت المشاهدة نبين له أنه من أجل صحته لابد أن يقوم بنشاط حركي .
6. توجيه الطفل للمشاركة في حلقة لتحفيظ القرآن الكريم ، أو مركز اجتماعي ، أو زيارة قريب أو صديق أو مريض ، أو القراءة المفيدة ، أو خدمة الأهل في البيت والسوق ، أو أي منشط مفيد له ؛ حتى لا تضيع فترة تربيته في إتقان اللعب واللهو، ويفقد مهارات حياتية كثيرة سوف يحتاجها في المستقبل .
7. بناء الحصانة الذاتية في نفوس أولادنا ؛ بحيث تنتج عنها طبيعة رافضة لكل ما هو ضار أو محرم ؛ دون تدخل منا ، وهو ما ستحاول مقالة أخرى قادمة إن شاء الله التفصيل فيه.
بهجة أطفالنا .. أين ؟!
وأخيراً .. لابد أن نوقن ـ نحن الآباء ـ بأن البهجة التي يبحث عنها أطفالنا لا توجد في الألعاب الإليكترونية، وإنما الفرحة الحقيقية ، والضحكات النقية الصافية إنما تنطلق من أعماق هؤلاء الأبرياء بدون أية مؤثرات إليكترونية خادعة ، ولا ضحكات هستيرية مصطنعة ، لتعبر بصدق عن مشاعرهم المرهفة بدون تكلف، وتتحدث عن مدى استمتاعهم بالحياة دون خوف أو وجل ، ودون استفزاز للمشاعر ، أو غرس لأفكار عدوانية ، ولا تخريب لأخلاقيات الفطرة السليمة بالعنف والبطولات الكاذبة..! إنني أتحدث عن صغارنا الذين يحتاجون منا إلى الحنان الحقيقي ، وإلى مشاعر الأبوة، وأحاسيس المحبة النابعة من القلوب الكبيرة المحيطة بهم ، أتحدث عن المناغاة والملاعبة البريئة والقصص الحلوة التي كانت تسبق النوم ، والتي يجب أن نعود إليها ونمارسها معهم نحن الآباء، و الأشقاء و الأمهات ، أو أي قريب أو بعيد يعيش مع هؤلاء الصغار ، أو يرونه صباحاً أو مساء ، أتحدث عن هذه الصورة التي من الصعب الحصول عليها في جيل آباء اليوم.(/2)
لا بد أن نمنح أطفالنا من أوقاتنا ؛ لنتحاور معهم ، ونقص عليهم قصص تاريخنا الجليل ، ونخرج معهم للفسحة ، ونخطط لأوقاتهم ، ولعل فيما مضى مقترحات لا أقصد بها تحديد ما يمكن أن نفعله مع أولادنا ، ولكن لنطلق العنان لتفكيرنا لننطلق أكثر في التفكير الدائم لإيجاد أفكار متجددة تنمي قدرات أولادنا لإعدادهم للمستقبل ، بدلاً من إفناء حياتهم فيما يعود بالضرر البالغ عليهم .
فلنتق الله أيها الإخوة في أولادنا ومن استرعانا الله عليهم ، ولنسع للخروج من هذا المأزق الذي نعيشه ، بدءاً بمعرفة خطورة الموقف ، ثم البحث عن حلول ، ومن ثم العمل على تطبيقها في واقع الحياة .
لا ننس أبدا أن صلاح الآباء يدرك الأبناء بإذن الله ( وكان أبوهما صالحاً ) ، وأن الله قد علمنا الدعاء لأولادنا فلنلهج لله تعالى بمثل هذه الأدعية :
( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً ).(1) الألعاب الالكترونية وواقع أطفالنا لإسماعيل حسين أبو زعنزنة ـ باحث ومستشار ثقافي ، الشقائق العدد : 61 ، رجب 1423هـ ( سبتمبر 2002 م ) : ص : 29 .
(2) كيف تكون قدوة حسنة لأولادك : 253 .
(3) الألعاب الالكترونية وواقع أطفالنا لإسماعيل حسين أبو زعنزنة ـ باحث ومستشار ثقافي ، الشقائق العدد : 61 ، رجب 1423هـ ( سبتمبر 2002 م ) : ص : 29 .
(4)كيف تتعاملين مع طفلك ؟ لجمال الكاشف : 69 .
(5) مقابلة على هامش برنامج فرحة العيد الذي نظمه المعهد العلمي في قاعة هيئة الري والصرف في الأحساء في غرة شوال عام 1422هـ.
(6)كيف تتعاملين مع طفلك ؟ لجمال الكاشف : 69 .
(7) كيف تتعاملين مع طفلك ؟ لجمال الكاشف : 69 .(/3)
________________________________________
ألف باء في مواجهة الأعداء
رئيسي :فكر :الثلاثاء 19 ذو الحجة 1424هـ - 10 فبراير 2004م
يحيط بالأمة مخاطر عظيمة، وبلايا في ميادين شتى، ومن جهات مختلفة، وقد تكون الأحداث وهي قريبة موضع اهتمام وتفاعل، ثم عندما تنقضى؛ نرى أن كثيراً من الناس ربما انصرف عن مثل هذه القضايا فكرهم، ولم يعد لنفوسهم تأثر أو تعلق، وربما مضوا إلى حياتهم كأن لم يكن شيئاً،ومن هنا نجد أنه من الواجب ألا يكون مثل هذا هو الغالب على أحوالنا .. ردود أفعال مؤقتة، وانفعالات نفسية عارضة، وحيرة وتردد، وهدوء ورجوع بعد كل حدث، وبعد كل قضية.
وهذه بعض الخطوات العملية التي لابد أن نأخذ بها، وقبل الشروع في ذكرها أود أن أبيّن مدى وحدود هذه الخطوات التي نتحدث عنها وفائدتها، فأقول:
أولا: ما أتحدث به يخصنا نحن، فهو يتعلق بي، وبك، وبهذا وذاك، بعيداً عن الدوائر التي لا نملك الآن أن يكون لنا التغيير الفاعل فيها، وبدلاً من أن نقعد بدون عمل إما بإحباط ويأس، وإما بعدم مبالاة واكتراث، وإما لعدم استشعار للمسؤولية ومعرفة للدور، فمن هنا لابد أن يكون هناك مصارحة ومناصحة تخصنا مباشرة، وتتوجه إلينا بعيدًا عما قد نتعلل بأننا لا نستطيعه، أو لا نحسنه .
الأمر الثاني: التنبيه على أن الانتفاع بالأحداث، والاستفادة من المصائب والمشكلات، لا ينبغي أن يكون مؤقتاً غير دائم، فلا ينبغي أن يكون ظاهرياً غير راجع إلى الأصول والثوابت.
والأمر الثالث: هو أن كثيراً من الناس ربما ينظر إلى الأمور الكبيرة، ويرى أنه لا قبل له بها، ولا يوجه إلى أمور يستطيع أن يأخذ بها، وأن يعملها، فلعلنا بهذا الحديث أن نسد مثل هذه الثغرة .
الأمر الرابع: 'ألف باء' وألف باء هي حروف الهجاء، والمقصود: أننا نريد أن نبتدئ بالأصول والأركان الأساسية حتى لا يقال: لم نتحدث في هذا ونحن نعرفه؟ فأقول إن كنا نعرفه، فهل نحن قائمون به؟ وهل نحن مداومون عليه؟ وهل نحن متواصون فيما بيننا بالحفاظ عليه؟ كثيرة هي الثغرات، وأوجه القصور التي نقوم بها ونقع فيها، ليس تجاه أمور من التطوعات، بل كثيراً ما تكون في الفرائض والأركان والواجبات.
ونشرع في ذكر بعض هذه الجوانب، وما ينبغي الأخذ به فيها.
الجانب الأول: الجانب الفكري:ونعني بذلك: جانب التصور والاعتقاد، والمعرفة للحقائق والمبادئ، وصورة ما يحيط بنا في هذه الحياة، كيف نزن الأمور؟ كيف نقوم الأشخاص؟ كيف نتخذ المواقف؟ كيف تتضح لنا الرؤية؟ كيف نعرف أن نأخذ بما هو واجب في مواجهة ما يحل بنا من الخطوب والأحدث، فنقول: لابد لنا من أمور كثيرة منها:
أ- وضوح الرؤية وقوة العصمة:ونعني بذلك أن نكون على بصيرة من ديننا، وقوة في اعتقادنا، ورسوخ في يقيننا، ليس عندنا شك من أمرنا، ليس عندنا حيرة في ثوابتنا، يقول سبحانه:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[104]وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[105]وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ[106]}[سورة يونس] . ثم يأتي النداء من بعد:{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ[108]وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ[109]}[سورة يونس] .
وهذه الآيات العظيمة فيها بيان هذه الحقيقة المهمة:إن شكك الناس في ثوابتنا وعقائدنا وتصوراتنا، إن كان عند بعضهم حيرة، إن كان غير المسلمين يعارضونها ويخالفونها، إن كانت الأمم والمجتمعات لا تعرفها، ولا تدري ماهيتها، ولا تعتقد بصحتها؛ كل ذلك لا يعنينا: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[104]} [سورة يونس].
وتثبيت وزيادة توضيح:{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }.
ثم زيادة في هذا التثبيت والتوضيح:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ}.
أي في كل الأحوال، والاضطرابات، والمخالفات، والمعارضات، ما تزال على نهجك القويم، وتصورك الصحيح، واعتقادك السليم، ويقينك الجازم دون أدنى شيء من هذا التردد .(/1)
ومن هنا يأتي هذا الوضوح ليكوّن هو الفيصل الفارق بين المؤمن المعتقد اعتقاد الحق وبين غيره:{ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ...[42]}[سورة الأنفال].
وتكون الرؤية واضحة لنا بأن: العاقبة للمتقين، وأن الدائرة على الكافرين ولو بعد حين، لا يتبدل بما تتغير به الأحوال والظروف المحيطة، بل نوقن بهذا يقيناً جازماً: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ[57]}[سورة الأنعام].
فلئن أصيبت الأمة في مرحلة من الزمان بنكبات وهزائم، فلا يعني ذلك أن هذا نهاية المطاف، بل نوقن من خلال هذه الرؤية الواضحة، والقوة الإيمانية الجازمة، أنها إنما هي مراحل وابتلاءات، وأن وراءها بعد ذلك ما يحقق الله به وعده، وينجز لعباده نصره، إذا هم أخذوا بالمهم من إتباع الأوامر واجتناب النواهي، وتغيير الأحوال على وفق مراد الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ليست هناك جولة واحدة، ولا ميدان واحد إذا هزمنا فيه فقد انتهى الأمر، كما رأينا من أحوال بعض الناس، وما في نفوسهم من إحباط ويأس، أو انشغال عن مهمات الأمور، وعن الانشغال بأحوال المسلمين .
ومن هنا نعبّر دائماً بهذا المعنى، ونقول مع القائل في تعبيره عن استمرارية هذه المواجهات، وأنها ليست في مرحلة، ولا في ميدان واحد:
قطفوا الزهرة قالت من ورائي برعم سوف يثور
قطفوا البرعم قالت غيره ينبني في رحم الجذور
قلعوا الجذر من التربة قالت إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور
كامن ثأري بأعماق الثرى وغدا سوف يرى كل الورى
كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور
فلابد من اليقين بمواصلة المواجهة بين الحق والباطل، وأنه لابد أن تكون النفوس مهيأة لذلك، وعالمة به من خلال وضوح رؤيتها وفق نهجها واعتقادها، فتظل الجذور إذا بقيت العقائد والمبادئ والتصورات، ومن هنا لابد لنا من إحياء هذه المعاني والتواصي بها .
ثانيا: معرفة الخلل وطريق العمل: أساس فكري لابد من توضيحه، كثيرة هي الأسئلة التي دارت بخواطر الناس ما الذي يجري بنا؟ ولماذا حلّ بنا ما حلّ؟ وما هي الأسباب ونحن أمة الإسلام؟ ولم حلّ ذلك ونحن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟
لابد أن نوقن بمعرفة هذه الأمور في ضوء كواشف آيات القرآن، وتوضيحات سنة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم:{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[41]} [سورة الروم] .
هذا تعليل قرآني لابد من التسليم به، ومعرفة أن ما جرى وما يجري إنما هو من أثر فساد الناس، وكثرة الذنوب، ولما وقع ما وقع في يوم أحد، وكان ثقيلاً على النفوس، وفي الناس النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم الصفوة المختارة من أصحابه، فقالوا مقالتهم كما جاء في قوله عز وجل:{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ...[165]}[سورة آل عمران].
لو أننا أخذنا هذا المبدأ بكل صراحة؛ لكان لنا من إصلاح أحوالنا أثر كبير، وتغيير ظاهر، ولذلك يكفينا على سبيل المثال أن نذكر بعض أقوال علمائنا في بيان الآثار المتولدة عن بعض الذنوب والمعاصي من بعض الأفراد، فكيف إذا تعاظم ذلك وكثر، وعمّ وفشا في الأمة إلا من رحم الله .
فكيف بنا لا نلتفت إلى ما نحن فيه من غفلة عظيمة، ومن معاصٍ كثيرة، والله يقول:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...[11]}[سورة الرعد] .
الجانب الثاني: الجانب العملي:وكما أشرت في مقدمة الحديث، نحن نتحدث في 'ألف باء' في الأصول والأسس ؛ لأنها اعتراها الضعف، وجرى فيها النقص، وكثرت وعظمت فيها الغفلة، فحن في حاجة إلى مراجعتها، ونقول في الجانب العملي، والمقصود به: توجيهات وتذكير بأعمال لابد من الأخذ بها:
وأولها: كثرة الطاعات: فاستنزال النصر يكون بحسن الصلة بالله والتقرب إليه، وإعلان البراء من معاصيه، وهذا أمر مهم ومن هنا نبدأ بهذه الأصول ونذكر المهم والأساسي مما نحتاج إليه فنقول بنداء نوجهه إلى أنفسنا جميعا:
حافظوا على أداء الصلوات وعلى وجه الخصوص فرائض الصلوات:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ[238]}[سورة البقرة] . والنبي صلى الله عليه وسلم قال: [مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ]رواه مسلم.(/2)
ونعرف هذا ولكن: هل كل الناس يؤدي هذا ؟ ألسنا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من آخر ما ينقض من عرى هذا الدين الصلاة؟ ألسنا نعرف أن من شبابنا وشيبنا من يترك الصلاة فلا يؤديها مطلقاً؟ أو يؤخرها ويجمعها، أو لا يلتفت إليها ويجعلها آخر موضع في اهتماماته؟ وأولئك فينا ومن بيننا، ثم لا ننظر إلى أثر ذلك، ولا نلتفت إلى أن به وبحصوله يقع كثير مما يجري به قدر الله من البلاء والفتنة!!
ونقول من بعد: احرص على شهود الجماعات، فالمساجد تشكو إلى الله قلة المصلين في كثير من الأوقات والأحوال، بل وفي كثير من البلاد!
وفي حديث ابن مسعود الذي نلفت أنظار الجميع إليه عند مسلم وفيه أنه قال رضي الله عنه: ' مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ ... وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا - يعني صحابة النبي صلى الله عليه وسلم - وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا- أي الجماعة - إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ' . فلو طبقنا هذه القاعدة التي كانت سارية المفعول عند الصحابة، فكم منا في مجتمعاتنا سيصدق عليه وصف النفاق؟ كم هم المتخلفون عن الصلوات في الجماعات ؟ وهذه أمور موجودة لا نحتاج إلى إفاضة القول فيها.
ونقول أيضًا في كثرة الطاعات: زد من الصيام والتقرب إلى الله؛ فإنه ضرب من العبادة، ولون من التربية والتزكية، وسبيل من أسباب القوة والعزيمة، فضلاً عن قوة الطاعة والاستجابة ومغالبة النفس وأهوائها، ونحن نعلم فضائل الصيام وآثاره، وما ينبني عليه من أثر في أجر الدنيا وفي ثواب الآخرة، والأمر في هذا - كما قلنا - واضح جليّ.
ونقول من بعدُ: أكثر من الإنفاق في سبيل الله؛ فإن ذلك من نصر الدين، ومن تقوية المسلمين، ومن مواجهة المعتدين، وإذا كنا عاجزين أن تسخو نفوسنا بالإنفاق في سبيل الله، ونصرة دين الله، فكيف نزعم أنه يمكن أن نجود بأنفسنا، ونحن نعلم أن الجهاد الأعظم بالنفس لابد أن تكون النفوس مهيأة له بكثير من الأسباب والأحوال، فمن لم يستطع مجاهدة نفسه بالقيام بالطاعات وأداء الفرائض، ومن لم يغالب نفسه في شهوتها في هذا المال وتعلقها به، كيف يكون قوياً بذلك؟!
ونحن نعرف الآيات الكثيرة التي تقرن جهاد النفس بالمال، بل وتقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: [جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ]رواه أبوداود والنسائي والدارمي وأحمد. والله سبحانه يقول:{ هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ...[38]}[سورة محمد]. وفي حديث لأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: [شَرُّ مَا فِي رَجُلٍ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ]رواه أبوداود وأحمد.
وهي سمات نعرف أننا مقصرون ومفرطون فيها . وإن مواجهتنا مع الأعداء ليست عارضة ولا عابرة، وإنما قدر ما ننفقه في مقابل ما ينفقونه للأسف الشديد مقارنته محزنة ومؤسفة:
إذا جئنا إلى التنصير الذي يسمونه التبشير ؛ فإننا نعلم من الإحصاءات الموثقة أن هناك نحواً من أربعة آلاف وستمائة قناة وإذاعة للقيام بنشر هذه النصرانية، وتبث بلغات أكثر من أن تحصر وأن تحصى،ويطبع من الإنجيل رغم ما فيه من التحريف الذي نوقن به ونعتقده لا أقول الملايين ولا عشرات الملايين بل مئات وآلاف الملايين وقد طبع بأكثر من ستمائة لهجة ولغة وأما ما ينفق في كل عام فكثير، ونحن نوقن بقول الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ...[36]}[سورة الأنفال] .
لكن.. كيف نواجه أعداءنا ونحن لا ننفق مثلهم، ونبخل أكثر مما قد ينفقون؟! وهذا صورة من صور ضعفنا، وصورة من أسباب هزيمتنا، ومن أسباب بلائنا ؛ لأننا لا نصنع كما صنع الصحب الأوائل - رضوان الله عليهم - وكما مر في تاريخنا.(/3)
ثانيها : الاستدامة في الدعوات: فالدعاء يتكرر في المحاريب عند وقوع الكارثة، وعند حلول المصيبة، ثم الآن كأنما الألسن قد عجمت عن الدعاء، فهل نحن ندعو الآن بما ينبغي أن ندعو به من نصر الإسلام والمسلمين، ومن تثبيت إخواننا المسلمين، وهل انتهت قضية المسلمين في العراق ؟ وهل انتهت من قبل قضيتهم في أفغانستان؟ وهل انتهت من قبل أكثر من نصف قرن في فلسطين وفي كشمير؟ وهل توقفت المواجهات في الشيشان ؟ وهل .. وهل ؟
إن جاءت المواجهة تحركنا بقدرها واستيقظنا بحسبها، ثم عدنا إلى نومنا وغفلتنا وإعراضنا عن تعليق قلوبنا بربنا، ورفع أكفنا إليه، ولاشك أننا نوقن أن السلاح الفتاك عند أهل الإيمان والاعتقاد الجازم هو الدعاء الخالص لله سبحانه ، ولا ينبغي أن نغفل عن قوة هذا السلاح وأثره. وكانت في قصص المواجهات والقتال أحوال وسير عظيمة منها: دعاء البراء بن عازب الذي قال له الصحابة في يوم اليمامة بعد أن اشتد وطال الحصار الذي ضربوه على مسيلمة وأصحابه، قالوا: أنت من قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ]-رواه الترمذي- فادع الله لنا، فدعا وقال:' اللهم امنحنا أكتافهم وانصرنا عليهم الغداة ' . فما انتهى اليوم إلا بنصر عظيم للإسلام وأهله، والأمر في هذا كذلك معلوم وتعرفون أحواله وكثير من قصصه .
الجانب الثالث : الجانب العملي-أيضًا-: أصلحوا أنفسكم، وربوا أبناءكم، وادعوا مجتمعاتكم، وفي كل واحدة من الثلاث ثلاث نقاط نذكرها بإيجاز حتى نوجه الأمر إلى أنفسنا ونبدأ بالأخذ بهذه الخطوات العملية ؛ فإنها مقدمة لما بعدها، ومن كان فيها عاجزاً فهو عن سواها أعجز ميدان النفس لابد أن يكون فيه هذه العناية بالإصلاح، وهو أمر مهم وأساس متين وبداية أساسية:
أ - إصلاح النفس من الجهل إلى العلم: أمة الإسلام اليوم كثير من أبنائها لا يعرف دينه، بل كثير من أبناء الإسلام اليوم يعرف عن سقطة الناس وسفلتهم أكثر مما يعرف من أحداث سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا ينبغي أن نستغرب مما يحصل إذا رأينا كيف أصبحت النفوس ضعيفة من كثرة جهلها بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون العلاج؟ لابد من علاج الجهل بالعلم النافع الذي يخرجها عن وصف الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها عن وصف الظلم، وليس المقصود بالجهل مجرد عدم العلم بل هو عدم الالتزام والعمل بهذا العلم، ولذا ننادي أنفسنا أن نزيد الصلة بكتاب الله مداومة على تلاوته، وإحساناً لترتيله، وتأملاً وتدبراً في معانيه، واجتهاداً في الأخذ بأحكامه والتحلي بآدابه، وحرصاً على نشره وتعليمه والدعوة إليه، وذلك فيه من الأثر والخير ما فيه .
ب - الانتقال من الغفلة إلى الذكر: فالنفوس غلب عليها الران والقلوب اشتدت فيها القسوة، والله سبحانه قد ذكر وصفاً ينبغي أن يحذر منه قلب كل مسلم، ويجعله ينتبه ويرتاع حتى لا يكون من أهل هذا الوصف:{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[179]}[سورة الأعراف].
فهل يرضى أحدنا أن يكون كالأنعام؟ لأنه لم يعتبر، ولم يتذكر، ومازال غافلاً؛ لأنه مازال في الغي سادراً؛ لأنه مازال بالشهوات منشغلاً . هذه صورة – للأسف- تعمنا إلا من رحم الله، وإذا تذكرنا تذكرنا بقدر الحادث الذي مرّ، وبقدر النكبة التي حلّت، ثم عدنا من بعد ذلك إلى غفلتنا نستمر في نومنا وغينا، دون أن نجعل من هذه الأحداث محطات تغيير، وأسباب تحوّل حقيقي دائم نحو ما ينبغي أن تكون عليه أحوالنا، وهذه مسألة مهمة لابد أن نعتبر بها. فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، اعتبروا بالأحداث الجارية.(/4)
ج - التحول من الكسل إلى العمل: كثيرون منا أخلدوا إلى الراحة، وأصبحوا يستثقلون ما هو من الفرائض والواجبات، فضلاً عن العمل على الإصلاح والتغيير، بينما نجد جداً وحثاً في حياتنا الدنيوية، وكسبنا المادي، وغير ذلك مما نرى الناس يبذلون فيه عامة وقتهم، وجهدهم، وفكرهم، دون أن يكون لإسلامهم وإيمانهم وأحوال أمتهم مثل هذا الاعتناء والاعتبار، والأخذ بالأسباب المهمة، والله عز وجل دعانا للعمل بجد وبعزم، وجعل العمل هو المناط:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...[105]}[سورة التوبة]. وعندما دعينا دعينا بصيغ عظيمة كما قال عز وجل:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم...[133]}[سورة آل عمران]. {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم...[21]}[سورة الحديد].{... فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ...[148]}[سورة البقرة].{ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[26]}[سورة المطففين]. { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ[61]}[سورة الصافات].
هذه كلها صيغ تدلنا على أن الكسل والخمول لا موقع ولا مكان له في صفة المسلم الحق، فكيف إذا كان المسلم في زمن ضعفت فيه الأمة، وذهبت هيبتها، وضاعت قيمته،ا وتسلط عليها أعداؤها.
إن الكسل حينئذ يكون جريمة عظمى، ويكون صورة من صور موات القلوب والنفوس .
ونقول في الجانب الثاني: ربوا أبناءكم: فالخلل الواقع في شبابنا وشاباتنا، إنما هو بتفريط الآباء والأمهات، فلم يقوموا بأداء الواجب تجاههم، والله يقول:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ...[6]}[سورة التحريم]. ونعرف ذلك من حديث: [كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ...]رواه البخاري ومسلم .هل قمت بواجبك؟ هل أدبت أبناءك وربيتهم؟
نقول في هذا في إيجاز شديد في وصايا ثلاثة :
الأولى: اقتربوا منهم وكونوا قدوة لهم: فأعظم فساد الأبناء من فساد الآباء والأمهات، كيف تريده أن يصلي الفجر وأنت لا تصليها إلا وقد أشرقت الشمس؟ كيف تريده أن يكون من جيل القرآن وأنت لا تكاد تتلوا ولا تمس المصحف إلا من عام إلى عام؟ كيف تريد الأم أن تكون ابنتها محجبة عفيفة وهي لا تكون كذلك؟ كم في أحوالنا ما هو سبب في فساد أبنائنا؟ أفليس ذلك جدير بنا أن نصدق مع الله، وأن نتحمل الأمانة والمسؤولية التي جعلها الله في أعناقنا؟!
ثانياً: علموهم ورغبوهم في العمل الصالح: لابد من التعليم، فإن لم تكن فارغاً، فهيأ له من يعلمه القرآن، ويسرد عليه السيرة، اجعل لأبنائك من الاهتمام بتعلم الدين أعظم من الاهتمام الذي نراه من أحوال الناس في تعليم الإنجليزية والفيزياء والرياضيات .. يأتون لهم بالمدرسة والمدرس، وينفقون المال تلو المال، ثم ما وراء ذلك ليس مهما، وليس موضع اعتبار، وليس موضع مسئولية وهذه قضية خطيرة .
ثالثاً: تابعوهم وقوموهم في المسير:لابد من مثل هذا أيضًا حتى يكون هنالك التعاون والتكامل.
الجانب الرابع : جانب إصلاح المجتمعات: ليس في إسلامنا:'أنا والطوفان من بعدي' هذا فهم خاطئ، قد حذر منه الصحابة الكرام منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ...[105]}[سورة المائدة] . وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ] رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة وأحمد.
أراد أن يقول: لا تفهموا الآية فهماً خاطئاً فتظنوا أنكم بقيامكم بأمر أنفسكم - بمعنى أدائكم لفرائضكم - قد انتهيتم فلا تأمروا أحداً، ولا تنهوا أحدا، فينبغي أن ندرك خطورة ترك إصلاح المجتمع، فالمنكرات فاشية وظاهرة، وكأن الألسن قد خرست، والعيون قد عميت، والأيدي قد شلت، وهذه قضية خطيرة ما بال القلوب لا تتأثر؟ والوجوه لا تتمعر؟ والألسن لا تحذر وتنذر؟ ما بالنا وقد أصبح في أحوالنا ما قد يكون بلغ مرتبة خطيرة بتحول المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟ أو ربما نجد صاحب المعروف يستتر بمعروفه ولا يكاد يرفع به رأسه، وصاحب المنكر معلن به ومجاهر، والناس يستحيون أن يبينوا خطأه وظلمه وفساده، وهذه قضية خطيرة والله سبحانه قد بيّن مغبتها وحذر منها، ولابد أن ننتبه إلى العقوبات الناجمة عن ذلك كما قال جل وعلا:{ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً...[25]}[سورة الأنفال].(/5)
ومنها: منع إجابة الدعاء، ومنها: كثير من محق البركة، ومنها: كثير مما تقع به البلايا والرزايا، ومن هنا نقول: لابد من التركيز على الجوانب المهمة التي نحتاج إليها في إصلاح مجتمعاتنا:
أولاً: تغيير الفرقة إلى ألفة: وهذا ميدان جهاد عظيم، قال السعدي رحمه الله:' فإن من أعظم الجهاد السعي في تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم، ومصالحهم الدينية والدنيوية في جميع أفرادهم وشعوبهم...الخ' .
والثاني من المجالات: تحويل الفساد إلى إصلاح:كل فساد ومنكر لابد أن نقول به، وأن نذكر، والقضية ليست في الأمور المشتبهة، بل نحن نتحدث عن أمور واضحة أحكامها قاطعة يعلمها أكثر المسلمين من الدين بالضرورة، نحن نريد أن نأمر بالحلال البيّن، وننهى عن الحرام البيّن، أفليس الربا حراماً بيناً، هل يحتاج أحد فيه إلى فتوى لهيئة من كبار العلماء أو لمجمع فقهي؟ ألسنا نعرف الوعيد الشديد والذي لم يرد مثيل له؟ { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...[279]}[سورة البقرة].وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا وأنه سبعين باباً وأدناه مثل أن يزني الرجل بأمه -والعياذ بالله-.
أليس ما نراه من التبرج والسفور والاختلاط مما هو معلوم أيضاً، وأحكامه جلية واضحة دون أن يكون هناك هذا التوجه للتغيير والتذكير كما قال الله عز وجل{ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ...[116]}[سورة هود].
قلّة إن بقيت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، يحفظ الله بها كثيرًا من الخير، ويديم بها كثيرًا من المعروف، وينقل بها الصلاح والخير جيلاً بعد جيل بإذنه سبحانه.
وأخيرًا: تحويل الإعراض عن الله إلى إقبال على طاعة الله: والقيام بفرائضه، والأداء لواجباته، والسعي إلى الاستكثار من هذه الخيرات، ولابد من تذكير ؛ فإن الحث يعين، وإن التذكير يحصل به من الاعتبار، والتعلق بالأجور والثواب المذكور في النصوص ما يعين على مثل هذا .
الجانب الخامس : مواجهة الأعداء مباشرة: ولسنا نعني بذلك القتال والجهاد ؛ فإنه ماضٍ إلى يوم القيامة، وحكمه معروف، وليس ذلك إعراضاً عن أهميته، أو عن أثره العظيم، ولكننا نعلم أننا مقصرون فيما هو قبله، فنذكر بذلك ونذكّر به، ونقول هاهنا جملة من الأمور والتوصيات المهمة التي لابد لنا منها:
أولا: العزة والدعوة، عزة وهداية لا ذلة وغواية: نعني بذلك أن نحافظ في مواجهة أعدائنا على عزة نفوسنا، وإن هزمنا في ميدان مادي، أو في بلد بعينه، أو في زمن بعينه، أو نحو ذلك ؛ فإن أولئك الأعداء وكثير من الشعوب التي وراء هذه القيادات الظالمة المجرمة يحتاجون منا :
أولًا: أن نتمثل الإسلام ونعتزّ به، والذي لا يعتزّ بدينه لا يعز، والذي لا يحترم مبدأه لا يحترم، ونحن نرى بعض المسلمين وقد أصبحت ذلة نفوسهم، كأنما هم أقزام أمام أعدائهم، وكأنما هم منبهرون بهم، بل ربما بعضهم قد يعظمهم تعظيماً يوحي لك أنه يرى أن الصواب والهدى عندهم، وهذه قضية خطيرة لابد من الالتفات لها، ولعلنا نقف وقفات من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرة الصحابة لنعرف أهمية هذا الجانب:
في أعقاب أحد، وبعد انجلاء غبار المعركة بقليل، جاء أبو سفيان منتشياً مفتخراً، وهو يسأل: هل فيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ هل فيكم أبو بكر ؟ هل فيكم عمر؟ فسكتوا عنه حتى أجاب عمر لكنه من بعد أراد أن يبين أن انتصاره العسكري هو انتصار عقدي أخلاقي حضاري، فقال: أُعْلُ هُبَلْ أُعْلُ هُبَلْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَلَا تُجِيبُوا لَهُ] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ قَالَ: [قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ] قَالَ إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَلَا تُجِيبُوا لَهُ] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ قَالَ: [ قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ] رواه البخاري .
كان المسلمون في كسرة وشبه هزيمة في تلك الجولة، لكنه لا يمكن أن ينال ذلك من عزتهم ومن شموخهم بدينهم، حتى يستطيعوا أن يقفوا ويثبتوا، وأن يبينوا ويوضحوا ما يغيّر أفكار الآخرين، ويبدل آراءهم، ويلفت أنظارهم؛ لأن الناس تلتفت: كيف هذا ضعيف وقد هزم، ثم ما يزال مستعلياً ومفتخراً؟
إن هذا يلفت الأنظار، ويجعل الآخرين يفكرون في أن هناك سراً، وأن هؤلاء الناس عندهم مبدأ قوي أصيل، ونحن نعرف أن هؤلاء يحتاجون إلى دعوة، وبعض المسلمين يقيمون في بلاد الكفر، وفي بلاد الأعداء أمريكا وغيرها، وتجد بعضهم وخاصة مع الأحداث ربما أصبح يتوارى بدينه، ويريد ألا يظهر إسلامه، وليس هذا من باب المداراة المطلوبة التي لها صور شرعية، بل بعضهم قد بلغ به الأمر مبلغاً أخطر من ذلك.(/6)
نذكر فيه بما وقع للصحابة رضوان الله عليهم عندما هاجروا إلى الحبشة، وكانوا غرباء بعداء، وجاء عمرو بن العاص ومن معه يريدون أن يؤلبوا النجاشي عليهم، فجاء بهم النجاشي يسمع منهم، فأي شيء قالوا؟
هل قالوا: نحن قلة قليلة، دعونا نعطيهم من القول ما يريدون، كونوا دبلوماسيين، وأعطوا صورة تنم عن الحضارة، واعترفوا كما يقولون: بالرأي الآخر، أم ماذا قال جعفر رضي الله عنه وأصحابه؟!
لقد قالها كلمات فيها العزة، وفيها الدعوة والهداية، أَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمَّا جَاءُوهُ وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ لِيَسْأَلَهُمْ فَقَالَ مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ قَالَتْ فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيئُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ قَالَ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا فَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ وَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ قَالَتْ فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالَتْ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ كهيعص قَالَتْ فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ انْطَلِقَا فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَدًا وَلَا أَكَادُ .(/7)
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا أَعِيبُهُمْ عِنْدَهُ ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ قَالَتْ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا قَالَ وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَام عَبْدٌ قَالَتْ ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ قَالَتْ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ فِيهِ مَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ قَالَتْ فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا ثُمَّ قَالَ مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ فَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ فَقَالَ وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ... رواه أحمد .
انظروا إلى هذا الموقف كيف كانت فيه العزة؟ وكيف كان فيه نشر أنوار الهداية والدعوة؟ ولو أن المسلمين اعتزوا بإسلامهم لكان أعظم مواجهة لأعدائهم .
الثاني: معرفة وحذر.. لا جهل وخدر: لا يزال بعض الناس اليوم يصدقون مقالات الأعداء، ويروجونها بيننا بألسنة تنطق بلغتنا، ونحن نعرف أن كثيراً من المسلمين أيضا ليس عندهم من الوعي والإدراك ما يبين حقيقة وخطورة الأعداء، وبعضهم يظن أن العداء إنما هو في هذه الصورة فحسب، أو أنه في هذا الميدان وحده، أو أنه في تلك البلاد وحدها، ولا يعرف الحقائق القرآنية، والكواشف النبوية التي تبين هذه الصورة الحقيقية للأعداء:{ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ[2]}[سورة الممتحنة]. { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ[10]}[سورة التوبة].
والآيات في هذا كثيرة أخبر الله بها، وبيّنها في مواقف كثيرة، مما جاء سرده ووصفه في كتاب الله سبحانه، وبيّن الحق عز وجل كل الصور التي تختلف: من قول اللسان، وإضمار القلب، وخاصة كشف أهل النفاق الذين يرددون مقالات الأعداء، ويجوسون في صفوف الأمة بما يريدونه منها، وما يسعون إلى النيل منها بواسطة هؤلاء، والله عز وجل قد بيّن كيف يكون لأولئك من أثر سلبي، فبيّن الحق في شأن ووصف المنافقين ما هو ظاهر في قوله: { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[118]}[سورة آل عمران].
وما بينه في قوله:{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ...[4]}[سورة المنافقون].
وبيّن في آخر هذه الآيات خطرهم، فقال:{...هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ[4]}[سورة المنافقون]
والحذر واجب، والانتباه إلى هذه الحقيقة مهم ولابد لنا منه ؛ حتى ندرك هذه المخاطر، وقال القرطبي رحمه الله:' في هذا الحذر وجهان: أحدهما: احذر أن تثق بقولهم، أو تميل إلى كلامهم، والثاني: فاحذرهم مما يقومون لأعدائك، وتخذيلهم لأصحابك' وهذه قضية مهمة .(/8)
وأخيراً: إعداد ومواجهة لا إخلال ومداهنة: الله عز وجل يقول:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ...[60]}[سورة الأنفال].والإعداد شامل لكل أنواع الإعداد: من إعداد النفوس والأجسام، وإعداد العدة والعتاد، وإعداد الأمة توحيداً لصفوفها، وجمعاً لكلمتها، وإصلاحاً لأحوالها، والله قد بيّن لنا ما ينبغي أن نكون عليه ؛ حتى لا نكون مداهنين لأعدائنا، خوفاً منهم، أو رغبة فيما عندهم، والناظر اليوم يرى أحوالاً عجيبة، سواءً كان ذلك على مستوى الأفراد أو المجتمعات والدول ؛ فإن بعضاً منها تعلن أنها لا تعد، وأنها لا تواجه، بل إنها تسعى إلى مداهنة ومجاملة، وإلى شيء مما تظن أنها ترضي بها أولئك الأعداء، ولم تفقه بعدُ- رغم كل ما جرى ويجري- أنه لا يُرْضِي أولئك إلا انسلاخ تام من الدين، وانقطاع كامل عن الأمة، وانبتات تام عن تاريخها. إنهم يريدون أن يهيمنوا ويسيطروا بكل ما تعنيه هذه الكلمة في كل ما تشمله الهيمنة: في اقتصاد، أو سياسة، أو غير ذلك.
ونحن نقول لابد للأمة أن تأخذ بأسباب هذا الإعداد، وربما يقول الناس إنها كلمة مطلقة، ونحن نقول: نعم إنها واسعة المدى ما الذي فعلته فيما تملكه بيدك؟ لم تكون أنت مستقبلاً للأضرار والمفاسد والمخاطر التي يقدمونها لنا؟ لماذا ينتجون الأفلام المفسدة الفاسدة ونحن نشتريها بأموالنا؟ ونشاهدها ونعرضها على أبنائنا وفي قنواتنا؟ أليس بإمكاننا أن نقطع هذا ونمنعه؟ لماذا يصنعون ونشتري دون أن نجتهد في أن نصنع وأن نكتفي بذواتنا ؟
إن هذه القضايا الأولية مبدئية من جهة، وهي بداية لمثل هذا الإعداد، إن كان أحدنا لا يريد أن يتخلى عن نوع بعينة من شراب أو طعام دون أن يستشعر أن هذا يعود ماله لأولئك اليهود، أو لأولئك الصهاينة، أو لأولئك الصليبين، أو غير ذلك، ثم يقول من بعد ذلك إنه يريد أن يكون مواجهاً لأعداء الله، ونحن نقول لابد للأمة أن تأخذ بكل الأسباب في الاكتفاء الاقتصادي، والاستقلال السياسي .
ومما يعين على هذا: التكامل فيما بين الأمة عموماً، وحتى نحن نستطيع أن نحقق تكاملاً جزئياً فيما بيننا.
ولا شك أن من هذه الصور في الإعداد: ترك الترف والسرف واللهو والعبث ؛ لأن هذا ليس من الإعداد، إن الأمة اليوم ينبغي أن تكون أمة جدّ واجتهاد، وأمة حزم وعزم، وأمة قوة وشدة لا مجال للرخاء والارتخاء .. لا مجال لكثرة الملهيات والمغريات، مازلنا إلى اليوم وقد عادت، كل وسائل الإعلام إلى ما كانت عليه وربما أشد، مازلنا نرى الرقص والغناء والطرب، والكرة المستديرة هي الشاغل الأكبر والمقصود الأعظم، كأنما ليس للأمة من اهتمام، أو شيء تنشغل به إلا مثل هذه الأمور.
كيف يمكن أن تكون أمة في مواجهة عدو أو في مرحلة مواجهة، ثم إذا بها تعطي هذه المساحات الواسعة، والعناية والاهتمام الذي نراه في أي ميدان من الميادين، وكأنما قد اختصر المجد والتقدم في رنة نغم، وركلة قدم، وجرّة قلم، دون أن تكون هناك صور البناء والجد الحقيقية .
لماذا تغيرت بعض هذه الأحوال قليلاً ثم عادت كأن شيئا لم يكن؟ إن الأمة إن لم تستيقظ رغم كل هذه الكوارث والنكبات التي مازالت قائمة، بل هي متوالية، بل ربما هي اليوم مشتدة أكثر فأكثر، والناظر في الأحوال يعلم ذلك، وما يجري في فلسطين وما يجري في غير فلسطين من أثر حرب العراق وما تلاها واضح بيّن، كيف تفرض الأمور وكيف تُغيّر؟ وكيف تدار بما تدور رحاه على الإسلام والمسلمين، وعلى الثابتين على دينهم القائمين على مواجهة أعدائهم؟
ومع كل هذا نحن مازلنا نقول : إننا في مراحل وكأنما هي قد انتهت مخاطرها، أو خفت حدتها، أو أصبحت نوعا من الأمور المعتادة التي لا نحتاج فيها إلى تذكر وانتباه .
لعلنا نقول بمجمل مثل هذه القضايا التي قلناها، نجد أنفسنا ملزمين بها، ونجدها أمانة في أعناقنا وواجباً على كواهلنا ؛ فإن نحن قصّرنا فيه كنّا من أسباب ضعف الأمة، وكنّا من أسباب حلول البلاء، وكنّا من أسباب ارتفاع الرحمة، وكنّا من أسباب ابتعاد النصر ؛ فإن كل ذلك مربوط بسنة الله - عز وجل -، وسنته لا تحابي أحداً، ولذلك ينبغي أن نجتهد في كل هذه المعاني التي ذكرناها، ومن وراء ذلك يخاطب كل الناس، وكل أفراد الأمة من العلماء والأمراء وأصحاب الأمر والنهي بواجباتهم ويذكرون بها ؛ فإن لم يقوموا بذلك فليس ذلك عذراً لك ؛ فإن الحجة قائمة عليك، وإن المسئولية بين يدي الله فردية، وإن الله سائلك عن كل ما استرعاك من رعية، وكل ما أعطاك من إمكانية، وكل ما فسح لك من العمر، وكل ما أعطاك من الطاقات والإمكانات ما فعلت بها؟(/9)
هذه هي البداية .. هذا هو ألف وباء، حتى نصل إلى الياء؛ وكثير منها بعضه مترتب على بعض، ومن وراء ذلك وقبله وبعده ومعه لن يغيّر أحد شرعاً من شرع الله، ولا حكماً من أحكام الله، ولن يبطل أحد كائناً من كان شريعة الجهاد الماضية- بحديث النبي عليه الصلاة والسلام- إلى يوم القيامة، فسيروا على الطريق من أوله إلى آخره، وخذوا بالأسباب من جميع جوانبها، واحرصوا على التعرض الصحيح لنصر الله، حتى يأذن الله بصلاح قلوبنا، وتغيّر أحوالنا، ووحدة صفوفنا، وقدرتنا على مواجهة أعدائنا وهزيمتهم بإذن الله عاجلًا غير آجل، وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
من محاضرة:'ألف باء في مواجهة الأعداء' للدكتور/ علي بن عمر بادحدح(/10)
أليس في بلاد العجائب اعرف عدوك: من؟ لماذا؟ كيف؟
'أليس في بلاد العجائب' قصة شغلت أذهاننا أطفالاً واستمتعنا بقراءتها ورؤيتها على شاشات التلفاز رسومًا متحركة وفيلمًا حقيقيًا, ومن أكثر المشاهد الرمزية تعبيرًا وإشارة ذلك المشهد في أول القصة حيث تقف أليس في بداية الرحلة على مفترق طرق لأكثر من طريق, فتحتار ولا تعرف أي طريق تسلك, ثم تسأل القط تشيشاير: من فضلك هل لي أن أعرف أي طريق علي أن أسلكه من هنا؟ فيقول لها: أين تريدين؟ فتجيبه بقولها: لا أعرف فيرد عليها حينها قائلاً: إذًا اسلكي أي الطرق شئت!!!
لا يحتاج الوصول إلى أي مكان جهدًا يذكر, لا تفعل أي شيء وستصل بعد دقيقة أو اثنين, أما إذا كنت تريد الوصول إلى مكان معين فعليك أن تعرف أين أنت الآن؟ وأين تريد؟ والطريقة التي ستوصلك؟ إذا لم نكن نعرف إلى أي ميناء ننطلق فكل الرياح غير مواتية, ولكي نعيش حياتنا في أجمل صورها وأبهى معانيها علينا أن نبدأ بالفهم لما حولنا ولأنفسنا ونعمل على تغييره إلى الأفضل, إنه أنت من يحدد لا غيرك.
إن التعامل في أمور الحياة على غير هدف واضح ينشأ عنه تضييع للوقت والجهد والفكر, قد كان الأولى بنا إذا حددنا هدفنا أن ننجز في الوصول إليه, ومن هذه الأمور ما يصيب الإنسان من مرض يجهل كنهه وطبيعته وكيفية التخلص منه ثم هو بعد ذلك لا يبحث عن وسيلة لفهم حقيقة ما يعانيه ولا عن مخرج لما هو فيه, ومثل هذا التصرف لا يليق بمن رضي بالله تعالى له ربًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وبالإسلام له دينًا, وإن من اللازم هنا أن يعرف العبد ما يواجهه وكيف يواجهه حتى يحسن التخلص مما ينغص عليه عيشه.
ولكي يتم ذلك فلا بد أن نتنبه إلى أن تعريف المصطلحات ضرورة حياتيه, فاستخدامنا لكثير من الكلمات كمصطلحات مع عدم وضوح المقصود منها ينتج عنه لبس وغموض يدفع الناس إلى إصدار الأحكام الخاطئة سواء على أنفسهم أو على الآخرين, ولا بد لنا ونحن نتحاور في مسألة الوسواس القهري وغيره من أنواع الوسواس من تحديد الدلالات الخاصة بالألفاظ حتى نتفق في توصيف الأوضاع القائمة لدينا.
إن أول ما يعنينا التأكيد عليه دائمًا ونحن نجمع الثقافة الطبية النفسية هو تصنيف الوساوس إلى ثلاثة أنواع وهي:
1ـ الوساوس التي تدعو النفس إلى نظر محرم أو فعل محرم وهذا نوع يصيب كل أنواع البشر وهو طبيعي ليس مرضيًّا وعلى العبد مقاومته ودفعه.
2ـ الوساوس العابرة التي يتعرض لها العبد في صلاته ووضوئه وطهارته ومعتقداته وهي غير مرضية لأنها عابرة ويمكن دفعها بالاستعاذة والأوراد والالتزام بالمنهج الشرعي في العبادات على ما سبق تبيينه.
3ـ الوساوس القهرية وهي مرض يصيب الناس كما يصيبهم أي مرض آخر وهي أفكار أو حركات أو أفعال أو خواطر أو مشاعر متكررة ذات طابع بغيض يريد العبد التخلص منها ويسعى في مقاومتها ويدرك في العادة أنها خاطئة ولا معنى لها, ولكن هناك ما يدفعه إليها دفعًا, ويفشل في غالب الأحيان في مقاومتها ما لم يسلك طريق العلاج والاستعانة بالله تعالى.
الفرق بين الوسواس القهري والشك:
إن المصاب بالشك يعتريه التردد حول فكرته فيقتنع بها أحيانًا ويتردد في أحيان أخرى إلا إذا بلغ الشك حدًا مرضيًا, فالمريض يقتنع بفكرته أغلب الوقت مثل الشخص المصاب بمرض توهم المرض أو يقتنع بها على الدوام, والشك رد فعل طبيعي لحدث يستدعي ذلك الشك, وربما كان إحدى سمات الشخصية, أما الوسواس فالعبد يتألم منه ويشتكي ويستفتي العلماء عن حاله ويتردد على المعالجين النفسيين ويدعو الله ليتخلص من آثارها السلبية عليه ويفرح بالنجاح في مقاومتها.
دور الشباب في التعامل مع الوسواس القهري يتمثل في دورين أساسيين:
الأول: دور للشيطان في بداية المرض بالوسوسة, وإذا صادفت تلك الوسوسة نفسًا ذات قابلية للإصابة بمرض الوسواس القهري حدث المرض.
الثاني: ما يتعلق بالوسوسة في العبادات, فقد يكون للشيطان دور في إقناع مريض الوسواس القهري بتقصيره في حق الله تعالى حتى يزيد من قلق المريض, وقد يوهمه الشيطان أن معاناته بسبب ضعف إيمانه وكثرة واجباته ومسئولياته ويؤثر على نظام حياته.
ويظهر الوسواس على شكلين:
[1] وسواس الأفكار Obsessional thoughts:(/1)
وهو عبارة عن أفكار ملحة ومستمرة أو شعور أو صورة متواصلة ومتسلطة ومستمرة غير سارة تقتحم عقل المريض وتراوده وتلازمه مع عجزه عن دفعها أو طردها أو التخلص منها, يعرف المريض بسخافتها وغرابتها وعدم فائدتها وتسبب الكثير من القلق والاكتئاب وتلح على ذهنه عبارات معينة أو اسم معين أو رقم ولا يستطيع كبتها. وعادة ما تكون الأفكار حول الدين فيتصور المريض أشياء رهيبة عن الذات الإلهية أو الأنبياء أو الأخلاق أو سبب قهري لأشياء مقدسة وغالية على النفس كَسَبِّ الله تعالى أو أنبيائه مع العجز عن وقفها, وكذا الطهارة أو الجنس أو المرض. كالتفكير في الإصابة بمرض ما كالإيدز مثلاً أو مرض جنسي أو مرض في القلب أو السرطان مثلاً ويعرف بتوهم المرض، وكثيراً ما يتجه المرضى إلى العيادات غير النفسية للبحث عن مشاكلهم. يصحب الاكتئاب النفسي أكثر من 50% من الحالات.
[2] وسواس الأفعال Rituals:
وهو أعمال عقلية واعية وسلوكيات متكررة جبرية استجابة لأفكار وسواسية لتخفف أو تمنع القلق والإزعاج الناتج عن تلك الأفكار ولا يستطيع المريض مقاومتها وهي تستحوذ عليه لفترة طويلة وهو غير راض عنها ولا يحبها خاصة وهو لا يشعر بثمرة من وراء تكرارها ولكنه مقهور على استمرار عملها والقيام بها كتكرار الوضوء أو تكرار الصلاة أو أجزاء منها أو غسل اليدين أو الاستحمام, وقد تستغرق وقتًا طويلاً.
دائمًا ما تأتي الوساوس القهرية لمنع وتجنب بعض الأحداث المفزعة المتصورة في عقل المريض مثل سوء الحظ المتوقع أو المحن أو البلايا أو الموت أو المرض وتظهر الأعراض عقب ضغوط شديدة في العمل أو الامتحانات أو الولادة والحمل أو خلل في العلاقة الخاصة بين الزوجين أو الصدمات العاطفية الشديدة.
الشخصية الوسواسية:
هي شخصية قلما تشعر بالمعاناة في وسوستها ونادرًا ما تطلب المعونة, بل قد ترى نفسها لا تعاني من مشكلة أساسًا إلا إذا نبهها إليها صديق أو قريب أو ملاصق لها في المعيشة من المتأثرين بها ويلاحظون سلوكها الغريب ومن سمات هذه الشخصية أنها تنشأ منذ البلوغ المبكر ببطء وبالتدرج.
س: هل كل من يتصف بالصفات الخاصة بالمرض يعتبر مريضًا؟
الجواب: في الحقيقة: التقييم يرجع للعبد نفسه والمحيطين به ومقياس ذلك أن يصل الوسواس بالعبد إلى أن يسبب له اضطرابًا في أنشطة حياته اليومية والاجتماعية فيعتزل لأداء الطقوس الوسواسية أو لتجنب الاحتكاك الذي يدفعه إلى الإتيان بأفعال الوسواس القهري.
الأسباب المؤدية للإصابة بالوسواس القهري:
ليس الغرض هنا من ذكر الأسباب أن نقوم بسرد وصف دقيق لها, إنما المقصود التوضيح للقارئ أننا بمواجهة أمر يحتاج إلى علاج بالأدوية أو بالتغيير المعرفي والسلوكي وأن هذا ليس سببه قلة التدين أو ضعف الإيمان أو غياب الإرادة أو التقصير في الأوراد والأذكار والدعوات إنه مرض ناشئ عن اضطراب في المواد التي تعمل كنوافل عصبية بين خلايا المخ.
العوامل الحيوية: [الأسباب العضوية الجسدية]:
1ـ النواقل العصبية:
هي مواد تنقل الإشارات العصبية بين الخلايا العصبية لها دور مهم في عمليات عديدة كالنوم والشهية وحرارة الجسم والألم والعدوانية والمزاج ولقد أكد استخدام الأدوية والنتائج التي ظهرت أن هناك اضطرابًا في ناقل عصبي معين هو السيروتونين وأن الأدوية السيروتونية أكثر فاعلية من الأدوية التي تؤثر على النوافل العصبية الأخرى مع العلم أن النوافل الأخرى لها تأثير كذلك على الوسواس القهري.
2ـ الوراثة:
أكدت الدراسات الوراثية الجينية أن العوامل الوراثية لها تأثير في نشأة الوسواس القهري وقد أوضحت الدراسات الأسرية أن 35% من الأقارب من الدرجة الأولى لمرضى الوسواس القهري مصابون بالمرض نفسه.
3ـ دراسات تصوير المخ:
أظهرت هذه الدراسات في مرضى الوسواس القهري زيادة في تدفق الدم والتمثيل الغذائي في الفصل الجبهي من المخ والعقد القاعدية وأجزاء أخرى في المخ, وقد اتضح أنه بالاستمرار على تناول الجرعات الدوائية والعلاج السلوكي والمعرفي تزول هذه الاضطرابات وتتحسن حالة المريض.
العوامل السلوكية:
كيف يتكون السلوك القهري ؟ كيف يقوم العبد بتصرفات لا يرضاها ؟ الأمر كله يبدأ بفكرة تلح على الذهن بشدة وأن عدم فعل شيء للتخلص منها سيتسبب في أضرار أو أن فعلها سينشأ عنه دفع ضرر ما ويكتشف الشخص أن الإتيان بأفعال معينة يكون سببًا في تقليل القلق المصاحب للفكرة الوسواسية فيطور المريض أفعالاً معينة أو طقوس متكررة تؤدي لتجنيبه القلق الشديد وبالتدريج ولفاعلية هذه الطريقة في خفض معدل القلق يحدث تثبيت لهذا الفعل وهذه الطقوس.
العوامل النفسية:(/2)
لم ينجح العلماء حتى الآن في التوصل إلى رابطة واضحة لبيان العلاقة بين مرض الوسواس القهري والشخصية الوسواسية ومعظم مرضى الوساوس القهرية لم يعانوا في بداية حياتهم أو قبل إصابتهم بالمرض من السمات والسلوكيات الوسواسية وأثبتت الإحصائيات أن النسبة لمرضى الوسواس القهري كانت 15% ـ 30% فقط كانوا في الأصل أصحاب شخصية وسواسية.
*** نحن تعتذر بشدة عن الإغراق في البحث الطبي ولكن عذرنا في ذلك أنه ينبغي لمن يعاني من الوسواس القهري أن يفهم طبيعة مرضه ويحدد بدقة درجة شدة المرض وما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لتحقيق الشفاء بإذن الله تعالى, ثم هو قبل ذلك كله وبعده لا ينسى أن أول طريق العلاج هو الاستعانة التامة بالله تعالى على هذا البلاء والمرض ليكون وسيلة لرفع الدرجات وإلى الملتقى بإذن الله تعالى(/3)
أم البراهين القاطعة لشبهات المعطّلين والمؤوّلين والمفوّضين
لصفات الله رب العالمين
بقلم
حامد بن عبد الله العلي
الجزء الاول
الحمد لله الذي أنزل الكتاب بالحق ، ولم يجعل له عوجا ، أشهد أن لا إله إلا هو شهادة من أسلم وجهه لله ، فلم يجد حرجا ، وأشهد أن محمدا صلّى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، الصادق المصدوق مدخلا ومخرجا ، اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله ، وصحبه ، ومن اتخذ دينه منهجا .
وبعد :
فهذا كتاب وضعته للرد على أهل التعطيل والتأويل لصفات الله تعالى ، وقد ذكرت فيه الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع السلف ، من أن نصوص صفات الله تعالى ، الواردة في الكتاب و السنة ، يجب الإيمان بما دلت عليه من صفات لائقة بجلال الله ، وعظمته جل شأنه ، مع تفويض كيفيّاتها ـ لا معانيها ـ إليه سبحانه ، وأن ذلك هو معنى ما أطبق عليه السلف بقولهم : أمروها كما جاءت بلا كيف .
كما ذكرت أهم الشبه التي استدل بها أهل التعطيل والتأويل من كتبهم المعتمدة عندهم ، ونقضتها من كلام أهل العلم ، من أئمة أهل السنة والجماعة ، وأضفت إلى ذلك بعض ما ظهر لي أيضا من الردود .
وقد حاولت أن أجعل القارئ المقتصد لا يحتاج إلى مطالعة غير هذا الكتاب ، إذا اضطر إلى الرد على أهل البدع في هذا الباب ، وأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك ، وإلاّ فالنقص أحرى بي وأولى ، وقد أحاط بي ، واستولى .
هذا وينبغي التذكير بأن إظهار نصوص الكتاب والسنة في صفات الله تعالى ، ونشرها بين الناس ، وتعليمهم طريقة السلف في فهم صفات الله تعالى على سبيل الإجمال ، وترك الناس وفطرتهم تمر عليهم الآيات والأحاديث كما أنزلت ، يفهمون مما يقرؤونه في القرآن والسنة ، على أساس الإثبات مع التنزيه ، وقطع الطمع عن التكييف ، هو منهج السلف في القرون الأولى ، وهو أقوى رد على كل مبتدع .
وإنما ينزل الرد عليهم بدفع شبههم ، منزلة الضرورة ، فإن كانت بدعهم مطوية ، وآراؤهم الرديّة مخفية ، فالواجب الإعراض عنهم بالكليّة .
وقد سميت الكتاب ( بأم البراهين ) لأنني اعتنيت فيه بذكر البراهين الجليّة ، على صحة نهج السلف ، في فهم أسماء الله تعالى الحسنى ، وصفاته العليّة .
هذا وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم ، وان ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، آمين والحمد لله رب العالمين . حامد بن عبد الله العلي
غرة جمادى الآخرة 1423هـ
الفصل الأول أقوال الطوائف الإسلامية في صفات الله تعالى ، والقول الصحيح منها والأدلة على صحة ، وبطلان ما سواه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويشتمل هذا الفصل على هذه المطالب :
أولا : أقوال الطوائف في صفات الله تعالى .
ــــــــــــــــــــــــ
ثانيا : القول الصحيح منها ، وهو مذهب السلف ، والأدلة على صحته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثالثا : إبطال مذهبي المفوضة ، والمؤولة في صفات الله تعالى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما يتضمن بحثا مهما في بيان أسباب الخطأ في حكاية مذهب السلف عند بعض العلماء والله الموفق .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنبيه : جعل ما كان في حواشي الكتاب في الاصل ، هنا بين قوسين هكذا [[...]]
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
أولا : أقوال الطوائف في صفات الله تعالى :
ــــــــــــــــــــــــــ
القول الأول :
ــــــ
قول من يجعل كل دليل دل على الإخبار عن صفة ولو ظاهراً ، يأخذ منه إثبات صفة لله تعالى انقياداً للسمع ، وهذا القول هو المنقول عن الصحابة والتابعين ، وقال به أئمة الدين المتقدمين كالأئمة الأربعة والليث بن سعد والأوزاعي والسفيانين وعامة فقهاء الأمصار في عصور السلف وعامة أهل الحديث ، وهو قول غالب المنتسبين إلى مذهب الإمام أحمد ، وكثير من المنتسبين إلى المذاهب الأخرى ، وسيأتي بيان ذلك لاحقا إن شاء الله تعالى .
ويمكن تقسيم الصفات على هذا الأساس إلى : صفات سلبية ، وصفات ثبوتية.
أما الصفات السلبية : فهي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله كالموت ، والنوم.
وأما الصفات الثبوتية : فيمكن تقسيمها إلى ذاتية وفعلية :
فالذاتية هي التي لم يزل ولا يزال متصفا بها وهي نوعان : عقلية وخبرية .
فالعقلية كالقدرة والعلم ، والخبرية - وهي التي لا تعرف إلاّ بالسمع - كالوجه واليدين .
وأما الصفات الفعلية ، فهي التي تتعلق بمشيئته واختياره ، إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها ( وقد تسمى الاختيارية ، أو الأفعال الاختيارية ) ، وهي نوعان أيضاً :
عقلية وخبرية : فالأولى كالخلق والرزق ، والثانية كالمجى والنزول والاستواء .
وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام فإنه صفة ذاتية لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً ، وباعتبار آحاد الكلام فإنه فعلية لأن الكلام يتعلق بمشيئته واختياره ، يتكلم متى شاء بما شاء كما قال سبحانه {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون }(1)(/1)
[[وينظر في تقسيم صفات الله تعالى على هذا القول : شرح الواسطية للشيخ خليل هراس ص 89 ، والقواعد المثلي للعثيمين ص 21ـ25 ، وشرح الطحاوية لابن أبي العز ص 127 ]]
القول الثاني :
ــــــــ
وهو قول من يحدد الصفات بسبع أو ثمان صفات ، وقد يزيد بعضهم على ذلك ، بما سيأتي ذكره وأشهر من قال بهذا القول ، الأشعرية ، والماتوريدية ، ويقسمون الصفات إلى أربعة أقسام :
نفسية ، وسلبية ، ومعاني ومعنوية . [[ متن السنوسية 2]]
فالنفسية هي الوجود ، والسلبية هي القدم ، والبقاء ، والمخالفة للحوادث ، والقيام بالنفس والمعاني هي سبع صفات زائدة على الذات ، وهي : الحياة ، والإرادة ، والعلم ، والقدرة ، والسمع والبصر ، والكلام ، والمعنوية عندهم هي كونه مريداً وقادراً وحياً ، عليماً ، سميعاً ، بصيراً ، متكلماً .
[[ المصدر السابق ، وقال الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان أن المعنوية على التحقيق هي كيفية اتصاف الله تعالى بصفات المعاني ، كما ذكر أن الصفات السلبية لاتدل على معان وجودية بالمطابقة أضواء البيان ( 2/277ـ 278) ]]
وأصحاب هذا القسم لا يعتبر أكثرهم ما يثبته القسم الأول من الصفات الذاتية صفاتاً ، كالوجه واليدين ، والعين ، بل نصوصها عندهم لا تدل على صفات في نفس الأمر ، وإن كانت في الظاهر كذلك ، ويجب تأويل ظواهرها عندهم .
وكذلك الصفات الفعلية الخبرية كالمجيء والنزول والاستواء ، وإذا اجتمع في طريق الثبوت أن يكون خبرياً حديثياً ، فلا يسلم من التأويل عدد أكثرهم أما الخبري القرآني فيثبته بعضهم .
وأعظم من يقول بهذا القول الأشعرية ، فقد اتفق المنتسبون إلى هذا المذهب على إثبات سبع صفات وهي المتقدم ذكرها(1) ، [[ المواقف للايجي ص 281ـ 296]] .
ثم اختلفوا هل لله صفة زائدة عليها وإن كنا لا نعلمها ،فجزم بعضهم بالنفي وجوز بعضهم أن يكون له غيرها وإن كنا لا نعلمها(2) [[ المصدر السابق ص 296]]
وزاد المتقدمون من أئمة المذهب الكبار ، صفة اليد والوجه ، كأبى بكر الباقلاني (3) [[التمهيد له ص 295]] ، وأبى بكر بن فورك(4) [[ مشكل الحديث وبيانه ص 174ـ 183]] ، ونقل الذهبي عن كتاب الإبانة للباقلاني إثباته صفة العلو أيضاً(5) ، [[ مختصر العلو ص 258]]
وسبب إثبات هؤلاء لهذه الصفات هو أن أبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب شيخ الاشعري الذي إنحاز إليه أبو الحسن بعد توبته من الاعتزال(1) [[ ذكر الشهرستاني أن أبا الحسن الاشعري لما ترك الاعتزال انحاز إلى جماعة منهم ابن كلاب ، وأيد مقالتهم بمناهج كلامية ، وصار ذلك مذهبا لاهل السنة والجماعة ، ذكره في الملل والنحل ص 93 ، وهذا المذهب الكلابي هو الطور الثاني لأبى الحسن ، وغالب المنتسبين إليه من المتقدمين كالباقلاني ، وابن فورك ، على قوله في هذا الطور ، وأما المتأخر ون كأبي المعالي ومن بعده فزادوا على التأويل الذي قاله به في هذا الطور للصفات الاختيارية كما سيأتي ، زادوا تأويل الصفات الذاتية إلا السبع ، وزادوا أيضا إنكار العلو ، ولأبى الحسن طور ثالث وهو إثبات كل الصفات وعدم التأويل مطلقا ، وهو الذي صار إليه بأخرة ، كما يدل على ذلك كتاب ( الإبانة والمقالات) ص 297 ]]
، ابن كلاب هو مثبت لهذه الصفات الخبرية الذاتية كالوجه واليدين والعين والعلو(2) . [[ المقالات للاشعري ص 196ـ 299]]
ولهذا فليس لأبي الحسن قولان في هذه الصفات الخبرية على التحقيق ، ولا لأئمة أصحابه المتقدمين ، فالصفات الخبرية القرآنية يثبتها قدماء أئمة الأشعرية وبعض المتأخرين(3) ..[[أنظر المجموع لابن تيميه ( 6/52) ، (16/407) ، (12/203) ، وانظر نقض التأسيس ( 2/15) ، ( 2/34ـ 35) ، وانظر الدرء ( 3/380ـ 381) ومن المتأخرين الذين يثبتون الصفات الخبرية القرآنية البيهقي ( البيقهي وموقفه من الإلهيات للغامدي ص 268]] .
أما متأخرو الأشعرية ، فقد غلوا في التأويل ، كأبى المعالي الجويني ، وهو من أوائل من غلا فيه ، وهو شيخ أبي حامد وهذان مع الرازي والآمدي ، قاربوا المعتزلة فأكثروا من التأويل وأنكروا صفة العلو ، والصفات الخبرية القرآنية التي أثبتها المتقدمون ، وتكلموا في قواعد المذهب على هذا الأساس(4) [[ المجموع لابن تيميه 6/52 و 16/407و 12/203 وانظر كذلك نقض التأسيس ( 2/15و 2/34ـ 35) ]] .
لا سيما الرازي فقد غلا في التأويل جدا ، ثم صنفت الكتب والمختصرات لدى الاشعرية ، على هذا النحو من تأويل الصفات إلاّ السبع ، وقد تذكر فيها بعض الصفات الخبرية على أنه قول ثان للأصحاب ولأبي الحسن ،(5) [[ انظر المواقف للايجي ص 269) مع أن قوله واحد فيها وهو الإثبات (6) ، المجموع ( 12/203) ]]
ولهذا فإن بعض المفسرين ممن ينتسب إلى هذا المذهب بعد هؤلاء - مثل البيضاوي - يؤولون هذه الصفات خلافاً للمتقدمين من أئمة المذهب ، وقد يذكرون الإثبات على أنه قول ثان للأصحاب(1) البيضاوي [[ 3/12]](/2)
أما الصفات الفعلية التي تقوم بذات الله تعالى بمشيئته واختياره وقدرته كالمجيء ، والنزول ، وطي السماوات ، وما شابه هذا من النصوص ، فلا يثبتونها ، ويؤولونها كلها ، حتى الكلام عندهم لا يكون بمشيئته ، واختياره ، ولا يتكلم إذا شاء ، بل هو صفة قديمة قائمة به لا تتعلق بالمشيئة ، ويسمونه الكلام النفسي ، وكذلك ليس يقوم به فعل هو الخلق ، بل الخلق هو المخلوق ، ويسمون هذه الأفعال حلول الحوادث بذاته ويعنون بالحادث ما يسبقه العدم ، وهم يمنعون هذا ولذلك يؤولون ما يدل على خلافه في الظاهر(2) . [[ينظر في مذهبهم في الأفعال الاختيارية التي يطلقون عليها حلول الحوادث ، قواعد العقائد للغزالي ص 185، الإرشاد للجويني ص 45 ، وص 62، والتبصير في الدين للاسفرائيني ص 143، وقال ابن تيميه : ( وذهب آخرون من أهل الكلام الجهمية ، وأكثر المعتزلة والاشعرية إلى أن الخلق هو المخلوق وليس لله عند هؤلاء صنع ولا فعل ولا خلق ولا إبداع إلا المخلوقات بأنفسها ) المجموع 5/529، وقال بل الآيات التي تدل على الصفات الاختيارية التي يسمونها حلول الحوادث كثيرة جدا ، المجموع 6/222، وذكر أنهم أولوا كثيرا من النصوص بسبب هذا القول ، المجموع 1/217/ 287]]
وكذلك الصفات الذاتية الحديثة لا يثبتونها(3) [[ ابن تيمية المجموع 6/52]] لمعارضتها لأدلة عقلية ، وكذلك القرآنية عند من يؤولها ، وسيأتي ذكر أدلتهم في موضعها .
والماتوريدية يوافقون الأشعرية في أكثر ما تقدم ، إلاّ أنهم يثبتون صفتي الوجه واليد(4) [[ نظم الفرائد وجمع الفوائد في مسائل الخلاف بين الماتوريدية والاشعرية في العقائد لشيخ زادة 23 ]] .
وصفة يسمونها ( التكوين ) يحصل بها الإيجاد والخلق(5)،[[ المصدر السابق 28]] وكذلك صفة الحكمة ، عندهم صفة وجودية زائدة على الذات خلافاً للأشعرية الذين يذهبون إلى أنها عبارة عن إتقان العمل وإحكامه(6) [[ المصدر السابق ص 18]]
القول الثالث :
ـــــــــ
وهو قول النفاة ، وهم الذين ينفون أن يكون لله صفة زائدة على ذاته ، وأشهر من قال بهذا هم المعتزلة ، قال عبد القاهر البغدادي رحمه الله عن المعتزلة: (يجمعها كلها في بدعتها أمور ، منها نفيها كلها عن الله عز وجل صفاته الأزلية وقولها بأنه ليس لله عز وجل علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا صفة أزلية).(1) .[[الفرق بين الفرق ص 114]]
ومع اتفاقهم على نفي أن يكون لله صفه أزلية ، اختلفت عباراتهم عنها ، فمنهم من جعلها وجوها للذات كأبى الهذيل العلاف ، فالله عنده عالم بعلم هو ذاته ، وقادر بقدرة هي ذاته وكذلك سائر ما أثبته (2) ، [[ المصدر السابق 127، والملل والنحل 1/49]] .
ومنهم من جعلها تؤول إلى معنى السلب فمعنى كونه عالماً أي ليس بجاهل ومعنى كونه قادراً أي ليس بعاجز ، وهو قول النظام(3) [[ مقالات الإسلاميين 166]] ومنهم من جعلها أحوالاً وراء الذات كأبى هاشم الجبائى ، قال لله عالمية وقادرية لا علماً وقدرة ، وهذه الأحوال عنده لا موجوده ولا معدومة(4) [[ الملل والنحل 1/80]]
والجهمية توافق المعتزلة في نفي الصفات (5) [[ المصدر السابق 1/86]] ، والذي دعا المعتزلة إلى نفي أن يكون لله تعالى صفات لم يزل متصفاً بها كالعلم والقدرة والسمع والبصر ، ظنهم أن ذلك تعدد فيما هو قديم فيلزم أن يكون لله تعالى مماثل في أخص وصفه وهو القدم(6) [[ التمهيد للباقلاني ص 236، ومختصر لوامع الأنوار البهية لمحمد بن سلوم 157، ومجموع ابن تيمية 3/70]]
هذا ، ومن الواضح أن أصحاب القول الأول قد انطبق قولهم على جميع الأدلة السمعية ، ولهذا فإنه يقولون : إن صفات الله تعالى ليست من المتشابه ، إن قصد به مالا يعلم معناه إلا الله تعالى ، بل هي معلومة المعنى ، فهي صفات لله تعالى لائقة بجلاه لاتماثل صفات خلقه .
وإن كان قد يطلق على بعض نصوصها أنها من المتشابه ، بمعنى أنه قد يشتبه على مقتصد في العلم معاني بعض نصوص الصفات ، لغموض أو احتمال لعدة معان ، فبرد الراسخين في العلم له إلى المحكم يتبين المعنى المراد ، شأنه في ذلك شأن غيره من أبواب العلم ، وتأويل هذا المتشابه هو تفسيره والراسخون في العلم يعلمونه .
كما يقولون إن بعض نصوص الصفات قد يكون فيها اشتباه ، من جهة إشتباه الشيء بالشيء ، فصفات الله قد يطلق مثلها على المخلوق ، فيحصل الاشتباه من ذلك لغير الراسخين في العلم ، في هذه النصوص الموهمة للتماثل بين الباري والبرية ، ويصح أن يقال إن هذا المتشابه لا يعلم تأويله إلاّ الله إذا جعل التأويل هو حقائق صفات الله وكيفياتها ، وبهذا يندفع التماثل المتوهم .(/3)
هذا على قول السلف الذين يثبتون جميع الصفات ، أما القولان الآخران ، فلهما شأن آخر ، فإن أصحابهما قد اصطلحوا على تسمية حمل الظاهر على المعنى المرجوح تأويلاً ، فكان لهذا تأثير في جعل نصوص الصفات من المتشابه ، فإنه ينتج منه أن يكون المراد بها خلاف الظاهر ، إذا طبقت آية المحكمات والمتشابهات عليها .
ولعل صنيع القاضي عبد الجبار الهمداني في كتابه متشابه القرآن ، يمثل موقف المعتزلة من علاقة مسائل العقيدة على وجه العموم والصفات على وجه الخصوص بالمتشابه ، فإنه جعل المتشابه هو الذي (يحتاج إلى زيادة فكر من حيث كان المراد به خلاف ظاهره )(1) [[متشابه القرآن للهمداني 1/32]] ، ويعني بالفكر النظر في الأدلة العقلية ، كما صرح بأن المتشابه (متى امتنع حمله على الظاهر ، فالواجب النظر فيما يجب أن يحمل عليه ، والنظر هو أن تطلب القرآن ...فان كان السامع قد مهدت له الأصول وعرف العقليات وما يجوز فيها وما لا يجوز ، وعلم ما يحسن التكليف فيه وما لا يحسن وعلم من جمل اللغة ما يعرف به أقسام المجاز ومفارقتها للحقائق ، حمله على ما أريد به في الحال)(2) [[المصدر السابق 1/35]]
ولما ذكر ما يتميز به المحكم ، ذكر أنه به يمكن أن يبين للمخالف في التوحيد ، أنه مخالف للقرآن ، وأنه قد تمسك بالمتشابه من القرآن وعدل عن محكمه(1) ،[[ المصدر السابق 1/9]] ومعلوم أنهم ـ أي المعتزلة ـ يعنون بالتوحيد نفي الصفات .
ولهذا فإنه يجعل في كتابه هذا مثل قوله تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء } البقرة (255 ) ، وقوله تعالى { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } هود (14) ، متشابهاً ويصرح أن المراد خلاف الظاهر(2) [[ المصدر السابق 1/132، 1/375]].
وما حمله على هذا إلاّ قيام ما يطلق عليه الدليل العقلي عنده على امتناع أن يكون لله صفة العلم ، كما سيأتي لاحقا عند ذكر أدلتهم على نفي الصفات .
وهذا التصرف منه مع ما تقدم من النقل عنه ، يدل على أنه يجعل كل ما يخالف اعتقاده الذي أسسه على محض العقل متشابهاً يراد به خلاف الظاهر ، وقد ذكر في كتابه هذا أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه ، فهذا يدل على أنه يجعل ما يخالف قوله متشابها ليتمكن من صرفه عن ظاهره بالتأويل الذي يرى إمكان معرفته ، فيبدو أن هذه هي علاقة المتشابه بآيات الصفات عند المعتزلة .
وقد صنع أصحاب القول الثاني مثل هذا الذي تقدم عن المعتزله ، مثال ذلك: نفيهم صفة العلو واعتبارهم كل ما دل عليه من القرآن متشابهاً ، كقوله تعالى {وهو القاهر فوق عباده} الأنعام (18) ، وقوله { يخافون ربهم من فوقهم } النحل (50) ، وقوله { ثم استوى على العرش } الأعراف (54) ، وقوله {أأمنتم من في السماء } الملك (16) ، وقوله {تعرج الملائكة والروح إليه } المعارج (4) ، وقوله {إن الذين عند ربك } الأعراف (206) .
وكذلك كل ما جاء في السمع في ظاهر يدل على إثبات ما نفوه أو نفي ما أثبتوه بالأدلة العقلية جعلوه متشابها ، كما فعل الرازي في تفسيره حيث قال ( فثبت بما ذكرنا أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلاّ عند قيام القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال ) ، ثم جعل هذا المعنى المرجوح هو تأويل المتشابه فقال بعد هذه العبارة (فعند هذا يتعين التأويل)(1) [[ تفسير الرازي ]] 1/169
ومثل لهذا بقوله تعالى { الرحمن على العرش استوى} ، وقال {فمن تمسك به كان متمسكا بالمتشابهات} بعد أن قدم الدليل العقلي على استحالة ظاهره عنده(2) ، المصدر السابق [[ 7/148]] .
فهذا - مع ما يفعله سائر من يجعل نصوص ما لا يثبته من الصفات من المتشابه ثم يحتج بآية {وما يعلم تأويله إلاّ الله ...الآية } .على أنها على غير ظاهرها - من أصحاب هذا القول أمثلة تكشف أن هؤلاء المخالفين لما كان عليه السلف في باب الصفات ، قد أقحموا باب صفات الله تعالى في المتشابه ، ليتمكنوا من صرفها عن ظاهرها - الذي يزعمون استحالته عندهم بالأدلة العقلية - محتجين بإخبار الآية أن للمتشابه تأويلا .
لكن هؤلاء انقسموا إلى قسمين :
** قسم لا يعين التأويل - أي المعنى المخالف للظاهر - مع القطع بعدم إرادة الظاهر ويحتج هؤلاء بأن الوقف في الآية على قوله { إلاّ الله } ، وهكذا يستريحون من هذه النصوص المثبته لما نفوه ، وينزلونها منزلة العدم ، بل يلزمهم أنها شر من العدم لأنها - على هذا الرأي - إنما جاءت لإظهار الباطل ، وإرباك العقيدة فحسب .
**والقسم الآخر يعينه لأن الوصل هو الصحيح في الآية عندهم ، والراسخون في العلم يعلمون التأويل وهؤلاء أحسن ظنا في القرآن من أولئك(3) [[ من القائلين بالأول الجويني في أحد قوليه كما في النظامية ص 33 ، والرازي كما في التفسير 7/176، وبالثاني أبو بكر بن فورك كما هو واضح في كتابه مشكل الحديث وتأويله ]] .(/4)
وأصحاب القول الأول ربما نسبوا قولهم هذا إلى السلف ، وربما نسب القول الثاني إليهم أيضاً ، والسر في هذا أن موافقتهم تعظمه النفوس المؤمنة لما جعل الله لهم من لسان صدق في الأمة ، ومن أمثلة هذا قول الزركشي في البرهان عن الآيات المتشابهات في الصفات :
اختلف الناس في الوارد منها في الآيات والأحاديث ثلاث فرق :
أحدهما : أنه لا مدخل للتأويل فيها بل تجري على ظاهرها ولا يؤول شيء منها ، وهم المشبهه .
والثاني : أن لها تأويلا ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن الشبه والتعطيل ونقول لا يعلمه إلاّ الله ، وهو قول السلف .
الثالث: أنه مؤوله وأولوها على ما يليق به .
والأول باطل والأخيران منقولان عن الصحابة .. ثم قال (وممن نقل عنه التأويل عليّ ، وابن مسعود وابن عباس وغيرهم) (1) [[ البرهان للزركشي 2/78ـ79]].
وقد نسب إليهم أيضاً أنهم لا يزيدون على تلاوة الآيات وقراءة الأحاديث في هذا الباب(2) ، وسيأتي ذلك لاحقا .
ومن المعلوم عن المؤمنين بهذا الدين الحق أن الحق لا يخرج عن إجماع السلف ، فالقول الصحيح هو ما أجمعوا عليه .
وقد نسب إليهم قولان متناقضان ، قول الزركشي هذا ، وما ذكر أول المبحث ، فإذا تحقق مذهبهم وجب المصير إليه ، وتحقيقه هو المبحث الثاني .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
ثانيا
ــــــــــــ
تحقيق القول الصحيح في هذا الباب
وبيان أسباب الخطأ في نسبة مذهب السلف الصحيح إليهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو لا يخرج كما تقدم عن إجماع السلف فيجب أولاً تحقيق مذهبهم فإن صح عنهم إجماع في هذا الباب فهو القول الصحيح ، ثم تذكر بعد ذلك الأدلة على صحته من غير الإجماع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي ، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه ....وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله)(1) .[[مجموع الفتاوى 5/ 26]] .
وقال الإمام الذهبي رحمه الله (هذه الصفات من الاستواء والإتيان والنزول قد صحت بها النصوص ونقلها الخلف عن السلف ولم يتعرضوا لها برد ولا تأويل بل انكروا على من تأولها مع إصفاقهم على أنها لا تشبه نعوت المخلوقين وأن الله ليس كمثله شيء)(2) .[[ سير أعلام النبلاء 11/376]]
وقال أيضاً ( قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم وما أبقوا ممكنا فلو كان تأويلها سائغاً أو حتماً لبادروا إليه ، فعلم قطعاً أن قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحق لا تفسير لها غير ذلك ، فنؤمن بذلك ونسكت إقتداء بالسلف معتقدين أنها صفات لله تعالى استأثر الله بعلم حقائقها وأنها لا تشبه صفات المخلوقين)(3) [[ المصدر السابق 10/506]]
وقد دل على أن هذا مذهب السلف في الصفات - مع نقل هذين الإمامين المشهود لهما برسوخ القدم في معرفة المتقدمين ومذاهبهم - نقول كثيرة من أهل العمل بالآثار الذين أفنوا أعمارهم في ضبطها ونقلها ومعرفة صحيحها من سقيمها وفيما يلي طائفة منها ، وقد قصد بعض التطويل فيها ليعلم بذلك ما في كلام الزركشي المتقدم من التسامح في النقل ، وهي على ثلاثة أضرب :
الضرب الأول :
ـــــــــ
فيه حكاية ما كان عليه السلف ، أو أهل السنة ، أو أهل السمة والحديث عامة في نصوص الصفات بالجملة ، ولا ريب أن ما كان عليه أهل السنة والحديث هو مذهب السلف .
الضرب الثاني :
ـــــــــ
فيه حكاية ما كانوا عليه في بعض الصفات خاصة مما هو من جنس ما يذهب أهل التأويل إلى تأويله بما يدل على مذهبهم في سائرها .
الضرب الثالث :
ـــــــــ
نصوص خاصة عن أئمة السلف في هذا الباب تدل على أنهم لا يصرفون نصوص الصفات عن ظاهرها ويعلمون معانيها .
أما الضرب الأول : فمن ذلك :
ــــــــــــــــ
(1) قال الأوزاعي رحمه الله ( كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله عز وجل فوق عرشه ونؤمن بما ورد في السنة من صفاته )(1) .[[ رواه البيهقي في الأسماء والصفات ص 515 ، وقال ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية إسناده صحيح 43]]
ومعلوم أنه لا يريد مجرد الإيمان بحروف هذه الجملة (الله عز وجل فوق عرشه) ، ولكنه رحمه الله حكى ما كان عليه التابعون واتباعهم من الإيمان بعلوّ لله على عرشه فهما مما أخبر به سبحانه عن نفسه أنه استوى على عرشه وأنه في السماء ، وقوله (نؤمن بما ورد في السنة من صفاته ) لا يريد قطعا السنة فحسب ، وإنما أراد التنبيه بالسنة على القرآن ، فإذا كان ما في السنة من نصوص الصفات يجب الإيمان به فما في القرآن أولى وأحرى .(/5)
(2) قال الإمام الشافعي رحمه الله ( القول في السنة التي أنا عليها ، ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل مالك وسفيان وغيرهما ، ... وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلفه كيف يشاء ، وينزل إلى السماء الدنيا كيف يشاء ... وذكر سائر الاعتقاد)(2) [[ مختصر العلو للألباني ص 176]]
(3) قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله ( جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار ...ثم قال وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئاً .... ثم قال وأن الله سبحانه على عرشه كما قال (الرحمن على العرش استوى ) وأن له يدين بلا كيف ، كما قال (لما خلقت بيدي ) ص 75 ، وكما قال ( بل يداه مبسوطتان ) المائدة 64 ، وأن له وجها كما قال ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) الرحمن 27 ، .... ثم قال ( ويقرون أن الله سبحانه يجيء يوم القيامة كما قال ( وجاء ربك والملك صفاً ) الفجر) (22)(1) [[ مقالات الاشعري 290ـ295]]
(4) قال الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي (اعلموا رحمكم الله أن مذاهب أهل الحديث ، أهل السنة والجماعة ، الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله ...خلق آدم بيده ويداه . مبسوطتان بلا اعتقاد كيف واستوى على العرش بلا كيف ...وذكر سائر اعتقاد أهل السنة )(2) .[[ مختصر العلو للذهبي 248 ، وقال في ص 249كان الإسماعيلي شيخ الإسلام رأسا في الحديث والفقه ، وقال أبو إسحاق في طبقات الشافعية ( جمع أبو بكر بين الفقه والحديث ورئاسة الدين والدنيا ]].
(5) قال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي رحمه الله ( أما ما سألت عنه من الكلام في الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة الصحيحة فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها ) .
قال الذهبي بعد نقله قول الخطابي هذا ( وكذا نقل الاتفاق عن السلف في هذا الحافظ أبو بكر الخطيب ثم الحافظ أبو القاسم التيمي الإصبهاني)(3) [[المصدر السابق 257 ]]
(6) قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله (أهل السنه مجمعون على الصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلاّ أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك ).(4) . [[المصدر السابق ص 268]]
(7) قال الحافظ أبو بكر الخطيب رحمه الله (أما بالكلام في الصفات فأما ما روى منها في السنن والصحاح فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها)(5) . [[المصدر السابق 272]]
وانظر إلى التفاوت بين نقل هؤلاء الأئمة الحفاظ عن السلف أنهم يجرون نصوص الصفات على ظاهرها وبين نسبة هذا القول إلى المشبهة .
(8) قال الحافظ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابه وتنزيله وشهد له بها رسوله على ما وردت به الأخبار الصحاح ونقله العدول الثقات ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه ولا يكيفونها تكييف المشبهه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزله والجهمية فيقولون إنه خلق آدم بيده كما نص سبحانه عليه في قوله عز من قائل (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ..وذكر سائر الاعتقاد)(1) . [[رسالة عقيدة السلف وأصحاب الحديث للحافظ الصابوني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/105]]
قال ابن قدامه في ذم التأويل بعد ذكر مقالة الصابوني ( وذكر الصابوني الفقهاء السبعة ومن بعدهم من الأئمة وسمي خلقاً كثيراً من الأئمة وقال : كلهم متفقون لم يخالف بعضهم بعضا ولم يثبت عن واحد منهم ما يضاد ما ذكرناه)(2) . [[ ذم التأويل ص 17 ]]
(9) قال الإمام أبو عيسى الترمذي إثر ما روى حديث أبي هريرة ( إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها ) : ( قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا قالوا : قد ثبتت الروايات في هذا ونؤمن به ولا نتوهم ولا نقول كيف ؟ هكذا روى عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث أمروها بلا كيف ، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة)(3) . [[جامع الترمذي : 3/24ـ 25]]
أما الضرب الثاني ، فمنه :
ــــــــــــــ
(1) قال قتيبة بن سعيد رحمه الله ( هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة : نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال جل جلاله ( الرحمن على العرش استوى ) قال الذهبي رحمه الله (فهذا قتيبة في إمامته وصدقه قد نقل الإجماع على هذه المسألة وقد لقى مالكا والليث وحماد بن زيد والكبار )(4) .(/6)
[[ مختصر العلو للذهبي ص 187 ، ثم قال الذهبي عن قتيبة : عمر دهرا ، وازدحم الحفاظ على بابه ، قال لرجل : أقم عندنا هذه الشتوة ، حتى أخرج لك عن خمسة أناس مائة ألف حديث ، وهذا يدل على سعة علم هؤلاء بالآثار لان هذا العدد يشمل أقوال الصحابة والتابعين وهو باعتبار طرق الأخبار ، فكل طريق يسمونه حديثا وكذلك يعدون المكرر ، قال الذهبي ( قال أبو عبد الله بن أحمد : قال لي أبو زرعة أبوك يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل له ما يدريك ؟ قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب ، فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبى عبد الله ، وكانوا يعدون في ذلك المكرر والأثر وفتوى التابعي ، وما فسر ونحو ذلك ) سير أعلام النبلاء 11/187]]
(2) قال الإمام إسحاق بن راهوية رحمه الله (قال الله تعالى (الرحمن على العرش استوى ) إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة ).(1) [[مختصر العلو للذهبي ص 194]]
(3) قال الحافظ عمر بن عبد البر رحمه الله (أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ) هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج به)(2). [[المصدر السابق 268]]
(4) قال الحافظ الكبير أبو نعيم أحمد بن عبد الله الإصبهاني (طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة ومما اعتقدوه ...ثم قال وأن القرآن في جميع الجهات مقروءاً ومحفوظاً ، ومسموعاً ومكتوباً وملفوظاً كلام الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة ...وأن الأحاديث التي ثبتت في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو سبحانه مستو على عرشه في سمائه دون أرضه ) ، . قال الذهبي (فقد نقل هذا الإمام الإجماع على هذا القول ولله الحمد )(3) . [[ المصدر السابق 261]]
(5) قال الحافظ أبو عمر أحمد بن محمد الطلمنكي (أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله (وهو معكم أينما كنتم ) ، ونحو ذلك من القرآن أنه علمه وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء وقال أهل السنة في قوله (الرحمن على العرش استوى ) ، الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة لا على المجاز)(4) . [[المصدر السابق 264]]
(6) قال الإمام أبو عبد الله القرطبي صاحب التفسير الكبير (وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف أنه استوى على العرش حقيقة وخص العرش بذلك لأنه أعظم المخلوقات وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته قال مالك: الاستواء معلوم - يعني في اللغة - والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة )(1).
[[ قال ابن حجر رحمه الله ( أخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله ( الرحمن على العرش استوى ) ؟ كيف استوى ، فأطرق مالك فأخذته الرحضاء ، ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى ، كما وصف نفسه ، ويقال كيف ، وكيف عنه مرفوع ، وما أراك إلا صاحب بدعة ، أخرجوه ) فتح الباري 13/407، وقال الذهبي هذا ثابت عن مالك ، مختصر العلو 141، وأنظر الرواية في الأسماء والصفات للبيهقي 515]]
الضرب الثالث : ومنه ،
ــــــــــــ
مما يدل على أن السلف تكلموا في معاني نصوص الصفات ، ولم يؤولوها ما ورد من ألفاظ من عند أنفسهم ، تخالف ألفاظ النصوص في هذا الباب ، وتصرفهم في ذلك بعبارات دالة على نفس المعنى ، وكذلك ما ورد عنهم من التصريح بعدم التأويل ، وهذا كثير جداً ، ومن أمثلته عن أشهر علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم :
(1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (الكرسي موضع القدمين)(2). [[رواه الحاكم وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي 2/282، ورواه أيضا ابن خزيمة في التوحيد 1/249 ، ورواه عبد الله بن الإمام احمد في كتاب السنة 1/301 ، وقال الذهبي في العلو رجاله ثقات أنظر مختصر العلو 102 ]]
(2) وعنه أيضاً قال ( تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في الله فإن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور والله فوق ذلك تبارك وتعالى)(3) . [[روه البيهقي في الأسماء والصفات 530 ، وأبو الشيخ في العظمة 1/212، وقال ابن حجر موقوف وسنده جيد الفتح 13/383 ]](/7)
(3) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال ( ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام وما بين السماء الثالثة والتي تليها وبين الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام ، والعرش فوق الماء والله عز وجل فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه )(4) . [[رواه الدارمي في الرد على المريسي 105، والبيهقي في الأسماء والصفات 507، وأبو الشيخ في العظمة ، 2/688، وابن خزيمة في التوحيد 1/243، وقال الذهبي إسناده صحيح ، أنظر مختصر العلو ص 103 ، وصححه ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص 100 ، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح ، مجمع الزوائد 1/86]]
(4) وعنه قال ( إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى إذا تيسر له نظر الله إليه من فوق سبع سماوات فيقول للملائكة ( اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار)(5) [[رواه الدارمي في الرد على الجهمية 46، واللالكائي في السنة 4/668، وقال الذهبي إسناده قوي ، أنظر مختصر العلو 104، وصححه ابن القيم في اجتماع الجيوش ص 100]]
(5) وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال ( خلق الله أربعة أشياء بيده : العرش والقلم وعدن وآدم ثم قال لسائر الخلق كن فكان )(1). [[ رواه الدارمي في الرد على المريسي ص 35 ، قال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عبيد بن مهران وهو المكتب حدثنا مجاهد به ، وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات ، أنظر تراجمهم في التقريب وفق الترتيب 549، 367، 378، ومجاهد إمام مشهور]].
(6) عن جعفر بن أبي المغيرة قال ( سألت سعيد بن جبير عن الألواح من أي شيء كانت ؟ قال : من ياقوته كتابه الذهب كتبها الرحمن بيده فسمع أهل السموات صريف القلم وهو يكتبها )(2) . [[رواه الطبري 13/127، وعبد الله بن أحمد في السنة 1/294، وأبو الشيخ بن حيان في العظمة 1/495، كلهم من طريق أبي الجنيد عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير به ، وأبو الجنيد قال عنه يحيى بن معين لا بأس به ، وقال أبو حاتم لا بأس محله الصدق التهذيب ( 9/354) ، وجعفر بن أبي المغيرة قال الذهبي كان صدوقا ، الميزان ( 1/417) وقال في التهذيب ( نقل ابن حبان في الثقات عن أحمد توثيقه ) 2/108 فالإسناد حسن ]].
(7) وعن مجاهد في قوله عز وجل ( وقربناه نجيا ) قال : ( بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب فما زال موسى عليه السلام يقرب حتى كان بينه وبينه حجاب فلما رأى مكانه وسمع صريف القلم (قال رب أرني أنظر إليك)(3) . [[ رواه البيهقي في الأسماء والصفات ص 508 ، وأبو الشيخ في العظمة ( 2/690) وقال الذهبي هذا ثابت عن مجاهد إمام التفسير ، مختصر العلو ص 132 ]]
(8) وعنه أنه فسر استوى بمعنى علا على العرش . [[ أورده البخاري معلقا وجزم به ، أنظر فتح الباري 13/405، وقال ابن حجر في تغليق التعليق ( قال الفريابي في تفسيره حدثنا ورقاء بن أبي نجيح عن مجاهد فذكره ) 5/345 انتهى ، وهذا إسناد صحيح ورقاء قال عنه الذهبي صدوق أنظر رسالة ( المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد ) وقال عنه ابن حجر صدوق التقريب 580 ]]
(9) قال الاوزاعي : (كان الزهري ومكحول بقولان أمروا هذه الأحاديث كما جاءت )(5) [[ذم التأويل ص 18 ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/431]]
(10) عن أبي مطيع قال : ( سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقال كفر لأن الله يقول (الرحمن على العرش استوى) وعرشه فوق سماواته )(6). [[مختصر العلو للذهبي 136]]
(11) قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في العقيدة التي ألفها (ذكر بيان السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة وأبي يوسف وأبي محمد رضي الله عنهم ... ثم ذكر في هذه العقيدة مثل ما تقدم عن السلف رضي الله عنهم وهي العقيدة المشهورة بالطحاوية.(7) .
(12) وعن سفيان الثوري قال الذهبي ( وقد بث هذا الإمام الذي لا نظير له في عصره شيئاً كثيراً من أحاديث الصفات ومذهبه فيها الإقرار والإمرار والكف عن تأويلها)(1) . [[مختصر العلو 136]]
(13) وقال مالك (الله - عز وجل - في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء وتلا هذه الآية (وما يكون من نجوي ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ).(2) . [[السنة لعبد الله بن احمد 1/ 107 ]]
(14) وعن أحمد بن نصر أنه سأل سفيان بن عيينة فقال : حديث عبد الله (إن الله يجعل السماء على إصبع) وحديث (إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن ) ، ( وإن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق ) ، (وإنه عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة ) ونحو هذه الأحاديث فقال : هذه الأحاديث نرويها ونقر بها كما جاءت بلا كيف )(3) . [[ ذم التأويل لابن قدامة 20]](/8)
(15) وقال يزيد بن هارون (من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي ) قال الذهبي (والعامة ) مراده بهم جمهور الأمة وأهل العلم )(4) . [[ مختصر العلو 167 ]]
(16) وقال الوليد بن مسلم (سألت مالك بن أنس والثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات فقالوا أمروها كما جاءت )(5) . [[روه الدارقطني في الصفات 75، والآجري في الشريعة ص 314، والبيهقي في الأسماء والصفات 453، وابن قدامة في ذم التأويل 20 ]]
(17) وقال الفضيل بن عياض (ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف لأن الله وصف نفسه فأبلغ فقل { قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد } فلا صفة أبلغ مما وصف الله به نفسه ، وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة ، وهذا الاطلاع ، كما شاء أن ينزل وكما شاء أن يضحك فليس لنا أن نتوهم أن كيف وكيف ، وإذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل أنت أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء } (6) . [[رواه الاثرم في كتاب السنة نقلا عن درء تعارض النقل والعقل 2/23]]
(18) وأما الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فإن مذهبه في عدم تأويل الصفات وإجراؤها على ظاهرها متواتر عنه ولم يزل جمهور الحنبلية على هذا القول .
خلاصة ما تقدم :
ـــــــــــ
فهذه النصوص عمن هم من أعلم الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وهم كذلك أهل الفتيا والاجتهاد في عصور السلف وما بعده ، تنطق بوضوح متواطئة على أن مذهب السلف الذي لا إختلاف فيه ، هو إجراء نصوص الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه عن الخالق ، وأنهم فهموا من هذه النصوص التي لا يفرقون بين القرآنية والحديثية منها ، أنها تخبر عن صفات الله تعالى الذاتية ، والفعلية ، وهي معلومة المعنى عندهم ، ولولا هذا لما قال ابن عباس (الكرسي موضع القدمين) ولما قال (إن الله فوق النور الذي فوق السموات ) أخذا من أدلة العلو ، ولما قال ابن مسعود مثل هذا ، ولاصح أن يستثني ابن عمر من خلق الأشياء بكلمة كن ، أربعة أمور فحسب ، ويجعلها مما خلقه الله تعالى بيده ، ولا قال سعيد ين جبير (كتبها الرحمن بيده ) ، ومجاهد استوى بمعنى (علا على العرش) ، ولا قال من بعد هؤلاء ، بائن من خلقه ، مستو على عرشه ، يقرب من خلقه ، وما يشبه هذه الألفاظ .
ولو أنهم كانوا لم يفهموا من هذه النصوص شيئاً ، أو كانوا يؤولونها لما جاز هذا منهم ، ولصرحوا بذلك وعلمه من هم أعلم الناس ، بأقوالهم وهم الذين تقدم الاعتماد عليهم في النقل(1) .
وقد طبعت مؤلفات كثيرة ، ذكرت مذهب السلف كما ذكر هنا ، وسارت على طريقتهم في العقيدة وهي كثيرة ، كالتوحيد لان خزيمة ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ، والسنة لابن أبي عاصم ، والسنة لعبد الله بن أحمد ، والسنة لمحمد بن نصر المروزي ، العلو للذهبي ، والرد على الجهمية للدارمي ، والنقض على المريسي له أيضا ، والشريعة للاجري ، وعقيدة السلف للصابوني ، والرد على الجهمية لابن منده ، وكتاب النزول والصفات للدارقطني ، وغيرها أيضا .
الرد على من زعم أن السلف كانوا لا يعبرون عن معاني نصوص الصفات ، بغير تلاوتها المجردة ، لانهم لم يكونوا يفهمون منها شيئا :
ـــــــــــــــــــــــــ
وهذه الروايات الآنفة الذكر ، إنما قصد بها التمثيل فحسب ، لأن حصرها يتطلب جهداً كبيراً ويوسع البحث جداً ، مع أن هذا الأمر أوضح وأشهر من أن يتكلف له النقل ، لولا وجود من يدّعي خلافه ممن لم يمعن النظر في أقاويل الصحابة والتابعين في كتب التفسير والسنة.
ومن هؤلاء الزركشي رحمه الله كما تقدم عنه في آخر المبحث الأول ، أنه نسب إلى السلف مذهب أهل التأويل ، الذين يقولون ظاهر نصوص الصفات غير مراد، وحكى مذهب السلف ونسبه إلى المشبهة.
وليس الإمام الزركشي رحمه الله ممن قصر علمه في الحديث ، لكن يبدو أنه قلد غيره في هذا النقل ، فإن بعض العلماء المتقدمين ، والمتأخرين ، ادعوا أن مذهب السلف ، لا يختلف مع مذهب الخلف في أن الظاهر من النصوص المدعى أنها توهم التشبيه غير مراد ، وأنها لا تدل على صفات الله ، إلاّ أن السلف يفوضون معانيها المراده ، ويلتزمون السكوت عن ذلك وعدم الخوض فيه ، وزاد بعضهم أن من مذهبهم عدم تصريف هذه النصوص ، ولا تغيير ألفاظها ، ولا تقديم ، وتأخير ، شيء من ذلك(1) . [[ هو الإمام الغزالي في إلجام العوام ]] ص 70
وممن ادّعى ذلك أبو حامد الغزالي رحمه الله في إلجام العوام ،(2) المصدر السابق ص 66 ، والرازي في أساس التقديس(3) ، [[ ص 182[[
والبيجوري شارح جوهرة التوحيد قال ( ((أوفوض)) أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره فبعد هذا التأويل فوض المراد من المعنى الموهم إليه تعالى على طريقة السلف وهم من كانوا قبل الخمسمائة وقيل القرون الثلاثة ، الصحابة والتابعون واتباع التابعين وطريقة الخلف أعلم وأحكم).(4) . [[ 56ـ57]](/9)
ومن المتأخرين ، صاحب كتاب بعنوان : متشابه القرآن(1) ،[[ ص 115]] .
وقد ذكر في هذا الكتاب مما ينبغي التوجه بالرد عليه ، أن مما يتفرع على مذهب السلف هو عدم تغيير النص الوارد في هذا الباب ، يريد عدم روايته بالمعنى ، ومثل لذلك بأن يقال استوى على العرش ، ولا يقال فوق العرش (2).[[ 122ـ 123 ]]
وأعجب شيء زعم هؤلاء الذين يزعمون أن السلف لم يكونوا يغيرون النص الوارد في باب ذكر صفات الله تعالى ، لانهم كانوا يعاملونها معاملة نصوص بلا معنى.
يزعمون أن هذا هو مذهب السلف ، والكتب طافحة بالروايات التي يتصرفون فيها بألفاظهم ، لا سيما في مسألة العلو ، وأشهر كتاب في ذلك كتاب العلو للحافظ الناقد الذهبي وقد تقدم بعض الأمثلة منه ، ولو طولب صاحب كتاب متشابه القرآن ، بنص واحد عن أحد من السلف في النهي عن تغيير ألفاظ نصوص الصفات وأن لا يقال فوق العرش لما قدر عليه ، وغاية ما أمكنه أن يأتي به ليبرهن على صحة دعواه بعض الأقوال التي توهم ما أراد إيهامه ، من أن السلف كانوا لا يفقهون معنى هذه النصوص وهي في الحقيقة ، إذا فسرت بأقوال أخرى لهم ، تبين أنها دالة على ضد ما أراده وهذه الأقوال هي :
(1) قول سفيان بن عيينة (كل ما وصف الله به نفسه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه ) ، وقد رواه البيهقي في الأسماء والصفات(3) [[ 516]]
وليس فيه أن آيات صفات لا يعلم معناها بدليل قوله إنها مما وصف الله به نفسه ، فقد صرح أنها من صفات الله ، فمعنى قوله (تفسيره تلاوته أي : أن معناه واضح ، وقوله (والسكوت عليه) أي : لا يؤول ويصرف عن كونه صفة ، ولم يرد عنه أن هذه النصوص لا يعلم المراد منها ، ولا تغير ألفاظها ، بل قد ورد عنه ما ينقض هذه الدعوى فقد قال الذهبي في كتاب السير(4) [[ 8/466]] [[ قال الحافظ ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الفضل بن موسى(5) ( قال ابن أبي حاتم ( كتبت عنه وهو صدوق ) الجرح والتعديل 8/60 ، حدثنا محمد بن منصور الجواز(6( ثقة انظر التقريب 508) قال رأيت سفيان بن عيينة ، سأله رجل ما تقول في القرآن ، قال (كلام الله منه خرج وإليه يعود) ، وأين في القرآن لفظ (منه خرج) الذي يمنع منه أهل التأويل ، أما المعتزلة ، فأن القرآن مخلوق خلقه في غيره ، وأما غيرهم فقد صرح في شرح العقائد النسفية أن القرآن المؤلف من السور والآيات مخلوق لله وأن لله لا يسمع منه كلام(1)، ( ص 94ـ 95) ]].
فكأنما سفيان قد أراد بقوله إبطال القولين ، وهو دليل على أنه فهم من النصوص المخبرة عن كلام الله ، أن الله تكلم بالقرآن حقيقة ، خرج منه فسمعه جبريل وموسى وغيرهما من أصفيائه عليهم السلام .
(2) قول الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك والثوري والليث بن سعد (أمروها كما جاءت بلا كيف ) وقد تقدم(2) ، وليس في هذا ما ادعاه ، أما الاوزاعي فقد قال ((كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله على عرشه ونؤمن بما ورد في السنة من صفاته ))(3) وتقدم تخريجه .
وقد أنكر من يزعم أن مذهب السلف إمرار نصوص الصفات ، من غير تغير في ألفاظها ، التعبير عن معانيها بغير التركيب الوارد ، حتى أنكر بعضهم أن يقال فوق العرش ، فليت شعري ، كيف يفسر هؤلاء مقالة الاوزاعي هذه .
وأما مالك فقد تقدم قوله (الله عز وجل في السماء ، وعلمه في كل مكان)(4) ، وأما الثوري فقد تقدم قول الشافعي (القول في السنة التي أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل مالك وسفيان وغيرهما ، فذكر أن الله على عرشه في سمائه )(5) .
(3) قول مالك ( الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ) وقد رواه البيهقي في الأسماء والصفات(6) ص516، وقوله غير مجهول : أي معلوم كونه صفة لله ، يبين هذا ، الرواية التي جوّد إسنادها ابن حجر(7) ، [[فتح الباري ( 13/407) ]] ، وقد رواها البيهقي أيضاً(8) [[ص ( 515) ]] : قال مالك (الرحمن على العرش استوى كما وصف به نفسه ولا يقال كيف ) فذكر أن الاستواء صفة لله ، وترى الذين يزعمون أن مذهب السلف الجمود على ألفاظ نصوص الصفات من غير فهم لمعانيها ، يعرضون عن مثل هذه الرواية الصريحة ، ويوردون الروايات التي تخدم غرضهم فحسب .
(4) قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن (الكيف مجهول والاستواء غير معقول ) وهذا اللفظ رواه البيهقي في المصدر السابق من طريق عبد الله بن صالح(9) [[ ص ( 516) ]]، وقد روى هذا الخبر الذهبي في العلو(10) ( ص 98) من طريق سفيان الثوري بلفظ ( الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ) ، ورواه اللالكائي (11) من طريق سفيان بن عيينة بنفس لفظ الثوري [[3/39]] .
ومعلوم أن الثوري لو خالف - وحده - عبد الله بن صالح قدم عليه ، فكيف إذا وافقه ابن عيينة ، وهذا اللفظ ورد عن أم سلمة رضي الله عنها وقال الذهبي إنه ثابت عن ربيعة ومالك ولا يثبت عن أم سلمة(1) ،[[ العلو ص 65]](/10)
فهذه الرواية توضح المراد من قول الإمام مالك ، مع أنه يمكن التوفيق بينها وبين رواية ( الاستواء غير معقول ) ، بأن يقال معنى غير معقول ، أي غير معقول الكيفية ، وقوله الكيف مجهول يدل على إثبات صفة الاستواء إذ من لا يثبت الصفة لا يحتاج إلى أن يقول (الكيف مجهول) .
(5) قول الإمام أحمد (نؤمن ونصدق بها ولا كيف ولا معنى) ، عن حديث الرؤية والنزول ، وقصد الإمام نفي المعاني التي يذكرها أهل التأويل ، أي لا معنى غير ما يظهر منها كما قال ابن تيمية رحمه الله (لا كيف ولا معنى أي لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل)(3) [[ درء تعارض العقل والنقل 2/31]] ، وماذا عسى أن تفسر رؤية المؤمنين ربهم بغير أن يقال يرى المؤمنون فذلك قال ( لا معنى ) أي لا معنى غير هذا.
ولا يزال العجب يتزايد ممن لا يعلم أن الإمام أحمد قد تكلم في معاني نصوص الصفات مع كثرة ذلك عنه ، ومما ورد عنه في ذلك ، قال الخلال ( وأنبأنا أبو بكر المروذي سمعت أبا عبد الله وقيل له إن عبد الوهاب قد تكلم وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام فتبسم أبو عبد الله وقال ما أحسن ما قال عافاه الله)(2) [[ المصدر السابق ]] .
ومن ذلك أيضاً مما يفسر معنى قوله (نرويها كما جاءت ) ما رواه الخلال أيضاً : (قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت ، قال أبي : بلى تكلم تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت )(3) [[المصدر السابق ( 2/39) ]] .
ومما يبين أنهم يريدون بقولهم لا نفسرها أي ، لا نتكلم في الكيفية ، أو لا نفسرها بما يخرجها عن كونها صفة الله ما رواه الذهبي بإسناده عن أبي عبيد القاسم بن سلام الإمام المشهور ، أنه ذكر الباب الذي يروي فيه الرؤية ، والكرسي موضع القدمين ، وضحك ربنا ، وأين كان ربنا ، فقال (هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء ن بعضهم عن بعض وهي عندنا حق لا نشك فيه ، ولكن إذا قيل كيف يضحك ؟ وكيف وضع قدمه قلنا لا نفسر هذا ولا سمعنا أحداً يفسره)(1) .[[ سير أعلام النبلاء 10/505 ، ورواه الدارقطني في الصفات 68 ]]
وقال الأثرم (قلت لأبي عبد الله حدث محدث وأنا عنده بحديث (يضع الرحمن فيها قدمه) وعنده غلام فأقبل على الغلام فقال : إن لهذا تفسيراً ، فقال أبو عبد الله (انظر إليه كما تقول الجهمية سواء)(2) .[[ مختصر العلو 191]]
فهذا مع ما تقدم يدل على أن معنى قولهم أمروها كما جاءت ، كما قال ابن تيمية (فقولهم أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معان فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد )(3) .[[ مجموع الفتاوى 5/42]]
وأن معنى قولهم بلا تفسير ولا معنى كما قال ابن تيمية ( أي لا نكيفيها ولا نحرفها بتأويل)(4) .[[ درء التعارض 2/31]]
فما يدعيه الذين يزعمون أن القول بأن الله فوق عرشه تحكم وقول أقرب إلى التجسيم(5) ، قد يفسر بأنهم يتكلمون على وفق مذهبهم في هذا الباب ، أما أن يدعي مدع أن هذا موافق لمذهب السلف ، ويزيد على ذلك أن من مذهبهم عدم إطلاق مثل هذه العبارات ، ولا تغيير ألفاظ النصوص لأنهم يفوضون معانيها ، فهذا قول موغل في الخطأ ، كما دل على ذلك النقول الكثيرة المتقدمة ، لا سيما في باب العلو وقد وجد ذلك أيضاً في أشهر كتب السنة ، فقد روى البخاري عن زينب رضي الله عنها قالت (زوجني الله من فوق سبع سماوات)(6) .[[ فتح الباري 13/4040]]
هذا وقد أوقع هؤلاء الذين غلوا على السلف هذا الغلط ، أمران :
***الأول : اعتمادهم على من يتعمد ترك الروايات الكثيرة الدالة على حقيقة مذهب السلف مع علمه بها ، ويظهر الروايات المحتملة ليثبت بذلك أن مذهب السلف هو اعتقاد عدم إرادة الظاهر ، ثم السكوت عن الخوض في المراد إيثاراً للسلامة ، ليبني على ذلك أن سكوتهم ليس دليلاً على التحريم ، وبهذا يوهم عدم الخلاف بين الخلف والسلف ، ومن هؤلاء الكوثري كما دل على ذلك تعليقه على ( تعيين كذب المفتري )[[ حاشية ص 28]] ومقدمته لكتاب الأسماء والصفات للبيهقي ، وتعليقه على النظامية [[ ص 33ـ 34]] وقد أطنب الشيخ المعلمى في بيان تلبيسه في سبيل أن ينصر مذهبه(3) [[ في كتابه التنكيل لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل ، كما بين ذلك أيضا فضيلة الشيخ الدكتور علي بن ناصر الفقيهي في تعليقه على رسالة الذب عن أبي الحسن الاشعري لابن درباس ص 119 ـ 128 ، ومعه الدكتور احمد عطية الغامدي في مقدمتهما لكتاب الصواعق المرسلة لابن القيم 21ـ 28 ]]
***والثاني : اعتماده على من ليس له حظ عظيم في العلم بالأخبار السلفية كالغزالي والرازي رحمهما الله .
@@@@@@@@@@@@@@
أسباب الخطأ في نقل مذهب السلف :
=====================(/11)
والعجيب من الإمام الزركشي رحمه الله أنه نقل القول بالتأويل عن علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة ، فإن كان يعني التأويل المصطلح عليه - وهو الذي يعنيه - فهو نقل بعيد عن الصواب ، وقد تسامح بعض المفسرين في نقل مثل هذا عن السلف فمن ذلك ما ذكره أبو حيان رحمه الله قال (وقيل عن ابن عباس يداه نعمتاه ) ثم قال ( وقال قوم منهم الشعبي وابن المسيب والثوري نؤمن بها ونقر كما نصت ، ثم أن هذا من قول من لم يمعن النظر في لسان العرب)(4) [[ البحر المحيط 3/524]] ، ومن ذلك أيضاً ما نسبه في الفرق بين الفرق إلى علي بن أبي طالب أنه قال : ( إن الله تعالى خلق العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته)(5)، [[ 333]] وما نسبه صاحب كتاب التبصير في الدين إليه أنه سئل أين الله ؟ فقال ( إن الذي أين الأيّن لا يقال له أين)(6) [[ التبصير في الدين للاسفرائيني 144]]، وقال المؤلف إن هذا أشفى البيان ، كذا قال : مع أن علياً رضي الله عنه يجل عن مثل هذا الكلام ، فإنه من أفسد القياس مع مخالفته الصريحة للكتاب والسنة .
وأعجب من هذا كله أن الأخير ، ذكر ما خاض فيه المتكلمون من مسائل الكلام مثل أن الله تعالى ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، وليس له حد ن ولا نهاية ، ولا مجيء ، ولا ذهاب ، ولا ، ولا ، إلى آخر هذه السلوب ، وأن الله لا تحل فيه الحوادث ولا يقال له أين ، وكلامه واحد ، أمر ، ونهي ، وخبر ، واستخبار ، وأن الاستواء هو القصد ، وما يشبه هذا ، ثم نسب هذا كله وأمثاله ، إلى جميع أهل السنة والجماعة ، وذكر الأئمة الأربعة ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ن والسفيانين ، وأصحاب الحديث ، والرأي ، بل والصحابة والتابعين(1) [[ التبصير في الدين 164]]، فإن كان لا يدري أن السلف أجمعوا على النهي عن الخوض في مثل هذا ، وعلى إثبات الصفات المذكورة في الكتاب والسنة ، ثم يحكي الإجماع على خلاف الإجماع ، فيا خيْبة المسعى ، وإن كان يدري ، فأمر وأدهى .
ومثل حكاية الإجماع هذه ، ما حكاه بعض المتكلمين من اتفاق المسلمين على أن الأجسام تتناهى في تجزئتها ، وانقسامها ، حتى تصير أفرادا ، وهو الجوهر الفرد(2) [[ حكاه ابن تيميه عن أبي المعالي المجموع 17/126]] ، وكيف يتصور أن يتفق المسلون على مسألة الجوهر الفرد ، التي لم تخطر على بال أحد من الأنام ، حتى تكلم فيها إلاّ أهل الكلام .
وإن كان الخطأ قد وقع في مثل نقل الإجماع على ما هو خلاف الإجماع ، فوقوعه في نسبة بعض الأقوال إلى قائليها أقرب ، وسبب ذلك يرجع إلى ثلاثة أمور :
الأول :
ــــ
الخطأ في فهم مراد القائل ، وذلك إنما يرجع إلى عدم الإحاطة بجميع أقواله ، ليمكن بذلك فهم مراده ، وتقييد ما أطلقه ، وتفسير ما أبهمه .
ومن أمثلة ذلك ما ورد في بعض ما نقل عن السلف من قولهم ، أمروها كما جاءت بلا تفسير ، وقولهم قراءتها تفسيرها ، فظن من ظن أنهم يريدون الجهل بمعنى الخطاب ، وأنها لا تدل على شيء ، وليس الأمر كذلك ، بل أرادوا بلا تفسير غير ما يفهم منها ، أو بلا تفسير لكيفياتها ويدل على هذا :
(1) ما جاء في بعض الروايات فمن ذلك : قال الأثرم : ( قلت لأبي عبد الله : حدث محدث وأنا عنده بحديث (يضع الرحمن فيها قدمه ) وعنده غلام ، فأقبل على الغلام فقال إن لهذا تفسيرا ، فقال أبو عبد الله : أنظر إليه كما تقول الجهمية سواء).(3) [[ مختصر العلو 190]] ومن ذلك أيضاً: قال محمد بن إبراهيم الأصفهاني سمعت أبا زرعة الرازي وسئل عن تفسير (الرحمن على العرش استوى ) فغضب ، وقال تفسيرها كما تقرأ هو على عرشه وعلمه في كل مكان)(1) [[ المصدر السابق 203]] فهذا يبين ما يقصدون بقولهم بلا تفسير ، أو تفسيرها قراءتها .
(2) وأن في بعض الروايات جاءت كلمة (الكيف) مكان كلمة (التفسير) فمن ذلك : قال الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي ومالك والثوري والليث عن الأحاديث التي فيها الصفات فكلهم قالوا أمروها كما جاءت بلا تفسير وفي رواية بلا كيف(2) .[[ المصدر السابق 142ـ 143]]
(3) وأنهم يحتجون بها على إثبات الصفة ، كاحتجاجهم بقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى ) على أنه فوق العرش ، وذلك أدل شيء على أنهم فهموا من ذلك معنى العلو.
(4) وأنهم يذكرون ألفاظاً من عند أنفسهم تدل على ما دلت عليه الآية ، من أنها صفات لله تعالى كقوله ، له وجه ، وله يد ، وبائن من خلقه ، وما يشبه هذا، فهذا يدل على أنهم فهموا أنها دلت على صفات لله تعالى ، كما يفعل أصحاب الكتب المصنفة في الصفات فيقولون باب صفة الوجه ، باب صفة الاستواء ، وهذا مشهور جداً .(/12)
وفي هذا دلالة على أن عدم جمع الروايات ، هو السبب في نسبة القول بأن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه المخالف للظاهر ، نسبته إلى السلف(3) .[[ أي الخطأ في فهم عباراتهم ، بسبب عدم ضمها إلى سائرها ، هو السبب في نسبة هذا القول إليهم ، من بعض الأئمة ، ومن أمثلة هذا قول الإمام الطبري ( لان له المشارق والمغارب وأنه لا يخلو منه مكان ) التفسير 2/528، ويعني بذلك لا يخلو من علمه ، ويدل على أن هذا مراده ، قوله في نفس الكتاب ( وعنى بقوله ( هو رابعهم ) بمعنى أنه مشاهدهم بعلمه ، وهو على عرشه ) 28/12]]
وأما نسبة التأويل إليهم مما يرجع إلى هذا الأمر الأول فله مثالان :
الأول : ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {يوم يكشف عن ساق} أن المراد به الشدة ، أي أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة ، وقال أيضاً (عن أمر عظيم)(4) [[ رواه الطبري في التفسير 29/38]]، وليس هذا من باب التأويل - بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه - فإن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات ، (فانه قال - تعالى - ((يوم يكشف عن ساق )) ، وهي نكرة في سياق الإثبات لم يضفها إلى الله ، ولم يقل ساقه فمع عدم التعريف والإضافة ، لا يظهر أنه من الصفات إلاّ بدليل آخر ، ومثل هذا ليس بتأويل ، وإنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ، ومفهومها ، ومعناها المعروف)(1) . [[ الفقرة بين القوسين من كلام شيخ الإسلام المجموع 6/394]]
الثاني : قوله تعالى (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) البقرة (115) فقد جاء عن مجاهد أنه قال (قبله الله)(2) [[ تفسير الطبري 2/536، ، والأسماء والصفات للبيهقي ص 391، ونقل عن الشافعي أنه قال ( يعني والله اعلم فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه ]] ، فظن بعض الناس أنه من باب التأويل وليس كذلك أيضاً فإن الوجه هو الجهة ، يقال قصدت هذا الوجه وسافرت إلى هذا الوجه كما في قوله تعالى { ولكل وجهة هو موليها} البقرة (148) ، والجهة هي القبلة ولذلك قال فأينما تولوا ، أي تستقبلوا فقول مجاهد فثم قبلة الله هو باعتبار أن الوجه والجهة واحد ، فهو تفسير في هذا الموضع لهذه الكلمة بحسب اللغة ، وما دل عليه السياق ولو أنه قال وجه الله المراد ذاته ، وليس لله صفة هي الوجه لصح بذلك العقل عنه أنه يقول بجواز التأويل الاصطلاحي(3) [[ انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 6/16، 2/428، 3/139]].
الأمر الثاني : مما يسبب الخطأ في النقل
ــــــــــــــــــــــ
هو قلة العلم بالأخبار ، والآثار المنقولة ، عن الصحابة ، والتابعين ، وأئمة السلف ، قال ابن تيمية رحمه الله (وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتهم ، وسلوك سبيلهم ، ولا لهم خبرة بأقوالهم، وأفعالهم ، بل في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به ، لا يعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك ، من أهل الكلام ، والرأي والزهد ، والتصوف ، فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين ، إنما هو عما يظنونه من الإجماع ، وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف البتة ، أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرها)(4) .[[ المصدر السابق 13/25]]
وقد تقدم ما يبين صحة هذا الذي حكاه هذا الإمام ، ومما يزيد تأكيد هذا الأمر عدم معرفة بعض المتكلمين في مسائل الصفات والعقائد لأحاديث الصحيحين المشهورة ، قال ابن حجر رحمه الله (واستشكل فهم التخيير من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه ، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه)(1) [[ ثم قال ابن حجر : قال ابن المنير مفهوم الآية زلت فيه الأقدام ، حتى أنكر القاضي أبو بكر الباقلاني صحة الحديث ... ولفظ القاضي أبي بكر في التقريب ( هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها ) ، وقال إمام الحرمين في مختصره ، (هذا الحديث غير مخرج في الصحيح) وقال في البرهان ( لا يصححه أهل الحديث ) ، وقال الغزالي في المستصفى ( الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح ) وقال الداودي الشارح ( هذا الحديث غير محفوظ ) فتح الباري 8/338]]
ذكر ابن حجر هذا في شرح حديث ابن عمر الذي رواه الشيخان ، وغيرهما ، قال (لما توفي عبد الله بن أبيّ جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ..مذكر أن عمر قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما أراد أن يصلي على بن أبيّ أتصلي عليه وهو منافق فقال إنما خيرني الله فقال (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم .. الآية فقال سأزيده على السبعين ...الحديث )(2) . [[ فتح الباري 8/337]](/13)
ومعلوم أن من كان لا يعرف مثل هذه الأحاديث فبضاعته مزجاة في ما هو دون ذلك من أقوال الصحابة والتابعين المنثورة في كتب التفسير وأجزاء الحديث ، فلا يستغرب إذن أن يخطأ مثل هؤلاء في نقل مذهب السلف ، وإن كان في أهم مسائل الدين ، بينما يصيب من يقول ( وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة ، وما رووه من الحديث ، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى ، من الكتب الكبار، والصغار أكثر من مائة تفسير ، فلم أجد - إلى ساعتي هذه - عن أحد من الصحابة ، أنه تأول شيئاً من آيات الصفات ، أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف ، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته ، وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلاّ الله ، وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير)(3) وهو ابن تيمية رحمه الله [[ مجموع الفتاوى 6/394]] .ويقول (والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل لا نصّاً ولا ظاهراً على نفي الصفات الخبرية ...)(4) المصدر السابق [[ 5/109]].
وهاتان عبارتا شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهما تدلان على أن ذكره لمذهب السلف يقوم على استقراء تام ، ولذلك تحدى من يأتي بخلاف ما ذكر ، وأمهل المخالفين ثلاث سنين ، ففتشوا الكتب فظفروا بما تقدم من آية القبلة فحسب ، وهي غير دالة على ما قصدوه.(5) . [[ المصدر السابق 6/15]]
الأمر الثالث:
ــــــ
الاعتماد على طريق ضعيف ، إما من جهة ضعف بعض الرواة أو من جهة خطأ الثقة فيما روى ، ومن أمثلة هذا الأخير :
قال ابن الجوزي (قوله تعالى (( إلاّ أن يأتيهم الله ))، كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا ، وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال ( المراد قدرته وأمره ) وقد بينه في قوله تعالى {أو يأتي أمر ربك} ) [[ زاد المسير 1/225]]
ولم يزد ابن الجوزي على هذا ، وهذا الذي ذكره القاضي ، قد رواه حنبل ابن عم الإمام في ذكر محنة أحمد المشهورة ، أنه لما احتج عليه المعتزلة بحديث (اقرؤوا البقرة ، وآل عمران ، فانهما يجيئان يوم القيام كأنهما غمامتان ، تحاجان عن صاحبهما ) في خلق القرآن ، وزعموا أنه لا يوصف بالمجئ والإتيان إلاّ المخلوق ، عارضهم بقوله تعالى (هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ) قال : إنما يأتي أمره ، يريد أن الذي يأتي ثواب القرآن ، قال ابن تيمية ( ولم ينقل هذا غيره ممن نقل مناظرة أحمد في ذلك ، فمنهم من قال ، لم يقل أحمد هذا ، وقالوا حنبل له غلطات معروفة وهذا منها )(2) .[[ أنظر مجموع الفتاوى 5/399، وحنبل موثق أنظر المنهج الاحمد في تراجم أصحاب احمد للعليمي 1/345]]
وقال الذهبي عن حنبل : له مسائل كثيرة عن أحمد ويتفرد ويغرب [[ السير 13/52]] ، وقال أبو بكر الخلال ، قد جاء حنبل عن أحمد بمسائل أجاد فيها الرواية ، وأغرب في شيء يسير)(4). [[ المنهج الاحمد 1/245]]
وذكر ابن تيمية بعد ذلك ، أن من الحنابلة من قال : إنما قال أحمد ذلك إلزاما لهم ، أي كما أنكم تقولون يجيء أمره ، فكذلك قولوا في القرآن ، يجيء ثوابه ، ولا تقولوا مخلوق ، ومنهم من جعل هذا رواية عن أحمد ، وأن ابن الجوزي لما كان يميل إلى التأويل جعل هذا عمدته(5). [[ مجموع الفتاوى 5/400، والحديث السابق ، رواه مسلم بنحوه 1/ 553، وقال ابن تيمية ( وأمد وغيره من أهل السنة ، فسروا الحديث بأن المراد ، يجيء ثواب البقرة وآل عمران كما ذكر مثل ذلك عن مجيء الأعمال في القبر ، وفي القيامة والمراد منه ثواب الأعمال .. ثم قال فلما أمر بقراءتهما ، وذكر مجيئهما يحاجان عن القارئ ، علم أنه أراد قراءة القارئ لهما ، وهو عمله ، وأخبر بمجيء عمله الذي هو التلاوة في الصورة التي ذكرها ، كما أخبر بمجيء غير ذلك من الأعمال 5/399]]
ومن المعلوم أن الثقة قد يخطأ ، وأن هذا يعرف باعتبار قوله مع غيره ، فإن نقل الأكثر أو الأوثق ما يدل على أنه أخطأ، طرح خطؤه، وإذا كان هذا مما يعرف به خطأ الثقات ، في نقل الأحاديث النبوية فيحكم عليها بالشذوذ ، فكيف في نقل المذاهب.
ورواية حنبل هذه خالف فيها ما رواه بنفسه عن أحمد، مثل ما ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله مما رواه حنبل عن أحمد، فذكر كلاما كثيرا في اعتقاده في الصفات وفيه (ونؤمن بالقرآن محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول، وخلوه بعبده ووضعه كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله يرى في الآخرة … )( ) [[ درء تعارض العقل والنقل 2/30]]
أما ما رواه غيره فكثير ، كما قال ابن تيمية رحمه الله (ولا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية، ويبين أنه لا يقول إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره بل هو ينكر على من يقول ذلك).( ) [[ مجموع الفتاوى 5/401]](/14)
وبهذا المثال يحصل التنبيه على النوع الأول، فإن الذي يخطأ في الاعتماد على نقل الثقة إذا لم يعتبره بغيره، فخطؤه في الاعتماد على رواية الضعيف أولى.
وبهذه الأمور الثلاث حصل الخطأ في حكاية مذهب السلف في هذا الباب في كتب أصول الدين ، والتفسير ، وعلوم القرآن ، وهو منحصر في ثلاث جهات:
الأولى: نسبة القول بأن ظاهر آيات الصفات ليس هو المراد منها وأن المراد هو تأويلها الذي لا يعلمه إلا الله.
الثانية : نسبة القول بأن ظاهر آيات الصفات غير مراد منها والمراد هو تأويلها الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.
الثالثة : نسبة القول بأنهم لا يزيدون على تلاوة الآيات ولا يفهمون منها شيئاً.
وفيما تقدم من الروايات عنهم ما ينطق بخطأ هذا كله، وفي هذا كفاية في بيان مذهب السلف قاطبة في آيات الصفات عامة.
ــــــــــــــــــــ
@@@@@@@@@@@@@@@@
تنبيهات مهمة جدا :
===========
غير أنه ينبغي التنبيه على ثلاثة أمور تفصل ما أجمل من العبارات الحاكية لمذهب السلف وتزيل بعض الإشكال على من لم يمعن النظر في مقالاتهم:
أما الأمر الأول:
ـــــــــ
فهو معنى قولهم إن الصفات تجرى على الظاهر .
ذلك أن الظاهر صار مشتركا هنا بين شيئين:
أحدهما: أن يقال إن ظاهر هذه الصفات هو مماثلة صفات المخلوقين، فاليد جارحة مثل جوارح العباد، وظاهر الغضب غليان القلب لطلب الانتقام ، وظاهر كونه في السماء أن يكون مثل الماء في الظرف.
والثاني : أن يقال إن الظاهر من هذه الصفات ، هو أنها صفات لله كما يليق بجلاله( )، [[ ينظر مجموع الفتاوى 6/356ـ 357]] ، والأول هو قول المشبهة، والثاني هو قول السلف ، ولذلك يقولون استوى كيف شاء ، وينزل كيف يشاء ، وله يد ، ونجهل الكيفية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (فإن ظاهر الكلام هو ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة، ثم قد يكون ظهوره بمجرد الوضع ، وقد يكون بسياق الكلام، وليست هذه المعاني المحدثة المستحيلة على الله تعالى ، هي السابقة إلى عقل المؤمنين، بل اليد عندهم كالعلم ، والقدرة ، والذات ، فكما أن علمنا وقدرتنا، وحياتنا وكلامنا، ونحوها من الصفات أعراضا تدل على حدوثنا ، يمتنع أن يوصف الله سبحانه بمثلها، فكذلك أيدينا ، ووجوهنا ، ونحوها أجساما كذلك محدثة، يمتنع أن يوصف الله بمثلها، ثم لم يقل أحد من أهل السنة ، إذا قلنا لله علما ، وقدرة ، وسمعاً ، وبصراً ، أن ظاهره غير مراد، إذ لا فرق بين ما هو من صفاتنا جسم أو عرض للجسم)( ) .
[[ المصدر السابق 6/347، وينظر كذلك أضواء البيان للشنقيطي 2/286]]
وقوله (لم يقل أحد من أهل السنة … إلخ ) معناه: إن أكثر الذين يقولون بالتأويل ـ وهؤلاء الأكثر هم المثبتون لبعض الصفات ـ يقولون إن ظاهر السمع والبصر والحياة، والإرادة وغيرها مما يثبتون ـ ليس هو المماثلة لصفات المخلوقين .
بل أن من يثبت بعض الصفات الخبرية كاليد والوجه ، ممن يقول بالتأويل في غيرها لا ،يجعل ظاهر ما يثبته هو المفهوم من صفات المخلوقين.
كما قال الايجي في المواقف: (الخامسة: اليد، قال تعالى يد الله فوق أيديهم) الفتح(10) ، "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" ص(75)، فأثبت الشيخ صفتين ثبوتيتين زائدتين، وعليه السلف، وإليه ميل القاضي في بعض كتبه … )( ). [[ المواقف في علم الكلام للعضد الايجي ص 298]] .
والشيخ هو أبو الحسن الأشعري، والقاضي هو أفضل المتكلمين من أصحاب الأشعري (أبو بكر الباقلاني)( )، [[ أنظر مجموع الفتاوى 5/98]] .
وقد قال في التمهيد (باب : في أن لله وجها ويدين، فإن قال قائل: فما الحجة في أن لله عز وجل وجها ويدين، قيل له : قوله تعالى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وقوله (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)، فأثبت لنفسه وجها ويدين ..).
ثم لما أبطل تأويلهما قال (فإن قال قائل فما أنكرتم أن يكون وجهه جارحة ، إذ لم تعقلوا يد صفة ووجه صفة لا جارحة؟ يقال له: لا يجب ذلك، كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما ، أن نقضي نحن وأنتم على الله تعالى بذلك .. )( ). [[ تمهيد الأوائل ،وتلخيص الدلائل للباقلاني ص 295ـ 298]]
والمقصود أن كما أن ظاهر هذه الصفات ، لا يماثل ما للمخلوقين عند من يثبتها ، فكذلك ينبغي أن يكون في سائرها .
وهذا لازم للمعتزلة أيضا لأنهم يثبتون الأسماء لله فيقولون حي عليم قدير ، ويؤولون الصفات ، فلابد لهم من القول بأن الظاهر من هذه الأسماء ، ليس مماثلة المخلوق في أسمائه إذ هي الأسماء الحسنى.
فهذا هو معنى قولهم ـ تجرى على ظاهرها ـ وهو الظاهر الذي يتبادر إلى العقل السليم ، الذي استقر فيه أن الذات الإلهية ، لا تماثل ذوات المخلوقين ، فعلم أن الصفات المتعلقة بها كذلك لا تماثل صفات المخلوقين ، إذ هي فرع عليها فكما أن إثبات الذات إثبات وجود لا كيفية فكذلك إثبات صفاتها.( ) [[ ذكر أن الصفات فرع عن الذات ، مستفاد من كلام ابن تيمية المجموع 3/25، 3/ 47 ]](/15)
والمعنى الأول ، أي قول القائلين : (إن ظاهر هذه الصفات هو مماثلة صفات المخلوقين ) ، قد يريده من يقول (يجب إثبات الصفات مع أن الظاهر غير مراد) فإن قصده بهذه الإطلاق فهو مصيب، وإن نقل ذلك عن السلف ـ بهذا المعنى ـ فهو مصيب أيضاً ، إلا أنه قد أخطأ من جهة إطلاقه ما يوهم الغلط عليهم فليتجنب( ). [[ المصدر السابق 3/66ـ 68]]
كما يجب أيضا تجنب الاحتجاج بقوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله) على أنه يجب امرار الصفات على ظاهرها وبطلان التأويل ، لأنه الآية ليست من هذا التأويل الاصطلاحي في شيء .
فمن احتج بها على بطلان التأويل الاصطلاحي ، مع قوله بوجوب إمرار الصفات على ظاهرها ، وقع في التناقض، لأنه يبطل التأويل والآية تثبته معلوما لله ، بل الواجب القول : إنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره، أي عدم صرفه عما يدل عليه ، وهو دلالته على الصفات لله تعالى المنزهة عن صفات المخلوقين ، مع أن حقيقة الصفات لا يعلمها إلا الله ، وحينئذ يكون الاحتجاج بالآية على جهل الحقيقة، أي حقيقة الصفات ، وأن الله تعالى وحده حقيقتها ، فيكون احتجاجا صحيحا .
ومثل هذا ، من يحتج بالآية على أننا خوطبنا بما لا يفهمه أحد ، مع قوله الظاهر غير مراد ، وهذا مع أنه خطأ ، فإن الإحتجاج بالآية ، في آيات الصفات ، يوقع في التناقض ، لأنا إذا لم نفهم شيئا من آيات الصفات ، كيف لنا نعرف ، أن لها تأويلا يخالف الظاهر ولا يوافقه ، فإن الظاهر ، وغير الظاهر ، لا يعلم إلا بمعرفة معنى اللفظ ، أو معانيه( ). [[ مجموع الفتاوى 3/66ـ 68]]
وبهذه الجملة يتضح الفرق بين المذهبين إن شاء الله تعالى.
الأمر الثاني :
ـــــــــ
وهو أن التأويل المذموم عند السلف ، هو أن تصرف دلالة اللفظ الظاهر على الصفات ، إلى معنى آخر يلزم منه نفي هذه الصفة لمجرد دعوى المشابهة للمخلوقات ، ومخالفة العقل، هذا إذا كان اللفظ يدل على إثبات صفة لله كقوله تعالى (استوى على العرش)، (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)، (لما خلقت بيدي).
وليس التأويل المذموم ، هو أن يفسر أحد النصين ، بظاهر الآخر، بما يدل على خلاف ظاهر النص المفسَّر ، فإن هذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، وتفصيل الأدلة السمعية لبعضها ، وتفسير القرآن بالقرآن محمود، وأما المذموم تفسيره بالرأي المجرد عن البرهان من السنة أو القرآن .
ومن هذا القبيل قوله تعالى (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) بأنه قريب بعلمه ، لأن أدلة القرآن على أن الله على عرشه ، وفوق كل شيء ، كثيرة جداً ، ومتنوعة ، وهي من أحكم أنواع الأدلة فيه ، هذا إن سلِّم أن الظاهر من هذا النص قربه بنفسه ـ سبحانه ـ وسيأتي تفصيل هذا.
ولكن هذا النوع نادر جداً ـ وهو أن يراد بالنص خلاف ظاهره ـ لاسيما في باب الصفات ، وهو مع ذلك وجوده في الحديث أوضح ، أما القرآن فلا يكاد يوجد ، فإنه عند التحقيق يتبين أن أكثر ما أدعى فيه ، أن النص مصروف عن ظاهرة بنص آخر ، منتقض بأن الظاهر ليس هو المُدَّعي ، بل هو ما دل عليه سياق الآية نفسها ، ومعناه اللغوي الصحيح ، وبذلك لا يحتاج إلى التأويل، بمعنى تفسير النص بخلاف ظاهره ، لدلالة نص آخر على ذلك .
وربما ظن من لم يتحقق مذهب السلف في هذا الباب ، أن السلف يجرون اللفظ على المعنى الفاسد الذي ادعى ظهوره ، فأداه هذا إلى القول بوجوب التأويل، كما زعم من زعم ، أن من قول السلف ، أن الله أقرب بذاته إلى الإنسان من حبل وريده ، وإليه من الحاضرين عند وفاته ، لأنه جعل ظاهر قوله تعالى (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون)، هو أن الله أقرب إليه( ). [[ تفسير المنار 2/168، حكاه عن بعضهم]]
ولئلا يظن مثل هذا ، فإنه ينبغي التنبيه على أسباب الخطأ في الاستدلال بالنصوص على الصفات ، وجعل ما لا يدل عليه اللفظ ، أو ما يدل عليه ظاهراً من المعاني الفاسدة هو الظاهر، ويستفاد من هذا أيضا ، معرفة أن ما يحتاج فيه إلى صرف المعنى الظاهر في هذا الباب في القرآن قليل ، مع وجوب القول بأن صرفه عن ظاهره لا يكون إلا بالأدلة السمعية( ). [[ مصداقا لقوله تعالى ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون ) الأعراف 52، وأما القائلون بالتأويل فإن أكثر آيات الصفات التي هي أعظم ما دل عليه القرآن على خلاف الظاهر عندهم وسيأتي تفصيل ذلك كله ]]
@@@@@@@@@@@@@
ذكر أسباب الخطأ في الاستدلال بالنصوص على صفات الله تعالى :
======================================
فمن هذه الأسباب:
ـــــــــ
السبب الأول :
ــــــــ
أن يجعل ما يضاف إليه ـ سبحانه ـ من صفاته ، ولا يكون كذلك إذ لا يلزم من إضافة الشيء إلى الله أن يكون من صفاته .
ومن أمثلة هذا ما ذكره الرازي، قال: "المسألة الثانية : القائلون بإثبات الأعضاء لله تعالى استدلوا على إثبات الجنب بهذه الآية .(/16)
وأعلم أن دلائلنا على يفي الأعضاء قد كثرت، فلا فائدة في الإعادة ، ونقول بتقدير أن يكون المراد من هذا الجنب عضوا مخصوصا لله تعالى فإنه يمتنع وقوع التفريط فيه فثبت أنه لابد من المصير إلى التأويل..) .
فقد ذكر هذا المفسر المشهور أن الجنب في قوله تعالى (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) الزمر(56)، ظاهره العضو( ) .[[ تفسير الرازي 27/6]]
ومعنى الجنب في اللغة لا يستلزم هذا ، ولا سياق الآية يدل على أن هذا هو المعنى الظاهر، كما قال في الصحاح "الجنب الفناء وما قرب من محلة القوم" ( )، [[ الصحاح للجوهري 1/101ـ102]] ، وقال ابن فارس "الجيم والنون والباء أصلان متقاربان أحدهما الناحية والآخر البعد"( ) . [[ معجم مقاييس اللغة 1/483]]
وقال الفراء: "الجنب القرب أي ما فرطت في قرب الله وجواره"( ) ، [[ لسان العرب 1/275]] ، ولهذا قال بعض السلف (في أمر الله)( ) ، [[ رواه الطبري عن مجاهد والسدي 24/9]] لأنه أمر بالتقرب إليه، والمحافظة على حدوده التي هي حماه وجواره ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (أل إن حمى الله محارمه)( ) .[[ رواه البخاري كتاب الإيمان ، فضل من استبرأ لدينه ، فتح الباري 1/136]]
وهي الطريق الموصل إليه كما قال الزجاج "في طريق الله الذي دعاني إليه" ( )، [[ لسان العرب 1/275]] وهذه العبارات كلها دالة على معانٍ متقاربة، وإذا كان الجنب يطلق على الناحية في أصل اللغة ، فكيف يجعل إذا أضيف إلى الله في سياق نص ، كيف يجعل صفة من صفاته ، بله أن يقال إنه دل على العضو في الظاهر.
والله عز وجل قد حكى في هذه الآية ما يقوله الساخرون المستكبرون ، يوم لا ينفع الندم ، قال (أن تقول نفس يا حصرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) الزمر(56-59) .
وعامة هذه النفوس الموصوفة بما ذكر في الآيات ، لا تعلم أن لله جنبا بالمعنى الذي توهم من توهم أنه ظاهر اللفظ ، كما لا يتبادر إلى سامع هذه الآيات معنى سوى أنهم فرطوا في أوامر الله ، وقربه ، وطلب جواره ، وما يقارب هذا مما دلت عليه اللغة .
فكيف يجعل ـ مع هذا ـ ظاهر اللفظ عضواً يشابه أعضاء الإنسان، هذا مع أن الإمام الدارمي في رده على المريسي قال (وادعى المعارض زورا على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) أنهم يعنون به الجنب الذي هو العضو وليس ذلك على ما يتوهمونه .
فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك وأخفه على لسانك، فإن كنت صادقا في دعواك فأشر بها على أحد من بني آدم قاله)( ) .[[ ص 184]]
وقال ابن القيم (ومن المعلوم أن هذه لا يثبته أحد من بني آدم)( ) . [[ كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 1/247]]
فإن صح هذا ، أي أنه لم ينقل عن أحد إثبات الجنب بمعنى العضو على الله تعالى ، فإن ما ذكره الرازي قد يكون على طريقة لازم المذهب ، وذلك أن القائلين بإثبات الوجه واليدين ، يلزمهم عنده أنها أعضاء ، ويلزمهم كذلك إثبات كل ما جاء على هذا النحو (كالجنب) وأنه عضو، وهذا يقع فيه كثير ممن يحكي المذاهب فينسبون إليهم أقوالا يظنون أنها تلزمهم وهي ليست بلازمة عند التحقيق.
السبب الثاني :
ــــــــ
أن يظن كل موضع ذكر فيه ما يشعر بالصفة ، أنه من نصوص الصفات، وأن المراد به الأخبار عن هذه الصفة .
قال ابن تيمية رحمه الله (ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قرب نفسه، بل يبقي هذا من الأمور الجائزة وينظر في النص الوارد، فإن دل على هذا حمل عليه ، وهذا كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء .
وان كان في موضع قد دل على أنه يأتي بنفسه ، ففي موضع آخر دل على انه بعذابه ، كما في قوله تعالي (فأتى الله بنيانهم من القواعد ) وقوله تعالي (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) فتدبر هذا، فإنه كثيرا ما يغلط الناس في هذا الموضع ، إذا تنازع النفاة والمثبتين في صفة ودلالة نص عليها، يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ ـ حيث ورد ـ دالا على الصفة وظاهرا فيها)( ). [[ مجموع فتاوى ابن تيمية 6/14]](/17)
وقولة جواز القرب عليه ، مثل له بدنوه – سبحانه – عشية عرفة ،كما روى مسلم عن النبي صلي الله عليه وسلم قال (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة وانه ليدنو ثم يباهي بهم ملائكته فيقول ما أراد هؤلاء) ( )، [[ كتاب الحج ، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة ح 436]] ، وأما قوله ( ولا يلزم من ذلك أن يكون كل موضع ذكر فيه القرب هو قربه بنفسه "مثل له بقوله تعالي" ونحن اقرب أليه من حبل الوريد" ق(16) ، وذلك أن المراد هنا قربه بملائكته ، كما تضيف العظماء أفعال عبيدها إليها بأوامرهم ، ومراسيمهم ، واستدل عليه بأن القرب في الآية بزمن ، وهو حين تلقي المتلقيين ، وقعيد عن الشمال ، وهما الملكان ، ومعلوم أنه لو أراد قرب ذاته لم يختص بهذه الحال.
كما استبدل عليه أيضا ، بأنه ذكر بصيغة الجمع مثل ( نتلو عليك ) القصص (3)، (فإذا قرأناه فاتبع قرانه ) القيامة(17) ،( ونكتب ما قدموا آثارهم ) يس(12)، ( أنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) الجاثية (29) .
فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله في كتابه ، دل على أن المراد أنه سبحانه يفعل بجنوده من الملائكة ، ومثل هذه الآية قوله تعالي ( أم يحسبون أنا لا نعلم سرهم ونجواهم ، بلي ورسلنا لديهم يكتبون )، الزخرف (80) وقوله تعالي (ونعلم ما توسوس به نفسه ) يحتمل أن المراد نحن نعلم وملائكتنا أيضا يعملون ، كما دل عليه الحديث ( إن العبد إذا هم بحسنه فلم يعملها كتبت حسنه)( )، [[ في الحديث ( قال الله تعالى .. فإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ) رواه مسلم كتاب الإيمان ، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت ، وإذا هم بسيئة لم تكتب ح 203]] ، فالملائكة يعلمون ما في نفسه بقدرة الله تعالي.
ومثل هذه الآية (نحن أقرب إلية منكم ولكن لا تبصرون) الواقعة (85) ، فإن القرآن دل على أن المراد الملائكة ، لأن الآية تصف حال الاختصار ، وقد كثر في القرآن ذكر حضور الملائكة المحتضر، قال تعالي (أن الذين توفّاهم الملائكة ) النساء (97)، وقال ( ولو ترى إذ يتوفّي الذين كفروا الملائكة ) الأنفال (50) وقال ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسهم ) الأنعام(93)، ( حتى إذا جاء أحدهم الموت توفّته رسلنا وهم لا يفرطون ) الأنعام(61)، ( قل يتوافكم ملك الموت ) السجدة (11).
وقد قال بعض الأئمة أن المراد قربه بعلمه وهو محتمل( )، [[ مثل الإمام أحمد ينظر مختصر العلو للذهبي 190، والإمام الدارمي ينظر رده على المريسي 83، وذكر ابن القيم القولين عن السلف والخلف ، مختصر الصواعق ص 492]] ، ولكن يدفعه أن العلم محيط بكل شيء وفي باطنه، وكل ذلك بالنسبة إليه سواء ، كما قال ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسآرب بالنهار ) الرعد (10) ، فلا معني لتخصيص حبل الوريد وغيره( ). [[ الكلام المتقدم في القرب ، وما يتعلق به، مختصر بتصرف من كلام ابن تيمية في مواضع من مجموع الفتاوى وهي 5/130، 5/107، 5/512ـ 513، 5/494ـ 509) وانظر كذلك مختصر الصواعق ص 493ـ 494 ، وتفسير ابن كثير 7/376]]
وهذه الخلاف بين السلف في معني الآية مع اتفاقهم على جواز القرب لو جاء نص يكون هذا هو الظاهر منه كما في الحديث السابق ، أما في هذه الآية فلا يقال إن الظاهر منها أنه سبحانه وتعالي أقرب بذاته من حبل الوريد فإن السياق بأبي ذلك والقرآن دل على نقيضه فإن الأدلة القاطعة منه دلت على علوه على كل شيء( ). [[ وقوله تعالى ( وهو القاهر فوق عباده ، ويرسل عليكم حفظه حتى إذا جاء أحدكم الموت ، توفته رسلنا وهم لا يفرطون ) جمع بين علوه على كل شيء ، وقرب جنوده من المحتضر ، فهي أقرب ما يفسر به قوله تعالى ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ، وأنتم حينئذ تنظرون ، ونحن أقرب إليه منكم ، ولكن لاتبصرون ) ]]
وأما القائلون بأن هذا المعنى الفاسد ، أي قرب الله تعالى بذاته من حبل الوريد ، المقتضى للحلول أو الاتحاد ، هو الظاهر فقد انقسموا إلى قسمين:
منهم من قال بوجوب التأويل الاصطلاحي هنا ، وهو حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح ، وأن المراد هو قربه بعلمه ، وهذا المعني صحيح ، ولكن لا يلزم أن يقال إن ظاهر القرآن هو هذا المعني ، ذلك أن القرآن في أعلي درجات البيان ، لاسيما في الخبر عن الله وصفاته ، وفي القول بأن ظاهر القرآن هو ذلك المعنى الفاسد تعارض مع هذه الحقيقة .
غير أن الذي اقتضي هذا القول تجريد اللفظ عن السياق ، فإن السياق هو الذي يدل على المراد ، والمتكلم الذي يريد أن يكون كلامه مبينا ، لابد له من ذكر القرائن ووضع الألفاظ في تركيب يدل على مراده ، والقرائن جعلت الظاهر في الآية ، إما العلم كما قال ( ونعلم ما توسوس )، أو الملائكة كما قال (إذ يتلقّي المتلقيان ).(/18)
ومنهم من التزم هذا المعني الفاسد الباطل وهم القائلون بالوحدة والحلول من المنتسبين إلى التصوف ، وفي بعض كتب التفسير من هذا ما يشينها ( ) [[ في حاشية الجمل على الجلالين علل القول بأن المراد بالقرب من العلم في قوله تعالى ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) بأن الله منزه عن الأمكنة ، وذكر أنه من المجاز ، فهذا يدل على جعل المعنى الفاسد هو الظاهر 4/192) ، وأنظر أيضا تفسير المنار 2/168، وقال الالوسي : ( ولامجال لحمله على القرب المكاني ، لتنزهه سبحانه عن ذلك ، وكلام أهل الوحدة مما يشق فهمه على غير ذي الأحوال التفسير 26/178 ]]
مع أن الآية لا تدل على قول أهل وحدة الوجود بوجه ، فإن قولهم الذي ينبو عنه سمع المؤمن ، يقتضي أن لا يكون لله تعالى ، تميّز بالذات فكيف يكون من هذه صفته ، أقرب إلى شيء من شي ، كما زعموا أنه ظاهر الآية ، فتناقضوا تناقضا قبيحا .
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالي عن عيسي (إنما المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم 000000الآية ) فان الله وان كان متصفا بالكلام ، فليس المراد هنا صفته ، وأن عيسي هو نفس الكلمة ، كلمة الله ( وانما سمي بذلك لأنه بذلك خلق بالكلمة ، على خلاف سنة المخلوقين ، فخرقت فيه العادة ، وقيل له كن فكان)( ) . [[ ينظر ابن تيميه المجموع 6/18]]
فسمي كلمة الله (لأنه ناشي عن الكلمة التي قال له بها كن فكان( )، [[ تفسير ابن كثير 2/431]] ولا يلزم من إطلاق كلمة الله على المخلوق هنا ، أن يكون كلامه جل وعز مخلوقا .
قال ابن تيمية: ( وأما قوله: إن كلمة يراد بها عيسي نفسه، فلا ريب أن المصدر يعبر به عن المفعول به في لغة العرب، كقولهم هذا درب ضرب الأمير، ومنه تسمية المأمور به أمرا، والمقدور قدرة، والمرحوم به رحمه، والمخلوق بالكلمة كلمة، لكن هذا اللفظ يستعمل مع ما يقترن به مما يبين المراد، كقوله ( يا مريم أن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسي بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين)، فبين أن الكلمة هو المسيح، ومعلوم أن المسيح نفسه ليس هو الكلام، ( قالت أني يكون لي ولد ولم يمسسني بشر، قال كذلك الله يفعل ما يشاء إذ قضي آمرا فإنما يقول له كن فيكون).
فبيّن لما تعجبت من الولد أنه سبحانه يخلق ما يشاء ، إذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، فدل هذا على أن الولد مما يخلقه الله بقوله ( كن فيكون ) ، ولهذا قال أحمد بن حنبل ( عيسي مخلوق بالكن، ليس هو نفس الكن)، ولهذا قال في الآية الأخرى ( إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقة من تراب ثم قال كن فيكون)، فقد بين مراده، أنه خلقه بكن لا أنه نفس كن ونحوها من الكلام)( ). [[ مجموع ابن تيمية 20/493]]
ومن أمثلة هذا أيضا قوله تعالي ( تجري بأعيننا) القمر (14) ، لا يدل على أعين كثيرة، وقوله تعالي ( ولتضع على عيني) لا يدل على عين واحدة، عند من يثبت صفة العين، بل كل موضع يفسر بحسبه ، بل كل موضع يفسر بحسبه، وذلك أن لفظ العين إذا أضيف إلى اسم جمع ظاهر ، أو مضمر ، فالأحسن جمعه مشاكلة للفظ كما قال (فأتوا به على أعين الناس) الأنبياء(61) .
وإذا أضيف إلى مفرد ذكر مفردا ، وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد، ففي الإضافة إلى المفرد قال (بيده الملك)، وفي الإضافة إلى الجمع قال (أو لم يروا أنا خلقنا مما عملت أيدينا أنعاما)، وقال (بما كسبت أيدي الناس)، والسلف استدلوا على صفه اليد بن بقوله تعالي (بما خلقت بيدي) وعلى صفه العينين بقول النبي صلي الله عليه وسلم (إن ربكم ليس بأعور)( )، [[ الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن عمر مرفوعا ( وإن الله لايخفى عليكم ، إن الله ليس بأعور ، وأشار بيده إلى عينه ، وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى ، كأن عينيه عنبة طافية ) فتح الباري 13/389]]
والأعور ضد البصير بالعينيين( ) ، [[ ينظر رد الدارمي على المريسي 48]] ولو جاء لفظ يدل على الصفة في الظاهر لقالوا به فان عمدتهم في هذا الباب هو السمع.
السبب الثالث :
ـــــــ
أن يأتي اللفظ في سياق يدل على المراد منه ، ويفسره ، ويجعله في غاية الظهور، فيؤخذ بعيدا عن سياقه ، ويُدَّعي فيه معني فاسد ، حتى يجعل محتاجا إلى التأويل، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية مثالا على هذا ، الحديث القدسي ، وهو قوله الله تعالي ( يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ؟ أما علمت أنك لو أطعمته لو جدت ذلك عندي ؟ … وذكر في الاستسقاء مثله)( ) .[[ رواه مسلم ح 2569
ذكره مثالا لجعل المعني الفاسد هو الظاهر من اللفظ و لا يكون كذلك ، فإن الحديث قد فسر المراد بقول الله استطعمتك ، واستسقيتك فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل( ). [[ ينظر مجموع ابن تيمية 3/44، وكذلك ينظر في أمثلة هذا النوع ، درء تعارض العقل والنقل 5/235ـ 240]]
السبب الرابع :
ـــــــ(/19)
أن يجعل للفظ معني لا يدل عليه لغة عند التحقيق ، فإذا فسِّر به القرآن أوهم الباطل، فيقال حينئذ بوجوب التأويل .
ومثاله لفظ المعية، فقد جُعلت في الظاهر بمعني الاختلاط والامتزاج ، ثم لما كان هذا كفرا عند جميع المسلمين قيل بوجوب التأويل .
و أما عند التحقيق ، فليس ظاهرها إلا المقارنة المطلقة في اللغة ، من غير وجوب مماسة ، أو محاذاة عن يمين وشمال ، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعني .
فإنه يقال ما زلنا نسير والقمر معنا وهو في السماء وكذلك يقال (زوجته معه) بمعني لم يطلقها، وماله معه بمعني لم يفقده، وقال تعالي (محمد رسول الله والذين معه) الفتح(29) .
وليس في ذلك كله وجوب اختلاط ، وقد يدل على الاختلاط عند التقييد بما يناسبه، وإذا كانت المعية لا يلزم منها الامتزاج والحلول فلا يجعل هو الظاهر، بل الظاهر يعلم بحسب السياق المذكورة فيه .
وهو ما يلزم من معية الله ، فإن قوله (هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم) الحديد(4)، دال على أن حكم هذا المعينة ومقتضاها أنه مطلع عليهم، شهيد عليهم، مهيمن، عالم بهم، وهذا معني قول كثير من السلف أنه معهم بعلمه، وهو ظاهر الخطاب وحقيقته .
وكذلك قوله تعالي (لا تحزن إن الله معنا) التوبة(40)، أي بنصره وتأييده ، فإن هذا هو اللازم من المعية هنا، وإذا كانت المعية لا يلزم منها المخالطة ، فإن فسرت بما دلت عليه باللزوم ، لا يكون هذا من باب التأويل .
وقال ابن القيم (فكيف تكون حقيقة المعية في حق الرب ذلك ـ يعني المخالطة ـ حتى يد عي أنه مجاز لا حقيقة ، فليس في ذلك ما يدل على أن ذاته تعالي فيهم ولا ملاصقة لهم، ولا مخالطة ، ولا مجاورة ، بوجه من الوجوه، وغاية ما تدل عليه (مع) المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور، وذا الاقتران في كل موضع بحسبة، يلزم منه لوازم بحسب متعلق )( ). [[ مختصر الصواعق المرسلة ص 429 ، وينظر أيضا مجموع ابن تيمية ( 5/103ـ 104) و (5/495ـ498) و ( 6/22) ، وبهذا البحث يتبين أن قول أبي المعالي رحمه الله في الإرشاد ( ومما يجب الاعتناء به معارضة الحشوية ، بآيات يوافقون على تأويلها ، حتى إذا سلكوا مسلك التأويل ، عورضوا بذلك السبيل ، فيما فيه التنازع ، فمما يعارضون به ، قوله تعالى ( وهو معكم أينما كنتم ) فإن راموا إجراء ذلك على الظاهر ، حلوا عقد إصرارهم في حمل الاستواء على العرش على الكون عليه ، والتزموا فضائح لا يبوء بها عاقل ، وأن حملوا قوله ( وهو معكم أينما كنتم ) وقوله ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم ) على الإحاطة بالخفيات ، فقد سوغوا التأويل ) ص 150، أنه قول متهافت ، فإنه لاتعارض بين استواءه على العرش وكونه مع خلقه ]]
الآمر الثالث :
ـــــــــ
وهو أن قائلا قد يقول: إن ما تقدم حكايته عن مذهب السلف ، فيما أسند إلى الله من الألفاظ الموهمة للتشبيه ، كالوجه واليد والمجيء والاستواء ، انه هو إمرارها على ظاهرها ، وعدم تأويلها ، وأن معني قولهم امرارها على ظاهرها ، ليس هو مماثلة المخلوقات ، أنه قول متناقض .
وبيانه أنا لانفهم من هذه النصوص إلا ما هو من صفات المخلوقين ، لانا لم نشهد غيرها ، فإن قيل هي على ظاهرها ، لزم التشبيه ، وإن قيل ليس ظاهرها مماثلة المخلوقين لزم أنا لا نعلم معناها بل نفوض ـ أن لم نقل بالتأويل ـ ولا يصح أن نقول تجري على ظاهرها، فحكاية هذه الجملة عنهم مع إبطال التفويض تناقض ( ). [[ ممن أشار على دعوى تناقض من يقول ( إن هذه النصوص معلومة المعنى وهي على ظاهرها ) أبو المعالي في الإرشاد ص 60 ، وقال بعض المعاصرين : ( فظاهر الاستواء ، هو الجلوس والقول به قول بالجسمية ، فإن قال ابن تيمية إنه اشتراك في الاسم لا في الحقيقة فليس إلا أن يفسره بالظاهر السابق فيلزم الجسمية ، أو يفسره بغير المحسوس ، وذلك تأويل ) ص 70 ، ومع أنه ينازع في أن الاستواء هو الجلوس ، غير أن الذي يلزم به في الرد عليه ، أن يقال : البصر هو انعكاس صورة المرئيات في عضو ، فإن قال إن الله تعالى يوصف بالبصر ، فإن فسره بالظاهر يلزم الجسمية ، وإن قال هو إدارك المبصرات فهو قول المعتزلة نفات الصفات ]]
وهذه الشبهة هي ـ وغيرها ـ أدت إلى أن قال أهل التأويل : إن نصوص الصفات أو بعضها ليست دالة على الصفات على الحقيقة ، وإنما تطلق على سبيل المجاز ، ولما وافقهم غيرهم على أن هذه النصوص ليس لها معني في الظاهر إلا مماثلة المخلوقين ، وكانوا مع ذلك ممن يحرم التأويل ، قالوا : لا ندري ما أريد بهذه النصوص ، ولا نتكلم فيها فجعلوها بمنزله الكلام الأعجمي الذي لا يفهم .(/20)
وذلك أن هذه الألفاظ التي أطلقت على الخالق في الكتاب والسنة وهي ذلك تطلق على المخلوق ، ولا يخلوا الأمر فيها: إما أن تكون حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر .
أو حقيقة فيهما، فهذه ثلاثة أقسام .
فقال قوم هي حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق ، وقال قوم حقيقة في المخلوق مجاز في الخالق ثم اختلفوا :
فقال الجهمية والمعتزلة كلها مجاز، وقالت الأشعرية وغيرهم بعضها، وهي الصفات الخبرية على خلاف بينهم أيضا في ذلك.
وقال السلف ومن اتبع طريقتهم من الفقهاء والمحدثين والمفسرين وغيرهم حقيقة فيهما ،ومقالات السلف تدل على أنها تطلق عليهما بطريق المتواطئة أو المشككة.
وهذه الجملة تدل على أن الإشكال المتقدم عظيم الموقع ، لذا يجب الاعتناء بالانفصال عنه .
فيقال: إن هذا التناقض المدعي لازم أيضا لمن يثبت الصفات العقلية ، وهي السمع والبصر والإرادة والحياة والعلم والقدرة والكلام ،وهم جمهور القائلين بالتأويل لأننا لم نشهد هذه الصفات إلا في المخلوقات .
ولازم أيضا لمن يثبت أي صفة لله تعالى ، بل ويلزم كذلك من يثبت وجود الله تعالى وإن لم يصفه بصفة ، فإنا لم نشهد موجوداً إلا جسما أو عرضا قائما به( )،
[[ قال ابن تيمية رحمه الله : فإنك إن قلت ـ أي أيها المعتزلي ـ إثبات الحياة ، والعلم ، والقدرة ، يقتضي تشبيها ، أو تجسيما ، لأنا لانجد في الشاهد متصفا بالصفات إلا ما هو جسم ، قيل لك : ولانجد في الشاهد ما هو مسمى ، حي ، عليم ، قدير ، إلا ما هو جسم ، فإن نفيت ما نفيت لكونك ، لم تجده في الشاهد ، إلا للجسم ، فانف الأسماء ، بل وكل شيء لانك لا تجده إلا للجسم ) المجموع 3/20 ، والجسم عند المتكلمين هو ما يقبل القسمة من الجواهر ، والجوهر هو المتحيز ، وهو القابل بالذات للإشارة الحسية ، فإذا قبل القسمة ، فهو الجسم ، وإن لم يقبلها ، لا فعلا ، ولا وهما ، ولا فرضا ، فهو الجوهر الفرد ، بناء على أن الأجسام تنقسم إلى ما يصير إلى الجزء الذي لايتجزء ، وعندهم الجوهر منحصر في هذين القسمين ، وأقل ما يتركب منه الجسم ، جوهران من الجواهر المنفردة ، ينظر شرح المواقف للجرجاني 2/343ـ 345، شرح العقائد النسفية للتفتازاني ص 49 ، وأما العرض عندهم فهو موجود قائم بمتحيز ، وأدخلوا تحت هذه القسمين ، كل ما يشاهد ، أو يحس كالهواء ، فهو جسم ، أما الضوء ، واللون ، فهما عرضان ، ينظر المواقف للايجي ، وهم مع ذلك ينفون أن يكون الله تعالى جسما ، أو عرضا ، ولا يعرف في الشاهد موجود غير هذين ، فيلزمهم أنه غير موجود ، نقول هذا من باب الإلزام ، وليس إثبات هذه الألفاظ أو نفيها ، إذ سيأتي الكلام على هذا لاحقا إن شاء الله تعالى ]]
لم نشهد موجودا إلا جسما أو عرضا قائما به ، ونحن مع ذلك لم نشهد وجود الله ، ولم نعرف ماهيته ، ولا نظيراً له سبحانه ، إذ ليس لها نظير، أفيقال : إنا إذا أثبتنا وجوده ، يلزمنا تشبيهه سبحانه بوجود ما سواه ، أم يقال : إذا قلنا وجوده ليس مشابها لوجود سواه ، يلزمنا التفويض في معني الوجود وأنا لا نعقل منه شيئا ؟!!
وقفة مهمة جدا تحل إشكالات كثيرة في هذا الباب :
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
حل عقدة باب الصفات :
ــــــــــــــ
فإن قيل فما حل هذه العقدة ، بعد هذه الحجة الجدلية، فالجواب: أن الناس اختلفت طرائقهم في اقتحام هذه العقبة ، التي العقبة هذا الباب حقاً، إلا أن الخروج منها إلى الصراط المستقيم له باب واحد وسواه مفض إلى سحيقة أو تناقض .
فإن ناساً قد التزموا نفي كل شي لئلا يقعوا في التشبيه، قال أبو المعالي: (اعلموا أشدكم الله أن من أعظم أركان الدين نفي التشبيه، وقد أفتتن فيه فئتان، وابتلي به طائفتان فغلت طائفة ونقت جملة صفات الإثبات ، ظنا أن المصير إلى إثباتها مفض إلى التشبيه وإلى ذلك صار من أثبت الصانع من الفلاسفة ، وإليه ميل بعض الباطنية ، فزعموا أن القديم لا يوصف بالوجود ولكن يقال أنه ليس بمعدوم ، وكذلك لا يوصف بكونه حيا قادراً ، بل يقال ليس بميت ولا عاجز ولا جاهل ..)(1) . [[ الشامل للجويني الكتاب الأول، الجزء الأول ، 1/169 ، وتعليق رشاد سالم على درء التعارض 5/187]]
وقال الشهرستاني رحمه الله عن الجهم بن صفوان : (وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم أشياء منها قوله : لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه ، لأن ذلك يقتضي تشبيها ).(2) . [[ الملل والنحل 1/86]](/21)
وذكر ابن تيمية رحمه الله أنه قرأ لأبي يعقوب السجستاني - أحد الباطنية - في كتاب الأقاليد الملكوتية أنه التزم أن الله يقال عنه (لا موجود ولا ليس بموجود ، ولا معدوم ولا ليس بمعدوم ) ، وذلك أنه ابتدأ أولاً بأن الله ليس بموجود فأورد على نفسه أن هذا تشبيه بالمعدومات ، فقال ( لا موجود ولا معدوم ) ثم أورد على نفسه أن هاتين قضيتان مختلفتان بالسلب والإيجاب ، ويلزم من صدق أحدهما كذب الأخرى فاضطر أن يقول جملته المتقدمة فرارا من التشبيه ، ومع ذلك فقد أورد عليه ابن تيمية التشبيه بالممتنعات لأن هذه الجملة صفة الممتنع (3) ،[[ الدرء 5/324]]
فهذه هي الهوة السحيقة.
ورام قوم الخروج بأن قالوا إن هذه الألفاظ مقولة على الخالق والمخلوق بطريق الاشتراك اللفظي .
قال ابن تيمية ( وقد رام طائفة من المتأخرين كالشهرستاني والآمدي والرازي - في بعض كتبه - ونحوهم ، أن يجيبوا هؤلاء - أي أمثال هذا الضال المذكور آنفا - عن هذا بأن لفظ (الموجود) و(الحي) و(العليم) ، و (القدير) ، نحوها من الأسماء تقال على الواجب والممكن بطريق الاشتراك اللفظي ، كما يقال لفظ المشتري على الكوكب والمبتاع ، وكما يقال سهيل على الكوكب والرجل المسمّى بسهيل ...
ثم قال : وهؤلاء متناقضون في هذا الجواب ، فإنهم وسائر العقلاء يقسمون الوجود إلى واجب ، وممكن ، وقديم ، ومحدث ، وأمثال ذلك ، مع علمهم بأن التقسيم لا يكون في الألفاظ المشتركة ، إن لم يكن المعنى مشتركاً ، سواء كان متماثلاً ، أو متفاضلأ ، ً ومنهم من يخص المتفاضل بتسميته مشككاً ...
ثم قال : فأما مثل سهيل ، فلا يقال سهيل ينقسم إلى الكوكب والرجل إلاّ أن يراد يطلق على هذا وهذا ، ومعلوم أن مثل هذا التقسيم ، لا يراد به الإخبار عن الإطلاق في اللغة ، وإنما يراد به تقسيم المعنى المدلول عليه باللفظ ...
ثم قال : ثم هم مع هذا التناقض موافقون في المعنى للملاحدة ، فإنهم إذا جعلوا أسماء الله تعالى كالحي ، والعليم ، والقدير ، والموجود ، ونحو ذلك مشتركة اشتراكاً لفظياً ، لم يفهم منها شيء إذا سمي بها الله ، إلا أن يعرف ما هو ذلك المعنى الذي يدل عليه إذا سمي الله)(1) . [[ المصدر السابق ]]
ومعلوم أن المعنى الذي يدل عليه لفظ الموجود ، ونحوه المطلق على الباري جل وعز ، لا يمكن أن نفهمه إلاّ إذا كان بين هذا الإطلاق ، واطلاقه على الشاهد من المخلوقات قدراً مشتركاً ، يمكننا به فهم الخطاب ، وهذا الإطلاق هو المسمى بالأسماء المتواطئة ، أو المشككة .
ولهذا فإن الأكثر على أن اسم الوجود حقيقة في الواجب ، والممكن , وأنه مقول عليهما بطريق التواطؤ العام ، أو التشكيك ، إذا جعل المشكك نوعاً آخر(2) .
[[ قال الجرجاني : (المشككك هو الكلي الذي لم يتساو صدقه على أفراده بل كان حصوله في بعضها أولى أو أقدم من البعض الآخر ، كالوجود في الواجب أولى ، وأقدم وأشد مما في الممكن ) التعريفات 216 ، والكلي هو الذي لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه ، وقد أورد على قسم المشكك أن الاسم إذا كان يطلق على القدر المشترك ، من غير دخول الاختلاف بين المسميات في التسمية فهو المتواطئ ، وإن دخل فالاشتراك اللفظي ، فلا حقيقة للمشكك ، وأجاب القرافي : ( أن كلا من المتواطئ والمشكك ، موضوع للقدر المشترك ، ولكن الاختلاف إن كان بأمور من جنس المسمى فهو المصطلح على تسميته بالمشكك ، وإن كان بأمور خارجة عن مسماه كالذكورة ، والأنوثة ، والعلم ـ يعني في اسم الإنسان ـ فهو المصطلح على تسميته بالمتواطئ ) ينظر نهاية السول 2/45ـ 47 ، وقد ذكر ابن تيمية ، أن قدماء نظار الفلاسفة ، على أن المشكك متواطئ باعتبار القدر المشترك ، المجموع 9/147 ، فعلى هذا إن أريد بإطلاق هذه الأسماء على الخالق والمخلوق بطريق التواطيء أن الصدق على الأفراد متفاوت فحق ، بل هو أعظم تفاوت على الإطلاق ، وإن أريد التساوي فلا قطعا ، وأما المشكك فقاطع في المراد ]]
وقد ذكر ابن تيمية أن أحداً لم يجعل هذه الأسماء مقولة بالاشتراك اللفظي إلاّ شرذمة من المتأخرين وقد تقدم بطلانه(3). [[ المجموع 20/442، ومما ذكر صاحب شرح المقاصد ( والجمهور على أنه له ـ أي الوجود ـ مفهوما واحدا ، مشتركا بين الموجودات ، إلا أنه عند المتكلمين حقيقة واحدة ، تختلف بالقيود والإضافات ) 1/341، ثم ذكر أنه مع ذلك قد يطلق على الموجودات بالتشكيك لأنه في الواجب أولى وأقدم وأشد ، على ما فهم من كلامه ( 1/354ـ 355) ]]
وإذا تبين هذا ، فالجواب عن الإشكال المتقدم بأن يقال : نحن نفهم من هذه الألفاظ ما دلت عليه من القدر الذي تتواطأ عليه ، ولا نعلم حقيقة ما يمتاز به الخالق ، غير أننا نعلم أن ما يختص الله به من هذه الأسماء التي فهمنا معناها عند الإطلاق ، أعظم مما يخطر في البال ، أو يدور في الخيال .(/22)
ومثال ذلك العلم ، فعند الإطلاق نفهم من هذه الكلمة معنى ، فإذا قيل (علم الله ) علمنا أن ما اختص الله به من هذا المعنى أعظم من أن نحيط به علماً ، أو نعرف كنهه ، وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلاّ الله ، ولولا هذا القدر المشترك من المعنى الذي يأخذه الذهن عند الإطلاق ، ثم يقيد به عند الإختصاص بالخالق ، ما يتميز به الخالق ، مما لا نستطيع حده بحد ، لما أمكن معرفة الله تعالى بوجه من الوجوه.(1) . [[ ينظر مجموع ابن تيمية 3/10]]
ويتوجه على هذه الجملة سؤال وفي الجواب عنه مزيد تفصيل وتوضيح ، فيقال :
فإن قيل : وكيف يصحّ أن يقال : إن بين أسماء الله ، وصفاته ، وأسماء خلقه وصفاتهم ، قدراً مشتركاً ، ألا يوجب هذا التشبيه ؟
فالجواب : أن التشبيه كلمة ، قد صار فيها إجمال ، بحسب استعمال المتكلمين في هذا الباب ، فيجب أولاً معرفة المحذور من معناها شرعاً.
ذلك أن التشبيه جاء في السمع ، بلفظ التمثيل في قوله تعالى {ليس كمثله شيء } الشورى(11) وهو أدلّ على المقصود ، ومعنى الآية أن الله تعالى لا يماثله شيء فيما يختص به من صفات الكمال ، أما أن تدل على أن ما يتصف الله به من الصفات لا يمكن أن يتصف غيره بجنسها ، فليس فيها ولا دلّت عليه اللّغة ، فقد نفى الله التماثل بين صنفين من بني آدم قال تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } فنفى الله التماثل للتفاوت في بعض الصفات مع اشتراكهم في أكثرها ، ومثل هذا قوله تعالى {وما يستوي الأعمى والبصير} فاطر(19) ، وقوله {وما يستوي الأحياء والأموات} فاطر (22) ، وقوله {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } الحشر (20)(2) . [[ ينظر الدرء 6/7 ، 7/113ـ 114]]
وإذا كانت الأدلة الشرعية لا تدل على أن التشابه من بعض الوجوه ، يقتضي تماثلهما في جميع الأشياء ، فليس في الآية أن وجود قدر مشترك بين الأسماء التي تطلق على الله وخلقه ، يوجب التماثل المنفي بقوله (ليس كمثله شيء) .
ولهذا فقد اعترف أساطين الكلام ، أن ما قد يسمى التشبيه من بعض الوجوه بين الخالق والمخلوق ، لازم لجميع المسلمين ، ويعنون به ما يطلق من الأسماء والصفات على الخالق والمخلوق ولو كان مجرد صفة الوجود ، قال الرازي رحمه الله (وان عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه ، فهذا لا يقتضي الكفر ، لأن المسلمين اتفقوا على أن الله موجود ، وشيء ، وعالم ، وقادر ، والحيوانات كذلك وذلك لا يوجب الكفر)(1) . [[ نقلا عن تلبيس الجهمية 1/382]]
وقال أبو المعالي (وقال في بعض مقالاته - أي أبو الحسن - المشبه من يعترف بالتشبيه ، فأما من ينكره ويثبت مع التجسيم والغلو فيه للرب ، صفاتا لا يجوز ثبوتها إلاّ للمخلوقات فلا نسميه مشبهاً تحقيقاً ، إذ المشبه من يعتقد تشابه الرب ، والمحدث من كل وجه ، إذ حقيقة المثلين ، المتشابهين في جملة الصفات ..)(2) . [[ الشامل للجويني 1/169]]
ولهذا أيضاً أنكر الأئمة الغلو في النفي ، خشية الوقوع في التعطيل ، وذكر ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه قال لا يشبه الأشياء ، وليس كمثله شيء ، ونحو ذلك أما قوله ( بوجه من الوجوه ) فامتنع منها ، وذلك أنه عرف أن مضمون ذلك التعطيل المحض ، فإنه يقتضي أنه ليس بموجود ، ولا شيء ، ولا حي ، ولا عليم ، ولا قدير ، ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى(3) . [[ الدرء 5/183]]
وبهذا يعلم أن إثبات قدر مشترك من معنى الأسماء المقولة على الخالق والمخلوقات ، ليس فيه التمثيل المحذور شرعاً ،غير أنه لا يخفي أن إطلاق هذه اللفظة وهي (أن الله يشبه خلقه من بعض الوجوه) خطأ ، والإمام أحمد إنما أنكر النفي لئلا يتوهم التعطيل ، فكذلك ينبغي أن تمنع هذه الجملة لئلا يتوهم التشبيه الممنوع شرعاً وعقلاً ، وهو (أن يماثل الله شيء من خلقه فيما يجب له من صفاته ، أو أن يثبت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى ) ، إذ هو تعالى ليس كمثله شيء لا في أسمائه ، ولا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، قال الإمام أحمد : ( من قال بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه ، وهذا يحده وهذا كلام سوء)(4). [[ 2/32]]
فهذه المقالة تبيّن أن المحذور من التشبيه ، هو ما يستلزم من نعت الله تعالى بالنقص ، والحدوث ، ولا ريب أن وصفه بخصائص المخلوقين تمثيل له بما هو ناقص حادث ، أما مجرّد نعته بالصفات التي يصحّ إطلاقها على المخلوقات ، مع العلم بقدر مشترك من المعنى في الإطلاقين ، والقطع بأن ما اختص الله به لا يماثل ما يختص به المخلوق ، فليس في هذا نقص بوجه من الوجوه.(/23)
قال أبو المعالي رحمه الله رداً على الفلاسفة ومن تابعهم في نفي الصفات (ويقال لهم أتثبتون الصانع المدبر أم لا تثبتونه ؟ فإن أثبتوه لزمهم من الحكم بإثباته ما حاذروه فإن الحادث ثابت فاستويا في الثبوت ، ...ثم قال : وإن قالوا نعتقد الثبوت ولا ننطق به ، قلنا كلامنا في الحقائق لا في الإطلاقات ، فإن قالوا فصفوا الإله بالثبوت والوجود ولا تنطقوا به ، واعتقدوا وجود الحادث ولا تنطقوا به لتنتفي المماثلة لفظاً ، فإن المماثلة لفظاً مما يتوقى في العقائد ، قلنا يتوقى اللفظ لأدائه إلى الحدوث أو إلى النقص ، فكل ما لا يؤدي إلى الحدوث أو إلى النقص لا نكترث به ، ثم محاذرة التعطيل أولى من محاذرة التشبيه )(1) . [[ نقلا عن الدرء 5/189]]
وهذا القدر المشترك الموجود في الأسماء المشككة ، الذي به أمكن فهم خطاب الله تعالى عن نفسه ، وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، لا يستلزم وجود شيء في الخالق هو بعينه في المخلوق ، وإنما هو أمر مطلق كلي ، ولا يوجد إلاّ في الذهن ، ولا يختص بأحدهما دون الآخر ، فلا يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالباري ولا فيما يختص بالبرية ، وعند التخصيص يقال علم الله ، وحياة الله ، فهذا ذكر لما يتميز به الخالق فلا يماثله فيه المخلوق ، ولو كان القدر المشترك هو شيء موجود في الخارج يشترك فيه الباري وخلقه ، لكان هذا تشابها بينهما والشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه له ما وجب له وامتنع عليه ما امتنع عليه(2) . [[ المجموع 3/74ـ 75]]
فثبت بهذا أن إثبات القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه ولا نفي ما يستحقه ، فليس ممتنعاً ومثال هذا في المخلوقات ، أن اسم الوجود يطلق بالتواطؤ على العرش ، والبعوض ، فيقال هذا موجود ، وهذا موجود ، لا تفاقهما في مسمى الوجود ، وهو يطلق عليهما بالتواطؤ قطعاً ، لأن قدراً مشتركاً من المعنى يوجد بينهما ، ولا ريب أن عاقلاً لا يقول إن وجود العرش كوجود البعوض ، لاتفاقهما في مسمى الوجود(1) . [[ المصدر السابق 3/10]]
ولا أن الاسم يطلق عليهما بالاشتراك اللفظي فقط ، ولكن قد يتوهم متوهم ، أن هذا القدر المشترك هو شيء موجود في الخارج يشتركان فيه ، وليس كذلك بل هو وجود ذهني محض ولا يوجد في الخارج إلاّ الأعيان التي لكل واحد منها ما يخصه لا يشاركه فيه شيء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمي صفاته بأسماء ، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره ، وسمي بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم ، مضافة إليهم ، توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص ، ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص اتفاقهما ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص ) ، وقال أيضاً ( سمي الله نفسه حيا فقال ( الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم ) وسمي بعض عباده حياً ، فقال ( يخرج الحي من الميت ) وليس هذا الحي مثل هذا الحي ، لأن قوله الحي اسم لله مختص به وقوله (يخرج الحي من الميت ) اسم للحي المخلوق مختص به ، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج ، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسمين وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق)(2). [[ المصدر السابق ]]
وقال أيضاً ( هكذا القول في جميع الصفات ، وكل ما تثبته من الأسماء والصفات فلابد أن يدل على قدر تتواطأ فيها المسميات ، ولولا ذلك لما فهم الخطاب ، ولكن نعلم أن ما اختص الله به وامتاز عن خلقه ، أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال)(3)
[[ المصدر السابق ( 3/24) ، وانظر في هذا البحث ، والجواب على الإشكال المتقدم في أول التنبيه شرح الطحاوية ص 103ـ 107، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ( اتفاق المسمين في بعض الأسماء والصفات ، ليس هو التشبيه ، والتمثيل التي نفته الأدلة السمعيات ، والعقليات ، وإنما نفت اشتراكهما فيما يختص به الخالق ، مما يختص بوجوبه ، أو جوازه ، أو امتناعه ، فلا يجوز أن يشركه في مخلوق ، ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى ) المجموع 3/23]]
فإن قيل فإن التفاوت بين الخالق والمخلوق أعظم من أن يتصور ، بقدر ما بينهما من التفاوت في الذات ، فهلا مُثِّل لهذا بمثال في المخلوقات ، يقرب القول من التصور .
فالجواب نعم ، هذه الروح نفهم ذهابها ، وإيابها ، وصعودها ، ونزولها ، والعقول قاصرة عن تكييفها ، لأنّا لم نشهد لها نظيراً ، فلم يمنع عدم مشاهدة نظيره من فهم الخطاب ، ولم يمنع جهلنا بكيفية الروح ، أن نعلم صفاتها التي أخبر الله عنها في القرآن .(/24)
وكذلك ما في الجنة ، ماءها ، وثمارها ، وسائر ما فيها من النعيم ، ليس كما في الدنيا وما بينهما من التفاوت عظيم حتى قال ابن عباس (ما في الجنة في الدنيا إلاّ الأسماء) (1) . [[ الأثر رواه الطبري في التفسير 1/392 ، وهناد بن السري في الزهد 1/49 ، وعزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى الضياء في المختارة ، وصححه محققه ، وعزاه إلى أبي نعيم والبيهقي رقم ( 5410) ، وزاد في الدر المنثور ممن رواه ، مسدد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ( 1/38) ، وانظر في المثلين ، الروح والجنة ، المجموع 3/28ـ 33، 5/346 ـ 350]]
ثم نحن نفهم الخبر عن الجنة ، ولولاه ما هتكت نحور المجاهدين ، ولا تشققت أقدام العابدين .
فالله عز وجل أعظم وأجل ، قال ابن تيمية (فإذا استعملت خاصة معينة - أي الأسماء المشككة التي تسميها النحاة أسماء الأجناس - دلت على ما يختص به المسمى ، لم تدل على ما يشركه فيه غيره في الخارج .
فإن ما يختص به المسمى لا شركة فيه بينه وبين غيره ، فإذا قيل علم زيد ، ونزول زيد ، واستواء زيد ، ونحو ذلك لم يدل هذا الأعلى ما يختص به زيد من علم ونزول ونحو ذلك ، لم يدل على ما يشركه فيه غيره .
لكن لما علمنا أن زيدا نظير عمرو ، علمنا أن علمه نظير علمه ، ونزوله نظير نزوله ، واستواءه نظير استوائه ، فهذا علمناه من جهة القياس ، والمعقول ، والاعتبار ، لا من جهة دلالة اللفظ ، فإذا كان هذا في صفات المخلوق ، فذلك في الخالق أولى .
فإذا قيل : علم الله ، وكلام الله ، ونزوله ، واستواؤه ، ووجوده ، وحياته ، ونحو ذلك لم يدل ذلك على ما يشركه فيه أحد من المخلوقين بطريق الأولى ، ولم يدل ذلك على مماثلة الغير له في ذلك ، كما دل في زيد وعمرو ، لأنا هناك علمنا التماثل من جهة القياس والاعتبار ، لكون زيد مثل عمرو .
وهنا نعلم أن الله لا مثله ، ولا كفؤ ، ولاند ، فلا يجوز أن نفهم من ذلك أن علمه مثل علم غيره، ولا كلامه مثل كلام غيره ، ولا استواءه مثل استواء غيره ، ولا نزوله مثل نزول غيره ، ولا حياته مثل حياة غيره ، ولهذا كان مذهب السلف والأئمة إثبات الصفات ونفي مماثلتها لصفات المخلوقين)(1) . [[ المصدر السابق 5/329]]
وبهذا يمكننا أن نقول فيما نطلقه على الله كصفة الوجه ، واليد ، والمجيء ، والاستواء ، أن القول فيها كالقول في صفة العلم ، والسمع ، والبصر وغيرها ، نعلم المعنى عند الإطلاق ، ونستطيع به فهم الخطاب ، ونجهل كيفية ما يختص الله به من هذه الصفات عند التخصيص .
وقد يقال إن صفة السمع ، والبصر، والعلم ، وأمثالها ، يمكن تصور ما تقدم فيها ، أما الوجه ، واليد ، والاستواء ، والنزول ، وأمثالها ، فإنا لا نعقل منها إلاّ ما هو جارحة ، وحركة ، وانتقال ، فكيف يقال نعلم المعنى ، ولا نعلم ما يختص بالله .
كما قال الايجي في المواقف ( الوجه وضع للجارحة ، ولم يوضع لصفة أخرى ، بل لا يجوز وضعه لما لا يعقله المخاطب ، فتعين المجاز ، ثم ذكر أنه الوجود)(2) . [[ المواقف في علم الكلام للايجي 298]]
ولا ريب أن قائل مثل هذا لم يحسن النظر فيما يقول ، فإن السمع لا نعقل منه في المخلوق إلاّ ما هو عرض متعلق بعضو ، والبصر انعكاس صورة المرئيات في عضو ، والإرادة ميل القلب إلى الشيء ، ومعلوم أنه لا يقال لا نعقل من هذه الصفات شيئاً بالنسبة إلى الله .
وأما ما ذكره الايجي في المواقف فقد أجاب عنه أبو بكر ابن فورك قال (فأما ما ذهب إليه المعتزلة من تشبيه ذلك بوجه الثوب، ووجه الحائط ، فغلط من التمثيل ، من قبل أن وجه الثوب ، والحائط ، ليس هو نفس الثوب ، والحائط ، بل هو ما واجه به ، وأقبل به ، وكذلك وجه الأمر ما ظهر منه في الرأي الصحيح ، دون ما لم يظهر ، وإذا لم يجز في اللغة استعمال معنى الوجه على معنى الذات على الحقيقة في موضع ، وقد ورد إطلاق الكتاب والسنة بذلك ، لم يكن لما ذهبت إليه المعتزلة وجه ، ووجب أن يحمل الأمر فيه على ما قلنا أنه وجه صفأأة ، ولا يقال هو الذات ولا غيرها)(3) . [[ مشكل الحديث وبيانه 173]]
فهذا يبين أن الوجه في اللغة مستقبل كل شيء ، قال ابن القيم ( والوجه في اللغة مستقبل كل شيء ، لأنه أول ما يواجه منه ، ووجه الرأي والأمر ما يظهر أنه صوابه ، وهو في كل بحسب ما يضاف إليه ، فإن أضيف إلى زمن كان الوجه زمانا ، وإن أضيف إلى حيوان ن كان بحسبه ، وإن أضيف إلى ثوب أو حائط كان بحسبه ، وإذا أضيف إلى من (ليس كمثله شيء) كان وجهه تعالى كذلك .
وكذلك اليد تضاف إلى الملك ، والجن ، والحيوان ، والإنسان ، وهي في ذلك كله صفات متعلقة بالذات ، ثم إذا أضيفت وخصصت ناسبت ما أضيفت إليه ، فاختلفت اختلافاً عظيماً ، فإذا أضيفت إلى من ليس كمثله شيء كانت كذلك(1) . [[ ينظر مختصر الصواعق المرسلة 419]]
ولا ينتقض هذا بأن اليد تطلق ويراد بها القدرة والنعمة - فتخرج عن كونها صفة متعلقة بالذات غير القدرة والنعمة - وذلك لثلاثة أوجه .(/25)
الأول : قال ابن القيم : ( إن نفس هذا التركيب المذكور في قوله (خلقت بيدي) يأبى حمل الكلام على القدرة ، لأنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه ثم عدى الفعل إلى اليد ، ثم ثناها ، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قولك كتبت بالقلم ، ومثل هذا نص صريح لا يحتمل المجاز بوجه)(2) . [[ المصدر السابق 404]]
الثاني : قال الباقلاني في التمهيد ( ويدل على فساد تأويلهم أيضاً - أي بالقدرة والنعمة - أنه لو كان الأمر على ما قالوه ، لم يغفل عن ذلك إبليس وعن أن يقول ( وأي فضل لآدم عليّ يقتضي أن أسجد له ، وأنا أيضاً بيدك خلقتني ، التي هي قدرتك ، وبنعمتك خلقتني ؟ وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيده دليل على فساد ما قالوه )(3)،(4). [[ ينظر في مثال صفة اليد وأدلة إثباتها صفة لله تعالى مختصر الصواعق ص 298، وص 305، وص 408]]
الوجه الثالث : قال ابن القيم ( إن يد القدرة والنعمة لا يعرف استعمالها البتة إلاّ في حق من له يد حقيقية ، فهذه موارد استعمالها ، من أولها إلى آخرها ، مطردة في ذلك ، فلا يعرف العربي خلاف ذلك ، فاليد المضافة إلى الحي ، إما أن تكون يداً حقيقية أو مستلزمة للحقيقية ، وأما أن تضاف إلى من ليس له يد حقيقية ، وهو حي متصف بصفات الأحياء ، فهذا لا يعرف البتة ، وسر هذا أن الأعمال ، والأخذ ، والعطاء ، والتصرف ، لما كان باليد ، وهي التي تباشره ، عبروا بها عن الغاية الحاصلة بها وهذا ، يستلزم ثبوت أصل اليد حتى يصحّ استعمالها في مجرد القوة والنعمة والإعطاء)(1) [[ ينظر مختصر الصواعق 406]]
وهذان المثالان يوضحان أن الوجه واليد ، فيما أضيفا إليه من الأمور يدلان على قدر من المعنى متواطئاً ، مشتركاً فيها ، هو صفة من صفات المضاف إليه ، وعند التخصيص تختلف هذه الصفة ، اختلافاً بحسب اختلاف المضاف إليه ، والقدر الذي حصل به الاشتراك غير الذي حصل به الامتياز ، وبهذا علمنا أنها صفات لله تعالى، وجهلنا حقيقة ما امتاز الله به من هذه الصفات .
وعلى هذين المثالين تقاس سائر الصفات الفعلية والذاتية ، كالاستواء والنزول ، والعينين ، يعلم أنها صفات لله من حيث يعلم معناها في لغة التخاطب ، ونجهل حقيقة ما يمتاز الله به وهو التأويل الذي لا يعلمه إلاّ الله ، ويعلم كذلك من أحكام هذه الصفات ما جاء في السمع ، فكما علمنا أن من أحكام صفة السمع أن الله يسمع المسموعات ، ومن أحكام صفة البصر أن الله يبصر المبصرات ، وأن الله يعلم كل شيء بصفة العلم ، كذلك نعلم أن من أحكام صفة اليد أن الله يقبض بها السموات ، وأنه خلق آدم بها ففضله على سائر من خلقه بكلمة كن .
وهذا هو المخرج الصحيح من الأشكال المتقدم في أول التنبيه ، وهو الصراط المستقيم الذي سار عليه سلف الأمة ، والذي هو في غاية الاستقامة والتناسب ، والسر في عدم تناقض مذهب السلف ، عدم تفريقهم بين الصفات ، وجعلها فرعاً عن الذات ، واتباع السمع ومن اتبعته فلا يختلف قوله ، قال تعالى (ولوكان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً ) .
ويدل على صحة مذهبهم أدلة كثيرة جداً ، وفيما يلي من هذا المبحث أهم الأدلة من الكتاب والسنة والمعقول الصريح .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
ثالثا : الأدلة على صحة مذهب السلف في الصفات ، وإبطال مذهبي المفوضة والمؤولة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان ما تقدم من هذا المبحث في تحقيق أن مذهب السلف الذي لم يختلفوا فيه في الصفات ، هو أنها معلومة المعنى ، ولا تصرف عن ظاهرها ، بمعنى كونها صفات لله غير اّ أن كيفياتها لا يعلمها إلاّ الله تعالى :
وفيما يلي ذكر الأدلة على صحة هذا المذهب ، ومن المفيد قبل الخوض في ذلك ذكر الأقسام الممكنة في الأقوال في هذا الباب ، ليكون محل النزاع أكثر وضوحاً ، ويتضح كيف تتوجه الأدلة بتأكيد مذهب السلف ونقض غيره وذلك :
أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام :
قسمان يقولان تجري على ظاهرها .
وقسمان يقولان على خلاف ظاهرها.
وقسمان يسكتان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (أما الأولان فقسمان ، أحدهما من يجريها على ظاهرها ، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين ، فهؤلاء المشبهة ، ومذهبهم باطل .
والثاني من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله ، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث أو عرض قائم به ، فالعلم والقدرة والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض ، والوجه واليد والعين أجسام .
فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات ، بأن له علما ، ً وقدرة ، وكلاماً ، ومشيئة ، وإن لم يكن ذلك عرضا ، يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين ، جاز أن يكون وجه الله ، ويداه ، وعينه ، ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوق .(/26)
وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف ، ويدل عليه كلام جمهورهم وكلام الباقين لا يخالفه ، وهو أمر واضح فإن الصفات كالذات ، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقية ، من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين ، فصفاته ثابتة حقيقية من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين ... ثم قال : أما القسمان اللذان ينفيان ظاهرهما أعني الذين يقولون ليس لها في الباطن مدلول صفة الله تعالى قط ... ثم ذكر أقسام هؤلاء وأن منهم من ينفيها كلها ، ومنهم من يثبت سبعا ، أو ثمان ، أو خمسة عشر ، ثم ذكر القسمين الأخيرين وأن منهم من يقول يجوز أن يراد ظاهرها اللائق بالله ويجوز أن لا يكون المراد صفة لله.
ومنهم من يمسك عن ذلك كله ولا يزيدون عن تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين عن هذه التقديرات )(1) . [[ ينظر المجموع 5/113ـ 117، 16/398ـ399 ]]
وهذا التقسيم يكشف جميع طرق المتنازعين في هذا الباب ، وإذا كانت طريقة التشبيه باطلة بالإجماع ، فلم يبق في ساحة التنازع غير طريقة التفويض بقسميها - وهما القسمان الساكتان - مع قسم الذين يقولون لا نعلم ما أريد بها إلاّ أن ظاهرها غير مراد ، لأنهم مؤيدون لأهل التفويض في أن نصوص الصفات لا يعلم معناها ، وطريقة التأويل الذين يعينون المراد ، وطريق السلف .
وفيما يلي ذكر أهم ما يستدل به على أن نصوص الصفات معلومة المعنى ،وأن تأويلها لا يجوز ، وهو مذهب السلف ، وبذلك يتبين بطلان طريقة التفويض وطريقة التأويل ، فلنبدأ أولاً بذكر أدلة بطلان طريقة التفويض:
الدليل الأول :
ـــــــ
أن الله تعالى أمر بتدبر القرآن أجمع ولم يستثن منه شيئاً ، قال ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ) ص (29) ، وقال {أفلا يتدبرون القرآن } النساء (82) ، وقال (أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباؤهم الأولين ) المؤمنون (68) ، وفي هذه الآية حض الكفار والمنافقين على تدبر القرآن فدل على إمكانهم فكيف بالمؤمنين.
وقال تعالى ( إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون) ، ولم يستثن منه شيئاً لا يعقل ولا ريب أن أعظم ما دل عليه القرآن ما أخبر الله به عن صفاته ، فكيف يذم من تدبر أعظم ما دلّ عليه وتعلم معانيه وأحكامه ، كيف والقرآن مليء بآيات الصفات ، ومنها التي أدعي أنها توهم التشبيه كالاستواء في سبع آيات ، والمجيء ، والإتيان ، والتجلي ، والعين ، والوجه ، واليد ، وذكر ما يدل على أنه فوق العرش ، في آيات كثيرة لا تحصي إلاّ بكلفة.
الدليل الثاني :
ـــــــ
أن الله تعالى ذم من لا يفهم القرآن فقال {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستوراً ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا } الإسراء (45) ، وقال تعالى { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } النساء (78) ، فلو كان المؤمنون لا يفقهون أعظم ما دل عليه لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى به .
وقال تعالى { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً صم بكم عميٌ فهم يعقلون } (171) ، وقال ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أتوا العلم ماذا قال آنفا ، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم } محمد (16) ، فقد ذم من لم يكن حظه من السماع إلاّ سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه ، فكيف يكون أراد من نصوص الصفات ما ذمه الله من السماع الخالي من الفهم والعقل(1) . [[ ينظر مجموع ابن تيمية 5/158ـ 159]]
وقال أيضاً { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلاّ أماني وإن هم إلاّ يظنون } البقرة (78) ، قال ابن جرير { لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله ولا يدرون ما أودعه من حدوده وأحكامه وفرائضه كهيئة البهائم } ثم روى عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل هذا(2) . [[ تفسير ابن جرير 1/259ـ 260]]
الدليل الثالث :
ـــــــ
أن الله أخبر عن القرآن أنه أنزله تبيانا لكل شيء قال تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } النحل (89) ، ومقتضى كونه تبيانا لكل شيء وجود البيان الشافي فيما يجب ويستحيل ويجوز بالنسبة لله فيه .
الدليل الرابع :
ــــــــ
أن الله أخبر عن القرآن وغيره من الكتب الإلهية أنه حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه قال تعالى { وأنزلنا معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} البقرة (213) ، والقول بأن آيات الصفات لا يعلم معناها إلاّ الله يلزم منه أن الخلاف الذي وقع بين أهل هذا الدين في أعظم مسائله ليس في القرآن الحكم فيه وهذا خلاف ما دل عليه القرآن من أنه حاكم بين الناس .
الدليل الخامس:
ــــــــ
أن القرآن مليء بآيات الصفات كما تقدم والقول بأنها لا يعلم معناها ، ويجب فيها التفويض الكلي يلزم منه أن الله تكلم في كثير من القرآن بما لا فائدة فيه وهو محال إذ يلزم منه العبث وهو نقص.
الدليل السادس :
ــــــــ(/27)
أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تكلم في نصوص الصفات في أحاديث كثيرة وفي الصحيحين من ذلك جملة وافرة ، فمما رواه البخاري : قال عليه الصلاة والسلام (لما خلق الله الخلق كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش - إن رحمتي تسبق غضبي)(1) ، [[ فتح الباري 13/384]]
وقال (إن الله لا يخفي عليكم أن الله ليس بأعور وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى)(2) [[ فتح الباري رقم الحديث 38913] .
وقال ( يجمع الله المؤمنين يوم القيامة كذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا يريحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فيقولون يا آدم أما ترى الناس ، خلقك الله بيده ...الحديث)(3) [[ فتح الباري 13/392]] .
وقال (يد الله ملآى لا يغيضها نفقة .. وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفعه)(4) [[ فتح الباري 13/393]] .
وعن عبد الله بن مسعود ( أن يهودياً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً له)(5) [[ المصدر السابق ]]
وقال (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته)(6) [[ المصدر السابق 13/419]]
وقال (إنكم سترون ربكم عيانا)(7) [[ المصدر السابق ]] .
وقال ( إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل إن الله قد أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ... الحديث)(1) [[ المصدر السابق 13 / 461]] .
وقال (يتنزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفر ني فاغفر له)(2) [[ المصدر السابق 13/466]] .
وقال (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض)(3) .[[ المصدر السابق 13/367]]
وهذه النصوص غيض من فيض ، فإنها لكثرتها قد صنفت فيها مصنفات خاصة ، يكثر فيها ذكر أحاديث الصفات ، كالكتب المسماة بكتب السنة ، ككتاب السنة لابن أبي عاصم ، وللمروزي ، ولعبد الله ابن أحمد، وللالكائي ، والصفات للدارقطني ، والتوحيد لابن خزيمة ، وغيرها وفيها من النصوص، ما لا يحصى إلاّ بكلفة ، فهل يقال إنها كلها لا يفهم معناها ، والواجب السكوت عنها ، وإن هذا هو مذهب السلف؟ وإذا قيل إن فائدة ذكرها في القرآن التعبد بتلاوتها فحسب - مع أن هذا باطل - فما فائدة ذكرها في الأحاديث ، وهل يلزم من ذلك إلاّ نسبة العبث إلى مقام النبوة الرفيع.
الدليل السابع :
ـــــــ
أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تكلم ببعض الأحاديث فجاءت كالتفسير للقرآن كما قال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) النحل (44) ، فمن هذه الأحاديث قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض}(4) [[ تقدم تخريجه قريبا ]]
فهذا كالتفسير لقول الله تعالى (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } ، ومنها ما رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (قال قلت يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ، قال هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كان صحواً قلنا لا ، قال فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلاّ كما تضارون في رؤيتهما ...وفي الحديث إن الله يأتي يوم القيامة لمن كان يعبده من بر أو فاجر فيقول ( أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلاّ الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونها ؟ فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحداً ...لحديث )(1). [[ ينظر فتح الباري 13/421]]
وأول هذا الحديث كالتفسير لقول تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) القيامة (22) ، (23) ، وقوله يكشف عن ساق فما بعده كالتفسير لقول الله تعالى (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) ، وذكر أن الله يأتي لعباده كالتفسير لقول الله {وجاء ربك والملك صفا صفا} الفجر (22).(/28)
ومنها ما رواه البخاري أيضاً قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ( الله أرحم بعباده من هذه بولدها ) هو كالتفسير لقول الله تعالى {ورحمتي وسعت كل شيء} الأعراف (156) ، ومعلوم هذه الصيغة (أرحم) قاطعة في إرادة الحقيقة فكيف يصنع من يقول الرحمة هي إرادة الثواب(2) . [[ صيغة ( أفعل التفضيل ) تدل على أن من هي له ، فيه زيادة على غيره في المعنى الذي هي مشتقة منه ، ينظر شرح الوافية نظم الكافية لابن الحاجب ص 331، فقوله ( أرحم ) دال على أن الصفة تطلق على الخالق والمخلوق ، وهي في الخالق أعلى وأكمل ، وقد ورد في سبب الحديث أن امرأة التقطت ولدها من السبي ، فألصقته بثديها ، فقال أترون هذه تلقي ولدها في النار ، أو كما قال ، قالوا لا ، فذكر الحديث ، وينظر في هذا المعنى ، مختصر الصواعق لابن القيم ص 379]]
فإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتكلم بما هو كالتفسير للقران ، ويأتي بألفاظ أخرى تدل على نفس معاني القرآن في هذا الباب ، فكيف يقال لا يعمل معاني القرآن ، ، وهل يفسر القرآن بما لا يعلم معناه .
الدين الثامن :
ـــــــ
إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيجيبهم بما فيه الخبر عن بعض الصفات ، ومعلوم أن الجواب المشتمل على ما لا يفهم معناه ، عيّ منزه عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فمن ذلك ما رواه مسلم عن مسروق قال : سألنا عبد الله (هو ابن مسعود) عن هذه الآية {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } ، قال : أما إنا سألنا عن ذلك فقال (أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فما رأوا أنهم لن يتركوا من يسألوا ، قالوا : يارب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا)(1) . [[ رواه مسلم حديث رقم 1887]]
فهذه الألفاظ المذكورة في الجواب من ذكر اطلاع الله إلى الشهداء ، وخطابه لهم مباشرة ، وفعل ذلك ثلاث مرات ن وهم مع ذلك في جواره مما يفسر قوله تعالى (أحياء عند ربهم يرزقون) ، إما أنها معلومة المعنى فيكون السائل قد استفاد من الجواب، وإما أن يقال لا يعلم معنى هذا ، ولا نتكلم في ذلك فينسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العبث والعيّ.
الدليل التاسع :
ـــــــ
أن القول بأن آيات الصفات أو بعضها لا يعلم معناها يلزم منه أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، لم يكن يفهم معان هذه الآيات كقوله تعالى (استوى على العرش) ، (وجاء ربك) ، (تجلى ربك) ، (ويبقى وجه ربك) ، (خلقت بيدي) ، وغيرها ولا يفهم معاني ما كان يتكلم به من أمثال ما تقدم في الدليل السادس ، ومعلوم أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، ربما تكلم بالأحاديث الطويلة ، وأدخل فيها بعض الألفاظ التي تدل على الصفات ، مثل حديث الشفاعة الذي ذكر فيه الإتيان والتكليم وغيرها ، فهذا القول يلزم منه أنه كان إذا أتى على هذه الألفاظ سرده دون أن يعلم معناها ، إذ لو كان يعلم دلالتها على شيء ، لوجب عليه بيانه للناس وعدم كتمانه وقد علم أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقل يوما هذه الألفاظ لا تعتقدوا ظاهرها ، فإن لها معنى لا يعلمه إلاّ الله(2) . [[ ينظر في هذا الدليل المجموع 16/412ـ 413]]
الدليل العاشر:
ـــــــ
وهو أن هذا القول ، أعني القول بتفويض معاني نصوص الصفات ، قد يفتح باب الإلحاد ، فيقول الملحدون إن نبيّ هذا الدين لا يعرف معاني ما أنزل عليه ، وأصحابه الذين علمهم كذلك مثله ، فينبغى طلب هذه الأمور المهمة من جهة غيره ، فإن قيل لهم هذا مما لا يمكن لاحد منعوا ، وقالوا : إن ما في القرآن : إن ذلك الخطاب لا يعلم معناه إلاّ الله ، لكن من أين لكم أن الأمور الإلهية لا تعلم بالأدلة العقلية التي يقصر عنها البيان بمجرد الخطاب والخبر(1) . [[ ينظر مجموع ابن تيمية 16/414]]
الدليل الحادي عشر:
ـــــــــــ
إنا نعلم أن الصحابة كانوا يعلمون معاني آيات الصفات لأن العادة المطردة توجب اعتناء السلف بالكتاب المنزل عليهم لفظاً ومعنى ، فإن من قرأ كتاباً في الطب والحساب وغير ذلك فلابد أن تكون نفسه راغبة في فهمه وتصور معانيه ، فكيف بالذين قرءوا كتاب الله الذي به هداهم وعرفهم الحق من الباطل ، فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات بل رغبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تعريفهم معاني القرآن أعظم من تعريفهم حروفه.(2) [[ المصدر السابق 5/157]]
خلاصة ما تقدم:
ـــــــــ(/29)
أن هذه الحجج الدامغة ، دافعة لا محالة ، هذه المقالة ، إلى الحضيض ، فلم يبق إلاّ أن يقال هذه النصوص المخبرة عن الله سواء قيل كلها أو بعضها ، معناها معلوم للراسخين في العلم ، ثم لا يخلو الأمر إما أن يقال ذلك المعنى هو ظاهرها وأنها صفات لله تعالى لائقة به ، وإما أن يقال بل معناها غير ذلك ولا تدل على صفات الله وهي طريقة التأويل.
@@@@@@@@@@@@@
الأدلة على بطلان طريقة التأويل :
ــــــــــــــــــ
ويدل على بطلانها أدلة :
الدليل الأول :
ــــــ
أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد (وهو حقيقة التأويل) ، وقد وصف الله آياته بأنها بينات ، مبينات وقال (ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) ، فكيف يقال إن أعظم ما دل عليه القرآن مصروف عن ظاهره(1) . [[ ينظر مختصر الصواعق ص 38 ]]
الدليل الثاني :
ـــــــ
أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تلا آيات التنزيل على العام والخاص وتكلم بألفاظ كثيرة في هذا الباب للعلماء والأعراب ، ولو كان ظاهره غير مراد لوجب أن يقترن بهذا كله ما يبين أن ما أتلوه عليكم وأذكره لكم من النزول وإتيان الرب يوم القيامة ، والأصابع ، وأن الله ليس بأعور ، وأن يد الله ملآى وبيده الأخرى الميزان وإن الله كتب في كتاب عنده فوق العرش ، وأني لا زلت اختلف بين ربي وموسى ليلة المعراج في شأن الصلاة .
أن ذلك كله ليس على ظاهره ، وإياكم أن تعتقدوه على ظاهره فلما علم أنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينطق قط بمثل هذا لاح أنه أراد أن يعتقد ظاهره مع التنزيه(2) . [[ ينظر المجموع 5/67، وأضواء البيان2/286]]
يزيده وضوحاً: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان يذكر أحاديث الصفات في المجامع ، وعلى المنبر ، ولم يذكر مع ذلك ما يدل على أنه يريد خلاف الظاهر من أن هذه صفات الله وأفعاله ، فمن ذلك ما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر قال : رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر وهو يقول يأخذ الجبار عز وجل سماواته وأرضه بيديه فيقول أنا الله ، أنا الملك ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه ، حتى أني أقول أساقط هو برسول الله -صلى الله عليه وسلم- (3) .
[[ رواه مسلم حديث رقم 2788وما بعده ]]
ومن ذلك ما رواه مسلم أيضاً من حديث جابر في ذكر حجة الوداع ، وفيه أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله ، وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ، قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة ، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم أشهد ، اللهم اشهد )(4) . [[ رواه مسلم حديث رقم 147]] ، وذكره اللهم فاشهد مع إشارته إلى السماء في هذا المجمع العظيم ، في خطبة يوم عرفة ، الذي يحضره عوام المسلمين وعلماؤهم ، مع عدم اقتران ذلك بما يصرف هذا الظاهر ، قاطع في إرادة الظاهر .
الدليل الثالث:
ـــــــ
أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سأل بعض المؤمنين عن بعض ما يتعلق بهذا الباب فلما أجيب بالإثبات سكت عن المجيب بل جعل ذلك دليلاً على صحة الإيمان ومعلوم أن هذا قاطع في عدم إرادة خلاف الظاهر ، ومن ذلك ما رواه مسلم عن عطاء بن الحكم السلمي ، وفي الحديث أنه ضرب جارية له قال : فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعظم ذلك علىّ ، قلت يا رسول الله أفلا أعتقها ، قال : إئتني بها ، فأتيته بها فقال: أين الله؟ قالت في السماء ، قال من أنا قالت أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة (1). [[ رواه مسلم حديث رقم 573]]
قال الذهبي بعد هذا الحديث (هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وغير واحد من الأئمة في مصنفاتهم يمرونه كما جاء ولا يتعرضون له بتأويل ولا تحريف ، وهكذا كل من يسأل أين الله ؟ يبادر بفطرته ويقول في السماء ففي الخبر مسألتان : إحداهما شرعية قول المسلم أين الله ؟ وثانيهما قول المسؤول : في السماء ، فمن أنكر هاتين المسألتين فكأنما ينكر على المصطفى(2). [[ ينظر الذهبي مختصر العلو ص 81]]
الدليل الرابع :
ــــــــ
وهو إجماع السلف على عدم تأويل هذه النصوص بلا استثناء شيء منها ، وقد تقدم ذكر ما يدل على أن هذا إجماع متيقن ، والإجماع حجة قاطعة فيجب المصير إليه ، وقد اعترف أكابر أهل التأويل أن السلف لم يؤولوا هذه الصفات لكنهم أرادوا بهذه المقالة أنهم ـ أي السلف ـ لم يعينوا المراد مع اعتقادهم أن هذه النصوص لا تدل على الصفات - أي النصوص التي توهم التشبيه - وقد تقدم بطلانه ، أي بطلان زعم أهل التأويل هذا .(/30)
غير أنه يستفاد من قول أهل التأويل هذا ، أن أحداً من السلف لم ينطق بلفظ يدل على تأويل نصوص الصفات باتفاق الفريقين ، وممن ذكر هذا عن السلف أمام الحرمين أبو المعالي في النظامية ومنه قوله (فلو كان تأويل هذه الآي ، والظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة ، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع(1)، [[ النظامية ص 33 ]] ، وقال ابن حجر بعد أن ذكر قول أبي المعالي هذا ( وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم الأئمة ، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة)(2) [[ فتح الباري 13/406ـ 407 ، وانظر ما نقل عن الأئمة المذكورين ، وقوله بشهادة صاحب الشريعة يقصد بذلك حديث ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم .. الحديث ) رواه البخاري ، ينظر فتح الباري 5/259]]
الدليل الخامس :
ـــــــــ
وهو أن التأويل قد صار إليه أهله ، لما قالوا إن ظاهر كثير من نصوص الصفات هو التشبيه والتجسيم فلابد من إرادة غير الظاهر ، وهذا يلزم منه أمور باطلة تدل على أن هذا القول باطل وهي :
(1) أن يكون ظاهر القرآن والسنة كفراً وضلال في مواضع كثيرة ، وهذا ينافي بالهدى والرحمة وشفاء الصدور في كثير من الآيات (3). [[ ينظر أضواء البيان 2/285]]
(2) أن يكون الحق والصواب في هذا الباب العظيم لم يبين بياناً واضحاً في القرآن، بل أريد من العباد أن يفهموا خلاف ظاهر كثير من نصوصه من قوله (ليس كمثله شيء ) كما زعموا ، وهذا شبيه بالألغاز ينافي وصف القرآن بأنه تبيان لكل شيء .
(3) أن يكون خطاب الله ورسوله في هذا الباب قد تنوع تنوعاً كثيراً بما ظاهره خلاف الحق وهذا واضح في مسألة العلو ، فقد جاء تارة بأنه (استوى على العرش) ، وتارة (بأنه القاهر فوق عباده) وتارة بأنه ( العلي الأعلى) ، وتارة (بأنه الملائكة تعرج إليه) ، وتارة (بأن الكتاب ينزل من عنده) ، وتارة (بأنه في السماء) ، وتارة (بأنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء ) ، وتارة (بأن النبيّ عرج إليه وكلمه) ، وتارة ( بأن المؤمنين يرونه فوقهم يوم القيامة) ، وغير ذلك ، ثم أريد من العباد ألا يعتقدوا أن الله فوق العالم بل يعتقدوا أنه ليس في شيء من الجهات ، ولا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا يشار إليه بالإشارة الحسية ، ولا يأتي لفظ واحد يدل نصّاً ولا ظاهراً على هذه العقيدة بل يترك لكافة المؤمنين أن يعتقدوا ذلك من محض عقولهم وقدرتهم على استنباط ذلك من قوله (ليس كمثله شيء )(1) . [[ ينظر في هذا الدليل مختصر الصواعق المرسلة ص 41ـ 46 ]]
وكذلك يلزم أن يكون خطاب الله ورسوله استعمل فيه أسلوب التأكيد والإعادة والتكرير على أمر ما ، ومع ذلك فهو فيما استعمل فيه هذه الأساليب ليس على ظاهره مثل قوله (وكلم الله موسى تكليما ) فإنه ليس على ظاهره عند أهل التأويل أما المعتزلة فكلامه مخلوق وأما غيرهم فكلام الله النفسي لا يسمع منه وإنما ألقي في روع موسى المعنى فليس الخطاب على ظاهره أيضاً .
ومثل ذكر الاستواء مرات عديدة على العرش مادحا نفسه به في سبع مواضع من القرآن ، فيلزم إذا قيل بعدم إرادة الظاهر أن يكون الخطاب أكد وأعيد وكرر على ظاهر غير مقصود وهذا يلزم منه نسبة التلبيس إلى الكتاب والسنة وهذا من أعظم الباطل .
الدليل السادس :
ـــــــــ
وهو أن عقيدة الإسلام سهلة ، يمكن لأدنى الناس علماً أن يفهمها والقول بتأويل هذه النصوص يعكس الأمر ، فإنه لا عسر على الأمة من أن يراد منهم ، أن يفهموا كونه سبحانه لا داخل العالم ، ولا خارجه ، ولا متصلا به ، ولا منفصلاً عنه ، ولا مباينا ، ولا محايثا له ، ولا يرى بالأبصار عيانا ، ولا له يد ، ولا وجه ، مع كثرة النصوص التي ظاهرها خلاف هذا ، يفهموا ذلك كله من قوله (قل هو الله أحد) ، ( ليس كمثله شيء)(2) . [[ ينظر في هذا الدليل مختصر الصواعق ص 46 ]]
الدليل السابع :
ــــــــ
أن القول بالتأويل وأن نصوص الصفات على خلاف ظاهرها يفتح باب الزندقة والإلحاد ، وذلك أن الزنادقة سيحتجون بجواز تأويل نصوص الصفات على جواز تأويل نصوص المعاد وأنها على خلاف ظاهرها(3) [[ ينظر مجموع ابن تيمية 5/32ـ 33]] فيقولون المقصود بنصوص الحشر التمثيل لما يحصل للروح من نعيم من دون الجسد ، إن كانوا ممن ينكر حشر الأجساد .
أو يقولون باطن هذه النصوص لا يدل على المعاد وإنما قصد بالظاهر تمثيل ما يحصل للروح من نعيم في أجساد أخرى ، إن كانوا ممن يقول بالتناسخ إلى غير ذلك من دهاليز الزندقة .(/31)
ولما ظهر مضمون هذين الدليلين لبعض من تجرد لما يسمى بعلم النظر ، وتبين له أن القول بتأويل ظواهر بعض النصوص المقتضية للتشبيه عنده ، يجعل الاعتقاد عسيرا على الأمة ن وقد يؤدي إلى فسادهم ، قال وهو السعد التفتازاني في شرح المقاصد : ( فإن قيل إذا كان الدين الحق نفي الجهة والحيز ، فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك من غير أن يقع في موضع واحد منها تصريح بنفي ذلك وتحقيق(1) [[ كذا بالأصل ]] كما كررت الدلالة على وجود الصانع ووحدته وعلمه وقدرته وحقيقة المعاد وحشر الأجساد في عدة مواضع ، وأكد غاية التأكيد مع أن هذا أيضاً حقيق بغاية التأكيد ، والتحقيق ، كما تقرر في فطرة العقلاء مع اختلاف الأديان والآراء من التوجه إلى العلو عند الدعاء ومد الأيدي إلى السماء ؟ أجيب : بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة ، حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في جهة ، كان الأنسب في خطابهم والأقرب إلى صلاحهم ، والأليق إلى دعوتهم الحق ، ما يكون ظاهرا في التشبيه ، وكون الصانع في أشرف الجهات مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمة الحدوث)(2) . [[ نقلا عن التنكيل للمعلمي 2/357]]
فلينظر العاقل بعد هذا ، ما الذي أدى إليه جعل ظواهر الشريعة تقتضي التشبيه ، ثم تسليط التأويل عليها من شبه القرمطة وعقائد الباطنية ، وانظر كيف صرح هذا الإمام في علم الكلام أن بعض ما يدل على التأويل لا يصلح لجمهور أمة الإسلام .
وقوله ( مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق ) هو معنى الألغاز وهو غير لائق بالقرآن الموصوف بأعلى درجات البيان كما تقدم في الدليل الخامس .
وكلما ازداد الرجل مما يسمى بعلم النظر، زاد توغلاً في هذا الخطر ، كما صنع ابن رشد الذي زعم (أن الشريعة قسمان ظاهر ومؤول وأن الظاهر فرض الجمهور والمؤول هو فرض العلماء ...ولا يحل أن يفصحوا بتأويله - أي الظاهر - للجمهور)(3) . [[ ينظر مناهج الأدلة في عقائد الملة ص 133]]
ثم زعم أن أكثر ظواهر الآيات ونصوص الصفات يجب إلقائها إلى الجمهور ، وإن اقتضت التجسيم على زعمه خوفاً عليهم من التعطيل(4) ، [[ المصدر السابق ص 171]] ولأنهم يعسر عليهم فهم دليل نفي الجسمية (5) [[ المصدر السابق 170]] ، ولئلا يسلك الشك إلى قلوبهم في أمر المعاد(6) [[ المصدر السابق 172]] ، ثم لما ذكر بعض النصوص التي ادعي أنها تقتضي الجسمية (كاطلاع الباري إلى أهل المحشر ) وأنه هو الذي يتولى حسابهم وحديث النزول والرؤية قال (فيجب إلاّ يصرح للجمهور بما يؤول إلى إبطال هذه الظواهر فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هو إذا حملت على ظاهرها ، وأما إذا أوّلت فإنما يؤول الأمر فيها إلى أحد أمرين : إما أن يسلط التأويل على هذه وأشباه هذه في الشريعة فتتمزق الشريعة كلها ... وإما أن يقال في هذه كلها إنها من المتشابهات ، وهذا كله إبطال للشريعة محولها من النفوس من غير أن يشعر الفاعل لذلك بعظيم ما جناه على الشريعة)(1) . [[ المصدر السابق 172ـ 173]]
فهذا تصريح من هذين الإمامين فيما يسمى بصناعة البرهان ، أن التأويل ، يجعل بعض عقيدة الإسلام عسيرا على الأمة ، وقد يؤدي إلى هتك الدين كله ، واستدلا بذلك على أن الواجب إظهار خلاف الحق لهم وعدم إلقاء التأويل إليهم ، والحق أن الأولى أن يستدل به على بطلان التأويل ، إذ كيف يكون الحق الذي جاء به الرسول فيما يجب لله ويستحيل لا يناسب فطرة العباد ، فهذا ما جناه التأويل على الدين .
الدليل الثامن :
ــــــــ
أن القول بتأويل نصوص الصفات لا يخلو الأمر فيه :
إما أن يقال بتأويلها كلها أو بعضها ، ولاريب أن القول بتأويلها كلها وأن الله أراد بذكر صفة العلم والسمع والبصر ، والحياة وكل ما وصف به نفسه خلاف الظاهر ، من أبطل الباطل وأعظم الإفتراء على الشريعة .
فلم يبق إلاّ أن يقال بتأويل بعضها وهو تحكم محض إذ العلة التي أوجبت تأويل الكل لا زالت في البعض وهو اقتضاء التجسيم ، ولا يستطيع صاحب التفريق أن يأتي بحجة مستقيمة عليه ، فإن قال لأن هذه التي أوجبت فيها التأويل توجب التشبيه ، والتجسيم قال منازعن الذي يؤول الكل وكذلك السمع والبصر والكلام يوجب التجسيم وإذا بطل القسمان ، بطل القول بتأويل الصفات(2) [[ ينظر في هذا الدليل مختصر الصواعق ص 18ـ 19 ، وأضواء البيان للشنقيطي 2/275ـ 276) ]]
الدليل التاسع:
ـــــــ(/32)
وهو أن تأويل الصفات في أكثر النصوص ، لا يخرجها إلاّ إلى معنى يحتاج إلى تأويل آخر بالنظر الدليل الذي أوجب التأويل الأول ، فمن ذلك تأويل الرحمة بالإرادة ، لأن ظاهر الرحمة رقة في القلب ، فإن الإرادة كذلك ينبغي أن تحتاج إلى تأويل لأنها ميل القلب إلى الشي وكلاهما يقتضي التشبيه ، ومن ذلك تأويل اليد بالقدرة ، كلاهما يوصف به الخالق والمخلوق ، فإذا قيل الإرادة والقدرة يوصف بها الخالق على ما يناسب ذاته والمخلوق كذلك بما يناسب نقصه ، مع تشابه الإطلاقين فيهما فلماذا لا يقال كذلك بالرحمة واليد وغيرهما يوصف الله بهما ولا يوجب ذلك تشبيهاً فإذا كان التأويل لا يصنع شيئاً إلاّ تحريف النص كان هذا دليلاً على بطلانه(1) . [[ ينظر في هذا الدليل مختصر الصواعق ص 22ـ 23، ومجموع فتاوى ابن تيمية 3/26]]
الدليل العاشر :
ـــــــ
أن التأويل لو كان حقاً وأن ظاهر النصوص غير مراد ، بل هي من باب المجاز للزم من ذلك جوار نفيها عند الإطلاق فيقال ليس بحي ، ولا قدير ، ولا عليم ، ولا سميع ، وكذلك يقال لا يحب ، ولا يرحم ، ولا يرضى ن ولم يستو ، ومعلوم أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته الله ، وإذا كان الملزوم باطل فاللازم باطل . [[ ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 5/197]]
خلاصة ما تقدم:
ــــــــ
والخلاصة أن هذه الأدلة العشرة واضحة في بيان بطلان تأويل نصوص الصفات ، وهي مع ما تقدم من أدلة بطلان التفويض فيها لا تدع ريبا في صحة طريقة في نصوص الصفات .
وقد استدل أهل التأويل بأدلة وهي أقرب إلى الشبهات منها إلى الحجج ، ولذا لم تذكر على سبيل المقارنة مع أدلة الطريقة السلفية ، وقد جعلوها عمدتهم في ادعاء أن نصوص الصفات من المتشابه الذي يجب صرفه عن ظاهره بالتأويل وإنه ينبغي ذكرها والجواب عنها ليتبين بذلك العلاقة الصحيحة التي بين نصوص الصفات والمتشابه ، وهو موضوع المبحث الثالث .
الفصل الثاني
أهم أدلة أهل التعطيل والتأويل ، والرد عليها
ـــــــــــــــــــــــ
ويشتمل هذا الفصل على ما يلي
ـــــــــــــــــــ
أولا : إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة .
ثانيا : ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية .
ثالثا : ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات .
رابعا : الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى .
خامسا : تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم ، في الاستواء وكلام الله تعالى ورؤيته جل وعلا .
@@@@@@@@@@@@@
أولا : إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة :
ــــــــــــــــــــ
قد يستدل القائلون بتأويل الصفات ومن يجعل منهم نصوصها من المتشابه الذي لا يراد ظاهره بأدلة كثيرة ، وقد ينزعون في بعض الأحيان إلى الاستدلال بالسمع ، لكن تعويلهم الأعظم على الأدلة العقلية(1) وهي متنوعة .، [[ كما ذكر الرازي في تفسيره 7/170، ولهذا قال في المواقف في علم الكلام ( ودلائله يقينية يحكم بها العقل ، وقد تأيدت بالنقل ) ص 8 ، فجعل الاعتماد على الأدلة العقلية ، وأما النقلية فهي تؤيدها فحسب]]
وفي تفصيل القول فيها تطويل يخرجنا عن مقصود هذا الكتاب ، غير أن لهم في هذا الباب أدلة تجري مجرى الأصول لغيرها ، ومنها تفرع كثير من الاستدلال العقلي عندهم ، فإذا ذكرت وبين وجه الجواب عنها اتضح بذلك السبيل الذي اتبعوه في الحكم على هذه النصوص بالتشابه بالمعنى الذي أرادوه .
ويتضح بذلك أيضاً طريق الجواب عن غيرها من الأدلة العقلية بما ينقض زعم من زعم ، أن الأدلة العقلية قد تناقض الوحي الإلهي ، وإن الواجب في هذه الحال التصرف فيه ليلائمها ويتفق معها ، فإن لم يستطع ذلك قدمت الأدلة العقلية على نصوص الوحي ، وأحسن الظن فيها ـ أي نصوص الوحي ـ : بأنها مما يراد به الابتلاء ، لا اعتقاد ما دلت عليه.(2) [[ ينظر ما ذكره الرازي في الاستدلال على صحة هذا الأصل عنده ، أساس التقديس ص 172]]
ولابد من تقديم جملة مشتملة على ركنين قام عليهما ما سيذكر من الأدلة .
فيقال:
أما الركن الأول :
ـــــــــ
فهو أن هؤلاء المتكلمين - وهم القائلون بتأويل نصوص الصفات - قد اعتقدوا مسائل رأوها قاطعة ، دل عليها براهين محكمة ، وبنوا عليها أموراً عظيمة كإثبات وجود الله ، وأنه صانع العالم ، ورأوا أنها إذا ابتنى عليها هذا الذي هو أصل الدين ، فلا يجوز تقديم ما جاء في السمع عليها ، لأن في ذلك تقديم الفرع على أصله .
وبيان هذا أنهم قسموا ما في العالم من الموجودات إلى قسمين :
جواهر وأعراض ، ولتكون القسمة حاصرة ، جعلوا الجوهر هو المتحيز ، وهو ما يشار إليه بالذات الإشارة الحسية .
والعرض موجوداً قائما بمتحيز ثم جعلوا الجواهر قسمان : ما يقبل القسمة ، وهو الجسم ، وما لا يقبلها لا وهماً ، ولا فعلاً ن ولا فرضا ، ً وهو الجوهر الفرد .(/33)
واعتقد أكثرهم أن الأجسام متركبة في الحقيقة من هذه الجواهر الصغيرة التي هي في غاية الحقارة ، وهي في حقيقة الأمر متماثلة تتجمع لتكون الأجسام .
والأجسام كلها في هذا العالم متكونة منها(1) ،[[ ينظر في الجواهر والأجسام المواقف ص 182ـ 188، شرح العقائد 46ـ 56]] ، لا فرق بين جسم وآخر في أن أصله هذه الجواهر ، والاختلاف الظاهر فيها راجع إلى اختلاف الأعراض القائمة بها .
فجسم النار وجسم الثلج متماثلان إلا أن أعراضاً قامت بالجسم الناري كالحرارة والطافة جعلته بهذه الصفة ، والبرودة والرطوبة جعلت الثلج بهذا الشكل ، واختلاف أحجام الأجسام راجع إلى كثرة هذه الجواهر فيها وقلتها وهذه الجواهر متماثلة (2) .[[ ينظر في تفصيل القول بتماثل الأجسام مع المصدرين السابقين ، درء التعارض 1/116، 5/194ـ 2020، 7/112ـ 114 ، وقد ذكر أن القول الصحيح في انقسام الأجسام أنها تتجزأ حتى تصير إلى أجسام أخرى ،كما يستحيل الماء إلى هواء بالحرارة وأن القول بالجوهر الفرد لا يقول به أكثر العقلاء ، والأجسام غير متماثلة عندهم أيضا ، وينظر كذلك تلبيس الجهمية 1/518، والدرء 3/442، 445، وقد عزى الجرجاني القول بتماثل الأجسام إلى المتكلمين ، التعريفات للجرجاني 75، والآمدي كذلك ، نقلا عن الدرء 4/176]]
وطائفة قليلة لم تعتقد قسمة الأجسام إلى هذه الجواهر الصغيرة ، لكنهم اتفقوا جميعاً على أن الجسم هو ما يمكن الإشارة إليه مما ينقسم ، ويعنون بانقسامه أن يتميز فيه شيء عن شيء ، فيكون فيه يمين ويسار أو فوق وتحت ، وإن كان انقسامه بمعنى انفصاله إلى أجزاء مما لا يقع .
وأما الأعراض فهي كالألوان ، والطعوم ، والروائح ، والأصوات ، وما يسمونه الكيفيات النفسية كالعلم ، والإرادة ، والقدرة ، وكل ما لايمكن الإشارة إليه من الموجودات ، ولا يقوم بنفسه كالاجتماع ، والافتراق ، والحركة ، والسكون ، وزعم أكثرهم أن الأجسام لا تخلوا من الأعراض ، أما من قال بالجواهر الفردة فلأنها متركبة منها فلا تخلوا من عرض الاجتماع ، وقال بعضهم لاتخلوا من الحركة ، والسكون ، أو الاجتماع ، والافتراق ، وقال بعضهم : لا تخلوا من جميع أنواع الأعراض . [[ ينظر الإرشاد للجويني ص 44ـ 45، والتمهيد للباقلاني ص 39ـ 40 ، وشرح العقائد ص 55ـ 57 ، والمواقف ص 101]]
واشتهر عند الأشعرية أن العرض لا يبقى زمانين ، بل هي ـ أي الأعراض ـ تتجدد حالاً فحالاً ولما أورد عليهم بأن المشاهدة قاضية ببقاء الأعراض قالوا : لا دلالة لها كالماء الدافق من الأنبوب يجري مستمراً وهو أمثال تتوارد(4) . [[ ينظر المواقف 101، والتمهيد ص 38]]
هذا و لهم في هذه المباحث تفاصيل ، وجدال طويل ومعارضات ، وأدلة يسودون بها الصفحات في الجوهر والعرض ، فكم تناظروا في الجوهر الفرد ، وهل السكون عرض ، وأن الأجسام متماثلة في الأصل ، وينقض بعضهم قول بعض في تفاصيل تتعلق بالجواهر والأعراض ، مما لا يخفى على المطلع على طائفة من كتبهم ولو كانت قليلة.
لكن هذه الجملة المتقدمة أظهرت أعظم مسائل جواهرهم وأعراضهم ، بما فيهم المعتزلة وهي مادة غالب كلامهم في باب الصفات ، وإنما قدمت لتتضح دلائلهم فيما يأتي.
وأما الركن الثاني :
ــــــــــ
فهو أن المتكلمين أحدثوا طرقاً في إثبات حدوث العالم وصانعه ، بنوا عليها صحة الدين ، ورأوا اطرادها ، وقد بنوها على ما تقدم في الركن الأول .
ورؤوسها ثلاث طرق ، وهي :
الطريقة الأولى :
ــــــــــــ
يقولون فيها ما مثاله(1) [[ ينظر في هذه الطريقة ، الإرشاد للجويني ص 39ـ 48، ولمع الأدلة له ص 76ـ 80، التمهيد 41، 42، شرح العقائد ص 54ـ 56]]
العلم أما جوهر أو عرض ، فإذا ثبت حدوثهما فالعالم حادث ، ونحن نثبت حدوث الأعراض ونبني عليه حدوث الجواهر ، فنقول : إن الجواهر لا تتعرى عن الأعراض البتة ، فأما إن صح وجود الجوهر الفرد ، فلا تنفك الجواهر عن عرض الاجتماع ، أو الافتراق ، وأما إن لم يصحّ فالحركة والسكون ، أو غيرها من الأعراض .
والأعراض حادثة لأنها تتعاقب على محالها التي هي الجواهر ، فنستيقن حدوث الطارئ منها من حيث وجدت ونعلم حدوث السابق من حيث عدمت ، لأن وجود الشيء بعد عدمه أو عدمه بعد وجوده دليل على حدوثه ، والحوادث لابد لها من مبدأ ، إذ لا يصحّ حوادث متسلسلة لا أول لها ، ويعنون بالحادث ما سبقه عدم .
فينتج من هذه المقدمات حدوث الجواهر إذ ما لا ينفك عن الحوادث التي لها مبدأ ، حادث مثله ضرورة ، فينتج حدوث العالم ، إذ هو بأسره ، جوهر أو عرض ، والحادث لابد له من محدث أحدثه وهو الله تعالى .
وقد عد بعضهم هذه الطريقة ، العمدة في إثبات وجود الله ، وجعل الدين مبنيا عليها(1) . [[ حكاه ابن تيمية عن أبي المعالي ، الدرء 1/303، ويدل عليه كلامه في الإرشاد ص 151]]
الطريقة الثانية :
ــــــــــــ(/34)
وهي مبنية على القول بتماثل الأجسام ، وأشهر من قال بها أبو المعالي رحمه الله ، فإنه استدل بأن الأجسام في الأصل متماثلة ، وإنما يحصل الاختلاف بينها لاختصاص كل جسم بأعراض تخصه ، كما تقدم بيانه ، واختصاص كل جسم بما له من الصفات دون غيرها - كالحيز الذي هو فيه دون غيره ، والحد والنهاية الذي هو عليها دون غيرها - مفتقر إلى مخصص خصصه على هذه الصفات ، والمفتقر إلى غيره حادث والحادث لابد له من محدث وهو الله جل وعز.
وقد يسمون هذه الطريقة ، طريقة إمكان الأعراض ، والممكن عندهم هو ما لايجب وجوده ولا عدمه ، والواجب يجب وجوده ، والممتنع ما يجب عدمه وظاهر أن الممكن محدث والمحدث بحاجة إلى محدث(2) . [[ ينظر في هذه الطريقة ، الرسالة النظامية 16ـ 27، وقد ذكر ابن رشد أن الذي استنبطها هو أبو المعالي ، ثم شرحها ابن رشد بإيجاز ووضوح ، مناهج الأدلة ص 144، وينظر أيضا مقدمة الدكتور محمود حسين للكتاب ص 15 ، وكذلك الدرء لان تيمية 3/75ـ 76، وهذه الطريقة تنصب على إثبات الصانع بدون توسط إثبات حدوث جميع الجواهر ، كما صرح بذلك الرازي فيما نقل عنه في المصدر السابق ]] .
الطريقة الثالثة :
ـــــــــــ
وهي مبنية على تركيب الأجسام من الجواهر المفردة ، ويقال فيها : إن الأجسام مركبة ، والمركب مفتقر إلى أجزائه ، والمفتقر إلى غيره ممكن ، والممكن محدث ، وإذا كانت الأجسام ممكنة محدثة فالأعراض التي لا تقوم إلاّ بها أولى بالإمكان والحدوث ، فالعالم محدث والمحدث لابد له من محدث(3) . [[ ينظر شرح المواقف للجرجاني 3/2، 5]]
استنباط مما مضى :
ـــــــــــ
ويستنبط من هذه الطرق ، أنها كلها ، مبنية على الجسم ، بالاصطلاح الذي وضعوه ، ومضمونها أن الشيء إذا كان في جهة ، ويشار إليه فهو جسم حادث ، وإن دليل حدوثه من ثلاث جهات:
الجهة الأولى : عدم انفكاكه عما يطرأ ويزول فهذا يدل على الحدوث.
الجهة الثانية : اعتوار الصفات الجائزة إياه - أي التي يجوز ألا تكون كما هي - كوجوده في حيز معين أو مقدار معين وحد معينين ، دون غيرها - فهذا يدل على افتقاره إلى مخصص وهو دليل على الإمكان ، والممكن لابد له من مؤثر يرجح جانب وجوده على عدمه فهو محدث.
الجهة الثالثة: تركيبه دليل على افتقاره إلى ما تركب منه والافتقار دليل الإمكان .
ملحوظة :
ـــــ
يلاحظ أن الطرق السابقة هي استدلال بحدوث الجواهر ، وإمكانها كما هي الأولى والثالثة ، وإمكان الصفات - وهي الأعراض - كما هي الثانية ، وبقي الاستدلال بحدوث الصفات ، وقد يذكر مع الطرق السابقة أيضاً ، لكن الطريقة الأولى والثانية أشهر ، والأولى من الثانية وهي في الأصل للمعتزلة(1) [[ ممن ذكرها الرازي فإنه قال : الاستدلال على الصانع إما أن يكون بالإمكان ، أو الحدوث ، وكلاهما إما في الذات ، وإما في الصفات ، وينظر معالم أصول الدين للرازي ص 38 ، وذكر مثل هذا في المواقف ص 266، وقد اقتصر على هذه الطريقة الأشعري في اللمع ص 17ـ 18 ، واقتصر على الأولى كل من الجويني في إرشاده ولمعه ، والباقلاني في تمهيده ، والتفتازاني كما تقدم عنهم جميعا ، وكذلك اقتصر عليها السنوسي في شرح أم البراهين (151ـ 154) ]]
( والاستدلال بحدوث الصفات ، هو جزء من طريقة القرآن فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدث في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان ، وغير ذلك من الحوادث ، لكن القائلين بالجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا إستدلالاً بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها لكن تغير صفاتها). [[ ينظر كلام ابن تيمية الدرء 3/83]]
ولهذا يقول الرازي في التمثيل لهذه الطريقة (( مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء انساناً )) [[ عزاه في حاشية الدرء إلى نهاية العقول في دراية الأصول للرازي مخطوط ، ينظر العزو في الدرء 3/ 82]] وليس في هذا دليل على حدوث الجواهر الحاملة لهذه الأعراض - كما لا يخفى - ولهذا عاد الأشعري رحمه الله بعد ذكر هذه الطريقة إلى الاستدلال على حدوث النطفة - التي مثل بها لهذه الطريقة - بعدم انفكاكها عن الأعراض كما ذكر في الطريقة الأولى السابقة . [[ ينظر اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع ص 18ـ 19]] .
كما أن هذه الطريقة ليس فيها ما يقتضي إلاّ يكون صانع العالم جسماً ، بالمعني الكلامي ، كما قال الرازي ( والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها ، أن الأول يقتضي ألا يكون الفاعل جسماً ، والثاني لا يقتضي ذلك ) [[ ينظر العزو إلى كتاب الرازي دراية الأصول الذي مر ذكره آنفا ]] ، واقتضاء طريقة الإمكان لما ذكر بسبب بناؤها على تماثل الأجسام .
وسيأتي الكلام على هذه الطريقة القرآنية ، وأنها ليست في حدوث الصفات فحسب ، بل الله تعالى أشهدنا حدوث الذوات ، والصفات ، ليجعل ذلك دليلاً على نفسه تبارك وتعالى .(/35)
وهكذا ، استعمل أهل الكلام ، الجواهر والأعراض ، وأحكامهما لاثبات حدوث العالم ثم إثبات صانعه ، وهو الله عز وجل ، فرأوا أن الاستدلال بالسمع مبني على هذه الأدلة العقلية ، التي اثبت بها وجود الله منزل الوحي - سبحانه وتعالى - ، فقدموها ، وحكموا بها على الوحي كما سيأتي عند ذكر أدلتهم على أن نصوص الصفات من المتشابه الذي يجب حمله على خلاف ظاهره .
فإن هذه الطرق أنتجت لهم الأدلة التي سيستدلون بها على معارضة السمع وصرفه عن ظاهره .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
ثانيا : ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدليل الأول :
ـــــــ
أن إثبات الصفات لله ، على أنها معاني زائدة على ذاته لا يخلو الأمر فيها ، إما أن تكون حادثة فيلزم حلول الحوادث بذاته ، أو تكون قديمة فيلزم أن يكون لله تعالى مماثلا في أخص وصفه وهو القدم ، فيتعدد القدماء ، وما لا يلزم منه إلاّ الباطل فهو باطل .(1)
[[ ينظر شرح الأصول الخمسي لعبد الجبار الهمداني ص 195ـ 196]] .
وفيما تقدم ما يبين معنى قولهم (يلزم حلول الحوادث) وأنهم استدلوا بهذا على حدوث ما تحل به الحوادث ، ولذلك منعوا هذا هنا .
الدليل الثاني :
ــــــــ
أن إثبات الصفات ، نسبة للأعراض إليه سبحانه وتعالى ، والأعراض لا يجوز أن يوصف الله بها إذ هي دليل على أن ما قامت به فهو جسم حادث(2). [[ المصدر السابق 201]]
الدليل الثالث :
ــــــــ
أن إثبات الصفات يلزم منه نسبة التركيب إلى الله ، وانه مركب من الذات والصفات والمركب مفتقر إلى غيره فهو ممكن ، والله تعالى واجب الوجود بنفسه.(1) [[ ينظر المجموع 6/339]]
وقد تقدم كيف جعل التركيب دليلاً على الإمكان والحدوث ،وأنه من البراهين المستعملة في إثبات حدوث العالم الذي يعتمد عليه إثبات الصانع منزل المحكم والمتشابه .
وهذه الأدلة هي أهم ما يستدلون به على نفي الصفات ، ومن هنا جاء القول بأن نصوص الصفات من المتشابه عندهم ، لأنها تدل على خلاف ما قررته هذه البراهين المحكمة عندهم ، كما قال القاضي عبد الجبار (فأقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه أدلة العقول )(2) [[ متشابه القرآن له 1/8]] ، فمثل هذه الأدلة حملته على جعل نصوص الصفات من المتشابه الذي عرفه بأنه (ما خرج ظاهره عن أن يدل على المراد)(3) [[المصدر السابق 1/19]] ، فهذه هي أهم أدلة المعتزلة .
@@@@@@@@@@@@@@@@@
ثالثا : ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات :
ـــــــــــــــــــــــــ
وأما أدلة غيرهم من أهل التأويل ، فما هي ببعيد عن هذه الأدلة ، بل هي نابعة من عين واحدة ، وهذا بيان أهم ما استدلوا به على نفي الصفات الفعلية ، ثم صفة العلو ، ثم الصفات الذاتية ، كالوجه واليدين.
النوع الأول : أهم ما استدلوا به على نفي الصفات الفعلية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
استدلوا على تأويل آيات ، وأحاديث صفات الأفعال ، التي تدل على أن الله يقوم به من الصفات ما يتعلق بالمشيئة ، كالمجيء يوم القيامة والنزول في ثلث الليل الأخير واستوائه على العرش بعد أن لم يكن مستوياً ونداؤه لموسى لما جاء عند شاطئ الوادي الأيمن وغير هذه النصوص التي تدل على أفعال الله في وقت دون وقت .
بأنها يلزم من ظاهرها قيام الحوادث بذات الله ، والحوادث هي ما سبقه العدم ، ولهذا السبب قالوا ليس لله صفة تقوم به إلاّ أن تكون قديمة غير متعلقة بالمشيئة ، ولهذا قالوا بالكلام النفسي ، وإن الله (يخلق لمن يشاء من عباده علما ضرورياً بكلامه ، من غير توسط حروف وصوت ودلالة )(4) [[ هذه عبارة الغزالي في المستصفى 120]] ، وقال من قال منهم إن كلامه لا يسمع (5) [[ ينظر شح العقائد النسفية 94ـ 95]] ، خشية القول بأن الله يتكلم في دون وقت ، فيكون وجود بعض أفراد الكلام سبقه عدمه وهو معنى الحدوث الذي إذا قام بالشيء دل على حدوثه .
وبه استدل على حدوث العالم واثبات الصانع ، ولهذا جعل أبو المعالي القول بظاهر حديث النزول يؤدي إلى (طرفي نقيض إحداهما الحكم بحدوث الإله ، والثاني القدح في دليل حدوث العالم )(1) [[ أما أبو المعالي فعبارته ( ولا وجه لحمل النزول على التحول ، وتفريغ مكان وشغل غيره ، فإن ذلك من صفات الأجسام ونعوت الأجرام ، وتجويز ذلك يؤدي إلى طرفي نقيض ... إلخ ) الإرشاد 151، وقوله ( التحول وتفريغ مكان وشغل غيره ) يريد به حلول الحوادث ، ولذلك قال إنه يلزم منه القدح في دليل حدوث العالم ، وقد ذكر في أوائل كتابه أن الدليل على حدوث العالم قيام الأعراض الحادثة ، في جواهر العالم ، والأعراض الحادثة تتجدد ، وتأتي وتزول ، هذا مع أن المثبتين للنزول لا يقولون هو تفريغ مكان وشغل غيره ، بل هذا لا يقوله إلا من لايفهم من صفات الله تعالى ، إلا ما يلزم من نقص المخلوقات ، بل يقولون ينزل كيف يشاء نزولا ندرك حقيقته ، وينظر أيضا في دليهم على نفي الصفات الفعلية قواعد العقائد 186]](/36)
وجعل الرازي أول البراهين الدالة على تأويل المجيء قوله (ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصحّ عليه المجيء والذهاب فإنه لا ينفك عن المحدث ، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم ان كل ما يصحّ عليه المجيء والذهاب وجب أن يكون محدثاً مخلوقاً فالإله القديم يستحيل أن يكون كذلك.(2) . [[ أساس التقديس 102]]
قال ابن تيمية ( وبهذه الطريقة ، نفوا أن يقوم به فعل من الأفعال ، فنفوا أن يكون الرب استوى على العرش بعد أن لم يكن مستوياً)(3) . [[ بيان تلبيس الجهمية 1/143]]
وهكذا استدل هؤلاء على تأويل نصوص هذا النوع من الصفات بالدليل الذي اخترعه المعتزلة واثبتوا به وجود الصانع سبحانه.
النوع الثاني: أهم أدلة تأويل صفة العلو.
ـــــــــــــــــــــ
الدليل الأول :
ـــــــ
إن القول بأن الله فوق العالم يوجب إما أن يكون منقسماً أو غير منقسم ، فإن كان منقسماً كان مركباً ، وقد تقدم ما يلزم من التركيب ، وأن لم يكن منقسماً كان في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ ، وذلك باطل باتفاق العقلاء ، هذا على القول بوجود الجوهر الفرد ، ومن ينفي الجوهر الفرد يقول كل ما كان مشاراً إليه ، فإنه لابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسماً فثبت أن القول بأنه مشار إليه يفضي إلى الباطل فهو باطل.(4) [[ ينظر هذا الدليل في أساس التقديس ص 45، وتفسير الرازي 11/173، وقدمه في الموضعين ]] .
الدليل الثاني :
ـــــــ
قال أبو المعالي (والدليل على ذلك أن كل مختص بجهة ، شاغل لها ، متحيز ، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها ، وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلوا عنها وما لا يخلوا عن الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر ) .
وقد اقتصر على هذه الحجة في كتابه الذي سماه لمع الأدلة (1) [[ لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل الملة للجويني 95]] ، وهي مبنية على الدليل الذي استدل به على حدوث العالم وهو الاستدلال على حدوث الجواهر بحدوث الأعراض فقبول الاجتماع والافتراق دليل على حلول الحوادث الدال على حدوث ما حلت به ، إذا الاجتماع والافتراق ، أعراض وما قامت به الأعراض لا يخلوا منها وهي حادثة .
وما قامت به الحوادث حادث كما تقدم بيانه في أدلة حدوث العالم ، وقد صرح هذا الإمام بأن طرد دليل حدوث الجواهر يوجب القول بنفي العلو ، قال في الإرشاد ( إذ سبيل الدليل على حدوث الجواهر قبولها للمماسة والمباينة على ما سبق فإن طردوا دليل حدث الجواهر ، لزم القضاء بحرث ما اثبتوا متحيزاً ، وإن تفضوا الدليل فيما ألزموه انحسم الطريق إلى إثبات حدث الجوهر)(2) . [[ الإرشاد للجويني ص 9 ، واستدل الغزالي بأن القول بالجهة يوجب حلول الحوادث من جهة أنه إما أن يكون متحركا ، أو ساكنا ، وكلاهما أعراض حادثة ، ينظر قواعد العقائد ص 158، واقتصر أيضا على هذه الحجة ]]
الدليل الثالث :
ــــــــ
أن القول بأن الله فوق العالم يوجب إما أن يكون غير متناه وهو باطل ،وإما أن يكون متناهيا فيلزم أن يكون مفتقراً إلى من خصصه بهذا المقدار دون غيره ، وإما أن يكون متناهيا من بعض الجوانب دون بعض ، فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهيا غير الآخر وذلك يوجب القسمة والتجزئة(3) . [[ ينظر تفسير الرازي 12/ 174، وأساس التقديس له ]]
النوع الثاني : أهم ما استدلوا به على نفي صفات الذات .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
وأهم ما استدلوا به على نفيها ، أنها توجب التجسيم ، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى : أنها لا تطلق إلاّ على الأجسام في الشاهد .
الجهة الثانية : أنها تدل على التركيب وهو من صفات الأجسام .
ثم يقولون بعد هذا أن القول بالجسم يلزم منه الحدوث من جهة الأعراض أو التركيب أو الانقسام ويلزم التماثل مع سائل الأجسام عند من يقول به فيجوز عليه ما يجوز عليها من النقص والحدوث ، ولهذا قد يقولون اختصاراً أنها توجب التشبيه ، والمقصود عندهم أن الأجسام متماثلة ، وهو قول عامة المتكلمين(1). [[ ينظر في هذا الدليل تفسير الرازي ( 12/42، ومجموع الفتاوى 6/69، 6/109، 13/303 ]]
أما الصفات التي تكون ذاتية باعتبار وفعلية باعتبار آخر:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كالمحبة ، والرحمة ، والرضا ، والغضب ، والحياء .
فقد سلكوا في نفيها مسلكين :
الأول : من جهة كونها صفات فعلية ، يلزم منها حلول الحوادث ، وهذا في مثل ما ذكره النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من حديث الشفاعة من أن الله يغضب يوم القيامة غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله(2) ، [[ رواه البخاري الفتح 8/395]] ومثل قول الله تعالى { فاتبعوني يحببكم الله } آل عمران (31) ، فإن ظاهره أن المحبة تكون بعد الاتباع ، ولهذا يقولون ظاهره التغير(3) . [[ التمهيد للباقلاني 47]]
الثاني : من جهة أنها تدل على النقص والحدوث.(/37)
أما المحبة ، فقد قيل في دليل نفيها أن الله تعالى يتقدس أن يميل أو يمال إليه ، حكاه الجويني عن طائفة من الأصحاب(4) [[ الإرشاد 212]] ، ويظهر أن المراد ما ذكره ابن تيمية عمن ينفيها أنه احتج بأن المحبة تقتضي مناسبة بين المحب والمحبوب ، توجب للمحب بدرك محبوبه فرحاً ، وهذا يقتضي الحاجة ، إذا ما لا يحتاج إليه الحي لا يحبّه ، والله غني لو جازت عليه الحاجة للزم حدوثه(5). [[ مجموع ابن تيمية 11/358، وينظر كذلك 10/74، 6/69، 6/114]]
أما الرحمة والغضب والرضا والحياء وأمثالها : فلأن الرحمة خور في الطبيعة ، والغضب غليان الدم في القلب لطلب الانتقام ، والرضى رقة وسكون في الطبع والحياء انكسار ، وهذه أمارات النقص ولا يجوز أن يتصف الله بها.(6) [[ ينظر تفسير الرازي 1/262، والتمهيد للباقلاني ص 47 ، ومجموع ابن تيمية 6/117ـ 123]]
ملاحظات على هذه الأدلة :
ــــــــــــــ
ويلاحظ على هذه الأدلة التي هي عمدتهم في حكمهم على نصوص الصفات أنها من المتشابه الذي لا يراد به الظاهر مما دل عليه ، أمور :
الأول : أن ينبوعها واحد ، وهو ما أحدث من القول في الجواهر والأعراض ، ثم بناء إثبات وجود الله على ذلك ، ومعلوم أن مصدر هذه البدع من كتب الفلسفة .
الثاني: أن الألفاظ المستعملة عندهم ، لا سيما التي ينفون بها عن الله ما ينفون ، كالجسم والجوهر والعرض والتركيب والانقسام والحيز ، اصطلاحات خاصة بهم ، يريدون بها معاني خاصة لا يعرفها أكثر الناس من لغتهم ولا من عرفهم ، وقد يتوهم السامع انهم ينفون بها ما يعلمه من معناها اللغوي وليس الأمر كذلك كما سيأتي بيانه .
الثالث: انهم يستعملون فيما يبحثون فيه في المطالب الإلهية ، قياس الخالق على المخلوق قياساً شمولياً أو تمثيلياً .
يوضح ذلك مثال ، وهو أن :
حقيقة دليلهم في نفي العلو هو انهم يقولون :
ظاهر الشرع أن الله في جهة ،وكل ما كان في جهة فهو جسم ، حادث فظاهر الشرع أن الله جسم حادث ، وهذا هو قياس الشمول بعينه .
وأما قياس التمثيل فمثل أن يقال : المجودات في جهة أجسام حادثة في الشاهد ، والله تعالى في ظاهر النصوص في جهة ، فالله تعالى في ظاهر النصوص جسم حادث قياساً للغائب على الشاهد ، ثم ينتج من القياسين وجوب صرف الظاهر.
وهذا لا يستطاع الانفصال عنه ، وذلك أن الذي يريد أن لا يعول إلاّ على العقل في هذه الأمور الغيبية لابد له من استعمال القياس ، ولازم قياس التمثيل أن الله تعالى يدخل هو وغيره تحت قضية كلية واحدة تستوي أفرادها ، ولازم قياس التمثيل أن لله تعالى مماثل لا يقاس عليه وسيأتي الكلام على هذا وبطلانه .
فهذا إجمال لأهم أدلة أهل التأويل لصفات الله تعالى .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
رابعا : الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويتجه في تنظيم الرد أن ينفصم إلى شقين :
الأول عام .
والثاني أجوبة تفصيلية على أفراد الأدلة ،
أما الشق الأول العام في الرد على القائلين بتأويل نصوص الصفات :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فينشطر إلى قسمين أيضا :
أما القسم الأول فيقال فيه :
ما بنيت عليه هذه المقالة ، وهي أن نصوص الصفات من المتشابه المؤول ، من الأدلة العقلية ، التي اعتبرت محكمة لاستكمالها ما ينبغي اشتراطه لافضاء النظر العقلي إلى العلم ، قد تنازع فيها أرباب النظر والكلام أنفسهم ، وبعض القائلين ببعض هذه الأدلة في وقت رجع عنها في وقت آخر وأبطلها .
ويوضح هذا أمور :
الأول : إن قولهم في الدليل الأول ، الجواهر لا تتعري عن الأعراض ، والأعراض حادثة فالجواهر كذلك ، قد تنازع فيها أرباب الكلام أنفسهم ، فخالف في المقدمة الأولى بعض المعتزلة ، وأورد أبو المعالي في الرد عليهم ما هو من جنس ما يردون به عليه (1) . [[ ينظر الإرشاد للجويني 44، فقد جوز الصالحي من المعتزلة خلو الجواهر عن الإعراض ، وإذا جاز هذا سقط هذا الدليل على حدوث الجواهر ، وبالتالي لايمكن جعل هذا الدليل حجة في صرف ظواهر الوحي التي تقضي باتصاف الله تعالى بالصفات الفعلية الاختيارية كالاستواء وغيره ، ولهذا قال أبو المعالي ( فإذا جوز الخصم عروّ الجواهر عن الحوادث مع قبوله لها صحة وجوازا ، فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري تعالى للحوادث ) ص 46]]
وأما المقدمة الثانية ، فقد قال ابن رشد ( وذلك إن الجسم السماوي وهو المشكوك في إلحاقه بالشاهد ، الشك في حدوث أعراضه ، كالشك في حدوث نفسه لأنه لم يحس حدوثه لا هو ولا أعراضه)(2) [[ ينظر مناهج الأدلة 149]] ، يريد أن الأجسام السماوية لا يمكن الاستدلال على حدوثها بحدوث الأعراض القائمة بها لأنها لم يشاهد حدوث أعراضها .(/38)
فهذا يوضح أن ما بنوا عليه قاعدتهم الكلية وهي إن ما يقوم به ( ما يأتي ويزول هو حادث ) ، أمور مشكوك فيها ، ولا يصح إن يصرف الشرع عن ظاهره لأدلة عقلية متنازع فيها ، لا يقوم عليها دليل عقلي قاطع .
ولهذا فقد صرح كبرائهم أنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ما سموه (حلول الحوادث بذات الله ) ، ذكر ابن تيمية ذلك عن الرازي في كتابه المطالب العالية ، وذكر أنه آخر كتبه الكلامية ، وعن الآمدي في كتابه أبكار الأفكار(3) . [[ ينظر جامع الرسائل تحقيق محمد رشاد سالم 2/8ـ9]]
وهذا يبين أنه لا يجوز معارضة الوحي بأدلة عقلية قد تنازع فيها العقلاء ، وليس المقصود هنا إثبات قدم الجواهر ، والأعراض ، فإن المسلمين بل وأرباب الملل متفقون على أن الله خالق كل شيء ، وموجده من العدم .
وليس إثبات هذا مقصوراً على طرق المتكلمين ، وإنما المقصود هنا ، أنهم جعلوا ما ليس مسلما صارفا للنصوص السمعية القطعية عن ظاهرها وهذا لا يجوز قطعا.
الثاني: إن دليلهم الثاني في إثبات حدوث العالم مبني على تماثل الأجسام وعلى أنها مركبة من الجواهر الفردة ومعلوم إن هذا لا يمكن إثباته ، ولهذا توقف فيه الأذكياء منهم ، كماعزي ابن تيمية التوقف فيه إلى أبي المعالي ، والرازي من الأشعرية ، وأبي الحسين البصري من المعتزلة(1) . [[ ينظر تلبيس الجهمية 1/496، وصرح التفتازاني في شرح العقائد بضعف أدلة الجوهر ، وحكى عن الرازي التوقف فيه ص 52 ]]
ولهذا قال ابن رشد ( وان عنوا بالجوهر الجزء الذي لا ينقسم ، وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد ، ففيه شك ليس باليسير وذلك إن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفاً بنفسه ، وفي وجوده ، أقاويل متضادة شديدة التعاند)(2) [[ مناهج الأدلة 138]]
وبهذا يعلم إن ما يستدل به على نفي العلو من أنه يلزم منه أن يكون ما هو في جهة جسماً مركباً من الجواهر ، و يكون جوهراً فرداً ، مبني على تخيلات لا أدلة عقلية.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ومن العجب أن كلامه - الآمدي - وكلام مثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام ، وقد ذكر النزاع في تماثل الأجسام وان القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على أنها مركبة من الجواهر المنفردة وأن الجواهر متماثلة ، ثم إنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر أنه لا دليل على تماثلها ، فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاماً بلا علم ، بل بخلاف الحق ، مع أنه كلام في الله تعالى وقد قال تعالى {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون} الأعراف (33)(3) . [[ ينظر الدرء 4/176]]
الثالث : أن قولهم في الدليل الثالث على حودث العالم ، المركب ممكن لأنه مفتقر لأجزائه وهي غيره ، قد ضعفه بعضهم أيضاً ، وذكر أن العقل لا يوجب أن المركب حادث ما لم يجب حدوث أجزائه(1). [[ كما نقل ابن تيمية عن الآمدي الدرء 4/247]]
فهذا أيضاً يدل على أن ما توهم أنه دلالات محكمة ، لا أحكام فيها ، بل إذا نشط مخترعوها لإبطالها فما أسهل ذلك ، ولهذا فان هؤلاء الجدليين يثبتون أموراً تارة ، وينفون ما أثبتوه تارة أخرى ، كما دل على ذلك ما تقدم2) . [[ ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية في المصدر السابق ، أن عالما مشهورا في الكلام والجدل اجتمع بالشيخ إبراهيم الجعبري يوما ، فقال له ( بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم من المعارضة فما وجدته ) وقال ابن تيمية أيضا ( وكذلك حدثني من قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال ( أبيت بالليل وأستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي ، وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء ، وبالعكس ، وأصبح وما ترجح عندي شيء 3/263]]
وهو مما يدل على صدق مقالة الآلوسي التي نقلها عنه رشيد رضا في المنار قال ( وقد صرح السيد الآلوسي تبعاً لغيره من المحققين العارفين بما حققناه هنا فيعلم الكلام والمتكلمين على آية الظن في باب الإشارة من هذا السياق فقال ما نصه ( وما يتبع أكثرهم إلاّ ظنا )) ، ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلاّ قليل، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالعقل بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلاً سالماً من قيل وقال ونزاع وجدال ))(3) . [[ تفسير الآلوسي 11/124]]
ومن المعلوم أنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الأمر بإثبات الصانع بهذه الطرق التي يلزم منها نفي الصفات ، ولو كان أصل الدين متوقفاً عليها - كما يقوله بعضهم - لما قبل صلى الله عليه وسلم إيمان متبعيه حتى يلقنهم أحكام هذه الجواهر والأعراض وكيف تدل على حدوث العالم واثبات صانع.(/39)
ولهذا صرح العلماء بذم هذه الطرق وذم الكلام فيما هذا سبيله مما ليس فيه فائدة في الحياة الدنيا بله أن يكون فيه نفع ديني بوجه(4) [[ ذم العلماء للكلام مشهور حدا ، كقول الشافعي حكمي على أهل الكلام ، أن يضربوا بالحديد والنعال ويطاف بهم بين العشائر والقبائل ،ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام ) وقول أحمد ( لا يفلح صاحب كلام أبدا ) ، وقال مالك ( لاتجوز شهادة أهل البدع ، وقال ابن خويز منداد ( أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا ، هم أهل الكلام ، فكل متكلم فهو من أهل البدع ، وقال أبو يوسف ( من طلب العلم بالكلام تزندق ) ينظر الدرء 7/146ـ 159، ومجموع ابن تيمية 16/472، 473، وبيان تلبيس الجهمية 1/101، 123، وقال أبو حامد وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ماهي عليه ، وهيهات ، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة ، وبعد التغلل في إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام ، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود ) إحياء علوم الدين 1/97]]
والعلم بافتقار المحدث إلى محدث وبأن العالم محدث ،أبين في العقل من يتكلف له هذه التنطعات .
وإلا ما سمّي الله ما في الكون مما يدل على وجوده آيات ، والآية هي العلامة الواضحة التي تدل على الشيء بلا حاجة إلى توسط أمور أخرى كما قال تعالى {إن في خلق السموات والأرض لآيات لأولى الألباب } آل عمران (190) ، وقال {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} فصلت (53) ، وقد تنوعت آيات الذكر الحكيم وبهرت العقول في الاستدلال على الربوبية بما هو أوضح وأقرب إلى الفطرة من كلام المتكلمين .
مثل ذكر خلق السموات وبروجها والشمس والقمر والليل والنهار ، وما في الأرض من جبال وأنهار ، وجنات وأشجار ، والفلك التي تجري في البحار ، وخلق الإنسان في أطوار ، وتصريف الرياح وإنزال الأمطار ، فإذا أخذت هذه الآيات بمجامع قلب الشاك ، التفت إلى قلبه فوجد فيه العلم بأن لهذه الحوادث محدثاً علماً ضرورياً فطرياً ، (فهذه الطريق هي الصراط المستقيم الذي دعا الله الناس منه إلى معرفة وجوده ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى)(1) [[ ما بين القوسين عبارة ابن رشد في مناهج الأدلة 153، وينظر في هذا الدليل الشرعي لاثبات الصانع ، الذي أشار إليه ابن رشد هنا ، مناهج الأدلة لان رشد 150ـ 153، ومع أن هذا الرجل فيلسوف إلا أنه صرح أن طريقة القرآن في إثبات وجود الله ، تخالف طرق المتكلمين ، وأنها تنحصر في طريقين ، طريقة العناية ، وطريقة الاختراع ، ومثل للأولى وللثانية بالآيات ، وقال ابن تيمية بعد أن ذكر كلامه : قلت ذكره لهذين النوعين ،كلام صحيح حسن في الجملة ، وإن كان في ضمنه مواضع قصر فيها ) تلبيس الجهمية 1/176، وينظر كذلك هذا المصدر 1/176ـ 181 ]]
فإن الإنسان مركوز في فطرته أن الحوادث التي يشهدها لابد لها من محدث ، وان لهذا العالم مبدعاً أبدعه ، فإذا نبه على ما في الكون من آيات تدل على خالقه اشتاقت فطرته إليه . [[ كما يدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة ) رواه البخاري ينظر فتح الباري 3/246]]
ويدل على هذا أن الأمم التي بعث إليها الأنبياء كانوا مقرين بوجود الله وأنه خالقهم ، وإنما بعثت الرسل ليعبدوا الله وحده ،وأما فرعون فلم ينكر الرب بجهل ولكن جحوداً ، كما قال تعالى ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً ) النمل (14) .
وإذا علم أن معرفة الخالق لا تحتاج إلى هذه الطرق الملتوية التي التزم أصحابها من أجلها نفي الصفات ، علم أن هؤلاء المتكلمين أضاعوا أوقاتهم فيما أقر به غالب بني آدم بما فطروا عليه ، ومن طرأ عليه الشك فإن طريقة القرآن كافيه في إزالته ، ومن أنكر فلجحود وهوى ولا تنفع الحجة حينئذ.
ولما كانت هذه الطرق التي سلكوها مبتدعة ، أفضت إلى ما هو بدعة في الشرع وجناية على القرآن والسعة واتهامهما بإظهار خلاف الحق في هذا الباب العظيم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً السبب في مخالفة أهل التأويل للكتاب والسنة :(وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة ، وهي ألفاظ مجملة مثل (متحيز ) ، (ومحدود) ، (وجسم) ، (ومركب) ،ونحو ذلك ونفوا مدلولها، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة ومدلولاً عليها بنوع قياس ، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض ، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء فوجب طرد الدليل بالحدوث ولإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ، إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح فرأوا ذلك يعكر عليه من جهة النصوص فصاروا أحزابا ...)(1) [[ ينظر مجموع ابن تيمية 13/304]]
وأما القسم الثاني فيقال فيه:
ــــــــــــــــ(/40)
إن هذه الأدلة المتقدمة ترجع إلى استعمال القياس في المطالب الإلهية كما تقدم التنبيه عليه ،وأنه يلزم منه أن يكون الله وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها في قياس الشمول ، أو يكون هو سبحانه والمقيس عليه مستويان في قياس التمثيل .
وبطلان هذا أوضح من أن يتكلف الرد عليه ، وهو يدل على بطلان أدلتهم ، فإن الله تعالى لا يستدل عليه بالشاهد من جهة هذين القياسين ، ولكن يصح أن يستدل عليه بالشاهد من جهة قياس الأولى الذي ليس فيه المحذور من القياسين المتقدمين ، فإذا دخل في قضية كلية مع غيره لا يجعل مستوياً مع أفرادها في حكم لكن يجعل له المثل الأعلى ، ومثاله أن يقال : القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض مثلاً ، والله تعالى أحق بالغني عن كل محل من كل قائم بنفسه.
وإذا استدل عليه بالشاهد يقال مثلاً : كل كمال يستحقه موجود من جهة وجوده ، فالله تعالى أحق به إذ هو واجب الوجود ، وكل نقص يتنزه عن موجود لكمال وجوده فالموجود الواجب أحق بالتنزه عنه .(1) [[ ينظر في إبطال استعمال القياسين ، والتمثيل لقياس الأولى درء التعارض 7/322ـ 323]]
وبهذا يمكن الاستدلال العقلي على بعض الصفات فإن السمع والبصر والعلم كمال في المخلوق فواهب الكمال أحق به ، وكذلك الرحمة والكلام فإن الذي يقدر على الكلام أكمل من الذي لا يقدر عليه ، والذي يرحم أكمل من الذي لا يرحم ، وكذلك الذي يغضب في موضع الغضب أكمل من الذي لا يغضب ، فالله تعالى أولى بهذه الكمالات من المخلوقات .
وقد استعمل في القرآن هذه الطريقة في التنبيه على الاقيسة العقلية التي تسمى في القرآن (ضرب الأمثال) كما قال تعالى { ويجعلون له البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } النحل (56) ، فبين أن الذي ينزهون أنفسهم عنه ، الله تعالى أولى بالتنزه عنه .
وكما استدل بالنشأة الأولى على الآخرة ،وبخلق السموات والأرض على خلق الناس ، إذ القادر على الإبداع قادر على الإعادة ، والقادر على خلق الأعظم قادر على خلق الأدنى من باب أولى(2) [[ ينظر في ذكر أمثلة هذا القياس من القرآن الدرء 7/363]]
وكقول الله تعالى : (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم ، فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ، كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ) الروم (28) .
يقول الله تعالى : إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك للمالك يشرك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم ، فكيف ترضون ذلك لي ، وأنا أحق بالكمال والغنى منكم ؟ وهذا يبين أن الله تعالى أحق بكل كمال من كل أحد.(1) [[ ينظر الرسالة الأكملية لابن تيمية 17]]
ولو إن أهل التأويل استعملوا هذا القياس فحسب لما أوقعهم في التأويل ، وذلك انهم لما قاسوا الله على خلقه ، جعلوا ما يلزم من إطلاق الصفات عليه هو بعينه اللازم من إطلاقها على مخلوقاته ، ولذلك يقولون النزول تفريغ مكان وشغل آخر، والاستواء يقتضي الحاجة إلى العرش والرحمة ضعف ورقة ، ومثل هذه العبارات التي تدل على أنهم يقيسون الله على خلقه تعالى عن ذلك .
وإذا كان بعض المخلوقات لا يصح قياسه على غيره في لوازم ما يطلق عليه من الصفات ، فالروح لها نزول ، وصعود ، وأفعال ، ولا يلزم من ذلك ما يلزم من أفعال البشر للاختلاف بينهما فكيف بالله تعالى .
أما الشق الثاني ، وهو الرد التفصيلي :
ــــــــــــــــــــــ
1ـ : الجواب عن أدلة المعتزلة :
ــــــــــــــــــ
الجواب عن الدليل الأول:
ــــــــــــــــ
وهو قولهم ، إثبات الصفات يلزم منه مشاركة الله في صفة القدم أو حلول الحوادث ، ويقال في الجواب: (أن الله لم يزل متصفاً بصفات الكمال ، صفات الذات وصفات الفعل) (2) [[ شرح الطحاوية 126]] (ولا يحدث له وصف متجدد لم يكن ، تعالى عن ذلك)(3) [[ شرح الطحاوية 129]] ، ولكن إثبات الصفات وان الله لم يزل متصفا بها لا يلزم منه أن يكون الإله أكثر من واحد.
فليس يجب إن تكون صفة الإله إلها ، ووصف الصفة بالقدم ليس المراد أنها توصف بها على سبيل الاستقلال ، فإن الصفة لا تقوم بنفسها ولا تستقل بذاتها ، ولكنها تكون قديمة بقدم موصوفها ، فإن الصفة تابعة للموصوف ، قديمة بقدمه وباقية ببقائه ونحن إذا ذكرنا الله بلفظ مظهر أو مضمر ، دخل في مسمى اسمه صفاته ، فمن قال دعوت الله أو عبدته لم يرد بذلك انه دعا ، أو عبد ذاتا مجرده عن الصفات ، فإن وجود مثل هذه الذات في الأعيان ممتنع ، وإنما المراد أنه دعا أو عبد الله الحي القيوم القدير السميع البصير الموصوف بالعلم والقدرة وسائر صفات الكمال(1). [[ ينظر ابن تيمية السلفي للشيخ خليل هراس ص 98، وما هنا عبارة عن اختصاره لكلام ابن تيمية في مناهج السنة 1/233، 237]](/41)
وأما أفراد بعض صفات الله مما يحدث في وقت دون وقت ، فليس فيه تجدد صفة لله تعالى قال شارح الطحاوية (أن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع ، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن ، ألا ترى أن من تكلم اليوم ، وكان متكلماً بالأمس لا يقال أنه حدث له الكلم ، ولو كان غير متكلم لآفة كالصغر والخرس ثم تكلم يقال حدث له الكلام ، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة بمعنى أنه يتكلم إذا شاء وفي حال فعله يسمى متكلماً بالفعل)(2) [[ ص 128]]
وإطلاقهم على هذا حلول الحوادث لا يصيره ممنوعاً ما لم يمنع من ذلك الكتاب والسنة .
الجواب عن الدليل الثاني :
ـــــــــــــــــــ
وهو قولهم إثبات الصفات يلزم منه الأعراض الدال الجسمية ، وهو باطل إذ لا يلزم من إثبات الصفات إن تكون كصفات المخلوقين أعراضاً دالة على حدوثهم ، كما لا يلزم من إثباتكم أسماء الله فتقولون هو حي عليم قدير أن يكون حادثاً لأن ما يسمى بهذه من المخلوقات حادث ، وإثبات صفات الله فرع عن إثبات ذاته فكما إن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك صفاته ليست أعراضاً تدل على الحدوث كصفات المخلوقين(3) . [[ ينظر في هذا الجواب مجموع ابن تيمية 3/20]]
الجواب عن الدليل الثالث :
ـــــــــــــــ
وأما قولهم بالتركيب فهو من تأثرهم بالمنطق اليوناني الذي هو أصل هذا البلاء ، فإنهم يعنون بالتركيب في إثبات الصفات ، وأنها زائدة على ذاته وما يفهم من كل صفة يختلف عما يفهم من الأخرى ، يعنون به مثل تركيب الأنواع من الجنس والفصل ، كما يقال الإنسان حيوان ناطق ، فالحيوانية مشتركة بينه وبين سائر الأنواع ، والناطقية يمتاز بها عن غيره ، وجعلوا الإنسان مركب من هذين الأمرين ، ثم جعلوا هذا المعنى هو التركيب الذي يلزم من إثبات الصفات وقالوا هو ممتنع يلزم منه الافتقار ، واستعملوا كلمة التركيب يوهمون بها نفي النقص عن الله وهم إنما أرادوا هذا المعنى الخاص بهم .
فيقال لهم ( هذا التركيب أمر اعتباري ذهني ليس له وجود في الخارج كما أن ذات النوع من حيث هي عامة ليس لها ثبوت في الخارج ، فإن الإنسان الموجود في الخارج ليس فيه ذوات متميزة بعضها حيوانية وبعضها ناطقية وبعضها ضاحكية وبعضها حاسية ، بل العقل يدرك منه معنى ونظير ذلك المعنى ثابت لنوع آخر فيقول : فيه معنى مشترك ، ويدرك فيه معنى مختصاً ثم يجمع بين المعنيين فيقول هو مؤلف بينهما).(1) [[ ما بين القوسين كلام ابن تيمية مع بعض التصرف المجموع 6/346، وما تقدم كذلك من نفس المصدر ، وينظر كذلك في الجواب على دليل التركيب الدرء 5/142ـ 145]]
فهل يجوز أن يجعل هذا التخيل الذهني حقيقة واقعة ، ثم يقال إن إثبات الصفات ظاهرة التركيب؟ بل الذات الحية العالمة لا يتصور انفكاكها عن صفة الحياة والعلم .
فهذا ما شغبت له المعتزلة على ظاهر نصوص الوحي ، غاية ما فيه تخيلات أخذوها من ملاحدة الفلاسفة.
2ـ : الرد على أدلة القائلين بتأويل بعض الصفات:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب عن أدلة تأويل صفات الأفعال كالمجيء والاستواء
وهو ما يسمونه حلول الحوادث ، وهو فرع عن قياس أفعال الله تعالى وصفاته بأفعال المخلوقين وصفاتهم وإن ما يلزم إذا أطلقت عليهم هو ما يلزم الباري سبحانه إذا أطلقت عليه ، وفيما تقدم كفاية في الجواب عن هذه الشبهة ، وقال شارح الطحاوية (وحلول الحوادث بالرب تعالى ، المنفي في علم الكلام ، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب أو سنة ، وفيه إجمال : فإن أريد بالنفي انه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة ، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن فهذا نفي صحيح ، وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية ، من أنه لا يفعل ما يريد ولا يتكلم بما شاء ، إذا شاء ، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى ، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان ، كما يلي بجلاله وعظمته فهذا نفي باطل ).(1) [[ شرح الطحاوية 129]]
الجواب عن أدلة نفي العلو ، وتأويل النصوص الدالة عليه :
أما قولهم إن إثبات العلو يقتضي التجسيم ، ثم يلزم بعد ذلك ما يلزم الأجسام من التماثل عند من يقول به أو الافتقار إلى المخصص أو الانقسام والتركيب فالجواب عن هذه الشبهة : أن هذه الألفاظ المجملة ، يريدون بها تعظيم ما يزعمون أنه يعارض الوحي ، وإلاّ فإذا بين ما يريدون بها ظهر بطلانها لكل من لم تنحرف فطرته.
فإن التجسيم ، تفعيل من الجسم ، والجسم المعقول في اللغة ، وعرف الناس الجسد وهو البدن ، فإذا نفوه توهم السامع أنهم ينفون عن الله البدن الذي هو من جنس أبدان المخلوقات .(/42)
وإنما يريدون به المنقسم مما يشار ، والذي لا ينقسم هو الجوهر الفرد ، هذا عند عامتهم ، وقد يريد به بعضهم ماله عمق وأبعاد وتميز لجهاته ، ثم يقولون إذا أشير إليه لزم أن يكون منقسماً أو مركباً أو جوهراً فرداً وكله باطل ، فإذا أريد بنفي الجسم أي ليس من جنس أبدان المخلوقات فهو حق ، بل هو سبحانه ليس من جنس ما هو ليس بجسم بالمعنى اللغوي ، من مخلوقاته كالروح والهواء والملائكة فإنه سبحانه لا مثله ولا كفؤ له (2) . [[ ينظر في هذا الجواب المجموع 17/317]]
وإن أريد بنفي الجسم أي ليس مركباً من الأجزاء ، المفردة فيقال :
أولاً : تركب الأجسام من ذلك لا يعلمه جمهور العقلاء ، وليس عليه برهان صحيح
وثانياً : لا ريب أن الله تعالى ليس مركباً من أجزاء كتركب المخلوقات من أجزائها تعالى عن ذلك .
وإن أريد بنفي الجسم أي ليس منقسماً فيقال :
ما تعنون بالانقسام : إن عنيتم أن ذاته لا تقبل التفريق والتجزئة والانفصال فهو حق وإن عنيتم انه لا تتميز ذاته عن غيره بحيث يشار إليه وينظر إليه يوم القيامة فهو باطل.
ومثل هذا يقال في جميع ما اصطلحوا عليه وجعلوه قانونا يحكم على نصوص الكتاب والسنة ، بأن المراد منها خلاف الظاهر .
مثل لفظ الافتقار ، فإن عني به أن الله مفتقر إلى غيره مما هو خارج عن ذاته فباطل وليس في إثبات صفاته هذا المعنى ، ولا في إثبات علوه على خلقه .
ومثل لفظ الجهة ، وقولهم لو كان فوق العالم للزم أن تحويه الجهة وللزم أن تكون قديمة معه وللزم أن لا يكون عاليا عليها ، ونحو ذلك من الكلام المشتبه ، فإن الجهة إما يراد بها أمر وجودي فإن كان كذلك فهو مخلوق ومن يقول بالعلو على المخلوقات لا يقال له : يلزمك أن يكون ليس عاليا على بعضها فإن هذا لا معنى له
وإن كانت أمراً عدمياً - وهو الصحيح - بمنزلة الأشياء الإضافية ، فلا يلزم من الأمر العدمي كل هذه اللوازم إذ هو لا شيء ، ومثل هذا يقال في الحيز والمكان.
وبمثل هذا التفصيل يجاب عن سائر ما يشغبون به على نصوص الوحي من الألفاظ المجملة المشتبه ، ويبين أنها مباحث عقلية محضة متنازع فيها وأكثرها باطل ، والصحيح منها لا يخالف الكتاب والسنة(1) . [[ ينظر في الجواب على أدلة نفي العلو ، مجموع الفتاوى ( 17/ 313ـ 325) ، والدرء ( 4/156ـ 162) و ( 4/220 فما بعدها ، وينظر في مسألة الجهة ، كتاب أقاويل الثقات لمرعي الكرمي ص 92ـ 95]]
الجواب عن أدلة نفي صفات الذات :
أما قولهم يلزم التجسيم لأنها في الشاهد لا تكون إلاّ للأجسام ، فالجواب عنه ، أن صفات المعاني كذلك لا تكون في الشاهد إلاّ للأجسام ، هذا على سبيل المعارضة وقد تقدم ما يريدون بلفظ الجسم والرد عليهم .
وأما قولهم تدل على التركيب ، كما فعل المعتزلة في سائر الصفات ، فإن عنوا بذلك ما عناه المعتزلة فقد تقدم الجواب عنه ، وإن عنوا أنه قد ركبه مركب ، أو كان متفرقاً فاجتمع ، أو ما يمكن تفريقه ، فهذا لا يقوله مؤمن بالله تعالى ، وإن عنوا تركيب الجواهر المفردة ، فقد تقدم الجواب عنه ، وإن عنوا أن هذه الصفات متمايزه والمفهوم من بعضها ليس هو المفهوم من الآخر فليس في هذا محذور ، ولا هو ممتنع على الله تعالى عما يقولون(1) . [[ ينظر في هذا الجواب مجموع ابن تيمية 6/109، وهذه الألفاظ كالجسم ، والجوهر ، والتركيب ، والانقسام ، لاتثبت ، ولا تنفى إلا بعد الاستفسار عن معانيها ، فما كان حقا اثبت ولم يستعمل إلا اللفظ الذي لا يحتمل غيره ، وما كان باطلا نفي ولا تطلق هذه الألفاظ المشتبهة على الله تعالى لما فيها من الإجمال الذي يشتمل على الحق والباطل ، أفاده ابن تيمية المجموع 17/304]]
الجواب عما ذكروه في نفي المحبة ، وسائر ما ذكر:
أما المحبة فيقال : ما المراد بقولكم مناسبة بين الخالق والمخلوق أهو التوالد أو القرابة أو المماثلة فكله باطل ، أم المراد هو الموافقة في معنى من المعاني ، فهذا حق ، فإن الله وتر يحب الوتر ، جميل يحب الجمال، عليم يحب العلم ، محسن يحب المحسنين ، مقسط يحب المقسطين وليس في هذا إلاّ إثبات صفات الكمال لله ، ليس فيه نقص بوجه من الوجوه .
وأما قولهم يقتضي الحاجة فيلزمهم مثله في الإرادة ، فإنها لا تكون إلاّ لمناسبة بين المريد والمراد ، وملائمة بينهما في ذلك تقتضي الحاجة ، وإلاّ فما لا يحتاج إليه الحي لا ينتفع به ولا يريده فهل يقال فيها ظاهرها غير مراد ، أم يقال إرادة الله تعالى لائقة به لا يلزمها ما يلزم من إرادة المخلوقات من النقص ، فكذلك المحبة.(2) [[ ينظر مجموع ابن تيمية 6/117]](/43)
وأما ما جعل ظاهره النقص والتغير كالرحمة والغضب والرضا والحياء ، فيجاب عنه بعدم تسليم أن الرحمة خور في الطبيعة لأنه مذموم والرحمة محمودة ، وكذلك الحياء محمود ، وليس هو انكسار كما قيل ، والغضب ليس هو غليان الدم لطلب الانتقام ، وقد يقارنه ذلك ، وقد لا يكون للانتقام ، ويقال أيضاً إن كل ما يلزم من رحمة المخلوق وغضبه ورضاه وحياءه فليس بلازم لله تعالى إذ هو ليس كمثله شيء في صفاته ، كما أنه لا يلزم من إثبات السمع لله ، ما يلزم من صفة السمع للمخلوق من الاعتماد على الهواء في نقل الصوت وغير ذلك .
قال ابن عابدين في حاشيته، : (وهل وصفه سبحانه بالرحمة حقيقة أو مجاز عن الإنعام ، أو إرادته لأنها من الأعراض النفسانية المستحيلة على الله ، فيراد غايتها ؟ ، المشهور الثاني والتحقيق الأول ، لأن الرحمة التي هي من الأعراض هي القائمة بنا ، ولا يلزم كونها في حقه تعالى كذلك حتى تكون مجازاً كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات معانيها القائمة بنا من الأعراض ، ولم يقل أحد : أنها في حقه تعالى مجاز).(1) . [[ يعني لم يقل أحد من أهل السنة ، ينظر حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1/7]]
قال العلامة الألوسي المفسر (كون الرحمة في اللغة رقة القلب إنما هو فينا ، وهذا لا يستلزم ارتكاب التجوز عند إثباتها لله تعالى ، لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته كسائر صفاته ، ومعاذ الله تعالى أن تقاس بصفات المخلوقين ، وأين التراب من رب الأرباب ، ولو أوجب كون الرحمة فينا رقة القلب ارتكاب المجاز في الرحمة الثابتة لله لاستحالة اتصافه بما نتصف به .
فليوجب كون الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر ، ما نعلمه منها فينا ، ارتكاب المجاز أيضاً فيها إذا أثبتت لله تعالى ، وما سمعنا أحداً قال بذلك ، وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك ، وكلها بمعانيها القائمة فينا يستحيل وصف الله تعالى بها ، فأما أن يقال بارتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبته إليه عز شأنه ، أو بتركه كذلك ، واثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه ، والجهل بحقيقة تلك الحقيقة كالجهل بحقيقة ذاته )(2) . [[ تفسير الآلوسي 1/60]]
وما قاله هذان الإمامان في صفة الرحمة ، يقال مثله في سائر الصفات التي فينا أعراض نفسانية كالغضب والرضى والحياء ، يوصف الله بها كما يوصف بسائر صفاته وتجهل حقائقها كما تجهل حقيقة ذاته جل عز .
وبهذا الجواب يتبين قيمة الأدلة العقلية التي زعم أنها تصرف نصوص الصفات عن ظاهرها ، وتلقى بها في حظيرة المتشابه بالمعنى الذي أراده أهل التأويل.
وهذه الأجوبة تعضد ما ذكر في البراهين المحكمة الدالة على صحة مذهب السلف ، من أنه يستحيل أن يظهر الله سبحانه وتعالى غير الحق في الكتاب المهيمن على سائر كتبه ، ثم يحيل الناس في معرفة الحق على أدلة عقلية في غاية الخفاء ، ولا يفهمها إلاّ من هو حاد الذهن ، ذكي العقل ، بله أن يعرف نسبتها إلى الحق أو الباطل .
مثال هذا لازم قولهم إن هذه الظواهر الكثيرة في إثبات العلو لا يراد ظاهرها ، أن يكون الله سبحانه وتعالى عما يقولون ، قد أظهر خلاف الحق الذي أراد من المؤمنين أن يعتقدوه ، ثم أحالها في معرفة ما يعتقدونه على معرفة أن العلو يلزم منه الجسمية وذلك بطريقة الجواهر والأعراض .
وأن المشار إليه لا يكون إلاّ جسماً والجسم إما منقسم ، وإما جوهر فرد ، وكلاهما مستحيل على الله تعالى ، أما الأول فلأنه يلزم منه الافتقار ، لأن المركب مفتقر إلى أجزائه أو يلزم منه الافتقار إلى مخصص خصصه بهذا القدر دون غيره ، إلى آخر ما يماثل هذا الكلام .
مثل ما ذكره إمام المتأخرين من أهل التأويل ، أبو المعالي ، قال : (كل مختص بجهة شاغل لها متحيز ، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلو عنهما وما لا يخلو عن الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر)،(1) [[ لمع الأدلة للجويني 95]] واقتصر على هذه الحجة في كتابه الذي سماه لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة ، ثم قال بعد هذا الدليل ( فإذا سألنا عن قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى ) قلنا المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو ، ومنه قوله استوى فلان على المملكة أي استولى عليها واطردت له )(2) . [[ المصدر السابق ]]
وهذا كالتصريح بأن القعدة التي صرفت هذا الظاهر هي هذا الكلام الشبيه بالألغاز ، فهل يلزم من هذا إلاّ أن الله أظهر في آياته الباطل ، وأحال الناس في أعظم مسائل الدين على ما هو شبيه بالألغاز .
@@@@@@@@@@@@@@
@@@@@@@@@@@@@@
خلاصة مهمة جدا :
ـــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــ
وبما تقدم نستخلص النتائج التالية :
الأولى :
ـــــ(/44)
أن القول الصحيح في باب الصفات ، هو مذهب السلف ، وهو إثبات جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة ، بعد النظر الصحيح في النص ، ومعرفة معناه حسب اللغة والسياق وسائر ما يستعان به على تفسير النصوص الشرعية ، فإذا تبين دلالته على صفة لله تعالى أثبتت ولم تصرف عن ذلك لتوهم تشبيه أو تجسيم أو دعوى مخالفة العقل .
الثانية :
ـــــ
أن جميع الصفات تثبت على هذه الطريقة ، ولا يفرق بين ما ذكر في القرآن والحديث ، وما دل عليه العقل وما لا يدل عليه .
الثالثة :
ــــــ
أن دعوى مخالفة نصوص الصفات ، لأدلة عقلية لا يتطرق إليها الشك ساقطة ، فإن هذه الأدلة المتقدمة هي أعظم ما عول عليه المؤولة ، فإذا كانت بهذه المثابة فكيف بغيرها.
الرابعة :
ــــــ
أن بعض نصوص الصفات يصحّ أن تكون من المتشابه بالمعنى الذي رجح في هذا البحث ، وذلك من جهتين :
الأولى : الاشتباه الحاصل للقاصر في العلم لغموض أو تعدد في معان اللفظ ، الذي يكون له أكثر من معنى ، أو تعارض متوهم بين معان نصوص القرآن كما ظنه بعض الناس بين نصوص العلو والمعية ، وهذا التشابه نسبي إضافي يزول بعد رده إلى المحكم ، ويرجع إلى الوضوح ، وهذا عام في هذا الباب وغيره.
الثانية : تشابه خاص يكون في مثل هذا الباب ، وهو أن من صفات الله ما يلق أيضاً على المخلوقات فيشتبه أيضاً على غير الراسخين في العلم ، ويظنون في هذه النصوص الظنون الباطلة ، وهذا التشابه المنسوب إلى هذه الآيات ، يزول بعد رده إلى المحكم أيضاً ، وإن كان قد يبقى على من لم يرسخ في العلم ، ويحاول طلب حقيقته فيؤدي إلى الفتنة ، إذ هو طالب لما لا سبيل إلى الدنو منه ، بله الوقوف على حقيقته ، وفتنته إما إنكار الصفات ، صفات الله ، أو تشبيهها بصفات خلقه تعالى الله عن ذلك ، وأما الراسخون فعلموا أن هذه من المتشابه الذي لا يعلم حقيقته إلاّ الله فلا يزالون يسألون الله العصمة من الوقوع في الفتنة قائلين (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب).
والذي يدل على صحة إطلاق المتشابه على بعض الصفات ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك فقال : ما فرق هؤلاء يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه.(1) . [[ ينظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 483، والإسناد المنقول ظاهر الصحة ، قال المصنف ( وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس ، فذكره ]]
وكذلك فعل الأئمة فالإمام أحمد سمى ما نمسك به الجهمية متشابها ، قال (وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بشراً كثيراً ).(2) [[ ينظر رسالة الرد على الجهمية ، للإمام احمد ص 65، ضمن مجموعة عقائد السلف ، وذكر ابن تيمية أن كلام احمد يحتمل إرادته التشابه اللازم لبعض الآيات ، وذكر ما يدل على جواز هذا الإطلاق ينظر المجموع 17/383]]
والفتنة التي وقعت في هذا الباب هي أعظم فتنة وقعت بين المسلمين ، فأحرى ما ينطبق عليه قوله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) ، هو هذا الباب .
لكن لا يخفي أن أكثر نصوص الصفات ، لا يتطرق إليها التشابه بوجه ، وهي محكمة غاية الإحكام كاتصاف الله تعالى بالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والرحمة والرضوان ومحبته للطيب ومقته للخبيث ، وأنه فوق كل شيء ولا يخفي عليه شيء ، ولا يعجزه شيء ، وليس كمثله شيء وأنه خالق كل شيء سبحانه وتعالى ، ونحو ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العلى .
@@@@@@@@@@@@@@
@@@@@@@@@@@@@@
خامسا
ـــــــــ
تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم
ـــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــ
وتتمة لهذا البحث ، نتناول ثلاثة أمثلة ، لصفات وصف الله تعالى بها نفسه في الكتاب ، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة ، ثم شن الغارة عليها أهل الكلام والتأويل الباطل ، وصرفوها عن ظاهرها ، اتباعا لأدلة زعموها عقلة قطعية ، وقد تقدم أنها
شبه تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
وهذه الأمثلة هي : في صفة الاستواء ، و الكلام ، والرؤية
@@@@@@@@@@@
المثال الأول : آيات الاستواء:
ــــــــــــــــ
ــــــــــــــــ
فإن الله تعالى قد تمدح ومدح نفسه في سبع آيات من كتابه باستوائه على العرش ، ولم يذكر صفة الاستواء إلاّ مقرونة بغيرها من صفات الكمال والجلال القاضية بعظمته وجلاله(1) ، جل وعلا:
قال تعالى { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ، يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } الأعراف (54).(/45)
وقال تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه ، ذلك الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون } يونس (3).وقال تعالى { الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون } الرعد (2) .
وقال تعالى { تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى ، الرحمن على العرش استوى ، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى } طه (4) ، (5) ، (6) .
وقال تعالى : { الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ، الرحمن فسئل به خبيرا } الفرقان (59).
وقال تعالى { الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) السجدة (4).
وقال ( هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون خبير ) الحديد (4).
وقد فسر السلف الاستواء بالعلو على العرش ، كما تقدم عن مجاهد (1) [[ تقدم تخريجه في الجزء الأول من هذا الكتاب ]] ، وهو معناه في اللغة كما روى اللالكائي عن أبي العباس ثعلب أنه قال (استوى على العرش : علا)(2) [[ شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/399]] ، وروى أيضاً عن داود بن علي الإصبهاني الظاهري قال : كنا عند ابن الأعرابي - اللغوي المشهور - فأتاه رجل فقال له : ما معنى قول الله عز وجل (الرحمن على العرش استوى) فقال هو على العرش كما أخبر ، فقال يا أبا عبد الله : ليس هذا معناه ، إنما معناه استولى ، قال أسكت ما أنت ولهذا ، لا يقال : استولى على الشيء إلاّ أن يكون له مضاد)(3) .[[ المصدر السابق 3/399، وعزاه الحافظ في الفتح إلى كتاب الفاروق للهروي 13/406، وينظر أيضا الذهبي مختصر العلو 195، واللسان 14/414]]
وقال الحافظ في الفتح (ونقل محي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع ، وقال أبو عبيد والفراء بنحوه)(4) [[ فتح الباري 13/406]]
فهذه نصوص محكمة لا شك في دلالتها على أن الله تعالى مستو على عرشه استواء يليق به ، وقد أجمع على هذا السلف وقال بقولهم كثير من العلماء في مختلف العصور إلاّ من ظن أن ذلك يعارض دليل إثبات الصانع ، من أهل الكلام وقد تقدم الكلام عليه.
ومع هذا كله فقد ادعي بعض من لا يثبت هذه الصفة أن اللفظ من الألفاظ المتشابهه التي تحتمل عدة معاني يريد بذلك إبطال دلالته على ما أجمع عليه السلف، قال ابن القيم (ومن هذا قول الجهمي الملبس : إذا قال لك المشبه ( الرحمن على العرش استوى ) فقل له : العرش له عندنا له ستة معان ، والاستواء له خمسة معان فأي ذلك المراد؟ فإن المشبه يتحير ولا يدري ما يقول ويكفيك مؤونته .
فيقال لهذا الجاهل الظالم الفاتن المفتون : ويلك ما ذنب الموحد الذي سميته أنت واصحابك مشبها ، وقد قال لك نفس ما قال الله ، فوالله لو كان مشبها كما تزعم لكان أولى بالله ورسوله منك ، لأنه لم يتعد النص .
وأما قولك للعرش سبعة معان أو نحوها ، وللاستواء خمسة معان فتلبيس منك ، وتمويه على الجهال وكذب ظاهر ، فإنه ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلاّ معنى واحد ، وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معان فاللام للعهد ، وقد صار بها العرش معيناً وهو عرش الرب ، جل جلاله الذي هو سرير ملكه الذي اتفقت عليه الرسل وأقرت به الأمم إلاّ من نابذ الرسل.
وقولك: الاستواء له عدة معان ، تلبيس آخر ، فإن الاستواء المعدي بأداة (على) ليس له إلاّ معنى واحد ، وأما الاستواء المطلق فله عدة معان ، فإن العرب تقول (استوى كذا) إذا انتهى وكمل ، ومنه قوله تعالى (ولما بلغ أشده واستوى) ، وتقول : (استوى وكذا) إذا ساواه ، نحو قولهم استوى الماء والخشبة واستوى الليل والنهار ، وتقول (استوى إلى كذا) ، إذا قصد إليه علوا وارتفاعا ، نحو استوى إلى السطح والجبل ، و(استوى على كذا ) أي إذا ارتفع عليه وعلا عليه ، لا تعرف العرب غير هذا فالاستواء في هذا التركيب نص لا يحتمل غير معناه ، كما هو نص في قوله (ولما بلغ أشده واستوى) لا يحتمل غير معناه ، ونص في قولهم استوى الليل والنهار في معناه لا يحتمل غيره)(1) . [[ ينظر الصواعق المرسلة 1/195ـ 196]]
ولا ريب أن الاستواء في الآيات السابقة يدل على معنى العلو ، لا غيره فهو محكم ، وقد دخل الاشتباه على من دخل عليه من أهل التأويل ، لا من تعدد ما يراد باللفظ لكن من وجه آخر وهو كون الاستواء يطلق على الخالق والمخلوق فيشتبه على غير الراسخين في العلم من هذه الجهة ، وإن كان قد حاول كثير ممن اشتبهت عليهم هذه الآيات أن يدعوا أن معنى الاستواء فيها ليس هو العلو، والذي حملهم على ذلك ظنهم أن جعله بهذا المعنى يقتضي التجسيم .(/46)
وبهذا يعلم أن ما ذكره السيوطي في الإتقان من التأولات في معنى الاستواء كله خلاف الحق(1) [[ الإتقان 2/8ـ 9 ]] والحق أن الاستواء هو العلو ، والله أعلم.
=============
@@@@@@@@@@@@@@@@
المثال الثاني : آيات الكلام :
ــــــــــــــ
ــــــــــــــ
وهذه المسألة ، مسألة الكلام لها طرفان ، أحدهما صفة الكلام لله تعالى ، والثاني تكلم العبد بكلام الله .
وقد اتفق المنتسبون إلى القبلة على نسبة الكلام إلى الله تعالى، ولكنهم اختلفوا في وجه ذلك وأهم الأقوال هي :
القول الأول : وهو قول سلف الأمة وأئمة السنة والحديث وهو أن الكلام صفة من صفات الله تعالى يتكلم بما شاء ومتى شاء وكيف شاء ، والقرآن كلامه تكلم به على الحقيقة ، قال شارح الطحاوية ( تاسعها : انه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء ، وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام قديم ، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً ، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة)(1). [[ ص180]]
واتفق أصحاب هذا لقول على أن القرآن تكلم به رب العزة على الحقيقة ، فسمعه جبريل وبلغه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما سمعه ، وعلى الإنكار على من يقول إن القرآن مخلوق ، وجاء عن كثير منهم تكفير قائل هذه المقالة.
روى اللالكائي عن عمرو بن دينار أنه قال (سمعت مشيختنا من سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق)(2) [[ شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/235]]، ثم ذكر اللالكائي من مشيخته من الصحابة والتابعين خلقا.(3) .[[ المصدر السابق 2/235ـ 236]]
ثم روي عن خمسمائة رجلا من التابعين واتباعهم ومن بعدهم كلهم يقول القرآن كلام الله غير مخلوق.(4) [[ المصدر السابق 2/234ـ 312]]
ثم قال (فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخيرين ، على إختلاف الأعشار ومضي السنين والأعوام)(5) . [[ المصدر السابق 2/312]]
ثم روى عن مالك وابن أبي ليلى وابن عيينه وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن المبارك ، وابن الماجشون وغيرهم تكفير من يقول القرآن مخلوق(6) . [[ المصدر السابق 2/313ـ 330]]
وقيام الإمام أحمد رحمه الله في محنة خلق القرآن المقام الذي صيره إماما لأهل السنة معلوم مشهور (( ومواجهته للخلفاء والقضاة وأهل البدع بكلمة الحق وصبره الذي يضرب به المثل في غالب كتب التراجم والتاريخ مسطور ، وما كان إنكاره وإنكار علماء السنة في وقته إلاّ على قولين ، قول من يقول إن الله لا يوصف بالكلام ، وقول من يقول إن القرآن المنزل مخلوق .
والأدلة على صحة هذا القول وموافقته للوحي المنزل كثيرة جداً ، فإنهم قالوا بمقتضى ما دلت عليه أي الكتاب وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، التي تنص على أن الله يتكلم وينادي ويناجي ويقول ، وأنه يتكلم بكلام في وقت ويتكلم بغير عين هذا الكلام في وقت آخر ، كما نادي موسى لما بلغ الوادي المقدس وينادي ويتكلم يوم القيامة بكلام ، لم يتكلم بعينه قبل يوم القيامة وهو كثير جداً لا يستطاع حصره إلاّ بكلفة شديدة ولكن يذكر بعض ذلك ، فمن ذلك :
قال ابن تيمية (هذا وقد أخبر سبحانه عن نفسه بالنداء في أكثر من عشرة مواضع ، فقال تعالى (ويوم يناديهم أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) ، (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة واقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ) وقال (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) ، وذكر سبحانه ندائه لموسى في سورة (طه) و (مريم) و(الطس) الثلاث ، وفي سورة النازعات ، وأخبر أنه ناداه في وقت بعينه فقال تعالى (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ) وقال تعالى (هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ) وقال ( وما كنت بجانب الغربي إذ نادينا) ، واستفاضت الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة أنه سبحانه ينادي بصوت : نادى موسى ، وينادي عباده يوم القيامة بصوت ويتكلم بالوحي بصوت ، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال : أن الله يتكلم بلا صوت وبلا حرف ، ولا أنه انكر أن يتكلم بصوت أو حرف)(1) . [[ مجموع ابن تيمية 12/304]]
القول الثاني:
قول المعتزلة، القائلين إن كلام الله خلق من خلق الله وهو حرف وأصوات يخلقها الله تعالى بائناً عنه، ولا يوصف بصفة الكلام كما لا يوصف بشيء من الصفات أصلاً، ولهذا ذكر القاضى عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة، مسألة القرآن في قسم أفعال الله (2) .[[ ينظر شرح الأصول الخمسة ص 528]] وهم بهذا القول ينسبون إلى الله تعالى ما يقوم بغيره من الصفات وهو مما يعلم بطلانه قطعاً ، وليس المقصود هنا الكلام على هذا القول ، لكن ذكر ما تبين الفرق بينه وببين القول الثالث .
القول الثالث:(/47)
هو قول الأشعرية وقولهم في الكلام والقرآن يحتاج إلى تفصيل ، وذلك أنهم قالوا كلام الله صفة قائمة به لازمة لذات الله ، أزلا وأبداً كلزوم صفة الحياة والعلم ، وهو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ليس بحرف ولا صوت وانقسامه إلى الأمر والنهي والخبر والنداء والاستفهام بحسب التعلق ، أي صفة واحدة متعلقة بمتعدد ، كتعلق العلم الواحد بجميع المعلومات عندهم ، ويسمون هذا ( الكلام النفساني ) ، أما القرآن المؤلف من السور والآيات فمخلوق عندهم خلق إما في اللوح المحفوظ أو في جبريل أو في النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، قال الأيجي في المواقف (قالت المعتزلة - أصوات وحروف يخلقها الله في غيره - يعني كلام الله - كاللوح المحفوظ أو جبريل ، أو النبيّ ، وهو حادث ، وهذا لا ننكره لكن نثبت أمراً وراء ذلك هو المعنى القائم بالنفس ونزعم أنه غير العبارات.(1) [[ ص 294]]
فالقرآن عبارات مخلوقة دالة على الكلام النفسي عندهم ، ويسمى القرآن كلام الله مجازاً عند بعضهم، وعند البعض الآخر يطلق ( كلام الله ) بالاشتراك اللفظي على المعنى القائم بالذات وعلى المخلوق المؤلف من السور والآيات الدالة على المعنى القائم بذات الله الذي هو صفة من صفاته وهو المسمي بالكلام النفسي.
قال السعد في شرح العقائد ( فإن قيل لو كان كلام الله تعالى حقيقة في المعنى القديم مجازاً في النظم المؤلف لصح نفيه عنه بأن يقال ليس النظم المنزل المعجز المفصل إلى السور والآيات كلام الله تعالى والإجماع على خلافه وأيضا المعجز المتحدى به، هو كلام الله حقيقة مع القطع بأن ذلك إنما يتصور في النظم المؤلف المفصل إلى السور والآيات، إذ لا معنى لمعارضة الصفة القديمة .
قلنا : التحقيق أن كلام الله تعالى اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم، ومعنى الإضافة كونه صفة لله تعالى وبين اللفظي الحادث المؤلف من السور والآيات، ومعنى الإضافة أنه مخلوق لله تعالى ليس من تأليفات المخلوقين ) [[ ينظر شرح العقائد ص 94 ـ 95، وينظر في هذا المذهب ، أصول الدين للبغدادي ص 106، إرشاد الجويني ص 117 ـ 119 ، المستصفى للغزالي ص 120 ، قواعد العقائد له ص 182ـ 183 ]]
فالقرآن كما هو واضح من كلام السعد هذا - عند أصحاب هذا القول - مخلوق، دال على المعنى الواحد القائم بذات الله اللازم له لزوم الحياة والعلم والصفات الغير متعلقة بمشيئته وقدرته، وكذلك التوراة، والعبرانية والإنجيل السرياني، عبارات دالة على ذلك المعنى الواحد، فكلام الله معنى ، إن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وكل هذه العبارات مخلوقة. (1)
[[ ينظر في هذا التبصير في الدين ص 150 ، مجموع ابن تيمية 12/165]]
وهذا المصنف المنقول كلامه في أول المثال، يبدوا أنه ممن يوافق أصحاب هذا المذهب، في أصل مذهبهم وإن خالفهم في تأويل النصوص الناقضة لهذا المذهب كما سيأتي.
والذي دعاهم إلى اختراع هذا القول الغريب (2) [[ ذكر أبو نصر السجزي في كتاب الرد على من أنكر الحرف والصوت ، أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان في أن الكلام لايكون إلا حرفا وصوتا حتى خالف في ذلك ابن كلاب ومن تبعه ص 89 ، وكذلك ذكر ابن تيمية أنه لم يقل بهذا القول في الكلام إلا هذه الطائفة المجموع 6/528]]
، الذي دعاهم إلى هذا الاختراع ، هو إنكارهم قيام الأفعال والأمور الاختيارية بالرب تعالى ، ويسمون هذه المسألة (حلول الحوادث )(3) [[ ينظر قواعد العقائد للغزالي ص 185]] ، مع إرادتهم موافقة السلف الذين يثبتون صفة الكلام لله تعالى ويعظمون الإنكار على من قال كلام الله مخلوق بل ويكفرونه مع أن أئمة الدين المتقدمين في عصور السلف لم يفرقوا في إنكارهم بين من ادعى أن الكلام مخلوق أو ادعى أن القرآن مخلوق .
ومسألة قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى كالاستواء والنزول والغضب والرضى والكلام التي يسميها هؤلاء حلول الحوادث ، ويجعلون نصوصها من المتشابه المراد به خلاف الظاهر قد مضى الكلام عليها ، وابطال قولهم فيها جملة وتفصيلاً ، والمقصود هنا الكلام على هذا المثال خاصة بما يبين أثر معرفة المحكم والمتشابه في تفسير آيات هذا النوع ، والتي تقدم بعضها .
وينبغي تقديم ما يدل على بطلان هذا القول في كلام الله ثم الرد على تأويلاتهم بما ، وبه يتبين أن هذه الآيات محكمة لا اشتباه فيها عند الراسخين في العلم ، وإنما اشتبهت على من تعلق بشبه من الكلام ، قدمها على نصوص الوحي .
ويدل على بطلان قولهم في كلام الله أدلة أهمها :
الدليل الأول :
ــــــــــــ(/48)
أن قوله تعالى ( وكلم الله موسى تكليما ) وقوله ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } النساء (164) ، الأعراف (143) ، وقوله (فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ، وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ) طه (11) ، دليل على أنه تكليم سمعه موسى ، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة ، ومن قال إنه يسمع فهو مكابرة ، ودليل على أنه نادى والنداء لا يكون إلاّ صوتاً مسموعاً ولا يعقل لفظ النداء بغير صوت مسموع.(1) [[ ينظر مجموع الفتاوى 12/130]]
الدليل الثاني :
ــــــــ
أن الله تعالى قال ( ولقد نعلم إنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) النحل (103) ، وهؤلاء المشركون إنما كانوا يقولون إنما يعلم محمداً هذا القرآن العربي بشر ، لم يكونوا يقولون إنما يعلمه بشر معانيه فقط ، بدليل قوله (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) فإنه تعالى أبطل قول الكفار بأن لسان الذي ألحدوا إليه لسان أعجمي ، وهذا القرآن ألفاظ عربية ، فدل هذا على أن القرآن لفظه ومعناه من الله لا من غيره(2) . [[ المصدر السابق 12/123]]
الدليل الثالث :
ــــــــــ
أن قوله تعالى (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) ، القصص (62) ، وقوله ( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ) القصص ( 65) ، دليل على وقوع النداء بظرف محدود وهو ذلك اليوم ، يوم القيامة ، وكذلك قوله تعالى ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) البقرة (34) وقوله { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين ، فإن أصحاب هذا القول يقولون إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل الكلام المعين لازم لذاته لزوم الحياة لذاته . [[ مجموع ابن تيمية 12/130ـ 131]]
الدليل الرابع :
ــــــــــــ
أن القول بأن الكلام معنى واحد يلزم منه التناقض فإن موسى مثلاً إن كان سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله وإن سمع بعضه ، فقد تبعض ، وكلاهما ينقض قولهم فإنهم يقولون إنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض .(2) [[ينظر شرح الطحاوية 197]]
الدليل الخامس :
ـــــــ
إن قولهم معنى واحد هو أمر بكل مأمور وخبر عن كل مخبر به وسائر ما ذكروه غير متصور ، ولهذا كان أبو محمد ابن كلاب رأس هذه الطائفة ومخترع هذه المقالة ، لا يذكر في بيانها شيئاً يعقل بل يقول هو معنى يناقض السكوت والخرس (3) . [[ ينظر المجموع لان تيمية 6/295ـ 296، 12/194]]
الدليل السادس :
ــــــــ
أنه معلوم بالاضطرار أنا إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن معنى ذلك هو معنى القرآن ، بل معاني هذا ليست معان هذا ، وكذلك معنى (قل هو الله أحد ) ليس هو معنى (تبت يدا أبي لهب ) ، ولا معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين وإذا جوز ان تكون الحقائق المتنوعة شيئاً واحداً ، فليجوز أن يكون العلم والكلام والسمع والبصر صفة واحدة.(4) [[ المصدر السابق 12/122، وشرح الطحاوية 191]]
فهذا أهم ما يدل على بطلان قولهم ، وهم قد جعلوا الكلام اسماً للمعنى فقط ، واطلاقه على اللفظ من قبيل مجاز ، لأنه دال عليه ، وقالوا بناء على هذا أن القرآن ليس كلام الله حقيقة لأن الكلام هو المعنى أما الألفاظ فتسمى كلاماً من باب المجاز .
والصحيح المعلوم من اللغة أن الكلام يتناول اللفظ والمعنى جميعاً كما يتناول اسم الإنسان الروح والبدن جميعاً ، ومما يدل قطعا على هذا الحديث المتفق عليه (أن الله تجاوز لأمتي عما حدثت له أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل )(5) [[ رواه البخاري الفتح 9/388]] ، والحديث الذي رواه النسائي وأبو داود وعلقه البخاري بصيغة الجزم (إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنما أحدث إلاّ تكلموا في الصلاة )(6) .[[ رواه النسائي في سننه 3/19، وأبو داود 1/567]]
وقد اتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته ، واتفقوا على أن ما يقوم بالقلب أثناء الصلاة من معاني تتعلق بغير الصلاة من أمور الدنيا أنها لا تبطل الصلاة وإنما يبطل الصلاة التكلم بذلك ، فعلم باتفاق المسلمين أن هذا ليس بكلام .(1) [[ شرح الطحاوية 191]]
وقد استدلوا على قولهم ببيت من الشعر ، قال شارح الطحاوية (وأما من قال إنه معنى واحد واستدل عليه بقول الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وانما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً(/49)
فاستدلال فاسد ، ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا : هذا خبر واحد ، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه ، وتلقيه بالقبول والعمل به ، فكيف وهذا البيت قد قيل انه موضوع ، منسوب إلى الأخطل ، وليس في ديوانيه ؟ وقيل إنما قال (إن البيان ففي الفؤاد ) ، وهذا أقرب إلى الصحة(2) .[[ قال الإمام أبو نصر السجزي رحمه الله في الرد على من أنكر الحرف والصوت ، ( وتعلقوا بشبه منها قول الأخطر أن البيان لفي الفؤاد ... فذكر البيت ، ثم قال : فغيروه وقالوا : إن الكلام لفي الفؤاد ) 92]]
وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به ، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله واتحد اللاهوت والناسوت ، أي شيء من الإله بشيء من الناس . أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب ؟ وأيضاً فمعناه غير صحيح إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه ، وإن لم ينطق به ولم يسمع منه)(3) . [[ شرح الطحاوية ص 198، وينظر مجموع الفتاوى 6/296ـ 297]]
ويدل على أن اسم الكلام يتناول اللفظ والمعنى أنه إذا أريد استعماله في حديث النفس خاصة فإنه يقيد بما يدل عليه ، فيقال : قلت في نفسي ، وحدث نفسه ، ونحوه فإن أطلق دل على اللفظ والمعنى معاً ، فهذا ما يدل على بطلان هذا القول .
وقد سلكوا في تأويل النصوص الكثيرة الدالة على ضد قولهم مسلكين مشهورين ،
إبطال تأويل النصوص المؤيدة لمذهب السلف :
ـــــــــــــــــــــــ
أما المسلكان : فالأول :
ـــــــــــــــــ
وهو مسلك غريب وقول عجيب ، ما ذكره في حاشية على شرح أم البراهين قال (ليس معنى كلم الله موسى تكليما أنه ابتداء الكلام بعد أن كان ساكتا ، ولا أنه بعد ما كلمه سكت ، وانما المعنى أنه أزال الحجاب عن موسى وخلق له سمعاً وقواه حتى أدرك كلامه القديم ثم منعه بعد ذلك ورده لما كان عليه قبل سماع كلامه)(1) . [[ حاشية الدسوقي على شرح أم البراهين للسنوسي ص 113 ، وانظر المستصفى للغزالي 120 ، فقد ذكر قريبا من عبارته ، وهذا التأويل بمني على جواز سماع الكلام النفسي ، وقد قال به بعض الاشعرية ينظر نظم الفرائد ص 15، 16]]
وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم أنهم يقولون (إن التكليم والنداء ليس إلاّ مجرد خلق إدراك المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ، ولا تكليم بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعاً لما كان موجوداً قبل سمعه بمنزلة جعل الأعمى بصيراً لما كان موجوداً قبل رؤيته ... فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي)(2) . [[ مجموع ابن تيمية 12/132، 12/175]]
ولا ريب أن هذا التأويل المتكلف لم يخطر على بال أحد سمع آيات القرآن الواردة في هذا الصدد من نزولها إلى يومنا هذا ، ما لم يتلقنه من أصحاب هذا المذهب ، ثم عليه بعد ذلك أن يرغم نفسه على تصوره إن استطاع ذلك ، نعم ، لا سيما إذا فسر له سماع هذا الكلام النفسي بأن مصحح السماع هو الوجود كما أن مصحح الرؤية كذلك ، كما يقولون ، وقد التزم من أجل هذا جواز رؤية الروائح والملموسات والطعوم (3) .
[[ أما الرؤية ـ أعني رؤية الروائح .. إلخ ، فذكره في المواقف ص 302 ، جوابا على من ألزمهم بأن مالا يوجد لاتصح رؤيته ، فذكروا أن مصحح الرؤية الوجود فقط ، والتزموا من اجل ذلك صحة رؤية الروائح والمطعومات ، والملموسات ، وأما السماع فكذلك نقله في نظم الفرائد عن الاشعري ، أنه يتعلق بكل موجود والكلام النفسي موجود فيصح سماعه ص 16 ، وحكاه ابن القيم عن الاشعري ومن اتبعه قال ( وعنده ذلك المعنى سمع من الله حقيقة ، ويجوز أن يرى ، ويشم ، ويذاق ، ويلمس ، ويدرك بالحواس الخمس ، إذ المصحح عنده لإدراك الحواس هو الوجود فكل موجود تعلق الادراكات كلها به ، كما قرره في مسالة رؤية ما ليس في جهة من الرائي ) مختصر الصواعق لابن القيم 513]]
ويكفي في نقض هذا التأويل المتكلف ، مصادمته الواضحة لنصوص الكتاب والسنة ، التي تنص على أن الله كلم موسى ، وناداه ، وناجاه ، وسأله فأجاب ، ورد عليه ، فهل هذا كله كان أزلاً ، وسيبقى أبداً ملازما لذات الله ، كلزوم الحياة ، وكيف يعقل أنه لم يزل ربنا تعالى ، ينادي موسى ويكلمه ، قبل أن يخلق السموات والأرض، ويجيب على قوله (رب أرني أنظر إليك ) بقوله (لن تراني) قبل وجود الكائنات ، والتأويل إذا بلغ إلى هذا الحد ، فلا يلام من يسميه تلاعبا بكتاب الله .
والمسلك الثاني :
ـــــــــــــ(/50)
هو أن الله خلق صوتا في الشجرة ، أو في الهواء فسمعه جبريل أو غيره ، فالذي سمعه موسى ، وتسمعه الملائكة ، وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم ، ليلة المعراج من كلام الله ، أصوات وحروف مخلوقة خلقها الله فدلت على المعنى الواحد اللازم لذات الله ، ومع أنها متعددة ، متبعضة ، إلاّ أنها دالة على معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ، وهذا المسلك هو الذي تقدم عن الايجي أنه حكاه وقال لا ننكره ، وحكاه الرازي عن أهل السنة من أهل ما وراء النهر ، ويقصد بهم أصحاب الكلام النفساني(1) . [[ ينظر تفسير الرازي 22/16]]
وبهذا المسلك - وكذلك الذي قبله - صرح أصحاب هذا القول بخلق القرآن ، فأما الأولون فقالوا إن الله تعالى خلق في جبريل إدراكا أدرك به المعنى النفسي ، فعبر عنه بألفاظه فكان القرآن ، أو أن جبريل ألقى المعنى إلى محمد فأنشأه بلفظه(2) . [[ قال أبو نصر السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ( وأيضا فلو كان غير حرف ، وكانت الحروف عبارة عنه ، لم يكن بد من أن يحكم لتلك العبارات بحكم ، إما أن يكون الله أحدثها في صدر أو لوح أو أنطق بها بعض عبيده ، فتكون منسوبة إليه ص 191]]
وهذا تصريح بخلق القرآن ، فإن المخلوقات وأفعالها كلها مخلوقة .
وأما هؤلاء فيقولون : خلق في جبريل ، أو في اللوح المحفوظ ، أو في الهواء حروفاً ، هي القرآن العربي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم بلغ جبريل هذا المخلوق للنبي صلى الله عليه وسلم .(3) [[ مجموع ابن تيمية 12/378]]
فإذن أوّل ما يدل على بطلان هذا المسلك - وكذلك الذي قبله - أنه تصريح بخلق القرآن ، الذي اتفقت الأمة وكلمة أهل العلم في عصور السلف على إنكاره والبراءة من قائله ، وهو مع ذلك تناقض بين من قائله - أن كان من أصحاب هذا المذهب - فإنه إنما يحتج على المعتزلة الذين ينسبون الكلام إلى الله مع قيامه بغيره - لأنهم يقولون حروف وأصوات يخلقها في غيره - بأن الموصوف بالشيء هو ما قام به ذلك الشيء ، ولا يوصف الشيء بما قام في غيره ، كما قال السعد في شرح العقائد ( والمعتزلة لما لم يمكنهم إنكار كونه تعالى متكلما ذهبوا إلى أنه تعالى متكلم بمعنى إيجاد الأصوات والحروف في محالها ، وإيجاد أشكال الكتابة في اللوح المحفوظ ، وإن لم يقرأ على اختلاف بينهم وأنت خبير بأن المتحرك من قامت به الحركة لا من أوجدها ، وإلاّ لصح اتصاف الباري تعالى بالأعراض المخلوقة له تعالى عن ذلك علواً كبيراً )(1) . [[ شرح العقائد النسفية 92ـ 93]]
فمن ينكر على المعتزلة نسبة الكلام إلى الله مع القول بأنه أوجده في غيره ، كيف ينسب إلى الله الكلام الذي أوجده في غيره ، فيقول القرآن المؤلف من السور والآيات مخلوق خلقه الله في غيره ، كاللوح المحفوظ أو جبريل أو محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو مع ذلك كلام الله.
فإن قال : إنما هذا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ، لزمه أن كل كلام خلقه الله فهو كلامه ، وهذا يشمل كل كلام في الوجود وهذا من أبطل الباطل ، وما قال به إلاّ أهل وحدة الوجود من الزنادقة المنتسبين إلى التصوف .
فهذا أهم ما يدل على بطلان هذين التأويلين ، والحق الذي لا ريب فيه أن الآيات التي نصت على اتصاف الله بالكلام هي على ظاهرها اللائق بالله تعالى ، وأن الله تعالى موصوف بصفة الكلام ، وهو متكلم بما شاء متى شاء ، كيف شاء ، بكلام سمعه موسى ويسمعه جبريل وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم ، بصوت لا يماثل صوت المخلوقين كما أن سائر صفاته لا تماثل صفات المخلوقين .
ولينظر إلى هذا الاعتقاد ما أحسنه وأسهله وأوفقه لنصوص الوحي ، وذلك القول مع ما جر إليه من تأويلات ، ما أشد تكلفة ، وأبعد تصوره ، وأصعبه على النفوس السليمة ، يتجرعه المؤمن ولا يكاد يسيغه ، ويأتيه الباطل من كل مكان ، فالحمد لله الذي جعل عقيدة الإسلام سهلة ميسورة قريبة إلى النفوس والفطرة واضحة في التصور والعلم .
فليس في آيات الكلام اشتباه ، ولا هي من المتشابه عند أهل الرسوخ في العلم ، ولكنها إنما اشتبهت على من عارضها بعقله الضعيف ، واصطلاحهم على أن المتشابه هو ما يراد به خلاف ظاهره هو الذي أدى إلى تأويل آلاف النصوص وجعلها من المتشابه وإدعاء أنها من المراد به خلاف الظاهر قال ابن القيم (ولا تستبعد قولنا أكثر من ثلاثة آلاف ، فكل آية ، وكل حديث إلهي وكل حديث فيه الإخبار عما قال الله تعالى أو يقول وكل أثر فيه ذلك إذا استقرئت زادت على هذا العدد)(1) .[[ مختصر الصواعق لابن القيم 518]]
وبما مضى يتبين أن الآيات الواردة في مسألة كلام الله تعالى وأنه يكلم ملائكته وجبريل ومن شاء من أصفيائه ، ويكلم من شاء يوم القيامة وأهل الجنة وهي كثيرة جداً في القرآن كلها محكمة لا اشتباه فيها عند أهل العلم الراسخين فيه من أهل السنة ، وتفسيرها تلاوتها واعتقاد ظاهر ما دلت عليه مع تنزيه الله عن مماثلة خلقه .(/51)
ويبقى الكلام في قوله تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}، التوبة (6) ، وهو الطرف الثاني من مسألة الكلام ، وهو قراءة العباد كلام الله وتسمى مسألة اللفظ وهذه المسألة من المسائل الدقيقة وقد اشتبهت على كثير ممن ينتسب إلى السنة والحديث .
وسبب اشتباه هذه المسألة أن الكلام ، وجوده العيني يتحد مع وجوده اللفظي ، فالذي يبلغ بلفظه الكلام الذي تكلم به غيره يبلغه بنفس المرتبة الوجودية التي حصلت له في الأول .
وبيان هذا أن للشيء أربعة مراتب ، مرتبة في الأعيان ومرتبة في الأذهان ، ومرتبة في اللسان ، ومرتبة في الخط ، وهذه المراتب الأربعة تتحقق منفصلة في الأعيان القائمة بنفسها كالشمس مثلاً ، فوجودها الخارجي شيء ، ووجودها الذهني شيء ، ووجودها اللساني شيء ، ووجودها في الكتاب شيء ، أما العلم مثلاً فتتحد فيه المرتبتان الذهنية والخارجية ، والكلام تتحد فيه المرتبتان اللفظية والخارجية ، فلا جرم حصل الاشتباه العظيم في مسألة تكلم العباد بالقرآن(1) . [[ ينظر في علاقة مسألة الكلام بمراتب الوجود ، مختصر الصواعق المرسلة ص 535، مجموع الفتاوى 12/239 ، 12/289، 12/385]]
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيانا واضحا لهذا الإشكال ويحسن إيراده بألفاظه قال رحمه الله (ومما ينبغي أن يعرف ، أن كلام المتكلم في نفسه واحد وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم ، به ، فإذا أنشد المنشد ، قول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ، كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه ، مع أن أصوات المنشدين له تختلف ، وتلك الأصوات ليست صوت لبيد ، وكذلك من روى حديث (إنما الأعمال بالنيات) فإن هذا الكلام كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لفظه ومعناه ويقال لمن رواه أدي الحديث بلفظه ، وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول ، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله لفظه ومعناه ، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم )(1) . [[ مجموع ابن تيمية 12/171]]
وقال ( ومن المعلوم أنه إذا سمع الناس كلهم كلام محدث يحدث بحديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كقوله ( إنما الأعمال بالنيات ) قالوا : هذا كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، أو هذا كلامه بعينه ، لأنهم قد علموا أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تكلم بذلك الكلام لفظه ومعناه وتكلم بصوته ، ثم المبلغ له عنه بلغه بصوت نفسه ، فالكلام كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هو الذي تكلم بمعانيه وألف حروفه بصوته والمبلغ له بلغة بفعل نفسه وصوت نفسه ، فإذا قالوا : هذا كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، كانت إشارتهم إلى نفس الكلام الذي هو الكلام حروفه ونظمه ومعانيه ، لا إلى ما اختص به المبلغ من حركاته وأصواته ، بل يضيفون الصوت إلى المبلغ فيقولون صوت حسن ، وما كان في الكلام من فصاحة حروفه ونظمه وبلاغة معانيه فإنما يضاف إلى المتكلم به ابتداء لا إلى المبلغ له ، ولكن يضاف إلى المبلغ حسن الأداء كتجويد الحروف وتحسين الصوت ولهذا قال تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله )(2) . [[ المصدر السابق ]]
وقال رحمه الله ( كما في الاسم والمسمى ، فإن اسم الشخص وإن ذكره أناس متعددون ، ودعا به أناس متعددون ، فالناس يقولون إنه اسم واحد لمسمى واحد ، فإذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، وقال ذلك هذا المؤذن ، وهذا المؤذن ، وهذا المؤذن ، وقاله غير المؤذن ، فالناس يقولون إن هذا المكتوب هو اسم الله واسم رسوله ، كما أن المسمى هو الله ورسوله ).(1) [[ المصدر السابق 12/291]]
فقوله تعالى (فأجره حتى يسمع كلام الله ) المقصود الكلام نفسه من حيث هو هو وإن كان إنما سمع بواسطة التالي وصوته.
والمشار إليه عند قراءة القارئ للقرآن ، (بهذا كلام الله ) ليس هو ما يمتاز به قارئ عن قارئ إذ كان من المعلوم ، أن ما يسمع من كل قارئ فهو كلام الله وأن صوت هذا القارئ ليس هو صوت ذلك ، بل المشار إليه ، هو الحقيقة المتحدة ، وهو كونه كلام الله بقراءة جميع القراء .(2) [[ المصدر السابق 12/281]]
ومما ينبغي أن يعلم أن هذا الاشتباه لا ينحل إلاّ لمن يتيقن أمرين :
الأول : أن الله تكلم بالقرآن بكلام سمعه جبريل منه سماعاً حقيقياً وأنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاه عليه وعرضه عليه فسمعه -صلى الله عليه وسلم- وبلغه للأمة كما سمعه ولم يزل ينقل بالتواتر كما تكلم الله به أول مرة كلاماً حقيقياً بصوت نفسه سبحانه وتعالى .
الثاني : أن الكلام يضاف إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً ، فلا يقال عمن روى حديث ( إنما الأعمال بالنيات ) هذا كلامك ، وقولك ، بل يقال كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقوله .(/52)
ولا تشتبه هذه المسألة إلاّ على من ينكر أحد هذين الأمرين أو يجهله ، وبهذا فقوله تعالى (حتى يسمع كلام الله ) هو كلام الله بأصوات القارئين فلا إشكال ولا إشتباه فيه إذا رد إلى المحكم.
فهذا ما يتعلق بهذا المثال .
@@@@@@@@@@@@@
المثال الثالث : آيات الرؤية :
ــــــــــــــ
ــــــــــــــ
وهي من المسائل الكبار التي خالف فيها أهل البدع السنة ، واتبعوا ما تشابه عليهم من القرآن كما قال القاضي عبد الجبار المعتزلي ، عند قوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) ،.
قال (يدل على أن الله تعالى لا يجوز أن يرى بالأبصار والعيون ، على وجه ، في كل وقت من غير تخصيص)(1) . [[ متشابه القرآن لعبد الجبار 1/255]]
وقد أثبتها أهل السنة واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة .
وأما الكتاب فقوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )
وقد صرح ابن كثير رحمه الله بتواتر أحاديث الرؤية .
ومما يدل على ذلك من كتاب الله أيضاً قوله تعالى (كلا أنهم يومئذ عن ربهم لمحجوبون ) قال ابن كثير ( قال الإمام الشافعي رحمه الله : هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ وهذا الذي قاله الإمام الشافعي - رحمه الله - في غاية الحسن وهو استدلال بمفهوم الآية ، كما دل منطوق قوله ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم - عز وجل - في الدار الآخرة ، رؤية بالأبصار في عرصات القيامة ، وفي روضات الجنات الفاخرة(1)) . [[ تفسير ابن كثير 8/373]]
ومما يدل على الرؤية من كتاب الله أيضاً قوله تعالى ( قال رب أرني انظر إليك ...) ، قال شارح الطحاوية رحمه الله (الاستدلال منها على ثبوت الرؤية من وجوه :
الأول : أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه بل هو عندهم من أعظم المحال .
الثاني : أن الله لم ينكر عليه سؤاله ، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله وقال (إني أعظك أن تكون من الجاهلين ).
الثالث : أنه تعالى قال (لن تراني ) ولم يقل (إني لأرى ) أو ( لا تجوز رؤيتي ) أو ( لست بمرئي ) ، والفرق بين الجاوبين ظاهر ، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعام ، فقال أطعمنيه ، فالجواب الصحيح أنه لا يؤكل ، أما إذا كان طعاماً صح أن يقال إنك لن تأكله ، وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى ثم ذكر وجوها أخرى ، هذه أهمها.(2) . [[ شرح الطحاوية ص 207 ، وقوله عندهم في الوجه الأول يعني المعتزلة ، فإنهم لا يجوزون على الأنبياء حتى الصغائر فكيف بجهل ما يستحيل على الله ]]
وقد تقدم ما يدل على ذلك من السنة ويدل على ذلك أيضاً إجماع المسلمين قبل حدوث بدعة إنكار الرؤية .
وقد استدل المعتزلة بقوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) كما تقدم عن القاضي عبد الجبار ، وجعل الزمخشري قوله تعالى ( لتدركه الأبصار ) محكما ، وقوله تعالى ( إلى ربها ناظرة ) متشابها(1) . [[ الكشاف 1/412]]
وحاول القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه متشابه القرآن ، تأويل ما استدل على الرؤية من آية الأعراف ، وحاول الزمخشري تأويل قوله تعالى ( إلى ربها ناظرة ) بما يقطع ببطلانه .
أما قوله تعالى ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب ارني انظر إليك ، قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ، فما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صاعقا ، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) الأعراف (143) .
قال القاضي عبد الجبار (قالوا : ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يجوز إن يرى ،وما يدل على أنه يجوز أن يظهر ويتجلى ويحتجب ، فقال ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ، قال رب أرني انظر إليك ) فلو لم تجز الرؤية عليه لم يكن ليسأل ذلك ، كما لا يجوز أن يسأل ربه اتخاذ الصاحبة والولد ، إلى ما شاكله من الأمور المستحيلة عليه )(2) . [[ متشابه القرآن له 1/291]]
ثم قال ( وقد اختلف أجوبة شيوخنا رحمهم الله في ذلك ، فمنهم من قال إنما سأل ذلك عن لسان قومه ، لأنهم سألوه ذلك فأجابهم بأن الرؤية لا تجوز عليه ، فلم يقنعوا بجوابه ، وأرادوا أن يرد ذلك من الله تعالى ، ولذلك قال تعالى (يسألك أهل الكتاب إن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ) النساء (153) ، ولذلك قال الله تعالى (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) ولو كانت المسألة صدرت عنه لأمر يخصه لم يجز أن يقول ذلك ، وقد بينا أن السائل إذا سأل لأجل غيره حسن أن يسأل ما يعلم أنه محال ، لكي يرد الجواب فتقع به الإبانة ، إذا كان عنده أن ذلك إلى زوال الشبهة أقرب)(3) . [[ 1/293]]
وهذا أحسن ما حكى عن شيوخه من تأويلات وهو كما لا يخفى من ابعد التأويل ولا يدل عليه الخطاب من قريب ولا من بعيد .(/53)
فإن قوله تعالى ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً السماء فقد سألوا موسى أكبر في ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ، ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك ، وآتينا موسى سلطاناً مبيناً ) النساء (153).
مع قوله تعالى { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } البقرة (55) ، يدل على أنهم سألوا رؤية الله عن عناد وتعنت ، كما يفسره قوله تعالى ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) فادعوا أنهم لن يؤمنوا إلاّ إذا رأوا الله جهرة ، فعاقبهم الله بالصاعقة ، فماتوا ثم بعثهم ،وفي تعقيب أخذه لهم على سؤالهم (بالفاء ) دلالة على وقوع صعقهم عقيب سؤالهم ، وقوله تعالى ثم اتخذوا العجل دليل على أن اتخاذهم العجل قد وقع لما انطلق موسى إلى ميقات ربه وكلمه ، فأخبره سبحانه (فإنا فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ) ، وفي هذا دلالة على أن سؤال موسى رؤية ربه كان بعد سؤال قومه الذي وقع منهم قبل ذلك تعنتا وعنادا ، فعوقبوا عليه ، فكيف يعود موسى ويسأل ربه أن يجعل الذين أخذهم الله بالصاعقة يرونه بعد أن كانت عقوبتهم بسبب طلبهم الرؤية ؟ وكيف يطلبون الرؤية بعد أن صعقوا عقوبة على طلبها ؟
وأيضاً فإن موسى قال (رب أرني أنظر إليك ) وهذا صريح في أنه طلب الرؤية لنفسه ، فتركه ما دل عليه الخطاب لأمور بعيدة مجرد تحكم .
وأيضاً فإن السياق يدل على أن موسى طلب الرؤية لنفسه فإن الله قال ( ولما جاء موسى لميقاتنا ، وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك ) فعقب طلب الرؤية على سماع الكلام ، ففيه إشارة إلى أنه لما سمع الكلام استأنس وظن أن الله يعطيه الرؤية كذلك في الدنيا فبين له ربه سبحانه أنه لا تجوز في الدنيا ، إذ لا تطيقها الجبال الرواسى فكيف بالبشر الضعيف في بنيته الدنيوية الضعيفة ، ولهذا قال بعد ذلك ( يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ) ، أي خذ نعمتي عليك وأشكر عليها ، وهي الكلام والرسالة ، ولا تطمع فيما لا يكون لأحد ولا طاقة لأحد به(1) . [[ تفسير ابن كثير 3/471]]
وقوله ( وقد بينا أن السائل إذا سأل لأجل غيره حسن أن يسأل ما يعلم أنه محال ، لكي يرد الجواب فتقع به الإبانة ، إذا كان عنده أن ذلك إلى زوال الشبهة أقرب ) ، لا معنى له ، فإن بني إسرائيل لم يسمعوا ما جرى بين موسى وربه من الخطاب ولم يروا دك الجبل ، وإلاّ لصعقوا كما صعق موسى ، بل كانوا في أثناء هذا يعبدون العجل ، كما قص القرآن ، فما فائدة أن يسأل موسى ربه أن يري نفسه بني إسرائيل مع علمه أنه مجال لتزول الشبهة عنهم إذا لم يكن بنوا إسرائيل شاهدين لهذا ، فما أبعد هذا .
وبالجملة فهذا إلى اللعب أقرب منه إلى التأويل ، وهو دليل واضح على أن أهل البدع يجعلون الآية من المتشابه لمجرد مخالفتها لمذهبهم ، يريدون بذلك صرفها عن نقض أقوالهم ، فالله المستعان .
وأما قوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) فإنه يدل على الرؤية من وجوه :
الأول : أن لفظ ( نظر ) إذا عدي بإلى دل على نظر العين ، كما أنه إذا عدي بفي دل على التفكر كما قال تعالى (أفلم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ) ، وإذا عدي بنفسه فمعناه الانتظار ( انظرونا نقتبس من نوركم )(1) . [[ ينظر شرح الطحاوية 205 ]]
قال الجوهري ( النظر : تأمل الشيء بالعين ، وكذلك النظران بالتحريك ، وقد نظرت إلى الشيء)(2) . [[ الصحاح 2/830]]
وقال ابن فارس ( النون والظاء والراء أصل صحيح ، يرجع فروعه إلى معنى واحد وهو تأمل الشيء ومعاينته، ثم يستعار ويتسع فيه ، فيقال نظرت إلى الشيء ، أنظر إليه إذا عاينته ... ويقولون نظرته أي انتظرته )(3) .[[ معجم مقاييس اللغة 5/444]]
الثاني : أنه أضافه إلى الوجوه التي محل الأبصار فهذه قرينة تدل على أن المراد نظر العين(4) . [[ شرح الطحاوية 205]]
الثالث : أن المقام بيان النعيم ، فالمناسب ذكر تمتعهم بالنظر إلى الله ولو قيل أن المراد ينظرون رحمة ربهم لكان في ذلك تنقيص لهم لأن المنتظر للشيء مشغول القلب بوقت حصوله .
الرابع : في قوله (وجوه يومئذ ناضرة) إشارة إلى رؤية الله عيانا ، فكأنها اكتسبت النضرة.بسبب رؤية الله تعالى كما أن من يرى الشيء الحسن يتبين أثر ذلك في وجهه ، فكيف بمن يرى الله تعالى .
فهذه الوجوه تبطل تأويل النظر بانتظار الثواب كما فعل القاضي عبد الجبار في متشابه القرآن.(/54)
وأما قول الزمخشري ( إلى ربها ناظرة ، تنظر إلى ربها خاصة ، لا ننظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم المفعول ، إلاّ ترى إلى قوله - إلى ربك يومئذ المستقر - إلى ربك يومئذ المساق - إلى الله تصير الأمور - إلى الله المصير - وإليه ترجعون - عليه توكلت وإليه أنيب - كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص ، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلاق كلهم )(1) . [[ الكشاف 4/192]]
ثم جعل هذا دليلاً على أن معنى النظر إلى الله عنده ( أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلاّ من ربهم ) كما قال(2) . [[ المصدر السابق ]]
فجوابه أن الاختصاص على ظاهره فإن الله تعالى إذا تجلى لأهل الجنة ينظرون إليه ، كما تواتر في السنة ، فلا تتوجه الوجوه والأنظار إلاّ إليه وكأنها لا ترى إلاّ هو ، وسبحان الله ، كيف يتصور أن تطلب العيون نظراً إلى غير الله إذا تجلى بعظمته ، وكيف لا تعمى عن سواه إذا أزال رداء الكبرياء عن وجهه الكريم ؟ بل هذا أعظم لذّات الجنة وليس بين هذا النعيم وسائر نعيم الجنة وجه مقارنة أصلاً كما تقدم في حديث مسلم (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ).
وفي الوجوه الأربعة المتقدمة رد على قوله ( والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلاّ من ربهم).
وأما الاستدلال بقوله ( لا تدركه الأبصار ) فقد اشتبه عليهم ويتبين برده إلى المحكم معنا الصحيح ، فإنه لا ريب أن ما دلت عليه الآيات السابقة والأحاديث المتواترة من حصول رؤية المؤمنين ربهم ، محكم غاية الأحكام ، فقوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) لا يدل على عدم الرؤية بل هو أدل على وقوع الرؤية ، وذلك أن الآية ذكرت في ( سياق التمدح ومعلوم أن المدح ، إنما يكون بالصفات الثبوتية .
أما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به ، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمرا وجوديا ، كمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن كمال قيوميته ، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة ، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة ونفي الشريك والصاحبة والولد المتضمن كمال الربوبية والألوهية وقهره ، ونفي الأكل والشر المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه ، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته ، ونفي المثل المتضمن كمال ذاته وصفاته ، ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمرا وجوديا ، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه .
فمعنى الآية إذن ، يرى ولكن لا يدرك ولا يحاط به فيكون قوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) يدل على كمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به ، فإن (الإدراك) ، هو الإحاطة بالشيء ، وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى { فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا} الشعراء (62) ، فلم ينف موسى الرؤية وإنما نفى الأدراج ، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر ، وبدونه فالرب تعالى يرى ولا يدرك ، كما يعلم ولا يحاط به علما ، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية ، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه)(1) . [[ شرح الطحاوية 208]]
وهذا ختام كتاب ( أم البراهين ) والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأجمعين .(/55)
أم البراهين القاطعة لشبهات المعطّلين والمؤوّلين والمفوّضين
لصفات الله رب العالمين
بقلم
حامد بن عبد الله العلي
الجزء الاول
الحمد لله الذي أنزل الكتاب بالحق ، ولم يجعل له عوجا ، أشهد أن لا إله إلا هو شهادة من أسلم وجهه لله ، فلم يجد حرجا ، وأشهد أن محمدا صلّى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، الصادق المصدوق مدخلا ومخرجا ، اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله ، وصحبه ، ومن اتخذ دينه منهجا .
وبعد :
فهذا كتاب وضعته للرد على أهل التعطيل والتأويل لصفات الله تعالى ، وقد ذكرت فيه الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع السلف ، من أن نصوص صفات الله تعالى ، الواردة في الكتاب و السنة ، يجب الإيمان بما دلت عليه من صفات لائقة بجلال الله ، وعظمته جل شأنه ، مع تفويض كيفيّاتها ـ لا معانيها ـ إليه سبحانه ، وأن ذلك هو معنى ما أطبق عليه السلف بقولهم : أمروها كما جاءت بلا كيف .
كما ذكرت أهم الشبه التي استدل بها أهل التعطيل والتأويل من كتبهم المعتمدة عندهم ، ونقضتها من كلام أهل العلم ، من أئمة أهل السنة والجماعة ، وأضفت إلى ذلك بعض ما ظهر لي أيضا من الردود .
وقد حاولت أن أجعل القارئ المقتصد لا يحتاج إلى مطالعة غير هذا الكتاب ، إذا اضطر إلى الرد على أهل البدع في هذا الباب ، وأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك ، وإلاّ فالنقص أحرى بي وأولى ، وقد أحاط بي ، واستولى .
هذا وينبغي التذكير بأن إظهار نصوص الكتاب والسنة في صفات الله تعالى ، ونشرها بين الناس ، وتعليمهم طريقة السلف في فهم صفات الله تعالى على سبيل الإجمال ، وترك الناس وفطرتهم تمر عليهم الآيات والأحاديث كما أنزلت ، يفهمون مما يقرؤونه في القرآن والسنة ، على أساس الإثبات مع التنزيه ، وقطع الطمع عن التكييف ، هو منهج السلف في القرون الأولى ، وهو أقوى رد على كل مبتدع .
وإنما ينزل الرد عليهم بدفع شبههم ، منزلة الضرورة ، فإن كانت بدعهم مطوية ، وآراؤهم الرديّة مخفية ، فالواجب الإعراض عنهم بالكليّة .
وقد سميت الكتاب ( بأم البراهين ) لأنني اعتنيت فيه بذكر البراهين الجليّة ، على صحة نهج السلف ، في فهم أسماء الله تعالى الحسنى ، وصفاته العليّة .
هذا وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم ، وان ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، آمين والحمد لله رب العالمين . حامد بن عبد الله العلي
غرة جمادى الآخرة 1423هـ
الفصل الأول أقوال الطوائف الإسلامية في صفات الله تعالى ، والقول الصحيح منها والأدلة على صحة ، وبطلان ما سواه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويشتمل هذا الفصل على هذه المطالب :
أولا : أقوال الطوائف في صفات الله تعالى .
ــــــــــــــــــــــــ
ثانيا : القول الصحيح منها ، وهو مذهب السلف ، والأدلة على صحته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثالثا : إبطال مذهبي المفوضة ، والمؤولة في صفات الله تعالى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما يتضمن بحثا مهما في بيان أسباب الخطأ في حكاية مذهب السلف عند بعض العلماء والله الموفق .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنبيه : جعل ما كان في حواشي الكتاب في الاصل ، هنا بين قوسين هكذا [[...]]
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
أولا : أقوال الطوائف في صفات الله تعالى :
ــــــــــــــــــــــــــ
القول الأول :
ــــــ
قول من يجعل كل دليل دل على الإخبار عن صفة ولو ظاهراً ، يأخذ منه إثبات صفة لله تعالى انقياداً للسمع ، وهذا القول هو المنقول عن الصحابة والتابعين ، وقال به أئمة الدين المتقدمين كالأئمة الأربعة والليث بن سعد والأوزاعي والسفيانين وعامة فقهاء الأمصار في عصور السلف وعامة أهل الحديث ، وهو قول غالب المنتسبين إلى مذهب الإمام أحمد ، وكثير من المنتسبين إلى المذاهب الأخرى ، وسيأتي بيان ذلك لاحقا إن شاء الله تعالى .
ويمكن تقسيم الصفات على هذا الأساس إلى : صفات سلبية ، وصفات ثبوتية.
أما الصفات السلبية : فهي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله كالموت ، والنوم.
وأما الصفات الثبوتية : فيمكن تقسيمها إلى ذاتية وفعلية :
فالذاتية هي التي لم يزل ولا يزال متصفا بها وهي نوعان : عقلية وخبرية .
فالعقلية كالقدرة والعلم ، والخبرية - وهي التي لا تعرف إلاّ بالسمع - كالوجه واليدين .
وأما الصفات الفعلية ، فهي التي تتعلق بمشيئته واختياره ، إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها ( وقد تسمى الاختيارية ، أو الأفعال الاختيارية ) ، وهي نوعان أيضاً :
عقلية وخبرية : فالأولى كالخلق والرزق ، والثانية كالمجى والنزول والاستواء .
وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام فإنه صفة ذاتية لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً ، وباعتبار آحاد الكلام فإنه فعلية لأن الكلام يتعلق بمشيئته واختياره ، يتكلم متى شاء بما شاء كما قال سبحانه {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون }(1)(/1)
[[وينظر في تقسيم صفات الله تعالى على هذا القول : شرح الواسطية للشيخ خليل هراس ص 89 ، والقواعد المثلي للعثيمين ص 21ـ25 ، وشرح الطحاوية لابن أبي العز ص 127 ]]
القول الثاني :
ــــــــ
وهو قول من يحدد الصفات بسبع أو ثمان صفات ، وقد يزيد بعضهم على ذلك ، بما سيأتي ذكره وأشهر من قال بهذا القول ، الأشعرية ، والماتوريدية ، ويقسمون الصفات إلى أربعة أقسام :
نفسية ، وسلبية ، ومعاني ومعنوية . [[ متن السنوسية 2]]
فالنفسية هي الوجود ، والسلبية هي القدم ، والبقاء ، والمخالفة للحوادث ، والقيام بالنفس والمعاني هي سبع صفات زائدة على الذات ، وهي : الحياة ، والإرادة ، والعلم ، والقدرة ، والسمع والبصر ، والكلام ، والمعنوية عندهم هي كونه مريداً وقادراً وحياً ، عليماً ، سميعاً ، بصيراً ، متكلماً .
[[ المصدر السابق ، وقال الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان أن المعنوية على التحقيق هي كيفية اتصاف الله تعالى بصفات المعاني ، كما ذكر أن الصفات السلبية لاتدل على معان وجودية بالمطابقة أضواء البيان ( 2/277ـ 278) ]]
وأصحاب هذا القسم لا يعتبر أكثرهم ما يثبته القسم الأول من الصفات الذاتية صفاتاً ، كالوجه واليدين ، والعين ، بل نصوصها عندهم لا تدل على صفات في نفس الأمر ، وإن كانت في الظاهر كذلك ، ويجب تأويل ظواهرها عندهم .
وكذلك الصفات الفعلية الخبرية كالمجيء والنزول والاستواء ، وإذا اجتمع في طريق الثبوت أن يكون خبرياً حديثياً ، فلا يسلم من التأويل عدد أكثرهم أما الخبري القرآني فيثبته بعضهم .
وأعظم من يقول بهذا القول الأشعرية ، فقد اتفق المنتسبون إلى هذا المذهب على إثبات سبع صفات وهي المتقدم ذكرها(1) ، [[ المواقف للايجي ص 281ـ 296]] .
ثم اختلفوا هل لله صفة زائدة عليها وإن كنا لا نعلمها ،فجزم بعضهم بالنفي وجوز بعضهم أن يكون له غيرها وإن كنا لا نعلمها(2) [[ المصدر السابق ص 296]]
وزاد المتقدمون من أئمة المذهب الكبار ، صفة اليد والوجه ، كأبى بكر الباقلاني (3) [[التمهيد له ص 295]] ، وأبى بكر بن فورك(4) [[ مشكل الحديث وبيانه ص 174ـ 183]] ، ونقل الذهبي عن كتاب الإبانة للباقلاني إثباته صفة العلو أيضاً(5) ، [[ مختصر العلو ص 258]]
وسبب إثبات هؤلاء لهذه الصفات هو أن أبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب شيخ الاشعري الذي إنحاز إليه أبو الحسن بعد توبته من الاعتزال(1) [[ ذكر الشهرستاني أن أبا الحسن الاشعري لما ترك الاعتزال انحاز إلى جماعة منهم ابن كلاب ، وأيد مقالتهم بمناهج كلامية ، وصار ذلك مذهبا لاهل السنة والجماعة ، ذكره في الملل والنحل ص 93 ، وهذا المذهب الكلابي هو الطور الثاني لأبى الحسن ، وغالب المنتسبين إليه من المتقدمين كالباقلاني ، وابن فورك ، على قوله في هذا الطور ، وأما المتأخر ون كأبي المعالي ومن بعده فزادوا على التأويل الذي قاله به في هذا الطور للصفات الاختيارية كما سيأتي ، زادوا تأويل الصفات الذاتية إلا السبع ، وزادوا أيضا إنكار العلو ، ولأبى الحسن طور ثالث وهو إثبات كل الصفات وعدم التأويل مطلقا ، وهو الذي صار إليه بأخرة ، كما يدل على ذلك كتاب ( الإبانة والمقالات) ص 297 ]]
، ابن كلاب هو مثبت لهذه الصفات الخبرية الذاتية كالوجه واليدين والعين والعلو(2) . [[ المقالات للاشعري ص 196ـ 299]]
ولهذا فليس لأبي الحسن قولان في هذه الصفات الخبرية على التحقيق ، ولا لأئمة أصحابه المتقدمين ، فالصفات الخبرية القرآنية يثبتها قدماء أئمة الأشعرية وبعض المتأخرين(3) ..[[أنظر المجموع لابن تيميه ( 6/52) ، (16/407) ، (12/203) ، وانظر نقض التأسيس ( 2/15) ، ( 2/34ـ 35) ، وانظر الدرء ( 3/380ـ 381) ومن المتأخرين الذين يثبتون الصفات الخبرية القرآنية البيهقي ( البيقهي وموقفه من الإلهيات للغامدي ص 268]] .
أما متأخرو الأشعرية ، فقد غلوا في التأويل ، كأبى المعالي الجويني ، وهو من أوائل من غلا فيه ، وهو شيخ أبي حامد وهذان مع الرازي والآمدي ، قاربوا المعتزلة فأكثروا من التأويل وأنكروا صفة العلو ، والصفات الخبرية القرآنية التي أثبتها المتقدمون ، وتكلموا في قواعد المذهب على هذا الأساس(4) [[ المجموع لابن تيميه 6/52 و 16/407و 12/203 وانظر كذلك نقض التأسيس ( 2/15و 2/34ـ 35) ]] .
لا سيما الرازي فقد غلا في التأويل جدا ، ثم صنفت الكتب والمختصرات لدى الاشعرية ، على هذا النحو من تأويل الصفات إلاّ السبع ، وقد تذكر فيها بعض الصفات الخبرية على أنه قول ثان للأصحاب ولأبي الحسن ،(5) [[ انظر المواقف للايجي ص 269) مع أن قوله واحد فيها وهو الإثبات (6) ، المجموع ( 12/203) ]]
ولهذا فإن بعض المفسرين ممن ينتسب إلى هذا المذهب بعد هؤلاء - مثل البيضاوي - يؤولون هذه الصفات خلافاً للمتقدمين من أئمة المذهب ، وقد يذكرون الإثبات على أنه قول ثان للأصحاب(1) البيضاوي [[ 3/12]](/2)
أما الصفات الفعلية التي تقوم بذات الله تعالى بمشيئته واختياره وقدرته كالمجيء ، والنزول ، وطي السماوات ، وما شابه هذا من النصوص ، فلا يثبتونها ، ويؤولونها كلها ، حتى الكلام عندهم لا يكون بمشيئته ، واختياره ، ولا يتكلم إذا شاء ، بل هو صفة قديمة قائمة به لا تتعلق بالمشيئة ، ويسمونه الكلام النفسي ، وكذلك ليس يقوم به فعل هو الخلق ، بل الخلق هو المخلوق ، ويسمون هذه الأفعال حلول الحوادث بذاته ويعنون بالحادث ما يسبقه العدم ، وهم يمنعون هذا ولذلك يؤولون ما يدل على خلافه في الظاهر(2) . [[ينظر في مذهبهم في الأفعال الاختيارية التي يطلقون عليها حلول الحوادث ، قواعد العقائد للغزالي ص 185، الإرشاد للجويني ص 45 ، وص 62، والتبصير في الدين للاسفرائيني ص 143، وقال ابن تيميه : ( وذهب آخرون من أهل الكلام الجهمية ، وأكثر المعتزلة والاشعرية إلى أن الخلق هو المخلوق وليس لله عند هؤلاء صنع ولا فعل ولا خلق ولا إبداع إلا المخلوقات بأنفسها ) المجموع 5/529، وقال بل الآيات التي تدل على الصفات الاختيارية التي يسمونها حلول الحوادث كثيرة جدا ، المجموع 6/222، وذكر أنهم أولوا كثيرا من النصوص بسبب هذا القول ، المجموع 1/217/ 287]]
وكذلك الصفات الذاتية الحديثة لا يثبتونها(3) [[ ابن تيمية المجموع 6/52]] لمعارضتها لأدلة عقلية ، وكذلك القرآنية عند من يؤولها ، وسيأتي ذكر أدلتهم في موضعها .
والماتوريدية يوافقون الأشعرية في أكثر ما تقدم ، إلاّ أنهم يثبتون صفتي الوجه واليد(4) [[ نظم الفرائد وجمع الفوائد في مسائل الخلاف بين الماتوريدية والاشعرية في العقائد لشيخ زادة 23 ]] .
وصفة يسمونها ( التكوين ) يحصل بها الإيجاد والخلق(5)،[[ المصدر السابق 28]] وكذلك صفة الحكمة ، عندهم صفة وجودية زائدة على الذات خلافاً للأشعرية الذين يذهبون إلى أنها عبارة عن إتقان العمل وإحكامه(6) [[ المصدر السابق ص 18]]
القول الثالث :
ـــــــــ
وهو قول النفاة ، وهم الذين ينفون أن يكون لله صفة زائدة على ذاته ، وأشهر من قال بهذا هم المعتزلة ، قال عبد القاهر البغدادي رحمه الله عن المعتزلة: (يجمعها كلها في بدعتها أمور ، منها نفيها كلها عن الله عز وجل صفاته الأزلية وقولها بأنه ليس لله عز وجل علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا صفة أزلية).(1) .[[الفرق بين الفرق ص 114]]
ومع اتفاقهم على نفي أن يكون لله صفه أزلية ، اختلفت عباراتهم عنها ، فمنهم من جعلها وجوها للذات كأبى الهذيل العلاف ، فالله عنده عالم بعلم هو ذاته ، وقادر بقدرة هي ذاته وكذلك سائر ما أثبته (2) ، [[ المصدر السابق 127، والملل والنحل 1/49]] .
ومنهم من جعلها تؤول إلى معنى السلب فمعنى كونه عالماً أي ليس بجاهل ومعنى كونه قادراً أي ليس بعاجز ، وهو قول النظام(3) [[ مقالات الإسلاميين 166]] ومنهم من جعلها أحوالاً وراء الذات كأبى هاشم الجبائى ، قال لله عالمية وقادرية لا علماً وقدرة ، وهذه الأحوال عنده لا موجوده ولا معدومة(4) [[ الملل والنحل 1/80]]
والجهمية توافق المعتزلة في نفي الصفات (5) [[ المصدر السابق 1/86]] ، والذي دعا المعتزلة إلى نفي أن يكون لله تعالى صفات لم يزل متصفاً بها كالعلم والقدرة والسمع والبصر ، ظنهم أن ذلك تعدد فيما هو قديم فيلزم أن يكون لله تعالى مماثل في أخص وصفه وهو القدم(6) [[ التمهيد للباقلاني ص 236، ومختصر لوامع الأنوار البهية لمحمد بن سلوم 157، ومجموع ابن تيمية 3/70]]
هذا ، ومن الواضح أن أصحاب القول الأول قد انطبق قولهم على جميع الأدلة السمعية ، ولهذا فإنه يقولون : إن صفات الله تعالى ليست من المتشابه ، إن قصد به مالا يعلم معناه إلا الله تعالى ، بل هي معلومة المعنى ، فهي صفات لله تعالى لائقة بجلاه لاتماثل صفات خلقه .
وإن كان قد يطلق على بعض نصوصها أنها من المتشابه ، بمعنى أنه قد يشتبه على مقتصد في العلم معاني بعض نصوص الصفات ، لغموض أو احتمال لعدة معان ، فبرد الراسخين في العلم له إلى المحكم يتبين المعنى المراد ، شأنه في ذلك شأن غيره من أبواب العلم ، وتأويل هذا المتشابه هو تفسيره والراسخون في العلم يعلمونه .
كما يقولون إن بعض نصوص الصفات قد يكون فيها اشتباه ، من جهة إشتباه الشيء بالشيء ، فصفات الله قد يطلق مثلها على المخلوق ، فيحصل الاشتباه من ذلك لغير الراسخين في العلم ، في هذه النصوص الموهمة للتماثل بين الباري والبرية ، ويصح أن يقال إن هذا المتشابه لا يعلم تأويله إلاّ الله إذا جعل التأويل هو حقائق صفات الله وكيفياتها ، وبهذا يندفع التماثل المتوهم .(/3)
هذا على قول السلف الذين يثبتون جميع الصفات ، أما القولان الآخران ، فلهما شأن آخر ، فإن أصحابهما قد اصطلحوا على تسمية حمل الظاهر على المعنى المرجوح تأويلاً ، فكان لهذا تأثير في جعل نصوص الصفات من المتشابه ، فإنه ينتج منه أن يكون المراد بها خلاف الظاهر ، إذا طبقت آية المحكمات والمتشابهات عليها .
ولعل صنيع القاضي عبد الجبار الهمداني في كتابه متشابه القرآن ، يمثل موقف المعتزلة من علاقة مسائل العقيدة على وجه العموم والصفات على وجه الخصوص بالمتشابه ، فإنه جعل المتشابه هو الذي (يحتاج إلى زيادة فكر من حيث كان المراد به خلاف ظاهره )(1) [[متشابه القرآن للهمداني 1/32]] ، ويعني بالفكر النظر في الأدلة العقلية ، كما صرح بأن المتشابه (متى امتنع حمله على الظاهر ، فالواجب النظر فيما يجب أن يحمل عليه ، والنظر هو أن تطلب القرآن ...فان كان السامع قد مهدت له الأصول وعرف العقليات وما يجوز فيها وما لا يجوز ، وعلم ما يحسن التكليف فيه وما لا يحسن وعلم من جمل اللغة ما يعرف به أقسام المجاز ومفارقتها للحقائق ، حمله على ما أريد به في الحال)(2) [[المصدر السابق 1/35]]
ولما ذكر ما يتميز به المحكم ، ذكر أنه به يمكن أن يبين للمخالف في التوحيد ، أنه مخالف للقرآن ، وأنه قد تمسك بالمتشابه من القرآن وعدل عن محكمه(1) ،[[ المصدر السابق 1/9]] ومعلوم أنهم ـ أي المعتزلة ـ يعنون بالتوحيد نفي الصفات .
ولهذا فإنه يجعل في كتابه هذا مثل قوله تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء } البقرة (255 ) ، وقوله تعالى { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } هود (14) ، متشابهاً ويصرح أن المراد خلاف الظاهر(2) [[ المصدر السابق 1/132، 1/375]].
وما حمله على هذا إلاّ قيام ما يطلق عليه الدليل العقلي عنده على امتناع أن يكون لله صفة العلم ، كما سيأتي لاحقا عند ذكر أدلتهم على نفي الصفات .
وهذا التصرف منه مع ما تقدم من النقل عنه ، يدل على أنه يجعل كل ما يخالف اعتقاده الذي أسسه على محض العقل متشابهاً يراد به خلاف الظاهر ، وقد ذكر في كتابه هذا أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه ، فهذا يدل على أنه يجعل ما يخالف قوله متشابها ليتمكن من صرفه عن ظاهره بالتأويل الذي يرى إمكان معرفته ، فيبدو أن هذه هي علاقة المتشابه بآيات الصفات عند المعتزلة .
وقد صنع أصحاب القول الثاني مثل هذا الذي تقدم عن المعتزله ، مثال ذلك: نفيهم صفة العلو واعتبارهم كل ما دل عليه من القرآن متشابهاً ، كقوله تعالى {وهو القاهر فوق عباده} الأنعام (18) ، وقوله { يخافون ربهم من فوقهم } النحل (50) ، وقوله { ثم استوى على العرش } الأعراف (54) ، وقوله {أأمنتم من في السماء } الملك (16) ، وقوله {تعرج الملائكة والروح إليه } المعارج (4) ، وقوله {إن الذين عند ربك } الأعراف (206) .
وكذلك كل ما جاء في السمع في ظاهر يدل على إثبات ما نفوه أو نفي ما أثبتوه بالأدلة العقلية جعلوه متشابها ، كما فعل الرازي في تفسيره حيث قال ( فثبت بما ذكرنا أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلاّ عند قيام القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال ) ، ثم جعل هذا المعنى المرجوح هو تأويل المتشابه فقال بعد هذه العبارة (فعند هذا يتعين التأويل)(1) [[ تفسير الرازي ]] 1/169
ومثل لهذا بقوله تعالى { الرحمن على العرش استوى} ، وقال {فمن تمسك به كان متمسكا بالمتشابهات} بعد أن قدم الدليل العقلي على استحالة ظاهره عنده(2) ، المصدر السابق [[ 7/148]] .
فهذا - مع ما يفعله سائر من يجعل نصوص ما لا يثبته من الصفات من المتشابه ثم يحتج بآية {وما يعلم تأويله إلاّ الله ...الآية } .على أنها على غير ظاهرها - من أصحاب هذا القول أمثلة تكشف أن هؤلاء المخالفين لما كان عليه السلف في باب الصفات ، قد أقحموا باب صفات الله تعالى في المتشابه ، ليتمكنوا من صرفها عن ظاهرها - الذي يزعمون استحالته عندهم بالأدلة العقلية - محتجين بإخبار الآية أن للمتشابه تأويلا .
لكن هؤلاء انقسموا إلى قسمين :
** قسم لا يعين التأويل - أي المعنى المخالف للظاهر - مع القطع بعدم إرادة الظاهر ويحتج هؤلاء بأن الوقف في الآية على قوله { إلاّ الله } ، وهكذا يستريحون من هذه النصوص المثبته لما نفوه ، وينزلونها منزلة العدم ، بل يلزمهم أنها شر من العدم لأنها - على هذا الرأي - إنما جاءت لإظهار الباطل ، وإرباك العقيدة فحسب .
**والقسم الآخر يعينه لأن الوصل هو الصحيح في الآية عندهم ، والراسخون في العلم يعلمون التأويل وهؤلاء أحسن ظنا في القرآن من أولئك(3) [[ من القائلين بالأول الجويني في أحد قوليه كما في النظامية ص 33 ، والرازي كما في التفسير 7/176، وبالثاني أبو بكر بن فورك كما هو واضح في كتابه مشكل الحديث وتأويله ]] .(/4)
وأصحاب القول الأول ربما نسبوا قولهم هذا إلى السلف ، وربما نسب القول الثاني إليهم أيضاً ، والسر في هذا أن موافقتهم تعظمه النفوس المؤمنة لما جعل الله لهم من لسان صدق في الأمة ، ومن أمثلة هذا قول الزركشي في البرهان عن الآيات المتشابهات في الصفات :
اختلف الناس في الوارد منها في الآيات والأحاديث ثلاث فرق :
أحدهما : أنه لا مدخل للتأويل فيها بل تجري على ظاهرها ولا يؤول شيء منها ، وهم المشبهه .
والثاني : أن لها تأويلا ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن الشبه والتعطيل ونقول لا يعلمه إلاّ الله ، وهو قول السلف .
الثالث: أنه مؤوله وأولوها على ما يليق به .
والأول باطل والأخيران منقولان عن الصحابة .. ثم قال (وممن نقل عنه التأويل عليّ ، وابن مسعود وابن عباس وغيرهم) (1) [[ البرهان للزركشي 2/78ـ79]].
وقد نسب إليهم أيضاً أنهم لا يزيدون على تلاوة الآيات وقراءة الأحاديث في هذا الباب(2) ، وسيأتي ذلك لاحقا .
ومن المعلوم عن المؤمنين بهذا الدين الحق أن الحق لا يخرج عن إجماع السلف ، فالقول الصحيح هو ما أجمعوا عليه .
وقد نسب إليهم قولان متناقضان ، قول الزركشي هذا ، وما ذكر أول المبحث ، فإذا تحقق مذهبهم وجب المصير إليه ، وتحقيقه هو المبحث الثاني .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
ثانيا
ــــــــــــ
تحقيق القول الصحيح في هذا الباب
وبيان أسباب الخطأ في نسبة مذهب السلف الصحيح إليهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو لا يخرج كما تقدم عن إجماع السلف فيجب أولاً تحقيق مذهبهم فإن صح عنهم إجماع في هذا الباب فهو القول الصحيح ، ثم تذكر بعد ذلك الأدلة على صحته من غير الإجماع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي ، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه ....وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله)(1) .[[مجموع الفتاوى 5/ 26]] .
وقال الإمام الذهبي رحمه الله (هذه الصفات من الاستواء والإتيان والنزول قد صحت بها النصوص ونقلها الخلف عن السلف ولم يتعرضوا لها برد ولا تأويل بل انكروا على من تأولها مع إصفاقهم على أنها لا تشبه نعوت المخلوقين وأن الله ليس كمثله شيء)(2) .[[ سير أعلام النبلاء 11/376]]
وقال أيضاً ( قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم وما أبقوا ممكنا فلو كان تأويلها سائغاً أو حتماً لبادروا إليه ، فعلم قطعاً أن قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحق لا تفسير لها غير ذلك ، فنؤمن بذلك ونسكت إقتداء بالسلف معتقدين أنها صفات لله تعالى استأثر الله بعلم حقائقها وأنها لا تشبه صفات المخلوقين)(3) [[ المصدر السابق 10/506]]
وقد دل على أن هذا مذهب السلف في الصفات - مع نقل هذين الإمامين المشهود لهما برسوخ القدم في معرفة المتقدمين ومذاهبهم - نقول كثيرة من أهل العمل بالآثار الذين أفنوا أعمارهم في ضبطها ونقلها ومعرفة صحيحها من سقيمها وفيما يلي طائفة منها ، وقد قصد بعض التطويل فيها ليعلم بذلك ما في كلام الزركشي المتقدم من التسامح في النقل ، وهي على ثلاثة أضرب :
الضرب الأول :
ـــــــــ
فيه حكاية ما كان عليه السلف ، أو أهل السنة ، أو أهل السمة والحديث عامة في نصوص الصفات بالجملة ، ولا ريب أن ما كان عليه أهل السنة والحديث هو مذهب السلف .
الضرب الثاني :
ـــــــــ
فيه حكاية ما كانوا عليه في بعض الصفات خاصة مما هو من جنس ما يذهب أهل التأويل إلى تأويله بما يدل على مذهبهم في سائرها .
الضرب الثالث :
ـــــــــ
نصوص خاصة عن أئمة السلف في هذا الباب تدل على أنهم لا يصرفون نصوص الصفات عن ظاهرها ويعلمون معانيها .
أما الضرب الأول : فمن ذلك :
ــــــــــــــــ
(1) قال الأوزاعي رحمه الله ( كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله عز وجل فوق عرشه ونؤمن بما ورد في السنة من صفاته )(1) .[[ رواه البيهقي في الأسماء والصفات ص 515 ، وقال ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية إسناده صحيح 43]]
ومعلوم أنه لا يريد مجرد الإيمان بحروف هذه الجملة (الله عز وجل فوق عرشه) ، ولكنه رحمه الله حكى ما كان عليه التابعون واتباعهم من الإيمان بعلوّ لله على عرشه فهما مما أخبر به سبحانه عن نفسه أنه استوى على عرشه وأنه في السماء ، وقوله (نؤمن بما ورد في السنة من صفاته ) لا يريد قطعا السنة فحسب ، وإنما أراد التنبيه بالسنة على القرآن ، فإذا كان ما في السنة من نصوص الصفات يجب الإيمان به فما في القرآن أولى وأحرى .(/5)
(2) قال الإمام الشافعي رحمه الله ( القول في السنة التي أنا عليها ، ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل مالك وسفيان وغيرهما ، ... وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلفه كيف يشاء ، وينزل إلى السماء الدنيا كيف يشاء ... وذكر سائر الاعتقاد)(2) [[ مختصر العلو للألباني ص 176]]
(3) قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله ( جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار ...ثم قال وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئاً .... ثم قال وأن الله سبحانه على عرشه كما قال (الرحمن على العرش استوى ) وأن له يدين بلا كيف ، كما قال (لما خلقت بيدي ) ص 75 ، وكما قال ( بل يداه مبسوطتان ) المائدة 64 ، وأن له وجها كما قال ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) الرحمن 27 ، .... ثم قال ( ويقرون أن الله سبحانه يجيء يوم القيامة كما قال ( وجاء ربك والملك صفاً ) الفجر) (22)(1) [[ مقالات الاشعري 290ـ295]]
(4) قال الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي (اعلموا رحمكم الله أن مذاهب أهل الحديث ، أهل السنة والجماعة ، الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله ...خلق آدم بيده ويداه . مبسوطتان بلا اعتقاد كيف واستوى على العرش بلا كيف ...وذكر سائر اعتقاد أهل السنة )(2) .[[ مختصر العلو للذهبي 248 ، وقال في ص 249كان الإسماعيلي شيخ الإسلام رأسا في الحديث والفقه ، وقال أبو إسحاق في طبقات الشافعية ( جمع أبو بكر بين الفقه والحديث ورئاسة الدين والدنيا ]].
(5) قال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي رحمه الله ( أما ما سألت عنه من الكلام في الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة الصحيحة فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها ) .
قال الذهبي بعد نقله قول الخطابي هذا ( وكذا نقل الاتفاق عن السلف في هذا الحافظ أبو بكر الخطيب ثم الحافظ أبو القاسم التيمي الإصبهاني)(3) [[المصدر السابق 257 ]]
(6) قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله (أهل السنه مجمعون على الصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلاّ أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك ).(4) . [[المصدر السابق ص 268]]
(7) قال الحافظ أبو بكر الخطيب رحمه الله (أما بالكلام في الصفات فأما ما روى منها في السنن والصحاح فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها)(5) . [[المصدر السابق 272]]
وانظر إلى التفاوت بين نقل هؤلاء الأئمة الحفاظ عن السلف أنهم يجرون نصوص الصفات على ظاهرها وبين نسبة هذا القول إلى المشبهة .
(8) قال الحافظ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابه وتنزيله وشهد له بها رسوله على ما وردت به الأخبار الصحاح ونقله العدول الثقات ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه ولا يكيفونها تكييف المشبهه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزله والجهمية فيقولون إنه خلق آدم بيده كما نص سبحانه عليه في قوله عز من قائل (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ..وذكر سائر الاعتقاد)(1) . [[رسالة عقيدة السلف وأصحاب الحديث للحافظ الصابوني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/105]]
قال ابن قدامه في ذم التأويل بعد ذكر مقالة الصابوني ( وذكر الصابوني الفقهاء السبعة ومن بعدهم من الأئمة وسمي خلقاً كثيراً من الأئمة وقال : كلهم متفقون لم يخالف بعضهم بعضا ولم يثبت عن واحد منهم ما يضاد ما ذكرناه)(2) . [[ ذم التأويل ص 17 ]]
(9) قال الإمام أبو عيسى الترمذي إثر ما روى حديث أبي هريرة ( إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها ) : ( قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا قالوا : قد ثبتت الروايات في هذا ونؤمن به ولا نتوهم ولا نقول كيف ؟ هكذا روى عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث أمروها بلا كيف ، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة)(3) . [[جامع الترمذي : 3/24ـ 25]]
أما الضرب الثاني ، فمنه :
ــــــــــــــ
(1) قال قتيبة بن سعيد رحمه الله ( هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة : نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال جل جلاله ( الرحمن على العرش استوى ) قال الذهبي رحمه الله (فهذا قتيبة في إمامته وصدقه قد نقل الإجماع على هذه المسألة وقد لقى مالكا والليث وحماد بن زيد والكبار )(4) .(/6)
[[ مختصر العلو للذهبي ص 187 ، ثم قال الذهبي عن قتيبة : عمر دهرا ، وازدحم الحفاظ على بابه ، قال لرجل : أقم عندنا هذه الشتوة ، حتى أخرج لك عن خمسة أناس مائة ألف حديث ، وهذا يدل على سعة علم هؤلاء بالآثار لان هذا العدد يشمل أقوال الصحابة والتابعين وهو باعتبار طرق الأخبار ، فكل طريق يسمونه حديثا وكذلك يعدون المكرر ، قال الذهبي ( قال أبو عبد الله بن أحمد : قال لي أبو زرعة أبوك يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل له ما يدريك ؟ قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب ، فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبى عبد الله ، وكانوا يعدون في ذلك المكرر والأثر وفتوى التابعي ، وما فسر ونحو ذلك ) سير أعلام النبلاء 11/187]]
(2) قال الإمام إسحاق بن راهوية رحمه الله (قال الله تعالى (الرحمن على العرش استوى ) إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة ).(1) [[مختصر العلو للذهبي ص 194]]
(3) قال الحافظ عمر بن عبد البر رحمه الله (أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ) هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج به)(2). [[المصدر السابق 268]]
(4) قال الحافظ الكبير أبو نعيم أحمد بن عبد الله الإصبهاني (طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة ومما اعتقدوه ...ثم قال وأن القرآن في جميع الجهات مقروءاً ومحفوظاً ، ومسموعاً ومكتوباً وملفوظاً كلام الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة ...وأن الأحاديث التي ثبتت في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو سبحانه مستو على عرشه في سمائه دون أرضه ) ، . قال الذهبي (فقد نقل هذا الإمام الإجماع على هذا القول ولله الحمد )(3) . [[ المصدر السابق 261]]
(5) قال الحافظ أبو عمر أحمد بن محمد الطلمنكي (أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله (وهو معكم أينما كنتم ) ، ونحو ذلك من القرآن أنه علمه وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء وقال أهل السنة في قوله (الرحمن على العرش استوى ) ، الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة لا على المجاز)(4) . [[المصدر السابق 264]]
(6) قال الإمام أبو عبد الله القرطبي صاحب التفسير الكبير (وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف أنه استوى على العرش حقيقة وخص العرش بذلك لأنه أعظم المخلوقات وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته قال مالك: الاستواء معلوم - يعني في اللغة - والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة )(1).
[[ قال ابن حجر رحمه الله ( أخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله ( الرحمن على العرش استوى ) ؟ كيف استوى ، فأطرق مالك فأخذته الرحضاء ، ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى ، كما وصف نفسه ، ويقال كيف ، وكيف عنه مرفوع ، وما أراك إلا صاحب بدعة ، أخرجوه ) فتح الباري 13/407، وقال الذهبي هذا ثابت عن مالك ، مختصر العلو 141، وأنظر الرواية في الأسماء والصفات للبيهقي 515]]
الضرب الثالث : ومنه ،
ــــــــــــ
مما يدل على أن السلف تكلموا في معاني نصوص الصفات ، ولم يؤولوها ما ورد من ألفاظ من عند أنفسهم ، تخالف ألفاظ النصوص في هذا الباب ، وتصرفهم في ذلك بعبارات دالة على نفس المعنى ، وكذلك ما ورد عنهم من التصريح بعدم التأويل ، وهذا كثير جداً ، ومن أمثلته عن أشهر علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم :
(1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (الكرسي موضع القدمين)(2). [[رواه الحاكم وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي 2/282، ورواه أيضا ابن خزيمة في التوحيد 1/249 ، ورواه عبد الله بن الإمام احمد في كتاب السنة 1/301 ، وقال الذهبي في العلو رجاله ثقات أنظر مختصر العلو 102 ]]
(2) وعنه أيضاً قال ( تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في الله فإن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور والله فوق ذلك تبارك وتعالى)(3) . [[روه البيهقي في الأسماء والصفات 530 ، وأبو الشيخ في العظمة 1/212، وقال ابن حجر موقوف وسنده جيد الفتح 13/383 ]](/7)
(3) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال ( ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام وما بين السماء الثالثة والتي تليها وبين الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام ، والعرش فوق الماء والله عز وجل فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه )(4) . [[رواه الدارمي في الرد على المريسي 105، والبيهقي في الأسماء والصفات 507، وأبو الشيخ في العظمة ، 2/688، وابن خزيمة في التوحيد 1/243، وقال الذهبي إسناده صحيح ، أنظر مختصر العلو ص 103 ، وصححه ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص 100 ، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح ، مجمع الزوائد 1/86]]
(4) وعنه قال ( إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى إذا تيسر له نظر الله إليه من فوق سبع سماوات فيقول للملائكة ( اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار)(5) [[رواه الدارمي في الرد على الجهمية 46، واللالكائي في السنة 4/668، وقال الذهبي إسناده قوي ، أنظر مختصر العلو 104، وصححه ابن القيم في اجتماع الجيوش ص 100]]
(5) وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال ( خلق الله أربعة أشياء بيده : العرش والقلم وعدن وآدم ثم قال لسائر الخلق كن فكان )(1). [[ رواه الدارمي في الرد على المريسي ص 35 ، قال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عبيد بن مهران وهو المكتب حدثنا مجاهد به ، وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات ، أنظر تراجمهم في التقريب وفق الترتيب 549، 367، 378، ومجاهد إمام مشهور]].
(6) عن جعفر بن أبي المغيرة قال ( سألت سعيد بن جبير عن الألواح من أي شيء كانت ؟ قال : من ياقوته كتابه الذهب كتبها الرحمن بيده فسمع أهل السموات صريف القلم وهو يكتبها )(2) . [[رواه الطبري 13/127، وعبد الله بن أحمد في السنة 1/294، وأبو الشيخ بن حيان في العظمة 1/495، كلهم من طريق أبي الجنيد عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير به ، وأبو الجنيد قال عنه يحيى بن معين لا بأس به ، وقال أبو حاتم لا بأس محله الصدق التهذيب ( 9/354) ، وجعفر بن أبي المغيرة قال الذهبي كان صدوقا ، الميزان ( 1/417) وقال في التهذيب ( نقل ابن حبان في الثقات عن أحمد توثيقه ) 2/108 فالإسناد حسن ]].
(7) وعن مجاهد في قوله عز وجل ( وقربناه نجيا ) قال : ( بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب فما زال موسى عليه السلام يقرب حتى كان بينه وبينه حجاب فلما رأى مكانه وسمع صريف القلم (قال رب أرني أنظر إليك)(3) . [[ رواه البيهقي في الأسماء والصفات ص 508 ، وأبو الشيخ في العظمة ( 2/690) وقال الذهبي هذا ثابت عن مجاهد إمام التفسير ، مختصر العلو ص 132 ]]
(8) وعنه أنه فسر استوى بمعنى علا على العرش . [[ أورده البخاري معلقا وجزم به ، أنظر فتح الباري 13/405، وقال ابن حجر في تغليق التعليق ( قال الفريابي في تفسيره حدثنا ورقاء بن أبي نجيح عن مجاهد فذكره ) 5/345 انتهى ، وهذا إسناد صحيح ورقاء قال عنه الذهبي صدوق أنظر رسالة ( المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد ) وقال عنه ابن حجر صدوق التقريب 580 ]]
(9) قال الاوزاعي : (كان الزهري ومكحول بقولان أمروا هذه الأحاديث كما جاءت )(5) [[ذم التأويل ص 18 ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/431]]
(10) عن أبي مطيع قال : ( سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقال كفر لأن الله يقول (الرحمن على العرش استوى) وعرشه فوق سماواته )(6). [[مختصر العلو للذهبي 136]]
(11) قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في العقيدة التي ألفها (ذكر بيان السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة وأبي يوسف وأبي محمد رضي الله عنهم ... ثم ذكر في هذه العقيدة مثل ما تقدم عن السلف رضي الله عنهم وهي العقيدة المشهورة بالطحاوية.(7) .
(12) وعن سفيان الثوري قال الذهبي ( وقد بث هذا الإمام الذي لا نظير له في عصره شيئاً كثيراً من أحاديث الصفات ومذهبه فيها الإقرار والإمرار والكف عن تأويلها)(1) . [[مختصر العلو 136]]
(13) وقال مالك (الله - عز وجل - في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء وتلا هذه الآية (وما يكون من نجوي ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ).(2) . [[السنة لعبد الله بن احمد 1/ 107 ]]
(14) وعن أحمد بن نصر أنه سأل سفيان بن عيينة فقال : حديث عبد الله (إن الله يجعل السماء على إصبع) وحديث (إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن ) ، ( وإن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق ) ، (وإنه عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة ) ونحو هذه الأحاديث فقال : هذه الأحاديث نرويها ونقر بها كما جاءت بلا كيف )(3) . [[ ذم التأويل لابن قدامة 20]](/8)
(15) وقال يزيد بن هارون (من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي ) قال الذهبي (والعامة ) مراده بهم جمهور الأمة وأهل العلم )(4) . [[ مختصر العلو 167 ]]
(16) وقال الوليد بن مسلم (سألت مالك بن أنس والثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات فقالوا أمروها كما جاءت )(5) . [[روه الدارقطني في الصفات 75، والآجري في الشريعة ص 314، والبيهقي في الأسماء والصفات 453، وابن قدامة في ذم التأويل 20 ]]
(17) وقال الفضيل بن عياض (ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف لأن الله وصف نفسه فأبلغ فقل { قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد } فلا صفة أبلغ مما وصف الله به نفسه ، وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة ، وهذا الاطلاع ، كما شاء أن ينزل وكما شاء أن يضحك فليس لنا أن نتوهم أن كيف وكيف ، وإذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل أنت أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء } (6) . [[رواه الاثرم في كتاب السنة نقلا عن درء تعارض النقل والعقل 2/23]]
(18) وأما الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فإن مذهبه في عدم تأويل الصفات وإجراؤها على ظاهرها متواتر عنه ولم يزل جمهور الحنبلية على هذا القول .
خلاصة ما تقدم :
ـــــــــــ
فهذه النصوص عمن هم من أعلم الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وهم كذلك أهل الفتيا والاجتهاد في عصور السلف وما بعده ، تنطق بوضوح متواطئة على أن مذهب السلف الذي لا إختلاف فيه ، هو إجراء نصوص الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه عن الخالق ، وأنهم فهموا من هذه النصوص التي لا يفرقون بين القرآنية والحديثية منها ، أنها تخبر عن صفات الله تعالى الذاتية ، والفعلية ، وهي معلومة المعنى عندهم ، ولولا هذا لما قال ابن عباس (الكرسي موضع القدمين) ولما قال (إن الله فوق النور الذي فوق السموات ) أخذا من أدلة العلو ، ولما قال ابن مسعود مثل هذا ، ولاصح أن يستثني ابن عمر من خلق الأشياء بكلمة كن ، أربعة أمور فحسب ، ويجعلها مما خلقه الله تعالى بيده ، ولا قال سعيد ين جبير (كتبها الرحمن بيده ) ، ومجاهد استوى بمعنى (علا على العرش) ، ولا قال من بعد هؤلاء ، بائن من خلقه ، مستو على عرشه ، يقرب من خلقه ، وما يشبه هذه الألفاظ .
ولو أنهم كانوا لم يفهموا من هذه النصوص شيئاً ، أو كانوا يؤولونها لما جاز هذا منهم ، ولصرحوا بذلك وعلمه من هم أعلم الناس ، بأقوالهم وهم الذين تقدم الاعتماد عليهم في النقل(1) .
وقد طبعت مؤلفات كثيرة ، ذكرت مذهب السلف كما ذكر هنا ، وسارت على طريقتهم في العقيدة وهي كثيرة ، كالتوحيد لان خزيمة ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ، والسنة لابن أبي عاصم ، والسنة لعبد الله بن أحمد ، والسنة لمحمد بن نصر المروزي ، العلو للذهبي ، والرد على الجهمية للدارمي ، والنقض على المريسي له أيضا ، والشريعة للاجري ، وعقيدة السلف للصابوني ، والرد على الجهمية لابن منده ، وكتاب النزول والصفات للدارقطني ، وغيرها أيضا .
الرد على من زعم أن السلف كانوا لا يعبرون عن معاني نصوص الصفات ، بغير تلاوتها المجردة ، لانهم لم يكونوا يفهمون منها شيئا :
ـــــــــــــــــــــــــ
وهذه الروايات الآنفة الذكر ، إنما قصد بها التمثيل فحسب ، لأن حصرها يتطلب جهداً كبيراً ويوسع البحث جداً ، مع أن هذا الأمر أوضح وأشهر من أن يتكلف له النقل ، لولا وجود من يدّعي خلافه ممن لم يمعن النظر في أقاويل الصحابة والتابعين في كتب التفسير والسنة.
ومن هؤلاء الزركشي رحمه الله كما تقدم عنه في آخر المبحث الأول ، أنه نسب إلى السلف مذهب أهل التأويل ، الذين يقولون ظاهر نصوص الصفات غير مراد، وحكى مذهب السلف ونسبه إلى المشبهة.
وليس الإمام الزركشي رحمه الله ممن قصر علمه في الحديث ، لكن يبدو أنه قلد غيره في هذا النقل ، فإن بعض العلماء المتقدمين ، والمتأخرين ، ادعوا أن مذهب السلف ، لا يختلف مع مذهب الخلف في أن الظاهر من النصوص المدعى أنها توهم التشبيه غير مراد ، وأنها لا تدل على صفات الله ، إلاّ أن السلف يفوضون معانيها المراده ، ويلتزمون السكوت عن ذلك وعدم الخوض فيه ، وزاد بعضهم أن من مذهبهم عدم تصريف هذه النصوص ، ولا تغيير ألفاظها ، ولا تقديم ، وتأخير ، شيء من ذلك(1) . [[ هو الإمام الغزالي في إلجام العوام ]] ص 70
وممن ادّعى ذلك أبو حامد الغزالي رحمه الله في إلجام العوام ،(2) المصدر السابق ص 66 ، والرازي في أساس التقديس(3) ، [[ ص 182[[
والبيجوري شارح جوهرة التوحيد قال ( ((أوفوض)) أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره فبعد هذا التأويل فوض المراد من المعنى الموهم إليه تعالى على طريقة السلف وهم من كانوا قبل الخمسمائة وقيل القرون الثلاثة ، الصحابة والتابعون واتباع التابعين وطريقة الخلف أعلم وأحكم).(4) . [[ 56ـ57]](/9)
ومن المتأخرين ، صاحب كتاب بعنوان : متشابه القرآن(1) ،[[ ص 115]] .
وقد ذكر في هذا الكتاب مما ينبغي التوجه بالرد عليه ، أن مما يتفرع على مذهب السلف هو عدم تغيير النص الوارد في هذا الباب ، يريد عدم روايته بالمعنى ، ومثل لذلك بأن يقال استوى على العرش ، ولا يقال فوق العرش (2).[[ 122ـ 123 ]]
وأعجب شيء زعم هؤلاء الذين يزعمون أن السلف لم يكونوا يغيرون النص الوارد في باب ذكر صفات الله تعالى ، لانهم كانوا يعاملونها معاملة نصوص بلا معنى.
يزعمون أن هذا هو مذهب السلف ، والكتب طافحة بالروايات التي يتصرفون فيها بألفاظهم ، لا سيما في مسألة العلو ، وأشهر كتاب في ذلك كتاب العلو للحافظ الناقد الذهبي وقد تقدم بعض الأمثلة منه ، ولو طولب صاحب كتاب متشابه القرآن ، بنص واحد عن أحد من السلف في النهي عن تغيير ألفاظ نصوص الصفات وأن لا يقال فوق العرش لما قدر عليه ، وغاية ما أمكنه أن يأتي به ليبرهن على صحة دعواه بعض الأقوال التي توهم ما أراد إيهامه ، من أن السلف كانوا لا يفقهون معنى هذه النصوص وهي في الحقيقة ، إذا فسرت بأقوال أخرى لهم ، تبين أنها دالة على ضد ما أراده وهذه الأقوال هي :
(1) قول سفيان بن عيينة (كل ما وصف الله به نفسه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه ) ، وقد رواه البيهقي في الأسماء والصفات(3) [[ 516]]
وليس فيه أن آيات صفات لا يعلم معناها بدليل قوله إنها مما وصف الله به نفسه ، فقد صرح أنها من صفات الله ، فمعنى قوله (تفسيره تلاوته أي : أن معناه واضح ، وقوله (والسكوت عليه) أي : لا يؤول ويصرف عن كونه صفة ، ولم يرد عنه أن هذه النصوص لا يعلم المراد منها ، ولا تغير ألفاظها ، بل قد ورد عنه ما ينقض هذه الدعوى فقد قال الذهبي في كتاب السير(4) [[ 8/466]] [[ قال الحافظ ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الفضل بن موسى(5) ( قال ابن أبي حاتم ( كتبت عنه وهو صدوق ) الجرح والتعديل 8/60 ، حدثنا محمد بن منصور الجواز(6( ثقة انظر التقريب 508) قال رأيت سفيان بن عيينة ، سأله رجل ما تقول في القرآن ، قال (كلام الله منه خرج وإليه يعود) ، وأين في القرآن لفظ (منه خرج) الذي يمنع منه أهل التأويل ، أما المعتزلة ، فأن القرآن مخلوق خلقه في غيره ، وأما غيرهم فقد صرح في شرح العقائد النسفية أن القرآن المؤلف من السور والآيات مخلوق لله وأن لله لا يسمع منه كلام(1)، ( ص 94ـ 95) ]].
فكأنما سفيان قد أراد بقوله إبطال القولين ، وهو دليل على أنه فهم من النصوص المخبرة عن كلام الله ، أن الله تكلم بالقرآن حقيقة ، خرج منه فسمعه جبريل وموسى وغيرهما من أصفيائه عليهم السلام .
(2) قول الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك والثوري والليث بن سعد (أمروها كما جاءت بلا كيف ) وقد تقدم(2) ، وليس في هذا ما ادعاه ، أما الاوزاعي فقد قال ((كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله على عرشه ونؤمن بما ورد في السنة من صفاته ))(3) وتقدم تخريجه .
وقد أنكر من يزعم أن مذهب السلف إمرار نصوص الصفات ، من غير تغير في ألفاظها ، التعبير عن معانيها بغير التركيب الوارد ، حتى أنكر بعضهم أن يقال فوق العرش ، فليت شعري ، كيف يفسر هؤلاء مقالة الاوزاعي هذه .
وأما مالك فقد تقدم قوله (الله عز وجل في السماء ، وعلمه في كل مكان)(4) ، وأما الثوري فقد تقدم قول الشافعي (القول في السنة التي أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل مالك وسفيان وغيرهما ، فذكر أن الله على عرشه في سمائه )(5) .
(3) قول مالك ( الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ) وقد رواه البيهقي في الأسماء والصفات(6) ص516، وقوله غير مجهول : أي معلوم كونه صفة لله ، يبين هذا ، الرواية التي جوّد إسنادها ابن حجر(7) ، [[فتح الباري ( 13/407) ]] ، وقد رواها البيهقي أيضاً(8) [[ص ( 515) ]] : قال مالك (الرحمن على العرش استوى كما وصف به نفسه ولا يقال كيف ) فذكر أن الاستواء صفة لله ، وترى الذين يزعمون أن مذهب السلف الجمود على ألفاظ نصوص الصفات من غير فهم لمعانيها ، يعرضون عن مثل هذه الرواية الصريحة ، ويوردون الروايات التي تخدم غرضهم فحسب .
(4) قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن (الكيف مجهول والاستواء غير معقول ) وهذا اللفظ رواه البيهقي في المصدر السابق من طريق عبد الله بن صالح(9) [[ ص ( 516) ]]، وقد روى هذا الخبر الذهبي في العلو(10) ( ص 98) من طريق سفيان الثوري بلفظ ( الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ) ، ورواه اللالكائي (11) من طريق سفيان بن عيينة بنفس لفظ الثوري [[3/39]] .
ومعلوم أن الثوري لو خالف - وحده - عبد الله بن صالح قدم عليه ، فكيف إذا وافقه ابن عيينة ، وهذا اللفظ ورد عن أم سلمة رضي الله عنها وقال الذهبي إنه ثابت عن ربيعة ومالك ولا يثبت عن أم سلمة(1) ،[[ العلو ص 65]](/10)
فهذه الرواية توضح المراد من قول الإمام مالك ، مع أنه يمكن التوفيق بينها وبين رواية ( الاستواء غير معقول ) ، بأن يقال معنى غير معقول ، أي غير معقول الكيفية ، وقوله الكيف مجهول يدل على إثبات صفة الاستواء إذ من لا يثبت الصفة لا يحتاج إلى أن يقول (الكيف مجهول) .
(5) قول الإمام أحمد (نؤمن ونصدق بها ولا كيف ولا معنى) ، عن حديث الرؤية والنزول ، وقصد الإمام نفي المعاني التي يذكرها أهل التأويل ، أي لا معنى غير ما يظهر منها كما قال ابن تيمية رحمه الله (لا كيف ولا معنى أي لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل)(3) [[ درء تعارض العقل والنقل 2/31]] ، وماذا عسى أن تفسر رؤية المؤمنين ربهم بغير أن يقال يرى المؤمنون فذلك قال ( لا معنى ) أي لا معنى غير هذا.
ولا يزال العجب يتزايد ممن لا يعلم أن الإمام أحمد قد تكلم في معاني نصوص الصفات مع كثرة ذلك عنه ، ومما ورد عنه في ذلك ، قال الخلال ( وأنبأنا أبو بكر المروذي سمعت أبا عبد الله وقيل له إن عبد الوهاب قد تكلم وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام فتبسم أبو عبد الله وقال ما أحسن ما قال عافاه الله)(2) [[ المصدر السابق ]] .
ومن ذلك أيضاً مما يفسر معنى قوله (نرويها كما جاءت ) ما رواه الخلال أيضاً : (قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت ، قال أبي : بلى تكلم تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت )(3) [[المصدر السابق ( 2/39) ]] .
ومما يبين أنهم يريدون بقولهم لا نفسرها أي ، لا نتكلم في الكيفية ، أو لا نفسرها بما يخرجها عن كونها صفة الله ما رواه الذهبي بإسناده عن أبي عبيد القاسم بن سلام الإمام المشهور ، أنه ذكر الباب الذي يروي فيه الرؤية ، والكرسي موضع القدمين ، وضحك ربنا ، وأين كان ربنا ، فقال (هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء ن بعضهم عن بعض وهي عندنا حق لا نشك فيه ، ولكن إذا قيل كيف يضحك ؟ وكيف وضع قدمه قلنا لا نفسر هذا ولا سمعنا أحداً يفسره)(1) .[[ سير أعلام النبلاء 10/505 ، ورواه الدارقطني في الصفات 68 ]]
وقال الأثرم (قلت لأبي عبد الله حدث محدث وأنا عنده بحديث (يضع الرحمن فيها قدمه) وعنده غلام فأقبل على الغلام فقال : إن لهذا تفسيراً ، فقال أبو عبد الله (انظر إليه كما تقول الجهمية سواء)(2) .[[ مختصر العلو 191]]
فهذا مع ما تقدم يدل على أن معنى قولهم أمروها كما جاءت ، كما قال ابن تيمية (فقولهم أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معان فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد )(3) .[[ مجموع الفتاوى 5/42]]
وأن معنى قولهم بلا تفسير ولا معنى كما قال ابن تيمية ( أي لا نكيفيها ولا نحرفها بتأويل)(4) .[[ درء التعارض 2/31]]
فما يدعيه الذين يزعمون أن القول بأن الله فوق عرشه تحكم وقول أقرب إلى التجسيم(5) ، قد يفسر بأنهم يتكلمون على وفق مذهبهم في هذا الباب ، أما أن يدعي مدع أن هذا موافق لمذهب السلف ، ويزيد على ذلك أن من مذهبهم عدم إطلاق مثل هذه العبارات ، ولا تغيير ألفاظ النصوص لأنهم يفوضون معانيها ، فهذا قول موغل في الخطأ ، كما دل على ذلك النقول الكثيرة المتقدمة ، لا سيما في باب العلو وقد وجد ذلك أيضاً في أشهر كتب السنة ، فقد روى البخاري عن زينب رضي الله عنها قالت (زوجني الله من فوق سبع سماوات)(6) .[[ فتح الباري 13/4040]]
هذا وقد أوقع هؤلاء الذين غلوا على السلف هذا الغلط ، أمران :
***الأول : اعتمادهم على من يتعمد ترك الروايات الكثيرة الدالة على حقيقة مذهب السلف مع علمه بها ، ويظهر الروايات المحتملة ليثبت بذلك أن مذهب السلف هو اعتقاد عدم إرادة الظاهر ، ثم السكوت عن الخوض في المراد إيثاراً للسلامة ، ليبني على ذلك أن سكوتهم ليس دليلاً على التحريم ، وبهذا يوهم عدم الخلاف بين الخلف والسلف ، ومن هؤلاء الكوثري كما دل على ذلك تعليقه على ( تعيين كذب المفتري )[[ حاشية ص 28]] ومقدمته لكتاب الأسماء والصفات للبيهقي ، وتعليقه على النظامية [[ ص 33ـ 34]] وقد أطنب الشيخ المعلمى في بيان تلبيسه في سبيل أن ينصر مذهبه(3) [[ في كتابه التنكيل لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل ، كما بين ذلك أيضا فضيلة الشيخ الدكتور علي بن ناصر الفقيهي في تعليقه على رسالة الذب عن أبي الحسن الاشعري لابن درباس ص 119 ـ 128 ، ومعه الدكتور احمد عطية الغامدي في مقدمتهما لكتاب الصواعق المرسلة لابن القيم 21ـ 28 ]]
***والثاني : اعتماده على من ليس له حظ عظيم في العلم بالأخبار السلفية كالغزالي والرازي رحمهما الله .
@@@@@@@@@@@@@@
أسباب الخطأ في نقل مذهب السلف :
=====================(/11)
والعجيب من الإمام الزركشي رحمه الله أنه نقل القول بالتأويل عن علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة ، فإن كان يعني التأويل المصطلح عليه - وهو الذي يعنيه - فهو نقل بعيد عن الصواب ، وقد تسامح بعض المفسرين في نقل مثل هذا عن السلف فمن ذلك ما ذكره أبو حيان رحمه الله قال (وقيل عن ابن عباس يداه نعمتاه ) ثم قال ( وقال قوم منهم الشعبي وابن المسيب والثوري نؤمن بها ونقر كما نصت ، ثم أن هذا من قول من لم يمعن النظر في لسان العرب)(4) [[ البحر المحيط 3/524]] ، ومن ذلك أيضاً ما نسبه في الفرق بين الفرق إلى علي بن أبي طالب أنه قال : ( إن الله تعالى خلق العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته)(5)، [[ 333]] وما نسبه صاحب كتاب التبصير في الدين إليه أنه سئل أين الله ؟ فقال ( إن الذي أين الأيّن لا يقال له أين)(6) [[ التبصير في الدين للاسفرائيني 144]]، وقال المؤلف إن هذا أشفى البيان ، كذا قال : مع أن علياً رضي الله عنه يجل عن مثل هذا الكلام ، فإنه من أفسد القياس مع مخالفته الصريحة للكتاب والسنة .
وأعجب من هذا كله أن الأخير ، ذكر ما خاض فيه المتكلمون من مسائل الكلام مثل أن الله تعالى ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، وليس له حد ن ولا نهاية ، ولا مجيء ، ولا ذهاب ، ولا ، ولا ، إلى آخر هذه السلوب ، وأن الله لا تحل فيه الحوادث ولا يقال له أين ، وكلامه واحد ، أمر ، ونهي ، وخبر ، واستخبار ، وأن الاستواء هو القصد ، وما يشبه هذا ، ثم نسب هذا كله وأمثاله ، إلى جميع أهل السنة والجماعة ، وذكر الأئمة الأربعة ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ن والسفيانين ، وأصحاب الحديث ، والرأي ، بل والصحابة والتابعين(1) [[ التبصير في الدين 164]]، فإن كان لا يدري أن السلف أجمعوا على النهي عن الخوض في مثل هذا ، وعلى إثبات الصفات المذكورة في الكتاب والسنة ، ثم يحكي الإجماع على خلاف الإجماع ، فيا خيْبة المسعى ، وإن كان يدري ، فأمر وأدهى .
ومثل حكاية الإجماع هذه ، ما حكاه بعض المتكلمين من اتفاق المسلمين على أن الأجسام تتناهى في تجزئتها ، وانقسامها ، حتى تصير أفرادا ، وهو الجوهر الفرد(2) [[ حكاه ابن تيميه عن أبي المعالي المجموع 17/126]] ، وكيف يتصور أن يتفق المسلون على مسألة الجوهر الفرد ، التي لم تخطر على بال أحد من الأنام ، حتى تكلم فيها إلاّ أهل الكلام .
وإن كان الخطأ قد وقع في مثل نقل الإجماع على ما هو خلاف الإجماع ، فوقوعه في نسبة بعض الأقوال إلى قائليها أقرب ، وسبب ذلك يرجع إلى ثلاثة أمور :
الأول :
ــــ
الخطأ في فهم مراد القائل ، وذلك إنما يرجع إلى عدم الإحاطة بجميع أقواله ، ليمكن بذلك فهم مراده ، وتقييد ما أطلقه ، وتفسير ما أبهمه .
ومن أمثلة ذلك ما ورد في بعض ما نقل عن السلف من قولهم ، أمروها كما جاءت بلا تفسير ، وقولهم قراءتها تفسيرها ، فظن من ظن أنهم يريدون الجهل بمعنى الخطاب ، وأنها لا تدل على شيء ، وليس الأمر كذلك ، بل أرادوا بلا تفسير غير ما يفهم منها ، أو بلا تفسير لكيفياتها ويدل على هذا :
(1) ما جاء في بعض الروايات فمن ذلك : قال الأثرم : ( قلت لأبي عبد الله : حدث محدث وأنا عنده بحديث (يضع الرحمن فيها قدمه ) وعنده غلام ، فأقبل على الغلام فقال إن لهذا تفسيرا ، فقال أبو عبد الله : أنظر إليه كما تقول الجهمية سواء).(3) [[ مختصر العلو 190]] ومن ذلك أيضاً: قال محمد بن إبراهيم الأصفهاني سمعت أبا زرعة الرازي وسئل عن تفسير (الرحمن على العرش استوى ) فغضب ، وقال تفسيرها كما تقرأ هو على عرشه وعلمه في كل مكان)(1) [[ المصدر السابق 203]] فهذا يبين ما يقصدون بقولهم بلا تفسير ، أو تفسيرها قراءتها .
(2) وأن في بعض الروايات جاءت كلمة (الكيف) مكان كلمة (التفسير) فمن ذلك : قال الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي ومالك والثوري والليث عن الأحاديث التي فيها الصفات فكلهم قالوا أمروها كما جاءت بلا تفسير وفي رواية بلا كيف(2) .[[ المصدر السابق 142ـ 143]]
(3) وأنهم يحتجون بها على إثبات الصفة ، كاحتجاجهم بقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى ) على أنه فوق العرش ، وذلك أدل شيء على أنهم فهموا من ذلك معنى العلو.
(4) وأنهم يذكرون ألفاظاً من عند أنفسهم تدل على ما دلت عليه الآية ، من أنها صفات لله تعالى كقوله ، له وجه ، وله يد ، وبائن من خلقه ، وما يشبه هذا، فهذا يدل على أنهم فهموا أنها دلت على صفات لله تعالى ، كما يفعل أصحاب الكتب المصنفة في الصفات فيقولون باب صفة الوجه ، باب صفة الاستواء ، وهذا مشهور جداً .(/12)
وفي هذا دلالة على أن عدم جمع الروايات ، هو السبب في نسبة القول بأن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه المخالف للظاهر ، نسبته إلى السلف(3) .[[ أي الخطأ في فهم عباراتهم ، بسبب عدم ضمها إلى سائرها ، هو السبب في نسبة هذا القول إليهم ، من بعض الأئمة ، ومن أمثلة هذا قول الإمام الطبري ( لان له المشارق والمغارب وأنه لا يخلو منه مكان ) التفسير 2/528، ويعني بذلك لا يخلو من علمه ، ويدل على أن هذا مراده ، قوله في نفس الكتاب ( وعنى بقوله ( هو رابعهم ) بمعنى أنه مشاهدهم بعلمه ، وهو على عرشه ) 28/12]]
وأما نسبة التأويل إليهم مما يرجع إلى هذا الأمر الأول فله مثالان :
الأول : ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {يوم يكشف عن ساق} أن المراد به الشدة ، أي أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة ، وقال أيضاً (عن أمر عظيم)(4) [[ رواه الطبري في التفسير 29/38]]، وليس هذا من باب التأويل - بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه - فإن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات ، (فانه قال - تعالى - ((يوم يكشف عن ساق )) ، وهي نكرة في سياق الإثبات لم يضفها إلى الله ، ولم يقل ساقه فمع عدم التعريف والإضافة ، لا يظهر أنه من الصفات إلاّ بدليل آخر ، ومثل هذا ليس بتأويل ، وإنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ، ومفهومها ، ومعناها المعروف)(1) . [[ الفقرة بين القوسين من كلام شيخ الإسلام المجموع 6/394]]
الثاني : قوله تعالى (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) البقرة (115) فقد جاء عن مجاهد أنه قال (قبله الله)(2) [[ تفسير الطبري 2/536، ، والأسماء والصفات للبيهقي ص 391، ونقل عن الشافعي أنه قال ( يعني والله اعلم فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه ]] ، فظن بعض الناس أنه من باب التأويل وليس كذلك أيضاً فإن الوجه هو الجهة ، يقال قصدت هذا الوجه وسافرت إلى هذا الوجه كما في قوله تعالى { ولكل وجهة هو موليها} البقرة (148) ، والجهة هي القبلة ولذلك قال فأينما تولوا ، أي تستقبلوا فقول مجاهد فثم قبلة الله هو باعتبار أن الوجه والجهة واحد ، فهو تفسير في هذا الموضع لهذه الكلمة بحسب اللغة ، وما دل عليه السياق ولو أنه قال وجه الله المراد ذاته ، وليس لله صفة هي الوجه لصح بذلك العقل عنه أنه يقول بجواز التأويل الاصطلاحي(3) [[ انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 6/16، 2/428، 3/139]].
الأمر الثاني : مما يسبب الخطأ في النقل
ــــــــــــــــــــــ
هو قلة العلم بالأخبار ، والآثار المنقولة ، عن الصحابة ، والتابعين ، وأئمة السلف ، قال ابن تيمية رحمه الله (وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتهم ، وسلوك سبيلهم ، ولا لهم خبرة بأقوالهم، وأفعالهم ، بل في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به ، لا يعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك ، من أهل الكلام ، والرأي والزهد ، والتصوف ، فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين ، إنما هو عما يظنونه من الإجماع ، وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف البتة ، أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرها)(4) .[[ المصدر السابق 13/25]]
وقد تقدم ما يبين صحة هذا الذي حكاه هذا الإمام ، ومما يزيد تأكيد هذا الأمر عدم معرفة بعض المتكلمين في مسائل الصفات والعقائد لأحاديث الصحيحين المشهورة ، قال ابن حجر رحمه الله (واستشكل فهم التخيير من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه ، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه)(1) [[ ثم قال ابن حجر : قال ابن المنير مفهوم الآية زلت فيه الأقدام ، حتى أنكر القاضي أبو بكر الباقلاني صحة الحديث ... ولفظ القاضي أبي بكر في التقريب ( هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها ) ، وقال إمام الحرمين في مختصره ، (هذا الحديث غير مخرج في الصحيح) وقال في البرهان ( لا يصححه أهل الحديث ) ، وقال الغزالي في المستصفى ( الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح ) وقال الداودي الشارح ( هذا الحديث غير محفوظ ) فتح الباري 8/338]]
ذكر ابن حجر هذا في شرح حديث ابن عمر الذي رواه الشيخان ، وغيرهما ، قال (لما توفي عبد الله بن أبيّ جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ..مذكر أن عمر قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما أراد أن يصلي على بن أبيّ أتصلي عليه وهو منافق فقال إنما خيرني الله فقال (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم .. الآية فقال سأزيده على السبعين ...الحديث )(2) . [[ فتح الباري 8/337]](/13)
ومعلوم أن من كان لا يعرف مثل هذه الأحاديث فبضاعته مزجاة في ما هو دون ذلك من أقوال الصحابة والتابعين المنثورة في كتب التفسير وأجزاء الحديث ، فلا يستغرب إذن أن يخطأ مثل هؤلاء في نقل مذهب السلف ، وإن كان في أهم مسائل الدين ، بينما يصيب من يقول ( وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة ، وما رووه من الحديث ، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى ، من الكتب الكبار، والصغار أكثر من مائة تفسير ، فلم أجد - إلى ساعتي هذه - عن أحد من الصحابة ، أنه تأول شيئاً من آيات الصفات ، أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف ، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته ، وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلاّ الله ، وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير)(3) وهو ابن تيمية رحمه الله [[ مجموع الفتاوى 6/394]] .ويقول (والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل لا نصّاً ولا ظاهراً على نفي الصفات الخبرية ...)(4) المصدر السابق [[ 5/109]].
وهاتان عبارتا شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهما تدلان على أن ذكره لمذهب السلف يقوم على استقراء تام ، ولذلك تحدى من يأتي بخلاف ما ذكر ، وأمهل المخالفين ثلاث سنين ، ففتشوا الكتب فظفروا بما تقدم من آية القبلة فحسب ، وهي غير دالة على ما قصدوه.(5) . [[ المصدر السابق 6/15]]
الأمر الثالث:
ــــــ
الاعتماد على طريق ضعيف ، إما من جهة ضعف بعض الرواة أو من جهة خطأ الثقة فيما روى ، ومن أمثلة هذا الأخير :
قال ابن الجوزي (قوله تعالى (( إلاّ أن يأتيهم الله ))، كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا ، وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال ( المراد قدرته وأمره ) وقد بينه في قوله تعالى {أو يأتي أمر ربك} ) [[ زاد المسير 1/225]]
ولم يزد ابن الجوزي على هذا ، وهذا الذي ذكره القاضي ، قد رواه حنبل ابن عم الإمام في ذكر محنة أحمد المشهورة ، أنه لما احتج عليه المعتزلة بحديث (اقرؤوا البقرة ، وآل عمران ، فانهما يجيئان يوم القيام كأنهما غمامتان ، تحاجان عن صاحبهما ) في خلق القرآن ، وزعموا أنه لا يوصف بالمجئ والإتيان إلاّ المخلوق ، عارضهم بقوله تعالى (هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ) قال : إنما يأتي أمره ، يريد أن الذي يأتي ثواب القرآن ، قال ابن تيمية ( ولم ينقل هذا غيره ممن نقل مناظرة أحمد في ذلك ، فمنهم من قال ، لم يقل أحمد هذا ، وقالوا حنبل له غلطات معروفة وهذا منها )(2) .[[ أنظر مجموع الفتاوى 5/399، وحنبل موثق أنظر المنهج الاحمد في تراجم أصحاب احمد للعليمي 1/345]]
وقال الذهبي عن حنبل : له مسائل كثيرة عن أحمد ويتفرد ويغرب [[ السير 13/52]] ، وقال أبو بكر الخلال ، قد جاء حنبل عن أحمد بمسائل أجاد فيها الرواية ، وأغرب في شيء يسير)(4). [[ المنهج الاحمد 1/245]]
وذكر ابن تيمية بعد ذلك ، أن من الحنابلة من قال : إنما قال أحمد ذلك إلزاما لهم ، أي كما أنكم تقولون يجيء أمره ، فكذلك قولوا في القرآن ، يجيء ثوابه ، ولا تقولوا مخلوق ، ومنهم من جعل هذا رواية عن أحمد ، وأن ابن الجوزي لما كان يميل إلى التأويل جعل هذا عمدته(5). [[ مجموع الفتاوى 5/400، والحديث السابق ، رواه مسلم بنحوه 1/ 553، وقال ابن تيمية ( وأمد وغيره من أهل السنة ، فسروا الحديث بأن المراد ، يجيء ثواب البقرة وآل عمران كما ذكر مثل ذلك عن مجيء الأعمال في القبر ، وفي القيامة والمراد منه ثواب الأعمال .. ثم قال فلما أمر بقراءتهما ، وذكر مجيئهما يحاجان عن القارئ ، علم أنه أراد قراءة القارئ لهما ، وهو عمله ، وأخبر بمجيء عمله الذي هو التلاوة في الصورة التي ذكرها ، كما أخبر بمجيء غير ذلك من الأعمال 5/399]]
ومن المعلوم أن الثقة قد يخطأ ، وأن هذا يعرف باعتبار قوله مع غيره ، فإن نقل الأكثر أو الأوثق ما يدل على أنه أخطأ، طرح خطؤه، وإذا كان هذا مما يعرف به خطأ الثقات ، في نقل الأحاديث النبوية فيحكم عليها بالشذوذ ، فكيف في نقل المذاهب.
ورواية حنبل هذه خالف فيها ما رواه بنفسه عن أحمد، مثل ما ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله مما رواه حنبل عن أحمد، فذكر كلاما كثيرا في اعتقاده في الصفات وفيه (ونؤمن بالقرآن محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول، وخلوه بعبده ووضعه كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله يرى في الآخرة … )( ) [[ درء تعارض العقل والنقل 2/30]]
أما ما رواه غيره فكثير ، كما قال ابن تيمية رحمه الله (ولا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية، ويبين أنه لا يقول إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره بل هو ينكر على من يقول ذلك).( ) [[ مجموع الفتاوى 5/401]](/14)
وبهذا المثال يحصل التنبيه على النوع الأول، فإن الذي يخطأ في الاعتماد على نقل الثقة إذا لم يعتبره بغيره، فخطؤه في الاعتماد على رواية الضعيف أولى.
وبهذه الأمور الثلاث حصل الخطأ في حكاية مذهب السلف في هذا الباب في كتب أصول الدين ، والتفسير ، وعلوم القرآن ، وهو منحصر في ثلاث جهات:
الأولى: نسبة القول بأن ظاهر آيات الصفات ليس هو المراد منها وأن المراد هو تأويلها الذي لا يعلمه إلا الله.
الثانية : نسبة القول بأن ظاهر آيات الصفات غير مراد منها والمراد هو تأويلها الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.
الثالثة : نسبة القول بأنهم لا يزيدون على تلاوة الآيات ولا يفهمون منها شيئاً.
وفيما تقدم من الروايات عنهم ما ينطق بخطأ هذا كله، وفي هذا كفاية في بيان مذهب السلف قاطبة في آيات الصفات عامة.
ــــــــــــــــــــ
@@@@@@@@@@@@@@@@
تنبيهات مهمة جدا :
===========
غير أنه ينبغي التنبيه على ثلاثة أمور تفصل ما أجمل من العبارات الحاكية لمذهب السلف وتزيل بعض الإشكال على من لم يمعن النظر في مقالاتهم:
أما الأمر الأول:
ـــــــــ
فهو معنى قولهم إن الصفات تجرى على الظاهر .
ذلك أن الظاهر صار مشتركا هنا بين شيئين:
أحدهما: أن يقال إن ظاهر هذه الصفات هو مماثلة صفات المخلوقين، فاليد جارحة مثل جوارح العباد، وظاهر الغضب غليان القلب لطلب الانتقام ، وظاهر كونه في السماء أن يكون مثل الماء في الظرف.
والثاني : أن يقال إن الظاهر من هذه الصفات ، هو أنها صفات لله كما يليق بجلاله( )، [[ ينظر مجموع الفتاوى 6/356ـ 357]] ، والأول هو قول المشبهة، والثاني هو قول السلف ، ولذلك يقولون استوى كيف شاء ، وينزل كيف يشاء ، وله يد ، ونجهل الكيفية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (فإن ظاهر الكلام هو ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة، ثم قد يكون ظهوره بمجرد الوضع ، وقد يكون بسياق الكلام، وليست هذه المعاني المحدثة المستحيلة على الله تعالى ، هي السابقة إلى عقل المؤمنين، بل اليد عندهم كالعلم ، والقدرة ، والذات ، فكما أن علمنا وقدرتنا، وحياتنا وكلامنا، ونحوها من الصفات أعراضا تدل على حدوثنا ، يمتنع أن يوصف الله سبحانه بمثلها، فكذلك أيدينا ، ووجوهنا ، ونحوها أجساما كذلك محدثة، يمتنع أن يوصف الله بمثلها، ثم لم يقل أحد من أهل السنة ، إذا قلنا لله علما ، وقدرة ، وسمعاً ، وبصراً ، أن ظاهره غير مراد، إذ لا فرق بين ما هو من صفاتنا جسم أو عرض للجسم)( ) .
[[ المصدر السابق 6/347، وينظر كذلك أضواء البيان للشنقيطي 2/286]]
وقوله (لم يقل أحد من أهل السنة … إلخ ) معناه: إن أكثر الذين يقولون بالتأويل ـ وهؤلاء الأكثر هم المثبتون لبعض الصفات ـ يقولون إن ظاهر السمع والبصر والحياة، والإرادة وغيرها مما يثبتون ـ ليس هو المماثلة لصفات المخلوقين .
بل أن من يثبت بعض الصفات الخبرية كاليد والوجه ، ممن يقول بالتأويل في غيرها لا ،يجعل ظاهر ما يثبته هو المفهوم من صفات المخلوقين.
كما قال الايجي في المواقف: (الخامسة: اليد، قال تعالى يد الله فوق أيديهم) الفتح(10) ، "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" ص(75)، فأثبت الشيخ صفتين ثبوتيتين زائدتين، وعليه السلف، وإليه ميل القاضي في بعض كتبه … )( ). [[ المواقف في علم الكلام للعضد الايجي ص 298]] .
والشيخ هو أبو الحسن الأشعري، والقاضي هو أفضل المتكلمين من أصحاب الأشعري (أبو بكر الباقلاني)( )، [[ أنظر مجموع الفتاوى 5/98]] .
وقد قال في التمهيد (باب : في أن لله وجها ويدين، فإن قال قائل: فما الحجة في أن لله عز وجل وجها ويدين، قيل له : قوله تعالى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وقوله (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)، فأثبت لنفسه وجها ويدين ..).
ثم لما أبطل تأويلهما قال (فإن قال قائل فما أنكرتم أن يكون وجهه جارحة ، إذ لم تعقلوا يد صفة ووجه صفة لا جارحة؟ يقال له: لا يجب ذلك، كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما ، أن نقضي نحن وأنتم على الله تعالى بذلك .. )( ). [[ تمهيد الأوائل ،وتلخيص الدلائل للباقلاني ص 295ـ 298]]
والمقصود أن كما أن ظاهر هذه الصفات ، لا يماثل ما للمخلوقين عند من يثبتها ، فكذلك ينبغي أن يكون في سائرها .
وهذا لازم للمعتزلة أيضا لأنهم يثبتون الأسماء لله فيقولون حي عليم قدير ، ويؤولون الصفات ، فلابد لهم من القول بأن الظاهر من هذه الأسماء ، ليس مماثلة المخلوق في أسمائه إذ هي الأسماء الحسنى.
فهذا هو معنى قولهم ـ تجرى على ظاهرها ـ وهو الظاهر الذي يتبادر إلى العقل السليم ، الذي استقر فيه أن الذات الإلهية ، لا تماثل ذوات المخلوقين ، فعلم أن الصفات المتعلقة بها كذلك لا تماثل صفات المخلوقين ، إذ هي فرع عليها فكما أن إثبات الذات إثبات وجود لا كيفية فكذلك إثبات صفاتها.( ) [[ ذكر أن الصفات فرع عن الذات ، مستفاد من كلام ابن تيمية المجموع 3/25، 3/ 47 ]](/15)
والمعنى الأول ، أي قول القائلين : (إن ظاهر هذه الصفات هو مماثلة صفات المخلوقين ) ، قد يريده من يقول (يجب إثبات الصفات مع أن الظاهر غير مراد) فإن قصده بهذه الإطلاق فهو مصيب، وإن نقل ذلك عن السلف ـ بهذا المعنى ـ فهو مصيب أيضاً ، إلا أنه قد أخطأ من جهة إطلاقه ما يوهم الغلط عليهم فليتجنب( ). [[ المصدر السابق 3/66ـ 68]]
كما يجب أيضا تجنب الاحتجاج بقوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله) على أنه يجب امرار الصفات على ظاهرها وبطلان التأويل ، لأنه الآية ليست من هذا التأويل الاصطلاحي في شيء .
فمن احتج بها على بطلان التأويل الاصطلاحي ، مع قوله بوجوب إمرار الصفات على ظاهرها ، وقع في التناقض، لأنه يبطل التأويل والآية تثبته معلوما لله ، بل الواجب القول : إنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره، أي عدم صرفه عما يدل عليه ، وهو دلالته على الصفات لله تعالى المنزهة عن صفات المخلوقين ، مع أن حقيقة الصفات لا يعلمها إلا الله ، وحينئذ يكون الاحتجاج بالآية على جهل الحقيقة، أي حقيقة الصفات ، وأن الله تعالى وحده حقيقتها ، فيكون احتجاجا صحيحا .
ومثل هذا ، من يحتج بالآية على أننا خوطبنا بما لا يفهمه أحد ، مع قوله الظاهر غير مراد ، وهذا مع أنه خطأ ، فإن الإحتجاج بالآية ، في آيات الصفات ، يوقع في التناقض ، لأنا إذا لم نفهم شيئا من آيات الصفات ، كيف لنا نعرف ، أن لها تأويلا يخالف الظاهر ولا يوافقه ، فإن الظاهر ، وغير الظاهر ، لا يعلم إلا بمعرفة معنى اللفظ ، أو معانيه( ). [[ مجموع الفتاوى 3/66ـ 68]]
وبهذه الجملة يتضح الفرق بين المذهبين إن شاء الله تعالى.
الأمر الثاني :
ـــــــــ
وهو أن التأويل المذموم عند السلف ، هو أن تصرف دلالة اللفظ الظاهر على الصفات ، إلى معنى آخر يلزم منه نفي هذه الصفة لمجرد دعوى المشابهة للمخلوقات ، ومخالفة العقل، هذا إذا كان اللفظ يدل على إثبات صفة لله كقوله تعالى (استوى على العرش)، (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)، (لما خلقت بيدي).
وليس التأويل المذموم ، هو أن يفسر أحد النصين ، بظاهر الآخر، بما يدل على خلاف ظاهر النص المفسَّر ، فإن هذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، وتفصيل الأدلة السمعية لبعضها ، وتفسير القرآن بالقرآن محمود، وأما المذموم تفسيره بالرأي المجرد عن البرهان من السنة أو القرآن .
ومن هذا القبيل قوله تعالى (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) بأنه قريب بعلمه ، لأن أدلة القرآن على أن الله على عرشه ، وفوق كل شيء ، كثيرة جداً ، ومتنوعة ، وهي من أحكم أنواع الأدلة فيه ، هذا إن سلِّم أن الظاهر من هذا النص قربه بنفسه ـ سبحانه ـ وسيأتي تفصيل هذا.
ولكن هذا النوع نادر جداً ـ وهو أن يراد بالنص خلاف ظاهره ـ لاسيما في باب الصفات ، وهو مع ذلك وجوده في الحديث أوضح ، أما القرآن فلا يكاد يوجد ، فإنه عند التحقيق يتبين أن أكثر ما أدعى فيه ، أن النص مصروف عن ظاهرة بنص آخر ، منتقض بأن الظاهر ليس هو المُدَّعي ، بل هو ما دل عليه سياق الآية نفسها ، ومعناه اللغوي الصحيح ، وبذلك لا يحتاج إلى التأويل، بمعنى تفسير النص بخلاف ظاهره ، لدلالة نص آخر على ذلك .
وربما ظن من لم يتحقق مذهب السلف في هذا الباب ، أن السلف يجرون اللفظ على المعنى الفاسد الذي ادعى ظهوره ، فأداه هذا إلى القول بوجوب التأويل، كما زعم من زعم ، أن من قول السلف ، أن الله أقرب بذاته إلى الإنسان من حبل وريده ، وإليه من الحاضرين عند وفاته ، لأنه جعل ظاهر قوله تعالى (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون)، هو أن الله أقرب إليه( ). [[ تفسير المنار 2/168، حكاه عن بعضهم]]
ولئلا يظن مثل هذا ، فإنه ينبغي التنبيه على أسباب الخطأ في الاستدلال بالنصوص على الصفات ، وجعل ما لا يدل عليه اللفظ ، أو ما يدل عليه ظاهراً من المعاني الفاسدة هو الظاهر، ويستفاد من هذا أيضا ، معرفة أن ما يحتاج فيه إلى صرف المعنى الظاهر في هذا الباب في القرآن قليل ، مع وجوب القول بأن صرفه عن ظاهره لا يكون إلا بالأدلة السمعية( ). [[ مصداقا لقوله تعالى ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون ) الأعراف 52، وأما القائلون بالتأويل فإن أكثر آيات الصفات التي هي أعظم ما دل عليه القرآن على خلاف الظاهر عندهم وسيأتي تفصيل ذلك كله ]]
@@@@@@@@@@@@@
ذكر أسباب الخطأ في الاستدلال بالنصوص على صفات الله تعالى :
======================================
فمن هذه الأسباب:
ـــــــــ
السبب الأول :
ــــــــ
أن يجعل ما يضاف إليه ـ سبحانه ـ من صفاته ، ولا يكون كذلك إذ لا يلزم من إضافة الشيء إلى الله أن يكون من صفاته .
ومن أمثلة هذا ما ذكره الرازي، قال: "المسألة الثانية : القائلون بإثبات الأعضاء لله تعالى استدلوا على إثبات الجنب بهذه الآية .(/16)
وأعلم أن دلائلنا على يفي الأعضاء قد كثرت، فلا فائدة في الإعادة ، ونقول بتقدير أن يكون المراد من هذا الجنب عضوا مخصوصا لله تعالى فإنه يمتنع وقوع التفريط فيه فثبت أنه لابد من المصير إلى التأويل..) .
فقد ذكر هذا المفسر المشهور أن الجنب في قوله تعالى (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) الزمر(56)، ظاهره العضو( ) .[[ تفسير الرازي 27/6]]
ومعنى الجنب في اللغة لا يستلزم هذا ، ولا سياق الآية يدل على أن هذا هو المعنى الظاهر، كما قال في الصحاح "الجنب الفناء وما قرب من محلة القوم" ( )، [[ الصحاح للجوهري 1/101ـ102]] ، وقال ابن فارس "الجيم والنون والباء أصلان متقاربان أحدهما الناحية والآخر البعد"( ) . [[ معجم مقاييس اللغة 1/483]]
وقال الفراء: "الجنب القرب أي ما فرطت في قرب الله وجواره"( ) ، [[ لسان العرب 1/275]] ، ولهذا قال بعض السلف (في أمر الله)( ) ، [[ رواه الطبري عن مجاهد والسدي 24/9]] لأنه أمر بالتقرب إليه، والمحافظة على حدوده التي هي حماه وجواره ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (أل إن حمى الله محارمه)( ) .[[ رواه البخاري كتاب الإيمان ، فضل من استبرأ لدينه ، فتح الباري 1/136]]
وهي الطريق الموصل إليه كما قال الزجاج "في طريق الله الذي دعاني إليه" ( )، [[ لسان العرب 1/275]] وهذه العبارات كلها دالة على معانٍ متقاربة، وإذا كان الجنب يطلق على الناحية في أصل اللغة ، فكيف يجعل إذا أضيف إلى الله في سياق نص ، كيف يجعل صفة من صفاته ، بله أن يقال إنه دل على العضو في الظاهر.
والله عز وجل قد حكى في هذه الآية ما يقوله الساخرون المستكبرون ، يوم لا ينفع الندم ، قال (أن تقول نفس يا حصرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) الزمر(56-59) .
وعامة هذه النفوس الموصوفة بما ذكر في الآيات ، لا تعلم أن لله جنبا بالمعنى الذي توهم من توهم أنه ظاهر اللفظ ، كما لا يتبادر إلى سامع هذه الآيات معنى سوى أنهم فرطوا في أوامر الله ، وقربه ، وطلب جواره ، وما يقارب هذا مما دلت عليه اللغة .
فكيف يجعل ـ مع هذا ـ ظاهر اللفظ عضواً يشابه أعضاء الإنسان، هذا مع أن الإمام الدارمي في رده على المريسي قال (وادعى المعارض زورا على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) أنهم يعنون به الجنب الذي هو العضو وليس ذلك على ما يتوهمونه .
فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك وأخفه على لسانك، فإن كنت صادقا في دعواك فأشر بها على أحد من بني آدم قاله)( ) .[[ ص 184]]
وقال ابن القيم (ومن المعلوم أن هذه لا يثبته أحد من بني آدم)( ) . [[ كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 1/247]]
فإن صح هذا ، أي أنه لم ينقل عن أحد إثبات الجنب بمعنى العضو على الله تعالى ، فإن ما ذكره الرازي قد يكون على طريقة لازم المذهب ، وذلك أن القائلين بإثبات الوجه واليدين ، يلزمهم عنده أنها أعضاء ، ويلزمهم كذلك إثبات كل ما جاء على هذا النحو (كالجنب) وأنه عضو، وهذا يقع فيه كثير ممن يحكي المذاهب فينسبون إليهم أقوالا يظنون أنها تلزمهم وهي ليست بلازمة عند التحقيق.
السبب الثاني :
ــــــــ
أن يظن كل موضع ذكر فيه ما يشعر بالصفة ، أنه من نصوص الصفات، وأن المراد به الأخبار عن هذه الصفة .
قال ابن تيمية رحمه الله (ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قرب نفسه، بل يبقي هذا من الأمور الجائزة وينظر في النص الوارد، فإن دل على هذا حمل عليه ، وهذا كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء .
وان كان في موضع قد دل على أنه يأتي بنفسه ، ففي موضع آخر دل على انه بعذابه ، كما في قوله تعالي (فأتى الله بنيانهم من القواعد ) وقوله تعالي (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) فتدبر هذا، فإنه كثيرا ما يغلط الناس في هذا الموضع ، إذا تنازع النفاة والمثبتين في صفة ودلالة نص عليها، يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ ـ حيث ورد ـ دالا على الصفة وظاهرا فيها)( ). [[ مجموع فتاوى ابن تيمية 6/14]](/17)
وقولة جواز القرب عليه ، مثل له بدنوه – سبحانه – عشية عرفة ،كما روى مسلم عن النبي صلي الله عليه وسلم قال (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة وانه ليدنو ثم يباهي بهم ملائكته فيقول ما أراد هؤلاء) ( )، [[ كتاب الحج ، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة ح 436]] ، وأما قوله ( ولا يلزم من ذلك أن يكون كل موضع ذكر فيه القرب هو قربه بنفسه "مثل له بقوله تعالي" ونحن اقرب أليه من حبل الوريد" ق(16) ، وذلك أن المراد هنا قربه بملائكته ، كما تضيف العظماء أفعال عبيدها إليها بأوامرهم ، ومراسيمهم ، واستدل عليه بأن القرب في الآية بزمن ، وهو حين تلقي المتلقيين ، وقعيد عن الشمال ، وهما الملكان ، ومعلوم أنه لو أراد قرب ذاته لم يختص بهذه الحال.
كما استبدل عليه أيضا ، بأنه ذكر بصيغة الجمع مثل ( نتلو عليك ) القصص (3)، (فإذا قرأناه فاتبع قرانه ) القيامة(17) ،( ونكتب ما قدموا آثارهم ) يس(12)، ( أنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) الجاثية (29) .
فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله في كتابه ، دل على أن المراد أنه سبحانه يفعل بجنوده من الملائكة ، ومثل هذه الآية قوله تعالي ( أم يحسبون أنا لا نعلم سرهم ونجواهم ، بلي ورسلنا لديهم يكتبون )، الزخرف (80) وقوله تعالي (ونعلم ما توسوس به نفسه ) يحتمل أن المراد نحن نعلم وملائكتنا أيضا يعملون ، كما دل عليه الحديث ( إن العبد إذا هم بحسنه فلم يعملها كتبت حسنه)( )، [[ في الحديث ( قال الله تعالى .. فإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ) رواه مسلم كتاب الإيمان ، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت ، وإذا هم بسيئة لم تكتب ح 203]] ، فالملائكة يعلمون ما في نفسه بقدرة الله تعالي.
ومثل هذه الآية (نحن أقرب إلية منكم ولكن لا تبصرون) الواقعة (85) ، فإن القرآن دل على أن المراد الملائكة ، لأن الآية تصف حال الاختصار ، وقد كثر في القرآن ذكر حضور الملائكة المحتضر، قال تعالي (أن الذين توفّاهم الملائكة ) النساء (97)، وقال ( ولو ترى إذ يتوفّي الذين كفروا الملائكة ) الأنفال (50) وقال ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسهم ) الأنعام(93)، ( حتى إذا جاء أحدهم الموت توفّته رسلنا وهم لا يفرطون ) الأنعام(61)، ( قل يتوافكم ملك الموت ) السجدة (11).
وقد قال بعض الأئمة أن المراد قربه بعلمه وهو محتمل( )، [[ مثل الإمام أحمد ينظر مختصر العلو للذهبي 190، والإمام الدارمي ينظر رده على المريسي 83، وذكر ابن القيم القولين عن السلف والخلف ، مختصر الصواعق ص 492]] ، ولكن يدفعه أن العلم محيط بكل شيء وفي باطنه، وكل ذلك بالنسبة إليه سواء ، كما قال ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسآرب بالنهار ) الرعد (10) ، فلا معني لتخصيص حبل الوريد وغيره( ). [[ الكلام المتقدم في القرب ، وما يتعلق به، مختصر بتصرف من كلام ابن تيمية في مواضع من مجموع الفتاوى وهي 5/130، 5/107، 5/512ـ 513، 5/494ـ 509) وانظر كذلك مختصر الصواعق ص 493ـ 494 ، وتفسير ابن كثير 7/376]]
وهذه الخلاف بين السلف في معني الآية مع اتفاقهم على جواز القرب لو جاء نص يكون هذا هو الظاهر منه كما في الحديث السابق ، أما في هذه الآية فلا يقال إن الظاهر منها أنه سبحانه وتعالي أقرب بذاته من حبل الوريد فإن السياق بأبي ذلك والقرآن دل على نقيضه فإن الأدلة القاطعة منه دلت على علوه على كل شيء( ). [[ وقوله تعالى ( وهو القاهر فوق عباده ، ويرسل عليكم حفظه حتى إذا جاء أحدكم الموت ، توفته رسلنا وهم لا يفرطون ) جمع بين علوه على كل شيء ، وقرب جنوده من المحتضر ، فهي أقرب ما يفسر به قوله تعالى ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ، وأنتم حينئذ تنظرون ، ونحن أقرب إليه منكم ، ولكن لاتبصرون ) ]]
وأما القائلون بأن هذا المعنى الفاسد ، أي قرب الله تعالى بذاته من حبل الوريد ، المقتضى للحلول أو الاتحاد ، هو الظاهر فقد انقسموا إلى قسمين:
منهم من قال بوجوب التأويل الاصطلاحي هنا ، وهو حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح ، وأن المراد هو قربه بعلمه ، وهذا المعني صحيح ، ولكن لا يلزم أن يقال إن ظاهر القرآن هو هذا المعني ، ذلك أن القرآن في أعلي درجات البيان ، لاسيما في الخبر عن الله وصفاته ، وفي القول بأن ظاهر القرآن هو ذلك المعنى الفاسد تعارض مع هذه الحقيقة .
غير أن الذي اقتضي هذا القول تجريد اللفظ عن السياق ، فإن السياق هو الذي يدل على المراد ، والمتكلم الذي يريد أن يكون كلامه مبينا ، لابد له من ذكر القرائن ووضع الألفاظ في تركيب يدل على مراده ، والقرائن جعلت الظاهر في الآية ، إما العلم كما قال ( ونعلم ما توسوس )، أو الملائكة كما قال (إذ يتلقّي المتلقيان ).(/18)
ومنهم من التزم هذا المعني الفاسد الباطل وهم القائلون بالوحدة والحلول من المنتسبين إلى التصوف ، وفي بعض كتب التفسير من هذا ما يشينها ( ) [[ في حاشية الجمل على الجلالين علل القول بأن المراد بالقرب من العلم في قوله تعالى ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) بأن الله منزه عن الأمكنة ، وذكر أنه من المجاز ، فهذا يدل على جعل المعنى الفاسد هو الظاهر 4/192) ، وأنظر أيضا تفسير المنار 2/168، وقال الالوسي : ( ولامجال لحمله على القرب المكاني ، لتنزهه سبحانه عن ذلك ، وكلام أهل الوحدة مما يشق فهمه على غير ذي الأحوال التفسير 26/178 ]]
مع أن الآية لا تدل على قول أهل وحدة الوجود بوجه ، فإن قولهم الذي ينبو عنه سمع المؤمن ، يقتضي أن لا يكون لله تعالى ، تميّز بالذات فكيف يكون من هذه صفته ، أقرب إلى شيء من شي ، كما زعموا أنه ظاهر الآية ، فتناقضوا تناقضا قبيحا .
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالي عن عيسي (إنما المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم 000000الآية ) فان الله وان كان متصفا بالكلام ، فليس المراد هنا صفته ، وأن عيسي هو نفس الكلمة ، كلمة الله ( وانما سمي بذلك لأنه بذلك خلق بالكلمة ، على خلاف سنة المخلوقين ، فخرقت فيه العادة ، وقيل له كن فكان)( ) . [[ ينظر ابن تيميه المجموع 6/18]]
فسمي كلمة الله (لأنه ناشي عن الكلمة التي قال له بها كن فكان( )، [[ تفسير ابن كثير 2/431]] ولا يلزم من إطلاق كلمة الله على المخلوق هنا ، أن يكون كلامه جل وعز مخلوقا .
قال ابن تيمية: ( وأما قوله: إن كلمة يراد بها عيسي نفسه، فلا ريب أن المصدر يعبر به عن المفعول به في لغة العرب، كقولهم هذا درب ضرب الأمير، ومنه تسمية المأمور به أمرا، والمقدور قدرة، والمرحوم به رحمه، والمخلوق بالكلمة كلمة، لكن هذا اللفظ يستعمل مع ما يقترن به مما يبين المراد، كقوله ( يا مريم أن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسي بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين)، فبين أن الكلمة هو المسيح، ومعلوم أن المسيح نفسه ليس هو الكلام، ( قالت أني يكون لي ولد ولم يمسسني بشر، قال كذلك الله يفعل ما يشاء إذ قضي آمرا فإنما يقول له كن فيكون).
فبيّن لما تعجبت من الولد أنه سبحانه يخلق ما يشاء ، إذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، فدل هذا على أن الولد مما يخلقه الله بقوله ( كن فيكون ) ، ولهذا قال أحمد بن حنبل ( عيسي مخلوق بالكن، ليس هو نفس الكن)، ولهذا قال في الآية الأخرى ( إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقة من تراب ثم قال كن فيكون)، فقد بين مراده، أنه خلقه بكن لا أنه نفس كن ونحوها من الكلام)( ). [[ مجموع ابن تيمية 20/493]]
ومن أمثلة هذا أيضا قوله تعالي ( تجري بأعيننا) القمر (14) ، لا يدل على أعين كثيرة، وقوله تعالي ( ولتضع على عيني) لا يدل على عين واحدة، عند من يثبت صفة العين، بل كل موضع يفسر بحسبه ، بل كل موضع يفسر بحسبه، وذلك أن لفظ العين إذا أضيف إلى اسم جمع ظاهر ، أو مضمر ، فالأحسن جمعه مشاكلة للفظ كما قال (فأتوا به على أعين الناس) الأنبياء(61) .
وإذا أضيف إلى مفرد ذكر مفردا ، وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد، ففي الإضافة إلى المفرد قال (بيده الملك)، وفي الإضافة إلى الجمع قال (أو لم يروا أنا خلقنا مما عملت أيدينا أنعاما)، وقال (بما كسبت أيدي الناس)، والسلف استدلوا على صفه اليد بن بقوله تعالي (بما خلقت بيدي) وعلى صفه العينين بقول النبي صلي الله عليه وسلم (إن ربكم ليس بأعور)( )، [[ الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن عمر مرفوعا ( وإن الله لايخفى عليكم ، إن الله ليس بأعور ، وأشار بيده إلى عينه ، وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى ، كأن عينيه عنبة طافية ) فتح الباري 13/389]]
والأعور ضد البصير بالعينيين( ) ، [[ ينظر رد الدارمي على المريسي 48]] ولو جاء لفظ يدل على الصفة في الظاهر لقالوا به فان عمدتهم في هذا الباب هو السمع.
السبب الثالث :
ـــــــ
أن يأتي اللفظ في سياق يدل على المراد منه ، ويفسره ، ويجعله في غاية الظهور، فيؤخذ بعيدا عن سياقه ، ويُدَّعي فيه معني فاسد ، حتى يجعل محتاجا إلى التأويل، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية مثالا على هذا ، الحديث القدسي ، وهو قوله الله تعالي ( يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ؟ أما علمت أنك لو أطعمته لو جدت ذلك عندي ؟ … وذكر في الاستسقاء مثله)( ) .[[ رواه مسلم ح 2569
ذكره مثالا لجعل المعني الفاسد هو الظاهر من اللفظ و لا يكون كذلك ، فإن الحديث قد فسر المراد بقول الله استطعمتك ، واستسقيتك فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل( ). [[ ينظر مجموع ابن تيمية 3/44، وكذلك ينظر في أمثلة هذا النوع ، درء تعارض العقل والنقل 5/235ـ 240]]
السبب الرابع :
ـــــــ(/19)
أن يجعل للفظ معني لا يدل عليه لغة عند التحقيق ، فإذا فسِّر به القرآن أوهم الباطل، فيقال حينئذ بوجوب التأويل .
ومثاله لفظ المعية، فقد جُعلت في الظاهر بمعني الاختلاط والامتزاج ، ثم لما كان هذا كفرا عند جميع المسلمين قيل بوجوب التأويل .
و أما عند التحقيق ، فليس ظاهرها إلا المقارنة المطلقة في اللغة ، من غير وجوب مماسة ، أو محاذاة عن يمين وشمال ، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعني .
فإنه يقال ما زلنا نسير والقمر معنا وهو في السماء وكذلك يقال (زوجته معه) بمعني لم يطلقها، وماله معه بمعني لم يفقده، وقال تعالي (محمد رسول الله والذين معه) الفتح(29) .
وليس في ذلك كله وجوب اختلاط ، وقد يدل على الاختلاط عند التقييد بما يناسبه، وإذا كانت المعية لا يلزم منها الامتزاج والحلول فلا يجعل هو الظاهر، بل الظاهر يعلم بحسب السياق المذكورة فيه .
وهو ما يلزم من معية الله ، فإن قوله (هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم) الحديد(4)، دال على أن حكم هذا المعينة ومقتضاها أنه مطلع عليهم، شهيد عليهم، مهيمن، عالم بهم، وهذا معني قول كثير من السلف أنه معهم بعلمه، وهو ظاهر الخطاب وحقيقته .
وكذلك قوله تعالي (لا تحزن إن الله معنا) التوبة(40)، أي بنصره وتأييده ، فإن هذا هو اللازم من المعية هنا، وإذا كانت المعية لا يلزم منها المخالطة ، فإن فسرت بما دلت عليه باللزوم ، لا يكون هذا من باب التأويل .
وقال ابن القيم (فكيف تكون حقيقة المعية في حق الرب ذلك ـ يعني المخالطة ـ حتى يد عي أنه مجاز لا حقيقة ، فليس في ذلك ما يدل على أن ذاته تعالي فيهم ولا ملاصقة لهم، ولا مخالطة ، ولا مجاورة ، بوجه من الوجوه، وغاية ما تدل عليه (مع) المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور، وذا الاقتران في كل موضع بحسبة، يلزم منه لوازم بحسب متعلق )( ). [[ مختصر الصواعق المرسلة ص 429 ، وينظر أيضا مجموع ابن تيمية ( 5/103ـ 104) و (5/495ـ498) و ( 6/22) ، وبهذا البحث يتبين أن قول أبي المعالي رحمه الله في الإرشاد ( ومما يجب الاعتناء به معارضة الحشوية ، بآيات يوافقون على تأويلها ، حتى إذا سلكوا مسلك التأويل ، عورضوا بذلك السبيل ، فيما فيه التنازع ، فمما يعارضون به ، قوله تعالى ( وهو معكم أينما كنتم ) فإن راموا إجراء ذلك على الظاهر ، حلوا عقد إصرارهم في حمل الاستواء على العرش على الكون عليه ، والتزموا فضائح لا يبوء بها عاقل ، وأن حملوا قوله ( وهو معكم أينما كنتم ) وقوله ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم ) على الإحاطة بالخفيات ، فقد سوغوا التأويل ) ص 150، أنه قول متهافت ، فإنه لاتعارض بين استواءه على العرش وكونه مع خلقه ]]
الآمر الثالث :
ـــــــــ
وهو أن قائلا قد يقول: إن ما تقدم حكايته عن مذهب السلف ، فيما أسند إلى الله من الألفاظ الموهمة للتشبيه ، كالوجه واليد والمجيء والاستواء ، انه هو إمرارها على ظاهرها ، وعدم تأويلها ، وأن معني قولهم امرارها على ظاهرها ، ليس هو مماثلة المخلوقات ، أنه قول متناقض .
وبيانه أنا لانفهم من هذه النصوص إلا ما هو من صفات المخلوقين ، لانا لم نشهد غيرها ، فإن قيل هي على ظاهرها ، لزم التشبيه ، وإن قيل ليس ظاهرها مماثلة المخلوقين لزم أنا لا نعلم معناها بل نفوض ـ أن لم نقل بالتأويل ـ ولا يصح أن نقول تجري على ظاهرها، فحكاية هذه الجملة عنهم مع إبطال التفويض تناقض ( ). [[ ممن أشار على دعوى تناقض من يقول ( إن هذه النصوص معلومة المعنى وهي على ظاهرها ) أبو المعالي في الإرشاد ص 60 ، وقال بعض المعاصرين : ( فظاهر الاستواء ، هو الجلوس والقول به قول بالجسمية ، فإن قال ابن تيمية إنه اشتراك في الاسم لا في الحقيقة فليس إلا أن يفسره بالظاهر السابق فيلزم الجسمية ، أو يفسره بغير المحسوس ، وذلك تأويل ) ص 70 ، ومع أنه ينازع في أن الاستواء هو الجلوس ، غير أن الذي يلزم به في الرد عليه ، أن يقال : البصر هو انعكاس صورة المرئيات في عضو ، فإن قال إن الله تعالى يوصف بالبصر ، فإن فسره بالظاهر يلزم الجسمية ، وإن قال هو إدارك المبصرات فهو قول المعتزلة نفات الصفات ]]
وهذه الشبهة هي ـ وغيرها ـ أدت إلى أن قال أهل التأويل : إن نصوص الصفات أو بعضها ليست دالة على الصفات على الحقيقة ، وإنما تطلق على سبيل المجاز ، ولما وافقهم غيرهم على أن هذه النصوص ليس لها معني في الظاهر إلا مماثلة المخلوقين ، وكانوا مع ذلك ممن يحرم التأويل ، قالوا : لا ندري ما أريد بهذه النصوص ، ولا نتكلم فيها فجعلوها بمنزله الكلام الأعجمي الذي لا يفهم .(/20)
وذلك أن هذه الألفاظ التي أطلقت على الخالق في الكتاب والسنة وهي ذلك تطلق على المخلوق ، ولا يخلوا الأمر فيها: إما أن تكون حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر .
أو حقيقة فيهما، فهذه ثلاثة أقسام .
فقال قوم هي حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق ، وقال قوم حقيقة في المخلوق مجاز في الخالق ثم اختلفوا :
فقال الجهمية والمعتزلة كلها مجاز، وقالت الأشعرية وغيرهم بعضها، وهي الصفات الخبرية على خلاف بينهم أيضا في ذلك.
وقال السلف ومن اتبع طريقتهم من الفقهاء والمحدثين والمفسرين وغيرهم حقيقة فيهما ،ومقالات السلف تدل على أنها تطلق عليهما بطريق المتواطئة أو المشككة.
وهذه الجملة تدل على أن الإشكال المتقدم عظيم الموقع ، لذا يجب الاعتناء بالانفصال عنه .
فيقال: إن هذا التناقض المدعي لازم أيضا لمن يثبت الصفات العقلية ، وهي السمع والبصر والإرادة والحياة والعلم والقدرة والكلام ،وهم جمهور القائلين بالتأويل لأننا لم نشهد هذه الصفات إلا في المخلوقات .
ولازم أيضا لمن يثبت أي صفة لله تعالى ، بل ويلزم كذلك من يثبت وجود الله تعالى وإن لم يصفه بصفة ، فإنا لم نشهد موجوداً إلا جسما أو عرضا قائما به( )،
[[ قال ابن تيمية رحمه الله : فإنك إن قلت ـ أي أيها المعتزلي ـ إثبات الحياة ، والعلم ، والقدرة ، يقتضي تشبيها ، أو تجسيما ، لأنا لانجد في الشاهد متصفا بالصفات إلا ما هو جسم ، قيل لك : ولانجد في الشاهد ما هو مسمى ، حي ، عليم ، قدير ، إلا ما هو جسم ، فإن نفيت ما نفيت لكونك ، لم تجده في الشاهد ، إلا للجسم ، فانف الأسماء ، بل وكل شيء لانك لا تجده إلا للجسم ) المجموع 3/20 ، والجسم عند المتكلمين هو ما يقبل القسمة من الجواهر ، والجوهر هو المتحيز ، وهو القابل بالذات للإشارة الحسية ، فإذا قبل القسمة ، فهو الجسم ، وإن لم يقبلها ، لا فعلا ، ولا وهما ، ولا فرضا ، فهو الجوهر الفرد ، بناء على أن الأجسام تنقسم إلى ما يصير إلى الجزء الذي لايتجزء ، وعندهم الجوهر منحصر في هذين القسمين ، وأقل ما يتركب منه الجسم ، جوهران من الجواهر المنفردة ، ينظر شرح المواقف للجرجاني 2/343ـ 345، شرح العقائد النسفية للتفتازاني ص 49 ، وأما العرض عندهم فهو موجود قائم بمتحيز ، وأدخلوا تحت هذه القسمين ، كل ما يشاهد ، أو يحس كالهواء ، فهو جسم ، أما الضوء ، واللون ، فهما عرضان ، ينظر المواقف للايجي ، وهم مع ذلك ينفون أن يكون الله تعالى جسما ، أو عرضا ، ولا يعرف في الشاهد موجود غير هذين ، فيلزمهم أنه غير موجود ، نقول هذا من باب الإلزام ، وليس إثبات هذه الألفاظ أو نفيها ، إذ سيأتي الكلام على هذا لاحقا إن شاء الله تعالى ]]
لم نشهد موجودا إلا جسما أو عرضا قائما به ، ونحن مع ذلك لم نشهد وجود الله ، ولم نعرف ماهيته ، ولا نظيراً له سبحانه ، إذ ليس لها نظير، أفيقال : إنا إذا أثبتنا وجوده ، يلزمنا تشبيهه سبحانه بوجود ما سواه ، أم يقال : إذا قلنا وجوده ليس مشابها لوجود سواه ، يلزمنا التفويض في معني الوجود وأنا لا نعقل منه شيئا ؟!!
وقفة مهمة جدا تحل إشكالات كثيرة في هذا الباب :
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
حل عقدة باب الصفات :
ــــــــــــــ
فإن قيل فما حل هذه العقدة ، بعد هذه الحجة الجدلية، فالجواب: أن الناس اختلفت طرائقهم في اقتحام هذه العقبة ، التي العقبة هذا الباب حقاً، إلا أن الخروج منها إلى الصراط المستقيم له باب واحد وسواه مفض إلى سحيقة أو تناقض .
فإن ناساً قد التزموا نفي كل شي لئلا يقعوا في التشبيه، قال أبو المعالي: (اعلموا أشدكم الله أن من أعظم أركان الدين نفي التشبيه، وقد أفتتن فيه فئتان، وابتلي به طائفتان فغلت طائفة ونقت جملة صفات الإثبات ، ظنا أن المصير إلى إثباتها مفض إلى التشبيه وإلى ذلك صار من أثبت الصانع من الفلاسفة ، وإليه ميل بعض الباطنية ، فزعموا أن القديم لا يوصف بالوجود ولكن يقال أنه ليس بمعدوم ، وكذلك لا يوصف بكونه حيا قادراً ، بل يقال ليس بميت ولا عاجز ولا جاهل ..)(1) . [[ الشامل للجويني الكتاب الأول، الجزء الأول ، 1/169 ، وتعليق رشاد سالم على درء التعارض 5/187]]
وقال الشهرستاني رحمه الله عن الجهم بن صفوان : (وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم أشياء منها قوله : لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه ، لأن ذلك يقتضي تشبيها ).(2) . [[ الملل والنحل 1/86]](/21)
وذكر ابن تيمية رحمه الله أنه قرأ لأبي يعقوب السجستاني - أحد الباطنية - في كتاب الأقاليد الملكوتية أنه التزم أن الله يقال عنه (لا موجود ولا ليس بموجود ، ولا معدوم ولا ليس بمعدوم ) ، وذلك أنه ابتدأ أولاً بأن الله ليس بموجود فأورد على نفسه أن هذا تشبيه بالمعدومات ، فقال ( لا موجود ولا معدوم ) ثم أورد على نفسه أن هاتين قضيتان مختلفتان بالسلب والإيجاب ، ويلزم من صدق أحدهما كذب الأخرى فاضطر أن يقول جملته المتقدمة فرارا من التشبيه ، ومع ذلك فقد أورد عليه ابن تيمية التشبيه بالممتنعات لأن هذه الجملة صفة الممتنع (3) ،[[ الدرء 5/324]]
فهذه هي الهوة السحيقة.
ورام قوم الخروج بأن قالوا إن هذه الألفاظ مقولة على الخالق والمخلوق بطريق الاشتراك اللفظي .
قال ابن تيمية ( وقد رام طائفة من المتأخرين كالشهرستاني والآمدي والرازي - في بعض كتبه - ونحوهم ، أن يجيبوا هؤلاء - أي أمثال هذا الضال المذكور آنفا - عن هذا بأن لفظ (الموجود) و(الحي) و(العليم) ، و (القدير) ، نحوها من الأسماء تقال على الواجب والممكن بطريق الاشتراك اللفظي ، كما يقال لفظ المشتري على الكوكب والمبتاع ، وكما يقال سهيل على الكوكب والرجل المسمّى بسهيل ...
ثم قال : وهؤلاء متناقضون في هذا الجواب ، فإنهم وسائر العقلاء يقسمون الوجود إلى واجب ، وممكن ، وقديم ، ومحدث ، وأمثال ذلك ، مع علمهم بأن التقسيم لا يكون في الألفاظ المشتركة ، إن لم يكن المعنى مشتركاً ، سواء كان متماثلاً ، أو متفاضلأ ، ً ومنهم من يخص المتفاضل بتسميته مشككاً ...
ثم قال : فأما مثل سهيل ، فلا يقال سهيل ينقسم إلى الكوكب والرجل إلاّ أن يراد يطلق على هذا وهذا ، ومعلوم أن مثل هذا التقسيم ، لا يراد به الإخبار عن الإطلاق في اللغة ، وإنما يراد به تقسيم المعنى المدلول عليه باللفظ ...
ثم قال : ثم هم مع هذا التناقض موافقون في المعنى للملاحدة ، فإنهم إذا جعلوا أسماء الله تعالى كالحي ، والعليم ، والقدير ، والموجود ، ونحو ذلك مشتركة اشتراكاً لفظياً ، لم يفهم منها شيء إذا سمي بها الله ، إلا أن يعرف ما هو ذلك المعنى الذي يدل عليه إذا سمي الله)(1) . [[ المصدر السابق ]]
ومعلوم أن المعنى الذي يدل عليه لفظ الموجود ، ونحوه المطلق على الباري جل وعز ، لا يمكن أن نفهمه إلاّ إذا كان بين هذا الإطلاق ، واطلاقه على الشاهد من المخلوقات قدراً مشتركاً ، يمكننا به فهم الخطاب ، وهذا الإطلاق هو المسمى بالأسماء المتواطئة ، أو المشككة .
ولهذا فإن الأكثر على أن اسم الوجود حقيقة في الواجب ، والممكن , وأنه مقول عليهما بطريق التواطؤ العام ، أو التشكيك ، إذا جعل المشكك نوعاً آخر(2) .
[[ قال الجرجاني : (المشككك هو الكلي الذي لم يتساو صدقه على أفراده بل كان حصوله في بعضها أولى أو أقدم من البعض الآخر ، كالوجود في الواجب أولى ، وأقدم وأشد مما في الممكن ) التعريفات 216 ، والكلي هو الذي لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه ، وقد أورد على قسم المشكك أن الاسم إذا كان يطلق على القدر المشترك ، من غير دخول الاختلاف بين المسميات في التسمية فهو المتواطئ ، وإن دخل فالاشتراك اللفظي ، فلا حقيقة للمشكك ، وأجاب القرافي : ( أن كلا من المتواطئ والمشكك ، موضوع للقدر المشترك ، ولكن الاختلاف إن كان بأمور من جنس المسمى فهو المصطلح على تسميته بالمشكك ، وإن كان بأمور خارجة عن مسماه كالذكورة ، والأنوثة ، والعلم ـ يعني في اسم الإنسان ـ فهو المصطلح على تسميته بالمتواطئ ) ينظر نهاية السول 2/45ـ 47 ، وقد ذكر ابن تيمية ، أن قدماء نظار الفلاسفة ، على أن المشكك متواطئ باعتبار القدر المشترك ، المجموع 9/147 ، فعلى هذا إن أريد بإطلاق هذه الأسماء على الخالق والمخلوق بطريق التواطيء أن الصدق على الأفراد متفاوت فحق ، بل هو أعظم تفاوت على الإطلاق ، وإن أريد التساوي فلا قطعا ، وأما المشكك فقاطع في المراد ]]
وقد ذكر ابن تيمية أن أحداً لم يجعل هذه الأسماء مقولة بالاشتراك اللفظي إلاّ شرذمة من المتأخرين وقد تقدم بطلانه(3). [[ المجموع 20/442، ومما ذكر صاحب شرح المقاصد ( والجمهور على أنه له ـ أي الوجود ـ مفهوما واحدا ، مشتركا بين الموجودات ، إلا أنه عند المتكلمين حقيقة واحدة ، تختلف بالقيود والإضافات ) 1/341، ثم ذكر أنه مع ذلك قد يطلق على الموجودات بالتشكيك لأنه في الواجب أولى وأقدم وأشد ، على ما فهم من كلامه ( 1/354ـ 355) ]]
وإذا تبين هذا ، فالجواب عن الإشكال المتقدم بأن يقال : نحن نفهم من هذه الألفاظ ما دلت عليه من القدر الذي تتواطأ عليه ، ولا نعلم حقيقة ما يمتاز به الخالق ، غير أننا نعلم أن ما يختص الله به من هذه الأسماء التي فهمنا معناها عند الإطلاق ، أعظم مما يخطر في البال ، أو يدور في الخيال .(/22)
ومثال ذلك العلم ، فعند الإطلاق نفهم من هذه الكلمة معنى ، فإذا قيل (علم الله ) علمنا أن ما اختص الله به من هذا المعنى أعظم من أن نحيط به علماً ، أو نعرف كنهه ، وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلاّ الله ، ولولا هذا القدر المشترك من المعنى الذي يأخذه الذهن عند الإطلاق ، ثم يقيد به عند الإختصاص بالخالق ، ما يتميز به الخالق ، مما لا نستطيع حده بحد ، لما أمكن معرفة الله تعالى بوجه من الوجوه.(1) . [[ ينظر مجموع ابن تيمية 3/10]]
ويتوجه على هذه الجملة سؤال وفي الجواب عنه مزيد تفصيل وتوضيح ، فيقال :
فإن قيل : وكيف يصحّ أن يقال : إن بين أسماء الله ، وصفاته ، وأسماء خلقه وصفاتهم ، قدراً مشتركاً ، ألا يوجب هذا التشبيه ؟
فالجواب : أن التشبيه كلمة ، قد صار فيها إجمال ، بحسب استعمال المتكلمين في هذا الباب ، فيجب أولاً معرفة المحذور من معناها شرعاً.
ذلك أن التشبيه جاء في السمع ، بلفظ التمثيل في قوله تعالى {ليس كمثله شيء } الشورى(11) وهو أدلّ على المقصود ، ومعنى الآية أن الله تعالى لا يماثله شيء فيما يختص به من صفات الكمال ، أما أن تدل على أن ما يتصف الله به من الصفات لا يمكن أن يتصف غيره بجنسها ، فليس فيها ولا دلّت عليه اللّغة ، فقد نفى الله التماثل بين صنفين من بني آدم قال تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } فنفى الله التماثل للتفاوت في بعض الصفات مع اشتراكهم في أكثرها ، ومثل هذا قوله تعالى {وما يستوي الأعمى والبصير} فاطر(19) ، وقوله {وما يستوي الأحياء والأموات} فاطر (22) ، وقوله {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } الحشر (20)(2) . [[ ينظر الدرء 6/7 ، 7/113ـ 114]]
وإذا كانت الأدلة الشرعية لا تدل على أن التشابه من بعض الوجوه ، يقتضي تماثلهما في جميع الأشياء ، فليس في الآية أن وجود قدر مشترك بين الأسماء التي تطلق على الله وخلقه ، يوجب التماثل المنفي بقوله (ليس كمثله شيء) .
ولهذا فقد اعترف أساطين الكلام ، أن ما قد يسمى التشبيه من بعض الوجوه بين الخالق والمخلوق ، لازم لجميع المسلمين ، ويعنون به ما يطلق من الأسماء والصفات على الخالق والمخلوق ولو كان مجرد صفة الوجود ، قال الرازي رحمه الله (وان عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه ، فهذا لا يقتضي الكفر ، لأن المسلمين اتفقوا على أن الله موجود ، وشيء ، وعالم ، وقادر ، والحيوانات كذلك وذلك لا يوجب الكفر)(1) . [[ نقلا عن تلبيس الجهمية 1/382]]
وقال أبو المعالي (وقال في بعض مقالاته - أي أبو الحسن - المشبه من يعترف بالتشبيه ، فأما من ينكره ويثبت مع التجسيم والغلو فيه للرب ، صفاتا لا يجوز ثبوتها إلاّ للمخلوقات فلا نسميه مشبهاً تحقيقاً ، إذ المشبه من يعتقد تشابه الرب ، والمحدث من كل وجه ، إذ حقيقة المثلين ، المتشابهين في جملة الصفات ..)(2) . [[ الشامل للجويني 1/169]]
ولهذا أيضاً أنكر الأئمة الغلو في النفي ، خشية الوقوع في التعطيل ، وذكر ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه قال لا يشبه الأشياء ، وليس كمثله شيء ، ونحو ذلك أما قوله ( بوجه من الوجوه ) فامتنع منها ، وذلك أنه عرف أن مضمون ذلك التعطيل المحض ، فإنه يقتضي أنه ليس بموجود ، ولا شيء ، ولا حي ، ولا عليم ، ولا قدير ، ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى(3) . [[ الدرء 5/183]]
وبهذا يعلم أن إثبات قدر مشترك من معنى الأسماء المقولة على الخالق والمخلوقات ، ليس فيه التمثيل المحذور شرعاً ،غير أنه لا يخفي أن إطلاق هذه اللفظة وهي (أن الله يشبه خلقه من بعض الوجوه) خطأ ، والإمام أحمد إنما أنكر النفي لئلا يتوهم التعطيل ، فكذلك ينبغي أن تمنع هذه الجملة لئلا يتوهم التشبيه الممنوع شرعاً وعقلاً ، وهو (أن يماثل الله شيء من خلقه فيما يجب له من صفاته ، أو أن يثبت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى ) ، إذ هو تعالى ليس كمثله شيء لا في أسمائه ، ولا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، قال الإمام أحمد : ( من قال بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه ، وهذا يحده وهذا كلام سوء)(4). [[ 2/32]]
فهذه المقالة تبيّن أن المحذور من التشبيه ، هو ما يستلزم من نعت الله تعالى بالنقص ، والحدوث ، ولا ريب أن وصفه بخصائص المخلوقين تمثيل له بما هو ناقص حادث ، أما مجرّد نعته بالصفات التي يصحّ إطلاقها على المخلوقات ، مع العلم بقدر مشترك من المعنى في الإطلاقين ، والقطع بأن ما اختص الله به لا يماثل ما يختص به المخلوق ، فليس في هذا نقص بوجه من الوجوه.(/23)
قال أبو المعالي رحمه الله رداً على الفلاسفة ومن تابعهم في نفي الصفات (ويقال لهم أتثبتون الصانع المدبر أم لا تثبتونه ؟ فإن أثبتوه لزمهم من الحكم بإثباته ما حاذروه فإن الحادث ثابت فاستويا في الثبوت ، ...ثم قال : وإن قالوا نعتقد الثبوت ولا ننطق به ، قلنا كلامنا في الحقائق لا في الإطلاقات ، فإن قالوا فصفوا الإله بالثبوت والوجود ولا تنطقوا به ، واعتقدوا وجود الحادث ولا تنطقوا به لتنتفي المماثلة لفظاً ، فإن المماثلة لفظاً مما يتوقى في العقائد ، قلنا يتوقى اللفظ لأدائه إلى الحدوث أو إلى النقص ، فكل ما لا يؤدي إلى الحدوث أو إلى النقص لا نكترث به ، ثم محاذرة التعطيل أولى من محاذرة التشبيه )(1) . [[ نقلا عن الدرء 5/189]]
وهذا القدر المشترك الموجود في الأسماء المشككة ، الذي به أمكن فهم خطاب الله تعالى عن نفسه ، وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، لا يستلزم وجود شيء في الخالق هو بعينه في المخلوق ، وإنما هو أمر مطلق كلي ، ولا يوجد إلاّ في الذهن ، ولا يختص بأحدهما دون الآخر ، فلا يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالباري ولا فيما يختص بالبرية ، وعند التخصيص يقال علم الله ، وحياة الله ، فهذا ذكر لما يتميز به الخالق فلا يماثله فيه المخلوق ، ولو كان القدر المشترك هو شيء موجود في الخارج يشترك فيه الباري وخلقه ، لكان هذا تشابها بينهما والشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه له ما وجب له وامتنع عليه ما امتنع عليه(2) . [[ المجموع 3/74ـ 75]]
فثبت بهذا أن إثبات القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه ولا نفي ما يستحقه ، فليس ممتنعاً ومثال هذا في المخلوقات ، أن اسم الوجود يطلق بالتواطؤ على العرش ، والبعوض ، فيقال هذا موجود ، وهذا موجود ، لا تفاقهما في مسمى الوجود ، وهو يطلق عليهما بالتواطؤ قطعاً ، لأن قدراً مشتركاً من المعنى يوجد بينهما ، ولا ريب أن عاقلاً لا يقول إن وجود العرش كوجود البعوض ، لاتفاقهما في مسمى الوجود(1) . [[ المصدر السابق 3/10]]
ولا أن الاسم يطلق عليهما بالاشتراك اللفظي فقط ، ولكن قد يتوهم متوهم ، أن هذا القدر المشترك هو شيء موجود في الخارج يشتركان فيه ، وليس كذلك بل هو وجود ذهني محض ولا يوجد في الخارج إلاّ الأعيان التي لكل واحد منها ما يخصه لا يشاركه فيه شيء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمي صفاته بأسماء ، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره ، وسمي بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم ، مضافة إليهم ، توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص ، ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص اتفاقهما ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص ) ، وقال أيضاً ( سمي الله نفسه حيا فقال ( الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم ) وسمي بعض عباده حياً ، فقال ( يخرج الحي من الميت ) وليس هذا الحي مثل هذا الحي ، لأن قوله الحي اسم لله مختص به وقوله (يخرج الحي من الميت ) اسم للحي المخلوق مختص به ، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج ، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسمين وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق)(2). [[ المصدر السابق ]]
وقال أيضاً ( هكذا القول في جميع الصفات ، وكل ما تثبته من الأسماء والصفات فلابد أن يدل على قدر تتواطأ فيها المسميات ، ولولا ذلك لما فهم الخطاب ، ولكن نعلم أن ما اختص الله به وامتاز عن خلقه ، أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال)(3)
[[ المصدر السابق ( 3/24) ، وانظر في هذا البحث ، والجواب على الإشكال المتقدم في أول التنبيه شرح الطحاوية ص 103ـ 107، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ( اتفاق المسمين في بعض الأسماء والصفات ، ليس هو التشبيه ، والتمثيل التي نفته الأدلة السمعيات ، والعقليات ، وإنما نفت اشتراكهما فيما يختص به الخالق ، مما يختص بوجوبه ، أو جوازه ، أو امتناعه ، فلا يجوز أن يشركه في مخلوق ، ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى ) المجموع 3/23]]
فإن قيل فإن التفاوت بين الخالق والمخلوق أعظم من أن يتصور ، بقدر ما بينهما من التفاوت في الذات ، فهلا مُثِّل لهذا بمثال في المخلوقات ، يقرب القول من التصور .
فالجواب نعم ، هذه الروح نفهم ذهابها ، وإيابها ، وصعودها ، ونزولها ، والعقول قاصرة عن تكييفها ، لأنّا لم نشهد لها نظيراً ، فلم يمنع عدم مشاهدة نظيره من فهم الخطاب ، ولم يمنع جهلنا بكيفية الروح ، أن نعلم صفاتها التي أخبر الله عنها في القرآن .(/24)
وكذلك ما في الجنة ، ماءها ، وثمارها ، وسائر ما فيها من النعيم ، ليس كما في الدنيا وما بينهما من التفاوت عظيم حتى قال ابن عباس (ما في الجنة في الدنيا إلاّ الأسماء) (1) . [[ الأثر رواه الطبري في التفسير 1/392 ، وهناد بن السري في الزهد 1/49 ، وعزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى الضياء في المختارة ، وصححه محققه ، وعزاه إلى أبي نعيم والبيهقي رقم ( 5410) ، وزاد في الدر المنثور ممن رواه ، مسدد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ( 1/38) ، وانظر في المثلين ، الروح والجنة ، المجموع 3/28ـ 33، 5/346 ـ 350]]
ثم نحن نفهم الخبر عن الجنة ، ولولاه ما هتكت نحور المجاهدين ، ولا تشققت أقدام العابدين .
فالله عز وجل أعظم وأجل ، قال ابن تيمية (فإذا استعملت خاصة معينة - أي الأسماء المشككة التي تسميها النحاة أسماء الأجناس - دلت على ما يختص به المسمى ، لم تدل على ما يشركه فيه غيره في الخارج .
فإن ما يختص به المسمى لا شركة فيه بينه وبين غيره ، فإذا قيل علم زيد ، ونزول زيد ، واستواء زيد ، ونحو ذلك لم يدل هذا الأعلى ما يختص به زيد من علم ونزول ونحو ذلك ، لم يدل على ما يشركه فيه غيره .
لكن لما علمنا أن زيدا نظير عمرو ، علمنا أن علمه نظير علمه ، ونزوله نظير نزوله ، واستواءه نظير استوائه ، فهذا علمناه من جهة القياس ، والمعقول ، والاعتبار ، لا من جهة دلالة اللفظ ، فإذا كان هذا في صفات المخلوق ، فذلك في الخالق أولى .
فإذا قيل : علم الله ، وكلام الله ، ونزوله ، واستواؤه ، ووجوده ، وحياته ، ونحو ذلك لم يدل ذلك على ما يشركه فيه أحد من المخلوقين بطريق الأولى ، ولم يدل ذلك على مماثلة الغير له في ذلك ، كما دل في زيد وعمرو ، لأنا هناك علمنا التماثل من جهة القياس والاعتبار ، لكون زيد مثل عمرو .
وهنا نعلم أن الله لا مثله ، ولا كفؤ ، ولاند ، فلا يجوز أن نفهم من ذلك أن علمه مثل علم غيره، ولا كلامه مثل كلام غيره ، ولا استواءه مثل استواء غيره ، ولا نزوله مثل نزول غيره ، ولا حياته مثل حياة غيره ، ولهذا كان مذهب السلف والأئمة إثبات الصفات ونفي مماثلتها لصفات المخلوقين)(1) . [[ المصدر السابق 5/329]]
وبهذا يمكننا أن نقول فيما نطلقه على الله كصفة الوجه ، واليد ، والمجيء ، والاستواء ، أن القول فيها كالقول في صفة العلم ، والسمع ، والبصر وغيرها ، نعلم المعنى عند الإطلاق ، ونستطيع به فهم الخطاب ، ونجهل كيفية ما يختص الله به من هذه الصفات عند التخصيص .
وقد يقال إن صفة السمع ، والبصر، والعلم ، وأمثالها ، يمكن تصور ما تقدم فيها ، أما الوجه ، واليد ، والاستواء ، والنزول ، وأمثالها ، فإنا لا نعقل منها إلاّ ما هو جارحة ، وحركة ، وانتقال ، فكيف يقال نعلم المعنى ، ولا نعلم ما يختص بالله .
كما قال الايجي في المواقف ( الوجه وضع للجارحة ، ولم يوضع لصفة أخرى ، بل لا يجوز وضعه لما لا يعقله المخاطب ، فتعين المجاز ، ثم ذكر أنه الوجود)(2) . [[ المواقف في علم الكلام للايجي 298]]
ولا ريب أن قائل مثل هذا لم يحسن النظر فيما يقول ، فإن السمع لا نعقل منه في المخلوق إلاّ ما هو عرض متعلق بعضو ، والبصر انعكاس صورة المرئيات في عضو ، والإرادة ميل القلب إلى الشيء ، ومعلوم أنه لا يقال لا نعقل من هذه الصفات شيئاً بالنسبة إلى الله .
وأما ما ذكره الايجي في المواقف فقد أجاب عنه أبو بكر ابن فورك قال (فأما ما ذهب إليه المعتزلة من تشبيه ذلك بوجه الثوب، ووجه الحائط ، فغلط من التمثيل ، من قبل أن وجه الثوب ، والحائط ، ليس هو نفس الثوب ، والحائط ، بل هو ما واجه به ، وأقبل به ، وكذلك وجه الأمر ما ظهر منه في الرأي الصحيح ، دون ما لم يظهر ، وإذا لم يجز في اللغة استعمال معنى الوجه على معنى الذات على الحقيقة في موضع ، وقد ورد إطلاق الكتاب والسنة بذلك ، لم يكن لما ذهبت إليه المعتزلة وجه ، ووجب أن يحمل الأمر فيه على ما قلنا أنه وجه صفأأة ، ولا يقال هو الذات ولا غيرها)(3) . [[ مشكل الحديث وبيانه 173]]
فهذا يبين أن الوجه في اللغة مستقبل كل شيء ، قال ابن القيم ( والوجه في اللغة مستقبل كل شيء ، لأنه أول ما يواجه منه ، ووجه الرأي والأمر ما يظهر أنه صوابه ، وهو في كل بحسب ما يضاف إليه ، فإن أضيف إلى زمن كان الوجه زمانا ، وإن أضيف إلى حيوان ن كان بحسبه ، وإن أضيف إلى ثوب أو حائط كان بحسبه ، وإذا أضيف إلى من (ليس كمثله شيء) كان وجهه تعالى كذلك .
وكذلك اليد تضاف إلى الملك ، والجن ، والحيوان ، والإنسان ، وهي في ذلك كله صفات متعلقة بالذات ، ثم إذا أضيفت وخصصت ناسبت ما أضيفت إليه ، فاختلفت اختلافاً عظيماً ، فإذا أضيفت إلى من ليس كمثله شيء كانت كذلك(1) . [[ ينظر مختصر الصواعق المرسلة 419]]
ولا ينتقض هذا بأن اليد تطلق ويراد بها القدرة والنعمة - فتخرج عن كونها صفة متعلقة بالذات غير القدرة والنعمة - وذلك لثلاثة أوجه .(/25)
الأول : قال ابن القيم : ( إن نفس هذا التركيب المذكور في قوله (خلقت بيدي) يأبى حمل الكلام على القدرة ، لأنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه ثم عدى الفعل إلى اليد ، ثم ثناها ، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قولك كتبت بالقلم ، ومثل هذا نص صريح لا يحتمل المجاز بوجه)(2) . [[ المصدر السابق 404]]
الثاني : قال الباقلاني في التمهيد ( ويدل على فساد تأويلهم أيضاً - أي بالقدرة والنعمة - أنه لو كان الأمر على ما قالوه ، لم يغفل عن ذلك إبليس وعن أن يقول ( وأي فضل لآدم عليّ يقتضي أن أسجد له ، وأنا أيضاً بيدك خلقتني ، التي هي قدرتك ، وبنعمتك خلقتني ؟ وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيده دليل على فساد ما قالوه )(3)،(4). [[ ينظر في مثال صفة اليد وأدلة إثباتها صفة لله تعالى مختصر الصواعق ص 298، وص 305، وص 408]]
الوجه الثالث : قال ابن القيم ( إن يد القدرة والنعمة لا يعرف استعمالها البتة إلاّ في حق من له يد حقيقية ، فهذه موارد استعمالها ، من أولها إلى آخرها ، مطردة في ذلك ، فلا يعرف العربي خلاف ذلك ، فاليد المضافة إلى الحي ، إما أن تكون يداً حقيقية أو مستلزمة للحقيقية ، وأما أن تضاف إلى من ليس له يد حقيقية ، وهو حي متصف بصفات الأحياء ، فهذا لا يعرف البتة ، وسر هذا أن الأعمال ، والأخذ ، والعطاء ، والتصرف ، لما كان باليد ، وهي التي تباشره ، عبروا بها عن الغاية الحاصلة بها وهذا ، يستلزم ثبوت أصل اليد حتى يصحّ استعمالها في مجرد القوة والنعمة والإعطاء)(1) [[ ينظر مختصر الصواعق 406]]
وهذان المثالان يوضحان أن الوجه واليد ، فيما أضيفا إليه من الأمور يدلان على قدر من المعنى متواطئاً ، مشتركاً فيها ، هو صفة من صفات المضاف إليه ، وعند التخصيص تختلف هذه الصفة ، اختلافاً بحسب اختلاف المضاف إليه ، والقدر الذي حصل به الاشتراك غير الذي حصل به الامتياز ، وبهذا علمنا أنها صفات لله تعالى، وجهلنا حقيقة ما امتاز الله به من هذه الصفات .
وعلى هذين المثالين تقاس سائر الصفات الفعلية والذاتية ، كالاستواء والنزول ، والعينين ، يعلم أنها صفات لله من حيث يعلم معناها في لغة التخاطب ، ونجهل حقيقة ما يمتاز الله به وهو التأويل الذي لا يعلمه إلاّ الله ، ويعلم كذلك من أحكام هذه الصفات ما جاء في السمع ، فكما علمنا أن من أحكام صفة السمع أن الله يسمع المسموعات ، ومن أحكام صفة البصر أن الله يبصر المبصرات ، وأن الله يعلم كل شيء بصفة العلم ، كذلك نعلم أن من أحكام صفة اليد أن الله يقبض بها السموات ، وأنه خلق آدم بها ففضله على سائر من خلقه بكلمة كن .
وهذا هو المخرج الصحيح من الأشكال المتقدم في أول التنبيه ، وهو الصراط المستقيم الذي سار عليه سلف الأمة ، والذي هو في غاية الاستقامة والتناسب ، والسر في عدم تناقض مذهب السلف ، عدم تفريقهم بين الصفات ، وجعلها فرعاً عن الذات ، واتباع السمع ومن اتبعته فلا يختلف قوله ، قال تعالى (ولوكان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً ) .
ويدل على صحة مذهبهم أدلة كثيرة جداً ، وفيما يلي من هذا المبحث أهم الأدلة من الكتاب والسنة والمعقول الصريح .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
ثالثا : الأدلة على صحة مذهب السلف في الصفات ، وإبطال مذهبي المفوضة والمؤولة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان ما تقدم من هذا المبحث في تحقيق أن مذهب السلف الذي لم يختلفوا فيه في الصفات ، هو أنها معلومة المعنى ، ولا تصرف عن ظاهرها ، بمعنى كونها صفات لله غير اّ أن كيفياتها لا يعلمها إلاّ الله تعالى :
وفيما يلي ذكر الأدلة على صحة هذا المذهب ، ومن المفيد قبل الخوض في ذلك ذكر الأقسام الممكنة في الأقوال في هذا الباب ، ليكون محل النزاع أكثر وضوحاً ، ويتضح كيف تتوجه الأدلة بتأكيد مذهب السلف ونقض غيره وذلك :
أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام :
قسمان يقولان تجري على ظاهرها .
وقسمان يقولان على خلاف ظاهرها.
وقسمان يسكتان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (أما الأولان فقسمان ، أحدهما من يجريها على ظاهرها ، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين ، فهؤلاء المشبهة ، ومذهبهم باطل .
والثاني من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله ، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث أو عرض قائم به ، فالعلم والقدرة والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض ، والوجه واليد والعين أجسام .
فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات ، بأن له علما ، ً وقدرة ، وكلاماً ، ومشيئة ، وإن لم يكن ذلك عرضا ، يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين ، جاز أن يكون وجه الله ، ويداه ، وعينه ، ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوق .(/26)
وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف ، ويدل عليه كلام جمهورهم وكلام الباقين لا يخالفه ، وهو أمر واضح فإن الصفات كالذات ، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقية ، من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين ، فصفاته ثابتة حقيقية من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين ... ثم قال : أما القسمان اللذان ينفيان ظاهرهما أعني الذين يقولون ليس لها في الباطن مدلول صفة الله تعالى قط ... ثم ذكر أقسام هؤلاء وأن منهم من ينفيها كلها ، ومنهم من يثبت سبعا ، أو ثمان ، أو خمسة عشر ، ثم ذكر القسمين الأخيرين وأن منهم من يقول يجوز أن يراد ظاهرها اللائق بالله ويجوز أن لا يكون المراد صفة لله.
ومنهم من يمسك عن ذلك كله ولا يزيدون عن تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين عن هذه التقديرات )(1) . [[ ينظر المجموع 5/113ـ 117، 16/398ـ399 ]]
وهذا التقسيم يكشف جميع طرق المتنازعين في هذا الباب ، وإذا كانت طريقة التشبيه باطلة بالإجماع ، فلم يبق في ساحة التنازع غير طريقة التفويض بقسميها - وهما القسمان الساكتان - مع قسم الذين يقولون لا نعلم ما أريد بها إلاّ أن ظاهرها غير مراد ، لأنهم مؤيدون لأهل التفويض في أن نصوص الصفات لا يعلم معناها ، وطريقة التأويل الذين يعينون المراد ، وطريق السلف .
وفيما يلي ذكر أهم ما يستدل به على أن نصوص الصفات معلومة المعنى ،وأن تأويلها لا يجوز ، وهو مذهب السلف ، وبذلك يتبين بطلان طريقة التفويض وطريقة التأويل ، فلنبدأ أولاً بذكر أدلة بطلان طريقة التفويض:
الدليل الأول :
ـــــــ
أن الله تعالى أمر بتدبر القرآن أجمع ولم يستثن منه شيئاً ، قال ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ) ص (29) ، وقال {أفلا يتدبرون القرآن } النساء (82) ، وقال (أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباؤهم الأولين ) المؤمنون (68) ، وفي هذه الآية حض الكفار والمنافقين على تدبر القرآن فدل على إمكانهم فكيف بالمؤمنين.
وقال تعالى ( إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون) ، ولم يستثن منه شيئاً لا يعقل ولا ريب أن أعظم ما دل عليه القرآن ما أخبر الله به عن صفاته ، فكيف يذم من تدبر أعظم ما دلّ عليه وتعلم معانيه وأحكامه ، كيف والقرآن مليء بآيات الصفات ، ومنها التي أدعي أنها توهم التشبيه كالاستواء في سبع آيات ، والمجيء ، والإتيان ، والتجلي ، والعين ، والوجه ، واليد ، وذكر ما يدل على أنه فوق العرش ، في آيات كثيرة لا تحصي إلاّ بكلفة.
الدليل الثاني :
ـــــــ
أن الله تعالى ذم من لا يفهم القرآن فقال {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستوراً ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا } الإسراء (45) ، وقال تعالى { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } النساء (78) ، فلو كان المؤمنون لا يفقهون أعظم ما دل عليه لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى به .
وقال تعالى { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً صم بكم عميٌ فهم يعقلون } (171) ، وقال ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أتوا العلم ماذا قال آنفا ، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم } محمد (16) ، فقد ذم من لم يكن حظه من السماع إلاّ سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه ، فكيف يكون أراد من نصوص الصفات ما ذمه الله من السماع الخالي من الفهم والعقل(1) . [[ ينظر مجموع ابن تيمية 5/158ـ 159]]
وقال أيضاً { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلاّ أماني وإن هم إلاّ يظنون } البقرة (78) ، قال ابن جرير { لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله ولا يدرون ما أودعه من حدوده وأحكامه وفرائضه كهيئة البهائم } ثم روى عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل هذا(2) . [[ تفسير ابن جرير 1/259ـ 260]]
الدليل الثالث :
ـــــــ
أن الله أخبر عن القرآن أنه أنزله تبيانا لكل شيء قال تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } النحل (89) ، ومقتضى كونه تبيانا لكل شيء وجود البيان الشافي فيما يجب ويستحيل ويجوز بالنسبة لله فيه .
الدليل الرابع :
ــــــــ
أن الله أخبر عن القرآن وغيره من الكتب الإلهية أنه حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه قال تعالى { وأنزلنا معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} البقرة (213) ، والقول بأن آيات الصفات لا يعلم معناها إلاّ الله يلزم منه أن الخلاف الذي وقع بين أهل هذا الدين في أعظم مسائله ليس في القرآن الحكم فيه وهذا خلاف ما دل عليه القرآن من أنه حاكم بين الناس .
الدليل الخامس:
ــــــــ
أن القرآن مليء بآيات الصفات كما تقدم والقول بأنها لا يعلم معناها ، ويجب فيها التفويض الكلي يلزم منه أن الله تكلم في كثير من القرآن بما لا فائدة فيه وهو محال إذ يلزم منه العبث وهو نقص.
الدليل السادس :
ــــــــ(/27)
أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تكلم في نصوص الصفات في أحاديث كثيرة وفي الصحيحين من ذلك جملة وافرة ، فمما رواه البخاري : قال عليه الصلاة والسلام (لما خلق الله الخلق كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش - إن رحمتي تسبق غضبي)(1) ، [[ فتح الباري 13/384]]
وقال (إن الله لا يخفي عليكم أن الله ليس بأعور وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى)(2) [[ فتح الباري رقم الحديث 38913] .
وقال ( يجمع الله المؤمنين يوم القيامة كذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا يريحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فيقولون يا آدم أما ترى الناس ، خلقك الله بيده ...الحديث)(3) [[ فتح الباري 13/392]] .
وقال (يد الله ملآى لا يغيضها نفقة .. وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفعه)(4) [[ فتح الباري 13/393]] .
وعن عبد الله بن مسعود ( أن يهودياً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً له)(5) [[ المصدر السابق ]]
وقال (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته)(6) [[ المصدر السابق 13/419]]
وقال (إنكم سترون ربكم عيانا)(7) [[ المصدر السابق ]] .
وقال ( إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل إن الله قد أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ... الحديث)(1) [[ المصدر السابق 13 / 461]] .
وقال (يتنزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفر ني فاغفر له)(2) [[ المصدر السابق 13/466]] .
وقال (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض)(3) .[[ المصدر السابق 13/367]]
وهذه النصوص غيض من فيض ، فإنها لكثرتها قد صنفت فيها مصنفات خاصة ، يكثر فيها ذكر أحاديث الصفات ، كالكتب المسماة بكتب السنة ، ككتاب السنة لابن أبي عاصم ، وللمروزي ، ولعبد الله ابن أحمد، وللالكائي ، والصفات للدارقطني ، والتوحيد لابن خزيمة ، وغيرها وفيها من النصوص، ما لا يحصى إلاّ بكلفة ، فهل يقال إنها كلها لا يفهم معناها ، والواجب السكوت عنها ، وإن هذا هو مذهب السلف؟ وإذا قيل إن فائدة ذكرها في القرآن التعبد بتلاوتها فحسب - مع أن هذا باطل - فما فائدة ذكرها في الأحاديث ، وهل يلزم من ذلك إلاّ نسبة العبث إلى مقام النبوة الرفيع.
الدليل السابع :
ـــــــ
أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تكلم ببعض الأحاديث فجاءت كالتفسير للقرآن كما قال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) النحل (44) ، فمن هذه الأحاديث قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض}(4) [[ تقدم تخريجه قريبا ]]
فهذا كالتفسير لقول الله تعالى (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } ، ومنها ما رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (قال قلت يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ، قال هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كان صحواً قلنا لا ، قال فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلاّ كما تضارون في رؤيتهما ...وفي الحديث إن الله يأتي يوم القيامة لمن كان يعبده من بر أو فاجر فيقول ( أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلاّ الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونها ؟ فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحداً ...لحديث )(1). [[ ينظر فتح الباري 13/421]]
وأول هذا الحديث كالتفسير لقول تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) القيامة (22) ، (23) ، وقوله يكشف عن ساق فما بعده كالتفسير لقول الله تعالى (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) ، وذكر أن الله يأتي لعباده كالتفسير لقول الله {وجاء ربك والملك صفا صفا} الفجر (22).(/28)
ومنها ما رواه البخاري أيضاً قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ( الله أرحم بعباده من هذه بولدها ) هو كالتفسير لقول الله تعالى {ورحمتي وسعت كل شيء} الأعراف (156) ، ومعلوم هذه الصيغة (أرحم) قاطعة في إرادة الحقيقة فكيف يصنع من يقول الرحمة هي إرادة الثواب(2) . [[ صيغة ( أفعل التفضيل ) تدل على أن من هي له ، فيه زيادة على غيره في المعنى الذي هي مشتقة منه ، ينظر شرح الوافية نظم الكافية لابن الحاجب ص 331، فقوله ( أرحم ) دال على أن الصفة تطلق على الخالق والمخلوق ، وهي في الخالق أعلى وأكمل ، وقد ورد في سبب الحديث أن امرأة التقطت ولدها من السبي ، فألصقته بثديها ، فقال أترون هذه تلقي ولدها في النار ، أو كما قال ، قالوا لا ، فذكر الحديث ، وينظر في هذا المعنى ، مختصر الصواعق لابن القيم ص 379]]
فإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتكلم بما هو كالتفسير للقران ، ويأتي بألفاظ أخرى تدل على نفس معاني القرآن في هذا الباب ، فكيف يقال لا يعمل معاني القرآن ، ، وهل يفسر القرآن بما لا يعلم معناه .
الدين الثامن :
ـــــــ
إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيجيبهم بما فيه الخبر عن بعض الصفات ، ومعلوم أن الجواب المشتمل على ما لا يفهم معناه ، عيّ منزه عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فمن ذلك ما رواه مسلم عن مسروق قال : سألنا عبد الله (هو ابن مسعود) عن هذه الآية {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } ، قال : أما إنا سألنا عن ذلك فقال (أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فما رأوا أنهم لن يتركوا من يسألوا ، قالوا : يارب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا)(1) . [[ رواه مسلم حديث رقم 1887]]
فهذه الألفاظ المذكورة في الجواب من ذكر اطلاع الله إلى الشهداء ، وخطابه لهم مباشرة ، وفعل ذلك ثلاث مرات ن وهم مع ذلك في جواره مما يفسر قوله تعالى (أحياء عند ربهم يرزقون) ، إما أنها معلومة المعنى فيكون السائل قد استفاد من الجواب، وإما أن يقال لا يعلم معنى هذا ، ولا نتكلم في ذلك فينسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العبث والعيّ.
الدليل التاسع :
ـــــــ
أن القول بأن آيات الصفات أو بعضها لا يعلم معناها يلزم منه أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، لم يكن يفهم معان هذه الآيات كقوله تعالى (استوى على العرش) ، (وجاء ربك) ، (تجلى ربك) ، (ويبقى وجه ربك) ، (خلقت بيدي) ، وغيرها ولا يفهم معاني ما كان يتكلم به من أمثال ما تقدم في الدليل السادس ، ومعلوم أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، ربما تكلم بالأحاديث الطويلة ، وأدخل فيها بعض الألفاظ التي تدل على الصفات ، مثل حديث الشفاعة الذي ذكر فيه الإتيان والتكليم وغيرها ، فهذا القول يلزم منه أنه كان إذا أتى على هذه الألفاظ سرده دون أن يعلم معناها ، إذ لو كان يعلم دلالتها على شيء ، لوجب عليه بيانه للناس وعدم كتمانه وقد علم أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقل يوما هذه الألفاظ لا تعتقدوا ظاهرها ، فإن لها معنى لا يعلمه إلاّ الله(2) . [[ ينظر في هذا الدليل المجموع 16/412ـ 413]]
الدليل العاشر:
ـــــــ
وهو أن هذا القول ، أعني القول بتفويض معاني نصوص الصفات ، قد يفتح باب الإلحاد ، فيقول الملحدون إن نبيّ هذا الدين لا يعرف معاني ما أنزل عليه ، وأصحابه الذين علمهم كذلك مثله ، فينبغى طلب هذه الأمور المهمة من جهة غيره ، فإن قيل لهم هذا مما لا يمكن لاحد منعوا ، وقالوا : إن ما في القرآن : إن ذلك الخطاب لا يعلم معناه إلاّ الله ، لكن من أين لكم أن الأمور الإلهية لا تعلم بالأدلة العقلية التي يقصر عنها البيان بمجرد الخطاب والخبر(1) . [[ ينظر مجموع ابن تيمية 16/414]]
الدليل الحادي عشر:
ـــــــــــ
إنا نعلم أن الصحابة كانوا يعلمون معاني آيات الصفات لأن العادة المطردة توجب اعتناء السلف بالكتاب المنزل عليهم لفظاً ومعنى ، فإن من قرأ كتاباً في الطب والحساب وغير ذلك فلابد أن تكون نفسه راغبة في فهمه وتصور معانيه ، فكيف بالذين قرءوا كتاب الله الذي به هداهم وعرفهم الحق من الباطل ، فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات بل رغبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تعريفهم معاني القرآن أعظم من تعريفهم حروفه.(2) [[ المصدر السابق 5/157]]
خلاصة ما تقدم:
ـــــــــ(/29)
أن هذه الحجج الدامغة ، دافعة لا محالة ، هذه المقالة ، إلى الحضيض ، فلم يبق إلاّ أن يقال هذه النصوص المخبرة عن الله سواء قيل كلها أو بعضها ، معناها معلوم للراسخين في العلم ، ثم لا يخلو الأمر إما أن يقال ذلك المعنى هو ظاهرها وأنها صفات لله تعالى لائقة به ، وإما أن يقال بل معناها غير ذلك ولا تدل على صفات الله وهي طريقة التأويل.
@@@@@@@@@@@@@
الأدلة على بطلان طريقة التأويل :
ــــــــــــــــــ
ويدل على بطلانها أدلة :
الدليل الأول :
ــــــ
أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد (وهو حقيقة التأويل) ، وقد وصف الله آياته بأنها بينات ، مبينات وقال (ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) ، فكيف يقال إن أعظم ما دل عليه القرآن مصروف عن ظاهره(1) . [[ ينظر مختصر الصواعق ص 38 ]]
الدليل الثاني :
ـــــــ
أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تلا آيات التنزيل على العام والخاص وتكلم بألفاظ كثيرة في هذا الباب للعلماء والأعراب ، ولو كان ظاهره غير مراد لوجب أن يقترن بهذا كله ما يبين أن ما أتلوه عليكم وأذكره لكم من النزول وإتيان الرب يوم القيامة ، والأصابع ، وأن الله ليس بأعور ، وأن يد الله ملآى وبيده الأخرى الميزان وإن الله كتب في كتاب عنده فوق العرش ، وأني لا زلت اختلف بين ربي وموسى ليلة المعراج في شأن الصلاة .
أن ذلك كله ليس على ظاهره ، وإياكم أن تعتقدوه على ظاهره فلما علم أنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينطق قط بمثل هذا لاح أنه أراد أن يعتقد ظاهره مع التنزيه(2) . [[ ينظر المجموع 5/67، وأضواء البيان2/286]]
يزيده وضوحاً: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان يذكر أحاديث الصفات في المجامع ، وعلى المنبر ، ولم يذكر مع ذلك ما يدل على أنه يريد خلاف الظاهر من أن هذه صفات الله وأفعاله ، فمن ذلك ما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر قال : رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر وهو يقول يأخذ الجبار عز وجل سماواته وأرضه بيديه فيقول أنا الله ، أنا الملك ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه ، حتى أني أقول أساقط هو برسول الله -صلى الله عليه وسلم- (3) .
[[ رواه مسلم حديث رقم 2788وما بعده ]]
ومن ذلك ما رواه مسلم أيضاً من حديث جابر في ذكر حجة الوداع ، وفيه أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله ، وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ، قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة ، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم أشهد ، اللهم اشهد )(4) . [[ رواه مسلم حديث رقم 147]] ، وذكره اللهم فاشهد مع إشارته إلى السماء في هذا المجمع العظيم ، في خطبة يوم عرفة ، الذي يحضره عوام المسلمين وعلماؤهم ، مع عدم اقتران ذلك بما يصرف هذا الظاهر ، قاطع في إرادة الظاهر .
الدليل الثالث:
ـــــــ
أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سأل بعض المؤمنين عن بعض ما يتعلق بهذا الباب فلما أجيب بالإثبات سكت عن المجيب بل جعل ذلك دليلاً على صحة الإيمان ومعلوم أن هذا قاطع في عدم إرادة خلاف الظاهر ، ومن ذلك ما رواه مسلم عن عطاء بن الحكم السلمي ، وفي الحديث أنه ضرب جارية له قال : فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعظم ذلك علىّ ، قلت يا رسول الله أفلا أعتقها ، قال : إئتني بها ، فأتيته بها فقال: أين الله؟ قالت في السماء ، قال من أنا قالت أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة (1). [[ رواه مسلم حديث رقم 573]]
قال الذهبي بعد هذا الحديث (هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وغير واحد من الأئمة في مصنفاتهم يمرونه كما جاء ولا يتعرضون له بتأويل ولا تحريف ، وهكذا كل من يسأل أين الله ؟ يبادر بفطرته ويقول في السماء ففي الخبر مسألتان : إحداهما شرعية قول المسلم أين الله ؟ وثانيهما قول المسؤول : في السماء ، فمن أنكر هاتين المسألتين فكأنما ينكر على المصطفى(2). [[ ينظر الذهبي مختصر العلو ص 81]]
الدليل الرابع :
ــــــــ
وهو إجماع السلف على عدم تأويل هذه النصوص بلا استثناء شيء منها ، وقد تقدم ذكر ما يدل على أن هذا إجماع متيقن ، والإجماع حجة قاطعة فيجب المصير إليه ، وقد اعترف أكابر أهل التأويل أن السلف لم يؤولوا هذه الصفات لكنهم أرادوا بهذه المقالة أنهم ـ أي السلف ـ لم يعينوا المراد مع اعتقادهم أن هذه النصوص لا تدل على الصفات - أي النصوص التي توهم التشبيه - وقد تقدم بطلانه ، أي بطلان زعم أهل التأويل هذا .(/30)
غير أنه يستفاد من قول أهل التأويل هذا ، أن أحداً من السلف لم ينطق بلفظ يدل على تأويل نصوص الصفات باتفاق الفريقين ، وممن ذكر هذا عن السلف أمام الحرمين أبو المعالي في النظامية ومنه قوله (فلو كان تأويل هذه الآي ، والظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة ، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع(1)، [[ النظامية ص 33 ]] ، وقال ابن حجر بعد أن ذكر قول أبي المعالي هذا ( وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم الأئمة ، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة)(2) [[ فتح الباري 13/406ـ 407 ، وانظر ما نقل عن الأئمة المذكورين ، وقوله بشهادة صاحب الشريعة يقصد بذلك حديث ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم .. الحديث ) رواه البخاري ، ينظر فتح الباري 5/259]]
الدليل الخامس :
ـــــــــ
وهو أن التأويل قد صار إليه أهله ، لما قالوا إن ظاهر كثير من نصوص الصفات هو التشبيه والتجسيم فلابد من إرادة غير الظاهر ، وهذا يلزم منه أمور باطلة تدل على أن هذا القول باطل وهي :
(1) أن يكون ظاهر القرآن والسنة كفراً وضلال في مواضع كثيرة ، وهذا ينافي بالهدى والرحمة وشفاء الصدور في كثير من الآيات (3). [[ ينظر أضواء البيان 2/285]]
(2) أن يكون الحق والصواب في هذا الباب العظيم لم يبين بياناً واضحاً في القرآن، بل أريد من العباد أن يفهموا خلاف ظاهر كثير من نصوصه من قوله (ليس كمثله شيء ) كما زعموا ، وهذا شبيه بالألغاز ينافي وصف القرآن بأنه تبيان لكل شيء .
(3) أن يكون خطاب الله ورسوله في هذا الباب قد تنوع تنوعاً كثيراً بما ظاهره خلاف الحق وهذا واضح في مسألة العلو ، فقد جاء تارة بأنه (استوى على العرش) ، وتارة (بأنه القاهر فوق عباده) وتارة بأنه ( العلي الأعلى) ، وتارة (بأنه الملائكة تعرج إليه) ، وتارة (بأن الكتاب ينزل من عنده) ، وتارة (بأنه في السماء) ، وتارة (بأنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء ) ، وتارة (بأن النبيّ عرج إليه وكلمه) ، وتارة ( بأن المؤمنين يرونه فوقهم يوم القيامة) ، وغير ذلك ، ثم أريد من العباد ألا يعتقدوا أن الله فوق العالم بل يعتقدوا أنه ليس في شيء من الجهات ، ولا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا يشار إليه بالإشارة الحسية ، ولا يأتي لفظ واحد يدل نصّاً ولا ظاهراً على هذه العقيدة بل يترك لكافة المؤمنين أن يعتقدوا ذلك من محض عقولهم وقدرتهم على استنباط ذلك من قوله (ليس كمثله شيء )(1) . [[ ينظر في هذا الدليل مختصر الصواعق المرسلة ص 41ـ 46 ]]
وكذلك يلزم أن يكون خطاب الله ورسوله استعمل فيه أسلوب التأكيد والإعادة والتكرير على أمر ما ، ومع ذلك فهو فيما استعمل فيه هذه الأساليب ليس على ظاهره مثل قوله (وكلم الله موسى تكليما ) فإنه ليس على ظاهره عند أهل التأويل أما المعتزلة فكلامه مخلوق وأما غيرهم فكلام الله النفسي لا يسمع منه وإنما ألقي في روع موسى المعنى فليس الخطاب على ظاهره أيضاً .
ومثل ذكر الاستواء مرات عديدة على العرش مادحا نفسه به في سبع مواضع من القرآن ، فيلزم إذا قيل بعدم إرادة الظاهر أن يكون الخطاب أكد وأعيد وكرر على ظاهر غير مقصود وهذا يلزم منه نسبة التلبيس إلى الكتاب والسنة وهذا من أعظم الباطل .
الدليل السادس :
ـــــــــ
وهو أن عقيدة الإسلام سهلة ، يمكن لأدنى الناس علماً أن يفهمها والقول بتأويل هذه النصوص يعكس الأمر ، فإنه لا عسر على الأمة من أن يراد منهم ، أن يفهموا كونه سبحانه لا داخل العالم ، ولا خارجه ، ولا متصلا به ، ولا منفصلاً عنه ، ولا مباينا ، ولا محايثا له ، ولا يرى بالأبصار عيانا ، ولا له يد ، ولا وجه ، مع كثرة النصوص التي ظاهرها خلاف هذا ، يفهموا ذلك كله من قوله (قل هو الله أحد) ، ( ليس كمثله شيء)(2) . [[ ينظر في هذا الدليل مختصر الصواعق ص 46 ]]
الدليل السابع :
ــــــــ
أن القول بالتأويل وأن نصوص الصفات على خلاف ظاهرها يفتح باب الزندقة والإلحاد ، وذلك أن الزنادقة سيحتجون بجواز تأويل نصوص الصفات على جواز تأويل نصوص المعاد وأنها على خلاف ظاهرها(3) [[ ينظر مجموع ابن تيمية 5/32ـ 33]] فيقولون المقصود بنصوص الحشر التمثيل لما يحصل للروح من نعيم من دون الجسد ، إن كانوا ممن ينكر حشر الأجساد .
أو يقولون باطن هذه النصوص لا يدل على المعاد وإنما قصد بالظاهر تمثيل ما يحصل للروح من نعيم في أجساد أخرى ، إن كانوا ممن يقول بالتناسخ إلى غير ذلك من دهاليز الزندقة .(/31)
ولما ظهر مضمون هذين الدليلين لبعض من تجرد لما يسمى بعلم النظر ، وتبين له أن القول بتأويل ظواهر بعض النصوص المقتضية للتشبيه عنده ، يجعل الاعتقاد عسيرا على الأمة ن وقد يؤدي إلى فسادهم ، قال وهو السعد التفتازاني في شرح المقاصد : ( فإن قيل إذا كان الدين الحق نفي الجهة والحيز ، فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك من غير أن يقع في موضع واحد منها تصريح بنفي ذلك وتحقيق(1) [[ كذا بالأصل ]] كما كررت الدلالة على وجود الصانع ووحدته وعلمه وقدرته وحقيقة المعاد وحشر الأجساد في عدة مواضع ، وأكد غاية التأكيد مع أن هذا أيضاً حقيق بغاية التأكيد ، والتحقيق ، كما تقرر في فطرة العقلاء مع اختلاف الأديان والآراء من التوجه إلى العلو عند الدعاء ومد الأيدي إلى السماء ؟ أجيب : بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة ، حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في جهة ، كان الأنسب في خطابهم والأقرب إلى صلاحهم ، والأليق إلى دعوتهم الحق ، ما يكون ظاهرا في التشبيه ، وكون الصانع في أشرف الجهات مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمة الحدوث)(2) . [[ نقلا عن التنكيل للمعلمي 2/357]]
فلينظر العاقل بعد هذا ، ما الذي أدى إليه جعل ظواهر الشريعة تقتضي التشبيه ، ثم تسليط التأويل عليها من شبه القرمطة وعقائد الباطنية ، وانظر كيف صرح هذا الإمام في علم الكلام أن بعض ما يدل على التأويل لا يصلح لجمهور أمة الإسلام .
وقوله ( مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق ) هو معنى الألغاز وهو غير لائق بالقرآن الموصوف بأعلى درجات البيان كما تقدم في الدليل الخامس .
وكلما ازداد الرجل مما يسمى بعلم النظر، زاد توغلاً في هذا الخطر ، كما صنع ابن رشد الذي زعم (أن الشريعة قسمان ظاهر ومؤول وأن الظاهر فرض الجمهور والمؤول هو فرض العلماء ...ولا يحل أن يفصحوا بتأويله - أي الظاهر - للجمهور)(3) . [[ ينظر مناهج الأدلة في عقائد الملة ص 133]]
ثم زعم أن أكثر ظواهر الآيات ونصوص الصفات يجب إلقائها إلى الجمهور ، وإن اقتضت التجسيم على زعمه خوفاً عليهم من التعطيل(4) ، [[ المصدر السابق ص 171]] ولأنهم يعسر عليهم فهم دليل نفي الجسمية (5) [[ المصدر السابق 170]] ، ولئلا يسلك الشك إلى قلوبهم في أمر المعاد(6) [[ المصدر السابق 172]] ، ثم لما ذكر بعض النصوص التي ادعي أنها تقتضي الجسمية (كاطلاع الباري إلى أهل المحشر ) وأنه هو الذي يتولى حسابهم وحديث النزول والرؤية قال (فيجب إلاّ يصرح للجمهور بما يؤول إلى إبطال هذه الظواهر فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هو إذا حملت على ظاهرها ، وأما إذا أوّلت فإنما يؤول الأمر فيها إلى أحد أمرين : إما أن يسلط التأويل على هذه وأشباه هذه في الشريعة فتتمزق الشريعة كلها ... وإما أن يقال في هذه كلها إنها من المتشابهات ، وهذا كله إبطال للشريعة محولها من النفوس من غير أن يشعر الفاعل لذلك بعظيم ما جناه على الشريعة)(1) . [[ المصدر السابق 172ـ 173]]
فهذا تصريح من هذين الإمامين فيما يسمى بصناعة البرهان ، أن التأويل ، يجعل بعض عقيدة الإسلام عسيرا على الأمة ، وقد يؤدي إلى هتك الدين كله ، واستدلا بذلك على أن الواجب إظهار خلاف الحق لهم وعدم إلقاء التأويل إليهم ، والحق أن الأولى أن يستدل به على بطلان التأويل ، إذ كيف يكون الحق الذي جاء به الرسول فيما يجب لله ويستحيل لا يناسب فطرة العباد ، فهذا ما جناه التأويل على الدين .
الدليل الثامن :
ــــــــ
أن القول بتأويل نصوص الصفات لا يخلو الأمر فيه :
إما أن يقال بتأويلها كلها أو بعضها ، ولاريب أن القول بتأويلها كلها وأن الله أراد بذكر صفة العلم والسمع والبصر ، والحياة وكل ما وصف به نفسه خلاف الظاهر ، من أبطل الباطل وأعظم الإفتراء على الشريعة .
فلم يبق إلاّ أن يقال بتأويل بعضها وهو تحكم محض إذ العلة التي أوجبت تأويل الكل لا زالت في البعض وهو اقتضاء التجسيم ، ولا يستطيع صاحب التفريق أن يأتي بحجة مستقيمة عليه ، فإن قال لأن هذه التي أوجبت فيها التأويل توجب التشبيه ، والتجسيم قال منازعن الذي يؤول الكل وكذلك السمع والبصر والكلام يوجب التجسيم وإذا بطل القسمان ، بطل القول بتأويل الصفات(2) [[ ينظر في هذا الدليل مختصر الصواعق ص 18ـ 19 ، وأضواء البيان للشنقيطي 2/275ـ 276) ]]
الدليل التاسع:
ـــــــ(/32)
وهو أن تأويل الصفات في أكثر النصوص ، لا يخرجها إلاّ إلى معنى يحتاج إلى تأويل آخر بالنظر الدليل الذي أوجب التأويل الأول ، فمن ذلك تأويل الرحمة بالإرادة ، لأن ظاهر الرحمة رقة في القلب ، فإن الإرادة كذلك ينبغي أن تحتاج إلى تأويل لأنها ميل القلب إلى الشي وكلاهما يقتضي التشبيه ، ومن ذلك تأويل اليد بالقدرة ، كلاهما يوصف به الخالق والمخلوق ، فإذا قيل الإرادة والقدرة يوصف بها الخالق على ما يناسب ذاته والمخلوق كذلك بما يناسب نقصه ، مع تشابه الإطلاقين فيهما فلماذا لا يقال كذلك بالرحمة واليد وغيرهما يوصف الله بهما ولا يوجب ذلك تشبيهاً فإذا كان التأويل لا يصنع شيئاً إلاّ تحريف النص كان هذا دليلاً على بطلانه(1) . [[ ينظر في هذا الدليل مختصر الصواعق ص 22ـ 23، ومجموع فتاوى ابن تيمية 3/26]]
الدليل العاشر :
ـــــــ
أن التأويل لو كان حقاً وأن ظاهر النصوص غير مراد ، بل هي من باب المجاز للزم من ذلك جوار نفيها عند الإطلاق فيقال ليس بحي ، ولا قدير ، ولا عليم ، ولا سميع ، وكذلك يقال لا يحب ، ولا يرحم ، ولا يرضى ن ولم يستو ، ومعلوم أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته الله ، وإذا كان الملزوم باطل فاللازم باطل . [[ ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 5/197]]
خلاصة ما تقدم:
ــــــــ
والخلاصة أن هذه الأدلة العشرة واضحة في بيان بطلان تأويل نصوص الصفات ، وهي مع ما تقدم من أدلة بطلان التفويض فيها لا تدع ريبا في صحة طريقة في نصوص الصفات .
وقد استدل أهل التأويل بأدلة وهي أقرب إلى الشبهات منها إلى الحجج ، ولذا لم تذكر على سبيل المقارنة مع أدلة الطريقة السلفية ، وقد جعلوها عمدتهم في ادعاء أن نصوص الصفات من المتشابه الذي يجب صرفه عن ظاهره بالتأويل وإنه ينبغي ذكرها والجواب عنها ليتبين بذلك العلاقة الصحيحة التي بين نصوص الصفات والمتشابه ، وهو موضوع المبحث الثالث .(/33)
أم اللغات تتحدث عن نفسها
حافظ إبراهيم
رجعتُ لنفسي فاتّهمتُ iiحَصاتي
وناديتُ قومي فاحتسبتُ حياتي
رَموني بعُقمٍ في الشباب iiوليتني
عقمتُ فلم أجزع لقولِ iiعُداتي
ولدتُ ولمّا لم أجد iiلعرائسي
رجالاً وأكفاءً وأدتُ بناتي
وَسعتُ كتابَ اللهِ لفظاً iiوغايةً
فكيفَ أضيقُ اليومَ عن وصفِ iiآلةٍ
أنا البحرُ في أحشائهِ الدُّرُّ iiكامنٌ
فيا ويحكُم أبلى وتبلى iiمحاسني
فلا تكلوني للزمان iiفإنني
أرى لرجالِ الغربِ عِزاً iiومَنعةً
أتوا أهلهم بالمُعجزاتِ iiتفنُّناً
أيطربُكم من جانبِ الغربِ iiناعبٌ
ولو تزجُرونَ الطيرَ يوماً iiعلمتُمُ
سَقى اللهُ في بطنِ الجزيرةِ iiأعظُماً
حفظنَ ودادي في البِلى iiوحفظتُهُ
وفاخرتُ أهلَ الغَربِ والشرقُ مُطرقٌ
أرى كلَّ يومٍ بالجرائدِ iiمَزلقاً
وأسمعُ للكتابِ في مصرَ iiضَجّةً
أيهجرني قومي عَفا اللهُ iiعنهمُ
سَرَت لوثَةُ الإفرنجِ فيها كما iiسرى
فجاءَت كَثوبٍ ضَمَّ سبعينَ iiرقعةً
إلى معشرِ الكتابِ والجمعُ iiحافِلٌ
فإمّا حياةٌ تبعثُ الميتَ في البِلى
وإمّا مماتٌ لا قيامةَ iiبعدَهُ ... وما ضقتُ عن آيٍ به iiوعظاتِ
وتنسيقِ أسماءٍ iiلمخترعاتِ
فهل سألوا الغوّاصَ عن iiصدفاتي
ومنكم وإن عزَّ الدواءُ iiأساتي
أخافُ عليكم أن تحينَ iiوفاتي
وكم عَزَّ أقوامٌ بعزِّ لُغاتِ
فيا ليتَكم تأتونَ iiبالكلماتِ
يُنادي بوأدي في ربيعِ iiحياتي
بما تحتهُ من عَثرةٍ iiوشَتاتِ
يعزُّ عليها أن تَلينَ iiقناتي
لهنَّ بقلبٍ دائمِ iiالحسراتِ
حَياءً بتلكَ الأعظمِ iiالنَخراتِ
منَ القبرِ يُدنيني بغيرِ iiأناةِ
فأعلمُ أنَّ الصائحينَ iiنُعاتي
إلى لغةٍ لم تتصلِ iiبرُواةِ
لُعابُ الأفاعي في مَسيلِ فُراتِ
مشكلةَ الألوانِ iiمُختلفاتِ
بسطتُ رَجائي بعدَ بسطِ iiشَكاتي
وتُنبتُ في تلكَ الرُموسِ iiرُفاتي
مماتٌ لَعمري لم يُقس iiبمماتِ(/1)
أما بعد
... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
فهذه رسالة ( أما بعد ) النبي صلي الله عليه وسلم أول محاضرة بعد عشر سنوات من التأمل والتدبر والمطالعة ودراسة الماضي ، والاستعداد للمستقبل ، أحببت أن أقدمها كالعنوان للكتاب ، وكالهدية بين يدي الضيف . وقد حرصت على مسألة الدعوة ، وهموم الداعية وخصائصه ، ولم أطولها بالقصص ، ولم أثقلها بالحواشي ؛ طلباً للاختصار وإيثارا للإيجاز .
والله وحده أسأل أن ينفعني بها وإخواني ، وأن يوفقنا لصراطه المستقيم ؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
والله أعلم .
عائض القرني
25/12/1422هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أحمده تعالى على جزيل إنعامه وإفضاله ، وأشكره على جليل إحسانه ونواله ، وله الحمد على أسمائه الحسنى وصفات كماله ونعوت جلاله ، وله الحمد على عدله قدرا وشرعا ، وله الحمد في الآخرة والأولى وهو الحكيم الخبير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الملك الحق العلي الكبير ، تعالى في ألوهيته وربوبيته عن الشرك والوزير ، وتقدس في أحديته وصمديته عن الصاحبة والولد والولي والنصير ، وتنزه في صفات كماله ونعوت جلاله عن الكف والنظير ، وعز في سلطان قهره وكمال قدرته عن المنازع والمغالب والمعين والمشير ، وجل في بقائه وغناه عن المطعم والمجير ، فسبحانه ما أعظمه وأحلمه ، وما أجله وأكمله ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبي ونعم الوكيل .
من أين أبدأ والمحامد كلها
لك مهيمن يا مصور يا صمد
احترت في أبهى المعاني أن تفي
بجلال قدرك فاعتذرت ولم أزد
الحمد لله على جزيل العطاء ، مسدي النعماء ، كاشف الضراء ، معطي السراء .
الحمد لله عالم السر والجهر ، الحمد لله عالي القهر والقدر ، الحمد لله المتكفل بالأقوات ، المدعو عند المدلهمات ، المطلوب عند كشف الكربات ، المرجو في الازمات .
الحمد لله على كل نعمة أنعم بها ، وعلى كل بلية صرفها ، وعلى كل أمر يسره ، وعلى كل قضاء قدره ، وكل مكره كفاه ، وكل حادث لطف فيه .
الحمد لله كم أعطى من النعيم ، وكم منح من الخير العميم ، وكم تفضل به من النوال الجسيم ، عمت نعمه ، وانصرفت نقمه ، وتضاعفت كرمه .
الحمد لله على تمام المنة ، والحمد لله بالكتاب والسنة ، الحمد لله على نعمة الإسلام ، وتواتر الإنعام ، توالت أفضاله ، عم نواله ، حسنت أفعاله ، تمت أقواله . الحمد لله مولي الجميل ، واهب العطاء الجزيل ، شافي العليل ، المبارك في القليل ، أجود من أعطى وأصدق من أوفي .
يا غافلا عن إله الكون يا لاهي
تعيش عمرك كالحيران كالساهي
ارجع إلى الله واقصد بابه كرما
والله والله لا تلقى سوى الله
من قبلة فهو المقبول ، ومن حاربه فهو المخذول ، ومن التجأ إليه عز ، ومن توكل عليه كفاه ، ومن أطاعه تولاه ، ومن نازعه قمصه ، ومن بارزه حطمه ، ومن أشرك به أحرقه ، ومن ناده مزقه .
فو الله لو وضعنا من الدمع قصة
وصار كتاب الحب بالدم يكتب
وسرنا على الأجفان نمشي محبة
على النار نشوى أو على الجمر نسحب
لما بلغت ما تستحق جهودنا
فكل ولو نال المشقة مذنب
وأشهد أن محمد رسول الله ، النبي الخاتم ، والإمام المعصوم ، والأسوة الحسنة ، والقدوة المثلي ،شرف الحواضر والبوادي ، وزينة النوادي ، أعظم هادي ، وأفضل حادي :
يا طريدا ملأ الدنيا اسمه
وغدا لحنا على كل الشفاه
وغدت سيرته أسطورة
يتلقاها رواة عن رواه
ليت شعري هل درى من طاردوا
عابدو اللات واتباع مناه
هل درت من طاردته أمه
هبل معبودها شاهت وشاه
أما بعد :
فعنوان رسالتي . . . (( أما بعد )) . .
وأما بعد . . وأما قبل ، فلله الأمر من قبل ومن بعد ، ليس لنا من الأمر شئ ، وليس لنا مع قدرته حول ، وما عندنا لأمره رد ، وما لنا في قضائه حيلة ، وما لدينا مع قدرته تدبير ، هو الفعال لما يريد ، ونحن العبيد ، إن تشرفنا فالطين أصلنا ، وإن افتخرنا فالتراب مردنا ، وما لمن خلق من ماء مهين أن يشمخ بأنفه ، أو يزهو بعلمه ، أو يعجب برأيه :
يا أنت يا أحسن الأسماء في خلدي
ماذا عرف من متن ومن سند
تقاصرت كلها الأوصاف عندكم
لما سمعنا ثناء الواحد الأحد
والله لو أن أقلام الورى بريت
من العروق لمدح السيد الصمد
لم نبلغ العشر مما يستحق ولا
عشر العشير وهذا غاية الأمد
يا رب ، يا حي ، يا قيوم ، يا لطيف ، أنت الكامل وأنا الناقص ، أنت الغني وأنا الفقير ، أنت القوي وأنا الضعيف ، أنت الحي وأنا الميت . أصابع الذنوب تشير إلى الغفار . وألسنة الفقر تدعو الغنى . وأكف الضعف ترفع للقوي .
الميت يمدح الحي القيوم .
الغريق ينادي : يا ذا الجلال والإكرام .
الكلمات والإشارات عاجزات .
البيان والبلاغة والتعبير تعلن التقصير .
لا يعلم ما يستحق إلا هو .
لا يحيط بعلمه سواه .
لا يقدره قدره إلا إياه .
لا يحسن الثناء عليه غيره .(/1)
إن قدسته أو سبحته أو مجدته فهو الذي علمني . إن حمدته أو كبرته أو وحدته فهو الذي ألهمني . إن عبدته أو شكرته أو ذكرته فهو الذي أكرمني .
صفات المدح في الكاملين ذرة من كماله ، ونعوت الفضل في الأبرار نفحة من أفضاله ، ألسنة المادحين وأقلام الواصفين حائرة في جلاله ، من أنا حتى أمدحه ؟ من أنا حتى أمجده ؟ من أنا حتى أثني عليه أنا الذي خلق من تراب أصف الملك الوهاب ؟ أنا الذي صور من طين أذكر جلال العالمين ؟
إن الخجل يملأ فؤاد من خلق من ماء مهين ، إذا قام يشدو بأوصاف أحكم الحاكمين ، اللهم إن أشرف تاج أحمله تمريغ أنفي على التراب لجلالك ، اللهم إن أعظم وسام أحمله وضع جبهتي على الأرض لعبوديتك .
أنا الظالم لنفسه المعترف بتقصيره ، المقر بذنبه ، وأنت الجواد الماجد الغني الحميد ، عز جاهك ، وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك . ولا إله غيرك .
قد كنت أشفق من دمعي على بصري
فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
يا الله سجد وجهي لك ، يا الله خشع سمعي وبصري لك ، يا الله رغم أنفي لك ، يا الله ذلت رقبتي لك ، يا الله وجل قلبي منك ، يا الله اتجهت نفسي اليك ، يا الله حسن ظني فيك ، يا الله طاب الحديث عنك ، يا الله كمل التوكل عليك .
اليك وإلا لا تشد الركائب
ومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيع
وعنك وإلا فالمحدث كاذب
أما بعد :
فقد وقفت عشرا ، واستفدت عشرا .
استفدت عشرا :
أولها : اللجوء إلى الله في الملمات ، وقصده في الكربات ، وسؤاله في الأزمات .
ثانيها : أن مع العسر يسرا ، ومع الكرب فرجا ، ومع الضيق سعة ،وبعد الشدة رخاء
ثالثها : أنه ليس لك في المصاعب إلا الله ، وما لك عند الدواهي إلا الله . وما معك في الخطوب إلا الله (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ) .
رابعها : أن العلماء يصيبون ويخطئون ، والدعاة يحسنون ويغلطون ، والمصلحون يسددون ويعثرون إلا محمدا صلى الله عليه وسلم فهو المصيب بلا خطأ ، والمسدد بلا غلط ، والمصلح بلا عثرة (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ( النجم :3 ـ 4) .
خامسها : أن الكتب تعرف منها وتنكر ، وتقبل وترد وتوافق وتخالف ، إلا الوحي كتابا وسنة ، ففيه الصحة كلها ، والصواب أجمعه ، والحق أتمه وأكمله ، والعدل أوله وأخره.
سادسها : أنه ليس لأحد أن يدعي أنه المخول وحده لنصر الدين ، ولا التكلم باسمه ، فدين الله منصور ، شاء من شاء ، وأبي من أبي ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) ( الأنعام : 89 ) . نصره محمد العربي ، وسلمان الفارسي ، وصهيب الرومي ، وبلال الحبشي ، وصلاح الدين الكردي ، ونور الدين التركماني ، وإقبال الهندي .
سابعها : أن الرفق هو الطريق الأمثل للدعوة . وأن الكلمة اللينة هي السحر الحلال ، وأن الأسلوب السهل هو مصيدة الرجال .
ثامنها : أن غالب محاضرات الدعاة وندوات العلماء حسن وصواب ، وحق وعدل ، والقليل النادر غلط وخطأ ، لعنصر البشرية ، وضعف الإنسانية ، وانتفاء العصمة ، وانقطاع الوحي .
تاسعها : وجدت أن الأمة لا يشفي عليلها ولا يروي غليلها مقطوعة من فنان ، ولا طرح من علماني ، ولا هيام من شاعر ، ولا خيال من فيلسوف ، إنما يحييها ، ويرفعها ، ميراث من نبوة ، وتركه من رسالة ، وأثارة من وحي : (َ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ )(الرعد: من الآية17) .
عاشرها : وجدت أن الأمة قد تكون غير منتجة ، ولا مخترعة ، ولا منكشفة ، ولا مصنعة ، ولكنها لا تعيش بلا إيمان ، ولا تحيا بلا رسالة ، ولا تشرف بلا منهج : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا )(الأنعام: من الآية122) .
تلك عشرة كاملة . . أهديها لمحبي النصح ، وعشاق الفضيلة ، وطلاب الحقيقة ، وشداة الإصلاح ، ورواد المعرفة : (ِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ)(هود: 88).
دعها كما شاءها الرحمن جارية
الله يحفظها والله يرعاها
لها من الوحي نور تستضئ به
وبهجة الغار تبدو في محياها
أما بعد :
فهذه عشر سنوات طويلات قصيرات ، فيها حسنات وسيئات ، ومضحكات ومبكيات ، مرت بسرورها وحزنها ، ونعيمها وبؤسها ، وغناها وفقرها ، ولذتها ومعاناتها .
مرت سنون بالسعود وبالهنا
فكأنها من قصرها أيام
ثم انثنت أيام هجر بعدها
فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلام !
انتهت هذه العشر عندنا ، لكن ما انتهت عند الله (َ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى)(طه: 52) .
أما بعد :(/2)
فإن الداعية ليس له حقل واحد لا يعمل إلا فيه ، بل حقول متعددة ، وميادين مختلفة ، ومنابر شتى فالدعوة لا يحدها حد ، ولا يحصرها حصر ، ولا يقيدها قيد. إن الدعوة تجري في دم الداعية ، يقولها كلمة ، ويصوغها عبارة ، وينشدها قصيدة ، ويدبجها خطبة ، وينقلها فكرة ، ويؤلفها كتابا ، ويلقيها محاضرة .
إنها قد تكون مع النفس محاسبة ومراقبة ، وتكون مع الأم برا وحنانا ، ومع الأب شفقة ورحمة ، ومع الابن تربية وأدبا ، ومع الجار إحسانا وبرا ، ومع المسلم مصافاة ومودة ، ومع الكافر دعوة وحوارا .
فهذا إبراهيم الخليل يتلطف بأبيه (ِ يَا أَبَتِ )، وهذا نوح ينوح على أبنه ) يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)(هود: 42) وهذا مؤمن آل فرعون يعطف على قومه : (ِ يَا قَوْمِ) وهذا مؤمن آل يا سين ينادي وهو في الجنة : (َ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)(يّس: 26).
إن الدعوة هم لازم ، وواجب دائم ، فهي معك في السيارة ، وفي الطائرة ، وفي السفينة ، وفي النادي ، وفي الجامعة ، والمزرعة ، والمتجر . .
قد تدعو بسيرتك أكثر من كلامك ، وتدعو بصفاتك أعظم من خطبك ، وتدعو بخلقك أحسن من محاضراتك .
ليس للداعية وقوف ، سجن يوسف فدعا في السجن ، وطرد نوح فدعا في السفينة ، وحوصرا محمد فدعا في الشعب ، وطوق فدعا في الغار ، وطردا فأنشأ دولة .
قيل لشيخ الإسلام ابن تيميه : قد أمر السلطان بنفيك إلى قبرص ، أو قتلك وسجنك فقال : والله إن بي من الفرح والسرور ما لو قسم على أهل الشام لوسعهم ، والله إني كالغنمة ما تنام إلا على صوف ، إن نفيت إلى قبرص دعوت أهلها إلى الإسلام ، وإن سجنت خلوت بعبادة ربي ، وإن قتلت فأنا شهيد :
روحي تحدثني بأنك متلقي
نفسي فداك عرفت أم لم تعرف
ليس من المهم عند الداعية أن يكون له جمهور حاشد ، أو حفل بهيج ، أو مستمعون كثر ، المهم أن يقول الحق ، وان يأمر بالمعروف ، وأن ينهى عن المنكر ، وأن يحمل الميثاق بأمانة ، ويبلغ الشريعة بصدق .
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَه)(آل عمران: 187).
بعض الأنبياء لم يستجب له أحد ، والبعض استجاب له واحد واثنان ، والبعض جماعة ، وبعضهم دعا عمره كله ثم قتل ولم يطعه بشر ، وأنبياء آخرون مكثوا السنين الطويلة يدعون ثم نشروا بالمناشير !
سيدي علل الفؤاد العليلا
واحيني قبل أن تراني قتيلا
إن تكن عازما على قتل روحي
فترفق بها قليلا قليلا !
إن الداعية ليس فنانا يداعب العواطف ، ويلعب بالمشاعر ، ويتفقد مكامن التأثير في الناس ، وليس شاعرا يخلب الألباب ، ويسافر مع الخيال ، ويهيم في أودية الضلال ، وليس فيلسوفا يتقن القوانين ، ويضرب الأقسية ، ويحدد المقدمات ، ويخلص النتائج ، وليس سلطان يفرض كلمته ، ويؤدب رعيته ، ويحشد جنوده ، ويرفع بنوده ، وليس تاجرا يجمع الدراهم ، ويكنز القناطير المقنطرة ، ويرصد الشيكات ، ويضارب بالأسهم . الداعية شئ آخر ! . .
إنه تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ابن بار لرعايته ، تلميذ نجيب في مدرسته ، طالب متفوق في جامعته . يسري حب
الله وحب محمد صلى الله عليه وسلم في دمه ، يشع في قلبه ، يضئ طريقه ، يملأ وجدانه ، يلهب ضميره .
الحب ليس رواية شرقية
بأريجها يتزوج الأبطال
لكنه الإبحار دون سفينة
ومرادنا أن المحال محال
الداعية ليس له إجازة ، ولا انتداب ، ولا مخصصات ، ولا عادات ، الداعية ليس له حفل مولد ، ولا مهرجانات تخرج ، ولا حفل وداع ، ولا مناسبة استقبال ، بل هو مع الأنبياء ، تلقاه على الرصيف ، وفي الدكان ، ومع أهل الحرف ، مع النجار والخباز والنساج والبناء ، مع الناس باختلاف أذواقهم وألوانهم وأجناسهم ، داعيا للملك والملوك ، وللأمير والوزير ، وللكبير والصغير ، وللذكر والأنثى وللأبيض والأسود .
الداعية باع نفسه من الله ، فلا يطالب ، ولا يضارب ، لا يعاتب ، ولا يحاسب . . فاتورة تعبه مدفوعة في الآخرة (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (الضحى:5) . شيك أجرته مصروف من بنك ) يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )(الكهف: 28) ، وسند أمواله موقع عليه ( وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ)(هود:79) .
بعنا النفوس فلا خيار ببيعنا
أعظم بقوم بايعوا المختارا
فأعاضنا ثمنا أجل من المنى
جنات عدن تتحف الأبرارا
الداعية لا ينتظر شهادة حسن سيرة وسلوك من البشر ، ولا نياشين يعلقها على صدره ، ولا نجوم يضعها على أكتافه ، ولا صورة ذكرى يرفعها في مجلسه . إنه يريد تاج ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا )(المائدة:119)، ويطمع في نجوم ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )(المائدة: 54) ويرغب في نياشين (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)(البقرة: 257) .(/3)
الداعية لا يعين بقرار جمهوري ، ولا بوثيقة حكومية ، ولا بانتخاب من الجمهور ، الداعية لا يأتي عن طريق صناديق الاقتراح ، ولا المجلس النيابي ، ولا الهيئة البرلمانية ، فهو فوق الكونجرس ، واللوردات ، والشيوخ ، إن الله عينه ، والواحد الأحد هيأه ، والرحمن استأمنه (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(النحل: 125) .
الداعية مولاه الله ، وإمامه محمد ، وبيته المسجد ، ومذكرته القرآن ، وزاده التقوى ، وعصاه التوكل ، ولباسه الزهد ، ومركبه اليقين ، وطريقه الهدى ، ومراده الجنة (( دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ، ترد الماء وترعى الشجر )) .
أنا ربي الله والدين أبي
ورسول الله دوما قدوتي
ولي القرآن نورا ساطع
ولي الكعبة كانت قبلتي
الداعية لا تتوقف دعوته مع التخرج من المدرسة الليلية ، ولا مكافحة الأمية ، ولا من الجامعة ، ولا من المجالس الفقهية ، ولا المجامع العلمية . . جامعة الداعية (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ)(فصلت: 33) ، وشهادته (( بلغوا عني ولو آية )) ووثيقة تخرجه (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)(الحجر: 94) .
الداعية لا ينتظر راتبا شهريا ، ولا مكافأة سنوية ، ولا إكرامية مالىة ، ولا هتافا جماهيريا ، ولا شكرا من الوزير ، ولا ترقية من الفريق ، ولا ثناء من مدير المدرسة .
راتبه : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ )(فاطر:30) .
إكراميته : (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ) (الحجر:46).
هتافه : ( لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)(محمد: 19) .
شكره : (سَلامٌ عليكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ )(الرعد: 24).
ترقيته : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر:55)
الداعية لا ترفع له أقواس النصر ، ولا تعلق صوره ، ولا ينتظر قصائده مدح وملحمات ثناء ، ومقامات تبجيل .
أقواس نصره : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (الفتح:1) .
صوره معلقة : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه)(هود:1) .
عبارات مديحه (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون:1).
مقامات تبجيله : ( وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(آل عمران: 139).
وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت
آياتها فاقرءوا يا قوم قرآني
الوحي مدرستي الكبرى ، وغار حرا
تاريخ عمري ، وميلادي ، وعرفاني
أما بعد :
فالداعية رحيم ، رفيق ، قريب حبيب ، سهل لين ، صبور شكور .
رحيم : لأن الراحمين يرحمهم الرحمن ، ولأن إمامه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، فهو الذي يقول (( من لا يرحم لا يرحم )) .
يقول أحد العلماء : (( ينبغي إذا رأيت الكافر أن تتمنى إسلامه رحمة به أن يدخل النار ؛ لأن من تمام النصح الشفقة بالخلق )) .
رفيق : لأن الله رفيق يحب الرفق ، ولأنه محمد صلى الله عليه وسلم يقول : (( ما كان الرفق في شئ إلا زانه ، وما نزع من شئ إلا شانه )) .
والرفق يسهل الصعاب ، ويقرب البعيد ، ويلين القاصي ، ويطوع العاصي ، ويجذب القلوب .
قريب : فهو يدنو من النفوس ، ويقترب من القلوب ، ويتواضع لزملائه ، ولا يفاخر أبناء جنسه ، ولا يشمخ بأنفه ، ولا تعجبه نفسه ، ولا يزدري أحدا ، ولا يحتقر بشرا ، ولا يتهكم بمخلوق (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء:215) .
حبيب : تحبه القلوب ، وترتاح له الأنفس ، وتأنس بحضوره الناس ، وتهش لقدومه الأرواح ، وتفح بحضوره الجموع ، وتعشق لقاءه الأجيال ، وتدعو له الأمة بظهر الغيب (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96) .
يقول أحد الفضلاء : (( إذا سافرت ولم يبك عليك أصحابك فراجع أخلاقك )) .
سهل لين : فهو كمعلمه الأول صلى الله عليه وسلم سهل في كلامه فلا يتفيهق ، ولا يتعمق ، ولا يتشدق ، ولا يتكلف ، ولا يتنطع ، ولا يزخرف ، سهل في أفعاله فلا يكلف الناس شططا ، ولا يحملهم عبئا ، ولا يجشمهم مشقة .
صبور : على الملمات ، وعلى الأزمات وعلى الكربات ، وعلى الفواجع ، وعلى الحوادث ، وعلى الكوارث ، يجوع فيصبر ، يسب فيصبر ، يجلد فيصبر ، يحبس فيصبر ؛ يبكت فيصبر ، يكذب فيصبر ، يؤذى فيصبر ؛ أما نوح فازدجر ، وأما صالح فقيل له : كذاب أشر ، وأما هود فقهر ، وأما زكريا فنشر ، وأما يحي فنحر ، وأما موشى فضاق به المفر ، وأما عيسى فافتقر ، وأما محمد فابتلي فصبر ، وأعطي فشكر (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)(النحل: 127) . (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (المعارج:5) (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ )(المزمل: 10) . ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)(الحجر: 85) . ( وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)(المزمل: 10) . ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر)(آل عمران: 159). ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ )(آل عمران:134)
. (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(المؤمنون: 96) .(/4)
شكور : على النعمة ، يعطى فيشكر ، يسدد فيشكر ، يفتح عليه فيشكر ، يأكل فيشكر ، يلبس فيشكر ، ينام فيشكر ، يصح فيشكر ، يمرض فيشكر ، يعافي فيشكر ، يبتلى فيشكر ، يغتني فيشكر ، يفتقر فيشكر ، ( وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)(آل عمران:145) (ٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(سبأ:13) ،(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(ابراهيم:5) . ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ )(ابراهيم: 7).
لك الحمد يا رحمن ما هل صيب
وما تاب يا من يقبل التوب مذنب
لك الحمد ما هاج الغرام وما هما ال
غمام ، . . . وما غنى الحمام المطرب
أما بعد :
فإن الداعية يعلم أن الحياة ليست فرصة لتقلد منصب ، ولا الظفر بإمارة ، ولا العثور على وزارة ، ولا جمع تجارة ، ولا التشرف بسفارة ، وليست الحياة عنده متعة ، يقضيها في اللهو واللعب ، فليس عنده إجازة يقضيها على ضفاف اللورا ، ولا في قمم الهملايا ، ولا عند شلالات نياجرا ، ولا في أبراج كوالالمبور ، ولا في حضور عيد الأم ، وليس عند الداعية أرصدة في البنوك الربوية ، وليس له همم في مراقبة البورصة العالمية ، ولا الاهتمام بأسواق الذهب أو باسعار البترول ، فكنوزه وماله وغناه ومسقبله في جنات تجري من تحتها الأنهار .
فلا يبهجه إلا (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ )(الرحمن:54) .
ولا يفرحه إلا (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (المطففين:24) .
ولا يسره إلا (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) (المطففين:25) .
ولا يسعده إلا (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَاليةِ) (الحاقة:24)
ولا يطربه إلا (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) (الرحمن:72).
ولا ينعشه إلا (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) (الانسان:20) .
الداعية ليس سهر في ( ألف ليلة وليلة ) ، ولا أنس مع ( أبي نواس ) ، ولا خلوة مع ( بدائع الزهور ) ، ولا توثيق من ( الزير سالم ) ، ولا سند من ( شمس المعارف ) .
سهره : مع صحيح البخاري .
أنسه : مع ابن تيمية .
خلوته : مع رياض الصالحين .
توثيقه : من يحي بن معين .
سنده : من سفيان الثوري .
هيهات رحلة مسرانا جحافلنا
كما عهدت وعزمات الورى أنف
في كفك الشهم من حبل الهدى طرف
على الصراط وفي أرواحنا طرف
الداعية لا يفتخر بصداقة المشاهير ، ونجوم الكرة ، ونجوم الفن ، وكواكب المسرح ، والساسة العمالقة ، والفلاسفة العباقرة ، ورموز الثقافة ، فله صداقات ومودات مع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ، وله علاقة بأبي بكر وعمر وعثمان وعلى ، وله اتصال بأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ابن حنبل .
الداعية ليس منهمكا في زوايا الغرام ، ولا مع قصاصات الهيام ، ولا مع آهات الهجر ، وزفرات الجوى ، واوجاع العيون السود . . .
زفراته : من ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا)(الملك:8) .
وآهاته : من ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا)(النساء:56).
وأوجاعه : من (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) (الحاقة:27ـ29 ) .
أما بعد :
فإن الداعية تتقلب به الأيام ، وتتغاير عليه الليالي ، وتختلف عليه الساعات ، وتتعاقب عليه السنون ، رضا وغضب ، وسرور وحزن ، وشبع وجوع ، ومنبر وحبس ، وشكر وسب ، وإقبال وإدبار ، ومنحة ومنحة ، وعطية وبلية ، وامل ولآلم ، وهو مع ذلك عبد الله ، ينزل مع القرآن أينما نزل ، ويهبط مع الوحي أينما هبط ، ويسافر مع الرسالة أينما سافرت ، ويرتحل مع الحق أينما ارتحل . يصلى في القصر وفي الحبس ، وفي الجامعة والمزرعة ، وفي الحاضرة والبادية ، يسبح في النادي والملعب ، ويكبر في المسجد والسوق .
الداعية عنده شهادة أكبر من شهادات الأرض ، ولدية وثيقة أعظم من وثائق المعمورة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5).
وعنده تزكية أجل من كل تزكية (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات:173) .
أيها الداعي الذي عبد الله
طريق النجاة فيك قويم
أدعياء الضلال سحار فرعون
وأنت العصا وأنت الكليم
أما بعد :
فقد قرأت عشرات المجلدات والمصنفات والمؤلفات ، فما وجدت كالقرآن حسنا وجمالا ، بهجة ونضرة ، قوة وفخامة ، صدقا وعدلا ، سعادة وإشراقا .
وطالعت مئات المجلات والجرائد والدوريات والصحف ، فما رأيت كالسنة عطاء وبركة ، وسلوة وعزاء ، وتوعية وتربية ، ورشدا ونصحا ، وتعليما وتقويما .
وسمعت آلاف الكلمات ، وآلاف الأبيات ، وآلاف اللطائف ، وآلاف النكات ، فما وجدت كذكر الله إيمانا ويقينا ، وروحا وطمأنينة ، وأنسا ورحمة ، وثوابا وأجرا .
أما بعد :(/5)
فإن الداعية قد يكون غنيا كسليمان ، وقد يكون فقيرا كعيسى ، وقد يكون صحيحا كإبراهيم ، وقد يكون مريضا كأيوب ، وقد يطول عمره كنوح ، وقد يقصر كيوشع ، وقد يكون ملكا كداود ، وقد يكون خياطا كإدريس ، ، وقد يرعى الغنم كموسى ، وقد تمر به الحالات جميعا من غنى وفقر ، ونصر وهزيمة ، نعيم وبؤس ، وصحة ومرض ، وعافية وبلاء ، كمحمد صلى الله عليه وسلم .
لأجل دينك ذاق القتل من قتلوا
كأنما الموت في ساح الوغى عسل
ترى المحبين صرعى في ديارهم
كفتية الكهف للرضوان قد نقلوا
وقد يكون الداعية واسع الخير ، متعدد المواهب ، كثير الإحسان ، عظيم البر ، كأبي بكر الصديق ، وقد يكون صارما حازما قويا شديدا في الحق ، ذا صولة في الدين ، وهيبة في الملة كعمر بن الخطاب ، وقد يكون لينا سهلا قريبا حبيبا حييا سخيا كعثمان بن عفان ، وقد يكون مقداما شجاعا ، أبيا مضحيا فدائيا بطلا كعلي بن أبي طالب .
وقد يكون الداعية بحرا في العلم ، ودائرة معارف ، موسوعة في الشريعة كابن عباس ، وقد يكون خطيبا لوذعيا يرسل الكلمة كالقذيفة ، ويبعث الحرف كالشهاب ، ويطلق الجمل كالبركان كثابت بن قيس بن شماس .
وقد يكون الداعية شاعرا يرسم الحرف في القلب ، ويصنع البيت كالضياء ، وينسج القصيدة كقطعة ألماس كحسان بن ثابت .
وقد يكون للداعية حشم وخدم ، ومال وجمال وعيال كعبد الرحمن بن عوف ، وقد يكون الداعية فقير معدما ، لا بيت ولا قصر ولا دار ولا عقار ولا دينار كأبي ذر ، وقد يتولى الداعية الإمامة كمعاذ ، والقضاء كعلي ، والأذان كبلال ، والمواريث كزيد ، والقياد كخالد ، والإمارة كأبي عبيدة .
وقد يتكلم الداعية من بلاط السلطان كالزهري . وقد يتحدث من القبو كالسرخسي ، وقد يبجل ويحتفي به كمالك بن أنس ، وقد يذهب دمه هدرا ، ورأسه شذرا كأحمد بن نصر الخزاعي .
الداعية كالهدهد قطع الفيافي والقفار ليبلغ رسالة الواحد القهار (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(النمل:25) . وكالنملة يحذر قومه ، وينذر بني جنسه ( لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(النمل: 18) . وكالنحلة يجمع أطايب الحديث ، ويكنز أحسن المعرفة (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً )(النحل: 69).
فيا حب زدني في هواه صبابة
ويا قلب زدني في هوى مهجتي حبا
لعلى إذا جئت المحصب من منى
سخرت فؤادي كي أفوز به قربا
إن أهم صفة في الداعية أنه صاحب مبدأ ، وحامل رسالة ، وله منهج ، قد يغلظ أو يرفق ، يقسو أو يلين ، يقبل أو يدبر ، يواجه أو يهادن . . . لكنه صاحب مبدأ .
قد يحاور ويفاوض ، ويرد ويقبل ، ويأخذ ويعطي ، ويغضب ويرضى ، ولكنه صاحب مبدأ . .
له ثوابت لا يتخلى عنها ، وربما تنازل عن الحواشي ليبقى الأصل ، وربما ترك التعليق ليبقى المتن ، وربما تخلى عن الإطار لتبقى الصورة .
الداعية هو الناطق الرسمي للملة (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ)(الكهف: 29) . والسفير الأول للشريعة ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً)(الأحزاب:45) . والمندوب الدائم لمحمد صلى الله عليه وسلم (( نضر الله أمر سمع مني مقالة فوعاها ، فأداها كما سمعها )) . والأمين العام للقيم ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)(القصص:26) .
الداعية : له في كل قلب سفارة ، وفي كل عقل محطة ، وفي كل مجلس قناة . . الداعية تقرؤه في الصحيفة ، وتطالعه في المجلة ، وتنظر إليه في الشاشة ، وتصلى وراءه في المحراب ، وتسمعه على المنبر ، وتلقاه في السوق ، وتصافحه في الحديقة ، وتجلس بجانبه في الحافلة ، وتعانقه في الطائرة . وتقاتل وراءه في المعركة ، وتراه في العرس ، وتشاهده في الجنازة . يصافح الملك ، يمسح رأس اليتيم ، يرفق بالرئيس ، يعطف على الأرملة ، يمازح الشباب ، ويقود العجوز .
الداعية : يرسل كلمته على ذبذبة طولها الحق ، وعرضها الصدق ، على هواء الإبداع ، وعبر أثير المحبة ؛ لتستقبل كلمته أطباق القلوب ، وتنقل عبارته موجات الأرواح .
والدعاء درجات عند الله ، فمنهم من يحبو ، ومنهم من يمشي ، ومنهم من يهرول ، ومنهم من يمر مر السحاب ، ومنهم من يسرع سرعة الريح ، ومنهم من يحلق في سماء الإبداع فيرتفع عن سطح الدنيا سبعة وثلاثين ألف قدم من الصدق والرفق والحق والعدل والعلم والإيمان .
إن أنت كنت بكيت من حر الجوى
وسكبت في ليل الفراق دموعا
فنفوسنا ذبحت على ساح الوغى
يا من يرى صرعى السيوف هجوعا
أما بعد:(/6)
هم الداعية إصلاح الناس وتعبيد البشر لله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كلها لله ، فليس همه المال ولا الجاه ولا المنصب ؛ لأنه مكلف بمهمة محددة (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) (نوح:3) ، وعنده رسالة عليها طابع (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ )(الذريات:57) وعنوانها (( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )) يوزعها في كل قلب (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
الداعية حبيبة من أحب الله ، ووليه من تولى الله ، وصديقه من احترم الشرع ، وعدوه من عادى الإسلام . وليس عند الداعية وقت للعداوات الشخصية ، ولا فراغ لتوافه الأمور ، فكل دقيقة من عمره حسنات ، وكل ثانية من وقته قربات .
أعد الليالي ليلة بعد ليلة
وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا
فإما حياة نظم الوحي سيرها
وإلا فموت لا يسر الأعاديا
الداعية ينهمر بالآيات والأبيات والسير والعبر والقصص والأخبار والفوائد والقصائد والشوارد والفرائد ، يدعو بها كلها إلى الله ليعبد الله وحده لا إله إلا الله .
فمرجع الداعية قلبه النابض ، ومصدره نفسه المشرقة ، وحبره دمه ، ومادته دموعه ، وورقه خصال الخير وصفات النبل التي يحملها .
الداعية لا ينسى دعوته ، وهل ينسى المريض مرضه ، والجائع جوعه ، والمحموم حماه ؟ ! وكيف يترك الداعية دعوته ؟ ! وهل يترك الرسام ريشته ، والنجار فأسه ، والفلاح مسحاته ، والكاتب قلمه ؟ ! .
وقد عاهدتني يا قلب أني
متى ما تبت من ليلى تتوب
فها أنا تائب من حب ليلى
فما لك كلما ذكرت تذوب ؟
***
لكل امرئ من دهره ما تعودا
وعادة أهل الحق يا صاحبي الهدى
وما مضى فات والمؤمل غيب إلا عند الداعية ، فالماضي ما فات ولا مات ( عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى)(طه:52) . والمؤمل عنده حاصل لا محالة ، قادم بلا شك (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقِينِ) (التكاثر:7)
نشيد اللاهين : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل .
ونشيد الدعاة : قفا نبك من ذكر الكتاب المنزل .
أغنية الغافلين :
أخبروها إذا أتيتم حماها
أنني في الغرام فداها
وملحمة الصالحين :
أيقظوا النفس من سبات مناها
فإلى الله ربنا منتهاها
خاتمة
اللهم اجعل مكان اللوعة سلوة ، وجزاء الحزن سرورا ، وعند الخوف أمنا .
اللهم أبرد لا عج القلب بثلج اليقين ، وأطفئ جمر الأرواح بماء الإيمان .
يا رب ألق على العيون نعاسا أمنة منك ، وعلى النفوس المضطربة سكينة ، وأثبها فتحا قريبا
يا رب أهد حيارى البصائر إلى نورك ، وضلال المناهج إلى صراطك ، والزائغين عن سبيل إلى السبيل إلى هداك .
اللهم أزل الواسواس بفجر صادق من النور ، وأزهق باطل الضمائر بفليق من الحق ، ورد كيد الشيطان بمدد من جنود عونك مسومين .
اللهم أذهب عنا الحزن ، وأزل عنا الهم ، وأطرد من نفوسنا القلق .
ونعوذ بك من الخوف إلا منك ، والركون إليك ، و التوكل عليك ، والسؤال منك ، والاستعانة إلا بك ، أنت ولينا ، نعم المولى ونعم النصير .
اللهم حقق الآمال ، وأصلح الأعمال ، وحسن الأحوال ، وسدد الأقوال .
اللهم اجمع شمل الأمة ، واكشف الغمة ، وانصر الدين وأتمه .
اللهم أصلح القلوب ، واغفر الذنوب ، واستر العيوب ، واقبل توبة من يتوب ، اللهم أجزل العطية ، واغفر الخطية ، وأحينا الحياة الرضية ، ونسألك الميتة السوية ، اللهم ألهمنا الحجة ، وثبتنا عند المحجة ، ويمن كتابنا ، ويسر حسابنا .
اللهم اشف منا العلل ، واغفر الزلل ، واردأ عنا الكوارث ، واحمنا من الحوادث .
اللهم اذهب الشك باليقين ، وألبسنا ثوب الدين ، وانصر إسلامنا ، وارفع أعلامنا ، وثبت أقدامنا ، وسدد سهامنا .
اللهم بلغ رسولنا عنا الصلاة والسلام ما غيث همع ، وبرق لمع ، وظبي سنح ، وبلبل صدح ، اللهم آته الوسيلة ، وامنحه الفضيلة ، وابعثه مقاما محمود ، وأعطه حوضا مورودا ، وأجب شفاعة ، وأكرم وفادته .
يا رب إن البشر اعتزوا بأنسابهم ، وافتخروا بأحسابهم ، وعزنا وفخرنا بك ، فلا نكن أشقى منهم بك .
يا رب إنهم جمعوا الأموال ، وادخروا الكنوز ، واحتاطوا بالهب والفضة ، ومالنا وكنوزنا وميراثنا دينك وذكرك . اللهم فاغننا يوم الفقر الأكبر حتى نكون بك أغنى منهم بأموالهم .
يا رب إن البشر مدح بعضهم بعضا ، وأطرى بعضهم على بعضا ، ورفع بعضهم بعضا ، ومدحنا وثناؤنا وتبجيلنا لك وحدك ، اللهم إنهم أملوا من ممدوحيهم ، جوائز وأوسمة النبي صلي الله عليه وسلم وعطايا وهدايا ، اللهم فاجعلنا أكثر منهم حظا بجوائزك ، وأوسمتك ، وعطاياك، وهداياك .
اللهم إنا رأينا من ركن إلى محبوبه ، وأنس بمرغوبة ، وفزع إلى قريبه ، واعتمد على صاحبه ، اللهم اليك فزعنا ، وعليك ركنا ، وبك وثقنا ، وعليك اعتمدنا ، اللهم اجعلنا أسعد بك من القريب بقريبه ، ومن الصاحب بصاحبه ، ومن المولى بسيده .(/7)
اللهم إنا رأينا الرؤوس تخضع لسواك ، والجباه تسجد لغيرك ، والألسنة تقدس البشر ، فغضبنا لذلك ، وأزعجنا ذلك ، فلك خضعت رؤوسنا ، وسجدت جباهنا ، وذلت رقابنا ، اللهم إنا نسألك الغنى يوم الفقر ، والعز يوم الذل والنجاة يوم التغابن .
اللهم أخلص النية ، واصلح الذرية ، ووفق الراعي والرعية ، نسألك رضى لا يكدره سخط ، وسرورا لا يشوبه حزن ، وفرحة لا ينغصها ترحة ، وسعادة لا يعكرها شقاء .
سبحانك ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، وأستغفرك وأتوب اليك .
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .
***
عائض القرني
15/11/1422هـ(/8)
أما هذا فقد قضى ما عليه
10/7/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
بسم الله الرحمن الرحيم
"في صيف عام 1423هـ حضر فضيلة الشيخ / عبدالرحمن الفريان – رحمه الله – إلى منطقة الجوف، وقد قام بإلقاء درس بعد صلاة الفجر ثم بعد الإفطار قام بزيارة إحدى الدوائر الحكومية وألقى فيها كلمة، ثم قام بزيارة السجن العام وألقى كلمة على المساجين، ثم صلى الظهر في إحدى الدوائر الحكومية – المحكمة – وقام بإلقاء كلمة على الموظفين والمراجعين، ثم قام بزيارة إمارة المنطقة ثم ارتاح حتى العصر، ثم صلى العصر في أحد الجوامع وألقى كلمة، ثم خلى بنفسه للاستعداد لإلقاء محاضرة بعد مغرب ذلك اليوم، وقد ألقى محاضرة بعنوان ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كما وافق الشيخ على حضور لقاء بعد صلاة العشاء مع طلاب العلم ( لكن اعتذر فضيلته بعد صلاة العشاء نظراً لظروفه الصحية )، وكان _رحمه الله_ حين زيارته تبدو عليه ملامح التعب والإجهاد، كما قام بعد ذلك بزيارة مدينة طبرجل، ثم مدينة القريات، كما كان لفضيلته معرفة بكبار السن من أهل الجوف؛ لكونه كان يزورهم قبل أكثر من ثلاثين عاماً للدعوة وإلقاء المواعظ والمحاضرات، كما قام _رحمه الله_ بكفالة أكثر من عشر حلق قبل قيام الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن بهذه المنطقة"
بهذه الكلمات التي خطتها يراع أحد قضاة منطقة الجوف يوم الجمعة 8/7/1424هـ اختصر لنا حياة الشيخ / عبدالرحمن بن عبدالله آل فريان – رحمه الله – .
لقد كان الشيخ عبدالرحمن رجلاً نادراً وطرازاً فريداً من جيل الرواد، يجهل كثير من الناس حقيقة ذلك الرجل الفذ، وما يحمله من صفات، وما يقوم به من عمل في سبيل الدعوة إلى الله ونشر عقيدة التوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما علاقته بالقرآن الكريم تعلماً وتعليماً وبذلاً، فهذا مما تقصر دون تمامه الصفحات والأقلام، وما أكتبه عن هذا الإمام – رحمه الله – ليس ترجمة ولا كتابة سيرة، وإنما هي وقفات مختصرة، وصفحة مشرقة من صفحات ذلك الجبل الأشم والرائد الذي قلّ أن يتكرر.
ولقد احترت بأي تلك الصفحات أبدأ، وعن أي تلك المآثر أتحدث، ولكنه القرآن الذي ثبت عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم – أنه قال كما في صحيح مسلم: " إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين " (1).
الوقفة الأولى :
لايذكر تعليم القرآن في المملكة إلا ويكون الشيخ في مقدمة أولئك الرواد الذين أخذوا على عواتقهم بذل الغالي والنفيس من أجل نشر القرآن وتعليمه والتربية عليه والدعوة إليه.
لقد كان هم تعليم القرآن الكريم هو الهم الذي أقض مضجع الشيخ عشرات السنين منذ أكثر من أربعين سنة حتى آخر لحظة من حياته _رحمه الله_ .
والذي يعرف كيف كانت هذه البلاد قبل خمسين سنة، وكيف أصبحت يدرك الأثر الذي تركه فقيد الأمة _رحمه الله_ وبخاصة فيما يتعلق بحفظ القرآن وتعليمه.
وبالأخص المنطقة الوسطى والشرقية والشمالية، لقد كان تعليم القرآن شغله الشاغل وهمه الذي لاينقطع، بدأ ذلك قبل أربعين سنة في حلقات معدودة في مدينة الرياض، ثم انطلق إلى ماجاورها وانتقل بعد ذلك إلى الشرقية ثم إلى الشمالية، وأسس الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن بالمنطقة الوسطى والشرقية والحدود الشمالية، حيث كان هذا هو اسمها قبل سنوات، ثم استقلت كل منطقة بجمعيتها، واستمر الشيخ في الإشراف على جماعة تحفيظ القرآن بمنطقة الرياض، حتى بلغ عدد الملتحقين بالجماعة في عام 1424هـ أكثر من مائة ألف من الذكور والإناث .
ويكفي أن تدرك أن عدد الدور النسائية في مدينة الرياض فقط بلغت قرابة مئتي دار يدرس بها أكثر من أربعين ألف امرأة وفتاة، مع حداثة تعليم المرأة وافتتاح الدور النسائية، ولم يكن الشيخ مجرد مشرف عام، أو يحمل منصباً شرفياً، بل كان هو المؤسس والمشرف المباشر، والداعم الرئيس، يحضر الجلسات، ويشرف حفلات التخرج، ويواجه المشكلات ويحل ماتلاقيه من معضلات.
وأحسب أن القرآن _بفضل الله ثم بجهود الشيخ ومن معه من إخوانه – دخل كل بيت في منطقة الرياض إلا من أبى .
بل إن الشيخ سعى لدى المسؤولين ليكون القرآن أنيس السجناء، وسبباً من أسباب صلاحهم وتخفيف محكومياتهم، وقد استجاب المسؤولون لذلك، فكان من حفظ شيئاً من القرآن يخفف عنه من المدة ما يقابل ذلك.
ومن حفظ القرآن كله سقطت عنه نصف محكوميته مهما بلغت، وبسبب ذلك حفظ كثير من السجناء القرآن الكريم فصلحت أحوالهم، وعادوا إلى أهلهم قبل انقضاء محكومياتهم، وكان الشيخ يشرف على تلك الحلقات داخل السجون، ويحضر حفلات حفظ القرآن التي يقيمها كل سجن لنزلائه.
أما الدعم المادي من أجل القرآن تعلماً وتعليماً فلا أعرف أحداً يساميه، سواء من ماله الخاص أو بسبب شفاعته لدى المحسنين.(/1)
إن الحديث عن علاقة الشيخ بالقرآن الكريم تحتاج إلى مؤلف خاص، وهذا من مسؤولية أبنائه وإخوانه في جماعة تحفيظ القرآن الكريم، وفاء بحق الشيخ، ولتعرف الأمة كم فيها من رجال، وأسأل الله أن يجعله من الأخيار الذين قال فيهم – صلى الله عليه وسلم –:"خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وألا يحرمنا وإياه شفاعة القرآن كما ثبت في الحديث الصحيح " يأتي القرآن يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" .
الوقفة الثانية :
من أبرز صفات الشيخ قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع شجاعة نادرة في هذا المجال، وقوة حجة وسرعة بديهة، لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو من القلائل الذين اشتهروا في هذا الجانب، وله من المواقف والقصص ما سارت بها الركبان، يدخل على الأمراء والوزراء والمسؤولين والوجهاء والعامة ويتحدث دون خوف أو مهابة أو وجل، مع حكمة وبصيرة شهد له بها الجميع، لايذكر له منكر إلا ويفزع، فلا يقر له قرار حتى يقوم بما أوجب الله عليه، دون تردد أو تسويف، فكم من منكر عظيم أزاله، وكم من معروف أقامه، استمر على ذلك المنهج من شبابه حتى لقي ربه، وأحسب أنه يصدق عليه قول أبي سعيد الخدري لمن أنكر على مروان تقديم الخطبة على الصلاة يوم العيد : " أما هذا فقد قضى ماعليه " هكذا نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا.
وقبل أيام من وفاته كنت مع شيخنا العلامة / عبدالرحمن البراك في مجلس التقى فيه عدداً من طلاب العلم، فذكر الشيخ أنه من العلماء القلائل في قوة الحجة وسرعة البديهة مع شجاعة نادرة، فرحمه الله رحمة واسعة .
الوقفة الثالثة :
اشتهر الشيخ بجولاته الدعوية الخاصة والعامة، في المدن والقرى والهجر والأرياف والبوادي، في المساجد والمدارس والجامعات والمؤسسات والمجالس الخاصة والعامة، يتحدث عن القرآن والسنة ويدعو إلى التوحيد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يشيع الفضيلة، وينهى عن الرذيلة، ويدل الأمة على مافيه صلاحها وفلاحها، لايكل ولايمل، لايشغله عن ذلك شاغل مهما عظم، ولايصرفه عن الدعوة دنيا ولا ولد.
ويذكر أبناؤه وتلاميذه ومرافقوه في ذلك العجب، من الصبر والجلد والتحمل مما يعجز عنه كثير من الشباب، وبخاصة في السفر وزيارة المدن والقرى والهجر.
وآخر جولة دعوية قام بها إلى شمال المملكة عام 1423هـ، واستمر على ذلك حتى أقعده المرض واشتد عليه الألم فرحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً .
وأختم هذه الوقفات بما يلي :
1. عرف الشيخ بحبه للشفاعة لدى المسؤولين وسعيه إلى ذلك، وبخاصة إذا تعلق الأمر بطلاب العلم والدعاة مما قد يواجهونه في سبيل دعوتهم وتعليم الناس، بل إن الشيخ يرى أحياناً أن الأمر من باب نصرة المظلوم وليس من باب الشفاعة فحسب، وأخذاً بقول المصطفى – صلى الله عليه وسلم – : "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" .
أما شفاعته للعامة فأشهر من أن تذكر، أخذا بقوله _سبحانه_: "مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا" (النساء: من الآية85) ويقول - صلى الله عليه وسلم –: " اشفعوا تؤجروا" (2) .
2. من أبرز ميزات الشيخ اطراده على منهجه وثباته عليه عشرات السنين حتى لقي ربه، مع ماواجهه في ذلك من ابتلاء ومشقة، فصبر وصابر، وجاهد واجتهد،فنسأل الله أن يجعله ممن قال فيهم : "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" (الأحزاب:23).
والذي يعرف الشيخ منذ شبابه يعرف حرصه على التزام السنة والسير على هدي السلف وخير القرون، لم يغير ولم يبدل ولم يضعف ولم يفتر، مع مراعاته لظروف الزمان والمكان والحال والمحل، وهذا عين الحكمة "وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" (البقرة: من الآية269).
3. مع أن الشيخ حصل على أعلى الشهادات في زمنه، حيث تخرج في كلية الشريعة، مع سبق في طلب العلم على كبار العلماء والمشايخ، إلا أنه لم يعمل في أي وظيفة عامة أو خاصة، بل تفرغ للدعوة إلى الله وخدمة كتاب الله وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم –، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد فتح الله عليه من أبواب الرزق ما أغناه عن الخلق، بل إنه سخر ماله وثراءه في البذل في سبيل الله من نشر القرآن وتعليمه، والدعوة إلى الله ومساعدة طلاب العلم، والإنفاق على بناء المساجد ومؤسسات الدعوة، وكفالة الفقراء والأيتام والمساكين حتى لقب بأبي الأيتام والمساكين، وكان يسكن بجوار منزله السابق عشرات الفقراء والمساكين الذين وجدوا فيه الأب والمعين والمنفق سراً وعلانية، فرحمه الله رحمة واسعة.(/2)
4. ومع ذلك كله فقد كان شديد التواضع، لين الجانب مع المؤمنين، بعيد الغضب، سريع الفيأة، مع شدة وغلظة على المنافقين والعلمانيين وأعداء الدين، التزاماً بقوله _سبحانه_: "أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ" (المائدة: من الآية54).
رحم الله أبا عبدالله، وعوض المسلمين عنه خيراً، فقد كانت مصيبة الأمة فيه مصيبة، ولكن عزاؤنا فيما تركه من أثر، وما بناه من أجيال، فإنه وإن غاب عنا بجسده، فإن آثاره لاتزال – وستبقى بإذن الله – بيننا نتذكره كلما رأينا تالياً لكتاب الله، أو حلقة في مسجد، أو آمراً بالمعروف، أو ناهياً عن المنكر، فرحمه الله رحمة واسعة وخلف أبناءه وتلاميذه والمسلمين عنه خيرا.
"الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" (البقرة:156).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------------------------
(1) صحيح مسلم (1/559)
(2) صحيح البخاري 2/520 حديث رقم (1365)(/3)
أمانة الكلمة و الفكرة ...
... بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ) [ الأحزاب : 72 ]
مهما اختلف في تعريف هذه الأمانة التي حملها الإنسان ، فإنها ستظل دائماً في إطار ممارسة منهاج الله في الواقع البشري في الحياة الدنيا . إنها الممارسة الإيمانية في ميادين الحياة كلها .
ولقد كان من تكريم الله سبحانه وتعالى أن حمّل الإنسان هذه الأمانة . ويظل الإنسان في دائرة التكريم وهو يجاهد صادقاً ليوفي بهذه الأمانة العظيمة . فإذا تخلّى عن هذه الأمانة وأعرض عنها فإنه يصبح ظلوماً جهولاً .
ولقد جاءت الآيات الكريمة وَ الأحاديث الشريفة تُلحُّ بهذه القضية إلحاحاً كثيراً ، لتبرز لنا خطورتها في حياة البشرية كلها . وربطت بعض الآيات والأحاديث هذه الأمانة بالعهد الذي يُبرمه المؤمن في حياته الدنيا . سواء أكان العهد كلمة يلفظها ، أم عقداً يبرمه . ونأخذ هنا قبسات من منهاج الله ، ليعود المسلم إلى منهاج الله فيرى الصورة بكامل تفصيلاتها :
( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) [ المؤمنون : 8 ]
( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) [ المعارج : 32 ]
وعن أنس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له )
[ رواه أحمد وابن حبان في صحيحه ] 1
إن الأمانة هي محور العهد الذي أخذه الله من بني آدم من ظهورهم من ذريتهم في عالم الغيب . إنه عهد الإيمان والتوحيد الذي جعله الله في فطرة كل إنسان ، إلا حين تنحرف الفطرة وتتشوّه فإن الأمانة تضيع والعهود تغيب .
( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون . وكذلك نفصّل الآيات لعلهم يرجعون ) [ الأعراف : 172 ـ 174 ]
وتمتد الأمانة في حياة الإنسان إلى جميع الميادين في الحياة الدنيا ، ويظل المؤمن الصادق هو الذي يرعى الأمانة بأدق صورها ، ويجاهد نفسه وكبره وغروره ، ويجاهد أهواءه وشهواته ، حتى يظل على عهده مع الله ، ويوفي بالأمانة ويجاهد دون ذلك .
يرتبط الوفاء بالأمانة التي حملها الإنسان بأمر النصر الذي ينزله الله على عباده . فالنصر من عند الله وحده ، يهيئ الله أسبابه كلها ويمضي بها قدره حتى يتحقق . فارتبط النصر إذن بالوفاء بعهد الله :
( ... وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ... ) [ البقرة : 40 ]
وأما وعد الله فثابت في أكثر من آية :
( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد )
[ غافر : 51 ]
( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) [ النور : 55 ]
هذا هو وعد الله ينجزه لعباده المؤمنين وينزل النصر عليهم ، حين يوفون هم بعهدهم مع الله ، وذلك بالوفاء بالأمانة التي حملوها .
ومن أجلِّ أبواب الأمانة " أمانة الكلمة " و " أمانة الفكرة " وأول معاني أمانة الكلمة أن تأتي الكلمة مشرقة بالطهر غنيّة بالصدق ، نابعة من الإيمان والتوحيد ، خاضعة لمنهاج الله ، تحمل الحقَّ وتنصره ، وتصد الباطل والفساد .
إن أول الوفاء بأمانة الكلمة أن تكون طيبة ينتشر طيبها من صدقها ووضوحها وجلائها . وتلك صفة الكلمة عند المؤمنين :
( وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ) [ الحج : 24 ]
( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . تؤتي أكلها كلَّ حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) [ إبراهيم : 24،25 ]
والكلمة الطيبة لا تعني أنها الضعيفة الخائفة ، اللينة بضعفها المستسلمة بخوفها . كلا ! إنها الكلمة القوية الصادقة . إنها الكلمة التي تلين حين تدعو وحين تتألف القلوب ، وهي الكلمة القوية حين تصدّ الفتنة والفساد ، والعدوان والظلم . إنها عبق في لينها وشدتها .
ولقد أعلى الله سبحانه وتعالى منزلة الكلمة وبيّن عظيم خطرها ، كما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ... وهل يكب الناس في النار على وجوههم ، أو قال مناخرهم ، إلا حصائد ألسنتهم ) [ رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ] 2
ذلك عندما لا تكون الكلمة موفية بالأمانة والعهد ، ولا نابعة من الصدق والحق ، ولا تكون " الفكرة " نقيّة صافية نابعة من جوهر الإيمان وبركة منهاج الله . إنها تكبُّ عندئذ صاحبها على وجهه في النار . ذلك عندما تفارق الكلمة الوفاء وتدخل في ميدان الغدر والخداع ، والغش والظلم والعدوان .(/1)
ومن الوفاء بأمانة الكلمة وحمايتها ، حماية الكلمة الطيبة وحماية حقها أن يُعتدى عليها ، وحماية صاحبها .
إن " الفكرة الصادقة " و " الكلمة الطيبة " هي من أعظم ما يقدمه المؤمن في حياته . إنها باب من أبواب الجهاد في سبيل الله . وإنها خفقة من خفقات الحياة . إنها الحياة التي يعرف بها الناسُ صاحبها ، والعزم الذي يتقدم به في دربه ، والأساس المتين الذي يلتقي عليه الصادقون ، والنور الذي يشقُ الظلمات . فمن اعتدى على " الكلمة الطيبة " و " الفكرة الطيبة " فكأنه زلزل أساس اللقاء بين المؤمنين ، وأطفأ النور والضياء .
إن " الفكرة الصادقة " و " الكلمة الطيبة " قطعة من الإنسان المؤمن ، من كبده وقلبه ودمه ، إنها تخرج من أعماق أحنائه ، وأعماق نفسه ، فمن اعتدى عليها فقد اعتدى على الحياة ، على القلب ، وكأنه سفك الدم وأحلّ القتل الظالم . إنها جريمة كبيرة في حق الإنسان .
إن " الفكرة الصادقة " و " الكلمة الطيبة " شرف الإنسان المؤمن ومروءته وعرضه . وهي جوهر حياة الإنسان . ولا بأس أن نذكر ما قاله شكسبير : " من سرق حافظة نقودي فقد سرق شيئاً تافها ، ومن سرق شرفي فقد سرق كل شيء "
إن حماية الفكرة والكلمة حماية لحياة الناس جميعاً ، وأمن المجتمع ، وصون الأعراض ، وحماية الروابط والعلاقة . إن حماية ذلك كله جزء من بناء الأمن ، والوفاء بالأمانة .
والمسلمون يجب أن يكونوا أحرص الناس على حماية الفكرة والكلمة وحقوقها وحقوق صاحبها . ولكن بعض المسلمين اليوم ضيع من هذه الأمانة ومن الوفاء بها الشيء الكثير .
نشرت إحدى المجلات مقالاً وصلها من كاتب يطلب نشره . نشرت معه الأصل الذي سرق الكاتب منه مقالته حرفاً بحرف . فأي خزي أكبر من ذلك .
تقدم شابٌّ لنيل شهادة الدكتوراه في بحث عن الشورى . فنقل نقلاً حرفياً واحداً وثمانين صفحة من كتاب في الشورى لمؤلف آخر دون أن يشير إلى ذلك . ولما عرفت الجامعة ذلك درست الموضوع وحقَّقت فيه ، وكذلك الجهات المختصة ، وأوقفت أمر الشهادة .
شاب يشترك في ندوة شعرية فيلقي من جملة ما يلقيه واحداً وعشرين بيتاً يأخذها بحرفيتها من ديوان شاعر آخر ، وينسب الأبيات لنفسه .
مجلة تأخذ فقرات من كتاب تنقلها حرفياً أو تضيف كلمة وتحذف كلمة ، ثم تنشرها بتوقيع كاتب آخر . وعندما يُراجع في ذلك صاحب المجلة يقول بكل هدؤء :
وماذا في ذلك كل الصحف تفعل مثلنا . فقيل له . كنت في خطأ فصرت في أخطاء جميع الصحف والمجلات التي تحترم الكلمة لا تفعل ذلك .
هذه نماذج مكشوفة من عدم الوفاء بأمانة الكلمة . ولكن الناس مَهَروا في الوسائل والأساليب . فمنهم من تعجبه " الفكرة " في كتاب ، فيأخذها ويغير من صياغة صاحبها ، ويعيد نشرها ، كأنها كلمته . وحين يُسأل يقول : إنها خاطرتي ، وإنها " مثل وقع الحافر على الحافر " ! وإذا سُئل لماذا لم يُشِرْ إلى دراسة سابقة لهذا الفكرة وقد عُرِضَتْ عليه ، يصمت . وقد يقول يا أخي كله عمل لله وهذه أشياء بسيطة . ولما يجد أن الأمر قد وقف عند ذلك ، يتمادى ويبحث عن فكرة جديدة يسطو عليها ويعيد نشرها بصياغة تقترب أو تبتعد عن الأصل . إنها مهارة ولكنها مهارة المفسدين في الأرض ، مهارة الضّالّين ، لن تعود إلا بالشرّ على صاحبها .
وكأنما يتصور بعض الناس أن عزه أن يثبت وجوده في ساحة الفكر والبيان بأي طريقة ، فيتنافس الناس عندئذ الدنيا ، وتفسد النيّة ، وتفسد الكلمة ، ويبهت النور ! ما أكبرها من جريمة .
إن الله سبحانه هو الذي يبارك الكلمة ويطلق نورها ، وإن الإنسان يفسد على الناس بركتها ويُذهِب نورها بظلمه وعدوانه ، من خلال ابتلاء كتبه الله على عباده ، ليُمحِّص ما في الصدور ويكشف النيات ، ولتقوم الحجة لهم يوم القيامة أو تقوم عليهم .
وعندما يُعتدى على الكلمة أو الفكرة ، يُعتدى على غيرها ، فتتمزق الكلمات والأفكار بين هذا وذاك ، بعد أن كانت مترابطة متناسقة عند صاحبها .
ولو كانت " الفكرة " أو " الكلمة " جزءاً من منهج مترابط ، فأخذ هذا فكرة من هذا المنهج وعرضها بين الناس كأنها فكرته وموهبته ، لينال بها الثناء في الدنيا ، ثم أخذ آخر فكرة أخرى يعرضها بنفس النية والسعي وراء زينة الدنيا وعرضها بأسلوب غير كريم ، ثم فعل ثالث ورابع مثل ذلك ، فإن المنهج يتمزق إرباً ، وتضيع قيمته وفائدته ، ولا يجد من يدعو له ، فتكون الخسارة كبيرة . والإثم كبيراً ، يحمل رائحة الخيانة أكثر مما يحمل رائحة الأمانة ، وقد يقترب الإثم من الجريمة .
المسلمون أولى الناس أن يحترموا حقوق الإنسان كلَّها . وحق حماية أمانة الكلمة والفكرة من أهم هذه الحقوق . ولقد أصبح الحق معترفاً به بين الشعوب كلِّها حتى الوثنية منها ، ومنذ زمن بعيد . فما زلنا نقول حتى اليوم " نظرية فيثاغوروس " ، ننسبها لصاحبها ، لا يعتدي عليها أحد . وكذلك سائر النظريات العلمية والأفكار الفلسفية .(/2)
ولكن المفسدين في الأرض هم الذين يبحثون عن فكرة يسرقونها ويطيرون بها ، أو فكرة يحرّفونها ، ذلك كله ليكسبوا عرضاً رخيصاً وزخرفاً تافهاً ، ولكنهم يرتكبون جريمة كبيرة .
وعمل المفسدين في الأرض قديم . فقد حرّف أهل الكتاب كلام الله وبدّلوا وغيروا ، واشتروا به ثمناً قليلاً ، وارتكبوا جريمة كبيرة بحق الإنسانية كلها .
ومهما ظنّ بعض الناس أنهم ناجون في الدنيا . فإن حساب الله شديد ، وعذابه شديد .
ونذكّر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ... فإذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة ... ) [ رواه البخاري ] 3
وربما يدّعي بعضهم أن الهدف هو الدعوة إلى هذه الفكرة أو تلك ، إذ المهم أن تنتشر الفكرة بين الناس ليستفيدوا منها . إنها مغالطة كبيرة يلبس فيها الشيطان على ابن آدم فيضلّه :
أولاً : ما الذي يمنع أن تنشر الفكرة وتُعزى لصاحبها .
ثانياً : كيف يُعطى أحد الحق لنفسه بأن ينال الثناء والأجر من الناس على
كلمة أو فكرة ليست له ، ثم يعتبر أن صاحب الكلمة ليس من
الضروري أن يلتفت إلى ذلك .
ثالثاً : إذا دعا صاحب الفكرة لفكرته أو دعا غيره لها وعزا الفكرة
لصاحبها ، فهناك مجال لأن تكون النيّة صادقة لله . أما إذا دعا
غيره ونسب الأمر لنفسه فقد فسدت النيّة وبطل العمل .
ما أعظم الأمة التي تصون حق الإنسان في كلمته وفكرته بأمانتها وأمانة أبنائها ، أمانة نابعة من إيمان وتوحيد ، وخشية من عذاب الله الشديد .
وما أجمل أن يكون هناك قانون يصد فتنة المفسدين المعتدين ، ويحمي الكلمة وثروة الأمة ، ويحمي صف المؤمنين من وهن الضُعفاء وفتنة المنافقين ، وتسلل الشياطين .
إن منهاج الله يوفر هذا القانون لمن يلتزم منهاج الله ، ولمن يتدبره ويعيه . وإظهار القانون النابع من منهاج الله يوفر الفرصة للكثيرين الذين لم تمتلئ صدورهم بالآيات والأحاديث .
إن الإسلام هو المنهج الحق والدين الحق الذي يكفل حقوق الإنسان كلها ويرعاها . والكلمة والفكرة حقٌّ لصاحبها ، ولا تنفصل عنه ، وحق لكل من يؤمن بها أن ينشرها ويدعو لها دون أن يعزوها لنفسه صراحة أو بالإيحاء .
فما زلنا حتى اليوم ، وسنظل أبداً ، نقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم نروي الحديث الشريف . ونقول قال عمر بن الخطاب أو أبو بكر أو أي صحابيّ رضي الله عنهم ، دون أن يعزو أحد القول لنفسه ، إلا ما سرقه بعض مفكري أوروبا من مبادئ الإسلام بعد أن عزلوها عن الإسلام ونسبوها لأنفسهم .
وفي أقوال أبي بكر وعمر والصحابة رضي الله عنهم روائع من الفكر ، يتمنى الكثيرون لو كانت لهم ، ولكن المتقين يروونها وينسبونها إلى قائلها .
فحق الكلمة والفكرة حق لكل إنسان ، وهو حق يرعاه الإسلام لأنه يترتب على هذا الحق مسؤولية يتحملها صاحب الكلمة . فكيف يحلّ لرجل آخر أن يأخذ هذا الحق فيعزو الكلمة لنفسه . وحين تنكشف المسؤولية يفرُّ ويتبرأ ! .
لابد من رعاية حق الكلمة والفكرة حتى تصان الحقوق والمسؤوليات ، وتعرف الحدود والواجبات ، ولا تضيع بين اعتداء هنا وهناك .
إن في الكلمة والفكرة مسؤولية وحساباً ، وليس حقاً مجرداً للتمتع والزهو والسعي إلى ثناء الناس .
ولذلك كان من مذهب أهل الحداثة عزل الكلمة والفكرة عن صاحبها عزلاً يجعله بعضهم كأنه القتل ، ويجعله موتاً للمؤلف . ذلك لأن المسؤولية عندهم ماتت فماتت معها الحقوق ، واختلطت الأفكار والحقوق والمسؤوليات .
واستمع إلى قوله سبحانه وتعالى :
( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) [ آل عمران : 188]
فانظر في هذه الصورة : ( .. ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا .. )
فهؤلاء جعل الله لهم عذاباً أليماً : ( .. فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) .
وفي الحديث الشريف : ( من ادعى دعوة كاذبة ليتكثر بها لم تزده من الله إلا قلة ) [ رواه ابن كثير في تفسيره ] 4
وفي الصحيحين :
( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ) [ رواه أحمد والشيخان وأبو داود ] 5
وعن أبي ذر رضي الله عنه :
( من ادّعى ما ليس له فليس منا ، وليتبوأ مقعده من النار )
[ رواه ابن ماجة ]6
هكذا يرعى الإسلام حقوق كل إنسان ، ويحاسبه على مسئولياته حتى الكلمة والفكرة :
( .. وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم .. )
ويقول أحدهم لو أَنه أخذ فكرة أعجبته من كاتب ، ثم أعاد صياغتها ، ثمَّ نشرها باسمه كأنها فكرته ، أو كأنه يوحي إِلى الناس أَنّها من عنده ومن علمه الخاص ، فماذا في ذلك ؟ وهل هذه تعتبر سرقة ؟ ! .
فأجبته لو أنك سرقت سيّارة ، وأعدت طِلاءها ، وغيّرت لونّها ، ولو غيّرْتَ حتى رقمها ، ثم سِرْت بها بين الناس ، فما اكتشفوا سرقتك فهل يسقط عنك إثمُ سرقتك وجريمتك ؟ ! إن هذه الجريمة مضاعفة ، ذلك لأنها جريمة سرقة ، ثم جريمة تزوير ، ثم جريمة خداع الناس وغشهم ، ثم جريمة ظلم صاحب الحق .(/3)
إن التقيّ الذي يخشى الله لا يقرب هذه المحاولات أبداً . وإذا كتب فإنه يكتب من بضاعته ، وإذا أخذ من غيره كلمة أو فكرة أشار إِليها بوضوح ودقِّة وذكر المصدر والصفحة وسائر التفصيلات ، فنال بذلك الأجر المضاعف بدلاً من الوزر المضاعف نال أجر الصدق والأمانة ، ونال أجر نشر العلم ، ونال أجر الوفاء لصاحب الحق ، حتى لا يظلم أحداً حقَّه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحمد : المسند : 3/154 ، 210،251 ، الفتح : 14/118، 19/233ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته : (ط : 3) ( حديث : 7056 ) .
(2) سنن الترمذي 41/8/2616 .
(3) البخاري : كتاب العلم (3) ـ باب (2) حديث رقم (60) .
(4) تفسير ابن كثير للآية السابقة .
(5) صحيح الجامع الصغير وزيادته : (ط:3) ، (ج :6 )، (حديث : 6551) .
(6) المصدر السابق : (ج :5) ، ( حديث : 6551) .
...(/4)
أمانة الكلمة والفكرة
...
...
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ) [ الأحزاب : 72 ]
مهما اختلف في تعريف هذه الأمانة التي حملها الإنسان ، فإنها ستظل دائماً في إطار ممارسة منهاج الله في الواقع البشري في الحياة الدنيا . إنها الممارسة الإيمانية في ميادين الحياة كلها .
ولقد كان من تكريم الله سبحانه وتعالى أن حمّل الإنسان هذه الأمانة . ويظل الإنسان في دائرة التكريم وهو يجاهد صادقاً ليوفي بهذه الأمانة العظيمة . فإذا تخلّى عن هذه الأمانة وأعرض عنها فإنه يصبح ظلوماً جهولاً .
ولقد جاءت الآيات الكريمة وَ الأحاديث الشريفة تُلحُّ بهذه القضية إلحاحاً كثيراً ، لتبرز لنا خطورتها في حياة البشرية كلها . وربطت بعض الآيات والأحاديث هذه الأمانة بالعهد الذي يُبرمه المؤمن في حياته الدنيا . سواء أكان العهد كلمة يلفظها ، أم عقداً يبرمه . ونأخذ هنا قبسات من منهاج الله ، ليعود المسلم إلى منهاج الله فيرى الصورة بكامل تفصيلاتها :
( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) [ المؤمنون : 8 ]
( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) [ المعارج : 32 ]
وعن أنس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له )
[ رواه أحمد وابن حبان في صحيحه ] 1
إن الأمانة هي محور العهد الذي أخذه الله من بني آدم من ظهورهم من ذريتهم في عالم الغيب . إنه عهد الإيمان والتوحيد الذي جعله الله في فطرة كل إنسان ، إلا حين تنحرف الفطرة وتتشوّه فإن الأمانة تضيع والعهود تغيب .
( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون . وكذلك نفصّل الآيات لعلهم يرجعون ) [ الأعراف : 172 ـ 174 ]
وتمتد الأمانة في حياة الإنسان إلى جميع الميادين في الحياة الدنيا ، ويظل المؤمن الصادق هو الذي يرعى الأمانة بأدق صورها ، ويجاهد نفسه وكبره وغروره ، ويجاهد أهواءه وشهواته ، حتى يظل على عهده مع الله ، ويوفي بالأمانة ويجاهد دون ذلك .
يرتبط الوفاء بالأمانة التي حملها الإنسان بأمر النصر الذي ينزله الله على عباده . فالنصر من عند الله وحده ، يهيئ الله أسبابه كلها ويمضي بها قدره حتى يتحقق . فارتبط النصر إذن بالوفاء بعهد الله :
( ... وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ... ) [ البقرة : 40 ]
وأما وعد الله فثابت في أكثر من آية :
( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد )
[ غافر : 51 ]
( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) [ النور : 55 ]
هذا هو وعد الله ينجزه لعباده المؤمنين وينزل النصر عليهم ، حين يوفون هم بعهدهم مع الله ، وذلك بالوفاء بالأمانة التي حملوها .
ومن أجلِّ أبواب الأمانة " أمانة الكلمة " و " أمانة الفكرة " وأول معاني أمانة الكلمة أن تأتي الكلمة مشرقة بالطهر غنيّة بالصدق ، نابعة من الإيمان والتوحيد ، خاضعة لمنهاج الله ، تحمل الحقَّ وتنصره ، وتصد الباطل والفساد .
إن أول الوفاء بأمانة الكلمة أن تكون طيبة ينتشر طيبها من صدقها ووضوحها وجلائها . وتلك صفة الكلمة عند المؤمنين :
( وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ) [ الحج : 24 ]
( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . تؤتي أكلها كلَّ حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) [ إبراهيم : 24،25 ]
والكلمة الطيبة لا تعني أنها الضعيفة الخائفة ، اللينة بضعفها المستسلمة بخوفها . كلا ! إنها الكلمة القوية الصادقة . إنها الكلمة التي تلين حين تدعو وحين تتألف القلوب ، وهي الكلمة القوية حين تصدّ الفتنة والفساد ، والعدوان والظلم . إنها عبق في لينها وشدتها .
ولقد أعلى الله سبحانه وتعالى منزلة الكلمة وبيّن عظيم خطرها ، كما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ... وهل يكب الناس في النار على وجوههم ، أو قال مناخرهم ، إلا حصائد ألسنتهم ) [ رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ] 2
ذلك عندما لا تكون الكلمة موفية بالأمانة والعهد ، ولا نابعة من الصدق والحق ، ولا تكون " الفكرة " نقيّة صافية نابعة من جوهر الإيمان وبركة منهاج الله . إنها تكبُّ عندئذ صاحبها على وجهه في النار . ذلك عندما تفارق الكلمة الوفاء وتدخل في ميدان الغدر والخداع ، والغش والظلم والعدوان .(/1)
ومن الوفاء بأمانة الكلمة وحمايتها ، حماية الكلمة الطيبة وحماية حقها أن يُعتدى عليها ، وحماية صاحبها .
إن " الفكرة الصادقة " و " الكلمة الطيبة " هي من أعظم ما يقدمه المؤمن في حياته . إنها باب من أبواب الجهاد في سبيل الله . وإنها خفقة من خفقات الحياة . إنها الحياة التي يعرف بها الناسُ صاحبها ، والعزم الذي يتقدم به في دربه ، والأساس المتين الذي يلتقي عليه الصادقون ، والنور الذي يشقُ الظلمات . فمن اعتدى على " الكلمة الطيبة " و " الفكرة الطيبة " فكأنه زلزل أساس اللقاء بين المؤمنين ، وأطفأ النور والضياء .
إن " الفكرة الصادقة " و " الكلمة الطيبة " قطعة من الإنسان المؤمن ، من كبده وقلبه ودمه ، إنها تخرج من أعماق أحنائه ، وأعماق نفسه ، فمن اعتدى عليها فقد اعتدى على الحياة ، على القلب ، وكأنه سفك الدم وأحلّ القتل الظالم . إنها جريمة كبيرة في حق الإنسان .
إن " الفكرة الصادقة " و " الكلمة الطيبة " شرف الإنسان المؤمن ومروءته وعرضه . وهي جوهر حياة الإنسان . ولا بأس أن نذكر ما قاله شكسبير : " من سرق حافظة نقودي فقد سرق شيئاً تافها ، ومن سرق شرفي فقد سرق كل شيء "
إن حماية الفكرة والكلمة حماية لحياة الناس جميعاً ، وأمن المجتمع ، وصون الأعراض ، وحماية الروابط والعلاقة . إن حماية ذلك كله جزء من بناء الأمن ، والوفاء بالأمانة .
والمسلمون يجب أن يكونوا أحرص الناس على حماية الفكرة والكلمة وحقوقها وحقوق صاحبها . ولكن بعض المسلمين اليوم ضيع من هذه الأمانة ومن الوفاء بها الشيء الكثير .
نشرت إحدى المجلات مقالاً وصلها من كاتب يطلب نشره . نشرت معه الأصل الذي سرق الكاتب منه مقالته حرفاً بحرف . فأي خزي أكبر من ذلك .
تقدم شابٌّ لنيل شهادة الدكتوراه في بحث عن الشورى . فنقل نقلاً حرفياً واحداً وثمانين صفحة من كتاب في الشورى لمؤلف آخر دون أن يشير إلى ذلك . ولما عرفت الجامعة ذلك درست الموضوع وحقَّقت فيه ، وكذلك الجهات المختصة ، وأوقفت أمر الشهادة .
شاب يشترك في ندوة شعرية فيلقي من جملة ما يلقيه واحداً وعشرين بيتاً يأخذها بحرفيتها من ديوان شاعر آخر ، وينسب الأبيات لنفسه .
مجلة تأخذ فقرات من كتاب تنقلها حرفياً أو تضيف كلمة وتحذف كلمة ، ثم تنشرها بتوقيع كاتب آخر . وعندما يُراجع في ذلك صاحب المجلة يقول بكل هدؤء :
وماذا في ذلك كل الصحف تفعل مثلنا . فقيل له . كنت في خطأ فصرت في أخطاء جميع الصحف والمجلات التي تحترم الكلمة لا تفعل ذلك .
هذه نماذج مكشوفة من عدم الوفاء بأمانة الكلمة . ولكن الناس مَهَروا في الوسائل والأساليب . فمنهم من تعجبه " الفكرة " في كتاب ، فيأخذها ويغير من صياغة صاحبها ، ويعيد نشرها ، كأنها كلمته . وحين يُسأل يقول : إنها خاطرتي ، وإنها " مثل وقع الحافر على الحافر " ! وإذا سُئل لماذا لم يُشِرْ إلى دراسة سابقة لهذا الفكرة وقد عُرِضَتْ عليه ، يصمت . وقد يقول يا أخي كله عمل لله وهذه أشياء بسيطة . ولما يجد أن الأمر قد وقف عند ذلك ، يتمادى ويبحث عن فكرة جديدة يسطو عليها ويعيد نشرها بصياغة تقترب أو تبتعد عن الأصل . إنها مهارة ولكنها مهارة المفسدين في الأرض ، مهارة الضّالّين ، لن تعود إلا بالشرّ على صاحبها .
وكأنما يتصور بعض الناس أن عزه أن يثبت وجوده في ساحة الفكر والبيان بأي طريقة ، فيتنافس الناس عندئذ الدنيا ، وتفسد النيّة ، وتفسد الكلمة ، ويبهت النور ! ما أكبرها من جريمة .
إن الله سبحانه هو الذي يبارك الكلمة ويطلق نورها ، وإن الإنسان يفسد على الناس بركتها ويُذهِب نورها بظلمه وعدوانه ، من خلال ابتلاء كتبه الله على عباده ، ليُمحِّص ما في الصدور ويكشف النيات ، ولتقوم الحجة لهم يوم القيامة أو تقوم عليهم .
وعندما يُعتدى على الكلمة أو الفكرة ، يُعتدى على غيرها ، فتتمزق الكلمات والأفكار بين هذا وذاك ، بعد أن كانت مترابطة متناسقة عند صاحبها .
ولو كانت " الفكرة " أو " الكلمة " جزءاً من منهج مترابط ، فأخذ هذا فكرة من هذا المنهج وعرضها بين الناس كأنها فكرته وموهبته ، لينال بها الثناء في الدنيا ، ثم أخذ آخر فكرة أخرى يعرضها بنفس النية والسعي وراء زينة الدنيا وعرضها بأسلوب غير كريم ، ثم فعل ثالث ورابع مثل ذلك ، فإن المنهج يتمزق إرباً ، وتضيع قيمته وفائدته ، ولا يجد من يدعو له ، فتكون الخسارة كبيرة . والإثم كبيراً ، يحمل رائحة الخيانة أكثر مما يحمل رائحة الأمانة ، وقد يقترب الإثم من الجريمة .
المسلمون أولى الناس أن يحترموا حقوق الإنسان كلَّها . وحق حماية أمانة الكلمة والفكرة من أهم هذه الحقوق . ولقد أصبح الحق معترفاً به بين الشعوب كلِّها حتى الوثنية منها ، ومنذ زمن بعيد . فما زلنا نقول حتى اليوم " نظرية فيثاغوروس " ، ننسبها لصاحبها ، لا يعتدي عليها أحد . وكذلك سائر النظريات العلمية والأفكار الفلسفية .(/2)
ولكن المفسدين في الأرض هم الذين يبحثون عن فكرة يسرقونها ويطيرون بها ، أو فكرة يحرّفونها ، ذلك كله ليكسبوا عرضاً رخيصاً وزخرفاً تافهاً ، ولكنهم يرتكبون جريمة كبيرة .
وعمل المفسدين في الأرض قديم . فقد حرّف أهل الكتاب كلام الله وبدّلوا وغيروا ، واشتروا به ثمناً قليلاً ، وارتكبوا جريمة كبيرة بحق الإنسانية كلها .
ومهما ظنّ بعض الناس أنهم ناجون في الدنيا . فإن حساب الله شديد ، وعذابه شديد .
ونذكّر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ... فإذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة ... ) [ رواه البخاري ] 3
وربما يدّعي بعضهم أن الهدف هو الدعوة إلى هذه الفكرة أو تلك ، إذ المهم أن تنتشر الفكرة بين الناس ليستفيدوا منها . إنها مغالطة كبيرة يلبس فيها الشيطان على ابن آدم فيضلّه :
أولاً : ما الذي يمنع أن تنشر الفكرة وتُعزى لصاحبها .
ثانياً : كيف يُعطى أحد الحق لنفسه بأن ينال الثناء والأجر من الناس على
كلمة أو فكرة ليست له ، ثم يعتبر أن صاحب الكلمة ليس من
الضروري أن يلتفت إلى ذلك .
ثالثاً : إذا دعا صاحب الفكرة لفكرته أو دعا غيره لها وعزا الفكرة
لصاحبها ، فهناك مجال لأن تكون النيّة صادقة لله . أما إذا دعا
غيره ونسب الأمر لنفسه فقد فسدت النيّة وبطل العمل .
ما أعظم الأمة التي تصون حق الإنسان في كلمته وفكرته بأمانتها وأمانة أبنائها ، أمانة نابعة من إيمان وتوحيد ، وخشية من عذاب الله الشديد .
وما أجمل أن يكون هناك قانون يصد فتنة المفسدين المعتدين ، ويحمي الكلمة وثروة الأمة ، ويحمي صف المؤمنين من وهن الضُعفاء وفتنة المنافقين ، وتسلل الشياطين .
إن منهاج الله يوفر هذا القانون لمن يلتزم منهاج الله ، ولمن يتدبره ويعيه . وإظهار القانون النابع من منهاج الله يوفر الفرصة للكثيرين الذين لم تمتلئ صدورهم بالآيات والأحاديث .
إن الإسلام هو المنهج الحق والدين الحق الذي يكفل حقوق الإنسان كلها ويرعاها . والكلمة والفكرة حقٌّ لصاحبها ، ولا تنفصل عنه ، وحق لكل من يؤمن بها أن ينشرها ويدعو لها دون أن يعزوها لنفسه صراحة أو بالإيحاء .
فما زلنا حتى اليوم ، وسنظل أبداً ، نقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم نروي الحديث الشريف . ونقول قال عمر بن الخطاب أو أبو بكر أو أي صحابيّ رضي الله عنهم ، دون أن يعزو أحد القول لنفسه ، إلا ما سرقه بعض مفكري أوروبا من مبادئ الإسلام بعد أن عزلوها عن الإسلام ونسبوها لأنفسهم .
وفي أقوال أبي بكر وعمر والصحابة رضي الله عنهم روائع من الفكر ، يتمنى الكثيرون لو كانت لهم ، ولكن المتقين يروونها وينسبونها إلى قائلها .
فحق الكلمة والفكرة حق لكل إنسان ، وهو حق يرعاه الإسلام لأنه يترتب على هذا الحق مسؤولية يتحملها صاحب الكلمة . فكيف يحلّ لرجل آخر أن يأخذ هذا الحق فيعزو الكلمة لنفسه . وحين تنكشف المسؤولية يفرُّ ويتبرأ ! .
لابد من رعاية حق الكلمة والفكرة حتى تصان الحقوق والمسؤوليات ، وتعرف الحدود والواجبات ، ولا تضيع بين اعتداء هنا وهناك .
إن في الكلمة والفكرة مسؤولية وحساباً ، وليس حقاً مجرداً للتمتع والزهو والسعي إلى ثناء الناس .
ولذلك كان من مذهب أهل الحداثة عزل الكلمة والفكرة عن صاحبها عزلاً يجعله بعضهم كأنه القتل ، ويجعله موتاً للمؤلف . ذلك لأن المسؤولية عندهم ماتت فماتت معها الحقوق ، واختلطت الأفكار والحقوق والمسؤوليات .
واستمع إلى قوله سبحانه وتعالى :
( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) [ آل عمران : 188]
فانظر في هذه الصورة : ( .. ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا .. )
فهؤلاء جعل الله لهم عذاباً أليماً : ( .. فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) .
وفي الحديث الشريف : ( من ادعى دعوة كاذبة ليتكثر بها لم تزده من الله إلا قلة ) [ رواه ابن كثير في تفسيره ] 4
وفي الصحيحين :
( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ) [ رواه أحمد والشيخان وأبو داود ] 5
وعن أبي ذر رضي الله عنه :
( من ادّعى ما ليس له فليس منا ، وليتبوأ مقعده من النار )
[ رواه ابن ماجة ]6
هكذا يرعى الإسلام حقوق كل إنسان ، ويحاسبه على مسئولياته حتى الكلمة والفكرة :
( .. وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم .. )
ويقول أحدهم لو أَنه أخذ فكرة أعجبته من كاتب ، ثم أعاد صياغتها ، ثمَّ نشرها باسمه كأنها فكرته ، أو كأنه يوحي إِلى الناس أَنّها من عنده ومن علمه الخاص ، فماذا في ذلك ؟ وهل هذه تعتبر سرقة ؟ ! .
فأجبته لو أنك سرقت سيّارة ، وأعدت طِلاءها ، وغيّرت لونّها ، ولو غيّرْتَ حتى رقمها ، ثم سِرْت بها بين الناس ، فما اكتشفوا سرقتك فهل يسقط عنك إثمُ سرقتك وجريمتك ؟ ! إن هذه الجريمة مضاعفة ، ذلك لأنها جريمة سرقة ، ثم جريمة تزوير ، ثم جريمة خداع الناس وغشهم ، ثم جريمة ظلم صاحب الحق .(/3)
إن التقيّ الذي يخشى الله لا يقرب هذه المحاولات أبداً . وإذا كتب فإنه يكتب من بضاعته ، وإذا أخذ من غيره كلمة أو فكرة أشار إِليها بوضوح ودقِّة وذكر المصدر والصفحة وسائر التفصيلات ، فنال بذلك الأجر المضاعف بدلاً من الوزر المضاعف نال أجر الصدق والأمانة ، ونال أجر نشر العلم ، ونال أجر الوفاء لصاحب الحق ، حتى لا يظلم أحداً حقَّه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحمد : المسند : 3/154 ، 210،251 ، الفتح : 14/118، 19/233ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته : (ط : 3) ( حديث : 7056 ) .
(2) سنن الترمذي 41/8/2616 .
(3) البخاري : كتاب العلم (3) ـ باب (2) حديث رقم (60) .
(4) تفسير ابن كثير للآية السابقة .
(5) صحيح الجامع الصغير وزيادته : (ط:3) ، (ج :6 )، (حديث : 6551) .
(6) المصدر السابق : (ج :5) ، ( حديث : 6551) .(/4)
أمانة إعداد القوة بين السلف والخلف
بقلم اللواء الركن
محمد جمال الدين محفوظ
-----------------------------------------------------------------------
في حجة الوداع قال الرسول القائد صلى الله عليه وسلم: »تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنتي.«
والعسكرية الإسلامية قامت على تعاليم كتاب الله وسنة رسوله القولية والعملية والتقريرية، فهي بذلك مما ينطوي عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم..
والحق أنه لم يترك نبي من الأنبياء أمته على مثل ما ترك محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من القوة والمنعة، مما يعد أمانة عظمى في أعناق المسلمين، عليهم أن يحملوها في كل عصر إلى أن تقوم الساعة.
فلقد شاءت إرادة الله عز وجل أن يلحق الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وقد أعد أمته لمواجهة أقوى تحديات عصرها وقهرها، ولعل أبرز تلك التحديات مواجهة أكبر قوتين عالميتين في ذلك العصر هما: فارس وبيزنطة، تلك المواجهة التي حدثت على الفور وفي عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ولا بد لنا – أمام هذه الحقيقة البارزة من حقائق التاريخ- أن نحلل القدرة الدفاعية الإسلامية التي بناها الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، وتركها أمانة في أعناق المسلمين من بعده إلى عناصرها الأساسية، ثم نتأمل فيما فعل المسلمون بها، لكي نستخلص الدرس والعبرة لحاضرنا ومستقبلنا، فالله تعالى يقول: »فاعتبروا يا أولي الأبصار« (الحشر: 2).
فمن عناصر تلك القدرة الدفاعية ما يلي على سبيل المثال:
1- جيش قادر على الردع وتحقيق الأهداف الاستراتيجية..
ليس من شك أن في الجيش الإسلامي في عصر النبوة قد حقق الهدف الاستراتيجي وهو تأمين الدعوة وقيام الدولة الإسلامية وتوفير الأمن والاستقرار لها لكي تؤدي رسالتها السامية لخير البشرية.
ولقد حدد الرسول القائد صلوات الله وسلامه عليه هذا الهدف منذ اللحظة الأولى من الصراع مع المشركين حين رفع يديه بالدعاء إلى ربه بعد أن نظم صفوف الجيش في بدر وقال: »اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد في الأرض..« بهذا الوضوح والتحديد ربط عليه الصلاة والسلام برباط وثيق بين الدعوة وبين القدرة على الدفاع عنها وتأمينها، فكان من ذلك الهدف الاستراتيجي واضحاً ومحدداً.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف حارب المسلمون أكثر من ستين عملية من عمليات القتال قاد منها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ثماني وعشرين غزوة، وقد واجه المسلمون –وهم قلة في العدد والعدة- في تلك العمليات أكثر من عدو، فقد حاربوا المشركين واليهود والروم.
وكان الردع هو جوهر الاستراتيجية الحربية للجيش كما يلي:
بإيقاع الرهبة في قلب العدو وإخافته من عاقبة عدوانه على المسلمين تطبيقاً للتوجيه القرآني: »وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم..« (الأنفال: 60) وللحديث: »نُصِرت بالرعب مسيرة شهر.« (من حديث البخاري). ودليل ذلك أن القتال لم ينشب إلا في تسع عشرة غزوة خوفاً من مواجهة قوة المسلمين.
وبقدرة الجيش علىالتعرف على نوايا العدو، وعلى الحركة السريعة لمواجهة الخطر وإجهاض تدابير العدو للعدوان، وقد قام الجيش بعدة عمليات من هذا النوع كان أبلغ دليل على نجاحها أن الأعداء كانوا يفاجأون بها، فيتركون أموالهم وديارهم للمسلمين (مثل غزوة بني سليم – ذي أمر – بحران – ذات الرقاع – دومة الجندل – بني المصطلق – بني لحيان).
2- جيش على مستوى عصره..
في فترة وجيزة لا تتجاوز سبع سنوات لحق جيش الإسلام الأول بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضيات عصره من حيث تكوين القوة الضاربة والتنظيم والتسليح:
فلقد كانت الاستراتيجية العسكرية العالمية المعاصرة لعصر النبوة (فارس وبيزنطة) تقوم على أساس أن تشكل القوة الضاربة للجيش من الفرسان بنسبة الثلث تقريباً من مجموع قوته.
وكان جيش الإسلام في بادئ الأمر يفتقر إلى الفرسان، ففي أولى الغزوات مثلاً –وهي بدر – كانت لدى الجيش فرَسان فقط، فعُني الرسول صلى الله عليه وسلم بتدريب المسلمين على الفروسية وحثهم على اقتناء الخيول حتى قفزت قوة الفرسان إلى المعدل العالمي وهو الثلث، ففي آخر غزوة -وهي تبوك- كان عدد الفرسان عشرة آلاف في جيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل.
وتطور تسليح الجيش بأن أضاف إلى أسلحته المنجنيق والعرادات والدبابات، وهي أسلحة خاصة بالحصار ودك الحصون والأسوار. فقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعثة من اثنين من المسلمين إلى جرش في الشام فتعلما صنعة هذه الأسلحة، ثم استخدمها الرسول صلوات الله وسلامه عليه في حصار الطائف وخيبر.
وبهذا كان الجيش معداً لمواجهة جيوش فارس والروم فوراً ومن عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما ذكرنا.
3- مدرسة عسكرية كاملة..(/1)
وترك الرسول القائد صلى الله عليه وسلم مدرسة عسكرية كاملة لها مبادئها ونظرياتها في أسباب الحرب ودوافعها وآدابها، ونظرياتها في إعداد الأمة للحرب، وفي إعداد المقاتلين وإعداد القادة، وفي الاستطلاع والأمن ومقاومة الجاسوسية، ونظرياتها في الحرب النفسية والتدريب على القتال واقتصاديات الحرب [1]، وترك لنا أيضاً شهادة من التاريخ بأن الجيوش التي تطبق هذه المبادئ تصبح قوة لا تقهر.
4- جيل من القادة الخبراء بفن الحرب..
بلغ عدد قادة الفتوحات الإسلامية ستة وخمسين ومائتي قائد، كان منهم ستة عشر ومائتا قائد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين تعلموا على يديه وفي مدرسته، وليس هذا فحسب، بل باشروا القيادة تحت إشرافه وتوجيهه بصور شتى، فعملوا تحت قيادته العليا قادة للوحدات الفرعية التي يتألف منها الجيش، وقادوا السرايا الحربية قيادة مستقلة، وشاركوا في التخطيط الحربي فأصبحوا خبراء في التخطيط والقيادة معاً [2]. والمعروف أن القادة الذين اكتسبوا خبرة عملية في الحرب يعدون من أثمن الثروات الاستراتيجية لأمتهم.
5- شخصية إسلامية قوية راسخة العقيدة..
ومن أهم ما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك البناء الشامخ للشخصية الإسلامية التي أسلمت وجهها لله وملآت قلبها بعقيدة الإيمان بوحدانية الله، وتخلقت بالأخلاق التي أمر بها سبحانه وتحررت من رق العبودية لغير الله..
ولقد نشأت هذه الشخصية في مجتمع إسلامي، قام أفراده بواجبهم نحو ربهم، وجمعتهم رحمة الأخوة وسماحة التآلف وكرم الإيثار، وباعوا أنفسهم وأموالهم صادقين مطمئنين لقاء ما أعطاهم ربهم من جنته ومغفرته ورضوانه، وملك حب الله قلوبهم فأحبوا من أحبه وعادوا من عاداه ولو كان أقرب الناس إليهم.. وهكذا تهيأ المناخ الصالح للشخصية الإسلامية لإظهار كل طاقاتها المدخرة فيها.
كيف حافظ أجدادنا على هذه الأمانة؟
ومن أهم ما ينفع المسلمين اليوم من دروس التاريخ أن يتأملوا فيما فعل أجدادنا الأوائل في تلك الأمانة التي تركها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحق أن أجدادنا قد فعلوا ما هو أكثر من المحافظة عليها، فعملوا بسنة التطور التي نبهها إليها دينهم، لكي تبقى لجيش الإسلام قوة الردع في عصرهم وفي كل عصر، مدركين تمام الإدراك أن تخلف القوة الإسلامية عن مقتضيات عصرها، يفقدها القدرة على الردع وعلى إرهاب الأعداء.. ولنتخذ على ذلك مثلاً مما تم في عصر الخلفاء الراشدين:
1- تدريب الأجيال الجديدة على مبادئ المدرسة العسكرية الإسلامية:
ويكفي أن نذكر في هذا المقام ما روي عن زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم قال: »كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسم كما نعلم السور من القرآن«، وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم: »كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني، إنها شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها«.
2- تطوير الجيش:
فقد أخذ المسلمون بأسباب التقدم والتطور في الكفاءة القتالية للجيش، فأدخلوا على أسلحة الحصار مثلاً كثيراً من التحسين والتهذيب، وكثر حصارهم بها للمدن المحصنة ذات الأسوار العالية في حروب العراق والشام وفتح مصر، كما تطور الجيش أيضاً في التركيب التنظيمي وتشكيلات القتال وإدارة المعارك، ومن أمثلة ذلك نظام الكراديس [3] الذي ظهر في معركة اليرموك، ومن ذلك أيضاً وضع الديوان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو نظام لتسجيل أسماء المسلمين وتحديد أرزاقهم وتدوين البيانات الخاصة بكل منهم مثل النسب والقبيلة والملامح واللون لكي يسهل استدعاؤه، وهو ما يعرف اليوم بنظام السجلات العسكرية ونظام التعبئة.. إلخ.
ولقد شهدد الإمبراطور البيزنظي ليو لجيش الإسلام بتطوره وملاحقته لعصره فنقل عنه فون كريمر في كتابه الشرق تحت حكم الخلفاء أنه قال: »إن الجندي العربي ما كان يفترق عن الجندي البيزنطي في المؤن والسلاح..« إلخ.
3- إضافة نظريات حربية جديدة..
وذلك نتيجة لخوض المسلمين أشكالاً جديدة من العمليات الحربية لم يألفوها في عصر النبوة، مثل عمليات عبور الأنهار والموانع المائية، وعمليات الحصار الطويلة، والمسير الطويل، وتأمين خطوط المواصلات والإمداد الطويلة، وإقامة المعسكرات والثغور والقواعد الحربية والإدارية، وإدارة شؤون البلاد المفتوحة في جميع المجالات.
4- اكتساب القدرة على إدارة الحرب في جبهتين في وقت واحد..(/2)
فلقد أثبتت القيادة الإسلامية كفاءة لا نظير لها في إدارة دقة الحرب في جبهتين استراجيتين في وقت واحد وفي مواجهة أكبر قوتين عالميتين في عصرهما هما فارس وبيزنطة، وذلك مثل فريد في التاريخ لم تبلغه أقوى الأمم وأوسعها خبرة بفنون الحرب، فالمعروف أن الحرب في جبهتين من أصعب المواقف التي تواجه القيادة، فهو تنطوي على مشكلات بالغة الصعوبة والتعقيد، وتتطلب كفاءة عالية جداً في التخطيط والسيطرة وإدارة العمليات، ويكفي أن نعلم أن الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) لم يستطيعوا أن يهزموا العسكرية الألمانية إلا عن طريق فتح جبهة ثانية..
5- إنشاء الأسطول الحربي الإسلامي لأول مرة في التاريخ..
فقد اقتحم المسلمون بكل اقتدار مجالاً جديداً تماماً من مجالات الصراع هو الحرب البحرية فدخل السلاح البحري في الاستراتيجية العسكرية الإسلامية لأول مرة في التاريخ، ومن أجل ذلك أقام المسلمون دور الصناعة لبناء السفن الحربية، وأتقنوا فنون الحرب في البحار وعمليات الإبرار الحربي، وبلغت كفاءتهم في هذا المجال حداً أنهم انتصروا في المعركة البحرية على أساطيل بيزنطة التي كانت أعظم قوة بحرية في زمانها، فكانت هذه الأساطيل كما يقول ابن خلدون: »تهرب أما البحرية الإسلامية التي ضريت عليهم (أي لزمتهم وطاردتهم) كضراء الأسد على فريسته«.
6- إنزال فارس وبيزنطة عن عرش الفن الحربي..
فالمحصلة النهائية لإنجازات أجدادنا الحربية في عصر الفتوح هو انتصار العسكرية الإسلامية على كل من العسكرية الفارسية والعسكرية البيزنطية بكل ما وراءهما من تاريخ حربي طويل، وخبرة واسعة بفنون الحرب والقتال.
7- فتح الطريق لتأسيس الحضارة الإسلامية..
وهو فضل سجله التاريخ لأجدادنا الأوائل الذين جاهدوا في الله حق جهاده، واسترخصوا المال والنفس والولد في سبيل الله، فشقوا الطريق لتلك الحضارة التي أنارت الطريق للبشرية في ميادين العلوم الطبيعية والاجتماعية، ولولا ذلك لتخلفت مواكب الحضارة الحديثة عن الظهور.
المسلمون قوم لا يُقهَرون..
تحت هذا العنوان قال مونتجمري في كتابه الحرب عبر التاريخ:
»في غضون مائة سنة امتدت الدولة الإسلامية من بحر الأورال إلى أعالي النيل، ومن تخوم الصين إلى خليج بسكاي، ولم تكن هناك سوى قوة واحدة لديها القدرة على مقاومة المسلمين في ذلك الوقت وهي الإمبراطورية البيزنطية [4] بالرغم من فقدها الجزء الجنوبي الشرقي من إمبراطوريتها، وفي عام 636م حشد الإمبراطور البيزنطي جيشاً مكوناً من خمسين ألفاً ليقاتل به العرب، وكان جيشهم نصف عدد الجيش البيزنطي وبقيادة خالد بن الوليد، والتقى الجيشان عند اليرموك، وقد أسفرت المعركة عن هزيمة الجيش البيزنطي، وتشتت صفوفه ولاقوا حتفهم على أيدي أهل الصحراء، وأدى هذا إلى تقلص جبهة البيزنطيين حتى وصلت جبال طوروس، كما سقت الإسكندرية في قبضة عمرو بن العاص..«
وفي موضع آخر يقول مونتجمري: »كان العرب يندفعون نحو القتال، تحركهم أقوى دوافع الحرب ألا وهو الإيمان والعقيدة.. كانوا يؤمنون إيماناً راسخاً بالدعوة الإسلامية ويتحمسون لها ويغارون عليها، ويعتنقون مبدأ صلباً هو الجهاد في سبيل الله، وقد تغلغل في قلوبهم..«.
واجب المسلمين اليوم..
والمتأمل في حال المسلمين اليوم لا يمكنه أن يقول: إنهم حافظوا على أمانة إعداد القوة مثلما حافظ عليها أجدادهم عليها، ويكفي أن نتساءل على سبيل المثال:
هل لدى المسلمين اليوم القوة الذاتية القادرة على الردع وتحقيق الأهداف الاستراتيجية؟
وهل جيوش الأمة الإسلامية اليوم على مستوى عصرها من التطور والتقدم تنظيماً وتسليحاً وكفاءة للقتال؟
هل يدرس أبناء المسلمين اليوم في الكليات العسكرية مبادئ ونظريات العسكرية الإسلامية؟ أم أنهم يدرسون العلم العسكري نقلاً عن الغرب أو الشرق حتى أصبحوا مقطوعين عن مقوماتهم الأساسية الأصيلة؟
هل تملأ الروح الجهادية وحب الجندية قوب شبابنا اليوم؟ وهل يقبلون على العلم والعمل والانتاج باذلين أقصى ما لديهم من طاقات معنوية ومادية لبناء أمتهم وبناء قدراتها الدفاعية؟
هذه الأسئلة وعشارت غيرها لابد أن تدور في عقولنا وقلوبنا اليوم، لأن الإجابة عليها ترشدنا بسرعة وبصورة محددة إلى ما ينبغي عمله لحاضرنا ومستقبلنا.
ولا ينبغي في هذا المقام أن تغيب عنا الرؤية التاريخية، ففي التاريخ – وقد ذكرنا جانباً منه آنفاً – العبرة التي يسترشد بها، والتجارب التي ينتفع بها، ثم إن لنا من تعاليم ديننا ما يغنينا عن البحث عن نظرية تحقق لنا في عصرنا – وفي كل عصر – الأمن والسلامة، وبناء القوة التي تحمينا وتدفع العدوان عنا، وتعيد إلى أمتنا الإسلامية مكانتها اللائقة بها، وسابق عهدها: أمة مرهوبة الجانب، وخير أمة أخرجت للناس.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة الأمة، العدد 30، جمادى الآخرة، 1403 هـ(/3)
------------------------------------------------------------------------
[1] انظر كتابنا (المدخل إلى العقيدة العسكرية الإسلامية) للتعرف على نظريات المدرسة العسكرية تفصيلاً.
[2] راجع فصل »إعداد القادة« في المرجع السابق.
نظام الكراديس هو تركيب تنظيمي يقوم علىبناء وحدات متساوية في القوة من الفرسان والرماة، دون النظر إلى أصل أو نسب، وهو الأسلوب المعمول به في الجيوش النظامية.[3]
[4] إن إغفال مونتجمري لقوة فارس لا يخفى على الفطن، كما أن ذلك – من الناحية العلمية- تقصير من مؤرخ في تناول التاريخ بطريقة موضوعية، ثم إنه لا يمحو من صفحات التاريخ معارك القادسية والمدائن ونهاوند وغيرها من معارك فتوح العراق وإيران.
*********************(/4)
أماه لا أَرضى الهَوان ! (1)
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أُمَّاهُ ! أَيْنَ أَسيرُ ؟ ! دَرْبيَ مُغْلَقٌ ... ... سُدَّتْ مَسَالِكُهُ عَلى أَبْصَاري
وَكأَنَّني بَيْنَ الوُحُولُ أَغُوصُ في ... ... شَرَكٍ وأَدْفَعُ زَحْمةَ الأَخْطارِ
وكَأنَّني أَجْري وأَلْهَثُ ، دُونَني ... ... دَرْبٌ يَصُبُّ عَلَى شَفيرٍ هَار
وَقُبَالتي يَجْري السَّرَابُ وَلَهْفَتي ... ... تَجْري وَتَلْهَثُ خَلفَنا آثَاري
أَنَّى جَرَيْتُ رأَيْتُ حَوْلي أَدْمُعا ... ... ثَكْلَى تَصُبُّ دُمُوعَهَا و جَوَاري
ورأيْتُ أَشْلاءً تُمَزِّقُهَا الرِّيا ... ... حُ ! تَناثَرَتْ مِزَقاً بكلّ مَسارِ
وجَمَاجماً مِثْلَ الجبَال تَهُزُّني ... ... فَزَعاً مِنَ التصْدِيقِ والإِنْكارِ
وصراخُ طِفْلٍ لْم تَزَلْ أَصْداؤهُ ... ... بَيْنَ الدِّمَاءِ تَقُول : يَا لِلعارِ !
أُماهُ ! مَنْ جَلَبَ الهَوَانَ ومنْ رَمى ... ... بيَ في الطَّريقِ وشدَّ حَبْلَ إِسَاريِ
أُمَّاهُ ! لا أَرضَى الهَوَانَ ولا أَرى ... ... دَرْباً أَعزَّ مِنَ التِحَامِ شِفارِ
* * ... ... * *
أبُنَيَّ ! تِلْكَ هِيَ المَيادينُ التي ... ... تَأْبَى الهَوَانَ وذِلَّةَ الإدْبارِ
أَعلْى مَيَادين الجهادِ نُفوسُنا ... ... ومَكَامِنُ الشَّهَواتِ والأَسْرارِ
فإِذَا انْتَصَرْتَ بها فَدونَكَ سَاحَة ... ... أُخْرَى تَخُوضُ بَها عَجَاجَ غِمارِ
فإِذَا صَدَقْتَ الله نِلْتَ بِفَضْله ... ... حُسنَى الشَّهَادَةِ أَو رَفيفَ الغَارِ
فانْزِلْ مَيَادينَ الهُدَى ودَع الهَوى ... ... ودَع الهَوَانَ لِتَائهٍ خَوَّار
واحْسِمْ "مَصيرَك" في جَلاَء مَوَاقعٍ ... ... لا بَيْنَ حَيْرَةِ زُخْرُفٍ وشِعَارِ
* * ... ... * *
فَعجبْتُ مِنْ أُمٍّ وَمِنْ وَلدٍ لَها ... ... نهضَا على شَرَفٍ وصِدق حِوَارِ
فسأَلتْه:مَنْ أَنْتَ ؟! قال: أَنا ابن من ... ... مَلأَ الزَّمَان بزَحْفهِ الجَرَّارِ
فأبى الذي صبَّ الدِّماءَ هُنا رضاً ... ... لله يَطْلُبُ مِنْهُ عُقْبَى الدَّارِ
مَا جَالَ جَوْلَتَهُ على وثنيَّةٍ ... ... أَبداً ولا مَارى دُعاةَ صَغَارِ
حُرٌّ عَلى التوحيدِ يَعْمُرُ قَلبَهُ ... ... لله شوقُ الفارسِ المغوارِ
آبائِيَ الغُرُّ الذينَ عَرَفْتُهُمْ ... ... طَلعُوا على الدُّنيا طُلوعَ نَهَار
أَبْنَاءُ مَدْرَسةِ النُبوَّةِ كُلهُّمْ ... ... نَسَبُ التُقاةِ ولُحْمَةُ الأَطْهارِ
* * ... ... * *
سَأُعيدُ سيرَتَهُمْ وأَبْرأُ مِنْ هَوَى ... ... عَصَبيَّةٍ جَهْلاءِ أَوْ أَوْزَارِ
أَنَا مُسْتَقِل عَنْ دَعاوى فتْنةٍ ... ... ووحُولِ أَوْهَامٍ ودَرْب عِثارِ
أَنَا لنْ أُمَزِّقُ مُهجَتي و حُشَاشَتي ... ... قِطَعاً تُبَاعُ وتُشتَرى بدُلاَرِ
أَنَا لا أُريدُ على الطريق بنَاءَ جسْـ ... ... ـرِ إِبادَتي أَوْ وَصْمَةً مِنْ عَارِ
أَنَا إِنْ بَنَيْتُ فمِنْ دَمِي أبني العُلا ... ... ومِنَ التُّقَى أَبْني شَوَامخَ داري
دَرْبي سَبيلُ الله يا لجَلائِهِ ... ... نُورٌ يَمُوجُ على رُبىً وقفَارِ
لا يَطْرُقَنَّ سَبيلهُ إلاَّ الذي ... ... يأْبَى مُسَومَةً و ذُلَّ وقفَارِ
لا يَطْرُقَنَّ سَبيلَهُ إلاَّ الذي ... ... يأْبَى مُسَاومَةً وذُلَّ صِغَار
يَجْلو عَلى المَيْدان عِزَّةَ ديِنهِ ... ... ويَصُوغُ في السَّاحاتِ صِدْقَ شِعَارِ
*** ... * ... ***
ورَجَعْتُ أَبْحَثُ في الدُّروب أشُقُّهَا ... ... شفُّا وأَدفعُ خُطْوتي و بدَاري
فَلمحتُ آيةَ سَاحها وعُصَارَةً ... ... مِنْ شَوقِهَا فَهَرعْت في إصْرِارِ
جُمعَ الحَنينُ فكانَ قُبَّةَ صَخْرَةٍ ... ... وطُيُوفَ إسْراءٍ وطيبَ مَزَارِ
ورَفيفَ أَجْنِحةِ الحَمَامِ وخَفْقَةً ... ... مِنْ أَكْيُدٍ حَرَّى ومِنْ زُوَّار
ودويَّ آياتٍ ورَهْبَةَ مَوْكبٍ ... ... مِنْ سُجَّدٍ خَشَعَتْ ومِنْ أنْوَارِ
وجَلال تكبير وعزَّةَ أُمَّةٍ ... ... قَنَتَتْ و وَثْبَةَ فارسٍ مِغْوارِ
فأَلُّم أَشْوَاقي هُنَاكَ بِدَمْعةٍ ... ... وتَضرُّعٍ في خُفْيَةٍ وَجِهَارِ
*** ... * ... ***
يَا قُبَّةَ الأَقْصى طَلَعْتِ على المَدَى ... ... أُفْقاً يُظَلِّلُ لَهْفَتي وأَوَاري
فَملأْتِ آفَاقَ الحَيَاةِ بَلاَلةً ... ... عِنْدَ الهَجيرِ وعندَ كُلِّ عِصَارِ
يَا ساحَةَ الأَقْصَى ويا لَجلالِهِ ... ... سُدَّتْ إِليك مَسَالِكٌ وبَرَارِي
أَأَمُرُّ في سَاحَاتِهِ وأَشمُّ مِنْ ... ... عَبَقِ الجِنَانِ بِهِ ومِنْ أَزْهَارِ
أُصْغِي إلى الزَّيتونِ بَيْنَ ظِلالِهِ ... ... قصَصُ الجُدودِ ونسْمةُ الأَخْبَار
وعلى أَريج البُرْتُقالِ نَداوةُ ... ... نَشَرَتْ هوى الآصَال والأسْحَار
وشَذاً مِنَ الليمُونِ بَيْنَ أَريجهِ ... ... دَفْقُ المَلاحِمِ أَو دَويُّ نِفارِ
المسجِدُ الأقْصى ! فَيَا لِحَنِينهِ ... ... وأَنِينِهِ وَجِراحِهِ وإِسَارِ
*** ... * ... ***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من ملحمة الأقصى للمؤلف(/1)
أمة الإسلام أمة دعوة و إرشاد ...
الدعوة لغةً : هي الطلب بإلحاح وحثٍّ إلى الاستجابة أخذاً أو تركاً من اعتقاد أو قول أو فعل.
الإرشاد لغةً : الهداية وإرشاد الضال ، هدايته إلى الطريق.
إن أول شيء يجب أن يوضع في عقل المسلم اليوم ، هو أنه لم يخلق ليأكل ويشرب ويتناكح ، كسائر المخلوقات
ولم يخلق من أجل إعمار الأرض أكثر مما أمر بإعمارها ، إنما ميزه الله سبحانه وتعالى عن سائر المخلوقات بالعقل والقدرة على التحليل والتركيب وذلك لمهمة وحيدة أناطها به وحده عن سائر المخلوقات ، وهي مهمة التعريف بهذا الدين ، فإن كان الدين تشريفاً لنا ، فلابد أن يكون واجبنا نحوه هو التعريف به.(( فليبلغ الشهد الغائب )) .
والفوضى الفكرية، التي يعيشها العقل المسلم ، والفوضى العاطفية التي تعيشها النفس الإسلامية جعلت المسلم لا يدري ولا يعقل أهم مهامه في هذه الحياة الدنيا ، فالمسلم ما إن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، حتى يصبح في عنقه مهمة التعريف بما عرف من هذا الدين.
وهذا ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم ، فكان أحدهم ما إن يعتنق الإسلام حتى يدعو للإسلام ولاعتناقه ، كما فعل سيدنا أبو بكر رضي الله عنه .
وعندما حصر المسلمون مهمة الدعوة إلى هذا الدين للأئمة والخطباء تحول المجتمع الإسلامي إلى مجتمع كنسي، وأصبح هناك قوم يدعون إلى الإسلام وقوم لا يعرفون عنه شيئاً .. وأصبح بعض هؤلاء يمارسون الوصاية الدينية على الإسلام والمسلمين.
(( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ))
إن الإسلام اليوم ينتشر بين صفوف الشرقيين والغربيين بعل القوة الذاتية للإسلام والتي أودعها الله سبحانه وتعالى فيه .. لكنه يحتاج إلى قوة بشرية وجهود من المسلمين ..
وعندما توافقت القوتان (الذاتية و البشرية) فتح المسلمون العالم كله (العالم القديم في أقل من قرن ..
والفتح لم يكن بالسيف كما شوه البعض ، وإنما كان المسلمون لا يدخلون إلى قرية إلا بعد انتظار ثلاثة أيام ، يعرضون على أصحابها إحدى ثلاث ( الإسلام – الجزية – الحرب ).
إنما كان الفتح بالدعوة والكلمة الطيبة الصالحة وهي أساس الجهاد (( وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً )) الفرقان 52
ويجب على الداعية أن يعلم أن معركته الحقيقة هي الدعوة .. والمعركة لا بد من لها من سلاح ، فلا بد من أن يتخذ من القرآن سلاحاً ولا بد له من هدف وراية .. فرايته يجب أن تكون الجمع بين كافة المسلمين لذلك كان لا بد من هذه القاعدة الهامة " معركتنا الدعوة ، وسلاحنا القرآن ، ونرفع راية الجمع بين كافة المسلمين ".
ويجب على المسلم أن يكون داعياً إلى الله بلسانه ، فإن لم يستطع فبتصرفاته الإسلامية ، وهذا ما يسمونه الدعوة بالقدوة وهو من أقوى أنواع الدعوة إلى الله .
وما فتحت إندونيسيا ، وجنوب شرق آسيا إلا بهذا الأسلوب العظيم ، وما انتقل الإسلام إلى أوروبا وأمريكا إلا بالدعوة باللسان وبالقدوة ، وطبعاً الدعوة الخالصة !.
وربما ييأس كثير من الدعاة ، أو تسرب اليأس إليهم بسبب قلة النتائج وعدم توجه الناس نحو الإسلام . وهو أخطر ما يصيب الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ فلابد أن يعلم المسلم الداعية أنه يدعو لأمرين :
1. أداء الواجب ، وهو واجب التعريف بهذا الدين (( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )) الأعراف164
قولهم معذرة إلى ربكم :إنما نعظهم لنعذر عند الله ، بأداء ما فرض علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
2. الثواب العظيم الذي أعده الله للآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر أما بالنسبة للنتائج فهي إلى الله سبحانه وتعالى ، ولقد دعا الأنبياء عليهم السلام كثيراً ، وربما كانت الاستجابة لا تتناسب مع كثرة دعائهم وعملهم .. وهو درس عظيم للدعاة ..
3. حب الدعوة: (( والله ما أنا بقادر على ترك ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة نار))(/1)
أمة التوحيد وتحقيق الوحدة.. كيف؟
د. حمدي شلبي
ديننا الإسلامي بكل مقوماته يدعو إلى أسمى معاني الوحدة، وجمع شمل المسلمين، فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، وهذا يعني أن المسلم الحقيقي لا يشبع وأخوه المسلم جائع، ولا يفرح ولا يمرح وأخوه المسلم في هم وضيق، أو يهنأ ويسعد وأخوه المسلم في ويل وكرب، بل هو سند وعون لأخيه المسلم في كربه وشدته، وإن تناءت الديار أو اختلفت الأوطان .
وإذا كان شوقي يرحمه الله يقول:
ويجمعنا إذا اختلفت بلاد == بيانٌ غير مختلف ونطق
فإن شعارنا الحقيقي هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم ) . وحال بعض إخواننا المسلمين في هذه الأيام تستدعي النصرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ) ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( ما من امرئٍ مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتهك فيه عرضه وتستحل فيه حرمته إلاَّ نصره الله في موطن يحب فيه نصره، وما من امرئ مسلم يخذل مسلماً في موطن تنتهك فيه حرمته إلاَّ خذله الله في موطن يحب فيه نصره ) .
ولا سبيل إلى هذه النصرة إلاَّ بجمع الشمل ووحدة الصف، حيث يقول سبحانه: { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ... } [ الأنفال: 46 ] ، ويقول سبحانه: { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون * ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } [ آل عمران : 103 – 105 ] ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ) ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) ، وكل شعائر الإسلام ترمز إلى الوحدة وتشير إليها من طرف خفي أو جلي، ففي الصلاة يقف المصلون صفاً واحداً لا فرق بين عربي وأعجمي أو أبيض وأسود أو غني وفقير، فلا تفاضل بعرق أو لون أو جنس أو لغة، لا فضل إلاَّ بالتقوى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم ... } [ الحجرات: 13] .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل ، لهم أولى بمحمد صلى الله عليه وسلم منا يوم القيامة.
والزكاة نظام موحد على المسلمين في كل بقاع الأرض.
والصيام زمان موحد هو { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } [ البقرة: 185]
والحج هو شعار الوحدة الكبرى في الزمان والمكان واللباس والدعاء، وهو تأكيد على أن المسلمين مهما اختلفت ديارهم أو لغاتهم أو ألوانهم فهم أمة واحدة مربوطة برباط وثيق هو رباط الإيمان بالله الواحد الأحد والسير على هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
ولقيام وحدة الأمة لابد من:
1- العمل على نزع أسباب الخلاف والفرقة، ولا يكون ذلك إلاَّ بتقديم مصلحة الدين على سائر المصالح، مع الإخلاص والتجرد والشفافية.
2- التكامل والتكافل والتضامن، على أن الجانب الاقتصادي بين الدول العربية والإسلامية يمكن أن يكون أحد الجوانب التي تسهم في تحقيق وحدة الصف.
3- الدفاع عن المستضعفين من المسلمين وموالاة المؤمنين ومعاداة من يحاربون الله ورسوله، ويحتلون ديار المسلمين..
4- التأكيد على أن حال آخر هذه الأمة لن ينصلح إلاَّ بما صلح به حال أولها وهو الكتاب والسنة، وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : ( تركت فيكم أمرين ما إن اعتصمتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي )(/1)
أمة المليار .. هل تنتصر لرسولها صلى الله عليه وسلم؟!!
الكاتب: الشيخ د. مسفر بن علي القحطاني
تعجبت وتألمت أن تكون ردود الفعل تجاه السخرية من النبي صلى الله عليه وسلم جرّاء الفعل الشنيع الذي قامت به صحيفة( يلا ندز بوسطن) الدنماركية بمثل هذا الضعف والخوف والهوان , وتوقعت أن مؤسساتنا الرسمية و الأهلية وممثلياتنا الإسلامية في الغرب ستتولى تلقين هذه الصحيفة درسا لا تنساه في احترام مقدسات الأمم والشعوب الأخرى , ولكن المفاجأة المركّبة أن الحراك كان ساكنا وخائرا في فاعليته وكأن الكل ينتظر من الأخر أن يقوم بالمدافعة عنه والمبادأة بما يرفع حرج التساؤل الشعبي عن دوره ,مع العلم أن الكاريكاتير الساخر قد نشر في تلك الصحيفة في 26شعبان 1426هـ الموافق30 سبتمبر 2005م أي قبل أربعة أشهر تقريبا ؟!!. و تراكمت المفاجأة أو اللطمة الأخرى على جبين أمتنا الدامي أن تتجرأ مجلة نرويجية تدعى (ماغازينت) وتعيد الدوس بكل تبجح على أعظم مقدساتنا بالإهانة والتحطيم لمشاعرنا الباردة وتنشر تهكمها بالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد الأضحى الماضي دون أي اعتبار لجموعنا ودولنا و حقوقنا المغتالة؟!!..
أتسال بعد هذه الصدمات ونحن أمة ردود الأفعال : أين الغيورين وأصحاب العواطف الملتهبة والتصريحات الإعلامية بالدفاع عن حرمات المسلمين ؟؟ أين من يدعي حب المصطفى عليه الصلاة والسلام ويزايد على ذلك متهما الكل بالتهوين من قدره ؟؟ أين المبادرات الايجابية و التحرك الفاعل والتضحية المالية بالدفاع عن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ؟؟. ألا يحرك في قلوبنا دفاع كل امة عن معتقداتها واعتزازهم بها مهما كانت ضئيلة أو هينة في أعيننا ؛كما فعل البوذيون عند هدم تماثيل باميان ,وما يفعله اليهود فيمن ينكر الهولوكوست (محرقة النازيين لليهود), أو الهندوس في أي إهانة تمس تاريخهم الملفق أو أبقارهم المقدسة, بل دفاع الشواذ والسقطة عن حقوقهم حتى المعنوية منها !!.
أكتب هذا المقال متأخرا لاعتقادي أن المؤسسات الرسمية والأهلية سوف تتولى الردّ والمدافعة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم أكن أتصور أبدا أن نحتاج إلى كتابة مثل هذا المقال أو غيره لاعتقادي أن المقام هو للمبادرات الرسمية الجماعية الفاعلة وليس للخطب أو المكاتبات أوالتقارير الصحفية الاستهلاكية .. لذلك سأبين في هذا المقام بعض المبادرات الواجبة التي ينبغي أن نساهم بها عمليا ممن يرجى تحركه و تُأمّل نهضته لنصرة نبيه عليه الصلاة والسلام ,أذكر بعضها على سبيل المثال:
1-قيام منظمة المؤتمر الإسلامي برفع دعوى قضائية على الصحيفة الدنماركية والمجلة النرويجية خلال الأيام القادمة وتكليف جهة متابعة تعطي تقاريرها الدورية عن نتائج المرافعة , مع عدم الاكتفاء بالاعتذار الرسمي بل ومعاقبة القائمين على تلك الصحف والمجلات .
2-تشكيل وفد رسمي من ممثلي مؤسسات المجتمع المدني من علماء ومفكرين وإعلاميين ورجال أعمال للالتقاء بالمسئولين في الدولتين أو في سفاراتهم في دولنا العربية والإسلامية , وتفعيل هذا الحق من خلال مقابلات ومكاتبات احتجاجية للهيئات الرسمية التابعة لهيئة الأمم المتحدة التي كفلت بحق التعظيم للمقدسات الإنسانية من خلال إعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التعصب أو التمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد والذي وقعت عليه الدول الأعضاء في 1981 م.
3- قيام ممثلين عن رابطة العالم الإسلامي واتحاد علماء المسلمين ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بزيارة لممثلي الديانة المسيحية في الفاتيكان للاحتجاج على هذه التصرفات التي تهدم ما توصلت إليه لجان الحوار بين الأديان خلال العقدين الماضيين.
4- الاحتجاج الرسمي من قبل أصحاب الوكالات التجارية للصادرات الدنماركية والنرويجية في البلدان العربية بالتهديد بقطع العلاقة معهم حتى يتم الاعتذار الرسمي ومعاقبة القائمين على تلك الصحف , مع التأكيد أن تقاعس شركاتنا التجارية عن أداء هذا الواجب والحراك السريع سيجعل تلك المنتجات في قائمة المقاطعة التجارية لها ونشر أسماء الشركات الوكيلة في القنوات الإعلامية المتنوعة لمنع التعامل معها أو الشراء منها.
5- مطالبة الكتّاب والصحفيين والإعلاميين بل وكل غيور على دينه ومعتقده بالقيام بدور النصرة للنبي عليه الصلاة والسلام ومحاولة إثارة الرأي العام الغربي لهذا الانتهاك الحقوقي والتدنيس العلني للمعتقدات الدينية , وتفعيل النقابات المهنية لأداء دورهم في القضية بالاحتجاج المباشر على الصحيفة الدنماركية وهذا هو عنوانها المباشر في مملكة الدنمارك :صحيفة (Jyllands - Posten ).
الهاتف والفاكس : ( +45 87 38 38 38 ) و ( +45 33 30 30 30 ).
البريد الإلكتروني . ( jp@jp.dk ).(/1)
6- تشكيل مكتب لمتابعة تفعيل هذه المبادرات يُنشأ في اللجنة الإسلامية للقانون الدولي الإنساني التابع للجنة الإسلامية للهلال الدولي احدى المؤسسات المختصة لمنظمة المؤتمر الإسلامي , أو من خلال التنسيق مع الأمين العام لمنظمة الأسيسكو الدكتور عبد العزيز التويجري الذي ساهم بدور كبير في تفعيل الدعوى على الصحيفة الدنماركية والكتابة والمقابلة لعدد من المسئولين في الحكومة الدنماركية
ومع الاعتذار الشديد والاستغفار العميق لعجزنا عن القيام بواجب النصرة لمقام نبي الرحمة والهدى عليه الصلاة والسلام فهذه المبادرات هي أقل ما يمكن القيام به تعظيما لحقه عليه الصلاة والسلام من أمته التي تجاوزت المليار مسلم في كل أنحاء الدنيا ؟!! . أما مؤسساتنا الدينية الرسمية والأهلية ومراكزنا وهيئاتنا الإسلامية التي كثرت إلى حد الغثائية فعليها أن تعيد تحديد أهدافها التي تأسست من أجلها وتفعيل دورها المنتظر واللائق بها والمشابه لمثلها عند أصحاب الديانات السماوية والنحل الأرضية . والتاريخ الذي يسطّر هذه المواقف لن يغفر لنا هذا التخاذل ؛ ولو فعل , فهل سيغفر ربنا هذا التهاون والتنازل ؟؟!(/2)
أمتي هل بين الأمم
شعر: عمر أبو ريشة
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرق خجلاً من أمسك المنصرم
ويكاد الدمع يهمي عابثاً ببقايا كبرياء الألم
أين دنياك التي أوحت إلى وتري كل يتيم النغم
كم تخطيت على أصدائه ملعب العز ومغنى الشمم
وتهاديت كأني ساحب مئزري فوق جباه الأنجم
أمتي كم غصة دامية خنقت نجوى علاك في فمي
أي جرح في إبائي راعف فاته الآسي فلم يلتئم
ألإسرائيل تعلو راية في حمى المهد وظل الحرم !؟
كيف أغضيت على الذل ولم تنفضي عنك غبار التهم ؟
أوما كنت إذا البغي اعتدى موجة من لهب أو من دم !؟
كيف أقدمت وأحجمت ولم يشتف الثأر ولم تنتقمي ؟
اسمعي نوح الحزانى واطربي وانظري دمع اليتامى وابسمي
ودعي القادة في أهوائها تتفانى في خسيس المغنم
ربَّ وامعتصماه انطلقت ملء أفواه البنات اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أمتي كم صنم مجّدتِه لم يكن يحمل طهر الصنم
لايلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدوَّ الغنم
فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيدُ الدرهم
أيها الجندي يا كبش الفدا يا شعاع الأمل المبتسم
ما عرفت البخل بالروح إذا طلبتها غصص المجد الظمي
بورك الجرح الذي تحمله شرفاً تحت ظلال العلم(/1)
أمثلة للمال الحرام
1 ـ تحريم بيع الخمر:
فيدخل فيه تحريم بيع كل مسكر مائعا كان أو جامدا عصيرا أو مطبوخا فيدخل فيه عصير العنب وخمر الزبيب والتمر والذرة والشعير والعسل والحنطة واللقمة الملعونة لقمة الفسق والقلب التي تحرك القلب الساكن إلى أخبث الأماكن فإن هذا كله خمر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مطعن في سنده ولا إجمال في متنه إذ صح عنه قوله : " كل مسكر خمر " وذلك فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يشربها في الآخرة"(1)
وصح عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده : أن الخمر ما خامر العقل فدخول هذه الأنواع تحت اسم الخمر كدخول جميع أنواع الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والزبيب تحت قوله : " لا تبيعوا الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلا بمثل " (2)
فكما لا يجوز إخراج صنف من هذه الأصناف عن تناول اسمه له فهكذا لا يجوز إخراج صنف من أصناف المسكر عن اسم الخمر.
وقد نص أئمة اللغة على أن كل مسكر خمر وقولهم حجة ،و لو لم يتناوله لفظه لكان القياس الصريح الذي استوى فيه الأصل والفرع من كل وجه حاكما بالتسوية بين أنواع المسكر في تحريم البيع والشرب فالتفريق بين نوع ونوع تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه .
2ـ الميتة:
وهي كل حيوان لم يذبح ،مما أحل الله لحمه بعد ذبحه
فيحرم لحمها أكلاً واستفادةً ،: بيعاً وهبةً ،....إلخ.
و تحريم بيع الميتة يدخل فيه كل ما يسمى ميتة سواء مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة لا تفيد حله ويدخل في أبعاضها(3).
وقد ثبت في الصحيحين : من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل : يا رسول الله : أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا هو حرام ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه " (4).
وفيهما أيضا : عن ابن عباس قال : بلغ عمر رضى الله عنه أن سمرة باع خمرا فقال : قاتل الله سمرة ألم يعلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها " (5).
وتحريم الميتة يشتمل على تحريم عدة أمور، منها:
أـ تحريم بيع الشحم:
ولهذا لما استشكل الصحابة رضي الله عنهم تحريم بيع الشحم مع ما لهم فيه من المنفعة أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرام وإن كان فيه ما ذكروا من المنفعة ولذلك فإن قوله : لا هو حرام : عائد إلى البيع وليس عائداً إلى الأفعال التي سألوا عنها ؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هو راجع إلى البيع فإنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم أن الله حرم بيع الميتة قالوا : إن في شحومها من المنافع كذا وكذا يعنون فهل ذلك مسوغ لبيعها ؟ فقال : لا هو حرام.
قال ابن القيم : وكأنهم طلبوا تخصيص الشحوم من جملة الميتة بالجواز كما طلب العباس رضي الله عنه تخصيص الإذخر من جملة تحريم نبات الحرم بالجواز فلم يجبهم إلى ذلك فقال : لا هو حرام.
ويرجحه أيضا قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الفأرة التي وقعت في السمن " إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه وإن كان مائعا فلا تقربوه "(6) وفي الإنتفاع به في الإستصباح وغيره قربان له
ويرجح ذلك أيضاً بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنما حرم من الميتة أكلها " (7)، وهذا صريح في أنه لا يحرم الإنتفاع بها في غير الأكل كالوقيد وسد البثوق ونحوهما قالوا : والخبيث إنما تحرم ملابسته باطنا وظاهرا كالأكل واللبس وأما الإنتفاع به من غير ملابسة فلأي شئ يحرم ؟
ومن تأمل سياق حديث جابر علم أن السؤال إنما كان منهم عن البيع وأنهم طلبوا منه أن يرخص لهم في بيع الشحوم لما فيها من المنافع فأبى عليهم وقال : هو حرام فإنهم لو سألوه عن حكم هذه الأفعال لقالوا : أرأيت شحوم الميتة هل يجوز أن يستصبح بها الناس وتدهن بها الجلود ولم يقولوا : فإنه يفعل بها كذا وكذا فإن هذا إخبار منهم لا سؤال وهم لم يخبروه بذلك عقيب تحريم هذه الأفعال عليهم ليكون قوله : لا هو حرام صريحا في تحريمها وإنما أخبروه به عقيب تحريم بيع الميتة فكأنهم طلبوا منه أن يرخص لهم في بيع الشحوم لهذه المنافع التي ذكروها فلم يفعل ونهاية الأمر أن الحديث يحتمل الأمرين فلا يحرم ما لم يعلم أن الله ورسوله حرمه.
ب ـ بيع أجزاء الميتة :
ويدخل في تحريم بيع الميتة بيع أجزائها التي تحلها الحياة وتفارقها بالموت كاللحم والشحم والعصب(8).
تنبيه :حكم الشعر والوبر والصوف :(/1)
وأما الشعر والوبر والصوف فلا يدخل في ذلك لأنه ليس بميتة ولا تحله الحياة وكذلك قال جمهور أهل العلم : إن شعور الميتة وأصوافها وأوبارها طاهرة إذا كانت من حيوان طاهر هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والثوري وداود وابن المنذر والمزني ومن التابعين : الحسن وابن سيرين وأصحاب عبد الله بن مسعود.
وانفرد الشافعي بالقول بنجاستها واحتج له بما يلي :
1ـ بأن اسم الميتة يتناولها كما يتناول سائر أجزائها بدليل : النظر فإنه متصل بالحيوان ينمو بنمائه فينجس بالموت كسائر أعضائه وبأنه شعر نابت في محل نجس فكان نجسا كشعر الخنزير وهذا لأن ارتباطه بأصله خلقة يقتضي أن يثبت له حكمه تبعا فإنه محسوب منه عرفا والشارع أجرى الأحكام فيه على وفق ذلك فأوجب غسله في الطهارة وأوجب الجزاء يأخذه من الصيد كالأعضاء وألحقه بالمرأة في النكاح والطلاق حلا وحرمة وكذلك هاهنا.
2ـ وبأن الشارع له تشوف إلى إصلاح الأموال وحفظها وصيانتها وعدم إضاعتها وقد قال لهم في شاة ميمونة : " هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به " (9) ولو كان الشعر طاهرا لكان إرشادهم إلى أخذه أولى لأنه أقل كلفة وأسهل تناولا.
أدلة الجمهور :
1ـ قال المطهرون للشعور : قال الله تعالى :? ... وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ ?[ النحل:80] وهذا يعم أحياءها وأمواتها.
2ـ ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة لميمونة ميتة فقال :" ألا انتفعتم بإهابها قالوا : وكيف وهي ميتة ؟ قال : إنما حرم لحمها "(10) وهذا ظاهر جدا في إباحة ما سوى اللحم والشحم والكبد والطحال والألية كلها داخلة في اللحم كما دخلت في تحريم لحم الخنزير ولا ينتقض هذا بالعظم والقرن والظفر والحافر فإن الصحيح طهارة ذلك كما سنقرره عقيب هذه المسألة
3ـ ولأنه لو أخذ حال الحياة لكان طاهرا، فلم ينجس بالموت كالبيض وعكسه الأعضاء.
4ـ قالوا : ولأنه لما لم ينجس بجزه في حال حياة الحيوان بالإجماع دل على أنه ليس جزءا من الحيوان وأنه لا روح فيه لما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما قطع من البهيمة وهي حية فما قطع منها فهو ميتة"(11)
ولأنه لا يتألم بأخذه ولا يحس بمسه وذلك دليل عدم الحياة فيه.
وأما النماء فلا يدل على الحياة والحيوانية التي يتنجس الحيوان بمفارقتها فإن مجرد النماء لو دل على الحياة ونجس المحل بمفارقة هذه الحياة لتنجس الزرع بيبسه لمفارقة حياة النمو والإغتذاء له،قالوا : فالحياة نوعان : حياة حس وحركة وحياة نمو واغتذاء فالأولى : هي التي يؤثر فقدها في طهارة الحي دون الثانية، قالوا : واللحم إنما ينجس لاحتقان الرطوبات والفضلات الخبيثة فيه والشعور والأصواف بريئة من ذلك ولا ينتقض بالعظام والأظفار لما سنذكره
5ـ الأصل في الأعيان الطهارة وإنما يطرأ عليها التنجيس باستحالتها كالرجيع المستحيل عن الغذاء وكالخمر المستحيل عن العصير وأشباهها والشعور في حال استحالتها كانت طاهرة ثم لم يعرض لها ما يوجب نجاستها بخلاف أعضاء الحيوان فإنها عرض لها ما يقتضي نجاستها وهو احتقان الفضلات الخبيثة.
الرد على القائلين بنجاسته : (الشافعي ومن معه )
حديث الشاة الميتة وقوله :" ألا انتفعتم بإهابها" ولم يتعرض للشعر فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها : أنه أطلق الانتفاع بالإهاب ولم يأمرهم بإزالة ما عليه من الشعر مع أنه لا بد فيه من شعر وهو صلى الله عليه وسلم لم يقيد الإهاب المنتفع به بوجه دون وجه فدل على أن الانتفاع به فروا وغيره مما لا يخلو من الشعر
والثاني : أنه صلى الله عليه وسلم قد أرشدهم إلى الانتفاع بالشعر في الحديث نفسه حيث يقول : " إنما حرم من الميتة أكلها أو لحمها "
والثالث : أن الشعر ليس من الميتة ليتعرض له في الحديث لأنه لا يحله الموت وتعليلهم بالتبعية يبطل بجلد الميتة إذا دبغ وعليه شعر فإنه يطهر دون الشعر عندهم وتمسكهم بغسله في الطهارة يبطل بالجبيرة وتمسكهم بضمانه من الصيد يبطل بالبيض وبالحمل وأما في النكاح فإنه يتبع الجملة لاتصاله وزوال الجملة بانفصاله عنها وهاهنا لو فارق الجملة بعد أن تبعها في التنجس لم يفارقها فيه عندهم فعلم الفرق.
بيع جلد الميتة بعد دبغه:
في المسألة قولان مشهوران :
أ ـ ذهب جماهير العلماء إلى الجواز ، فقالوا: وأما الجلد إذا دبغ فقد صار عينا طاهرة ينتفع في اللبس والفرش وسائر وجوه الإستعمال فلا يمتنع جواز بيعه.
ب ـ وقد نص الشافعي في كتابه القديم على أنه لا يجوز بيعه.
وأما أصحاب مالك - رحمه الله-: ففي المدونة لابن القاسم المنع من بيعها وإن دبغت وهو الذي ذكره صاحب التهذيب، وقال المازري : هذا هو مقتضى القول بأنها لا تطهر بالدباغ قال : وأما إذا فرعنا على أنها تطهر بالدباغ طهارة كاملة فإنا نجيز بيعها لإباحة جملة منافعها
جـ- وأما عن مالك ففي طهارة الجلد المدبوغ روايتان(/2)
1ـ إحداهما : يطهر ظاهره وباطنه وبها قال وهب وعلى هذه الرواية جوز أصحابه بيعه.
2ـ الثانية : - وهي أشهر الروايتين عنه - أنه يطهر طهارة مخصوصة يجوز معها استعماله في اليابسات وفي الماء وحده دون سائر المائعات قال أصحابه : وعلى هذه الرواية لا يجوز بيعه ولا الصلاة فيه ولا الصلاة عليه
وأما مذهب الإمام أحمد : فإنه لا يصح عنده بيع جلد الميتة قبل دبغه وعنه في جوازه بعد الدبغ روايتان هكذا أطلقهما الأصحاب وهما عندي مبنيتان على اختلاف الرواية عنه في طهارته بعد الدباغ
ج ـ بيع الدهن النجس :
بيع الدهن النجس ففيه ثلاثة أوجه في مذهب أحمد بن حنبل :
أحدها : أنه لا يجوز بيعه.
والثاني : أنه يجوز بيعه لكافر يعلم نجاسته وهو المنصوص عنه، والمراد بعلم النجاسة : العلم بالسبب المنجس لا اعتقاد الكافر نجاسته.
والثالث : يجوز بيعه لكافر ومسلم وخرج هذا الوجه من جواز إيقاده وخرج أيضا من طهارته بالغسل فيكون كالثوب النجس وخرج بعض أصحابه وجها ببيع السرقين النجس للوقيد من بيع الزيت النجس له وهو تخريج صحيح ،وأما أصحاب أبي حنيفة فجوزوا بيع السرقين النجس إذا كان تبعا لغيره ومنعوه إذا كان مفردا.
دـ عظم الميتة :
وأما عظمها فمن لم ينجسه بالموت كأبي حنيفة وبعض أصحاب أحمد واختيار ابن وهب من أصحاب مالك فيجوز بيعه عندهم وإن اختلف مأخذ الطهارة فأصحاب أبي حنيفة قالوا : لا يدخل في الميتة ولا يتناوله اسمها ومنعوا كون الألم دليل حياته قالوا : وإنما تؤلمه لما جاوره من اللحم لا ذات العظم وحملوا قوله تعالى : ? وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ?[ يس :78] على حذف مضاف أي أصحابها وغيرهم ضعف هذا المأخذ جدا وقال : العظم يألم حسا وألمه أشد من ألم اللحم ولا يصح حمل الآية على حذف مضاف لوجهين أحدهما : أنه تقدير ما لا دليل عليه فلا سبيل إليه الثاني : أن هذا التقدير يستلزم الإضراب عن جواب سؤال السائل الذي استشكل حياة العظام فإن أبي بن خلف أخذ عظما باليا ثم جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففته في يده فقال : يا محمد ! أترى الله يحيي هذا بعد ما رم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم ويبعثك ويدخلك النار " (12).
فمأخذ الطهارة أن سبب تنجيس الميتة منتف في العظام فلم يحكم بنجاستها ولا يصح قياسها على اللحم لأن احتقان الرطوبات والفضلات الخبيثة يختص به دون العظام كما أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت وهو حيوان كامل لعدم سبب التنجيس فيه فالعظم أولى وهذا المأخذ أصح وأقوى من الأول وعلى هذا فيجوز بيع عظام الميتة إذا كانت من حيوان طاهر العين، وأما من رأى نجاستها فإنه لا يجوز بيعها إذ نجاستها عينية، قال ابن القاسم : قال مالك : لا أرى أن تشترى عظام الميتة ولا تباع ولا أنياب الفيل ولا يتجر فيها ولا يمتشط بأمشاطها ولا يدهن بمداهنها وكيف يجعل الدهن في الميتة ويمشط لحيته بعظام الميتة وهي مبلولة وكره أن يطبخ بعظام الميتة وأجاز مطرف وابن الماجشون بيع أنياب الفيل مطلقا وأجازه ابن وهب وأصبغ إن غليت وسلقت وجعلا ذلك دباغا لها(13).
3ـ بيع الخنزير :
و تحريم بيع الخنزير فيتناول جملته وجميع أجزائه الظاهرة والباطنة وتأمل كيف ذكر لحمه عند تحريم الأكل إشارة إلى تحريم أكله ومعظمه اللحم فذكر اللحم تنبيها على تحريم أكله دون ما قبله بخلاف الصيد فإنه لم يقل فيه : وحرم عليكم لحم الصيد بل حرم نفس الصيد ليتناول ذلك أكله وقتله وههنا لما حرم البيع ذكر جملته ولم يخص التحريم بلحمه ليتناول بيعه حيا وميتا (14).
4ـ بيع الأصنام :
وأما تحريم بيع الأصنام فيستفاد منه تحريم بيع كل آلة متخذة للشرك على أي وجه كانت ومن أي نوع كانت صنما أو وثنا أو صليبا وكذلك الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله.(/3)
فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها في نفسها والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخر ذكرها لخفة أمرها ولكنه تدرج من الأسهل إلى ما هو أغلظ منه فإن الخمر أحسن حالا من الميتة فإنها قد تصير مالا محترما إذا قلبها الله سبحانه ابتداء خلا أو قلبها الآدمي بصنعته عند طائفة من العلماء وتضمن إذا أتلفت على الذمي عند طائفة بخلاف الميتة وإنما لم يجعل الله في أكل الميتة حدا اكتفاء بالزاجر الذي جعله الله في الطباع من كراهتها والنفرة عنها وإبعادها عنها بخلاف الخمر والخنزير أشد تحريما من الميتة ولهذا أفرده الله تعالى بالحكم عليه أنه رجس في قوله :? قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? [الأنعام:145] فالضمير في قوله : فإنه وإن كان عوده إلى الثلاثة المذكورة باعتبار لفظ المحرم فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به لثلاثة أوجه أحدها : قربه منه والثاني : تذكيره دون قوله فإنها رجس والثالث : أنه أتى بالفاء و إن تنبيها على علة التحريم لتزجر النفوس عنه ويقابل هذه العلة ما في طباع بعض الناس من استلذاذه واستطابته فنفى عنه ذلك وأخبر أنه رجس وهذا لا يحتاج إليه في الميتة والدم لأن كونهما رجسا أمر مستقر معلوم عندهم ولهذا في القرآن نظائر فتأملها ثم ذكر بعد تحريم بيع الأصنام وهو أعظم تحريما وإثما وأشد منافاة للإسلام من بيع الخمر والميتة والخنزير(15) فصل
وفي قوله : إن الله إذا حرم شيئا أو حرم أكل شئ حرم ثمنه يراد به أمران أحدهما : ما هو حرام العين والانتفاع جملة كالخمر والميتة والدم والخنزير وآلات الشرك فهذه ثمنها حرام كيفما اتفقت.
والثاني : ما يباح الانتفاع به في غير الأكل وإنما يحرم أكله كجلد الميتة بعد الدباغ وكالحمر الأهلية والبغال ونحوها مما يحرم أكله دون الانتفاع به فهذا قد يقال : إنه لا يدخل في الحديث وإنما يدخل فيه ما هو حرام على الإطلاق وقد يقال : إنه داخل فيه ويكون تحريم ثمنه إذا بيع لأجل المنفعة التي حرمت منه فإذا بيع البغل والحمار لأكلهما حرم ثمنهما بخلاف ما إذا بيعا للركوب وغيره وإذا بيع جلد الميتة للانتفاع به حل ثمنه وإذا بيع لأكله حرم ثمنه وطرد هذا ما قاله جمهور من الفقهاء كأحمد ومالك وأتباعهما : إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمرا حرم أكل ثمنه بخلاف ما إذا بيع لمن يأكله وكذلك السلاح إذا بيع لمن يقاتل به مسلما حرم أكل ثمنه وإذا بيع لمن يغزو به في سبيل الله فثمنه من الطيبات وكذلك ثياب الحرير إذا بيعت لمن يلبسها ممن يحرم عليه حرم أكل ثمنها بخلاف بيعها ممن يحل له لبسها(16).
5ـ ثمن الكلب والسنور :
حكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ثمن الكلب والسنور بما يلي :
1ـ ما ورد في الصحيحين : عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن" (17)
2ـ ما ورد في صحيح مسلم : عن أبي الزبير قال : سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور فقال :" زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك (18).
3ـ ما ورد في سنن أبي داود : عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم" نهى عن ثمن الكلب والسنور"(19).
4ـ ما وورد في صحيح مسلم : من حديث رافع بن خديج: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " شر الكسب مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام " (20).
فتضمنت هذه السنن على تحريم بيع الكلب وذلك يتناول كل كلب صغيرا كان أو كبيرا للصيد أو للماشية أو للحرث وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث قاطبة
اختلاف العلماء في جواز بيع الكلاب المنتفع بها في الصيد وغيره:
النزاع في ذلك معروف عن أصحاب مالك وأبي حنيفة
1ـ فجوز أصحاب أبي حنيفة بيع الكلاب وأكل أثمانها.
2ـ وأما لمالكية فقد قال القاضي عبد الوهاب : اختلف أصحابنا في بيع ما أذن في اتخاذه من الكلاب فمنهم من قال : يكره ومنهم من قال : يحرم انتهى(/4)
وعقد بعضهم فصلا لما يصح بيعه وبنى عليه اختلافهم في بيع الكلب فقال : ما كانت منافعه كلها محرمة لم يجز بيعه إذ لا فرق بين المعدوم حسا والممنوع شرعا وما تنوعت منافعه إلى محللة ومحرمة فإن كان المقصود من العين خاصة كان الاعتبار بها والحكم تابع لها فاعتبر نوعها وصار الآخر كالمعدوم وإن توزعت في النوعين لم يصح البيع لأن ما يقابل ما حرم منها أكل مال بالباطل وما سواه من بقية الثمن يصير مجهولا،قال : وعلى هذا الأصل مسألة بيع كلب الصيد فإذا بني الخلاف فيها على هذا الأصل قيل : في الكلب من المنافع كذا وكذا وعددت جملة منافعه ثم نظر فيها فمن رأى أن جملتها محرمة منع ومن رأى جميعها محللة أجاز ومن رآها متنوعة نظر : هل المقصود المحلل أو المحرم فجعل الحكم للمقصود ومن رأى منفعة واحدة منها محرمة وهي مقصودة منع أيضا ومن التبس عليه كونها مقصودة وقف أو كره فتأمل هذا التأصيل والتفصيل وطابق بينهما يظهر لك ما فيهما من التناقض والخلل وأن بناء بيع كلب الصيد على هذا الأصل من أفسد البناء فإن قوله : من رأى أن جملة منافع كلب الصيد محرمة بعد تعديدها لم يجز بيعه فإن هذا لم يقله أحد من الناس قط وقد اتفقت الأمة على إباحة منافع كلب الصيد من الاصطياد والحراسة وهما جل منافعه ولا يقتنى إلا لذلك فمن الذي رأى منافعه كلها محرمة ولا يصح أن تراد منافعه الشرعية ؟ فإن إعارته جائزة.
أدلة المجوزين لبيع الكلب المنتفع به :
1ـ قالوا : كلب الصيد مستثنى من النوع الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل ما رواه الترمذي من حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم" نهى عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد"
2ـ وقال النسائي : أخبرني إبراهيم بن الحسن المصيصي حدثنا حجاج بن محمد عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب الصيد"(21)
5ـ ويدل على صحة هذا الاستثناء أيضا أن جابرا أحد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن ثمن الكلب وقد رخص جابر نفسه في ثمن كلب الصيد وقول الصحابي صالح لتخصيص عموم الحديث عند من جعله حجة فكيف إذا كان معه النص باستثنائه والقياس ؟ وأيضا لأنه يباح الانتفاع به ويصح نقل اليد فيه بالميراث والوصية والهبة وتجوز إعارته وإجارته في أحد قولي العلماء وهما وجهان للشافعية فجاز بيعه كالبغل والحمار.
بيع السنور( الهر البري)
تحريم بيع السنور دل عليه الحديث الصحيح الصريح الذي رواه جابر وأفتى بموجبه كما رواه قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا محمد بن آدم حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه كره ثمن الكلب والسنور قال أبو محمد : فهذه فتيا جابر بن عبد الله أنه كره بما رواه ولا يعرف له مخالف من الصحابة،وكذلك أفتى أبو هريرة رضي الله عنه وهو مذهب طاووس ومجاهد وجابر بن زيد وجميع أهل الظاهر وإحدى الروايتين عن أحمد وهي اختيار أبي بكر عبد العزيز وهو الصواب لصحة الحديث بذلك وعدم ما يعارضه فوجب القول به (22).
6ـ مهر البغي: ( أجرة الزانية)
مهر البغي وهو ما تأخذه الزانية في مقابلة الزنى بها ، وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك خبيث على أي وجه كان ، حرةً كانت أو أمةً.(23) ولا سيما فإن البغاء إنما كان على عهدهم في الإماء دون الحرائر ولهذا قالت هند : وقت البيعة : أو تزني الحرة ؟ (24).
7ـ حلوان الكاهن :
قال أبو عمر بن عبد البر : لا خلاف في حلوان الكاهن أنه ما يعطاه على كهانته وهو من أكل المال بالباطل والحلوان في أصل اللغة : العطية .
وتحريم حلوان الكاهن تنبيه على تحريم حلوان المنجم والزاجر وصاحب القرعة التي هي شقيقة الأزلام وضاربة الحصا والعراف والرمال ونحوهم ممن تطلب منهم الأخبار عن المغيبات وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان الكهان وأخبر أن "من أتى كاهناً عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم"(25) ، ولا ريب أن الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وبما يجيء به هؤلاء لا يجتمعان في قلب واحد وإن كان أحدهم قد يصدق أحيانا فصدقه بالنسبة إلى كذبه قليل من كثير وشيطانه الذي يأتيه بالأخبار لا بد له أن يصدقه أحيانا ليغوي به الناس ويفتنهم به.(/5)
وأكثر الناس مستجيبون لهؤلاء مؤمنون بهم ولا سيما ضعفاء العقول كالسفهاء والجهال والنساء وأهل البوادي ومن لا علم لهم بحقائق الإيمان فهؤلاء هم المفتونون بهم وكثير منهم يحسن الظن بأحدهم ولو كان مشركا كافرا بالله مجاهرا بذلك ويزوره وينذر له ويتملق دعاءه فقد رأينا وسمعنا من ذلك كثيرا وسبب هذا كله خفاء ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق على هؤلاء وأمثالهم ? وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ? [النور:40] وقد قال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم : إن هؤلاء يحدثوننا أحيانا بالأمر فيكون كما قالوا فأخبرهم أن ذلك من جهة الشياطين يلقون إليهم الكلمة تكون حقا فيزيدون هم معها مائة كذبة فيصدقون من أجل تلك الكلمة فعن عائشة قالت :" سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا بشيء ، قالوا يا رسول الله فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة " (26)
والشارع صلوات الله عليه حرم من تعاطي ذلك ما مضرته راجحة على منفعته أو ما لا منفعة فيه أو ما يخشى على صاحبه أن يجره إلى الشرك وحرم بذل المال في ذلك وحرم أخذه به صيانة للأمة عما يفسد عليها الإيمان أو يخدشه بخلاف علم عبارة الرؤيا فإنه حق لا باطل لأن الرؤيا مستندة إلى الوحي المنامي وهي جزء من أجزاء النبوة ولهذا كلما كان الرائي أصدق كانت رؤياه أصدق وكلما كان المعبر أصدق وأبر وأعلم كان تعبيره أصح بخلاف الكاهن والمنجم وأضرابهما ممن لهم مدد من إخوانهم من الشياطين فإن صناعتهم لا تصح من صادق ولا بار ولا متقيد بالشريعة بل هم أشبه بالسحرة الذين كلما كان أحدهم أكذب وأفجر وأبعد عن الله ورسوله ودينه كان السحر معه أقوى وأشد تأثيرا بخلاف علم الشرع والحق فإن صاحبه كلما كان أبر وأصدق وأدين كان علمه به ونفوذه فيه أقوى وبالله التوفيق(27).
8ـ كسب الحجام
وهو أحد الأموال التي اختلف فقهاء الإسلام في حكمها ، بين محرم لها ومبيح :
ذهب جماهير العلماء إلى تحريم ذلك، وخالف في ذلك أبو حنيفة وصاحباه.
وقد ورد النهي عن ثمن الدم الذي هو الحجامة وظاهره التحريم ، وورد حديثان يدلان على جواز الحجامة وأخذ الأجرة ، وعليه فإن النهي المذكور فيه إما منسوخ كما ذهب إليه البعض وإما أنه محمول على التنزيه كما ذهب إليه آخرون (28)
الأحاديث الدالة على الجواز:
1ـ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال" حجم أبو طيبة رسول الله فأمر له بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا من خراجه"(29).
وفيه دليل على جواز الحجامة وجواز أخذ الأجرة عليها
2ـ عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه" أن رسول الله دعا أبا طيبة فحجمه فسأله: كم ضريبتك؟ فقال: ثلاثة آصع فوضع عنه صاعا "(30).
أدلة أخرى مرجحة للجواز:
3ـ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال :" احتجم رسول الله وآجره ، ولو كان به بأس لم يعطه " (31) .
4ـ عن محيصة أخي بني حارثة عن أبيه :" أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام فنهاه عنها فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى قال أعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك" (32)
ففي إباحته أن يطعمه الرقيق والناضح دليل على أنه ليس بحرام ألا ترى أن المال الحرام الذي لا يحل للرجل لا يحل له أيضا أن يطعمه رقيقه ولا ناضحه لأن رسول الله قد قال في الرقيق :" أطعموهم مما تأكلون" (33) فلما ثبت إباحة النبي لمحيصة أن يعلف ذلك ناضحه ويطعم رقيقه من كسب حجامة دل ذلك على نسخ ما تقدم من نهيه عن ذلك وثبت حل ذلك له ولغيره ،قال الطحاوي : وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى(34).
فدل ما ذكرنا أن ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك من الإباحة في هذا إنما كان بعد ما نهاه عنه نهيا عاما مطلقا على ما في الآثار الأول وفي إباحة النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعمه الرقيق أو الناضح دليل على أنه ليس بحرام ألا ترى أن المال الحرام الذي لا يحل أكله لا يحل له أن يطعمه رقيقه ولا ناضحه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرقيق أطعموهم مما تأكلون فلما ثبت إباحة النبي صلى الله عليه وسلم لمحيصة أن يعلف ذلك ناضحه ويطعم رقيقه من كسب حجامة دل ذلك على نسخ ما تقدم من نهيه عن ذلك وثبت حل ذلك له ولغيره وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم.
6ـ القياس:
عند النظر والتأمل نجد جواز ذلك ، وذلك أن الرجل يستأجر الرجل يفصد له عرقا أو يبزغ له حمارا فيكون ذلك جائزا والاستيجار على ذلك جائز فالحجامة أيضا كذلك(35)
(1) رواه مسلم ، 3/1587، رقم الحديث : 2003.
(2) رواه البخاري 2/761، رقم ا لحديث : 2068، ومسلم في صحيحه 3/1208، رقم الحديث :1584.
(3) زاد المعاد [ جزء 5 - صفحة 660 ] .(/6)
(4) رواه البخاري في صحيحه 2/779، برقم :2121، ومسلم في صحيحه 3/1207، برقم :1581.
(5) رواه مسلم في صحيحه 3/207، برقم :1582، وابن خزيمة في صحيحه 2/243، برقم :3374.
(6) شاذ، انظر ما في صحيح أبي داود باختصار السند برقم 3841 / 3254 ونصه : عن ميمونة : ألقوا ما حولها وكلوا . ) ضعيف الجامع الصغير 725 ، المشكاة 4123 .
(7) رواه الدار قطني في سننه ،1/42، برقم :3، وأخرجه الألباني في السلسلة الضعيفة بلفظ" انما حرم رسول الله من الميتة لحمها..
(8) زاد المعاد [ جزء 5 - صفحة 668 ] .
(9) رواه مسلم في صحيحه ، 1/276، برقم ة: 363.
(10) رواه الإمام أحمد في مسنده ،1/227، برقم :2003وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين
(11) رواه ابن ماجة في سننه 2/1072،برقم :3216، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه ، ج1- ص216،رقم 2606.
(12) رواه ابن جرير في تفسيره ،6/202، من رواية الزهري ، فهي من المرسلات ، فهي من قسم الضعيف.
(13) زاد المعاد [ جزء 5 - صفحة 673 ]
(14) زاد المعاد [ جزء 5 - صفحة 674 ]
(15) زاد المعاد [ جزء 5 - صفحة 675 ]
(16) زاد المعاد [ جزء 5 - صفحة 676 ]
(17) صحيح البخاري ، 2/779، رقم : 2022، وصحيح مسلم ، 3/1198، رقم : 1567.
(18) صحيح مسلم ،3/1199،رقم: 1569.
(19) سنن أبي داود ، 2/288،برقم : 3428، وصححه الألباني .
(20) صحيح مسلم ، 3/ 1199.
(21) رواه الترمذي في سننه 3/578، رقم الحديث : 1281، و النسائي في سننه ، 3/151، و قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 6946 في صحيح الجامع الصغير وزيادته ، 1/1291، رقم الحديث : 12902.
(22) زاد المعاد [ جزء 5 - صفحة 685 ]
(23) زاد المعاد [ جزء 5 - صفحة 686 ]
(24) المرجع السابق.
(25) رواه أبو داود في سننه ، 2/408، رقم الحديث : 3904، وصححه الألباني ، وأحمد في مسنده ، 2/429، رقم الحديث : 9532، و قال الشيخ شعيب الأرنؤوط : حسن رجاله ثقات رجال الصحيح .
(26) رواه البخاري في صحيحه ، 5/2294، رقم الحديث : 5859، 6/2748، رقم الحديث : 7122، ومسلم في صحيحه ، 4/1750، رقم الحديث : 2228.
(27) ! زاد المعاد [ جزء 5 - صفحة 696 ]
(28) عمدة القاري [ جزء 11 - صفحة 221 ]
(29) رواه البخاري في صحيحه ، 2/741، رقم الحديث : 1996، 2/796، رقم الحديث : 2157.
(30) رواه أحمد ي مسنده ، 3/353، رقم الحديث :1485، وفي تعليق شعيب الأرنؤوط : حديث صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير سليمان بن قيس فقد روى له الترمذي وابن ماجة وهو ثقة.
(31) رواه أبو داود في سننه ، 2/287، رقم الحديث : 3423، وصححه الألباني .
(32) رواه الترمذي في سننه ، 3/575، رقم الحديث : 1277، وصححه الألباني .
(33) رواه مسلم في صحيحه ، 3/1282، رقم الحديث : 1661.
(34) عمدة القاري [ جزء 11 - صفحة 222 ]
(35) شرح معاني الآثار [ جزء 4 - صفحة 132 ](/7)
أمجاد الاسطول الإسلامي في معركة ذات الصواري
[الكاتب: محمد جمال الدين محفوظ]
بيزنطة والبحر الأبيض المتوسط :
كان للدولة البيزنطية في العصور الوسطى السيطرة والسيادة على البحر الأبيض المتوسط بلا منافس، فعلى شواطئه الشمالية امتدت أملاكها إلى شبه جزيرة البلقان والجزر الملحقة بها وآسيا الصغرى، ومن الشرق كان تتبعها سورية وفلسطين، ومن الجنوب مصر وشمالي إفريقية، كذلك امتد سلطانها السياسي إلى وسط وجنوبي إيطاليا، وبعض بلاد محددة ولفترة قصيرة على الساحل الجنوبي لإسبانيا القوطية.
وكان لبيزنطة أسطول دائم ومهيب، وعدة قواعد بحرية، ودور للصناعة - صناعة السفن - في القسطنطينية وعكا والإسكندرية وقرطاجة، وسرقوسة بصقلية ورافنا بإيطاليا وغيرها، فقد بلغت عنايتها بالسلاح البحري أقصاها منذ عهد «جستنيان» - يوستانيوس - في منتصف القرن السادس الميلادي، وعهد هرقل قبل منتصف القرن السابع ومن جاء بعده من الأباطرة.
وإلى جانب الأسطول البحري، كان لبيزنطة عدد من السفن التجارية تستخدم في عمليات نقل الجند والإمدادات، وكان تتحكم في منافذ البحر الأبيض: القسطنطينية ومصر وسبتة، مما استحال معه دخول أية تجارة خارجية إلى هذا البحر دون موافقتها، وشملت تجارتها العالم كله آنذاك.
الأسطول الإسلامي :
ولم يكن للمسلمين عهد بركوب البحر أو الحرب في أساطيله، لكنهم وجدوا - خلال فتوح الشام - أن الأسطول البيزنطي مصدر تهديد خطير ومباشر لأمنهم وأمن المناطق المفتوحة واستقرار الإسلام فيها، فأدركوا أن بناء أسطول إسلامي ضرورة «استراتيجية» حيوية، فكان نواة هذا الأسطول من السفن التي وجدوها في موانئ االشام ومصر، ثم انطلقوا إلى صناعة السفن في دور الصناعة، وهكذا دخل السلاح البحري في «الاستراتيجية» العسكرية الإسلامية لأول مرة في تاريخ المسلمين [1] وبدأ هذا السلاح الناشئ بسرعة مذهلة في ممارسة العمليات البحرية.
وكان من الطبيعي ألا تقف بيزنطة مكتوفة الأيدي أمام تلك القوة البحرية التي قامت في البحر الأبيض المتوسط، وأصبح تحت يدها أغلى ما كانت تملك من دور للصناعة وقواعد بحرية في عكا والإسكندرية، مما يشكل تهديداً خطيراً لسيادتها التي امتدت زمناً بلا منافس.
واتخذت العمليات البحرية للأسطول الإسلامي شكلين:
الأول : عمليات تستهدف غزو جزر البحر الأبيض ذات الأهمية «الاستراتيجية» في تأمين الشام ومصر.
والثاني : عمليات القتال البحري ضد أسطول بيزنطة مثل معركة ذات الصواري موضوع هذا البحث.
أسباب المعركة :
تقدم المصادر والمراجع العربية والأجنبية أسباباً مختلفة لمعركة ذات الصواري البحرية، نذكر أهمها فيما يلي:
إجهاض قوة البحرية الإسلامية النامية. يقول أرشيبالد. د. لويس بعد أن تحدث عن غزو الأسطول الإسلامي لقبرص: "ويظهر أن الغارات التي انتهت باحتلال الجزيرة أثارت حماسة الدولة البيزنظية نحو البحر، ودفعتها للقيام بعمليات بحرية جديدة، وكان هذه العمليات قد توقفت منذ فشلها في معركة الإسكندرية عام 645 م - 25 هـ.
أعدّ قنسطانز الثاني خليفة هرقل أسطولاً كبيراً تراوح عدده من 700 إلى 1000 سفينة شراعية، والتقى هذا الأسطول في السنة ذاتها بأسطول صغير مشترك بين العرب والمصريين مكون من 200 سفينة أقلعت من شواطئ سورية قرب موضع يقال له فونيكس Phoenicus بآسيا الصغرى، وتعرف هذه الواقعة بواقعة ذات الصوراي". [2]
ويقول إرنست وتريفور ديبوي: "لقد بدأ العرب بشدة في تحدي سيادة بيزنطة البحرية، وهزموا أساطيل الإمبراطور قنسطانز الثاني واستولوا على بعض الجزر شرقي البحر الأبيض المتوسط". وفي موضع آخر يقول: "وفي البحر استولى المسلمون على رودس 654 م، وهزموا أسطولاً بيزنطياً يقوده قنسطانز بنفسه في معركهة بحرية عظمى خارج ساحل ليكيا (655 م)".
ويقول الدكتور عبد المنعم ماجد: "ويظهر أن النشاط المتزايد من قبل العرب أخاف بيزنطة بحيث إن الإمبراطور قنسطانز الثاني (642-668 م) جمع عدداً من المراكب لم يجمعها من قبل تزيد على ألف مركب، وسار بها بقصد ملاقاة أسطول العرب، أو بقصد احتلال الإسكندرية العظمى كبرى موانئ البحر الأبيض، فخرجت إليه أساطيل العرب في أعداد كبيرة بقيادة عامل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح". [3]
انتقام البيزنطيين لما أصابهم على أيدي المسلمين في إفريقية واسترداد مصر. وذلك ما يراه الطبري حيث يقول: "وخرج عامئذٍ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية".[4].
ويتفق معه في ذلك ابن الأثير فيقول: "وأما سبب هذه الغزوة فإن المسلمين لما أصابوا من أهل إفريقية وقتلوهم وسبوهم، خرج قسطنطين بن هرقل في جمع له لم تجمع الروم مثله مذ كان الإسلام". [5].
وقال عبد الرحمن الرافعي وسعيد عاشور: "وفي سنة 34هـ - 654 م خرج الإمبراطور قنسطانز الثاني على رأس حملة بحرية كبرى في محاولة للاستيلاء على الإسكندرية واسترداد مصر من العرب". [6].(/1)
إجهاض تدابير المسلمين لغزو القسطنطينية عاصمة بيزنطة. وذلك هو ما يراه المؤرخ البيزنطي تيوفانس حيث يقول: "في هذا السنة جهز معاوية -رضي الله عنه- الجيش وزوده بأسطول ضخم قاصداً محاصرة القسطنطينية، وأمر بتجميع الأسطول كله في طرابلس فينيقيا. فلما علم بذلك أخوان نصرانيان [7] من أهل المدينة، هاجما السجن وحطما الأبواب وأطلقا سبيل المحجوزين جميعاً، ثم هاجموا رئيس المدينة وقاتلوه ورجاله كلهم وهربوا إلى تخوم الروم، غير أن معاوية لم يغير رأية في حصار القسطنطينية، بل جاء بجيشه -يقصد أسطولي الشام ومصر- إلى قيصرية وكيادوكيا، وعيّن أبولا باروس Abula Barus - يقصد عبد الله بن سعد بن أبي سرح - قائداً للأسطول، فقدم هذا فينيقيا إلى مكان في ليكيا [Lycia] حيث كان الإمبراطور قنسطانز مقيماً بمعسكره وأسطوله ودخل معه في معركة بحرية".[9].
حرمان المسلمين من الحصول على الأخشاب اللازمة لصناعة السفن. وهذا السبب ذكره أرشيبالد لويس كسبب محتمل لمعركة ذات الصواري، حيث قال: "ومما يلفت النظر أن المكان الذي دارت فيه المعركة، وهو ساحل الأناضول، يزدحم بغابات السرو الكثيفة، وهو الشجر المستخدم في صواري السفن، ولعل البيزنطيين قرروا القيام بتلك المعركة ليحولوا بين الخشب اللازم لصناعة السفن هناك، وبين وقوعه في قبضة العرب، وإذا صح هذا الزعم فإنه يقوم دليلاً على أهمية الخشب في الصراع البحري بين العرب وبيزنطة".[10].
أحداث المعركة :
والواقع أن الأسباب التي ذكرناها كما وردت في المصادر والمراجع التاريخية أسباب مقبولة، لأنها جميعاً تعبر عن الدوافع المنطقية التي لا بد وأن تنشأ في عقول البيزنطيين الذين رأوا أغلى ممتلكاتهم تسقط في أيدي المسلمين في الشام ومصر وإفريقية، وأدركوا خطر الأسطول الإسلامي الناشئ الذي يهدد سيادتهم البحرية في البحر المتوسط الذي أطلق على بحر الروم دليلاً على تلك السيادة.
وأيا كانت الأسباب التي ذكرت، فقد التقى الأسطول الإسلامي بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح والي مصر، وكان يتألف من مائتي سفينة، بالأسطول البيزنطي بقيادة الإمبراطور قسطنطين الثاني خارج ساحل ليكيا في آسيا الصغرى ( . . . ) ويمكن وصف أحداث المعركة باختصار على النحو التالي:
1) نزلت نصف قوة المسلمين إلى البر بقيادة بُسر بن أبي أرطأة للقيام بواجبات الاستطلاع وقتال البيزنطيين المرابطين على البر، وذلك تطبيقاً لواجبات أمير البحر عندما تكون المعركة البحرية قرب البر والسوائل والجزائر، فعليه "ألاَّ يهجم على المراسي لئلا تكون مراكب العدو بها كامنة، ولا يتقدم إلى البر إلا بعد المعرفة والاحتراز من الأحجار والعشاب والأحارش التي تنكسر عليها المراكب، وإن كان القتال قرب البر والسواحل والجزائر فيجعل عيونه وطلائعه على الجبال فيتأهب لذلك.". [11].
2) بدأ القتال بين الأسطولين - عندما أصبحت المسافة بينهما في مرمى السهام - بالتراشق بالسهام.
3) وبعد أن نفدت السهام جرى التراشق بالحجارة، ومن أجل ذلك كانوا "يجعلون في أعلى الصواري صناديق مفتوحة من أعلاها يسمونها التوابيت يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو فيقيمون فيها للكشف ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق يرمون العدو بالأحجار وهم مستورون بالصناديق". [12]
4) وبعد أن نفدت الحجارة ربط المسلمون سفنهم بسفن البيزنطيين وبدأ القتال المتلاحم بالسيوف والخناجر فوق سفن الطرفين.
5) انتهت المعركة بعد قتال شديد بانتصار المسلمين بإذن الله. ونذكر فيما يلي روايات المؤرخين عن أحداث المعركة.
رواية ابن عبد الحكم :(/2)
وهي توضح مراحل المعركة، وكيف نجا عبد الله بن سعد قائد الأسطول من الأسر الذي كاد يقع فيه، فيقول: "إن عبد الله بن سعد لما نزل ذات الصواري، أنزل نصف الناس مع بسر بن أبي أرطأة سرية في البر، فلما مضوا أتى آتٍ إلى عبد الله بن سعد فقال: ما كنت فاعلاً حين ينزل بك هرقل - يقصد قسطنطين- في ألف مركب فافعله الساعة". أي: أنه يخبره بحشد قسطنطين لأسطوله لملاقاته، وإنما مراكب المسلمين يومئذ مائتا مركب ونيف، فقام عبد الله بن سعد بين ظهراني الناس، فقال: قد بلغني أن هرقل قد أقبل إليكم في ألف مركب، فأشيروا علي، فما كلّمه رجل من المسلمين، فجلس قليلاً لترجع إليهم أفئدتهم، ثم قام الثانية، فكلمهم، فما كلمه أحد، فجلس ثم قام الثالثة فقال: إنه لم يبق شيء فأشيروا علي، فقال رجل من أهل المدينة كان متطوعاً مع عبد الله بن سعد فقال: أيها الأمير إن الله جل ثناؤه يقول: { كم من فئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئةً كثيرةً بإذن اللهِ والله مع الصابرين }، فقال عبد الله: اركبوا باسم الله، فركبوا، وإنما في كل مركب نصف شحنته، وقد خرج النصف إلى البر مع بُسْر، فلقوهم - أي أسطول البيزنطيين - فاقتتلوا بالنبل والنشاب، فقال: غلبت الروم - أي انتصرت - ثم أتوه، فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد نفد النبل والنشاب، فهم يرتمون بالحجارة وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف، قال: غُلِبَتْ. وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال، فقرن مركب عبد الله يومئذ، وهو الأمير، بمركب من مراكب العدو، فكاد مركب العدو يجتر مركب عبد الله إليهم - أي يجذبه نحوهم - فقال علقمة بن يزيد العطيفي، وكان مع عبد الله بن سعد في المركب فضرب السلسلة بسيفه فقطعها".[13]
رواية ابن الأثير :
قال: "فخرجوا [أي البيزنطيين] في خمسمائة مركب أو ستمائة، وخرج المسلمون وعلى أهل الشام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وعلى البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان الريح على المسلمين لما شاهدوا الروم، فأرسى المسلمون والروم، وسكنت الريح، فقال المسلمون: الأمان بيننا وبينكم. فباتوا ليلتهم والمسلمون يقرؤون القرآن ويصلون ويدعون، والروم يضربون بالنواقيس. وقربوا من الغد سفنهم، وقرب المسلمون سفنهم، فربطوا بعضها مع بعض واقتتلوا بالسيوف والخناجر، وقتل من المسلمين بشر كثير، وقتل من الروم ما لا يحصى، وصبروا صبراً لم يصبروه في موطن قط مثله، ثم أنزل الله نصره على المسلمين فانهزم قسطنطينن جريحاً ولم ينجُ من الروم إلا الشريد، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري بعد الهزيمة أياماً ورجع". [14]
رواية المؤرخ البيزنطي تيوفانس :
وهي توضح هزيمة البيزنطيين وفداحة خسائرهم، وكيف فرّ الإمبراطور ناجياً بنفسه: "ضم - أي قسطنطين - صفوف الروم إلى المعركة، وأخذ يتحرّش بالعدو، فنشبت المعركة بين الطرفين، وهزم الروم واصطبغ البحر بدمائهم، فغيّر الإمبراطور ملابسه مع أحد جنوده، وقفز أحد الجنود على مركبه واختطفه وذهب به هنا وهناك ونجا بمعجزة". [15]
لماذا سمّيت بذات الصواري ؟
بعض المؤرخين يرجع سبب تسمية المعركة بذات الصواري إلى كثرة عدد صواري السفن التي اشتركت فيها من الجانبين؛ وبعضهم الآخر يذكر أن هذا الاسم نسبة إلى المكان الذي دارت قريباً منه، وهو ما نميل إليه وما يستنتج مما يلي:
1- قول الطبري: "فركب من مركب وحده ما معه إلا القبط حتى بلغوا ذات الصواري، فلقوا جموع الروم في خمسمائة مركب أو ستمائة". وقوله أيضاً: "وأقام عبد الله بذات الصواري أياماً بعد هزيمة القوم".
2- قول ابن الأثير: (وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري بعد الهزيمة أياماً ورجع).
3- ويضاف إلى ذلك أن المكان الذي دارت المعركة قريباً منه اشتهر بكثرة الأشجار التي تستخدم أخشابها في صناعة صواري السفن، وقد أشار إلى ذلك أرشيبالد لويس بقوله: (ومما يلفت للنظر أن المكان الذي دارت فيه هذه المعركة، وهو ساحل الأناضول، يزدحم بغابات السرو الكثيفة وهو الشجر المستخدم في صواري السفن).
الآثار الاستراتيجية لذات الصواري :
# أولاً: تأكيد النظرية الإسلامية في النصر على العدو المتفوق.
لقد كانت المقارنة المجردة بين قوة الأسطول الإسلامي وقوة الأسطول البيزنطي تكشف التفوّق الساحق للبيزنطيين، وتدفع أي خبير في فن الحرب إلى أن يتوقع أن ينهزم المسلمون في تلك المعركة غير المتكافئة بالنظر إلى العوامل الآتية:
1- الأسطول الإسلامي أسطول ناشئ لا يزيد عمره على بضعة سنوات، ورجاله حديثو عهد بركوب البحر فضلاً عن القتال فيه، ولا يتعدى عدد سفنه المائتين إلا قليلاً.
2- والأسطول البيزنطي أسطول عريق مهيب له السيادة على البحر، وله تاريخ طويل في العمليات البحرية، ورجاله على أعلى درجة من الكفاءة فيها، وعدد سفنه يزيد على ثلاثة أضعاف عدد سفن المسلمين.(/3)
لكن المسلمين حين قبلوا التحدي، وقاتلوا أسطول بيزنطة المتفوق، وانتصروا عليه، يقدمون للمسلمين في كل عصر التأكيد على أن النظرية الإسلامية في مواجهة العدو المتفوق وقهره - التي وضع عناصرها وطبقها الرسول القائد e في معاركه مع أعدائه المتفوقين - كفيلة بترجيح كفتهم على أعدائهم المتفوقين في موازين القوى.
وفي ذات الصواري برزت عناصر تلك النظرية :
1- الإيمان وقوة العقيدة:
فقد ذكر المسلمون قول الله تعالى: { كم من فئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئةً كثيرة بإذن الله واللهُ مع الصابرين }، ورأينا كيف امتلأت نفوسهم بأقوى الدوافع المعنوية، وكيف صبروا يومئذ صبراً لم يصبروا في موطن قط مثله، وكيف قاتلوا أشد القتال كما ورد في المصادر التاريخية التي ذكرناها حتى أنزل الله عليهم نصره. فهذا الدرس يؤكد أن الإيمان وقوة العقيدة من أهم العوامل التي ترجح كفة المسلمين في موازين القوى، مهما كان ثقل أعدائهم في تلك الموازين.
2- الإدارة السليمة والاستثمار الأمثل للقدرات المتاحة:
لقد أدرك المسلمون أنهم أمام عدو متفوق فكانت إدارتهم للمعركة على النحو الذي يجرده من هذا التفوق، وليس من شك في أن جوهر تفوق البيزنطيين هو كفاءتهم العالية في فن القتال البحري وقدرتهم الفائقة في المناورة البحرية.[16].
ويكفي للدلالة على ذلك أن المسلمين حين عرضوا - قبل المعركة- على البيزنطيين أن يختاروا بين القتال على البر والقتال في البحر، فإنهم اختاروا البحر بإجماع الأصوات، وهذا ما رواه الطبري على لسان شاهدعيان هو مالك بن أوس بن الحدثان، قال: (كنتُ معهم، فالتقينا في البحر فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط.. ثم قلنا للبيزنطيين إن أحببتهم فالساحل حتى يموت الأعجل منا ومنكم، وإن شئتم فالبحر، قال: فنخروا نخرة واحدة وقالوا: الماء. فدنونا منهم فربطنا السفن بعضها إلى بعض حتى كنا يضرب بعضنا بعضاً على سفننا وسفنهم.). [17] فالبيزنطيون اختاروا الميدان الذين يجيدون القتال فيه وهو البحر، والذي يعلمون تماماً انه هو الميدان الذي سوف ينتصرون فيه على المسلمين لضعف خبرتهم فيه. لكن المسلمون - رغم ذلك - كانوا يعلمون أن كفاءتهم في القتال على البر تفوق البيزنطيين، فأداروا المعركة البحرية على النحو الذي حولها إلى معركة برية وذلك بربط سفنهم إلى سفن البيزنطيين ومباشرة القتال المتلاحم بالأسلحة البيضاء، واستغلوا مهارتهم في هذا الفن إلى الحدّ الذي جعل الإمبراطور وهو يتابع المعركة يوقن بانتصار المسلمين حين علم بذلك - وهو ما ورد في رواية ابن عبد الحكم السابق ذكره - فقال: غُلِبَت الروم.
وقد شهد للمسلمين بذلك بعضُ المؤرخين الأجانب، فيقول أرشيبالد لويس: (ويبدو أن انتصارهم -أي المسلمين- جاء نتيجة لخطط غير عادية، إذ ربطوا سفنهم بعضها إلى بعض بسلاسل ثقيلة، فاستحال على أعدائهم اختراق صفوفهم واستخدموا في تلك المعركة خطاطيف طويلة يصيبون بها صواري وشرع سفن الأعداء، الأمر الذي انتهى بكارثة بالنسبة للبيزنطيين. [18]
3- التعاون والتكامل:
لقد كان الانتصار الإسلامي في مجال البحر ثمرة للتعاون والتكامل وحشد الطاقات بين الشام ومصر؛ ابتداءً من إنشاء الأسطول وصناعة السفن إلى قيام أسطول الشام مع أسطول مصر بالعمليات البحرية المشتركة في هيئة أسطول مشترك، فكانت أغلب العمليات تتم على هذا النحو.
# ثانياً: انتهاء عصر السيادة البيزنطية في البحر المتوسط.
إذا كانت موقعة أكتيوم سنة 31 قبل الميلاد جعلت من البحر الأبيض بحيرة رومانية وأصبحت من المعارك الفاصلة في التاريخ، فإن معركة ذات الصواري البحرية قد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، حين سجلت انتصار الأسطول الإسلامي الناشئ على أسطول بيزنطة ذي التاريخ البحري الطويل. وليس هذا فحسب، بل كان من أهم نتائجها الاستراتيجية انتهاء عصر السيادة البيزنطية في البحر الأبيض المتوسط، وبروز المسلمين قوة مؤثرة ذات ثقل عسكري وسياسي واقتصادي في عالم هذا البحر.
[مجلة الأمة - العدد 71/سنة 1406 هـ]
[1] انظر مقالنا (السلاح البحري في الاستراتيجية العسكرية الإسلامية) المنشور في العدد(68) من المجلة.
[2] أرشيبالد لويس: (القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط) ترجمة: أحمد محمد عيسى؛ ص 91.
[3] عبد المنعم ماجد: (التاريخ السياسي للدولة العربية) ص244-245.
[4] الطبري: (تاريخ الأمم والملوك) ج4، ص290.
[5] ابن الأثير: (الكامل في التاريخ) ج3، ص58.
[6] عبد الرحمن الرافعي وسيد عبد الفتاح وسعيد عاشور: (مصر في العصور الوسطى من الفتح العربي حتى الغزو العثماني) ص 71.
[7] يعتقد أنهما من عملاء بيزنطة، وأنهما أبلغا الإمبراطور بنوايا معاوية رضي الله عنه.
[8] (ليكيا) موضع على الساحل بآسيا الصغرى.
[9] ثيوفانس: (كرونوجرافيا) عمود 703 لاتيني، في حوادث سنة 646 م.
[10] أ رشيبالد لويس: (القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط) ترجمة: أحمد محمد عيسى؛ ص 92.(/4)
[11] عبد الفتاح عبادة: (سفن الأسطول الإسلامي) ص: 15.
[12] المرجع السابق: ص 8.
[13] ابن عبد الحكم: (فتوح مصر وأخبارها) ص: 129-130.
[14] ابن الأثير: (الكامل في التاريخ) ج 3، ص 58.
[15] ثيوفانس: (كرونوجرافيا) عمود 706 لاتيني.
[16] يطلق لفظ المناورة على عملية تحريك القوات والوسائل من موضع إلى آخر وفي مختلف الاتجاهات، بقصد تهيئة ظروف أفضل لصالح المعركة، والمناورة الناجحة بالقوات والوسائل تدل على براعة القائد في إدارة المعركة.
[17] الطبري (تاريخ الأمم والملوك) ج 4، ص290-291.
[18] أرشيبالد لويس (القوى البحرية في حوض البحر المتوسط) ص 92.(/5)
أمدينتي إني وقلبي في العراء
م. نبراس قازان
n_kazan@hotmail.com
يا للسماء
غدت عيون مدينتي غَرقَى، ويخنُقُها البُكاء
تتدثَّرُ الألم المُهينَ، وترتعِد...تحتَ أمطارِ الشِّتاء
الخوفُ يرجِفُ في عيونِ مدينَتي
وسماؤُها مطليةٌ بِبُؤسِ ألوانِ الدِّماء
حتى سُقُوفُ مساجِدها
حتى الكنائِسُ
والمدارِسُ
وجميعُ جُدرانِ الفناء
حتى كُفُوفُ الأتقِياء!!
الحُزنُ يقبَعُ في عيون مدينتِي
وصَباحُها يرتدي، ثوبَ المذلَّة، والمهانة..والكبرياء...
يا للسماء!!
ما عُدتُ أعرِفُ عن رُبوع مدينَتي غيرَ رسمٍ في كتاب
حتى على خارِطة الكونِ مدينتي،،كانت أسيرة
ومضى الزمان
...
..
.
ومدينتي ملأى بآلاف القلوب الحزينة، والكسيرة..
يتساءلُ التَّأْريخ: من كسِبَ الرِّهان؟؟
يا للسَّماء!!
أمدينَتي..
هلاَّ حكيتِ لنا، من كان يرضى أن تكوني هكذا؟؟
قالت : - والليل في عينيها ضرير- هلاَّ مرَرْتَ بكُلِّ بيتٍ في المدينة
البعضُ يبكي.. والبَعضُ، يضاجِعُ الحُزنَ /السَّرير!!
هلاَّ مررت بكُلِّ بيتٍ في المدينة
النَّار موقدة، وقلوبُهم كالزَّمهرير
من في عيوني نامَ...مرتاحَ البال، قرير؟؟
...
ومضَيتُ أسري
من الأزِقَّةِ.. للمقابرِ.. للحُفر ..
بحثتُ عن شبهِ آثارٍ ، إنارة!!
عن بقايا العُمر، وأوراقِ الشَّجر
عن واحةٍ عذراءَ، ما عرِفت بشر
وطفِقتُ أبحثُ في الأزِقَّةِ، في المقابِر .. والحُفر ..
فإذا بها ملأى بأنصافِ الجُثث.. أرباعِها.. أشلائِها
وشككت .. هل من جِنسِ البشر
من خطَّ بالنَّار آلام البشر؟!!
جلستُ على رصيفِ القهر،أبكي، يجلِدُني المَطر
أمدينَتي...
ما عاد يعنيني البُكاءُ، ولا الربيع، ولا السَّمر!!
يا للسماء
لا زِلتُ أبحثُ في المدينة..
قلبي المُعنَّى،، يدُقُّ أنَّاتي الحزينة
وبِي جِراح.. تشكَّلت على كتِفِ الصَّباح..
وبحثتُ عن وحي الحقيقة
عن شيخٍ، يضمدهُ البَراح..
عن ليلةٍ ماسمعت يوماً نُواح
وطفِقتُ أبحثُ.. هل أراك؟؟؟
يا أيها المطعونُِ، بُُعداً، فلا بصيرة
ويذوبُ من ألمي.. الشتاء
وتذوب أسوار المدينة
حتى القلاع.. غدا بها الكونُ، رهينة...
فهتفتُ: يا للسماء
روحٌ مسافرةٌ، وفي عُمقي مُستكينة..!
أمدينتي..
هلاَّ ذكرتِ لي،، أين سرى الزمان؟
علِّي أراك بعينيه العِبَر
وتهجأت كل النجوم قصيدتي
تتدثَّر الدمع/ البكاء!!
....
فمن أنا؟؟؟
أنا من عرفتُ
في عينيكِ بعد الضياع
سميَّتي..
واليوم بعد ضياع الدرب، أين هويَّتي
...
أمدينتي:
لستُ أدري من أنا!!
وبكت كل جوارِحي..حتى المدينة
...
إلى أن عاد الصباح
فتنبَّهت كل العيون النَّائمات
وتفتَّحت كل الزهور الغافيات
وتجشأت حناجرنا الجراح
قامتْ لتبحث في نهارات المدينة
زحفتْ على كلِّ الشوارع
فوق أرصفة المدامع
كانتْ تُحدِّقٌ في الجموع العابرات
في زِحام الحافلات.. في الرُّكام.. وفي الغمام
في عمق أنفاس الهُمام
عن أمانيها الشهيدة
وعن الحنين
في عمرٍ تُمَرَّغ بالسِّنينِ وبالضَّنين فما رأت غير الأنين
والعُراة الجائعين
الحزن عينٌ ، في وُجوه العابرين
رغم أقنعة الفَرْحِ، المُقيَّد، والمُكبَّل.. والحزين
أمدينتي...
ما عُدتِ أنتِ
ولا أنا
ولا ذك الزمان
أمدينتي...
هلاَّ ذكرتِ أيام نصرٍ رُبَّما تأتِ ، من بعيد أو قريب
إنِّي تعبتُ مدينتي، ونعتي: أن "غريب"
مُستوطِنٌ في الرَّدى، يصرُخُ.. لا مُجيب
أمدينتي...
تتألَّقين كما السَّراب
مدِّي يديكِ إليَّ إنِّي ضائِعٌ
أبحثُ عنك ، خلف ذُرى السَّحاب
وعن الحقيقة ،، في وكرِ أنَّات الغِياب
أمدينتي...
مُدِّي يديك إليَّ إنِّي أضعتُ حقيقتي
وعرفتُ في عينيك -بعد الضَّياع- هوِيَّتي
واليوم..
أجهلُ من أنا
وما تكون شريعتي!!
...
..
.
آلافُ السِّهامِ بِجُعبَتي أرميها إلى عُمقِ الزَّمان ، السَّارقِ فرحتي، ومدينتي
وحنينيَ الذي عرفت في غوغائه -بعد الضَّياع- هويَّتي
...
لا زلتُ أعدو
من الأزِقَّةِ.. للمقابرِ.. للحُفر
ضاع النَّهار
وعربدَ الليل الأصم
والحُلمُ يدوي في عُمقِ ردى الظُّلَم
من أين يعود الفجر، وكلُّ ما أحياهُ ضاع!!
يحتدِمُ الصِّراع
في كلِّ ليلٍ من ليالي مدينتي
بين أبناء البلاط، وصراخ آلافِ الجِياع!!
أُناسٌ ساهرون على كؤوس
وآخرون، يراقِصون هَوَى المعاول، والفُؤوس..
ستُباعُ أحلامُنا عَلناً
وينفَتِحُ المزاد
من يشتري قلباً تعلَّقَ بالحبيبة؟
من يشتري قلباً تعلَّق بالمدينة؟؟
من؟؟
ومن؟؟
...
ونُباعُ في سوقُ العبيد
ويمُرُّ عيدٌ بعد عيد..
والقلبُ في أرجائنا حُرٌّ..شريد!!!
وعندما يرنُو النَّهار..
نُلملِمُ الآلام من أضلاعِنا،ونُسرِعُ بالفرار
إن كان في زمَنٍٍِ محبَّة ، أو بعض أشلاء قرار!
...
وتظلُّ في أعيُننا آلافُ الليالي
لا سبيل لمحوِها
فاعذُروني، يا كُلَّ أصحاب المعالي
يا أصدقاء
يا للسماء..
مدينتي صارت هباء
والظل هامَ بروحها وزها العراء
وأنا هنا .. وحدي
أُناجي مدينَتي
وكذا السَّماء
فاهتِفوا أحبَّتي، لِعودة الوطن الشهيد
لعودة القلب الشَّريد إلى الحياة
أم ذا هُراء!(/1)
لا سبيل إليَّ درباً
فإلى اللقاء أحبتي
إلى اللقاء(/2)
أمر الأبوين أو أحدهما بتطليق امرأة ابنهما
السؤال :
هل لأبي الحق في منعي من الزواج ممَّن ارتضيتُ ؟ أو تحريضي على تطليق من تزوجت ؟
الجواب :
لا يخفى على من امتنَّ الله تعالى عليه بالهداية إلى هذا الدين ما للأبوين من مكانة في حياة المسلم ، و ما لبرهما و الإحسان إليهما من الأجر العظيم عند ربّ العالمين ، و ما على عقوقهما من الجزاء الوخيم في الدنيا و الآخرة .
و لمَّا كان أحق الناس بحُسن صحبة المرء و صلته أبواه ؛ قَرَن تعالى الإحسان إليهما بعبادته و توحيده في قوله : ( وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) [ النساء : 36 ] .
و قال سبحانه : ( وَ قَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ) [ الإسراء : 23 ] .
و أمام هذا الحق لا مندوحة لك – أخي المسلم – عن طاعة أبيك ، فإن كان اعتراضه عليك متقدِّمٌ على زواجك ممَّن ارتضيت دينها و خُلُقها فأطع أباك و احتسب الأجر و الثواب عند الله تعالى على امتثال أمره ، و التمس لك زوجة أخرى فإن النساء كُثُر ، و من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه .
أما إذا كان الأمر بعد الزواج فلا بد من التريث قليلاً قبل الحكم في مسألة أمر الأب ابنه بتطليق امرأته ، لما قد يترتب على هذا الأمر من التعدِّي و الظلم ، و الظلم ظُلُماتٌ يوم القيامة .
و قد اشتهر عند أهل العلم القول بوجوب طاعة الأب في هذا الأمر ، و لهم على ذلك ثلاث أدلّة :
أوَّلها : ما في الصحيح و غيره من قصة إبراهيم عليه السلام و ولده إسماعيل ، و فيها قول خليل الرحمن لزوجة ابنه : ( إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلامَ وَ قُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ ) ، فلما عاد إسماعيل عليه السلام ، و أخبرته زوجته الخبر ، قال لها : ( ذَاكِ أَبِي وَ قَدْ َقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ ؛ الْحَقِي بِأَهْلِكِ ) . فَطَلَّقَهَا ، وَ تَزَوَّجَ أُخْرَى .
و وجه الدلالة في هذا الخبر جلي ، حيث أمر الأب و امتثل الابن ، و لو لم يكن ذلك من باب الوجوب ، فهو من باب البر و الطاعة على أقل تقدير .
و هذا مما يحتج به من شرع من قبلنا لما جاء في شرعِنا الحنيف مقرِّراً له ، فقد روى ابن حبَّان في صحيحه و الحاكم في مستدركه بإسناد قال عنه : صحيح الإسناد على شرط الشيخين و لم يخرجاه ، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما – قال : كانت تحتي امرأة أحبها ، و كان عمر يكرهها. فقال عمر: طلِّقها. فأبَيْتُ . فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم . فقال : ( أطِع أباك ، و طلِّقها ) . فطلقتُها . و هذا ثاني الأدلة على وجوب طاعة الأب و امتثال أمره إذا أمر ابنه بتطليق زوجته .
و ثالثها ما رواه ابن ماجة و الترمذي بإسنادٍ صححه ، و هو كما قال ، و ابن حبان في صحيحه عن أبي عبدِ الرَّحمَنِ السُّلميِّ عن أبي الدَّرداءِ رضي الله عنه أنَّ رجلاً أتاهُ فقال : إنَّ لي امرأةً و إن أمِّي تأمُرُني بطلاقِهَا فقال أبو الدَّرداءِ : سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ و سَلَّم يقولُ : ( الوالدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ فإن شئتَ فأضعْ ذلكَ البابَ أو احفظْهُ ) ، هذا لفظ الترمذي ، و لم يُجزَم في رواية ابن ماجة بأنّ أمَّه هي التي أمرته بالتطليق ، بل قال : إنّ رجلاً أمره أبوه أو أمُّه . و الحديث أورده الشيخ الألباني في الصحيحة [ 914 ] و قال رحمه الله بعد أن ذكر تصحيحه : ( قوله : فاحفظ ذلك الباب أو ضيِّعه ؛ لظاهر من السياق أنه قول أبي الدرداء غير مرفوع ) .
و عليه ؛ فطاعة الأب في هذا الأمر واجبة ما لم يكن ذلك لغرضٍ دنيويٍ أو حاجةٍ في نفسِه ، فإن وُجِدَ الغَرَض آلت المسألة إلى إيقاع الظلم بالزوجة ، و هو محرم ، لا طاعة فيه لأحدٍ ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، و لكن الطاعة في المعروف .
و على هذا يحمل ما رواه ابن عبد البر [ في التمهيد : 23 / 405 ] بإسناده عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال : تزوَّج عبد الله بن أبي بكر الصديق عاتكةَ ابنة زيد بن عمرو بن نفيل ، و كانت امرأةً جميلةً ، و كان يُحبُّها حُبّاً شديداً ، فقال له أبو بكر الصديق : طَلِّق هذه المرأة ؛ فإنَّها قد شغلتك عن الغزو . فأبى ، و قال : و من مثلي في الناس طلَّقَ مِثْلها ؟ و ما بها بأس تُطَلَّقُ . قال : ثم خرج في بعض المغازي فجاء نعيه . فقالت فيه عاتكة :
رُزِيتُ بِخَيْرِ النَّاس بَعْدَ نَبِيِّهِم *** و بعدَ أبي بكرٍ و ما كان قَصَّرا
فآليتُ لا تَنْفَكُّ عَيني حزينةٌ *** عليكَ و لا ينفكُّ جِلْدِيَ أَغْبَرا
فَلِلَّهِ عَيْنَا مَن رأى مِثْلَهُ *** فتىً أعفَّ و أحصى في الهِيَاجِ و أَصْبَرا(/1)
قلتُ : و الشاهد من هذا الأثر أن أَمْرَ أبي بكر الصديق ابْنَهُ عبد الله بتطليق زوجه عاتكة بنت زيد رضي الله عنهم أجمعين جاء معلَّلاً بكونها تشغله عن الجهاد في سبيل الله ، و هو ذروة سنام الإسلام ، فجاز لأبي بكر أن يأمر بما أمر به لذلك ، و لما انتفت العلَّة في هذا الأمر ، و خرَج عبد الله للجهاد ، لم يعد لتطليقها مبرِّرٌ فأمسكها حتى مات عنها شهيداً في سبيل الله .
و قد سُئل إمام أهل السنَّة أحمد بن حنبل رحمه الله عن الرجل يأمر ابنه بتطليق امرأته فقال : إذا كان أبوك مثل عمر فطلِّقها .
فلا بد للأبناء من بر الآباء ، و لا بد للآباء من تقوى الله فيما يأمرون به أبناءهم ، فلا يأمرون بمنكر و لا يحرِّضون على مظلمةٍ ، و ليحذَر الآمر و المؤتمِر من تعدي حدود الله فإن ( من يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه ) .
قلتُ : و قد فرَّق بعض أهل العِلم بين الوالدين في حق الأمر بتطليق زوجة الابن ، و وجوب طاعته في ذلك ، فقصروه على الأب دون الأم ، بعلَّة معرفة الأب بما يصلح لابنه و ما لا يصلح أكثر من معرفة الأم بذلك ، و أن إيقاع الطلاق أصلاً لا يكون إلا من الرجل على المرأة ، فلا ينبغي أن يكون للمرأة حق الطاعة إن أمرت به ابنها أيضاً ، و زاد بعضهم أن الأم قد يعتريها بعض التجني ، أو شيءٌ من حظ النفس على زوجة ابنها لما يُتصّوَّر من وقوع الغيرة بينهما ، و لذلك صاروا إلى التفريق بين الأب و الأم في هذه المسألة .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل متزوج ، و له أولاد ، و والدته تكره الزوجة و تشير عليه بطلاقها هل يجوز له طلاقها ؟
فأجاب : لا يحل له أن يطلقها لقول أمه ؛ بل عليه أن يبر أمه ، و ليس تطليق امرأته من بِرِّها [ مجموع الفتاوى : 33 / 111 ] .
قلتُ : و هذا يرده حديث أبي الدرداء رضي الله عنه فقد صُرِّح في بعض روايته بأن الأمر كان من الأم . كما أنَّ قوله صلى الله عليه وسلَّم ( الوالد أوسط أبواب الجنة ) يشمل الأب و الأم ، إذ إنَّ كلاً منهما والدٌ كما هو معروف في لغة العرب .
أما إذا أمر الأبوان أو أحدهما الابنة بمخالعة زوجها أو طلب الطلاق منه ، فلا طاعة لهما في ذلك ، لأن ولايتها انتقلت إلى الزوج بالنكاح ، و حقُّه مقدَّم على حقِّهما ، فلا طاعة لهما في مطلب كهذا و لا ما هو دونه إذا ما أباه الزوج .
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن امرأة و زوجها مُتَّفِقَين ، و أمُّها تريد الفرقة ؛ فلم تطاوعها البنت ، فهل عليها إثمٌ فى دعاء أمها عليها ؟
فأجاب رحمه الله: إذا تزوجت المرأة لم يجب عليها أن تطيع أباها و لا أمها في فراق زوجها ، و لا في زيارتهم ، بل طاعة زوجها عليها إذا لم يأمرها بمعصية الله أحق من طاعة أبويها ، و أيما امرأة ماتت و زوجها عليها راضٍ دخلت الجنة ، و إذا كانت الأم تريد التفريق بينها و بين زوجها فهي من جنس هاروت و ماروت ؛ لا طاعة لها في ذلك ، و لو دعت عليها ، اللهم إلا أن يكونا مجتمعَين على معصية ، أو يكون أمره للبنت بمعصية الله و الأم تأمرها بطاعة الله و رسوله الواجبة على كل مسلم [ مجموع الفتاوى : 33 / 112 ] .
هذا و الله أعلم ، و به التوفيق ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .(/2)
أمراض القلوب و علاجها
الخطبة الأولى :
أمة الإسلام !
إن الله تعالى خلق الإنسان فسواه و عدله في أحسن تقويم و حمّله أمانة أبت السماوات و الأرض و الجبال أن يحملنها و أشفقن منها ( و حملها الإنسان إنّه كان ظلوماً جهولاً ) كما أخبر تعالى .
و بتحمل الإنسان هذه الأمانة لزمه أن يتقي الله فيها و أن يحرص على أدائها و أن يجند في سبيل ذلك ما استطاع قلبَه و عَقله و جوارحه .
و أهم ذلك كله قلبه الذي بين جنبيه ، الذي يناط بصلاحه صلاح الجسد كله ، فقد روى الشيخان عن النعمان بن يشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال رسول الله : (( ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب )) .
و القلب وعاء التقوى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثاً و هو يقول : (( التقوى ههنا )) ، فدل ذلك مجتمعاً على أن الجوارح ترجمان القلب فإن استقام استقامت و إن حاد حادت .
و إنما سمي القلب باسمه هذا لكثرة تقلبه ، و قد قيل :
و ما سُمّي الإنسان إلا لنسيه و لا القلب إلا أنّه يتقلّب
و قد ذكر القرآن الكريم ثلاثة أنواع من قلوب العباد :
أوّلها : القلب السليم: الذي سلمه الله من أمراض الشبهات و الشهوات و انتدبنا لنلقاه به فننال النجاة يوم نلقاه فقال تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء: 89].
و وصف به خليله إبراهيم أبا الأنبياء عليهم السلام فقال عنه : إذ جاء ربه بقلب سليم .
و القلب الثاني هو : القلب الميت ، قلب الكافر الذي أشرب الكفر حتى ران عليه فمنع وصول الحق إليه، قال تعالى: و قولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليل اً و وصف تعالى قلب الكافر بالقسوة فقال : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة .
أما القلب الثالث فهو القلب السقيم المثقل بمرض الشهوات أو الشبهات أو بهما معاً ، كما في قوله تعالى: ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض .
و قوله سبحانه : وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون .
أمّا في السنّة النبوية المشرفة فالقلوب نوعان ، و الحكم على القلب إنّما يكون بحسب موقفه من الفتن التي يتعرّض لها أو تعرض له .
عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله : ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض)) [رواه مسلم].
و عن أبي هريرة أن رسول الله : ((إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه فإن تاب و رجع واستعتب ( أي ندم ) صُقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )) [رواه الترمذي والنسائي] .
من يهُن يسهل الهوان عليه ما لجَرحٍ بميّتٍ إيلامُ
عباد الله :
قلوب العباد - إذن - على أنواع : منها السليم و منها السقيم ، فالسليم منها ما سلّمه الله من الفتن ، و السقيم ما أشربها و وقع في الذنوب .
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله :
رأيت الذنوب تميت القلوب و قد يورث الذل إدمانها
و ترك الذنوب حياة القلوب و خير لنفسك عصيانها
فإذا سلّمنا بحقيقة مرض القلوب و أنّها واقع لا خيال ، و حقيقة لا وهم تعيّن علينا أن نبحث عن الدواء لأن الله تعالى ( لم ينزل داءاً إلا أنزل له دواءً عرفه من عرفه و جهله من جهله ) .
و لا سبيل إلى معرفة الدواء ما لم نقف على حقيقة الأدواء التي تصيب القلوب و هي كثيرة فتّاكة من أخطرها اتباع الشهوات و الشبهات :
إبليس و الدنيا و نفسي و الهوى كيف النجاة و كلّهم أعدائي ؟
فمن استسلم لشيء من ذلك و أسلم له القياد فقد اتبع هواه و أعرض عن مولاه ، قال تعالى : ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً ) [ الفرقان : 43] ، قال بعض السلف : هو الذي كلما هوي ( أي أحب ) شيئاً ركبه ( أي ارتكبه ) .
و من الرزايا الملمّة بالقلوب داء الإعراض عن كتاب الله تعالى ، و الانصراف عن شريعته ، و هذا سبب من أسباب قسوة القلوب التي ابتلي بها من أعرض عن الذكر و اتخذه وراءه ظهريّاً .
فإذا عرفنا الداء العضال الذي يصيب القلوب فلا بد من البحث عن الدواء و دفعه بقدر المستطاع ، و تطهير القلوب من درن المعاصي و آصار الذنوب فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في أوائل ما أوحى به إليه بطهارة القلب وتزكيته من أدرانه فقال تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر و ربك فكبر و ثيابك فطهر .(/1)
وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم كما يقول ابن القيم رحمه الله على أن المراد بالثياب هنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والاخلاق كما قال ابن القيّم في ( إغاثة اللهفان ) .
و مما يطهر القلوب و ينقيها من الذنوب أمور من أبرزها :
الرجوع إلى كتاب الله القائل : و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين [الإسراء:82] ، قبل أن تحيق الندامة بمن أعرض عنه ، و يكون خصيمه رسول الله ذات يوم و قال الرسول يا ربّ إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً
و من أدوية القلوب أيضاً الانصراف إلى ذكر الله تعالى أو الإكثار منه ، إذ إن القلوب القاسية لا يلينها مثل الذكر و لا يهذبها مثل الطاعة و الانقياد لله تعالى ، و هو القائل : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) ، و القائل في وصف عباده الصالحين : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله [الرعد:28] .
فمن اطمأنّ قلبه بذكر الله و عُمر بمحبته ذاق حلاوة الطاعة و لذة الصدق مع الله تعالى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة .
و من أسباب سلامة القلوب أيضاًً ما حصره ابن القيم في ( الداء و الدواء ) بالسعي إلى إحراز السلامة من خمسة أشياء : ومن شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر ، وغفلة تناقض الذكر ، وهوى يناقض التجريد والإخلاص .
اللهم إنا نسألك سلامة الجوهر و صلاح المظهر و السلامة و العافية من كل داء و بلاء .
الخطبة الثانية :
عباد الله !
إن مما يجلب الخير للفرد و المجتمع أن ننقي سرائرنا مما علق بها من أحقاد و ما عشعش فيها من أغلال تجاه بعضنا البعض ، و أن نتعامل مع المخالف وفق الضوابط الشرعيّّة .
فليتق الله أقوام زلت أقدامهم فوقعوا في أعراض إخوانهم و أوقعوا بين آخرين سواء بألسنتهم أو أيديهم أو وشايتهم إلى من يبادر بالجرح و الطعن في من خالف فيما يسوغ فيه الخلاف .
و من ذلك ما طلع به أحد المقيمين في هذه البلاد مؤخراً بتسخير بريده الإلكتروني لمثل هذه الأمور و الترويج لكتابات تتهم الجميع بما لا ينجو منه أحد ، و كأنّه يقول : ( أنا الحق و الحق معي ) .
و نذكر من ابتلي بشيء من ذلك بما أخرجه الامام أحمد وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوءه قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك .. فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى .. فلما قام تبعه عبد الله عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، فقال: إنى لاحيت ( أي خاصمت ) أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي، فعلت ؟ قال : نعم قال أنس : وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا ُ، غير أنه إذا تعار ، أي تنبه من نومه، وتقلب على فراشه ذكر الله حتى يقوم لصلاة الفجر ، قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا ً.
فلما مضت الليالي الثلاث ، وكدت أن أحتقر عمله قلت : يا عبد الله : إنى لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ثم ، ولكن سمعت رسول الله عليه وسلم يقول ثلاث مرار : يطلع عليكم رجل من أهل الجنة . وطلعت أنت الثلاث مرار ، فأردت أن آوى إليك لآنظر ما عملك فأقتدى به ، فلم أرك تعمل كثير عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت ، قال عبد الله : لما وليت دعاني فقال : ما هو إلا مارأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه ، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي والله التي لا نطيق )) .
فاتقوا الله عباد الله في إخوانكم و كفوا عن اللمز و التشهير ببعضكم فإن الغيبة هي الحالقة تحلق الدين و العياذ بالله كما في الحديث .
ألا و صلّوا و سلّّموا على نبيكم و الأمين و على آله و صحبه أجمعين .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com(/2)
أمريكا تتسول العالم !
3/8/1426 هـ
2005-09-07 فضيلة الدكتور رياض بن محمد المسيميري
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ له. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102). (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء:1). (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) (الأحزاب:70-71).
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أما بعد أيها المسلمون
فيقول الله تعالى : ((وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ )) ، الآية (سورة الرعد: 31) .
ويقول تعالى أيضاً : ((أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ )) (سورة الأعراف: 97) .
وهذه الآيات العظيمات بيّن بوضوح وجلاء ما أعدّه الله تعالى للكفرة المجرمين من الأخذ الشديد ، والعذاب المُبيد إن هم استمرأوا كفرهم وبغيهم ، وظلوا على شركهم وفجورهم !!
وأنّه مهما بدا الكفار أقوياء متمكنين ، ومهما انتفشوا متغطرسين مستكبرين، فإنهم أضعف وأحقر وأذل من أن تقوم لهم قائمة أو تكون لهم طاقة أمام جبروت الله وسلطانه العريض, وبطشه القوي الشديد !
وقديماً استأسد قوم عاد وعتوا عن أمر ربهم وقالوا من أشد منا قوة فأجابهم القوي الجبار :
((فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ))(فصلت :15، 16) .
فإذا بالقوم المعاندين ، المغترين بقوتهم وجبروتهم ، عاجزين عن مقاومة قاصف من الريح جعلهم كأعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ؟!
ولما طغى الفراعنةُ في البلاد فأكثروا فيها الفساد واستباحوا الدم الحرام واستعبدوا الناس وسخروهم لخدمتهم وإشباع غرورهم حلت عليهم لعائن الله ، واستدرجهم القوي القهار إلى لجبة البحر المهيب؛ فماجت عليهم أمواج عاتية ، وبحور ناقمة ، فإذا بهم جثث طافية ، وجيف طافحة فكانت الأجساد للغرق, والأرواح للحرق!!
((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً )) (سورة نوح :25) .
وهكذا تتابع أيامُ الله القاصمة ، وعقوباتُه الصارمة ، تستأصلُ شأفة الظالمين ، وتستبيحُ بيضة المجرمين !!
وفي عصرنا الحديث أذاق الله تعالى الأمم الكافرة ألوناًٌ من العذاب وسقاهم كؤوساً من أليم العقاب ، علّهم يرجعون ويتذكرون, ويتخلون عن عنادهم وغرورهم ولكنّهم لا يزالون في غيهم سادرين وفي طغيانهم منغمسين وهذا من إملاء الله للظالمين ليزدادوا إثماً؛ حتى إذا حانت ساعة الانتقام الماحقة ، والعذاب الساحقة فلات ساعة مندم!!
وقد حسب الناسُ اللهَ غافلاً عمّا يعمل الظالمون، واغتروا بما وصلت إليه دول الكفر من القوة والجبروت ومادروا إن لله في خلقه شؤوناً ، وتدابير ، وفي قضائه أسراراً وحكماً, وأن لله أياماً يداولها بين الناس !!
وما دروا أنّ الله تعالى قد أحاط بخلقه يميناً وشمالاً ، وأماماً وخلفاً ، وفوقاً وتحتاً، وأنه لو شاء لاستأصلهم وقهرهم وأهلكهم!!
ولا أدل على ما نقول من هذه العقوبات المتتالية, والزلازل المدمرة ، والأعاصير المهلكة، والفيضانات الجارفة, والخسوفات الحارقة ، وهي بعضُ نذر الله للطغاة المعاندين والأقوام المستكبرين ، وللكافرين أمثالها!! .
وفيما يلي إشارات سريعة ، ولفتات عاجلة لبعض ما أصاب الدول المعاصرة من آيات الله القاصمة وعقوباته المدمرة ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .(/1)
فأما الزلازل فلها شأن عظيم وخبر عجيب ، يزلزل القلوب الحية ويهزها هزاً !!
ففي عام 1976/ ضرب الزلزال المدمر منطقة الصين الشعبية ، فسقط قرابة سبعمائة ألف قتيل في لحظات معدودات !! وبقيت أمة الألف مليون مهيضة الجناح ، مقطعة الأوصال ، لا حول لها ولا طول أمام القوة الباهرة , والإرادة القاهرة !!
وأما الفيضانات الجارفة, والسيول العارمة؛ فقد أغرقت الصين عام 1931م وقُتل قرابة أربعة ملايين إنسان بسبب الغرق والمجاعة,والأمراض المتفشية!!
وهو أسوأ فيضان في العصر الحديث فما أغنى عنها سورها العظيم ولا ساحات بكين !!
كما عمّت الفيضانات ولاية آسام الشرقية في الهند عام 2002م وغمرت منازل 700000 مواطن وأغرقت 800 قرية وقتلت عشرات الألوف !! فما أغنت عن الهنود أبقارهم ولا أوثانهم ولا جحافل جيوشهم الجرارة!!
وقبل أشهر قتل فيضان تسونامي 300،000 إنسان في جنوب شرق آسيا بعد أن حادّت الله كثيراً في مسارحها ومراقصها وخمورها !!
وأما الأعاصير فقد ضرب الإعصار المدمر هذه الأيام الجنوب الأمريكي فأحدث خسائر تقدر بـ 125ملياراً من الدولارات وعشرة آلاف قتيل حتى غدت أمريكا دولة من دول العالم الثالث كما وصفتها صحيفة الديلي ميل اللندنية يوم السبت 3/9/2005 م .
وضرب إعصار مماثل اليابان وكانت سرعته 229كم في الساعة ، وشرد قرابة عشرين ألف إنسان ، واقتلعت الرياح العاتية الأشجار وقلبت الشاحنات ، وجرفت السيارات والمنازل ، وأنهارت مصدات الأمواج أمام قوة الإعصار وأحدث 280 انهيارا أرضيا وألغيت ألف رحلة طيران ، وبلغ ارتفاع الموج تسعة أمتار !!
فارتجف لهذه الأعاصير قلوب القوم الكافرين وعُبّاد الشمس الوثنيين !! وحتى موجات الحرّ لا يقوي طغاة البشر على احتمالها .
ففي صيف 1980م قتل الحرّ والجفاف نحو 10,000 أمريكي والخسائر قرابة 33 ملياراً .
وفي أوروبا عام 2003 أحرق الحرّ الشديد الغابات وأفسد المحاصيل ، وقتل في فرنسا قرابة 14000 إنسان فما أغنى عنها برجها الشهير ، ولا جامعاتها العريقة ، ولا علمانيتها الفجة .
وأما حوادث الطائرات ؟
فقبل أيام أهلك الله تعالى ركاب طائرة كولومبية ، وعلى متنها 160 راكباً فرنسياً ماتوا عن آخرهم . في رحلة سياحية وفساد ، وللكافرين أمثالها !!
وحتى على مدرج المطارات لم تسلم الطائرات من حوادث مفزعة ففي جزر الكناري اصطدت طائرة هولندية بأخرى أمريكية عام 1977م فقتل ركاب الطائرتين فهل أغنت عنهم التقنيات العالية, والتجهيزات الحساسة ؟!
وأما السفن فقد أنشأ الصليبيون سفينة ضخمة مقاومة للغرق تُسمّى (تايتنك) فاصطدمت بجبل من الجليد فغرقت وقتل كلّ ركابها !! عام 1912م فما تقولون ؟!
وأما القطارات ففي عام 1944م اختنق ركاب إحدى قطارات الأنفاق في إيطاليا فماتوا عن آخرهم !! فهل تسمعون ؟!
وفي الهند انحرف قطار عن مساره عام 1981م خشية من دهس بقرة متربعة في مساره فسقط من فوق الجسر وقتل 268من ركابه الهنود !! فما ظنكم برب العالمين ؟!.
وأما المركبات الفضائيات فقد اخترع الأمريكيون مكوكاً فضائياً اسموه ( التحدي ) فأنفجر بعد أقل من دقيقتين من إقلاعه !! فهل تتفكرون ؟!
وهكذا يمكر الله بالظالمين، ويهلك الكافرين ,ويمتحن الله المؤمنين بهذه النكبات, والدواهي العظيمات؛ ليعلم الناس كلهم أنّ القوة لله جميعاً وأنّ الله شديد العذاب، وأنّ كلَّ قوى الأرض مهما بلغت من البأس الشديد والكيد الكبير فهي ضعيفة حقيرة في يد الله القوي القهار والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون !
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم, واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين,
أمَّا بعدُ:
فقد ضرب الإعصار الإلهي المدمر هذه الأيام ولاية نيو أروليانز ممتداً إلى الولايات المجاورة مخلفاً دماراً هائلاً في الأرواح والمنشات والمباني والمعدات بما يقدر بـ (120) ملياراً من الدولارات كتقديرات أولية مع احتمال تضاعف الأرقام بشكل فلكي حسب مدة بقاء الإعصار الرهيب !!
وفي قطاع النفط بقيت مصافي خليج المكسيك مغلقة تماما ً وتوقفت إمدادات النقط الخام من الخليج مما أدى إلى ارتفاع أسعار الوقود في أنحاء الولايات المتحدة بما معدله ثلاثة دولارات للجالون الواحد .... وأعلن الأمريكيون عن لجوؤهم إلى مخزونهم الاستراتيجي من البترول لمواجهة الأزمة !!
وللعلم فإن خليج المكسيك الذي تعرض لفتك الإعصار يغذي الولايات المتحدة بما مقداره 1.5 مليون برميل يومياً أي ربع أحتياجها من النفط !!(/2)
وعلى الصعيد الأخلاقي للشعب الأمريكي (المؤدب !) فقد سادت أعمال النهب والسرقة حتى أعلن المسؤولون وعلى رأسهم عمدة مدينة نيو أروليانز أن أعمال النهب التي عمت المدينة منذ أن ضربها الإعصار طالت المستشفيات والفنادق ، وقال شهود عيان إن اللصوص سرقوا آليات عسكرية واستخدموها لتحطيم نوافذ صيدليات ومخازن للبيع السلع المنزلية ، وطالت عمليات النهب ملاجئ لإيواء العجزة وفي نفس الإطار طالبت ولاية لو يزايا تعزيزات لوقف أعمال السرقة والنهب تقدر بخمسة آلاف رجل !!
وفي هذه الأثناء أعلنت الولايات المتحدة قبولها للمساعدات الخارجية القادمة من أنحاء العالم دون إستثناء !!
فلا مانع أن ترسل بنغلاديش حزماً من القش لصنع أكواخ لأكثر من مليون أمريكي مشرد بفعل الإعصار !!
وهو ماتوقعناه سابقا بأن يأتي يوم تكون فيه الآيات الإلهية المدمرة قد حطت رحالها غرباً لنرى عجائب قدرة الله ونرى ضعف أمريكا وأوروبا والعالم أمام جنود الله القاهرة وحينها تمد أمريكا يدها تتسول العالم !!
وملخص القول أجمله في نقاط:
علينا أن نعي وندرك بوضوح أن الله تعالى هو الملك المدبر, القوي القهار الذي لا يعجزه شي في الأرض ولا في السماء , وأن الولايات المتحدة بقضها وقضيضها أعجز وأضعف وأحقر مما نتصوره بكثير وأنها عاجزة عن مقاومة أياً من جند الله ولو كان إعصارا هوائيا !!
لقد وقفت أمريكا بعتادها الحربي, وسلاحها النووي, واقتصادها الربوي ونفوذها السياسي مكتوفة الأيدي مهيضة الجناح أمام الإعصار!!
ووقف العالم كله شامتاً مهما أظهر من نفاق خشية العصا الأمريكي الغليظة وهو ما يدل على حجم الكراهة التي تتمتع بها هذه الدولة المتغطرسة في أنحاء المعمورة . !!
ظهر الرئيس في طائرة خاصة ( يتفقد !!!) المناطق المنكوبة بزعمه لبضع دقائق أما عدسات التصوير ولو قيس نبض قلبه في تلك اللحظات لعرفنا حجم الخوف والقلق والرعب والفزع الذي أنتابه لحظتها وقد عرف حجمه الحقيقي وحجم جيشه أمام قوة الله القاهرة وإرادته الغالبة ؟!!
في ما جرى للولايات المتحدة هذه الأيام تثبيت لقلوب الموحدين والمظلومين من شعوب أمتنا الإسلامية وتطمين لهم بإن الله ناصرهم على عدوهم, ومنتقم لهم ممن ظلمهم فإن الله ليمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد .
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا, ويقيناً صادقاً, وتوبةً قبلَ الموتِ, وراحةً بعد الموتِ, ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة, ولا فتنةً مضلة,
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ, واجعلنا هُداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين, يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه, إمام المتقين, وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرض اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور, وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون.(/3)
أمريكا والانهيار الحضاري : حقيقة أم وهم؟
08-6-2006
بقلم خباب بن مروان الحمد
"...فلنتفاءل ولنمضِ على طريق الإباء ، فإنَّ مما يبشرنا أنَّ الأمة الإسلامية ولله الحمد أمَّة شابة نامية ولود ، وراجعة لكتاب لربها وسنة رسولها ، ولا أدلَّ على ذلك من هذه الصحوة الإسلامية ، واليقظة العلمية الفكرية الجهادية الدعوية في أوساط شباب الأمة..."
الحمد لله ناصر المؤمنين ، وقامع الكافرين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أمَّا بعد:
(إنَّ التاريخ ـ وبالدقة ذاتها ـ لا يكرر أبداً نفسه، ولكنه غالباً ما يوجه صفعاته، إلى أولئك الذين يتجاهلونه كلياً)
بهذا سطَّر أحد أشهر المؤرخين المعاصرين الأمريكان[بول كينيدي]مدير مركز الدراسات الأمنية الدولية بجامعة بيل ، وأستاذ التاريخ فيها
وصدق!فإنَّ أمريكا تتجاهل تاريخ الأمم السابقة التي سادت ثمَّ بادت(فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) ومن الجيد أن نقارن بين واقع الإدارة الأمريكية بواقع الأمم الكافرة التي تكبرت على منهج ربها وآذت عباده ، فلعل الربط بين الواقع الحاضر و تاريخ الماضي يوضِّح لنا دلالات ، ويجلي لنا أمور غامضات ، وقد أمرنا تعالى في محكم التنزيل بأن نعتبر بما وقع للمؤمنين والكافرين من قصص وأخبار حيث قال(فأخذه الله نكال الآخرة والأولى*إنَّ في ذلك لعبرة لمن يخشى).
ومن هذا المنطلق فلعلي أربط بين منطق الطغاة في القرآن الكريم وأفعالهم مع المؤمنين ، بمنطق طغاة أمريكا وأفعالهم مع عباد الله كافرهم ومسلمهم ، كي يُعْلَمَ أنَّ التأريخ يعيد دورة الأيام ولكن بأسماء أخر، وأفعال تبتكر، وجرائم تحضَّر، وما أشبه الليلة بالبارحة!! ومن جميل كلام الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:(فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمَّة ،وممن قبلها من الأمم ،وذكر في غير موضع أنَّ سنَّته في ذلك مطَّردة وعادته مستمرة ،فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنَّة الله وأيَّامه في عباده ، ودأب الأمم وعادتهم) (انظر:كتاب الجهاد لابن تيمية2/7ـ جمع الدكتور/ عبدالرحمن عميرة).
وعليه فقد أزمعت الرأي مستعيناً بالله في البحث والكتابة لتوضيح سياسات هذه الدولة ليعتبر المسلم قبل الكافر ، مستشرفاً في ذلك المستقبل الذي بدأت خيوط نوره تلمع ، وحجب ظلامه تزول وتُقْشَع ، بأنَّ مصير هذه الدولة إلى سفال ، ولو امتدت الأيام ، فحقٌ على الله ما ارتفع شيء إلا وضعه ، ولن يبقى إلا الإسلام العظيم يحكم البشرية في أرض الله .
فلن ألتفت إلى الزفَّة الإعلامية الصاخبة التي تظهر هذه الدولة بمظهر الكابوس المخيف ، والامبراطورية التي لا تقهر أو التي بدأت تعيد عهد سالفتها بريطانيا بأنها الدولة التي لا تغيب عنها الشمس ،فإنِّي موقن حتماً بأنَّنا في زمن حجب الحقائق ، وتكميم الأفواه ، وتغطية العيون ، ولن يمنعنا مانع بأن نصدح بحقنا ، ونرفع به عقيرتنا ، ما أحيانا الله ، وقد قال تعالى:(إنَّما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) ، وما دمنا أحياء نرزق ، وأقلامنا في أيدينا توثق وتطلق، فلنوضح الحقائق ، وإذا كانت العبارة الفرنسية تقول:( أعطني سطراً واحداً لأكثر الناس حرصاً ، وأنا أجد كلمة واحدة يستحق عليها الشنق)؛فإنَّ كلام خير الحاكمين يقول:(فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون*ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون).
ولعلي أستعرض في ثنايا هذا المقال شيئاً من الجرائم الأمريكية مقارناً مع جرائم من سبقهم من طغاة الأرض ، وفراعين الدهر، سائلاً المولى التوفيق في العرض ، والسداد في الطرح.
1ـ ادِّعاء أمريكا بأنَّها الدولة التي لن تقهر ، والتي توقف التاريخ عندها ، فلن تزول حضارتها ، ولن يفنى شبابها ،فهي باقية أبد الدهر ـ عياذاً بالله من ذلك ـ فلا مانع من التوسع والهيمنة على جميع الدول ولعلَّ أشهر من كتب في هذا العصر عن هذه النبوءة ؛ فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ والرجل المريض) ، فقد ألَّف كتابه محتفلاً فيه بسقوط الشيوعية واندحارها أمام الحضارة الغربية الحديثة ! فالعالم بزعمه لم يعد أمامه شيء جديد سوى هذه الحضارة الغربية وبالذات الأمريكية ، ولهذا فقد أغلق باب التاريخ ولم يعد هناك من يمسك زمامه سوى القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا وسينتهي التاريخ عندها ولن تقوم قائمة لأي حضارة بعدها، والحقيقة أنَّ كلام فوكوياما وغيره ممن يتمنطق بذلك ، مبني على مقولة أمريكية قديمة تقول:(إنَّ أمريكا هي العالم ، والعالم هو أمريكا)ولا ريب أنَّ الرجل وقومه يعيدون كلام من سبقهم من الأمم الكافرة حين نظروا لقوتهم وجبروتهم فاستكبروا وقالوا ليس لنا نهاية ولن نزول ، حيث قال تعالى عنهم:(أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال)!!.(/1)
تأمل خطاب(ألبرت بيفريدج)ممثِّل ولاية (إنديانا) في مجلس الشيوخ الأمريكي وهو يقول:(لقد جعل الله منَّا أساتذة العالم ! كي نتمكن من نشر النظام حيث تكون الفوضى،وجعلنا جديرين بالحكم لكي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية الهرمة ، وبدون هذه القوة ، ستعمُّ العالم مرَّة أخرى البربرية والظلام ، وقد اختار الله الشعب الأمريكي دون سائر الأجناس كشعب مختار!!يقود العالم أخيراً إلى تجديد ذاته)" " والشاهد من ذلك أنَّ هؤلاء القوم قد أعادوا سيرة سلفهم حين نظروا لقوتهم وجبروتهم وخيراتهم وحضاراتهم ، فافتخروا بها ، وظنَّوا أنهم بذلك أولياء الله وأحباءه ، ففي الزمن السابق قال أحدهم حين رأى أملاكه وخيراته بكل كبر وعجرفة:(ما أظنٌّ أن تبيد هذه أبداً*وما أظنُّ الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً). لكنَّ الحق سبحانه لن يحيي إلا الحق وسيجعل الباطل غثاء زبداً زائلاً ، فلم يبق لهذا المفتخر بماله وملكه إلا حطام مامَلَكْ ، (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحداً*ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً).
2ـ اعتزاز أمريكا بأنَّها الدولة القوية والتي لن تقف أمامها أي قوة ، وفي أدبياتها أنَّ أيَّ تفكير لدولة ما تريد أنْ تتقوى أو تقف مناوئة لها ، فإنَّها ستجلب على نفسها الدمار قبل بداية الحرب بواسطة الحروب الاستباقية الوقائية.
وهذا بالضبط حال فرعون ومنطقه حين خاف أن يأتي من بني إسرائيل ابن يقتله ويقضي على ملكه ، فما كان منه إلأَّ أن استحل دماء الناس وفرضها حرباً وقائية له تنجيه من ذلك القتل،وحين نمعن النظر في كلام قادة هذه الدولة المارقة ، أو بحالها العملي مع الدول المخالفة لها فسنجد ذلك واضحاً جداً ، فهاهي مادلين أولبرايت تقول في إحدى المقابلات معها في جامعة أمريكية:(في هذا الكون قوة عظمى واحدة ؛الولايات المتحدة!!).
وهذا ستيفن إيه دوجلاس يذكِّر مجلس الشيوخ الأمريكي عام(1858)م بحقيقة المنطق الطاغوتي القائل:(من أشدُّ منَّا قوة) حيث يقول:( إنَّ أمريكا أمَّة شابة نامية ، تعج مثل خلية النحل،وكما أنَّ النحل في حاجة إلى الخلايا ليتجمع وينتج العسل ، أقول لكم:إنَّ التكاثر والتضاعف والتوسع هو قانون وجود هذه الأمة)" " ومِمَّا يصدِّق كلام (دوجلاس) السابق ذكره ويدلِّلُ على حب هؤلاء الغزاة للتوسع والسيطرة على بلاد الله ، ما قاله السيناتور هارت بنتون في القدم ، في خطاب ألقاه أمام مجلس الشيوخ عام1846م:((إنَّ قدر أمريكا الأبدي هو الغزو والتوسع ، إنَّها مثل عصا هارون[يقصد موسى]التي صارت أفعى ، ثمَّ ابتلعت كلَّ الحبال . فهكذا ستغزو أمريكا الأراضي ، وتضمُّها إليها ، أرضاً بعد أرض. ذلك هو قدرها المتجلي . أعطها الوقت ، وستجدها تبتلع ، كلَّ بضع سنوات مفازات بوسع معظم ممالك أوروبا . ذلك هو معدَّل توسعها)).
ويقول المؤرخ (ريتشارد إيميرمان):(القوَّة والأمن الأمريكيين يعتمدان بشكل أساسي على الحصول على المواد الأولية من العالم ، وبالتدخل في أسواقه الداخلية ، وبالأخص في دول العالم الثالث التي يجب أن تبقيها الولايات المتحدة تحت السيطرة الشديدة)" " وهاهو نيكسون يقول:(على أعداء الولايات المتحدة الأمريكية أن يدركوا أننا نتحول حمقى إذا ضربت مصالحنا...بحيث يصعب التنبؤ بما قد نقوم به مما لدينا من قوة تدميرية غير تقليدية ، وعندها سوف ينحنون خوفاً منَّا)ويقول وزير الخارجية كولن باول بعد ضربة سبتمبر:(نحن الآن القوة الأعظم ، نحن الآن اللاعب الرئيس على المسرح الدولي ، وكل ما يجب علينا أن نفكر به الآن هو مسؤوليتنا عن العالم بأسره، ومصالحنا التي تشمل العالم كلَّه).
بل سبقه بذلك بوش الأب حينما ألقى خطاباً عقب انتصار الحلفاء على العراق في حرب الخليج الثانية في إحدى القواعد العسكرية 13/4/1991م حيث يقول:(إنَّ النظام العالمي الجديد لا يعني تنازلاً عن سيادتنا الوطنية ، أو تخلياً عن مصالحنا ، إنَّه ينُّبؤ عن مسئولية أملتها علينا نجاحاتنا) ثمَّ صرَّح في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة 23/9/1991م(بأنَّ أمريكا ستقود العالم).
وبعد هذه الكلمات فهل يشكُّ أحد في مشابهة منطق الأمريكان بمنطق الطغاة الغابرين (ذرية بعضها من بعض)، فإنَّهم اعتقدوا مقتنعين أنَّهم رب الكون ومسَيِّري أحداثه ـ تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً ـ ولهذا من يقرأ كلام نيكسون حين قال:(نحن نقبض على ناصية المستقبل بأيدينا)" "يوقن يقيناً بأنَّ هذا(يتوائم مع اعتقاد الأمريكيين بأنَّ قيادتهم للعالم هي قدرهم المحتوم، الذي اختاره لهم الرب ، وباركته من أجلهم الملائكة).(/2)
3ـ الكبر والتعالي على الرب وعلى العباد بمنطق من قال:(أناربكم الأعلى)ومن قال:(ما علمت لكم من إله غيري)ومن قال (ما أريكم إلَّا ما أرى وما أهديكم إلَّا سبيل الرشاد)، يقول أحد كبراءهم وهو متحدث باسم البيت الأبيض في حرب الخليج:(جئنا نصحح خطأ الرب الذي جعل البترول في أرض العرب)، وهذا بوش يخاطب الرئيس الباكستاني برويز مشرَّف بمنطق القوة والتهديد ليركع له وينحني:(أمامك خياران إمَّا أن تدخل في حلف أمريكا ضد الإرهاب،وإمَّا أن نعيد باكستان للعصر الحجري)وحقاً إنَّها سياسة من لا يفتح مجال الحوار والأخذ والرد ، وهي القاسم المشترك الذي جمع طواغيت الأرض على كرسي التجبُّر ، وسيف القهر، والكبرياء البغيضة. ولهذا فإنَّ الأمريكان جعلوا أنفسهم بمنزلة الرب ،واستقوا من الفكرة الثيوقراطية مبدأً ؛ بأن يُطاعوا ويُخدموا من قبل الناس وإلا فالجحيم ينتظرهم لأنَّهم مفوضون حسب ادعائهم عن الله بالحكم والقتل، وتابع معي كلاماً لنيكسون:(إنَّ محور علاقات أمريكا مع ألمانيا وأوروبا وآسيا والعالم كلِّه هو مصالح أمريكا ، وعلى العالم كلَّه أن يخدم مصالح أمريكا).
4ـ القتل والتدمير واستحلال دماء الشعوب ، وهو حال فرعون (إنَّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نسائهم)،وهذا حين لم تنتشر دعوة الله في الأرض فكان فرعون يقتل الأبناء ثمَّ حين وجد بعضاً من النساء يشهدن بأنه طاغوت وأن الرب هو الله جلَّ جلاله وليس فرعون فما كان منه إلَّا أن مكر بسيدتنا آسية وقتلها بكل وحشية وإجرام ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ ولا شكَّ أنَّ أمريكا كانت كذلك ، فكم من رجلٍ كبيرٍ أو امرأةٍ مسنةٍ أو طفل ٍصغيرٍ استخدمت أمريكا في حق إنسانيتهم وسائل البطش والإجرام،ولم يكن ذلك في حقِّ المسلمين فحسب، بل إنَّ إخوانهم في الكفر لم يسلموا من أذاهم وشرهم ، وكانت خطاباتهم فيها صراحة واضحة بحبِّ سفك الدماء ، والإفساد في الأرض، وخير شاهد على ذلك ما قاله الجنرال الأمريكي سميث الذي كُلِّف بتحطيم الحركة الفلبينية مصدراً أوامره لقواته:(إنني لا أريد أسرى...أريدكم أن تحرقوا وتقتلوا وكلَّما زدتم في الحرق والقتل كلَّما جلبتم السرور إلى قلبي)" "، وكذلك فنحن لا ننسى مذبحة الهنود الحمر في أمريكا والتي قال عنها المؤرخ الأمريكي ديفيد ستارند:(إنَّها أكبر مذبحة جماعية في العالم)، وما خبر مذابح فيتنام عنَّا ببعيد، وهذا كلَّه في حق الكفار فما البال بألد أعدائهم المسلمين ،فلم يكن لهم قرار في أرض من بلاد المسلمين إلا وعاثوا فيها الفساد، وأبادوا فيها العباد سواء بطرق مباشرة أو بتوكيل غيرهم على المسلمين أو بالدعم المادي والعسكري والمعنوي ولن أعدَّ البلاد الإسلامية التي أفسدت في حقها أمريكا فإنَّ هذا في عقلية المسلم أمر معلوم ، ثمَّ إنه أمر يصعب حصره في مقال ، فجميع بلاد الإسلام تأذَّت من سياسات هذه الدولة.
أمَّا عن الشعب الأمريكي فقد ربَّاه أسياده على حب الجريمة ، وحببت إليه وقائعها ولهذا فلا عجب حين نجد 85 % من الشعب الأمريكي يؤيدون الحرب على بلاد أفغانستان المسلمة،وكان هذا الاستفتاء في شهر رمضان المبارك عام(1422هـ)،بل إنَّ 8%من الشعب الأمريكي أيَّد بوش على حرب العراق وفقاً لاستطلاع وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون في العراق، فإذا كان شعب أغلبيته يؤيد المحرقة للعالم الإسلامي وكيِّه بنار الموت، ولا يعارض ما تقترفه سياسات دولته ، فإنَّ حكَّامهم سيمضون في مقاصل حمَّامات الدماء هنا وهناك ولن يردهم شعبهم عن ذلك ، وقد قيل لفرعون من فرعنك ؟!فقال : لم أجد من يردَّني !!ولا يستغرب حين يرى حكَّام أمريكا شعوبهم بهذه العقيدة الإجرامية تجاه الشعوب الإسلامية بأن يفعلوا بها كلَّ ما خبث وفحش ذكره من المآسي والكوارث ، ولا عجب أن يوافق مجلس الشيوخ الأمريكي على إنتاج قنابل ذرِّيَّة صغيرة يعادل كل ثلاث منها القنبلة التي ضربت هيروشيما!!(/3)
ـ لقد أعجبني حين زار الملاكم العالمي المسلم (محمد علي كلاي) مبنى التجارة العالمي ، فواجهه أحد المتطفلين قائلاً : ألا تستحي من دين ينتمي إليه ابن لادن ؟! فأجابه كلاي : ( ألا تستحي أنت من الانتماء إلى دين ينتمي إليه هتلر )" "وقد أجاد كلاي فإنَّ هؤلاء الهتلريون ينسون جرائمهم الماضية في حق البشرية ثمَّ يتساءلون تساؤل الأغبياء عن سبب ضربة سبتمبر ، أو يُعَرِّضُونَ بأنَّ دين الإسلام دين الدموية والإرهاب ، وكأنهم قد برؤوا من أي عمل إرهابي اقترفوه في حق البشرية كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب!! إنَّ أمريكا بتجاهلها لدساتير الحروب ، والعمل على إزهاق الأرواح دون أدنى تحرٍ في كشف ملابسات الحدث ، يُسَيِّرها ذلك إلى التبلد في مواجهة البشرية ، والتصلب تجاه الآخر في كشف أسباب الرد الأمريكي على الدول والشعوب ، ومن يقرأ مقال (سحب من الشك...شهادة أمريكية على الإرهاب الأمريكي) فإنَّه (يبين بإجماع عدد من الفنِّيين الأجانب الذين عملوا بمصنع الشفاء في السودان الذي دمَّرته الطائرات الأمريكية على خلوه من المواد الكيماوية المشبوهة،وهذا ما يعلل رفض أمريكا للتحقيق حول المصنع حتَّى لا يظهر كذبها على الجميع).
ولا أدري كيف يتعامل هؤلاء القوم مع واقع الناس ، فإنَّهم قد نصُّوا في قوانينهم الأرضية الوضعية بأنَّ دولتهم علمانية ترعى الحرية ، وتنشر الديموقراطية ، وحين ضُرِبُوا في سبتمير صاحوا بأنَّهم سيشنون حرباً صليبية واسعة النطاق ، عريضة الجبهة ، تمتد إلى مالا نهاية ، فالعجب لا ينقضي حين يقول هؤلاء بأنها حرباً صليبية ، يعنون بذلك رجوعهم لديانتهم المحرفة النصرانية ، مع أنَّ في مدوناتهم، أهمية الرفق بالبشرية ، والرحمة للإنسانية ، بل نص الإنجيل لأبناء المسيح ـ عليه السلام ـ وأتباعه بأنَّ(من ضربك على خدِّك الأيمن فأدر له خدَّك الأيسر)فأين هذا من هذا،وهم يريدون أن يوسعوا جبهة الحرب بل عدُّوا ستين دولة سيأتيها الدور لمحاربتها ، ومكافحة الإرهاب فيها .
والسؤال:هل شاركت هذه الدول الستين وأمدت الجهاديين بالعدة والعتاد ليقوضوا صرح أمريكا المتمثل في برجي التجارة العالمي ، بل لوضيَّقنا السؤال وقلنا:هل من دولة واحدة من هذه الدول أمدتهم لتحطيم مجد أمريكا!!وثبتت بذلك دلائله ؟! إننا نحن المسلمين نحتار حقاً في تعاملات هذه الدولة مع شعوب الأرض ، ولكنَّنا نقول كما قال السيد المسيح:(من ثمارهم تعرفونهم).
فلا جرم حينئذٍ أن يوصفوا بأنهم مجرمو حرب ، وتجار أسلحة ، وقد بان كذب بعض العلمانيين العرب حين قالوا بأنهم أصحاب الحرية ، وأهل العدالة ، وإذا كان هؤلاء صادقون في هذا الطرح،فليربوا أبناءهم على مناهج التعليم الأمريكية ، ليكرعوا من ثقافة الإجرام ، ويصوبوا أسلحتهم لبلادهم !! وتبَّاً لهذه الحضارة الأمريكية ، فهي أولى بأن تسمى حقارة ، فلا دين يقودهم ، ولا أعراف دولية تحكمهم ، ولا قيم خلقية تسوسهم .
وجزى الله الشاعر النحوي خيراً حين قال عن حضارتهم:
حضارة بالية *** كبعض ثوب خلق
ماقيمة العلم الذي *** يُلهب حُمَّى السبق
يبني ويعلى مابنى *** شواهقاً في أفق
ثمَّ تراه ينثني *** في لحظة من نزق
يهدمها إلى الثرى *** كأنَّها لم تَسْمُقِ
فهذه حضارة *** واهية من ورق
وإنَّ من أكثر من بيَّن جرائم أمريكا في حقِّ شعوب الأرض المثقف اليهودي الأمريكي(نعوم تشومسكي) حيث أفاض في كتابه (ماذا يريد العم سام) في ذكر الجرائم التي ارتكبتها أمريكا في العالم والمؤامرات التي حاكتها، والممارسات السياسية التي لاتستند إلى أي خلق أو قانون ، وكان من جملة ما قاله:(أعتقد من وجهة النظر القانونية أنَّ هناك ما يكفي من الأدلة لاتهام كل الرؤساء الأمريكيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بأنهم مجرمو حرب ، أو على الأقل متورطون بدرجة خطيرة في جرائم حرب).
ويقول أيضاً:(إنَّ الولايات المتحدة الأمريكية، قضت على سكَّانها الأصليين ـ الهنود الحمر ـ عبر القرون ، واجتاحت نصف المكسيك ، وتدخلت بعنف في المنطقة، واحتلت هاواي وفيتنام ، وقامت خلال الخمسين سنة الأخيرة باللجوء إلى القوة في جميع أنحاء العالم تقريباً...هذه هي المرَّة الأولى التي توجَّهُ فيها البنادق إلى الاتجاه الآخر..ـ يقصد ضربة سبتمبرـ لا يمكن اعتبار الولايات المتحدة ضحية بريئة إلَّا إذا تجاهلنا لائحة أفعالها وأفعال خلفائها...علينا أن نُعيرَ اهتماماً أكبر لما نفعل في العالم...علينا أن نتسائل:لماذا حصل لنا ما حصل؟!).(/4)
وهذا هو السؤال الوجيه الذي يجب أن يطرحه الساسة الأمريكان لو كانوا يعقلون:لماذا حصل لنا ماحصل؟! نعم...إنَّ من المهم أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال ، ثمَّ يبحثوا في الأسباب التي أَلَّبت هؤلاء الشباب المسلمين ليضربوا برجيها ضربة تأريخية،لا أن يتساءلوا تساؤل المظلومين وكأنهم لم يقترفوا شيئاً من الجرائم في تأريخ الإنسانية، كتساؤل بوش حين ضربت أمريكا قائلاً :لماذا يكرهوننا؟! فيقال له:سل نفسك وابحث عن مكمن السبب ، فهو أمر أوضح من الشمس في رابعة النهار،وجوابه بكل تأكيد:ظلمتم المسلمين والإنسانية جمعاء فسلَّط الله عليكم مالم تحسبوا له حساب، ومع ذلك فقد بقيتم في إضرام نار المعركة ، لأنَّكم تريدون أن تستردوا هيبتكم بعد أن صفعتم على مرأى من الناس، واقترفتم في حق المسلمين مالم تقترفه أي أمة في حقهم ، ولهذا فالتهديدات التي تأتيكم من هنا وهناك ومن عدة جماعات مسلحة تنتسب إلى الإسلام لتضربكم في قعر داركم مرَّة أخرى ما هي إلا بسبب ما اقترفتم به في حق المسلمين ، بغض النظر عن شرعية الفعل أم عدمه .
وقد صدَّق هذا القول أناس كفار حين رأوا الإجرام الأمريكي في تعامله مع دول الشرق الأوسط التعامل الممقوت ومنهم الأستاذ الأمريكي (وارد تشرشل)في جامعة كولورادو الأمريكية حيث قال(إنَّ 11سبتمبر نتيجة طبيعية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ، وحملة الإبادة الجماعية ضد العراق) ولذلك شنَّ اللوبي الصهيوني ، واليمين المتشدد، حملة دعائية ضده مطالبة بعزله من السلك التعليمي ، وحين واجه ذاك تشرشل ردَّ عليهم ، قائلاً(لن أتراجع قيد أنملة.....أنا لست مديناً لأحد بالاعتذار).
وهذا السفير البريطاني السابق في روما يقول منتقداً النتائج السلبية لسياسة بوش في حرب ما يسمى بالإرهاب حيث يقول(بوش خير من يجند للقاعدة)" " ولنذكر مثلاً أخيراً من كلام أحد المقايضين للعنترية الأمريكية ، فالمحلل السياسي (ديفيد ديوك)وهو مرشح سابق للرئاسة وعضو سابق في مجلس النواب عن ولاية(لويزيانا)يقول في مقال له بعنوان(لماذا هوجمت أمريكا)(يجب علينا أن نتحلى بالشجاعة الكافية كي نضع في الاعتبار الأسباب الحقيقية وراء كره العالم لنا ـ إذا اكتملت كل الحقائق لدينا ـ بدلاً من العبارات الممجوجة والمستهلكة مثل(الهجوم على الحرية)عندها فقط نستطيع أن نقرر ما هي أفضل السبل لحماية شعبنا في المستقبل).
5 ـ المكر والمراوغة والدجل السياسي ، والنفاق المبطَّن ، والخداع الكاذب ، والتهرب من الحقيقة ، وهو منطق فرعون حين قال:(ماعلمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطَّلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين) ويذكر أنَّ لينين حين أسَّس الاتحاد السوفيتي أعلن مبدأه المعروف(اكذب واكذب حتى يصدقك الناس) وهذا الأسلوب تمارسه الإدارة الأمريكية وبدهاء، لإخفاء الحقائق عن الناس ، فالمرشح الأمريكي جون كيري كان يقول للشعب الأمريكي كما في إحدى المقالات التي نشرت في نيويورك في الأشهر الأخيرة(إنَّ أمريكا ستواصل الضغط على الدول العربية لوقف الإساءة إلى اليهود وإثارة الكراهية ضدهم).
وهذا كولن باول يقول في مؤتمر صحفي في العراق(نحن لسنا محتلين...لقد جئناكم كمحررين...لقد حررنا عدداً من البلدان ولا نملك شبراً واحداً في أي من تلك البلاد اللهم إلا حيث ندفن موتانا)" " وممَّن بيَّن نفاق كولن باول ودجله السياسي ؛ المفكر الأمريكي الراحل(إدوارد سعيد) ـ الفلسطيني الأصل ـ حيث كتب(إنَّ كولن باول وصل في خطابه للأمم المتحدة ، والهادف إلى سوقها إلى الحرب إلى حضيض من الرياء الأخلاقي والغش السياسي)ولو أتى رجل لم يعرف بأمور السياسة شيئاً لقال بعد سماعه خطاب باول السابق ذكره إنَّ هذا الرجل بريء جداً وللغاية ، وهو لا يريد إلا الخير للناس والإنسانية جمعاء!! لقد ذكرني هذا الرجل الطعن وكنت ناسياً بمثل أحفظه من قديم عن مثل هؤلاء الساسة وهو:(تكلم بلطف واحمل عصاً غليظة) .
وصدق من قال:
ما جئت تنشر سلماً في مواطننا *** لكن أتيت بتضليل وتمويه
فهؤلاء القادة شابهوا فرعون في خطاباته حين كان يقلب الحقائق، ويكذب على الناس، ويتلاعب بعقول البسطاء بقوله عن موسى ـ عليه السلام ـ:(إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)وكم سمعنا من دهاقنة الإجرام الأمريكي ، أنهم ما أتوا للشرق الأوسط إلا لنشر قيم الحرية والتسامح ، والديموقراطية والعدالة،ومن ذلك قول الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض سكون ماكميلان:(إنَّ الطريقة الأفضل لتكريم كلِّ الذين فقدوا حياتهم في الحرب ضد الإرهاب هي مواصلة شنِّ حرب مكثفة ونشر السلام في المناطق الخطرة في العالم) .
ونقول:
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت عظيم(/5)
والعجيب أنَّ هؤلاء الجلاوزة يتحدثون بهذا الحديث أمام شعوبهم وشعوبهم المخدرة الغافلة تصفق لهم وتهتف ؛ظانين أنهم هم رعايا السلام وحمائم العدالة،وقد شابه رؤساء أمريكا في استخفافهم بشعوبهم ؛ فرعون حيث قال تعالى عنه:(فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين)ومع ذلك فهؤلاء القادة ومع جرائمهم التي لا تحصر يرفعون شعارات العدالة والحرية ، وكلهم حقد دفين على الإسلام ، ويتعاملون مع أبناءه بسياسة الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير .
ويزداد العجب حين نجد أنَّ أمريكا تدعم انفصال تيمور الشرقية النصرانية عن أندونسيا ، وتحمي وتساند حركة الانفصال في جنوب السودان ، وبالمقابل فإنَّها تبقي كشمير المسلمة أسيرة في أيدي الهندوس، وفلسطين أسيرة في أيدي يهود،ومع ذلك ينادون بأهمية مكافحة الإرهاب،وإيقاف إفساد الجماعات المسلحة في شعوب الأرض، وما علموا بل يعلمون ويتجاهلون أنهم على رأس الإرهاب، والإفساد بكل معانيه.
ومن أجمل ما قرأت في هذا الصدد ما قاله الملياردير الأمريكي جورج سوروس متحدثاً عن ازدواجية الإدارة الأمريكية:(الرئيس بوش عندما يتحدث عن ضرورة بقاء الحرية ، فإنَّه يقصد بذلك ضرورة بقاء الولايات المتحدة!!) ويأخذنا الدهشة حينما نقرأ ما نقل عن بوش وكأنه الرجل المكافح لإبقاء روح السلام بين شعوب العالم قائلاً:(من أجل مستقبل الحضارة يجب ألَّا نسمح لأسوأ قادة العالم بتطوير ونشر أسلحة الدمار الشامل لابتزاز بلدان العالم).
والحقيقة أنَّ من يستمع لكلام هذا الرجل وهو جاهل بما تفعله أمريكا يظنُّ أنَّ هذه الدولة ليس عندها مصنعاً واحداً لأسلحة الدمار الشامل الذرية أو النووية أو الكيماوية أو غيرها ، وكأنَّ الذي دمَّر وهشم هيروشيما مجموعة قراصنة أو عصابات ألمافيا، ولم تكن ترتضيه أمريكا.
مع أنَّه وفي وقت متأخر(كشفت صحيفة (هيوستن كرونيكل)النقاب عن مصنعٍ في ولاية لويزيانا الأمريكية تنتج غاز الخردل السام ، والذي يعتبر أحد أكثر الأسلحة الكيماوية خطورة في العالم ، إذ يكفي سقوط نقطة واحدة منه على بشرة أي إنسان تسبب وفاته خلال دقيقة على أبعد تقدير،ويذكر أن معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية التي صدَّقت عليها الولايات المتحدة في العام الماضي ، تمنع الإنتاج المقصود لكل مشتقات الخردل ، وكشفت الصحيفة عن أن المصنع يستخدم أيضاً مركباً كيماوياً آخر يعرف باسم(كلوريد الإثيلين) وهو سائل يهاجم الكبد والرئتين والكلى ، ويمكن أن يسبب السرطان أيضاً!!).
ومن تلاعب بوش بشعبه الساذج ما قاله أيام الانتخابات الرئاسية لهم:(أعطوني أربع سنوات إضافية وستنعم الولايات المتحدة بمزيد من الأمان وتصبح أفضل وأقوى) ورحم الله سيد قطب حيث كتب:(فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني ،عن موسى ـ عليه السلام ـ (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح ؟! أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟! أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟ إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق بالباطل،والإيمان بالكفر ، والصلاح بالطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان ، والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين).
وبعد ذلك فإني أدع المجال للقارئ الكريم ليقارن خطابات الطغاة السابقين مع أحد خطابات بوش حيث وقف متحدثاً أمام الكونغرس حول قضية أفغانستان قائلاً:(الرجال والنساء الأفغان الآن أمَّة حرة تحارب الإرهاب وفخورة بأبناءها!!).
6ـ سياسة الطرد والإبعاد والسجن لكل رجل خالفهم ، وغياب روح التسامح ، وحرية الرأي المزعومة! تحت الحجج الواهية وهو منطق من قال(أخرجوهم من قريتكم)ومنطق قوم شعيب حين قال أخبرنا تعالى بأنَّهم قالوا (وقال الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب من قريتنا أو لتعودن في ملتنا)الأعراف(88) ولا شك أنَّ هذا أمر واضح بياناً عياناً،فكم من شيخ كبير أسرته هذه الدولة بتهم باطلة أو ملفقة عليه وسجنته عدة سنوات لأنه يقول ربي الله ، وكم من داعية ضيق الخناق عليه فخرج من ديارهم إمَّا مكرهاً وإمَّا لسوء التعامل معه والاضطهاد والأذى ، وبهذه الفظاظة فلا يعجب المرء حين يجد أن هناك جماعات في بلاد الإسلام تقتل الأمريكي ولو كان مستأمناً أو حتى معارضاً لسياسة بوش وزبانيته بسبب كفره بالله ، ولشدة ما يلاقيه المسلمون في أمريكا من المضايقات القولية أو الفعلية .(/6)
وفي هذا المقام أتذكر قول الكاتب الأمريكي(نورمان ميلر)حين قال:(أمريكا أصبحت أكثر فظاظة ، وربما أصبح العالم كلَّه يسير في هذا الطريق؛لأننا نقوم بتصدير هذه الفظاظة،إنَّها واحدة من أكبر سلعنا الثقافية:اللغو)" "وحين نسترجع ذاكرتنا ونرى ما فعلته أمريكا من الطرد والإبعاد والإهانة والسجن والتقتيل سواء قبل ضربة أمريكا أو بعدها لوجدناه أمر يصعب حصره ، ويملُّ الإنسان من ذكره ،للكثرة الكاثرة من عمليات السحق والسجن والإبادة. لقد قال (جيف سيمونر) في كتابه (حرب الخليج وحرب العراق)عن هذه المأساة :(أعرف مراقبين غربيين أصيبوا بالكآبة والانهيار العصبي بسبب ما شاهدوه من التعذيب الأمريكي لأطفال العراق).
ولو تذكرنا مالاقاه المسلمون في سجون غوانتنامو تحت إشراف الطغمة الأمريكية من الأذى والتنكيل ومحاولة إطفاء السجاير في أدبار المعتقلين والبول على القرآن أمامهم واستفزازهم جنسياً وحبسهم عراة ينظر المعتقل لعورة الآخر، وتربيطهم عدَّة أسابيع بحبال موثقة مع إحناء ظهورهم ،وتكميم وجوههم ليصابوا بالأمراض العضوية والنفسية ،وكل ذلك سمع به العالم!! وكم سمعنا من أناس كانوا معتقلين في هذه المعتقلات أجريت معهم لقاءات وحوارات سواء في المجلات أو مواقع الأنترنت أو الفضائيات ليذكروا الوحشية الأمريكية في التعامل مع أسرى الحرب .
ولا ننسى كذلك ما تعرَّض له إخواننا في سجن أبي غريب في العراق(فقد التقط الجندي الأمريكي (جوزيف داربي)ألفي صورة عبر كاميرا إليكترونية حديثة من سوق المعتقلين العراقيين عرايا،وتوصيلهم بالأسلاك الكهربائية ، وإجبارهم على ممارسة الشذوذ بعضهم مع بعض واغتصاب للفتيات . بل اعترف قادة أمريكيون في محضر سري بأنَّ كلاباً مدربة التهمت الأعضاء الذكرية ل(3)معتقل ماتوا جميعاً، ومصرع (6)طفلاً عراقياً بعد تقطيع أطرافهم أمام أمَّهاتهم في سجن ((أبي غريب))، وكذلك وفاة العديد من النساء العراقيات بالصدمة بعد إطلاق الكلاب للتحرش الجنسي بهن، واستخدام (12)أسلوباً للتعذيب النفسي، وكانت هذه الأساليب مقترحة من البنتاغون ، مع الاغتصاب العلني الجماعي للمعتقلات العراقيات)" "وما قصة المجاهدة الشهيدة ـ بإذن الله ـ فاطمة العراقية عنَّا ببعيد حيث ذكرت برسالة أرسلتها قبل أن تستشهد أنه في يوم واحد اغتصبت تسع مرَّات مع الإجرام في التعامل معها في اغتصابها وإجبارها على ذلك ، وهي تتأبى وترفض ـ رحمها الله رحمة واسعة ، ورفع درجتها في عليين ، وأسكنها مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون .
ـ ولا شك أنَّ هذا هو المنطق الذي تحدث عنه الله ـ جلَّ جلاله ـ حين قال لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نوايا الكفار تجاهه:(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) أفبعد ذلك يدعى أنَّ أمريكا راعية السلام ، كلَّا بل هي راعية الحِمَام ، فهو الوصف اللائق بها ، وكذب من ادَّعى بأنَّ لديها الحرية ، أو من قال بذلك من أحد كبرائها فإنما هي حرية الاستغلال والنفعية لأجل المصلحة الخاصة بها ليس إلَّا!! ولن يصف بنو الإسلام هذه الدولة بأنها حاملة الحرية والعدالة ، فإنَّ لأهل الحرية علامات ، ولمنتسبي العدالة منهج يقوم على القسط والتحري،.
وصدق من قال:
وكيف يصحُّ أن تدعى حكيماً *** وأنت لكل ما تهوى ركوب
وإن كانت أمريكا بلاد حرية حقاً فلماذا يضيق الخناق على بعض أبنائها المفكرين المعارضين لحروبهم الإرهابية ، بل ومنعهم من الحديث في الفضائيات الرسمية ، لماذا يفعل ذلك ؟ أليست أمريكا بلاد الحرية وشعارها تمثال الحرية ؟ فلماذا يمنع الكتاب المناوئين لها من الكتابة في بعض صحفهم ،أو الحديث أمام الشعب الأمريكي لتوعيته بإجرامية الحرب الأمريكية ؟ فأين الحرية ؟ يا أدعياء السلام والحرية ؟ .
ولقد بان كذب الشمطاء كوندوليزارايس حين قالت:(القيم الأمريكية قيم عالمية يستطيع الشعب أن يقول ما يفكر به ، وأن يعتقد بما يشاء).
فنقول ليفسح التلفاز الأمريكي للمناهضين لحروبكم الإرهابية ، أليسوا هم مفكرين وقيمكم تسمح لمن يفكر بأن يقول ما يفكر به ويعتقده ، فلتفسحوا المجال للكثير من الكتَّاب الذين منعوا من الكتابة في صحف أمريكا أو الحديث في الفضائيات الأمريكية بسبب معارضتهم لحروبكم الجائرة ، ولا يزال يساورنا العجب من فعلة (رتشارد بوتشي)الناطق باسم الخارجية الأمريكية ، إزاء مقال الكاتبة السعودية أميمة الجلاهمة عن فطير صهيون ، وهي حادثة تأريخية وثَّقها جمع من المعنيين ، فقد رأى فيها رتشارد تحريضاً ضد السامية ، وعلى إثره تمَّ فصل الكاتبة من الجريدة التي نشرت المقال ، ومنعت من الكتابة فيها!!.
فأين الحرية يا أدعياءها؟!.(/7)
وهذا نعوم تشومسكي، والذي ضيق عليه في الإعلام الأمريكي ،وهو وإن كان يهوديا كافراًً فإنَّ له مواقف مُشَرِّفة في الدفاع عن بعض القضايا الإسلامية وفضح النظام الأمريكي حتى أنَّه وصف هذه الدولة في آخر كتبه التي أصدرها بأنَّها(الدولة المارقة) ووضع عنوان الكتاب بهذا الوصف،ومن جميل ما وصف به هذا الكتاب ما قالته(الاندبندنت أون لاين سانداي)بأنَّ(الدولة المارقة عبارة عن مضبطة اتهامات يجب أن ترمى بحجر في وجوه مسؤولي الإدارة الأمريكية في واشنطن) بل ألَّف رجل آخر وهو (وليم بلوما) كتاباً سماه(الدولة المارقة)وذلك لما رآه من سياسات الإجرام التي تمارسها الإدارة الأمريكية.
وحينئذٍ فهل بعد هذه الجرائم المرتكبة من رؤساء هذه الدولة الطاغية ، تجعلهم في الصدارة والريادة؟! أم أنَّهم يظنون أنَّ أفعالهم تلك سترفع منزلتهم عند الله أو عند خلقه الضعفاء؟!كلا ، فإنَّه سبحانه وتعالى يقول:(ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليَّاً ولا نصيراً)النساء(123) إنَّ سنن الله جارية ماضية وهي لا تحابي أحداً ولا تجاري دولاً، ولن يبقى على ظهر هذه الأرض إلا الحق السامق، وستزول بعدها رايات الكفر والإفك والظلم ، ولقد تفرَّس الكثير من أبناء هذه الدولة بزوالها حين رأوا ما اقترفت ، وأدرك البعض الآخر مكمن الخطر فبدأ يصيح في آذان الأمريكان بعنوان :أدركوا أنفسكم قبل فوات الأوان!! ولقد قالها توماس جيفرسون في كتابه (ملاحظات عن ولاية فرجينيا عام 1784ـ1785م) بعد أن رأى ملامح الفساد ينخر في القيم الأمريكية فقال:(أرتجف خوفاً على بلادي عندما أفكِّر بأنَّ الله عادل!!) وحين فاز كلينتون وأيده الرأي العام الشعبي الأمريكي وانتخبه على الرغم من معرفته بتورطه مع مونيكا ليونيسكي في فضيحة خُلُقِيَّة ، علَّق المؤرخ الأمريكي (تيد هاير) على ذلك فقال:(إنَّ أمَّة تقبل أن يقودها شخص على هذا القدر من الانحطاط الأخلاقي لا يمكن أن تستمر في تبوء قيادة هذا العالم).
ويقول السناتور(توم هاركن) ممثل ولاية(ايوا) الأمريكية في مجلس الشيوخ:(إنَّ بوش وجماعته اليمينية يجب أن يطردوا من البيت الأبيض لأنهم يقودون أمريكا إلى الخراب في كلِّ مجال)" " وهذه العجوز وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة(مادلين أولبرايت)تقول عن بوش:(الرئيس دمَّر سمعتنا ودمَّر مصداقيتنا وهيبتنا الأخلاقية ، إنَّ العالم اليوم في فوضى).
وبناءً على ذلك فهل يظنَّ ظان بأنَّ هذه الدولة ستبقى باقية أبد الدهر كما هو الرأي الذي مشى عليه فوكوياما وغيره.
إنَّ غمامة الإجرام الأمريكية التي ظلَّلت العالم منذ قرن من الزمان وآذتهم بشتى أساليب الإيذاء ، وتعدت على دمائهم بل تغذَّت عليها، إنَّ هذه الهمجية التي تتعامل معها أمريكا مع شعوب الأرض لن تبقى ، كيف والله قد توعد الظلمة بالإهلاك ، وعدم المكوث الرئاسي على هذه الأرض. لقد بشَّر الكثير من مفكري أمريكا بسقوط هذه الدولة ، وعدم بقائها على ظهر البسيطة ، لأنها تعدت في حقوق الحق ، وفي حقوق الخلق ، ومن ذلك ما قاله توماس شيتوم وهو من قدماء المحاربين في فيتنام وصاحب كتاب الحرب الأهلية الثانية:(أمريكا ولدت في الدماء ، ورضعت الدماء ،وأتخمت دماء ، وتعملقت على الدماء ، ولسوف تغرق في الدماء!!) وصدق،فإنَّ أمريكا حين أهينت كرامتها في ضربة سبتمر ، أرادت أن تستعيد كرامتها بالنيل من دماء المسلمين وتكوين الأحلاف ترغيباً وترهيباً ليواكبوها في حملتها ضد ما يسمى بالإرهاب ، ولا أشبهها إلا بكفار قريش وطغاتهم ، حين استنقذوا القافلة التي كانت متوجهة من الشام إلى مكة وفيها من الأحمال والقوت الشيء الكثير ، ولمَّا انتدبت سرية من سرايا الإسلام لتستولي على هذه القافلة ، ولم يتمكنوا من ذلك ، لحماية كفار قريش لها ، أرادوا بعدئذٍ أن يرجعوا إلى مكة بعد حمايتهم للقافلة ، ولكن رؤساء الكفر ، ورموز الغرور في الأرض ، أرادوا أن يتغطرسوا وينتفشوا أمام كفار العرب ومن حالفهم ، فقال أبو جهل لا والله لن نذهب إلى مكة ، بل سنبقى في مكاننا هذا مدَّة ثلاثة أيام تغني لنا فيها القيان ، وتُذبحُ لنا الجزور ، حتى يتسامع العرب بأنَّ قريش قوة لن تغلب ، ودولة لن تقهر أو تكسر ، فماذا فعل لهم غرورهم ذاك؟!.(/8)
ولقد حذَّر الله تعالى عباده من مشابهة الكافرين بطراً وكبراً فقال:(ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله) الأنفال(47)وحين قامت معركة بدر حطَّم ثلَّة من سرايا الجهاد جبروت كفار قريش ، وقتلوا قادتهم ، وكان منهم أبو جهل ، بل أجهز عليه حدثان صغيران من شباب الإسلام، لينطفئ الكبر الجاهلي المزروع في قلب أبي جهل ، وليعلو عليه ، أصغر القوم سنَّا ، معاذ ومعوذ ،وأقلُّهم مالاً وجسماً ، عبدالله بن مسعود ، وليرتقي المرتقى السهل على جثَّة أبي جهل الهامدة ، وهو يغرغر ، ليعلم الطغاة أنَّ مصيرهم في الدنيا إلى سفال ، ومصيرهم في الآخرة إلى جحيم ووبال ، وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:(يحشر المتكبرون يوم القيامة مثل الذر يطئهم الناس بأقدامهم). وختاماً/ فإنَّ قيادة الأمم ، وريادة الشعوب راجعة إلى هذه الأمة الإسلامية بلا محالة بعز عزيز أو بذل ذليل عزَّا ًيعزُّ الله به الإسلام وأهله ، وذلَّا يذلُّ الله به الكفر وأهله ، فأمريكا الطاغية لن تبقى باقية ، ورسول الهدى عليه السلام علَّمنا بأنَّه(حقٌ على الله ألَّا يرتفع شيء من الدنيا إلَّا وضعه)" " ولتسقط أمريكا ،فورق التوت قد ذبل وتساقط ولم يطق العيش مع مزوِّري الحقائق ، حينها ترامى على الأرض لتنكشف عورات الرئاسة الأمريكية (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة ) يا دامي العينين والكفين إنَّ الليل زائل لا غرفة التعذيب باقية ولا زَرْدُ السلاسل وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل فأمَّة كافرة ظالمة متكبرة كاذبة مزورة للحقائق مدعية الربوبية ومفسدة في الأرض ومجرمة في حقوق الحق والخلق هل ستبقى في علو وارتفاع ، وينيلها الله ـ جلَّ وتعالى ـ الدرجات العلى يوم القيامة ؟! كلَّا فقد قال تعالى:(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين)القصص(83) .
فأبشري أمَّة الإسلام وأمِّلي الخير من ربك ، وتفاءلوا يا جند الرحمن ، واصبروا وصابروا ورابطوا ، فإنَّ سقوط دولة طاغية لا يتمُّ بين عشية وضحاها ، فالاحتضار قد يطول ، والله عزَّ وجلَّ حين بشَّر المسلمين بسقوط الفرس وهزيمتهم أمام الروم قال:(ألم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون)(الروم1ـ6)لكن لنعلم أننا إذا أردنا خلافة الأرض والتصدر لقيادة الأمم وحكمها بالإسلام ، فإنَّه تعالى قد طلب منَّا طلبين:الإيمان به حقَّ الإيمان والعمل الصالح فإن حقَّقناهما فسيعطينا مقابلها أربعة ، وتأمل قوله تعالى(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ولَيُمَكِّنَنَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)(سورة النور(55) .
فلنتفاءل ولنمضِ على طريق الإباء ، فإنَّ مما يبشرنا أنَّ الأمة الإسلامية ولله الحمد أمَّة شابة نامية ولود ، وراجعة لكتاب لربها وسنة رسولها ، ولا أدلَّ على ذلك من هذه الصحوة الإسلامية ، واليقظة العلمية الفكرية الجهادية الدعوية في أوساط شباب الأمة..وهاهو المارد الإسلامي ينتفض ويخلع عنه ثوب الانكسار،وأوهاق الكسل،بهبة إيمانية،وشبَّة عمرية،وعزمة علية.
ستشبُّ كالبركان يقظة أمة *** والفجر من خلف الدياجي مقبل
ولست والله مغرقاً في التفاؤل ، ولا متحمساً بالتعبير عن عودة الكثير من أبناء هذه الأمة لدينها القويم ، والاستمساك بحبله المتين ، فمن يقارن واقع المسلمين الآن وواقعهم ، قبل قرن أو أقل قليلاً سيجد بوناً شاسعاً، وفرقاً هائلاً، ولن أفرط في ذلك ، فإنَّ غداً لناظره قريب، والأيام حبالى والدات كل أمر جديد.
لا لن نذل فهذه راياتنا *** رغم العواصف والدجى لم تحجم
لا عزَّ إلا بالكتاب يقودنا *** أكرم بأحسن قائد ومعلم
فيا رجل الإسلام امض واقتحم...أنت لها ، فالنصر عن قريب، بسواعد الإيمان المتوضئة ، وبالقلوب النقية الطاهرة ، وبالسير على منهج سلف الأمة عقيدة وعبادة وعلماً ودعوة وعملاً وجهاداً...تنصر الأمة ، وتزقزق عصافير الترحاب، وتهدل حمائم السلام لأمة السلام ، ويعلو الخير في سماءنا الزرقاء ، وتبقى البشرية في سعادة وهناء تحت ظلِّ الخلافة الراشدة على منهاج النبوة،ولن يخيب الله الظن،ولن يرد الأمل ،فهو معنا وناصرنا،وهل يخذل الإله الحق معبوده المتمرغ له بعبادته على ظهر البسيطة؟!!(/9)
أمريكا وشيعة العراق ونظرية القرد وقطعة الجبن "
أحمد فهمي
بعد انقضاء نحو عام على الاحتلال الأميركي للعراق لا تبدو هناك رؤية واضحة أو تحليلا سياسيا شاملا يسد الخلل المعرفي الهائل الذي يكتنف هذه الأزمة ، فقد تداخلت الأطراف وتعقدت ، وأصبح من الصعب تماما تلمس خطا واضحا يمكن البناء عليه للإجابة على أسئلة مثل : من يضرب من ؟ من تتبع المقاومة ؟ من قام بالتفجير ؟ من نفذ الاغتيال ؟ من يضغط على الأميركيين داخل العراق ؟ هل لمرجعيات الشيعة تأثير ؟ أم أن الأميركيين يدَّعون ذلك لغرض ما ؟ هل يسمح الأميركيون ببروز قيادات سنية معارضة لهم على أرض يحتلونها ؟ .. أسئلة كثيرة لا حصر لها ، لا إجابة عليها ، ولعل التفجيرات الأخيرة أو بالأحرى ردود الأفعال تجاهها تكشف هذه الحيرة والتخبط ، مثلا : موقف الرمز الشيعي حسين فضل الله في لبنان ، نجده في تصريحاته يتهم ثلاثة أطراف جملة واحدة بأنهم وراء التفجيرات : الأميركيون ، "عصابات" السلفية "الإرهابية " كما يسميها ، الموساد ، وهو ما يذكرنا بالموقف الأميركي من جماعة أنصار الإسلام قبل الغزو ، حيث اتهمتها بأنها تتمول من ثلاثة أطراف لا رابط بينها : نظام صدام ، إيران ، القاعدة ..
وبغض النظر عن المأزق الأميركي بتأثير الوتيرة شبه الثابتة والكثافة العالية لعمليات المقاومة – وليس بمجرد الخسائر البشرية كما قد يظن البعض – فإننا يمكن أن نعتبر أن هذه الفوضى الماثلة أمامنا في العراق مقصودة من قبل المحتل الأميركي ومخطط لها ، بل هي سمات لازمة للاستعمار الأميركي الذي طور مفهوم الاستعمار وجعله مختلفا تماما عن مفهومه القديم ، وقد تسبب ذلك في إحداث ربكة فكرية وذهنية لدى الكثيرين الذين ارتبط مسمى الاستعمار لديهم بشروط معينة وظروف خاصة لا يزالون ينتظرونها ، بينما المستعمر الأميركي قد ألقى رواحله في بلادنا منذ زمن بعيد ..
لا نريد أن نبعد عن العراق ، والذي نريد قوله هنا أن هناك معلمين بارزين يميزان الاستعمار الأميركي الجديد عن مثيله القديم ، أولهما : ما يتعلق بقضية الإعمار ، حيث يمكن بزيارة أي بلد عربي أو إسلامي أن نرى معالم واضحة للاستعمار القديم ، تتمثل في منشآت أو شركات أو مصانع ، أنشأها لكي يتمكن من استغلال خيرات البلد المحتل ، لكن في المقابل لو زرنا أي بلد عربي أو إسلامي احتله الأميركيون فلن نجد سوى الخراب عنوانا لهم ، وأفغانستان ماثلة أمامنا تحدثنا عما ينتظر العراق ، ومن الأمور التي تبعث على السخرية أن الأميركيين لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء بناء مقرات لهم في بلد يتحدثون عن احتلاله لسنوات طويلة قادمة ، واكتفوا باحتلال القصور والفنادق والمطارات ..!
ثانيهما : الاضطراب السياسي وعدم الاستقرار هدف رئيس للمحتل الأميركي ، بخلاف المستعمر القديم الذي كان يسعى لإنعاش الحياة السياسية ، وفي مصر نعمت كثير من الأحزاب السياسية بحرية وانتخابات نزيهة قبل ثورة يوليو إبان الاحتلال البريطاني لم تجدها بعدها ..
أما الأميركيون فيخربون البلد ، ويهدمون أساس الإنسان قبل كيان الدولة ، فقد نفَّذوا حصارا لا مثيل له على العراق لم يُبق لشعبه من معالم الحضارة إلا النذر اليسير ، وقبل ذلك كانوا يتعمدون قصف السدود ومحطات توليد الكهرباء ومحطات تنقية المياه ، والشئ الوحيد الذي لم يقصفوه في حربهم الأخيرة آبار البترول ، وعلى الصعيد السياسي فككوا عرى دولة طائفية عرقية بصورة تجعل من المستحيل في السنوات المقبلة – والله أعلم – أن تلتئم مرة أخرى ، وربما يكون قد انتهى تماما ما كان يُسمى يوما بالعراق ، وكان النظام السياسي الجديد الذي ابتكره الأميركيون هو دولة : اللادولة ، والتي نفذوها بنجاح في أفغانستان التي يتنازع إدارتها الآن عشرات بل مئات الأشخاص ..
دولة اللادولة هذه بدأت إدارة بوش في تأسيسها في العراق قبل الغزو بفترة ، ولها سمات من أهمها :
1- السلطة في العراق مفتتة – وليست مجزأة - إلى حد كبير ، لا أحد يعلم من يملك ومن يحكم ، لا توجد رؤوس محددة بل متعددة ، ومرجعيات عديدة ، والرموز السياسية أكثر من أن تُحصر ، وبعد سنوات طويلة من التنسيق الأميركي مع أعضاء المجلس الانتقالي الذين كانوا يشكلون المعارضة العراقية ، يوجه بريمر اللوم إليهم قائلا : أين قواعدكم الشعبية التي كنتم تحدوثنا عنها ، لماذا لم يظهر تأثيرها حتى الآن ؟ .. يعني هم يتعاملون رسميا مع قادة سياسيين لا شعبية لهم ، بينما يسمحون لآخرين يملكون الشعبية أن يمارسوا تأثيرهم خارج المجلس .. والذي يفتت السلطة هكذا في بلد يحتله ، لا يمكن أبدا الزعم بأنه يريد يوما أن تستقر في يد فئة واحدة أو حزب واحد أو حتى أحزاب متعددة ..(/1)
2- يمكن أن نفسر الأداء الأميركي في العراق بنظرية " القرد وقطعة الجبن " وهي قصة رمزية معروفة ، وهي تعني البدء بميزان مائل بين طرفين أو عدة أطراف ، هذا الميل يحتاج إلى تعديل مستمر يكون مائلا بدوره ، وهذه وضعية جدلية تستوعب الطاقة وتقدم الغطاء الزمني المطلوب ، والميل الأول هنا كان ضد أهل السنة في العراق ، ولو كان الميزان معتدلا منذ البداية لانتهت أزمات كثيرة قبل أن تبدأ ، ولكن الميل الذي حدث تسبب في تنشيط المقاومة ، ومطالبات سياسية وتظلمات وتظاهرات واحتكاكات مع الشيعة ..
ويمكن ملاحظة بعض المؤشرات التي تؤيد ذلك ، فقد صدر من الأميركيين مؤخرا ما يوحي بتغير طفيف في موقفهم من السنة ، وسعيهم لتحقيق مستوى إرضاء أعلى لهم في مقابل حصار المقاومة وتقليل فعاليتها ، وهذا أول تعديل في الميزان المائل ..
والمشكلة هنا تكمن في أن غالبية الشيعة يغفلون عن حقيقة أن الأميركيين يلعبون بهم ، فقد كانت المعارضة الشيعية تمثل ورقة رابحة بيد الأميركيين في عهد صدام ، كان لهم قياداتهم البارزة ، وقواعدهم الشعبية المتلهفة للخلاص ، كما أن مرجعياتهم الدينية لديها القدرة على الحشد الجماهيري الغوغائي ، وهو أمر مطلوب لتحقيق الغطاء الشعبي للاحتلال وإعطاءه صفة التحرير ..
وهذا كله لا يقدمه السنة ولا يملكونه أصلا ، ولما اتخذ قرار الغزو ، كان الشيعة هم المدخل الرئيس للأميركيين إلى العراق ، ولكن بعد الاحتلال بدأت أوراق الشيعة تتقلص نسبيا خاصة مع تزايد مطالبهم وسعيهم لقبض الثمن ، وصدرت من الأميركيين مؤشرات تُبرز تقلص النفوذ الشيعي نسبيا ، فكان اغتيال باقر الحكيم ، ومرت الحادثة دون أي رد فعل أو محاولة واضحة لكشف غموض الحادث ، وكأن الجميع تراضوا على أمر واقع لا نعلمه ، وكما يُتوقع أن تمر تفجيرات كربلاء والكاظمية بنفس السيناريو ويقيد الحادث ضد مجهول ، وأيضا تراجع المجلس الانتقالي عن إقرار قانون 137 المثير للجدل . ثم تراجع السيستاني في مطلب تعجيل الانتخابات تحت غطاء التفاوض مع الإبراهيمي ..
والقاعدة التي غابت عن الشيعة وهم يتعاملون مع إدارة بوش هي : " لا تدخل أبدا في بطن الأميركيين وإلا تحولت إلى فضلات ينبذونها سريعا ، حاول إن استطعت أن تبقى بين أيديهم برَّاقا ، أو ابتعد عنهم طريدا يكون أفضل " ، ولكن يبدو أن شيعة العراق يفضلون البطن أو الباطنية دوما ..
والغريب أن تجربة الشيعة الأولى مع الأميركيين هي التي علمتنا هذه القاعدة ، فبعد هزيمة صدام وانسحابه من الكويت ، شجع الأميركيون من طرف خفي كلا من الأكراد والشيعة على التمرد على صدام ، ثم تركوا الجميع في الساحة منفردين ليُنكل بهم ، ثم تباكوا عليهم بعدها وسارعوا إلى فرض منطقة حظر الطيران ، والآن الشيعة هم المدخل - أو الباب - للأميركيين ، ولن يقف المحتل لدى الباب كثيرا إذ سرعان ما يتجاوزه ويلفظه ، أو يدخره لمرحلة أخرى قادمة ، ولا نعتقد أنها بعيدة ، إذ أن الدور الذي يقدمه الأكراد للأميركيين في الضغط على تركيا ، يمكن أن يقدمه الشيعة لكن بطريقة مغايرة للضغط على إيران ، ويمكن تلخيص ذلك في تساؤل مهم : هل يمكن أن يرضى شيعة إيران ومرجعيات قم بنشأة دولة شيعية جديدة في جنوب العراق ، أم سيعتبرون ذلك خطوة عكس الاتجاه ، خاصة مع التنافس بين قم الفارسية والنجف العربية في تبوأ المكانة الأولى في عالم المرجعيات المعقد ؟ .. هذه أمور شائكة نسعى للإجابة عليها في مرة قادمة بإذن الله تعالى ...(/2)
أمسك عليك لسانك
17/7/1426
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى.
أما بعد:
فمع مشهد آخر من مشاهد سورة يوسف، ونقف اليوم مع بنيامين _عليه السلام_ لما وُجد الصُّواع في رحله، لم يقل والله ما سرقت، ولم يتحدث.
وهذه مسألة في غاية الأهمية نأخذ منها:
أولاً: أن بنيامين كان عنده خلفية عن الموضوع؛ قد أخبره أخوه وبيَّن له أن لا يفشي سراً.
ثانياً: إذا اتُهم إنسان معروف بحسن السيرة والسلوك وما أُخِذ عليه شيء لا في ظاهره ولا في باطنه، فإياك أن تتعجَّل في الحكم عليه، حتى لو قامت الظواهر. لست ملزماً بذلك. القاضي من حقه أن يحكم بالظاهر، لكن بالنسبة لك أنت يا من أعفاك الله من القضاء لماذا تحمل نفسك ما لا تطيق.
ولست مطالباً بأن تكذب الأمر ما دام قد صدر فيه حكم، لا تكذِّبه؛ لأن الذي حكم أمامه أدلة وهو مسؤول عن حكمه أما ربه، وليس من مصلحتك أن تشيع هذا الأمر وأن تصدر أنت حكماً لم تبدو لك بيناته، فقد يكون الأمر خلاف ذلك، فقد يكون المتهم قد وُرِّط، أو أُوقِع به.
فقد يقبض على إنسان وتضبط معه قطعة من المخدرات في سيارته، ويُحكَم عليه لأنها وُجِدت معه، لكن قد يكون هذا الإنسان بريئاً وُضِعت المخدرات في سيارته من أجل توريطه من أطراف أخرى.
والشاهد عليك ألا تستعجل الحكم على الأشخاص وأن تبقي على الأصل فيهم طالما أن أدلة الاتهام لم تظهر لك، مع أن الأدلة قد تظهر لغيرك فيصدر حكماً قد يكون صواباً وقد يكون خطئاً معذور في حكمه به، ولكن ليس لك عذر إذا قلدت إنساناً في إصدار حكم هو منه براء من غير أن تكون لك عليه بينة.
ثالثاً: كان سكوت بنيامين _عليه السلام_ من قبيل مراعاة المصلحة. فقد يسكت الإنسان لمصلحة يراها، وليس بالضرورة أن من سكت فهو متهم. قد يتهمه بعض الناس بحجة أنه لم يدافع عن نفسه. القاضي هو الذي يحكم بالنكول أو غير النكول، لكن أنت لا تقل اتُهِم وسكت؛ لأنه قد يكون راعى في سكوته مصالح ومفاسد لا تعلمها أنت، فقد يكون علم أن كلامه قد يضره، وأمامنا مثال حي واقعي وهي قصة بنيامين _عليه السلام_.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يكف لسانه إلا من خير، وأن يجعلنا ممن يسخر نعمة اللسان والبيان فيما يحب ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
أمنيات الموتى
التاريخ : 12/06/2006
الكاتب : د. محمد بن إبراهيم النعيم ... الزوار : 1775
< tr>
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد،
فإن لكل إنسان في هذه الحياة أمان كثيرة ومتعددة، وتتفاوت هذه الأماني وتتباين وفقا لاعتبارات عديدة، منها: البيئة التي يعيش فيها الفرد، والفكر الذي تربى عليه، والأقران الذين يحيطون به.
فلو سألت إنسانا ما أمنيتك في هذه الحياة ؟ فإن كان من وسط فقير، وعاين الفقر وأحس بألمه واكتوى به، تمنى أن يعيش غنيا، وأن يملك العقارات والسيارات؛ ليعيش منعما كما يتنعم غالب الناس.
ولو قابلت مريضا طرحه المرض على الفراش، فشل حركته، وقيد حريته، ومنعه حتى من لذة الطعام والمنام، وسألته عن أمنيته؟ لرأيته يتمنى أن يعافى من مرضه، ولو أن يفتدي بماله كله.
ولو سألت بعض الأغنياء عن أمنياتهم، لرأيتهم يتمنون مزيدا من الغنى، ليكونوا أغنى من فلان وعلان، وهكذا فالمقل لا يقنع، والمكثر لا يشبع، وأماني الدنيا لا تنتهي.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال فيما رواه عنه أنس رضي الله عنه: ( لو أن لابن آدم واديا من ذهب، أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) ( )، أي لا يزال ابن آدم حريصاً على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره.
ومع هذه الأماني المتباينة لهؤلاء الناس، فإن الجميع تراهم يسعون ويكدحون طوال حياتهم، لتحويل أحلامهم وأمنياتهم إلى واقع، وقد يوفقهم الله تعالى إلى تحقيقها متى بذلوا أسباب ذلك.
ولكن هناك فئة من الناس لا يمكنهم تحقيق أمنياتهم، ولا يُنظر في طلباتهم، فمن هم يا ترى؟ ولماذا لا تُحقق أمنياتهم؟ وهل يمكننا مساعدتهم أو تخفيف لوعاتهم؟
أما عن هذه الفئة التي لا يمكنهم تحقيق أمنياتهم، فهم ممن أصبحوا رهائن ذنوب لا يطلقون، وغرباء سفر لا ينتظرون، إنهم الأموات ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فماذا يتمنى الأموات يا ترى؟ ومن يا ترى يستطيع أن يُحدِّثنا عن أمنياتهم، وقد انقطع عنا خبرهم، واندرس ذكرهم؟
فلنتحدث قليلا عن هذه الفئة المنسية، لنعرف أمنيات أناس أصبح بصرهم حديدا، فعاينوا الجنة والنار، ورأوا ملائكة الله، وأصبح الغيب لديهم شهادة، وعرفوا حقيقة الدنيا والآخرة، وأيقنوا وهم في برزخهم؛ أنهم سيبعثون ليوم عظيم، فهل يتمنون العودة إلى هذه الدنيا ليتمتعوا بالحياة ويحسوا بلذتها وطعمها؟ أو ليملكوا مزيدا من العقارات ويجوبوا الأرض سياحة ولهوا ؟
إن أمنية الكثير من الناس في هذه الحياة لا تزيد على وظيفةٍ مرموقة، وزوجة جميلة، ومركبٍ هنيءٍ، وبيتٍ واسعٍ، وأملاكٍ وعقاراتٍ، وتمشياتٍ وسهراتٍ، وحضور ولائم وحفلات.
أما الأموات، فماذا يريدون من دنيا رحلوا عنها، وانخدعوا بها، وعرفوا حقيقتها، وخلفوها وراء ظهورهم بلا رجعة؟
فلنقرأ ما ذكره لنا كتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن أمنيات الموتى الصالحين منهم والطالحين.
[أولا]: أمنيات الصالحين
إن المؤمن إذا مات وحمل على الأعناق، نادى أن يقدموه ويسرعوا به إلى القبر ليلقى النعيم المقيم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق) ( )
وإذا أدخل قبره وبشر بالجنة، ورأى منزلته فيها، فإنه لا يتمنى أن يعود إلى الدنيا، بل يتمنى أن تقوم الساعة، ليدخل في ذلك النعيم المقيم الذي ينتظره، لقد ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العبد المؤمن إذا أجاب عن أسئلة الملكين وهو في قبره، (....نادى مناد من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي....) ( ).
هذه أمنية الرجل الصالح وهو في قبره؛ أن تقوم الساعة، وأما الكافر أو المنافق فعلى الرغم من شدة العذاب الذي يلاقيه في قبره، فإنه يدعو: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة، لأنه يعلم أن ما بعد القبر هو أشد وأفظع.
كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن إذا بشر في قبره بالجنة، يتمنى أن يعود إلى أهله ليبشرهم بنجاته من النار وفوزه بالجنة، إذ روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأى المؤمن ما فسح له في قبره، فيقول: دعوني أبشر أهلي) - وفي رواية -(فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن) ( ).(/1)
ولقد قص الله عز وجل علينا قصة صاحب (يس) الذي كان حريصا على هداية قومه، إلا أنهم قتلوه وهو يدعوهم إلى الإيمان بالله ورسله، فلما عاين كرامة الله عز وجل له وفوزه بالجنة، تمنى أن يعلم قومه بذلك كي يؤمنوا ، فقال تعالى في شأنه : {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26-27]، أي تمنى أن قومه الذين حاربوا دين الله، ورفضوا الاستجابة لأوامر الله؛ أن يعلموا ماذا أعطاه الله من نعيم وثواب جزيل.
وأما الشهيد، فبالرغم من عظم منزلته الرفيعة التي يراها أُعدت له في أعلى درجات الجنة، فإنه يتمنى أن يعود إلى الدنيا، ولكن ليستمر في جهاد أعداء الله، فيقاتل ويُقتل ولو عشر مرات، لما يرى من ثواب الجهاد وكرامة المجاهدين عند الله عز وجل، اسمع ما نقله لنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن أمنية كل من مات شهيدا في سبيل الله عز وجل.
روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد؛ يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة) ( ).
وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء، غير الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع فيُقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة).
وروى جابر رضي الله عنه قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: (يا جابر ما لي أراك منكسرا)؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وترك عيالا وَدَيْنًا، قال: (أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك)؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: (ما كَلَّمَ الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا فقال: يا عبدي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون) قال: وأنزلت هذه الآية : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً } ( ).
[ثانيا]: أمنيات الطالحين
إن المقصر في جنب الله تمر عليه ساعات أيامه وهو في لهو وغفلة، يُسوِّف التوبة ويأمل في مزيد من العمر، وما علم أن الموت يأتي بغتة، وإذا جاء لا يدع صاحبه يستدرك ما فاته، فيبقى في قبره مرتهنا بعمله، متحسرا على ما فاته، ومتمنيا على الله أمانيَّ لا تغنيه شيئا، فماذا عسى أن يتمنى المقصر إذا أصبح في عداد الموتى ولا حول ولا قوة إلا بالله؟
[1] الصلاة ولو ركعتين
يتمنى الميت المقصر لو تعاد له الحياة، ليصلي ولو ركعتين اثنتين فقط، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرٍ فقال: (من صاحب هذا القبر؟) فقالوا: فلان، فقال: (ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم) ( )، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون، يزيدها هذا في عمله، أحب إليه من بقية دنياكم) ( ).
فغاية أمنية الميت المقصر؛ أن يُمدَّ له في أجله، ليركع ركعتين يزيد فيها من حسناته، وليتدارك ما فات من أيام عمره في غير طاعة، ألم تسمع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لنا معشر الأحياء: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليكثر) ( )؟
لقد عاين ذلك الميت وهو في قبره ثواب الصلاة، ورأى بأم عينه فائدة الصلاة، فتأسف أشد الأسف على أيام أمضاها في غير طاعة، على ساعات مضت في لهو وغفلة، لم يجنِ منها الآن سوى الحسرة والندامة، وها نحن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل لنا أمنية ذلك الميت وهو في قبره، يتمنى أن يصلي، يتمنى أن يعود إلى الدنيا لدقائق معدودة، ليركع ركعتين فقط لا غير، لا يريد من الدنيا إلا ركعتين، يا سبحان الله، لأنهما الآن أصبحتا عنده تعدل الدنيا بما فيها، وماذا عسى أن تساوي الدنيا عنده، وقد خلفها وراء ظهره وارتهن بعمله ؟
اغتنم في الفراغ فضل ركوع *** فعسى أن يكونَ موتك بغتة
كم صحيح رأيتَ من غير سُقم *** ذهبتْ نفسه الصحيحة فلتة
فغاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة، بل دقيقة، يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، أما نحن أهل الدنيا فمفرطون في أوقاتنا؛ بل في حياتنا، نبحث عما يقتل أوقاتنا، لتذهب أعمارنا سدى في غير طاعة، ومنا من يقطعها بالمعاصي، ولا ندري ماذا تخبئ لنا قبورنا من نعيم أو مآس، نسمع المنادي ينادي إلى الصلاة، ولكن لا حياة لمن تنادي0
[2] الصدقة(/2)
يتمنى الموتى الرجوع إلى الدنيا ولو لدقائق معدودة، ليقدموا صدقة لله عز وجل، ولقد نقل الله لنا أمنيتهم هذه في قوله تعالى: { َأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المنافقون: 10-11].
لقد اقتنعوا - ولكن بعد فوات الأوان - أن الصدقة من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وأنها تطفئ غضب الرب جل وعلا، وأن العبد سيُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، فتمنوا الرجعة ليقدموا صدقتهم بعد أن منعوها الفقير، وصرفوها على شهواتهم وسياحتهم، : { فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ }.
تمنى الرجعة لأنه عرف أن الصدقة تباهي سائر الأعمال وتفضلهم، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ذُكر لي أن الأعمال تباهى فتقول الصدقة: أنا أفضلكم ( ).
تمنى الرجوع إلى الدنيا فقط ليتصدق، لعله علم عِظَم ثوابها، أو عظم عقاب المفرط فيها، إنها أمنية مليئة بالحسرة والأسف، ولكنها جاءت متأخرة.
[3] العمل الصالح
أما الأمنية الثالثة التي يتمناها هؤلاء الموتى؛ فهي العودة إلى الدنيا ولو للحظات معدودة، ليكونوا صالحين، ليعملوا أي عمل صالح، ليصلحوا ما أفسدوا، ويطيعوا الله عز وجل في كل ما عصوا، ليذكروا الله تعالى ولو مرة، يتمنون النطق ولو بتسبيحة واحدة، ولو بتهليلة واحدة، فلا يؤذن لهم، ولا تُحقق أمنياتهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، قال الله عز وجل في شأنهم : {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99-100].
هذا هو حال المقصر مع الله تعالى إذا وافته المنية، يقول : { رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ }، ويقول : { َوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }.
إن الميت العاصي إذا هجمت عليه منيته، وأحاطت به خطيئته، وانكشف له الغطاء، صاح: وامنيتاه، واسوء منقلباه، رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، هذه هي أمنيته الوحيدة.
فالموتى قد انتهت فرصتهم في الحياة، وعاينوا الآخرة، وعرفوا ما لهم وما عليهم، أدركوا أنهم كانوا يضيعون أوقاتهم فيما لم يكن ينفعهم في آخرتهم، أن الوقت الذي ضاع من بين أيديهم كان لا يقدر بثمن، أنهم كانوا في نعمة؛ ولكنهم لم يستغلوها، وأصبحوا يتمنون عمل حسنة واحدة لعلها تثقل ميزانهم وتخفف لوعتهم وترضي ربهم، فلا يستطيعون، أي حسرة هذه، وأي ندامة يعيشونها؟
إن أكثر ما يكون الإنسان غفلة عن نعم الله عليه؛ حينما يكون مغمورا بتلك النعم، ولا يعرف فضلها إلا بعد زوالها، فنحن معشر الأحياء في أكبر نعمة؛ طالما أن أرواحنا في أجسادنا لنستكثر من ذكر الله عز وجل وطاعته.
ألا تعلم أيها القارئ بأن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أمرنا عند الاستيقاظ من النوم، أن نحمد الله تعالى؛ لأنه أحيانا بعد أن أماتنا وأذن لنا بذكره؟ لأن النوم تَوَقف عن الحياة وعن ذكر الله عز وجل.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي رَدَّ عليَّ روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره)( ).
فنحن نملك الآن نعمة الحياة، لنزيد من حسناتنا، ونكفر عن سيئاتنا، فإذا متنا ندمنا على كل دقيقة ضاعت ليست فيها ذكر لله، وليست في طاعة الله، فلنغتنم ساعات العمر ودقائقه قبل أن نندم، فنتمنى ما يتمناه بعض الموتى الآن.
قال إبراهيم بن يزيد العبدي رحمه الله تعالى: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق انطلق بنا إلى أهل الآخرة نُحدثُ بقربهم عهدا، فانطلقت معه فأتى المقابر، فجلسنا إلى بعض تلك القبور، فقال: يا أبا إسحاق ما ترى هذا متمنيا لو مُنِّ ؟ (أي لو قيل له تمنى) قلت: أن يُردَّ - والله - إلى الدنيا، فيستمتعْ من طاعة الله وُيصلح، قال: ها نحن في الدنيا، فلنطع الله ولنصلح، ثم نهض فجدَّ واجتهد، فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات رحمه الله تعالى ( ).
فإذا زرت المقبرة، قف أمام قبر مفتوح، وتأمل هذا اللحد الضيق، وتخيل أنك بداخله، وقد أغلق عليك الباب، وانهال عليك التراب، وفارقك الأهل والأولاد، وقد أحاطك القبر بظلمته ووحشته، فلا ترى إلا عملك، فماذا تتمنى يا ترى في هذه اللحظة الحرجة؟
ألا تتمنى الرجوع إلى الدنيا لتعمل صالحا؟ لتركع ركعة؟ لتسبح تسبيحة؟ لتذكر الله تعالى ولو مرة؟ ها أنت ذا على ظهر الأرض حيا معافى، فاعمل صالحا قبل أن تعضَّ على أصابع الندم، وتصبح في عداد الموتى، تتمنى ولا مجيب لك.(/3)
فإذا وسدت في قبرك فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، إلا إذا قدمت عملا صالحا يجري ثوابه بعد مماتك، فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة.
قال إبراهيم التيمي: مثَّلتُ نفسي في النار، آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحا، قال: فقلت: أنتِ في الأمنية فاعملي ( ).
فيا عبد الله نحن في دار العمل، والآخرة دار الجزاء، فمن لم يعمل هنا ندم هناك، وكل يوم تعيشه هو غنيمة، فإياك والتهاون فيه، فإن غاية أمنية الموتى في قبورهم؛ حياة ساعة، يستدركون فيها ما فاتهم من عمل صالح، ولا سبيل لهم إلى ذلك البتة، لانتهاء فرصتهم في الحياة .
فيا أُخيَ: إذا زرت المقبرة، أو شيعت جنازة، لا تكن عندها من الغافلين، ولا تكثر الحديث مع أحد، وإنما تذكر أمنيات هؤلاء الأموات الذين من حولك، المرتهنين بأعمالهم، واغتنم فرصتك في الحياة، لتذكر الله كثيرا، لئلا تكون غدا مع الموتى، فتصبح تتمنى كما بعضهم يتمنى.
إذا هممت بمعصية تذكر أماني الموتى، تذكر أنهم يتمنون لو عاشوا ليطيعوا الله، فكيف أنت تعصي الله؟
إذا رأيت نفسك فارغا فتذكر أمنية الموتى ....
إذا فترت عن طاعة الله فاذكر أمنية الموتى ....
حفر الربيع بن خيثم رحمه الله تعالى قبرا داخل بيته، فكان إذا مالت نفسه للدنيا وقسا قلبه نزل في قبره، وإذا ما رأى ظلمة القبر ووحشته صاح : { رَبِّ ارْجِعُونِ }، فيسمعه أهله فيفتحون له، وفي ليلة نزل قبره وتغطى بغطائه، فلما استوحش داخله نادى : { رَبِّ ارْجِعُونِ } فلم يسمع له أحد، وبعد زمن طويل سمعته زوجته، فأسرعت إليه وأخرجته، فقال عند خروجه: اعمل يا ربيع قبل أن تقول : { رَبِّ ارْجِعُونِ } فلا يجيبك أحد ( ).
إن العبد ليفرح حينما تأتيه الحسنات تلو الحسنات، وهو في قبره، من قريب أو صديق، أو من ثواب علم خلفه، أو صدقة أقامها، ولقد بشر المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن هناك صنفا من الناس تجري عليهم أجورهم بعد موتهم، حيث روى أبو أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت: من مات مرابطا في سبيل الله، ومن علم علما أُجريَ له عمله ما عُمِلَ به، ومن تصدق بصدقة فأجرها يجري له ما وُجِدَتْ، ورجل ترك ولدا صالحا فهو يدعو له) ( )، فهؤلاء ماتوا ولكن لم تمت حسناتهم من بعدهم فهنيئا لهم على ما قدموا.
أما من مات ولم تمت ذنوبه معه، فهو يتمنى العودة إلى الدنيا، ليتخلص من هذه الذنوب، يريد أن يتخلص مما اقترفته يداه، كمثل بعض الممثلين والمغنين، الذين سجلوا أعمالهم الفنية في الوسائل الإعلامية، ولم يتوبوا منها، وهي لا تزال تعرض للناس لتصدهم عن سبيل الله، فهم يتمنون العودة إلى الدنيا، ليتخلصوا مما فعلوا، ليوقفوا هدير هذه السيئات التي تأتي إليهم تباعا، يريدون أن يعملوا صالحا فيما تركوا، وماذا تركوا من بعدهم؟ أليس أفلاما وغناءً وأعمالا تفسد أخلاق الناس؟ وتصد عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فهم الآن يجنون وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (.... وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا) ( )؟
فالسعيد من إذا مات ماتت ذنوبه معه، ومسكين ثم مسكين مَنْ إذا مات لم تمت ذنوبه معه، لأنه سيتمنى العودة إلى الدنيا ليتخلص مما اقترفت يداه، ولكن هيهات هيهات، قال تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } إنه مشهد إعلان التوبة، ولكن بعد فوات الأوان، أبعد مواجهة الموت، تتمنى الرجوع إلى الدنيا لتصلح ما تركت وما خلفت؟ ولهذا جاء الرد على هذا الرجاء المتأخر : { كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا }، لأنه رجاء قيل في لحظة الضيق، ليس له من القلب من رصيد.
فيا عبد الله اجعل عبارة (أمنيات الموتى) على لسانك، ودائما في مخيلتك، فإنها خير معين لك على فعل الخير، والاستكثار منه، والتسابق إليه، وعلى الترحم على أموات المسلمين.
فاتق الله يا عبد الله، واصرف ما بقي من عمرك في طاعة الله، واعلم أن كل ميت قصر في جنب الله، قد عضَّ على أصابع الندم، وأصبح يتمنى لو تعود له الحياة ليطيع الله، ليرد حق إنسان، إن تسبيحة واحدة عندهم خير من الدنيا وما فيها، لقد أدركوا يقينا أنه لا ينفعهم إلا طاعة الله عز وجل.
إن الذي يضيع وقته أمام وسائل اللهو، لو يعلم ماذا يتمنى الموتى لما ضيع دقيقة واحدة، لو علمت ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، فاحذر زلل قدمك، وخف طول ندمك، واغتنم وجودك قبل عدمك.(/4)
إنها قد تكون لحظات، فما ترى نفسك إلا في عداد الأموات، فانهل رحمك الله من الحسنات قبل الممات، وبادر إلى التوبة ما دمت في مرحلة الإمهال، قبل حلول ساعة لا تستطيع فيها التوبة إلى ربك، قبل أن يأتيك الموت بغتة فيحال بينك وبين العمل فتقول متحسرا : { يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي }.
اعلم أن الدقيقة التي تمر من حياتك؛ يتمنى مثلها ملايين الموتى؛ ليستثمروها في طاعة الله، ليحدثوا لله فيها توبة، ليذكروا الله فيها ولو مرة، ولكن لا تحقق أمانيهم، فلا تصرف دقائق عمرك في غير طاعة، لئلا تتحسر في يوم لا ينفع فيه الندم.
قال تعالى : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ{56} أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ{57} أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ{58} بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ{59} وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ{60} وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [الزمر: 56-61].
أما كيف نخفف من لوعات الموتى؟ فبالدعاء والاستغفار لهم، والصدقة عنهم، فتلك أفضل هدية يتمنون وصولها منا، فهل تبادر إلى ذلك؟
فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل لترفع درجته في الجنة، فيقول: أنىَّ لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك) ( ).
فأخلص الدعاء لهؤلاء الأموات وبالأخص الوالدين، فلعل الله أن يقيض لك من يخلص لك الدعاء بعد مماتك.
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أن يوفقنا للاستعداد ليوم الرحيل، ولا يجعلنا في قبورنا من النادمين.
أمنيات الموتى
د. محمد بن إبراهيم النعيم(/5)
أمهلهم رويدا
خالد بن فهد البهلال 6/3/1425
25/04/2004
إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، وإن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقكم أيها الأبطال لمحزونون.
و إنا لنشعر بهول المصاب وحسرة الفراق للطود الأشم والبطل الشهم الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي اغتيل يوم السبت 27/2/1425هـ، وقبله بست وعشرين يوماً قضى شيخه العلم والرمز المهم الشيخ أحمد ياسين رحمهما الله على يد الغدر اليهودية الآثمة، السلاح أمريكي الصنع، والسفاك يهودي الانتماء والصبغة، باستخفاف قاهر وتحدٍ سافر لأمة السلام التي تغط في سبات عميق.
ومن قبل الشيخين قضى ثلة آخرون، وفي الانتظار قائمة طويلة من الأخيار الذين باعوا أنفسهم لله"فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر".
عليكم سلام الله وقفاً فإنني ... ...
أرى الموت وقّاعاً بكل شريف
فلك الحمد ياربنا على السراء والضراء، والشدة والرخاء.
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبد الألم
لك الحمد إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
ولئن ابتهج يهود لجريمتهم القذرة فإنا نعلم علم اليقين أن سيدفعون الثمن المر من دمائهم وأموالهم واطمئنانهم وبقائهم، بإذن الله الأجلِّ، وأمتنا ولله الحمد ولود معطاء، وبسخاء، وديننا وجهادنا ليس معلقاً بأشخاص يدور معهم حيث داروا، فديننا يصنع الرجال والأبطال، ويحيي الهمم الميتة، ويبعث الحياة في النفوس اليائسة.
كما نعلم أن الابتلاء هو ضريبة التمكين، والعسل لايجتنى من دون ثمن، والله قد وعد عباده بالنصر والتمكين إن علم منهم الصدق في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ"[الحج:41].
إن هذه الجرائم البشعة التي ترتكبها يهود لن تذهب سدىً، ولن يترنا الله فيها حقنا، فهي مما يستمطر غضب الرب وأسفه، ويستعجل عقوبته "فَلَمَّا آسفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ "[الزخرف:55]، وسيكون الانتقام الإلهي ـ بإذن الله ـ على يد الذين عانوا من بغي وجور يهود.
لقد كان أثر المقاومة الأبية والجهاد في أرض الرباط بالغاً، وضارباً في عمق الصف اليهودي المتشرذم، يكشف ذلك لنا وبجلاء ما نراه من تناقص ظاهر في أعداد المهاجرين، بل وردة عن أرض الميعاد ـ زعموا ـ، وما يعانيه الاقتصاد اليهودي من عجز وتدهور مع فقدان الأمن والطمأنينة، وانتشار الأمراض النفسية، وحالات القنوط واليأس والرعب، فلا بشائر تلوح تبشر بالسمن والعسل، ولكن مناظر دماء وأشلاء تتناثر ذات اليمين وذات الشمال، ووعود كاذبة، وأحلام غدت أوهاما.
وأما هذه البربرية الوحشية والهمجية الدموية في القتل والهدم، والنسف والقصف؛ فلأنهم قد انقطعت بهم السبل وضاقت بهم الحيل، وسيرتد ذلك سلباً على أمنهم واقتصادهم وطمأنينتهم مضاعفاً ـ بإذن الله ـ.
إن ما ارتكبته أيدي يهود قد آلمنا وأثار حفائظنا، وأغاظ قلوبنا، لكننا نعلم أن ما أصابنا هو من عند أنفسنا، وأنه نتيجة مؤلمة لمقدمات خاطئة من التفريط والغفلة، والأثرة والتخاذل، والتنازع والانشقاق، على كل المحاور والأصعدة والمستويات مما تسبب بتسلط أعداءنا وهواننا على الناس، وعلى أنفسنا.
أيتها النفس أجملي جزعا ... ...
إن الذي تحذرين قد وقعا
لكن هذه النكبات الموجعة، والمصائب المروعة التي تعتورنا، وتنزل في ساحنا لا يجوز أن تمر علينا مر الكرام، ولا أن يذهلنا الحزن على أنفسنا عن العمل لها، بل ينبغي أن تكون هذه المرارات حافزاً لنا، ودافعاً قوياً إلى أن نصحح أوضاعنا ونصفي قلوبنا، ونوثّق بربّنا علاقاتنا، ونصلح دنيانا، ونسلك الجدد، ونتقي العثار، وأن نكلف من العمل لديننا ودنيانا ما نطيق، ونبذل الجهد والوسع، ونخلع الراحات، فإنما يبلغ الراحات من تعبا.
وما العيشُ؟ لاعشتُ إن لم أكن ... ...
مخوف الجناب حرام الحمى
إذا قلتُ أصغى لي العالمون ... ...
ودوّى مقالي بين الورى
إن هذه الأحداث وإن أسكت مسامعنا، وأحزنت قلوبنا، وأقضّت مضاجعنا إلا أنه ومن خلال النظر إلى الزاوية الأخرى المقابلة يتجلى للمتأمل إلى درجة التألق مظاهر مفرحة، ومشاهد مبهجة، تضخ الأمل في النفوس المحبطة، وتعيد الثقة والطمأنينة إلى القلوب المشفقة، وذلك من خلال وجود كوادر على مستوى الحدث، تجيد التخطيط والمناورة والتسديد في الهدف، مع صبر واحتساب وطول نفس، وتعلق بالله وثيق جعل الإسلام رقماً صعباً في القضية الفلسطينية التي طالما أنهكتها الشعارات الجوفاء وأضرت بها الرايات الخرقاء.(/1)
فنحمد الله كثيراً كثيراً على بشائر النصر التي تشرق في الأفق من مظاهر الصلاح والتدين، والتكافل والإيثار، والتضحية والفداء، التي تتجلى في أحوال أهلنا في أرض الرباط، ومن اجتماع للكلمة، ونبذ للخلاف، وترتيب للأولويات، وتحديد للهدف (العدو المشترك)، ومن تعاطف من الشعوب الإسلامية للقضية الفلسطينية يبهج النفوس المؤمنة، ويكشف صورة اليهودي الوقح ـ الذي يستغل الإعلام للتضليل والتزييف والخداع ـ عند كثير من شعوب العالم، والله بالمرصاد.
إن مما يتوجب علينا ـ في هذه الأيام العصيبة ـ لأهلنا في أرض الرباط فلسطين أن نشعر بمصابهم، ونتألم لآلامهم، ونأسو جراحهم، ونفرح لفرحهم، ونستبشر بانتصاراتهم، ونربي أبناءنا على حبهم ومناصرتهم، ونتحدث في كل فرصة وفي كل محفل عن قضيتهم، وندافع عنهم، ونبذل لهم المال والجاه والدعاء بصدق وإلحاح، وأن نشعرهم بقربنا منهم، ووقوفنا إلى جانبهم، وتقديرنا لبذلهم وصبرهم ومعاناتهم، وأنهم منا ونحن منهم، فانتماؤنا وهمنا وقضيتنا مشتركة.
"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"[النور:55].(/2)
أمواج الردة وصخرة الإيمان
هناك ظاهرة، تتكرر كل حين، في شكل موجات عاتية من الهجوم على ثوابت هذه الأمة وعقائدها ومناهجها، وهي موجات وهجمات تتحد في غاياتها، وإن كانت تختلف في أساليبها وفي أدواتها ورموزها... وهذا الملف، يعالج أخطر وأسوأ مظاهر هذا الهجوم على الدين، وهو ما يجري على ألسنة أدعياء الثقافة والعلم والأدب،...... ما هي حقيقتهم... ما هي أقوالهم... ما هو حكم الشريعة في أمثالهم... ثم... موقف القوانين الوضعية من الردة.. وهل كانت سبباً في الترويح لدعاوى الردة في بلاد المسلمين؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الله - تعالى - أتم هذا الدين وجعل شريعة الإسلام أكمل الشرائع وأحسنها، وقد جاء هذا الدين شاملاً لجميع جوانب الحياة البشرية، ولذا أوجب الله - تعالى - على عباده الالتزام بجميع أحكام الإسلام فقال – سبحانه -: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) [البقرة: 208]، كما جاء هذا الدين موافقاً للفطرة السوية الصحيحة، فقال - تعالى -: ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)) [الروم: 30].
فإذا كان الشخص مسلماً لله - تعالى -، والتزم بدين الله - تعالى -، فأبى إلا أن ينسلخ من الهدى، ويتلبس بالضلال، فيمرق من الحق والنور إلى الباطل والظلمات، فهذا مرتد عن دين الإسلام، ناقض لعقد الإيمان، مصادم لما عليه هذا الكون الفسيح من سماء وأرض ونبات وحيوان من الاستسلام لله - تعالى - والخضوع له، كما قال - سبحانه -: ((وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [آل عمران: 83].
وإذا كانت قوانين البشر مع ما فيها من القصور والتناقض والاضطراب توجب مخالفتها عند أصحابها الجزاءات والعقوبات؛ فكيف بمناقضة شرع الله - تعالى -، والانسلاخ من حكمه وهو أفضل الأحكام على الإطلاق؟
لقد شرع الله - تعالى - إقامة الحدود، ومنها: حد الردة تحقيقاً لأهم مقاصد الشريعة وهو حفظ الدين، وهو - سبحانه - الحكيم في شرعه، الرحيم بعباده، العليم بما يصلح أحوال خلقه في معاشهم ومعادهم.
وفي الآونة الأخيرة تطاول شرذمة من السفهاء على هذه الشريعة، فوصفوا الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد بأنها استبداد وقسوة ومناقضة للحرية الفكرية... فقام من يرد ذلك الإفك بضعف وتأوّل متكلف وانهزامية ظاهرة (فلا الإسلامَ نصروا ولا (السفهاء) كسروا).
ولذا سنعرض في هذه المقالة لمعنى الردة وشيء من أحكامها وتطبيقاتها، وأسباب الوقوع فيها.
إذا رجعنا إلى كتب الفقه، فإننا نجد أن الفقهاء في كل مذهب من المذاهب الأربعة يعقدون باباً مستقلاً للمرتد وأحكامه، ونورد فيما يلي أمثلة لتعريفاتهم للردة، أعاذنا الله منها.
ففي بدائع الصنائع للكاساني الحنفي (ت587ه): (أما ركن الردة فهو إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان؛ إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الإيمان) [7/134].
ويقول (الصاوي) المالكي (ت 1241ه) في الشرح الصغير: (الردة كفر مسلم بصريح من القول، أو قول يقتضي الكفر، أو فعل يتضمن الكفر) [6/144].
وجاء في مغني المحتاج للشربيني الشافعي (ت: 977ه): (الردة هي قطع الإسلام بينة، أو فعل سواءً قاله استهزاء، أو عناداً، أو اعتقاداً) [4/133].
ويقول البهوتي الحنبلي في كشاف القناع: (المرتد شرعاً الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً) [6/136].
وبنظرة في هذه التعريفات نجد أن الردة رجوع عن الإيمان، فهي رجوع باعتبار المعنى اللغوي؛ فالمرتد هو الراجع، ومن قوله - تعالى -: ((وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)) [المائدة: 21].
والردة رجوع عن الإيمان باعتبار المعنى الشرعي؛ فالشرع يخصص اللغة ويقيّدها، كما أن الردة هي قطع الإسلام؛ لأن الإسلام عقد وميثاق، وحبل الله المتين، فإذا ارتد الشخص فقد نقض العقد وقطع هذا الحبل.
والردة، كما ذكر البهوتي قد تكون نطقاً، أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً، لكن يسوغ أن ندرج الشك ضمن الاعتقاد باعتبار أن الشك يكون في عمل القلب المتعلق بالاعتقاد.(/1)
ويمكن أن نخلص إلى أن الردة هي الرجوع عن الإسلام إما باعتقاد أو قول أو فعل، ولا يخفى أن هذا التعريف يقابل تعريف الإيمان بأنه: اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح، وإذا قلنا: إن الإيمان قول وعمل كما في عبارات متقدمي أئمة السلف أي قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح، فإن الردة أيضاً قول وعمل، فقد تكون الردة قولاً قلبياً كتكذيب الله - تعالى - في خبره، أو اعتقاد أن خالقاً مع الله - عز وجل -، وقد تكون عملاً قلبياً كبغض الله - تعالى - أو رسوله - صلى الله عليه و سلم -، أو الاتباع والاستكبار عن اتباع الرسول، وقد تكون الردة قولاً باللسان كسبِّ الله - تعالى - أو رسوله - صلى الله عليه و سلم -، أو الاستهزاء بدين الله - تعالى -، وقد تقع الردة بعمل ظاهر من أعمال الجوارح كالسجود للصنم، أو إهانة المصحف.
فإذا تقرر مفهوم الردة، فإن من تلبّس بشيء من تلك (النواقض) يكون مرتداً عن دين الإسلام، فيقتل بسيف الشرع؛ فالمبيح لدمه هو الكفر بعد الإيمان، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في هذا المقام: (فإنه لو لم يقتل ذلك [المرتد] لكان الداخل في الدين يخرج منه؛ فقتله حفظ لأهل الدين وللدين؛ فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه) [الفتاوى 20/102].
كما يقتل المرتد، فإنه لا يغسّل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث، بل يكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين كما هو مبسوط في موضعه(1).
ومما يدل على مشروعية قتل المرتد ما أخرجه البخاري - رحمه الله - أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أُتى بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: لو كنت أنا لم أحرِّقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه و سلم -: (لا تعذِّبوا بعذاب الله، ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه و سلم -: من بدّل دينه فاقتلوه).
والمراد من قول: (بدّل، دينه) أي بدل الإسلام بدين غيره؛ لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام، قال الله - تعالى -: ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)) [آل عمران: 85](2).
وقد التزم الصحابة - رضي الله عنهم - بهذا الحكم، فعندما زار معاذ بن جبل أخاه أبا موسى الأشعري - رضي الله عنهما -، وكانا أميرين في اليمن، فإذا رجل موثق، فقال معاذ: ما هذا؟ قال أبو موسى: كان يهودياً، فأسلم ثم تهوّد، ثم قال: اجلس، فقال معاذ: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله (ثلاث مرات)، فأمر به فقتل (3).
وقد قام خلفاء وملوك الإسلام وفي عصور مختلفة بإقامة حكم الله - تعالى - في المرتدين تأسياً برسول الله - صلى الله عليه و سلم - ؛ فلا يخفى موقف الصديق - رضي الله عنه - تجاه المرتدين وقتاله لهم، وسار على ذلك بقية الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان.
واشتهر المهدي الخليفة العباسي بمتابعة الزنادقة المرتدين، حيث عيّن رجلاً يتولى أمور الزنادقة.
يقول ابن كثير في حوادث سنة 167ه: (وفيها تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبراً بين يديه)(4).
ويعدّ الحلاّج من أشهر الزنادقة الذين تمّ قتلهم بسيف الشرع دون استتابة، يقول القاضي عياض: (وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الإلهية والقول بالحلول، وقوله: (أنا الحق) مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته)(5).
وقد بسط الحافظ ابن كثير الحديث عن أحوال الحلاج وصفة مقتله، فكان مما قال: (قُدِّم (الحلاج) فضُرِبَ ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وحز رأسه، وأحرقت جثته، وألقى رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف في تلك النواحي)(6).
من أهم أخبار المرتدين وأكثرها عبرة ما سجله الحافط ابن كثير في حوادث 726ه حيث (ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل الهيثي على كفره واستهانته بآيات الله وصحبته الزنادقة.
قال البرازلي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام والاستهانة بالنبوة والقرآن.
وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة، قال: (وكان هذا الرجل قد حفظ التنبيه، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن، وعنده نباهة وفهم، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزاً للإسلام، وذلاً للزنادقة وأهل البدع، قال ابن كثير: وقد شهدتُ قتله، وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية حاضراً يومئذ، وقد أتاه وقرّعه على ما كان يصدر عنه قبل قتله، ثم ضربت عنقه وأنا شاهد ذلك)(7).
ومما يجدر ذكره في هذه المقالة أن الردة التي جاهر بها بعض زنادقة هذا العصر ك (رشدي)، و (نسرين)، و (نصر أبو زيد)، و (البغدادي)، وأضرابهم أشنع من ردة أسلافهم ك (الحلاج)، و (الهيثي)، والله المستعان.(/2)
وبالجملة فردة هؤلاء الزنادقة في القديم والحديث ليست مجرد ردة فحسب، بل ضموا إلى هذه الردة المحاربة لله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه و سلم -، والإفراط في العداوة، والمبالغة في الطعن في دين الله - تعالى -، وصاحب هذه الردة المغلظة لا يسقط عنه القتل وإن تاب بعد القدرة عليه.
كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بقوله: (إن الردة على قسمين: ردة مجردة، وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها، وكلتاهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها؛ والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعمّ القسمين، بل إنما تدل على القسم الأول (الردة المجردة)، كما يظهر ذلك لمن تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد، فيبقى القسم الثاني (الردة المغلظة) وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه، ولم يأت نص ولا إجماع بسقوط القتل عنه، والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي، فانقطع الإلحاق؛ والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه، بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرّق بين أنواع المرتدين...)(8).
وأما أسباب الوقوع في الردة فثمة أسباب متعددة لذلك منها:
الجهل بدين الله - تعالى -، وضعف التمسك بالمعتقد الصحيح عند الكثير من المسلمين، مما أوقفهم بسبب جهلهم وضعف تمسكهم في جملة من المكفرات، فعلى الدعاة والعلماء أن يجتهدوا في إظهار العلم الشرعي وتبليغ دين الله - تعالى -، عبر برامج مرتبة، فيرغب أهل الإسلام بالمعتقد الصحيح علماً وعملاً، ويحذرون من الردة وأنواعها، عن طرق حِلَقِ التعليم، والخطب، والمؤلفات، والأشرطة، ونحوها، فيعنى بالتوحيد تقريراً والتزاماً، كما يعنى بالتحذير من مظاهر الردة في الزمن المعاصر، ومن ذلك أن تُدرّس رسالة (نواقض الإسلام) للشيخ (محمد بن عبد الوهاب) - رحمه الله - فهي رسالة مع كونها في غاية الإيجاز إلا أنها بينت أهم النواقض وأشملها، وأكثرها وقوعاً وانتشاراً(9).
وأن يبيّن للناس الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد من: القتل، وعدم الصلاة عليه، وحل ماله، وأن تذكر أخبار المرتدين وأحوالهم وما نالوه في الدنيا من العقوبات والمثلات، وما أعدّ لهم من العذاب المقيم في الدار الآخرة.
وأن يراعى أثناء التحذير من الردة وأنواعها عوارض الأهلية عند الحكم على الأشخاص كالجهل والتأويل والخطأ والإكراه ونحوه، فربما وقع البعض في غلو وإفراط بمجرد علمهم بجملة من أنواع الردة، فيحكمون بذلك على أشخاص بأعيانهم دون التفات إلى اجتماع الشروط وانتفاء الموانع.
ومن أسباب الوقوع في الردة: ظهور الإرجاء في هذه الأوقات.. فالإرجاء في مسألة الإيمان يقرر عبر مؤسسات تعليمية شرعية منتشرة في بلاد المسلمين، حيث تتبنى هذه المؤسسات المذهب الأشعري والماتريدي ذي النزعة الإرجائية الغالية، كما ساعد على ظهور الإرجاء بعض المنهزمين إزاء واقعنا الحاضر المليء بالانحرافات التي تناقض العقيدة السلفية، فقاموا (يبررون)، و (يسوغون) ذلك الانحراف بأنواع من التأويلات المتكلفة.
كما أن الغلو في التكفير والنزعة الخارجية في هذا العصر كان سبباً مساعداً في ظهور الإرجاء كنتيجة عكسية، فجاء ذلك الإرجاء رد فعل لهذا الغلو.
فإذا كان الإيمان عند طوائف من المرجئة هو التصديق فحسب، ففي المقابل سيكون الكفر أو الردة هو التكذيب فقط عند قوم آخرين، فلا يكون الشخص مرتداً عن دين الله - تعالى - إلا إذا كان مكذباً جاحداً! فلا يكون الشخص عند هؤلاء المرجئة مرتداً بمجرد استهزائه بالله - تعالى - أو رسوله - صلى الله عليه و سلم - أو دينه، كما لا يكون الشخص عندهم مرتداً بمجرد سجوده للصنم أو إهانة المصحف!!.
فالردة عندهم مجرد اعتقاد، فلا تقع الردة بقول أو عمل!
وسبب ثالث وهو تنحية شرع الله - عز وجل - في كثير من بلاد المسلمين، فلا يخفى أن وجود الولاية الشرعية سبب في حفظ الدين، فحيث تقام الحدود ومنها حد الردة فلن يتطاول زنديق مارق على دين الله - تعالى -، لكن (من أمن العقوبة أساء الأدب)، والله حسبنا ونعم الوكيل، ورحم الله ابن العربي عندما وصف كفر غلاة الشيعة بأنه (كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف)(10).
وإليك أخي القارئ واقعة تاريخية توضح المراد كما دوّنها القاضي عياض في كتابه: (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) بقوله: (وقد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف ب (ابن أخي عَجَب)، وكان خرج يوماً، فأخذه المطر، فقال: بدأ الخرّاز يرش جلوده.(/3)
وكان بعض الفقهاء بها (أي بقرطبة): (أبو زيد)، و (عبد الأعلى بن وهب)، و (ابن عيسى)، قد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب، وأفتى بمثله القاضي حينئذ (موسى بن زياد)، فقال (ابن حبيب): دمه في عنقي، أيشتمُ رباً عبدناه، ولا ننصر له؟ إنا إذاً لعبيد سوء، وما نحن له بعابدين، وبكى، ورفع المجلس إلى الأمير بها (عبد الرحمن بن الحكم) الأموي (ت282ه).
وكانت عجَب عمة هذا المطلوب من حظاياه (أي من أحب الزوجات لعبد الرحمن بن الحكم)، وأُعلم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول (ابن حبيب وصاحبه)، وأمر بقتله، فقُتل وصُلب بحضرة الفقيهين: (ابن حبيب وأصبغ)، وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة، ووبّخ بقية الفقهاء وسبّهم)(11).
ولنا وقفة يسيرة مع هذه القصة فإن ابن أخي (عجب) تلفّظ بعبارة تقتضي استخفافاً بالربّ جل جلاله، وقد لا تكون صريحة في ذلك، والرجل لم يجاهر بهذه العبارة عبر إعلام مقروء أو منطوق أو نظم أو منثور، ومع ذلك فهذه العبارة في غاية النشاز والاشمئزاز في المجتمع الإسلامي آنذاك، فلم يقبلها بالكلية، بل ونفر منها تماماً، حتى بلغت أهل العلم في قرطبة فاجتمعوا لها فحكموا على صاحبها.
وأخيراً: تتجلى روعة الموقف عندما يمضي (عبد الرحمن بن الحكم الأموي) حكم القتل على ابن أخي زوجته (عجب) وهي أحب زوجاته إليه، ولا يكتفي بذلك بل ويعزل القاضي متهماً له بالمداهنة، ويعاتب بقية الفقهاء.
فانظر رعاك الله إلى أثر الولاية الشرعية في تحقيق حفظ الدين وإقامة حكم الله - تعالى - على من تطاول على دين الله - تعالى - .
وأما السبب الرابع في ظهور الردة، فإن الفوضى الفكرية التي يعيشها العالم المعاصر، والاضطراب الهائل في المفاهيم، والتناقض المكشوف في المعتقدات والمبادئ كان سبباً في الإخلال بالثوابت والتمرد على الدين والأخلاق.
لقد وجد الانسلاخ من الدين في العالم الغربي، والخروج عما استقر في الفطر السليمة والعقول الصحيحة، وأجلب أعداء الله - تعالى - بخيلهم ورجلهم، وسعوا إلى بث هذا الانحراف في بلاد المسلمين، وجاء أقوام من هذه الأمة يتتبعون مسلك أولئك المنتكسين حذو القذة بالقذة.
فلا عجب أن تظهر الحداثة مثلاً في بلاد المسلمين، بعد أن ظهرت في العالم الغربي، والتي تنادي برفض ما هو قديم وثابت، بما في ذلك المعتقدات والأخلاق وتغيير المسلّمات والحقائق الثابتة، وضرورة التحول والتطور من الأفكار القديمة إلى مواقف مستنيرة.
ثم (تؤصل) هذه الردة، وتقصّد، وتنشر في الآفاق عبر ملاحق أدبية، ومجلات متخصصة، ومن خلال محاضرات وندوات ومهرجانات.
وأخيراً:
فإن تقصير بعض علماء أهل السنة ودعاتهم تجاه هذا الانحراف الخطير الردة كان سبباً مساعداً في ظهوره واستفحاله، فلو أن علماء أهل السنة ودعاتهم قاموا بواجب التبليغ لدين الله - تعالى -، وإظهار عقيدة التوحيد، والتحذير من الردة وأنواعها ووسائلها لما كان لمظاهر الكفر أن تنتشر كما هي عليه الآن.
إن الناظر إلى إخواننا من أهل السنة يرى تواكلاً وكسلاً، وتحميلاً للتبعات والمسؤوليات على الآخرين، وتلاوماً فيما بينهم، ألا فليجتهد الجميع في الحرص على ما ينفع، وأن نسعى في تبليغ ديننا والتحذير مما يضاده ويناقضه (ورحم الله من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين)(12).
========================================
الهوامش:
(1) تحدث الفقهاء - رحمهم الله - عن هذه المسائل تفصيلاً، وألفت رسائل علمية مطبوعة في أحكام المرتد، منها: أحكام الردة والمرتدين لجبر الفضيلات، وأحكام المرتد لنعمان السامرائي
(2) انظر: فتح الباري، 13/272.
(3) أخرجه البخاري.
(4) البداية 10/149.
(5) الشفا، 2/1091.
(6) البداية والنهاية، 11/143.
(7) البداية، 14/122.
(8) الصارم المسلول، 3/696.
(9) شرح هذه الرسالة غير واحد، ومن أفضل الشروح: (التبيان شرح نواقض الإسلام) للشيخ سليمان بن ناصر العلوان.
(10) العواصم من القواصم، ص 247.
(11) الشفا، 2/1093، 1094.
(12) هذه العبارة سطّرها العلامة عبد الرحمن السعدي، في القول السديد، ص 36.
د.عبد العزيز آل عبد اللطيف
آخر تحديث ( 05-06-2004 )(/4)
أموالي أبي مشتبهة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 17/5/1423
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا طالب بكلية الهندسة، ووالدي يعمل ببنك، وهو شريك لاثنين من إخوته في محل تجاري ورثوه عن جدي، فهل أعيشُ وآكل من حرام؟ وهل أترك الكلية وأعمل؛ لأصرف على نفسي؟ أم أعد أن والدي يصرف عليّ من ربحه من المحل التجاري؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
يظهر أن مال والدك اختلط فيه الحلال بالحرام، وهذا من المشتبهات الواردة في حديث النعمان بن بشير –رضي الله عنه-"إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى..." البخاري (52) ومسلم (1599) واللفظ له، وقد اختلف العلماء في الأكل من المال الحلال المختلط في الحرام (المشتبهات) على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ينظر أي الأمرين أكثر فيأخذ حكمه، فإن كان الحلال أكثر من الحرام جاز الأكل حينئذ وإلا حرم.
والقول الثاني: يجوز الأكل من هذا المال ما لم يكن حراماً خالصاً.
والقول الثالث: لا يجوز الأكل من المال المشتبه فيه –المختلط- مطلقاً.
فأهل القول الأول نظروا إلى الأغلب من وصفي الحل والحرمة، وأهل القول الثاني نظروا إلى أن الأصل في الأشياء الإباحة، فقالوا بأن الأكل من هذا المال حلال، بناءً على هذا الأصل، وأصحاب القول الثالث نظروا إلى الاحتياط والورع فقالوا بالتحريم والمنع سداً للذريعة، والذي يظهر لي هو رجحان القول الثاني، حيث هو مبني على أصل الإباحة الشرعية، ولم يرد نص بالمنع؛ بدليل قوله –تعالى-:"هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً" [البقرة:29]، وهذا امتنان من الله على عباده، والله لا يمتن عليهم بحرام أو مكروه، وحديث سلمان الفارسي عند الترمذي (1726) "الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه"، ونص حديث النعمان أن الشبهة –مفرد الشبهات- ليست من الحلال البيّن، ولا من الحرام البيّن بل هي منزلة بينهما لا يعلمها إلا أهل العلم وهم قلة من الناس في كل زمان "لا يعلمهن كثير من الناس" ومن أراد الورع والاحتياط لدينه وعرضه فليجتنبها، ومن ارتكبها لم يرتكب حراماً –ولله الحمد- وهذا من سماحة هذا الدين ويسره "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [البقرة:185]، ومن أجل هذا اختلفت مواقف الصحابة ومن بعدهم في الأكل من هذه المشتبهات، فأبو بكر الصديق لم يأكل من المال المشتبه فيه وأفتى بجوازه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- وصحابته يعاملون المشركين، وأهل الكتاب مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام، وسئل علي بن أبي طالب عن جوائز السلطان، وهي من المشتبهات فقال: لا بأس بها، ما يعطيكموه من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام.
وصح عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن رجل يدعو جيرانه إلى طعامه وهو يأكل الربا علانية ولا يتحرَّج من مال خبيث يأخذه، فقال للسائل: أجيبوه فإنما المهنأ لكم والوزر عليه. وروي قريباً منه عن سلمان الفارسي، وسئل ابن سيرين عن الأكل من مال من يتعامل بالقمار، فأجاب بجواب عبد الله بن مسعود.
وروي في مثل هذا عن عدد من التابعين ومن بعدهم كسعيد بن جبير، والحسن البصري، والزهري، ومكحول، وإبراهيم النخعي، وإسحاق بن راهوية، وآخرين.
وأخيراً أؤكد للسائل وغيره، أن اجتناب المشتبهات أولى من ارتكابها إذا كان له مندوحة عنها، وإن لم يكن فلا بأس عليه ولا حرج ولا إثم ولا مخالفة، والله أعلم.(/1)
أمور مهمة في الرقية
من الأمور الهامة التي يجب أن يراعيها المريض قبل الذهاب لشخص بقصد الرقية:
1)- التحري والتثبت والتأكد من منهج الراقي وسلامة عقيدته وتوجهه:
فانتفاء هذه المقومات لدى المعالج تورث إثما عظيما للمريض لعدم تثبته منها ومن كافة الجوانب المتعلقة بها، ولا بد أن يعلم أن فاقد الشيء لا يعطيه، وهنا تكمن أهمية سؤال العلماء وطلبة العلم الثقاة .
2)- الحذر من الاستجابة للعامة فيما يختص بالعلاج أو المشورة: -
أو الذهاب معهم إلى أناس يزعمون أنهم يرقون وهم حقيقة من الجهلة أو الدجالين والسحرة والمشعوذين .
3)- يجب الحرص على أصول العقيدة والعودة في كل المسائل التي قد تشكل على المصاب إلى العلماء وطلبة العلم: -
وربما ذهب الشخص إليهم فيقع فريسة لعبثهم واحتيالهم، وقد يزين الشيطان للمصاب الشفاء بعد ذهابه لهذا الجاهل أو الساحر أو الكاهن فيفقد دينه وماله وصحة بدنه، ولو صح بدنه لكانت خسارته في دينه فادحة لا تعادل ما كسبه، وبقاء المرض مع حفظ العقيدة والصبر وتحمل الابتلاء فيه أجر عظيم وثواب جزيل، إذا احتسب ذلك عند الله - سبحانه وتعالى - .
4)- وكل ذلك لا يقاس بعدد رواد فلان من الناس: -
بل الأساس في ذلك التثبت من المنهج والمسلك وصحة العقيدة لذلك الرجل، وهذه مسؤوليتنا جميعا، فإن كانت كل تلك المقومات صحيحة سوية لا يشوبها شك أو لبس ونحوه، إضافة إلى إقرار العلماء وطلبة العلم لذلك المعالج، عند ذلك يكون الأمر قد سلك المسلك الشرعي الذي لا بد أن يكون عليه، إضافة للمتابعة والتوجيه والإرشاد، أما ارتياد هؤلاء الجهلة بناء على قول فلان وفلانة وازدحام الناس عليه، فهذا من أعظم الجهل، ولا غرابة فسوف تتبدد الحيرة والدهشة، عند الحديث عن المخالفات الشرعية لدى بعض المعالجين، والتي سوف يتضح من خلال اقتراف بعضها تدمير العقائد وتشتيت الأفكار، مع أن الواجب الشرعي يملي مخافة الله وتقواه لكل من يتصدر ذلك الأمر، والذي نراه اليوم ونسمعه أن هذه الفئة استغلت ضعاف الإيمان وحاجتهم للعلاج فأصبحت تنفث سمومها بادعاء الرقية الشرعية، ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أبين بأن البعض بتصرفاته وأفعاله، يقوم بعمل لا يقل خطورة عما يقوم به السحرة والمشعوذون، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وتحت هذا العنوان لا بد من الإشارة الإجمالية لبعض النقاط التي لا بد من الإهتمام بها لإلقاء نظرة عامة على المعالج وتقييمه وتحديد منهجه وطريقته، ويجب الحرص أن تكون هذه النظرة نظرة شمولية لا تقتصر على جوانب معينة دون الإهتمام بالجوانب الأخرى التي بمجملها تحدد طبيعة الشخص ومنهجه ومدى اتساق طريقته مع منهج أهل السنة والجماعة، وأوجز ذلك بالأمور التالية:
1)- صحة العقيدة، فمن فسدت عقيدته فلن يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولقي الله وهو عليه غاضب، فلا يجوز الذهاب مطلقاً إلى من اتخذ مسلكاً وطريقاً غير طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والتابعين ومن سار على نهجهم من السلف الصالح رضوان الله - تعالى -عليهم أجمعين، خاصة بعض أصحاب الطرق الصوفية البدعية، فقد وصلت بدعهم إلى حد يفوق الوصف والتصور في مسائل الرقية والعلاج والاستشفاء .
2)- إخلاص العمل، فلا بد أن تكون الغاية والهدف من الاشتغال في هذا العلم هو التقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - ثم تفريج كربة المكروبين والوقوف معهم وتوجيههم الوجهة الشرعية في مواجهة هذه الأمراض على اختلاف أنواعها ومراتبها، لا كما يشاهد اليوم من ابتزاز فاضح لأموال المسلمين، واتخاذ طرق شيطانية في سبيل تحصيل ذلك، ومنها بيع ماء زمزم بقيمة قدرها ستون ريالاً سعودياً، حتى وصل الأمر بالبعض لنظرة يشوبها الكره والحقد على أمثال هؤلاء الذين لم يرعوا في مسلم إلا ولا ذمة .(/1)
ومن غرائب القرن العشرين ظهور فئات من المعالجين لم تكتفي بجمع المئات من الريالات فحسب بل تعدت ذلك لتحصيل الألوفات، ومن ذلك ما وصلني وتأكد لي خبر أحد المدعين ممن أفقده المال لذة الإيمان فأعمى بصره وبصيرته، ولم يذق طعماً لحلاوة الإيمان، ولا فهماً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابت الذي رواه جابر - رضي الله عنه - حيث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)، (متفق عليه)، حيث عمد إلى عمل أعشاب مركبة مع إضافة قليل من العسل، واستخدام كمية بسيطة لا تتجاوز مقدار خمس كوب من البلاستيك الأبيض الصغير لبيعها على أولئك المرضى المساكين وبسعر قدره ثمانون ريالاً للكأس الواحد، ليس هذا فحسب إنما يجب على المريض أو المريضة أن يستعمل أكثر من عشر كاسات لتنظيف معدته من مادة السحر الموجودة، وعلى هذا فمن أراد استعمال هذه المادة فعليه دفع مبلغ وقدره (80 × 10 = 800) ريال سعودي، ليس ذلك فحسب إنما وصل به الأمر إلى أن يبيع شريط التسجيل بمبلغ وقدره ثلاثون ريالاً، ناهيك عن وجود جلد ذئب في بيته ضناً منه في أن ذلك يحفظ من الجن والشياطين، فقلي بربك هل وصل بنا الإنحطاط إلى هذا المستوى من التردي، هل هان على أنفسنا أن نبيعها للشيطان، هل مات الضمير في قلوب من يدعون العلاج بالقرآن، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نصدق بأمثال هؤلاء على أنهم يريدون الخير والسعادة للمسلمين، أين هم من آية في كتاب الله - عز وجل - يقول فيها الحق جل شأنه: ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (الفتح الآية 29)، أين هم من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما ثبت من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم . مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (متفق عليه)، ألم يعلموا يقيناً أن دفع الظلم عن الناس ومساعدة المكروب والسير في حاجة المسلم من أعظم القربات إلى الله - سبحانه وتعالى -، إن كان لي كلمات أعبر فيها عمّا أراه من مآسي تحرّق القلوب فهي نصيحة خالصة أوجهها لهذا الرجل وأمثاله: أن يتقوا الله - عز وجل -، وأذكرهم بقول الحق- تبارك وتعالى -: ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم ) (الشعراء الآية 88، 89) فالله الله في أنفسكم قبل أن تقفوا بين يدي الله - سبحانه وتعالى - فتحاسبوا يوم الحساب لا يوم العمل .
3)- العلم الشرعي، وبالقدر التي يحتاجه المعالج في حياته لمتابعة الطريق القويم الذي يؤصل في نفسيته تقوى الله - سبحانه - أولاً، ثم توقّي الابتداع في مسائل الرقية، فلا يأخذ من هذا العلم إلا ما أقرته الشريعة أو أيده علماء الأمة وأئمتها .
4)- المظهر والسمت الإسلامي، فمن الأمور التي لا بد أن يهتم بها المرضى مظهر المعالج العام من حيث التزامه بالسنة في شكله ومظهره، والمعنيّ من هذا إطلاق اللحية وتقصير الثوب ونحو ذلك من أمور أخرى، مع الالتزام في التطبيق العملي قدر المستطاع لنصوص الكتاب والسنة، واقتفاء آثار الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة وأئمتها .
5)- المحافظة على الفرائض والنوافل، من حيث أداء الصلوات مع الجماعة والمحافظة عليها في وقتها ونحو ذلك من أمور العبادات الأخرى.
6)- الورع والتقى، وهي من أهم الصفات التي لا بد من الاهتمام بها وتوفرها في المعالج لكي يستطيع تقديم صورة بيضاء ناصعة عن هذا الدين وأهله، ويجب على المعالِج تقوى الله - سبحانه وتعالى - في السر والعلن، والتورع قدر المستطاع في التعامل مع المرضى، ويجب أن تكون غايته وهدفه مرضاة الله - سبحانه وتعالى -، لا كما يفعل بعض المعالجين اليوم، فتقتصر النظرة إلى ما في جيوب المرضى من دينار ودرهم، ونسوا أو تناسوا ما عند الله - سبحانه وتعالى - من نعيم مقيم لا يفنى ولا يبلى، وفيه الخلود والسعادة الأبدية.(/2)
7)- التواضع وخفض الجناح والبشاشة ورحابة الصدر، وحقيقة الأمر أن هذا الموضوع من الأمور المهمة التي لا بد من الاهتمام بها غاية الإهتمام لكلا الطرفين المعالِج والمعالَج، حيث أصبحنا نرى كثيراً ممن سلك طريق الرقية الشرعية وبدأ فيها بداية طيبة محمودة، أصبحت تراه بعد فترة من الزمن يمشي مشية المتكبرين ويتكلم بكلام المترفعين، وينظر إلى الناس من حوله نظرة احتقار وازدراء، وهذا والله هو الخسران المبين، ولا بد للمعالج من تقوى الله - سبحانه وتعالى - وإعادة الأمر كله له، فلولا حفظ الله - سبحانه وتعالى - له لتلقفته الشياطين منذ أمد بعيد، فليشكر الله، وليعامل الناس بما يحب أن يعامل، فعليه أن يكون متواضعاً ليناً، البشاشة تعلو محياه، وخفظ الجناح أساس مسعاه، فيصبر على المرضى ويتفاعل مع مشاعرهم وأحزانهم، ويظهر لهم حقيقتةً أنه يشاركهم فيما يحملون من مرض وابتلاء، وعندئذ سوف يكون التواصل بين المعالج والمريض، ومن ثم تتجسد المحبة والألفة وهذا من أكبر دواعي الشفاء بإذن الله - سبحانه وتعالى -.
8)- المنطق والحديث، وأعني بذلك أن المعالج لا بد أن يكون له منهجاً واضحاً يعتمد أساساً على مرجعية الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة الأجلاء، وعليه أن يعود في المسائل المشكلة إلى العلماء وطلبة العلم للإسترشاد بآرائهم والتوجه بتوجيهاتهم، لا كما يفعل كثير من جهلة المعالجين فجعلوا قائدهم في التوجه والتصرف الأهواء والشهوات وأصبحوا وكأنما يمتلكون علماً لدنياً لم يحزه أحدٌ سواهم، بل أصبحوا وكأنما قد جمعوا العلم من أطرافه، وإليك قصة أحدهم نقلاً عمن راجع هذا المعالج:
جاءني رجل في العقد الثالث من عمره وقد رأيته حالق الرأس فسألته عن سبب ذلك، فأخبرني بأنه قد راجع معالجاً فأشار عليه بحلق رأسه والعودة إليه مرة ثانية، ففعل، وما أن عاد إلى هذا المعالج حتى أخذ يعمد لإجراء قياسات له في رأسه بواسطة (المغيض مطاط)، ويكون ذلك القياس عرضاً وطولاً فإن توافق القياس فالرجل سليم، وإن لم يتوافق هذا القياس فالرجل يعاني من أمر ما، وبعد انتهاء المعالج من أخذ قياسات جميع أنحاء الرأس، أشار هذا المعالج الحاذق الجاهل بمعاناة الرجل من تنسيم في الرأس؟؟؟!!! .
ليس هذا فحسب، إنما واجب المعالج أن يحرص كل الحرص على كل كلمة يقولها أو يتفوه بها وأن يضبطها بالشريعة أولاً، وأن تضبط بسلامة الناحية العضوية والنفسية ثانياً، بل يجب عليه أن يحرص على نمط العلاقات الإجتماعية بين الأسر، فلا يتكلم بما قد يؤدي إلى الفرقة أو قطيعة الرحم دون القرائن والأدلة القطعية، وكذلك مراعاة المصالح والمفاسد، وقد يعجب الكثير من هذا الكلام، ولكنه واقع كثير من المعالجين الذين أساؤوا السلوك والتصرف، وبناء على التصرفات الهوجاء لهذا الصنف من المعالجين ترى فلان قد طلق زوجته، وآخر قد قذف أهله بالسحر والعين، وثالث ترك بيته ورابع وخامس، وكل ذلك ما كان لولا تفشي الجهل في تلك الفئة التي لم تراعي إلا ولا ذمة في مسلم قط، ومن هنا فلا بد أن يحرص المعالج على قوله وعمله، فلربما تكلم بكلام أو فعل فعلاً كلفه الكثير في الدنيا والآخرة.
9)- التعامل مع النساء، ومما يجب الاهتمام به من قبل المرضى تعامل المعالِج مع النساء، ولا أريد أن أطيل الحديث في هذا الموضوع حيث سوف أتعرض له مفصلاً في هذه السلسلة (القواعد المثلى لعلاج الصرع والسحر والعين بالرقى) تحت عنوان (التقيد بالأمور الشرعية الخاصة بالنساء) و (اتقاء فتنة النساء) فلتراجع .
وكل ما ذكر تحت هذا العنوان يعطي الإنطباع الحقيقي والرؤية الساطعة عن حقيقة المعالج وتوجهه وغاياته وأهدافه، ولا بد للمرضى من الاهتمام غاية الاهتمام بهذه الأمور وقياس كل ذلك على من تصدر الرقية والعلاج، وواجب المريض يحتم أحياناً تقديم النصح والإرشاد فيما يراه من تجاوزات في بعض الأمور المذكورة آنفاً، وأحياناً أخرى يكون واجباً شرعياً على المسلم رفع أمر بعض هؤلاء لولاة الأمر وأهل الحسبة للنظر في أمرهم وتحري ما يقومون به من أفعال تخالف الأسس والقواعد والأخلاقيات في الرقية والعلاج، وحقيقة الأمر أن هذا الأمر مسؤولية الجميع ابتداء من ولي الأمر وأهل الحسبة والعلماء وطلبة العلم والدعاة، فيجب تظافر الجهود في تقييم ما هو موجود على الساحة اليوم، فمن أراد أن يقدم لهذا الدين فنعما هو، ومن أراد العبث بالعقيدة والقيم والأخلاق فليس بلد التوحيد مجالاً لذلك كله، وهذا ما عهدناه من ولاة الأمر ومن خلفهم العلماء وطلبة العلم والدعاة في هذا البلد الطيب، يقفون صفاً واحداً للذود عن حمى العقيدة وصونها وحفظها من دجل الدجالين ودعوى المدعين، فأسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يحفظ الجميع وأن يوفقهم في هذا العمل المبارك إنه على كل شيء قدير .
سئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين السؤال التالي: -(/3)
ماذا تنصح العوام قبل الذهاب لشخص بعينه من أجل الرقية والاستشفاء بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟
فأجاب - حفظه الله -: (ننصح المصاب بمس أو عين أو صرف أن يعالج نفسه بكثرة الذكر والدعاء والتوبة والإستغفار والأعمال الصالحة وكثرة القربات من صدقة أو صوم أو حج أو عمرة أو تلاوة أو نفع عام للمسلمين، وننصحه بالتوبة عن المعاصي والبعد عن السيئات والمخالفات، وهجر العصاة وأهل الملاهي والأغاني والصور والصحف الماجنة والأفلام الهابطة وكل ما يدعو إلى الشر أو يدفع إلى المعاصي وذلك لأن الاستشفاء بكتاب الله - تعالى -وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إنما تنفع أهل الإيمان والتقوى كما قال - تعالى -: ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) (فصلت الآية 44)، وقال تعال: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ) ( الإسراء الآية 82)، وننصحه أن يعتقد ويجزم بأن كتاب الله - تعالى -هو الشفاء والدواء النافع، ولا يشك ولا يتردد في أثر نفعه، ولا يجعله كتجربة، وننصحه أن يختار من القراء أهل التقى والورع وقوة الإيمان والخوف من الله - تعالى -والنصح للمسلمين، ولا يذهب إلى النفعيين الذين جعلوا الرقية حرفة يأكلون معها أموال الناس، فإن تأثيرهم قليل والله لا أعلم)
(فتوى مكتوبة بتاريخ 24 شعبان سنة 1418 هـ) .
http://www.tttt4.com المصدر:(/4)
أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله
هناك أشياء مترددة بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر ، بحسب ما يقوم بقلب فاعلها وما يصدر عنه من الأفعال والأقوال ، ويقع فيها بعض الناس ، قد تتنافى مع العقيدة أو تعكّر صفوها ، وهي تمارس على المستوى العام ويعلق فيها بعض العوام تأثراً بالدجالين والمحتالين والمشعوذين وقد حذّر منها النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذه الأمور :-
1- تعليق التمائم :-
وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها ، يتقون بها العين ، ويتلحمون من اسمها أن يتمم الله لهم مقصدهم ، وقد تكون التمائم من عظام ومن خرز ومن كتابة وغير ذلك ، وهذا لا يجوز ، وقد يكون المعلق من القرآن فإذا كان من القرآن فقد اختلف العلماء في جوازه وعدم جوازه والراجح عدم جوازه سداً للذريعة فإنه يفضي إلى تعليق غير القرآن ، ولأنه لا مخصص للنصوص المانعة من تعليق التمائم كحديث ابن مسعود رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) وعن عقبة مرفوعاً : (( من علق تميمة فقد أشرك )) ، وهذه نصوص عامة لا مخصص لها .
2- الكهانة : -
وهي ادعاء علم الغيب ، كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب هو استراق السمع ، يسترق الجني الكلمة من كلام الملائكة فيلقيها في أذن الكاهن فيكذب معها مائة كذبة فيصدقه الناس بسبب تلك الكلمة .
والله هو المتفرد في علم الغيب فمن ادعى مشاركته في شيء من ذلك بكهانة أو غيرها أو صدق من يدعي ذلك فقد جعل لله شريكاً فيما هو من خصائصه وهو مكذب لله ولرسوله .
وعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) [ رواه أبو داود ] ، ومما يجب التنبيه عليه والتحذير منه أمر السحرة والكهّان والمشعوذين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون فبعضهم يظهر للناس بمظهر الطبيب الذي يداوي المرض وهو في الحقيقة مفسد للعقائد بحيث يأمر المريض أن يذبح لغير الله أو يكتب له الطلاسم الشركية والتعاويذ الشيطانية والبعض الآخر منهم يظهر بمظهر المخبر عن المغيبات وأماكن الأشياء المفقودة بحيث يأتيه الجهال يسألونه عن الأشياء الضائعة فيخبرهم عن أماكن وجودها أو يحضرها لهم بواسطة الشياطين ، والبعض الآخر منهم يظهر بمظهر الولي الذي له خوارق وكرامات كدخول النار وضرب نفسه بالسلاح ومسك الحيات … وغير ذلك ، هو في الحقيقة دجال مشعوذ وولي للشيطان .
وكل هذه الأصناف تريد الاحتيال والنصب لأكل أموال الناس وإفساد عقائدهم فيجب على المسلمين أن يحذروهم ويبتعدوا عنهم ويجب على ولاة الأمور استتابة هؤلاء فإن تابوا وإلا قتلوا لإراحة المسلمين من شرهم وفسادهم وتنفيذاً لحكم الله فيهم ففي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال : " كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة " وعن جندب مرفوعاً : " حد الساحر ضربه بالسيف " [ رواه الترمذي ] .
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ :
صالح بن فوزان الفوزان(/1)
________________________________________
أمور ينبغي للإنسان أن يقدم التفكير فيها ويجعلها نصب عينيه
رئيسي :تربية :
أولاً:التفكير في شرف الحق و ضِعَةِ الباطل: وذلك بأن يفكر في عظمة الله، وأنه رب العالمين، وأنه سبحانه يحب الحق ويكره الباطل، وأن من اتبع الحق استحق رضوان رب العالمين، فكان سبحانه وليه في الدنيا والآخرة، بأن يختار له كل ما يعلمه خيراً له وأشرف حتى يتوفاه راضياً مرضياً، فيرفعه إليه ويقربه لديه، ويحله في جوار ربه مكرماً منعماً في النعيم المقيم، والشرف الخالد، الذي لا تبلغ الأوهام عظمته.
وأن من أخلد إلى الباطل استحق سخط رب العالمين وغضبه وعقابه، فإن آتاه شيئاً من نعيم الدنيا؛ فإنما ذلك لهوانه عليه ليزيده بعداً عنه، وليضاعف له عذاب الآخرة الأليم الخالد الذي لا تبلغ الأوهام شدته .
ثانيًا:يفكر في نسبة نعيم الدنيا إلى رضوان رب العالمين ونعيم الآخرة، ونسبة بؤس الدنيا إلى سخط رب العالمين وعذاب الآخرة: ويتدبر قول الله عز وجل :{ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ[31]أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[32]وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ[33] وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ[34]وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ[35]}[سورة الزخرف] .
ويفهم من ذلك أنه لولا أن يكون الناس أمة واحدة؛ لابتلى الله المؤمنين بما لم تجر به العادة من شدة الفقر والضر والخوف والحزن وغير ذلك، وحسبك أن الله ابتلى أنبيائه وأصفيائه بأنواع البلاء .وعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ تُفِيئُهَا الرِّيحُ تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا لَا يُفِيئُهَا شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً] رواه البخاري ومسلم.
والمقصود من الحديث: تهذيب المسلمين، فيأنس المؤمن بالمتاعب والمصائب، ويتلقاها بالرضا والصبر والاحتساب، راجياً أن تكون له عند ربه، ولا يتمنى خالصاً من قلبه النعم ولا يحسد أهلها، ولا يسكن إلى السلامة والنعم ولا يركن إليها، بل يتلقاها بخوف وحذر وخشية؛ أن تكون إنما هيئت له لاختلال إيمانه، فترغب نفسه إلى تصريفها في سبيل الله، فلا يخلد إلى الراحة ولا يبخل، ولا يعجب بما أوتيه، ولا يستكبر ولا يغتر، ولم يتعرض الحديث لحال الكافر؛ لأن الحجة عليه واضحة على كل حال .
وعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ: [الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ] رواه الترمذي وأحمد والدارمي.
وقد ابتلى أيوب بما هو مشهور . وابتلى يعقوب بفقد ولديه، وشدد أثر ذلك على قلبه فكان كما قصه الله في كتابه:{ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ[84]}[سورة يوسف] .
وابتلى محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام بما تراه في السيرة، فكلفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشأوا عليه تبعاً لآبائهم من الشرك والضلال، ويصارحهم بذلك سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، ويدور عليهم في نواديهم ومجتمعاتهم وقراهم، فاستمر على ذلك نحو ثلاث عشرة سنة، وهم يؤذونه أشد الأذى مع أنه كان قد عاش قبل ذلك أربعين سنة أو فوقها ولا يعرف أن يؤذي؛ إذ كان من قبيلة شريفة، في بيت محترم موقر، ونشأ على أخلاق كريمة احترمه لأجلها الناس ووقروه، ثم كان ذلك على غاية الحياء والغيرة وعزة النفس.(/1)
ومن كانت هذه حاله؛ يشتد عليه غاية الشدة أن يؤذى، ويشق عليه غاية المشقة الإقدام على ما يعرضه لأن يؤذى، ويتأكد ذلك في جنس ذاك الإيذاء: هذا يسخر منه، وهذا يسبه، وهذا يبصق في وجهه، وهذا يحاول أن يضع رجليه على عنقه إذا سجد لربه، وهذا يضع سلى الجزور على ظهره وهو ساجد، وهذا يأخذ بمجامع ثوبه ويخنقه، وهذا ينخس دابته حتى تلقيه، وهذا عمه يتبعه أنى ذهب يؤذيه، ويحذر الناس منه، ويقول : إنه كذاب، وإنه مجنون.
وهؤلاء يغرون به السفهاء، فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دماً، وهؤلاء يحصرونه وعشيرته مدة طويلة في شعب ليموتوا جوعاً، وهؤلاء يعذبون من اتبعه بأنواع العذاب، فمنهم من يضجعونه على الرمل في شدة الرمضاء ويمنعونه الماء، ومنهم من ألقوه على النار حتى ما أطفأها إلا ودك ظهره، ومنهم امرأة عذبوها لترجع عن دينها فلما يئسوا منها طعنها أحدهم بالحربة في فرجها فقتلها.
كل ذلك لا لشئ إلا أنه يدعوهم إلى أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن سخط الله إلى رضوانه، ومن عذابه الخالد إلى نعيمه الدائم، ولم يلتفوا إلى ذلك مع وضوح الحجة، وإنما كان همهم أنه يدعوهم إلى خلاف هواهم .
ومن وجه آخر ابتلى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن قبض أبويه صغيراً، ثم جده ثم عمه الذي كان يحامي عنه، ثم امرأته التي كانت تؤنسه، وتخفف عنه، ثم لم يزل البلاء يتعاهده صلى الله عليه وآله وسلم- وتفصيل هذا يطول- هذا وهو سيد ولد آدم، وأحبهم إلى الله عز وجل .
فتدبر هذا كله؛ لتعلم حق العلم ما نتنافس فيه ونتهالك عليه من نعيم الدنيا وجاهها ليس هو بشئ في جانب رضوان الله والنعيم الدائم في جواره، وأن ما نفرّ منه من بؤس الدنيا ومكارهها ليس هو بشيء في جانب سخط الله، وغضبه والخلود في عذاب جهنم، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ فَيَقُولُ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ] رواه مسلم .
ثالثًا: يفكر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية: فأما المؤمن فإنه يأتي الطاعة راغباً نشيطاً لا يريد إلا وجه الله والدار الآخرة، فإن عرضت له رغبة في الدنيا فإلى الله فيما يرجو معونته على السعي للآخرة، فإن كان ولا بد ففيما يغلب على ظنه أنه لا يثبطه عن السعي للآخرة.
وهو على كل حال متوكل على الله، راغب إليه أن يختار له ما هو خير وأنفع، ثم يباشر الطاعة خاشعاً، مستحضراً أن الله يراه ويرى ما في نفسه، ويأتي بها على الوجه الذي شرعه الله، وهو مع ذلك كما قال الله تعالى:{...يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[60]}[سورة المؤمنون]. فهو يخاف ويخشى أن لا تكون نيته خالصة، وذلك أن النية الصالحة قد تكون من قوي الإيمان، وقد تكون من ضعيفه، الذي إنما يطيع احتياطًا، وقد لا تكون خالصة بل يمازجها رغبة في ثواب الدنيا لأجل الدنيا، أورغبة في الآثار الطبيعية ككسر الشهوة حيث لا يشرع، وكتقوية النفس. وكمنفعة البدن كالذي يصوم ليصح، ويصلي التراويح لينهضم طعامه .
وكحب الترويح عن النفس كالذي يأتي الجمعة ليتفرج، ويلقى أصحابه، ويقف على أخبارهم . وكمراعاة الناس لكي يمدحوه، ويثنوا عليه، فيعظم جاهه، ويصل إلى أغراضه ولا يمقتوه... إلى غير ذلك من المقاصد. كالعالم يريد أن يراه الناس ويعظموه ويستفتوه، فيشتهر علمه ويعظم جاهه، وغير ذلك .
والمؤمن- ولو خلصت نيته في نفس الأمر- لا يستطيع أن يستيقن ذلك من نفسه . والمؤمن يخاف ويخشى أن لا يكون أتى بالطاعة على الوجه المشروع، وهكذا تستمر خشية المؤمن بالنظر إلى طاعاته السالفة، يرجو أن يكون قبلها الله بعفوه وكرمه، ويخشى أن يكون ردت لخلل فيها- وإن لم يشعر به- أو لخلل في أساسها وهو الإيمان .
هذه حال المؤمن في الطاعات، فما عسى أن تكون حاله في المعاصي؟ وقد قال الله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[201]وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ[202]}[سورة الأعراف].(/2)
فالمؤمن يتصارع إيمانه وهواه، فقد يطيف به الشيطان، فيغفله عن قوة إيمانه، فيغلبه هواه فيصرعه، وهو حال مباشرة المعصية ينازع نفسه، فلا تصفوا له لذتها، ثم لا يكاد جنبه يقع على الأرض، حتى يتذكر، فيستعيد قوة إيمانه، فيعض أنامله أسفاً وحزناً على غفلته التي أعان بها عدوه على نفسه، عازماً على أن لا يعود لمثل تلك الغفلة .
وأما إخوان الشياطين، فتمدهم الشياطين في الغي فيمتدون فيه، ويمنونهم الأماني فيقنعون، فمن الأماني أن يقول : الله قدره علي، فما شاء فعل .. قد اختلف العلماء في حرمة هذا الفعل، قد اختلفوا في كونه كبيرة، والصغائر أمرها هين .. لي حسنات كثيرة تغمر هذا الذنب .. لعل الله يغفر لي .. لعل فلاناً يشفع لي .. سوف أتوب !
وأحسن حاله أن يقول: أستغفر الله، ويرى أنه قد تاب ومحي ذنبه، قال الله تعالى:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ...[169]}[سورة الأعراف].
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال:' إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا ' .
رابعًا:يفكر في حاله مع الهوى:
افرض أنه بلغك أن رجلاً سب إمامك، وآخر سب إماماً آخر، أيكون سخطك عليه وسعيك في عقوبته وتأديبه أو التنديد به موافقاً لما يقتضيه الشرع فيكون غضبك على الأول والثاني قريباً من السواء؟
افرض أنك قرأت آية فلاح لك منها موافقة قول لإمامك، وقرأت أخرى فلاح لك منها مخالفة قول آخر له، أيكون نظرك إليهما سواء، لا تبالي أن يتبين منها بعد التدبر صحة ما لاح لك، أوعدم صحته ؟
افرض أنك وقفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما، أحدهما يوافق قولاً لإمامك، والآخر يخالفه، أيكون نظرك فيهما سواء، لا تبالي أن يصح سند كل منهما، أويضعف ؟
افرض أنك نظرت في مسألة قال إمامك قولاً، وخالفه غيره، ألا يكون لك هوى في ترجيح أحد القولين، بل تريد أن تنظر لتعرف الراجح منها فتبين رجحانه؟
افرض أن رجلًا تحبه، وآخر تبغضه تنازعا في قضية، فاستفتيت فيها، ولا تستحضر حكمها، وتريد أن تنظر ألا يكون هواك في موافقة الذي تحبه؟
افرض أنك وعالماً تحبه، وآخر تكرهه أفتى كل منكم في قضية وأطلعت على فتويي صاحبيك فرأيتهما صواباً، ثم بلغك أن عالماً آخر اعترض على واحدة من تلك الفتاوى، وشدد النكير عليها، أتكون حالك واحدة سواء أكانت هي فتواك، أم فتوى صديقك، أم فتوى مكروهك ؟
افرض أنك تعلم من رجل منكراً وتعذر نفسك في عدم الإنكار عليه، ثم بلغك أن عالماً أنكر عليه وشدد النكير، أيكون استحسانك لذلك سواء فيما إذا كان المنكِر صديقك أم عدوك، والمنكَر عليه صديقك أم عدوك ؟
فتش نفسك تجدك مبتلى بمعصية أونقص في الدين، وتجد من تبغضه مبتلى بمعصية أونقص آخر ليس في الشرع بأشد مما أنت مبتلى به؟ فهل تجد إستشناعك ما هو عليه مساوياً لاستشناعك ما أنت عليه، وتجد مقتك نفسك مساوياً لمقتك إياه؟
وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى، ولم يكلف العالم بأن لا يكون له هوى؟ فإن هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالم أن يفتش نفسه عن هواها حتى يعرفه، ثم يحترز منه، ويمعن النظر في الحق من حيث هو حق، فإن بان له أنه مخالف لهواه؛ آثر الحق على هواه .
والعالم قد يقصر في الاحتراس من هواه ويسامح نفسه، فتميل إلى الباطل، فينصره، وهو يتوهم أنه لم يخرج من الحق ولم يعاده، وهذا لا يكاد ينجوا منه إلا المعصوم، وإنما يتفاوت العلماء:
فمنهم: من يكثر الاسترسال مع هواه: ويفحش حتى يقطع من لا يعرف طباع الناس، ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمد.
ومنهم: من يقل ذلك منه ويخف: ومن تتبع كتب المؤلفين الذين لم يسندوا اجتهادهم إلى الكتاب والسنة رأسا؛ً رأى فيها العجب العجاب، ولكنه لا يتبين له إلا في المواضع التي لا يكون له فيها هوى، أو يكون هواه مخالفاً لما في تلك الكتب، على أنه إذا استرسل مع هواه زعم أن موافقيه براء من الهوى، وأن مخالفيه كلهم متبعون للهوى . وقد كان من السلف من يبلغ في الاحتراس من هواه حتى يقع في الخطأ الآخر، كالقاضي يختصم إليه أخوه وعدوه، فيبالغ في الاحتراس حتى يظلم أخاه، وهذا كالذي يمشي في الطريق ويكون عن يمينه مزلة فيتقيها ويتباعد عنها، فيقع في مزلة عن يساره !
خامسًا: يستحضر أنه على فرض أن يكون فيما نشأ عليه باطل، لا يخلو عن أن يكون قد سلف منه تقصير أو لا:(/3)
فعلى الأول: إن استمر على ذلك كان مستمراً على النقص ومصراً عليه، وذلك هو هلاكه، وإن نظر فتبين له الحق، فرجع إليه حاز الكمال، وذهبت عنه معرة النقص السابق، فإن التوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد قال الله تعالى:{...إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[222]}[سورة البقرة]. وفي الحديث: [ كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ] رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد.
وأما الثاني: وهو أن لا يكون قد سبق منه تقصير، فلا يلزمه بما تقدم منه نقص يعاب به البتة، بل المدار على حاله بعد أن ينبه، فإن تدبر وتنبه فعرف الحق فاتبعه فقد فاز، وكذلك إن اشتبه عليه الأمر فاحتاط، وإن أعرض ونفر؛ فذلك هو الهلاك .
سادسًا: يستحضر أن الذي يُهمه، ويُسأل عنه هو حاله في نفسه: فلا يضره عند الله، ولا عند أهل العلم والدين والعقل أن يكون معلمه، أو مربيه، أو أسلافه، أو أشياخه على نقص، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يسلموا من هذا، وأفضل هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورضى عنهم، وكان آباؤهم وأسلافهم مشركين . هذا مع احتمال أن يكون أسلافك معذورين إذا لم ينبهوا، ولم تقم عليهم الحجة .
وعلى فرض أن أسلافك كانوا على خطأ يؤاخذون به فاتباعك لهم وتعصبك لا ينفعهم شيئاً، بل يضرهم ضرراً شديداً، فإنه يلحقهم مثل إثمك، ومثل إثم من يتبعك من أولادك وأتباعك إلى يوم القيامة، كما يلحقك مع إثمك مثل إثم من يتبعك إلى يوم القيامة، أفلا ترى أن رجوعك إلى الحق هو خير لأسلافك على كل حال؟
سابعًا: يتدبر ما يُرجى لمؤثر الحق من رضوان رب العالمين، وحسن عنايته في الدنيا، والفوز العظيم الدائم في الآخرة، وما يستحقه متبع الهوى من سخطه عز وجل، والمقت في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة: وهل يرضى عاقل لنفسه أن يشتري لذة اتباع هواه بفوات حسن عناية رب العالمين، وحرمان رضوانه، والقرب منه، والزلفى عنده، والنعيم العظيم في جواره، وباستحقاق مقته وعذابه الأليم؟
لا ينبغي أن يقع هذا حتى من أقل الناس عقلاً، سواء أكان مؤمناً موقناً بهذه النتيجة، أم ظاناً لها، أم شاكاً فيها، أم ظاناً لعدمها، فإن هذين يحتاطان، وكما أن ذلك الاشتراء متحقق ممن يعرف أنه متبع هواه، فكذلك من يسامح نفسه، فلا يناقشها ولا يحتاط .
ثامنًا: يأخذ نفسه بخلاف هواها فيما يتبين له: فلا يسامحها في ترك واجب، أو ما يقرب منه، ولا في ارتكاب معصية، أوما يقرب منها، ولا في هجوم على مشتبه، ويروضها على التثبت والخضوع للحق، ويشدد عليها في ذلك حتى يصير الخضوع للحق ومخالفة الهوى عادة له .
تاسعًا: يأخذ نفسه بالاحتياط فيما يخالف ما نشأ عليه: فإذا كان فيما نشأ عليه أشياء يرى أنه لا بأس بها، أو أنها مستحبة، وعلم أن من أهل العلم من يقول إنها شرك، أو بدعة، أو حرام، فيأخذ نفسه بتركها حتى يتبين له بالحجج الواضحة صحة ما نشأ عليه، وهكذا ينبغي له أن ينصح غيره ممن هو في مثل حاله، فإن وجدت نفسك تأبى ذلك، فأعلم أن الهوى مستحوذ عليها، فجاهدها .
واعلم أن ثبوت هذا القدر على المكلف أعنى أن يثبت عنده أن ما يدعى إليه أحوط مما هو عليه كاف في قيام الحجة عند الله عز وجل، وبذلك قامت الحجة على أكثر الكفار، فمن ذلك:
المشركون من العرب، لم يكن في دينهم الذي كانوا عليه تصديق بالآخرة، وإنما يدعون آلهتهم ويعبدونها للأغراض الدنيوية، مع علمهم أن مالك الضر والنفع هو الله وحده، ولذلك كانوا إذا وقعوا في شدة دعوا الله وحده، قال تعالى:{ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...[32]}[سورة لقمان].
وكانوا يرون من هو على خلاف دينهم لا يظهر تفاوت بينه وبينهم في أحوال الدنيا، وعرفوا فيمن أسلم مثل ذلك، ثم عرض عليهم الإسلام، وعرفوا على الأقل أنه يمكن أن يكون حقاً، وأنه إن كان حقاً ولم يتبعوه تعرضوا للمضار الدنيوية، وللخسران الأبدي في الآخرة، فلزمهم في هذه الحال أن يسلموا؛ لأنه إن كان الأمر كما بدا لهم من صحة الإسلام، فقد أخذوا منه بنصيب، وإلا فتركهم لما كانوا عليه لا يضرهم كما لا يتضرر من خالفهم، فلم يمنعهم من الإسلام إلا إتباع الهوى .
قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ[26]}[سورة فصلت] . وقال تعالى:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ[52]}[سورة فصلت]. وقال تعالى:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[10]}[سورة الأحقاف].(/4)
وتكذيبهم للحق وإعراضهم عنه بعد أن قامت الحجة عليهم بأن تصديقه واتباعه أحوط لهم وأقرب إلى النجاة؛ ظلم شديد منهم استحقوا به أن لا يهديهم الله إلى استيقان أنه حق، وهذا كما في قصة نوح، وقال تعالى:{...وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ[101]}[سورة الأعراف] . ونحوها في سورة يونس: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ[74]}. وقال عز وجل:{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ[109]وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ[110]}[سورة الأنعام]. وفي [تفسير ابن جرير7 / 194]: '...عن ابن عباس قوله : {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ}... قال:' لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شئ وردت عن كل أمر'.
عاشرًا: يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات: فإنه إذا تم له ذلك؛ هان عليه الخطب، فإنه لا يأتيه من معدن الحق إلا الحق، فلا يحتاج إن كان راغباً في الحق، قانعاً به إلى الإعراض عن شئ جاء من معدن الحق، ولا إلى أن يتعرض لشيء جاء من معدن الشبهات، لكن أهل الأهواء قد حاولوا التشبيه والتمويه، فالواجب على الراغب في الحق أن لا ينظر إلى ما يجيئه من معدن الحق من وراء زجاجاتهم الملونة، بل ينظر إليه كما كان ينظر إليه أهل الحق . والله الموفق .
من:'القائد إلى تصحيح العقائد' وهو القسم الرابع من كتاب:' التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل'
للعلامة الشيخ/عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله(/5)
أمي .. لقد كبرت!!
'أمي أنا لست صغيرة ... هناك فرق بيني وبين اخوتي ... لا بد أن يحترمني الصغار ... أسعد جدًا عندما تأخذي رأيي في بعض الأمور المتعلقة بالبيت والأسرة ... لقد كبرت وإن شاء الله سأكون على قدر المسئولية...'هذه فتاتي تتساءل ... وتحكي لي ما يدور بخلدها .. وهي في ذلك تشرح لي دون أن تشعر ودون أن أشعر أنا بحاجاتها النفسية والاجتماعية لهذه المرحلة العمرية التي تمر بها.فلقد أصبحت الآن تتصف بالتميز المعرفي والعقلي، وهي قادرة على التفكير المعنوي، واستخدام الرموز، والفهم الزمني، وهي قادرة على تصور الأشياء قبل حدوثها، وبسبب كل ذلك تكون قادرة على تحمل المسئولية.والناحية العضوية تلح على الفتاه للاستقلال وتحمل المسئولية فطول الجسم والوزن والشكل يؤذن بتحولها من الطفولة إلى الأنوثة وكأنها تبحث عن دور جديد، إنها تستعد للمسئوليات والمهمات، وتبحث عن الذات وعن القيمة وعن الوظيفة التي ينبغي أن تقوم بها في الأسرة وفي المجتمع.وإذا كان الخالق تبارك وتعالى قد كلفها وائتمنها على الصلاة والصيام والحج وهي أعظم العبادات، وعلى الصدق والأمانة والبر وغيرها وهو محاسبها على ذلك. فلماذا لا يأتمنها الأب والأم على بعض وجوه الصرف المالي، والمهمات الأسرية والمسئوليات الاجتماعية والمواقع القيادية.إن الفتاة المراهقة تبحث عن الاستقلال والحرية والاعتماد على النفس، لكنها في الوقت نفسه تشعر بالحاجة إلى رعاية الأبوين، وتحرص على ألا تحرم من توجيههم، فكلما أتاح الأبوان للأبناء فرصًا أكثر للمرور في تجارب الحياة العملية كلما كان عود الأبناء أسرع صلابة وأحسن إحكامًا عندما يواجهون بأنفسهم هذه الحياة، دون رقيب من الأبوين ودون معين منهما.ولا نغفل هذه القاعدة التربوية عند التعامل مع المراهق فتى كان أو فتاة وهي: حزم في غير شدة، وتسامح من غير غفلة، وثقة من غير إفراط.التوازن بين الأساليب التربوية المختلفة أهم ما يحتاج إليه المربي.إن تحمل المسئوليات المختلفة هو أفضل وسيلة لبلورة الشخصية، ولدى أبنائنا طاقات كبيرة وقدرات فائق، فمن خلال الاهتمام والممارسة يكتشف المرء ذاته ويثق بها، كما يكتشف نقاط الضعف فيها، ولكن مشكلتنا في بيئتنا العربية أننا دائمًا نرى أبناءنا صغارًا مهما كبرت أجسامهم، ونراهم غير قادرين على تحمل مسئولياتهم حتى المسئوليات الشخصية، ومن المؤسف أننا نخطط لأبنائنا حياتهم منذ الصغر فنختار لهم ما يلبسون وما يأكلون وما يشربون، ونختار لهم من يصادقون [وإن كان هذا ضروريًا في سن المراهقة]، ونرتب لهم أماكن النوم واللعب والأدراج حتى إننا نذاكر عنهم، وتكون النتيجة الاعتماد على الدروس الخصوصية والاتكالية ـ وبالتالي نعطل نمو أبنائنا نموًا سليمًا, فلا يقدرون على حمل أعباء الحياة، إننا بذلك نغفل قدرات الأبناء على تحمل المسئولية, ونقتل بأيدينا مبادرتهم الفردية وتحملهم الأعباء مع أنهم قادرون على المبادأة وعلى الفعل.. ولكن الصبر عليهم وتعليمهم هو بداية الطريق إلى الكمال الذي ننشده.وهنا أسأل نفسي كيف أنمي الاتجاه لتحمل المسئولية لدى فتاتي؟مجالات تهيئة الفتاة لتحمل المسئولية هي:1ـ أسلوب المعاملة.2ـ المشاركة الأسرية.3ـ المشاركة الاجتماعية.[1] أسلوب المعاملة:لا بد أن تحاول الأم معاملة ابنتها على أنها صديقة لها، فقد أجمعت اتجاهات طب النفس أن الأذن المصغية في تلك السن هي الحل لمشكلاتها بإيجاد خطين متوازيين من الاعتماد على النفس مع الاندماج معها، والخروج عن زي النصح والتوجيه والأمر إلى زي الصداقة واستخدام أسلوب الحوار والمناقشة وطرح الآراء في المجالس.وأيضا مشاورة الفتاة في المناسبات المتعلقة بالأسرة أو المدرسة، وتعويدها على اتخاذ القرار، ومنحها الحرية في اختيار ملابسها وشرائها في إطار المعقول والمعروف.ـ وأيضًا يمكن تخصيص مبلغ شهري أو أسبوعي لمصروفها.ـ غرس روح المسئولية, وذلك من خلال تحديد خطوط عامة ينبغي عليها اتباعها والسير في نطاقها، ثم تترك لها حرية الإبداع بعد ذلك مع المراقبة عن بعد.ـ يجب أن أتدرج بابنتي وأعطى لها الفرصة سانحة للتعلم والاستفادة من الأخطاء وإشعارها أنها ستكون عند حسن ظني، فالخوف المفرط على الفتاة يشل حركتها ويعطل قدراتها وإمكانياتها،، ولكن يمكن تمكينها من الانطلاق والحركة تحت إشرافي ورقابتي مع بيان أن الجميع عرضة للخطأ والصواب.[2] المشاركة الأسرية:وللمشاركة الأسرية وجوه مختلفة منها:ـ قضاء بعض حاجيات الأسرة التي تستطيع شراءها وإنجازها، وهذا يساعد على زيادة ثقتها الاجتماعية وتنمية شخصيتها.ـ المشاركة في تنظيف المنزل وتنسيق حديقته ووضع بصماتها وشخصيتها في ترتيب الأثاث والمفارش ولمسات الجمال. حتى في وجود الخادمة نفسح للفتاة المجال للمشاركة لكي لا تصبح اتكالية وتكون قادرة على تحمل أعباء الحياة عندما تكبر.ـ كما يمكن أن تكلف الفتاة برعاية الأخ الأصغر ـ إن وجد ـ أثناء غياب(/1)
الأم، ورعاية المنزل كذلك، مما يكون له أكبر الأثر على استشعار معنى المسئولية.ـ تجهيز بعض الوجبات الخفيفة تحت إشراف الأم لتعويد الفتاة على تحمل هذه المسئولية في حال غياب الأم، أو في حال حدوث ظرف أو طارئ للأسرة.[3] المشاركة الاجتماعية:1ـ عن طريق الدعوة إلى الله لكل من حولها، مما يغرس بداخلها روح المسئولية والقيادة.2ـ القيام بالأعمال التطوعية كمساعدة الفقراء والمحتاجين، وكذلك مساعدة الزملاء أو الأقارب، أو زيارة مريض.3ـ تقوية الإرادة لديها من خلال تدريبها على حفظ الأسرار.4ـ يمكن تكليف الفتاة ببعض الأعمال الثقافية مثل تلخيص كتاب أو حفظ أبيات من الشعر. وهذه اقتراحات متواضعة بجهد متواضع وعلينا أن نجتهد ونضيف إليها، فعملية التربية هي مزج بين عنصرين: عنصر حب ومراعاة مشاعر وتلبية بعض الرغبات، وعنصر التوجيه والمتابعة والرقابة ولا ننسى الصداقة بيننا وبين بناتنا، فلا نعيب بعد ذلك على الفتيات وعدم تحملهن المسئولية مع الأمهات يقول الشاعر:نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سواناولا ننسى في هذا المقام أن خير البشرية ومعلمها وقائدنا وقدوتنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رعى الغنم وهو ابن ثمان سنين .. وكذلك الصحابة والمسلمون الأوائل قادوا العالم وحكموا مشارق الأرض ومغاربها لأنهم تربوا على تحمل المسئولية وهم صغار فكانوا قادة وهم كبار.(/2)
________________________________________
أمي هل نحن صديقات؟.. الصداقة بين الأم والفتاة [1]
رسالة من فتاة إلى والدتها: لماذا يا أمي..؟
آه يا أمي: كم تمنيتك بجواري ..
كم تمنيت يديك الدافئتين تمسحان دموعي ..
كم وددت مرة أن أشكو إليك همومي ..
أن أحدثك عن زميلاتي ومواقفي ..
هل تعلمين أنني أحيانًا أود أن تكوني كأم صديقتي؟
أي تكونين الأم والصديقة.
لماذا لا تشعرين بي؟
هل أنا ابنتك فعلاً؟
بدأت أشك في حبك لي، وإلا فلماذا هذا التجاهل الذي ألقاه منك؟
لماذا تدفعيني لأن أبحث عن الحنان والحب والاهتمام خارج البيت؟
أمي أود أن تعلمي أن حنانك لا يستطيع أحد في هذا الكون أن يمنحه لي فأرجوك يا أمي ..
أرجوك أن تشعري بوجودي وباحتياجاتي أرجوك أن تفهمين.
عزيزتي الأم القارئة:
إن الفتاة في مرحلة المراهقة تحتاج إلى والديها [وخاصة الأم] أكثر من أي وقت مضى تحتاج إلى الحب والاهتمام، تحتاج إلى أذن تسمعها لتثبت لها همومها ومشاعرها خاصة وأن هذه المرحلة لها أهميها في تكوين شخصية الإنسان، والأهم من ذلك أن هذه المرحلة قد يتبرعم فيها المرض النفسي وخصوصًا مرض الفصام، وأي مرض من الأمراض النفسية المعروفة كالقلق والخوف والاكتئاب وغير ذلك.
ـ لقد أكدت الدراسات التربوية الحديثة ضرورة وجود الأمهات في المنزل لاستقبال الأبناء من المراهقين عند العودة من المدرسة، وكذلك في وقت الغذاء وعند النوم.وأنا أعرف فتاة تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا لا تنام إلا بعد أن تقبلها أمها في سريرها. عندها تنام هادئة قريرة العين.
إن جيل المفاتيح يعاني ما يعاني من الآثار النفسية السيئة لغياب الوالدين، وأقصد بجيل المفاتيح هو أن كل فرد من أفراد الأسرة مهما كان عمره معه مفتاح يرجع إلى البيت يفتح الباب ويدخل لا يستقبله أحد ولا يسأل عنه أحد، لأن الوالدين في العمل ولا يوجد وقت للأولاد.
يقول الدكتور عبد الحميد هاشم أستاذ الطب النفسي جامعة القاهرة:
إن الأبحاث العالمية أظهرت أن عدم تخصيص وقت معين يوميًا والتفرغ للأبناء يوميًا أو يومين في الأسبوع لتقويم سلوكياتهم ومتابعة أداؤهم الدراسي نتيجة لانشغال الأبوين بالفعل، لم يكن يشبع الحاجات الوجدانية للأبناء، بل كان يولد لديهم المشاعر العدوانية والرفض تجاه الوالدين.
هنا بدأت الدارسات تنصح باستخدام سياسة مختلفة تعتمد على المراقبة والمتابعة اليومية للمراهقين بحيث يكون لدى الأم والأب الوقت والمساحة النفسية للقاء الأبناء بشكل شبه يومي، وبدأت الأمهات تتخلى عن نظام العمل ليوم كامل لتكون لديهم سعة من الوقت وقدرة نفسية للقيام بالجهد المطلوب لرعاية ومتابعة تغيرات فترة المراهقة.
عزيزتي القارئة:
بداية نؤكد على دور الأسرة الهام في تحقيق الصحة النفسية للأبناء ونموهم نموًا سويًا. فما معنى الأسرة على علم النفس؟
الأسرة هي جماعة اجتماعية تتكون من مجموعة من الأفراد [الأب والأم وواحد أو أكثر من الأطفال] وهؤلاء يرتبطون برباط الدم والقرابة، والأسرة هي البيئة الأولى التي ينشأ فيها الإنسان ويحدث بين أفرادها تفاعل وارتباط كما أن الأسرة هي المسئول الأول عن صحة الإنسان الجسمية والنفسية.
وهنا أخص الأم بحديثي لأن الأم لها وظيفة هامة في عملية التربية، ولا يستطيع الأب أن يسد مكان الأم ودورها النفسي والحيوي في البيت. فضلاً عن وجود الأم مع أولادها وقتًا أكبر من الرجل فهي موضع أسرارهم ومصدر الحب والحنان والأمن النفسي لأولادها.
ـ وقد شغلتني هذه التصريحات من بعض الفتيات فواحدة تقول: أمي لا تفهمني وتتدخل في حياتي .. ملابسي .. صديقاتي .. تخصصي .. ولا أستطيع أن أصارحها بما يدور في ذهني.
وأخرى تقول: أفضل صديقتي على أمي لأنها أكثر قربًا وتفهمًا لي من أمي.
وهذه تقول: ليتها تكون صندوقًا لحياتي وأسراري.
وهذه تشكو: أمي عصبية دائمًا فلا أستطيع أن أصارحها أو أناقشها في أي شيء.
وغيرها تقول: أمي بعيدة عني ولا أشعر نحوها بأي مشاعر. فلا تتقرب إلي ولا أجد منه أذن للاستماع لي.
وهكذا نخلص من هذه العبارات أن الفتيات دائمًا يتهمن الأمهات بعدم قيامهن بدورهن الكامل تجاه بناتهن وعدم تفهم الأم لطبيعة المرحلة التي تمر بها ابنتها.
وهنا نقف ونتساءل هل يرجع عدم الفهم إلى فارق السن بين الأم وابنتها ؟
أم إهمال الأم للابنة وعدم الاستماع لمشاكلها ومشاعرها ؟
أم الصورة المثالية المرسومة لدى الأم عن ابنتها ؟
أم عدم فهم طبيعة مرحلة المراهقة وما تحمل في طياتها من حاجات وتغيرات ؟
ونحن نقول أنه مهما كانت أسباب عدم الفهم فنحن ندعو كل أم وكل فتاة لمتابعة هذا الملف والذي هو عبارة عن دعوة لإقامة الصداقة بين الأم والفتاة لأن هذه الصداقة تعود بالهدوء والاستقرار على الأسرة إلى جانب أنها تحقق الصحة النفسية لكلا الطرفين. لأن ضعف علاقة الأم بابنتها يدفع الابنة للبحث عن البديل أو التعلق برفقة السوء أو إقامة علاقة مع الجنس الآخر.(/1)
عزيزتي الأم الصديقة لابنتها:
قبل أن نغوص في هذا الملف علينا أولاً أن نفهم معنى الصداقة عند الفتاة المراهقة وهذا وفقًا لما جاء في كتب علم النفس:
الصداقة في المراهقة هي جزء من عواطف المراهق وهي عبارة عن توجيه مشاعر المحبة والحنان والوفاء والإخلاص صوب شخص واحد يعتبر بمثابة المرآة للذات حيث يبوح المراهق لصديقه بأسراره ويبثه همومه وشجونه ويتقاسم وإياه الأحزان والمسرات ومن هذا التعريف نستخلص الآتي:
1ـ أن علاقة الصداقة تتميز بالمشاركة المتبادلة.
2ـ هناك ارتباط بين الصداقة والعاطفة.
والعاطفة تختلف من بيت إلى آخر حيث تتزايد وتتناقص، وتزداد عندما يشعر المراهق بأنه محبوب وأنه ذو شخصية مرضية، إن العاطفة في البيئات المنزلية الصالحة عبارة عن شعور متزن متبادل يظهر دائمًا في كل المواقف الاجتماعية.
إن توفير علاقة الصداقة بين المراهق ووالديه يزيد من معرفة الآباء والأمهات بأبنائهم وبناتهم فتستطيع كل الأسرة أن تستمتع بالاشتراك في عمل الأشياء المشتركة.
وإلى الأم والفتاة أقول إن للصداقة مهارات تكسر حاجز الخلافات من هذه المهارات:
1ـ التعبير عن الحب والاهتمام.
2ـ عرض المساعدة وتقديمها.
3ـ المداعبة والمشاركة في النشاطات السارة.
4ـ التجمل سواء في المظهر الخارجي أو في الكلام.
5 ـ محاولة فهم الطرف الآخر.
ومن هذه النهاية ستكون البداية من الأم الصديقة لفهم شخصية الصديقة الابنة
فإلى المقال التالي عزيزتي الأم والذي هو بعنوان أمي 'افهميني'.(/2)
أميركا تنهي التخطيط للحملة الصليبية الرابعة على المسلمين والتنفيذ أصبح وشيكاً
يثار حديث من وقت لآخر، في الأوساط السياسية العالمية، والأمم المتحدة عن انسحاب أميركا من أفغانستان والعراق، لكن أميركا لم تحتلهما لتنسحب منهما، بل لتسحب أهدافها على غيرهما، ولم تعد أهدافها خافية على من عنده شيء من وعي، مهما حاولت أن تخفيها، وتتلخص أهدافها بما يلي:
ــــــــــ
1. الحيلولة دون قيام دولة الخلافة الراشدة الثانية، في أقطار العالم الاسلامي، والتي ستحل مكانها كدولة أولى في العالم، ومن ثم تقضي عليها.
2. إضعاف أقطار العالم الإسلامي عسكرياً واقتصادياً وفكرياً.
3. نهب ثروات أقطار العالم الاسلامي كلها، وإفقار أهلها.
4. تحويل ولاءات الأقطار العميلة لغيرها؛ لتصبح عميلة لها مثل ليبيا وماليزيا.
5. القضاء على كل الحركات الإسلامية التي تقاوم أميركا عسكرياً أو فكرياً.
6. نشر المبدأ الرأسمالي في بلاد المسلمين.
وهي، بذلك، تسير لتحقيق هذه الأهداف جميعها معاً، وفي ضربة واحدة، ولا يهمها خسارتها طالما يسمح لها الوضع بالصمود؛ لأن هذه الأهداف حيوية جداً بالنسبة لها. فبعد أكذوبة أسلحة الدمار الشامل في العراق، وما تحقق لها من احتلاله، تريد متابعة السير، فبدأت بإثارة قضية العالم الباكستاني النووي عبدالقدير خان، بأنه قام بتسريب تكنولوجيا، ومعلومات نووية، إلى كل من إيران، وليبيا، وكوريا الشمالية، وماليزيا، وحتى دبي. وبدأت بنشر ذلك في وسائل الإعلام وتضخيمه، حتى أوعزت إلى عميلها مشرف، بأن يأمر عبد القدير خان بالاعتراف بذلك علنا أمام وسائل الإعلام، ومن ثم سيصفح عنه مقابل ذلك، حيث قام خان بتنفيذ ما طلب منه، ومن المعلوم أن أميركا هي التي طورت التكنولوجيا النووية المحدودة في الباكستان، وهي التي دربت خان على ذلك.
والملاحظ أيضا أن المقصود دوما في أسلحة الدمار الشامل، "والإرهاب"، هم أقطار العالم الاسلامي، فلا (إسرائيل) ولا الهند، ولا أميركا، ولا حتى كوريا الشمالية، مقصود بذلك. والسبب أن أميركا تريد أن يكون ذلك مقدمة، ومبرراً لعمل عسكري على الهدف التالي، في بلاد المسلمين.
وقد بدا ذلك جلياً في تصريحات بوش يوم الاربعاء 11/2/2004، عندما تناول في خطابه نقل معلومات وأسرار نووية، عن طريق العالم الباكستاني عبد القديرخان، إلى كل من ليبيا، وإيران، وكوريا الشمالية، وماليزيا، والإمارات العربية، حيث بيّن صراحة أن أميركا سوف تمارس سياسة جديدة، تقوم على تفتيش السفن في المنطقة، بحثاً عن هذه التكنولوجيا أو الأسلحة لكي لا تقع في أيدي "الإرهابيين" وذلك من أجل حماية العالم الحر.
إذاً فالحملة الصليبية الرابعة تكمن في أعمال قرصنة للسفن، والطائرات، ووسائل النقل، وما شابه ذلك من إجراءات وأعمال تقوم بها أميركا وبريطانيا في بلاد المسلمين، بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل، وكذلك إخضاع إيران وليبيا وماليزيا وربما الإمارات العربية، لتفتيش طويل ومركّز، يشبه كثيراً ما كان يمارس في العراق قبل احتلاله، كل ذلك ليكون مقدمة للحملة الصليبية الخامسة، والتي ستكون إعلان حرب على إحدى هذه الفرائس.
فإلى متى سيبقى أهل القوة والمنعة، من أبناء الأمة الإسلامية، يغطون في سبات؟! إلى متى سيظلون ساكتين على حكامهم، الذين يمسكون رقاب الناس يذيقونهم ألوان الذل والهوان، كما يأمرهم بذلك أسيادهم الأميركيون والأوروبيون؟! ألا يرون أن هذه الرؤوس قد أينعت وحان قطافها؟ أليس كل ما حدث غير كاف لتحريك نخوة المعتصم في نفوسهم؟ ألا يريدون الشرف الرفيع، أمام العالم أجمع في الدنيا، والثواب العظيم من الله تعالى في الآخرة؟ ألا يرون أن جل الأمة معهم، وستدعمهم، وستضحي بالغالي والنفيس في سبيل اعلاء كلمة الله؟ ألا يرون أن الأمة تمتلك المبدأ الصحيح وعندها مد ديمغرافي كبير، وموقع استراتيجي، وثروة طائلة، ما يجعلها الدولة الأولى في العالم؟ ألا يرون فوق ذلك كله أن الله معنا ولن يضيعنا؟ ألم يقرأوا قوله تعالى: { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } .
{ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(/1)
أمَّتنا ... وكتَّاب الأرائك !!
خباب مروان الحمد*
في مجتمعاتنا الدعويَّة أو الفكريَّة ، وفي كثير من الكتب أو المقالات أو المحاضرات والمؤتمرات ، يُحْسِنُ بعض المثقفين والمفكرين ـ نحسبهم ممَّن يحملون همَّ الدعوة والعمل الإسلامي ـ يحسنون تشخيص الداء ، ووصف الخطر الداهم على الأمَّة المسلمة ، ومن ثمَّ يخرجون بمجموعة طلبات وتوصيات ، ونصائح يقترحونها للمخاطبين أو المتلقين.
ولا ريب أنَّ ذلك أمر مهم وجدير بالعرض والدراسة ؛ ذلك أنَّ كثيراً من المواقف والأعمال ، تستفيد من تلك الكتب والمقالات والخطب والكلمات، التي تنشأ بعدها ردود ومواقف تكون ظاهرة ملموسة في الواقع الإسلامي، بسبب الأخذ والنهل من تلك التوصيات والاقتراحات ! وقد قيل :
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ** هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ **بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ
وَلَرُبّما طَعَنَ الفَتى أقْرَانَهُ بالرّأيِ** قَبْلَ تَطَاعُنِ الأقرانِ
لَوْلا العُقولُ لكانَ أدنَى ضَيغَمٍ **أدنَى إلى شَرَفٍ مِنَ الإنْسَانِ
ولكنَّ المتابع لبعض المثقَّفين يرى أنَّ طروحاتهم الفكريَّة ، على طريقة الخطاب "الينبغاوي" فيخرج الخطاب أو الكتاب أو المقال بعدَّة توصيات في عدَّة كلمات من قبيل: (ينبغي ) أو ( يجب ) أو (المتحتِّم) أو ( يلزم ) أو ( لا بدَّ ) فإذا ما فتَّشت عن مسار ذلك الذي ( يجب ) و( يلزم ) و( يتحتم) وأين دوره في مسار الدعاة والمفكرين ، ومن الذي طبَّق تلك المتحتِّمات والواجبات واللوازم ممَّن قال بذلك ، وأوصى به ؛ فستجدهم كما قيل : أندر من بيض الأنوق ! [ الأنوق : طائر نادر قلَّ أن يوجد ، فإذا كان هو نادراً فإنَّ بيضه أندر منه بقياس الأولى ]
إنَّ بعضاًَ من المقالات والخطب والكتب ، تنجح في التوصيف الدقيق لتلكم الأخطاء أو الممارسات المنتقدة في الواقع الإسلامي ، إلاَّ أنَّه ينقصها النظرة التربويَّة التي تعنى بدراسة أي الحلول الأفضل ، وأي الواجبات الأنسب ، وكيف تستثمر وتجري في قنطرة العمل، ومسار الحركة الإسلاميَّة ؟ وما الطريقة المثلى لحلِّ تلك الأخطاء والممارسات ؟ وكما قال الآخر :
مالم تقم بالعبء أنت ** فمن يقوم به إذن
كم قلتَ : أمراض البلاد ** وأنت من أمراضها
والشؤم علَّتها فهل ** فتَّشت عن أعراضها ؟
إنَّ كثيراً من المثقَّفين والدعاة ـ في تقديري ـ لا ينقصهم الوعي بقدر ما ينقصهم امتلاك الإرادة، والعزيمة والإصرار في تحويل المكتوب في القرطاس إلى واقع حي ، فنحن بحاجة إلى أن نفعل ما نقول وما نكتب، فما احترق لسان بقوله نار ، وما اغتنى إنسان بقوله ألف دينار، والحلول التي كتبها كثير منا في الإصلاح ، ومواجهة الأعداء صحيحة، لكنَّها عملياً ليست ملموسة في أرض الواقع !.
إنَّ داء الكلام والتنظير بلا عمل وتطبيق ، أمر قدْ حذَّر الله منه ومقت فاعليه قائلاً في محكم التنزيل [ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون]الصف[2] ولهذا فلا يستغرب أن تجد أنَّ أكثر من يكثر الكلام لا يحسن إلا ذلك، وليس لديه تجاه تلك النوازل إلاَّ الكلام والمقال ، وصدق الحسن البصري إذ قال :[ إنَّ هؤلاء مَلُّوا العبادة ووجدوا الكلام أسهل عليهم وقلَّ ورعهم فتحدثوا] وقال الأوزاعي: [ إنَّ المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيراً وإنَّ المنافق يتكلم كثيراً ويعمل قليلاً] وما أحسن ما قاله عثمان بن عفَّان- رضي الله عنه- موصياً قوماً لقيهم : [أنتم إلى إمام فعَّال؛أحوج منكم إلى إمام قوَّال].
وعليه فما أحسن الخطاب إذا كان مذيَّلاً بعرض المشكلة ! وتقديم علاجها الناجع، ومصلها النافع الذي يرسم طريق النهضة الإصلاحيَّة بنظرة واقعيَّة عمليَّة، ومن ثمَّ الربط بين ذلك وبين من يبتدئ التنفيذ و التخطيط ، مع الإشراف على تلك البرامج ، أمَّا أن نبقى نكرِّر ونعيد المشكلة وخطر المشكلة ، من دون رسم لحلولها ، والبدء للشروع في تطبيقها ، فإنَّ هذا الخلل ـ في ظنِّي ـ من الضروري بمكان أن يعاد النظر في آليته ، حتى لا نكون جزءاً من المشكلة ، فالأفضل أن نخرج من هذه البوتقة الضيِّقة إلى الدائرة الأوسع؛ دائرة الحلول العمليَّة الواقعيَّة.
إنَّ دور ووظيفة روَّاد الإصلاح ، وقادة النهضة التوعويَّة من العلماء والمفكرين والدعاة ، إبرازُ المشكلة ومآسيها ، بالتزامن مع عرض السبل الصحيحة المبرِزة للحلول والعلاجات المفيدة لهذه الأمَّة الإسلاميَّة المنكوبة.
إنَّ أمَّتنا اليوم تعاني في الحقيقة من قلَّة وجود المنظِّرين والمفكِّرين العاملين في الواقع، والمتميِّزين في إيقاظ الهمم بالطرق العمليَّة ، وبالنماذج الباذلة لنفسها، وغير المتقوقعة حول كينونتها.(/1)
إنَّ من المفيد والجيِّد أن نقرأ تجارب الدعاة والمفكرين العملييِّن الأقدمين والمعاصرين ، ولعلِّي أقتصر بالتمثيل على تجربة الإمام عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ حيث باشر بن باديس تأسيس المدارس و تولّى بنفسه مهمة التعليم ، و ركزّ على تعلم الكبار بفتح مدارس خاصة بهم لمحو الأمية ، كما اهتم بالمرأة من خلال المطالبة بتعليم الفتيات إذ أنشأ أول مدرسة خاصة للبنات بقسنطينة سنة 1918 ، واعتبر تعليم المرأة من شروط نهضة المجتمع لكن تعليم المرأة لا يعني تجاوز التقاليد و الأخلاق الإسلامية ، ومن ثمَّ فقد وسع بن باديس نشاطه ليفتتح عدة مدارس في جهات مختلفة من الوطن بالتعاون مع عدد من شيوخ الإصلاح أمثال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي و غيره ، كما ساهم في فتح النوادي الثقافية مثل نادي الترقي بالعاصمة الإصلاح ؟
حتى لا أعرض مشكلة بمشكلة...!
حتى لا يكون كلامي ـ كذلك ـ تنظيريَّاً فإنَّ هناك عدَّة مقترحات لعلَّها تكون مسهمة في التأكيد على الحذر من الإبقاء على طريقة الواجبات والمتحتِّمات و اللوزام القطعيات ، وأهميَّة بناء سواعد العمل ، وفتح آفاق للعمل الجاد وبناء أسس التطبيق :
1ـ المخالطة للناس والشعور بشعورهم ومعايشة أوضاعهم ، وهذا من سنن الأنبياء والمرسلين ، ولهذا فقد ظنَّ مشركو قريش أنَّ الرسول يكون متقوقعاً على نفسه ، منكفئاً على ذاته، ولهذا فقد استغربوا معايشته لوضع الناس وأحوالهم ، بله الدخول في أماكن بيعهم وشرائهم :(وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) الفرقان(7) ولهذا فمن صفة الرجل الذي يسعى لبناء منهج تغييري رصين ، أن يسند قوله بعمله ، وكلامه بتطبيقه ، وإلزامه للناس بالأسبقيَّة لهم بالفعل والفعال .
2ـ تفعيل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والانخراط في واقع الناس والجماهير العريضة في الأمَّة الإسلاميَّة ، وتوجيههم وخدمتهم والسعي في مصالحهم وما هم بحاجة إليه ، وقد جاء في الحديث :( لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا) أخرجه الطبراني وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع برقم(176).
3ـ إن استطاع الداعية والمفكِّر أن يصنع موقفاً يمكن أن يعالج به مشكلة تعترض الجماهير أو العامَّة ، بصنع موقف إيجابي ، وتحويل الحدث المأساوي إلى صياغة عمليَّة موفَّقة فإنَّ هذا سبيل مهم ، ودليل على التربية بالموقف والقدوة الفعَّالة ، وقد سلكه رسول الهدى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فقد قال : " لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به عن الناس : خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ، ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى" أخرجه مسلم.
وحين جاءه رجل يطلب منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مالاً ويشكو إليه داء الفقر وقلَّة ذات اليد ، صنع عليه السلام موقفاً إيجابيا ، وحوَّل فيه النقمة إلى نعمة ، فعن أنس بن مالك أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- يسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى:حِلْس (الحلس : كساء يوضع على ظهر البعير أو يفرش في البيت تحت حر الثياب). نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب (والقعب: القدح - الإناء). نشرب فيه الماء. قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، وقال: من يزيد على درهم؟ -مرتين أو ثلاثًا- قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعامًا وانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا فائتني به، فشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عودًا بيده ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يومًا فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشر دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا وببعضها طعامًا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع (والفقر المدقع: الشديد، وأصله من الدقعاء وهو التراب، ومعناه: الفقر الذي يفضي به إلى التراب، أي لا يكون عنده ما يتقي به التراب)، أو لذي غرم مفظع (والغرم المفظع: أن تلزمه الدية الفظيعة الفادحة، فتحل له الصدقة ويعطى من سهم الغارمين، أو لذي دم موجع" (الدم الموجع: كناية عن الدية يتحملها، فترهقه وتوجعه، فتحل له المسألة فيها) أخرجه أبو داود في سننه 2/120 ، والترمذي في جامعه (3/522) وقال: حسن .
فهو هنا عليه السلام صنع له البديل الأفضل ، والطريقة الأمثل لعلاج ما به من فقر وفاقة، وكما يقول المثل الدارج: "لا تطعمني كل يوم سمكة ولكن علمني كيف أصطاد"•(/2)
مع أنَّه ـ عليه الصلاة و السلام ـ بإمكانه أن يقول له : يجب عليك أن لا تكثر السؤال، وينبغي عليك أن تعمل ، ولا بدَّ أن تفكِّر في حلِّ مشكلتك ، ويلزمك .... إلى غير ذلك من العبارات التي يتَّسم بها بعض الدعاة والمفكِّرين بدون تقديم حلول واقعيَّة ، وخطط عمليَّة.
4ـ صناعة الحلول العمليَّة ، والتنسيق بين جهود الدعاة لتحويل (كلامهم) برامج عملية واقعية يُنقِذ هذا الجيل ، ورسم البرامج الممكن تحويلها لقنطرة العمل والإصلاح الميداني لإعلاء كلمة الله حتى لا نبقى في حيِّز التنظير.
وختاماً : فالأمَّة اليوم بحاجة إلى رجال عمليين ، وبحاجة إلى رجال الساحة ، وبحاجة إلى رجال الجماهير الذين ينخرطون في واقعهم ، ويوجِّهونهم وهم في ساحة العمل والبناء ... وذلك في رأيي أفضل من التوجيه الفوقي الذي سئمت الأمَّة الإسلاميَّة من لغته "الينبغاويَّة"، وشعرت بأن القضيَّة مجرَّد كلام وكلام وكلام !!(/3)
أمَّتنا ... وكتَّاب الأرائك !!
خباب مروان الحمد*
في مجتمعاتنا الدعويَّة أو الفكريَّة ، وفي كثير من الكتب أو المقالات أو المحاضرات والمؤتمرات ، يُحْسِنُ بعض المثقفين والمفكرين ـ نحسبهم ممَّن يحملون همَّ الدعوة والعمل الإسلامي ـ يحسنون تشخيص الداء ، ووصف الخطر الداهم على الأمَّة المسلمة ، ومن ثمَّ يخرجون بمجموعة طلبات وتوصيات ، ونصائح يقترحونها للمخاطبين أو المتلقين.
ولا ريب أنَّ ذلك أمر مهم وجدير بالعرض والدراسة ؛ ذلك أنَّ كثيراً من المواقف والأعمال ، تستفيد من تلك الكتب والمقالات والخطب والكلمات، التي تنشأ بعدها ردود ومواقف تكون ظاهرة ملموسة في الواقع الإسلامي، بسبب الأخذ والنهل من تلك التوصيات والاقتراحات ! وقد قيل :
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ** هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ **بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ
وَلَرُبّما طَعَنَ الفَتى أقْرَانَهُ بالرّأيِ** قَبْلَ تَطَاعُنِ الأقرانِ
لَوْلا العُقولُ لكانَ أدنَى ضَيغَمٍ **أدنَى إلى شَرَفٍ مِنَ الإنْسَانِ
ولكنَّ المتابع لبعض المثقَّفين يرى أنَّ طروحاتهم الفكريَّة ، على طريقة الخطاب "الينبغاوي" فيخرج الخطاب أو الكتاب أو المقال بعدَّة توصيات في عدَّة كلمات من قبيل: (ينبغي ) أو ( يجب ) أو (المتحتِّم) أو ( يلزم ) أو ( لا بدَّ ) فإذا ما فتَّشت عن مسار ذلك الذي ( يجب ) و( يلزم ) و( يتحتم) وأين دوره في مسار الدعاة والمفكرين ، ومن الذي طبَّق تلك المتحتِّمات والواجبات واللوازم ممَّن قال بذلك ، وأوصى به ؛ فستجدهم كما قيل : أندر من بيض الأنوق ! [ الأنوق : طائر نادر قلَّ أن يوجد ، فإذا كان هو نادراً فإنَّ بيضه أندر منه بقياس الأولى ]
إنَّ بعضاًَ من المقالات والخطب والكتب ، تنجح في التوصيف الدقيق لتلكم الأخطاء أو الممارسات المنتقدة في الواقع الإسلامي ، إلاَّ أنَّه ينقصها النظرة التربويَّة التي تعنى بدراسة أي الحلول الأفضل ، وأي الواجبات الأنسب ، وكيف تستثمر وتجري في قنطرة العمل، ومسار الحركة الإسلاميَّة ؟ وما الطريقة المثلى لحلِّ تلك الأخطاء والممارسات ؟ وكما قال الآخر :
مالم تقم بالعبء أنت ** فمن يقوم به إذن
كم قلتَ : أمراض البلاد ** وأنت من أمراضها
والشؤم علَّتها فهل ** فتَّشت عن أعراضها ؟
إنَّ كثيراً من المثقَّفين والدعاة ـ في تقديري ـ لا ينقصهم الوعي بقدر ما ينقصهم امتلاك الإرادة، والعزيمة والإصرار في تحويل المكتوب في القرطاس إلى واقع حي ، فنحن بحاجة إلى أن نفعل ما نقول وما نكتب، فما احترق لسان بقوله نار ، وما اغتنى إنسان بقوله ألف دينار، والحلول التي كتبها كثير منا في الإصلاح ، ومواجهة الأعداء صحيحة، لكنَّها عملياً ليست ملموسة في أرض الواقع !.
إنَّ داء الكلام والتنظير بلا عمل وتطبيق ، أمر قدْ حذَّر الله منه ومقت فاعليه قائلاً في محكم التنزيل [ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون]الصف[2] ولهذا فلا يستغرب أن تجد أنَّ أكثر من يكثر الكلام لا يحسن إلا ذلك، وليس لديه تجاه تلك النوازل إلاَّ الكلام والمقال ، وصدق الحسن البصري إذ قال :[ إنَّ هؤلاء مَلُّوا العبادة ووجدوا الكلام أسهل عليهم وقلَّ ورعهم فتحدثوا] وقال الأوزاعي: [ إنَّ المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيراً وإنَّ المنافق يتكلم كثيراً ويعمل قليلاً] وما أحسن ما قاله عثمان بن عفَّان- رضي الله عنه- موصياً قوماً لقيهم : [أنتم إلى إمام فعَّال؛أحوج منكم إلى إمام قوَّال].
وعليه فما أحسن الخطاب إذا كان مذيَّلاً بعرض المشكلة ! وتقديم علاجها الناجع، ومصلها النافع الذي يرسم طريق النهضة الإصلاحيَّة بنظرة واقعيَّة عمليَّة، ومن ثمَّ الربط بين ذلك وبين من يبتدئ التنفيذ و التخطيط ، مع الإشراف على تلك البرامج ، أمَّا أن نبقى نكرِّر ونعيد المشكلة وخطر المشكلة ، من دون رسم لحلولها ، والبدء للشروع في تطبيقها ، فإنَّ هذا الخلل ـ في ظنِّي ـ من الضروري بمكان أن يعاد النظر في آليته ، حتى لا نكون جزءاً من المشكلة ، فالأفضل أن نخرج من هذه البوتقة الضيِّقة إلى الدائرة الأوسع؛ دائرة الحلول العمليَّة الواقعيَّة.
إنَّ دور ووظيفة روَّاد الإصلاح ، وقادة النهضة التوعويَّة من العلماء والمفكرين والدعاة ، إبرازُ المشكلة ومآسيها ، بالتزامن مع عرض السبل الصحيحة المبرِزة للحلول والعلاجات المفيدة لهذه الأمَّة الإسلاميَّة المنكوبة.
إنَّ أمَّتنا اليوم تعاني في الحقيقة من قلَّة وجود المنظِّرين والمفكِّرين العاملين في الواقع، والمتميِّزين في إيقاظ الهمم بالطرق العمليَّة ، وبالنماذج الباذلة لنفسها، وغير المتقوقعة حول كينونتها.(/1)
إنَّ من المفيد والجيِّد أن نقرأ تجارب الدعاة والمفكرين العملييِّن الأقدمين والمعاصرين ، ولعلِّي أقتصر بالتمثيل على تجربة الإمام عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ حيث باشر بن باديس تأسيس المدارس و تولّى بنفسه مهمة التعليم ، و ركزّ على تعلم الكبار بفتح مدارس خاصة بهم لمحو الأمية ، كما اهتم بالمرأة من خلال المطالبة بتعليم الفتيات إذ أنشأ أول مدرسة خاصة للبنات بقسنطينة سنة 1918 ، واعتبر تعليم المرأة من شروط نهضة المجتمع لكن تعليم المرأة لا يعني تجاوز التقاليد و الأخلاق الإسلامية ، ومن ثمَّ فقد وسع بن باديس نشاطه ليفتتح عدة مدارس في جهات مختلفة من الوطن بالتعاون مع عدد من شيوخ الإصلاح أمثال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي و غيره ، كما ساهم في فتح النوادي الثقافية مثل نادي الترقي بالعاصمة الإصلاح ؟
حتى لا أعرض مشكلة بمشكلة...!
حتى لا يكون كلامي ـ كذلك ـ تنظيريَّاً فإنَّ هناك عدَّة مقترحات لعلَّها تكون مسهمة في التأكيد على الحذر من الإبقاء على طريقة الواجبات والمتحتِّمات و اللوزام القطعيات ، وأهميَّة بناء سواعد العمل ، وفتح آفاق للعمل الجاد وبناء أسس التطبيق :
1ـ المخالطة للناس والشعور بشعورهم ومعايشة أوضاعهم ، وهذا من سنن الأنبياء والمرسلين ، ولهذا فقد ظنَّ مشركو قريش أنَّ الرسول يكون متقوقعاً على نفسه ، منكفئاً على ذاته، ولهذا فقد استغربوا معايشته لوضع الناس وأحوالهم ، بله الدخول في أماكن بيعهم وشرائهم :(وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) الفرقان(7) ولهذا فمن صفة الرجل الذي يسعى لبناء منهج تغييري رصين ، أن يسند قوله بعمله ، وكلامه بتطبيقه ، وإلزامه للناس بالأسبقيَّة لهم بالفعل والفعال .
2ـ تفعيل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والانخراط في واقع الناس والجماهير العريضة في الأمَّة الإسلاميَّة ، وتوجيههم وخدمتهم والسعي في مصالحهم وما هم بحاجة إليه ، وقد جاء في الحديث :( لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا) أخرجه الطبراني وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع برقم(176).
3ـ إن استطاع الداعية والمفكِّر أن يصنع موقفاً يمكن أن يعالج به مشكلة تعترض الجماهير أو العامَّة ، بصنع موقف إيجابي ، وتحويل الحدث المأساوي إلى صياغة عمليَّة موفَّقة فإنَّ هذا سبيل مهم ، ودليل على التربية بالموقف والقدوة الفعَّالة ، وقد سلكه رسول الهدى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فقد قال : " لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به عن الناس : خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ، ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى" أخرجه مسلم.
وحين جاءه رجل يطلب منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مالاً ويشكو إليه داء الفقر وقلَّة ذات اليد ، صنع عليه السلام موقفاً إيجابيا ، وحوَّل فيه النقمة إلى نعمة ، فعن أنس بن مالك أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- يسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى:حِلْس (الحلس : كساء يوضع على ظهر البعير أو يفرش في البيت تحت حر الثياب). نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب (والقعب: القدح - الإناء). نشرب فيه الماء. قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، وقال: من يزيد على درهم؟ -مرتين أو ثلاثًا- قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعامًا وانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا فائتني به، فشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عودًا بيده ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يومًا فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشر دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا وببعضها طعامًا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع (والفقر المدقع: الشديد، وأصله من الدقعاء وهو التراب، ومعناه: الفقر الذي يفضي به إلى التراب، أي لا يكون عنده ما يتقي به التراب)، أو لذي غرم مفظع (والغرم المفظع: أن تلزمه الدية الفظيعة الفادحة، فتحل له الصدقة ويعطى من سهم الغارمين، أو لذي دم موجع" (الدم الموجع: كناية عن الدية يتحملها، فترهقه وتوجعه، فتحل له المسألة فيها) أخرجه أبو داود في سننه 2/120 ، والترمذي في جامعه (3/522) وقال: حسن .
فهو هنا عليه السلام صنع له البديل الأفضل ، والطريقة الأمثل لعلاج ما به من فقر وفاقة، وكما يقول المثل الدارج: "لا تطعمني كل يوم سمكة ولكن علمني كيف أصطاد"•(/2)
مع أنَّه ـ عليه الصلاة و السلام ـ بإمكانه أن يقول له : يجب عليك أن لا تكثر السؤال، وينبغي عليك أن تعمل ، ولا بدَّ أن تفكِّر في حلِّ مشكلتك ، ويلزمك .... إلى غير ذلك من العبارات التي يتَّسم بها بعض الدعاة والمفكِّرين بدون تقديم حلول واقعيَّة ، وخطط عمليَّة.
4ـ صناعة الحلول العمليَّة ، والتنسيق بين جهود الدعاة لتحويل (كلامهم) برامج عملية واقعية يُنقِذ هذا الجيل ، ورسم البرامج الممكن تحويلها لقنطرة العمل والإصلاح الميداني لإعلاء كلمة الله حتى لا نبقى في حيِّز التنظير.
وختاماً : فالأمَّة اليوم بحاجة إلى رجال عمليين ، وبحاجة إلى رجال الساحة ، وبحاجة إلى رجال الجماهير الذين ينخرطون في واقعهم ، ويوجِّهونهم وهم في ساحة العمل والبناء ... وذلك في رأيي أفضل من التوجيه الفوقي الذي سئمت الأمَّة الإسلاميَّة من لغته "الينبغاويَّة"، وشعرت بأن القضيَّة مجرَّد كلام وكلام وكلام !!(/3)
أنا إنسان إذًا أنا متغير هل أنتِ أم ناجحة؟
لكي أضمن السلامة النفسية لأي إنسان [وخاصة الأبناء]، لا بد من التعرف على مراحل النمو النفسي الاجتماعي وخاصة في مرحلة الطفولة والمراهقة.
ولا يختلف اثنان أن الدور الأول والأساسي للأم هي تربية وتوجيه أحبابها وفلذات أكبادها، فلا يستطيع إنسان أن يكبر وينمو ويصل لمرحلة من السواء في النمو والشخصية إلا إذا كان هناك توجيه صحيح، ولذلك يحتاج الأبناء دائمًا إلى توجيه في مراحل نموهم المختلفة، وهذا التوجيه يختلف باختلاف العمر والجنس.
والأم الناجحة التي نرجوها هي التي تفهم الشخصية التي أمامها، وسيكولوجية المرحلة العمرية التي يمر بها أحبابها، فالأم التي رُزقت بالبنات تختلف طريقتها عن التي رزُقت أولاد، ومن رُزقت النوعان تختلف طريقتها في معاملتها بين الولد وبين البنت وهكذا.
وفد أقرَّ هذا المبدأ ربنا تعالى عندما قال: [[وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى]]، فالذكر له طبيعة تختلف عن الأنثى، وبالتالي يختلف توجيه الأم للذكر عن الأنثى؛ لاختلاف الدور الذي تعده الأم لكل منهم، وهو الدور الذي سيقوم به بعد ذلك في أسرته ومجتمعه.
الإنسان المتغير:
يخضع الكائن الحي الإنساني منذ لحظة الإخصاب حتى الموت إلى التغير المستمر، فالنمو عملية مستمرة تبدأ قبل الميلاد وتنتهي بالممات، ويؤكد علماء النفس أن الإنسان كائن متغير في بيئة متغيرة.
إن الإنسان يمر بعملية نمو وتحول حتى يصل إلى التكوين النفسي والجسمي الذي يميز الراشد الناضج، فما مولد الطفل إلا حلقة في سلسلة متتابعة من التغيرات، وليس بداية هذه التغيرات.
ومراحل نمو الإنسان هي: مرحلة ما قبل الميلاد [المهد]، الطفولة الوسطى والمتأخرة، المراهقة، الرشد[الشباب]، الشيخوخة.
واسمحي لي عزيزتي الأم أن أتوقف عند معنى النمو ومطالب النمو وفقًا للمراحل السابقة.
ويمكن تعريف النمو بأنه سلسلة من التغيرات المستمرة التي تتجه نحو هدف نهائي وهو اكتمال النضج، وتحدث هذه التغيرات في الحجم أو الشكل، كما تحدث في الوظيفة أو القدرة.
وتتضمن كلمة النمو في معناها الخاص الضيق التغيرات الجسمانية والبدنية من حيث الطول والوزن والحجم نتيجة التفاعلات الكيماوية التي تحدث في الجسم، أما في معناها العام فيشمل بالإضافة إلى ما سبق التغير في السلوك والمهارات نتيجة نشاط الإنسان والخبرات التي يكتسبها عند استعمال أعضائه وحواسه، وأيضًا التغيرات التي تطرأ على النواحي العقلية والانفعالية والاجتماعية والحسية والحركية.
وخلاصة القول أن النمو نوعان:
نوع يحدث نتيجة التكوين الوراثي للفرد، وهذا هو النضج الطبيعي.
ونوع يتطلب ممارسة وتدريب وهذا هو التعلم.
ومعظم أشكال السلوك عند الإنسان تتطور بفعل النضج والتعلم معًا، ولكي تنمو مهارة في ناحية معينة لا بد من عامل النضج، الذي يمكن الإنسان من القيام بهذه المهارة، ثم يتناولها بالتمرين والتعلم في الوقت المناسب.
وأعطي مثالًا على ذلك القدرة على المشي، وتسلق درجات السلم، فإنه يحتاج أولًا إلى نضج عضلات الطفل، ثم يأتي بعد ذلك دور التدريب والتعلم للقيام بهذا العمل.
ومن نرجوه من الأم المسلمة أن تعي أن أولادها في عملية نمو مستمرة وتغيرات مستمرة في الجسم، وبالتالي هناك تغير في السلوك والمهارات.
وهناك مطالب للنمو في كل مرحلة سأذكرها باختصار، وأركز فقط على مرحلة المراهقة.
مطالب النمو في المهد والطفولة المبكرة [من الميلاد حتى السادسة من العمر]:
1- تعلم تناول الأطعمة الصلبة.
2- تعلم المشي.
3- تعلم ضبط التخلص من الفضلات الزائدة [الإخراج].
4- تعلم الفروق بين الجنسين.
5- تعلم الارتباط عاطفيًا بالوالدين والأخوة والآخرين.
6- تعلم التمييز بين الصواب والخطأ، وتكوين مفاهيم بسيطة عن الواقع الاجتماعي.
أما عن مطالب النمو في الطفولة الوسطى والمتأخرة [من 12:6] فهي باختصار:
1- تعلم المهارات الجسمية لممارسة الألعاب الرياضية وغيرها من أشكال النشاط العادية.
2- بناء مفهوم الذات الكيان الإنساني.
3- تعلم تكوين علاقات اجتماعية مع الزملاء والأصدقاء والأخذ والعطاء معهم.
4- تعلم القيام بدور ملائم يتعلق بجنسه ذكر أو أنثى.
5- تنمية الضمير والمعنويات والمعايير الاجتماعية.
وأركز فيما يلي على مطالب النمو في مرحلة المراهقة وهي هامة جداً لكل أم [حوالي من 12: 20]:
1- تكوين علاقات جديدة طيبة وناضجة مع رفاق السن.
2- تكوين مفهوم سليم نحو الجسم وتقبل الجسم واستخدامه بكفاءة.
3- تقبل التغيرات الجسمية التي تحدث في هذه المرحلة والتوافق معها.
4- تقبل الدور الاجتماعي كرجل أو امرأة.
5- تحقيق الاستقلال العاطفي عن الوالدين والكبار بصفة عامة.
6- تحقيق الاستقلال الاقتصادي [وهذا غالباً يكون عند الذكور].
7- نمو الشعور بالذات وضبط الذات والثقة في الذات.
8- نمو الشعور بالمسؤولية وتقبل المسؤولية الاجتماعية.(/1)
9- تكوين المهارات والمفاهيم العقلية الضرورية للإنسان الصالح في المجتمع واستكمال التعليم.
10- اختيار مهنة والاستعداد لها جسميًا وعقليًا وانفعاليًا واجتماعيًا.
11- الاستعداد للزواج والحياة الأسرية.
بعد ما قرأتُ فهمتُ:
هذه أم تؤكد ما ذكرنا من ضرورة فهم هذه الفكرة الأساسية لهذا المقال وهي:
لكي أتواصل مع أبنائي لا بد أن أتعرف على مراحل النمو، وخاصة النمو النفسي والاجتماعي في كل مرحلة من مراحل عمرهم، فاسمعي معي ما قالت:
[[كنتُ دائماً أنا وابنتي ذات الرابعة عشر وكأننا في حلبة صراع، لا نتفق على شيء، لا أفهمها ولا تفهمني، عانيتُ كثيرًا، حتى قرأتُ كتابًا عن خصائص مرحلة المراهقة، وما يحدث من تطورات النمو في جميع الجوانب النفسية والجسمية والعقلية والاجتماعية.
وكأن النور ملأ عقلي، فتغير كل شيء في علاقتي بابنتي، فبعد أن شعرت أنني أم فاشلة في التعامل معها، وهي أيضًا قد يكون عندها عقدة نفسية من معاملتي وطريقة تفكيري معها، أصبحنا أصدقاء، اسمع لها وتستمع لي، وأفهمها وتفهمني ووصلتُ لها إلى بر الأمان، بعيدًا عن الاضطرابات النفسية والمشاكل التي قد تحدث في هذه المرحلة العمرية.
وأخيراً عزيزتي الأم القارئة، يمكن أن نلخص ما أجملنا في سطور مضيئة قليلة فيما يلي:
إن الإنسان يخضع منذ لحظة الاخصاب وحتى الموت إلى التغير المستمر، فالنمو عملية مستمرة تبدأ قبل الميلاد وتنتهي بالممات، ويؤكد علماء النفس أن الإنسان كائن متغير في بيئة متغيرة، بل يذكر لنا الله سبحانه وتعالى ذلك منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام في قوله تعالى في سورة غافر[آية 67]:
[[هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ]].
ولكي أضمن السلامة النفسية لأبنائي؛ فلا بد أن أتعرف على مراحل النمو وخاصة النمو النفسي والاجتماعي في مرحلة الطفولة والمراهقة، لكي أجد تفسيرًا لبعض السلوكيات عند الأبناء الناشئة عن النمو المستمر، وبالتالي أقدم لهم التعلم والتدريب المناسب لهم ولنموهم.
لأن تعلم أي مهارة يخضع لعاملين؛ الأول عامل النضج، والثاني عامل التعلم والتدريب.
ولا تقوم الأم بهذا الدور إلا إذا أعدت نفسها عن طريق القراءة في الكتب الخاصة بذلك؛ ووقتها ستكون مرنة وسلسة في التعامل مع أبنائها؛ لأنها تغير طريقة التعامل من مرحلة إلى مرحلة حسب المرحلة التي يمر بها الأبناء، فما يحتاجه الطفل الرضيع يختلف عن طفل السادسة، ويختلف أيضًا عن مرحلة المراهقة ثم سن الرشد، وهكذا.
فهي تلاعب الطفل السبع، وتؤدبه لسبع، وتصاحبه لسبع، ثم تترك له العنان بعد ذلك عندما يكتمل النمو، ويصل إلى سن الرشد.
ولا تقول الأم: لا وقت للتعلم ولا للقراءة، ولكن عليها إيجاد الوقت لذلك، حتى تقوم بمسئوليتها تجاه الأبناء، فهي كما قال صلى الله عليه وسلم : [[المرأة راعية ومسؤولة عن رعيتها]] متفق عليه.
[[إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه حفظ أم ضيَّع]] صححه الألباني في غاية المرام.
وفق الله الأم المسلمة إلى فهم الأبناء وتربية الأحباب، وأقر عينها ب(/2)
أنت شخص نادر
أبو معاذ
اعلم أخي أنه إذا كان لديك بيت يؤويك و مكان تنام فيه و طعام في بيتك و لباس على جسمك
فأنت أغنى من 75% من سكان العالم.
إذا كان لديك مال في جيبك و استطعت أن توفر شيئاً منه لوقت الشدة
فأنت واحد ممن يشكلون 8% من أغنياء العالم.
إذا كنت قد أصبحت في عافية هذا اليوم فأنت في نعمة عظيمة
فهناك مليون إنسان تقريبا في العالم لن يستطيعوا أن يعيشوا لأكثر من أسبوع بسبب مرضهم.
إذا لم تتجرع خطر الحروب و لم تذق طعم وحدة السجن و لم تتعرض للوعة التعذيب
فأنت أفضل من 500 مليون إنسان من سطح الأرض.
إذا كنت تصلي في المسجد دون خوف من التعذيب أو الإعتقال أو الموت
فأنت في نعمة لا يعرفها ثلاثة مليارات البشر.
إذا كان أبواك على قيد الحياة و يعيشان معا غير مطلقين فأنت نادر في هذا الوجود.
إذا كنت تبتسم و تشكر المولى عز و جل فأنت في نعمة فكثيرون يستطيعون ذلك و لكن لا يعرفون.
إذا وصلتك هذه الرسالة و قرأتها فأنت في نعمتين عظيمتين :
أولاهما : أن هناك من يفكر فيك.
و الثانية: أنك أفضل من مليارين من البشر الذين لا يحسنون القراءة في هذه الدنيا.
و مع أطيب تمنياتي لك بحياة سعيدة أقول لك:
لكي تكون أسعد مما أنت عليه فاحمد الله على نعمه التي لا تعد و لا تحصى و ليكن لسانك رطبا بذكر الله و كن كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه : لا تدعن بعد كل صلاة أن تقول " اللهم أعني على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك "
ومن تمام الحمد أن تذكر الآخرين بنعم الله عليهم فإن الذكرى تنفع المؤمنين(/1)
أنت قلبُنا الخفّاق وروحنا النابض
كانت ولادتك ولادة الإنسانية أيضا... لقد استطاع القاصي والداني والصديق والعدو أن يبصر بالنور الذي نشرته صوابه وأخطاءه، ويقيمها على أساسه وبواسطته، فيبلغ بفضله من الاطمئنان مبلغا معينا. نحن جميعا ما كان بمقدورنا أن نفهم الجنة التي نشعر بها في أعماق قلوبنا حق الفهم، وندرك سعادتها الأبدية حق الإدراك إلا ببيانك السماوي... أجل بشلال بيانك الساحر استطعنا أن نتوجه نحو ما يبتغيه منا الحق تعالى وما يرضاه لنا.
إن كانت أعيننا اليوم تَرِفُّ بتسبيح الله تعالى وتقديسه... وإذا كانت قلوبنا اليوم تنبض بشوق الوصال... فأنت، أنت الذي أشعلت فتيل هذه المشاعر والأفكار العلوية في أعماق قلوبنا... أنت من علّمتنا وأشرت إلى الذرى السامية الحقيقية للإنسان وللإنسانية... أنت من أوقدتَ في قلوبنا جمرات الحب وأذقتنا نشوة الوصال.. أنت من كشفتَ للمتوجهين إليك وإلى رحابك بكل توقير عن السرّ الحقيقيّ للوجود... وعلاوة على هذا فقد أشرتَ ودللتَ -آخذًا إقرار وتقدير وتصويب الملايين بل البلايين من الناس- أصحاب الأرواح المنصفة إلى قيم ثابتة لكي يظل كل إنسان على ماهيته الحقيقية.
إن النفوس التي تذوقت حقيقة الحب بفضلك واهتدت إلى آفات الحياة الروحية الواسعة بدأت تَشْدوا -وكأنها مطبوعة على الحب والتوقير- بترنيمات سامية منبعثة من أعماق الروح وكلمات حكيمة تعبّر عن عمق الأبعاد الإنسانية لديها، وأصبحت على مدى العصور ممثِّلي القيم الإنسانية، فما خاب وما ضاع من اقتدى بهم. لقد وجد جل العالم الإنساني فيهم وفي أصواتهم وكلماتهم وأقوالهم نبضات وجدانه التي لم يكن قد اكتشفها حتى ذلك اليوم، واطّلع كل واحد بفضلهم على أعماقه الداخلية.
أجل، بفضلك أصبح جميع الناس الذين بدوا مختلفين جدّاً بعضهم عن بعض، بل أصبح حتى الجن وأصحاب الأرواح الطيبة -بمعنى من المعاني- يتكلمون عن معانٍ ما كانت تخطر على بالهم من قبلك ولا تنعكس على أحاسيسهم، وإن انعكست فما كانوا يستطيعون التعبير عنها، وإن استطاعوا التعبير فما كانوا يجيدونها، ولا يضعون كل شيء في مكانه الصحيح؛ ولكنهم أصبحوا يتقنون هذا بفضلك ويحلون مشاكل ومعضلات عديدة.
بعد أن شرّفتَ العالم بقدومك، وتربّعت على عرش قلوبنا حللتَ رموز وشفرات أسرار المعاني العميقة لمعنى ولماهية الإنسان الذي خُلق في أحسن تقويم، وأطلقتَ بذلك الألسن عن عقالها، وعلمتَ الغربان كيف تتحوّل إلى بلابل وعنادل( ) صداحة، وأثرت رغبة الصديق والعدو في الإصغاء إلى أعماقهم والتعبير عنها، كل من زوايا مختلفة.
وبفضل قيامك بتأمين ظهور القيم الإنسانية والعالمية المشتركة، وبمزج آلاف وجهات النظر والآراء والمفاهيم في بوتقة واحدة وجمعها حول محور واحد من الروح، فقد أحسّ الجميع بأشياء كثيرة من عالم وأفق أرواحهم. ومن ثم فقد تخلت الإنسانية بأجمعها، بل حتى عالم الجن وعالم الأرواح الطيبة -بفضل المعاني المترشحة من رسالتك وبفضل لب وجوهر هذه الرسالة- عن القوالب الجامدة لبعض المفاهيم فتملصت منها وولجت إلى عالم التغيير والتجديد.
وسواء أشعر به الجميع أم لم يشعروا فإن القسم الأعظم من الإنسانية استطاعت تحقيق العديد من أنواع التجديد والعديد من النجاحات بفضل منظومة الإيمان التي وضعتها وبفضل الأهداف الإنسانية التي أشرت إليها وشجعت عليها.
وحتى فجر الإنسانية ويومها الذي طلعت فيه كان الظلام يسود كل جزء في هذا العالم. كان الجميع يرتجفون خوفاً من وحشة العدم، ويقلقون من المشاكل التي تحيط بهم وتحاصرهم. ولكن بفضل رسالتك التي كانت تبشّر بحلّ كل مشكلة وتلبية كل حاجة وتحقيق كل أمنية وكل أمل، انشرحت الأنفس وتفتحت الآمال في الأرواح، فبدأت نسائم الأمل تهب على القلوب التي كانت تتقلب على جمرات اليأس، وصدحت أنغام الأمل والسلوان في كل مكان، إلى درجة أن النغمات السحرية التي بدأت تتعالى وتنتقل عبر النسائم كانت تبشّر القلوب الحزينة على الدوام بالسعادة والبهجة، وتتحدث معها عن الحب، أي كيف تُحِبّ وكيف تُحَبّ، وتنفث الحياة في العلاقات الإنسانية وروابطها التي بدت وكأنها تحتضر، وتسند وتحيي المحبة والعشق، وتمد المشاعر الإنسانية –التي هجعت في القلوب منذ عصور- بالحركة والنشاط، وتدعو الناس جميعاً إلى الغوص في أعماق قلوبهم لكي يعرف كل إنسان حقيقته، ويقدِّر إنسانيته حق التقدير.
إن أنفاسك الدافئة المخلصة أحْيت القلوب الظمأى إلى الحب والأمل والسعادة. أما القلوب الظمأى التي انحنت توقيراً لرسالتك فقد أثارت فيها انفعالاً قدسياً، وساقت الأرواح السامية بحمى العبودية لله إلى تدقيقات وتفحصات جدية، تدقيقات تلتمع وتبرق في الطرق التي تسلكها الأدمغة الباحثة عن النور.(/1)
لقد كنت بإيمانك المدهش الذي لا يعرف التردد أو الخور وبأصحابك الميامين الأوفياء الذين وقفوا معك تسعى نحو أمل كبير فوق كل أمل، وهو أن تُسمع صوتك للإنسانية جمعاء. لقد بذلت كل ما في وسعك طوال حياتك السنية وفي كل فصل من فصولها بل في كل نفس من أنفاسك العطرة من أجل السعادة الأبدية للإنسانية جمعاء، ولم ينقطع جهدك هذا ووفاؤك وإخلاصك أبداً. وما كان كل هذا لينقطع أو يتوقف لحظة، لأنك كنت تسعى لتحقيق أحلام الإنسانية جمعاء لكي تكون لجهودها معنى، ولكي تحقق الأرواح الظّامئة للأبدية أملها وحلمها... فهذه هي رسالتك، ومن أجلها أُرسلت وبُعثت... لتأمين الحاجات القلبية والروحية والمادية للإنسانية، ولتحقيق أملها في الحب والتحابُب، ولتحقيق أحلامها وآمالها في السعادة هنا وفي الدار الآخرة... كان هذا الأمر يشكل عمقاً مهماً من رسالتك، وكنت قد عزمت على تحقيق هذا الأمر.
كانت رسالتك عالمية وكونية، لذا كان كل شخص يأخذ منها حسب سعة قلبه ويقيّمها حسب قابليته وحسب جو قلبه وأحواله. وذلك بفضل الطابع الفطري فيها، وكون الأحكام التشريعية فيها مسايرة للقوانين السائدة في الكون وموافقة للطائف القلبية والروحية والعقلية الموجودة في الإنسان. فكل قلب، وكل فؤاد يجدها موافقة لفطرته وملائمة لها، ويطلع بواسطتها وفي جوها الروحاني على الأسرار العميقة للوجود. أجل، كل ما سمعناه منك، وكل ما فهمناه من أشياء وأمور عند قراءتنا لتصرفاتك وخُلُقك الرفيع فهمناها وسعدنا بها وفسّرناها، مع أن مصدرها مصدر سامٍ تنزلت منه موجات إثر موجات حسب عقولنا ومستوانا، فأحاطت بأرواحنا واحتضنتها، وداعبت مشاعرنا وأحاسيسنا، وأحسسنا بقربها منا وكأنها نبتت ونمت ثم ترعرعت في إقليم قلوبنا وفي بستانها؛ وشعرنا بدفئها حتى لكأنها توشك أن تتدفق من صدورنا. لقد أحاطت بماهيتنا الإنسانية وتفرست في أعيننا وتمعنت وكأنها سحرتنا بطعمها وبلاغتها من رأسنا حتى أخمص قدمينا. كان هذا الأمر خصلة من خصالك تفردت بها، وسجية من سجاياك لم يشاركك فيها أحد.
استطعت أن تخاطب الناس جميعاً خطاباً يعلو على جميع المشارب والثقافات الخاصة، ولكن باسلوب فائق الجمال سامي الدرجات لا يجرح أحداً ولا يخدش مشاعره... تخاطب كل الناس فتؤثر في الأرواح المهيأة وتوقظها. خطابك بليغ... خطاب ذو رموز خاصة وإشارات وإيماءات تقوم بمضاعفة معنى التعابير وتعمقها وتجسدها... لقد فتحت أبواب أسرار الأشياء والحوادث أمام من سيأتي من بعدك، بل فتحتها على مصاريعها أمام بعضهم حتى سموا إلى تذوق نشوة عالم آخر... نشوة لا تبلغها أي نشوة أخرى ولا ترقى إليها. ونحن لا نزال نحتفظ في قلوبنا بهبات السماء وهداياها (الآيات القرآنية) وعندما نقوم بالتعبير عنها وترجمتها إلى الواقع بتعابير جديدة حسب مقتضيات العصر نتذكرك على الدوام، ليس مرة واحدة بل ألف مرة... ومن أعماق قلوبنا ننحني إجلالاً لك وتوقيراً. فهذا حق لك، كما هو واجب على جميع رعاياك وأتباعك الذين تنبض قلوبهم بالوفاء لك.
أنت هبة للكون من قبل الخالق جل وعلا لا نظير لها ولا مثيل، ورسالتك وتعاليمك أمانة منه تعالى إليك. لقد أصبحتَ عند الذين عرفوا هذا وأدركوه أعزّ وأحب من أرواحهم، فقد علموا مدى دَينهم لك. لذا فما فتئوا مخلصين لك وأوفياء، وقد حصلوا على أضعاف وأضعاف مقابل هذا الوفاء.
ولكن جاء يوم ظهر فيه بعض المختلين نفسياً وعقلياً من جحورهم من منتسبي ثقافات أخرى وقاءوا أقذار كفر قلوبهم وأرجاسها وبدأوا يتحرشون بك ويصمونك –حاشاك ألف مرة- بالبداوة، ويصمون صوت السماء، ورسالتك بأنها "قانون الصحراء". ويحاولون حبسك في عهد معين، ويتجرأون على القول بأنك تعود "لذلك العهد ولذلك القوم"، وشجعوا بهذا عالماً مليئاً بالأحقاد والخصومات والعداوات، واستعانوا على ذلك برسوم كاريكاتيرية شنيعة بعيدة عن الخُلق؛ أيْ تعرضتَ لجحود أتباعك وعدم وفائهم، ولهجوم أعدائك. ولو تركنا الجهود المباركة لسلفنا الصالح وأجدادنا الأوفياء جانباً فقد أدركنا بأننا لم نستطع أن نُعرِّفَ العالم بك. وكلما تذكرنا الآن محاولات جبهة الكفر والتهجم عليك تمتمنا: "ما أجحدنا وما أبعدنا عن الوفاء!!"
وعلى الرغم من كل شيء فلا نشك مطلقاً بأن عهداً جديداً ذا جذور معنوية وروحية قوية، وذا جينات صافية... عهداً زاهراً ذا جو وماء وتربة تبشر بعالم جديد سيقترب من رحابك التي تفوح شفقة ورحمة... وسيكون هذا بعثاً جديداً بعد الموت آجلاً كان أم عاجلا. لقد بدأ الآلاف بل مئات الآلاف منذ الآن ينتظرون هذا العهد الجديد ويترقبونه ويعيشون على أمله.(/2)
لا أستطيع أنا، ولا يستطيع الآخرون أن يطلبوا منك العفو والصفح... نستحي من هذا ونخجل... ولكننا لم نشك لحظة من سعة كرمك. وفي أصعب الأوقات والأحوال، عندما أظلمت آفاقنا، وهجم الخريف علينا، وخربت الطرق وتهدمت الجسور... حتى في هذه الأوقات لم نصرف عيوننا ولم نبعدها عن تعقب آثار قدميك وكررنا قول "كتّانجي زاده":
"أنت عزيزنا... مرشدنا... أستاذنا.... سيدنا.... نورنا المضيء... ضياء معنوياتنا في الدارين... كل إخواني متفقون على هذا.." لنعبِّر مرة بعد مرة عن وفائنا لك وإخلاصنا. نواقصنا كثيرة، وقصورنا كبير، ولكنه سيبقى كقطرة بجانب بحار عفوك وسماحتك. إذن:
مولاي وسيدي!... لا تقطع كرمك عن البؤساء والفقراء
أيليق بسلطان الكرم قطع كرمه عن المعدمين والمتسولين؟!(/3)
أنت لا ترى العسل عسلاً
يسري صابر فنجر
</TD
نظراً للانفتاح اليومي الذي لا نهاية له فقد تولد لدى غالب شباب العصر فتيان وفتيات وحتى الشيوخ داء عضال هو ( أقنعني ) نعم ( أقنعني ) تقول له: قال الله تعالى وقال رسوله صلى الله عليه وسلم وثبت الدليل بتحريم كذا ...
تقول له: التدخين حرام هو يقول ( أقنعني ) تقول له الغناء حرام وهو يقول: ( أقنعني ) تقول له: الصلاة وهو يردد ( أقنعني ) تقول لها الحجاب وهي تقول: ( أقنعني ) فصارت القناعة غالبا يُرد بها الحق الواضح الأبلج ويستدل بها على الباطل الزاهق حتى مع أنه مخالف صريح للفطرة ......
أخي الكريم أختي الكريمة كيف أقنعك وأنت أساسا في نفسك مقتنع تماما بخطأ ما أنت عليه وبما أن ما تزاوله معصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أو أنك تكابر لتقنع نفسك وتبرر لغيرك صواب ما أنت عليه من خطأ وإباحة ما أنت عليه من معصية إما لغفلة وتزول إن أنت أدركتها وتركت هذا التبرير الذي تضع نفسك فيه وهذا كله من جراء ما عرَّضت نفسك له من الفتن فتمكنت من قلبك فعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْفِتَنَ فَقَالَ: قَوْمٌ نَحْنُ سَمِعْنَاهُ فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ؟ قَالُوا: أَجَلْ قَالَ: تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ فَقُلْتُ: أَنَا قَالَ: أَنْتَ لِلَّهِ أَبُوكَ قَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ قُلْتُ لَا بَلْ يُكْسَرُ وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ قَالَ أَبُو خَالِدٍ فَقُلْتُ لِسَعْدٍ يَا أَبَا مَالِكٍ مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا قَالَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ قَالَ قُلْتُ فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا قَالَ مَنْكُوسًا . الحديث رواه البخاري ومسلم
أخي الكريم أختي الكريمة فإن نقيت قلبك ونفسك من تلك المعصية كان قلبك أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وإن لم تنقه صار الذنب والعصيان مرض متأصل فيك وصار قلبك أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ...
وهذا حال كثير ممن يقول أقنعني ...!
لا أصلي حتى تقنعني !
لا أترك الدخان حتى تقنعني !
لا ألبس الحجاب حتى تقنعني !
لا أترك سماع الأغاني حتى تقنعني !
أنت مريض فكيف أقنعك ؟
تَبَدل المعروف والمنكر لديك فكيف أقنعك ؟
وتبدلت القيم عندك وران على قلبك ما كسبته وما أشربته وما زينه لك شياطين الإنس والجن فكيف أقنعك؟
أنت مريض ترى الماء الزلال مرا علقما وقديماً قال المتنبي :
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا
أنت مريض ترى الحامض حلوا ترى الملح سكرا .....أنت لا ترى العسل عسلا فكيف أقنعك؟
نقي قلبك أولاً وداوي جسدك بالتوبة وأحي فطرتك التي فطرك الله عليها وجمل إنسانيتك بالقيم والمبادئ التي أكرمك الله بها حينها ستجد القناعة وتجد الراحة وتنعم بالسعادة دون فلسفات لا أول لها ولا آخر
وقتها تستطيع التفرقة وتنعم بالقناعة وقد أرشدك ابن القيم رحمه الله إلى الميزان الجلي للتفرقة فقال :إن الفرق أمر ضروري للإنسان فمن لم يكن فرقه قرآنياً محمدياً فلا بد له من قانون يفرق به إما سياسة سائس فوقه أو ذوق منه أو من غيره أو رأى منه أو من غيره أو يفرق فرقا بهيميا حيوانيا بحسب مجرد شهوته وغرضه أين توجهت به فلا بد من التفريق بأحد هذه الوجوه(/1)
فلينظر العبد من الحاكم عليه في الفرق وليزن به إيمانه قبل أن يوزن وليحاسب نفسه قبل أن يحاسب وليستبدل الذهب بالخزف والدر بالبعر والماء الزلال بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب قبل أن يسأل الرجعة إلى دار الصرف فيقال هيهات اليوم يوم الوفاء وما مضى فقد فات أُحصي المستخرج والمصروف وستعلم الآن ما معك من النقد الصحيح والزيوف .
رزقني الله وإياك تقواه والثبات على دينه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين(/2)
أنت مع من أحببت
عبد المعز الحصري
قال تعالى: (والذين آمنوا أشد حباً لله).
إلى كل مؤمن يتلو ويدعو في صلاته طلباً الهداية من الله (اهدنا الصراط المستقيم) أن يجتهد في إتباع وحب النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون مع (الذين أنعمت عليهم) ويبرأ من أفعال وأقوال (المغضوب عليهم ولا الضالين).
اعلم أخي المسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن تكون قرة عين له وأن يلقاك وهو صلى الله عليه وسلم يحبك ومشتاق إليك، أما آن لك أن تتبع سنته وتحبه صلى الله عليه وسلم وتشتاق إليه وتكثر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
الحياة السعيدة والعيش الرغيد لا يكون أبداً إلا بالاستجابة إلى الله ورسوله وتطبيق شرعه وسنة نبيه وإتباع أقواله وأفعاله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وإذا خالفنا هذا الأمر فحذار حذار أن يطبع على قلوبنا أو تصيبه غشاوة أو يعلوه الران فيصير لا يحق حقاً ولا يبطل باطلاً. قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون" (الأنفال 24).
فإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم المسببات في أن يحبنا الله ويغفر لنا ذنوبنا. قال عز وجل: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم" (آل عمران 31).
وطاعة الله ورسوله تورث المنزلة العليا في الجنة. قال تعالى: "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً" (النساء 69) وسبب نزول هذه الآية حكى الثعالبي "أنها نزلت في ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب له قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن فقال له يا ثوبان ما غيّر لونك فقال يا رسول الله مابي صبر ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبداً" فأنزل الله هذه الآية: (الجامع لأحكام القرآن – القرطبي ج5 ص271).
وحكى غير ذلك في سبب النزول ولكنه قريب من ذلك المعنى، وعن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر" رواه البخاري في الإيمان والنذور.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" (رواه البخاري في الإيمان باب8). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله" رواه مسلم. وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد الحسن والحسين فقال: "من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة" رواه الترمذي وحسنه.
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة يا رسول الله قال: وما أعددت لها قال: ما أعددت لبها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة لكني أحب الله ورسوله. قال: أنت مع من أحببتن. قال أ،س فقلنا ونحن كذلك قال نعم. ففرحنا بها فرحاً شديداً.
وفي رواية قال أنس فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت. وقال أنس أيضاً فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل أعمالهم. (رواه البخاري في فضائل الأصحاب باب6).
أخرج أبو نعيم في الحلية من حديث طويل يقول عليه الصلاة والسلام: "... ما اختلط حيي بقلب عبد فأحبني إلا حرم الله جسده على النار ثم قال ليتني أرى إخواني وردوا علي الحوض فأستقبلهم بالآنية فيها الشراب لأسقيهم من حوضي قبل أن يدخلوا الجنة، فقال له يا رسول الله أولسنا إخوانك قال أنتم أصحابي، وإخواني من آمن بي ولم يرني إني سألت ربي أن يقر عيني بكم وبمن آمن بي ولم يرن، والحديث صحيح.
وفي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى ألقى إخواني قالوا أولسنا إخوانك قال بل أنتم أصحابي وإخواني الذين آمنوا بي ولم يروني أنا إليهم بالأشواق".
وفي رواية يا أبا بكر ليت أني لقيت إخواني فإني أحبهم الذين لم يروني وصدقوني وأحبوني حتى أني لأحب إلى أحدهم من والده وولده. كنز العمال وروى قريباً من ذلك ابن ماجة في الزهد وهو صحيح. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/1)
المراجع: القرآن الكريم -= السنة الشريفة – مبادئ تربوية: مأمون صالح النعمان.(/2)
أنت من يؤخر النصر عن هذه الأمة
بينما كنت مهموما أتابع أخبار المسلمين وما أصابهم من مصائب، خاطبتني نفسي قائلة: يا هذا، أنت من يؤخر النصر عن هذه الأمة، بل وأنت سبب رئيس في كل البلاء الذي نحن فيه !
قلت لها: أيا نفسي كيف ذاك وأنا عبد ضعيف لا أملك سلطة ولا قوة، لو أمرت المسلمين ما ائتمروا ولو نصحتم ما انتصحوا ..
فقاطعتني مسرعة، إنها ذنوبك ومعاصيك ، إنها معاصيك التي بارزت بها الله ليل نهار .. إنه زهدك عن الواجبات وحرصك على المحرمات ..
قلت لها: وماذا فعلت أنا حتى تلقين عليّ اللوم في تأخير النصر ..
قالت: يا عبدالله والله لو جلست أعد لك ما تفعل الآن لمضى وقت طويل، فهل أنت ممن يصلون الفجر في جماعة؟
قلت: نعم أحيانا، ويفوتني في بعض المرات ..
قالت مقاطعة: هذا هو التناقض بعينه، كيف تدّعي قدرتك على الجهاد ضد عدوّك، وقد فشلت في جهاد نفسك أولا، في أمر لا يكلفك دما ولا مالا، لا يعدو كونه دقائق قليلة تبذلها في ركعتين مفروضتين من الله الواحد القهار ..كيف تطلب الجهاد، وأنت الذي تخبّط في أداء الصلوات المفروضة، وضيّع السنن الراتبة، ولم يقرأ ورده من القرآن، ونسي أذكار الصباح والمساء، ولم يتحصّن بغض البصر، ولم يكن بارّا بوالديه، ولا واصلا لرحمه ؟
واستطردت: كيف تطلب تحكيم شريعة الله في بلادك، وأنت نفسك لم تحكمها في نفسك وبين أهل بيتك، فلم تتق الله فيهم، ولم تدعهم إلى الهدى، ولم تحرص على إطعامهم من حلال، وكنت من الذين قال الله فيهم: { يحبون المال حبا جما } ، فكذبت وغششت وأخلفت الوعد فاستحققت الوعيد ..
قلت لها مقاطعا: ومال هذا وتأخير النصر؟ أيتأخر النصر في الأمة كلها بسبب واحد في المليار ؟
قالت: آه ثم آه ثم آه، فقد استنسخت الدنيا مئات الملايين من أمثالك إلا من رحم الله.. كلهم ينتهجون نهجك فلا يعبأون بطاعة ولا يخافون معصية وتعلّل الجميع أنهم يطلبون النصر لأن بالأمة من هو أفضل منهم، لكن الحقيقة المؤلمة أن الجميع سواء إلا من رحم رب السماء .. أما علمت يا عبدالله أن الصحابة إذا استعجلوا النصر ولم يأتهم علموا أن بالجيش من أذنب ذنبا .. فما بالك بأمة واقعة في الذنوب من كبيرها إلى صغيرها ومن حقيرها إلى عظيمها .. ألا ترى ما يحيق بها في مشارق الأرض ومغاربها ؟
بدأت قطرات الدمع تنساب على وجهي، فلم أكن أتصوّر ولو ليوم واحد وأنا ذاك الرجل الذي أحببت الله ورسوله وأحبببت الإسلام وأهله، قد أكون سببا من أسباب هزيمة المسلمين .. أنني قد أكون شريكا في أنهار الدماء المسلمة البريئة المنهمرة في كثير من بقاع الأرض ..
لقد كان من السهل عليّ إلقاء اللوم، على حاكم وأمير، وعلى مسؤول ووزير، لكنني لم أفكر في عيبي وخطأي أولا .. ولم أتدبّر قول الله تعالى: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }
فقلت لنفسي: الحمد لله الذي جعل لي نفسا لوّامة، يقسم الله بمثلها في القرآن إلى يوم القيامة .. فبماذا تنصحين ؟
فقالت: ابدأ بنفسك، قم بالفروض فصل الصلوات الخمس في أوقاتها وادفع الزكاة وإياك وعقوق الوالدين، تحبّب إلى الله بالسنن، لا تترك فرصة تتقرّب فيها إلى الله ولو كانت صغيرة إلا وفعلتها، وتذكر أن تبسّمك في وجه أخيك صدقة، لا تدع إلى شيء وتأت بخلافه فلا تطالب بتطبيق الشريعة إلا إذا كنت مثالا حيا على تطبيقها في بيتك وعملك، ولا تطالب برفع راية الجهاد وأنت الذي فشل في جهاد نفسه، ولا تلق اللوم على الآخرين تهرّبا من المسؤولية، بل أصلح نفسك وسينصلح حال غيرك، كن قدوة في كل مكان تذهب فيه .. إذا كنت تمضي وقتك ناقدا عيوب الناس، فتوقّف جزاك الله خيرا فالنقّاد كثر وابدأ بإصلاح نفسك .. وبعدها اسأل الله بصدق أن يؤتيك النصر أنت ومن معك، وكل من سار على نهجك، فتكون ممن قال الله فيهم: { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقداكم } .. واعلم أن كل معصية تعصي الله بها وكل طاعة تفرّط فيها هي دليل إدانة ضدّك في محكمة دماء المسلمين الأبرياء ..
فرفعت رأسي مستغفرا الله على ما كان مني ومسحت الدمع من على وجهي ..
وقلت يا رب .. إنها التوبة إليك .. لقد تبت إليك ..
ولنفتح صفحة حياة جديدة .. بدأتها بركعتين في جوف الليل .. أسأل الله أن يديم عليّ نعمتهما ..(/1)
أندلس الشرق
للشاعر محمد علي الحوماني
"شاعر لبناني لقي في سبيل جهاده الوطني الأمرين من غربة الدار والروح؛ فقد هاجر إلى مصر، وساح في الأقطار العربية الأخرى، ينفخ في أودية الشعوب العربية الغافية، عن ضياع المكارم والأمجاد والمقدسات. وهذا النص، من روائع الشعر الحديث الذي قيل في نكبة فلسطين.. أندلس الشرق".
ويكِ يا جامعة العُربْ ذوى غُصُنُ المجد ، ولمّا يكتسِ
أين من يومك في وادي (طُوى) يومُ (فردناند) في (الأندلسِ)؟
* * *
طبّقت دنياك أرجاء الدُّنى شرراً يرفضُّ من كلِّ دمِ
وانجلى أفْقُك وضّاءَ السّنى يطبع الآفاق من كلِّ فمِ
فَغرَسْنا العهدَ من كلّ جنى عبقريَّ اللون، غضّ الأدمِ
فإذا جيشك خفّاق اللوا
من تخوم الصين حتى الأطلسي
وإذا قلب السُّها فيه انطوى
والثرّيا ثرّة المنبجس
حفل اليرموك بالصِّيْد الأُلى حرّرت آباؤهم شطآنهُ
عانق الأردنُّ فيه الموصلا والشآمُ اعتنقتْ عمّانهُ
ومشت مصر تقود الجحفلا تتقي شُهْب السما سودانهُ
فإذا (غزة) سوداءُ الضحى
وإذا (اليرموك) ضاحي الغلسِ
وإذا (صهيون) في شقي رحى
يتلقى وثبة المفترسِ
زمجرتْ (نجدُ) وثارت (جلّقُ) فاستفزَّ الذعرُ قَلْبَ الرافدينْ
ومشى تحت العجاج (الأزرقُ) بالأناشيد تهزُّ الخافقينْ
وتعالى للسماء (الأبلقُ) هاتفاً بالأسْد خلف الغوطتينْ
فإذا المسلم في بحر الدِّما
ينشد العزةَ فوق (القدسِ)
وإذا يعربٌ يُزجيها الظما
للمغيرين على (نابلسِ)
ثم ماذا كانَ والكون دجا والسماء امتلأت بالشُّهُبِ
ومشى الجند يشقّ الرّهجا باعثاً في الأرض مجدَ العربِ؟؟
كانت (الهدنةُ) يا بئس الرَّجا في الأُلى دانوا لها من كثبِ
عفّروا بالمشتري وجهَ الثرى
وتولانا حفا ةُ الأرؤسِ
فإذا الثعلبُ يحتلُّ الشَّرى
وإذا الليثُ حبيسُ النفسِ
من رأى الأيِّمَ في عْرض الفلاهْ نَهْبَ ثُكْلٍ وشقاء ووَصَبْ ؟
هتكتْ حرمتَها أيدي الجُناه من عدويها: يهودٍ وعربْ
فاستوى الموت لديها والحياةْ تحت بؤسينِ : هوانٍ وسَغَبْ
لا الأب الحارس يَحميها ولا
هيَ من أمتها في حرسِ
معقلُ الآباء إذ منهم خلا
عاد بالأبناء وَهْيُ الأسسِ
يا لها خرساءَ مما تبصرُ ضيعةَ الطفل وخُسرَنَ الأبِ
جسدٌ عارٍ وريح صررُ وجهامٌ خلف برق الخلّبِ
لم يجد فيها الرَّدى ما يعصرُ خفّ منها الثديُ والمرعى وَبِيْ
كيف تغنو الطفل والطفل خوى
وهي من حيرتها في محبسِ؟
لم تجد غير مآقيها دوا
يا مآقيَّ انظري وانبجسي
يا ابنةَ اليرموك صبراً وأسا قومك الأحرار لم ينقرضوا
لم يفتنا إذ فقدنا (القُدُسا) كلّ غيلٍ في شراه ربضوا
دوّخو الأرض قديما وعسى بعد طول السَّبتِ أن ينتفضوا
ها هي الدنيا تعود الجفلا
من صياصيهم فلا تبتئسي
ملؤوا الدنيا قبوراً فعلى
كلِّ قبرٍ أثرِّ لم يدرسِ
ياابنةَ اليرموك لم يَطوِ الردى قومَكِ الغُلْبَ، ففيمَ الجَزَعُ؟
ها هم اليوم ، ويبقَوْن غدا يجدون الغيث حيث انتجعوا
الحصى زادوا عليه عددا والسما ضاق بهم ما تَسعُ
غرسوا كلّ ثرى ، كلَّ جنى
يومَ أثروا من سهامٍ وقِسي
ثم عادوا والغني كل الغنى
يزدهيهم في السخيّ المفلس
أيها الذادةُ من أسيادنا روّع الذعرُ بكم قلبَ المسودْ
قد أمناكم على أمجادنا وعلى التأمين وثَّقنا العهودْ
فسلخنا الروح من أجسادنا وأقمنا من ضحاياها سدودْ
فإذا نحن لكم كنا الفِدا
لا لِسيناءَ ولا للقبسِ
وإذا أنتم على غير هدى
تسألون الهدي من لم يَسُسِ
أيُّها الراقدُ في بطن الثرى وله في كل صدرِ مَرقدُ
(طيبة) لفّتْ عليك المئزرا وانطوى بين يديها الفرقدُ
يا رسولَ الله من أين نرى وعلينا كل باب موصدُ؟
قد ملأنا الكون أرضاً وسما
وتولانا صَغارُ الأنفسِ
هل إلى عهدِكَ عَوْدٌ بعدما
جاوزت مكةُ دور العَنَسِ
يا رسولَ الله إنّا بشرُ زاد فينا العدُّ حتى نقصا
جاورَ الشمسَ قديماً نفرُ كنتَ فيه البطل المُفترِصا
ثم أهوى نجمُهم فانتهزوا فوق وجه الأرض تُرْباً وحَصا
رشدوا إذ كان عهدُ المصطفى
بينهم وضّاءَ لم يلتبسِ
ثم ضلّوا إذ جََفْوه فعفا
ونسُوا نفسَهُمُ حين نُسي(/1)
أنفقوا يا عباد الله
دار الوطن
الحمد لله الذي حث عباده على الجود والإنفاق، وضمن لهم ما يحتاجونه من الأموال والأرزاق، والصلاة والسلام على من عم جوده وعطاءه الآفاق، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التلاق.
أخي المسلم: صح عن النبي أنه قال: { لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيم علم } [الترمذي وحسنه الألباني].
فهل حاسبت نفسك - أخي المسلم - عن مالك، من أين اكتسبته، وفيم أنفقته؟ هل اكتسبته من حلال وأنفقته في حلال؟ أم اكتسبته من حرام وأنفقته في حرام؟ أم اكتسبته من حلال وأنفقته في الحرام؟
واعلم - أخي المسلم - أن المال سبب موصل إما إلى الجنة وإما إلى النار، فمن استعان به على طاعة الله، وأنفقه في سبل الخيرات، كان سببا موصلا إلى رضوان الله والفوز بالجنة، ومن استعان به على معصية الله، وأنفقه في تحصيل شهواته المحرمة، واشتغل به عن طاعة الله، كان سببا في غضب اله عليه واستحقاقه العقاب الأليم. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34].
وأخبر سبحانه أن من أنفق ما له في الصد عن سبيل الله، فسوف يلحقه الخزي والندامة يوم القيامة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36].
وقال سبحانه عن القسم الأول الذين استعانوا بالمال على طاعة الله وأنفقوه في مرضاته: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30].
وعن أبي ذر قال: أتيت رسول الله وهو في ظل الكعبة فقال: { هم الأخسرون ورب الكعبة } قالها ثلاثاً قال أبو ذر: فأخذني غم، وجعلت أتنفس وقلت: هذا شر حدث في، فقلت: من هم - فداك أبي وأمي -؟ قال: { الأكثر ون أموالا، إلا من قال في عباد الله هكذا وهكذا وقليل ما هم ما من رجل يموت فيترك غنما ا, إبلا أو بقرا لا يؤدي زكاتها إلا جاءته يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتى تطأه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، حتى يقضي الله بين الناس ثم لا تعود أولاها على أخراها } [متفق عليه].
وعن أبي هريرة عن النبي أنه قال: { ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جبهته وجنبه وظهره، كلما بردت أعيدت إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار } [مسلم].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله أنه قال: { من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول: أنا مالك.. أنا كنزك } [البخاري].
الكنز في الإسلام
ليس الكنز في الإسلام هو المال الكثير، ولكنه المال الذي لم تؤد زكاته. قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: ما كان من مال تؤد زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونا، وما ليس مدفونا لا تؤدي زكاته، فإنه الكنز الذي ذكره الله تعالى في كتابه.
فريضة الزكاة وأهدافها
أخي المسلم: اعلم أن الزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة، قال النبي { بني الإسلام على خمس } فذكر منهن: { إيتاء الزكاة } [متفق عليه].
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس أحد يؤتي زكاة ماله إلا سأل الرجعة عند الموت، ثم تلا قوله تعالى: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11].
قال ابن الجوزي: وينبغي للمتيقظ أن يفهم المراد من الزكاة، وذلك ثلاثة أشياء:
أحدها: الابتلاء بإخراج المحبوب.
والثاني: التنزه عن صفة البخل المهلك.
والثالث: شكر نعمة المال، فليتذكر إنعام الله عليه إذ هو المعطى لا المعطي!
ويزاد على ما ذكره ابن الجوزي ما يلي:
1- إعانة الضعفاء وكفاية ذوي الحاجة وقضاء الدين عن أهله.
2- تقوية روح الجماعة بين أفراد المجتمع والتخلص من الإفراط ف حب الذات.
3- نشر المحبة والألفة بين أفراد المجتمع وعدم شعور الفقراء بالحقد على الأغنياء أو حسدهم.
4- الحفاظ على الدولة الإسلامية وحماية حوزة المسلمين عن طريق تقوية الجيوش والإنفاق على الجهاد والمجاهدين.
الحث على الصدقة(/1)
أخي المسلم الحبيب: رغب الإسلام في الصدقة، والعطف على الفقراء، ومواساة أهل الحاجة والمسكنة، ورتب على ذلك أعظم الأجر عند الله تعالى يوم القيامة. فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله نظر إلى رجل يصرف راحلته في نواحي القوم فقال: { من كان عنده فضل من ظهر - أي مركوب- فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له } قال ابن مسعود: حتى رئينا أنه لا حق لأحد منا في فضل !! [مسلم].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله { من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربى أحدكم فلوه - أي مهره - حتى تكون مثل الجبل } [متفق عليه].
وبين النبي أن الصدقة تظل العبد يوم القيامة وتحول بينه وبين حر الشمس حينما تدنو من الرؤوس. فعن عقبة بن عامر عن النبي له قال: { كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس } [أحمد والحاكم وصححه الألباني].
وبين النبي أن أجر الصدقة يقع مضاعفا إلى سبعمائة ضعف يوم القيامة، فعن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال: رسول الله { لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة } [مسلم].
والصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء، فعن أنس قال: قال رسول الله : { أن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء } [الترمذي وقال: حسن غريب].
وأخبر النبي أنه قال: { لا يخرج أحد شيئا من الصدقة حتى يفك عنها لحي سبعين شيطانا } [أحمد وابن خزيمة وصححه الحاكم والألباني].
وأخبر الله سبحانه وتعالى أن الصدقة زكاة وطهارة للمسلم، حيث تزكو نفسه وترتفع عن أخلاق السفلة من الشح والبخل ولأثرة وغيرها قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم [التوبة:103].
وبين رسول الله أن الصدقة لا تنقص المال، بل تزده بما يحصل فيه من بركة الإنفاق والعطاء، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { ما نقصت من مال.. الحديث } [مسلم].
إخواني: إنما يحسن البكاء والأسف على فوات الدرجات العلا والنعيم المقيم لما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول الله عز وجل: فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ [آل عمران:133]، فهموا من ذلك أن المراد أن يجتهد كل واحد منهم، حتى يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية، فكان أحدهم إذا رأي من يعمل للآخرة أكثر منه نافسه وحاول اللحاق به بل مجاوزته، فكان تنافسه في درجات الآخرة، واستباقهم إليها كما قال تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
أما نحن فعكسنا الأمر، فصار تنافسنا في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.
قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة!!
وقال وهيب بن الورد: إذا استطعت أن لا يسبقك أحد فافعل.
وقال عمر بن عبدالعزيز في حجة حجها عند دفع الناس من عرفة: ليس السابق اليوم من سبق به بعيره، إنما السابق من غفر له.
الله أكبر ! أين التنافس إلى الطاعات؟
أين التسابق في الخيرات؟
أين بذل الزكاة والصدقات؟
أين أصحاب الهمم والعزمات؟
آداب المزكي والمتصدق
أخي المسلم الموفق: اعلم أن الإنفاق يشمل الزكاة المفروضة، والصدقة النافلة، والإيثار والمواساة للإخوان، وينبغي على المزكي والمتصدق مراعاة ما يلي:
1- إصلاح النية: فينبغي للمتصدق أن يصلح نيته، فيقصد بالصدقة وجه الله عز وجل، فإنه إن لم يقصد وجه الله، وقد بها رياء وسمعة لم تقبل منه، وعوقب على ذلك أيضا.
2- تخير الحلال: فعن ابن عمر رضي الله عنه، عن رسول الله أنه قال: { لا يقبل الله صدقة من غلول } [مسلم].
3- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا } [مسلم].
3- تخير الأجود: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267].(/2)
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان أبو طلحة أكثر أنصاري المدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء - أرض بالمدينة - وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، فقال رسول الله : { بخ ذاك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين }، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. [متفق عليه].
وعن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه عز وجل، قال نافع: وكان بعض رقيقه قد عرفوا ذلك منه، فربما شمر أحدهم فلزم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه: يا أبا عبدالرحمن! والله ما بهم إلا أن يخدعوك، فيقول ابن عمر لهم: من خدعنا بالله انخدعنا له !!
وعن سعيد بن هلال أن ابن عمر رضي الله عنهما نزل الجحفة وهو مريض فاشتهى سمكا، فلم يجدوا إلا سمكة واحدة، فلما قربت إليه أتى مسكين حتى وقف عليه، فقال له ابن عمر خذها، فقال له أهله: سبحان الله! قد عنيتنا ومعنا زاد نعطيه. فقال: إن عبدالله يحبه!!
وقف سائل على باب الربيع فقال: أطعموه سكراً فقالوا: ما يصنع هذا بسكر؟ نطعمه خبزا أنفع له. قال: ويحكم أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر!!
4- تقديم الأقرباء: فمن الآداب أن يقدم المتصدق ذوي الحاجة من أقربائه وذوي رحمه، فقد أمر رسول الله أبا طلحة بذلك كما في الحديث السابق.
وقال رسول الله : { الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة } [أحمد والترمذي والنسائي وصححه الالباني].
5- تحري أهل الدين: وعلى المتصدق أن يتحرى بصدقته أهل الدين الذين يستعينون بهذه الصدقة على طاعة الله، ولا ينفقونها في معصيته فيكون معاونا لهم على المعصية والإثم.
6- إسرار الصدقة: وعلى المتصدق أن يسر صدقته ما استطاع، إلا إذا كان في إعلانها مصلحة راجحة، فقد قال الله سبحانه: إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ [البقرة:271].
وذكر رسول الله من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: { ورجل تصدق بصدقة حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه } [متفق عليه].
7- إخراج ما سهل وإن قل: ومن الآداب أن يخرج المعطي ما سهل وإن قل، ولا يرد سائلا ولو بأيسر شئ فعن جابر قال: { ما سئل النبي شيئا قط. فقال: لا } [متفق عليه].
وقال الحسن: أدركنا أقواما كانوا لا يردون سائلا إلا بشيء.
وأتى سائل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعندها نسوة، فأمرت له بحبة عنب، فتعجبن النسوة فقالت: إن فيها ذرا كثيرا !! تتأول قوله تعالى: يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7].
8- ولا يجوز تأخير الزكاة عن وقتها إذا حال الحول لأنها حق للفقير، ويجوز تقديمها على الحول.
9- وعلى المتصدق أن يتلطف مع الفقير وهو يعطيه، ولا يبطل صدقته بالمن والأذى قال تعالى: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، وقال سبحانه: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:262].
10- وعلى المسلم أن يعود نفسه الصدقة والعطاء والإيثار ولو كان فقيرا قليل ذات اليد، فقد سئل رسول الله عن أفضل الصدقة فقال: { جهد المقل } أي صدقه الفقير [أحمد والنسائي وأبو داود].
وعن أبي هريرة أن رجلا أتى رسول الله ، فبعث إلى نسائه فقلن: ما عندنا إلا الماء !! فقال ورسول الله { من يضيف هذا؟ } فقال رجل من الأنصار: أن فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله ، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبيان، فقال: هيئي طعامك، وأصلحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فعلت ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين - أي جائعين- فلما أصبح غد إلى رسول الله ، فقال: { ضحك الله الليلة- أو عجب من فعالكما } فأنزل الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] [رواه البخاري].
إيثار حتى الموت !!(/3)
استشهد باليرموك عكرمة بن أبي جهل، وسهيل ين عمرو، والحارث ين هشام، وجماعة من بني المغيرة، فأتوا بماء وهم صرعى وأتي عكرمة بالماء، فرأى سهيل بن عمرو ينظر إليه، فقال: ابدؤوا بهذا فجيء إلى الحارث بن هشام فإذا هو قد مات، ثم جيء إلى عكرمة فإذا هو قد مات، ثم جيء إلى سهيل بن عمرو فإذا هو قيد مات، فماتوا جميعا قبل أن يشربوا، فمر بهم خالد بن الوليد فقال: بنفسي أنتم!!
أخي: كم بينك وبين الموصوفين كما بين المجهولين والمعروفين.. آثرت الدنيا، وآثروا الدين … فتلمح تفاوت الأمر يا مسكين !! أم الفقير فما يخطر ببالك.. فإذا حاء سائل أغلظت له في مقالك، فإن أعطيته فحقيرا يسيرا من رديء مالك.
أفضل أوقات الصدقة
عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: { أن تصدق وأنت شحيح صحيح،تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان } [متفق عليه].
صور من إنفاق السلف
تركت له الله ورسوله:
عن عمر بن الخطاب قال: أمرنا رسول الله أن نتصدق ووافق ذلك عندي مالا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوما قال: فجئت بنصف ما لي. فقال رسول الله : { ما أبقيت لأهلك؟ } قال: أبقيت لهم الله ورسوله !! فقلت: لا أسابقه إلى شيء أبدا [أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح].
رجل واحد يجهز جيشا:
وكان عثمان من المنفقين أموالهم في سبيل الله، فعن عبدالرحمن بن خباب قال: شهدت النبي وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان فقال: يا رسول الله ! علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: يا رسول الله ! علي ثلاثمائة عير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله قال: فرأيت رسول الله ينزل على المنبر وهو يقول: { ما على عثمان ما فعل بعد هذه.. ما على عثمان ما فعل بعد هذه } [الترمذي وقال: غريب وله شواهد].
يطفئ السراج لئلا يتحرج السائل !!
وروي عن سعيد ين العاص أنه كان يعشي الناس في رمضان، فتخلف عنده ذات ليلة شاب من قريش بعدما تفرق الناس، فقال له سعيد: أحسب أن الذي خلفك حاجة؟ قال: نعم! أصلح الله الأمير. قال: فضرب سعيد الشمعة بكمه فأطفأها ثم قال: ما حاجتك؟ قال: تكتب لي إلى أمير المؤمنين أن علي دينا، وأحتاج إلى مسكن وخادم. قال: كم دينك؟ قال: ألفا دينار، وذكر ثمن المسكن والخادم، فقال سعيد: تكفيك مؤونة السفر، اغد فخدها منا. فكان الناس يقولون: إن إطفاء الشمعة احسن من إعطائه المال، لئلا يرى في وجهه ذل المسألة!!
بشرى للفقراء
قال ابن رجب: وقد كان بعض الصحابة يظن أن لا صدقة إلا بالمال، فأخبره النبي أن الصدقة لا تختص بالمال، وأن الذكر وسائر أعمال المعروق صدقة كما في صحيح مسلم عن أبي ذر أن ناسا من أصحاب النبي قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال رسول الله : { أو ليس قد جعل الله لكم ما تتصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة }.
تصدق بعض الأغنياء بمال كثير،فبلغ ذلك طائفة من فقراء الصالحين، فاجتمعوا في مكان، وحسبوا ما تصدق به من الدراهم، وصلوا بدل كل درهم تدق به لله ركعة !! هكذا يكون استباق الخيرات، والتنافس في علو الدرجات.
فسبحان من فضل هذه الأمة وفتح لها على يدي نبيها أبواب الفضائل الجمة، فما من عمل عظيم يقوم به قوم ويعجز عنه آخرون، إلا وقد جعل الله لمن عجز عملا يساويه ويفضل عليه، فتتساوى الأمة كلها في تحصيل الخيرات ونيل علو الدرجات.
مجالات الصدقة
أخي المسلم: للصدقة مجالات عديدة جدا يصعب حصرها، ولكن يمكن الإشارة إلى بعض هذه المجالات على سبيل الاختصار:
الإنفاق على الفقراء والمحتاجين وإسقاط الديون عن المدينين.
بناء المساجد والإنفاق عليها وعلى الأئمة والمؤذنين والقائمين عليها.
سقي الماء وحفر الآبار في الأماكن التي لا يصل إليها الماء.
إطعام الطعام وشراء الملابس وتوزيعها.
الإنفاق على طب العلم وشاء الكتب والأدوات الدراسية لهم.
طباعة الكتب والأشرطة الإسلامية وتوزيعها.
توزيع المصحف الشريف على الشعوب الإسلامية في العالم
الإنفاق على حلقات تحفيظ القرآن الكريم ورصد المكافآت للطلاب والمدرسين.
بناء المدارس ودور العلم والمستشفيات.
بناء الملاجئ ودور الأيتام والمسنين والمساكن للغرباء من طلبة العلم وأبناء السبيل.
الصدقة على فقراء الحجاج والمعتمرين والزوار وتوفير الطعام والشراب والمراكب لهم.
الإنفاق على الأرامل والأيتام وكبار السن.
الإنفاق على الجهاد والمجاهدين ودعم المستضعفين من المسلمين في كل مكان.
مساعدة الشباب المسلم على الزواج.
الإنفاق على الدعاة وإرسالهم إلى مشارق الأرض ومغاربها.
رعاية الأقليات المسلمة في العالم، وربطهم بدينهم حتى لا تذوب هويتهم الإسلامية.(/4)
تخصيص الأموال للجوائح والعوارض الطارئة كالحرائق والأمراض والكوارث والزلازل والسيول وغيرها.
الإنفاق على مغاسل الأموات التي تقوم بتجهيز الموتى مجاناً.
أصحاب الهمم العالية
أخي المسلم: صاحب الهمة العالية، والنفس الشريفة لا يرضى بالأشياء الدنية الفنية، وإنما همته المسابقة إلى الدرجات الباقية الذاكية التي لا تفنى، ولا يرجع عن مطلوبه ولو تلفت نفسه في طلبه، ومن كان في الله تلفه، كان على الله خلفه.
قيل لبعض المجتهدين في الطاعات: لم تعذب هذا الجسد قال: كرامته أريد!
تعبت في مرادها الأجسام *** وإذا كانت النفوس كبارا
ما لجرح بميت إيلام *** من يهن يسهل الهوان عليه
قال عمر بن عبد العزيز: إن لي نفسا تاقة، ما نالت شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، وأنها لما نالت هذه المنزلة - يعني الخلافة - يعني الآخرة.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم*** وتأتي على قدر الكرام المكارم
قيمة كل إنسان ما يطلب، فمن كان يطلب الدنيا فلا أدنى منه، فإن الدنيا دنية، وأدنى منها من يطلبها، وهين خسية، وأخس منها من يخطبها. قال بعضهم: القلوب جوالة، فقلب يجلو حلول العرش، وقلب يجول حول الحش.
العاقل يغبط من أنفق ماله في سبيل الخيرات ونيل علو المدرجات، والجاهل يغبط من أنفق ماله في الشهوات، وتوصل إلى اللذات والمحرمات.
العالي الهمة يجتهد في نيل مطلوبه، ويبذل ماله في الوصول إلى رضا محبوبه، فأما خسيس الهمة فأجتهاده في متابعة هواه، ويتكل على مجرد العفو، فيفوته - إن حصل له العفو - منازل السابقين.
قال بعض السلف: هب أن المسيء عفي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين؟!
فيا مذنبا يرجو من الله عفوه أترضى بسبق المتقين إلى الله؟!
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصادر:
الحدائق لابن الجوزي.
عدة الصابرين لابن القيم.
الفوائد لابن القيم.
لطائف المعارف ابن رجب.(/5)
أنوار القرآن وخفافيش الظلام ... ... ...
القرآن كله أنوار { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
وما أشد الحاجة إلى النور الرباني ليبدد الظلام الشيطاني ! وما أعظم الافتقار إلى أنوار الهداية لتزيل ظلمة الغواية ! سيما في مثل هذا العصر الذي تحالفت فيه ظلمات الشهوات التي بلغت مبلغاً فاق التصورات مع ظلمات المذاهب الفكرية ، والمبادئ العقدية المنحرفة التي أدغلت في نقض وتشويه حقائق الإيمان ، مع ظلمات الظلم الذي يصمّ الأذان ، ويملأ الأبصار كل ليل ونهار { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ }.
ولك أن تتصور - عزيزي القارئ - حالة الذي يسير في وسط الظلام الدامس ، إن العثرة ترافقه في كل خطوة ، والخوف يملأ قلبه مع كل خفقه ، والحيرة تشغل عقله مع كل فكره ؛ لأنه يقدم نحو المجهول ولا يعرف المخاطر التي تنتظره فضلاً عن أن يدرك أبعادها ويحدد حجمها أو أن يستعد لها .
إن مثل هذا السائر يتلهف إلى بصيص من نور ، يقيل عثرته ، ويبدد حيرته ، ويذهب مخافته .. إن الشعاع الضئيل بالنسبة له كنز ، وتأمل تصوير القرآن الكريم لهذه الحقيقة وتلك الحالة في قوله تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها }، وكذلك في قوله جل وعلا : { يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } .
إن من الناس فئة ألفت الحياة في الظلام وصار النور يعشي أبصارها ويؤذي بصائرها ، وهؤلاء يحرصون على الظلمة ؛ لأنها تستر عوراتهم ، وتغطي عثراتهم .. لأنها تبقي على سواد قلوبهم وفساد نفوسهم ، ولما كان القرآن هو النور الساطع والضياء اللامع ؛ فإن قلوب هؤلاء وعقولهم صدت ولا تزال تصد عنه : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }.
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً }، وليس هذا مقصوداً على الكفر القديم أو الجاهلية الأولى ، بل هو اليوم أظهر وأشد ، فالملحدون من أذناب الفكر الشيوعي اللاديني يرفضون القرآن ؛ لأن من أنواره قول الحق جل وعلا : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } .
والقوميون - على اختلاف مشاربهم وتنوع أسمائهم - لا يرتاحون للقرآن لأن قوله جل وعلا : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } يعري دعوتهم .
والرأسماليون يصفهم قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا }
والعلمانيون يغصّون بقوله تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} .
وقس على هؤلاء وأمثالهم من صنجوا عن الحق وحادوا عن الصواب ، وتفرّغوا لحرب القرآن وطمس أنواره { يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }
ولأنهم لا يعرفون القرآن ؛ فإنهم لم يقفوا على هذه الآية والحقيقة الخالدة التي تصوّرهم وتصوّر جهادهم المرير بصورة مضحكة يقربها لك - عزيزي القارئ - قول الشاعر :
قل لي بربك هل تطيق ذبابة حجباً لنور الشمس وهو البادي
أما المؤمن الصادق والمسلم الحق فيدرك أن نور القرآن أهم وأغلى شيء في الوجود .. به يعرف الدنيا ويبصر الآخرة ، ومن خلاله يعرف الحق من الباطل ويقوم الأشخاص ويحكم على الآراء ولذا فهو به مستمسك وعليه حريص ولكن بعض المسلمين لم ينفقوا بكل أنوار القرآن ، وبعضهم ربما ترك بعض تلك الأنوار وسمح لظلمات الجاهلية أن تدني مستوى وضوح الرؤية لديه فترى كثيرين غابت عنهم حقائق قرآنية ، وآخرين فقدوا أخلاقاً قرآنية .
ونحن نحتاج أن نقتبس كل مرة بعض الأنوار من بعض آيات القرآن ليشرق صبح الحق في حياتنا ، وتسطع شمس الهدى في آفاقنا، وتأنس أبصارنا وبصائرنا بالضياء وتنتفع به وتعش عيون خفافيش الظلام.
د. علي بن عمر بادحدح ... ...(/1)
أنوار الليل
د. علي بادحدح ـ إسلاميات
الليل سواد وظلام ، وظلمة وقتام ، وفيه تخفى الأشياء ، ويتلاشى الضياء { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون } ، فيه يستتر الناس {ومن هو مستخفً بالليل وسارً بالنهار } ، فيه يسكنون وفي النهار يعملون { ومن رحمته أن جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } .
هذا هو المشاهد المعروف فأي أنوار في الليل وأي ضياء في الظلام ؟ إنه ليل العبادة ، إنها ليالي التهجد والزيادة تزدان بالأنوار ، وتسطع كالنهار ، ونحن نستقبل العشر الأواخر من رمضان يجدر بنا أن نتأمل في أنوار الليل.
هذه ليالي القرآن وهو نور وأي نور قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين { ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء }.
ويدوي به القراء فيسمعون أهل الأرض والسماء ، يتلى في المحاريب ، ويرتل في البيوت ، فمن مفتتح سورة ومن مختتم أخرى ، ومن بادئ بالفاتحة ومن خاتم بالناس ، ومن بالٍ خاشع ومن متذلل خاشع ، فإذا النور تشرق به القلوب ، وتبصر به الأبصار ، وفي العشر التهجد والصلاة ، وما أدراك ما الصلاة ؟ (الصلاة نور والصدقة وبرهان ) ، فمنهم قائم ومنهم جالس أو من راكع ومن ساجد ، وهي ليالي الاعتكاف فيها الخلوة مع الله ، والتفرغ للذكر والمناجاة ، وهذا مصدر نور عظيم { الله نور السموات والأرض } .
وقد قيل للحسن : ما بال أهل الليل على وجوههم نور ؟ قال : خلوا إلى ربهم فألبسهم من نوره .
وهو ليل الاقتداء بخاتم الرسل والأنبياء في اعتكافه وجده واجتهاده ، وهو الذي شع النور ونشر الضياء.
{ إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } ، وفيها ليلة القدر { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم } ، والملائكة مخلوقات نورانية ، فلله كم في هذه الليالي من أنوار ، تتحول بها الظلماء إلى الضياء ، فتستنير القلوب ، وتستضئ الأبصار .(/1)
أنواع الأستخفافٌ وحكمه في الشريعة
الاستخفاف لغةً : الاستهانة . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك . وقد يعبّر الفقهاء عن الاستخفاف بالاحتقار ، والازدراء ، والانتقاص .
حكمه التّكليفيّ :
ليس للاستخفاف حكمٌ عامٌّ جامعٌ ، وإنّما يختلف حكمه باختلاف ما يتعلّق به . فقد يكون محظوراً ، وقد يكون مطلوباً .
فمن المطلوب : الاستخفاف بالكافر لكفره ، والمبتدع لبدعته ، والفاسق لفسقه . وكذلك الاستخفاف بالأديان الباطلة والملل المنحرفة ، وعدم احترامها ، واعتقاد ذلك بين المسلمين أفراداً وجماعاتٍ إذا علم تحريفها ، وهذا من الدّين ؛ لأنّه استخفافٌ بكفرٍ أو بباطلٍ . وأمّا المحظور : فهو ما سيأتي .
ما يكون به الاستخفاف :
يكون الاستخفاف بالأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات .
أ - الاستخفاف باللّه تعالى :
قد يكون بالقول ، مثل الكلام الّذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف في مفهوم النّاس على اختلاف اعتقاداتهم ، كاللّعن والتّقبيح ، سواءٌ أكان هذا الاستخفاف القوليّ باسمٍ من أسمائه أم صفةٍ من صفاته تعالى ، منتهكاً لحرمته انتهاكاً يعلم هو نفسه أنّه منتهكٌ مستخفٌّ مستهزئٌ . مثل وصف اللّه بما لا يليق ، أو الاستخفاف بأمرٍ من أوامره ، أو وعدٍ من وعيده ، أو قدره . وقد يكون بالأفعال ، وذلك بكلّ عملٍ يتضمّن الاستهانة ، أو الانتقاص ، أو تشبيه الذّات المقدّسة بالمخلوقات ، مثل رسم صورةٍ للحقّ سبحانه ، أو تصويره في مجسّمٍ كتمثالٍ وغيره . وقد يكون بالاعتقاد ، مثل اعتقاد حاجة اللّه تعالى إلى الشّريك حكم الاستخفاف باللّه تعالى :
أجمع الفقهاء على أنّ الاستخفاف باللّه تعالى بالقول ، أو الفعل ، أو الاعتقاد حرامٌ ، فاعله مرتدٌّ عن الإسلام تجري عليه أحكام المرتدّين ، سواءٌ أكان مازحاً أم جادّاً . قال تعالى : { ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .
الاستخفاف بالأنبياء :
الاستخفاف بالأنبياء وانتقاصهم والاستهانة بهم ، كسبّهم ، أو تسميتهم بأسماءٍ شائنةٍ ، أو وصفهم بصفاتٍ مهينةٍ ، مثل وصف النّبيّ بأنّه ساحرٌ ، أو خادعٌ ، أو محتالٌ ، وأنّه يضرّ من اتّبعه ، وأنّ ما جاء به زورٌ وباطلٌ ونحو ذلك . فإنّ نظم ذلك شعراً كان أبلغ في الشّتم ؛ لأنّ الشّعر يحفظ ويروى ، ويؤثّر في النّفوس كثيراً – مع العلم ببطلانه – أكثر من تأثير البراهين ، وكذلك إذا استعمل في الغناء أو الإنشاد .
حكم الاستخفاف بالأنبياء :
اتّفق العلماء على أنّ الاستخفاف بالأنبياء حرامٌ ، وأنّ المستخفّ بهم مرتدٌّ ، وهذا فيمن ثبتت نبوّته بدليلٍ قطعيٍّ ، لقوله تعالى : { ومنهم الّذين يؤذون النّبيّ } ، وقوله تعالى : { إنّ الّذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدّنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً } . وقوله تعالى : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } . وسواءٌ أكان المستخفّ هازلاً أم كان جادّاً ، لقوله تعالى ، { قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } . إلاّ أنّ العلماء اختلفوا في استتابته قبل القتل ، فالرّاجح عند الحنفيّة ، وقولٌ للمالكيّة ، والصّحيح عند الحنابلة ، أنّ المستخفّ بالرّسول والأنبياء لا يستتاب بل يقتل ، ولا تقبل توبته في الدّنيا ؛ لقوله تعالى : { إنّ الّذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدّنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً } . وقال المالكيّة ، وهو الرّاجح عندهم ، والشّافعيّة ، وهو رأيٌ للحنفيّة ، والحنابلة : يستتاب مثل المرتدّ ، وتقبل توبته إن تاب ورجع ، لقوله تعالى : { قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ولخبر : « فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم » .(/1)
وفرّق بعض الفقهاء بين الاستخفاف بالسّلف ، وبين الاستخفاف بغيرهم ، وأرادوا بالسّلف الصّحابة والتّابعين . فقال الحنفيّة والشّافعيّة في سابّ الصّحابة وسابّ السّلف : إنّه يفسّق ويضلّل ، والمعتمد عند المالكيّة أنّه يؤدّب . ولكن من سبّ السّيّدة عائشة - بالإفك الّذي برّأها اللّه منه - أو أنكر صحبة أبي بكرٍ الّتي ثبتت بنصّ القرآن يكفر ؛ لإنكاره تلك النّصوص الدّالّة على براءتها وصحبة أبيها ، ولما روي عن ابن عبّاسٍ أنّه قال في قوله تعالى : { إنّ الّذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدّنيا والآخرة ولهم عذابٌ عظيمٌ } قال : هذا في شأن عائشة وأزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّةً ، وليس فيها توبةٌ . وأمّا الاستخفاف بغيرهم من المسلمين ، ولو كان مستور الحال ، فقد قال فقهاء المذاهب الأربعة : إنّه ذنبٌ يوجب العقاب والزّجر على ما يراه السّلطان ، مع مراعاة قدر القائل وسفاهته ، وقدر المقول فيه ؛ لأنّ الاستخفاف والسّخرية من المسلم منهيٌّ عنه ، لقوله تعالى : { لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } .
حكم الاستخفاف بالملائكة :
اتّفق الفقهاء على أنّ من استخفّ بملكٍ ، بأن وصفه بما لا يليق به ، أو سبّه ، أو عرّض به كفر وقتل . وهذا كلّه فيما تحقّق كونه من الملائكة بدليلٍ قطعيٍّ كجبريل ، وملك الموت ، ومالكٍ خازن النّار .
حكم الاستخفاف بالكتب والصّحف السّماويّة :
اتّفق الفقهاء على أنّه من استخفّ بالقرآن ، أو بالمصحف ، أو بشيءٍ منه ، أو جحد حرفاً منه ، أو كذب بشيءٍ ممّا صرّح به من حكمٍ أو خبرٍ ، أو شكّ في شيءٍ من ذلك ، أو حاول إهانته بفعلٍ معيّنٍ ، مثل إلقائه في القاذورات كفر بهذا الفعل . وقد أجمع المسلمون على أنّ القرآن هو المتلوّ في جميع الأمصار ، المكتوب في المصحف الّذي بأيدينا ، وهو ما جمعته الدّفّتان من أوّل { الحمد للّه ربّ العالمين } إلى آخر { قل أعوذ بربّ النّاس } . وكذلك من استخفّ بالتّوراة والإنجيل ، أو كتب اللّه المنزّلة ، أو كفر بها ، أو سبّها فهو كافرٌ . والمراد بالتّوراة والإنجيل وكتب الأنبياء ما أنزله اللّه تعالى ، لا ما في أيدي أهل الكتاب بأعيانها ؛ لأنّ عقيدة المسلمين المأخوذة من النّصوص فيها : أنّ بعض ما في تلك الكتب باطلٌ قطعاً ، وبعضٌ منه صحيح المعنى وإن حرّفوا لفظه . وكذلك من استخفّ بالأحاديث النّبويّة الّتي ظهر له ثبوتها .
الاستخفاف بالأحكام الشّرعيّة :
اتّفق الفقهاء على كفر من استخفّ بالأحكام الشّرعيّة من حيث كونها أحكاماً شرعيّةً ، مثل الاستخفاف بالصّلاة ، أو الزّكاة ، أو الحجّ ، أو الصّيام ، أو الاستخفاف بحدود اللّه كحدّ السّرقة والزّنى .
الاستخفاف بالأزمنة والأمكنة الفاضلة وغيرها :
منع العلماء سبّ الدّهر والزّمان والاستخفاف بهما ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « لا تقولوا خيبة الدّهر ، فإنّ اللّه هو الدّهر » وحديث « يؤذيني ابن آدم يسبّ الدّهر وأنا الدّهر ، بيدي اللّيل والنّهار » . وكذلك الأزمنة والأمكنة الفاضلة والاستخفاف بها ، فإنّه يأخذ الحكم السّابق من المنع والحرمة . أمّا إذا قصد من ذلك الاستخفاف بالشّريعة ، كأن يستخفّ بشهر رمضان ، أو بيوم عرفة ، أو بالحرم والكعبة ، فإنّه يأخذ حكم الاستخفاف بالشّريعة أو بحكمٍ من أحكامها ، وقد مرّ حكم ذلك .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .(/2)
أنواع الشرك
معنى الشرك وأنواعه
1- معنى الشرك لغة :
قال ابن فارس: "الشين والراء والكاف أصلان، أحدهما يدلّ على مقارنة وخلافِ انفرادٍ، والآخر يدلّ على امتداد واستقامة.
فالأول: الشركة، وهو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، يقال: شاركت فلاناً في الشيء إذا صرت شريكَه، وأشركت فلاناً إذا جعلته شريكاً لك"[1].
وقال الجوهري: "الشريك يجمع على شركاء وأشراك، وشاركت فلاناً صرت شريكه، واشتركنا وتشاركنا في كذا، وشركته في البيع والميراث أشركه شركة، والاسم: الشرك"[2].
وقال أيضاً: "والشرك أيضاً الكفر، وقد أشرك فلان بالله فهو مشرك ومشركيّ"[3].
وقال الفيروز آبادي: "الشِّرك والشُِّركة بكسرهما وضم الثاني بمعنى، وقد اشتركا وتشاركا وشارك أحدهما الآخر، والشِّرك بالكسر وكأمير: المشارك، والجمع أشراك وشركاء"[4].
2- معنى الشرك شرعاً:
قال ابن سعدي: "حقيقة الشرك أن يُعبَد المخلوق كما يعبَد الله، أو يعظَّم كما يعظَّم الله، أو يصرَف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية"[5].
وقال الدهلوي: "إن الشرك لا يتوقّف على أن يعدِل الإنسان أحداً بالله، ويساوي بينهما بلا فرق، بل إن حقيقة الشرك أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال ـ خصها الله تعالى بذاته العلية، وجعلها شعاراً للعبودية ـ لأحد من الناس، كالسجود لأحد، والذبح باسمه، والنذر له، والاستعانة به في الشدة، والاعتقاد أنه ناظر في كل مكان، وإثبات التصرف له، كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح به الإنسان مشركاً"[6].
3- الفرق بين الشرك والكفر:
1- أما من حيث اللغة فإن الشرك بمعنى المقارنة، أي: أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما. أما الكفر فهو بمعنى الستر والتغطية.
قال ابن فارس: "الكاف والفاء والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد، وهو الستر والتغطية"، إلى أن قال: "والكفر ضد الإيمان، سُمّي لأنه تغطية الحق، وكذلك كفران النعمة جحودها وسترها"[7].
2- وأما من حيث الاستعمال الشرعي فقد يطلقان بمعنى واحد، قال الله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـ?ذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ ?لسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى? رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً * قَالَ لَهُ صَـ?حِبُهُ وَهُوَ يُحَـ?وِرُهُ أَكَفَرْتَ بِ?لَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّ هُوَ ?للَّهُ رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا} [الكهف:35-38].
وقد يفرق بينهما، قال النووي: "الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد وهو الكفر بالله تعالى، وقد يفرق بينهما فيخص الشرك بعبادة الأوثان وغيرها من المخلوقات مع اعترافهم بالله تعالى ككفار قريش، فيكون الكفر أعم من الشرك"[8].
4 - أنواع الشرك :
الشرك ثلاثة أنواع:
أولا : الشرك الأكبر .
ثانيا : الشرك الأصغر .
ثالثا : الشرك الخفي .
--------------------------------
[1] مقاييس اللغة (3/265).
[2] الصحاح (4/1593-1594).
[3] الصحاح (4/1593-1594).
[4] القاموس المحيط (2/1251).
[5] تيسير الكريم الرحمن (2/499).
[6] رسالة التوحيد (ص32، 33). وانظر: الشرك في القديم والحديث (1/120).
[7] مقاييس اللغة (5/191).
[8] شرح صحيح مسلم (2/71)، وانظر: حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد (302).
الشرك الأكبر
1- تعريفه :
الشرك هو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله .
2- أنواع الشرك الأكبر :
وهو ثلاثة أنواع، يتعلق كل نوع بأنواع التوحيد الثلاثة :
1- الشرك في الربوبية
2- الشرك في توحيد الأسماء والصفات
3- الشرك في توحيد الألوهية
قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: "فاعلم أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أنواع التوحيد، وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقاً، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه"[1].
----------------------
[1] تيسير العزيز الحميد (ص43).
الشرك الأصغر
1- تعريفه:
قال ابن سعدي: "هو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسّل بها إلى الشرك كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة، كالحلف بغير الله ويسير الرياء ونحو ذلك"[1].
وقال السلمان: "هو كلّ وسيلة وذريعة يتطرّق بها إلى الشرك الأكبر"[2].
وعرفه بعضهم بأنه تسوية غير الله بالله في هيئة العمل أو أقوال اللسان، فالشرك في هيئة العمل هو الرياء، والشرك في أقوال اللسان هو الألفاظ التي فيها معنى التسوية بين الله وغيره، كقوله: ما شاء الله وشئت، وقوله: اللهم اغفر لي إن شئت، وقوله: عبد الحارث، ونحو ذلك"[3].
واختار البعض أنه لا يعرف بل يذكر بالأمثلة، لأن تعريفه غير منضبط لكثرة أفراده وتنوعه، وذلك كما صنع ابن القيم[4].
2- مصدر تسميته بالشرك الأصغر:
جاء في بعض النصوص الشرعية تسمية هذا النوع من الشرك بالشرك الأصغر.(/1)
فعن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء))[5].
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: كنا نعدّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرياء الشرك الأصغر[6].
أنواع الشرك الأصغر :
أنواع الشرك الأصغر كثيرة، ويمكن حصرها فيما يأتي:
أ- قولي: وهو ما كان باللسان ويدخل فيه ما يأتي:
1- الحلف بغير الله تعالى .
2- قول ما شاء الله وشئت .
3- الاستسقاء بالأنواء .
ب- فعلي: وهو ما كان بأعمال الجوارح، ويدخل فيه ما يأتي:
1- التطير .
2- إتيان الكهان والعرافين .
3- لبس الحلقة والخيط ونحوهما .
4- تعليق التمائم .
ج- قلبي:
ومن أمثلته الرياء .
-----------------------------
[1] القول السديد (15).
[2] الكواشف الجلية (321).
[3] المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان (126، 127).
[4] انظر: مدارج السالكين (1/373)، والشرك في القديم والحديث (1/167).
[5] أخرجه أحمد في المسند (5/428، 429)، والبيهقي في الشعب (5/333)، وحسّن الحافظ إسناده في بلوغ المرام (4/355ـ سبل السلام)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (29).
[6] أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة (1/34)، والطبراني في الكبير (7/289)، والبيهقي في الشعب (5/337)، وصححه الحاكم في المستدرك (4/365)، والألباني في صحيح الترغيب (32).
الشرك الخفي
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟)) قال: قلنا: بلى، قال: ((الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل))[1].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل))، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفره لما لا نعلم))[2].
هذه النصوص تدلّ على أن هناك نوعاً آخر من الشرك يسمّى الشرك الخفي، فهل هذا يدخل تحت أحد نوعي الشرك أم هو نوع مستقل بذاته؟ اختلفوا في ذلك، فقيل: يمكن أن يجعل الشرك الخفي نوعاً من الشرك الأصغر، فيكون الشرك حينئذ نوعين: شرك أكبر ويكون في عقائد القلوب، وشرك أصغر ويكون في هيئة الأفعال وأقوال اللسان والإرادات الخفية، ولكن الظاهر من النصوص أن الشرك الخفي قد يكون من الشرك الأكبر، وقد يكون من الشرك الأصغر، وليس له وصف منضبط، بل دائماً يتردّد بين أن يكون من الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، بل هو كل ما خفي من أنواع الشرك[3].
ومن أمثلة الشرك الخفي ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22] قال: (الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاء سوداء، في ظلمة الليل. وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلانة وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلان، فإن هذا كله به شرك)[4].
قال سليمان آل الشيخ: "أي: إن هذه الأمور من الشرك خفيةٌ في الناس، لا يكاد يتفطن لها ولا يعرفها إلا القليل، وضرب المثل لخفائها بما هو أخفى شيء وهو أثر النمل، فإنه خفي، فكيف إذا كان على صفاة؟ فكيف إذا كانت سوداء؟ فكيف إذا كانت في ظلمة الليل؟ وهذا يدل على شدة خفائه على من يدّعي الإسلام وعسر التخلص منه"[5].
وقال ابن عثيمين: "قوله: (هذا كله به شرك) وهو شرك أكبر أو أصغر، حسب ما يكون في قلب الشخص من نوع هذا التشريك"[6].
وعلى هذا فيجب الحذر من هذا النوع من الشرك لكثرة الاشتباه فيه، فربما يظن في أمر من الأمور أنه من الشرك الأصغر وهو في واقع الأمر من الشرك الأكبر، وهكذا العكس، وذلك لخفاء مأخذه، ودقة أمره، وصعوبة معرفته، فيكون مجاله الأمر المشتبه الذي لا يعرفه إلا الحذاق من أهل العلم، وإن كان قد يخفى على غيرهم ممن لم يكمل نظره، وضعف فهمه في أدلة الكتاب والسنة[7].
------------------
[1] أخرجه أحمد في المسند (3/30)، وابن ماجه في الزهد، باب: الرياء بالسمعة (4204)، والبيهقي في الشعب (5/334)، وصححه الحاكم في المستدرك (4/329)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (30).
[2] أخرجه أحمد في المسند (4/403)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/70)، وأبو يعلي في مسند (1/60)، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (36).
[3] الشرك في القديم والحديث (1/179) بتصرف يسير.(/2)
[4] أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1/81)، وقال الشيخ سليمان آل الشيخ: "وسنده جيد". تيسير العزيز الحميد (587)، وقال المحقق: "إسناده حسن".
[5] تيسير العزيز الحميد (587).
[6] القول المفيد (2/323).
[7] الشرك في القديم والحديث (1/179-180).(/3)
أنواع الفتن التي يجب الفرار منها
ومنشأ الفتن كلَّها من فتنة الشيطان الذي حذرنا الله عز وجل منه بقوله: (( يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ )) [الأعراف:27] .
ولذا فلن أفرد فتنة الشيطان بحديث مستقل، لأنَّ الحديث عن أنواع الفتن المختلفة إنَّما هو في الحقيقة حديث عن فتنة الشيطان- أعاذنا الله منه ومن شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن-.
وسأحاول إن شاء الله- تعالى- أنَّ أربط الموضوع بواقعنا المعاصر؛ وذلك بذكر بعض الصور والمظاهر لكل نوع من أنواع الفتن في زماننا اليوم، أمَّا ما يتعلق بسبل الفرار منها، وأسباب النجاة منها، فسأفرد المبحث الأخير- إن شاء الله تعالى- للحديث عن هذه الأسباب بشكل مفصل.
ولا بدَُّ في هذا المبحث الذي يتضمن ذكر بعض أنواع الفتن، وذكر شيءٍ من صورها، أن يتخلله ذكرُ شيءٍ من أسبابِ النجاة منها، خاصة عند ذكر النقولات التي يصعب فيها الفصل بين المظهر والعلاج.
ومن أنواع الفتن التي سيتناولها هذا المبحث ما يلي:
1- فتنة الغربة.
2- الفتنة في العقيدة.
3- فتنة المعاصي وترك إنكارها.
4- فتنة الدنيا وزخرفها.
5- فتنة الاختلاف والفرقة بين المسلمين.
6- الفتنة بالعلم.
7- فتنة المصائب والمكاره.
8- فتنة المسيح الدجال.
9- فتنة الممات.
أولاً: فتنة الغربة
إنَّ البدء بالحديث عن هذه الفتنة يأتي من كونها نتيجةً تراكم مجموعةً من الفتن، تنشأ الغربة بسببها، ويحسنُ بنا في بداية الكلام عن هذه الفتنة أن نتطرقَ لحديثِ الغربة والغرباء، الذي ثبت عن النبي من عدة طرق، ثم نعرجُ على كلام السلف في شرحهم لهذا الحديث، ونختم الموضوع بذكر بعض مظاهر الفتنة في عصور الغربة وخاصة في زماننا اليوم.
روايات حديث الغربة :
(1) عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء " قال: قيل: ومن الغرباء؟ قال: " النزاع من القبائل)) [1].
(2) عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - (( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ غريباً؛ فطوبى للغرباء " قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: " الذين يصلحون إذا فسد الناس)) [2] .
(3) عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إنَّ الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها)) [3] .
4 عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ونحن عنده: (( طوبى للغرباء " فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: " أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم )) [4] .
من خلال هذا السرد للروايات الصحيحة لحديث الغربة يتضح لنا وصف حال أهل الغربة، وأنهم نزاع من القبائل، وهذا يشير إلى قلتهم، وأنَّهم يصلحون إذا فسد الناس، وأنَّهم أناس صالحون في أناس سوءٍ كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.
وتدلنا هذه الأوصاف المذكورة للغرباء أنَّهم أهل غيرةٍ ودعوة وإصلاح، ولم يكونوا صالحين يائسين مستسلمين لواقعهم الفاسد، كما تدلنا هذه الروايات على بقاء المصلحين مهما اشتدت الغربة، ولو كانوا قلة ونزاعاً من القبائل، ولن تخلو الأرض من قائمٍ لله بالحق حتى يأتي أمر الله عز وجل.
ولذلك-والله أعلم- صدر الإمام الهروي-رحمه الله تعالى- منزلة الغربة بقوله تعالى: (( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ)) [هود:116] .
وقال ابن القيم- رحمه الله تعالى- في شرحهِ لمنازل السائرين عند هذه الآية: (استشهاده بهذه الآية في هذا الباب يدلُ على رسوخهِ في العلم والمعرفة وفهم القرآن، فإنَّ الغرباءَ في العالم هُم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية، وهُم الذين أشار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله، (وساق حديث الغرباء السابق براوياته المختلفة) ثم قال: وقال نافع بن مالك: دخل عمر بن الخطاب المسجد فوجد معاذ بن جبل جالساً إلى بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبكي، فقال له عمر: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ هلك أخوك؟ قال: لا، ولكن حديثاً حدثنهِ حبيبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في هذا المسجد، فقال: ما هو؟ قال: (( إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنةٍ عمياء مظلمة))[5].(/1)
فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جداً سموا: (الغرباء) فإنَّ أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهلُ السنةِ الذين يميزونها من الأهواء والبدع فيهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين أشدَّ هؤلاء غربة، ولكن هؤلاءِ هم أهل الله حقاً، فلا غربة عليهم، إلى أن قال: وهذه الغربة قد تكون في مكانٍ دون مكان، ووقتٍ دون وقت، وبين قومٍ دون قوم)([6]).
كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على حديث الغربة:
يعلق- رحمه الله تعالى- على الحديث فيقول:
(لا يقتضي هذا أنَّهُ إذا صار غريباً يجوز تركه- والعياذ بالله- بل هو كما قال الله تعالى: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [آل عمران:85]
وقال تعالى: (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام)) [آل عمران:19].
وقال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) [آل عمران:102] .
ولا يقتضي هذا أنَّهُ إذا صار غربياً أنَّ المتمسك في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحديث: (( فطوبى للغرباء)) .
(وطوبى) من الطيب؟ قال تعالى: ((طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)) [الرعد:29].
فإنَّهُ يكونُ من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوهُ لما كان غريباً، وهم أسعد الناس، أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجةً بعد الأنبياء- عليهم السلام-.
وأما في الدنيا؛ فقد قال- تعالى-: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) [الأنفال:64].
أي: أنَّ اللهَ حسبكَ وحسب متبعك، فالمسلم المتبع للرسول - صلى الله عليه وسلم -
الله حسبهُ وكافيه، وهو وليهُ حيث كان ومتى كان، ولهذا يوجد المسلمون المتمسكون بالإسلام في بلاد الكفر لهم السعادة كلما كانوا أتم تمسكاً بالإسلام، إلى أن قال: وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع، وكلَّ، وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهيٌّ عن هذا، بل هو مأمور بالصبر، والتوكل، والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هُم محسنون، وأنَّ العاقبة للتقوى، وأنَّ ما يصيبهُ فهو بذنوبهِ فليصبر، إنَّ وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ثم يعود غريباً كما بدأ)) يبين شيئين :
أحدهما: أنه في أمكنةٍ وأزمنةٍ يعود غريباً بينهم ثم يظهر؛ كما كان في أول الأمر غريباً، ثم ظهر، ولهذا قال: ((سيعود غريباً كما بدأ )) .
وهو لما بدأ غريباً، لا يعرف، ثم ظهر وعرف، فكذلك يعود حتى لا يعرف، ثم يظهر ويعرف؛ فيقل من يعرفهُ في أثناء الأمر؛ كما كان من يعرفه أولاً.
ويحتمل أنَّهُ في آخر الدنيا لا يبقى مسلماً إلاَّ قليل، وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة، وحينئذٍ يبعثُ الله ريحاً تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، ثم تقوم القيامة.
وأمَّا قبل ذلك؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة )) .
وهذا الحديث في (الصحيحين) [7]
ومثله من عدة أوجه، وهذا الحديث يفيد المسلم أنَّهُ لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكونُ في شكٍ من دين الإسلام كما كان الأمرُ حين بدأ، وقد تكون الغربة في بعض شرائعه وقد يكون في بعض الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير به غريباً. 00) [8] أ.هـ.
كلام الشاطبي - رحمه الله تعالى – على حديث الغربة :
تحدث الإمام الشاطبي عن حالة الإسلام في أوَّل أمره، والغربة التي مرَّ فيها حتى ظهر وعلا على الدين كله، فانقمع الشرك وأهله، ثم عرج على ظهور البدع بعد ذلك وانتشارها حتى رجعت غربة جديدة على الإسلام وأهله، ثم شرع يصف نفسه مع أهل زمانه، وكيف آثرَ إتباع السنة مع كثرة المخالف والخصوم على اتباع البدعة والضلال ، فقال- رحمه الله تعالى- وهو يصفُ غربته وغربة أهل السنة بين أهل زمانه:(فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس،فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد، لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها؛ إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل، وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال، عائذاً بالله من ذلك؛ إذا أنَّي أوافق المعتاد، وأعد من المؤلفين، لا من المخالفين.(/2)
فرأيت أنَّ الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأنَّ الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت علي القيامة، وتواترت علي الملامة، وفوق إلي العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة.
وإنَّي لو التمست لتلك المحدثات مخرجاً، لوجدت غير أن ضيق العطن، والبعد عن أهل الفطن، رقى بي مرتقى صعباً، وضيق علي مجالاً رحباً، وهو كلامٌ يشيرُ بظاهرهِ إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات، أولى من اتباع الواضحات، وإن خالفت السلف الأول .
وربما ألمُّوا في تقبيح ما وجهتُ إليه وجهتي بما تشمئزُ منهُ القلوب، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة، شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة.
فتارةً نسبت إلى القول بأنَّ الدعاء لا ينفع، ولا فائدة فيه، كما يُعزَّي إلي بعض الناس؛ بسبب أنَّي لم ألتزم الدعاء بهيئةِ الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة، وللسلف ا لصا لح والعلماء، وتارةً نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة- رضي الله عنهم- بسببِ أنَّي لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك من شأنِ السلف في خطبهم، ولا ذكرهُ أحدُ من العلماء المعتبرين في أجزاءِ الخطب.
وقد سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال: [هو بدعة، ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة].
قيل له: فدعاؤهُ للغزاة والمرابطين؟
قال: [ما أرى به بأساً عند الحاجة إليه، وأمَّا أن يكون شيئاً يصمدُ له في خطبته دائماً، فإني أكره ذلك].
ونص أيضاً عز الدين بن عبد السلام على أنَّ الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة.
وتارةً أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلاَّ من عدم ذكرهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم، وتارةً حمل علي التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنَّما حملهم على ذلك أنَّي التزمتُ في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم أو في غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسطٌ في كتاب " الموافقات".
وتارةً نسبت إلى معاداة أولياء الله ؛ وسبب ذلك أنَّي عاديتُ بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين- بزعمهم- لهداية الخلق، وتكلمتُ للجمهور على جملةٍ من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم، وتارةً نسبتُ إلى مخالفة السنة والجماعة، بناءً منهم على أنَّ الجماعة التي أمر باتباعها- وهي الناجية- ما عليه العموم، ولم يعلموا أنَّ الجماعة ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، وسيأتي بيان ذلك بحول الله.
وكذبوا علي في جميع ذلك، أو وهموا، والحمد لله على كل حال.
فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة، الحافظ مع أهل زمانه؛ إذ حكى عن نفسه فقال: [عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين،
والعارفين والمنكرين، فإنِّي وجدتُ بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقاً أو مخالفاً، دعاني إلى متابعتهِ على ما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة له، فإن كنتُ صدقته فيما يقول، وأجزتُ له ذلك- كما يفعله أهل هذا الزمان- سماني موافقاً، وإن وقفتُ في حرفٍ من قوله، وفي شيءٍ من فعله؛ سماني مخالفاً، وإن ذكرتُ في واحدٍ منها أنَّ الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد؛ سماني خارجياً، وإن قُرئ عليَّ حديثٌ في التوحيد سمَّاني مُشبهاً، وإن كان في الرؤيةِ سمَّاني سالمياً.
وإن كان في الإيمان؛ سماني مرجئاً، وإن كان في الأعمال؛ سماني قدرياً، وإن كان في المعرفة سماني كرامياً، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر؛ سماني ناصبياً، وإن كان في فضائل أهل البيت؛ سماني رافضياً.
وإن سكت عن تفسير آية أو حديث، فلم أجب فيهما إلاَّ بهما؛ سمَّاني ظاهرياً، وإن أجبت بغيرهما؛ سمَّاني باطنياً، وإن أجبتُ بتأويل سمَّاني أشعرياً، وإن جحدتُهما سمَّاني معتزلياً.
وإن كان في السنن مثل القراءةِ سمَّاني شافعياً، وإن كان في القنوت سمَّاني حنفياً.
وإن كان في القرآن سمَّاني حنبلياً، وإن ذكرت رجحان ما ذهبَ كل واحدٍ منهم إليه من الأخبار- إذ ليس في الحكم والحديث مُحاباة- قالوا: طعن في تزكيتهم.
ثم أعجبُ من ذلك أنَّهم يُسمُونني فيما يقرؤون عليَّ من أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ما يشتهون من هذه الأسامي؛ ومهما وافقتُ بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطتُ الله- تبارك وتعالى- ولن يغنوا عنِّي من الله شيئاً، وإنِّي مستمسكٌ بالكتاب والسنة، وأستغفرُ الله الذي لا إله إلاَّ هو وهو الغفور الرحيم "]. هذا تمام الحكاية.(/3)
فكأنَّهُ- رحمه الله- تكلم على لسانِ الجميع، فقلما تجدُ عالماً مشهوراً، أو فاضلاً مذكوراً؛ إلاَّ قد نبذَ بهذه الأمور أو بعضها؛ لأنَّ الهوى قد يداخلُ المخالف، بل سببُ الخروج عن السنةِ الجهل بها، والهوى المتبع الغالب على أهلِ الخلاف، فإذا كان كذلك؛ حمل على صاحب السنة أنَّهُ غير صاحبها، ورجعَ بالتشنيع عليه، والتقبيحِ لقوله وفعله، حتى ينسب هذه المناسب.
وقد نقل عن سيد العباد- بعد الصحابة- أو يس القرني أنَّه قال: ["إنَّ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا " للمؤمن "صديقاً: نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا، ويجدون على ذلك أعواناً من الفاسقين حتى- والله- لقد رموني بالعظائم، و أيمُ الله لا أدعُ أن أقوم فيهم بحقه"].
فمن هذا الباب يرجع الإسلام غريباً كما بدأ؛ لأنَّ المؤلف فيه على وصفه الأول قليل، فصار المخالفُ هو الكثير، فاندرست رسومُ السنة حتى مدت البدع أعناقها، فأشكلَ مرماها على الجمهور، فظهر مصداق الحديث الصحيح) [9] أ.هـ.
من أقوال السلف في الغربة وأهلها :
* قال الأوزاعي- رحمه الله- في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (( بدأ الإسلام غريباً... الحديث )) : (أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلاَّ رجل واحد)[10] .
* وقال يونس بن عبيد- رحمه الله تعالى-: (( ليس شيءً أغربُ من السنةِ وأغربُ منها من يعرفها)) 2.
* وعن سفيان الثوري- رحمه الله تعالى- قال: (( استوصوا بأهلِ السنة فإنَّهم غُرباء)) 2.
* وقال ابن رجب - رحمه ا لله تعالى-: (( وهؤلاءِ الغرباء قسمان أحدهما: من يُصلحُ نفسه عند فسادِ الناس، والثاني: من يُصلحُ ما أفسدَ الناس وهو أعلى القسمين، وهو أفضلهما)) [11] .
* وقال الحسن- رحمه الله تعالى-: (المؤمنُ في الدنيا كالغريبِ لا يجزعُ من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن) [12] .
* وقال ابن رجب- رحمه الله تعالى-: (ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي- وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني- يقول: (إنَّي أدركتُ من الأزمنة زماناً عادَ فيه الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريباً كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا، يحبُّ التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابدٍ وجدتُه جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً غدرهُ إبليس، وقد صعد به إلى أعلى درجةٍ من العبادة وهو جاهل بأدناها، فكيف لهُ بأعلاها؟ وسائرُ ذلك من الرعاع، همجٌ عوج، وذئابٌ مختلسة، وسباعٌ ضارية، وثعالب ضوارٍ، هذا وصفُ عيونِ أهل زمانكَ من حملةِ العلم والقرآنِ ودعاةِ الحكمة).
خرجه أبو نعيم في " الحلية" [13] .
فهذا وصفُ أهلُ زمانهِ فكيف بما حدث بعده من العظائمِ والدواهي التي لم تخطرُ بباله ولم تدر في خياله؟.[14] أ.هـ.
* روى الذهبي- رحمه الله تعالى- في السير عن أبي الحسين العتكي قال: (سمعت إبراهيم الحربي يقول لجماعةٍ عنده: من تعدونَ الغريب في زمانكم؟ فقال رجل: الغريب: من نأى عن وطنه، وقال آخر: الغريب: من فارق أحبابهُ، فقال إبراهيم: الغريب في زماننا: رجلٌ صالح عاشَ بين قومٍ صالحين، إن أمر بمعروف آزروه، وإن نهى عن منكر أعانُوهُ، وإن احتاج إلى سببٍ من الدنيا ما نوه ثم ماتوا وتركوه)[15] 2.
وخلاصة النقولات السابقة حول الغربة وأهلها:
1- إنَّ الغربة المطلقة في كلِّ الأرض لا تكون إلاَّ قبيل قيام الساعة،
أما قبل ذلك فلن تخلو الأرض من قائمين بالحق ولو كانوا قلة، ولكن قد توجدُ غربةً تامةً في مكانٍ دون مكان، وفي جانبٍ من الشريعةِ دُون جانب. والله أعلم.
2- أنَّ أهل الغربة الممدوحين في كلِّ مكانٍ وزمان هُم الفرقةُ الناجية، والطائفةُ المنصورة، أهلُ السنةِ والجماعةِ المتمسكة بالكتاب والسنة وفهم الصحابة- رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان.
3- أهلُ الغُربةِ في كلِّ مكانٍ قليلون ولكن أثرهم على الناس عظيم؛ لأنَّ من أهمِّ أوصافهم أنَّهم يدعون إلى الله -عز وجل - ويصلحون ما افسد الناس ويجددون لهم دينهم.
4- المخالف لأهل الغربة كثير، والأذى الذي يتعرضون له عظيم، لكنهم بالحق الذي يحملونهُ، والمهمة الشريفة التي يُؤدونها، والصبرُ الجميل الذي يتحلون به ثابتون مطمئنون.
5- في حديث الغربة معنى لطيف، أشارَ إليه شيخُ الإسلام- رحمه الله تعالى- بقوله: (وهو لما بدأ غريباً لا يعرفُ ثم ظهر وعرف؛ فكذلك يعودُ حتى لا يعرف ثم يظهر ويعرف)[16] أ.هـ.
وفي هذا ردٌّ على من يفهم من أحاديث الغربة انحسار الإسلام وعدم الأمل بعودته، وهذا ما يفهمهُ كثيرٌ من اليائسين من هذا الحديث، وفي كلام شيخ الإسلام السابق رد على هذا الفهم الخاطئ، وذلك أنَّ الإسلام إذا عاد غريباً كما بدأ فإنَّهُ سيعود قوياً ظاهراً كما حصل ذلك بعد غربة الإسلام الأولى.(/4)
وهذا الفهمُ الصحيح هو الذي تشهدُ له أحاديث صحيحة كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيتُ مشَارقها ومغاربها، وإنَّ أمتي سيبلُغ مُلكها ما زوي لي منها)) [17] .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار،ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخلهُ الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر))[18] .
6- الغربة في شدتها وعظم أجر أهلها ليست على رتبة واحدة وإنما هي متفاوتة، فهناك غربة أهل الإسلام بين أهل الأديان الكافرة، وأشدُّ منها غربة أهل السنة والإيمان بين أهل الإسلام والفرقِ الضالة من أهل القبلة، وأشدُّ منها غربةُ أهل العلم بين عامة أهل السنة، وأشدُّ منها غربةُ العلماء المجاهدين الصابرين بين أهل العلم القاعدين، وهؤلاءِ هم الذين قال عنهم ابن القيم- رحمه الله تعالى-: (هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم)[19] وهم الذين قال عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((إنَّ من ورائكم أيام الصبر للمتمسكِ فيهنَّ يومئذٍ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله أو منهم. قال: بل منكم ))[20] .
7- أهل الغربة وإن كانوا قلة فهم السعداء حقاً ولا وحشة عليهم، وإن خالفهم أكثرُ الناس؛ فحسبهم راحةً وطمأنينةً أنَّهم في قافلةِ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداءِ والصالحين وحسنَ أولئكَ رفيقاً.
________________________________________
1 الترمذي 1815، أحمد 1 3981، والبغوي في شرح السنة 18/1 وصححه.
2 أخرجه أبو عمر الداني في (السنن الواردة في الفتن) (3/ 633) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة 13 / 267.
3 مسلم شرح النووي 2/ 76.
4 أخرجه أحمد (2/ 177، 222) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند(6650)
5 أخرجه الآجري في (صفة الغرباء) (38) وضعفه الألباني في الضعيفة (1850).
6 مد ارج السالكين 3/ 194- 200 باختصار.
7 البخاري (16 632، 13 1 442 الفتح) مسلم (13 1 66- 67 النووي).
8 مجموع الفتاوى 291118- 305 (باختصار).
9 الاعتصام 1/ 97- 101.
10 كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب ص 28، 29.
11 كشف الكربة ص 32.
12 كشف الكربة ص 47.
13 الحلية لأبي نعيم 9/ 286.
14 كشف الكربة لابن رجب ص 37.
15 سير أعلام النبلاء13/ 362.
16 انظر ص 38.
17 رواه مسلم في الفتن (2889).
18 رواه ابن حبان بنحوه (6699 إحسان)، وصححه الألباني في السلسلة 1/7.
19 انظر ص 36.
20 أبو داود في الملاحم (4341)، والترمذي في التفسير (3508) وصححه الألباني في السلسلة (494).(/5)
أنواع الهموم
يتناول الدرس أنواع الهموم التي تعرض للإنسان سواء بسبب الدَّين أو الدين، أو الهم الذي يعتري الداعية حرصا على هداية قومه، أو هموم العبادات، أو بسبب التهم الباطلة، أو بسبب رؤيا يراها المرء .
1- الهم الذي يعتري الداعية أثناء دعوته لقومه
وقد نال منه الأنبياء النصيب الأوفى، فهذه عائشة رضى الله عنها تحدث ابن أختها عروة : أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم :َ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيت،ُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ، وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ؛ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ]رواه البخاري، و مسلم .
2- هم العبادات
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهمه أمر إعلام الناس بالصلاة : فعَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ : اهْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا ، فَقِيلَ لَهُ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلاةِ ، فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ . قَالَ : فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ _ يَعْنِي الشَّبُّورَ _ شَبُّورُ الْيَهُودِ _ فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ ، وَقَالَ : هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ ] قَالَ : فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ، فَقَالَ : [ هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى ] فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، وَهُوَ مُهْتَمٌّ ؛ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأُرِيَ الأَذَانَ فِي مَنَامِهِ . قَالَ : فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ ، وَيَقْظَانَ ، إِذْ أَتَانِي آتٍ ، فَأَرَانِي الأَذَانَ…' رواه أبو داود .
3- هم الصادق بتكذيبه
كما وقع للصحابي الجليل زيد بن أرقم رضي الله عنه لما سمع رأس المنافقين يقول لأَصْحَابِهِ : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ؛ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ _ يعني بالأعز: نفسه، ويقصد قبحه الله بالأذل: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه ] ، قَالَ زَيْدٌ : [ فَأَخْبَرْتُ عَمِّي فَانْطَلَقَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَلَفَ، وَجَحَدَ ، فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَذَّبَنِي , فَجَاءَ عَمِّي إِلَيَّ، فَقَالَ: مَا أَرَدْتَ إِلا أَنْ مَقَتَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَن وَكَذَّبَكَ، وَالْمُسْلِمُونَ ؛ فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنَ الْهَمِّ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَدٍ . فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، قَدْ خَفَقْتُ بِرَأْسِي مِنَ الْهَمِّ ؛ إِذْ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَكَ أُذُنِي، وَضَحِكَ فِي وَجْهِي ، فَمَا كَانَ يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الْخُلْدَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَحِقَنِي، فَقَالَ: مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا إِلا أَنَّهُ : عَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي ، فَقَالَ: أَبْشِرْ ، ثُمَّ لَحِقَنِي عُمَرُ، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ قَوْلِي لأَبِي بَكْرٍ ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد .
4-هم البرىء بسبب التهمة الباطلة(/1)
وقد نال زوجة رسولنا الكريم عائشة رضى الله عنها من هذا الهم نصيبا وافرا ، فعندما رماها المنافقون في غزوة المريسيع بما رموها به من الفاحشة ، وكانت مريضة، علمت بالخبر من إحدى نساء بيتها ، فازداد مرضها، وركبها الهم، قَالَتْ : فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوَ قَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا ؟! فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى أَصْبَحْتُ أَبْكِي.. ثم قَالَتْ : فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ، وَيَوْمًا لا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَلا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي، وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي قَالَتْ : فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا، وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ ؛ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ].
قَالَتْ : فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ، قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً ، فَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ . قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُول ُلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقُلْتُ لأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَتْ: فَقُلْتُ _ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ ، لاأَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ : إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي بَرِيئَةٌ _ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ _ لا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ _ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ _ لَتُصَدِّقُنِّي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلاً إِلا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ [ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [ 18 ] ] سورة يوسف .
قَالَتْ : ثُمَّ تَحَوَّلْتُ، فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي ، وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ ؛ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي يُنْزَلُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَ عَنْهُ ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا : [ يَا عَائِشَةُ : أَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَدْ بَرَّأَكِ ] فَقَالَتْ أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ ، فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ لا أَقُومُ إِلَيْهِ ، وَلا أَحْمَدُ إِلا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : [ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ [ 11 ]] الْعَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا ]. سورة النور . رواه البخاري، ومسلم، وأحمد .(/2)
وكذلك قصة المرأة التي اتُّهمت ظلماً , فعن عَائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ ، وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ فِي الْمَسْجِدِ ، فَكَانَتْ تَأْتِينَا، فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا، فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ :
وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا أَلا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي
فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ : وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ ؟ قَالَتْ : خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي، وَ عَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ ، فَسَقَطَ مِنْهَا ، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا ، وَهِيَ تَحْسِبُهُ لَحْمًا ، فَأَخَذَتْهُ ، فَاتَّهَمُونِي بِهِ، فَعَذَّبُونِي حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي فَبَيْنَا هُمْ حَوْلِي ، وَ أَنَا فِي كَرْبِي إِذْ أَقْبَلَتِ الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ بِرُءُوسِنَا ، ثُمَّ أَلْقَتْهُ ، فَأَخَذُوهُ ، فَقُلْتُ لَهُمْ : هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ ] رواه البخاري .
5- الهم بما قد يحصل للزوجة والذرية بعد الموت
عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : [ إِنَّ أَمْرَكُنَّ مِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي ، وَ لَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلا الصَّابِرُونَ ] ثُمَّ تَقُولُ عَائِشَةُ:فَسَقَى اللَّهُ أَبَاكَ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ - تُرِيدُ : عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَكَانَ قَدْ وَصَلَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ يُقَالُ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفاً _ ] رواه الترمذي، وأحمد .
6- الهم بسبب الَدين
ومن أمثلة ذلك ما وقع للزبير رضي الله عنه كما روى قصته ولده عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : [ لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ : يَا بُنَيِّ : إِنَّهُ لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلا ظَالِمٌ ، أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لا أُرَانِي إِلا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا ، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا ؟ فَقَالَ : يَا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا ، فَاقْضِ دَيْنِي ، وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ _ يَعْنِي : بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، يَقُولُ : ثُلُثُ الثُّلُثِ _ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ ، فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ , قَالَ هِشَامٌ : وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ خُبَيْبٌ ، وَعَبَّادٌ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ ، وَتِسْعُ بَنَاتٍ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ ، وَيَقُولُ : يَا بُنَيِّ إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ ، فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلايَ , قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ ، حَتَّى قُلْتُ : يَا أَبَتِ مَنْ مَوْلاكَ ؟ قَالَ : اللَّهُ ، فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلاّ قُلْتُ : يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ فَيَقْضِيهِ... قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ : فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ ، فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ ، وَمِائَتَيْ أَلْفٍ , واستبعد بعض أصحاب الزبير رضي الله عنه إمكان قضاء الدّين من هوله ، وكثرته، ولكن بارك الله في أرض كانت للزبير بركة عظيمة، ومدهشة، فقسّمت، وبيعت، وسُدّد الدّين، وبقيت بقية , فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ ، قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ : اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا . قَالَ : لا ، وَاللَّهِ لا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ أَلا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ ، فَلْيَأْتِنَا ، فَلْنَقْضِهِ , قَالَ : فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ . فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ ، وَمِائَتَا أَلْفٍ ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ ] رواه البخاري .
7- الهم للرؤيا يراها المرء(/3)
و وقع لابن عمر رضي الله عنهما أيضا همّ بسبب رؤيا رآها ، و قد حدث عن ذلك فقَالَ: [ كُنْتُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا لِي مَبِيتٌ إِلا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ ، يَأْتُونَهُ، فَيَقُصُّونَ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا ، فَقُلْتُ : مَا لِي لا أَرَى شَيْئًا ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ ، فَيُرْمَى بِهِمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ فِي رَكِيٍّ ، فَأُخِذْتُ ، فَلَمَّا دَنَا إِلَى الْبِئْرِ ، قَالَ رَجُلٌ: خُذُوا بِهِ ذَاتَ الْيَمِينِ ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ هَمَّتْنِي رُؤْيَايَ، وَأَشْفَقْتُ مِنْهَا، فَسَأَلْتُ حَفْصَةَ عَنْهَا، فَقَالَتْ : نِعْمَ مَا رَأَيْتَ , فَقُلْتُ لَهَا : سَلِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: [ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ] قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَكُنْتُ إِذَا نِمْتُ لَمْ أَقُمْ حَتَّى أُصْبِحَ , قَالَ نَافِعٌ : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي اللَّيْلَ ]
وفي رواية أخرى لهذه الرؤيا : قال ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما : [ إِنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَرَوْنَ الرُّؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَقُصُّونَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ , وَأَنَا غُلامٌ حَدِيثُ السِّنِّ ، وَبَيْتِي الْمَسْجِدُ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَ ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : لَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ ؛ لَرَأَيْتَ مِثْلَ مَا يَرَى هَؤُلاءِ ، فَلَمَّا اضْطَجَعْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ قُلْتُ : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِيَّ خَيْراً ، فَأَرِنِي رُؤْيَا ، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ جَاءَنِي مَلَكَانِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ يُقْبِلانِ بِي إِلَى جَهَنَّمَ ، وَأَنَا بَيْنَهُمَا أَدْعُو اللَّهَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهَنَّمَ ، ثُمَّ أُرَانِي لَقِيَنِي مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ ، فَقَالَ : لَنْ تُرَاعَ ، نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ لَوْ كُنْتَ تُكْثِرُ الصَّلاةَ , فَانْطَلَقُوا بِي حَتَّى وَقَفُوا بِي عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ لَهُ قُرُونٌ كَقَرْنِ الْبِئْرِ بَيْنَ كُلِّ قَرْنَيْنِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ ، وَ أَرَى فِيهَا رِجَالاً مُعَلَّقِينَ بِالسَّلاسِلِ رُؤوسُهُمْ أَسْفَلَهُمْ عَرَفْتُ فِيهَا رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ ، فَانْصَرَفُوا بِي عَنْ ذَاتِ الْيَمِينِ ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ] فَقَالَ نَافِعٌ : فَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ الصَّلاةَ ] رواه البخاري، ومسلم، وابن ماجه، وأحمد، والدارمي .
و هذا الهم الحاصل بسبب الرؤى يعالج بأمور جاءت في السنة منها :
· التفل عن الشمال ثلاثاً .
· الاستعاذة بالله من الشيطان ثلاثاً .
· الاستعاذة بالله من شرّ ما رأى ثلاثاً .
· أن يغير الجنب الذي كان نائماً عليه ، أو يقوم يصلي .
· لا يحدّث برؤياه تلك.
مختصرة من [ علاج الهموم ] للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق(/4)
أنور الجندي .. هل فقدناه؟!! ...
يوم الثلاثاء 15/11/1422هـ فوجئ العالم الإسلامي برحيل المفكر الإسلامي الكبير والكاتب البارع الأستاذ أنور الجندي، وذلك في مستشفى التطبيقيين الدولي بالجيزة بمصر، وقد ذكر الطبيب المعالج أنه قبل وفاته مباشرة استقبل القبلة وصلى، وأعلن فرحه بلقاء ربه، حيث فاضت روحه بعد ذلك عن عمر يناهز 85 عاما تعتبر رحلة عطاء وجهاد طويل. أعمال مختلفة تنتهي بالتأليف كان رحمه الله تعالى قد ولد في مدينة ديروط، إحدى المدن بصعيد مصر، وذلك عام 1917 وتزوج في نفس المدينة من ابنة عمه السيدة نفيسة عبد العال الجندي، ورزقه الله بنتا واحدة هي فائزة، وقد حصلت على ليسانس الدراسات الإسلامية من جامعة الأزهر عام 1969م. وقد عمل في أعمال مختلفة منذ بداية حياته، حتى تفرغ بعد ذلك للتأليف والكتابة، وتُشَكِّلُ سنة 1940 م علامة فارقة في حياة الأستاذ أنور الجندي، وذلك عندما قرأ ملخصا عن كتاب "وجهة الإسلام" (لمجموعة من المستشرقين) الذي لفت نظره إلى التحدي للإسلام ومؤامرة التغريب، وهو يصف ذلك بقوله: "وبدأت أقف في الصف: قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري الأجنبي والغزو الثقافي، غير أني لم أتبين الطريق فورا، وكان عليّ أن أخوض في بحر لجي ثلاثون عاما .. كانت وجهتي الأدب، ولكني كنت لا أنسى ذلك الشيء الخفي الذي يتحرك في الأعماق .. هذه الدعوة التغريبية في مدها وجزرها ، في تحولها وتطورها ……. ". الجد والاجتهاد أبرز صفاته رحمه الله ويعد الأستاذ أنور الجندي رحمه الله تعالى واحدا من القِمم الشَّامخة التي أثرت المكتبة الإسلامية بالعشرات من الكتب والمجلدات، وقد كان في غاية من الجد والاجتهاد والبحث المتواصل الدؤوب، فكان لا يضيع من وقته شيئاً. تقول ابنته: كان الوالد منظما جدا وبسيطا جدا ومؤمنا جدا - ولا نزكيه على الله - كانت حياته عملا، ولم يكن لديه وقت يضيعه، وكان آخر وقته بعد صلاة العشاء، ثم ينام ساعتين أو ثلاثا ثم يستيقظ ليصلي القيام، وبعد صلاة الفجر ينام ساعتين، ثم يستيقظ لقضاء حاجاتنا اليومية. فالوالد كان يخدم نفسه بنفسه كما كان يقوم على رعايتنا وخدمتنا0 فهو الذي كان يشتري الإفطار والجرائد وكل شيء يلزمنا بنفسه0 وكان مع ذلك يهتم بأمور الجيران وغيرهم، تقول ابنته إنه كان يشعر بالمسؤولية تجاه الجميع، ومن مواقفه أنه -رحمة الله- كان يملأ جرادل المياه حين تنقطع عن شقق الجيران، ويتركها لهم أمام شققهم قبل الفجر حتى يمكنهم الصلاة0 وكان حريصا جدا على الوضوء، فكان دائما متوضئا، ولا يأكل إلا متوضئا، بل كان كل سطر يكتبه وهو متوضئ. وهو يقول عن نفسه رحمه الله مبينا دأبه في البحث والاطلاع: " قرأت بطاقات دار الكتب، وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها. راجعت فهارس المجلات الكبرى كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة، وأحصيت منها بعض رؤوس موضوعات، راجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عاما، وراجعت المقطم والمؤيد واللواء والبلاغ وكوكب الشرق والجهاد وغيرها من الصحف، وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عرفتها في بلادنا في خلال هذا القرن، كل ذلك من أجل تقدير موقف القدرة على التعرف على (موضوع) معين في وقت ما. البعد عن الظهور والشهرة ومع هذا الجد والاجتهاد والشهرة العالية، فإن من الغريب أن الأستاذ أنور الجندي كان رجلا بسيطا لا يعرف الثراء ولا الترف، بل كان يعيش حياة البسطاء في المسكن والملابس وغير ذلك من أمور الحياة، وكان مع ذلك عفيفا لا يقبل شيئا على محاضراته وأفكاره، بل حتى الجوائز التقديرية كان يرفضها ويأباها، ويقول عندما يكلم في ذلك يقول: أنا اعمل للحصول على الجائزة من الله ملك الملوك" ولذا نجده كما تقول ابنته زاهدا في الأضواء وفي الظهور، ولم يكن يحبذ اللقاءات التلفزيونية أو الفضائية، وكان كل همه التأليف، وكان يدعو ربه دائما بأن يعطيه الوقت الذي يمكنه من كتابة ما يريد "ولذا فإن مشاركاته في الفضائيات قليل جدا تكاد تقتصر على بعض التسجيلات في أبو ظبي والرياض. هذا وقد أوصى قبل وفاته بأن يتم تصنيف كتبه ومكتبته كلها، ثم دفعها لمؤسسة إسلامية تقوم بطرح هذه المكتبة للجمهور من القراء والباحثين للاستفادة منها، وقد شدد على أن كل تراثه الفكري يجب أن يكون وقفا للمسلمين0 مشاركاته العلمية حصل الراحل الكبير على جائزة الدولة التقديرية عام 1960، وشارك في العديد من المؤتمرات الإسلامية التي عقدت بعواصم العالم الإسلامي في الرياض والرباط والجزائر ومكة المكرمة والخرطوم وجاكرتا. كما حاضر في عدد من الجامعات الإسلامية مثل جامعة الإمام محمد بن سعود، والمجمع اللغوي بالأردن، وأثرى المكتبة العربية والإسلامية بأكثر من 300 كتاب في مختلف قضايا المعرفة والثقافة الإسلامية. ومن أهم كتبه: أسلمة المعرفة، ونقد مناهج الغرب، والضربات التي وجهت للأمة الإسلامية، واليقظة(/1)
الإسلامية في مواجهة الاستعمار، وأخطاء المنهج الغربي الوافد، وتاريخ الصحافة الإسلامية" . وكان آخر كتبه هو كتاب "نجم الإسلام لا يزال يصعد" وبالرغم من كثرة الكتب التي ألفها الأستاذ أنور الجندي والموضوعات التي تعرض لها، إلا أنه اهتم بشكل خاص بتقديم خطة كاملة لمقاومة التغريب والغزو الثقافي، ثم اتجه بعد ذلك إلى العمل في أسلمة العلوم والمناهج وتأصيل الفكر الإسلامي وبناء البدائل، وهو ما واصل العمل فيه إلى آخر لحظة في حياته. وقد واجه أنور الجندي فكر طه حسين في الكثير من مؤلفاته، وهو يفسر سبب ذلك بقوله: "لقد كان طه حسين هو قمة أطروحة التغريب وأقوى معاقلها، ولذلك كان توجيه ضربة قوية إليه هي من الأعمال المحررة للفكر الإسلامي من التبعية". ويقول أنور الجندي في العلاقة بين الأدب والفكر وخطر الفصل بينهما: "إن فصل الأدب عن الفكر – وهو عنصر من عناصره – من أخطر التحديات التي فتحت الباب واسعا أما الأدب ليتدخل في كل قضايا الإجماع ويفسد مفاهيم الإسلام الحقيقية " ولئن كان العالم الإسلامي قد فقد شخص الأستاذ أنور الجندي رحمه الله، فإن تراثه الفكري سيبقى علامة واضحة على ما قدمه للإسلام والمسلمين، وستبقى كتبه مرجعا للباحثين عن فكر إسلامي واضح بين. رحم الله الفقيد رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وخلف أهله والأمة الإسلامية بخي(/2)
أنور الجندي الأديب الزاهد الرباني الدؤوب
أنور الجندي: أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله
نحن إزاء شخصية مفكر وفيلسوف وباحث متجرد شديد العمق واسع العطاء لا يتطلع إلى أي شيء في الحياة غير أمر واحد، هو أن يقول كلمته ويعيش لفكرته التي جند لها كل ما أتاه الله من مواهب وقدرات، وعمر وفهم وحياة.
يقول العلامة الراحل أنور الجندي (1917م – 2002م): "أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلت موكلا فيها منذ بضع وأربعين سنة منذ رفع القضية الإمام الذي استشهد في سبيلها قبل خمسين عاما للناس، حيث أعد لها الدفوع وأقدم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة إلى الحق تبارك وتعالى، وعهد على بيع النفس لله والجنة – سلعة الله الغالية – هي الثمن لهذا التكليف" "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة".
بيت أصيل
ولد الجندي بـ (ديروط) عام 1917 التابعة لمركز أسيوط بصعيد مصر، وهي واحدة من أجل بلاد الصعيد، حيث تسقيها ثلاثة روافد للنيل هي: الإبراهيمية، وبحر يوسف، والدلجاوي.حيث كان جده لوالدته قاضيا شرعيا يشتغل بتحقيق التراث ووالده يشتغل بتجارة الأقطان. وكان أيضا حفيا بالثقافة الإسلامية ومتابعة الأحداث الوطنية والعالمية، وكان بيت الجندي مغمورا بالصحف والمجلات وصور الأبطال من أمثال عبد الكريم الخطابي زعيم الريف المغربي، وأنور باشا القائد التركي الذي اشترك في حرب فلسطين – والذي كان ذائع الشهرة حينئذ – وباسمه تسمى أنور الجندي من قبل والديه تيمنا وإعجابا.
حفظ القرآن الكريم في كتاب القرية. ويسرت له ظروف والده التجارية أن يعمل وهو صغير ببنك مصر بعد أن درس التجارة وعمل المصارف بالمدارس المتوسطة. ثم واصل دراسته الجامعية في المساء حيث درس الاقتصاد والمصارف وإدارة الأعمال، وتخرج في الجامعة الأمريكية مجيدا للغة الإنجليزية التي درسها خصيصا ليستطيع متابعة ما يثار من شبهات حول الإسلام من الشرق والغرب ويقوم بالرد السديد عليها.
بدأ رحلة الفكر والكتابة مبكرا حيث نشر في مجلة "أبولو" الأدبية الرفيعة التي كان يحررها الدكتور أحمد زكي أبو شادي عام (1933)، وكانت قد أعلنت عن مسابقة لإعداد عدد خاص عن شاعر النيل حافظ إبراهيم، فجرد أنور الجندي قلمه، وأجاد في حافظ إلى حد أنه يقول: "ما زلت أفخر بأني كتبت في (أبولو) وأنا في هذه السن (17) عاما، وقد فتح لي هذا باب النشر في أشهر الجرائد والمجلات آنئذ مثل البلاغ وكوكب الشرق والرسالة وغيرها من المجلات والصحف".
الجندي على ثغر الغزو الفكري
ثم واصل هذا الرجل الفريد رحلته التي رصد كل لحظة فيها لنصرة الإسلام، فوقف على أخطر الثغور التي ولج منها الأعداء إلى ديار المسلمين وعقولهم، فاجتاحوها ألا وهو باب "الغزو الفكري". فكان أنور الجندي بحق هو الأمين الأول على الثقافة الإسلامية لأربعة أجيال متعاقبة: جيل البناء والتأسيس، وجيل الصبر والجهاد، وجيل التكوين والانتشار، وجيل التربية والمستقبل.
تشكل سنة 1940 علامة فارقة في حياة العلامة أنور الجندي بعد قراءته لكتاب "وجهة الإسلام" لمجموعة من المستشرقين. هذا الكتاب الذي لفت نظره إلى حجم المؤامرة على الإسلام، ووضع أقدامه على الطريق الطويل لمعركة المسلمين في ميدان البقاء. فما كان من أنور الجندي إلا أن قال: "هذا قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري والأجنبي والغزو الثقافي". وبدأ أنور الجندي بميدان الأدب أكثر الميادين غزوا في حينها وأعلاها صوتا وأوسعها انتشارًا، فواجه في هذا الميدان قممه جميعا: طه حسين والعقاد ولطفي السيد وسلامة موسى وجورحي زيدان والحكيم ونجيب محفوظ، وأقام الموازين العادلة لمحاكمة هؤلاء إلى ميزان الإسلام وصحة الفكرة الإسلامية، فأخرج عشرات الكتب من العيار الفكري الثقيل مثل: أضواء على الأدب العربي المعاصر، والأدب العربي الحديث في معركة المقاومة والتجمع والحرية، أخطاء المنهج الغربي الوافد، إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، خص منها طه حسين وحده بكتابين كبيرين، هما: طه حسين وحياته في ميزان الإسلام، ومحاكمة فكر طه حسين؛ ذلك لأن الجندي كان يرى أن طه حسين هو قمة أطروحة التغريب، وأقوى معاقلها، ولذلك كان توجيه ضربة قوية إليه هو قمة الأعمال المحررة لفكر الإسلامي من التبعية.
الأدب والفكر صنوان
وكان العلامة أنور الجندي يرى أن فصل الأدب عن الفكر – وهو عنصر من عناصره – أخطر التحديات التي فتحت الباب واسعا أمام الأدب ليتدخل في كل قضايا الإجماع ويفسد مفاهيم الإسلام الحقيقية؛ ومن ثم فقد أنصف الجندي كتاباته الرصينة أصحاب الفكرة الإسلامية الصحيحة من أمثال الرافعي والثعالبي وباكثير ومحمد فريد وجدي والسحار وكيلاني وتيمور… وغيرهم من الذين ظلمهم المتغربون وأبناء المتغربين من المعاصرين، ونال في هذا الطريق كثيرًا من الأذى والظلم والإعنات فضلا عن أنه اعتقل لمدة عام سنة 1951.
البنا يشعل جذوة الفكر لديه(/1)
التقى المؤرخ العملاق والمفكر الكبير أنور الجندي بالإمام الشهيد حسن البنا في بواكير حياته، فكان هذا اللقاء –حقًا- مباركًا، وكانت بيعة الرجل الأمين زادا أصيلا على طريق النور. أخذ فيه الجندي نفسه بنفسه على وضع منهج إسلامي متكامل لمقدمات العلوم والمناهج، يكون زادًا لأبناء الحركة الإسلامية ونبراسا لطلاب العلم والأمناء في كل مكان؛ فأخرج هذا المنهج في 10 أجزاء ضخمة يتناول فيه بالبحث الجذور الأساسية للفكر الإسلامي التي بناها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وما واجهه من محاولات ترجمة الفكر اليوناني الفارسي والهندي، وكيف قاوم مفهوم "أهل السنة والجماعة" وكيف انبعثت حركة اليقظة الإسلامية في العصر الحديث من قلب العالم الإسلامي نفسه –وعلى زاد وعطاء من الإسلام- فقاومت حركات الاحتلال والاستغلال والتغريب والتخريب والغزو الفكري والثقافي.. ويذكر للعلامة الجندي عند الله وعند الناس أن هذه الموسوعة الضخمة تعجز الآن عشرات المجامع ومئات المؤسسات والهيئات أن تأتي بمثلها. أو بقريب منها.
وظل الجندي على العهد إلى آخر نفس في حياته، حيث كان يضع أمام سرير نومه صورة لوالده وجده والإمام الشهيد حسن البنا رضوان الله على الجميع.
وخص الإمام البنا بثلاثة كتب أولها في صدر شبابه، حين كان يصدر موسوعة فكرية إسلامية لمنهجه "الفكر وبناء الثقافة" أول كل شهر بصفة دورية فكان منها عام 1946: "الإخوان المسلمون في ميزان الحق". وكتاب "قائد الدعوة.. حياة رجل وتاريخ مدرسة"، ثم اختتم حياته المباركة بكتابه النفيس "حسن البنا.. الداعية الإمام والمجدد الشهير".
ولقد تزود العلامة أنور الجندي لمشواره الكبير (مائتا كتاب وأكثر من ثلاثمائة رسالة) بزاد ثقافي أصيل وثقافة عميقة شاملة انعكست بشكل واضح في كل ما خطه قلمه المبارك، فيقول: "قرأت بطاقات دار الكتب وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها وراجعت فهارس المجلات الكثيرة الكبرى كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة، وأحصيت منها بعض رؤوس موضوعات، وراجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عاما، وراجعت المقطم واللواء والبلاغ وكوكب الشرق والجهاد وغيرها من الصحف، وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عُرفت في بلادنا في خلال هذا القرن.. كل ذلك من أجل تقدير موقف القدرة على التعرف على موضوع معين في وقت ما".
التواضع والزهد
والذي يعرف منزله بشارع عثمان محرم بمنطقة الطالبية بالجيزة، يعرف أن البيت بكل غرفه وطوابقه كان دائرة معارف متنوعة في شتى الشئون والفنون. كما كان للعلامة أنور الجندي موقع محدد بدار الكتب لا يغيب عنه إلا لماما. ولديه صناديق للبطاقات العلمية وصلت إلى 180 صندوقا. تزود بذلك كله، إلى ما حباه الله من صبر جميل طويل وتفرغ كامل للأعمال الفكرية، وتجرد قلّ أن يوجد في عصرنا، وفراغ من شغل الأولاد والأموال حيث رزق ببنت واحدة (فائزة، أم عبد الله) تزوجت في بداية شبابها بشاب صالح كان نعم العون للأستاذ أنور في رحلة الصعاب التي قضاها على مدى سبعين عاما كاملة.
يذكر للجندي بحروف من نور أنه الرجل الذي أسس مدرسة الأصالة الفكرية المعاصرة في الأدب، فأنصف أقواما وهدم آخرين. وفي الاجتماع فكشف زيف فرويد وماركس ودارون ودوركايم. وفي الفلسفة أنصف الغزالي وابن رشد والفارابي وابن سينا والخيام…
وفي تلك الليلة الحزينة مساء الإثنين 13 ذي القعدة سنة 1422 هـ – 28 يناير 2002م توفي إلى رحمة الله تعالى.
وكأن الجندي كان يرثي نفسه حين قال: "إن الفضل كله لله، وإن الهدى هدى الله، ولولا فضل الله في التوجه إلى هذا الطريق المستقيم لضللنا السبيل".
رحم الله العلامة أنور الجندي رائد مدرسة الأصالة الفكرية، وقائد كتائب المقاومة في ميادين التبشير والاستشراق والتغريب والغزو الفكري.
إنه الرجل الذي عاش (85 عامًا) قضى منها في حقل الفكر الإسلامي (70 عامًا)، ما خط فيها كلمة أو أكل لقمة إلا وهو على وضوء
بعض مؤلفات أنور الجندي
- أقباس من السيرة العطرة.
- السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية.
- اليقظة الإسلامية في مواجهة التغريب.
- عبد العزيز الثعالبي رائد الحرية والنهضة الإسلامية 1879م- 1944م.
- عبد العزيز جاويش من رواد التربية والصحافة والاجتماع.
- القيم الأساسية للفكر الإسلامي والثقافة العربية.
- قضايا الشباب المسلم.
- قضايا العصر ومشكلات الفكر تحت ضوء الإسلام.
- قضايا مثارة تحت ضوء الإسلام
- اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار.
- اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار: منذ ظهورها إلى أوائل الحرب العالمية الأولى.
- يوم من حياة الرسول.
- الوجه الآخر لطه حسين من مذكرات السيدة سوزان "معك".
- وحدة الفكر الإسلامي: مقدمة للوحدة الإسلامية الكبرى.
- وذكرهم بأيام الله.
- هزيمة الشيوعية في عالم الإسلام.
- هل غيّر الدكتور طه حسين آراءه في سنواته الأخيرة؟
- نوابغ الإسلام(/2)
- نظريات وافدة كشف الفكر الإسلامي زيفها.
- نظرية السامية: مؤامرة على الحنيفية الإبراهيمية.
- نحن وحضارة الغرب.
- نحو بناء منهج البدائل الإسلامية للنظريات والأيديولوجيات والمفاهيم الغربية الوافدة.
- موقف الإسلام من العلم والفلسفة الغربية.
- مؤلفات في الميزان.
- مناهج الحكم والقيادة في الإسلام
- من طفولة البشرية إلى رشد الإنسانية
- كيف يحتفظ المسلمون بالذاتية الإسلامية في مواجهة أخطار الأمم؟
- مقدمات العلوم والمناهج: محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل
- ابتعاث الأسطورة.. مواجهة جديدة تواجه الفكر الإسلامي
- آفاق جديدة للدعوة الإسلامية في عالم الغرب
- أخطاء المنهج الغربي الوافد: في العقائد والتاريخ والحضارة واللغة والأدب والاجتماع
- الاستشراق
- الإسلام تاريخ وحضارة
- الإسلام في أربعة عشر قرنا
- الإسلام في مواجهة الفلسفات القديمة
- الإسلام في وجه التغريب : مخططات التبشير والاستشراق
- الإسلام في وجه التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية
- الإسلام وحركة التاريخ: رؤية جديدة في فلسفة تاريخ الإسلام
- الإسلام والدعوات الهدامة
- الإسلام والعالم المعاصر: بحث تاريخي حضاري
- الإسلامية نظام مجتمع ومنهج حياة
- أسلمة المناهج والعلوم والقضايا والمصطلحات المعاصرة
- أضواء على الأدب العربي المعاصر
- إطار إسلامي للفكر المعاصر
- إطار إسلامي للفكر المعاصر: الإسلام
- إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام
- اعرضوا أنفسكم على موازين القرآن
- أعلام الإسلام: تراجم الأسماء البارزة منذ عصر النبوة إلى اليوم
- أعلام القرن الرابع عشر الهجرى: أعلام الدعوة والفكر
- أعلام وأصحاب أقلام
- الانقطاع الحضاري
- أهداف التغريب في العالم العربي
- البطولة في تاريخ الإسلام
- بماذا انتصر المسلمون؟
- بناء منهج جديد للتعليم والثقافة على قاعدة الأصالة
- تاريخ الإسلام في مواجهة التحديات
- تاريخ الدعوة الإسلامية في مرحلة الحصار من حركة الجيش إلى كامب ديفيد
- تاريخ الغزو الفكرى والتخريب: خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين 1920_ 1940
- تأصيل اليقظة وترشيد الصحوة
- التبشير الغربي
- تحديات في وجه المجتمع الإسلامي
- تراجم الأعلام المعاصرين في العالم الإسلامي
- التربية وبناء الأجيال في ضوء الإسلام
- ترشيد الفكر الإسلامي
- تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث: السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية
- تصحيح المفاهيم في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية
- التغريب: أخطر التحديات في وجه الإسلام
- الثقافة العربية الإسلامية أصولها وانتماؤها
- جوهر الإسلام
- جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام
- حتى لا تضيع الهوية الإسلامية والانتماء القرآني
- حركة تحرير المرأة في ميزان الإسلام
- حركة الترجمة
- حركة اليقظة الإسلامية في مواجهة النفوذ الغربي والصهيونية والشيوعية
- حقائق عن الغزو الفكرى للإسلام
- خصائص الأدب العربي
- خصائص الأدب العربي في مواجهة نظريات النقد الأدبي الحديث
- الخلافة الإسلامية
- الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون
- دراسات إسلامية معاصرة: الاقتصاد الإسلامي
- دراسات إسلامية معاصرة: الأدب، اللغة
- دراسات إسلامية معاصرة: الأصالة في مواجهة المعاصرة والاقتباس وسلم القيم
- دراسات إسلامية معاصرة: النفس، الفرويدية
- سقوط العلمانية
- سقوط نظرية دارون
- السلطان عبد الحميد: صفحة ناصعة من الجهاد والإيمان والتصميم لمواجهة...
- سموم الاستشراق والمستشرقين
- سيكولوجية الفروق بين الأفراد والجماعات
- الشباب المسلم: مشاكله وقضاياه في مواجهة تحديات العصر
- شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي
- شبهات في الفكر الإسلامي
- الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي
- الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي
- شخصيات اختلف فيها الرأي
- الشرق في فجر اليقظة : صورة اجتماعية للعصر من 1971 الى 1939
- الشعوبية في الأدب العربي الحديث
- الصحافة السياسية في مصر منذ نشأتها إلى الحرب العالمية الثانية
- الصحافة والأقلام المسمومة
- الصحوة الإسلامية: منطلق الأصالة وإعادة بناء الأمة على طريق الله
- صفحات مجهولة من الأدب العربي المعاصر
- صفحات مضيئة من تراث الإسلام
- الطريق إلى الأصالة
- الطريق إلى الأصالة والخروج من التبعية
- الطريق أمام الدعوة الإسلامية
- طه حسين : حياته وفكره في الإسلام
- العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي
- عالمية الإسلام
- عقبات في طريق النهضة: مراجعة لتاريخ مصر الإسلامية منذ الحملة الفرنسية إلى النكسة
- عقيدة الكاتب المسلم
- على الفكر الإسلامي أن يتحرر من سارتر وفرويد ودوركايم
- العودة إلى المنابع : دائرة معارف إسلامية
- الفصحى لغة القرآن
- الفكر الإسلامى والتحديات التي تواجه في مطلع القرن الخامس عشر الهجري
- الفكر البشري القديم
- الفكر والثقافة المعاصرة في شمال أفريقيا(/3)
- الفنون الشعبية
- في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي في الشباب
- القاديانية : خروج على النبوة المحمدية
- كتاب العصر تحت ضوء الإسلام
- الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية
- ماذا يقرأ الشباب المسلم؟
- محاذير وأخطار في مواجهة إحياء التراث والترجمة
- المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر في مائة عام 1840م-1940م.
– المخططات التلمودية الصهيونية اليهودية في غزو الفكر الإسلامي
- المد الإسلامي في مطالع القرن الخامس عشر
- المدرسة الإسلامية : على طريق الله ومنهج القرآن
- المرأة المسلمة في وجه التحديات
- مصابيح على الطريق
- مصححو المفاهيم : الغالي، ابن تيمية، ابن حزم، ابن خلدون
- الدعوة الإسلامية في عصر الصحوة : قضايا السياسية والاجتماع والاقتصاد
- الإسلامية نظام مجتمع ومنهج حياة
- الأعراض موسوعة طبية أمريكية
- المثل الأعلى للشباب المسلم
- المساجلات والمعارك الأدبية في مجال الفكر والتاريخ والحضارة
- المسلمون في فجر القرن الوليد
- المعارك الأدبية في مصر منذ 1914 _ 1939
- المعاصرة في إطار الأصالة
- معالم تاريخ الاسلام المعاصر
- معالم التاريخ الاسلامى المعاصر من خلال ثلاثمائة وثيقة سياسية ظهرت خلال القرن
- معلمة الإسلام
- مفاهيم النفس والأخلاق والاجتماع في ضوء الإسلام
- مؤامرة تحديد النسل وأسطورة الانفجار السكاني
- المؤامرة على الفصحى : لغة القرآن
- كمال أتاتورك وإسقاط الخلافة الإسلامية
- أحمد زكي الملقب بشيخ العروبة: حياته- آراؤه- آثاره
- فضائح الاحزاب السياسية في مصر: السياسة والزعماء.. والرشوة واستغلال النفوذ
- مستقبل الإسلام بعد سقوط الشيوعية
- أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب والعلمانية والتنوير الغربي: قضايا الأدب
- قراءة في ميراث النبوة: إطار إسلامي للصحوة الإسلامية
- حسن البنا الداعية الإمام والمجدد الشهيد(/4)
أنور الجندي الزاهد الرباني الدؤوب
06/02/2002
محمود خليل
أنور الجندي: أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله
نحن إزاء شخصية مفكر وفيلسوف وباحث متجرد شديد العمق واسع العطاء لا يتطلع إلى أي شيء في الحياة غير أمر واحد، هو أن يقول كلمته ويعيش لفكرته التي جند لها كل ما أتاه الله من مواهب وقدرات، وعمر وفهم وحياة.
يقول العلامة الراحل أنور الجندي (1917م – 2002م): "أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلت موكلا فيها منذ بضع وأربعين سنة منذ رفع القضية الإمام الذي استشهد في سبيلها قبل خمسين عاما للناس، حيث أعد لها الدفوع وأقدم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة إلى الحق تبارك وتعالى، وعهد على بيع النفس لله والجنة – سلعة الله الغالية – هي الثمن لهذا التكليف" "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة".
بيت أصيل
ولد الجندي بـ (ديروط) عام 1917 التابعة لمركز أسيوط بصعيد مصر، وهي واحدة من أجل بلاد الصعيد، حيث تسقيها ثلاثة روافد للنيل هي: الإبراهيمية، وبحر يوسف، والدلجاوي.حيث كان جده لوالدته قاضيا شرعيا يشتغل بتحقيق التراث ووالده يشتغل بتجارة الأقطان. وكان أيضا حفيا بالثقافة الإسلامية ومتابعة الأحداث الوطنية والعالمية، وكان بيت الجندي مغمورا بالصحف والمجلات وصور الأبطال من أمثال عبد الكريم الخطابي زعيم الريف المغربي، وأنور باشا القائد التركي الذي اشترك في حرب فلسطين – والذي كان ذائع الشهرة حينئذ – وباسمه تسمى أنور الجندي من قبل والديه تيمنا وإعجابا.
حفظ القرآن الكريم في كتاب القرية. ويسرت له ظروف والده التجارية أن يعمل وهو صغير ببنك مصر بعد أن درس التجارة وعمل المصارف بالمدارس المتوسطة. ثم واصل دراسته الجامعية في المساء حيث درس الاقتصاد والمصارف وإدارة الأعمال، وتخرج في الجامعة الأمريكية مجيدا للغة الإنجليزية التي درسها خصيصا ليستطيع متابعة ما يثار من شبهات حول الإسلام من الشرق والغرب ويقوم بالرد السديد عليها.
بدأ رحلة الفكر والكتابة مبكرا حيث نشر في مجلة "أبولو" الأدبية الرفيعة التي كان يحررها الدكتور أحمد زكي أبو شادي عام (1933)، وكانت قد أعلنت عن مسابقة لإعداد عدد خاص عن شاعر النيل حافظ إبراهيم، فجرد أنور الجندي قلمه، وأجاد في حافظ إلى حد أنه يقول: "ما زلت أفخر بأني كتبت في (أبولو) وأنا في هذه السن (17) عاما، وقد فتح لي هذا باب النشر في أشهر الجرائد والمجلات آنئذ مثل البلاغ وكوكب الشرق والرسالة وغيرها من المجلات والصحف".
الجندي على ثغر الغزو الفكري
ثم واصل هذا الرجل الفريد رحلته التي رصد كل لحظة فيها لنصرة الإسلام، فوقف على أخطر الثغور التي ولج منها الأعداء إلى ديار المسلمين وعقولهم، فاجتاحوها ألا وهو باب "الغزو الفكري". فكان أنور الجندي بحق هو الأمين الأول على الثقافة الإسلامية لأربعة أجيال متعاقبة: جيل البناء والتأسيس، وجيل الصبر والجهاد، وجيل التكوين والانتشار، وجيل التربية والمستقبل.
تشكل سنة 1940 علامة فارقة في حياة العلامة أنور الجندي بعد قراءته لكتاب "وجهة الإسلام" لمجموعة من المستشرقين. هذا الكتاب الذي لفت نظره إلى حجم المؤامرة على الإسلام، ووضع أقدامه على الطريق الطويل لمعركة المسلمين في ميدان البقاء. فما كان من أنور الجندي إلا أن قال: "هذا قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري والأجنبي والغزو الثقافي". وبدأ أنور الجندي بميدان الأدب أكثر الميادين غزوا في حينها وأعلاها صوتا وأوسعها انتشارًا، فواجه في هذا الميدان قممه جميعا: طه حسين والعقاد ولطفي السيد وسلامة موسى وجورحي زيدان والحكيم ونجيب محفوظ، وأقام الموازين العادلة لمحاكمة هؤلاء إلى ميزان الإسلام وصحة الفكرة الإسلامية، فأخرج عشرات الكتب من العيار الفكري الثقيل مثل: أضواء على الأدب العربي المعاصر، والأدب العربي الحديث في معركة المقاومة والتجمع والحرية، أخطاء المنهج الغربي الوافد، إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، خص منها طه حسين وحده بكتابين كبيرين، هما: طه حسين وحياته في ميزان الإسلام، ومحاكمة فكر طه حسين؛ ذلك لأن الجندي كان يرى أن طه حسين هو قمة أطروحة التغريب، وأقوى معاقلها، ولذلك كان توجيه ضربة قوية إليه هو قمة الأعمال المحررة لفكر الإسلامي من التبعية.
الأدب والفكر صنوان
وكان العلامة أنور الجندي يرى أن فصل الأدب عن الفكر – وهو عنصر من عناصره – أخطر التحديات التي فتحت الباب واسعا أمام الأدب ليتدخل في كل قضايا الإجماع ويفسد مفاهيم الإسلام الحقيقية؛ ومن ثم فقد أنصف الجندي كتاباته الرصينة أصحاب الفكرة الإسلامية الصحيحة من أمثال الرافعي والثعالبي وباكثير ومحمد فريد وجدي والسحار وكيلاني وتيمور… وغيرهم من الذين ظلمهم المتغربون وأبناء المتغربين من المعاصرين، ونال في هذا الطريق كثيرًا من الأذى والظلم والإعنات فضلا عن أنه اعتقل لمدة عام سنة 1951.(/1)
البنا يشعل جذوة الفكر لديه
التقى المؤرخ العملاق والمفكر الكبير أنور الجندي بالإمام الشهيد حسن البنا في بواكير حياته، فكان هذا اللقاء –حقًا- مباركًا، وكانت بيعة الرجل الأمين زادا أصيلا على طريق النور. أخذ فيه الجندي نفسه بنفسه على وضع منهج إسلامي متكامل لمقدمات العلوم والمناهج، يكون زادًا لأبناء الحركة الإسلامية ونبراسا لطلاب العلم والأمناء في كل مكان؛ فأخرج هذا المنهج في 10 أجزاء ضخمة يتناول فيه بالبحث الجذور الأساسية للفكر الإسلامي التي بناها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وما واجهه من محاولات ترجمة الفكر اليوناني الفارسي والهندي، وكيف قاوم مفهوم "أهل السنة والجماعة" وكيف انبعثت حركة اليقظة الإسلامية في العصر الحديث من قلب العالم الإسلامي نفسه –وعلى زاد وعطاء من الإسلام- فقاومت حركات الاحتلال والاستغلال والتغريب والتخريب والغزو الفكري والثقافي.. ويذكر للعلامة الجندي عند الله وعند الناس أن هذه الموسوعة الضخمة تعجز الآن عشرات المجامع ومئات المؤسسات والهيئات أن تأتي بمثلها. أو بقريب منها.
وظل الجندي على العهد إلى آخر نفس في حياته، حيث كان يضع أمام سرير نومه صورة لوالده وجده والإمام الشهيد حسن البنا رضوان الله على الجميع.
وخص الإمام البنا بثلاثة كتب أولها في صدر شبابه، حين كان يصدر موسوعة فكرية إسلامية لمنهجه "الفكر وبناء الثقافة" أول كل شهر بصفة دورية فكان منها عام 1946: "الإخوان المسلمون في ميزان الحق". وكتاب "قائد الدعوة.. حياة رجل وتاريخ مدرسة"، ثم اختتم حياته المباركة بكتابه النفيس "حسن البنا.. الداعية الإمام والمجدد الشهير".
ولقد تزود العلامة أنور الجندي لمشواره الكبير (مائتا كتاب وأكثر من ثلاثمائة رسالة) بزاد ثقافي أصيل وثقافة عميقة شاملة انعكست بشكل واضح في كل ما خطه قلمه المبارك، فيقول: "قرأت بطاقات دار الكتب وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها وراجعت فهارس المجلات الكثيرة الكبرى كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة، وأحصيت منها بعض رؤوس موضوعات، وراجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عاما، وراجعت المقطم واللواء والبلاغ وكوكب الشرق والجهاد وغيرها من الصحف، وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عُرفت في بلادنا في خلال هذا القرن.. كل ذلك من أجل تقدير موقف القدرة على التعرف على موضوع معين في وقت ما".
التواضع والزهد
والذي يعرف منزله بشارع عثمان محرم بمنطقة الطالبية بالجيزة، يعرف أن البيت بكل غرفه وطوابقه كان دائرة معارف متنوعة في شتى الشئون والفنون. كما كان للعلامة أنور الجندي موقع محدد بدار الكتب لا يغيب عنه إلا لماما. ولديه صناديق للبطاقات العلمية وصلت إلى 180 صندوقا. تزود بذلك كله، إلى ما حباه الله من صبر جميل طويل وتفرغ كامل للأعمال الفكرية، وتجرد قلّ أن يوجد في عصرنا، وفراغ من شغل الأولاد والأموال حيث رزق ببنت واحدة (فائزة، أم عبد الله) تزوجت في بداية شبابها بشاب صالح كان نعم العون للأستاذ أنور في رحلة الصعاب التي قضاها على مدى سبعين عاما كاملة.
يذكر للجندي بحروف من نور أنه الرجل الذي أسس مدرسة الأصالة الفكرية المعاصرة في الأدب، فأنصف أقواما وهدم آخرين. وفي الاجتماع فكشف زيف فرويد وماركس ودارون ودوركايم. وفي الفلسفة أنصف الغزالي وابن رشد والفارابي وابن سينا والخيام…
وفي تلك الليلة الحزينة مساء الإثنين 13 ذي القعدة سنة 1422 هـ – 28 يناير 2002م توفي إلى رحمة الله تعالى.
وكأن الجندي كان يرثي نفسه حين قال: "إن الفضل كله لله، وإن الهدى هدى الله، ولولا فضل الله في التوجه إلى هذا الطريق المستقيم لضللنا السبيل".
رحم الله العلامة أنور الجندي رائد مدرسة الأصالة الفكرية، وقائد كتائب المقاومة في ميادين التبشير والاستشراق والتغريب والغزو الفكري.
إنه الرجل الذي عاش (85 عامًا) قضى منها في حقل الفكر الإسلامي (70 عامًا)، ما خط فيها كلمة أو أكل لقمة إلا وهو على وضوء.
==========
.. راهب الثقافة والفكر
بقلم. أ.د. يوسف القرضاوي
أنور الجندي.. رحل في صمت تاركً ثروة من الكتب والموسوعات(/2)
علمت بالأمس القريب فقط أن الكاتب الإسلامي المرموق الأستاذ أنور الجندي قد وافاه الأجل المحتوم، وانتقل إلى جوار ربه، منذ يوم الإثنين 28-1-2002م، بلغني ذلك أحد إخواني، فقلت: يا سبحان الله، يموت مثل هذا الكاتب الكبير، المعروف بغزارة الإنتاج، وبالتفرغ الكامل للكتابة والعلم، والذي سخر قلمه لخدمة الإسلام وثقافته وحضارته، ودعوته وأمته أكثر من نصف قرن، ولا يعرف موته إلا بعد عدة أيام، لا تكتب عنه صحيفة، ولا تتحدث عنه إذاعة، ولا يعرِّف به تلفاز. كأن الرجل لم يخلف وراءه ثروة طائلة من الكتب والموسوعات، في مختلف آفاق الثقافة العربية والإسلامية. وقد كان عضوا عاملا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، ومن أوائل الأعضاء في نقابة الصحفيين، وقد حصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 1960م.
لو كان أنور الجندي مطربا أو ممثلا، لامتلأت أنهار الصحف بالحديث عنه، والتنويه بشأنه، والثناء على منجزاته الفنية.
ولو كان لاعب كرة، لتحدثت عنه الأوساط الرياضية وغير الرياضية، وكيف خسرت الرياضة بموته فارسا من فرسانها، بل كيف خسرت الأمة بموته كله نجما من نجومها، ذلك أن أمتنا تؤمن بعبقرية (القدم) ولا تؤمن بعبقرية (القلم).
مسكين أنور الجندي! لقد ظلمته أمته ميتا، كما ظلمته حيا، فلم يكن الرجل ممن يسعون للظهور وتسليط الأضواء عليه، كما يفعل الكثيرون من عشاق الأضواء الباهرة، بل عاش الرجل عمره راهبا في صومعة العلم والثقافة، يقرأ ويكتب، ولا يبتغي من أحد جزاء ولا شكورا، كأنما يقول ما قال رسل الله الكرام (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين).
كاتب وعلم منذ زمن
منذ كنت طالبا في القسم الثانوي بالأزهر، وأنا أقرأ لأنور الجندي في القضايا الإسلامية المختلفة، ومن أوائل ما قرأت له: كتاب بعنوان (كفاح الذبيحين فلسطين والمغرب) وكتاب عن (قائد الدعوة) يعني: حسن البنا الذي طوره فيما بعد وأمسى كتابا كبيرا في حوالي ستمائة صفحة، سماه: حسن البنا: الداعية المجدد والإمام الشهيد، وقد طبعته دار القلم بدمشق عدة طبعات، في سلسلتها (أعلام المسلمين) وافتتحت به سلسلتها. وكان حسن البنا هو الذي دفعه إلى الكتابة، فقد كان في رحلة حج معه، وطلب منه أن يكتب خاطرة، فقرأها، فأعجبته، فشجعه وأثنى على قلمه، وحرضه على الاستمرار في الكتابة.
وكان من كتبه الأولى (اخرجوا من بلادنا) يخاطب الإنجليز المحتلين، وقد علمت أن الكتاب كان سببا في سجنه واعتقاله لعدة أيام في عهد الملك فاروق، ثم أفرج عنه.
وللأستاذ أنور الجندي كتب كثيرة تقارب المائة كتاب، بعضها موسوعات، مثل كتابه: مقدمات المناهج والعلوم، الذي نشرته دار الأنصار بالقاهرة بلغت مجلداته عشرة من القطع الكبير. وموسوعته (في دائرة الضوء) قالوا: إنها من خمسين جزءا. ومن أهم كتبه: أسلمة المعرفة.. نقد مناهج الغرب.. أخطاء المنهج الغربي الوافد.. الضربات التي وجهت للأمة الإسلامية.. اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار.. تاريخ الصحافة الإسلامية..
وكان آخر ما نشره: كتاب (نجم الإسلام لا يزال يصعد).
الشباب جمهوره الأول
كان الأستاذ أنور الجندي يميل في كتاباته إلى التسهيل والتبسيط، وتقريب الثقافة العامة لجمهور المتعلمين، دون تقعر أو تفيهق أو جنوح إلى الإغراب والتعقيد، فكان أسلوبه سهلا واضحا مشرقا. وكان الأستاذ الجندي لا يميل إلى التحقيق والتوثيق العلمي، فلم تكن هذه مهمته، ولم يكن هذا شأنه، ولذلك لا ينبغي أن يؤخذ عليه أنه لا يذكر مراجع ما ينقله من معلومات، ولا يوثقها أدنى توثيق، فإنه لم يلتزم بذلك ولم يدّعه. وكل إنسان يحاسب على المنهج الذي ارتضاه لنفسه، هل وفَّى به وأعطاه حقه أم لا؟
أما لماذا لم يأخذ بالمنهج العلمي؟ ألعجز منه أو لكسل، أو لرؤية خاصة تبناها وسار على نهجها؟
يبدو أن هذا الاحتمال الأخير هو الأقرب، وذلك أنه لم يكن يكتب للعلماء والمتخصصين، بل كان أكثر ما يكتبه للشباب، حتى إنه حين كتب موسوعته الإسلامية التي سماها (معلمة الإسلام) وجمع فيها 99 مصطلحا في مختلف أبواب الثقافة والحضارة والعلوم والفنون والآداب والشرائع، جعل عنوان مقدمة هذه المعلمة: (إلى شباب الإسلام) وقال في بدايتها: الحديث في هذه المعلمة موجه إلى شباب الإسلام والعرب، فهم عدة الوطن الكبير، وجيل الغد الحافل بمسؤولياته وتبعاته، وهم الذين سوف يحملون أمانة الدفاع عن هذه العقيدة في مواجهة الأخطار التي تحيط بها من كل جانب، فمن حقهم على جيلنا أن يقدم لهم خلاصة ما وصل إليه من فكر وتجربة.. وأن نُعبِّد لهم الطريق إلى الغاية المرتجاة… هذه مسؤوليتنا إزاءهم، فإذا لم نقم بها كنا آثمين، وكان علينا تبعة التقصير. ا.هـ.
وأعتقد أن كتبه قد آتت أكلها في تثقيف الشباب المسلم، وتحصينهم من الهجمات الثقافية الغربية المادية والعلمانية، التي لا ترضى إلا بأن تقتلعهم من جذورهم وأصالتهم.
زاهدا في دنياه عزيزا في نفسه(/3)
كان الأستاذ الجندي زاهدا في الدنيا وزخرفها، قانعا بالقليل من الرزق، راضيا بما قسم الله له، لا يطمع أن يكون له قصر ولا سيارة، حسبه أن يعيش مكتفيا مستورا، وكان بهذا من أغنى الناس، كان كما قال علي كرم الله وجهه:
يعز غني النفس إن قل ماله ... ويغنى غني المال وهو ذليل
وكما قال أبو فراس:
إن الغني هو الغني بنفسه ... ولو انه عاري المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا ... وإذا اقتنعت فبعض شيء كاف
وكان أربه من الدنيا محدودا، فليس له من الأولاد إلا ابنة واحدة، تعلمت في الأزهر، وحصلت على إجازة (ليسانس) في الدراسات الإسلامية من جامعة الأزهر، وكانت رغباته تنحصر في أن يقرأ ويكتب وينشر ما يكتب. كما سئل أحد علماء السلف: فيم سعادتك؟ قال: في حُجَّة تتبختر اتضاحا، وشبهة تتضاءل افتضاحا.
حكى الأخ الأديب الداعية الشيخ عبد السلام البسيوني أنه ذهب إلى القاهرة مع فريق من تليفزيون قطر ليجري حوارا مع عدد من العلماء والدعاة كان الأستاذ أنور منهم أو في طليعتهم. ولم يجد في منزله الذي يسكنه مكانا يصلح للتصوير فيه، فقد كان في حي شعبي مليء بالضجيج، وكان المنزل ضيقا مشغولا بالكتب في كل مكان، فاقترح عليه أن يجري الحوار معه في الفندق. وبعد أن انتهى الحوار، تقدم مدير الإنتاج بمبلغ من المال يقول له: نرجو يا أستاذ أن تقبل هذا المبلغ الرمزي مكافأة منا، وإن كان دون ما تستحق. فإذا بالرجل يرفض رفضا حاسما، ويقول: أنا قابلتكم وليس في نيتي أن آخذ مكافأة، ولست مستعدا أن أغير نيتي، ولم أقدم شيئا يستحق المكافأة.
قالوا له: هذا ليس من جيوبنا، إنه من الدولة.. وأصر الرجل على موقفه، وأبى أن يأخذ فلسا!
وكان الأستاذ الجندي يكتب مقالات في مجلة (منار الإسلام) في أبو ظبي، وفوجئ القراء يوما بإعلان في المجلة يناشد الأستاذ أنور الجندي أن يبعث إلى إدارة المجلة بعنوانه، لترسل إليه مستحقات له تأخرت لديها. ومعنى هذا أنه لا يطلب ما يستحق، ناهيك أن يلح في الطلب كالآخرين.
رباني وفي خدمة أهله وجيرته
كان رجلا ربانيا. ومن دلائل ربانيته ما ذكرته ابنته عنه أنه كان يحب أن يكون متوضئا دائما، فيأكل وهو متوضئ، ويكتب وهو متوضئ. وكان ينام بعد العشاء ثم يستيقظ قبل الفجر ليصلي التهجد، ويصلي الفجر، ثم ينام ساعتين بعد الفجر، ويقوم ليقضي بعض حاجات البيت بنفسه.
وكان يخدم الجيران، ويملأ لهم (جرادل) الماء إذا انقطع الماء، ويضعها أمام شققهم.
أنور الجندي بين "النورانية " و"الجندية"
كان للأستاذ أنور الجندي من اسمه نصيب أي نصيب، فكانت حياته وعطاؤه وإنتاجه تدور حول محورين: النور ـ أو التنوير ـ والجندية.
فقد ظل منذ أمسك بالقلم يحمل مشعل (النور) أو (التنوير) للأمة، وأنا أقصد هنا: التنوير الحقيقي، لا (التزوير) الذي يسمونه (التنوير).
فالتنوير الحقيقي هو الذي يرد الأمة إلى النور الحق الذي هو أصل كل نور، وهو نور الله تعالى ممد الكون كله بالنور، وممد قلوب المؤمنين بالنور: نور الفطرة والعقل، ونور الإيمان والوحي (نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء).
وكان أهم معالم هذا التنوير: مقاومة التغريب والغزو الفكري، الذي يسلخ الأمة من جلدها ويحاول تغيير وجهتها، وتبديل هويتها، وإلغاء صبغتها الربانية (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) وكان واقفا بالمرصاد لكل دعاة التغريب، يكشف زيفهم، ويهتك سترهم، وإن بلغوا من المكانة ما بلغوا، حتى رد على طه حسين وغيره من أصحاب السلطان الأدبي والسياسي.
وقال الجندي يوما عن نفسه:
أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلت موكلا فيها منذ بضع وأربعين سنة حيث أعِدُّ لها الدفوع، وأقدم المذكرات، بتكليف بعقد وبيعة إلى الحق تبارك وتعالى، وعهد على بيع النفس لله، والجنة ـ سلعة الله الغالية ـ هي الثمن لهذا التكليف (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة).
كان النور والتنوير غايته ورسالته، وكانت الجندية وظيفته ووسيلته، لقد عاش في هذه الحياة (جنديا) لفكرته ورسالته، فلم يكن جندي منفعة وغنيمة، بل كان جندي عقيدة وفكرة. لم يجر خلف بريق الشهرة، ولم يسع لكسب المال والثروة أو الجاه والمنزلة، وإنما كان أكبر همه أن يعمل في هدوء، وأن ينتج في صمت، وألا يبحث عن الضجيج والفرقعات، تاركا هذه لمن يريدونها ويلهثون وراءها.
كان الأستاذ أنور الجندي يحرص على أن يكون جنديا يعمل في الصفوف الخلفية، لا يسعى لأن يكون قائدا يشار إليه بالبنان. وكان همه أن يكون (جنديا مجهولا) يعمل حيث لا يراه الناس، بل حيث يراه الله، فهو وليه ونصيره، وكفى بالله وليا، وكفى بالله نصيرا.(/4)
كان الأستاذ الجندي من الإخوان المسلمين من قديم، وممن رافق الإمام البنا مبكرا، وممن كتبوا في مجلات الإخوان في الأربعينيات من القرن العشرين، ولكن الله تبارك وتعالى نجاه من كروب المحن التي حاقت بالإخوان قبل ثورة يوليو وما بعدها، فلم يدخل معتقل الطور أيام النقراشي وعبد الهادي، ولم يدخل السجن الحربي أيام عبد الناصر، بل حصل على جائزة الدولة التقديرية في عهده. على حين لم ينلها أحد ممن كانت له صلة بالإخوان.
وربما كانت طبيعته الهادئة، وعمله الصامت، وأدبه الجم، وتواضعه العجيب، وبعده عن النشاط العلني في تنظيم الإخوان: سببا في نجاته من هذه المعتقلات، خصوصا في عهد الثورة.
كتب الأستاذ أنور الجندي في فترة المحنة في عهد عبد الناصر في بعض المجلات غير الإسلامية تراجم لقادة التحرر والثورة من ذوي التوجه الديني، أمثال عمر المختار في ليبيا وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وذلك في مجلة (المجتمع العربي) المصرية، في فترة الخمسينيات والستينيات. ويقول عن هذه الفترة: (لقد كان إيماني أن يكون هناك صوت متصل ـ وإن لم يكن مرتفعا بالقدر الكافي ـ ليقول كلمة الإسلام ولو تحت أي اسم آخر، ولم يكن مطلوبا من أصحاب الدعوات أن يصمتوا جميعا وراء الأسوار).
في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، سعدت بلقاء الأستاذ الجندي في الجزائر العاصمة، في أحد ملتقيات الفكر الإسلامي، وهي أول مرة ألقاه وجها لوجه ـ بعد أن كنت رأيته مرة بالمركز العام للإخوان مع الأستاذ البنا، سنة 1947م على ما أذكر ـ فوجدته رجلا مخلصا متواضعا، خافض الجناح، ظاهر الصلاح، نير الإصباح، وقد أرسلنا منظمو الملتقى إلى أحد المساجد في ضواحي العاصمة هو وأنا، وأردت أن أقدمه ليتحدث أولا، فأبى بشدة، وألقيت كلمتي، ثم قدمته للناس بما يليق به، فسر بذلك سرورا بالغا.
وبعد حديثه في هذه الضاحية تحدثت معه: لماذا لا يظهر للناس ويتحدث إليهم بما أفاء الله عليه من علم وثقافة؟ فقال: أنا رجل صنعتي القلم، ولا أحسن الخطابة والحديث إلى الناس، فأنا لم أتعود مواجهة الجمهور، وإنما عشت أواجه الكتب والمكتبة. وليس كل الناس مثلك ومثل الشيخ الغزالي ممن آتاهم الله موهبة الكتابة، وموهبة الخطابة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فقلت له: ولكن من حق جمهور المسلمين أن ينتفعوا بثمرات قلمك، وقراءاتك المتنوعة، فتضيف إليهم جديدا، وتعطيهم مزيدا.
فقال: كل ميسر لما خلق له.
وفي السنوات الأخيرة حين وهن العظم منه، وتراكمت عليه متاعب السنين، وزاد من متاعبه وآلامه في شيخوخته ما رآه من صدود ونسيان من المجتمع من حوله، كأنما لم يقض حياته في خدمة أمته، ولم يذب شموع عمره في إحيائها، وتجديد شبابها، وكأنما لم يجعل من نفسه حارسا لهويتها وثقافتها، مدافعا عن أصالتها أمام هجمات القوى المعادية غربية وشرقية، ليبرالية وماركسية.
أخريات حياته الثائرة الهادئة
عاش الأستاذ الجندي سنواته الأخيرة حلس بيته، وطريح فراشه، يشكو بثه وحزنه إلى الله، كما شكا يعقوب عليه السلام، يشكو من سقم جسمه، ويشكو أكثر من صنيع قومه معه، الذين كثيرا ما قدموا النكرات، ومنحوا العطايا للإمعات، كما يشكو من إعراض إخوانه، الذين نسوه في ساعة العسرة، وأيام الأزمة والشدة، والذين حرم ودهم وبرهم أحوج ما كان إليه، مرددا قول الإمام علي رضي الله عنه فيما نسب إليه من شعر:
ولا خير في ود امرئ متلون إذا الريح مالت مال حيث تميل
جواد إذا استغنيت عن أخذ ماله وعند زوال المال عنك بخيل
فما أكثر الإخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل
ومنذ أشهر قلائل اتصلت بي ابنته الوحيدة من القاهرة، وأبلغتني تحيات والدها الذي أقعده المرض عن الحركة، وهو يعيش وحيدا لا يكاد يراه أحد، أو يسأل عنه أحد، برغم عطائه الموصول طول عمره لدينه ووطنه وأمته العربية والإسلامية، وكانت كلماتها كأنها سهام حادة اخترقت صدري، وأصابت صميم قلبي، وطلبت منها أن تبلغه أعطر تحياتي، وأبلغ تمنياتي، وأخلص دعواتي له بالصحة والعافية، وسأعمل على زيارته في أول فرصة أنزل فيها إلى مصر بإذن الله.
وقد بعثت إليه في أول فرصة سكرتيري الخاص الأخ عصام تليمة يحمل إليه رسالة مني، أحييه وأواسيه، وأشد من أزره في محنته التي يعانيها وحده.
وقد اتصلت بي ابنته بعدها هاتفيا من القاهرة، وقالت لي: إن والدي يشكرك كل الشكر على هذه الرسالة الأخوية الرقيقة، وإننا قرأناها، وأعيننا تفيض من الدمع، تأثرا بما جاء فيها ومعها. وقلت لها: إني لم أفعل شيئا سوى بعض الواجب علي وعلى غيري نحو الأستاذ، وحقه على الأمة أكبر.. وعسى أن تتاح لي الفرصة لأعوده في مرضه، وأزوره في بيته، وشاء الله جلت حكمته، أن يتوفاه إليه قبل أن تتحقق هذه الزيارة، وأن يلقى ربه ـ إن شاء الله ـ راضيا مرضيا.
(يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).(/5)
رحم الله أنور الجندي، وغفر له، وتقبله في الصالحين، وجزاه عن دينه وأمته خير ما يجزي به العلماء والدعاة الصادقين، الذين أخلصهم الله لدينه، وأخلصوا دينهم لله.
- أقباس من السيرة العطرة.
- السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية.
- اليقظة الإسلامية في مواجهة التغريب.
- عبد العزيز الثعالبي رائد الحرية والنهضة الإسلامية 1879م- 1944م.
- عبد العزيز جاويش من رواد التربية والصحافة والاجتماع.
- القيم الأساسية للفكر الإسلامي والثقافة العربية.
- قضايا الشباب المسلم.
- قضايا العصر ومشكلات الفكر تحت ضوء الإسلام.
- قضايا مثارة تحت ضوء الإسلام
- اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار.
- اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار: منذ ظهورها إلى أوائل الحرب العالمية الأولى.
- يوم من حياة الرسول.
- الوجه الآخر لطه حسين من مذكرات السيدة سوزان "معك".
- وحدة الفكر الإسلامي: مقدمة للوحدة الإسلامية الكبرى.
- وذكرهم بأيام الله.
- هزيمة الشيوعية في عالم الإسلام.
- هل غيّر الدكتور طه حسين آراءه في سنواته الأخيرة؟
- نوابغ الإسلام
- نظريات وافدة كشف الفكر الإسلامي زيفها.
- نظرية السامية: مؤامرة على الحنيفية الإبراهيمية.
- نحن وحضارة الغرب.
- نحو بناء منهج البدائل الإسلامية للنظريات والأيديولوجيات والمفاهيم الغربية الوافدة.
- موقف الإسلام من العلم والفلسفة الغربية.
- مؤلفات في الميزان.
- مناهج الحكم والقيادة في الإسلام
- من طفولة البشرية إلى رشد الإنسانية
- كيف يحتفظ المسلمون بالذاتية الإسلامية في مواجهة أخطار الأمم؟
- مقدمات العلوم والمناهج: محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل
- ابتعاث الأسطورة.. مواجهة جديدة تواجه الفكر الإسلامي
- آفاق جديدة للدعوة الإسلامية في عالم الغرب
- أخطاء المنهج الغربي الوافد: في العقائد والتاريخ والحضارة واللغة والأدب والاجتماع
- الاستشراق
- الإسلام تاريخ وحضارة
- الإسلام في أربعة عشر قرنا
- الإسلام في مواجهة الفلسفات القديمة
- الإسلام في وجه التغريب : مخططات التبشير والاستشراق
- الإسلام في وجه التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية
- الإسلام وحركة التاريخ: رؤية جديدة في فلسفة تاريخ الإسلام
- الإسلام والدعوات الهدامة
- الإسلام والعالم المعاصر: بحث تاريخي حضاري
- الإسلامية نظام مجتمع ومنهج حياة
- أسلمة المناهج والعلوم والقضايا والمصطلحات المعاصرة
- أضواء على الأدب العربي المعاصر
- إطار إسلامي للفكر المعاصر
- إطار إسلامي للفكر المعاصر: الإسلام
- إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام
- اعرضوا أنفسكم على موازين القرآن
- أعلام الإسلام: تراجم الأسماء البارزة منذ عصر النبوة إلى اليوم
- أعلام القرن الرابع عشر الهجرى: أعلام الدعوة والفكر
- أعلام وأصحاب أقلام
- الانقطاع الحضاري
- أهداف التغريب في العالم العربي
- البطولة في تاريخ الإسلام
- بماذا انتصر المسلمون؟
- بناء منهج جديد للتعليم والثقافة على قاعدة الأصالة
- تاريخ الإسلام في مواجهة التحديات
- تاريخ الدعوة الإسلامية في مرحلة الحصار من حركة الجيش إلى كامب ديفيد
- تاريخ الغزو الفكرى والتخريب: خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين 1920_ 1940
- تأصيل اليقظة وترشيد الصحوة
- التبشير الغربي
- تحديات في وجه المجتمع الإسلامي
- تراجم الأعلام المعاصرين في العالم الإسلامي
- التربية وبناء الأجيال في ضوء الإسلام
- ترشيد الفكر الإسلامي
- تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث: السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية
- تصحيح المفاهيم في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية
- التغريب: أخطر التحديات في وجه الإسلام
- الثقافة العربية الإسلامية أصولها وانتماؤها
- جوهر الإسلام
- جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام
- حتى لا تضيع الهوية الإسلامية والانتماء القرآني
- حركة تحرير المرأة في ميزان الإسلام
- حركة الترجمة
- حركة اليقظة الإسلامية في مواجهة النفوذ الغربي والصهيونية والشيوعية
- حقائق عن الغزو الفكرى للإسلام
- خصائص الأدب العربي
- خصائص الأدب العربي في مواجهة نظريات النقد الأدبي الحديث
- الخلافة الإسلامية
- الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون
- دراسات إسلامية معاصرة: الاقتصاد الإسلامي
- دراسات إسلامية معاصرة: الأدب، اللغة
- دراسات إسلامية معاصرة: الأصالة في مواجهة المعاصرة والاقتباس وسلم القيم
- دراسات إسلامية معاصرة: النفس، الفرويدية
- سقوط العلمانية
- سقوط نظرية دارون
- السلطان عبد الحميد: صفحة ناصعة من الجهاد والإيمان والتصميم لمواجهة...
- سموم الاستشراق والمستشرقين
- سيكولوجية الفروق بين الأفراد والجماعات
- الشباب المسلم: مشاكله وقضاياه في مواجهة تحديات العصر
- شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي
- شبهات في الفكر الإسلامي
- الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي
- الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي(/6)
- شخصيات اختلف فيها الرأي
- الشرق في فجر اليقظة : صورة اجتماعية للعصر من 1971 الى 1939
- الشعوبية في الأدب العربي الحديث
- الصحافة السياسية في مصر منذ نشأتها إلى الحرب العالمية الثانية
- الصحافة والأقلام المسمومة
- الصحوة الإسلامية: منطلق الأصالة وإعادة بناء الأمة على طريق الله
- صفحات مجهولة من الأدب العربي المعاصر
- صفحات مضيئة من تراث الإسلام
- الطريق إلى الأصالة
- الطريق إلى الأصالة والخروج من التبعية
- الطريق أمام الدعوة الإسلامية
- طه حسين : حياته وفكره في الإسلام
- العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي
- عالمية الإسلام
- عقبات في طريق النهضة: مراجعة لتاريخ مصر الإسلامية منذ الحملة الفرنسية إلى النكسة
- عقيدة الكاتب المسلم
- على الفكر الإسلامي أن يتحرر من سارتر وفرويد ودوركايم
- العودة إلى المنابع : دائرة معارف إسلامية
- الفصحى لغة القرآن
- الفكر الإسلامى والتحديات التي تواجه في مطلع القرن الخامس عشر الهجري
- الفكر البشري القديم
- الفكر والثقافة المعاصرة في شمال أفريقيا
- الفنون الشعبية
- في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي في الشباب
- القاديانية : خروج على النبوة المحمدية
- كتاب العصر تحت ضوء الإسلام
- الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية
- ماذا يقرأ الشباب المسلم؟
- محاذير وأخطار في مواجهة إحياء التراث والترجمة
- المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر في مائة عام 1840م-1940م.
– المخططات التلمودية الصهيونية اليهودية في غزو الفكر الإسلامي
- المد الإسلامي في مطالع القرن الخامس عشر
- المدرسة الإسلامية : على طريق الله ومنهج القرآن
- المرأة المسلمة في وجه التحديات
- مصابيح على الطريق
- مصححو المفاهيم : الغالي، ابن تيمية، ابن حزم، ابن خلدون
- الدعوة الإسلامية في عصر الصحوة : قضايا السياسية والاجتماع والاقتصاد
- الإسلامية نظام مجتمع ومنهج حياة
- الأعراض موسوعة طبية أمريكية
- المثل الأعلى للشباب المسلم
- المساجلات والمعارك الأدبية في مجال الفكر والتاريخ والحضارة
- المسلمون في فجر القرن الوليد
- المعارك الأدبية في مصر منذ 1914 _ 1939
- المعاصرة في إطار الأصالة
- معالم تاريخ الاسلام المعاصر
- معالم التاريخ الاسلامى المعاصر من خلال ثلاثمائة وثيقة سياسية ظهرت خلال القرن
- معلمة الإسلام
- مفاهيم النفس والأخلاق والاجتماع في ضوء الإسلام
- مؤامرة تحديد النسل وأسطورة الانفجار السكاني
- المؤامرة على الفصحى : لغة القرآن
- كمال أتاتورك وإسقاط الخلافة الإسلامية
- أحمد زكي الملقب بشيخ العروبة: حياته- آراؤه- آثاره
- فضائح الاحزاب السياسية في مصر: السياسة والزعماء.. والرشوة واستغلال النفوذ
- مستقبل الإسلام بعد سقوط الشيوعية
- أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب والعلمانية والتنوير الغربي: قضايا الأدب
- قراءة في ميراث النبوة: إطار إسلامي للصحوة الإسلامية
- حسن البنا الداعية الإمام والمجدد الشهيد
==============
أنور الجندي.. حارس اليقظة الإسلامية احتفالية لتأبينه أقامتها رابطة الأدب الإسلامي بالقاهرة
محمود خليل
أقامت رابطة الأدب الإسلامي العالمية ندوة بالقاهرة لتأبين المفكر الإسلامي الراحل أنور الجندي. في بداية الندوة تحدث الدكتور عبدالحليم عويس حول حراسة أنور الجندي لليقظة الإسلامية لأكثر من خمسين عاماً في تناميها وامتدادها وانتقالها من مرحلة إلى أخرى حتى تجسدت صحوة شاملة أخذت طريقها إلى النهضة التي كانت بحاجة إلى هذا العقل والقلم في الرد على الشبهات وكشف زيف المتآمرين.
وأشار الدكتور عويس إلى قدرة أنور الجندي على تجاوز القيود والحدود التي تمثلت في الهجمة الشرسة على التعليم والتاريخ والفكر والثقافة والصحافة، مما كان يتطلب استماتة في خنادق الحراسة والحماية لأمتنا في درء الخطر المحدق في الداخل والخارج... وقد سعى الجندي بالتعاون مع كوكبة من كبار المصلحين إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل فكان رائداً كبيراً في قافلة روادها حسن البنا ومحمد الغزالي وحسن أيوب وسعيد رمضان وفريد وجدي وسيد سابق ومحمد أبو زهرة وغيرهم..
أوكار العلمانية
ثم أشار الدكتور عويس إلى أن الراحل الكبير أنور الجندي كان قلعة حصينة في حقبة مظلمة من تاريخنا، كان يُطعن فيها في القرآن في جامعاتنا هنا.. وتقام دولة للتوراة هناك.. وبين كيف وقف أنور الجندي بالمرصاد لمحاولات خلف الله وأمين الخولي وطه حسين وتوفيق الحكيم ولويس عوض وحسين فوزي وأحمد بهاء الدين.. ممن أطلق عليهم "وكر التغريب بجريدة الأهرام"، كما وقف لثغرات العقاد وهيكل ممن جروا في إسلامياتهم على فكرة التصور الفلسفي والمذهب النفسي الغربي في البطولة ورسم الشخصية.. كما قام الجندي بدك مدرسة العلمانية ب"المقتطف".
دائرة إسلامية متكاملة للمعارف(/7)
وتحدث الدكتور عبدالمنعم يونس فقال: إن أنور الجندي يقف دائماً في مقدمة الصفوف ليمثل دائرة معارف إسلامية متكاملة للعلوم المعاصرة، ستظل تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. حيث البون شاسع بين شخصه الواهي وفكره الذي شرّق وغرّب حتى ملأ العالم.. فكان وهو في صومعته وعزلته.. يخشاه الجميع على كراسيهم ومناصبهم حيث كان ممثلاً للحق الذي لابد أن ينتصر.. فقدم النموذج الفذ لأمانة القلم في رسالة لم تتوقف عبر كتبه التي تجاوزت المائة والخمسين. وفي حملة لم تنقطع عبر مقالاته وبحوثه التي تجاوزت الآلاف.
المثال المعاصر للكاتب المسلم
وتحدث الكاتب الإسلامي الأستاذ حسن عاشور رئيس تحرير مجلة "الاعتصام" و"التبيان" عن الرحلة الصحفية الإسلامية لأنور الجندي، فأشار إلى أن الجندي قد أمد بفكره وبحوثه ومقالاته أكثر من مائة مجلة ودورية وصحيفة على امتداد العالم الإسلامي فنشر في صحف المغرب العربي، كما نشر في صحف ومجلات الهند، وفي بلاد النيل كما في بلاد الشام.. فكتب في الأهرام والهلال والجمهورية ومنار الإسلام والوعي الإسلامي والاعتصام والداعي الهندية والرائد وحضارة الإسلام والمجتمع ودرع الإسلام، وقد استمر عطاؤه لأكثر من ستين عاماً منذ عمل بأول صحيفة يومية يصدرها الإخوان المسلمون عام 1946م.. وكتاباته الأدبية والفكرية قبل ذلك بخمس سنوات.. كان في ذلك كله مثالاً رفيعاً للكاتب المسلم.
هكذا كان أبي
أما كريمته الوحيدة الأستاذة فايزة أنور الجندي، فقد أشارت إلى أنها دخلت كلية البنات الإسلامية (الدفعة الأولى 1966م) وذلك برأي والدها الذي قال لها: يا بنية.. إن الله تعالى يقول: "وليس الذكر كالأنثى" وقد رزقني الله بك لثلاث: لتكوني ردءاً لي من النار، وليكون نسبي من بعدي هو ما قدمته للإسلام والمسلمين وليس فلاناً بن فلان.. والثالثة: أسأل الله تعالى أن تكوني كمريم ابنه عمران التي تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً (ولعل الله قد استجاب دعاءه فكانت الأمنيات الثلاث واقعاً ملموساً) .
ثم تحدثت الأستاذة فايزة (أم عبدالله) وزوجها الأستاذ محمد سيد أحمد عبدالنبي عن ذكريات ومآثر مع الوالد الكبير.. في صلاته وتهجده واعتكافه وتواضعه ومأكله ومشربه.. يشق على الكثير من العابدين أن يلتزمها منهاجاً في حياته. من ذلك مثلاً أنه أمضى عمره على وضوء.. وأنه فقد القدرة على الحركة في إحدى ذراعيه فظل يمارس عمله الشاق عدة سنوات ولا يعلم أحد من أفراد أسرته بذلك.. وكان خشن المأكل والملبس.. يعتكف كل يوم في المسجد بين صلاة الفجر إلى صلاة الضحى.. وفي يوم الجمعة كان يعكتف حتى صلاة الجمعة.
ثم ذكرت الأسرة أن العلامة الراحل رفض رغبة جامعة الرباط بالمغرب إهداءه الدكتوراه الفخرية عن كتابه "أعلام المغرب العربي"، كما اعتذر لجامعة عليكرة الهندية عن عدم منحه دكتوراه فخرية أخرى، كما رفض رغبة جامعات كثيرة "إطلاق اسمه على إحدى القاعات بها".
أباطيل الغرب وحقائق الإسلام
ثم تحدث كاتب هذه السطور حول الضبط المنهجي عند أنور الجندي ورحلته العلمية الطويلة في كشف أخطاء المنهج الغربي الوافد في العقائد والتاريخ والحضارة واللغة والأدب والاجتماع.. حيث قام بعملية فرز منهجي لكتابات "أرنولد تويني" و"بروكلمان" و"مرجليوث" و"لامنس" وكذلك كتابات "فيليب حتى" و"لويس شيخو" و"وليم ويلكوكس" في التاريخ.. وكذلك اعتمد اعتماداً أساسياً في نقده لمشروعات التغريب والتذويب على نقض الأسس العلمية التي تبنى عليها.. حيث قام بنقض نظرية "فرويد" في الجنس، ونظرية "دوركايم" في الاجتماع ونظرية "تين وبرونتير" في الأدب.. ومن ثم نقض كل الأحجار المرصوصة في هذه الدعائم الثلاث في ميادين الاقتصاد والاجتماع والأدب والفلسفة والأخلاق والتحليل النفسي، مع تقديم البديل الإسلامي في كل ما يتناوله من مفاهيم ونظريات يجب أن تهدم.
العملاق الزاهد
وعن الموقع الفكري للراحل الكبير أنور الجندي تحدث الأستاذ عبدالمنعم سليم جبارة (رئيس تحرير لواء الإسلام) والدكتور عصام العريان، حيث أظهرا مكانته في عالم الصحافة الإسلامية وموقعه الرائد من الحركة الإسلامية المعاصرة. وحول هذا الجانب أشار الأستاذ صلاح عبدالمقصود رئيس لجنة الشؤون العربية بنقابة الصحفيين المصرية.. إلى أن التجاهل الذي أحاط بأنور الجندي في حياته ووفاته يدل على حجم المؤامرة على الشرفاء من أبناء الحركة الإسلامية الذين لم يأخذوا حظهم من الرعاية والتكريم.(/8)
ثم أشار الدكتور سليمان الخطيب أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم إلى أن العلامة أنور الجندي كان المصدر الأول له في الماجستير والدكتوراه حول "فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي" كما أكدت الدكتورة إلهام محمد شاهين أستاذة الفلسفة الإسلامية بكلية الدراسات الإسلامية أن الجندي كان هو الأب الروحي لرسالتها للدكتوراه حول "العلمانية في مصر وأشهر معاركها".. وأشار عدد من أساتذة الجامعات الحضور إلى أن الجامعات المصرية مفتوحة لتسجيل الرسائل والبحوث حول فكر وعطاء الأستاذ أنور الجندي الذي كان يمثل بحق ظاهرة فريدة في ميدان الفكر الإسلامي المعاصر.
الموسوعة المعاصرة
إلى ما سبق أشار د. حسين مجيب المصري إلى أن الدور الذي لعبه أنور الجندي في تقديم "بناء متكامل" من خلال الأعمال الكبرى في مجال اللغة والتاريخ والثقافة والتراجم والأدب يبرز دوره كمصباح رائد، ومفكر قائد، قدم المراجع المدفونة في صورة حية، وأخرج الدوريات والأضابير إلى عالم المعرفة والنور، فكشف الغموض وجلَّى الحقائق.
لقد كان الجندي موسوعة معاصرة عشناها وعايشناها.
العدد (1511)
مجلة المجتمع 06/08/2002
==============
أنور الجندي .. الفارس الذي ترجل
القاهرة –أبو علاء الدين
17/11/1422
31/01/2002
المفكر والكاتب الإسلامي أنور الجندي الذي وافته المنية يوم الثلاثاء15/11/1422هـ بمصر عن عمر يناهز الخامسة والثامين عاما بعد رحلة عطاء وجهاد طويل واحد من القِمم الشَّامخة التي أثرت المكتبة الإسلامية بالعشرات من الكتب والمجلدات . ولد المفكر الإسلامي انور الجندي في مدينة ديروط ( بمحافظة أسيوط ) بصعيد مصر سنة 1917 م و نشر أول كلماته سنة 1932 في " البلاغ " ، و تُشَكِّلُ سنة 1940 م علامة فارقة في حياة الأستاذ أنور الجندي بعد قراءته لملخص عن كتاب " وجهة الإسلام " ( لمجموعة من المستشرقين ) الذي لفت نظره إلى التحدي للإسلام ومؤامرة التغريب ، وهو يصف ذلك بقوله : " وبدأت أقف في الصف : هذا قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري الأجنبي والغزو الثقافي ، غير أني لم أتبين الطريق فورا ، وكان عليّ أن أخوض في بحر لجي ثلاثون عاما .. كانت وجهتي الأدب ولكني كنت لا أنسى ذلك الشيء الخفي الذي يتحرك في الأعماق .. هذه الدعوة التغريبية في مدها وجزرها ، في تحولها وتطورها ……. ".
والتقى الجندي بالأستاذ حسن البنا فكانت أكبر علامة فارقة في حياته حيث بدأ الكتابة في صحف الإخوان سنة 1946 واعتقل عاما كاملا قبيل ثورة 1952 وبعد فترة من القيود الصارمة عاشها في العهد الناصري استطاع بالكتابة لمجلة " منبر الإسلام " العودة للكتابة عن التغريب سنة 1963 م ، ويصف أنور الجندي سياسته في العهد الناصري بقوله : " ولقد كان من إيماني أن يكون هناك صوت متصل وإن لم يكن مرتفعا بالقدر الكافي ليقول كلمة الإسلام ولو تحت أي اسم آخر ، ولم يكن مطلوبا من أصحاب الدعوة أن يصمتوا جميعا وراء الأسوار " .
من هو أنور الجندي ؟
قال عن نفسه : " من أنت ؟ أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله ، مازلت موكلا فيها منذ بضع وأربعين سنة حيث أُعِدُّ لها الدفوع وأُقدِّم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة إلى الحق تبارك وتعالى وعهد على بيع النفس لله ، والجنة – سلعة الله الغالية – هي الثمن لهذا التكليف { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } .
"مواجهة فكر طه حسين"
وقد واجه أنور الجندي فكر طه حسين في الكثير من مؤلفاته وهو يفسر سبب ذلك بقوله : " لقد كان طه حسين هو قمة أطروحة التغريب وأقوى معاقلها ، ولذلك كان توجيه ضربة قوية إليه هي من الأعمال المحررة للفكر الإسلامي من التبعية " .
ويقول أنور الجندي في العلاقة بين الأدب والفكر وخطر الفصل بينهما : " إن فصل الأدب عن الفكر – وهو عنصر من عناصره – من أخطر التحديات التي فتحت الباب واسعا أما الأدب ليتدخل في كل قضايا الإجماع ويفسد مفاهيم الإسلام الحقيقية " .
وكشف أثر مدرسة العلوم الاجتماعية ( فرويد ، ماركس ، دوركايم ) في تزييف الفكر الإسلامي الأصيل في أذهان الأمة الإسلامية ، وكذا مدرسة تولستوي وغاندي التي حملت مفهوم دحض " فريضة الجهاد " والدعوة إلى الخضوع والاستسلام تحت اسم السلام .
وهو يقول في الحديث عن مراحله الفكرية في الطريق إلى الأصالة الفكرية الإسلامية " إن أخطر كلمة يجب أن تُقال في هذا : أن الفضل كله لله ، وأن الهدى هدى الله ، ولولا فضل الله في التوجه إلى هذا الطريق المستقيم لضللنا في ضلال السبل التي لا توصل أبدا ، والتي هي عبارة عن أهواء وركام " .
وهو يفرق بين مفهوم " العروبة " القومي الأصيل الذي ظهر بعد سقوط الخلافة وتبناه كبار الدعاة أمثال شكيب أرسلان ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب ، وهو مختلف تماما عن المفهوم الذي سيطر من بعد وهو مفهوم ساطع الحصري وميشيل عفلق
"حياة حافلة"(/9)
ويقول أنور الجندي ( وهو يعكس دأبه في البحث ) : " قرأت بطاقات دار الكتب ، وهي تربو على مليوني بطاقة وأحصيت في كراريس بعض أسمائها . راجعت فهارس المجلات الكبرى كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة ، وأحصيت منها بعض رؤوس موضوعات . راجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عاما بين آخرين ، وراجعت المقطم والمؤيد واللواء والبلاغ وكوكب الشرق والجهاد وغيرها من الصحف وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عرفتها في بلادنا في خلال هذا القرن ، كل ذلك من أجل تقدير موقف القدرة على التعرف على ( موضوع ) معين في وقت ما .
واشترك في الكثير من المؤتمرات الإسلامية في القاهرة والرياض والجزائر والمغرب وجاكرتا ومكة المكرمة والأردن والخرطوم ، ودعي إلى الزيارة والمحاضرة في جامعات الإمام محمد بن سعود الإسلامية وجامعة العين بالإمارات والمجمع اللغوي بالأردن .
اتصف بالعمل الدؤوب الجاد ، وكتب الكثير من الموسوعات ، واهتم بتقديم خطة كاملة لمقاومة التغريب والغزو الثقافي ثم اتجه بعد ذلك إلى العمل في أسلمة العلوم والمناهج وتأصيل الفكر الإسلامي وبناء البدائل وهو ما واصل العمل فيه إلى آخر لحظة في حياته ..رحم الله أنور الحندي رحمة واسعة.
============
أنور الجندي .. هل فقدناه؟!! ...(/10)
وم الثلاثاء 15/11/1422هـ فوجئ العالم الإسلامي برحيل المفكر الإسلامي الكبير والكاتب البارع الأستاذ أنور الجندي، وذلك في مستشفى التطبيقيين الدولي بالجيزة بمصر، وقد ذكر الطبيب المعالج أنه قبل وفاته مباشرة استقبل القبلة وصلى، وأعلن فرحه بلقاء ربه، حيث فاضت روحه بعد ذلك عن عمر يناهز 85 عاما تعتبر رحلة عطاء وجهاد طويل. أعمال مختلفة تنتهي بالتأليف كان رحمه الله تعالى قد ولد في مدينة ديروط، إحدى المدن بصعيد مصر، وذلك عام 1917 وتزوج في نفس المدينة من ابنة عمه السيدة نفيسة عبد العال الجندي، ورزقه الله بنتا واحدة هي فائزة، وقد حصلت على ليسانس الدراسات الإسلامية من جامعة الأزهر عام 1969م. وقد عمل في أعمال مختلفة منذ بداية حياته، حتى تفرغ بعد ذلك للتأليف والكتابة، وتُشَكِّلُ سنة 1940 م علامة فارقة في حياة الأستاذ أنور الجندي، وذلك عندما قرأ ملخصا عن كتاب "وجهة الإسلام" (لمجموعة من المستشرقين) الذي لفت نظره إلى التحدي للإسلام ومؤامرة التغريب، وهو يصف ذلك بقوله: "وبدأت أقف في الصف: قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري الأجنبي والغزو الثقافي، غير أني لم أتبين الطريق فورا، وكان عليّ أن أخوض في بحر لجي ثلاثون عاما .. كانت وجهتي الأدب، ولكني كنت لا أنسى ذلك الشيء الخفي الذي يتحرك في الأعماق .. هذه الدعوة التغريبية في مدها وجزرها ، في تحولها وتطورها ……. ". الجد والاجتهاد أبرز صفاته رحمه الله ويعد الأستاذ أنور الجندي رحمه الله تعالى واحدا من القِمم الشَّامخة التي أثرت المكتبة الإسلامية بالعشرات من الكتب والمجلدات، وقد كان في غاية من الجد والاجتهاد والبحث المتواصل الدؤوب، فكان لا يضيع من وقته شيئاً. تقول ابنته: كان الوالد منظما جدا وبسيطا جدا ومؤمنا جدا - ولا نزكيه على الله - كانت حياته عملا، ولم يكن لديه وقت يضيعه، وكان آخر وقته بعد صلاة العشاء، ثم ينام ساعتين أو ثلاثا ثم يستيقظ ليصلي القيام، وبعد صلاة الفجر ينام ساعتين، ثم يستيقظ لقضاء حاجاتنا اليومية. فالوالد كان يخدم نفسه بنفسه كما كان يقوم على رعايتنا وخدمتنا0 فهو الذي كان يشتري الإفطار والجرائد وكل شيء يلزمنا بنفسه0 وكان مع ذلك يهتم بأمور الجيران وغيرهم، تقول ابنته إنه كان يشعر بالمسؤولية تجاه الجميع، ومن مواقفه أنه -رحمة الله- كان يملأ جرادل المياه حين تنقطع عن شقق الجيران، ويتركها لهم أمام شققهم قبل الفجر حتى يمكنهم الصلاة0 وكان حريصا جدا على الوضوء، فكان دائما متوضئا، ولا يأكل إلا متوضئا، بل كان كل سطر يكتبه وهو متوضئ. وهو يقول عن نفسه رحمه الله مبينا دأبه في البحث والاطلاع: " قرأت بطاقات دار الكتب، وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها. راجعت فهارس المجلات الكبرى كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة، وأحصيت منها بعض رؤوس موضوعات، راجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عاما، وراجعت المقطم والمؤيد واللواء والبلاغ وكوكب الشرق والجهاد وغيرها من الصحف، وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عرفتها في بلادنا في خلال هذا القرن، كل ذلك من أجل تقدير موقف القدرة على التعرف على (موضوع) معين في وقت ما. البعد عن الظهور والشهرة ومع هذا الجد والاجتهاد والشهرة العالية، فإن من الغريب أن الأستاذ أنور الجندي كان رجلا بسيطا لا يعرف الثراء ولا الترف، بل كان يعيش حياة البسطاء في المسكن والملابس وغير ذلك من أمور الحياة، وكان مع ذلك عفيفا لا يقبل شيئا على محاضراته وأفكاره، بل حتى الجوائز التقديرية كان يرفضها ويأباها، ويقول عندما يكلم في ذلك يقول: أنا اعمل للحصول على الجائزة من الله ملك الملوك" ولذا نجده كما تقول ابنته زاهدا في الأضواء وفي الظهور، ولم يكن يحبذ اللقاءات التلفزيونية أو الفضائية، وكان كل همه التأليف، وكان يدعو ربه دائما بأن يعطيه الوقت الذي يمكنه من كتابة ما يريد "ولذا فإن مشاركاته في الفضائيات قليل جدا تكاد تقتصر على بعض التسجيلات في أبو ظبي والرياض. هذا وقد أوصى قبل وفاته بأن يتم تصنيف كتبه ومكتبته كلها، ثم دفعها لمؤسسة إسلامية تقوم بطرح هذه المكتبة للجمهور من القراء والباحثين للاستفادة منها، وقد شدد على أن كل تراثه الفكري يجب أن يكون وقفا للمسلمين0 مشاركاته العلمية حصل الراحل الكبير على جائزة الدولة التقديرية عام 1960، وشارك في العديد من المؤتمرات الإسلامية التي عقدت بعواصم العالم الإسلامي في الرياض والرباط والجزائر ومكة المكرمة والخرطوم وجاكرتا. كما حاضر في عدد من الجامعات الإسلامية مثل جامعة الإمام محمد بن سعود، والمجمع اللغوي بالأردن، وأثرى المكتبة العربية والإسلامية بأكثر من 300 كتاب في مختلف قضايا المعرفة والثقافة الإسلامية. ومن أهم كتبه: أسلمة المعرفة، ونقد مناهج الغرب، والضربات التي وجهت للأمة الإسلامية، واليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار، وأخطاء(/11)
المنهج الغربي الوافد، وتاريخ الصحافة الإسلامية" . وكان آخر كتبه هو كتاب "نجم الإسلام لا يزال يصعد" وبالرغم من كثرة الكتب التي ألفها الأستاذ أنور الجندي والموضوعات التي تعرض لها، إلا أنه اهتم بشكل خاص بتقديم خطة كاملة لمقاومة التغريب والغزو الثقافي، ثم اتجه بعد ذلك إلى العمل في أسلمة العلوم والمناهج وتأصيل الفكر الإسلامي وبناء البدائل، وهو ما واصل العمل فيه إلى آخر لحظة في حياته. وقد واجه أنور الجندي فكر طه حسين في الكثير من مؤلفاته، وهو يفسر سبب ذلك بقوله: "لقد كان طه حسين هو قمة أطروحة التغريب وأقوى معاقلها، ولذلك كان توجيه ضربة قوية إليه هي من الأعمال المحررة للفكر الإسلامي من التبعية". ويقول أنور الجندي في العلاقة بين الأدب والفكر وخطر الفصل بينهما: "إن فصل الأدب عن الفكر – وهو عنصر من عناصره – من أخطر التحديات التي فتحت الباب واسعا أما الأدب ليتدخل في كل قضايا الإجماع ويفسد مفاهيم الإسلام الحقيقية " ولئن كان العالم الإسلامي قد فقد شخص الأستاذ أنور الجندي رحمه الله، فإن تراثه الفكري سيبقى علامة واضحة على ما قدمه للإسلام والمسلمين، وستبقى كتبه مرجعا للباحثين عن فكر إسلامي واضح بين. رحم الله الفقيد رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وخلف أهله والأمة الإسلامية بخي
============
أنور الجندي وقضايا نقدية
10/03/1425هـ الموافق 29/4/2004م
أقامت ندوة (الوفاء) لعميدها الشيخ أحمد باجنيد في الرياض محاضرة للأستاذ الباحث محمد العصيمي بعنوان :(أنور الجندي وقضايا نقدية)، وأدار اللقاء الذي حضره جمهور من المهتمين والمثقفين والأدباء، الدكتور محمد الهواري؛ إذ عرّف بداية بالمحاضرة، وبيّن أهمية الموضوع الذي يطرحه في ظل ما تتعرّض له الأمة من محاولة تشويه هويتها وثوابتها وقيمها الإسلامية.
القمة الشامخة
تحدّث المحاضر عن حياة أنور الجندي الذي ولد في ديروط بصعيد مصر سنة 1335هـ، ودرس فيها حتى أخذ الشهادة الابتدائية، وحفظ القرآن الكريم، ثم حصل على الثانوية التجارية، وتزوج مبكّراً وعمره لم يتجاوز سبعة عشر عاماً، وهو رجلٌ عصامي اعتمد على نفسه في تحصيل الثقافة والفكر والأدب، ونشر أول مقالة له في هذا السن عن شاعر النيل حافظ إبراهيم، ثم انتقل إلى القاهرة ليعمل في الصحافة، واتصل بالشيخ حسن البنّا، وعمل بصحيفة (الإخوان المسلمون) وأشرف على النواحي الإدارية والمالية فيها، كما كتب على صفحاتها حتى تم إغلاقها عام 1949م. وقال الأستاذ العصيمي: سيظل أنور الجندي قمّة شامخة وإن تجاهله الإعلام العربي مما يحزننا جميعاً، وهذا من مآسي الأمة، وقد عاش أكثر من ثمانين عاماً منافحاً عن الإسلام وفكره وأدبه ولغته العربية، وحين توفي في 14/11/1422هـ قال الشيخ العلامة يوسف القرضاوي: "علمت أن الكاتب الإسلامي المرموق أنور الجندي توفي منذ أسبوع.. يا سبحان الله، يموت مثل هذا الكاتب الكبير ولا نعرف عن موته إلا بعد عدة أيام، لو كان أنور الجندي مطرباً لامتلأت الصحف بالثناء عليه".
مصادر ثقافته
نشأ الكاتب أنور الجندي رحمه الله في بيئة تراثية، اهتمت بالقرآن الكريم والسنة المطهرة، والثقافة الأصيلة للأمة، واتصل بالأدباء والعلماء، مما زاده ثقافة وعلماً وأدباً مثل زكي مبارك، كما التقى بالإمام الشيخ حسن البنّا حين كان يأتي إلى ديروط، واهتم أنور الجندي بالحضارة الإسلامية، واللغة العربية، وتأثر بأعلام الفكر الإسلامي وأدبائه وكتّابه، وكان يقول رحمه الله: "ليست أدوات الكاتب هي المحابر والأقلام؛ بل أدواته مصادره ومراجعه التي تمدّه بالمضمون والبيان، وإذا كانت الثقافة في حق المثقف زاداً فهي في حق الكاتب تكون عتاداً".
القضايا النقدية
وقف أنور الجندي يدافع في كتاباته الكثيرة المتعددة عن فكر الأمة وتراثها ولغتها بكل صدق وقوة أمام علم من أعلام التغريب هو طه حسين.(/12)
وعرض في كتابه "محاكمة فكر طه حسين" منهج طه حسين في دراساته للأدب العربي حين نادى بمذهب الشك لا سيما في كتابه عن الشعر الجاهلي، واعتمد على الذوق بعيداً عن المنهج العلمي، ولذلك فآراؤه متناقضة ذاتية لا تستند إلى تحليل وتعقّل ورؤية ناضجة، مما يجعله يناقض نفسه، وينقض بعض القصص في القرآن الكريم، وكان غرضه إنكار كُلّ قطعي، والقضاء على النصوص الإسلامية المقدسة كما يقول الكاتب أنور الجندي. ويجعل طه حسين الذوق علماً، ويُدرس الأدب في رأيه فقط من أجل تذوق الجمال، ويطفح أسلوبه في دراساته وكتاباته بالسخرية، وغلبة العاطفة والبعد عن العدل، والاعتماد على الإثارة مما يناقض المنهج العلمي. كما نادى طه حسين بحرية الأديب، وينبغي في رأيه أن يتحرر الأدب من الدين، واللغة من القدسية، ويبتعد عن الأخلاقية، وقد أفاض في دراسة الشعراء الماجنين في العصر العباسي، وجعلهم هم الأصل، وحاول تدمير الأدب العربي من خلال تقديس الشعر الماجن، كما حاول أن يجعل الأدب العربي صورة للأدب الغربي، والأدب الإغريقي؛ بل زعم أن الأدب العربي متأثر بهذه الآداب الدخيلة.
وقد استطاع الكاتب أنور الجندي أن يردّ على افتراءات وشبهات طه حسين في عدة مقالات في كتبه المتنوعة؛ فالأدب العربي صورة عن المجتمع العربي المتميز بالأخلاق ونظرة العرب للأدب بعد الإسلام جاءت من منهج هذا الدين، ولذا فأدب المسلمين مرتبط بدينهم وفكرهم وأخلاقهم، ويتميز هذا الأدب بالوضوح والجمال، والبعد عن الإيهام والأفكار المنحرفة.
كما حرص الكاتب أنور الجندي في كثير من كتبه على الوقوف مع اللغة العربية الفصحى لا سيّما في كتابه: "أخطاء المنهج الغربي الوافد"؛ لأن الفصحى لها ميزات عظيمة، والأخذ بالعامية يقطع العرب عن دينهم وتاريخهم وماضيهم، بينما تزيد الفصحى من اتصالهم بدينهم وتراثهم وحضارتهم، كما أن اللغة الفصحى لغة خالدة ومحفوظة بالقرآن الكريم الخالد المحفوظ، وهي واسعة منتشرة واضحة ومفهومة، بعكس العامية الضيقة في انتشارها، وغير المفهومة في كثير من قرى وأقاليم القطر الواحد، فكيف ستفهم في أقطار متعددة؟! كما أن العامية مندثرة لا حياة فيها من عصر لآخر، وهناك الكثير من عيوب العامية، وأصالة الفصحى وتميّزها بخصائص مشهودة وعظيمة!.
==============(/13)
أنور الجندي الكاتب الفذ والعالم المتواضع
بقلم/ عبد السلام البسيوني
في بعض الأجيال العوجاء - كجيلنا - تنقلب المفاهيم وتختل النسب ، ويطفو الزبد التافه على السطح الموّار ، فلا ترى على وجه الماء إلا قشًا ، وقصاصات جرائد ، وفضلات من الزبالة ، وقطع الخشب ، وربما رأيت جثة منتفخة ( لكلب نافق ) أو حمار (فطيس ) ، في حين يرسب في القاع الجوهر والدر الثمين هنالك في الظلام بعيدًا ، حيث السكون التام والبعد السحيق ، ومن أراد الحصول على شيء من اللؤلؤ والكنوز الخبيئة ، فلا بد له من أن يغوص ويغوص ، محتملاً ضغط الماء ، وظلمة القاع ، ومخاطر البعد عن الأنس .
وفي زمننا - المدهش - عدد من الرجال اللآلئ ، الذين يتمتعون بخاصية الندرة والنفاسة وارتفاع القدر : محمود محمد شاكر ، والمختار الشنقيطي ، وعنتر حشاد ، وأحمد المحلاوي ، وأشباههم من الذين لم تستغوهم الفلاشات ، ولم تستهوهم الشاشات ، أو تسحرهم وتتلعب بهم الإذاعات .
وهذه قضية تاريخية ، ليست وليدة أيامنا ، إنما هي بلية قديمة : أبو حيان التوحيدي يحرق كتبه التي أنفق عمره وعقله عليها ؛ لأنه رأى أهل زمانه يتجاهلونه ولا يقدرونه ، عالم آخر - نسيت اسمه - يترك البلد ويهاجر ، فيسأله تلاميذه الذين لم يفطنوا لحاله : لماذا تتركنا وتنتقل عنا ؟ فقال : لو وجدت كيلجة باقلاء لكفتني ، ولما فارقتكم !! نعم إنه النحوي البصري النضر بن شميل .
كأنها حتمية أو سنة مطردة : من شاء أن ( يقب ّ) على السطح فليس له بد من أن يغازل أعتاب الوجهاء ، أو يبش في وجه (قبضايات) القرن - الصحفيين والإعلاميين ، رضي الله عنهم ومد ظلهم العالي - لعله أن يحصل له شيء من الانطلاق والتلميع و( البروزة ) .
أما من رزقوا الشمم ، وعلو الهمم ، وتقدير النفس ، فإنهم يبقون معرضين عن السفاسف ، طالبين للمعالي ، متفرجين على ما يدور من عجائب وتناقضات ، راصدين - في توتر - للتحولات في الأفهام التي باتت تقبل ما لم يكن مقبولاً ، وتستبيح ما ليس يستباح بل ما لا يخطر ببال أحد أن يقترب منه .
ورحمة الله على القاضي الجرجاني الذي صرخ منذ وقت بعيد :
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان .. ولطخوا
محياه بالأطماع حتى تجهما
أأشقى به غرسًا .. وأجنيه ذلة ؟!
إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ورحمة الله على البارودي فارس السيف والقلم الذي قال :
خلقت عيوفًا لا أرى لابن حرة
عليّ يدا أغضي لها حين يغضب
إذا أنا لم أعط المكارم حقها
فلا عزني خال .. ولا عزني أب
ومن اللآلئ الساكنة في قاع المولد الإعلامي والدعوي الأستاذ العالم المتواضع - أحسبه والله حسيبه - أنور الجندي .. الذي خسرته أمة لا إله إلا الله قبل أيام ، ولم يزاحم أحدًا في محاضرة ، ولا موقف فخر ، ولم يزعج وسائل الإعلام كي تتابع أخباره ، وتتحدث عن عنترياته وبطولاته منذ كان في ( اللفة ّ) .
رأيته مرة واحدة قبل عقد من السنين ، حين ذهبت إليه في بيته بالطالبية ، الجيزة ، فلقيت رجلاً من النادرين ، بسيطًا بساطة عاميّ خام ، متواضعًا تواضع زاهدً ، لينًا لين أب رحيم ، واقعيًا لدرجة تدعو للأسى والغضب .
رأيت ويا سوء ما رأيت ، بيته المتهالك في قلب (سوق الخضار) إي والله ، ومن الصباح الباكر تقضّ مضجعه نداءات الباعة - عبر مكبرات الصوت - على ما لديهم من (الورور ) والجبنة القديمة ، واللحمة العجالي ، والأمشاط والفلايات ، والمناخل ، والغرابيل ( ولا تين ولا عنب زيك يا برشرمي ) ، فإذا هدأت ضجة الميكروفونات قليلاً ، لم تهدأ مشاجرات ومناقرات جاراته ، وكلامهن المنتقى ، ولم ينقطع ضجيج ( العيال ) العفاريت ، الذين يتقاذفون الكرة ( صدة ردة ) في عز نقرة الحر ، والمتبادلين لما لذَّ وطاب من الألفاظ التي يحلو للعامة أن يتقاذفوا بها في غير شحناء ولا خصومة .
دخلت حيث يسكن ، ومعي فريق للتصوير التليفزيوني بعد أن أنهكنا البحث ، فقد كنا نظن أنه من ساكني الفيلات الفاخرة ، أو القصور (المحندقة) ، فإذا بنا نسأل المكوجي والجزار والجار فيقولون في استفهام : من أنور ؟ لا نعرف أحدًا بهذا الاسم ، وحين اهتدينا إلى بيته المتهالك ، لم نجد مكانًا عرضه متر × متر ، يصلح لأن نجلس به ، بسبب قدم المكان ، وكثرة الكتب التي زحفت إلى كراسي غرفة الاستقبال .
· ما رأيك يا أستاذنا الكبير لو تحركنا إلى الفندق لنتمكن من التصوير ، حيث المكان واسع ؟
- لا بأس .. كما تشاؤون .. تفضلوا وسألحق بكم .
وبشيء من التخابث سألته : كيف ستدركنا يا أستاذ في هذا الزحام .. كيف ستقود سيارتك ؟
- لا .. لا أملك سيارة .. سألحق بكم بالأتوبيس .
وكأنما لسعني بكرباج فهتفت : الله أكبر .. بالأتوبيس ؟ أنت العالم الكبير ( تتشعبط ) ونحن نسبقك بسيارة خاصة ؟
- وماذا في ذلك ؟ لقد تعودت ..(/1)
لا حول ولا قوة إلا بالله .. الرجل العظيم .. بعلمه وسنه ، وضعف جسمه ، ومؤلفاته التي تزيد على السبعين (يتشعبط ) في الأتوبيسات ، بينما ( هلافيت ) الثقافة وتجار الصنف يركبون الشبح والزلمكة ، ويلعبون ( بالأنارب ) ويتنعمون في المنتجعات القريبة والبعيدة ؟
يا لخيبة أمة تتجاهل علماءها وأهل الفضل فيها .
ركب الأستاذ الزاهد السيارة معنا ، وفي الفندق تحدثنا عن قضايا المسلمين في هذه العصر ، وعن العروبة ، واليسار الإسلامي ، والعقلانية ، والتراث ، وغيرها من الآفاق التي طوفنا فيها ، وبعد أن أتعبنا الأستاذ " أنور الجندي " وأزعجناه قدم مدير الإنتاج له ظرفًا به مبلغ من المال وهو يقول : " معذرة يا أستاذ على التقصير ، المبلغ لا يليق بكم ؛ لكنه رمز لمحبتنا إياكم ، فنرجو أن تقبلوه مكافأة رمزية فقط " .
- مكافأة ؟ أنا لا أعرف أن هناك مكافأة ، ولم أقل شيئًا يستحق أن أتقاضى عنه أجرًا .
· يا أستاذ : هذا مبلغ بسيط من الدولة ، وليس منة من جيب أحد ، وهو من حقك وليس تفضلاً .
- لن آخذ شيئًا ؛ لأنني ظننت أن الحديث بلا مكافأة ، ولن أغير نيتي مهما كان الأمر .
· يا أستاذ .. هذا حقك .. نرجوك .
- لن آخذ قرشًا واحدًا .. اسمحوا لي بالانصراف .
وأوصلناه ونحن في حياء منه ، ومن تواضعه وورعه ، ونحن - أيضًا- في خجل من أنفسنا، وحرصناعلى الراحة و( الكشخة ) .
كان هذا منذ أكثر من عشر سنين .. وأنور الجندي ليس مجهول المكان ، فكتبه تخرج تترى ، ومقالاته تملأ المجلات الإسلامية والحال هو الحال .
إنه الداء الوبيل في الإسلاميين .. وواحسرتا عليهم !!
لقد أذنب أنور الجندي ذنبا فظيعا لا يغتفر .. أنه عفيف ، قار في بيته .. لا يطرق الأبواب ، ولا يزاحم الأتراب ، ولا يهمه أن يقال حضر أو غاب !
كما كان أكبر ذنوب أنور الجندي أنه مستقل في تفكيره ، غير منتم لتيار ، ولا منضو تحت لافتة ، فاللافتات - في العمل الإسلامي - تطرد دائمًا من لا يصفق لها ، وتعتبره مجذومًا أو مريضًا بالإيدز ؛ لا يُقترب منه ولا يُتعامل معه ، بل ربما أساءت إليه ، وحقرت من شأنه ، باسم مصلحة الدعوة أو اختلافًا على فرعية من الفروعيات .
أزعم أن أنور الجندي لو علق ( بادجا ) على صدره لكان له شأن آخر ، ولوجد من يدعوه في المناسبات ، ويقدمه في الاحتفالات ، ويثني عليه غائبًا وحاضرًا .
وأزعم أن هناك (عيال ) جهالاً ، لا وزن لهم من علم أو سنّ أو دعوة ، لكنهم منتمون .. فصاروا بذلك ( لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ..
ناهيك عن أن يكون واحدًا من المستنيرين أو الذين كانوا – زمان - رفاقًا مناضلين – دستور - فهؤلاء تفتح لهم صالات كبار الشخصيات ، وأبواب الجامعات ، وتسود عنهم الصحف ، وتكتب المجلدات عن عبقريتهم ، وتميزهم ، وإبداعهم ، وتستر عوراتهم التي يعرونها دون خجل أو حياء ، فكشف العورات إبداع أيضًا عند ( ولاد الحمرة ) .
إنها قضية موازين مختلفة ، ومفاهيم مقلوبة ، وحيف في التقدير ، ووضع للرؤوس موضع الأقدام .
ولعل من المناسب هنا التذكير بكلمة المصطفى صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يوقر كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه !!
فمتى تعرفين يا أمة اقرأ ؟ متى تعرفين ؟!(/2)
أنور الجندي في الدراسات العلمية
الباحث الموسوعي والمفكر الإسلامي الكبير أنور الجندي هو واحد من أولئك القلائل الذين تصدوا للفكر الوافد ودعاة التغريب في مؤلفاته عبر رحلة عمر تجاوزت الثمانين عاما كانت حياته بسيطة ناعمة بعيدة كل البعد عن المعارك الحزبية أو المذهبية لولا هذا الإعصار الجارف من كتابات العلمانيين والتغريبيين وما تحمله من هجوم لا هوادة فيه على الإسلام تاريخا ومنهجا فلقد أدرك الخطر المحيط بعالم الإسلام فتوجه وجهته التي ظل عليها وهي الدفاع عن الإسلام ضد أعدائه المتربصين به الدوائر إلى أن لقي ربه سائلا إياه حسن الجزاء بعدما عزفت نفسه عن أي تكريم في حياته -ولا أقول ضن عنه قومه بالتكريم- .
فها هي الرسائل العلمية الرصينة رسالة بعد أخرى تتناول جهوده الكبيرة وفكره الموسوعي الذي هو أحد ملامح الفكر الإسلامي الواسع الذي أحاط بجوانب الحياتين الأولى والآخرة .
فقد نوقشت عدة رسائل علمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه في عدد من بلدان العالم الإسلامي تناولت فكر هذا العالم الكبير وهي في مجموعها تدل دلالة عميقة على الجهد المبارك الذي قام به الأستاذ أنور الجندي في خدمة الدعوة الإسلامية وحملها بيضاء نقية إلى أبناء الإسلام بعد أن مسح عن جبينها ما علق به من حملات المغرضين الذين يثيرون بين فترة وأخرى حملات التشكيك أو يعمدون إلى التقليل من شأن الإسلام وقدرته على قيادة العالم بعد أن عجزت المذاهب الوضعية على تقديم الحلول لمشاكل الإنسان في الحياة المعاصرة .
نظرة عامة على الرسائل التي تناولت جهود أنور الجندي :
رغم مرور أربع سنوات على رحيل الأستاذ أنور الجندي إلا أننا نجد اهتماما كبيرا
لدى العلماء الباحثين لإبراز جهوده في شتى ميادين الفكر الإسلامي على صعيد الرسائل العلمية .
وهذه الرسائل تم مناقشتها في ساحات الجامعات الإسلامية المختلفة وأجيزت من لجان المناقشة في بلدانها:
1- أنور الجندي: الناقد المقاوم لمحاولات التغريب في الأدب العربي":هذا عنوان رسالة دكتوراه للباحث الهندي/( أبو بكر محمد ) بوليان كونان أبو بكر
من كيرالا جنوبي الهند، خريج كلية اللغة العربية بالرياض جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أستاذ الأدب العربي في جامعة (كاليكوت فى كيرالا )
وهذه الدراسة تناولت بالدراسة أعمال أنور الجندي المقاوم للتغريب في مجال الأدب العربي مبرزا الباحث أن الأدب العربي يتميز بخصائص تجعله لا يقبل النظريات الوافدة والمذاهب التي قدت لآداب أخري تختلف في جوهرها عن الأدب العربي فلا يستساغ أن نحكم نظريات وافدة في الأدب العربي الذي ولد ونشا على تأكيد الوحدانية لله والجمع بين الروح والمادة في انسجام لا تعرفه الآداب الأخرى إلى غير ذلك من خصائص أشار إليها الباحث .
وقد قسم الباحث أطروحته إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: تطور الأدب العربي الحديث في مصر، والفصل الثاني: نظرة عامة إلى أعمال أنور الجندي، الفصل الثالث: دراسة تحليلية لكتابات أنور الجندي في المجلات العربية والإسلامية في نحو نصف قرن .
2- الرسالة الثانية : رسالة ماجستير تقدم بها الباحث محمد رشدان العصيمي إلي كلية اللغة العربية بجامعة الأمام محمد بن سعود 1426هـ2005م في مجال الأدب الإسلامي
وكان عنوانها : ( الأدب الإسلامي ونقده عند أنور الجندي ).
تناول فيها الباحث جانب النقد الأدبي في كتابات أنور الجندي كما أوضح موقف الجندي من الحرية والالتزام في الأدب وتناول الباحث موقف الجندي من الأخلاقية في الأدب وأبرز ملامح الالتزام الإسلامي في الأدب عند الجندي .
3- جهود أنور الجندي في الفكر الإسلامي التبشير والاستشراق والتغريب
تناولت جهود أنور الجندي في الفكر الإسلامي عامة وتقدم بها الباحث محمد السيد عبد ربه إلى كلية الدراسات الإسلامية فرع القاهرة .
4- أنور الجندي وجهوده في الدفاع عن الإسلام ضد التبشير والاستشراق والتغريب
وهي مقدمة من الباحث : عمر السيد أبو سلامة جامعة الأزهر إلى كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة قسم الأديان والمذاهب.1427هـ 2006م تناولت جهوده في ثلاث مجالات حددها الباحث وهي: التبشير والاستشراق والتغريب.
إشراف الأستاذ الدكتور عمر عبد العزيز قريشى أستاذ الأديان والمذاهب بكلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة مشرفا
والدكتور ياسر محمد عبد اللطيف على مشرفا مشاركا
والدكتور يسري هانئ أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بكلية أصول الدين جامعة الأزهر بالمنصورة عضوا مناقشا
والدكتور سمير عبد المنعم حسن عثمان الأستاذ المساعد بقسم الأديان والمذاهب بكلية الدعوة عضوا
وقد حوت الرسالة خمسة فصول:
الفصل الأول بعنوان التعريف بشخصية الأستاذ الجندي وظروف النشأة وسمات العصر الذي عاش فيه(القرن العشرين/الخامس عشر الهجري ).
الفصل الثاني(دراسة نقدية لجهود الجندي في الدفاع عن الإسلام ).
الفصل الثالث جهود الجندي في الدفاع عن الإسلام ضد التبشير.(/1)
الفصل الرابع جهود الجندي في الدفاع عن الإسلام ضد الاستشراق
الفصل الخامس جهود الجندي في الدفاع عن الإسلام ضد التغريب
أنور الجندي وجهوده في الدفاع عن الإسلام ضد التبشير الاستشراق والتغريب
وهذا فهرس بمحتوى الرسالة المودعة بمكتبة كلية الدعوة جامعة الأزهر
المبحث الأول : سمات العصر وفيه أربعة مطالب :-
المطلب الأول : سمات العصر السياسية .
المطلب الثاني : السمات الاجتماعية .
المطلب الثالث : السمات الدينية والفكرية .
المطلب الرابع : السمات الاقتصادية .
المبحث الثاني : أنور الجندي من الميلاد إلي الوفاة ، وفيه ستة مطالب :-
المطلب الأول : نشأه أنور الجندي ،والشخصيات التي التقي بها، وأثرت فيه، ومشايخه .
المطلب الثاني : صفاته وأخلاقه .
المطلب الثالث : أبرز المجالات التي ألَّف فيها، والمصادر التي ساعدته في الكتابة .
المطلب الرابع : المؤتمرات التي حضرها والمجلات التي كتب فيها والمؤثرات الفكرية في حياته والمحن التي مرت به .
المطلب الخامس : مكانته في عيون معاصريه
المطلب السادس : حياته العلمية ( وظائفه وجوائزه ) وفاته ورثاؤه .
الفصل الثاني : ـ
(دراسة نقدية لجهود الجندي في الدفاع عن الإسلام )
ويشتمل علي : أربعة مباحث : ـ
المبحث الأول : منهج الجندي في الدفاع عن الإسلام وفيه ثلاثة مطالب: ـ.
المطلب الأول : سمات منهج الجندي الفكرية العلمية .
المطلب الثاني : منهج الجندي في الدفاع عن الإسلام بصفة عامة .
المطلب الثالث : منهج الجندي في مواجهة التبشير والاستشراق والتغريب بصفة خاصة .
المبحث الثاني : وسائل الجندي في خدمة الفكر الإسلامي وفيه خمسة مطالب : ـ
المطلب الأول : كتابة الموسوعات .
المطلب الثاني : تأليف الكتب .
المطلب الثالث : كتابة الأبحاث للمؤتمرات (المشاركة في المؤتمرات).
المطلب الرابع : كتابة المقالات والترجمة للكتب الأجنبية .
المطلب الخامس : حضور المحاضرات والندوات والمحاضرة فيها .
المبحث الثالث : إسهامات الجندي ومؤلفاته في خدمة الفكر الإسلامي وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : أسماء الموسوعات .
المطلب الثاني :أسماء الكتب والأبحاث .
المبحث الرابع : دراسة نقدية لجهود الأستاذ الجندي في الدفاع عن الإسلام وفيه مطلبان:
المطلب الأول : أهم الإيجابيات التي تحسب للجندي .
المطلب الثاني : أهم المآخذ التي أخذت عليه
الفصل الثالث: ـ
جهود الأستاذ( أنور الجندي ) في الدفاع عن الإسلام ضد التبشير وفيه مبحث واحد : ـ
بعنوان أنور الجندي وجهوده فى الدفاع عن الإسلام ضد التبشير وفيه تسعة مطالب : ـ
المطلب الأول : نظرة الأستاذ الجندي التاريخية للتبشير .
المطلب الثاني : جهوده في كشف مخططات التبشير .
المطلب الثالث : جهوده في كشف مؤتمرات التبشير وأهدافها .
المطلب الرابع : جهوده في توضيح منهج التبشير .
المطلب الخامس: جهوده في كشف وسائل التبشير .
المطلب السادس : جهوده في كشف أهداف التبشير .
المطلب السابع : جهوده في توضيح صلة التبشير بالاستعمار .
المطلب الثامن : جهوده في توضيح صلة التبشير بالاستشراق .
المطلب التاسع : جهوده في توضيح صلة التبشير بالتغريب .
الفصل الرابع : -
جهود الأستاذ الجندي في الدفاع عن الإسلام ضد الاستشراق ويشتمل علي مبحث واحد : ـ
المبحث الأول : ( جهوده في الدفاع عن الإسلام ضد الإستشراق ) وفيه ثمانية مطالب :
المطلب الأول : تعريف الجندي للاستشراق .
المطلب الثاني : نظرته التاريخية للاستشراق .
المطلب الثالث : كشفه لأهداف الاستشراق ودوافعه.
المطلب الرابع : بيانه لأخطاء المنهج الاستشراقي .
المطلب الخامس : توضيحه للصلة بين اليهود والاستشراق .
المطلب السادس : كشفه لمؤتمرات الاستشراق .
المطلب السابع : نقده للدراسات الاستشراقية
المطلب الثامن : كشفه لصلة الاستشراق بالاستعمار
الفصل الخامس : -
(جهود أنور الجندي في الدفاع عن الإسلام ضد التغريب ) ويشتمل هذا الفصل علي مبحث واحد: المبحث الأول: جهود أنور الجندي في الدفاع عن الإسلام ضد التغريب وفيه ستة مطالب :ـ
المطلب الأول : تعريف أنور الجندي لمفهوم التغريب .
المطلب الثاني : نظرته التاريخية للتغريب .
المطلب الثالث : كشفه لأهداف التغريب.
المطلب الرابع : كشفه لوسائل التغريب
المطلب الخامس : موقف الجندي من الحضارة الغربية .
المطلب السادس : مواجهة الجندي للتغريب ( تحليل لأبرز كتاباته ).
الخاتمة .
نتائج البحث .
التوصيات .
وبعد مناقشة الباحث في رسالته قام أعضاء لجنة المناقشة بمنح الباحث تقدير ممتاز.(/2)
أهانوا المصحف..؟.
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه 6/5/1426
13/06/2005
في "غوانتنامو" أهانوا المصحف..!!.
رموه في المرحاض..!!.
يستفزون به إيمان السجناء.!!.
تحدٍ في خصومة غير عادلة..؟!.
من قبل أهانوا بلاد المسلمين: احتلوها حربا، أذلوها قسرا.
أبادوا خلقا: صغارا، وشيوخا، ونساءا..
دمروا: بيوتا، طرقا، مدارس، مستشفيات، قرى، مدنًا..
حرقوا: شجرا، وبشرا، وأرضا، ورجالا..
دنسوا المساجد، قصفوها، وهدموها، وقتلوا من لجأ إليها: ضعيفا، كسيرا، شيخا كبيرا..
كل ذلك فعلوه أمام أعين جميع المسلمين، ولما لم يجدوا ردا، بل سكوتا، رعبا وخوفا، واسترضاء وحبا: طغوا، وعتوا عتوا كبيرا؛ فأهانوا المسلم، والمسلمة. واعتدوا على نفسيهما.. على عرضيهما، على المحرم منهما: عروا هذا، واستخفوا به، فصوروه كذلك.. وتلك اقتحموا بيتها، خدرها..جروها من يدها، ورجلها، ثم سجنوها واغتصبوها.
فعلوا ذلك كله، فما رأوا ؟!!..
ما رأوا إلا خيرا..!!.. لم يروا من الشر شيئا.
فاجترءوا على أكبر من ذلك: اجترءوا على أعظم مقدس.. على كتاب الله.. على كلام الله.. على القرآن الكريم.. على القرآن العظيم.. المجيد.. على السبع المثاني..؟!!.
أهانوا البلاد، ثم سكانها، ثم مقدساتها، ثم إيمانها، ثم قرآنها.. فماذا بقي ؟.
حتى نبيها صلى الله عليه وسلم سبوه، وشتموه، وقالوا فيه القول الأكبر، فماذا بقي..؟.
بقي مسجد الكعبة، ومسجد المدينة، والمرقد الشريف..!!.
* * *
ليس غريبا على محارب للإسلام أن يهين المصحف، فإن المحاربين هكذا يفعلون، كما قال تعالى:
- {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون}.
وفي غزوة تبوك استهزأ جمع من المنافقين بالقراء، فقالوا: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء: أرغب بطونا، وأكذب ألسنا، وأجبن عند اللقاء)، فأنزل الله تعالى قوله:
- {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبؤهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون* ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا الله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين}.
فالمستهزء بشعائر الله تعالى، كالقرآن العظيم، إما محارب، وإما منافق، وكلاهما مجرم، وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن ولاء الكافرين، وكان مما علل به حكمه هذا: أنهم يستهزءون بدين المسلمين. فقال:
- { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين * وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون}.
فهذا اختبار.. صدق الانتماء، يضاد الرضى بالانتقاص.
فكل من انتمى لفكر، أو لعقيدة، أو مذهب، أو دولة، أو جنس..كل رابط جامع. وكان صادق الانتماء، فلا يرضى أبدا، في أي حال من الأحوال: أن يمس جانب هذا الانتماء بأي شيء فيه: انتقاص، أو سخرية، أو استهزاء، أو إهانة. فإن رضي بشيء من ذلك، فذلك علامة انحلال الرابط، وبطلان الانتماء. فلا يمكن الجمع بين الانتماء إلى رابط، والرضى بانتقاص ذلك الرابط.
وهذا أمر متفق عليه بين جميع العقلاء، فكل جماعة وأمة تنبذ من يقبل الانتقاص من شعائرها، وعلامتها:
- إن كان من أبنائها، حاسبته، وعاقبته.
- وإن كان من أعدائها، تبرأت منه، فإن قدرت أعلنت عليه الحرب.
هذا لأنها في نظرها مقدسة، المساس بها يضر الجماعة كلها، يضر بقاءها، ووجودها، فإنه مشروط بسلامة شعائرها، التي تميزها، فإذا انتهكت الشعائر، انحل وبطل الرابط، فبطلت الجماعة والأمة.
وإذا صحت هذه القاعدة في سائر الروابط، التي يخترعها بنوا البشر: فإنها في الرابطة التي شرعها الله تعالى أصح وأوجب؛ لأن الحامل عليها داعيان، أحدهما أقوى وأشد من الآخر:
- الأول: الجبلة البشرية، التي تحب الاجتماع؛ فلأجله تبحث عن شيء تجتمع عليه.
- الثاني: الأمر الإلهي، الواجب اتباعه، الآمر بالاجتماع على شعائره.
فالدين رابط يحل محل كل الروابط، وهو أقوى منها كلها، ويغني عنها، ويتفق مع جبلة البشر في حب الالتفاف حول رابطة، وبهذا يجتمع الداعيان.
فالله تعالى خاطب المؤمنين فنهاهم أن يتخذوا اليهود والنصارى والكفار أولياء، وعلل أمره هذا بعلل، منها:
أنهم ينتهكون رابطتهم، بالاستهزاء، واللعب بشعائرهم.
وغايتهم من هذا الاستهزاء والسخرية أمران:
- الأول: تهوين شعائر الدين في نفوس المسلمين.
- الثاني: التنفيس عما يعتلجه صدورهم من الغيظ والكراهية تجاه الإسلام.
والأول مقنن مقصود، يراد به صرف المسلمين عن دينهم، فإن الشيء المنتقص المهان لا وزن له ولا قدر؛ لذا كان من الخطر الكبير السكوت، إذ يفضي إلى انحلال الرابطة، التي هي الدين، لو تهاون المؤمنون، فلم يتخذوا إجراء حاسما:(/1)
- أصله وأوله: البراء منهم؛ بمعنى بغض دينهم، وبغض المحاربين منهم، وعدم نصرتهم على المسلمين.
- وفرعه: الرد عليهم بما يناسب حالهم، من إقامة الحد على من كان منهم تحت المسلمين، أو عدّه محاربا.
إذ قبل التهوين والانتقاص يفضي إلى تسلل المسلمين إلى روابط أخرى، ولن تكون إلا روابط جاهلية.
إن تأمل هذا المعنى يفيد جدا في فهم: لم كان البراء من الكافرين أهم أمور الدين..؟.
* * *
لقد جاء استنكار المسلمين متأخرا، فحوادث إهانة المصحف لم تكن وليدة الأيام الأخيرة، بل منذ سنة وزيادة، حكى ذلك السجناء في: أبو غريب، وغوانتنامو، وأفغانستان. والذي حصل أن الخبر هذه المرة جاء في مجلة نيوزويك الأمريكية المرموقة، فكان هذا إقرار منهم بصدق الحادثة، فأهاج المسلمين، وما تحرك الخواص إلا بعد أن تحرك العوام، الذين خرجوا غاضبين لكتاب ربهم، فقتل منهم من قتل، حينذاك تحرك من كان يجب أن يتحرك أولا.!!. مما ينبؤك أن الداء الذي بالمسلمين ليس في العوام فحسب، بل الخواص كذلك، فإنه في مواقف كثيرة يكون للعوام مواقف نصرة وعزة للإسلام أكثر مما للخواص..!!.
العوام تأخذهم العاطفة بصدق الإيمان، بينما الخواص يحبسهم العقل بقيد الوهم والخطأ في الحسبان.. ومنه يعلم أن العاطفة ليست مذمومة في كل حال، كما أن العقلانية قد تكون سبب البلاء والخذلان.
بادرت المجلة إلى التراجع عن الخبر، وادعاء أنها أخطأت، وأن الخبر ليس بصحيح..!!.
هكذا قالوا: لكن الخبر توارد من مصادر عديدة، ورأينا ذلك عند اقتحام الجنود المساجد المطهرة في العراق.. وإننا هنا لنسجل موقفا للإسلام، كيف يتعامل مع مخالفيه؛ فإنه لم يعهد عن المسلمين أن أهانوا توراة اليهود ولا إنجيل النصارى.. وما سمعنا، ولا بلغنا أن المجاهدين: رموا بالكتاب المقدس في القمامة أو المراحيض.
فتحوا بلدانا كثيرة، فلم يتعرضوا لأديان أهلها بإساءة، ولا لمعابدهم بتخريب أو هدم، إنما تركوا لهم حرية أن يتعبدوا كيفما شاءوا، بشرط ألا يعلنوا بها في بلاد الإسلام.
هذا مع أن الإسلام يقرر بطلان كل تلك الأديان، بما فيها اليهودية والنصرانية، وأنها قد حرفت، وبدلت، يقر مع ذلك حسن رعاية أهلها، وكتابهم، ومعابدهم..
فانظر كيف نعاملهم، وكيف يعاملوننا، مع أن ديننا هو الحق، ودينهم هو الباطل ..!!.
ألا يقدم هذا دليلا على صحة الإسلام وبطلان اليهودية والنصرانية؛ إذ الإسلام لما كان من عند الله عصم أتباعه من الظلم، ولما كانت اليهودية والنصرانية محرفتين، عبث بها الأحبار والرهبان، ملئت بالهوى، فأطلقت أيدي أبنائها ظلما، وعتوا.. فكنا نحن وهم كما قال الشاعر:
ملكنا فكان العفو منا سجية *** فلما ملكتم سال بالدمّ أبطح
فحسبكم هJذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضح
فالمسلمون رحمة، وغيرهم عذاب ونقمة، قال تعالى: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(/2)
أهذا هو الحب؟!
مفكرة الإسلام: إلى كل محب لفتاة.. إلى كل عاشق لصبية.. إلى كل ذائب في هوى فاتنة.. إلى كل متيم في كلمات امرأة.. إلى كل هؤلاء.. أهذا هو الحب؟!
قد كنت أتصور - وصححوا لي التصور إن كنت مخطئًا - أن حالة الحب التي يعيشها المحبون من الفتيان والفتيات إنما تنشأ عنها حالة من الصفاء والسلام النفسي والاستمتاع بنظرة متفائلة للحياة وللمستقبل, ويتولد من التفاعل بها قوة دافعة من النشاط المستمر والعمل الدءوب والسعي في الأرض وعمارة الدنيا؛ للوصول إلى إتمام حالة الحب وتتويجها بالارتقاء إلى قمة الحب, ألا وهي تحقيق الزواج.
هذا على الأقل ما كنت أتصوره.. ولكن ويا للعجب, فالحب لغالب الفتيان ما هو إلا حالة من اللعب والهزل وفرصة لتضييع الوقت والتفاخر بعلامات الرجولة بأن هذه التي استعصت على الجميع صارت فتاته, بينما هو للقليل من الشباب حالة جادة من مقدمات اختيار الزوجة زوجة المستقبل, ولكن للأسف على غير مقياس دقيق أو ثوابت معروفة, اللهم إلا مجرد الإعجاب والحب والهيام المبني على الجمال جمال المظهر, أو على صفة واحدة لا يرى الشاب غيرها ويغفل الكثير من الصفات, فلا مقياس ثابت ولا تصور للمرأة والزوجة الصالحة للزواج ينبني على أصول واضحة صحيحة.
وعلى مستوى العلاقة الثنائية بين المحب وحبيبته فالحب ما هو إلا مستخلص مركز وخليط من كل من التفاعلات النفسية الشديدة التي تبدأ بموجات متعاقبة من النكد, والتشاؤم, وفقدان الأمل, وضيق النفس, وحالات الاكتئاب المستمر, وهذا لا ينفي وجود أوقات تنتشي فيها المشاعر بحالة من السرور المفاجئ والعنيف, ولكنها تمرّ كسحابة صيف ثم لا تلبث أن تنقشع, ومن بعدها تبدأ سلاسل النكد الوراثية في العمل عند المحبوبة أو الحبيب, وتتنوع مظاهره من أول الشك في كل كلمة ونظرة والتفاتة... إلى آخره, ولكن المحبين سيرون رأيًا آخر, إنهم يرون في هذا التوصيف لحالة الحب ظلمًا وتعديًا وتجاوزًا شديدًا.
أيها المحب أنت بالتأكيد – وأطالبك هنا بالإنصاف والعدل - لا تنكر معي أن النساء من أعجب خلق الله تعالى في سرعة التقلب من حالة نفسية إلى النقيض, وفي ذات الوقت مع سرعة التقلب هناك شدة في هذا التقلب والانقلاب, فهم - عدا القليل النادر - ينتقلون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في عواطفهن ومشاعرهن, فبينما هم في لحظة يغرقونك بالتصريحات التي تؤكد أنك سبب سعادتها ومصدر بهجتها, وأنها من دونك تهون قيمتها... إلى غير ذلك من كلمات الحب والهيام التي تتسبب لك في هذا الشعور بالنشوة والسرور, إذا بها والحال كذلك تتذكر لك موقفًا أو كلمة أو نظرة أو همسة أو حتى من غير أي شيء مما سبق, بل من باب التأكد من صدق مشاعرك فقط واستدرار المزيد من عطفك وحنانك ومحبتك, تنقلب المرأة الحنون إلى صورة عابسة غاضبة تكشر عن أنيابها وتطلق العنان لغضبها, وتقف أنت مذهولاً.. كيف يمكن حدوث هذا؟! كيف يحدث مثل هذا الانقلاب العكسي التام في لا شيء؟! في ثوان معدودة؟! وبينما أنت في خضم الدهشة والذهول تنطلق القذائف وتندفع الطلقات آمرة وناهية, غاضبة وساخطة, تخبرك بجريمتك العظمى التي اقترفت, والكارثة القاصمة التي نزلت بساحتك بناءً على ما اقترفت يداك. وتدخل أنت في محاولات مستميتة لإزالة أسباب الشقاء والنكد والاعتذار عما لا تعلمه مما ارتكبته, فكان سببًا في انفجار هذه الأزمة الدولية, وينفتح باب من الجدال والنقاش يجعل المستمع يشعر كأن الحوار يدور حول مسألة نزع أسلحة الدمار الشامل من دول الشرق الأوسط, وتغرق أنت عزيزي الشاب في أطراف هذا النقاش وتفاصيله حتى تنجح في محاولاتك للخروج من هذا المأزق الدولي والوضع المتفجر.
ولكن وأنت في طريقك للخروج, لا أريدك أن تظن أن هذا المشهد لن يتكرر, بل الطبيعي أنك بعد أن تكون قد بذلت أقصى الجهد في الخلوص من سحابة الغضب أن يتكرر هذا المشهد بعد أيام وليال على الأكثر.(/1)
المعنى المطلوب من خلال كلامنا ليس حالة التقلب لدى من تحب وكيفية التعامل معها, ولكن انعكاس هذه الحالة عليك أيها الشاب الذي ظننت أنك بتكوين علاقة مع فتاة بصورة غير شرعية لا ترضي رب العالمين جل وعلا, ولا أعني بذلك ارتكاب الكبائر بل علاقة حب صافية كما يقولون, لا تظن أنك بذلك تحصل على لذة عظيمة ونعيم دائم مستقر, كلا بل هذه السعادة المتوهمة لن تعدو لحظات ما تلبث أن تزول, لكن انعكاسات هذه العلاقة على طريقة التفكير ونوعية الاهتمامات بل وطرق حل المشكلات عند شباب الأمة ورجال الغد المرجو هي في حقيقتها انعكاسات في غاية الخطورة, إن الانشغال الشديد بتفاصيل الكلمات والنظرات, والاستمرار في جو المعاتبات التي لا تنتهي وتتجدد دائمًا, كل هذا يؤدي بلا شك إلى أن يتربى الشاب على طريقة الجدل العقيم في حل المشكلات, ثم يتعود من قبل ذلك على التعامل مع صغائر الأمور بتضخيم شديد, والنظر إلى السفاسف على أنها كليات مسائل لا بد من بحثها واستقصائها والرد عليها, والاستدلال على البراءة من الذنب فيها.
إن شباب الأمة عندما يتعامل مع الفتيات إنما يأخذ أحد منحيين, إما شباب رومانسي حالم, غارق في بحار الرومانسية الخيالية والعاطفة المتوقدة والمشاعر المتوهجة, باحث عن الحب العذري الطاهر, وآخر غارق في الشهوات والانحراف والملذات, يخطط لتحصيلها, ويبحث عن طرقها, ويبذل الجهد والمال للوصول إليها, ضاربًا بعرض الحائط كل القيم والمبادئ والأصول والعادات, وبين هذا وذاك تتدرج المستويات العقلية الناتجة عن حوارات الحب والهيام, من أول الإصابة بدرجة من الضعف في مستوى التفكير؛ نتيجة لتفاهة النقاشات وكثرتها وتركيزها حول معانٍ غاية في التفاهة, إلى النضج في الحوار المبني على مستوى عقلي رفيع, الناظرة إلى الأمام الباحثة عن مصلحتها لا عن حظ نفسها, وقد كانت عبارة أحد الشباب ممن دخل وأسرع بالخروج من قصة حب من تلك القصص أن الداخل إلى هذا العالم لا يمكنه الخروج من الدوامة التي تجره إليه, وهو بذلك يجيد تجسيد الواقع الذي يراه كل الناس وكل الشباب إلا الغارقون في بحار أوهام الحب والهيام.
إن الحب الحقيقي هو الحب المبني على الفهم العميق من كلا الطرفين لبعضهما, واستيعاب كل طرف لصفات الطرف الآخر حسنها وقبيحها, ثم تعامله مع هذه التركيبة المتداخلة من الصفات بالسلب والإيجاب, وهو في ذلك يطبق حديث النبي صلي الله عليه وسلم وهو يعلّم المتحابين أن يتعاملوا مع بعضهم بناءً على فهمهم لصفات كل منهم للآخر حيث قال: 'لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقًا رضي منها آخر', فلا يبغض مؤمن مؤمنة بناءً على موقف أو مشهد, بل ليضع أمام ما يغضبه موقفًا يفرحه ويسعده حتى تسير السفينة ولا يتوقف الركب, إن هذا النوع من الحب هو النوع الذي يدوم ويستمر ولا يزول بالأزمات العابرة أو المواقف المتأزمة, إن هذا النوع من الحب هو الذي يرتقي بفكر الإنسان وينمّيه ويرتفع فيه كل طرف عن تأصيل الأنانية في الحب, بل يتحقق فيه البذل والعطاء بلا مقابل, فحقيقة الحب العطاء, ولكنك ترى في عالمنا المعاصر المتطور فهما جديدًا للحب؛ إنه بحث كل طرف عن حقه قبل أدائه لواجبه, وواجب كل طرف أن يحصل على حقه بأن يثبت الطرف الآخر له أنه يحبه وهي دائرة بالطبع لا تنتهي.
إن الحب الذي تعيشه عزيزي الشاب ذاك المبني على كلمة حلوة أو منظر جميل أو نظرة لافتة أو حتى ملبس مميز, كل هذه المواقف التي ينشأ عنها انفعال ما يعتبره الشباب حبًا, ما هي في الحقيقة إلا تعميق لخصلة الأنانية, إنها علامة فارقة على أن الشخص إنما يحب ذاته, وأعظم ما يدل على ذلك أن معظم الخلافات التي تدور بين الطرفين اللذين يجمعهما ما يريانه حبًا سترى أنها لا تكاد تخرج عن كلمة قيلت فلم تغفر, أو نظرة لآخر تم التعامل معها بالشك والارتياب, أو ليّ للعنق ولوم على سوء معاملة ليس مبعثه سوءًا حقيقيًا في المعاملة, كلا.. بل مبعثه ليس إلا استدرار المزيد من العطف والاهتمام, أهذا هو الحب؟! كلا.. لا أظن ذلك, إن كان هذا هو الحب فبعدًا لحب لا يجلب إلا الهم والمشاكل والصداع, الحب أنس تأنس به النفوس, وواحة يفيء إليها المرهقون من عناء الدنيا وهمها, الحب راحة نفسية وسكون داخلي وتآلف مع النفس والكون, الحب لذة تملأ قلوب المحبين, لا عبوس يغطي وجوههم, ولا نكد يظلل حياتهم, ولا توجس من سوء المعاملة وانقلاب الطباع ما بين عشية وضحاها, فكن صاحب العقل الحكيم, ولا يغرنك ما تسوله لك نفسك من جميل الصفات وعظيم المزايا, فإن نكد الحياة كفيل بقلب الحياة إلى جحيم ولو في عقر الجنان, فأنجاك الله من كل ما يغضبه ويجلب الضنك إلى حياتك ورزقك, ورزقنا بالحب الصافي الخالص المبني على رضوان الله, فهو والله جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.(/2)
إن الله تعالى يقول في محكم التنزيل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}, ومن أعظم صور المعيشة الضنك, وأشدها أثرًا على صحة العبد وانشغال باله: سوء المعيشة في النزل والسكن, ودوام التنغيص في أدق أمور الحياة, فقد جعل الله تعالى المرأة لباسًا للرجل وسكنًا لروحه وقلبه ونفسه, وأنى لها أن تكون كذلك ما لم تكن منقادة لأمر الله تعالى مؤتمرة بشرعه, سعيدة باتباع هداه, مستمتعة بأداء وظيفتها التي خلقها الله تعالى من أجلها, فهنيئًا لصاحب الحياة الطيبة ومتذوق الحب الحقيقي, فلمثل هذا الصابر حتى ينال الحلال أعد الله تعالى جنة الدنيا وهي المرأة الصالحة, وأناله الله سعادة وسكينة النفس وطمأنينتها, وضمن له الشعور باللذة الرفيعة للحب الصادق الذي يقوم على العطاء لا الأخذ, والتضحية لا الأنانية, والإيثار لا الأثرة.
حفظك الله من كل سوء وشر, ورزقك خير الدنيا بحذافيره, وحفظك من شرها, وجمعني الله بك وبمن نحب في الدنيا على طاعته, وفي الآخرة تحت ظل عرشه اللهم آمين.(/3)
أهكذا نقف من إهانات أعدائنا لرسولنا؟!
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
احتلوا بلداننا، دنسوا مقدساتنا، حاولوا تشكيكنا في قرآننا وألفوا قرآنا جديدا، ليقولوا لنا: أنتم تقولون: إن القرآن معجز لا يأتي أحد بمثله فهانحن أتينا بقرآن غيره وفيه سور وليست سورة واحدة، غمزوا نبينا ولمزوه بأوصاف سيئة كثيرة، حتى قال اليهود: محمد مات وخلف بنات، لم يبقوا شيئا مقدسا عندنا إلا نالوا منه.
فعلوا كل ذلك وغيره ووجدونا نصيح يوما أو يومين، ثم نهدأ ونسكت فعرفوا بأن إيماننا إنما هو مجرد عواطف لا يثير فينا غيرة تجعلنا ندافع عن ضرورات حياتنا بموقف جاد يجبرهم على الكف عن إهاناتنا وإذلالنا والسخرية بما يجب أن يكون أحب إلينا من أنفسنا.
بل وجدونا بعد الحماس العاطفي نعانقهم ونصافحهم ونظهر لهم ما يطمئنهم على محبتنا لهم والتقرب إليهم، ولا نكترث بإساءاتهم المتكررة.
ونحن نملك من الوسائل السلمية ما لو اتخذنا بعضا منها بصفة جادة مستمرة حتى نخضعهم بها لأرسلوا قادتهم إلينا يعتذرون لنا ويكفوا عن إساءاتهم لإلهنا ونبينا وقرآننا ورسولنا:
من ذلك الاحتجاجات المتواصلة في أجهزة إعلامنا، وسحب سفرائنا و مقاطعتنا الاقتصادية لما يصدرونه إلى بلداننا، وفي أي بلد نوجد فيه، ولكن لا يليق بنا أن نرفع شعارات لا حقيقة لها في الواقع، ولا أن نعمل بشعاراتنا يومين أو ثلاثة، ثم ننام قبل أن نسمع من الدول التي تمت الإساءات لنبينا صلى الله عليه وسلم فيها اعتذارا صريحا لا لف فيه ولا دوران.
وإن أقل ما نستطيع تهديدهم به هو المقاطعة لاقتصادهم ولكل ما نتبادله معه من مصالح تعود علينا أو عليهم.
وإنني أذكر أتباع رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بأمور:
الأمر الأول: أن الطعن فيه صلى الله عليه وسلم، هو طعن في ذات الله تعالى الذي اختاره واصطفاه، فبعثه إلى كافة الناس في جميع الأمكنة والأزمنة، إلى يوم قيام الساعة، ولا يقبل الله بعد بعثته صلى الله عليه وسلم دينا غير دين الإسلام.
وطعن كذلك في دين الإسلام الذي أكمله الله لنا قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، وهو طعن في كتاب الله القرآن الكريم الذي لولا حفظ الله له ليكون مرجعنا في مسيرة حياة أجيالنا إلى أن تقوم الساعة، فإذا لم نقف الموقف الذي ندافع به عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد فرطنا في كل ما سبق.
الأمر الثاني: أن ندرك ما لاقاه صلى الله عليه وسلم من العنت والمشقة في سلمه وحربه، لينقل لنا هذا الدين، ليسعدنا برضا الله عنا، وينقذنا من سخطه وعذابه.
الأمر الثالث: أن نذكر ما أوجبه الله له من النصر والتوقير والأدب معه صلى الله عليه وسلم، ولهذا قرن الله تعالى حق هذا النبي الكريم، بحقه في كتابه وفي شعائر عبادته، فقال تعالى:
((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)) [الفتح] فقد ذكر بعض المفسرين أن ضميري الغائبين المفردين في قوله تعالى: (وتعزروه وتوقروه) فقد قرن الله بين الإيمان به الإيمان برسوله، خص رسوله على هذا التفسير بالتعزير – وهو النصر – والتوقير، ثم خص نفسه بالتسبيح.
واعتبر الله بيعة المسلمين لرسوله بيعة له تعالى في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)
وأوجب الله تعالى الأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم في خفض الأصوات عنده كما يحصل من بعضهم عند بعض، وحرم رفعه وجعل ذلك محبطا أعمال من فعله، وأنكر على الأعراب مناداته من خارج حجراته، كما قال تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الحجرات
قال القرطبي في تفسير هذه الآيات – بعد أن ذكر أمثلة في الحديث في سبب نزول الآية -:
"قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به.(/1)
وقد نبه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا" [الأعراف: 204]. وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوحي، وله من الحكمة مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه.
ليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون. وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جَرْسِه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير."
وقال تعالى في امتنانه عليه بإكرامه له: ((وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)) [الشرح (4)]
ولهذا شرع ذكره صلى الله عليه وسلم مع ربه في الأذان وفي التشهد، وفي الدعاء للموتى.
الأمر الرابع: نفى الرسول صلى الله عليه وسلم نفيا مؤكدا بالقسم بربه، الإيمان الشرعي الصادق عمن لم أحب عنده من أقرب المقربين إليه من أهله، كالوالد والولد، فضلا عن غير أقاربه من الناس.
روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فوالذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده) وفي رواية أنس: (والناس أجمعين). والحديث في صحيح مسلم.
بل ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)
فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر)
ففي هذا الحديث: وجوب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى المؤمن من نفسه.
وهنا يجب على المسلمين أفرادا وجماعات وأحزابا، ودولا، أن يسألوا أنفسهم: هل معاملة من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهان به وسخرمنه، في العلاقات السياسية والاجتماعية والدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية، ومع إصراره على موقفه ممن هو أحب إلى أنفسنا، هل هم مؤمنون إيمانا صادقا.
ونسأل من لا يقاطع اقتصاد الدول التي حصلت إهانة رسولنا صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به، أي الأمرين أحب إليك يا مسلم رسولك أم جوال؟ بل أيهما أحب إليك نبيك أم قطعة قماش تستريها؟
إن المسلم لا يليق به أن يتعامل مع من استهان برسوله صلى الله عليه وسلم في بيع أو شراء، وبخاصة إذا كانت السلع التي يحتاجها موجودة في السوق من دول أخرى، إن المسلم ولو كان غير ملتزم بدبنه كما ينبغي ولو كان يتعاطى شرب الخمر المحرم عليه، والذي يجب عليه الإقلاع عنه فورا، فإذا أصر على ارتكاب هذا المحرم، فلا يليق به أن يشتريه ممن أهان رسوله صلى الله عليه وسلم، أسواق غير تلك الدول مندوحة.
وإن من الأسئلة التي يجب أن نوجهها لمن يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان فردا أو جماعة أو دولة:
ما ذا ستفعل لو وجهت الإهانات إلى والدك أو ولدك أو علم بلادك أو دولتك ونظامها؟
وهل ولدك ووالدك وعلم بلادك ونظامها ونفسك أحب إليك من نبيك، فتنتصر لها ولا تنتصر لرسول الله حبيبه؟
نحن لا نطلب من كل تلك الفئات أن تقاتل الدول التي حصل فيها الاستهزاء برسولنا، ولا بخطف رعاياهم وقتلهم في بلداننا، وإنما نطلب فقط أن نغيظهم بما يؤثر فيهم وهو العلاقات بأنواعها، لا بالكلام فقط؟
إن كلامنا عندهم لا يساوي صفرا على اليسار، ما داموا يحصلون على مصالحهم المادية منا.
يا مسلمون! كل عدوان على ديننا واستهزاء بربنا أو قرآننا أو رسولنا صلى الله عليه وسلم، يمر بدون وقفة صادقة في الدفاع عن ذلك سيجرئ أعداءنا علينا، فاختاروا لأنفسكم إرضاء أعداء نبيكم، أو إرضاء ربكم، وأنتم إليه راجعون، فينبئكم بما عملتم.(/2)
أهل الجنة أكثر أم أهل النار
السؤال :
هل أهل الجنة أكثر أم أهل النار ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
دلّت أدلّة كثيرة على أن أهل النار أكثر من أهل الجنّة ، و منها ما رواه الشيخان عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْريِّ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا آَدَمُ ، فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَ سَعْدَيْكَ وَ الْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ ، قَالَ : وَ مَا بَعْثُ النَّارِ ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَ تِسْعَةً وَ تِسْعِينَ ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ ، وَ تَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ، وَ تَرَى النَّاسَ سُكَارَى ، وَ مَا هُمْ بِسُكَارَى ، وَ لَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ قَالَ : « أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلٌ ، وَ مِنْ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ أَلْفٌ » . ثُمَّ قَالَ : « وَ الَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ » ، فَكَبَّرْنَا . فَقَالَ : « أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ » ، فَكَبَّرْنَا . فَقَالَ : « أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ » ، فَكَبَّرْنَا ، فَقَالَ « مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلاَّ كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ في جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ » .(/1)
أهل الدثور
أيها المسلمون : إن جماعة من الفقراء ، لا يملكون من حطام الدنيا شيئا ، رأوا جماعة من الأغنياء ، لهم أملاك عظيمة ، وأموال طائلة ، فحسدت هذه الجماعة الفقيرة ، تلك الجماعة الغنية ، بيد أن في أمر تلك الجماعة الفقيرة عجبا ، إذ إنهم لم يحسدوا الأغنياء على كثرة أموالهم أو لأن الأغنياء يملكون العمارات ، والعقارات ، والاستراحات ، ويركبون أفخر السيارات ، ويلبسون أجمل الملبوسات ، ويتنعمون بأنواع المأكولات والمشروبات .
لم يحسدوا الأغنياء لأنهم كانوا يصيفون في أرقى المنتجعات ، ويسافرون إلى الخارج في الإجازات ، ويركبون الدرجة الأولى في الطائرات .
إن الفقراء حسدوا الأغنياء ، بل واشتكوهم إلى ولي الأمر ، وجاءوا بالدليل القاطع على أن الأغنياء لم ينصفوا ، بل استغلوا أموالهم ليفوزوا على الفقراء ، أفضل استغلال .
فلنستمع إلى شكاية الفقراء إلى ولي الأمر من الأغنياء ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم . قال : كيف ذاك ؟ قالوا : صلوا كما صلينا ، وجاهدوا كما جاهدنا ، وأنفقوا من فضول أموالهم ، وليست لنا أموال . قال : أفلا أخبركم بأمر تدركون من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله ؟ تسبحون في دبر كل صلاة عشرا وتحمدون عشرا ، وتكبرون عشرا .
وفي رواية أخرى : وكلتا الروايتين في البخاري : قالوا : يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ، ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ، ويجاهدون ويتصدقون ، قال : ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ، ولم يدرككم أحد بعدكم ، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه ، إلا من عمل مثله ؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون ، خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، فاختلفنا بيننا فقال بعضنا : نسبح ثلاثا وثلاثين ، ونحمد ثلاثا وثلاثين ، ونكبر أربعا وثلاثين ، فرجعت إليه فقال : تقول سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، حتى يكون منهن كلهن ثلاثا وثلاثين .
ولكن أتظنون الأغنياء يسمعون بهذا الفضل فيزهدون فيه ، ويتركونه ؟ لا ، بل هم سمعوا ذلك فسابقوا الفقراء إليه ، وعملوا بمثله ، فذهب الفقراء يشكون مرة أخرى ، من هذه المزاحمة من الأغنياء ، فقال بأبي هو وأمي : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
معاشر المسلمين : هذه هي المنافسة الحقة ، والمسابقة النافعة ، وهذا هو الفرق بين فقرائنا وفقرائهم ، وأغنيائنا وأغنيائهم ، ففقراؤنا متذمرون ، ساخطون يريدون التوسع في أمور دنياهم ، وفي غالب أمورهم ما لا يحتاجونها ، ولا يستعملونها ، ولكن مظاهر وكماليات ، وتشبه بالشكليات ، حتى إن بعضا من الفقراء ركبتهم الديون ، لا لحاجتهم للأكل والشراب ، أو ليستروا عوراتهم بما تيسر من الثياب ، ولكن ليشتروا من أمور الدنيا ما يضاهون به من فوقهم من الأغنياء ، فهم لا ينظرون إلى الأغنياء إلا من جهة حسدهم على ما يملكون ، وما يلبسون ويركبون ، وعلى أرصدتهم الكبيرة ، وغير ذلك مما من الله به عليهم ، فيزاحمون الأغنياء في البذل والسرف ، بطاقات متنوعة ، وسيارات فارهة ، وكلها أقساط وديون ، ومزع لحم الوجه من التعرض للمسألة ، أو الزج في السجون .
وأما بعض أغنيائنا ، فانظر إلى إنفاقهم على اللاعبين ، والمتسابقين ، لا في الرماية والخيل ، ولكن في تفاهات ما أنزل الله بها من سلطان ، يتبارون في الفسق عليه ينفقون ، وللمجون له ينشرون ، فكل فضاء للفساد ينشر ، فأغنياؤنا هم المالكون .
قارن يا عبدالله بين موقف عثمان رضي الله عنه وهو يجهز جيش العسرة ، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم وبين من يجهز ويتبنى برامج الخلاعة والعري ، متناسيا : ما أغنى عني ماليه .
وقارن يا عبدالله بين موقف ذلك الفقير
يريد الجهاد ولا يملك شيئا يتجهز به ، فيأتي إلى الحبيب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يحمله ، ويسطر ذلك الموقف كتاب الله تعالى آيات تنير قلوب المؤمنين : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ، ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون . نعم يبكون ، لأنهم لا يجدون ما ينفقون ، والنفقة التي بكوا لفقدها نفقة لله ، وفي سبيل الله ، ولنصرة دين الله ، ولإعلاء كلمة الله .
يتمنون المال ، ليسهموا فيه في وجوه الخير ، صدقة على الفقراء ، وكفالة للأيتام ، وعمارة للمساجد ، ونصرة للمظلوم .
فأين أنت أيها المحروم ، يمن عليك بالمال الوفير ، فلا حظ فيه إلا للفاسق والحقير ، ويحرم منه المسكين والفقير .(/1)