وراحة القلب في قلة الاهتمام .. وراحة اللسان في قلة الكلام
ومضة : يدرك الصبور أحسن الأمور
الجوهرة الثامنة : قد يرد الله الغائب
يا رب أول شيء قاله خلدي أني ذكرتك في سري وإعلاني
بعد فراق دام أكثر من عشرين عاما ، كتب الله أن يجمع – في قصة غريبة من نوعها – بين أم وابنتها البالغة من العمر 25 عاما ، بعد أن باعدت بينهما ظروف الحياة ، وذلك أثناء قضاء الابنة لشهر العسل في متنزهات جبال السودة بأبها.
وكانت الأم قد تزوجت بعد أن انفصل عنها زوجها الأول وعمر ابنتها ثلاث سنوات وحالت ظروف زوجها وتنقله المستمر من بلد إلى آخر من رؤية ابنتها التي تركتها في رعاية والدها .
وفي يوم من أيام الصيف الجميلة في جبال السودة بأبها ، التقت الابنة بإحدى السيدات في المتنزه ، وأخذتا تتجاذبان أطراف الحديث ، وكلتاهما لا تعرف الأخرى ، فقد تركت الأم ابنتها وهي في الثالثة من عمرها . وبينما هما يتجاذبان أطراف الحديث ، رأت الأم إحدى أصابع ابنتها مبتورة ، وسألتها عن أمها ، فحكت لها قصتها ، وإذا بالأم تجد نفسها وجها لوجه لجانب ابنتها التي افتقدتها منذ عشرين عاما ، فأخذتها في أحضانها ، وأخذت تلثم وجهها وتضمها بكل حنان وحب ، وتبث إليها شوقها وحرمانها منها طوال الأعوام الطويلة .
إشراقة : إن التفكير في السعادة يؤدي بالضرورة إلى التفكير فيما كان من قبل . وفيما سيكون من بعد .. وهذا في حد ذاته يفسد الشهور بالسعادة
ومضة : كأنهن الياقوت والمرجان
الجوهرة التاسعة : كلمة تملأ الزمان والمكان
يا من إليه المشتكى والمفزع أنت المعد لكل ما يتوقع
قال موسى – عليه السلام - : ((يا رب علمني دعاء أدعوك به وأناجيك )) ، قال ( يا موسى قل : لا إله إلا الله ، قال موسى : كل الناس يقولون لا إله إلا الله ، قال : يا موسى لو أن السماوات السبع والارضين في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله ).
لا إله إلا الله .. لها انوار ساطعة ، وأشعة كاشفة ، وهي تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه ، فلها نور ، وتفاوت أهلها في ذلك النور – قوة وضعفا – لا يحصيه إلا الله تعالى .
فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس ، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري ، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم ، وخر كالسراج المضيء ، وآخر كالسراج الضعيف.
وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد ، احرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته
إشراقة : سعادة المؤمن بحب الله ، والحب في الله سعادة أعماقها أبعد من كل عمق ، يعرف مذاقها المؤمنون الصادقون ، ولا يقبلون لها بديلا .
ومضة : المرأة أغلى من الكنوز واثمن من الثروة
الجوهرة العاشرة : قلوب اشتاقت إلى الجنة
اسعدي بالحياة قبل الممات واقطفي الزهر قبل ريح الشتات
هل سمعت بقصة امرأة صالح بن حيي ، أنها امرأة مات عنها زوجها وترك لها ولدين ، فلما شبا إذا بها تعلمهم أول ما تعلمهم العبادة والطاعة وقيام الليل .
لقد قالت لولديها : ينبغي إلا تمر لحظة واحدة من الليل في بيتنا إلا وفيه قائم ذاكر لله U ، فقالا : وماذا تريدين يا أماه ؟ قالت : نقسم الليل بيننا ثلاثة أجزاء ، يقوم أحدكما الثلث الأول ، ثم يقوم الآخر الثلث الثاني ، و أقوم أنا الثلث الأخير ، ثم أوقظكما لصلاة الفجر .
فقالا : سمعا وطاعة يا أماه ، فلما ماتت الأم لم يترك الولدان قيام الليل ، لأن حب الطاعة والعبادة قد ملأ قلبيهما ، وصارت أحلى لحظات حياتهما هي اللحظات التي يقومان فيها من الليل ، فقسما الليل بينهما نصفين ، ولما مرض أحدهما مرضا شديدا ، قام الآخر الليل كله وحده .
إشراقة : الحياة من حولنا بوجهها الجميل النبيل هي دعوة حقيقية للسعادة .
ومضة : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها
الخاتم الأول : الإيمان بالقدر خيره وشره
كنز القناعة لا يخشى عليه ولا يحتاج فيه إلى الحراس والدول
قال تعالى : )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)
)لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد:23)
وقال تعالى : ) وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(البقرة: من الآية216).
الإيمان بالقضاء والقدر له دور كبير في طمأنينة القلب عند المصائب ، خاصة إذا أدرك العبد تماما أن الله تعالى لطيف بعباده يريد بهم اليسر ، وأنه حكيم خبير يدخر لهم في الآخرة فيعطي الصابرين أجرهم وافيا بغير حساب ، فهذا عند التأمل والعمل به قد يقلب حزن المصيبة وكمدها إلى سرور وسعادة ، ولكن ليس كل أحد يقوى على ذلك.(/22)
فما الخطوات التي تتبعينها لتخفيف لانكبات والمصائب وهوينها على النفس ؟
تصوري كون المصيبة اكبر مما كانت عليه وأسوأ عاقبة .
تأملي حال من مصيبته اعظم وأشد .
انظري إلى ما أنت فيه من نعم وخير حرم منه كثيرون.
لا تستسلمي للإحباط الذي قد يصحب المصيبة :
)فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:5) (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:6)
إشراقة : من أسرع رسل السعادة إلى نفوس الآخرين : الابتسامة الصادقة النابعة من القلب
ومضة : ليس لها من دون الله كاشفة
الخاتم الثاني : خير الأمور أوسطها
ولكل حال معقب ولربما أجلى لك المكروه عما يحمد
قال مصطف محمود : أنا اشعر بالسعادة لأني رجل متوسط .. إيرادي متوسط ، وصحتي متوسطة .. وعيشتي متوسطة .. وعندي القليل من كل شيء .. وهذا معناه أن عندي الكثير من الدوافع .. والدوافع هي الحياة .. الدوافع في قلوبنا هي حرارة حياتنا الحقيقية ،وهي الرصيد الذي يكون به تقييم سعادتنا ..
إني أدعو الله لقارئ هذه السطور أن يمنحه الله حياة متوسطة .. ويعطيه القليل من كل شيء .. وهي دعوة طيبة والله العظيم !.
وامي لم تكن تفهم الفلسفة ، ولكنها كانت تملك فطرة نقية تفهم معها كل هذا الكلام دون أن تقرأه ، وكانت تطلق عليه اسما بسيطا معبرا هو : الستر . والستر : القليل من كل شيء والكثير من الروح .
إشراقة : البسمة الكاذبة صورة سافرة من صور النفاق
ومضة : وجعلت قرة عيني في الصلاة
الخاتم الثالث المشؤوم يجلب الهموم
رب أمر سر آخره بعدما ساءت أوائله
الصاحب يؤثر على مزاج صاحبه وعلى أخلاقه ، فإذا كان الصاحب – من صديق أو شريك حياة أو جليس أو ميل- هادئ الأعصاب ، طليق الوجه ،مرح النفس ، متفائلا بالحياة ، فإنه ينقل هذه الصفات الطيبة إلى صاحبه .
وإن كان مقطب الوجه ، مكفهر القسمات ، برما بالحياة ،دائم القلق ، دائب التشاؤم ، فإنه ينشر جرائم القلق الأسود حول صاحبه ويعديه بها .
ولا تقتصر الصحبة على البشر ، هناك الكتب والبرامج التلفزيونية والإذاعية ، فإن فيها متفائلا ومتشائما ، وفيها ما هو قلق وما هو مطمئن ،والكتب بالذات كالفصول فيها ربيع وخريف ، فإذا وفق الإنسان لاختيار الكتب المتفائلة المبتهجة بالحياة الحاضة على الكفاح والنجاح والثقة ، فإنه يكون أسدى لنفسه معروفا وفتح على حياته نوافذ مشرقة تهب منها نسائم النعيم والبهجة ، وإن اختار تلك الكتب القلقة ، المشككة في القيم والبشر ، المتشائمة من الحياة والناس ، فإنها قد تعديه كما يعدي الأجرب السليم ، وقد تنغص عليه حياته .
إشراقة : إن طريق السعادة أمامك .. فاطلبيها في العلم .. والعمل الصالح. والأخلاق الفاضلة .. وكوني في كل أمرك وسطا تكوني سعيدة.
ومضة : فانزل السكينة عليهم
الخاتم الرابع : إياك والضجر والسخط
ومن يتهيب صعود الجبال يعش ابد الدهر بين الحفر
يقول أحدهم :
حين كنت في العشرين والثلاثين كنت أعدو واسخط وأتذمر رغم إنني استمتع ؛ لأنني كنت اجهل سعادتي ، اجهل إنني أعيش السعادة فعلا .. والآن وأنا اجتاز التين اعلم علم اليقين كم كنت سعيدا جدا وأنا في العشرين أو الثلاثين ، ولكنه علم جاء بعد فوات الأوان ،مجرد ذكريات ،وذكريات حسرى ، لو أدركت ذلك وقتها لعشت غبطة كبرى ، لما وجدت للتذمر والسخط مكانا في ربيع شبابي الزاهر ، ولما حجب وردة سعادتي المتفتحة فلا أراها إلا الآن وأنا ذابل وهي ذابلة ،ولك يا قارئي العزيز أقول : إما أن تعيش سعادتك بغبطة وإحساس ، وتمتع ناظريك وشمك وجميع حواسك بورودها المتفتحة أمامك ، أو تتناساها وتنظر ناحية أخرى نحو ما ينقصك ، وتصبح فريسة للضجر والسخط ، وعندها انتظر حتى يصبح هذا الحاضر ماضيا وسوف تبكيه بدمع العين ، وسوف ترى م كنت سعيدا فيه ، ولكنك وقتها لم تكن تعرف ولم تكن تر ولم يبق بين يديك إلا فجيعة بقاياها ذابلة !.
إشراقة : المرأة يمكن أن تحول البيت إلى جنة، كما يمكن أن تحوله إلى جحيم لا يطاق !
ومضة : رضي الله عنهم ورضوا عنه
الخاتم الخامس : أكثر المشكلات سببها توافه!
ألم تر أني كلما زرت دارها وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
إنه من المؤسف أن كثيرا من التوافه تعصف برشد الألوف المؤلفة من الناس ، وتقوض بيوتهم ،وتهدم صداقاتهم ، وتذرهم في هذه الدنيا حيارى محسورين . ويشرح ( ديل ارنيجي ) عواق الاندفاع مع وحي هذه التوافه ، فيقول : _ إن الصغائر في الحياة الزوجية يسعها أن تسب عقول الأزواج والزوجات ، وتسبب نصف أوجاع القلب التي يعانيها العالم ).
أو ذاك على الأقل ما يؤكده الخبراء ، فقد صرح القاضي ( جوزيف ساباث ) من قضاة شيكاغو بعد أن فصل في أكثر من أربعين ألف حالة طلاق بقوله : إنك لتجدن التوافه دائما وراء كل شقاء يصيب الزواج.
وقال ( فرانك هوجان ) الناب العام في نيويورك : إن نصف القضايا التي تعرض على محاكم الجنايات تقوم على أسباب تافهة ، كجدال ينشأ بين أفراد أسرة ، أو من إهانة عابرة ، أو كلمة جارحة ، أو إشارة نابية .(/23)
هذه الصغائر اليسيرة هي التي تؤدي إلى القتل والجريمة .
إن الاقلين منا قساة بطبائعهم ، بيد أن توالي الضربات الموجهة إلى ذواتنا وكبريائنا وكرامتنا هو الذي يسبب نصف ما يعانيه العالم من مشكلات.
إشراقة : إن اكبر نعمة تجب رعايتها هي الخير عندما تمتلئ به النفس وتسعد به الحال
ومضة : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم
الخاتم السادس : فن حفظ اللسان
إن ألمت ملمة بي فإني في الملمات صخرة صماء
يروي المؤرخون أن خالد بن يزيد بن معاوية وقع يوما في عبد لله ابن الزبير عدو بني أمية اللدود ، وأقبل يصفه بالبخل ، وكانت زوجته رملة بنت الزبير أخت عبد الله جالسة ، فأطرقت ولم تتكلم بكلمة ، فقال لها خالد : مالك لا تتكلمين ؟ ! ، أرضى بما قلته ، أم تنزها عن جوابي ؟! فقالت : لا هذا ولا ذاك ! ، ولكن المرأة لم تخلق للدخول بين الرجال ، إنما نحن رياحين للشم والضم ، فما لنا وللدخول بينكم ؟ فأعجبه قولها وقبلها بين عينيها .
وقد نه الرسول r نهيا جازما عن نشر أسرار العلاقة ما بين الزوجين روى احمد بن حنبل عن أسماء بنت يزيد: : أنها كانت عند الرسول صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود ، فقال : ( لعل رجلا يقول ما يفعل بأهله ، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها، فأرم القوم – صمتوا ولم يجيبوا - ، فقلت : إي والله يا رسول الله ، إنهن ليفعلن أو انهم ليفعلون ، فقال :(( لا تفعلوا : إنما ذلك الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون ).
وقد فسر بعض المفسرين قوله تعال : ) فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ )(النساء: من الآية34) عل أن المقصود بالحافظات : هن اللاتي يحفظن ما يجري بينهن وبين ازواجهن مما يجب كتمه ويتحتم ستره من أسرار اللقاء الجنسي.
إشراقة : أحصى نعم الله عليك بدلا من أن تحصي متاعبك
ومضة : الحياة قصيرة فلا تقصريها بالهم
الخاتم السابع : حاربي القلق بالصلاة
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي أن عفوك اعظما
عرفت المسلمات الأوائل أن الصلاة صلة بين العبد وربه ، وانه افلح فيها الخاشعون : )قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون:1) )الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:2) ؛ فكن يقمن الليالي متبتلات خاشعات ،وعرفن أن من افضل الزاد إلى الآخرة ، وما يعين على إيصال الدعوة إلى الناس هو الصلاة ، التي تهب صاحبها قوة وعزيمة على مقابلة الصعاب وتخطي الشدائد ، وان قيام الليل من افضل القربات إلى الله سبحانه وتعالى ؛ حيث يقول – جل وعلا – مخاطبا الداعية الأول صلى الله عليه وسلم )وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) (الاسراء:79) ، ويمدح من قام الليل )كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذريات:17) .
وقد روى انس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد ، فإذا حبل مشدود بين سارتين من سواري المسجد فقال : (ما هذا الحبل ) قالوا : هذا حبل لزينب إذا فترت تعلقت به ، قال النبي r : (( حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا فتر فليقعد ) ، إذا فلقد كانت النساء المؤمنات يشددن على أنفسهن ابتغاء مرضاة الله تعالى ، وقد أمرهن النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكلفن أنفسهن طاقتهن ، فخير العبادة ما دام وإن قل ، ونحن نعلم أن نساء العصر ملأن أوقاتهن ليلا ونهارا بأمور الدنيا ، فلا أقل أن يركعن ركعتين في جوف الليل يغالبن فيها الشيطان ، فخير الأمور أوسطها ، و (( هلك المتنطعون)) ؛ قالها الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثا .
إشراقة : ثقي بالله إذا كنت صادقة ، وافرحي بالغد إذا كنت تائبة
ومضة : الصبر مفتاح الفرج
الخاتم الثامن : نصائح امرأة ناجحة
يا رب حمد ليس غيرك يحمد يا من له كل الخلائق تصمد
نصحت أم معاصرة ابنتها بالنصيحة التالية وقد مزجتها بابتسامتها ودموعها فقالت : يا بنيتي .. أنت مقبلة على حياة جديدة .. حياة لا مكان فيها لأمك وأبيك ،أو لأحد من اخوتك .. فيها ستصبحين صاحبة لزوجك لا يريد أن يشاركه فيك أحد حتى لو كان من لحمك ودمك .
كوني له زوجة وكوني له أما ، اجعليه يشعر انك كل شيء في حياته وكل شيء في دنياه ، اذكري دائما أن الرجل – أي رجل – طفل كبير اقل كلمة حلوة تسعده ، لا تجليه يشعر انه بزواجه منك قد حرمك من أهل وأسرتك ، إن هذا الشعور نفسه قد شابه هو ، فهو أيضاً قد ترك بيت والديه وترك أسرته من أجلك ، ولكن الفرق بينه وبينك هو الفرق بين الرجل والمرأة ، المرأة تحن دائما إلى أسرتها والى بيتها الذي ولدت فيه ونشأت وكبرت وتعلمت ،ولكن لابد لها أن تعود نفسها على هذه الحياة الجديدة ، لابد لها أن تكيف حياتها مع الرجل الذي اصبح لها زوجا وراعيا وأبا لأطفالها .. هذه دنياك الجديدة.(/24)
يا ابنتي ،هذا هو حاضرك ومستقبلك !، هذه هي أسرتك إلى شاركتما أنت وزوجك في صنعها ، إنني لا اطلب منك أن تنسي أباك وأمك واخوتك ، لأنهم لن ينسوك أبدا يا حبيبتي ،وكيف تنسى الأم فلذة كبدها؟! ولكنني اطلب منك أن تحبي زوجك وتعيشي له وتسعدي بحياتك معه .
إشراقة : خذي من آسية الصبر ، ومن خديجة الوفاء ، ومن عائشة الصدق ، ومن فاطمة الثبات
ومضة : لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان
الخاتم التاسع : من لم يأنس بالله فلن يأنس بشيء آخر
هي الأيام والغير و أمر الله ينتظر
الله U انس المؤمن ، وسلوة الطائع ، وحبيب العاد ، من انس به انس بالحياة ، وسعد بالوجود ، وتلذذ بالأيام، فقلبه مطمئن ، وفؤاده مستنير ، وصدره منشرح ، نقشت محبة الله في قلبه ، وسكنت صفات الله في ضميره ،ومثلت أسماء الله أمام عينيه ، فهو يحفظ أسماءه ، ويتأمل صفاته ، ويستحضر في قلبه الرحمن ، الرحيم ، الحميد ، الحليم ، البر ، اللطيف ، المحسن ، الودود ، الكريم ، العظيم ... ، فتثير أنسا بالباري ، وحبا للعظيم ، وقربا من العليم .
إن الشعور بقرب الله من عبده يوجب الأنس به ، والسرور بعنايته ، والفرح برعايته : )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان)(البقرة: من الآية186) .
إن الأنس بالله لا يأتي بلا سبب ، ولا يحصل بلا تعب ، بل هو ثمرة للطاعة ، ونتيجة للمحبة ، فمن أطاع الله وامتثل أمره واجتنب نهيه وصدق في محبته ، وجد للأنس طعما ، وللقرب لذة ، وللمناجاة سعادة .
إشراقة : الجمال جمال الأخلاق ، والحسن حسن الأدب ، والبهاء بهاء العقل.
ومضة : استوصوا بالنساء خيرا
الخاتم العاشر : ذات النطاقين تعيش حياتين
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا
ضربت أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين مثلا حيا ونموذجا طيبا في الصبر على شظف العيش والحرمان الشديد ، والحرص على طاعة الزوج ، والتحري في مرضاته؛ فقد جاء في الحديث الصحيح قولها : ( تزوجني الزبير وما له شيء غير فرسه فكنت أسوسه واعلفه ، وأدق لناضحه النوى ، واستقي ، واعجن ، وكنت انقل النوى من ارض الزبير التي اقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر ، فدعاني الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( أخ . أخ ، ليحملني خلفه ، فاستحيت وذكرت الزبير وغيرته ، قالت : فمضى ، فلما أتيت ، اخبرت الزبير فقال : والله لحملك النوى كان اشد على من ركوبك معه! ، قالت : حتى أرسل إلى أبو بكر بعد بخادم ، فكفتني سياسة الفرس ، فكأنما اعتقني)).
وبعد هذا الصبر كله ، كانت العاقبة أن انصبت عليها وعلى زوجها النعم ولكنها لم تبطر بالغنى ، بل كانت سخية كريمة لا تدخر شيئا لغد ، وكانت إذا مرضت تنتظر حتى تنشط فتعتق كل مملوك لها ، وتقول لبناتها ولأهلها : أنفقوا وتصدقوا ولا تنتظروا الفضل .
إشراقة : الحياة جميلة عند المؤمنين ، والآخرة محبوبة عند المتقين ، فهم السعداء فحسب .
ومضة :لاتك في ضيق مما يمكرون
الفريدة الأول :من احب من حبيب؟
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت
أحبيه أكثر من كل الناس ..!
هل راجعت نفسك وسألتها كم تحبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل تعلمين أن مصداق هذا الحب هو فعل كل ما يأمر به النبي الذي تحبينه وهجر كل ما ينهاك عنه ؟، أعيدي النظر في عواطفك ووجهي عواطف الحب – أولا – إلى الله سبحانه ، ثم إلى من أنقذنا الله به من الضلال ، وتذكري إذا أردت أن تكون مكانتك في الجنة عالية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( المرء مع من احب ) ، ولكن من أولى دلائل الحب ومظاهره فعل ما أمر به صلى الله عليه وسلم ، فكيف لأحد أن يزعم انه يحبه وهو يعمل بغير ما أمر ولا يتبع سنته ولا يقتدي بهديه ؟ !تناولي سيرته و أقرئي فيها ، وانظري كيف كانت أخلاقه العظيمة وحديثه الطيب وسماحته الندية وخشيته لله وزهده في الدنيا ، وغيري من أخلاقك لتكون مشابهة لأخلاقه r .
إشراقة : امرأتا نوح ولوط خانتا فهانتا ، وآسية ومريم آمنتا فأكرمتا
ومضة : فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان
الفريدة الثانية : السعادة لا تتعلق بالغنى والفقر
تخوفني ظروف الدهر سلمى وكم من خائف ما لا يكون(/25)
قال برناردشو : (( لا أستطيع القول بأنني ذقت الفقر حقا ، فقبل أن أستطيع كسب شيء بقلمي كنت املك مكتبة عظيمة هي المكتبة العامة في المتحف البريطاني ، وكان لدي اكمل معرض للوحات الفنية قرب ميدان ترافالجار ، وماذا كنت أستطيع أن اعمل بالمال؟.. أدخن السيجارة ؟ إنني لا أدخن ، اشرب الشمبانيا ؟ إنني لا اشرب ، اشتري ثلاثين بذلة من آخر طراز إذن لأسرع بدعوتي للعشاء في قصورهم ، أولئك الذين اتحاشى رؤيتهم قدر ما أستطيع ، اشتري خيلا ؟ .. أنها خطرة .. سيارات ؟ أنها تضايقني ..، والآن ولدي من المال ما أستطيع أن اشتري به هذه الأشياء كلها فإنني لا اشتري إلا ما كنت اشتريه أيام كنت فقيرا ، وإن سعادتي هي في الأشياء التي كانت تسعدني وأنا فقير ، وإن سعادتي هي في الأشياء التي كانت تسعدني وأنا فقير : كتاب اقرأه ، ولوحة أتمعن فيها ، ، وفكرة اكتبها ، من ناحية أخرى فإن لدي خيالا خصبها ، لا اذكر إنني احتجت شيئا أكثر من أن استلقي واغلق عيني لا تصور نفسي كما احب ، وافعل في الخيال ما أريد ، وإذن ففيم كان ينفعني الترف التعيس الذي يزخر به شارع بوند؟
إشراقة : اعجلي من بيتك جنة من السكينة ما ملعبا من الضجيج ، فإن الهدوء نعمة
ومضة : رب ابن لي عندك بيتا في الجنة
الفريدة الثالثة : أليس الله أولى بالشكر من غيره ؟
ولا هم إلا سوف يفتح قفله ولا حال إلا للفتى بعدها حال
شكر الله U هو اجمل واسهل وصفة للسعادة ولراحة الأعصاب ، لأنك حين تشكرين ربك سبحانه وتعالى تستحضرين أنعمه عليك فتحين بمقدار النعم التي ترفلين فيها ، وقد كان أحد السلف الصالح يقول :
(( إذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك فاغمض عينيك )) ، فانظري إلى نعم الله عليك من سمع وبصر وعقل ودين وذرية ورزق ومتاع حسن ، فإن بعض النساء تحتقر ما عندها من النعم ، لكنها لو نظرت إلى ما سواها من الفقيرات والمسكينات والبائسات والمريضات والمشردات والمنكوبات ، لحمدت الله U على ما عندها من النعم ، ولو كانت في بيت شعر ، أو في كوخ من طين ، أو تحت شجرة في الصحراء ، فاحمدي الله على هذه النعم ، وقارني بينك وبين اللواتي أصبن في أجسامهن ، أو عقولهن ، أو أسماعهن ، أو أبنائهن ، وهن كثيرات في العالم .
إشراقة : أبردي أكباد الثكالى بكلمة طيبة ، وامسحي دموع البائسين بصدقة متقبلة
ومضة : من المحال دوام الحال
الفريدة الرابعة : السعيدة تسعد من حولها
علو في الحياة وفي الممات لحق أنت إحدى المعجزات !
يقول اوريزون سويت :
قد كان من حسن حظ نابليون انه تزوج الإمبراطورة ( جوزفين ) قبل أن يتولى القيادة العليل ويواجه تحديات الفتوح ، فإن أساليبها اللطيفة وشخصيتها الحلوة ، كانت أقوى من إخلاص عشرات الرجال في إكسابه ولاء أشياعه ، كانت تشيع السعادة من حولها ، وكانت لا تستعمل الأوامر بشكل مباشر أبدا حتى مع الخدم ، وقد أوضحت هي بنفها ذلك إيضاحا جميلا في قولها لإحدى صديقاتها : لي إلا موضع واحد استعمل فيه كلمة ( أريد ) وهو حين أقول : 0 أريد أن يكون كل من حولي سعيدا ) ، فكأن الشاعر الإنجليزي قد عناها حين قال : ( إنها مرت على الطريق في صباح سعيد بهيج فانتشر مجد الصباح على ذلك النهار بطوله ) ، والواقع يا صديقي أن اللطف ينشر السعادة فينا وفيمن حولنا حتى الجماد ، فاللطف جمال معنوي لي له حدود ، وهو للرجل بمثابة الجمال للمرأة ، أما المرأة نفسها فإنه يجعل جمالها أضعافا مضاعفة .
إشراقة : هل هي سعيدة من عرضت جمالها على كلاب البشر ونثرت حسنها لذئاب الناس ؟
ومضة : تعرفي على الله في الرخاء يعرفك في الشدة
الفريدة الخامسة : اطمئني فكل شيء بقضاء وقدر
فلا يديم سرورا ما سررت به ولا يرد عليك الغائب الحزن
مما يذكره ( ديل كارنيجي ) عوضا عن الإيمان بالقضاء والقدر ، أن الرجل يطلب من المصاب أن يتبلد أمام الأنواء ، كما تتبلد قطعان الجاموس وجوع الأشجار ! ، وهو معذور فيما يصف لأنه لم يقع على الدواء الذي بين أيدينا ، ولنسمع له يقول : رفضت ذات مرة أن اقبل أمراً محتما واجهني ، وكنت أحمق ، فاعترضت وثرت وغضبت وحولت ليالي إلى جحيم من الأرق ، وبعد عام من التعذيب النفساني امتثلت لهذا الأمر الحتم الذي كنت اعلم من البداية انه لا سبيل إلى تغييره ، وما كان اخلقني أن اردد مع الشاعر ( والت هويتمان ) قوله :
(( ما أجمل أن أواجه الظلام والأنواء والجوع )).
(( والمصائب والمآسي واللوم والتقريع )).
(( كما يواجهها الحيوان ، وتواجهها من الأشجار الجذوع )).
ولقد أمضيت اثني عشر عاما من حياتي مع الماشية ، فلم أر بقرة تبتئس لأن المرعى يحترق ، أو لأنه جف لقلة الأمطار ، أو لأن صديقها الثور راح يغازل بقرة أخرى ، إن الحيوان يواجه الظلام والعواصف والمجاعات هادئا ساكنا ، ولهذا قل ما يصاب بانهيار عصبي أو قرحة في المعدة .
إشراقة : تذكري النجاحات والمفرحات ، واني المزعجات والمصيبات
ومضة : وكفى بالله وكيلا(/26)
الفريدة السادسة : أم عمارة تتكلم !
عالم أن كل خير وشر لهما حد مدة وانقضاء
تروي نسيبة بنت كعب ( أم عمارة ) عن يوم أحد ، فتقول : خرجت أول النهار انظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله r ، وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين ، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقمت أباشر القتال ، وأذب بالسيف ، وارمي عن القوس ، حتى خلصت الجراح إلى ، ولما ولى الناس عن رسول الله r أقبل ابن قميئة يقول : دلوني على محمد لا نجوت إن نجا ، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير فضربني هذه الضربة على عاتقي ، وقد ضربته على ذلك ضربات ، ولكن عدو الله كانت عليه درعان .
هذه أم عمارة التي قول عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا وأراها تقاتل دوني .
إشراقة : احذري الصخب فإنه تعب ونصب ، وابتعدي عن السباب فإنه عذاب
ومضة : تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل عن الأخطاء
الفريدة السابعة : الإحسان للإنسان يذهب الأحزان
فهبك ملكت أهل الأرض وطرا ودان لك العباد فكان ماذا ؟
أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كرم المرأة وفيرة ؛ إن بالحض على الجود والإنفاق ، وإن بالمدح والثناء ، وإن بالإيثار على النفس وسعادتها بضيافتها الأصدقاء والأحباب ، فقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما بقي منها ؟ ) قالت : ما بقي منها إلا كتفها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( بقي كلها غير كتفها )).
فهو عليه الصلاة والسلام يوضح لآل بيته أن ما تصدقوا به بقي اجره إلى يوم القيامة ، وان ما بقي في الدنيا فأكلوه لم يستفيدوا من اجره في الآخرة ، وهذه لفتة كريمة إلى الحض على الصدقة ابتغاء رضوان الله سبحانه وتعالى .
وهذه السيدة أسماء أخت عائشة رضي الله عنهما ينصحها النبي صلى الله عليه وسلم بالتصدق كي يزيدها الله من فضله فتقول : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا توكي فيوكى عليك )) ، وفي رواية :(( انفقي أو انفحي ، أو انضحي ولا تحصي فيحصي الله عليك ، ولا توعي فيوعي الله عليك )).
إشراقة : ما دام الليل ينجلي فإن الألم يزول ، والأزمة سوف تمر ، والشدة تذهب
ومضة : النعمة عروس مهرها الشكر
الفريدة الثامنة : حولي خسائرك إلى أرباح
أرواحنا يا رب فوق اكفنا نرجو ثوابك مغنما وجوارا
نصح فقال :
لا تيأسي إذا تعثرت اقدامك وسقطت في حفرة واسعة ، فسوف تخرجين منها وأنت أكثر تماسكا وقوة ؛ والله مع الصابرين .
لا تحزني إذا جاءك سهم قاتل من اقرب الناس إلى قلبك ، فسوف تجدين من ينع السهم ويداوي الجرح ويعيد لك الحياة والبسمة .
لا تقفي كثيرا على الأطلال ، خاصة إذا كانت الخفافيش قد سكنتها ، والأشباح عرفت طريقها ، وابحثي عن صوت عصفور يتسلل وراء الأفق مع ضوء صباح جديد .
لا تنظري إلى الأوراق التي تغير لونها ، وبهتت حروفها ، وتاهت سطورها بين الألم والوحشة ، سوف تكتشفين أن هذه السطور ليست اجمل ما كتبت وان هذه الأوراق ليست آخر ما سطرت ، ويجب أن تفرقي بين من وضع سطورك في عينيه ومن ألقى بها للرياح ، لم تكن هذه السطور مجرد كلام جميل عابر ، ولأنها مشاعر قلب عاشها حرفا حرفاً ، ونبض إنسان حملها حلما ، واكتوى بنارها ألما ، لا تكوني مثل مالك الحزين ، هذا الطائر العجيب الذي يغني اجمل ألحانه وهو ينزف ، فلا شيء في الدنيا يستحق من دمك نقطة واحدة .
إشراقة : من يزرع الريح يحصد العاصفة ،
ومضة : كأنهن بيض مكنون
الفريدة التاسعة : الوفاء غال فأين الأوفياء ؟
وإنما المرء حديث بعده فكن حديث حسنا لمن وعى
من اعظم العارفين بالله ، والمستسلمين لقضائه ، والراضين بحكمه ، نبي الله أيوب – عليه السلام - فقد ابتلي بضر في جسده وماله وولده ، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه ، ولم يبق له من حال الدنيا شي يستعين به على مرضه وما هو فيه ، غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله ، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة ، لا تفارقه صباحا ولا مساء إلا بسبب خدمة الناس ، ثم تعود إليه ، فلما طال المطال واشتد الحال ، وتم الأجل المقدر ، تضرع إلى رب العالمين ، وإله المرسلين ، وأرحم الراحمين ، وناداه : ) أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(الانبياء: من الآية83) ، فعند ذلك استجاب له ، وقبل دعوته ، ولبى نداءه ، فأمره أن يقوم من مقامه ، وأن يضرب الأرض برجله ، ففعل ذل ، فأنبع الله عينا ، وأمره أ، يغتسل منها ، فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى ، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها ، فأذهبت ما كان في باطنه من السوء ، وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ، وذلك كله ثمرة الصبر ، ونتيجة الاحتساب ، وفائدة الرضى .(/27)
إشراقة : قد يندم الإنسان على الكلام ، ولكنه لا يندم أبدا على السكوت!
ومضة : المرأة مصدر السرور ومنبع البهجة
الفريدة العاشرة : الجدية .. الجدية
اغنمي بسمة الصباح وقولي مرحبا إننا لرؤياك عطشى
عليك بالجدية في أمورك ، من تربية أبناء ، ومتابعة عمل نافع مفيد ، وقراءة راشدة ،وتلاوة خاشعة ، وصلاة مخبتة ، ، وذكر حاضر ، وصدقة ، وترتيب بيت ، وتنظيم مكتبة ، لتكوني – بذلك – في جد ينهي عليك أوقات الهموم والغموم.
وانظري إلى بعض الكافرات فضلا عن المؤمنات ، كيف تميزن بالجدية في حياتهن مع كفرهن وانحرافهن ، فهذه رئيسة وزراء إسرائيل السباقة الهالكة ( غولدا مائير ) ، لها مذكرات وصفت فيها جديتها وتنظيمها للجيش وموقفها في الحروب مع العرب ، حتى إنه لم يفعل فعلها أحد من الرجال من بني جنسها إلا القليل ، وهي كافرة عدوة لله .
إشراقة : السعادة ليست ضربا من السحر ، ولو كانت كذلك لما كانت ذات قيمة .
ومضة : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون
المرجانة الأولى : قفي وقفة شجاعة مع النفس
الجوع يدفع بالرغيف اليابس فعلام أكثر حسرتي ووساوسي
سلي نفسك هذه الأسئلة وأجيبي جواب العاقلة المتزنة :
هل تعلمين انك ستسافرين سفرا بلا رجعة ؟ .. فهل أعددت العدة لهذا السف ؟
هل تزودت من هذه الدنيا الفاتنة بالأعمال الصالحة لتؤنس وحشتك في القبر ؟
كم عمرك ؟ وكم ستعيشين ؟ ألا تعلمين أن لك بداية نهاية وأن النهاية جنة أو نار؟
هل تخيلت عندما تنزل الملائكة من السماء لقبض روحك وأنت غافلة لاهية ؟
هل تخيلت ذلك اليوم والساعة الأخيرة في حياتك ، ساعة فراق الأهل والأولاد ، فراق الأحباب والأصحاب ؟ إنه الموت بسكراته وشدة نزعه وكرباته ، إنه الموت .. إنه الموت ..!!
وبعد فراق روح من جسدك يذهب بك إلى مغسلة الأموات فتغسلين وتكفنين ، ويذهب بك إلى المسجد ليصلى عليك ، وبعد ذلك تحملين على أكتاف الرجال .. إلى أين ؟
إلى القبر ، إلى أول منازل الآخرة ، إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ؟
إشراقة : اعتبري إخفاقك درساً.
ومضة : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا
المرجانة الثانية : احذري!
لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا
احذري التشبه بالكافرات والفاجرات ، أو الرجال ، ففي الحديث : (( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء ، والمتشبهات من النساء بالرجال )).
واحذري كل ما يغضب الرب سبحانه وتعالى ، مما رد النهي عنه في الأحاديث الشريف : مثل الترجل ، أو الخلو بالرجل الأجنبي ، أو السفر مع غير ذي محرم ، أو أن تسقط المرأة حياءها ، وتخلع جلبابها ، وتنسى ربها ، فهذه كلها من الأفعال المشينة التي تورث القلب انعقادا ، والصدر ضيقا وظلمة في الدنيا والآخرة ، وهذا مما اشتهر واصبح شائعا بين المسلمات ، إلا من رحم الله عز وجل .
إشراقة : لكي تكوني جميلة يجب أن تفري تفكيرا جميلا
ومضة : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في امرنا
المرجانة الثالثة : شكر المحسن واجب
اكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزري بالأمل
كانت ( الخيزرانن )) جارية اشتراها الخليفة المهدي من النخاس ، واعتقها وتزوجها وأنفذ أمرها وعقد لوالديها بولاية العهد ، فكانت إذا غضبت تقول له في وجهه : (( ما رأيت منك خيرا قط ))!
وكانت (( البرمكية )) جارية مثلها ، تباع وتشترى ، فاشتراها المعتمد ابن عباد ملك المغرب فاعتقها وجعلها ملكة ،وحين رأت الجواري يلعبن في الطين حنت لماضيها ، فاشتهت أن تلعب في الطين مثلهن فأمرر أن يوضع لها طيب لا يحص على شكل طين ، فخاضت فيه ولعبت فكانت إذا غضبت منه قالت له : (( إني لم أر منك خيرا قط )) ، فيبتسم ويقول لها : ولا يوم الطين ؟! فتخجل !..
فطبيعة النساء – إلا ما قل – هي نسيان ما عملت لهن عند أي سهو أو تقصير ، وقد ورد في الحديث الشريف : (( يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار ، فلن : وبم يا رسول الله ؟ قال : تسرعن اللعن وتكثرن الطعن ، وتكفرن العشير )).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( أريت النار فإذا أكثر أهلها من النساء ، لأنهن يكفرن العشير ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قال : ما رأيت منك خيرا قط )) ، فإذا عرف الإنسان طبيعة المرأة فإنه لا يغضب ولا يقلق ولا تتوتر أعصابه إذا تنكرت له أحيانا وزعمت أنها لم تر منه أي خير مع انه قد فعل لها الكثير .
إشراقة : المرأة الناجحة يدعى لها ، ويثني عليها زوجها ، وتحبها جاراتها ، وتحترمها صديقاتها.
ومضة : إن رحمتي وسعت غضبي
المرجانة الرابعة : الروح أولى بالعناية من الجسد
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتبسما(/28)
أمر عمر بن عبد العزيز وهو في خلافته رجلا أن يشتري له كساء بثمانية دراهم ، فاشتراه له واتاه به ، فوضع عمر يده عليه وقال : ما ألينه وأحسنه ، فتبسم الرجل الذي أحضره ، فسأله عمر ؟ فقال : لأنك يا أمير المؤمنين أمرتني قبل أن تصل إليك الخلافة أن اشتري لك مطرف خز فشريته لك بألف درهم ، فوضعت يدك عليه فقلت : ما أخشنه !، وأنت اليوم تستلين كساء بثمانية دراهم؟
فقال عمر : ما احسب رجلا يبتاع كساء بألف درهم يخاف الله ، ثم قال : يا هذا ، إن لي نفسا تواقة للمعالي ، فكلما حصلت على مكانة طلبت أعلى منها ، حصلت على الأمارة فتقت إلى الخلافة ، وحصلت على الخلافة فتاقت نفسي إلى ما هو اكبر من ذلك ، وهي الجنة .
إشراقة : إن مقاضاة الناس لا تقع على عاتقنا ، من واجبنا ألا تفكر بعقاب الآخرين .
ومضة : احفظي الله يحفظك
المرجانة الخامسة : اشتغلي بالحاضر من الماضي والمستقبل
سينقشع الظلام فلا تخافي ويأتي الفجر في حلل بهية
ما قيمة لطم الخدود ، وشق الجيوب على حظ فات أو غرم ناب ؟ ما قيمة أن ينجذب المرء بأفكاره ومشاعره إلى حدث طواه الزمن ليزيد ألمه حرقة وقلبه لذعا ؟ !
لو أن أيدينا يمكنها أن تمتد الى الماضي لتمسك حوادثه المدبرة ، فتغير منها ما تكره ، وتحورها عل ما تحب ؛ لكانت العودة إلى الماضي واجبة ، ولهرعنا جميعا إليه ، نمحو ما ندمنا على فعله ، ونضاعف ما قلت أنصبتنا منه ، إما وذلك مستحيل ، فخير لنا أن نرس الجهود لما نستأنف من أيام وليال ، ففيها وحدها العوض .
وهذا ما نبه إليه القران الكريم بعد ( أحد ) ؛ قال للباكين على القتلى ، النادمين على الخروج للميدان : ) قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)(آل عمران: من الآية154).
إشراقة : كوني واثقة أن السعادة تشبه الوردة المغروسة التي لم تظهر بعد ، ولكن ظهرها أكيد.
ومضة : ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا
المرجانة السادسة المصائب كنوز الرغائب
انظري للروض بساما غدا ينشد الطير به ما يطرب
عن أم العلاء رضي الله عنها قال : (( عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضة فقال : ابشري يا أم العلاء ، فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الفضة )).
ولي معن ذلك أن نربي جراثيم الأمراض في أجسامنا ونترك التداوي بحجة أن المرض يحط الخطايا والذنوب ، وإنما على العبد أن يطلب الشفاء ويتلمس الدواء ، مع الصبر على الأمراض واحتساب الآلام عند الله U ، والنظر إليها على أنها رصيد من الحسنات تدخر في صحيفته ، وهو ما تعلمه لنا تلك المرأة الصالحة .
وعلى المرأة أن تصبر على فقدان الأحبة من زوج وولد ،وفي الحديث (( إن الله لا يرضى لعبده المؤمن ، إذا ذهب بصفيه من أهل الأرض فصبر واحتسب ، بثواب دون الجنة )).
وإذا كانت المرأة قد فقدت زوجها، فإن الله عز وجل قد استرد عبده ، وهو أول به ، فإذا قالت المرأة : زوجي أو ولدي ! ، قال الخالق الموجد : عبدي ، وأنا أول به و أحق قبل غيري ، فالزوج عارية ،والولد عارية ، والأخ عارية ، والأب عارية ، والزوجة عارية .
وما المال والأهلون إلا ودائع ولابد يوما أن ترد الودائع
إشراقة : اهربي من اشتم كما تهربين من الطاعون !
ومضة : الراحمون يرحمهم الرحمن
المرجانة السابعة : ارحمي من في الأرض يرحمك من في السماء
أما علمت بان العسر يتبعه يسر كما الصبر مقرون به الفرج ؟
تظهر رحمة الأم في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة جلية ،فهي مثال العطف والحنان ، ونبع الشفقة والرأفة ، خلقها الله سبحانه وتعالى ينبوعا يفيض على أبنائها بالحب ، ويؤثرهم بالرفد والعطاء ، فقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم صورة حية ، ينفذ منها إلى توضيح رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده ، فقد روى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسبي ، فإذا امرأة من السبي تسعى ، إذ وجدت صبيا في السبي ، فألزقته ببطنها ، فأرضعته ، فقال رسول الله صك (( أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ )) ، قلنا : لا والله ن فقال : (( الله ارحم بعباده من هذه بولدها )).
فهذه امرأة وقعت في ذلك الأسر ، حزينة كاسفة البال ، كانت سيدة في أهلها وعشريتها ، حرة في كنف رجال قبيلتها ، مطاعة في بيت زوجها ، فجعلها الأسر أمة مملوكة وجارية مأمورة ، حالة نفسية صعبة يذهل الإنسان بها عما حوله ، ويعتصر الألم قلبه ، ولكن هذا كله لم يلهها عن ابنها وفلذة كبدها ، فقد بحثت عنه جاهدة حتى رأته ، فاحتضنته راغبة ، وألقمته ثديها حانية، وضمته إلى صدرها بين ذراعيها مشفقة ، امرأة كهذه لا تسلم ابنها إلى مكروه مهما صغر ، وتدفع عنه الأذى مهما حقر ، وتفديه بنفسها من كل ضر .
إشراقة : الألسنة الرديئة تجني على أصحابها أكثر مما تجني على الآخرين من ضحاياها .
ومضة : الشكر عصمة من النقمة(/29)
المرجانة الثامنة : الدنيا الجميلة لا يراها إلا المتفائلون
صلي عليك الله يا علم الهدى واستبشرت بقدومك الأيام
إذا اغلق الشتاء أبواب بيتك ، وحاصرتك تلال الجليد من كل مكان ، فانتظري قدوم الربيع وافتحي نوافذك لنسمات الهواء النقي ، وانظري بعيدا فسوف ترين أسراب الطيور وقد عادت تغني ، وسوف ترين الشمس وهي تلقي خيوطها الذهبية فوق أغصان الشجر لتصنع لك عمرا جديدا ، وحلما جديدا ، وقلبا جديدا .
لا تسافري إلى الصحراء بحثا عن الأشجار الجميلة فلن تجدي في الصحراء غير الوحشة ، وانظري إلى مئات الأشجار التي تحتويك بظلها ، وتسعدك بثمارها ، وتشجيك بأغانيها
لا تحاولي أن تعيدي حساب الأمس ، وما خسرت فيه ، فالعمر حينما تسقط أوراقه لن تعود مرة أخرى ، ولكن مع كل ربيع جديد سوف تنبت أوراق أخرى ، فانظري إلى الأوراق التي تغطي وجه السماء ودعيك مما سقط على الأرض ، فقد صار جزءا منها .
إذا كان الأمس ضاع ، فبين يديك اليوم ، إذا كان اليوم سوف يجمع أوراقه ويرحل فلديك الغد ، لا تحزني على الأمس فهو لن يعود ، ولا تأسفي على اليوم ، فهو راحل ، واحلمي بشمس مضيئة في غد جميل .
إشراقة : لا يمكن تخيل مد الأمراض التي يحدثها تبادل الكلمات الجارحة !
ومضة : النساء شقائق الرجال
المرجانة التاسعة : تعرفي على الله في الرخاء يعرفك في الشدة
أيها اليائس مت قبل الممات أو إذا شئت حياة فالجرا
عندما أحس يونس بالضيق في بطن الحوت ، في تل الظلمات الهائلة ، ظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل ، وضاق صدره ، واعتلج همه ، وعظم كربه ، فزع إلى الله تعالى ، إلى غياث الملهوف ، وملجأ المكروب ، وواسع الرحمة ، وقابل التوبة ،وانطلق لسانه بكلمات كأنهن الياقوت والمرجان ) فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(الانبياء: من الآية87) ، وتأتي الاستجابة السريعة ، حيث قال تعالى : )فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الانبياء:88) .
فأوحى الله إلى الحوت ، أن يلقي يونس بالعراء ، فخرج على الشاطئ سقيما هزيلا مدنفا عليلا ، فتلقته عناية الله ، وحفت به رحمته ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين – وهو نبات لا ساق له وله ورق عريض – ودبت إليه العافية ، وظهرت فيه تباشير الحياة، وكذا من تعرف على الله في الرخاء يعرفه في الشدة .
إشراقة : لا يمكن أن تصبحي جديرة بقيادة نفسك إلا إذا أصبحت جديرة بقيادة حياتك .
ومضة : مسكين رجل بلا امرأة
المرجانة العاشرة : صاحبة أغلى مهر في العالم
كوني أرق من النسيم إذا جرى وأعز في الدنيا من الجوزاء
تقدم أبو طلحة للزواج من أم سليم بنت ملحان ، وعرض عليها مهرا غاليا ، إلا أن المفاجأة أذهلته وعقلت لسانه ، عندما رفضت أم سليم كل ذلك بعزة وكبرياء وهي تقول : إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركا ، أما علم يا أبا طلحة أن آلهتكم ينحتها عبد آل فلان ، وأنكم لو أشعلتم فيها نارا لاحترقت !
فأحس أبو طلحة بضيق شديد فانصرف وهو لا يكاد يصدق ما يرى ويسمع ، ولكن حبه الصادق جعله يعود في اليوم التالي يمنيها بمهر أكر وعيشة رغيدة عساها تلين وتقبل ، فقالت بأدب جم :( ما مثلك يرد يا أبا طلحة ، ولكنك امرؤ كافر ، وأنا امرأة مسلمة لا تصلح لي أن أتزوجك فقال : ما ذاك دهرك : قالت : وما دهري ؟ قال : الصفراء والبيضاء . قالت : فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء ، أريد منك الإسلام ، قال : فمن لي بذلك قالت : لك بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق يريد النبي وهو جالس في أصحابه ، فلما رآه قال : ( جاءكم أبو طلحة غرة الإسلام في عينيه ) ، فجاء فأخبر النبي بما قالت أم سليم فتزوجها على ذلك .
إن هذه المرأة مثل عال لكل من تنشد المجد وتسعى للفضيلة ، فانظري كيف سطرت بحسن سيرتها آيات من النبل والإيمان ، وانظري مقدار ثوابها عند الواحد الديان ، كيف تركت ثناء جميلا عاطرا ، وكسبت أجرا كبيرا مباركا فيه ؛ ذلك لأنها كانت صادقة مع ربها ، صادقة مع نفسها ، صادقة مع الناس ، وهذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ، فطوب لها الجنة ، وهنيئا لها الخلد ، وقرة عين لها الفوز.
إشراقة عليك أن تبتسمي إذا أردت أن يبتسم لك الآخرون.
ومضة : واصبر على ما أصابك
الألماسة الأولى : مفاتيح الظفر
دار متى ما أضحكت في يومها أبكت غدا قبحا لها من دار
مفتاح العز : طاعة الله ورسوله
مفتاح الرزق : السعي مع الاستغفار والتقوى.
مفتاح الجنة : التوحيد.
مفتاح الإيمان : التفكر في آيات الله ومخلوقاته .
مفتاح البر : الصدق .
مفتاح حياة القلب : تدبر القرآن ، والتضرع في الأسحار ، وترك الذنوب .
مفتاح العلم : حسن السؤال وحسن الإصغاء .
مفتاح النصر والظفر : الصبر .
مفتاح الفلاح : التقوى .
مفتاح المزيد : الشكر .
مفتاح الرغبة في الآخرة : الزهد في الدنيا .
مفتاح الإجابة : الدعاء .(/30)
إشراقة : ابتسامة المرء شعاع من أشعة الشمس .
ومضة : ربنا هب لنا من لدنك رحمة .
الألماسة الثانية : بعد المعاناة لذة انتصار .
تسل عن الهموم فلي شيء يقيم ، وما همومك بالمقيمة
في خطاب زوجة لامها بعد شهر العسل كتبت تقول : أمي .ز عدت اليوم إلى بيتي إلى عشنا الصغير الذي أعده زوجي ، بعد أن أمضينا شهر العسل .. كنت أتمنى أن تكوني قريبة مني يا أمي .. لأحكي لك كل شيء عن تجربتي في حياتي الجديدة مع زوجي ، إنه رجل طيب وهو يحبني ، وأنا أيضاً احبه ، إنني افعل كل ما في وسعي لإرضائه .. تأكدي يا أمي أنني أحفظ كل نصائحك واعمل بكل ما أوصيتني به ، ما زلت أذكر كل كلمة .. كل حرف قلبه لي وهمست به في أذني وأنت تحتضنينني وتضمينني إلى صدرك الحنون ليلة زفافي .
إنني أرى الحياة من خلال نظرتك أنت إليها .. انك مثلي الأعلى .. ولا هدف لي سوى أن اصنع ما صنعته أنت بأبي الطيب وبنا نحن أبناؤك ، لقد أعطيتنا كل حبك وحنانك .. علمتنا معنى الحياة وكيف نعيشها .. وصنعت بيدك بذور الحب في قلوبنا .
إنني اسمع المفتاح يدور في قفل الباب لابد انه زوجي ، انه يريد أن يقرا رسالتي لك ، يريد أن يعرف ماذا اكتب لأمي ؟ يريد أن يشاركني هذه اللحظات السعيدة التي اقضيها معك بروحي وفكري .. انه يطلب مني أن اترك له القلم وأفسح له مكانا يكتب لك ، أقبلك يا أمي وأقبل أبي واخوتي وإلى اللقاء .
إشراقة : البسمة لا تكلف شيئا ، ولكنها تعطي كثيراً.
ومضة : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم
الألماسة الثالثة : القلق يعذب الذهن والجسم
قال : الحياة كئيبة وتجهما قلت ابتسم يكفي التجهم في السما!
من أسوأ مميزات القلق انه يبدد القدرة على التركي الذهني ، فعندما نقلق تتشتت أذهاننا ، ولكن عندما نقسر أنفسنا على مواجهة أسوأ الاحتمالات ، فإننا بذلك نضع انفنا في موقف يعنا فيه أن نركز أذهاننا في صميم المشكلة .
ليس في استطاعتنا أن نتحمس لعمل مثير ، ونحس بالقلق في الوقت نفسه ، فإن واحدا من هذين الاحساسين يطرد الآخر .
إذا أحسست بأنه سيعتورك القلق على الحاضر ، فعودي بذاكرتك إلى أسوأ حالة من حالات القلق تعرضت لها في الماضي ، وبذلك تطوق العقل قبضتان مختلفتان بدلا من قبضة واحدة ، وستتغلب القبضة الأقوى وقعت في الماضي على قبضة الحاضر الأقل شدة وقوة ، وسيقول المرء إذ ذاك : ما من شيء يمكن أن يكون أسوأ من أزمة الماضي ومع ذلك فقد اجتزتها بنجاح ، فإذا كنت قد تخطيت تلك الأزمة ومررت منها بسلام ، فما اقل موقف اليوم في مشقته وخطره .
إن القلق يكون أقرب إلى الاستحواذ عليك لا في أوقات عملك ، وإنما في وقت فراغك من العمل ، فالخيال إذ ذاك يجمح ويقلب كل صنوف الاحتمالات ، وعلاج ذلك هو أن تنشغلي بعمل جاد .
إشراقة :تكاد الأشياء التافهة تدفع أكثر الناس حكمة إلى حافة الجنون !
ومضة : الحياة دقائق وثواني
الألماسة الرابعة : عملك المحبوب سر سعادتك
صبرا على شدة الأيام إن لها عقبى ، وما الصبر إلا عند ذي حسب
إن العبقري في أي مجال ينجذب انجذابا لا طاقة له على مقاومته إلى المجال الذي خلقه الله له واستودع فيه الإبداع من خلاله ، ولئن شكا من سوء حظه في مجاله هذا ، فإن ذلك العمل هو الشيء الوحيد الذي يمارسه بلذة وسرور ، ومهما كانت المصاعب التي يلاقيها – عبره – جمة ، ومهما كانت آماله بالكسب والنجاح – من خلاله – ضئيلة ، ومهما التفت إلى ورائه متنهدا وتمنى لو انصرف عنها إلى مهنة أخرى تكون أوفر جدوى واكثر دخلا ، ومهما اشتكى من فقره الذي جلبته عليه مهنته ، فإنها مقابل هذا كله تمنحه السعادة وتخرج منه خير ما فيه .
إشراقة : سعادة الرجل في (( كلمة )) تخرج من بين شفتي امرأة .
ومضة : وإذا مرضت فهو يشفين
الالماسة الخامسة : القوة في القلب لا في الجسم
لكل من الأيام عندي عادة فإن ساءني صبر ، وإن سرني شكر
هذه امرأة نصرانية لم تكن تعلم من شئون الحياة إلا الفقر والجوع والمرض ، فقد مات زوجها بعد وقت قصير من قرانهما ، وهجرها زوجها الثاني هاربا مع امرأة أخرى ، ثم وجد بعد ميتا في منزل حقير ، وكان لها ولد واحد .. لكنها ألفت نفسها مدفوعة بالفاقة والمرض إلى التخلي عنه حين بلغ الرابعة من عمره .
وقد وقعت نقطة التحول في حياتها بينما كانت تجوب طرقات البلدة ذات يوم إذ زلت قدمها فسقطت على الأرض المكسوة ، ثم ذهبت في إغماء طويل ، وأصيبت من جراء سقطتها هذه بإصابة بالغة في عمودها الفقري ، وتوقع لها الأطباء إما الموت العاجل ، وإما الشلل التام طول حياتها ..
وبينما المرأة راقدة في فراش المرض فتحت الكتاب المقدس ، وألهمتها العناية الإلهية – كما عبرت هي – أن تقرأ هذه الكلمات من إنجيل متى : (( وإذا مفلوج يقدمونه إليه – تعني عيسى عليه السلام – مطروحا على فراش ، حينئذ قال للمفلوج : قم ، احمل فراشك واذهب إلى بيتك ، فنهض وغادر المكان )) .(/31)
أمدتها هذه الكلمات بقوة إيمان وفورة داخلية ، حتى إنها نهضت من الفرش وتمشت في الغرفة !!، ومهدت هذه التجربة الطريق للسيدة المشلولة كي تعالج نفسها وتسوق العافية للآخرين .
قال ديل ( كارنيجي ) (( تلك هي التجربة التي مكنت ( ماري بيكر إيدي ) من أن تصبح مبشرة بدين جديد ، لعله الدين الوحيد الذي بشرت به امرأة !)).
وأنت أيتها المسلمة ماذا فعلت ؟
إشراقة : امنع الحصون المرأة الصالحة .
ومضة : القناعة كنز لا يفنى .
الالماسة السادسة : المرأة العظيمة تجعل من جحيم المصائب جنة
وعاقبة الصبر الجميل جميلة وأفضل أخلاق الرجال التفضل
ضربت لنا الصحابية الجليلة أم سليم امرأة أبي طلحة – رضي الله عنهما – مثلا رائعا في الصبر على فقدان الولد ، فعوضها الله سبحانه وتعالى خيرا.
عن انس رضي الله عنه قال : كان ابن لأبي طلحة رضي الله عنه يشتكي ، فخرج أبو طلحة ، فقبض الصبي ، فلما رجع أبو طلحة قال : ما فعل ابني ؟ ، قالت أم سليم وهي أم الصبي : هو اسكن ما كان ! .. فقربت إليه العشاء فتعشى ، ثم أصاب منها ، فلما فرغ قال : واروا الصبي ، فلما اصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبره ، فقال : (( أعرستم الليلة ؟ قال : نعم ، قال : اللهم بارك لهما ، فولدت غلاما ، فقال لي أبو طلحة : احمله حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعث معه بتمرات ، فقال صلى الله عليه وسلم أمعه شيء ؟ قال : نعم ، تمرات ، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها ، ثم أخذها من فيه فجعلها في فيء الصبي ، ثم حنكه وسماه عبد الله )).
إشراقة : لا شيء يرفع قدر المرأة كالعفة .
ومضة : بشر الليل بفجر صادق
الالماسة السابعة : اصبري لتظفري
فصبرا على حلو الزمان ومره فإن اعتياد الصبر ادعى إلى الرشد
ورد عن أم الربيع بنت البراء ، وهي أم حارثة بن سراقة الذي قتل في بدر أنها أتت إلى الرسول r ترجو أن تسمع منه عن ابنها الشهيد ما يثلج صدرها فقالت : يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة ؟، فإن كان في الجنة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء ، فقال : (( يا أم حارثة ، إنها جنان في الجنة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى )).
إن فقدان الولد أمر عظيم يمزق القلب ، ويقطع الأحشاء ، ويفتت الكبد ، وهذه المرأة تسأل النبي صلى الله عليه وسلم إن كان في الجنة فسوف تلقاه إن شاء الله ، وصبرها على فراقه رفع لدرجتها ودرجته في الجنة ، وإن لم يكن كذلك لتبكينه بحرقة من يفقد العزيز إلى الأبد ، وهذا ما تستطيعه ، وجل ما تقدر عليه ، إنها الأم الثكلى ، والراحمة العطوف ، والصابرة المحتسبة .
إشراقة : إذا أنت المرأة الجميلة جوهرة .. فالمرأة الفاضلة كنز.
ومضة : المرأة شمس لن لا تغيب
الالماسة الثامنة : ليس لنا في الأزمات إلا الله وحده
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
إذا حل الهم ، وخيم الغم ، واشتد الكرب ، وعظم الخطب ، وضاقت السبل ، وبارت الحيل ، نادى المنادي : يا الله .. يا الله : (( لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم ))، فيفرج الهم ، وينفس الكرب ، ويذلل الصعب : )فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الانبياء:88) )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) (النحل:53)
إذا اشتد المرض بالمريض ، وضعف سمه ، وشحب لونه ، وقلت حيلته ، وضعفت وسيلته ، وعجز الطبيب ، وحار المداوي ، وجزعت النفس ، ورجفت اليد ، ووجف القلب ، انطرح المريض ، واتجه العليل إلى العلي الجليل ، ونادى : يا الله .. يا الله ، فزال الداء ، ودب الشفاء ، وسمع الدعاء : )وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الانبياء:83)(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الانبياء:84) .
إشراقة : خير ما يقتني الرجل زوجة وفية.
ومضة : رفقا بالقوارير
الالماسة التاسعة : أمن يجيب المضطر إذا دعاه
لا يضيق ذرعك عند الأزمات إن هي اشتدت فأمل فرجا(/32)
من كرم الباري – جل وعلا – أنه لا يخيب من رجاه ، ولا يضيع من دعاه ، وبقدر حاجة الإنسان إليه وانطراحه بين يديه ولجوئه إليه ، بقد ما تكون الإجابة ويأتي الفرج ، ويستجاب الدعاء ، بل إن من كرمه انه يجيب دعوات أنا غير مسلمين في حالة اضطرارهم إليه ، وانطراحهم بين يديه ، وثقتهم في لطفه ، وطمعهم في كرمه ، فهو يجيب نداءهم ، ويكشف ضرهم كرما منه ، وتحبيبا لهم ، لعلهم يؤمنون ، ولكن كثيرا من الناس يتناسون الفضل ، ويتنكرون للجميل ، ويكفرون المعروف ، قال تعالى : )فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) (العنكبوت:65) .
ولقد امتن الله تعالى على العباد بأنه هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ، وأن ذلك دليل من دلائل الألوهية ،وبرهان من براهين الوحدانية ، ولكن الناس قليلا ما يتذكرون : )أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (النمل:62)
إشراقة : على المرأة أن تقر في البيت ؛ لأنها إنا لطيف سريع الإنكسار !.
ومضة : إياك وايذاء الآخرين فإنه دليل على الخذلان
الالماسة العاشرة : ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه
كوني كوجه النجم إشراقا ولا تخشي هموما أقبلت وظلاما
من عيون أخبار أم البنين بنت عبد العزيز – أخت عمر بن عبد العزيز – مع الكرم أنها كانت تدعو النساء إلى بيتها ، وتكسوهن الثياب الحسنة ، وتعطيهن الدنانير ، وتقول : الكسوة لكن ، والدنيانير أقمنها بين فقرائكن – تريد بذلك أن تعلمهن وتعودهن على البذل والجود – واثر عنها أنها كانت تقول : أف للبخل ، والله لو كان ثوبا ما لبسته ، ولو كان طريقا ما سلكته .
ومن أقوالها المأثورة في الكرم : جعل لكل قوم نهمة في شيء ، وجعلت نهمتي في البذل والإعطاء ، والله للصلة والمواساة احب الي من الطعام الطيب على الجوع ، ومن الشراب البارد على الظمأ .
ولشدة حرصها على الإنفاق ، ووضع المال في مواضعه ، واصطناع آيات المعروف كانت – رحمها الله – تقول : ما حسدت أحداً قط على شيء إلا أن يكون ذا معروف ، فإني كنت احب أن أشركه في ذلك .
هذه أم البنين ، وهذه أقوالها وأفعالها ، فأين شبيهات أم البنين ؟!
إشراقة : في موت الأنانية تكمن السعادة الحقة .
ومضة : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب
الجمانة الأولى : أنت مسلمة لا شرقية ولا غربية
عسى فرج يكون عسى نعلل نفسنا بعسى
هذه موعظة من امرأة ألمانية مسلمة :
لا تنخدعن بالغرب في أفكاره وموضاته ، فهذا كله خدعة يستدرجوننا بها ليبعدونا عن ديننا تدريجيا ليستولوا على أموالنا .
الإسلام وأنظمته الأسرية هو الذي يوافق المرأة ؛ لأن من طبيعتها أن تستقر في البيت ، ولعلكم تسألون لم ؟
لأن الله خلق الرجل أقوى من المرأة في تحمله وعقله وقوته الجسدية ، وخلق المرأة عاطفية جياشة الشعور ، لا تملك الطاقة الجسدية التي هي للرجل .
وهي إلى حد ما متقلبة المزاج عنه ، لذلك فالمنزل سن لها ، والمرأة المحبة لزوجها وأولادها لا تترك منزلها من غير سبب ولا تختلط بالرجال اطلاقا . إن 99% من الإناث في الغرب لم يصلن إلى ما وصلن إليه من انحدار إلا بعد أن بعن أنفسهن ، فلا خوف في قلوبهن لله .
وخروج المرأة للعمل في العالم الغربي بهذا الشكل المكثف جعل الرجل يمارس دور المرأة ، فقعد في البيت يغسل الصحون ، ويسكت الأطفال ، ويشرب الخمر ، وأنا اعلم أن الإسلام لا يمانع في معاونة الرجل لزوجته في البيت ، بل يرغب في ذلك ، ولكن ليس إلى الحد الذي تنقلب فيه الأدوار .
إشراقة : كن جميلا تر الوجود جميلا .
ومضة : ونيسرك لليسرا
الجمانة الثانية : انسي هموم وانغمسي في العمل
توكلنا على الرحمن إنا وجدنا الفوز للمتوكلينا
إذا قمت بما يجب لعلاج مشكلة ما ، فانشغلي عنها بالهواية أو القراءة أو العمل ، فإن (( الشغل )) هنا يحل مكان القلق ، فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، ولنفترض الآن أن المشكلة هي مرض ( الطفل ) ، فهنا يقوم الوالد ( الأب أو الأم ) بكل ما يجب من علاج بدقة ، ثم يصرف وقته لما يشغله وينفعه .
ويحسن بالإنسان وهو في غمار المشكلة الحاضرة أن يتذكر ما مر به في ماضيه من مشكلات عويصة ، وخاصة تلك المشكلات الكبيرة التي هي اخطر من مشكل الآن ، وكيف وفقه الله إلى حلها بحيث لم تعد ذكراها تثير فيه غير الابتسام والشعور بالثقة في النفس ، إن الإنسان إذا تذكر ذلك يحس أن مشكلة اليوم مثل غيرها ستمر وتحل – بإذن الله – وتصبح في خبر كان .(/33)
وليتلمس الإنسان الجوانب الإيجابية في مشكلته ، وأنها من المؤكد أن تكون اشد واكثر سلبية ، ولابن الجوزي هنا كلام نافع يقول فيه : (( من نزلت به بلية فليتصورها أكثر مما هي عليه تهن ، وليتخيل ثوابها ، وليتوهم نزول أعظم منها ير الربح في الاقتصار عليها ، وليتلمح سرعة زوالها فإنه لولا كرب الشدة ما رجيت ساعات الراحة )).
إشراقة : قال أحد الحكماء : ما ندمت على ما لم أتكلم به قط ، ولقد ندمت على ما تكلمت به كثيرا .
ومضة : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا
الجمانة الثالثة : نقاط تساعدك على السعادة
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
الحرص والطمع مهلكان ، وعلاجهما من دواء مركب كما يلي :
الاقتصاد في المعيشة والرفق في الإنفاق ، فمن اتسع إنفاقه لم تمكنه القناعة ، بل ركبه الحصر والطمع ، فالاقتصاد في المعيشة هو الأصل في القناعة ،وفي الخبر : (( التدبير نصف المعيشة )).
أن لا تكوني شديدة القلق لأجل المستقبل ، واستعيني على ذلك بقصر الأمل ، وبالإيمان بأن الرزق الذي قدر لك لابد أن يأتيك .
تقوى الله ، فإن الله عز وجل يقول : ) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)(الطلاق: من الآية2) )وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ).
معرفة ما في القناعة من عز الاستغناء ، وما في الحرص والطمع من الذي ، والاعتبار بذلك .
اكثري من تأملك في أحوال الأنبياء والصالحين وقناعتهم وتواضع معيشتهم ، ورغبتهم في الباقيات الصالحات فاجعليهم قدوة لك .
انظري لمن هو دونك في أمور الدنيا .
إشراقة : إن العاقل لا يقنط من منافع الرأي ، ولا ييأس على حال ، ولا يدع الرأي والجهد .
ومضة : إن الله يدافع عن الذين آمنوا
الجماعة الرابعة : صلي حبلك بالله إذا انقطعت الحبال
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
إن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في الأرض ، لا يهم أن تكون هذه الحياة ناعمة رغدة ثرية بالمال ، فقد تكون به وقد لا يكون معها .
لكن في الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة ، في حدود الكفاية فيها ، ومن ذلك :
الاتصال بالله ، والثقة به ، والاطمئنان إلى رعايته ورضاه ، ومنها : الصحة والهدوء والرضا والبركة وسكن البيوت ومودات القلوب .
ومنها : الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة .
وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل حتى يتصل القلب بما هو اعظم وأزكى وأبقى عند الله .
إشراقة : من القواعد المقررة أن عظماء الرجال يرثون عناصر عظمتهم من أمهاتهم.
ومضة : لا إله إلا الله
الجمانة الخامسة : لا أحد اسعد من المؤمنين بالله
سهل على نفسك الامورا وكن على مرها صبورها
قرأت سير عشرات الأثرياء والعظماء في العالم الذين فاتهم الإيمان بالله عز وجل ، فوجدت حياتهم تنتهي إلى شقاء ، ومستقبلهم إلى لعنة ، ومجدهم إلى خزي ، أين هم الآن ؟ ، أين ما جمعوا من الأموال وكدسوا من الثروات ، وشادوا من القصور ، وبنوا من الدور ؟ ، انتهى كل شيء!.. فبعضهم انتحر ، والبعض قتل ، والآخر سجن ، والبقية قدموا للمحاكم ، جزاء لمعاصيهم وجرائمهم وتلاعبهم وغيرهم ، صاروا اتعس الناس ، عندما توهموا أن الأموال قادرة أن تشتري لهم كل شيء ، السعادة ، والحب ، والصحة ، والشباب ، ثم اكتشفوا بعد ذلك أن السعادة الحقيقية والحب الحقيقي ، والصحة الكاملة والشباب الحقيقي لا تشترى بمال !.. نعم يمكنهم أن يشتروا من السوق السعادة الخيالية ، والحب المزيف ، والصحة الوهمية ، ولكن أموال الدنيا كلها تعجز أن تشتري قلبا ، أو تزرع حبا ، أو تصنع هناء .
لا أحد اسعد من المؤمنين بالله : لأنهم على نور من ربهم ، يحاسبون أنفسهم ، يفعلون ما أمر الله ، يجتنبون ما حرم الله ، واسمع وصفهم في القران : )مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97)
إشراقة : ليس سعيدا من لا يريد أن يكون سعيدا .
ومضة : كل شيء بقضاء وقدر
الجمانة السادسة : حياة بلا بذخ ولا إسراف
خليلي لا والله ما من ملمة تدوم على حي وإن هي جلت
المرأة المسلمة الصالحة تعد المائدة على قدر الحاجة ، فلا يتبقى عليها من الطعام ما يوحي بإسرافها وسوء تدبيرها ، وقدوتها في ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : __ ما كان يبقى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير قليل ولا كثير )).
وفي رواية أخرى : (( ما رفعت مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها فضلة من طعام قط )).(/34)
ومما نهى الإسلام عنه ، وعده من الإسراف في المعيشة ، استعمال آنية الذهب والفضة في الطعام والشراب ، فعن أم سلمة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )).
وفي رواية لمسلم : (( إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )).
والحق أن الإسلام كان حكيما في هذا التحريم ، فهذه الأمور من الفضوليات ، ومن سمات المترفين ، والإسلام يحب دائما في اتباعه أن يكونوا متواضعين غير مترفين ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : (( إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين )).
إشراقة : عندما تكفين عن النظر إلى بؤسك الداخلي ، تغتني .
ومضة : كوني عصية على النقد
الجمانة السابعة : عمل البر يشرح الصدر
وإذا تقطعت الحبال وأوصدت أبوابنا ، فالله يكشف كربنا
روت عائشة رضي الله عنها قالت :
جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها ، فأعطت كل واحدة منهما تمرة ،ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها ، فاستطعمتها ابنتاها ، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما ، فأعجبني شأنها ، فذكرت الذي صنعت لرسول الله r فقال : (( إن الله قد أوجب لها بها الجنة ، أو اعتقها من النار )) .
وهذه أم سلمة رضي الله عنها ، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنفاقها على بنيها فقالت : هل لي أجر في بني أبي سلمة أن انفق عليهم ، ولست بتاركتهم هكذا وهكذا ، إنما هم بني ...؟
وتقرر أنها لن تتركهم قبل أن يجيبها النبي صلى الله عليه وسلم بالإيجاب ، فالفطرة إجابتها قبل إجابته .
انه الإسلام يحض على المبرات ، وفعل الخيرات ، والعطف على الأرحام وصلتهم ، وغرس الرحمة والود في المجتمع كي ينشأ الأبناء صالحين أبرارا ؟
إشراقة : كوني سعيدة .. ها هنا السعادة الحقيقية !
ومضة : المرأة زهر فواح وبلبل صداح
الجمانة الثامنة : الله ينجينا من كل كرب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا حلقت الطائرة في الأفق البعيد ، وكانت معلقة بين السماء والأرض فأشر مؤشر الخلل ، وظهرت دلائل العطل ، فذعر القائد ، وارتبك الركاب ، وضجت الأصوات، فبكى الرجال ، وصاح النساء ، وفجع الأطفال ، وعم الرعب ، وخيم الهلع ، وعظم الفزع ، ألحوا في النداء ، وعظم الدعاء : يا الله .. يا الله .. يا الله ، فأتى لطفه ، وتنزلت رحمته ، وعظمت منته ، فهدأت القلوب ، وسكنت النفوس ، وهبطت الطائرة بسلام .
إذا اعترض الجنين في بطن أمه ، وعسرت ولادته ، وصعبت وفادته ، وأوشكت الأم على الهلاك ، وأيقنت بالممات ، لجأت إلى منفس الكربات ، وقاضي الحاجات ، ونادت : يا الله . يا الله ، فزال أنينها ، وخرج جنينها .
إذا حلت بالعالم معضلة ، وأشكلت عليه مسالة ، فتاه عنه الصواب ، وعز عليه الجواب ، مرغ انفه بالتراب ، ونادى : يا الله .. يا الله ، يا معلم إبراهيم علمني ، يا مفهم سليمان فهمني ، (( اللهم رب جبرائيل وميكائيل واسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، ادئي لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )) ، فيأتي التوفيق وتحل المغاليق ، سبحانه ما أرحمه !
إشراقة : إن الإنسان الأكثر سعادة هو ذاك الذي يصنع سعادة اكبر عدد من الأشخاص .
ومضة : الله الله ... في النساء
الجمانة التاسعة : إياك والغفلة !
لا تيأسن في النوب من فرجة تجلو الكرب
إياك والغفلة ، وهي الشرود عن الذكر ، وترك الصلاة ، والإعراض عن القرآن ، وهجر المحاضرات والدروس النافعة ، فهذه من أسباب الغفلة ، ثم يقسو القلب ، ويطبع عليه ، فلا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا ، ولا يفقه في دين الله شيئا ، فيبقى صاحبه قاسيا حزينا مكدرا بائسا ، وهذه من عواقب الغفلة في الدنيا ، فكيف بالآخرة ؟ !.
وإذن فعليك بتجنب أسباب الغفلة الآنفة ، والله الله في أن يكون لسانك رطبا من ذكر الله ، تسبيحا وتهليلا وتكبيرا وتحميدا واستغفارا وصلاة على رسوله r في كل وقت وآن ، وأنت قائمة أو قاعدة أو على جنبك ، حينها تجدين السعادة تغمرك وتنهل عليك ، وهذا من أثر الذكر ؛ ) أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد: من الآية28)
إشراقة : لا تنتظري أن تكوني سعيدة لي تبتسمي ، ابتسمي لكي تكوني سعيدة !
ومضة : توقعي السعادة ولا تتوقعي الشقاء
الجمانة العاشرة : ابتسمي للحياة
ابني من الكوخ قصرا وانسجي حللا من بيتك الطين لا من قصرك العاجي
عندما تبتسمين وقلبك مليء بالهموم فإنك بذلك تخففين من معاناتك وتفتحين لك بابا نحو الانفراج .. لا تترددي في أن تبتسمي ، إن في داخلك طاقة مفعمة بالابتسام ، فحاذري أن تكتميها ؛ لأن ذلك يعني أن تخنقي نفسك في زجاجة العذاب والألم ، إنه ما ضرك أن تبتسمي ، وأن تتحدثي مع الآخرين بلغة الأعماق ، ما أروع شفاهنا عندما تتحدث بلغة الابتسامة !(/35)
إن ستيفان جزال يقول : (( الابتسامة واجب اجتماعي )) ، وهو فيما يقول صائب ؛ لأنك عندما تريدين أن تخالطي الناس يجب عليك أن تحسني مخالطتهم ، وأن تدركي أن الحياة الاجتماعية تتطلب منك مهارات إنسانية لابد وان تتقنيها ، ومن بين تلك المهارات كانت الابتسامة قدرا اجتماعيا مشتركا بين الجميع ، فأنت عندما تبتسمين في وجوه الآخرين تمنحينهم جمال الحياة ، وروح التفاؤل ، وتبشرينهم بأجمل ما يتمنون ، لكنك حينما تقابلين الآخرين بوجه نزعت الرحمة منه ، إنك تعذبينهم بهذا المنظر ، وتعكرين صفو حياتهم ، فلماذا ترضين لنفسك أن تكوني سببا في تعاسة حياة الآخرين ؟!
إشراقة : إن المجد لا يعط إلا أولئك الذين حلموا به دوما
الخاتمة
والآن ..
وبعد قراءتك لهذا الكتاب ، ودعي الحزن ، واهجري الهم ، وفارقي منازل الكآبة ، وارتحلي عن خيام اليأس والإحباط ، وتعالي إلى محراب الإيمان ، وكعبة الأنس بالله ، ومقام الرضا بقضائه وقدره ، لتبدئي حياة جديدة لكن سعيدة ، وأياما أخرى لكن جميلة ، حياة بلا تردد ، ولا قلق ، ولا ارتباك ، وأياما بلا ملل ، ولا سأم ، ولا ضجر ، حينها يناديك منادي الإيمان ، من على جبل الأمل ، في وادي الرضا ، ليهتف بالبشرى : أنت ( اسعد امرأة في العالم ) .(/36)
أسس الدعوة
إن المتأمّل في الدعوة الإسلامية يجدها قد قامت على الأسس الآتية:
الأساس الأول : الإيمان بالدعوة
لا بد لمن يعتزم القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى أن يكون مؤمنًا بها ، ومعتقدًا خيرية دعوته الإسلامية وصلاحيتها وحاجة الناس الملحّة لها.
ومما يوفر هذا الإيمان للمسلم الداعية علمه بالأمور التالية:
1- استحالة سعادة البشر عامة والمسلمين خاصة في الدنيا وفي الآخرة ما لم تكن من طريق الإسلام.
قال الله تعالى: ] .... فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)[ سورة طه .
وقال تعالى: ] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85)[ سورة آل عمران .
2- الإسلام رحمة إلهية ، والواجب فيها أن تعرض على كل فرد وفي أي مكان، ولهذا حمّل الله تعالى رسوله r مسئولية إبلاغها إلى الناس ، ونشرها بينهم فقال : ] ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ....(125)[ سورة النحل ، وقال تعالى: ] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ....(108)[ سورة يوسف ، ] قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ...(158)[ سورة الأعراف ، ] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(107)[ سورة الأنبياء .
كما ألزم أتباعه المؤمنين بأن يقوموا بنشرها ، ودعوة الناس إليها ] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104 )[ سورة آل عمران .
3- حاجة العالم إلى الإسلام اليوم لا تقل عن حاجته إليه يوم حمل المسلمون دعوته إلى الأمم والشعوب؛ إذ أن شعورًا عالمياً كبيرًا اليوم بحاجة إلى نظام عالمي سليم خاصة بعد أن جرب كل من النظامين الرأسمالي والشيوعي الاشتراكي ، وفشل كل منهما في تحقيق ما كان يرجى منه.
غير أن عرضه الجديد يجب أن لا يكون عن طريق أمة لم ترتفع بمبادئه وتعليمه إلى قمة مجد عالية؛ لأن الناس عادة ينظرون إلى المبادئ والتعليم من خلال حال صاحبها.
ومن هنا ـ وبكل صراحة ـ كان لزامًا على الدعاة المسلمين أن يبدءوا بدعوتهم الأمم والشعوب الإسلامية قبل غيرها ؛ حتى إذا نجحوا تقدموا بدعوتهم يعرضونها على أمم العالم وشعوبه المحرومة من هداية الله.
الأساس الثاني : سلامة الدعوة
الدعوة السليمة هي التي تتوفر فيها أمور:
1- لا يهدف صاحبها من ورائها إلى تحقيق أي هدف مادي أو كسب شخصي، وإنما تقوم على أساس التجرد فيها لله، كما هو أن كل المرسلين في دعوتهم ، ] وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(127)[ سورة الشعراء . وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا فَقُلْتُ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَسْأَلَنَّهُ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ : [إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا] رواه أبو داود وأحمد.
عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ : اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْأُتْبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ : هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا ] أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد.(/1)
2- الدعوة السليمة هي التي لا يكون من أغراضها نشر الشر أو إظهار الفساد، وإنما تكون أغراضها مقصورة على الخير والإصلاح ، شعار صاحبها دائمًا: ] إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(88)[ سورة هود .
3- الدعوة السليمة هيا لتي لا يكون من طبيعتها العنف أو الشدة ، ولا تقود معتنقيها إلى المشقة أو الحرج، وإنما يكون من طبيعته السهولة واليسر.
كما أنها دعوة خير؛ تهدف دائمًا إلى الخير.. وصفها الله بالخيرية في قوله تعالى: ] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104 )[ سورة آل عمران ، وبالرحمة في قوله تعالى: ] وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(17)[ سورة البلد ، وعلى لسان رسوله r في قوله: [الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ] أخرجه أبو داود والترمذي وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وهي خالية من العنف والحرج، وهاهي ذي نصوص تصرح بنفي العنف عنها والحرج؛ لذلك فالله تعالى يقول: ] ...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .....(78)[ سورة الحج، ويقول: ] مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ ...(6)[ سورة المائدة ، وقوله: ] ...يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...(185)[ سورة البقرة .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا] أخرجه الشيخان ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ]رواه مسلم وأبو داود وأحمد ، وعن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
الأساس الثالث : الوضوح
ينبغي للداعي مراعاة وضوح دعوة الإسلام ، وسلامتها من الغموض والتعقيد في عقائدها وفي عبادتها ومعاملاتها ، فيعرضها على الناس كما هي واضحة سليمة ، وليحذر إدخال عناصر غريبة عنها نتيجة تشدده أو تزمته وغلوه، فيفقدها أكبر عوامل قبول الناس لها واعتناقهم إياها، وهو الوضوح والسلامة.
الأساس الرابع : العلم بها
العلم بالدعوة يقوم على ثلاثة أمور:
أ- المعرفة بأصول الدعوة وفروعها وأهدافها وغاياتها شرط أساسي في نجاح الداعي ، وفوزه في دعوته.
والعلم بالدعوة المطلوب من الداعي هو البصيرة التي ذكر الله تعالى في قوله: ] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ...(108)[ سورة يوسف : 108].
و يتعين على الداعي أن يتضلع من علوم الشريعة الإسلامية كالتفسير والحديث والتوحيد والفقه، ومن علوم الآلة كاللغة وقواعدها وآدابها، والبيان وفنونه، والمنطق ومبادئه..
ومن المسلَّم به أن من كمال الداعي أن يكون مزوّدًا بشتى العلوم والمعارف زيادة على ما يتعلق بدعوته وأصولها، وذلك كعلم النفس وعلم النبات والحيوان وخصائصها والفلسفة، وعلم تقويم البلدان (الجغرافيا)، والكيمياء.
ومما يدل على فائدة ذلك في الدعوة أن الله تبارك وتعالى أبطل دعوة اليهود والنصارى في كون إبراهيم الخليل يهوديًا أو نصرانيًا كما زعم كل من اليهود والنصارى؛ أبطلها بحجة التاريخ فقال تعالى: ] يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(65)[ سورة آل عمران .
ب- على الداعي أن يكون عالمًا بأحوال وظروف ونفسيات من يدعوهم ويتصدى لهم.
ج- أن يختار الطريقة الصحيحة لدعوتهم ؛ فيعطي كل داء ما يحتاج من دواء، ويلبس كل حالة لبوسها الخاص بها، وإلى هذه أشار r في قوله لمعاذ رضي الله عنه: [ إنك تأتي قومًا أهل كتاب] .
الأساس الخامس : كمال شخصية القائم بها
إن كمال شخصية الداعية من أهم الأسس التي تقوم عليها الدعوات ، حيث عليه أن يعمل على تكميل شخصيته وتقويتها ؛ حتى تبلغ الممكن من الكمال البشري.
ومن أهم العناصر التي تتكون منها الشخصية القوية ما يلي:
1- اليقين: وهو أن يكون الداعي على يقين تام بصلاحية دعوته وخيريتها .(/2)
2- الروحانية: وذلك بالتجافي عن الدنيا والإقبال على النفس تطهيرًا لها وتزكية، وذلك بذكر الله وفعل الطاعات من فرض ونفل؛ حتى يبلغ حالاً تعظم فيها فراسته؛ كما روي عن عمر بن الخطاب في هذا الشأن؛ فقد قال عنه ولده عبد الله : ما قال أبي في شيء أظنه كذا إلا كان كما ظن ، وقال فيه رسول الله r : [ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ فَقَالَ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَقَال:َ[ عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي لَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ ] فَقَالَ : أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ: يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَمْ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ: إِنَّكَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِيهٍ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ] رواه الشيخان وأحمد.
3- الشجاعة : بنوعيها شجاعة القلب وشجاعة العقل:
فالأولى تحمله على أن لا يخاف غير الله تعالى ، فيمضي في حزم لا يضعف ولا ينهزم مهما لاقى من الأهوال: ] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146)[ سورة آل عمران ،وقال: ] الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)[ سورة آل عمران .
والثانية تدفعه إلى أن يجاهر برأيه ، ويصرح بعقيدته.
4- الثقافة العامة الواسعة الآفاق : والتي يكون معها ملمًا بأكبر ما يمكن من العلوم البشرية الخاصة والعامة ما كان منها وما يستجد في الحياة في حدود طاقة الداعي.
"انتهى"
اسم الكتاب: أسس الدعوة وآداب الدعاة
تأليف الشيخ/ أبو بكر الجزائري(/3)
أسلمة الديمقراطية .. حقيقة أم وهم ؟ (1/2)
24-6-2006
بقلم محمد بن شاكر الشريف
"...فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعا وفعلا لحكم الأقلية، الأقلية الغنية المثقفة المنظمة التي استطاعت أن تحول القضية لصالحها فيما يطلق عليه حكم النخبة ..."
عقيب الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي وسقوط دولته، كان هذا إعلانا بغياب القوة الرئيسة المنافسة لليبرالية الغربية، وكان في الوقت نفسه إعلانا بانتصار الليبرالية الغربية وتربعها على القمة العالمية، ومن تلك اللحظات بدأت الدعوة إلى الديمقراطية على أنها السند الشرعي لأي نظام تقوى وتنتشر، على أساس أن مرحلة الديمقراطية تمثل أفضل نظام سياسي يمكن أن تتوصل إليه البشرية، وأن التاريخ قد توقف عند هذا الحد فيما يعرف بـ"نهاية التاريخ" (كما يذكر فوكوياما) .
من هنا بدأت أغلبية الدول تسارع إلى هذا الخيار لعدم قدرتها على مناوأة الدولة العظمى المتسيدة للنظام العالمي الجديد والداعية إلى تغليب نظرتها الديمقراطية، وذلك في الوقت الذي فقدت فيه تلك الدول الحماية التي كانت تتمتع بها من الاتحاد السوفييتي الزائل، ويظن كثير من الناس أن دعوة أمريكا إلى تبني النموذج الديمقراطي وفرضه على العرب والمسلمين كان نتيجة مباشرة لما اشتهر بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد أظهرت أمريكا بعد هذا الحدث رغبة عارمة في نشر الديمقراطية في بلاد العرب والمسلمين على أنها العلاج الأكيد والناجع - من جهة مصلحتها - لهمجية العرب والمسلمين - بزعمها - .
فوجئت أمريكا في تلك الأحداث بهجمات عنيفة دامية، حيث هوجمت قلاعها الاقتصادية والعسكرية ، مما دعاها لإعلان حربها العالمية على الإرهاب، والتي كان منها الدعوة لنشر الديمقراطية حسب ما جاء في مشروع الشرق الأوسط الكبير وتبنيها لدعاوى الإصلاح، وقد فرح بذلك الكثير من الإسلاميين ورأوا فيها الفرصة الكاملة للوصول إلى الحكم لتنفيذ مشروعهم السياسي، على أساس أن نشر الديمقراطية صار مطلبا أمريكيا يخدم مصلحة أمنها القومي ولذلك فهي تدعم ذلك التوجه وتعززه، وبذلك زاد زخم الحديث عن الديمقراطية، وعن توافقها مع الإسلام، وأن الإسلام قد سبق الديمقراطية وقرر أهم خصائصها، وإذا كان هذا الحديث ليس بالجديد كلية إلا أن زخمه قد زاد بعد الحملة الأمريكية ووجد له أنصارا كثيرين .
موقف بعض الإسلاميين من الديمقراطية :
الطور الأول من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) يزعم أن جوهر الديمقراطية موجود في الإسلام، وأن الإسلام قد سبق بما أتت به الديمقراطية، أو أنه يمكن أن تتوافق الديمقراطية مع الإسلام، وأن ما يُرى بينهما من اختلاف من الممكن إزالته، يقول خالد محمد خالد بعدما ادعى أنه يوجد لحكام وقادة غير مسلمين لكنهم ديمقراطيون شواهد قريبة من سلوك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : "من أجل هذا قلنا وسنظل نقول إن الديمقراطية إسلام" ويقول : "كان عرضنا هذه المشاهد - وهي قليل من كثير - تبيانا لديمقراطية الحكم في الإسلام، واكتشافا للتخوم الواسعة المشتركة بين الإسلام كدين وبين الديمقراطية كمنهج ونظام" .
ويقول الشيخ يوسف القرضاوي : "الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام" ، وكلام كثير جدا من مثل هذا .
وأما في وقتنا الحاضر بعد ظهور اعتراضات كثيرة من الناحية العقدية على الديمقراطية وهي واضحة وقوية، فقد نحا الطور الثاني من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) إلى الفصل بين الفكر التنظيري الديمقراطي، وبين آليات الديمقراطية، فابتعد عن القبول بالأسس النظرية التي تقوم عليها الديمقراطية، لما تشتمل عليه من مصادمة صريحة للمقررات العقدية الإسلامية، بينما قبل الآليات الديمقراطية، على أساس أن الآليات هي مجرد وسائل عملية لا تنطوي على فكر أو عقيدة، بل هي آليات محايدة يستخدمها المسلم كما يستخدمها الكافر، كالسيارة التي يستخدمها المسلم في الذهاب إلى المسجد ويستخدمها النصراني في الذهاب إلى الكنيسة، وهكذا .
من أجل هذا رغبتُ في كتابة هذا المقال لبيان حقيقة الديمقراطية وهل حقا أتى بها الإسلام، أو أنه من الممكن إزالة ما بينهما من تعارض مع احتفاظ كل منهما بخصائصه المميزة، أو أنه يمكن التخلص من الأساس النظري لها وعدم التقيد به والاستفادة مما فيها من آليات مجردة عن أصولها المذهبية، وهذا أوان الشروع في المقصود :
ماذا تعني كلمة الديمقراطية ؟ :(/1)
الديمقراطية كلمة لا تينية وهي مكونة من شقين : الشق الأول demos وتعني الشعب ، والشق الثاني cratie وتعني حكم أو سلطة، فاللفظ على ذلك يعني حكم الشعب، أو الحكم للشعب، "وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة ... إلا أن لها مدلولا سياسيا والذي شاع استعماله في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة" ، فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه، فهي "تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه، وأن يحكم نفسه بنفسه، ولنفسه" .
والحكومة التي تقبلها النظرية الديمقراطية "هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس وتخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه" .
وقد تبلورت هذا الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة، وقد عُرِّفت السيادة :بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها ولا ند متفردة بالتشريع الملزم، فيما يتعلق بتنظيم شئون الدولة أو المجتمع، فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك، لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها، ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى ، والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي للشعب وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاثة جوانب رئيسة :
1- إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها، وهذه تمارسها السلطة التشريعية .
2- المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات، وهذه تمارسها السلطة التنفيذية .
3- حل المنازعات سلميا بين المواطنين انطلاقا من هذه التشريعات، وهذه تمارسها السلطة القضائية ، ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث .
تطور الديمقراطية باختلاف الأزمان والبيئات :
وليس من شك في أن الديمقراطية تطورت مع الزمن تطورا كبيرا ولم تبق على شكلها الأول الذي ظهرت به أول مرة في أثينا ، فقد كان الشعب الذين يحق لهم الحكم في بداية الفكرة قليلا بالنسبة للعدد الفعلي، فقد أخرج منه الأرقاء كما أخرج منه النساء، كما اشترط لذلك بعض الشروط كامتلاك نصاب مالي معين، والتمتع بكفاءة أو وجاهة في المجتمع، وبمرور الزمن تغير كثير من كل ذلك، إلى أن وصل إلى حق الاقتراع العامة .
كما اختلفت الصورة التي تمارس بها الديمقراطية فبعد أن كانت الديمقراطية تباشر من قبل الشعب بلا واسطة فيما عرف بالديمقراطية المباشرة، احتاجوا مع تطور الأوضاع، والانتقال من دولة المدينة - صغيرة المساحة قليلة العدد - إلى الدولة القومية - ممتدة المساحة كبيرة العدد - وقيام عوائق في سبيل العمل بالديمقراطية المباشرة، إلى تغيير الصورة من الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية غير المباشرة (النيابية)، التي ينوب فيها عن الشعب أفراد يختارهم الشعب ليحكموا بدلا عنه، كما ظهر التزاوج لاحقا بين الصورتين فيما سُمي بالديمقراطية شبه المباشرة، وذلك للتغلب على بعض السلبيات من إلغاء الديمقراطية المباشرة كليا، حيث تكون هناك موضوعات يحكم فيها الشعب حكما مباشرا، وموضوعات أخري يحكم فيها الشعب حكما نيابيا .
كما تعددت أشكال الحكومات ، فهناك النظام الرئاسي ، حيث تتركز السلطة في يد رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويكون هناك فصل شبه حاد بين السلطة التنفيذية "رئيس الجمهورية"وبين السلطة التشريعية "البرلمان" .
وهناك النظام البرلماني ، حيث تتركز السلطة في يد مجلس "برلمان" منتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويوجد هنا تداخل بين أعمال السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية .
وهناك نظام حكومة الجمعية ، حيث تتركز السلطة في يدجمعية منتخبة من الشعب وهي تجمع في يدها سلطات واختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية .
ومع كل هذه التطورات والتغيرات في الأشكال والصور، ظلت الديمقراطية تحافظ على أمر جوهري لم تحد عنه أبدا، وهو الأمر الذي تكون اسمها منه وهو أن الحكم للشعب، فلا شيء يعلو عليه، وكل سلطة في المجتمع فإنما تستمد منه، فالشعب (السياسي) كله له الحكم : فالأغلبية لها حق التفرد بالحكم، والأقلية لها حق المعارضة للأغلبية .
تأثير الفكر الديمقراطي على الدساتير العربية :
وقد ظهر هذا واضحا في دساتير البلاد العربية التي كتبت في بدايات القرن العشرين وما تلا ذلك ففي الدستور المصري المادة رقم 3 : "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها" ، وفي المادة 86 : "يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع" .
وفي الدستور السوري المادة رقم 2 في الفقرة الثانية : "السيادة للشعب، ويمارسها على الوجه المبين في الدستور" ، وفي المادة رقم 5 : "يتولى مجلس الشعب السلطة التشريعية على الوجه المبين في الدستور" .(/2)
وفي دستور السودان الانتقالي لسنة 25 في الباب الأول الفقرة الثانية : "السيادة للشعب وتمارسها الدولة، طبقا لنصوص هذا الدستور والقانون" .
وفي الدستور الأردني مادة 24 : "الأمة مصدر السلطات" ، ومادة 25 : "تناط السلطة التشريعية بمجلس الأمة والملك" .
وفي الدستور التونسي مادة رقم 3 : "الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور" ، وفي المادة 18 : "يمارس الشعب السلطة التشريعية بواسطة مجلس نيابي" .
وفي الدستور الجزائري مادة رقم 6 : "الشعب مصدر كل سلطة، السيادة الوطنية ملك للشعب وحده" ، وفي المادة رقم 7 : "السلطة التأسيسية ملك الشعب، يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها" ، وفي المادة 98 :"يمارس السلطة التشريعية برلمان يتكون من غرفتين وهما المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، وله السيادة في إعداد القانون والتصويت عليه" .
وفي الدستور المغربي مادة رقم 2 : "السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية" .
وفي الدستور القطري مادة 59 : "الشعب مصدر السلطات ويمارسها وفقا لأحكام هذا الدستور" ، وفي المادة 61 : "السلطة التشريعية يتولاها مجلس الشورى على الوجه المبين في هذا الدستور" .
وفي الدستور الكويتي مادة 51 : "السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقا للدستور" .
وبقية الدساتير لا تخرج عن ذلك من حيث المضمون وإن اختلفت الصيغ، كما أن هذه الدساتير تنص على أن نظام الحكم نظام ديمقراطي، وهي الصيغة السياسية لمصطلح السيادة الشعبية .
وهذه الخصيصة التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب الدهور تعد أكبر اختلاف حقيقي بين الإسلام وبينها، فإن قاعدة الإسلام هي توحيد الله تعالى، والتي تعني أن يكون المسلم عابدا لله وحده، وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى في أموره كلها من صلاة وصيام وحج، ومعاملات بين الناس وخصومات، وفي شئونه كلها.
فقد ورد في مواضع عديدة من كتاب الله قصر الحكم عليه سبحانه فقال تعالى : { أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام :62 ] ، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف : 4، وقال تعالى : { َفالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء :59] فلم يُحكم الله تعالى في موارد النزاع أحدا غير الكتاب والسنة، وقال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما} [النساء :65 ] فأوجب تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يشجر بين المسلمين، وأمر رسوله أن يحكم بين الناس بما أنزله عليه فقال تعالى : {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة :48] ، وقال تعالى في الآية التي تليها : {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة :49] .
فالحق عند المسلم هو ما أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أو دعا إليه، والباطل هو ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى هو الذي يشرع، وهو الذي يأمر وينهى، وهو الذي يُلزم، وهو الذي يعاقب على المخالفة ويثيب على الطاعة، فالسيادة الكاملة إنما هي لله تعالى وحده، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (السيد الله) .
بينما الحق في الديمقراطية هو ما أمر به الشعب، والباطل هو ما نهى عنه الشعب، وإرادة الشعب هي معيار الخطأ والصواب، فما أقرته وقبلته فهو الصواب وما تركته ولم تقبله فهو الخطأ، فالإرادة الشعبية معصومة، ومن هنا فإن الديمقراطية قد رفعت الشعب إلى المنزلة التي لا تليق إلا بالله تعالى، وهذا الفرق لا يستطيع أن ينكره أحد، إلا عن طريق الكذب والتضليل لخداع الناس وإيهامهم، وتعريفات الديمقراطية في بلد المنشأ تدل على ذلك، بل ابتعاد الديمقراطية عن الدين هو أحد مسوغات الدعوة إليها .(/3)
والديمقراطيون الحقيقيون لا يعدون هذا عيبا أو نقصا يحاولون التبرؤ منه، بل هو عندهم من مميزات الديمقراطية، فكما يبين أحدهم أنه يستحيل تعريف الديمقراطية "دون تحرير الذهن من الأحكام المسبقة مهما كانت، أي إعطاء مسئولية القرار للشعب دون تقيد مسبق بأي قيد نصي أو تشريعي أو فقهي، فالناس وفق هذا المنطق هم الذين يملكون حق السيادة والمرجعية في شئونهم التعاقدية الوضعية" ، وبهذا يتم فك أي ارتباط إيجابي بين الديمقراطية وبين الدين، فالديمقراطية تبعد الدين عن التدخل في الحياة العامة للمجتمع، وهي بذلك تكون الوجه السياسي للعلمانية، وهذا لا شك اختلاف جذري بين الإسلام والديمقراطية ولا يمكن تقريب الديمقراطية من الإسلام إلا بالتخلي عن هذا الوصف الجوهري في الديمقراطية، لكن إذا أمكن التخلي عن هذا الوصف في محاولة التقريب، هل يظل ما بقي منها باسم الديمقراطية ؟
في حين لا يمثل الشعب أية مرجعية في الحكم، هذا ما تأباه قواعد اللغة ويأباه العقل والمنطق، ولا يمثل الإبقاء على الاسم في هذه الحالة إلا القبول بالتبعية الفكرية، واختزال الفكر الإنساني كله في الفكر الغربي .
لكن هل استطاعت الديمقراطية أن تحقق هذا الذي زعمته وادعته ؟
يقسم الفكر الديمقراطي الشعب إلى فئتين :إحداهما يمكن تسميتها بالشعب السياسي، وهو الذي تكون له السيادة، والفئة الثانية هي المتبقية من مجموع الشعب، وهي التي لا دخل لها بهذه السيادة، وهذه الفئة تغيرت بتغيير الأزمان، فقد كانت في أول الأمر تشمل الأرقاء وتشمل النساء والأطفال غير البالغين، والرجال غير المتعلمين، والفقراء، وغير النبلاء في المجتمع، وهم يمثلون الأغلبية العددية في المجتمع، وقد كان النظام الذي يمنع كل هذه الفئات من السيادة ينظر إليه على أنه نظام ديمقراطي، مما يبين أن السيادة الشعبية كانت مجرد شعار لا رصيد لها يسندها من الواقع، ثم بمرور الزمن تغيرت هذه الفئة، لكنها ما زالت حتى الآن تشمل الصبيان الذين لم يبلغوا سنا معينة (18عاما) إضافة إلى المحكوم عليهم في بعض القضايا التي تحددها القوانين .
وإذا تجاوزنا هذه النقطة وانتقلنا إلى الدستور الذي يعد أعلى وثيقة قانونية في النظام الديمقراطي يلتزم بها الجميع ويحنون هاماتهم لها، واتخذناه مثالا للحديث، نجد أن الشعب لم يكن هو الذي وضع هذه الوثيقة، وإنما وضعها مجموعة من الناس ممن تخصصوا في الأمور القانونية والمسائل السياسية، وهي لا شك مجموعة صغيرة جدا جدا بالمقارنة إلى عدد الشعب (السياسي) مما يعني أن السيادة الشعبية لم تكن هي التي صاغت أعلى وثيقة قانونية يتحاكم إليها في البلاد، ولو قيل : لكن هذا الدستور لا يُقَر إلا بعد الموافقة عليه من الشعب عن طريق التصويت وأخذ الآراء، فإن ذلك أيضا لا قيمة له لعدة أمور :
أولا: تشتمل هذا الوثائق على مسائل فنية تخصصية لا يدركها إلا المتخصصون وهم قلة قليلة في أي مجتمع، فموافقة غيرهم عليها ليس له قيمة حقيقية ، وكذلك اعتراضهم لا قيمة حقيقية له، فإن الموافقة أو الاعتراض الناشئين عن مجرد الرغبة أو الاستجابة للدعابة ووسائل الإعلام، من غير علم حقيقيي بالمسألة والقدرة على تبيان ما فيها من إيجابيات أو سلبيات لا يساوي شيئا في ميزان تقويم الآراء .
ثانيا : لو تجاوزنا هذه النقطة فإنه دائما ما لا يحصل إجماع على تلك الوثائق، بل يقبلها طائفة ويرفضها آخرون، ذلك أنه في ظل عدم وجود مرجعية متفق عليها بين الناس ويخضعون لها - خارجة عن الإنسان نفسه - فإنه يستحيل أن يتفق الناس كلهم أو أغلبهم على رأي واحد في عشرات بل مئات المسائل المهمة، وإذا أُقرت هذه الوثائق لكون الموافق عليها أكثر من المعترض، فمعنى ذلك أن هناك مجموعة كبيرة من الشعب (السياسي) وهي قد تصل إلى الثلث أو قريب من النصف (على حسب الأغلبية المعتد بها في هذه المسائل)، لم يكن لنصيبها من السيادة الشعبية أثر في إقرار هذه الوثيقة، على أن موافقة الموافق لا تعني بالضرورة موافقة حقيقية، إذ ربما تكون الموافقة نتيجة ضغوط من أطراف خارجية، أو تدخل الإعلام الموجه الذي يقوم بدور كبير في صناعة وتشكيل آراء الناس وتصوراتهم، أو نتيجة الاتفاق على تقسيم المغانم بين الفئات المؤثرة في التصويت، وأقرب مثال لذلك ما حدث في إقرار الدستور العراقي الذي وضع بعد الاحتلال .
بل إن الأساس الذي يعتمد عليه في بيان الأغلبية المعتد بها، هل هو الأغلبية المطلقة (أي ما زاد على 5% ولو كان بصوت واحد) أو أغلبية الثلثين أو غير ذلك، هو نفسه يحتاج إلى إجماع الشعب (السياسي) حتى يمكن أن يؤسس عليه ما يأتي بعده، وإلا لم يكن هناك أي معنى للحديث عن السيادة الشعبية المتخذة عن هذا الطريق، وهذا الإجماع نادر الحدوث، وعادة ما لا يحدث أبدا .(/4)
ثم إن الذين يحق لهم الدخول تحت مسمى الشعب السياسي، كثير منهم لا يشارك في عمليات الانتخاب والتصويت، مما يجعل الأغلبية عند حدوثها هي أغلبية من شارك في التصويت لا أغلبية الشعب السياسي، ولو أننا أخذنا مثالا قريبا من انتخابات قد جرت في مصر فقد فاز الرئيس المصري بالانتخابات بنسبة تجاوزت الثمانين في المائة لكن لو نظرنا كم فردا اشترك في الإدلاء بصوته ممن يحق لهم المشاركة، لم نجده يتجاوز نسبة الـ (24%)، حسب الإحصاءات الرسمية، وما يجري في كثير من الدول لا يختلف عن هذا .
ثالثا : ولو تجاوزنا هذه النقطة ونظرنا إلى الدستور الذي تم إقراره، فإنه بعد جيل أو جيلين يكون الذين أقروا هذا الدستور جيفا تحت التراب، وهذا يعني إثبات السيادة والإرادة لأناس أموات، وهو ما يعني في الوقت نفسه، أن الأحياء محكومون بإرادة الموتى، وليس بإرادتهم، فأين السيادة الشعبية في هذا .
رابعا : ولو تجاوزنا مرة أخرى هذه النقطة، فإن الأطفال الذين كانوا أطفالا وقت كتابة الدستور وإقراره، قد صاروا بعد زمن رجالا لهم جزء من السيادة، فأين تأثير هذه السيادة على الدستور والقوانين المنبثقة عنه في إدارة البلاد .
وفي تحديد الشعب نفسه :
ما الذي يجعل العربي والكردي في العراق يمثلون شعبا واحدا، وكذلك الكردي والتركي في تركيا يمثلون شعبا واحدا، والعربي والبربري في الجزائر يمثلون شعبا واحدا، كل فرد منهم له جزء من السيادة، بينما العربي الأردني أو المصري أو السوري المقيم في بلد عربي آخر لا يعد من شعب ذلك البلد، ومن ثم لا يمثلون شعبا واحدا ؟ ولا شك أن هذا المقيم في بلد ما تجري عليه أحكام هذا البلد، وهو في الوقت نفسه لا يعد من الشعب فليس له أية حقوق في ممارسة الحكم فيه، (وهذا أمر يقره الفكر الديمقراطي) ما يعني أنه ليس له نصيب في السيادة الشعبية، وهنا تخفق الديمقراطية في تقديم التفسير المقنع لرضوخ هذا المقيم أو إجباره على الالتزام بأحكام البلد الذي يقيم فيه، من غير أن يكون له نصيب من السيادة أو ممارسة الحكم فيه .
وبالانتقال من كل ذلك نجد أن المؤهلين لممارسة الحكم باقتدار حقا، ليسوا هم الشعب كله، بل هم مجموعة أناس معينين محدودين، مما يجعل الحكم محصورا فيهم إلى حد كبير، وبذلك يتحول دور الشعب من كونه الممارس للحكم، إلى الاقتصار على اختيار القادة الأكفاء ليقوموا بممارسة الحكم، وهو لا يمارس هذا الحق إلا مرة كل عدة سنوات عندما تحين مواعيد الانتخابات، وفي كل هذا قضاء على قضية السيادة الشعبية، وهو ما يؤول في النهاية أن تكون الديمقراطية بحق هي حكم الأقلية وليس حكم الأكثرية .
فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعا وفعلا لحكم الأقلية، الأقلية الغنية المثقفة المنظمة التي استطاعت أن تحول القضية لصالحها فيما يطلق عليه حكم النخبة "ففي الأنظمة الغربية لا يحكم الشعب كما تفترض النظرية، ولكن الذي يحكم هي تلك الأقلية التي تسمى النخبة، ومن ثم ففي الغرب نخبة ديمقراطية تحكم بسبب ما يتوفر لها من قدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة، وبحكم بعض المزايا الموروثة وغيرها من العوامل "ويحق لنا بعد ذلك كله أن نقول : إن اعتبار الشعب هو الذي يحكم في النظام الديمقراطي، يعد من الخدع الكبرى في تاريخ الأنظمة السياسية" .
هذا العيب الجوهري في الديمقراطية الذي يجعل السيادة للشعب - وهو الأمر الذي تشبثت به ولم تستطع تحقيقه في واقعها، وذلك لعدم واقعيته - هو نقطة الضعف القاتلة لها في شريعة الإسلام، وهو ما دعا الكثيرين ممن يريدون جعل الديمقراطية من مكونات النظام السياسي الإسلامي أو إدخالها فيه - وذلك بغرض الخروج من حالة الاستبداد التي تعيشها كثير من شعوب الأمة الإسلامية - إلى تجاوز هذه النقطة تحت الدعوة إلى الاستفادة من آليات الديمقراطية، دون التمسك بالأساس النظري لها أو الاعتماد عليه، على أساس أن هذه النظرة المذهبية أو الفلسفية للديمقراطية كانت مرتبطة بزمن النشأة وظروفها، وقد تجاوزتها الديمقراطية في تطبيقاتها المعاصرة، ولم تعد تعول على هذا الأساس، أو ترتبط به .
فهم يرون أن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل، والاستقلال في الرأي والتفكير، والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة، وفي القدرة على الإنكار على الحكومات، وتغييرهم عند الخروج عن الجادة، وفي حق التملك وحق الأمن وغير ذلك، كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون، ويرون أن هذه الأمور لا ترتبط بالأساس النظري للديمقراطية الذي قامت عليه الديمقراطية، بل هي آليات تنظيمية، وطرائق عملية للحفاظ على حقوق الناس وحرياتهم، وتأمين تداول السلطة بينهم بطريقة سلمية، كما أنها من الأمور المشروعة في الإسلام .(/5)
لكن هنا نقطة مهمة غابت عن أصحاب هذا الرأي، الذين يحاولون سلخ الديمقراطية من أصلها وذلك أن هذا رأيهم ولا يعبر عن الشعب السياسي كله، فالشعب السياسي حسب الفكر الديمقراطي يدخل فيه المواطن المسلم كما يدخل فيه المواطن الكافر، والمسلمون منهم المسلم حقيقة ومنهم غير ذلك كالعلمانيين والحداثيين والقوميين وغيرهم، وهؤلاء يصرون على ارتباط الديمقراطية بأصلها الذي خرجت منه، ولا سبيل - ديمقراطيا - بإلزامهم بغير ذلك .
ولا شك أن العمل الديمقراطي القائم على الأساس الفلسفي للديمقراطية يتناقض مع المقررات الإسلامية كما ظهر، فإن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى وهذا ما لا يقول به مسلم أو يقبله، ولعل في ظهور هذا العيب الواضح في الديمقراطية، ما يدعونا إلى عدم الوقوف أمامه ويكفي فيه ما تقدم، ويبقى الحديث عن التصور الذي يتناول الديمقراطية بوصفها آليات، أو منهج عمل، من غير استناد إلى فكرة أو تصور مذهبي أو فلسفي، وهذا هو موضوع المقال القادم إن شاء الله .(/6)
أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته أهل الكتاب
د. بشرى محمد أحمد*
مقدمة:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله، و أشهد أن لا إله إلا الله خصنا بخير كتاب أنزل، و أكرمنا بخير نبي أرسل، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله، بلغ الرسالة، و أدى الأمانة و نصح الأمة و جاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه و سلم و على آله و صحبه أجمعين.
كان الرسول يختار في تعليمه من الأساليب أحسنها و أفضلها، و أوقعها في نفس المخاطب و أقربها إلى فهمه و عقله، و أشدها تثبيتاً للعلم في ذهن المخاطب، و كان النبي صلى الله عليه و سلم يلوِّن الحديث لأصحابه ألواناً كثيرة، فتارة يكون سائلاً و تارة يكون مجيباً، و تارة يجيب السائل بقدر سؤاله، و يزيد على ما سأل، و تارة يضرب المثل لمن يريد تعليمه، و تارة يصحب كلامه القسم بالله تعالى ليؤكد ما يقوله، و تارة يلفت السائل عن سؤاله لحكمة بالغة منه، و تارة يعلِّم بطريق الكتابة، و تارة بطريق الرسم، و تارة بطريق التشبيه أو التصريح.
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يورد الشبهة ليذكر جوابها، و تارة يسلك سبيل المداعبة و المحاجاة فيما يعلمه، و تارة يمهد لما يشاء تعليمه و بيانه تمهيداً لطيفاً لما يريد بيانه، و تارة يسلك سبيل المقايسة بين الأشياء، و تارة يشير إلى عللها لذكر جوابها، و تارة يسأل أصحابه و هو يعلم ليمتحنهم بذلك، و تارة يسألهم ليرشدهم إلى موضع الجواب، و تارة يلقي إليهم العلم قبل السؤال.
إن دعوة غير المسلمين و خاصة أهل الكتاب يجب أن تكون مؤثرة و بأساليب متعددة، لأن بعض الناس قد لا يستجيب للدعوة إلا أن يرى شيئاً عظيماً يجعله يقف مبهوراً معجبا، شيئاً يشده إلى الإسلام شداً و يجعله يعيد حساباته.
إن ملكة سبأ كانت تعبد الشمس هي و قومها عندما دعاها سليمان عليه السلام إلى الإسلام، و لكنها أبت إلا أن تنقاد مع اعترافها بضعفها أمام قوة سليمان و جنوده، و لكن عندما دخلت الصرح وحسبته لجة: (قالت رب إني ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان لله رب العالمين) (سورة النمل – الآية 144).
لقد عرضت عليها مظاهر القوة الخارقة لتؤثر على قلبها و تقودها إلى الإيمان.
و لكن في الإسلام ليس الأصل هو المعجزات المادية، و إن جاءت عفواً و إكراماً فلا بأس. و كان صلى الله عليه و سلم لا يعتمد في دعوته إلى الله على المعجزات المادية، بل على معجزة القرآن فقط.
إن الرسول صلى الله عليه و سلم اتخذ أساليباً متعددة مع أهل الكتاب في دعوتهم للدخول في الإسلام، و قد شملت دعوته، الدعوة باللسان حيث أقام الأدلة القاطعة على إرساله لهم، و أقام عليهم الحجة حين حاولوا غير مرة تعجيزه بأسئلة يوجهونها إليه و يجيبهم فيها وفق أسئلتهم.
و كان صلى الله عليه و سلم تارة يرغبهم في الإسلام و يبين لهم محاسنه، و تارة يرهبهم و يحذرهم،. و كان من جملة أساليبه صلى الله عليه وسلم في دعوته أهل الكتاب أنه صلى الله عليه و سلم دعاهم دعوة خاصة، و كان يظهر لهم حلمه و صفحه و يظهر لهم المعجزة، و يعرِّفهم موافقة القرآن لما في التوراة، و موافقة أهل الكتاب فيما ليس فيه نص، و إباحته ذبائح أهل الكتاب و نسائهم، و قبول الهدية من أهل الكتاب، و وصيته صلى الله عليه و سلم على أهل الذمة، و إخبار اليهود بما ينتظرهم من عذاب.
أهمية البحث:
أولاً: إظهار سماحة الإسلام وتعايشه مع الأديان الأخرى.
ثانياً: تعريف إخواننا المسلمين كيفية معاملة أهل الكتاب وبخاصة في السودان و نحن نستشرف السلام.
ثالثاً: إظهار أن الإسلام لم يفرض بالقوة على أهل الكتاب.
مشكلة البحث:
تتلخص مشكلة البحث في مفهوم كثير من المسلمين في محدودية التعامل مع أهل الكتاب و الكف عن دعوتهم إلى الدخول في الإسلام رغم اختلاطهم في العمل في السكن. و أردت بهذا البحث توضيح المنهج الشرعي في كيفية التعامل مع أهل الكتاب و دعوتهم إلى الإسلام أسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم، و كذلك الرد على أعداء الإسلام في أن الرسول صلى الله عليه وسلم أدخل الناس في الإسلام عن طريق القوة.
خطة البحث:
يتكون البحث من مقدمة و تمهيد و مبحثين و خاتمة و فهرس للمصادر و المراجع.
تمهيد:
(أهل الكتاب) كلمة تطلق على كل من يدين باليهودية أو النصرانية و لو لم يكن من أصل بني إسرائيل الذين أنزلت على رسلهم التوراة و الإنجيل. قال تعالى: (قل ياأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم و ما أنزلت التوراة و الإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون)(سورة آل عمران- 107).
قال سعيد بن جبير (رحمه الله): عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( كان محمد صلى الله عليه و سلم رحمة لجميع الناس، فمن آمن به و صدق به سعد، و من لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف و الغرق)[1]
و قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) ( سورة الأعراف- جزء من الآية158).(/1)
و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، و جعلت لي الأرض مسجداً و طهورا، و أيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصلي، و أحلت لي الغنائم، و كان النبي يبعث إلى قومه خاصة و بعثت إلى الناس كافة، و أعطيت الشفاعة). [2]
من هذه النصوص يظهر أن أهل الكتاب من ضمن المدعوين. لذلك دعاهم الرسول صلى الله عليه و سلم دعوة عامة ضمن الناس، و كذلك دعاهم دعوة خاصة كما سيأتي في المباحث القادمة إن شاء الله.
شبهة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (لا تبدأوا اليهود و لا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه) [3]
عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه و إن كان مجوسياً ذلك بأن الله يقول: فحيوا بأحسن منها أو ردوها). و قال قتادة فحيوا بأحسن منها يعني للمسلمين أو ردوها يعني لأهل الذمة)[4]
قال ابراهيم النخعي: ( إذا كانت لك حاجة فابدأه بالسلام) فبان لهذا أن الحديث (لا تبدءوهم بالسلام) إذا كان لغير سبب مثل جوار أو سفر. و قد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب، و فعله ابن مسعود بدهقان صحبه في الطريق، قال علقمة: يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أن يبدءوا بالسلام؟ قال نعم و لكن حق الصحبة [5].
(فاضطروهم إلى أضيقه) (معناه لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراماً لهم و احتراما، و ليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم لأن ذلك أذى لهم و قد نهينا عن أذاهم بغير سبب)[6].
و روي عن ابن مسعود و أبي الدرداء و فضالة ابن مسعود رضي الله عنهم أنهم كانوا يبدؤون أهل الذمة بالسلام. و عن ابن مسعود أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب السلام عليك، و عنه أيضاً أنه قال : لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه مثله. و روى الوليد بن مسلم عن عروة بن رويم قال: رأيت أبا أمامة الباهلي يسلم على كل من لقي من مسلم و ذمي[7].
و مما ذكر يتضح أن الحديث قيل في ظروف استثنائية في المدينة المنورة، و الأصل هي المعاملة الطيبة في قوله سبحانه و تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم)(سورة العنكبوت – جزء من الآية46).
و لا خلاف في أن القتال كان محظوراً قبل الهجرة لقوله تعالى في السور المكية: (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو و أعرض عن المشركين)(سورة الأنعام- آية 106).
(ولا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه وليٌّ حميم)(سورة فصلت- آية 34) (و اصبر على ما يقولون و اهجرهم هجراً جميلا)(سورة المزمل- آية10).
كانت الآيات المكية تحث على العفو و الصفح. فلما هاجر النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة أمر بالقتال فنزلت أول آية في القتال، قاله الربيع بن أنس و غيره[8] (و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(سورة البقرة- آية190).
لما نزلت هذه الآية كان النبي صلى الله عليه و سلم يقاتل من قاتله و يكف عمن كفَّ عنه حتى نزلت الآية[9] (و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)(سورة التوبة-جزء من الآية36).
إن الآية الأولى أوجبت قتال المعتدين فقط و ليس غيرهم. أما الثانية فأوجبت قتال المشركين و ليس أهل الكتاب.
مما سبق يتضح بأن أهل الكتاب لهم وضع خاص في ظل الإسلام، لذلك كان النبي صلى الله عليه و سلم يدعو أهل الكتاب بوجه عام ليشملهم بتلك الدعوة و تارة يخص بدعوته اليهود، و تارة يخص بها النصارى، و لنشرع الآن في بيان أسلوبه صلى الله عليه و سلم في دعوته أهل الكتاب على ضوء الكتاب و السنة. علماً أن الكتاب و السنة يخرجان من مشكاة واحدة، ألا وهو سبحانه و تعالى. قال تعالى : (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)(سورة النجم- آيات 3،4)، فالسنة إما أن تكون مثبتة و مؤكدة ما جاء في القرآن أو مفسرة و مبينة له أو تأتي بحكم سكت عنه القرآن.
المبحث الأول: دعوته صلى الله عليه و سلم أهل الكتاب:
كان صلى الله عليه و سلم يدعو الناس بمختلف اتجاهاتهم و يبلغهم رسالة ربه، و من ضمنهم أهل الكتاب. و قد كان صلى الله عليه و سلم يدعو أهل الكتاب دعوة خاصة، و كان تارة يدعوهم بوجه عام اليهود و النصارى، و تارة يخص بدعوته اليهود، و تارة يخص بدعوته النصارى.
المطلب الأول: دعوة أهل الكتاب بوجه عام:
قد امتثل صلى الله عليه و سلم أمر ربه حيث أمره بذلك في قوله تعالى: (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئاً و لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباب من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)(سورة آل عمران – آية 64).(/2)
هذا خطاب موجه إلى أهل الكتاب يأمر فيه الله سبحانه و تعالى نبيه الكريم محمد صلى الله عليه و سلم أن يقول: ( يا معشر اليهود و النصارى هلموا إلى كلمة عادلة مستقيمة فيها إنصاف بعضنا من بعض و أن نفرد الله و حده بالعبادة و لا نجعل له شريكاً، أي لا يعبد بعضنا بعضاً كما عبد آباؤكم من اليهود و النصارى عزيراً و عيسى، و أطاعوا الأحبار و الرهبان فيما أحلوا لهم و حرموا)[10] هذا خطاب فيه خصوصية لأهل الكتاب لأنهم أهل علم و دراية بدين سابق.
و كان النبي صلى الله عليه و سلم يدعو أهل الكتاب كافة، و كان التأكيد أقوى في مخاطبته الملوك و الزعماء، لأن من كان ذا مسئولية و رعاية عظيمتين كان التبعة عليه أعظم، من هذا المنطلق كتب صلى الله عليه و سلم إلى هرقل عظيم الروم خطاباً لطيفاً فيه تبشير و تنذير قال فيه: ( بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله محمد عبد الله و رسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن عليك إثم الإريسيين[11]
قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث : (الأريسيين هم الأكارون أي الفلاحون و الزراعون و معناها أن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك و ينقادون بانقيادك، و بهؤلاء على جميع الرعايا لأنهم الأغلب و لأنهم الأسرع انقياداً فإذا أسلم أسلموا و إذا امتنع امتنعوا)[12].
و المعنى أنه إذا آمن له أجران أجر لأيمانه بالرسول السابق، و أجر لإيمانه بمحمد، و إذا لم يؤمن أن عليه إثم الضعفاء و الأتباع في مملكته إذا لم يسلموا تقليداً له، لأن الأصاغر أتباع الأكابر.
و في دعوته لليهود و النصارى قال: ( و الذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي و لا نصراني، ثم يموت و لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)[13] و في هذا الحديث خص النبي صلى الله عليه و سلم اليهود و النصارى رغم أن لهم كتباً سماوية أمروا باتباع ما فيها، و فيه كذلك دليل على نسخ الملل كلها برسالة نبيِّنا محمد صلى الله عليه و سلم.
و في حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه و آمن بمحمد صلى الله عليه و سلم، و العبد المملوك إذا أدى حق الله و حق مواليه، و رجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها و علمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران)[14]. و في هذا الحديث جعل الرسول صلى الله عليه و سلم أسلوب الترغيب لأهل الكتاب منهجاً في دعوته حيث أخبرهم أن الذي آمن بنبيه و آمن بمحمد صلى الله عليه و سلم له أجران، و كذلك يرى الكتابي أنه له مزية على المشرك حيث كان للمشرك أجر واحد، فيعلم بذلك أن الإسلام يقدر الأديان السابقة و يرفع من شأنها.
المطلب الثاني: دعوة اليهود بوجه خاص:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: (انطلقوا إلى يهود، فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس[15]، فقام النبي صلى الله عليه و سلم فناداهم يا معشر يهود إسلموا تسلموا فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم، فقال ذلك أريد، ثم قالها الثانية، فقالوا قد بلغت يا أبا القاسم، ثم قال الثالثة، فقال : إعلموا أن الأرض لله و رسوله و إني إريد أن أجليكم فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه و إلا فاعلموا أن الأرض لله و رسوله)[16] . و الظاهر أن هؤلاء بقايا من اليهود تأخروا بعد إخراج قبائل اليهود الثلاثة بني قينقاع و بني النضير و بني قريظة، لأن القبائل الثلاثة أجليت من المدينة قبل إسلام أبي هريرة رضي الله عنه[17] .
في هذا الحديث تصريح منه صلى الله عليه و سلم لليهود بالدعوة و إخباره لهم أن سلامتهم من خزي الدنيا و عذاب الآخرة في إسلامهم و اتباعهم لما جاء به من عند الله، أي تسلموا في الدنيا من القتل و في الآخرة من العذاب [18]. و قد أخذ صلى الله عليه و سلم الاعتراف من اليهود بأنه بلغهم رسالته، و هذه دلالة على دعوته الخاصة لهم.
المطلب الثالث: دعوة النصارى بوجه خاص:
قال تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)(آل عمران- آية 61).
إن أسلوبه صلى الله عليه و سلم إما ترغيب أو ترهيب، في هذه الآية يتحدى صلى الله عليه و سلم نصارى نجران بأن يتركوا كلامهم عن ألوهية عيسى و ذلك بالتضرع إلى الله تعالى أن ينزل لعنته على الكاذبين، و هذا من حرصه صلى الله عليه و سلم أن يدخلوا الإسلام، و لكن النصارى لم يأمنوا عاقبة الملاعنة فتركوها و رضوا بالجزية[19]. رغم أنهم اعتقدوا بصدق النبي صلى الله عليه و سلم، لذلك لم يباهلوا بل فروا منه و لم يؤمنوا و يدخلوا في الإسلام.
المبحث الثاني: أسلوبه صلى الله عليه و سلم في دعوة أهل الكتاب:
المطلب الأول: حلمه و صفحه صلى الله عليه و سلم:(/3)
إن الحلم عن أهل الكتاب و الصفح عن زلاتهم و لين الجانب معهم أسلوب حكيم من أساليبه صلى الله عليه و سلم لهم و سبب في دخولهم الإسلام، و قد امتثل صلى الله عليه و سلم أمر ربه حيث أمره بذلك في قوله: (لتبلون في أموالكم و أنفسكم و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذىً كثيرا، و أن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)(سورة آل عمران- آية 186).
و في الآية خطاب للمؤمنين عند مقدمهم قبل واقعة بدر تسلية لهم عما ينالهم من الأذى من أهل الكتاب و المشركين و أمراً لهم بالصفح و الصبر و العفو حتى يأتي فرج الله . قال ابن حاتم إن أسامة بن زيد قال: (كان النبي صلى الله عليه و سلم يتأول العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم)[20]
و في آية قرآنية أخرى يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب و يعلمهم بعداوتهم في الباطن و الظاهر و ما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم و فضل نبيهم، و يأمر عباده المؤمنين بالصفح و العفو و الاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر أو الفتح[21]. قال تعالى في المعنى السابق: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره)(سورة البقرة-آية109).
و من حلمه صلى الله عليه و سلم على أهل الكتاب أنه استلف تمراً من يهودي إلى أجل معلوم، فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة، فلما وضع الميت في قبره قام اليهودي فقال: يا محمد ألا تقضيني تمري؟ فو الله ما أعلمكم يا بني عبد المطلب إلا تمطلون الناس بحقوقهم. فهمَّ عمر رضي الله عنه بضرب اليهودي، فقال له صلى الله عليه و سلم: ياعمر أنت إلى غير هذا أحوج، أن تأمره فيحسن طلبه، و تأمرني فأحسن قضاءه. ثم أمره أن يذهب إلى حائط أحد الإشخاص و أن يكيل له بعد رضائه ثم يزيد كذا صاعاً لتعنيف سيدنا عمر إياه. فقال اليهودي لعمر: إنه لم يكن بقي شيئ مما وجدنا في كتابنا مما وصف لنا موسى عليه السلام، إلا قد رأيناه في محمد صلى الله عليه و سلم، إلا الحلم فقد رأيناه الآن، فشهد شهادة الحق و آمن، ثم مات اليهودي فخرج النبي صلى الله عليه و سلم فحمل سريره على عاتقه الأيسر[22] رغم تجاوز هذا اليهودي في سبه صلى الله عليه و سلم ثم سب بني عبد المطلب جميعاً، و طلب دينه في وقت غير مناسب، إلا أنه صلى الله عليه و سلم كان حليماً بهذا اليهودي، لذلك كان رد الفعل إسلامه الفوري. و هذا أسلوب حكيم للرسول صلى الله عليه و سلم مع أهل الكتاب لدعوتهم لدخول الإسلام.
المطلب الثاني: إظهار المعجزة لأهل الكتاب طمعاً في إيمانهم:
إن الله سبحانه و تعالى قد أعطى بعض أنبيائه من البينات ( المعجزات) و ذلك لتصديقهم فيما جاءوا به. و قد أيد الله سبحانه و تعالى نبيه موسى عليه السلام بتسع آيات : العصا و اليد و السنين و نقص من الثمرا ت و الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم التي فيها حجج وبراهين على فرعون و قومه و خوارق و دلائل على صدق موسى عليه السلام، و كذلك أعطى عيسى بن مريم عليه السلام إحياء الموتى، و خلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، و إبراء الأسقام، و إخباره بالغيوب، و تأييده بروح القدس و هو جبريل عليه السلام ما يدل على صدقه فيما جاءهم بهي.
أما النبي محمد صلى الله عليه و سلم كانت معجزته الكبرى القرآن، إلا أنه كان يظهر لأهل الكتاب بعض المعجزات التي كانت تتحقق على يديه علهم يؤمنون به كما آمنوا بأنبيائهم السابقين موسى و عيسى عليهم السلام.
روى ابن عباس رضي الله عنهما، أنه حضرت عصابة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسألوه عن أربعة أشياء لا يعلمهن إلا نبي كما ذكروا له ذلك و هي: الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، و ماء المرأة و ماء الرجل كيف يكون منه الذكر و الأنثى، و إخبار هذا النبي الأمي في النوم و وليه من الملائكة، و قد أخذ عليهم النبي صلى الله عليه و سلم المواثيق و العهود إذا أجابهم وفق ما يعلمون أن يدخلوا الإسلام، و كانت الإجابة أن يعقوب عليه السلام مرض مرضاً شديداً و طال سقمه فنذر نذراً لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمن أحب الشراب و أحب الطعام إليه، و كان أحب الطعام إليه لحم الإبل، و أحب الشراب إليه ألبانها. و الإجابة الثانية أن ماء الرجل أبيض غليظ و أن ماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا كان له الولد و الشبه بإذن الله. و الإجابة الثالثة أن هذا النبي الأمي تنام عيناه و لا ينام قلبه، فالإجابة الأخيرة أن جبريل هو ولي الرسول صلى الله عليه و سلم و جميع الأنبياء.(/4)
و في هذا الحديث يبين الرسول صلى الله عليه و سلم لأهل الكتاب بعض المغيبات التي لم يحضرها و لم يقرأ عنها و إنما هي وحي يوحى إليه، و أخبرهم بما سألوه عنه طبق ما يعلمون في كتبهم السماوية المنزلة على أنبيائهم ليؤمنن به و ليتبعنه. و لكن اليهود حاولوا التخلص من العهد الذي التزموا به مع النبي صلى الله عليه و سلم بحجة بغضهم لجبريل عليه السلام[23]، قال تعالى فيهم: ( قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه و هدى و بشرى للمؤمنين)(سورة البقرة- آية97).
المطلب الثالث: إثبات موافقة الشريعة الإسلامية لما في التوراة:
كان النبي صلى الله عليه و سلم يبين لأهل الكتاب أن كتابه الذي أنزل عليه توافق أحكامه أحكام الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام، فإذا تحقق التوافق حينئذ فإنه رسول من عند الله صدقوا برسالته و دخلوا في دين الإسلام.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: ( إن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذكروا أن رجلاً منهم و امرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما تجدون في التوراة في الرجم؟) فقالوا: نفضحهم و يجلدون. قال عبدالله بن سلام كذبت إن فيها الرجم)، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها و ما بعدها، قال له عبدالله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم. قالوا صدقت يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجما، فرأيت الرجل ينحني على المرأة يقيها الحجارة)[24]
و في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقنعهم أن كتاب الله الذي أنزله على نبيهم موسى عليه السلام يوافق كتابه الذي أنزله في شأن الرجم على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم و هذا أسلوب لدعوته صلى الله عليه و سلم أهل الكتاب لدخول الإسلام.
قال الإمام ابن حجر في قوله صلى الله عليه و سلم: ( ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟) قال الباجي: (يحتمل أن يكون علم بالوحي أن الحكم بالرجم فيها ثابت على ما شرع لم يلحقه تبديل، و يحتمل أن يكون علم ذلك بإخبار عبدالله بن سلام و غيره ممن أسلم منهم على وجه حصل له به العلم بصحة نقلهم، و يحتمل أن يكون إنما سألهم عن ذلك ليعلم ما عندهم فيه ثم يتعلم صحة ذلك من قبل الله تعالى)[25]
المطلب الرابع: موافقة أهل الكتاب فيما ليس فيه نص:
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب موافقتهم في الأمور التي لم يؤمر فيها بشيء، و ذلك تألفاً و استعطافاً لهم على هذا الدين الحنيف، ذلك لأنهم إذا رأوه يتعبد بالأحكام التي يعلمون أنها تشريع سماوي أنزله الله على نبي من أنبيائه كتعبده بما يتفق مع ما في التوراة المنزلة و الإنجيل، عملوا أن مصدر التشريع الذي عندهم و الذي عنده واحد هو الله سبحانه و تعالى، و على ذلك يجب أن يراجعوا أنفسهم فيما هم عليه من التكذيب و العناد و الجحود، فيؤمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسئلوا عن ذلك فقالوا: (هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى و بني إسرائيل على فرعون، و نحن نصومه تعظيماً له)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأنا أحق بموسى منكم) فصامه و أمر بصيامه)[26]
و عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسدل شعره، و كان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، و كان النبي صلى الله عليه و سلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق النبي صلى الله عليه و سلم رأسه[27]
و في هذا الحديث اتضح أن النبي صلى الله عليه وسلم وافق أهل الكتاب في أفعالهم حتى يخالف أهل الأوثان، فلما أسلم أهل الأوثان الذين معه والذين حوله واستمر أهل الكتاب على كفرهم تمحضت المخالفة لأهل الكتاب ثم فرق صلى الله عليه وسلم رأسه.
المطلب الخامس: إباحته ذبائح أهل الكتاب و نكاح نسائهم:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، و طعامهم حلٌّ لكم، و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين و لا متخذي أخدان و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين)(المائدة: الآية 5) قد أباح لأمته ذبائح أهل الكتاب دون باقي ملل الكفر، و هذا يعني إذا كان بين المسلمين و أهل الكتاب مبادلة في التجارة، يحصل الاختلاط بينهم، ولا شك أن هذا مدعاة لدخولهم الإسلام.و عن عبدالله بن مغفل رضي الله عنه قال: أصبت جراباً من شحم يوم خيبر، قال: فالتزمت فقلت: لا أعطي أحداً اليوم من هذا شيئاً، فقال: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسم[28].(/5)
قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث، و في هذا إباحة أكل طعام الغنيمة في دار الحرب، و قال القاضي: (و أجمع علماء الإسلام على جواز أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون في دار الحرب فيأكلون منه قدر حاجتهم، و يجوز بإذن الإمام و بغير إذنه. و لم يشترط أحد من العلماء استئذانه إلا الزهري، و جمهورهم على أنه لا يجوز أن يخرج معه شيئاً إلى عمارة دار الإسلام فإن أخرجه لزمه رده إلى المغنم)[29]
و كذلك أباح الإسلام مصاهرة أهل الكتاب و التزوج من نسائهم مع ما في الزواج من سكن و مودة و رحمة. و هذا يجوز مع الذين لم يقاتلوا المسلمين و لم يخرجوهم من ديارهم و لم يظاهروا على إخراجهم كالنساء و الضعفة، أما المعتدين فيجب معاداتهم و عدم موالاتهم[30]
قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم و لم يظاهروا على إخراجكم أن تبرّوهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم أن تولوهم و من يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون)(سورة الممتحنة: الآيات 8-9).
الطلب السادس: قبول الهدية من أهل الكتاب:
لا شك أن قبول الهدية فيه نوع من التقارب، و كلما زاد التقارب بين قوم سهلت دعوتهم. و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يقبل الهدية من أهل الكتاب و لا يقبلها من غيرهم من المشركين، وهذه خصوصية لهم ربما تدفعهم إلى الدخول في الإسلام.
و عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: أهديت للنبي صلى الله عليه و سلم ناقة فقال: أسلمت؟ فقلت: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني نهيت عن زبد المشركين)[31].
و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن أكيدر دومة و هو من أهل الكتاب أهدى النبي صلى الله عليه و سلم ثوب حرير فأعطاه علياً فقال: (شققه خمراً بين الفواطم)[32].
المطلب السابع: وصيته صلى الله عليه و سلم على أهل الذمة:
كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أوصى على أهل الذمة و الكتاب، و هدد بالوعيد الشديد على من نقض عهدهم، حتى أنه توعد أصحابه بأن من قتل معاهدا في غير وقته الذي يجوز قتله فيه حرّم الله عليه الجنة، و هذا من حرصه صلى الله عليه و سلم على دعوة أهل الكتاب.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، و أن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً)[33].
و كان صلى الله عليه و سلم لا يرضى أن يمس أهل الكتاب ظلم و لو كان من أصحابه، سواء كان هذا الظلم اعتداءاً على أنفسهم أو أموالهم.
عن العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه قال: (نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قلعة خيبر و معه من معه من المسلمين، و كان صاحب خيبر رجلاً مارداً متكبراً، فأقبل إلى النبي صلى الله عليه و سلم و قال: يا محمد ألكم أن تذبحوا حمرنا و تأكلوا ثمرنا و تضربوا نساءنا؟ فغضب النبي صلى الله عليه و سلم و قال: ( يا ابن عوف اركب فرسك ثم ناد إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، و أن اجتمعوا إلى الصلاة) فاجتمعوا، ثم صلى بهم ثم قام فقال: (أيحب أحدكم متكئاً على اريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئاً إلا ما في القرآن، ألا أني و الله وعظت و أمرت و نهيت عن أشياء و إنها لمثل القرآن أو أكثر، و أن الله تعالى لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، و لا ضرب نسائهم، و لا أكل ثمارهم إذا أعطوا الذي عليهم)[34].
المطلب الثامن: إخبار الصحابة بما ينتظر اليهود من عذاب:
لا شك أن الدعوة إلى الله عز و جل تشتمل على الإنذار و التبشير، و الوعد و الوعيد، لذلك أخبر صلى الله عليه و سلم أن اليهود تعذب في قبورها، فأنذرها من عذاب القبر، لأن عذاب دلالة على عذاب الآخرة و هي يدل على حرصه لدخولهم الإسلام.
عن أبي أيوب الإنصاري رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه و سلم و قد وجبت الشمس فسمع صوتاً فقال: (يهود تعذب في قبورها)[35].
الخاتمة:
أختتم بحثي هذا بعرض أهم النتائج و هي كالآتي:
1. إن الرسول صلى الله عليه و سلم أرسل إلى الناس جميعاً بما فيهم أهل الكتاب ( اليهود و النصارى).
2. إن الرسول صلى الله عليه و سلم دعا أهل الكتاب دعوة عامة مع جميع الناس ثم دعاهم بعد ذلك دعوة خاصة بجميع أساليب الدعوة لدخولهم الإسلام.
3. تنوع أساليبه صلى الله عليه و سلم مع أهل الكتاب لدخولهم الإسلام يدل على حرصه و صدق النية و صدق العزم معهم.
4. إظهار أن الإسلام لم يأت لمحاربة الأديان الأخرى بل مكملاً لها.
5. إظهار أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يدخل الناس في الإسلام عن طريق القوة.
و أخيراً نسأل الله تعالى أن يجعل أن يجعل عملى خالصاً لوجهه الكريم، و أن يتقبله مني ، و أسأله أن يتجاوز عن الخطأ فيه، و أن يرشدني إلى الصواب، و استغفره أتوب إليه إنه غفور رحيم.
------------------------------------------------
المصادر و المراجع:(/6)
1. القرآن الكريم.
2. البداية و النهاية.
3. تفسير ابن كثير (الموسوعة الذهبية).
4. تفسير القرطبي (الموسوعة الذهبية).
5. التمهيد لابن عبد البر (المكتبة الألفية).
6. سنن أبو داوود (الموسوعة الذهبية).
7. سنن الترمذي (الموسوعة الذهبية).
8. سيرة ابن اسحق (تحقيق و تعليق محمد حميدالله- تقديم الأستاذ محمد القاسمي).
9. شرح الكرماني لصحيح البخاري – مؤسسة المطبوعات الإسلامية- مكتبة و مطبعة عبد الرحمن محمد لنشر القرآن الكريم و الكتب الإسلامية – القاهرة.
10. شرح النووي على صحيح مسلم (المكتبة الإلفية).
11. صحيح البخاري (الموسوعة الذهبية).
12. صفوة التفاسير- محمد علي الصابوني.
13. فتح البارئ – الحافظ بن حجر (المكتبة الإلفية).
------------------------------
[1] - تفسير القرطبي – جزء 11- ص 350.
[2] - أخرجه البخاري- جزء (1) ص 167 باب قول النبي صلى الله عليه و سلم جعلت لي الأرض مسجداً و طهورا- الموسوعة الذهبية للحديث النبوى الشريف، الإصدار الأول سنة 1977- حديث رقم 1427
[3]- أخرجه مسلم – جزء (4) –صفحة 1707 – باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام و كيف يرد عليهم- الموسوعة الذهبية- حديث رقم 2167
[4] -تفسير ابن كثير – الجزء (1) ص 533.
[5] - تفسير القرطبي- الجزء 11 – ص112
[6] - فتح البارئ- الجزء 11 – ص 40 ( المكتبة الألفية للسنة النبوية- الإصدار 5/1/ 1999- الأردن- عمان.
[7] - التمهيد – ابن عبد البر- الجزء 17 المكتبة الألفية- نفس العدد.
[8] - تفسير القرطبي- الجزء 2 ص347
[9] - تفسير ابن كثير- الجزء 1 ص 227
[10] - صفوة التفاسير – المجلد الأول – دار القرآن الكريم- بيروت – ط 4- ص208- محمد علي الصابوني.
[11] - أخرجه البخاري- جزء 1 ص 9- كتاب بدأ الوحي- باب كيف بدأ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – حديث رقم (7)
[12] - شرح النووي على صحيح مسلم- الجزء 12- ص109 (المكتبة الألفية).
[13] - أخرجه مسلم – الجزء الأول – ص 134- باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس (الموسوعة الذهبية) حديث رقم 1535
[14] - أخرجه البخاري – الجزء الأول –ص48 – باب تعليم الرجل أمته و أهله – حديث رقم 97
[15] - بيت المدراس بكسر الميم هو البيت الذي يدرس فيه كتابهم، فتح البارئ
[16] - صحيح البخاري – الجزء 6- ص 2547- باب بيع المكره – (الموسوعة الذهبية)حديث رقم 6545
[17] - فتح البارئ – الجزء 6 ص 271
[18] - شرح الكرماني لصحيح البخاري 13/54 – مؤسسة المطبوعات الإسلامية – مكتبة و مطبعة عبد الرحمن محمد لنشر القرآن الكريم و الكتب الإسلامية- القاهرة.
[19] - انظر تفسير القرطبي- الجزء 4- ص104
[20] - تفسير ابن كثير- الجزء (1) – صفحة 436
[21] - تفسير ابن كثير- الجزء (1)- صفحة 154
[22] - انظر القسم المطبوع من سيرة ابن اسحق فقرة 459 ص 272- 273 تحقيق و تعليق محمد حميد الله- تقديم الاستاذ محمد القاسمي
[23] - انظر البداية و النهاية – ابن كثير- الجزء 6 – ص 173
[24] - أخرجه البخاري – باب قوله تعالى: (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و إن فريقاً منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون)- الجزء الثالث ص 1530 (الموسوعة الذهبية) حديث رقم 3436
[25] - فتح البارئ – الجزء 12 ص 168 (المكتبة الألفية)
[26] - أخرجه البخاري- الجزء الثالث ص 1434 باب إتيان النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة- حديث رقم 3727
[27] - أخرجه البخاري – الجزء الثالث ص 1305- باب صفة النبي صلى الله عليه و سلم – حديث رقم3365
[28] - انظر فتح البارئ الجزء 10- ص 361- الحافظ بن حجر – مكتبة الألفية للسنة النبوية- 1999- الأصدار 5/1
[29] - شرح النووي على صحيح مسلم – الجزء 12 ص 102 (المكتبة الألفية).
[30] - ابن كثير -الجزء الرابع- ص 350
[31] - أخرجه الترمزي – الجزء الرابع – ص 140- باب كراهية هدايا المشركين(الموسوعة الذهبية) حديث رقم 1577
[32] - أخرجه مسلم- الجزء الثالث- ص 1645- باب تحريم استعمال إناء الذهب و الفضة على الرجال و النساء- حديث رقم 25711577
[33] - أخرجه البخاري – الجزء الثالث ص 1155- باب أثم من قتل معاهداً من غير جرم- حديث رقم 2595.
[34] - أخرجه أبو داود – الجزء الثالث ص 170- باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات- حديث رقم 3050
[35] - أخرجه البخاري- الجزء الإول ص 463- باب التعوذ من عذاب القبر- حديث رقم 1309
* أستاذ مساعد بجامعة إفريقيا العالمية(/7)
أسلوب الرسول في معالجة الخطأ
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إله الأولين والآخرين وقيوم السموات والأرضين والصلاة والسلام على نبيه الأمين معلّم الخلق المبعوث رحمة للعالمين وبعد :
فإن تعليم الناس من القربات العظيمة التي يتعدّى نفعها ويعمّ خيرها ، وهي حظ للدعاة والمربين من ميراث الأنبياء والمرسلين " وإِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ " رواه الترمذي : سنن الترمذي ط. أحمد شاكر رقم 2685 وقَالَ أبو عيسى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ والتعليم طرائق وأنواع وله وسائل وسُبُل ومنها تصحيح الأخطاء ، فالتصحيح من التعليم وهما صنوان لا يفترقان .
ومعالجة الأخطاء وتصحيحها من النصيحة في الدين الواجبة على جميع المسلمين . وصلة ذلك بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوية وواضحة . مع ملاحظة أن دائرة الخطأ أوسع من دائرة المنكر فالخطأ قد يكون منكرا وقد لا يكون وتصحيح الأخطاء كذلك من الوحي الرباني والمنهج القرآني فقد كان القرآن ينزل بالأوامر والنواهي والإقرار والإنكار وتصحيح الأخطاء حتى مما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت معاتبات وتنبيهات كما في قوله تعالى : ( عبس وتولى ، أن جاءك الأعمى ، وما يدريك لعله يزكى ، أو يذكر فتنفعه الذكرى ، أما من استغنى ، فأنت له تصدى ، وما عليك ألا يزكى ، وأما من جاءك يسعى ، وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى ) ، وقوله : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) ، وقوله : ( ما كان للنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ) وقوله : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون )
وكان القرآن يتنزل ببيان خطأ أفعال بعض الصحابة في عدد من المواقف . فلما أخطأ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه خطأ عظيما في مراسلة كفار قريش مبينا لهم وجهة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في الغزو ، نزل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ) .
وفي شأن خطأ الرماة في غزوة أحد لما تركوا مواقعهم التي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزومها نزل قوله تعالى : ( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) .
ولما اعتزل النبي صلى الله عليه زوجاته تأديبا وأشاع بعض الناس أنه طلّق نساءه نزل قوله تعالى : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )
ولما ترك بعض المسلمين الهجرة من مكة إلى المدينة لغير عذر شرعي أنزل الله : ( إن الذين توفَّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها … الآية )
ولما انساق بعض الصحابة وراء إشاعات المنافقين في اتهام عائشة بما هي منه بريئة أنزل الله آيات في هذا الإفك وفيها : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم ، إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ) ثم قال : ( ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين )
ولما تنازع بعض الصحابة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وارتفعت أصواتهم نزل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ، يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )
ولما جاءت قافلة وقت خطبة الجمعة فترك بعض الناس الخطبة وانفضوا إلى التجارة نزل قوله تعالى : ( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين )
إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على أهمية تصحيح الأخطاء وعدم السكوت عنها .
وسار النبي صلى الله عليه وسلم على نور من ربه سالكا سبيل إنكار المنكر وتصحيح الخطأ غير متوان في ذلك ، ومن هذا وغيره استنبط العلماء رحمهم الله تعالى قاعدة : " لا يجوز في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقت الحاجة " .(/1)
وإدراك المنهج النبوي في التعامل مع أخطاء البشر الذين لاقاهم النبي صلى الله عليه وسلم من الأهمية بمكان لأنه صلى الله عليه وسلم مؤيد من ربّه ، وأفعاله وأقواله رافقها الوحي إقرارا وتصحيحا فأساليبه عليه الصلاة والسلام أحكم وأنجع واستعمالها أدعى لاستجابة الناس ، واتباع المربي لهذه الأساليب والطرائق يجعل أمره سديدا وسلوكه في التربية مستقيما . ثمّ إن اتباع المنهج النبوي وأساليبه فيه الاتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أسوة حسنة لنا ويترتب على ذلك حصول الأجر العظيم من الله تعالى إذا خلصت النية .
ومعرفة الأساليب النبوية تبين فشل أساليب المناهج الأرضية ـ التي تزخر بها الآفاق ـ وتقطع الطريق على اتّباعها ، فإن كثيرا منها واضح الانحراف وقائم على نظريات فاسدة كالحرية المطلقة أو مستمد من موروثات باطلة كالتقليد الأعمى للآباء والأجداد .
ولابدّ من الإشارة إلى أن التطبيق العملي لهذا المنهج النبوي في الواقع يعتمد على الاجتهاد بدرجة كبيرة وذلك في انتقاء الأسلوب الأمثل في الظرف والحدث الحاصل ، ومن كان فقيه النفس استطاع ملاحظة الحالات المتشابهة والأحوال المتقاربة فينتقي من هذه الأساليب النبوية ما يلائم ويوائم .
وهذا الكتاب محاولة لاستقراء الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس على اختلاف مراتبهم ومشاربهم ممن عايشهم صلى الله عليه وسلم وواجههم ، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب فيه التوفيق وإصابة الصواب والنفع لي ولإخواني المسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو الهادي إلى سواء السبيل .
تنبيهات وفروقات ينبغي مراعاتها عند معالجة الأخطاء
قبل الدخول في صلب هذا البحث يحسن التنبيه على بعض الفروقات والاعتبارات التي ينبغي أن تُراعى قبل وعند الشروع في تصحيح ومعالجة أخطاء الآخرين .
ــ الإخلاص لله
يجب أن يكون القصد عند القيام بتصحيح الأخطاء إرادة وجه الله تعالى وليس التعالي ولا التشفي ولا السعي لنيل استحسان المخلوقين(/2)
روى الترمذي رحمه الله تعالى عن شُفَيٍّ الأَصْبَحِيّ أنه دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالُوا أَبُو هُرَيْرَةَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلا قُلْتُ لَهُ أَنْشُدُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَفْعَلُ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً ( أي شهق حتى كاد أن يغمى عليه ) فَمَكَثَ قَلِيلًا ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى ثُمَّ أَفَاقَ وَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ أَفْعَلُ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَيَّ طَوِيلا ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَرَجُلٌ يَقْتَتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي قَالَ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ قَالَ كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلائِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلانًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلائِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ فِي مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلائِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سنن الترمذي رقم 2382 ط. شاكر وقَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
وإذا صدقت النية من الناصح حصل الأجر والتأثير والقبول بإذن الله
ــ الخطأ من طبيعة البشر
لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ) رواه الترمذي رقم 2499 وابن ماجة واللفظ له : السنن تحقيق . عبد الباقي رقم 4251(/3)
ووضوح هذه الحقيقة واستحضارها يضع الأمور في إطارها الصحيح فلا يفترض المربي المثالية أو العصمة في الأشخاص ثم يحاسبهم بناء عليها أو يحكم عليهم بالفشل إذا كبُر الخطأ أو تكرر . بل يعاملهم معاملة واقعية صادرة عن معرفة بطبيعة النفس البشرية المتأثرة بعوارض الجهل والغفلة والنقص والهوى والنسيان . وهذه الحقيقة أيضا تفيد في منع فقدان التوازن نتيجة المباغتة بحصول الخطأ مما يؤدي إلى ردات فعل غير حميدة . وإدراك هذه الحقيقة فيه كذلك تذكير للداعية والمربي الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر بأنه بشر من البشر يمكن أن يقع فيما وقع فيه المخطئ فيعامله من شقّ الرحمة أكثر مما يعامله من شقّ القسوة لأن المقصود أصلا هو الاستصلاح لا المعاقبة .
ولكن كل ما سبق لا يعني أن نترك المخطئين في حالهم ونعتذر عن العصاة وأرباب الكبائر بأنهم بشر أو أنهم مراهقون أو أن عصرهم مليء بالفتن والمغريات وغير ذلك من التبريرات بل ينبغي الإنكار والمحاسبة ولكن بميزان الشرع .
ــ أن تكون التخطئة مبنية على الدليل الشرعي مقترنة بالبينة وليست صادرة عن جهل أو أمر مزاجي
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ : ( صَلَّى جَابِرٌ فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ ) وسبب ذلك أنهم لم يكن لهم سراويلات فكان أحدهم يعقد إزاره في قفاه ليكون مستورا إذا ركع وإذا سجد : فتح الباري ط. السلفية 1/ 467 وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ قَالَ لَهُ قَائِلٌ تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ ؟ فَقَالَ إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه البخاري الفتح رقم 352 قال ابن حجر رحمه الله : المراد بقوله أحمق هنا أي جاهل .. والغرض بيان جواز الصلاة في الثوب الواحد ولو كانت الصلاة في الثوبين أفضل ، فكأنه قال : صنعته عمدا لبيان الجواز إما ليقتدي بي الجاهل ابتداء أو يُنكر عليّ فأعلّمه أن ذلك جائز ، وإنما أغلظ لهم في الخطاب زجرا عن الإنكار على العلماء ، وليحثّهم على البحث في الأمور الشرعية . الفتح 1/467
ــ كلما كان الخطأ أعظم كان الاعتناء بتصحيحه أشد
فالعناية بتصحيح الأخطاء المتعلقة بالمعتقد ينبغي أن تكون أعظم من تلك المتعلقة بالآداب مثلا وهكذا ، وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم غاية الاهتمام بتتبع وتصحيح الأخطاء المتعلقة بالشرك بجميع أنواعه لأنه أخطر ما يكون وفيما يلي أمثلة :
عن الْمُغِيرَةِ ابْنِ شُعْبَة قال : انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ النَّاسُ انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ رواه البخاري فتح 1061
وعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رواه الترمذي رقم 2180 وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
وفي رواية عن أبي واقد أيضا : أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ قَالَ وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ قَالَ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ قَالَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى ( اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) إِنَّهَا لَسُنَنٌ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُنَّةً سُنَّةً رواه أحمد: المسند 5/218(/4)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ رواه البخاري : فتح رقم 846
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ فَقَالَ جَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدْلاً ؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ رواه أحمد : المسند 1/283
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ وَإِلا فَلْيَصْمُتْ رواه البخاري : فتح 6108
فائدة : روى الإمام أحمد في مسنده : حدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي حَلْقَةٍ فَسَمِعَ رَجُلا فِي حَلْقَةٍ أُخْرَى وَهُوَ يَقُولُ لا وَأَبِي فَرَمَاهُ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى وَقَالَ إِنَّهَا كَانَتْ يَمِينَ عُمَرَ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا وَقَالَ إِنَّهَا شِرْكٌ . (الفتح الرباني 14/ 164).
وعن أبي شريح هانئ بن يزيد قال : وفَد على النبي صلى الله عليه وسلم قوم فسمعهم يسمون رجلا عبد الحجر فقال له : ما اسمك ؟ قال : عبد الحجر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، أنت عبد الله رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 813 وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد صحيح رقم 623
ــ اعتبار موقع الشخص الذي يقوم بتصحيح الخطأ
فبعض الناس يُتقبّل منهم مالا يُتقبل من غيرهم لأن لهم مكانة ليست لغيرهم أو لأن لهم سلطة على المخطئ ليست لغيرهم ومن أمثلة هذا الأب مع ابنه والمدرّس مع تلميذه والمحتسب مع من ينكر عليه ، فليس الكبير كالقرن والصغير ، ولا القريب كالغريب ، وليس صاحب السلطان كمن ليس له سلطة ، والإدراك لهذه الفروق يؤدي بالمُصلح إلى وضع الأمور في نصابها وتقدير الأمور حقّ قدرها فلا يؤدي إنكاره أو تصحيحه إلى منكر أكبر أو خطأ أعظم ، ومكانة المُنكِر وهيبته في نفس المخطئ مهمة في تقدير درجة الإنكار وضبط معيار الشدّة واللين . ومن هذا نستفيد أمرين
الأول : إن على من آتاه الله مكانة أو سلطانا أن يسخّر ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الخلق وأن يدرك أنّ مسؤوليته عظيمة لأن الناس يتقبّلون منه أكثر مما يتقبّلون من غيره ـ غالبا ـ ويتمكّن مما لا يتمكّن منه الآخرون
ثانيا : إنّ على الآمر الناهي أن لا يُسيء التقدير فيضع نفسه في موضع أعلى مما هو عليه ويتصرّف بصفاتِ شخصية لا يملكها لأن ذلك يؤدي إلى النفور والصدّ .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفيد مما أعطاه الله من المكانة والمهابة بين الخلق في إنكاره وتعليمه وربما أتى بشيء لو فعله غيره ما وقع الموقع المناسب وفيما يلي مثال على ذلك :
عن يَعِيشَ بْنِ طِهفَةَ الْغِفَارِيِّ عن أبيه قَالَ ضفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن تضيفه من المساكين فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل يتعاهد ضيفه فرآني منبطحا على بطني فركضني برجله وقال لا تضطجع هذه الضجعة فإنها ضجعة يبغضها الله عز وجل. وفي رواية : فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ فَأَيْقَظَهُ فَقَالَ هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ رواه أحمد : الفتح الرباني 14/244-245. ورواه الترمذي رقم 2798 ط. شاكر ورواه أبوداود في كتاب الأدب من سننه رقم 5040 ط. الدعاس والحديث في صحيح الجامع 2270 - 2271
وإذا كان إنكاره صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة مناسبا لحاله ومكانته فإنه ليس بمناسب لآحاد الناس ، ولا يصلح لأي شخص يريد أن يُنكر على آخر نومه على بطنه أن يركضه برجله وهو نائم فيوقظه ثم يتوقّع أن يقبل منه ويشكره . وقريب من هذا ضرب المخطئ أو رميه بشيء كالحصى ونحوه وقد فعل ذلك بعض السلف وكل ذلك يعود إلى مكانة المُنكِر وفيما يلي بعض القصص :(/5)
روى الدارمي رحمه الله عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلا يُقَالُ لَهُ صَبِيغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ فَقَالَ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ وَقَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ فَجَعَلَ لَهُ ضَرْبًا حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُكَ قَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي . سنن الدارمي ت: عبدالله هاشم يماني 1/51 رقم 146.
وروى البخاري رحمه الله تعالى عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ فَرَمَاهُ بِهِ فَقَالَ إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَالَ هُنَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ الفتح رقم 5632
وفي رواية أحمد للقصة عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ خَرَجْتُ مَعَ حُذَيْفَةَ إِلَى بَعْضِ هَذَا السَّوَادِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِإِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ قَالَ فَرَمَاهُ بِهِ فِي وَجْهِهِ قَالَ قُلْنَا اسْكُتُوا اسْكُتُوا وَإِنَّا إِنْ سَأَلْنَاهُ لَمْ يُحَدِّثْنَا قَالَ فَسَكَتْنَا قَالَ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ أَتَدْرُونَ لِمَ رَمَيْتُ بِهِ فِي وَجْهِهِ قَالَ قُلْنَا لا قَالَ إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُهُ قَالَ فَذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ قَالَ مُعَاذٌ لا تَشْرَبُوا فِي الذَّهَبِ وَلا فِي الْفِضَّةِ وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلا الدِّيبَاجَ فَإِنَّهُمَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ . المسند 5/396.
وروى البخاري أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ فَأَبَى فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ كَاتِبْهُ فَأَبَى فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ وَيَتْلُو عُمَرُ ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) فَكَاتَبَهُ . الفتح 5/184.
وروى النسائي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَإِذَا بِابْنٍ لِمَرْوَانَ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَرَأَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ فَضَرَبَهُ فَخَرَجَ الْغُلَامُ يَبْكِي حَتَّى أَتَى مَرْوَانَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ مَرْوَانُ لأَبِي سَعِيدٍ لِمَ ضَرَبْتَ ابْنَ أَخِيكَ قَالَ مَا ضَرَبْتُهُ إِنَّمَا ضَرَبْتُ الشَّيْطَانَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ فَأَرَادَ إِنْسَانٌ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَدْرَؤُهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ . المجتبى من سنن النسائي 8/ 61. صحيح سنن النسائي برقم 4518.
وروى أحمد رحمه الله عَنْ أَبِي النَّضْرِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ كَانَ يَشْتَكِي رِجْلَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَخُوهُ وَقَدْ جَعَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى وَهُوَ مُضْطَجِعٌ فَضَرَبَهُ بِيَدِهِ عَلَى رِجْلِهِ الْوَجِعَةِ فَأَوْجَعَهُ فَقَالَ أَوْجَعْتَنِي أَوَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ رِجْلِي وَجِعَةٌ قَالَ بَلَى قَالَ فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ هَذِهِ المسند 3/42
وروى مالك عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ أَنَّ رَجُلا خَطَبَ إِلَى رَجُلٍ أُخْتَهُ فَذَكَرَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أَحْدَثَتْ ( أي زنت ) فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَضَرَبَهُ أَوْ كَادَ يَضْرِبُهُ ثُمَّ قَالَ مَا لَكَ وَلِلْخَبَرِ موطأ مالك رقم 1553 رواية أبي مصعب الزهري . ت: بشار معروف ومحمود خليل . مؤسسة الرسالة(/6)
وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ كُنْتُ مَعَ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الأَعْظَمِ وَمَعَنَا الشَّعْبِيُّ فَحَدَّثَ الشَّعْبِيُّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلا نَفَقَةً ثُمَّ أَخَذَ الأَسْوَدُ كَفًّا مِنْ حَصًى فَحَصَبَهُ بِهِ فَقَالَ وَيْلَكَ تُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا قَالَ عُمَرُ لا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) صحيح مسلم رقم 1480
وروى أبو داود بإسناد فيه مقبولان : دَخَلَ رَجُلانِ مِنْ أَبْوَابِ كِنْدَةَ وَأَبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِيُّ جَالِسٌ فِي حَلْقَةٍ فَقَالا أَلا رَجُلٌ يُنَفِّذُ بَيْنَنَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْحَلْقَةِ أَنَا فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ كَفًّا مِنْ حَصًى فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ مَهْ إِنَّهُ كَانَ يُكْرَهُ التَّسَرُّعُ إِلَى الْحُكْمِ رواه أبو داود كتاب الأقضية باب في طلب القضاء والتسرع إليه
ونلاحظ أيضا أنّ إنكار النبي صلى الله عليه وسلّم على بعض خواصّ أصحابه كان أحيانا أشدّ منه على أعرابي مثلا أو غريب وكلّ هذا من الحكمة وتقدير الحال في الإنكار .
ــ التفريق بين المخطئ الجاهل والمخطئ عن علم
ومن القصص الواضحة في هذا ما حدث لمعاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه لما جاء إلى المدينة من البادية ولم يكن يدري عن تحريم الكلام في الصلاة قَالَ بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ( أي أوشكت أن أردّ عليهم لكني تمالكت نفسي ولزمت السكوت ) فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَ اللَّهِ مَا كَهَرَنِي ( أي زجرني وعبس في وجهي ) وَلا ضَرَبَنِي وَلا شَتَمَنِي قَالَ إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءةُ الْقُرْآنِ صحيح مسلم ط. عبد الباقي رقم 537
فالجاهل يحتاج إلى تعليم وصاحب الشبهة يحتاج إلى بيان والغافل يحتاج إلى تذكير والمصرّ يحتاج إلى وعظ ، فلا يسوغ أن يسوّى بين العالم بالحكم والجاهل به في المعاملة والإنكار ، بل إن الشدة على الجاهل كثيرا ما تحمله على النفور ورفض الانقياد بخلاف ما لو علّمه أولا بالحكمة واللين لأن الجاهل عند نفسه لا يرى أنه مخطئ فلسان حاله يقول لمن يُنكر عليه : أفلا علمتني قبل أن تهاجمني .
وقد يُجانب المُخطئ الصواب وهو لا يشعر بل قد يظنّ نفسه مصيبا فيُراعى لأجل ذلك : جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَقَامَ وَقَدْ كَانَ تَوَضَّأَ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَتَيْتُهُ بِمَاءٍ لِيَتَوَضَّأَ مِنْهُ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ وَرَاءَكَ فَسَاءَنِي وَاللَّهِ ذَلِكَ ثُمَّ صَلَّى فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ الْمُغِيرَةَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِ انْتِهَارُكَ إِيَّاهُ وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِكَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِي شَيْءٌ إِلا خَيْرٌ وَلَكِنْ أَتَانِي بِمَاءٍ لأَتَوَضَّأَ وَإِنَّمَا أَكَلْتُ طَعَامًا وَلَوْ فَعَلْتُهُ فَعَلَ ذَلِكَ النَّاسُ بَعْدِي المسند 4/253
ويُلاحظ هنا أن تخطئة النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هؤلاء الصحابة الأجلاء لم تكن لتؤثر في نفوسهم تأثيرا سلبيا فتحملهم على كره أو نفور بل إنها كانت تؤثر في نفوسهم تأثيرا إيجابيا فيبقى الواحد منهم بعد تخطئته من النبي صلى الله عليه وسلم وجلا مشفقا متهما نفسه يعيش في حرج عظيم لا يسرِّي عنه إلا أن يتأكد من رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه .
ويُلاحظ في هذه القصة كذلك أن تخطئة النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة لم تكن غضبا من شخص المغيرة ولكن شفقة على الناس وتبيينا لهم حتى لا يظنوا ما ليس بواجب واجبا فيقعوا في الحرج .(/7)
ــ التفريق بين الخطأ الناتج عن اجتهاد صاحبه وبين خطأ العمد والغفلة والتقصير
ولا شكّ أن الأول ليس بملوم بل إنه يؤجر أجرا واحدا إذا أخلص واجتهد لقوله صلى الله عليه وسلم : إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ رواه الترمذي 1326 ط. شاكر وقال أبو عيسى الترمذي حديث حسن غريب من هذا الوجه
وهذا بخلاف المخطئ عن عمد وتقصير فلا يستويان فالأول يعلّم ويناصح بخلاف الثاني فإنه يوعظ ويُنكر عليه .
ويجب أن يكون الاجتهاد الذي يُعذر به صاحبه اجتهادا سائغا من شخص مؤهل بخلاف من يفتي بغير علم أولا يُراعي الأحوال ولذلك اشتد إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على المخطئين في قصة صاحب الشجّة فقد روى أبو داود في سننه عن جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ ... سنن أبي داود كتاب الطهارة باب المجروح يتيمم وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 325 وأشار إلى ضعف الزيادة في آخره . وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن : الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ سنن أبي داود رقم 3573 وصححه الألباني في الإرواء 2164 فلم يعتبر هذا الثالث معذورا .
ومن الأمور التي تضبط درجة إنكار الخطأ مراعاة البيئة التي حصل فيها الخطأ مثل انتشار السنة أو البدعة وكذلك مدى استشراء المنكر أو وجود من يفتي بجوازه من الجهلة أو المتساهلين ممن يراهم الناس شيئا .
ــ إرادة المخطئ للخير لا تمنع من الإنكار عليه(/8)
عن عَمْرِو بْنِ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَبْلَ صَلاةِ الْغَدَاةِ فَإِذَا خَرَجَ مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَجَاءنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ فَقَالَ أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدُ قُلْنَا لا فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلا خَيْرًا قَالَ فَمَا هُوَ فَقَالَ إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ قَالَ رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلاةَ فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ وَفِي أَيْدِيهِمْ حَصًى فَيَقُولُ كَبِّرُوا مِائَةً فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً فَيَقُولُ هَلِّلُوا مِائَةً فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً وَيَقُولُ سَبِّحُوا مِائَةً فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً قَالَ فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ قَالَ مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئًا انْتِظَارَ رَأْيِكَ وَانْتِظَارَ أَمْرِكَ قَالَ أَفَلا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ قَالُوا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ قَالَ فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ هَؤُلاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ أَوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلالَةٍ قَالُوا وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلا الْخَيْرَ قَالَ وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ رواه الدارمي السنن رقم 210 ت: عبد الله هاشم يماني وصحح الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة تحت حديث 2005 وانظر مجمع الزوائد للهيثمي 1/181
ــ العدل وعدم المحاباة في التنبيه على الأخطاء
قال الله تعالى : ( وإذا قلتم فاعدلوا ) وقال : ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )
ولم يمنع كون أسامة بن زيد حبّ النبي صلى الله عليه وسلم وابن حبه أن يشتدّ عليه في الإنكار حينما حاول أن يشفع في حدّ من حدود الله فقد روت عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَطَبَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يَدُهَا الحديث في الصحيحين وهذا لفظ مسلم رقم 1688(/9)
وفي رواية للنسائي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ اسْتَعَارَتِ امْرَأَةٌ عَلَى أَلْسِنَةِ أُنَاسٍ يُعْرَفُونَ وَهِيَ لا تُعْرَفُ حُلِيًّا فَبَاعَتْهُ وَأَخَذَتْ ثَمَنَهُ فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَعَى أَهْلُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُكَلِّمُهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْفَعُ إِلَيَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَالَ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّتَئِذٍ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ فِيهِمْ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ثُمَّ قَطَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ سنن النسائي : المجتبى ط. دار الفكر 8/73. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم 4548.
وموقفه عليه الصلاة والسلام من أسامة رضي الله عنه دالّ على عدله وأن الشرع عنده فوق محبة الأشخاص والإنسان قد يسامح من يريد في الخطأ على شخصه ولكن لا يملك أن يُسامح أو يُحابي من يخطئ على الشرع .
وبعض الناس إذا أخطأ قريبه أو صاحبه لم يكن إنكاره عليه مثل إنكاره على من لا يعرفه وربما ظهر تحيز وتمييز غير شرعي في المعاملة بسبب ذلك ، بل ربما تغاضى عن خطأ صاحبه وشددّ في خطأ غيره
وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة ***************ولكنّ عين السُّخط تُبْدي المساويا
وهذا ينعكس على تفسير الأفعال أيضا فقد يصدر الفعل من شخص محبوب فيُحمل على محمل ويصدر مثله من شخص آخر فيُحمل على محمل آخر .
وكل ما سبق مقيد بما إذا استوت الأحوال وإلا فقد يكون هناك تفاوت في الاعتبارات كما سيأتي ذكره .
ــ الحذر من إصلاح خطأٍ يؤدي إلى خطأ أكبر
من المعلوم أن من قواعد الشريعة تحمّل أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما فقد يسكت الداعي عن خطأ لئلا يؤدي الأمر إلى وقوع خطأ أعظم .
لقد سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ولم يقتلهم مع ثبوت كفرهم وصبر على أذاهم لئلا يقول الناس محمد يقتل أصحابه خصوصا مع خفاء أمرهم ، ولم يهدم النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ليبنيها على قواعد إبراهيم الخليل من أجل أن قريشا كانوا حديثي عهد بجاهلية وخشي عليه الصلاة والسلام أن لا تحتمل ذلك عقولهم وتَرَك البنيان على ما فيه من النقص والباب على ارتفاعه وإغلاقه عن العامة مع أن في ذلك نوعا من الظلم .
وقبل ذلك نهى الله تعالى عن سبّ آلهة المشركين مع أنه طاعة وقربة إذا كان ذلك يؤدي إلى سب الله عز وجل وهو أعظم منكر .
فقد يسكت الداعية عن منكر أو يؤجل الإنكار أو يغيّر الوسيلة إذا رأى في ذلك تلافيا لخطأ أو منكر أكبر ولا يُعتبر ذلك تقصيرا ولا تخاذلا مادام صادق النية لا يخاف في الله لومة لائم وكان الذي منعه مصلحة الدين لا الخور والجبن .
ومما يُلاحظ أن من الأسباب المؤدية إلى الوقوع في خطأ أكبر عند إنكار خطأ ما ؛ هو الحماس غير المنضبط بالحكمة
ــ إدراك الطبيعة التي نشأ عنها الخطأ
هناك بعض الأخطاء التي لا يمكن إزالتها بالكلية لأمر يتعلق بأصل الخلقة ولكن يمكن تقليلها والتخفيف منها لأن التقويم النهائي يؤدي إلى كارثة كما هو الشأن في المرأة ؛ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلاقُهَا رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه رقم 1468
وفي رواية : َاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا البخاري عن أبي هريرة الفتح رقم 5186(/10)
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : قوله ( بالنساء خيرا ) كأن فيه رمزا إلى التقويم برفق بحيث لا يُبالغ فيه فيكسر ولا يتركه فيستمر على عوجه .. فيؤخذ منه أن لا يتركها على الاعوجاج إذا تعدّت ما طُبعت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتها ، أو ترك الواجب . وإنما المراد أن يتركها عل اعوجاجها في الأمور المباحة . وفي الحديث المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب . وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن ، والصبر على عوجهن ، وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن ، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه فكأنه قال : الاستمتاع بها لا يتمّ إلا بالصبر عليها . فتح 9/954
ــ التفريق بين الخطأ في حق الشرع والخطأ في حق الشخص
فإذا كان الدين أغلى عندنا من ذواتنا وجب علينا أن ننتصر له ونحامي عنه ونغضب له أكثر مما نغضب لأنفسنا وننتصر لها . وإن من ضعف الحمية الدينية أن ترى الشخص يغضب لنفسه إذا سبّه أحد ولا يغضب لدين الله إذا اعتدى على جنابه أحد أو تراه يدافع باستحياء وضعف .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسامح من أخطأ عليه كثيرا وخصوصا جُفاة الأعراب تأليفا لقلوبهم فقد جاء في صحيح البخاري رحمه الله تعالى عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ الفتح 5809
وأما إذا كان الخطأ على الدين فإنه صلى الله عليه وسلم كان يغضب لله تعالى وستأتي أمثلة .
وهناك أمور أخرى تحتاج إلى مراعاة في باب التعامل مع الأخطاء مثل :
ــ التفريق بين الخطأ الكبير والخطأ الصغير وقد فرقت الشريعة بين الكبائر والصغائر
ــ التفريق بين المخطئ صاحب السوابق في عمل الخير والماضي الحسن ـ الذي يتلاشى خطؤه أو يكاد في بحر حسناته ـ وبين العاصي المسرف على نفسه وكذلك فإن صاحب السوابق الحسنة يُحتمل منه ما لا يُحتمل من غيره ومما وقع للصديق في ذلك القصة التالية : عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّاجًا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلْنَا فَجَلَسَتْ عَائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي وَكَانَتْ زِمَالَةُ (دابة السفر ) أَبِي بَكْرٍ وَزِمَالَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً مَعَ غُلامٍ لِأَبِي بَكْرٍ فَجَلَسَ أَبُو بَكْرٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهِ فَطَلَعَ وَلَيْسَ مَعَهُ بَعِيرُهُ قَالَ أَيْنَ بَعِيرُكَ قَالَ أَضْلَلْتُهُ الْبَارِحَةَ قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعِيرٌ وَاحِدٌ تُضِلُّهُ قَالَ فَطَفِقَ يَضْرِبُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ وَيَقُولُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ قَالَ ابْنُ أَبِي رِزْمَةَ فَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يَقُولَ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ وَيَتَبَسَّمُ رواه أبو داود في سننه كتاب المناسك باب المُحرم يؤدب غلامه وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم 1602
ــ التفريق بين من وقع منه الخطأ مرارا وبين من وقع فيه لأول مرة
ــ التفريق بين من يتوالى منه حدوث الخطأ وبين من يقع فيه على فترات متباعدة
ــ التفريق بين المجاهر بالخطأ والمستتر به .
ــ مراعاة من دينه رقيق ويحتاج إلى تأليف قلب فلا يُغلظ عليه .
ــ اعتبار حال المخطئ من جهة المكانة والسلطان
وهذه الاعتبارات التي مضى ذكرها لا تتعارض مع العدل المشار إليه آنفا
ــ الإنكار على المخطئ الصغير بما يتناسب مع سنّه
روى البخاري رحمه الله تعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بِالْفَارِسِيَّةِ كِخْ كِخْ أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ . فتح 3072(/11)
وروى الطبراني رحمه الله عن زينب بنت أبي سلمة أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل قالت : فأخذ حفنة من ماء فضرب بها وجهي وقال وراءك أي لكاع . المعجم الكبير 24/281 وقال الهيثمي إسناده حسن : المجمع 1/269
وبهذا يتبين أن صِغَر الصغير لا يمنع من تصحيح خطئه بل ذلك من إحسان تربيته وهذا مما ينطبع في ذاكرته ويكون ذخيرة لمستقبله فالحديث الأول فيه تعليم الطفل الورع والثاني فيه تعليمه الأدب في الاستئذان وعدم الاطّلاع على العورات .
ومن الشواهد الرائعة في هذا أيضا قصة الغلام الصغير عمر بن أبي سلمة فقد روى البخاري عنه قال : كُنْتُ غُلامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا غُلامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ الفتح رقم 5376
نلحظ في هذه القصة أن توجيهات النبي صلى اله عليه وسلم لذلك الغلام الذي أخطأ في تجوال يده في الطعام كانت قصيرة ومختصرة وواضحة يسهل حفظها وفهمها ولقد أثّرت في نفس الغلام طيلة عمره فقال فما زالت تلك طعمتي بعد .
ــ الحذر عند الإنكار على النساء الأجنبيات : حتى لا يُفهم الإنكار فهما خاطئا ، وحتى تؤمن الفتنة فلا يُتساهل في كلام الشاب مع الفتاة الشابة بحجة بيان الخطأ أو الإنكار والتعليم ، وكم جرّ هذا من مصائب ، وينبغي أن يتاح في هذا المجال دور كبير لأهل الحسبة ومن يقوم معهم بالإنكار من كبار السن . وعلى الآمر الناهي أن يعمل بما غلب على ظنه في جدوى الإنكار فإن غلب على ظنه النفع تكلم وإلا أحجم عن الكلام مع سفيهات ربما رمينه ببهتان وهنّ مصرّات على الباطل . ويبقى حال المجتمع ومكانة الآمر الناهي لها دور أساسي في نجاح عملية الإنكار أو التبليغ وإقامة الحجة وفيما يلي قصّة :
عن مولى أَبِي رُهْمٍ وَاسْمُهُ عُبَيْدٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَقِيَ امْرَأَةً مُتَطَيِّبَةً تُرِيدُ الْمَسْجِدَ فَقَالَ يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ أَيْنَ تُرِيدِينَ قَالَتِ الْمَسْجِدَ قَالَ وَلَهُ تَطَيَّبْتِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ لَمْ تُقْبَلْ لَهَا صَلاةٌ حَتَّى تَغْتَسِلَ رواه ابن ماجة رقم 4002 وهو في صحيح ابن ماجة 2/367
وفي صحيح ابن خزيمة : مرّت بأَبِي هُرَيْرَةَ امْرَأَة وريحها تعصف فَقَالَ لها : إلى أَيْنَ تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ ؟ َقَالَت إلى الْمَسْجِد . َقَالَ تَطَيَّبْتِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ فارجعي فاغتسلي ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يقبل الله من امْرَأَةٍ صلاة خَرَجَتْ إلى الْمَسْجِد وريحها تعصف حَتَّى تَرْجِعَ فَتَغْتَسِلَ صحيح ابن خزيمة رقم 1682 وقال الألباني في تعليقه حديث حسن وهو في المسند 2/246 ،وصحح أحمد شاكر الحديث بطرقه في تعليقه على المسند رقم 7350
ــ عدم الانشغال بتصحيح آثار الخطأ وترك معالجة أصل الخطأ وسببه .
ــ عدم تضخيم الخطأ والمبالغة في تصويره
ــ ترك التكلف والاعتساف في إثبات الخطأ وتجنّب الإصرار على انتزاع الاعتراف من المخطئ بخطئه .
ــ إعطاء الوقت الكافي لتصحيح الخطأ خصوصا لمن درج عليه واعتاده زمانا طويلا من عمره هذا مع المتابعة والاستمرار في التنبيه والتصحيح .
ــ تجنب إشعار المخطئ بأنه خصم ومراعاة أن كسب الأشخاص أهم من كسب المواقف
وبعد هذه المقدمة آن الأوان للشروع في عرض بعض ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلكه من الوسائل والأساليب في التعامل مع أخطاء الناس كما جاء ذلك في السنّة الصحيحة التي نقلها أهل العلم .
الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس
(1) المسارعة إلى تصحيح الخطأ وعدم إهماله
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبادر إلى ذلك لا سيما وأنه لا يجوز في حقّه تأخير البيان عن وقت الحاجة وأنه مكلّف بأن يبين للناس الحقّ ويدلهم على الخير ويحذرهم من الشر ومسارعته صلى الله عليه وسلم إلى تصحيح أخطاء الناس واضحة في مناسبات كثيرة كقصة المسيء صلاته وقصة المخزومية وابن اللتبية وقصة أسامة والثلاثة الذين أرادوا التشديد والتبتل وغيرها وستأتي هذه القصص في ثنايا هذا البحث إن شاء الله .
وعدم المبادرة إلى تصحيح الأخطاء قد يفوّت المصلحة ويضيّع الفائدة وربما تذهب الفرصة وتضيع المناسبة ويبرد الحدث ويضعف التأثير .
(2) معالجة الخطأ ببيان الحكم(/12)
عن جَرْهَدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ فَخِذِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَطِّ فَخِذَكَ فَإِنَّهَا مِنَ الْعَوْرَةِ سنن الترمذي رقم 2796 وقال الترمذي هذا حديث حسن
(3) ردّ المخطئين إلى الشرع وتذكيرهم بالمبدأ الذي خالفوه
في غمرة الخطأ وملابسات الحادث يغيب المبدأ الشرعي عن الأذهان ويضيع في المعمعة فيكون في إعادة إعلان المبدأ والجهر بالقاعدة الشرعية ردّ لمن أخطأ وإيقاظ من الغفلة التي حصلت وإذا تأملنا الحادثة الخطيرة التي وقعت بين المهاجرين والأنصار بسبب نار الفتنة التي أوقدها المنافقون لوجدنا مثالا نبويا على ذلك فقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن جَابِر رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قال : غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَالَ مَا شَأْنُهُمْ فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ . الفتح 3518 وفي رواية مسلم : وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ صحيح مسلم رقم 2584
(4) تصحيح التصور الذي حصل الخطأ نتيجة لاختلاله
ففي صحيح البخاري عن حُمَيْدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ( أي رأى كل منهم أنها قليلة ) فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ( أي أنهم ظنوا بأن من لم يعلم مغفرة ذنوبه يحتاج إلى المبالغة في العبادة أكثر من النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن تحصل له المغفرة ) قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ
ورواه مسلم : عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي صحيح مسلم رقم 1041
ونلاحظ هنا ما يلي
ــ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم فوعظهم في أنفسهم فيما بينه وبينهم ولما أراد أن يعلّم الناس عموما أبهمهم ولم يفضحهم وإنما قال ما بال أقوام .. وهذا رفقا بهم وسترا عليهم مع تحصيل المصلحة في الإخبار العام .
ــ في الحديث تتبّع أحوال الأكابر للتأسي بأفعالهم والسير على منوالهم وأنّ التنقيب عن ذلك من كمال العقل والسعي في تربية النفس .
ــ وفيه أن الأمور المفيدة والمشروعة إذا تعذّرت معرفتها من جهة الرجال جاز استكشافها من جهة النساء
ــ وأنه لا بأس بحديث المرء عن عمله إذا أَمِن الرياء وكان في الإخبار منفعة للآخرين .
ــ وفيه أنّ الأخذ بالتشديد في العبادة يؤدي إلى إملال النفس القاطع لها عن أصل العبادة وخير الأمور أوساطها . أنظر الفتح 9/104(/13)
ــ أن الأخطاء عموما تنشأ من خلل في التصورات فإذا صلح التصور قلّت الأخطاء كثيرا وواضح من الحديث أن السبب الذي دفع أولئك الصحابة إلى تلك الصور من التبتّل والرهبانية والتشديد هو ظنّهم أن لا بد من الزيادة على عبادة النبي صلى الله عليه وسلم رجاء النجاة حيث أنه أُخبر من ربه بالمغفرة بخلافهم فصحح لهم النبي صلى الله عليه وسلم تصورهم المجانب للصواب وأخبرهم بأنه مع كونه مغفورا له فإنه أخشى الناس وأتقاهم لله وأمرهم بأن يلزموا سنته وطريقته في العبادة .
وقريب من هذا ما حصل لأحد الصحابة وهو كهمس الهلالي رضي الله عنه الذي روى قصته فقال : " أسلمت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بإسلامي فمكثت حولا وقد ضمرت ونحل جسمي ثم أتيته فخفض فيّ البصر ثمّ رفعه قلت : أما تعرفني ؟ قال : ومن أنت ؟ قلت : أنا كَهْمِس الهلالي ، قال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قلت : ما أفطرت بعدك نهارا ولا نمت ليلا ، فقال : ومن أمرك أن تعذّب نفسك ؟!. صم شهر الصبر ومن كل شهر يوما . قلت زدني ، قال : صم شهر الصبر ومن كل شهر يومين ، قلت : زدني أجد قوة ، قال : صم شهر الصبر ومن كلّ شهر ثلاثة أيام " . مسند الطيالسي رواه الطبراني في الكبير 19/194 رقم 435 وهو في السلسلة الصحيحة برقم 2623
ومن الخلل في التصورات ما يكون متعلقا بموازين تقويم الأشخاص والنظرة إليهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم حريصا على تصحيح ذلك وبيانه ففي صحيح البخاري عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا الفتح 6447
وفي رواية ابن ماجة : مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا الرَّجُلِ قَالُوا رَأْيَكَ فِي هَذَا نَقُولُ هَذَا مِنْ أَشْرَفِ النَّاسِ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُخَطَّبَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ لَمْ يُنْكَحْ وَإِنْ شَفَعَ لا يُشَفَّعْ وَإِنْ قَالَ لا يُسْمَعْ لِقَوْلِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا سنن ابن ماجة ط. عبد الباقي رقم 4120
(5) معالجة الخطأ بالموعظة وتكرار التخويف(/14)
عن جنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّهُمُ الْتَقَوْا فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ وَإِنَّ رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ قَالَ وَكُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَتَلَهُ فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ كَيْفَ صَنَعَ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لِمَ قَتَلْتَهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَتَلَ فُلانًا وَفُلانًا وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَتَلْتَهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي قَالَ وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ فَجَعَلَ لا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ كَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رواه مسلم ط. عبد الباقي رقم 97
وفي رواية أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلا فَقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ قَالَ أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ رواه مسلم رقم 69
ومما يدخل في مواجهة الخطأ بالموعظة : التذكير بقدرة الله وهذا مثال :
روى مسلم رحمه الله تعالى عن أَبُي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قال : كُنْتُ أَضْرِبُ غُلامًا لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ قَالَ فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ قَالَ فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي وفي رواية فَسَقَطَ مِنْ يَدِي السَّوْطُ مِنْ هَيْبَتِهِ فَقَالَ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلامِ قَالَ فَقُلْتُ لا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا وفي رواية فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَالَ أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ وفي رواية لمسلم أيضا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ قَالَ فَأَعْتَقَهُ صحيح مسلم رقم 1659
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ كُنْتُ أَضْرِبُ مَمْلُوكًا لِي فَسَمِعْتُ قَائِلا مِنْ خَلْفِي يَقُولُ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ فَمَا ضَرَبْتُ مَمْلُوكًا لِي بَعْدَ ذَلِكَ رواه الترمذي رقم 1948 قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
(6) إظهار الرحمة بالمخطئ
وهذا يكون في حال من يستحقّ ممن عَظُم ندمه واشتد أسفه وظهرت توبته مثلما يقع أحيانا من بعض المستفتين كما في مثل هذه قصة :(/15)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ ظَاهَرْتُ مِنْ زَوْجَتِي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ فَقَالَ وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ قَالَ رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ قَالَ فَلا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ سنن الترمذي رقم 1199
وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ مَا لَكَ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا قَالَ لا قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَا فَقَالَ فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لا قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ فَقَالَ أَنَا قَالَ خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَ اللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ رواه البخاري فتح 1936
إن هذا المستفتي المخطئ لم يكن هازلا ولا مستخفا بالأمر بل إن تأنيبه نفسه وشعوره بخطئه واضح من قوله : هلكت ، ولذلك استحق الرحمة ورواية أحمد رحمه الله فيها مزيد من التوضيح لحال الرجل عند مجيئه مستفتيا : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ يَلْطِمُ وَجْهَهُ وَيَنْتِفُ شَعَرَهُ وَيَقُولُ مَا أُرَانِي إِلا قَدْ هَلَكْتُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَهْلَكَكَ قَالَ أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً قَالَ لا قَالَ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لا قَالَ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لا وَذَكَرَ الْحَاجَةَ قَالَ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزِنْبِيلٍ وَهُوَ الْمِكْتَلُ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا أَحْسَبُهُ تَمْرًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ الرَّجُلُ قَالَ أَطْعِمْ هَذَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَحَدٌ أَحْوَجُ مِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ قَالَ أَطْعِمْ أَهْلَكَ المسند 2/516 الفتح الرباني 10/ 89.
(7) عدم التسرع في التخطئة(/16)
وقد حدثت لعمر رضي الله عنه قصة رواها بنفسه فقال : سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ رواه البخاري الفتح 4992
ومن الفوائد التربوية في هذه القصة ما يلي :
ـ أَمْر كل واحد منهما أن يقرأ أمام الآخر مع تصويبه أبلغ في تقرير صوابهما وعدم خطأ أيّ منهما .
ـ أمْر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بإطلاق هشام بقوله : ( أرسله يا عمر ) كما في رواية الترمذي للقصة صحيح الترمذي 3/16 فيه تهيئة الخصمين للاستماع وهما في حال الهدوء وفيه إشارة إلى استعجال عمر رضي الله عنه .
ـ على طالب العلم أن لا يستعجل بتخطئة من حكى قولا يخالف ما يعرفه إلا بعد التثبت فربما يكون ذلك القول قولا معتبرا من أقوال أهل العلم .
ومما يتعلق بهذا الموضوع أيضا : عدم التسرع في العقوبة وفي القصة التالية شاهد :
روى النسائي رحمه الله عَنْ عَبَّادِ بْنِ شُرَحْبِيلَ رضي الله عنه قَالَ قَدِمْتُ مَعَ عُمُومَتِي الْمَدِينَةَ فَدَخَلْتُ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهَا فَفَرَكْتُ مِنْ سُنْبُلِهِ فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَأَخَذَ كِسَائِي وَضَرَبَنِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَعْدِي عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَجَاءُوا بِهِ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ دَخَلَ حَائِطِي فَأَخَذَ مِنْ سُنْبُلِهِ فَفَرَكَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَلَّمْتَهُ إِذْ كَانَ جَاهِلا وَلا أَطْعَمْتَهُ إِذْ كَانَ جَائِعًا ارْدُدْ عَلَيْهِ كِسَاءهُ وَأَمَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَسْقٍ أَوْ نِصْفِ وَسْقٍ النسائي : المجتبى : كتاب آداب القضاة باب الاستعداء وهو في صحيح سنن النسائي رقم 4999
يُستفاد من هذه القصّة أنّ معرفة ظروف المخطئ أو المتعدي يوجّه إلى الطريقة السليمة في التعامل معه .
وكذلك يُلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعاقب صاحب البستان لأنه صاحب حقّ وإنما خطّأه في أسلوبه ونبهه بأنّ تصرّفه مع من يجهل لم يكن بالتصرّف السليم في مثل ذلك الموقف ثمّ أرشده إلى التصرّف الصحيح وأمره بردّ ما أخذه من ثياب الجائع .
(8) الهدوء في التعامل مع المخطئ(/17)
وخصوصا عندما يؤدي القيام عليه والاشتداد في نهيه إلى توسيع نطاق المفسدة ويمكن أن نتبين ذلك من خلال مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لخطأ الأعرابي الذي بال في المسجد كما جاء عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَمَرَ رَجُلا مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ صحيح مسلم رقم 285
لقد كانت القاعدة التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الخطأ : التيسير وعدم التعسير ، فقد جاء في رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ أَوْ سَجْلا مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ فتح 6128
لقد تحمّس الصحابة رضوان الله عليهم لإنكار المنكر حرصا على طهارة مسجدهم وروايات الحديث تدلّ على ذلك ومنها : ـ
" فصاح به الناس " ــ " فثار إليه الناس " ــ " فزجره الناس " ــ فأسرع إليه الناس " وفي رواية " فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه مه " جامع الأصول 7/83-87
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم نظر في عواقب الأمور وأن الأمر يدور بين احتمالين إما أن يُمنع الرجل وإما أن يُترك . وأنه لو مُنع فإما أن ينقطع البول فعلا فيحصل على الرجل ضرر من احتباس بوله وإما أن لا ينقطع ويتحرك خوفا منهم فيزداد انتشار النجاسة في المسجد أو على جسد الرجل وثيابه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم بثاقب نظره أن ترك الرجل يبول هو أدنى المفسدتين وأهون الشرين خصوصا وأن الرجل قد شرع في المفسدة والنجاسة يمكن تداركها بالتطهير ولذلك قال لأصحابه : دعوه لا تُزرموه أي لا تحبسوه . فأمرهم بالكفّ لأجل المصلحة الراجحة وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما
وقد جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم سأل الرجل عن سبب فعله ، فقد روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فبايعه في المسجد ثم انصرف فقام ففحج ثم بال فهمّ الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : لا تقطعوا على الرجل بوله ، ثم قال : ألست بمسلم ؟ قال : بلى ، قال ما حملك على أن بُلت في مسجدنا ؟ قال : والذي بعثك بالحقّ ما ظننته إلا صعيدا من الصعدات فبلت فيه . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فصبّ على بوله . رواه الطبراني في الكبير رقم 11552 ج11ص220 وقال الهيثمي في المجمع : رجاله رجال الصحيح 2/10
إن هذا الأسلوب الحكيم في المعالجة قد أحدث أثرا بالغا في نفس ذلك الأعرابي يتضح من عبارته كما جاء في رواية ابن ماجة : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِمُحَمَّدٍ وَلا تَغْفِرْ لأَحَدٍ مَعَنَا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَقَدِ احْتَظَرْتَ وَاسِعًا ثُمَّ وَلَّى حَتَّى إِذَا كَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَشَجَ ( فرّج ما بين رجليه ) يَبُولُ فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ بَعْدَ أَنْ فَقِهَ فَقَامَ إِلَيَّ بِأَبِي وَأُمِّي فَلَمْ يُؤَنِّبْ وَلَمْ يَسُبَّ فَقَالَ إِنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لا يُبَالُ فِيهِ وَإِنَّمَا بُنِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَلِلصَّلاةِ ثُمَّ أَمَرَ بِسَجْلٍ مِنْ مَاءٍ فَأُفْرِغَ عَلَى بَوْلِهِ سنن بن ماجة ط. عبد الباقي 529 وهو في صحيح بن ماجة 428
وقد ذكر بن حجر رحمه الله تعالى فوائد في شرح حديث الأعرابي منها :
* ــ الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادا ولا سيما إن كان ممن يُحتاج إلى استئلافه .
* ــ وفيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه .(/18)
* ــ وفيه أن الاحتراز من النجاسة كان مقررا في نفوس الصحابة ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته صلى الله عليه وسلم قبل استئذانه ولما تقرر عندهم أيضا من طلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
* ــ وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمرهم عند فراغه بصبّ الماء . الفتح 1/324-325
(9) بيان خطورة الخطأ
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة - دخل حديث بعضهم في بعض - أنه قال رجل في غزوة تبوك : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء . يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء . فقال عوف بن مالك : كذبت ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره ، فوجد القرآن قد سبقه ، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق ، قال ابن عمر : كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون } (التوبة :65) وما يلتفت إليه وما يزيد عليه .
ورواه ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء ! فقال رجل في المجلس : كذبت ، ولكنك منافق ! لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن . قال عبد الله بن عمر : فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة وهو يقول : يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب ! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم }. تفسير ابن جرير الطبري 14/333 ط. دار الكتب العلمية . الأولى 1412، ورجاله رجال الصحيح إلا هشام بن سعد فلم يخرج له مسلم إلا في الشواهد كما في الميزان ، وأخرجه الطبري من طريقه وله شاهد بسند حسن عند ابن حاتم من حديث كعب بن مالك . ( الصحيح المسند من أسباب النزول صـ 71 ).
(10) بيان مضرة الخطأ
عن أَبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِي قَالَ : كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلا إِلا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ رواه أبو داود رحمه الله تعالى في سننه 2286 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم 2288. وفي رواية : حَتَّى إِنَّكَ لَتَقُولُ لَوْ بَسَطْتُ عَلَيْهِمْ كِسَاءً لَعَمَّهُمْ :أحمد : الفتح الرباني 14/44
ويُلاحظ رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، وفيه حرص القائد على مصلحة جنوده .
وأن تفرّق الجيش إذا نزل فيه تخويف الشيطان للمسلمين وإغراء للعدو بهم انظر عون المعبود 7/292 والتفرق يمنع بعض الجيش من معونة بعض انظر دليل الفالحين 6/130
ويُلاحظ امتثال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لتوجيهه فيما استقبلوا من أمرهم .
ومن الأمثلة أيضا على بيان مضرة الخطأ وخطورته حديث النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ رواه البخاري في صحيحه فتح رقم 717
وفي صحيح مسلم عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَان بن بَشِير يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ فَرَأَى رَجُلا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ فَقَالَ عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ صحيح مسلم رقم 436
وروى النسائي عن أنس رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَاصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لأَرَى الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ ( أي الغنم السود الصغار ) المجتبى 2/92 صححه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم 785.(/19)
فتبيين مفاسد الخطأ وما يترتب عليه من العواقب أمر مهم في الإقناع للمخطئ ، وقد تكون عاقبة الخطأ على المخطئ نفسه وقد تتعدى إلى آخرين فمن الأول ما رواه أبو داود رحمه الله تعالى في سننه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ وَقَالَ مُسْلِمٌ إِنَّ رَجُلا نَازَعَتْهُ الرِّيحُ رِدَاءهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَعَنَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَلْعَنْهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ أبو داود رقم 4908 وهو في صحيح أبي داود رقم 4102
ومثال الثاني ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وفي رواية لمسلم : فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي كَذَا وَكَذَا صحيح مسلم رقم 3000 ) فَقَالَ وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ مِرَارًا ثُمَّ قَالَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلانًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ وَلا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ 2662 كتاب الشهادات وفي رواية البخاري في الأدب المُفرد عن محجن الأسلمي رضي الله عنه في قصة له قال : حتى إذا كنا في المسجد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي ويسجد ويركع فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا ؟ فأخذت أُطريه فقلت : يا رسول الله هذا فلان وهذا وهذا [ وفي رواية في الأدب المفرد أيضا هذا فلان وهو من أحسن أهل المدينة صلاة ] فقال : أمسك ، لا تُسمعه فتهلكه . صحيح الأدب المفرد 137 وقال الألباني : حسن
وفي رواية للبخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ فَقَالَ أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهَرَ الرَّجُلِ فتح 2663
فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هنا لهذا المبالغ في المدح المخطئ فيه عاقبة خطئه وذلك أن الزيادة في الإطراء تُدخل في قلب الممدوح الغرور فيتيه بنفسه كبرا أو إعجابا وربما يفتر عن العمل متواكلا على الشهرة الآتية من المدح أو يقع في الرياء لما يحسّه من لذة المدح فيكون في ذلك هلاكه وهو ما عبّر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله : " أهلكتم " أو " قطعتم عنق الرجل " أو " ظهر الرجل " .
ثم إن المادح قد يجازف في المدح ويقول ما لايتحققه ويجزم بما لا يستطيع الاطلاع عليه وقد يكذب وقد يرائي الممدوح بمدحه فتكون الطامة لاسيما إن كان الممدوح ظالما أو فاسقا انظر الفتح 10/478
والمدح ليس منهيا عنه بإطلاق وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم أشخاصا وهم حضور وقد جاء في عنوان الباب في صحيح مسلم إيضاح مهم : بَاب النَّهْيِ عَنِ الْمَدْحِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِفْرَاطٌ وَخِيفَ مِنْهُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمَمْدُوحِ * كتاب الزهد والرقائق صحيح مسلم
والذي يعدّ نفسه مقصّرا لا يضره المدح وإذا مُدح لم يغترّ لأنه يعرف حقيقة نفسه قال بعض السلف : إذا مُدح الرجل في وجهه فليقل : اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ، ولا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني خيرا مما يظنون . فتح 10/ 478 .
(11) تعليم المخطئ عمليا
في كثير من الأحيان يكون التعليم العملي أقوى وأشد أثرا من التعليم النظري وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى جبير بن نفير عن أبيه أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر له بوَضوء فقال : توضأ يا أبا جبير ، فبدأ أبو جبير بفيه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبتدأ بفيك يا أبا جبير فإن الكافر يبتدأ بفيه ، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوَضوء ، فغسل كفيه حتى أنقاهما ثم تمضمض واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا وغسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا واليسرى ثلاثا ومسح رأسه وغسل رجليه . رواه البيهقي في السنن 1/46 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 2820
والملاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عمد إلى تنفير ذلك الصحابي من فعله المجانب للصواب عندما أخبره أن الكافر يبدأ بفيه ولعل المعنى أن الكافر لا يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء أفادنيه العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز عندما سألته عن شرح الحديث وهذا من عدم المحافظة على النظافة والله أعلم .
(12) تقديم البديل الصحيح(/20)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاةِ قُلْنَا السَّلامُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ السَّلامُ عَلَى فُلانٍ وَفُلانٍ ( وفي رواية النسائي السلام على جبريل السلام على ميكائيل المجتبى : كتاب التطبيق : باب كيف التشهد الأول وهو في صحيح سنن النسائي رقم 1119 ) فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَقُولُوا السَّلامُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ فِي السَّمَاءِ أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو البخاري فتح 835
ومن هذا الباب أيضا ما روى أَنَس رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا رواه البخاري فتح 405
وفي رواية : لا يَتْفِلَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ رِجْلِهِ رواه البخاري الفتح 412
ومثال آخر : عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ بِلالٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَيْنَ هَذَا قَالَ بِلالٌ كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ أَوَّهْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا لا تَفْعَلْ وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ رواه البخاري فتح 2312 وفي رواية : أَنَّ غُلامًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ بِتَمْرٍ رَيَّانَ وَكَانَ تَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْلا فِيهِ يُبْسٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّى لَكَ هَذَا التَّمْرُ فَقَالَ هَذَا صَاعٌ اشْتَرَيْنَاهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ تَمْرِنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَفْعَلْ فَإِنَّ هَذَا لا يَصْلُحُ وَلَكِنْ بِعْ تَمْرَكَ وَاشْتَرِ مِنْ أَيِّ تَمْرٍ شِئْتَ مسند أحمد 3/67 .
والذي نجده في واقع بعض الدعاة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر قصورا في دعوتهم عند إنكار بعض أخطاء الناس ، وذلك بالاكتفاء بالتخطئة وإعلان الحرمة دون تقديم البديل أو بيان ما هو الواجب فعله إذا حصل الخطأ ، ومعلوم من طريقة الشريعة أنها تقدّم البدائل عوضا عن أي منفعة محرمة فلما حرّمت الزنا شرعت النكاح ولما حرّمت الربا أباحت البيع ولما حرّمت الخنزير والميتة وكلّ ذي ناب ومخلب أباحت الذبائح من بهيمة الأنعام وغيرها وهكذا . ثمّ لو وقع الشخص في أمر محرّم فقد أوجدت له الشريعة المخرج بالتوبة والكفارة كما هو مبيّن في نصوص الكفارات . فينبغي على الدعاة أن يحذوا حذو الشريعة في تقديم البدائل وإيجاد المخارج الشرعية . من الأمثلة لتقديم البديل ذكر الحديث الصحيح الذي يُغني عن الحديث الضعيف أو الموضوع .(/21)
ومما تجدر الإشارة إليه أن مسألة تقديم البديل هي بحسب الإمكان والقدرة فقد يكون الأمر أحيانا خطأ يجب الامتناع عنه ولا يوجد في الواقع بديل مناسب إما لفساد الحال وبعد الناس عن شريعة الله أو أن الآمر الناهي لا يستحضر شيئا أو ليس لديه إلمام بالبدائل الموجودة في الواقع فهو سينكر ويُغيّر الخطأ ولو لم يوجد لديه بديل يقوله ويوجّه إليه وهذا يقع كثيرا في بعض التعاملات المالية وأنظمة الاستثمار التي نشأت في مجتمعات الكفار ونُقلت بما هي عليه من المخالفات الشرعية إلى مجتمعات المسلمين ، وفي المسلمين من القصور والضعف ما يحول دون إيجاد البديل الشرعي وتعميمه . ولكن يبقى الحال أن ذلك قصور ونقص وأن المنهج الإلهي فيه البدائل والمخارج التي ترفع الحرج والعنت عن المسلمين علمها من علمها وجهلها من جهلها .
(13) الإرشاد إلى ما يمنع من وقوع الخطأ
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَزَّارِ مِنَ الْجُحْفَةِ اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ ( المخبأة : هي الفتاة في خدرها وهو كناية عن شدة بياضه ) فَلُبِطَ سَهْلٌ ( أي : صُرع وسقط على الأرض ) فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَمَا يُفِيقُ قَالَ هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ قَالُوا نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ عَلامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ هَلا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ اغْتَسِلْ لَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ يُكْفِئُ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ المسند 3/486 وقال الهيثمي : رجال أحمد رجال الصحيح ، المجمع 5/107.
وفي رواية مالك رحمه الله عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ اغْتَسَلَ أَبِي سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ بِالْخَرَّارِ فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ يَنْظُرُ قَالَ وَكَانَ سَهْلٌ رَجُلا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِلْدِ قَالَ فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلا جِلْدَ عَذْرَاءَ قَالَ فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ وَاشْتَدَّ وَعْكُهُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْبِرَ أَنَّ سَهْلا وُعِكَ وَأَنَّهُ غَيْرُ رَائِحٍ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ سَهْلٌ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ عَامِرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَلا بَرَّكْتَ إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ تَوَضَّأْ لَهُ فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرٌ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ الموطأ رقم الحديث 1972.
وقد تضمنت هذه القصة :
ـ تغيظ المربي على من تسبب في إيذاء أخيه المسلم
ـ بيان مضرة الخطأ وأنه ربما يؤدي إلى القتل
ـ الإرشاد إلى ما يمنع من وقوع الضرر وإيذاء المسلم
(14) عدم مواجهة بعض المخطئين بالخطأ والاكتفاء بالبيان العام
عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ رواه البخاري فتح حديث رقم 750(/22)
ولما أرادت عَائِشَةَ رضي الله عنها شراء جارية اسمها بريرة رفض أهلها بيعها إلا بشرط أن يَكُونَ الْوَلاءُ لَهُمْ فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ القصة رواها البخاري رحمه الله تعالى في مواضع متعددة من صحيحه انظر فتح 5636
وعن عَائِشَةُ رضي الله عنها قالت : صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَ اللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً فتح 6101
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا وَوَصَفَ الْقَاسِمُ فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ صحيح مسلم رقم 550
وروى النسائي في سننه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ فَقَرَأَ الرُّومَ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُصَلُّونَ مَعَنَا لا يُحْسِنُونَ الطُّهُورَ فَإِنَّمَا يَلْبِسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ أُولَئِكَ سنن النسائي : المجتبى 2/ 156.رجاله ثقات وعبد الملك بن عمير قال عنه الحافظ : ثقة عالم تغير حفظه وربما دلّس ورواه أحمد رحمه الله تعالى عَنْ أَبِي رَوْحٍ الْكَلَاعِيِّ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةً فَقَرَأَ فِيهَا سُورَةَ الرُّومِ فَلَبَسَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا قَالَ إِنَّمَا لَبَسَ عَلَيْنَا الشَّيْطَانُ الْقِرَاءَةَ مِنْ أَجْلِ أَقْوَامٍ يَأْتُونَ الصَّلاةَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ فإذا أتيتم الصلاة َ فَأَحْسِنُوا الْوُضُوءَ . وكذلك رواه عن شعبة عن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ شَبِيبًا أَبَا رَوْحٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ فَقَرَأَ فِيهَا الرُّومَ فَأَوْهَمَ فَذَكَرَهُ ورواه رحمه الله أيضا عن زائدة وسفيان عن عبد الملك المسند 3/473
والأمثلة كثيرة ويجمعها عدم فضح صاحب الخطأ . وأسلوب التعريض بالمخطئ وعدم مواجهته له فوائد منها :
1ـ تجنّب ردّ الفعل السلبي للمخطئ وإبعاده عن تزيين الشيطان له بالانتقام الشخصي والانتصار للنفس
2ـ أنه أكثر قبولا وتأثيرا في النفس
3ـ أنه أستر للمخطئ بين الناس
4ـ ازدياد منزلة المربي وزيادة المحبة للناصح
وينبغي الانتباه إلى أنّ أسلوب التعريض هذا لإيصال الحكم إلى المخطئ دون فضحه وإحراجه إنما يكون إذا كان أمر المخطئ مستورا لا يعرفه أكثر الناس أما إذا كان أكثر الحاضرين يعرفونه وهو يعلم بذلك فإن الأسلوب حينئذ قد يكون أسلوب تقريع وتوبيخ وفضح بالغ السوء والمضايقة للمخطئ بل إنه ربما يتمنى لو أنه ووجه بخطئه ولم يُستعمل معه ذلك الأسلوب . ومن الأمور المؤثرة فرْقا : من هو الذي يوجّه الكلام ؟ وبحضرة من يكون الكلام ؟ وهل كان بأسلوب الإثارة والاستفزاز أم بأسلوب النصح والإشفاق ؟
فالأسلوب غير المباشر أسلوب تربوي نافع للمخطئ ولغيره إذا استُعمل بحكمة .
(15) إثارة العامة على المخطئ
وهذا يكون في أحوال معينة وينبغي أن يوزن وزنا دقيقا حتى لا تكون له مضاعفات سلبية وفيما يلي مثال نبوي لهذه الوسيلة :(/23)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ اذْهَبْ فَاصْبِرْ فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَقَالَ اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ لا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ رواه أبو داود كتاب الأدب باب : في حق الجوار رقم 5153 وهو في صحيح أبي داود 4292
ويقابل هذا الأسلوب أسلوب آخر يُستخدم في أحوال أخرى ومع أشخاص آخرين في حماية المخطئ من إيذاء العامة ويبينه الفقرة التالية :
(16) تجنب إعانة الشيطان على المخطئ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَلْعَنُوهُ فَوَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ رواه البخاري فتح 6780
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ رواه البخاري فتح 6781
وعَنهْ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قال : أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ قَالَ اضْرِبُوهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ أَخْزَاكَ اللَّهُ قَالَ : [ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] لا تَقُولُوا هَكَذَا لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ البخاري فتح 6777
وفي رواية ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ بَكِّتُوهُ فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ مَا خَشِيتَ اللَّهَ وَمَا اسْتَحْيَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ وَقَالَ فِي آخِرِهِ وَلَكِنْ قُولُوا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ الْكَلِمَةَ وَنَحْوَهَا أبو داود كتاب الحدود باب الحد في الخمر رقم 4478 4/620 ، صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم 3759
وفي رواية : فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ أَخْزَاكَ اللَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَقُولُوا هَكَذَا لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ وَلَكِنْ قُولُوا رَحِمَكَ اللَّهُ رواه أحمد 2/300 قال أحمد شاكر : إسناده صحيح المسند ت. أحمد شاكر رقم 7973.
ويستفاد من مجموع هذه الروايات أنّ المسلم وإن وقع في معصية فإنه يبقى معه أصل الإسلام وأصل المحبة لله ورسوله فلا يجوز أن يُنفى عنه ذلك ولا أن يُدعى عليه بما يعين عليه الشيطان بل يُدعى له بالهداية والمغفرة والرحمة .
(17) طلب الكف عن الفعل الخاطئ
من الأهمية بمكان إيقاف المخطئ عن الاستمرار في الخطأ حتى لا يزداد سوءا وحتى يحصل القيام بإنكار المنكر ولا يتأخر
عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لا وَأَبِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ إِنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ رواه الإمام أحمد 1/47 وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح رقم 329
"مه " كلمة زجر وإنكار بمعنى : اكفف
وروى أبو داود في سننه عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ رضي الله عنه قال : جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ(/24)
وروى الترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سنن الترمذي رقم 2478 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 343
ففي هذه الأحاديث الطلب المباشر من المخطئ بالكفّ والامتناع عن فعله .
(18) إرشاد المخطئ إلى تصحيح خطئه
وقد كان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أساليب منها :
ــ محاولة لفت نظر المخطئ إلى خطئه ليقوم بتصحيحه بنفسه
ومن الأمثلة على ذلك ما رواه أَبِو سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه وكان مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَدَخَلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى رَجُلا جَالِسًا وَسَطَ الْمَسْجِدِ مُشَبِّكًا بَيْنَ أَصَابِعِهِ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَفْطِنْ قَالَ فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَزَالُ فِي صَلاةٍ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ رواه أحمد في مسنده 3/54 وقال الهيثمي في المجمع : إسناده حسن 2/25
ـ طلب إعادة الفعل على الوجه الصحيح إذا كان ذلك ممكنا
فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْكَ السَّلامُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ فَقَالَ وَعَلَيْكَ السَّلامُ فَارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا رواه الجماعة واللفظ للبخاري فتح 6251
ومن الملاحظ :
* أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتبه لأفعال الناس من حوله كي يعلمهم وقد وقع في رواية النسائي : أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمُقُهُ وَنَحْنُ لا نَشْعُرُ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ .. الحديث 2/193 صحيح سنن النسائي رقم 1008
فمن صفة المربي أن يكون يقظا لأفعال من معه
* إن من الحكمة في التعليم طلب إعادة الفعل من المخطئ لعله ينتبه إلى خطئه فيصححه بنفسه خصوصا إذا كان الخطأ ظاهرا لا ينبغي أن يحدث منه وربما يكون ناسيا فيتذكر
* إن المخطئ إذا لم ينتبه إلى خطئه وجب البيان والتفصيل
* إن إعطاء المعلومة للشخص إذا اهتم بمعرفتها وسأل عنها وتعلقت بها نفسه أوقع أثرا في حسّه وأحفظ في ذهنه من إعطائه إياها ابتداء دون سؤال ولا تشوّف .
إن وسائل التعليم كثيرة يختار منها المربي ما يُناسب الحال والظرف .
ومن أمثلة طلب إعادة الفعل الخاطئ على الوجه الصحيح أيضا ما رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عَنْ جَابِرٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى صحيح مسلم 243(/25)
ومثال ثالث فيما رواه الترمذي رحمه الله تعالى في سننه عن كَلَدَةَ بْنَ حَنْبَلٍ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ بِلَبَنٍ وَلِبَأٍ وَضَغَابِيسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْلَى الْوَادِي قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعْ فَقُلِ السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ رواه الترمذي رقم 2710 قال الترمذي حديث حسن غريب وضغابيس هو حشيش يؤكل والحديث في صحيح سنن الترمذي رقم 2180
ـ طلب تدارك ما أمكن لتصحيح الخطأ
فقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَاكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ الفتح 5233
ـ إصلاح آثار الخطأ
روى النسائي رحمه الله تعالى في سننه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ قَالَ ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا المجتبى 7/143 وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم 3881.
ـ الكفارة عن الخطأ
إذا كانت بعض الأخطاء لا يمكن استدراكها فإن الشريعة قد جعلت أبوابا أُخر لمحو أثرها ومن ذلك الكفارات وهي كثيرة ككفارة اليمين والظهار وقتل الخطأ والوطء في نهار رمضان وغيرها .
(19) إنكار موضع الخطأ وقبول الباقي
قد لا يكون الكلام أو الفعل كله خطأ فيكون من الحكمة الاقتصار في الإنكار على موضع الخطأ وعدم تعميم التخطئة لتشمل سائر الكلام أو الفعل ، يدلّ على ذلك ما أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ قالت : جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ دَعِي هَذِهِ وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ فتح 5147 وفي رواية الترمذي : فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْكُتِي عَنْ هَذِهِ وَقُولِي الَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ قَبْلَهَا قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ سنن الترمذي طبعة شاكر 1090
وفي رواية ابن ماجة فَقَالَ أَمَّا هَذَا فَلا تَقُولُوهُ مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلا اللَّهُ سنن ابن ماجة ط. عبدالباقي رقم 1879 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه برقم 1539.
ولا شك أن مثل هذا التصرّف يُشعر المخطئ بانصاف وعدل القائم بالإنكار والتصحيح ويجعل تنبيهه أقرب للقبول في نفس المخطئ بخلاف بعض المُنكرين الذين قد يغضب أحدهم من الخطأ غضبا يجعله يتعدّى في الإنكار يصل به إلى تخطئة ورفض سائر الكلام بما اشتمل عليه من حق وباطل مما يسبّب عدم قبول كلامه وعدم انقياد المخطئ للتصحيح .
وبعض المخطئين لا يكون خطؤهم في ذات الكلام الذي تفوّهوا به ولكن في المناسبة التي قالوا فيها ذلك الكلام كمثل قول البعض عند وفاة شخص : الفاتحة ثمّ يقرؤها الحاضرون وقد يحتجون بأن ما قرأوه قرآنا وليس كفرا فلا بدّ أن يبيّن لهم أنّ الخطأ في فعلهم هو في تخصيص الفاتحة بهذه المناسبة على وجه التعبّد دون دليل شرعي وهذه هي البدعة بعينها . وهذا المعنى هو الذي لفت إليه ابن عمر رضي الله عنه نظر رجل عَطَسَ إِلَى جَنْبِه فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ سنن الترمذي رقم 2738
(20) إعادة الحق إلى صاحبه وحفظ مكانة المخطئ(/26)
روى مسلم عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلا مِنَ الْعَدُوِّ فَأَرَادَ سَلَبَهُ فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لِخَالِدٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ قَالَ اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ادْفَعْهُ إِلَيْهِ فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتُغْضِبَ فَقَالَ لا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ لا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبِلا أَوْ غَنَمًا فَرَعَاهَا ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ وَتَرَكَتْ كَدْرَهُ فَصَفْوُهُ لَكُمْ وَكَدْرُهُ عَلَيْهِمْ مسلم بشرح النووي 12/64
ورواه الإمام أحمد رحمه الله بسياق أتم من هذا عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ غَزَوْنَا غَزْوَةً إِلَى طَرَفِ الشَّامِ فَأُمِّرَ عَلَيْنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ فَانْضَمَّ إِلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَمْدَادِ حِمْيَرَ فَأَوَى إِلَى رَحْلِنَا لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ إِلا سَيْفٌ لَيْسَ مَعَهُ سِلاحٌ غَيْرَهُ فَنَحَرَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَزُورًا فَلَمْ يَزَلْ يَحْتَلْ حَتَّى أَخَذَ مِنْ جِلْدِهِ كَهَيْئَةِ الْمِجَنِّ حَتَّى بَسَطَهُ عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ وَقَدَ عَلَيْهِ حَتَّى جَفَّ فَجَعَلَ لَهُ مُمْسِكًا كَهَيْئَةِ التُّرْسِ فَقُضِيَ أَنْ لَقِينَا عَدُوَّنَا فِيهِمْ أَخْلاطٌ مِنَ الرُّومِ وَالْعَرَبِ مِنْ قُضَاعَةَ فَقَاتَلُونَا قِتَالا شَدِيدًا وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ وَسَرْجٍ مُذَهَّبٍ وَمِنْطَقَةٍ مُلَطَّخَةٍ ذَهَبًا وَسَيْفٌ مِثْلُ ذَلِكَ فَجَعَلَ يَحْمِلُ عَلَى الْقَوْمِ وَيُغْرِي بِهِمْ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الْمَدَدِيُّ يَحْتَالُ لِذَلِكَ الرُّومِيِّ حَتَّى مَرَّ بِهِ فَاسْتَقْفَاهُ فَضَرَبَ عُرْقُوبَ فَرَسِهِ بِالسَّيْفِ فَوَقَعَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ ضَرْبًا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ الْفَتْحَ أَقْبَلَ يَسْأَلُ لِلسَّلَبِ وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّاسُ بِأَنَّهُ قَاتِلُهُ فَأَعْطَاهُ خَالِدٌ بَعْضَ سَلَبِهِ وَأَمْسَكَ سَائِرَهُ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى رَحْلِ عَوْفٍ ذَكَرَهُ فَقَالَ لَهُ عَوْفٌ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَلْيُعْطِكَ مَا بَقِيَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِ فَمَشَى عَوْفٌ حَتَّى أَتَى خَالِدًا فَقَالَ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ قَالَ بَلَى قَالَ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ سَلَبَ قَتِيلِهِ قَالَ خَالِدٌ اسْتَكْثَرْتُهُ لَهُ قَالَ عَوْفٌ لَئِنْ رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَذْكُرَنَّ ذَلِكَ لَهُ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعَثَهُ عَوْفٌ فَاسْتَعْدَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا خَالِدًا وَعَوْفٌ قَاعِدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَمْنَعُكَ يَا خَالِدُ أَنْ تَدْفَعَ إِلَى هَذَا سَلَبَ قَتِيلِهِ قَالَ اسْتَكْثَرْتُهُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ ادْفَعْهُ إِلَيْهِ قَالَ فَمَرَّ بِعَوْفٍ فَجَرَّ عَوْفٌ بِرِدَائِهِ فَقَالَ لِيَجْزِي لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتُغْضِبَ فَقَالَ لا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكِي أُمَرَائِي إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبِلا أَوْ غَنَمًا فَرَعَاهَا ثُمَّ تَخَيَّرَ سَقْيَهَا فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَةَ الْمَاءِ وَتَرَكَتْ كَدَرَهُ فَصَفْوُهُ لَكُمْ وَكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ(/27)
ونلاحظ أن خالدا لما أخطأ في اجتهاده بمنع القاتل من السلب الكثير أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضع الأمر في نصابه بإعادة الحق إلى صاحبه ولكنه عليه الصلاة والسلام غضب لما سمع عوفا رضي الله عنه يعرّض بخالد ويتهكم عليه بقوله : هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عوف قد جرّ برداء خالد لمّا مرّ بجانبه فقال صلى الله عليه وسلم : لا تُعطه يا خالد وهذا من باب ردّ الاعتبار إلى الأمير والقائد لأن في حفظ مكانته بين الناس مصلحة ظاهرة .
وقد يرد هنا الإشكال الآتي : إذا كان القاتل قد استحق السلب فكيف يمنعه إياه ؟ أجاب النووي رحمه الله عن ذلك بوجهين :
أحدهما : لعله أعطاه بعد ذلك للقاتل وإنما أخّره تعزيرا له ولعوف بن مالك لكونهما أطلقا ألسنتهما في خالد رضي الله عنه وانتهكا حرمة الوالي ومن ولاّه .
الوجه الثاني : لعله استطاب قلب صاحبه فتركه صاحبه باختياره وجعله للمسلمين ، وكان المقصود بذلك استطابة قلب خالد رضي الله عنه للمصلحة في إكرام الأمراء . الفتح الرباني 14/84
ومن شواهد مسألة إعادة الاعتبار لمن أُخطِئ عليه ما جاء في مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ رَجُلا مَرَّ عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلامَ فَلَمَّا جَاوَزَهُمْ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا فِي اللَّهِ فَقَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ بِئْسَ وَاللَّهِ مَا قُلْتَ أَمَا وَاللَّهِ لَنُنَبِّئَنَّهُ قُمْ يَا فُلانُ رَجُلا مِنْهُمْ فَأَخْبِرْهُ قَالَ فَأَدْرَكَهُ رَسُولُهُمْ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَرْتُ بِمَجْلِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ فُلانٌ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا السَّلامَ فَلَمَّا جَاوَزْتُهُمْ أَدْرَكَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فُلانًا قَالَ وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا الرَّجُلَ فِي اللَّهِ فَادْعُهُ فَسَلْهُ عَلَى مَا يُبْغِضُنِي فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فَسَأَلَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ وَقَالَ قَدْ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِمَ تُبْغِضُهُ قَالَ أَنَا جَارُهُ وَأَنَا بِهِ خَابِرٌ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّي صَلاةً قَطُّ إِلا هَذِهِ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ قَالَ الرَّجُلُ سَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَآنِي قَطُّ أَخَّرْتُهَا عَنْ وَقْتِهَا أَوْ أَسَأْتُ الْوُضُوءَ لَهَا أَوْ أَسَأْتُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِيهَا فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لا ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يَصُومُ قَطُّ إِلا هَذَا الشَّهْرَ الَّذِي يَصُومُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَآنِي قَطُّ أَفْطَرْتُ فِيهِ أَوِ انْتَقَصْتُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لا ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُعْطِي سَائِلا قَطُّ وَلا رَأَيْتُهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فِي شَيْءٍ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ إِلا هَذِهِ الصَّدَقَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ قَالَ فَسَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ كَتَمْتُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا قَطُّ أَوْ مَاكَسْتُ فِيهَا طَالِبَهَا قَالَ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُمْ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ خَيْرٌ مِنْكَ ورد في المسند بعد هذا الحديث مباشرة ما يلي : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا الطُّفَيْلِ قَالَ عَبْد اللَّهِ بَلَغَنِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ حِفْظِهِ وَقَالَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ حَدَّثَ بِهِ ابْنُهُ يَعْقُوبُ عَنْ أَبِيهِ فَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا الطُّفَيْلِ فَأَحْسِبُهُ وَهِمَ وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ يَعْقُوبَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ * المسند 5/455 وقال الهيثمي رجال أحمد ثقات أثبات المجمع 1/291(/28)
ومن الأمور المهمة حفظ مكانة المخطئ بعد توبته ورجوعه لكي يثبت على الاستقامة ويمارس حياة عادية بين الناس وقد جاء في قصة المرأة المخزومية التي قُطعت يدها عن عائشة رضي الله عنها : فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ وَتَزَوَّجَتْ وَكَانَتْ تَأتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحيح مسلم رقم 1688 وقد تقدم
(21) توجيه الكلام إلى طرفي النزاع في الخطأ المشترك
في كثير من الأحيان يكون الخطأ مشتركا ويكون المخطئ مخطَأً عليه في الوقت نفسه ولكن نسبة الخطأ ربما تتفاوت بين الطرفين فينبغي توجيه الكلام والنصح إلى طرفي الخطأ وفيما يلي مثال :
عن عبد الله بن أبي أوفى قال : شكا عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا خالد لا تُؤذ رجلا من أهل بدر فلو أنفقت مثل أحد ذهبا لم تدرك عمله فقال : يقعون فيّ فأردّ عليهم فقال : لا تُؤذوا خالدا فإنه سيف من سيوف الله عز وجل صبه الله على الكفار . قال الهيثمي : رجال الطبراني ثقات المجمع 9/349 وانظر المعجم الكبير للطبراني حديث رقم :3801
(22) مطالبة المخطئ بالتحلل ممن أخطأ عليه
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما فقال أحدهما لصاحبه إن هذا لنؤوم ( هذا في تفسير ابن كثير في ط. دار الشعب وفي اللفظ الذي ساقه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 2608 إن هذا ليوائم نوم نبيكم صلى الله عليه وسلم وفي رواية ليوائم نوم بيتكم ) فأيقظاه فقالا ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن أبا بكر وعمر يُقرئانك السلام وهما يستأدمانك ( أي يطلبان الإدام للطعام ) فقال : أقرهما السلام وأخبرهما أنهما قد ائتدما !
ففزعا فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله بعثنا إليك نستأدمك فقلت قد ائتدما فبأي شيء ائتدمنا ؟ قال : بلحم أخيكما ، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين أنيابكما . يعني لحم الذي استغاباه ، قالا : فاستغفر لنا ، قال : هو فليستغفر لكما . السلسلة الصحيحة رقم 2608 وعزاه إلى الخرائطي في مساوئ الأخلاق والضياء في المختارة وأورده ابن كثير في تفسير سورة الحجرات 7/363 ط. دار الشعب
(23) تذكير المخطئ بفضل من أخطأ عليه ليندم ويعتذر
وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما حصل بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقد روى البخاري رحمه الله تعالى في كتاب التفسير من صحيحه عن أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال : كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ ( أي : دخل في خصومة ) قَالَ وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي إِنِّي قُلْتُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ فتح 4640(/29)
وروى البخاري القصة أيضا في كتاب المناقب من صحيحه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلاثًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا لا فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو ( هكذا لفظه في فضائل الصحابة وفي كتاب التفسير تاركون ) لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا فتح رقم 3661
(24) التدخل لتسكين الثائرة ونزع فتيل الفتنة بين المخطئين
وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عدد من المواضع ولما أوشك أن يقع بين المسلمين اقتتال تدخّل عليه الصلاة والسلام كما جاء في حادثة الإفك عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ في تلك القصة : فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلا خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلا خَيْرًا وَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلا مَعِي قَالَتْ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْذِرُكَ فَإِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ قَالَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ فَخِذِهِ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ قَالَتْ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلا صَالِحًا وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدٍ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لا تَقْتُلُهُ وَلا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطِكَ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ قَالَتْ فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَتْ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا متفق عليه الفتح 4141
وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم وتأخّر من أجل ذلك عن بداية صلاة الجماعة كما في الصحيحين وفي رواية النسائي : عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قال : وَقَعَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ كَلامٌ حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ فَأَذَّنَ بِلالٌ وَانْتُظِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتُبِسَ فَأَقَامَ الصَّلاةَ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ .. الحديث المجتبى كتاب آداب القضاة 8/243 وفي رواية لأحمد عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ : أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آتٍ فَقَالَ إِنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَدِ اقْتَتَلُوا وَتَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ .. المسند 5/338
(25) إظهار الغضب من الخطأ(/30)
إذا رآه أو سمع به وخصوصا عندما يكون الخطأ متعلقا بالاعتقاد ومن ذلك الخوض في القدر والتنازع في القرآن : ففي سنن ابن ماجة عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ فَكَأَنَّمَا يُفْقَأُ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ فَقَالَ بِهَذَا أُمِرْتُمْ أَوْ لِهَذَا خُلِقْتُمْ تَضْرِبُونَ الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ بِهَذَا هَلَكَتِ الأُمَمُ قَبْلَكُمْ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ تَخَلَّفْتُ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَتَخَلُّفِي عَنْهُ رواه ابن ماجة رقم 85 وقال في الزوائد : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات وقال في صحيح ابن ماجة : حسن صحيح رقم 69 وعند ابن أبي عاصم في كتاب السنة : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر ، هذا ينزع آية وهذا ينزع آية فكأنما سُفي في وجهه حب الرمان فقال ألهذا خلقتم أم بهذا أُمرتم لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا ما أُمرتم به فاتبعوه وما نُهيتم عنه فاجتنبوه . السنة لابن أبي عاصم ت: الألباني رقم 406 وقال : إسناده حسن
ومما حصل من غضبه صلى الله عليه وسلم إنكارا في مسألة من الأساسات ما حصل في قصة عمر رضي الله عنه في قضية مصدر التلقي فقد روى أحمد رحمه الله تعالى في مسنده عَنْ جَابِرِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ (!) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي مسند أحمد 3/387 وحسنه الألباني بشواهده في الإرواء رقم 1589 ومعنى متهوكون أي : متحيرون
وقد روى الحديث أيضا الدارمي رحمه الله تعالى عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُسْخَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ نُسْخَةٌ مِنَ التَّوْرَاةِ فَسَكَتَ فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ يَتَغَيَّرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ مَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي لاتَّبَعَنِي سنن الدارمي رقم 441 : المقدمة : باب ما يُتقى من تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم وقال المحقق عبدالله هاشم يماني : رواه أيضا أحمد بإسناد حسن وابن حبان بإسناد صحيح
ومن شواهده حديث أبي الدرداء : قال : جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن زيد ـ الذي أُريَ الأذان ـ أمسخ الله عقلك ؟ ألا ترى الذي بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالا بعيدا أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين قال الهيثمي في المجمع : رواه الطبراني في الكبير وفيه أبو عامر القاسم بن محمد الأسدي ولم أر من ترجمه وبقية رجاله موثقون المجمع 1/174
ونلاحظ في شواهد هذه القصة الدور المساند للمربي من قِبَل الحاضرين مع ملاحظة تغيّر وجه المربي واتخاذ الموقف بناء على ذلك ولا شك أنّ اجتماع هذه الأمور يُحدث في نفس الموعوظ الأثر البالغ فإن العملية مرّت بالمراحل التالية :(/31)
أولا : الانفعال الذي حدث للنبي صلى الله عليه وسلم بتغير وجهه غضبا قبل أن يتكلم
ثانيا : ملاحظة الصديق وعبد الله بن زيد لذلك وتنبيه عمر عليه
ثالثا : تنبه عمر لخطئه ومبادرته إلى تصحيح ذلك والاعتذار عما فعل مستعيذا بالله من غضب الله وغضب رسوله ومعلنا للأصل الأصيل من الرضى بالله ورسوله ودينه
رابعا : انفراج أسارير النبي صلى الله عليه وسلم من رجوع عمر وإدراكه لخطئه
خامسا : التعقيب النبوي الكريم في تثبيت الأصل والتأكيد عليه من وجوب اتباع شريعة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من مصادر التلقي الأخرى .
ومما حصل من غضبه صلى الله عليه وسلم لرؤية منكر ما ورد في صحيح البخاري رحمه الله تعالى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا فتح 405
ومما حصل من غضبه صلى الله عليه وسلم عند سماعه لخطأِِأدّى إلى مفسدة ما ورد في البخاري أيضا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا قَالَ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ فتح 7159
ومن هذا الباب أيضا إظهار المفتي للغضب عند تكلّف المستفتي وتعنّته فعن زيد بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْه قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءهَا فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا وَإِلا فَاسْتَنْفِقْهَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ ضَالَّةُ الإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ رواه البخاري فتح 2436
إن انفعال المربي المتوازن مع الخطأ عند حدوثه أو رؤيته أو سماعه بحيث يُرى ذلك في وجهه ويُعرف في صوته وأسلوبه هو علامة حياة في القلب ضدّ المنكر وعدم السكوت عليه حتى يقع في قلوب الحاضرين الرهبة من ذلك الخطأ ويعمل الكلام وقت الانفعال في النفوس عمله المؤثر هذا بخلاف كتم الأمر أو تأخيره فربما يبرد أو يزول أثر التعليق .(/32)
وقد يكون من الحكمة تأخير التعليق على الحادثة المنكرة أو الكلام الخطير الخاطئ إلى حين جمع الناس أو اجتماعهم لأجل أهمية الأمر أو لعدم وجود العدد الكافي الذي يتعظ وينقل ولا مانع من تعليقين خاص مباشر وعام مؤخر ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَامِلا فَجَاءهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَالَ لَهُ أَفَلا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لا ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لا فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ فَقَدْ بَلَّغْتُ فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ فتح 6636
(26) التولي عن المخطئ وترك جداله لعله يراجع الصواب
روى البخاري رحمه الله عن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلام بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ أَلا تُصَلُّونَ فَقَالَ عَلِيٌّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعَهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ ( وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا ) وكلام علي رضي الله عنه يحتمل أمورا يُنظر الفتح 7347
(27) عتاب المخطئ
كما فعل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع حاطب رضي الله عنه حينما علم أنه أرسل إلى كفار قريش يخبرهم بنية المسلمين في التوجّه إلى مكة لفتحها فإنه قال له :
مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ مَا بِي إِلا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا غَيَّرْتُ وَلا بَدَّلْتُ أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلا وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ قَالَ صَدَقَ فَلا تَقُولُوا لَهُ إِلا خَيْرًا قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ قَالَ فَقَالَ يَا عُمَرُ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ قَالَ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فتح 6259
وفي هذه القصة عدد من الفوائد التربوية العظيمة :
1ـ معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي المخطئ خطأ بالغا بقوله له : ما حملك على ما صنعت .
2ـ الاستعلام عن السبب الذي دفع بالمخطئ إلى الخطأ وهذا لاشك سيؤثر في الموقف الذي سيُتّخذ منه .
3 ـ أن أصحاب الفضل والسابقة ليسوا معصومين من الذنب الكبير .
4 ـ أنّ على المربي أن يكون واسع الصدر في تحمّل أخطاء أصحابه ليدوموا معه على المنهج السويّ فالغرض إصلاحهم لا إبعادهم .
5 ـ أن على المربي أن يقدّر لحظة الضعف البشري التي قد تمرّ ببعض من معه وأن لا يُؤخذ بسقطة قوية وخطأ فظيع قد يقع من بعض القُدامى .
6ـ المدافعة عمن يستحق الدفاع عنه من المخطئين
7ـ أن المخطئ إذا كانت له حسنات عظيمة سابقة فلا بدّ أن تؤخذ بالاعتبار عند تقويم خطئه واتخاذ موقف منه .
(28) لوم المخطئ(/33)
الخطأ الواضح لا يُمكن السكوت عليه ولا بد من توجيه لوم وتأنيب إلى المخطئ بادئ ذي بدئ ليحس بخطئه روى البخاري في صحيحه عن عَلِي رضي الله عنه قَالَ : كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعَدْتُ رَجُلا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِيَ فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعًا مِنَ الأَقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ وَشَارِفَايَ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ رَجَعْتُ حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ فَإِذَا شَارِفَايَ قَدِ اجْتُبَّ ( جبّ أي قطع ) أَسْنِمَتُهُمَا وَبُقِرَتْ ( بقر أي شقّ ) خَوَاصِرُهُمَا وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا فَقُلْتُ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَالُوا فَعَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِي الَّذِي لَقِيتُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ فَأَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا وَهَا هُوَ ذَا فِي بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِدَائِهِ فَارْتَدَى ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنُوا لَهُمْ فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ فَطَفِقَ ( شرع وبدأ ) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِهِ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ هَلْ أَنْتُمْ إِلا عَبِيدٌ لأَبِي فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ ( أي سَكِر ففقد رشده ) فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى وَخَرَجْنَا مَعَهُ الفتح رقم 3091 وهذه القصة قبل تحريم الخمر
(29) الإعراض عن المخطئ(/34)
روى الإمام أحمد رحمه الله عن حُمَيْدٍ قَالَ أَتَانِي الْوَلِيدُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي قَالَ فَقَالَ لَنَا هَلُمَّا فَأَنْتُمَا أَشَبُّ مِنِّي سِنًّا وَأَوْعَى لِلْحَدِيثِ مِنِّي قَالَ فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى بِشْرِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ تُحَدِّثُ هَذَيْنِ حَدِيثَكَ قَالَ حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ أَبُو النَّضْرِ اللَّيْثِيُّ قَالَ بَهْزٌ وَكَانَ مِنْ رَهْطِهِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً قَالَ فَأَغَارَتْ عَلَى قَوْمٍ قَالَ فَشَذَّ مِنَ الْقَوْمِ رَجُلٌ قَالَ فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ السَّرِيَّةِ شَاهِرًا سَيْفَهُ قَالَ فَقَالَ الشَّاذُّ مِنَ الْقَوْمِ إِنِّي مُسْلِمٌ قَالَ فَلَمْ يَنْظُرْ فِيمَا قَالَ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ قَالَ فَنَمَى الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَقَالَ فِيهِ قَوْلا شَدِيدًا فَبَلَغَ الْقَاتِلَ قَالَ فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَالَ الْقَاتِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ قَالَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَعَمَّنْ قِبَلَهُ مِنَ النَّاسِ وَأَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ أَيْضًا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَعَمَّنْ قِبَلَهُ مِنَ النَّاسِ وَأَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ ثُمَّ لَمْ يَصْبِرْ فَقَالَ الثَّالِثَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا قَالَ إِلا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُعْرَفُ الْمَسَاءةُ فِي وَجْهِهِ قَالَ لَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبَى عَلَى مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا ثَلاثَ مَرَّاتٍ المسند 5/289 وانظر السلسلة الصحيحة 2/309
وروى النسائي رحمه لله عن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَنَّ رَجُلا قَدِمَ مِنْ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ إِنَّكَ جِئْتَنِي وَفِي يَدِكَ جَمْرَةٌ مِنْ نَارٍ المجتبى 8/170 صحيح سنن النسائي 4793 ورواه أحمد بسياق أبسط من هذا عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَنَّ رَجُلا قَدِمَ مِنْ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ خَاتَمُ ذَهَبٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَحَدَّثَهَا فَقَالَتْ إِنَّ لَكَ لَشَأْنًا فَارْجِعْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَأَلْقَى خَاتَمَهُ وَجُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ أُذِنَ لَهُ وَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْرَضْتَ عَنِّي قَبْلُ حِينَ جِئْتُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ جِئْتَنِي وَفِي يَدِكَ جَمْرَةٌ مِنْ نَارٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ جِئْتُ إِذًا بِجَمْرٍ كَثِيرٍ وَكَانَ قَدْ قَدِمَ بِحُلِيٍّ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مَا جِئْتَ بِهِ غَيْرُ مُغْنٍ عَنَّا شَيْئًا إِلا مَا أَغْنَتْ حِجَارَةُ الْحَرَّةِ وَلَكِنَّهُ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَقَالَ الرَّجُلُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْذُرْنِي فِي أَصْحَابِكَ لا يَظُنُّونَ أَنَّكَ سَخِطْتَ عَلَيَّ بِشَيْءٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَذَرَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ لِخَاتَمِهِ الذَّهَبِ . المسند 3/14.
وفي رواية لأحمد رحمه الله عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَأَلْقَاهُ وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ هَذَا شَرٌّ هَذَا حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ فَأَلْقَاهُ فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ فَسَكَتَ عَنْهُ المسند 163. المسند ت. أحمد شاكر برقم 6518 وقال إسناده صحيح.
(30) هجر المخطئ(/35)
وهو من الأساليب النبوية المؤثرة خصوصا إذا عظم الخطأ والذنب وذلك لما يُحدثه الهجران والقطيعة من الأثر البالغ في نفس المخطئ ومن أمثلة ذلك ما حصل لكعب بن مالك وصاحبيه الذين خُلّفوا في قصة غزوة تبوك : فبعد أن تأكد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن لهم عذر واعترفوا بذلك قال كعب رضي الله عنه
وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ عَلَيَّ أَمْ لا ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَ اللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ فَقُلْتُ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ .. إلى أن قال رضي الله عنه في قصته :
حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلامِنَا فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلاةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ . فتح 4418
وفي هذه القصة من الفوائد العظيمة والعظات البالغة ما لا ينبغي تفويته بحال ويمكن الاطّلاع على شيء من ذلك في شروح العلماء للقصة كزاد المعاد وفتح الباري .
ومما يدلّ على اعتماده صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب أيضا ما رواه الترمذي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَذِبِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُحَدِّثُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِذْبَةِ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ سنن الترمذي رقم 1973
وفي رواية أحمد ( .. فما يزال في نفسه عليه ..) المسند 6/152
وفي رواية : وما اطلع منه على شيء عند أحد من أصحابه فيبخل له من نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث توبة . السلسلة الصحيحة 2052
وفي رواية : " كان إذا اطّلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضا عنه حتى يُحْدِث توبة " رواه الحاكم صحيح الجامع 4675
ويتضح من الروايات السابقة أن الإعراض عن المخطئ حتى يعود عن خطئه أسلوب تربوي مفيد ولكن لكي يكون نافعا لابد أن يكون الهاجر والمُعْرض له مكانة في نفس المهجور وإلا فلن يكون لهذا الفعل أثر إيجابي عليه بل ربما يشعر أنه قد استراح .
(31) الدعاء على المخطئ المعاند
روى مسلم رحمه الله : أَنَّ رَجُلا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِمَالِهِ فَقَالَ كُلْ بِيَمِينِكَ قَالَ لا أَسْتَطِيعُ قَالَ لا اسْتَطَعْتَ مَا مَنَعَهُ إِلا الْكِبْرُ قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ رقم 2021
وفي رواية لأحمد :عن إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ ابْنِ الأَكْوَعِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ بُسْرُ بْنُ رَاعِي الْعِيرِ أَبْصَرَهُ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ فَقَالَ كُلْ بِيَمِينِكَ فَقَالَ لا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ لا اسْتَطَعْتَ قَالَ فَمَا وَصَلَتْ يَمِينُهُ إِلَى فَمِهِ بَعْدُ .4/45(/36)
قال النووي رحمه الله تعالى : وفي هذا الحديث جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حال حتى في حال الأكل . شرح صحيح مسلم 13/192
ونلاحظ هنا أن الدعاء عليه لم يكن بما يُعين عليه الشيطان ولكن كان بما يُشبه التعزير .
(32) الإعراض عن بعض الخطأ اكتفاء بما جرت الإشارة إليه منه تكرّما مع المخطئ
( وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير ) التحريم 3
قال القاسمي رحمه الله في محاسن التأويل :
( وإذ أسرّ النبي ) أي محمد صلى الله عليه وسلم ( إلى بعض أزواجه ) هي حفصة ( حديثا ) تحريم فتاته .. أو ما حرمّ على نفسه مما كان الله جل ثناؤه قد أحله له
(فلما نبأت به) أي أخبرت بالسر صاحبتها (عائشة)
(وأظهره الله عليه) أطلعه عن تحديثها به
(عرّف بعضه) أي عرّفها بعض ما أفشته معاتباً
(وأعرض عن بعض) أي بعض الحديث تكرُّماً
تنبيه في الإكليل : في الآية أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يُركن إليه من زوج أو صديق ، وأنه يلزمه كتمانه . وفيها حسن المعاشرة مع الزوجات ، والتلطّف في العَتَب ، والإعراض عن استقصاء الذنب . محاسن التأويل 16/222
قال الحسن ما استقصى كريمٌ قط ، وقال سفيان مازال التغافل من فعل الكرام
(33) إعانة المسلم على تصحيح خطئه
عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ مَا لَكَ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا قَالَ لا قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لا فَقَالَ فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لا قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ ( وهو الزنبيل الكبير ) قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ فَقَالَ أَنَا قَالَ خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَ اللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ رواه البخاري فتح 1936
وفي رواية أحمد عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ فَارِعِ أُجُمِ حَسَّانَ جَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ احْتَرَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا شَأْنُكَ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ قَالَتْ وَذَاكَ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْلِسْ فَجَلَسَ فِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ فَأَتَى رَجُلٌ بِحِمَارٍ عَلَيْهِ غِرَارَةٌ فِيهَا تَمْرٌ قَالَ هَذِهِ صَدَقَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ آنِفًا فَقَالَ هَا هُوَ ذَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ قَالَ وَأَيْنَ الصَّدَقَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا عَلَيَّ وَلِي فَوَ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ أَنَا وَعِيَالِي شَيْئًا قَالَ فَخُذْهَا فَأَخَذَهَا المسند 6/276.
(34) ملاقاة المخطئ ومجالسته لأجل مناقشته(/37)
َفي صحيح البخاري عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا فَتَقُولُ نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْقَنِي بِهِ فَلَقِيتُهُ بَعْدُ فَقَالَ كَيْفَ تَصُومُ قَالَ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ وَكَيْفَ تَخْتِمُ قَالَ كُلَّ لَيْلَةٍ قَالَ صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةً واقرأ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا قَالَ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَاكَ أَنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ السُّبْعَ مِنَ الْقُرْآنِ بِالنَّهَارِ وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ مِنَ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّى أَفْطَرَ أَيَّامًا وَأَحْصَى وَصَامَ مِثْلَهُنَّ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا فَارَقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ثَلاثٍ وَفِي خَمْسٍ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى سَبْعٍ الفتح 5052(/38)
وفي رواية أحمد مزيد إيضاح وفوائد حسنة : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ زَوَّجَنِي أَبِي امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيَّ جَعَلْتُ لا أَنْحَاشُ لَهَا مِمَّا بِي مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلاةِ فَجَاءَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى كَنَّتِهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهَا كَيْفَ وَجَدْتِ بَعْلَكِ قَالَتْ خَيْرَ الرِّجَالِ أَوْ كَخَيْرِ الْبُعُولَةِ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا وَلَمْ يَعْرِفْ لَنَا فِرَاشًا فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَعَذَمَنِي قال ابن الأثير عذموه أي أخذوه بألسنتهم ، وأصل العذم العضّ .. ومنه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص " فأقبل عليّ أبي فعذمني وعضني بلسانه " النهاية 3/200 وَعَضَّنِي بِلِسَانِهِ فَقَالَ أَنْكَحْتُكَ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ ذَاتَ حَسَبٍ فَعَضَلْتَهَا ( أي أهملتها فلم تعاملها معاملة الزوجة ) وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَانِي فَأَرْسَلَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ لِي أَتَصُومُ النَّهَارَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَمَسُّ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي قَالَ اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قُلْتُ إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ قُلْتُ إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِمَّا حُصَيْنٌ وَإِمَّا مُغِيرَةُ قَالَ فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ ثَلاثٍ قَالَ ثُمَّ قَالَ صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ قُلْتُ إِنِّي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُنِي حَتَّى قَالَ صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الصِّيَامِ وَهُوَ صِيَامُ أَخِي دَاوُدَ قَالَ حُصَيْنٌ فِي حَدِيثِهِ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدِ اهْتَدَى وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ قَالَ مُجَاهِدٌ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو حَيْثُ ضَعُفَ وَكَبِرَ يَصُومُ الأَيَّامَ كَذَلِكَ يَصِلُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ لِيَتَقَوَّى بِذَلِكَ ثُمَّ يُفْطِرُ بِعَدِّ تِلْكَ الأَيَّامِ قَالَ وَكَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ حِزْبِهِ كَذَلِكَ يَزِيدُ أَحْيَانًا وَيَنْقُصُ أَحْيَانًا غَيْرَ أَنَّهُ يُوفِي الْعَدَدَ إِمَّا فِي سَبْعٍ وَإِمَّا فِي ثَلاثٍ قَالَ ثُمَّ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ لأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ أَوْ عَدَلَ لَكِنِّي فَارَقْتُهُ عَلَى أَمْرٍ أَكْرَهُ أَنْ أُخَالِفَهُ إِلَى غَيْرِهِ المسند 2/158 وقال أحمد شاكر إسناده صحيح تحقيق المسند رقم 6477
ومن فوائد القصة :
ــ معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بسبب المشكلة وهو الانهماك في العبادة بحيث لم يبق وقت لأداء حقّ الزوجة فوقع التقصير
ــ إنّ مبدأ أعط كلّ ذي حقّ حقّه يطبّق في حقّ كلّ من كان منشغلا ومنهمكا بأمور من الطاعات كطالب العلم الذي يلقي دروسا كثيرة والداعية المنغمس في شئون دعوته بحيث يؤدي ذلك إلى شكاية الزوجة وتضررها وهذا ينشأ عن عدم الموازنة في القيام بالطاعات المختلفة وتوزيع الوقت على أصحاب الحقوق ، فلا بأس أن يخفف هذا من دروسه شيئا ما وهذا من انشغالاته بحيث يتوفّر الوقت الكافي للاهتمام بالبيت والزوجة والأولاد وإعطائهم حقوقهم في الإصلاح والمعاشرة والتربية .
(35) مصارحة المخطئ بحاله وخطئه
روى البخاري رحمه الله عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلامٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي أَسَابَبْتَ فُلانًا قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ قُلْتُ عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ قَالَ نَعَمْ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلا يُكَلِّفُهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ فتح 6050(/39)
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلامٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ . صحيح مسلم رقم 1661
وهذه المصارحة والمفاتحة من النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه كانت لعلمه صلى الله عليه وسلم بقبول الصحابي لذلك ، فالصراحة وسيلة مفيدة تختصر الوقت وتوفّر الجهد وتبيّن المقصود بأيسر طريق ولكنها تكون فيما يُناسب من الأحوال والأشخاص .
وقد يعدل الداعية عن مصارحة المخطئ إذا كان في ذلك حصول مفسدة أكبر أو تفويت مصلحة أعلى كأن يكون المخطئ صاحب جاه أو منصب لا يتقبّل ذلك أو أن يكون في المصارحة إحراج بالغ للمخطئ أو يكون ذا حساسية زائدة تجعله ذا ردّ فعل سلبي ، ولاشكّ أن المصارحة مكروهة للمخطئ وثقيلة على نفسه لما فيها من المواجهة والإحراج والظهور بمظهر الناقص في مقابل ظهور الناقد في موضع المستعلي والأستاذ . وكذلك فإنه يجب التنبه إلى أن أسلوب " اللفّ والدوران " قد يكون له سلبيات مضاعفة تفوق المصارحة أحيانا وذلك لما قد يشعر به المخطئ من الاستغفال والتلاعب ويتضايق من الإشارات الخفيّة لشعوره بأنها غمز وإيذاء مبطّن ثمّ إن التوجيه قد لا يصل أصلا لخفاء المقصود وبعده عن ذهن المخطئ فيمضي في خطئه قُدُما . وعموما فإن الأشخاص يتفاوتون في التقبّل والأسلوب الأمثل المناسب لكل منهم ، ولكن يبقى أن حسن الخلق في العرض والتوجيه له الأثر الأكبر في نجاح المهمّة .
(36) إقناع المخطئ
إن السعي لمناقشة المخطئ بغية إقناعه يؤدي إلى إزالة الحاجز الضبابي الذي يعتري بصيرته فيعود إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، ومن أمثلة ما ورد في السنّة بشأن هذا ما رواه الطبراني رحمه الله تعالى في معجمه الكبير عن أبي أمامة رضي الله عنه أن غلاما شابا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في الزنا فصاح [به] الناس فقال [النبي صلى الله عليه وسلم ] : مه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقروه ، ادن ، فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحبّه لأمّك ؟ قال : لا ، قال وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم . أتحبه لابنتك ؟ قال : لا قال وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم ، أتحبه لأختك ؟ ، قال : لا قال وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم ، أتحبّه لعمتك ؟ قال وكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم أتحبه لخالتك ؟ قال : لا قال وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم . فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال اللهم كفّر ذنبه وطهّر قلبه وحصّن فرجه . المعجم الكبير للطبراني 7679 و7759 ومنه الزيادتان بين الأقواس
(37) إفهام المخطئ بأنّ عذره الزائف غير مقبول
يحاول بعض المخطئين تقديم مبررات مختلقة وغير مقبولة وخصوصا إذا انكشف أمرهم بغتة على حين غرة منهم بل قد يبدو على بعضهم التلعثم وهم ينطقون بالعذر الزائف وخصوصا الذين لا يُحسنون الكذب لنقاء في سرائرهم . فكيف يتصرّف المربي يا تُرى إذا صادف مثل هذا الموقف من أحد المخطئين ؟ إن القصة التالية تبيّن موقفا رائعا ودقيقا للنبي صلى الله عليه وسلم مع أحد أصحابه ويظهر من خلال القصة المتابعة المستمرّة من المربي للمخطئ إلى حين تخلّيه عن موقفه الخاطئ :(/40)
عن خوّات بن جبير رضي الله عنه قال نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ الظهران ( موضع بقرب مكة ) قال فخرجت من خبائي فإذا نسوة يتحدثن فأعجبنني فرجعت فاستخرجت عيبتي ( وعاء توضع فيه الثياب ) فاستخرجت منها حُلّة فلبستها وجئت فجلست معهن فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أبا عبد الله !! أي أنه يُنكر عليه جلوسه مع هؤلاء النسوة الأجنبيات فلما رأيت رسول الله هبته واختلطت تلعثم يبحث عن عذر ، قلت يا رسول الله جمل لي شرد وأنا أبتغي له قيدا أتى رضي الله عنه بعذر غير صحيح ليبرر به فعله فمضى واتبعته فألقى إليّ رداءه ودخل الأراك كأني أنظر إلى بياض متنه في خضرة الأراك ، فقضى حاجته وتوضأ وأقبل والماء يسيل من لحيته على صدره ، فقال : أبا عبد الله ما فعل شراد جملك ؟ ثم ارتحلنا فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال : السلام عليك أبا عبد الله ، ما فعل شراد ذلك الجمل ؟ فلما رأيت ذلك تعجّلت إلى المدينة واجتنبت المسجد ومجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فلما طال ذلك تحيّنت ساعة خلوة المسجد فخرجت إلى المسجد وقمت أصلّي وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حُجَره فجاء فصلى ركعتين خفيفتين وطوّلت رجاء أن يذهب ويدعني ، فقال : طوّل أبا عبد الله ما شئت أن تطوّل فلست قائما حتى تنصرف ، فقلت في نفسي : والله لاعتذرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأُبْرِئن صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفت قال : السلام عليك أبا عبد الله ، ما فعل شراد جملك ؟ فقلت والذي بعثك بالحقّ ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت . فقال : رحمك الله ثلاثا ، ثم لم يعد لشيء مما كان . قال الهيثمي رواه الطبراني من طريقين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير الجراح بن مخلد وهو ثقة . المجمع 9/401 وبالرجوع إلى المعجم الكبير للطبراني 4/203 تبين أن الرواية من طريق زيد بن أسلم يحدّث أن خوات بن جبير قال نزلنا .. وفي ترجمة خوات رضي الله عنه في التهذيب : وأرسل عنه زيد بن أسلم وفي الإصابة في وفاة خوات سنة 40 أو 42 وأما زيد بن أسلم ففي السير أنه توفي سنة 136 وعلى ذلك فالسند منقطع
إنه درس رائع في التربية والخطة الحكيمة المؤدية إلى النتيجة المطلوبة ، ويمكن أن يؤخذ من القصة أيضا الفوائد التالية :
ــ المربي صاحب الهيبة يستحي منه من لابس المعصية إذا مرّ به
ــ إن نظرات وسؤالات المربي ـ على وجازتها وقصرها ـ لها دلالاتها الكبيرة وأثرها في النفوس
ــ عدم مناقشة العذر الملفّق لحظة سماعه ـ مع وضوح الثغرة فيه ـ والإعراض عن صاحبه يكفي في إشعار المخطئ بعدم قبوله مما يدفعه للتوبة والاعتذار ، وهذا يُؤخذ من قوله " فمضى" .
ــ المربي الجيد هو الذي يجعل المخطئ يشعر بالاستحياء منه الموجب للتواري عنه ، والحاجة إليه الموجبة للإتيان إليه . ثم يتغلب الثاني على الأول .
ــ إن تغيير الموقف من المخطئ ينبني ـ في مثل هذه الحالة ـ على إظهار اعترافه ورجوعه عما حصل منه .
إن موقع المربي والقدوة في نفس أصحابه كبير وعظيم ولومه لبعضهم أو تخطئته تقع بموقع وقد يلاحظ المربي مصلحة أشخاص آخرين في إنكاره على أحد أصحابه من أجل المنفعة العامة ولكن هذا لا يعني ترك الأثر السلبي الخاص باقيا بل يُمكن تداركه ومحو أثره بطرق منها المعاتبة من قِبَل التابع ولو بطريق واسطة كما فعل المغيرة بتوسيط عمر رضي الله عنهما وفي المقابل إيضاح الموقف والتأكيد على مكانة التابع وحسن الظنّ به من قِبَل القدوة والمربي
(38) مراعاة ما هو مركوز في الطبيعة والجبلّة البشرية
ومن ذلك غيرة النساء وخصوصا بين الضرائر فإن بعضهن قد تخطئ خطأ لو أخطأه إنسان في الأحوال العادية لكان التعامل معه بطريقة مختلفة تماما . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي مسألة الغيرة بين نسائه وما ينتج عنها من أخطاء مراعاة خاصة يظهر منها الصبر والحلم مع العدل والإنصاف ومن أمثلة ذلك : ما رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ ( إناء واسع ) فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ غَارَتْ أُمُّكُمْ ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ فتح 5225(/41)
وفي رواية النسائي كتاب عشرة النساء عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا يَعْنِي أَتَتْ بِطَعَامٍ فِي صَحْفَةٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَجَاءَتْ عَائِشَةُ مُتَّزِرَةً بِكِسَاءٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ ( أي حجر ) فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَةَ فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ فِلْقَتَيِ الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ كُلُوا غَارَتْ أُمُّكُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحْفَةَ عَائِشَةَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَأَعْطَى صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ عَائِشَةَ
وفي رواية الدارمي كتاب البيوع باب من كسر شيئا فعليه مثله عن أنس قالَ أَهْدَى بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ قَصْعَةً فِيهَا ثَرِيدٌ وَهُوَ فِي بَيْتِ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَضَرَبَتِ الْقَصْعَةَ فَانْكَسَرَتْ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ الثَّرِيدَ فَيَرُدُّهُ فِي الصَّحْفَةِ وَهُوَ يَقُولُ كُلُوا غَارَتْ أُمُّكُمْ ..
وغيرة المرأة أمر مركوز فيها يحملها على أمور شديدة ويحول بينها وبين التبصّر بعواقب الأمور
حتى قيل : إن المرأة إذا غارت لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه .
الخاتمة
وبعد هذه الجولة في رياض السنّة العطرة والاطّلاع على شيء من الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس يحسن قبل مغادرة الموضوع التذكير بالنقاط التالية :
ــ تصحيح الأخطاء واجب ومهم وهو من النصيحة في الدين ومن النهي عن المنكر ولكنه ليس كل الواجب فإن الدين ليس نهيا عن المنكر فحسب وإنما هو أمر بالمعروف أيضا .
ــ ليست التربية هي تصحيح الأخطاء فقط وإنما هي تلقين وتعليم وعرض لمبادئ الدين وأحكام الشريعة أيضا واستعمال الوسائل المختلفة لتأسيس التصورات وتثبيتها في النفوس من التربية بالقدوة والموعظة والقصة والحدث وغيرها ، ومن هنا يتبين قصور بعض الآباء والأمهات والمدرسين والمربين بتوجيه جلّ اهتمامهم إلى معالجة الأخطاء ومتابعة الانحرافات دون ترجيح الاهتمام بتعليم المبادئ والأسس والمبادرة بالتحصين الذي يمنع وقوع الانحرافات والأخطاء ويبادرها فبل حدوثها أو يقلّل منها .
ــ يتضح مما سبق ذكره من المواقف والأحداث تنوع الأساليب النبوية في التعامل مع الأخطاء وأن ذلك قد اختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ومن كان لديه فقه وأراد الاقتداء قاس النظير على النظير والشبيه على الشبيه فيما يمرّ به من مواقف وأحداث ليتوصّل إلى الأسلوب المناسب للحالة المعيّنة .
هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شرّ أنفسنا ويجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشرّ وأن يهدينا ويهدي بنا إنه سميع قريب مجيب وهو نعم المولى ونعم النصير والهادي إلى سواء السبيل
وصلى الله على النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/42)
أسماء القرآن الكريم ... ... ...
للقرآن الكريم ثلاثة أسماء مشهورة: القرآن، والكتاب، والفرقان، وأشهرها الاسمان الأولان. وقد أوصل بعض أهل العلم عدد أسماء القرآن إلى أكثر من تسعين اسماً. ونحن في هذا المقام نقصر الحديث على هذه الأسماء الثلاثة التي اشتهر بها القرآن الكريم.
أولاً: القرآن
ورد هذا الاسم في القرآن في ثلاثة وأربعين موضعاً، منها قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (النمل:6) وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء:9) وقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } (القصص:85).
ولفظ "القرآن" يلفظ بهمز وبغير همز. وهو بالهمز مأخوذ من الفعل "قرأ" تقول: قرأ يقرأ قراءة وقرآناً. فهذا الفعل يفيد معنى القراءة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } (القيامة: 17-18) أي: إن علينا جمعه لك، وقراءته عليك.
وقد استعمل لفظ "القرآن" بالهمز اسماً للكتاب الكريم نفسه. وهذا هو الاستعمال الغالب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9).
أما لفظ "القران" بغير همز، فهو إما أن يكون تسهيلاً للفظ الهمزة، على لغة قريش. أو
أنه مأخوذ من الفعل "قَرَنَ" لاقتران السور والآيات والحروف فيه.
ثانياً: الكتاب
ورد هذا الاسم للقرآن في ثلاثمائة وتسعة عشر موضعاً في سياقات مختلفة، منها قوله تعالى: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} (الكهف:1) وقوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} (الأنعام: 92) وقوله: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} (البقرة:2).
ولفظ "الكتاب" مشتق من الفعل "كتب" تقول: كتب يكتب كتاباً وكتابة. وهذا الفعل "كتب" في أصل معناه اللغوي يدل على "الجمع" تقول: كَتَبَ الكتيبة، أي جَمَعَها. وسُمي القرآن "كتاباً" لأنه جمع السور والآيات بين دُفتيه، وجمع كل خير في أحكامه ومعانيه.
وقد ذكر الشيخ عبد الله دراز - رحمه الله - أن في تسمية القرآن بهذين الاسمين حكمة إلهية فقال: "روعي في تسميته ( قرآناً ) كونه متلواً بالألسن، كما روعي في تسميته (كتاباً) كونه مدوناً بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه، وفي ذلك إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين، الصدور والسطور، فلا ثقة بحفظ حافظ حتى يوافق حفظه الرسم المجمع عليه، ولا ثقة بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو ثابت عند حفاظ الأسانيد".
وبهذه العناية المزدوجة - الصدر والسطر - بقي القرآن الكريم محفوظاً في حرز حريز، وركن مكين، تحقيقاً لقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9).
ثالثاً: الفرقان
هو ثالث اسم من الأسماء الثلاثة المشهورة للقرآن، وهو مصدر أطلق على القرآن فأضحى علماً له.
وقد ورد هذا الاسم في ستة مواضع من القرآن، جاء في موضعين منها اسم عَلَمٍ للقرآن، هما قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} (آل عمران:4) وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1) وقد سميت سورة من سور القرآن بهذا الاسم. وورد هذا الاسم في المواضع الأربعة الباقية باستعمالات مختلفة.
وهذا الاسم مشتق من الفعل "فَرَقَ" الذي يدل على معنى الفصل والتفريق بين الأمور، ومن هنا يظهر وجه تسمية القرآن "فرقان" كونه فرَّق بين الحق والباطل، وبيَّن طريق الهدى والرشاد وطريق الكفر والضلال.
وحاصل القول هنا، أن هذه الأسماء الثلاثة هي الأسماء التي اشتهر بها القرآن الكريم، فأما الاسمان الأولان - وهما الأشهر - فيفيدان معنى الجمع والقراءة، وأما الاسم الثالث - وهو الفرقان - فيدل على معنى التفريق والفصل. وهذه الأسماء الثلاثة أفادت ثلاثة معان: القراءة، الجمع، التفريق. أما أسماء القرآن الأقل شهرة فلها مقام آخر، إن شاء الله. والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل. والحمد لله رب العالمين. ... ...(/1)
أسماؤه صلى الله عليه وسلم ... ... ... في الأمثال يقولون: الاسم دال على المسمى، ويقولون أيضاً: لكل شخص من اسمه نصيب. وكثرة الأسماء في معهود العرب تدل على شرف المسمى، وعلو مكانته، والعرب من عادتها إطلاق الأسماء الكثيرة على كل من كان ذا شأن عظيم ومنزلة رفيعة..واختيار الأسماء من الأمور التي اهتم بها الإسلام وندب إليها..
وكان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - التي أكرمه الله بها واختصه بها عمن سواه، تلك الأسماء العديدة، والصفات الحميدة، ذات المعاني الفريدة، فكانت أسمائه - صلى الله عليه وسلم - دالة كل الدلالة على معانيها، ومتجسدة حقيقة في سلوكه وشؤونه... فمن أسمائه - صلى الله عليه وسلم -:
1- محمد: وهو أشهرها، قد ورد في القرآن الكريم في عدة مواضع منها قوله - تعالى -: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29)، وبه سُمّيَ في التوراة صريحاً كما ذكره ابن القيم في: جلاء الإفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام.
2- أحمد: وهو الاسم الذي سمّاه بهِ المسيح، وجاء في القرآن الكريم في قوله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6).
والفرق بين محمد وأحمد من وجهين:
الوجه الأول: أن محمداً هو المحمود حمداً بعد حمد فهو دال على كثرة حمد الحامدين له، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه، وأحمد تفضيل من الحمد يدل على أنه الحمد الذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره، فمحمد زيادة حمد في الكمية وأحمد زيادة في الكيفية، فيُحمد - صلى الله عليه وسلم - أكثر حمد وأفضل حمد حمده البشر.
والوجه الثاني: أن محمداً هو المحمود حمداً متكرراً كما تقدم، وأحمد هو الذي حمده لربه أفضل من حمد الحامدين غيره، فدلَّ أحد الاسمين وهو محمد على كونه محموداً ودل الاسم الثاني وهو أحمد على كونه أحمد الحامدين لربه.
3- الحاشر: وهو الذي يحشر الناس على قدمه، فكأنه بُعِثَ ليحشر الناس.
4- الماحي: وهو الذي محا الله به الكفر .
5- العاقب: وهو الذي يَخْلُفُ من كان قبله في الخَيْرِ، وهو قد عقب الأنبياء، وكان آخرهم عليهم الصلاة والسلام. وقد جاء الحديث الصحيح على تلك الأسماء الخمسة، فعن جبير بن مطعم قال: سمّي لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه أسماء فقال: (أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشَرُ الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي) رواه البخاري و مسلم.
6- المتوكل: وهو الذي يتوكل على ربه في كل حالة، وفي البخاري عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة...
7- نبي التوبة: وهو الذي فتح الله به باب التوبة على أهل الأرض.
8- نبي الرحمة: فهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فرحم به أهل الأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم، وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمي لنا نفسه أسماء، فقال: أنا محمد وأحمد والمقفى والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة) رواه مسلم.
9- نبي الملاحم: وهو الذي بعث بجهاد أعداء الله، وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: (بينما أنا أمشي في طريق المدينة قال: إذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي، فسمعته يقول: أنا محمد، وأنا أحمد، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، والحاشر، والمقفى، ونبي الملاحم) رواه أحمد.
10- الرؤوف الرحيم: قال - تعالى -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128)، وعن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر، الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، الذي ليس بعده أحد، وقد سماه الله رؤفا رحيما) رواه مسلم.
11- الفاتح: وهو الذي فتح الله بهِ باب الهدى، وفتح بهِ الأعين العمي والآذان الصم والقلوب الغلف، وفتح الله بهِ أمصار الكفار وأبواب الجنة وطرق العلم والعمل الصالح.
ويلحق بهذه الأسماء:
سيد ولد آدم: فقد روى مسلم في صحيحه أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) .(/1)
الضحوك القتّال: وهما اسمان مزدوجان لا يفرد أحدهما عن الآخر فإنه ضحوك في وجوه المؤمنين غير عابس ولا مقطب، ولا غضوب، ولا فظ، قتّال لأعداء الله، لا تأخذه فيهم لومة لائم، وقد ورد هذان الاسمان في التوراة على ما ذكره ابن القيم وغيره.
وأسماؤه - صلى الله عليه وسلم - نوعان:
النوع الأول: خاص به لا يشاركه فيه أحد غيره من الرسل كمحمد وأحمد والعاقب والحاشر والمقفي ونبي الملحمة .
والنوع الثاني: ما يشاركه في معناه غيره من الرسل، ولكن له منه كماله فهو مختص منه بأكمل الأوصاف، كرسول الله ونبيه وعبده والشاهد والمبشر والنذير، ونبي الرحمة ونبي التوبة.
كنيته:
كان - صلى الله عليه وسلم - يكنّى أبا القاسم بولده القاسم وكان أكبر أولاده .
فعن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في السوق فقال رجل يا أبا القاسم، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (سمّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) رواه البخاري .
هذا هو النبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم -، وتلك هي بعض أسمائه الطيبة الحسنة، الدالة على معانيها العظيمة الرائعة، فهو - صلى الله عليه وسلم - عظيم مكرم في أسمائه وصفاته وخلقه وكل شمائله، فهل يعي ذلك أتباعه، ويتدبر الأمر أعداؤه وحساده. ... ...(/2)
أسند الأمر إلى أهله 22/12/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى ثم أما بعد:
فإن من الأخطاء التي يقع فيها العامة والخاصة، علية القوم ورعيتهم على حد سواء، هو إسناد الأمر إلى غير أهله، إما لهوى أو مصلحة يراعي فيها المُسنِد المسنَد إليه كما يقع بين أصحاب القرابات وأولي الأرحام، أو يسند الأمر إلى غير أهله لأجل مصلحة يراعي فيها المُسنِد نفسه ومصلحته أولاً ولو كانت على حساب الآخرين! فلا يضع إن من يتملقه ويحقق رغبته أولاً ثم تأتي مصلحة الأمة تبعاً.
وهذا الأمر المنكر ألا وهو إسناد الأمر إلى غير أهله قد يظن كثير من الناس أن الذين يقعون فيه هم أصحاب الولايات والمسؤوليات فحسب، وأما هم وعامة الناس ففي معزل عنه، وهؤلاء ما أصابوا!
فمن جهةٍ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فعندما يحصل نوع إخلال بتوزيع المسؤوليات والسلطات بين أفراد تلك الرعية الصغرى يحدث الخلل، وهذا ظاهر عند تأمل أحوال بعض البيوت المضطربة.
ومن جهة أخرى يملك كثير من العامة في هذا الزمن حق التصويت والمشاركة بالرأي سواء على نطاق المؤسسات أو الشركات التجارية أو الدعوية، العامة أو الخاصة، أو على نطاق الدولة فقد يملك البعض حق التصويت في بعض مسؤوليات الدولة وبالأخص تلك المسؤوليات الخدمية التنفيذية المحكومة بإطار تشريعي إسلامي في الجملة والتي لا يوجد كبير حرج من الإسهام فيها.
ومع ذلك يساهم بعض الطيبين في إسناد أمر تلك المرافق إلى غير أهله إما سلباً أو إيجاباً، بالإحجام أو المشاركة التي يكون الإحجام خيراً منها.
والمحصلة النهائية إسناد الأمور إلى غير أهلها، وعندها يحصل العطب ويفسد أمر الأمة.
ولتصور خطورة إسناد الأمر إلى غير أهله تأمل معي قصة يوسف _عليه السلام_ مع الملك في تعبير الرؤيا، فبعد أن عبر يوسف _عليه السلام_ هذه الرؤيا العظيمة ورجع الساقي يخبر الملك بهذا التعبير المفاجئ العظيم، والذي خالف قول الملأ المقربين، بل قال المستشارون عن الرؤيا: أضغاث أحلام.
وهنا لنقف ولنتساءل: ما هي الحال التي كانت ستؤول إليها بلاد مصر وما جاورها، لو اكتفى الملك برأي هؤلاء المقربين؟
أرأيتم كيف تكون النتيجة عندما تسند الأمور إلى غير أهلها؟
وبالمقابل عندما أحيلت الرؤيا إلى من هو حقيق بها وجدير بتأويلها انظروا كيف كانت النتيجة. لقد جاءت النتيجة العظيمة في هذه الرؤيا المؤثرة على الملك وعلى الرعية وعلى أهل مصر وعلى من حول مصر وعلى يوسف _عليه السلام_.
وهكذا يكون الأمر عندما يكون المستشارون المقربون من الملك من أهل العلم والخلق والورع والأمانة والصدق فتكون النتائج باهرة، وعندما يكون المقربون من أمثال أولئك المستشارين الذين قالوا: "َأضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ" (يوسف: من الآية44) يكون الهلاك والبوار.
مثال آخر يؤكد ما سبق: في سورة النمل عندما جاءت ملكة سبأ بلقيس وطلبت من الملأ أن يعطوها رأيهم "مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ" (النمل: من الآية32) هل أعطوها رأياً صائباً؟ بل أعطوها رأياً خاطئاً قالوا: "نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ" (النمل: من الآية33) بدؤوا يستعرضون عضلاتهم، وهذه المرأة كانت أعقل وأحكم منهم، كما ذكر ابن كثير _رحمه الله_ أرادوا أن يستخدموا مع سليمان _عليه السلام_ أسلوب القوة، ولم يعرفوا من هو سليمان _عليه السلام_، فكانت المرأة حكيمة "قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ" (النمل:34،35) كانت حكيمة في رأيها وهؤلاء الملأ لما لم يكونوا على قدر من العقل والحكمة، كادوا أن يوقعوها وأمتها في كارثة.
فلو أخذت ملكة سبأ بقولهم في استخدام القوة مع سليمان كيف تكون النتيجة؟
وإذا كان المقربون من أصحاب المنافع والمطامع والمصالح الذين يحسبون لحسابهم ومنافعهم الشخصية أكثر مما يحسبون لأمتهم ولا لبلدهم، فكيف تكون النتائج؟ لعل الواقع الماثل في كثير من ربوع عالمنا الإسلامي خير مجيب!
إن الضعيف الجاهل عديم الخبرة والتجريب لا ينبغي أن يقرب في المشورة من حيث الجملة، ومثله من لم تكن له ديانة ينصح بها لأهل الإسلام وتحمله على الأمانة، فهؤلاء الأصل ألا يستشاروا، وهؤلاء الأصل ألا يولوا ولايات عامة ولا خاصة، وإنما يقرب الأقوياء الأمناء " يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ"(القصص: من الآية26) فالأصل هو أن يقرب صاحب الكفاءة من أصحاب الخبرة والقوة وأصحاب الأمانة.(/1)
وإلاّ كان إسناد الأمر إليهم مؤذناً بالبوار فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة "بينما النبي _صلى الله عليه وسلم_ في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذ قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة. قال: ها أنا يا رسول الله، قال: فإذا ضعيت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
فَلْنَعِ هذه المعاني ولنراجع أنفسنا فقد يكون أحدناً مسؤولاً عن إسناد أمر إلى غير أهله وهو لا يدري.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وألئك هم أولوا الألباب.(/2)
أسنى المَتاجِر في بيان أحكام مَن غَلبَ على وطنه النصارى و لم يهاجر
و ما يترتب عليه من العقوبات و الزواجر
تأليف
أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي
المتوفى سنة 914هـ
دراسة و تحقيق
الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب
( الملقب بالشريف )
1426هـ / 1995 م
مقدمة التحقيق
الحمد لله على نعمائه ، و الصلاة و السلام على نبيِّه محمدٍ و آله ، و بعد
فما أن أذكر الإقامة بين أظهر المشركين ، أو تُذكر أمامي ؛ حتى أشعُرَ بالأسى ، و كأنني المعنيّ بما ورَد فيها من الوعيد الشديد ، حيث استهنت بهذه الإقامة ابتداءً ، و لم أحُر سبيلاً للفكاك عنها انتهاءً .
و بحكم الواقع الذي أعيشه و تعيشه الألوف المؤلَّفة من المسلمين المهاجرين أو المهجَّرين إلى الغرب رَغَباً أو رَهَباً أجدني ـ في عداد الباحثين على الأقل ـ معنياً بالتأصيل الشرعي ، و الدراسة العلمية لمسألة الإقامة في ديار الكفر و الحرب ، مع أن تقسيم العالم إلى فسطاطين لا ثالث لهما لم يُبقِ حاجةً تُذكَر إلى الإسهاب في تقسيم الدور و بيان أحكامها .
و كلَّما سُنَّت في الغرب قوانين جديدة و تشريعات انفعالية مُبرِّرَةُ للتضييق على المسلمين دون استثناءٍ لملبس نسائهم ، أو حرِّية رجالهم في شئون الحياة الدينية و الدنيوية بَدَت الحالُ قريبةً من حال مسلمي الأندلس بعد سقوط دولتهم ، و انقضاض الفرنجة على من تبقى منهم بالإبادة و التشريد ، و القهر و الإذلال ، و استباحة الأموال و الدماء و الأعراض .
تلك الحال المريرة التي دعت علماء ذلك الزمان إلى تحريض المؤمنين على الهجرة من الأندلس إلى ما جاورها من ديار الإسلام ، فهاجر مَن هاجَرَ بنفسه و أهله و ماله ، و قعَد من قَعَد لعُذرٍ أقعَده ، أو حاجة ألجأته ، أو و دنيا يصيبها .
و الرسالة التي بين يديَّ ، و التي اليوم أصدِّرُها بهذه المقدمة ، و أنشرها محقّقةً و هي بعنوان :
" أسنى المَتاجِر في بيان أحكام مَن غَلبَ على وطنه النصارى و لم يهاجر ، و ما يترتب عليه من العقوبات و الزواجر " ، لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي ، المتوفى سنة أربعة عشر و تسعمائة للهجرة ، و هي رسالةٌ جليلة تبحث قضية تعني المسلمين المغتربين عن ديار الإسلام في العصر الحاضر .
التعريف برسالة ( أسنى المتاجر ) :
تتناول الرسالة مسألتين أساسيتين ، تتفرع عنهما مسائل ثانوية متعددة ، فهي تبحث في حكم بقاء المسلم في بلده الذي غلب عليه الكفار بخاصةٍ ، و حكم الإقامة في بلاد الكفار بعامة .
و في عنوانها ما يدل على دقة نظر المؤلف رحمه الله ، حيث أشار إلى ( من غلب على وطنه النصارى ) ، و ليس من تولى أمر بلده النصارى ، حيث إن بين الحالين بوناً شاسع ، فربما تسلط الكفار على بلدٍ بالسلاح أو الحكم ، فغلبوا أهله عليه ، و لكنهم لم يستأصلوا شأفة المسلمين ، و لم ينازعوهم الدار ، بل نازعوهم السلطة و الحُكم و القرار .
و هذا الأمر ـ رغم شناعته ، و مع ما يجب على المسلمين من الجهاد لرفعه ـ أهون شراً من أن يتسلط الكفار على بلد فيبيدوا أهله ، أو يهجِّروهم ، أو يقهروهم بجعلهم أقلية مقيمةً بين أكثرية وافدة ، و هذه الصورة هي التي عرفها أهل الأندلس ، فقد نزل الفرنجة بديارهم ، فأعملوا فيهم القتل و التنكيل و التشريد ، و غيروا معالم الضياع و المدن بمن جُلِبَ إليها من النصارى ، حتى يذيبوا من تبقى من أهل الإسلام ، و لذلك أفتى علماء المسلمين بخروج من تبقى من أهل القبلة من الأندلس .(/1)
و لكي تتضح الصورة أكثر أضرب مثلاً بواقع المسلمين في فلسطين اليوم ، حيث إن حكم الهجرة لأهل ( غزة ) ليس كحكمها لأهل ( تل أبيب ) مثلاً ، فعلى الأولى يتسلط الاحتلال ، و لكنَّ للمسلمين فيها كياناً يقدرون على إقامة شعائر دينهم فيه ، بل يكرون منه و يفرون إليه في جهادهم ، فهم أهل ثغر و رباط ، يتعيَّن عليهم البقاء ما أثخنوا في العدو ، و ردُّوا صولته ببقائهم . أما في ( تل أبيب ) و مثيلاتها من مغتصبات اليهود ، و بلدانهم التي أنشأوها أو أجلوا أهلها عنها ، فالأمر أشبه بما كانت عليه الأحوال في الأندلس ، و لا يجوز لمسلم أن يقيم فيها بين ظهرانَيهم ، بل يجب عليه أن يخرج طلباً للنجاة بنفسه و أهله و ماله أولاً ، ثم لإعداد العدة و التأهل للكرِّ على من غَلب عليها من الكفار ، و الجهاد في سبيل الله لتحريرها ثانياً (1) .
و لأهل الأندلس بخاصة ، و من شابههم في الحال التي صاروا إليها بعامّة يفتي الونشريسي و كثير غيره بتعيُّن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، و لذلك جاءت رسالته قيِّمةً في بابها ، عظيمةً في شأنها .
هذا بالنسبة لأهمية الرسالة للمسلمين ، أما بالنسبة لمن سواهم فقد نظر بعض مؤرخي الفرنجة إليها كوثيقة تؤرخ لفترة من فترات استضعاف المسلمين ، و بذلك نفسر اهتمام بعضهم بالسؤال الذي في صدرها أكثر من الجواب ، لأن السؤال يرصد الواقع ، أما الجواب فيقرر حكم الشرع في الواقع المرصود ، و هو ما لا يحتاجه المستشرقون .
لا عجب ـ إذن ـ أن يترجم المستشرق ماركوس مولَر السؤال ، و يَنشُرَه مفرداً بعنوان : ( أحوال مهاجري غرناطة في إفريقيَّة ) .
و من قرأ السؤال و الجواب رأى هذه الرسالة قيِّمةً في جانِبَيْها التأريخي و الفقهي ، إن قرأها متجرداً ، يطلب الحق ، و يُحسن الظن بالخلق .
طبعات الرسالة :
سَبقَ لهذه الرسالة أن طُبِعَت من قَبلُ ضِمنَ جامِع مؤلِّفِها النفيس ، الذي سمَّاه : ( المعيار المُعرِب ، و الجامع المُغرِب ، عن فتاوي أهل إفريقيَّة و الأندلس و المغرِب ) و نَشَرَتهُ بعناية ثمانية من الفضلاء كَتَبةً و مُصحِّحينَ ، المطبعةُ الحَحَرِيّةُ بِفاس ، لصاحبها العربيّ بن محمد الأزرق رحمه الله ، سنة خمسةَ عشر و ثلاثمائة و ألف للهجرة ، في اثني عَشَرَ مجلَّداً .
و عن الطبعة الحجرية هذه أعيد إصدار كتاب المعيار في مطلَع القرن الهجري الخامس عَشَر ، و نشرَتْهُ وزارة الأوقاف و الشئون الإسلامية للمملكة المغربية ، مُوَشَّحاً بعبارة : أخرجه جماعة من الفقهاء بإشراف الدكتور محمد حجي (2) .
و لا ريبَ في أنَّ الاقتصار على تغيير نمط الطباعة لإعادة إصدار الكتاب في ثوبٍ جديد أحسن حالاً و أقربَ نوالاً من سابِقِه كان له أثرٌ على فحواه و محتواه ، حيث تسبب في كثرة التصحيف و الخطأ و السقط ، على نحو لا يمكن إغفاله ، مما يُبقي الحاجة قائمةً إلى تحقيق هذا السِفر النفيس ، و تقديمه إلى المكتبة الإسلامية بما يليق به و بكاتبه ، و يقرِّب إلى القاريء نوال فوائده .
__________
(1) في ضوء هذا التفريق و التفصيل يمكننا فهم فتوى الشيخ الألباني رحمه الله لأهل فلسطين بالخروج منها ، حيث سئل عن أهل الضفة هل يجوز أن يخرجوا و يهاجروا إلى بلد ثانية ؟ فأجاب : يجب أن يخرجوا من الأرض التي لم يتمكنوا من طرد الكافر منها إلى أرض يتمكنون فيها من القيام بشعائرهم الإسلامية . اهـ . فإذا كان مراده الهجرة من بلدات الضفة التي غلب عليها اليهود و حولوها إلى مدن أو مغتصبات يهودية صرفة ، فالهجرة للمسلمين منها مشروعة إلى حيث تمكنهم إقامة شعائر دينهم و إعداد العدة لتحرير ديارهم ، أما إن كان مراده الهجرة من بلدات الضفة التي يقطنها المسلمون ، و لا يخالطون فيها اليهود و لا غيرهم من المشركين ، فلعمري ليس في بلاد المسلمين الأخرى ، المجاورة لفلسطين و البعيدة عنها مُهاجَرٌ فيه مزيد على ما في فلسطين من القدرة على إقامة شعائر الإسلام ، بل قدرة من بقي فيها على إعداد نفسه للجهاد أكبر ، حيث إن من خرج منها لن يقدر أن يعود إليها بقوة أو كرٍّ من بلاد باتت تحمي كيان اليهود ، و تحرس حدوده بدلاً من أن تحمي المسلمين و أرضهم ، و الله المستعان .
(2) و المقصود بتخريجه على أيدي هؤلاء الفقهاء هو ( مجرَّد تحويله من خطوط الطباعة الحجريَّة العتيقة التي عزَّ قُرَّاؤها اليوم في المغرب ، فأحرى في المشرق ، و إخراجه في طبعة حديثة أنيقةٍ تجعله في متناول الجميع بعد أن افتُقِدَ في أسواق الكتب ) و لم يقصدوا ( إلى تحقيقٍ علميٍّ لكتاب المعيار ) كما قال محمد حجي في مقدمته للطبعة التي أشرف على إخراجها .(/2)
و تحسُنُ في هذا المقام الإشارة إلى أن الدكتور حسين مؤنس رحمه الله ( المتوفى سنة 1416 للهجرة ) كان الأسبق إلى تحقيق رسالة الونشريسي التي بين أيدينا مستلةً من المعيار ، مفردة عنه ، حيث بَذَلَ جهداً مشكوراً في دراسة الرسالة و ضبطها على نسخةٍ خطية محفوظةٍ في مكتبة الأسكوريال بمدريد ، و قابَلَها بالطبعة الحجرية التي ذكرتُها آنفاً ، و نَشرها ـ رحمه الله ـ في العدد ( 1 و 2 ) من المجلد الخامس لمجلّة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد سنة 1377 هـ / 1957 م .
و مَع إقرارنا بأن مجرد إظهار الرسالة في ذلك الزمن إنجازٌ حسَنٌ قام به الدكتور حُسَين ، إلا أن ذلك لم يُنهِ الحاجة إلى إعادة تحقيقها ، و نشرها من جديد ، و ذلك لأسبابٍ أوَّلُها : أن الدكتور حسين رحمه الله اهتمّ بدراسة الرسالة فأجاد في التعريف بها و بمؤلفها ، إلا أنه يُولِ مَتنها ما يستحق من الضبط و التعليق ، و غير ذلك من لوازم التحقيق ، فهو لم يعتمد سوى نسخة خطية واحدةٍ ، و لم يخرَْج أحاديثها ، أو يترجم لأعلامها ، أو يُرجع المسائل إلى مواقعها و مظانها من كتب أهل العلم الذين نقل عنهم و عزا إليهم الونشريسي تصريحاً أو تلميحاً ، إلى غير ذلك مما يعتبر من أوّليّات التحقيق التي يحتاجها القاريء اليوم .
و ثانيها : أن الاقتصار على نشر الرسالة في مجلة المعهد المصري بمدريد قَصَرَ الانتفاع بها على متابعي تلك المجلة الذين يتلقونها إهداءً أو اشتراكاً ، و هم قلّةٌ حصلوا على العدد المذكور عقب صدوره ، ثمّ اختفى من الأسواق ، و لم يُعَد نشرُه .
و ثالثها : أن موضوع الرسالة يزداد أهمية في أيامنا هذه ، حيث كثر الكلام على موضوع الهجرة من بلاد المسلمين و إليها ، و تباينت في أحكامها الآراء ، و افتتن بسببها الكثيرون من أبناء الأمة ، فصارت الحاجة مسيسةً إلى دراسةٍ تُزَّمُ بزمام العلم و التحقيق ، بعيداً عن الأهواء و التبرير و التلفيق ، و تُسنَد إلى إمامٍ ثقة ، عالمٍ بالحُجّة و سائرٍ على المحجّة ، متحرِّرٍ من أهواء العوام ، و ضغوط الحكّام .
و حيث إن رسالة الونشريسي رحمه الله فيها من المطلوب جُلُّه ، فقد وقع عليها اختياري للتحقيق و النشر ، عسى أن ينفع الله بها كاتبها و محققها و ناشرها و قارئها .
( أسنى المتاجر ) بين الونشريسي و مخالفيه :
لم أقف على نقد لرسالة الونشريسي هذه إلا ما أثاره بعض المعاصرين المشتغلين بتراث أهل الأندلس ، و في طليعتهم الدكتور حسين مؤنس رحمه الله حيث أكثر من تعقُّب كلام الونشريسي بالنقد و الرد ، و ربَّما تهكم به و بكلامه في بعض المواضع ، و على خُطا مؤنس سار آخرون .
فمن حيث المنطلق يرى الونشريسي في الشدة على من لم يهاجر من وطنٍ غلب عليه النصارى براءةً للذمة ، لا مندوحة في السكوت عنها لعالمٍ ، و لا يرى في حب المال أو الوطن أو غيره صارفاً للحكم بالهجرة عن الوجوب ، إذ لا اعتبار لهما إذا تعارضا مع واجب متعين شرعاً (1) .
أما الدكتور مؤنس و من أخذ عنه (2) فيرون أن بقايا المسلمين في الأندلس كانوا كالقابض على الجمر ، في تمسكهم بدينهم ، و أنَّهم إذ ثَبَتوا على دينهم في ديارهم ، ( لم يكونوا في موقفهم ـ الذي كانوا فيه ـ إلا مجاهدين عن دينهم ) (3) . فأنى للونشريسي أن يصفهم بالكفر والعصيان و يفتي في أمر إيمانهم و هو متبحبح في داره بفاس (4) .
و يسوق الدكتور مؤنس لتبرير القعود عن الهجرة من الأندلس مبررات كثيرة ، منها الفقر ، و العجز ، و الخوف ، و يشير إلى ما في الهجرة من المغامرة و المخاطرة ، فضلاً عن عُسر مفارقة الديار و الرحيل عن الأوطان ـ و هي عزيزة على أبنائها على كل حال ، بحسب كلامه ـ و من هذا المنطلق يوجه لومه للونشريسي و أمثاله من الشيوخ فيقول : ( غابت كل هذه النواحي الإنسانيةعن صاحب الفتوى ، و فاته أيضاً أنه كان عليه و على أصحابه الشيوخ ، قبل أن يصدر هذه الفتوى ، أن يفعل شيئاًَ لاستنقاذ أولئك الناس ، كأن يجود بشيء من ماله ، و يتصدى لجمع المال لاستنقاذهم ، فقد كانت الهجرة في ذلك الوقت مسألة مال ، و فاته أن ينهض أو يحث غيره على النهوض لاستقبال أولئك المساكين و تيسير أمر مقامهم و معاشهم في بلد المغرب ) (5) .
و يشير مؤنس إلى أن طلائع المهاجرين من الأندلس كان فيها الأغنياء و الأعيان و الرؤساء و رجال الدين ، الذين مضوا مخلفين وراءهم الضعفاء من الزراع و العمال و أهل المدن .... و يرى أنه لو أقام في الأندلس بعد سقوطها الرؤساءُ و الأعيانُ و النقباءُ لما انحلَّ أمر هذه الجماعات .
__________
(1) انطر : ص : = من الرسالة .
(2) رأيت في التعبير بـ ( من أخذ عنه ) دقةً تفوق ما في التعبير بـ ( من وافقه ) و نحوها لأني كل منتقدي الونشريسي عيال على الدكتور مؤنس و ما سطره في مقدمة تحقيقه للرسالة ، و ما قيده عليها من حواشي .
(3) المرجع السابق ، ص : 187 .
(4) انظر : المرجع السابق ، ص : 144 .
(5) المرجع السابق ، ص : 145 .(/3)
ثم يُحَمِّلُ المسئولية للشيوخ ( إذ لم يكفهم أن يفروا بأنفسهم مخلفين أهل دينهم ، بل حرَّموا البقاء على من أراده من الرؤساء و طلبوا إليهم الهجرة ، و معنى ذلك ترك الضعفاء وحدهم يفعل العدو بهم ما يريد ) (1)
و خلاصة رأي الدكتور مؤنس في الونشريسي أنه كان ( يحفظ و لا ينظر ، و يقسو على إخوان لنا في الدين وضعتهم صروف الأيام بين حجَرَي رحى تطحن و لا ترحم ) (2) .
أما رأيه في الفتوى التي حققها ، فيلخصه قوله : ( لقد كان لفتوى الونشريسي و أمثالها أسوأ الأثر على مصير الجماعات الإسلامية الباقية في الأندلس ، فقد حكم عليها بالكفر و هي مقيمة في الجحيم الذي كانت تعانيه ، و ما دام فقهاء الإسلام قد حكموا بكفرها فأي شيء أهون عليها من أن تدخل في النصرانيه ؟ و في هذا الدخول نجاتها على الأقل من عذاب الأرض الذي كانت تعانيه ) (3) .
و بحسب رأي الدكتور مؤنس ، فقد كان المأمول من الونشريسي نقيضَ ما أفتى به ، لذلك يستغرب حكمه بتعزير من يزدري دار الإسلام ، و يتطلع إلى العودة إلى دار الكفر بعد أن أنجاه الله منها ، و يتعقبه بقوله : ( هذا ما تيسر للمؤلف من الرأي حيال أولئك التعساء ، و كان حرياً به أن يشاركهم الأسى لمصابهم ، و أن ينصح الحكام بالنظر في مواضع شكواهم ، و يحفزهم على التخفيف عنهم و تأنيسهم و إشعارهم أنهم أقبلوا على أهل و حلُّوا بسهل ) (4) .
و قد تأثر بنقد الدكتور حسين مؤنس لفتوى الونشريسي خلقٌ كثير ، بل إنَّ معظم من كتب عن الونشريسي و وصفه بالتشدد في مواطن تستدعي الرحمة اعتمد كلام الدكتور مؤنس حُجَّةً في تقرير ما أراد (5) ، الأمر الذي حتَّم عليَّ إعادة النظر كَرَّةً بعد كرَّةٍ في فتوى الونشريسي و ما انتُقِدَت بسببه ، و قد انتهيت إلى جملة أمور أبرزها :
أولاً : ما أثاره معارضو الفتوى فيه خلط و اضطراب كثير ، فهم يرون أن القعود عن الهجرة مرده إلى الخوف من قطع السبيل ، أو العجز عن بلوغ الحيلة في الرحيل ؛ لما يتطلبه ذلك من الكلفة و النفقة التي لا يطيقونها ، مع أن في سؤال ابن قطيَّة الذي أجابه عليه الونشريسي في هذه الفتوى ما يدل على نقيض ذلك ، حيث يذكر أقواماً حلّوا بإفريقيّة و المغرب ، و لكنَّهم ندموا على هجرتهم بعد وقوعها ، و حدثوا أنفسهم بالنكوص على أعقابهم قافلين إلى الأندلس ، و صرَّحوا بذم دار الإسلام و أهله بعبارات ذكرها السائل ، و استنكرها المفتي .
و بذلك يتضح أن العذر بالعجز عن الهجرة إن كان أحد محاور الفتوى ، فليس المسألة الوحيدة التي طَرَقها المفتي .
و على نقيض ما زعمه المعارضون فقد فرَّق الونشريسي في حكم الهجرة بين من قدر عليها ، و من عجز عنها ، و التمس للعاجز العذر ، مع التشديد فيه ، كي لا يدَّعي العجز دعيٌّ يريد التحلل من الواجب ، فقال : ( لا عذر بوجهٍ لمستطيع و إن كان بمشقة في العمل أو في الحيلة أو في اكتساب الرزق أو ضيق في المعيشة ، إلا للمستضعف العاجز رأساً ، الذي لا يستطيع حيلةً و لا يهتدي سبيلاً ) (6) و ( لا يسقط هذه الهجرة الواجبة على هؤلاء الذين استولى الطاغية ـ لعنه الله ـ على معاقلهم و بلادهم إلا تصوُّرُ العجز عنها بكل وجهٍ و حالٍ ) (7) ، و مع أن العاجز معذور في ترك الهجرة ( لا بد أن تكون له نية قائمةٌ أنه لو قَدَرَ و تمكن لَهَاجَرَ ، و عزمٌ صادقٌ مستصحَبٌ أنه إن ظفر بمُكنةٍ وقتاً ما هاجر ) (8) ، و ذلك لأن ( الواجب على كل مؤمن يؤمن بالله و اليوم الآخر السعي في حفظ رأس الإيمان بالبعد و الفرار عن مساكنة أعداء حبيب الرحمن ) (9) .
__________
(1) المرجع السابق ، ص : 143
(2) صحيفة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد ( العددان : 1 و 2 من المجلد الخامس ، سنة 1377 هـ / 1957 م ) ، ص : 134 .
(3) المرجع السابق ، ص : 146 .
(4) المرجع السابق ، ص : 173 .
(5) انظر مثلاً : أهمية الكتب الفقهية في دراسة تاريخ الأندلس ، نموذج تطبيقي عن كتاب المعيار المعرب للونشريسي ، للدكتور عبد الواحد ذنون طه ( بحث منشور ضمن أبحاث الحضارة الأندلسية في الزمان و المكان المعقودة في الرباط بين 16 و 18 أبريل 1992 م ) ، ص : 119 و ما بعدها .
و مقارنة الدكتور عبد المجيد زكي بين فتوى الونشريسي و فتوى المازري ، في : قضايا ثقافية من تاريخ الغرب الإسلامي ( نصوص و دراسات ) ، ص : 63 و ما بعدها .
(6) انظر ص : ؟؟؟ من النص المحقق .
(7) انظر ص : ؟؟؟ من النص المحقق .
(8) انظر ص : ؟؟؟ من النص المحقق .
(9) انظر ص : ؟؟؟ من النص المحقق .(/4)
ثانياً : يكثر معارضو الفتوى من بتر كلام المفتي ، و يبالغون في تهويل كلامه للتنفير من فتواه ، حيث يصورونها حكماً مطلقاً بكفر من لم يهاجر من أهل الأندلس بعد أن غلب عليها أهل الصليب ، و ربَّما حملوه من طَرْفٍ خفيٍّ جريرة كفر من كفر ، و ردّة من ارتد عن دينه ، كما في قول الدكتور مؤنس عن الجماعات القاعدة عن الهجرة : ( و ما دام فقهاء الإسلام قد حكموا بكفرها فأي شيء أهون عليها من أن تدخل في النصرانيه ؟ ) (1) .
و يغيب عن هؤلاء ، أو يغيِّبون عن القاريء أن الفتوى تفهم بمجموع ما جاء فيها ، لا بنصوصٍ مبتورة منها ، خاصة و أن المخاطب فيها فقيه ورع ذو علمٍ و دراية بما يرفع اللبس عنه إن قُدِّرَ التباس الحكم عليه ، و لن يعجز عن ملاحظة أن حكم الونشريسي على من ترك الهجرة من بلدٍ غلب عليه النصارى ليس واحداً ، فهو يرى أن الإقامة بين أظهر المشركين إذا اقترنت بموالاتهم صارت كفراً ؛ و لذلك يكثر من الاستشهاد بما ورد في كتاب الله من النهي عن موالاة المشركين ، و مع ذلك يحتاط ـ أحياناً ـ في وصف من وقع فيها بالكفر ، كما في قوله : ( إن محبة الموالاة الشركية ، و المساكنة النصرانية ، و العَزْمَ على رفض الهجرة ، و الركون إلى الكفار و الرضى بدفع الجزية إليهم ... فواحش عظيمةٌ مهلكةٌ قاصمةٌ للظهر ، يكاد أن تكون كفراً و العياذ بالله ) (2) .
أما من ركن إلى الدنيا ، و استطاب المقام في وطنه تحت حكم الكفرة المتغلبين عليه ، من غير موالاة لهم ، و لا محاربة للمسلمين فقد أتى محرماً دون الكفر ، يحكي الونشريسي الإجماع على تحريمه ، و يرى أنه ( تحريم مقطوع به من الدين كتحريم الميتة والدم و لحم الخنزير و قتل النفس بغير حق ) (3) ، و غيرها من الكبائر ، و من وقع في كبيرة دون الكفر فهو مستحق للعقوبة ما لم يتب منها ، أو يشمله الله بمغفرته و رحمته ، فمن ( قطع عمره و أفنى شيبه و شبابه في مساكنتهم و توليتهم و لم يهاجر ، أو هاجر ثم راجع وطن الكفر و أصر على ارتكاب هذه المعصية الكبيرة إلى حين وفاته و العياذ بالله ، فالذي عليه السنة و جمهور الأئمة أنهم معاقبون بالعذاب الشديد ، إلا أنهم غير مخلدين في العذاب ) (4) ، لأنهم من أهل القبلة ، و أهل القبلة لا يخلدون في النار .
فأي إنصاف يدَّعيه من يزعم أن الونشريسي أفتى بكفر من لم يهاجر من أهل الأندلس بعد تغلب النصارى على بلادهم ، مع أنه يصرح بأنهم كسائر أهل التوحيد لا يُخلدون في النار و إن دخلوها ، على ما بدر منهم من عمل ؟!
ثالثاً : عجِبتُ لمن يقارن بين فتوى الإمام المازري رحمه الله ، و فتوى الونشريسي ، و يتخذ من ادّعاء الخلاف بينهما ذريعة للمز الونشريسي و الحط من قدره و علمه ، مع أن بين الفتوتين قرابة خمسة قرون ، و ظروف المسلمين في الأندلس كانت متقلبةً من يومٍ ليوم ، على ما يقتضيه تغيُّر الفتوى بحسب المصلحة و المفسدة .
ثم إن المازري لم يكن من أهل الأندلس ، و لم يُفتِ لأهلها ، بل كان نسبه منحدراً من صقلِّية ، و المسلمون في صقلية لم يعانوا على أيدي النورمان معشار ما عاناه أهل الأندلس على أيدي الفرنجة من الإبادة و القهر و التهجير ، و انتهاك الأعراض و الحرمات ، و نبذ العهود و المواثيق ، فلا وجه للقياس بين من بقي في صقلية و من بقي في الأندلس ، من حيث المفاسد المترتبة على بقائه .
كما أن فتوى المازري التي قارنها منتقدو الونشريسي بما في أسنى المتاجر تبحث في حكم ما يرد من قضاة صقلية و عدولها من الأحكام و البينات ، من حيث القبول أو الرد ، و ليس في موضوع إيجاب الهجرة على من استولى الأعداء على بلاده أو عَدَمِه (5) .
زد على ذلك أن الونشريسي رحمه الله ضمَّن رسالته فتوى المازري بطولها ، و لو قُدِّرَ أنها تنقض فتواه أو تعارضها ، لكان إيراده لها محض غبثٍ لا طائل من ورائه ، بل فيه نقضٌ لغزله ، و هدمٌ لرأيه ، و هذا محال .
و بناء على ما تقدم نرى الحق الذي ينبغي أن يقال هو أن فتوى المازري و فتوى الونشريسي يعضد بعضهما بعضاً فيما اتَّفق من مقصدهما ، و لا تجوز المقارنة بين ما لم يكن مقصوداً لكليهما .
و ما ذكر من سعي المازري في حاجة من هاجر من صقلية إلى إفريقية ، لا يصح بإثباته نفي قيام الونشريسي بمثله أو نحوه في مؤازرة من نزل المغرب من أهل الأندلس ، إذ إن عدم ذكر ذلك لا يعتبر نفياً لوقوعه كما توهم منتقدوه ، بل ينبغي إحسان الظن بالمسلمين ، و هو ما أكد عليه المازري و الونشريسي كلاهما ، كما سترى في هذه الرسالة إن شاء الله .
__________
(1) صحيفة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد ( العددان : 1 و 2 من المجلد الخامس ، سنة 1377 هـ / 1957 م ) ، ص : 134 .
(2) انظر ص : ؟؟؟ من النص المحقق .
(3) انظر ص : ؟؟؟ من النص المحقق .
(4) انظر ص : ؟؟؟ من النص المحقق .
(5) للاطلاع على فتوى المازري بتمامها انظر ص : ؟؟؟ من النص المحقق .(/5)
و لا ريب عندي في أن القاريء سيلمس في رسالة ( أسنى المتاجر ) من حسن النظر و الاستدلال ، و استحضار الأدلة و أقوال العلماء ، و حُسن السبك و التوجيه ، ما يرفع قدر الرسالة و كاتبِها ، و إن أُخِذ عليه ما أُحِذ ، فَمَن ذا الذي تُرضى سجاياهُ كلُّها ؟!
و على كل حال فإن ما أجراه الله تعالى على يدي عبده أبي العباس الونشريسي من الخير ، و من مداد قلمه في أبواب الشريعة من العلوم و المعارف ، يأطرنا أطراً على الإقرار بفضله و سبقه ، فلا يُعاب عليه تشدده في حقٍّ رآه ، و لا انتصاره لمذهبٍ ارتضاه .
النسخ المعتمدة في التحقيق :
اعتمدت في تحقيق ( أسنى المتاجر ) على نسخ مخطوطة و أخرى مطبوعة ، فيما يلي بيانها :
نسخة خزانة مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود بالدار البيضاء ، رقم ( 164 – 10 ) ، تقع في تسعة أوراق ، ضمن مجموع من الحجم المتوسط ، عدة أسطر الورقة ( 21) سطراً ، هي مكتوبة بخطٍ مغربي ، لا يُعرف اسم ناسخها ، و لا تاريخ نسخها ، و في آخرها التصريح بأنها مأخوذة من ( المعيار ) .
نسخة مكتبة الإسكوريال بمدريد ( رقم 1758 ) ، تقع في ثلاث عشرة ورقة ( أرقامها بين 83 و 95 ) ، ضمن مجموع من الحجم المتوسط ، عدة أسطر الورقة ( 21 ) سطراً ، مكتوبة بخط نسخ مغربي جيِّدٍ ، لا يُعرَف اسم ناسخها ، و لا تاريخ نسخها .
نسخة كتاب ( المعيار ) المخطوطة المحفوظة في الخزانة الوطنية بالرباط ، برقم ( 669 د ) ، بين صفحتَي ( 88 و 92 ) من المجلد الثاني ، عدة أسطر الورقة فيها ( 40 ) سطراً ، مكتوبة بخط مغربي صغير .
إضافة إلى المطبوعَتين الحجرية ، و العصريَّة لكتاب ( المعيار ) .
عملي و منهجي في تحقيق الرسالة :
سلكت في تحقيق هذه الرسالة منهجاً أرجو أن يقرب نوالها لمن وقف عليها ، و أهم معالم هذا المنهج :
أولاً : اعتمدت النص كما ورد في نسخة خزانة مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود بالدار البيضاء ، رقم ( 164 – 10 ) أصلاً ، و قارنته بما ورد في النسخ الأخرى مخطوطةً أو مطبوعة ، مع التزامي بإثبات نص الأصل في المتن حتى و إن كان خطأً ، و إثبات ما يخالفه في الحواشي سواء كان أقرب إلى الصواب أو أبعد عنه ، حتى يتمكن القارىء من الوصول إلى متنٍ متين بمجموع ما في النُسَخ.
و اخترت لكل نسخة رمزاً للدلالة عليها على النحو التالي :
( أ ) النص كما ورد في نسخة مكتبة الإسكوريال في مدريد برقم ( 1758 ) ، و اعتمدت في ضبط هذا النص على ما نشره الدكتور حسين مؤنس ، لا على أصل المخطوط .
( ح ) النص كما ورد في الطبعة الحجرية لكتاب ( المعيار ) ، المنشور في فاس ، سنة ( 1315 هـ ) ، بين صفحَتَي ( 90 و 106 ) .
( ر ) النص كما ورد في نسخة كتاب ( المعيار ) المخطوطة المحفوظة في الخزانة الوطنية بالرباط .
( م ) النص كما ورد في طبعة وزارة الأوقاف المغربية ( عام 1401 هـ / 1981 م ) .
ثانياً : ألحقت بالرسالة فتوى أخرى يجيب فيها الونشريسي عن مسألة مماثلة في الموضوع ، و من السائل نفسه ، تتميماً للفائدة .
و نظراً لأن الفتوى الملحقة غير موجودة في نسخة الدار البيضاء ( الأصل ) ، و لا في نسخة الإسكوريال ، اعتمدتُ نسخة الرباط أصلاً لها ، و قابلتها على نسخة الطبعة الحجرية ، و نسخة طبعة وزارة الأوقاف المغربية للمعيار .
ثالثاً : أثبت أرقام لوحات الأصل في متن الرسالة بذكر رقم اللوحة متبوعاً بالحرف ( أ ) للدلالة على الصفحة الأولى ، أو الحرف ( ب ) للدلالة على الصفحة الثانية ، و جعلت ذلك ضمن معكوفَتَيْن ، و بين الرقم و الحرف خط مائل كما في هذا المثال : [ / ] .
رابعاً : عزوت الآيات القرآنية إلى مواضعها من القرآن الكريم بذكر اسم السورة متبوعاً برقم الآية ، و جعلت ذلك في المتن ضمن معكوفَتَيْن ، و بين اسم السورة ، و رقم الآية نقطتان ، على النحو التالي : [ اسم السورة : رقم الآية ] .
و حيث وقع النُسَّاخ في عدد من الأخطاء في نَسخ الآيات القرآنية ، وحفاظاً على حرمة الكتاب العزيز ، أثبت نصوص الآيات القرآنية من المصحف الشريف من غير إشارة إلى اختلاف النُسَخ في ذلك .
خامساً : خرَّجت الأحاديث النبوية من دواوين السنة من غير إسهاب ممل و لا إيجاز مخل ، مكتفياً بالعزو إلى الصحيحين أو أحدهما إن كان الحديث فيهما أو في أيٍّ منهما ، و متوسعاً في العزو إن كان الحديث في غيرهما ، مع ذكر الكتاب و الباب الذي خُرِّجَ فيه الحديث ، و رقم الجزء و الصفحة في المصدَر ، مع ما لا بد منه لمعرفة درجة الحديث الشريف .(/6)
سادساً : خرَّجتُ النصوص من مصادرها الأصلية ، و عزوتها إلى مواطنها أو مظانِّها ، مع التعليق عليها بما يُجلِّي مراد أصحابها ، و الإشارة إلى مدى دقة نقل المؤلف لها ، مع ما استدعاه ذلك ـ أحياناً ـ من إيراد نص الأصل في الهامش ، أو نصوصٍ غير ما أورده المؤلف أو أشار إليه ؛ لتقريب المسائل ، و تعزيز قول المؤلف أو تصويبه ، و يلاحظ ذلك في فتوى المازري التي أوردها الونشريسي في رسالته ، و قد قابلتها على أصلها الذي نشره الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب ( تـ 1388 هـ/1968 م ) نقلاً عن ( الدُكانة ) للشيخ عظوم القيرواني رحمه الله ، و أعاد مقابلَتها و نشَرَها الدكتور عبد المجيد زكي ، في كتابه : قضايا ثقافية من تاريخ الغرب الإسلامي ، و عنه أخذْتُ النصَّ الأصلي للفتوى .
سابعاً : ترجمت للأعلام المذكورين في الرسالة ، و ذكرت نبذة عن حياة كل منهم عند أول ذكر له ، و أحلت على كتب التراجم و الأعلام ، قديمها وحديثها ، على ما يقتضيه التوثيق .
ثامناً : عرّفت بالكتب التي نقل عنها الونشريسي ، أو ذكرها في حديثه ، بقدر موجز يرفع الإشكال و يزيل الالتباس .
تاسعاً: عرفت بجل الأماكن و المدن المذكورة في النص .
عاشراً : عرفت بالمصطلحات ، و ذكرت معاني المفردات المشلكة ، بما يرفع الإشكال ، و وضحت العبارات و الجمل المبهمة بما يرفع ما فيها من إبهام .
حادي عشر : أثبت في آخر الرسالة المراجع و المصادر التي اقتبست منها أو عزوت إليها أثناء التحقيق مرتبة على حروف المعجم ، مع التعريف بطبعاتها المعتمدة .
ثاني عشر : ذيَّلت الرسالة بفهارس للآيات القرآنية ، و الأحاديث و الآثار ، و الأعلام ، و الأماكن و البلدان ، إلى جانب الفهرس التفصيلي للفوائد و المسائل .
التعريف بالونشريسي (1)
اسمه ولقبه و نسبته :
هو أبو العباس أحمد بن يحيى بن محمد بن عبد الواحد بن علي الونشريسي ، و هو في أكثر المصادر" الونشريسي " ، و هذه النسبة إلى ( ونشريس ) ، و هي بليدة بإفريقية من أعمال بجاية بين باجة و قسطنطينة المغرب ، أو إلى ونشريش ، و هي سلسلة جبال شهيرة تقع غربي الجزائر بين ميلانة و تلمسان (2) .
مولده وموطنه :
ولد أبو العباس الونشريسي سنة ( 834هـ /1430م ) بجبال " ونشريس " التي تعد أكثر الكتل الجبلية ارتفاعا في غرب الجزائر ، " وهي واقعة بين مليانة و تلمسان " (3) ، و نشأ في تلمسان ، و درس على جماعة من علمائها علوم اللغة و الشرع في مقتبل عمره ، قبل أن يرحل إلى فاس و يطلب العلم عن بعض العلماء فيها .
انتقاله من تلمسان إلى فاس :
لما بلغ الونشريسي أشده و بلغ أربعين سنة ـ و هو يومئذ قوال للحق لا تأخذه في الله لومه لائم ـ نقمت عليه حكومة تلمسان أمراً أغضب عليه السلطان أبو ثابت الزياني ، فأمر بنهب داره ، فانتُهِبَت داره ، ففر إلى فاس سنة ( 874هـ ) .
وقد استقبلته فاس استقبالاً عظيماً ، فلقي من حفاوة فقهائها و إقبال طلبتها عليه ما أنساه الغربة و جعله ينسجم في بيئته الجديدة انسجاًماً تاماً ، و يتخذ من هذه البلدة الطيبة موطنا له و لأبنائه من بعده .
شيوخه :
درس الونشريسي على جماعة من الأعلام في تلمسان و فاس ، و في مقدمة هؤلاء الأعلام الذين درس عليهم من يلي :
شيخ المفسرين والنحاة العالم المطلق – على حد تعبير الونشريسي – أبو عبد الله محمد بن العباس ( تـ 871 هـ ) .
أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني ( تـ 854 هـ ) .
قاضي الجماعة بتلمسان أبو إبراهيم بن قاسم العقباني ( تـ 880 هـ ) و هو ولد السابق .
القاضي محمد بن أحمد بن قاسم بن سعيد العقباني ( تـ 871 هـ ) .
محمد بن أحمد بن عيسى بن الجلاب ( تـ 875هـ ) .
محمد بن مرزوق الكفيف ( تـ 901هـ ) .
محمد بن محمد بن عبد الله اليفرني الشهير بالقاضي المكناسي ( تـ 917 هـ ) .
قيامه بالتدريس :
__________
(1) ترجم للونشريسي كثير من العلماء ، وقد اعتمدت في التعريف به هنا على المراجع التالية :
الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى ، لأحمد بنى خالد الناصري : ( 4/165 ) .
أهم مصادر التاريخ والترجمة في المغرب من القرن العاشر الهجري إلى النصف الأول من القرن الحالي ، لأحمد المكناسي ، ص : 39 .
إيضاح المكنون ، لإسماعيل باشا البغدادي : 1/113 ، 2/94 ، 94 ، 517 ، 592 .
هدية العارفين ، لإسماعيل باشا أيضا : 1/138 . ...
معجم المطبوعات ، ليوسف إلياس سركيس : 2/1952 ، 1926 .
الأعلام ، لخير الدين الزركلي : 1/269 .
مقدمة كتاب المعيار ، للدكتور محمد حجي .
(2) انظر : معجم البلدان لياقوت بن عبد الله الحموي : 5/355 . دار صادر بيروت الطبعة الثانية .
و وفيات الأعيان : 5 / 55 .
(3) انظر : المرجع السابق الصفحة نفسها .(/7)
أقبل الونشريسي في فاس على تدريس المدونة و مختصر ابن الحاجب في الفروع و كثيراً ما كان يدرس بالمسجد المعلق بالشراطين من فاس حاضرة القرويين ، و كان مشاركا في فنون كثيرة من العلم كما تبين مولفاته ، إلا أنه اقتصر على تدريس الفقه ، فيقول من لا يعرفه : إنه لا يعرف غيره ، كما كان رحمه الله فصيح اللسان ، وافر العلم .
تلاميذه :
تخرج على أحمد الونشريسي عدد وافر من الفقهاء الذين بلغوا درجات عليا في التدريس و القضاء و الفتيا في فاس و فكيك و جبال الأطلس و ما وراءها من بلاد السوس الأقصى ، و مِن أشهر هؤلاء التلاميذ :
ولده عبد الواحد الونشريسي قاضي فاس و مفتيها ( تـ 955هـ ) .
محمد بن محمد ابن الغرديس التغلبي قاضي فاس و ابن قاضيها
( تـ 967هـ ) .
محمد بن عبد الجبار الورتدغيري ، الذي عمر زاوية أبيه الشهيرة في فكيك مدة طويلة بتدريس الفقه و الحديث ( تـ 956 هـ ) .
الحسن بن عثمان التملي ، عالم تيبوت الكبير بضاحية ترودانت و شيخ الفقهاء في ربوع سوس كلها ( تـ 932هـ ) .
مكانته العلمية :
كان للونشريسي مكانة كبيرة و منزلة رفيعة في حياته و بعد موته فهو حامل لواء المذهب المالكي على رأس المائة التاسعة ، يدل على ذلك حفاوة أهل فاس به و إقبال طلبتها عليه ، كما يدل على ذلك كثرة مؤلفاته و رواجها و وجود كثير من التلاميذ له ، و تميزه في بعض العلوم خاصة الفقه ، فقد قال شيخ الجماعة بالمغرب الإمام محمد بن غازي حين مر به أحمد الونشريسي يوما بجامع القرويين : لو أن رجلاً حلف بطلاق زوجته أن أبا العباس الونشريسي أحاط بمذهب مالك أصوله و فروعه لكان باراً بيمينه و لا تطلق زوجته عليه . و كان فصيح اللسان وافر العلم حتى كان بعض من يحضره يقول : لو حضر سيبويه لأخذ النحو من فيه .
مؤلفاته :
ألف أحمد الونشريسي كتباً عديدة يتعلق موضوع معظمها بالفقه المالكي أصوله و فروعه ، و من أهم هذه المؤلفات ما يلي :
المعيار المعرب ، و الجامع المغرب ، عن فتاوي علماء إفريقية و الأندلس و المغرب . قال عنه يوسف سركيس : جمع فأوعى و حصل فوعى . و منه رسالة " أسنى المتاجر " التي بين أيدينا .
المنهج الفائق ، و المنهل الرائق ، و المعنى اللائق ، بأدب الموثوق و أحكام الوثائق ، أو: الفائق في الوثائق .
غنية المعاصر و التالي ، في شرح فقه وثائق أبي عبد الله القشتالي .
مختصر أحكام البرزلي .
إيضاح المسالك ، إلى قواعد الإمام مالك .
عدة البروق في تلخيص ما في المذهب من الجموع و الفروق .
القصد الواجب ، في معرفة اصطلاح ابن الحاجب .
إضاءة الحلك ، في الرد على من أفتى بتضمين الراعى المشترك .
وفيات الونشريسي .
فهرس الونشريسي .
رسالة في ترجمة محمد المقري ( الجد ) .
شرح الخزرجية في العروض .
الولايات ، في الخطط الشرعية .
حل الربقة ، عن أسير الصفقة .
وفاته :
توفي أحمد الونشريسي رحمه الله بفاس في سنة أربع عشرة و تسعمائة ، في يوم الثلاثاء العشرين من صفر .
أسنى المَتاجِر في بيان أحكام مَن غَلبَ على وطنه النصارى و لم يهاجر
و ما يترتب عليه من العقوبات و الزواجر
( النص محققاً )
تأليف
أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي
المتوفى سنة 914هـ
كتَب إليَّ الشيخ الفقيه المعظَّم الخطيب الفاضل القدوة الصالح البقِيَّةُ ، و الجملةُ الفاضلة النقيَّةُ ، العَدل ُ الأرضى أبو عبد الله بن قَطِيَّة (1) ، أدام الله سمُوه و رُقِيَّه ، بما نَصُّه :
الحمد لله وحدَه ، جوابَكم يا سيِّدي ( رضي الله عنكم ، و متَّعَ المسلمين بحياتكم ) في نازلةٍ ، و هي : أن قوماً من هؤلاء الأندلسيين الذين هاجروا من الأندلس (2) و تركوا هناك الدور و الأرضين و الجنات و الكَرْمَات (3)
__________
(1) لم أقف له على ترجمة ، و هو ـ كما يتضح من السؤال ـ من معاصري الونشريسي ، و قد ورد ذكره في موضعين من المعيار هذا أحدهما ، و الثاني في صدر الرسالة المتممة لأسنى المتاجر ، و ستأتي إن شاء الله .
(2) الأندلس هي إسبانيا حالياً ، فتحها المسلمون سنة اثنتين و تسعين للهجرة على يد طارق بن زياد ، و استمر حكم المسلمين لها حتى أواخر القرن التاسع الهجري .
(3) الكَرْم : العنب ، أو شجره ، و احدته كَرمةٌ . و قيل : الكرمة الطاقة الواحدة من الكَرْم ، و جمع الكَرْم كروم ، كما تجمع كَرمة ـ أيضاً ـ على كَرْمات .
انظر : الصحاح ، لإسماعيل بن حماد الجوهري : 5 / 2020 ، و المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ، لأحمد بن محمد الفيومي ، ص : 203 ، و تاج العروس من جواهر القاموس ، للسيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي : 9 / 43 ، و المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة : 2 / 816 .(/8)
و غير ذلك من أنواع الأصول ، و بذلوا [ زيادة على ذلك كثيراً ] (1) من ناضِّ المال (2) ، و خرجوا من تحت حُكم الملة الكافرة ، و زعموا أنهم فروا إلى الله سبحانه بأديانهم و أنفسهم و أهليهم و ذرياتهم ، و ما بقي بأيديهم أو أيدي بعضهم من الأموال ، و استقروا بحمد الله سبحانه بدار الإسلام - تحت طاعة الله و رسوله ، و حكم الذمة المسلمة - ندموا على الهجرة بعد حصولهم بدار الإسلام ، و [ سخطوا ] (3) ، و زعموا أنهم وجدوا الحال عليهم ضيقة ، و أنهم لم يجدوا بدار الإسلام - التي هي دار المغرب هذه ( صانها الله ، و حرس أوطانها ، و نصر سلطانها ) - بالنسبة إلى التسبب في طلب أنواع المعاش على الجملة رفقاً و لا يسراً و لا مرتفقاً ، و لا إلى التصرف في الأقطار أمناً لائقاً .
و صرَّحوا في هذا المعنى بأنواع من قبيح الكلام الدال على ضعف دينهم و عدم صحة يقينهم في معتقدهم ، و أن هجرتهم لم تكن لله و رسوله كما زعموا ، و إنما كانت لدنيا يصيبونها عاجلاً عند وصولهم ، جاريةً على وفق أهوائهم ، فلما لم يجدوها وِفقَ أغراضهم صرحوا بذم دار الإسلام و شأنه ، و شتم الذي كان السبب لهم في هذه الهجرة و سبِّه ، و بمدح دار الكفر و أهله ، و الندم على مفارقته ، و ربما حُفِظَ عن بعضهم أنه قال على جهة الإنكار للهجرة إلى دار الإسلام - التي هي هذا الوطن ( صانه الله ) - : إلى [ هاهنا ] (4) يُهاجَرُ من [ هناك ] (5) ؟ بل من ها هنا تجب الهجرة إلى هناك ! و عن آخَر منهم أيضاً أنَّه قال : إن [ جاء ] (6) صاحب قشتالة (7) إلى هذه النواحي نسير إليه ، فنطلب منه أن يردنا إلى هناك ، يعني : إلى دار الكفر .
[ و عن بعضهم أيضاً : أنهم يرومون إعمال الحيلة في الرجوع إلى دار الكفر ] (8) معاودة [ للدخول ] (9) تحت [ الملّة ] (10) الكافرة كيف أمكَنَهم .
فما الذي يلحقهم في ذلك من الإثم ، و نقص رتبة الدين و الجُرْحَة (11) ؟
و هل [ هم ] (12) به مرتكبون المعصية التي كانوا فروا منها إن تمادوا على ذلك ، و لم يتوبوا ، و لم يرجعوا إلى الله سبحانه منه ؟
و كيف [ بمن ] (13) رَجَع منهم بعد الحصول في دار الإسلام إلى دار الكفر ( و العياذ بالله ) ؟
__________
(1) في ( أ ) : ( على ذلك زيادةً كثيرةً ) .
(2) يعبِّر أهل الأندلس بالمال الناضّ عن الضرائب المالية التي كانت تستوفى منهم نقداً ، و أصله في لسان أهل الحجاز اسمٌ للدراهم والدنانير ، يسمونها كذلك إذا تحوّلت عيناً بعد أن كانت عرَضاً و متاعاً . و نضَّ بمعنى : اتَّفق و تيسَّر ؛ يقال : خذ ما نضّ لك من دَين ، أي : ما تيسَّر . و منه ما روي عمر رضي الله عنه انه كان يأخذ الزكاة من ناض المال عن المال كله غائبه و شاهده .
انظر : غريب الحديث ، لابن قتيبة : 2 / 599 ، و غريب الحديث لابن الجوزي : 2 / 415 ، و الصحاح :3 / 1107 ، 1108، و لسان العرب : 9 / 105 ، و المصباح المنير ، للفيومي ، ص : 233 ، و المعجم الوسيط : 2 / 966 .
(3) في ( أ ) : ( و تسخَّطوا ) .
(4) في ( أ ) ، و ( م ) : ( هنا ) .
(5) في ( أ ) ، و ( ح ) : ( هنائك ) .
(6) في ( أ ) : ( جاز ) .
(7) قشتالة ( CASTILLA ) هي الهضبة التي تشكل المركز و القلب في شبه جزيرة إيبريا ، و تشمل ثلثي مساحتها ، و هي هضبة جافة تقع بين مدريد ـ عاصمة إسبانيا ـ و مدينة طليطلة . و قد أصبحت قشتالة في القرن التاسع للميلاد إمارة مسيحية ، عاصمتها مدينة ( برغش BURGOS) ، ثم انضمت إلى ( نافار NAVAR ) و ضمت إليها ( ليون( LEON ، و في عام 1469م تزوجت ( إيزابيلا ) أميرة قشتالة بفرديناند الثاني ملك ( أراجون( ARAGON ، فاتحدت إمارات قشتالة و أراجون و ليون في دولة واحدة ، و تم هذا الاتحاد بعد زواجهما بعشر سنين .
(8) ما بين المعكوفتَيْن ساقط من ( أ ) .
(9) في ( أ ) : ( الدخول ) .
(10) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : ( الذمّة ) .
(11) الجُرحة : ما تُجرَح به الشهادة ، و جَرَحَهُ بلسانه : عابَهُ و تنقّصَه ، و منه : جرحتُ الشاهد ، إذا أظهرتُ فيه ما تُردُّ به شهادَتُه ، و في المقاضاة يُقال للمشهود عليه : هل لك جُرْحَة ـ أي : ما تُجْرَح به الشّهادةُ ـ و كان يقولُ حاكمُ المدينةِ للخَصْم إِذا أَرادَ أَنْ يُوجِّه عليه القَضاءَ أَقْفي النص الأصلي لفتوى المازري : (تُك الجُرْحَةَ فإِنْ كان عندك ما تَجْرَحُ به الحُجَّةَ الّتي تَوجَّهتْ عليكَ فهَلُمَّها أَي أَمكنْتُك في أَن تَقُصَّ ما تَجْرَحُ به البَيِّنةَ .
انظر : تاج العروس ، لمرتضى الزبيدي : 6 / 338 ، و المصباح المنير ، ص : 37 ، و المعجم الوسيط : 1 / 120 .
(12) ما بين المعكوفتَيْن ساقط من : ( ر ) .
(13) في ( م ) : ( مَن ) .(/9)
[ و ] (1) هل يجب على من قامت عليه منهم بالتصريح بذلك أو بمعناه شهادةٌ ، أدبٌ أو لا (2) - حتى يُتَقَدَّم [ فيه إليهم ] (3) بالوعظ [ 2/أ ] و الإنذار ؟ فمن تاب إلى الله سبحانه تُرِك ، و رُجيَ له قبول التوبة ، و من تمادى عليه أُدِّب ؟
أو يُعرَض عنهم و يترك كل واحد منهم و ما اختاره ؟ فمن ثبته الله في دار الإسلام راضياً فله نيته ، و أجره على الله سبحانه ، و من اختار الرجوع إلى دار الكفر و معاودة الذمة الكافرة [ تُرِكَ ] (4) يذهب إلى سخط الله ، و من ذمَّ دار الإسلام منهم تصريحاً أو معنىً تُرِكَ و ما عُوِّلَ عليه ؟
بيِّنوا لنا حكم الله تعالى في ذلك كله ، و هل من شرط الهجرة أن لا يهاجر أحدٌ إلا إلى دنيا مضمونة يصيبها عاجلاً عند وصوله ، جاريةً على وِفق غَرَضه حيث حلَّ [ أبداً ] (5) من نواحي الإسلام ؟ أو ليس ذلك بشرط ؟ بل [ يجب ] (6) عليهم الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، إلى حلوٍ أو مُرٍّ ، أو وُسعٍ أو ضيقٍ ، أو [ عُسرٍ أو يُسرٍ ] (7) بالنسبة إلى أحوال الدنيا ، و إنَّما القصد [ بها ] (8) سلامة الدين و الأهل و الولد مَثلاً ، و الخروج من حُكم الملَّة الكافرة إلى حكم الملة المسلمة ، إلى ما شاء الله من حلوٍ أو مرٍّ أو ضيق عيشٍ أو سعته ، و نحو ذلك من الأحوال الدنياوية - بياناً شافياً [ مُجرَّداً ] (9) مشروحاً كافياً ، يأجركم الله سبحانه ، و السلام الكريم [ يعهد ] (10) مقامكم العلي و رحمة الله تعالى و بركاته .
فأجبته بما [ هذا ] (11) نصُّه :
الحمد لله [ تعالى ] (12) وحدَه ، و الصلاة و السلام على سيدنا و مولانا محمدٍ بَعدَه .
الجواب عمَّا سألتم عنه ـ و الله سبحانه ولي التوفيق بفضله ـ أن الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فريضة إلى يوم القيامة ، و كذلك الهجرة من أرض الحرام و الباطل بظُلمٍ (13) أو فتنة .
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غَنَمٌ يتبع بها [ شَعَف ] (14) الجبال و مواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن ) . أخرجه البخاري و الموطأ و أبو داود و النسائي (15) .
و قد روى أشهب (16) عن مالك : ( لا يُقيم أحدٌ في موضع يعمل فيه بغير الحق ) (17) .
__________
(1) الواو ساقطة من : ( م ) .
(2) قوله : أدبٌ ، مصدر مرفوع ، بمعنى التأديب ، و هو : التعزير و العقوبة ، و المرادُ : السؤالُ عن حكم الإسلام فيمن شهد عليه العدول بذم دار الإسلام و التطلع إلى العودة إلى دار الكفر ، هل يجب تأديبه ( بالعقوبة ) أم لا ؟
(3) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) ، و ( م ) : ( إليهم فيه ) .
(4) في ( م ) : ( فهو ) .
(5) في ( م ) : ( بلداً ) . و هو مثبت على هامش ( ب ) ، ( ح ) .
(6) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) : ( تجب ) .
(7) في ( ر ) : ( يسرٍ أو عُسرٍ ) .
(8) في ( ر ) : ( منها ) .
(9) في ( أ ) : ( مجوَّداً ) .
(10) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : يعتمد ، و في ( ر ) : ( يعتمر ) .
(11) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( أ ) ، ( م ) .
(12) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(13) الباء في قوله : ( بظلم ) سببية ، و المراد : الهجرة من أرض الحرام و الباطل بسبب الظلم أو الفتنة ، اتّقاءً و خشيةً لهما .
(14) في ( م ) : ( شَفَ ) ، و هو خطأ ، و الصواب ( شعف ) كما في بقية النسخ ، و الشَعَفُ جمع شَعَفة ، و هي أعلى الشيء .
انظُر : فتح الباري ، لابن حجر العسقلاني : 1 / 88 .
(15) الحديث رواه البخاري : 1 /87 ( مع الفتح ) في كتاب الإيمان ، باب مِن الدين الفرار من الفِتَن ، حديث رقم ( 19 ) ، و أبو داود : 4/ 103 في كتاب الفتن ، باب ما يُرَخَّص فيه من البداوة في الفتنة ، حديث رقم ( 4267 ) ، و النسائي : 8 / 123 ، 124 في كتاب الإيمان ، باب الفرار بالدين من الفتن ، حديث رقم ( 5036 ) ، و مالك في الموطأ : 2 / 970 في كتاب الاستئذان ، حديث رقم ( 16 ) من باب ما جاء في أمر الغَنَم ، كلُّهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
(16) هو : أبو عمر ، قيل : اسمه مسكين و أشهب لقبٌ له ، و قيل : اسمه أشهب ، و اتّفِق على أنه ابن عبد العزيز بن داود القيسي العامري ، فقيه الديار المصرية في زمنه ، صاحب الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة ، ولد سنة ( 145 هـ ) و توفي سنة ( 204 هـ ) . قال الإمام الشافعي رحمه الله : ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيشٌ فيه . اهـ .
انظُر ترجمَتَه في : وفيات الأعيان و أنباء أبناء زمان ، لابن خلكان : 1 / 238 ، 239 ، ترجمة رقم ( 100 ) .
و تهذيب التهذيب ، لأحمد بن حجر العسقلاني : 1 / 314 ، ترجمة رقم ( 654 ) .
و الأعلام للزركلي : 1 / 333 .
(17) هذا القول نقله ابن العربي في عارضته على سنن الترمذي : 7 / 88 ، و انظُره في : الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي : 5 / 348 .(/10)
قال في العارضة (1) : فإن قيل : فإذا لم يوجد [ بلد ] (2) إلا كذلك ؟ [ قلنا ] (3) : يَختار المرء أقَلَّها إثماً ، مثل أن يكون [ بلد ] (4) فيه [ كفرٌ ] (5) [ و بلد ] (6) فيه جور خير منه ، أو بلد فيه عدل و حرام ، [ و بلد ] (7) فيه جور و حلال خير منه للمقام ، أو بلد فيه معاصٍ في حقوق الله فهو أولى من بلد فيه معاصٍ في مظالم العباد . و هذا الأنموذج دليل على ما رواه (8) .
و قد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (9) : فلان بالمدينة ، و فلان بمكة ، و فلان باليمن ، و فلان بالعراق ، و فلان بالشام ؛ امتلأت الأرض ـ و الله ـ جوراً و ظلماً . انتهى (10) .
و لا يسقط هذه الهجرة الواجبة على [ 2/ب ] هؤلاء الذين استولى الطاغية [ لعنه ] (11) [ الله ] (12) على معاقلهم و بلادهم إلا تصوُّرُ العجز عنها بكل وجهٍ و حالٍ ، [ لا ] (13) الوطن و المال ، فإن ذلك كله ملغي في نظر الشرع .
قال الله تعالى : { إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ و النِّسَاء و الْوِلْدَانِ (14) لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً و لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُو عَنْهُمْ و كَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } [ النساء : 98 ، 99 ] .
__________
(1) هي : عارضة الأحوذي لشرح صحيح الترمذي ، لأبي بكر محمد بن عبد الله الإشبيلي ، المعروف بابن العربي المالكي ( ت 543 هـ ) شرح فيها الجامع الصحيح للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ( ت 279 هـ ) أحد الكتب الستة ، و ذكر في مقدمتها أنه لا ينبغي لحصيف يتصدى للتصنيف أن يعدل عن غرضين : إما أن يخترع معنى ، أو يبتدع وصفاً و متناً ، و بيّن عمله فيها فقال : ( سنورد فيه إن شاء الله بحسب العارضة قولاً في الإسناد و الرجال و الغريب ، و فنّاً من النحو و التوحيد و الأحكام و الآداب ، و نكتاً من الحِكَم و إشاراتٍ إلى المصالح ) .
قال ابن خلكان : أما معنى ( عارضة الأحوذي ) ؛ فالعارضة : القدرة على الكلام ، يقال : فلانٌ شديد العارضة ، إذا كان ذا قدرة على الكلام ، و الأحوذي : الخفيف بالشيء لحَذَقه ، و قال الأصمعي : المشمِّر في الأمور القاهر لها الذي لا يشذ عليه منها شيء . اهـ .
انظُر : عارضة الأحوذي : 1 / 4 و 6 ، و وفيات الأعيان ، لابن خلكان : 4 / 297 ، و كشف الظنون ، لحاجي خليفة : 1 / 559 ، و تاريخ الأدب العربي ، لبروكلمان : 1 / 268 .
(2) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(3) في ( أ ) : ( قلتُ ) .
(4) في ( أ ) : ( البلد ) .
(5) في ( م ) : ( كِبْر ) .
(6) في ( أ ) : ( فبلدٌ ) .
(7) في ( أ ) : ( فبلدٌ ) .
(8) كذا في جميع النسخ التي بأيدينا ، و كأن في النص سقطاً ، ما لم يكن مراده : أن في المفاضلة بين البلدان للإقامة في أخفها ضرراً و شرّاً دليلٌ على ما رواه أشهب عن مالك ، و أورده الونشريسي آنفاً .
(9) هو : عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي ، الخليفة الصالح الزاهد ، و الملك العادل ، خامس الخلفاء الراشدين ، ولد بالمدينة سنة ( 61 هـ ) و نشأ بها و ترعرع حتى ولي إمارتها للوليد بن عبد الملك ، ثم استوزره سليمان بن عبد الملك بالشام ، و ولي الخلافة بعهد من سليمان سنة ( 99 هـ ) ، فبويع في مسجد دمشق ، و سكن الناس في أيامه ، و لم تطل مدته ، فمات سنة ( 101 هـ ) ، و مدة خلافته سنتان و نصف ، و كان رحمه الله ثقةً أميناً ذا فقه و علم و ورعٍ ، و أخبار عدله و حسن سيرته تملأ الأسفار ، و قد صنف في سيرته خلق كثير ، كلهم يثني عليه .
انظُر ترجمَتَه في : البداية و النهاية ، لابن كثير : 5 / 252 و ما بعدها ، و تهذيب التهذيب ، لابن حجر : 7 / 418 و ما بعدها ، ترجمة رقم ( 791 ) ، و الأعلام ، للزركلي : 5 / 50 .
(10) عارضة الأحوذي ، لابن العربي : 7 / 88 ، 89 .
و انظر قول خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز ، و التعليق عليه بما يفيد في : الاستذكار ، لابن عبد البر : 5 / 17 .
(11) في ( ر ) : ( لعنهم ) .
(12) في ( أ ) ، و ( ح ) : ( الله تعالى ) .
(13) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ح ) .
(14) في ( ر ) : زيادة ( الذين ) بعد ( الولدان ) و هو وهم من الناسخ ، فلم يرد ذلك في أي قراءة .
انظُر مثلاً : تحبير التيسير في قراءات الأئمة العشرة ، للجزري ، ص : 103 .(/11)
فهذا الاستضعاف المعفو عمَّن اتصف به غير الاستضعاف المعتذر به في أول الآية (1) و صدرها ، و هو قول الظالمي أنفسِهم : { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ } [ النساء : 97 ] ، فإن الله تعالى لم يقبل قولهم في الاعتذار به ، فدلَّ على أنهم كانوا قادرين على الهجرة من وجهٍ ما ، و عفا عن الاستضعاف الذي لا يستطاع معه حيلة و لا يُهتدى [ به ] (2) سبيلٌ بقوله : { فَأُولَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُو عَنْهُمْ } ، و عسى من الله واجبةٌ (3) .
فالمستضعف المعاقب في صدر الآية (4) هو القادر من وجهٍ ، و المستضعف المعفو عنه في عجُزِها (5) هو العاجز من كل ِّ وجهٍ ، فإذا عجز المبتلى بهذه الإقامة عن الفرار بدينه و لم يستطع سبيلاً إليه ، و لا ظهرت له حيلةٌ و لا [ قدر ] (6) عليها بوجهٍ و لا حالٍ ، [ و ] (7) كان بمثابة المقعَد [ أو ] (8) المأسور [ أو ] (9) كان مريضاً جداً أو ضعيفاً جداً فحينئذٍ يرجى له العفو ، و يصير بمثابة المُكرَه على التلفُّظ بالكُفر (10) ، و مع هذا لا بد أن تكون له نية قائمةٌ أنه لو قَدَرَ و تمكن لَهَاجَرَ ، و عزمٌ صادقٌ مستصحَبٌ أنه إن ظفر بمُكنةٍ (11) وقتاً ما فيها [ هاجر ] (12) .
و أما المستطيع بأي وجهٍ كان و بأي حيلة تمكنت فهو غير معذورٍ ، و ظالمٌ لنفسه إن أقام حسبما تضمنته الآيات و الأحاديث [ الواردات ] (13) .
قال [ الله ] (14) تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي و عَدُوكُمْ أَولِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَودَّةِ و قَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ } إلى قوله : { و مَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواء السَّبِيلِ } [ الممتحنة :1 ] .
و قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ودُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ و مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } [ آل عمران : 118 ] .
و قال تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَولِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ و مَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً و يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ و إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ } [ آل عمران : 28 ] .
و قال تعالى : { و لاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ و مَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَولِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } [ هود : 113 ] .
و قال تعالى : { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَولِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً } إلى قوله : { و لَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } [ النساء : 138 – 141 ] .
__________
(1) كلامه يشير إلى الآية السابقة للآية التي ذكرها ، و هي قوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيراً } [ النساء : 97 ] .
(2) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(3) انظُر : تفسير القرطبي : 5 / 347 ، و تفسير ابن كثير : 1 / 823 .
(4) يريد أولى الآيتين و هي الآية رقم ( 97 ) من سورة النساء .
(5) يريد المذكورين في الآيتين : ( 98 و 99 ) من سورة النساء .
(6) في ( أ ) : ( قدرة ) .
(7) في ( م ) : ( أو ) .
(8) في ( ر ) : ( و ) .
(9) في ( ر ) : ( و ) .
(10) رفع القلم عن المكره في التظاهر بالكفر فما دون ذلك من الأفعال و الأقوال ما دام قلبه مطمئناً بالإيمان ؛ قال تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله و لهم عذابٌ أليم } [ النحل : 106 ] .
قال الحافظ ابن كثير ، في تفسيره : 2 / 911 ، 912 : اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز أن يوالي ، إبقاءً لمهجته ، و يجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك و هم يفعلون به الأفاعيل . اهـ .
(11) المُكنة : القدرة و الاستطاعة ، و القوة و الشدة ، و قيل : قيل المُكنة من التمكن كالطُلبة ... يقال إن فلانا لذو مكنة من السلطان أي ذو تمكن .
انظُر : النهاية في غريب الأثر ، لبن الجزري : 4 / 350 ، و لسان العرب : 3 / 413 ، و المعجم الوسيط : 2 / 917 .
(12) في ( أ ) : ( فيهاجر ) .
(13) في ( ر ) ، و ( م ) : ( الواردة ) .
(14) لفظ الجلالة غير موجود في ( أ ) ، و ( م ) .(/12)
و قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَولِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } [ النساء : 144 ] .
و قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ و النَّصَارَى أَولِيَاء بَعْضُهُمْ أَولِيَاء بَعْضٍ و مَن يَتَولَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَومَ الظَّالِمِينَ } [ المائدة : 51 ] .
و قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ [ 3/أ ] هُزُواً و لَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ و الْكُفَّارَ أَولِيَاء و اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ و إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً و لَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَومٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } [ المائدة : 57 - 58 ] .
و قال تعالى : { إِنَّمَا ولِيُّكُمُ اللّهُ و رَسُولُهُ و الَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ و يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ و هُمْ رَاكِعُونَ و مَن يَتَولَّ اللّهَ و رَسُولَهُ و الَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ المائدة : 55 ] .
و قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ و سَاءتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ و النِّسَاء و الْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً و لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُو عَنْهُمْ وكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } [ النساء : 97 – 99 ] .
و قال تعالى : { تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَولَّونَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ و فِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ و لَو كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله و النَّبِيِّ و مَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَولِيَاء و لَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ المائدة : 80 ، 81 ] .
و الظالمون أنفسهم في هذه الآية السابقة إنما هم تاركون للهجرة مع القدرة عليها حسبما تضمنه قوله تعالى : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } . فظلمهم أنفسَهم إنما كان بتركها ، و [ هو ] (1) الإقامة مع الكفار و تكثير سوادهم ، و قوله : { تَوفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ } فيه [ التنبيه ] (2) على أن الموبَّخ على ذلك و المعاقَب عليه إنما هو من مات مُصِراً على هذه الإقامة ، و [ أما ] (3) من تاب عن ذلك و هاجر و أدركه الموت و لو بالطريق ، فتوفاه المَلكُ خارجاً عنهم - فيُرجى قبول توبته ، و أن لا يموتَ ظالماً لنفسه ، و يدل [ على ذلك أيضاً ] (4) قول الله تعالى : { و مَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ و رَسُولِهِ } إلى قوله : { و كَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 100 ] .
فهذه [ الآيات ] (5) [ القرآنية ] (6) كلها أو أكثرها ما سوى قوله (7) : { تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ } إلى آخرها ، نصوص في تحريم الموالاة الكفرانية ، و أما قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ و النَّصَارَى أَولِيَاء بَعْضُهُمْ أَولِيَاء بَعْضٍ و مَن يَتَولَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَومَ الظَّالِمِينَ } [ المائدة : 51 ] فما أبقت [ متعلقاً ] (8) إلى التطرق لهذا التحريم .
و [ كذا ] (9) قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً و لَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ و الْكُفَّارَ أَولِيَاء و اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 57 ] .
__________
(1) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) ، و ( م ) : ( هي ) .
(2) في ( أ ) ، و ( ر ) : ( تنبيه ) .
(3) في ( ر ) : ( و أنّ ) .
(4) في ( أ ) : ( ذلك أيضاً على ) .
(5) في ( أ ) : ( الآي ) ، و في ( ر ) : ( الآية ) .
(6) في ( ر ) : ( الكريمة ) .
(7) في ( ر ) : ( قوله تعالى ) .
(8) في ( ر ) : ( مُعلّقاً ) .
(9) في ( أ ) : ( كذلك ) .(/13)
و تكرار الآيات في هذا المعنى و جريها على نَسَق [ و ] (1) وتيرة واحدة [ مؤكد ] (2) للتحريم ، و رافع للاحتمال المتطرق إليه ، فإن المعنى إذا نُصَّ عليه و أُكِّد بالتكرار فقد ارتفع الاحتمال لا شك ، [ فتتعاضد ] (3) هذه النصوص القرآنية و الأحاديث النبوية و الإجماعات القطعية على هذا النهي ، فلا تجد في تحريم هذه الإقامة و هذه الموالاة الكفرانية مخالفاً من أهل القبلة المتمسكين بالكتاب العزيز الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ و لا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ، فهو تحريم مقطوع به من [ الدين ] (4) كتحريم الميتة و الدم و لحم الخنزير و قتل النفس بغير حق ، و أخواته من الكلِّيات الخمس التي أطبق أرباب المِلَل و الأديان على تحريمها ، و من خالف الآن في ذلك أو رام الخلاف من المقيمين معهم و الراكنين إليهم فَجَوَّزَ هذه الإقامة ، و استخفَّ أمْرَها و استسهَلَ حكمها – [ 3/ب ] فهو مارقٌ من الدين ، و مفارق لجماعة المسلمين ، و محجوجٌ بما لا مَدفَعَ فيه لمسلم ، و مسبوقٌ بالإجماع الذي لا سبيل إلى مخالفته و خرق سبيله .
قال زعيم الفقهاء القاضي أبو الوليد ابن رشد رحمه الله (5) في أول كتاب التجارة إلى أرض الحرب من مقدماته (6) : فرض الهجرة غير ساقط ، بل الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة ، [ واجب ] (7) بإجماع المسلمين على من أسلَم بدار الحرب ألا يقيم بها حيث تجري عليه أحكام المشركين ، و أن [ يهجره ] (8) و يلحق بدار المسلمين حيث تجري عليه أحكامهم .
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أنا بريء من [ كل ] (9) مسلم مقيم مع المشركين ) (10) .
__________
(1) واو العطف ساقطة مِن ( أ ) .
(2) في ( ر ) : ( مؤكدة ) ، و هو بعيد عن الصواب ، فيما يبدو ؛ لأن كلمة ( مؤكدة ) غير مناسبة للمعطوف عليها ( رافع ) بعدها .
(3) في ( أ ) : ( فتتفاضل ) .
(4) في ( ر ) : ( النهي ) .
(5) هو القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد ، من مشاهير فقهاء و أعيان المالكية ، و هو جد ابن رشد الفيلسوف ( محمد بن أحمد ) . ولد بقرطبة سنة ( 450 هـ ) ، و توفي بها سنة ( 520 هـ ) ، له مؤلفات كثيرة ، منها : ( المقدمات ) ، و ( البيان التحصيل ) ، و ( الفتاوى ) ، و ( مختصر شرح معاني الآثار للطحاوي ) .
انظُر ترجمَتَه في : الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب ، لابن فرحون المالكي :2 / 248 و ما بعدها ، و سير أعلام النبلاء : 19 / 501 و ما بعدها ، و الأعلام ، للزركلي : 5 / 316 ، 317 .
(6) إشارة إلى كتاب ( المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات ، و التحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات ) ألفه ابن رشد حين طلب منه بعض من كان يحضر مجالسه الفقهية أن يجمع ما كان يلقيه عليهم من استفتاح أبواب المدونة ، و في أثناء بعضها مما يحسن المدخل به من معنى عنوان الكتاب ، و اشتقاق لفظه ، و تبيين أصله من الكتاب و السنة ، و ما اتفق عليه أهل العلم من ذلك و اختلفوا فيه ، و وجه بناء مسائله عليه و ردها إليه ، و ربطها بالتقسيم لها و التحصيل لمعانيها .
انظُر : المقدمات الممهدات ، لأبي الوليد ابن رشد : 1 / 5 .
(7) في ( أ ) : ( و أجاب ) .
(8) في ( أ ) ، و ( م ) : ( يهجرها ) بالتأنيث ، و الضمير المتصل فيها يعود على دار الحرب . أما بالتذكير فالضمير المتصل يعود على البلد الذي تجري فيه أحكام المشركين على المسلمين .
(9) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(10) سيأتي تخريج الحديث لاحقاً حيث يورده المؤلف رحمه الله بتمامه ثَمَّ .
و في معناه قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : هذا محمول على من لم يأمن على دينه . اهـ من الفتح : 6 / 46 .(/14)
إلا أن هذه الهجرة لا يحرمُ على المهاجر بها الرجوعُ إلى وطنه إن عاد دار إيمان و إسلام ، كما حرُمَ على المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الرجوع ] (1) إلى مكة [ للذي ] (2) [ اذخره] (3) الله لهم من الفضل في ذلك (4) .
قال (5) : فإذا وجب بالكتاب و السنة و إجماع الأمة على من أسلم بدار الحرب أن يهجره و يلحق بدار المسلمين ، و لا يثوي بين المشركين و يقيم بين أظهرهم ؛ [ لئلا ] (6) تجري [ عليه ] (7) أحكامهم - فكيف يباح لأحدٍ الدخول إلى بلادهم حيث تجري عليه أحكامهم في تجارة أو غيرها ؟! .
و قد كره مالك رحمه الله أن يسكن أحد ببلد يُسَبُّ فيه السلف (8) ، فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن (9) ، و تُعبَد فيه من دونه الأوثان ؟! [ و ] (10) لا تستقر نفس أحد على هذا إلا مسلم مريض الإيمان . انتهى (11) .
فإن قلتَ : المستفاد من كلام صاحب المقدمات و غيره من الفقهاء المتقدمين صورة [ طروء ] (12) الإسلام على الإقامة بين أظهر المشركين ، و الصورة المسئول عنها هي صورة طروء الإقامة على أصالة الإسلام ، و بين الصورتين [ بَونٌ ] (13) بعيد ، فلا يحسُن الاستدلال به على الصورة [ المسئول الآن عن حكمها ] (14) .
قلتُ : تفقُّهُ المتقدمين إنما كان في تارك الهجرة مطلقاً ، و مثلوا ذلك بصورة [ من صوره ] (15) ؛ و هو من أسلَم في دار الحرب و أقام ، و هذه المسئول [ عنها أيضاً ] (16) صورة ثانية من صوره لا تخالف الأولى [ الممثَّل ] (17) بها إلا في طروء الإقامة خاصة .
__________
(1) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( أ ) .
(2) في ( ح ) ، و ( م ) : ( الذي ) .
(3) في ( ر ) : ( ادّخره ) بدال مشددة مهملة ، و المعنى واحد ، ففي المعجم الوسيط : 1 / 321 : اذّخر الشيء ، ذَخَرَه ، أي : خبّأه لوقت الحاجة ، و يقال : ادّخَر ، و أصله اذتخَر . اهـ .
(4) قال ابن رشد رحمه الله : ( فكانت الهجرة إلى النبي صلى الله عليه و سلم قبل فتح مكة على من أسلم من أهلها واجبة مؤبدة ، افترض الله عليهم البقاء مع رسوله عليه السلام حيث استقرَّ ، و التحول معه حيث تحول ؛ لنصرته و مؤازرته و صحبته ، و ليحفظوا عنه ما يشرعه لأمته ، و يبلغوا ذلك عنه إليهم ، و لم يرخص لأحد منهم في الرجوع إلى وطنه و ترْك رسول الله صلى الله عليه و سلم . ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في حجة الوداع : ( لا يقيمن مهاجر بمكة بعد قضاء نُسُكه فوق ثلاث ) خص الله بهذا من آمن من أهل مكة بالنبي صلى الله عليه و سلم و هاجر إليه ليتم له بالهجرة إليه و المقام معه و ترك العودة إلى الوطن الغاية من الفضل الذين سبق لهم في سابق علمه و هم الذين سماهم الله بالمهاجرين ، و مدحهم بذلك ، فلا يطلق هذا الاسم على أحد سواهم ) . المقدمات : 2 / 152 ، و حديث ( لا يقيمن مهاجر بمكة ... ) صحيح رواه الخمسة .
(5) أي : أبو الوليد ابن رشد رحمه الله .
(6) في ( م ) : ( ليلا ) .
(7) في ( أ ) : ( عليهم ) .
(8) روى ذلك عنه ابن القاسم . انظُر : أحكام القرآن لابن العربي : 1 / 484 ، و الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي : 5 / 348 .
(9) حيثما وردت هذه اللفظة فإن ما يقابلها في ( م ) هو : ( الرحمان ) ، بألف بعد الميم ، على الشائع في الكتابة المغربية .
(10) الواو ساقطة مِن ( ر ) .
(11) المقدمات ، لأبي الوليد ابن رشد : 2 / 153 .
(12) حيثما وردت لفظة ( طروء ) فإن ما يقابلها في ( م ) و في بعض مواضع من النسخ الأخرى هو ( طرو ) بدون همزة في آخرها .
(13) في ( أ ) : ( بوين ) .
(14) في ( أ ) : ( المسئول عنها الآن ) .
(15) في ( ر ) : ( بصوره ) .
(16) في ( ر ) : ( أيضاً عنها ) .
(17) في ( أ ) : ( المتمثل ) .(/15)
فالصورة الأولى [ الممثل ] (1) بها عندهم [ طرأ ] (2) الإسلام فيها على الإقامة ، و الصورة الثانية الملحقة بها [ المسئول عنها ] (3) طرأت الإقامة فيها على الإسلام (4) ، و اختلاف الطروء فرق صوري و هو غير معتبر في استدعاء قصر الحكم عليه ، و [ انتهائه ] (5) إليه ، و إنما خَصَّ من تقدم من [ أئمة ] (6) الهدى المقتدى بهم الكلام بصورة من أسلم و لم يهاجر ؛ لأن هذه الموالاة الشركية كانت مفقودة [ 4/أ ] في صدر الإسلام و [ غُرَّته ] (7) ، و لم تحدث على ما قيل إلا بعد مضي [ مئات ] (8) من السنين ، و بعد انقراض أئمة الأمصار المجتهدين ، فلذلك ـ لا شك ـ لم يتعرض لأحكامها الفقهية أحد منهم .
ثم لما نبغت (9) هذه المرة الموالاة النصرانية في المائة الخامسة و ما بعدها من تاريخ الهجرة وقت استيلاء ملاعين النصارى دمرهم الله على جزيرة صقلية (10) و بعض كُوَرِ الأندلس (11) ، سُئِل عنها بعض الفقهاء ، و استُفهِموا عن الأحكام الفقهية المتعلقة بمرتكبها ، فأجاب : بأن أحكامهم جارية على أحكام من أسلم و لم يهاجر ، و ألحقوا هؤلاء المسئول عنهم و المسكوت عن حكمهم بهم ، و سوَّوْا بين الطائفتين في الأحكام الفقهية المتعلقة بأموالهم و أولادهم ، و لم يروا فيها فرقاً بين الفريقين ؛ و ذلك لأنهما في موالاة [ الأعداء ] (12) و مساكنتهم و مداخلتهم و ملابستهم ، و عدم مباينتهم ، و ترك الهجرة الواجبة عليهم ، و الفرار منهم ... و سائر الأسباب الموجِبة لهذه الأحكام المسكوت عنها في الصورة المسئول عن فرضها - بمثابةٍ واحدة .
فألحَقوا رضي الله عنهم الأحكام المسكوت عنها في هؤلاء المسكوت عنهم بالأحكام [ المتفقة ] (13) فيها في أولئك ، فصار اجتهاد المتأخرين في هذا مجرد إلحاق [ المسكوت ] (14) عنه بمنطوق به مساوٍ له في المعنى من كل وجه ، و هو منهم رضي الله عنهم عدلٌ من النظر ، و احتياطٌ في الاجتهاد ، و ركونٌ إلى الوقوف مع من تقدم من أئمة الهدى المقتدى بهم ، فكان غاية في الحُسن و الزَين .
و أما الاحتجاج على تحريم [ هذا ] (15) الإقامة من السنة فما خرَّجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث سريةً إلى خثعم (16)
__________
(1) في ( أ ) : ( المتمثل ) .
(2) في ( ر ) : ( طروء ) .
(3) ما بين المعكوفتَيْن ساقط من : ( ر ) ، و ( م ) .
(4) معنى قوله : أن الدار المقام فيها في الصورة الأولى دار كفرٍ أصلاً ، لكن المقيم فيها تحول من الكفر إلى الإسلام ، أما في الصورة الثانية فدار الإقامة كانت دار إسلام ثم تحولت دار كفر ، ـ على مذهب من يقول بتحول الدار دار كفر بعد أن كانت دار إسلام ـ و إن ظل المقيم فيها على إسلامه .
(5) في ( أ ) : ( انتمائه ) .
(6) حيثما وردت هذه اللفظة فإن ما يقابلها في ( م ) هو : ( أيمة ) ، بالياء .
(7) في ( أ ) : ( عزّته ) .
(8) في ( ر ) : ( مئين ) .
(9) نبغت : ظهرت و طرأت بعد أن لم تكن . و نبغ الشيء من الشيء : ظهَر ، و يقال : نبَغ منه أمراً ما كنا نتوقعه ، و نبغ من قلبه ما أضمَره .
انظُر : الصحاح : 4 / 1326 ، و لسان العرب : 8 / 453 ، و المعجم الوسيط : 2 / 934 .
(10) صقلية (sicile ) جزيرة كبيرة تقع في جنوبي غربي إيطاليا ، و يفصلها عنها مضيق ( مسينا ) ، فتحها العرب أيام بني الأغلب على يد القاضي أسد بن الفرات سنة ( 212 هـ ) أيام الخليفة المأمون ، احتلها روجي النرمان سنة ( 464هـ/1071م ) بعد أن افتكها من أميرها عبد الله بن الحواس آخر ملوك الطوائف بصقلية ، و هي اليوم جزء من إيطاليا .
(11) أي : نواحي الأندلس و أرجائها ، و الكُوَر : جمع كُوَرة ، و من معانيها : الصُقع ( أي الناحية ) ، أو المدينة ، أو البقعة التي يجتمع فيها قرىً و محالّ .
انظُر : المصباح المنير ، للفيومي ، ص : 207 ، و مختار الصحاح ، للرازي ، ص : 582 ، و المعجم الوسيط : 2 / 836 .
قلت : و يكثر استعمال هذه الكلمة للدلالة على المدن و البقاع و الإمارات الأندلسية في كتب أهل الأندلس خاصة ، كما في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، لأحمد بن محمد المقري ، و غيره .
(12) في ( م ) : ( الأعداد ) و هو خطأ جليٌّ .
(13) في ( أ ) ، و ( ر ) : ( المُتَفقَّه ) .
(14) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) : ( لمسكوتٍ ) .
(15) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) ، و إسقاطه أصلح للمعنى ، و تأنيثه أصلح من إسقاطه .
(16) خثعم اسم قبيلة ، قيل أنها سميت بذلك نسبة إلى جبل في اليمن يقال له خثعم ، و قيل : بل نسبة إلى رجل من أهل اليمن يسمى خثعم بن أنمار ، و يقال : هم من معد صاروا باليمن ، و قيل : خثعم اسم جمل سمي به خثعم ، و الخَثْعَمَةُ تلطخ الجسد بالدم ، و قيل : به سميت هذه القبيلة ؛ لأنهم نحروا بعيرا فتلطخوا بدمه ، و تحالفوا .
انظُر : لسان العرب : 12 / 166 ، و كتاب العين ، للخليل بن أحمد الفراهيدي : 2 / 285 .(/16)
فاعتصم ناسٌ بالسجود ، فأسرع فيهم القَتلَ ، و بلغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه و سلم ، فأمر لهم بنصف العقل (1) ، و قال : ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ) . قالوا : يا رسول الله و لِمَ ؟ قال : ( لا تتراءى ناراهما (2) ) (3) .
و في الباب : أن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال ] (4) : ( لا تساكنوا المشركين و لا تجامعوهم ، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو منهم ) (5) .
و التنصيص في هذين الحديثين على المقصود بحيث لا يخفى على أحد ممن له نظر سليم ، و ترجيح مستقيم ، و قد ثبتا في الحسان [ من المصنفات الستة ] (6) التي تدور عليها رحى الإسلام .
قالوا : و لا معارض [ لها ] (7) لا ناسخ و لا مخصِّص و لا غيرهما ، [ و مقتضاهما ] (8) لا مخالف لهما من المسلمين ، و ذلك كاف في الاحتجاج بهما . هذا مع [ اعتضادهما ] (9) بنصوص الكتاب و قواعد الشرع و شهادتهما لهما .
و في سنن أبي داود من حديث معاوية قال : سمعت [ 4/ب ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، و لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) (10) .
و فيه (11) حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يومَ فتحِ مكة : ( لا هجرة بعد الفتح ، و لكن جهادٌ و نيةٌ ، و إن استنفرتم فانفِروا ) (12) .
__________
(1) العَقْل : الدية ، و الجمع : عُقُول ، و العاقل : دافع الدية ، و الجمع عاقِلة ، و عاقلة الرَجُل : عُصبَتُه ، و هم الأقارب من جهة الأب الذين يشتركون في دفع الدية . قال الأصمعي : سُمِّيَت الدية عقلاً تسميةً بالمصدر ؛ لأن الإبل كانَت تُعقَل بفناء وليّ القتيل ، ثمَّ كثُر الاستعمال حتى أُطلِقَ العقل على الدية إبلاً كانت أو نقداً .
انظُر : المصباح المنير ، للفيومي ، ص : 160 ، 161 ، و الصحاح ، للجوهري : 5 / 1770 ، 1771 ، و المعجم الوسيط : 2 / 639 ، 640 .
(2) و معنى قوله : ( لا تراءى ناراهما ) كما قال ابن الأثير : أي يلزم المسلم و يجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك ، و لا ينزل بالموضع الذي إذا أوقد فيه ناره تلوح و تظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله ، و لكن ينزل مع المسلمين في دارهم ، و إنما كره مجاورة المشركين ، لأنهم لا عهد لهم و لا أمان ، و حثّ المسلمين على الهجرة ، و الترائي : تفاعل من الرؤية ، يقال : تراءى القوم ، إذا رأى بعضهم بعضاً ، و تراءى لي الشيء ، أي : ظهر حتى رأيته ، و إسناد الترائي في الحديث إلى النارين مجاز من قولهم : داري تنظر إلى دار فلان ، أي : تقابلها ، يقال : ناراهما مختلفان ؛ هذه تدعو إلى الله ، و هذه تدعو إلى الشيطان ، فكيف تتفقان ؟! و الأصل في ( تراءى ) تتراءى ، فحذفت إحدى التائين تخفيفاً . اهـ .
النهاية في غريب الحديث و الأثر ، لابن الأثير : 2 / 177 .
(3) حديث صحيح رواه الترمذي : 4 / 155 في كتاب السير ، باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين ، حديث رقم ( 1604 ) ، و أبو داود : 3 / 45 في كتاب الجهاد ، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود ، حديث رقم ( 2645 ) ، و النسائي : 8 / 36 في كتاب القسامة ، باب القود بغير حديدة ، حديث رقم ( 4780 ) كلهم عن جرير بن عبد الله .
(4) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ح ) .
(5) أخرجه الترمذي معلقاً : 4 / 156 في كتاب السير ، باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين ، حديث رقم ( 1650 ) ، و الحاكم في المستدرك : 2 / 141 ، و قال : صحيح على شرط البخاري و لم يخرجاه ، و رواه أيضاً البيهقي في السنن الكبرى : 9 / 142 ، و الطبراني في معجمه الكبير : 7 / 217 ، كلهم عن سمرة رضي الله عنه .
و أخرجه أبو داود في سننه : 3 / 93 ، في باب الإقامة بأرض الشرك ، حديث رقم ( 2787 ) بلفظ : (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله ) .
و الحديث صححه الشيخ الألباني رحمه الله بشواهده في الصحيحة : 2 / 229 .
(6) ما بين المعكوفتَيْن مكرر في ( ر ) .
(7) في ( أ ) : ( له ) .
(8) في ( ر ) : ( لا مقتضاهما ) و هو خطأ .
(9) في ( أ ) : ( اعتضاضهما ) .
(10) صحيحٌ ، رواه أبو داود : 3 / 3 في كتاب الجهاد ، باب في الهجرة التي انقطعت ، حديث رقم ( 2479 ) ، و النسائي : 5 / 217 في كتاب متى تنقطع الهجرة ، حديث رقم ( 6711 ) ، و أحمد : 13 / 169 ، في مسند معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، حديث رقم ( 16848 ) .
(11) أي : في هذا الباب ، و هو باب وجوب الهجرة و بقاء حكمها ما بقي سببه .
(12) رواه البخاري : 6 / 6 في كتاب الجهاد و السير ، باب فضل الجهاد و السير ، برقم ( 2783 ) ، و مسلم : 2 / 422 ، 423 في كتاب الحج ، باب تحريم مكة و صيدها و خلاها و شجرها و لُقَطتها إلا لمُنشِد على الدوام ، حديث رقم ( 1353 ) .(/17)
[ و قال ] (1) أبو سليمان الخطابي (2) : كانت الهجرة في أول الإسلام مندوباً إليها غير مفروضة ، و ذلك قوله [ سبحانه ] (3) : { و مَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وسَعَةً } [ النساء : 100 ] ، [ نزل ] (4) حين اشتد أذى المشركين على المسلمين بمكة ، ثم وجبت الهجرة على المسلمين عند [ خروج ] (5) النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة ، و أمِروا بالانتقال إلى حضرته ؛ ليكونوا معه فيتعاونوا و يتظاهروا إن حَزَبهم أمر ، و ليتعلموا أمر دينهم ، و ليتفقهوا فيه .
و كان عظمُ الخوف في ذلك الزمان من قريش و هم أهل مكة ، فلما فتحت مكة [ و بَخَعَََت ] (6) بالطاعة [ زال ] (7) ذلك المعنى ، و ارتفع وجوب الهجرة ، و عاد الأمر فيها إلى الندب و الاستحباب .
[ فهما ] (8) هجرتان ؛ [ فالمنقطعة ] (9) منهما هي الفرض ، و الباقية هي الندب ، فهذا وجه الجمع بين الحديثين (10) على أن بين الإسنادين ما بينهما : إسناد [ حديث ] (11) ابن عباس متصل صحيح ، و إسناد معاوية فيه مقال . انتهى (12) .
__________
(1) في ( م ) : ( و قال ) بزيادة واو .
(2) الخطابي ، هو : حَمْد ـ و قيل أحمد ـ بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي ، الإمام ، العلامة ، الحافظ ، اللغوي ، وُلِد في ( بُسْت ) من بلاد الأفغان ـ عجّل الله تحريرها ـ و توفي بها سنة 388 هـ . كان فقيها ، أدبياً ، محدثاً ، ورعاً ، له من التصانيف البديعة ( معالم السنن ، شرح لسنن أبي داود ) ، و ( الغنية عن الكلام و أهله ) ، و ( غريب الحديث ) ، و العزلة ) .
انظر ترجمته في : المنتظم في تاريخ الملوك و الأمم ، لابن الجوزي : 6 / 397 ، و وفيات الأعيان 2 / 214 – 216 ، و سير أعلام النبلاء 17 / 23 .
(3) في ( م ) : ( سبحانه و تعالى ) .
(4) في ( ر ) : ( نزلت ) أي الآية ، و بدون التاء يعود الضمير المستتر على قوله سبحانه .
(5) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(6) ما بين المعكوفتَيْن يقابله بياض في ( ر ) .
و بخعت أي أذعنت و خضعت و انقادت ، يقال : بخع بالحَقِّ بُخُوعاً : أقَرَّ بِهِ ، و خَضَعَ له .
قال ابن الأثير ( في النهاية : 1 / 102 ) بعد أن أورد حديث ( أتاكم أهل اليمن هم أرقّ قلوباً و أبْخَعُ طاعةً ) : أي أبْلغُ و أنصَح في الطاعة من غيرهم ، كأنهم بالَغُوا في بَخْع أنفسهم : أي قَهْرها و إذلالها بالطاعة . قال الزمخشري : هو من بَخَع الذبيحة إذا بالغ في ذبحها ، و هو أن يَقْطع عَظْم رقبَتها و يَبْلُغ بالذبح البِخَاع - بالباء – و هو العِرق الذي في الصّلب .اهـ .
و انظُر : المصباح المنير ، للفيومي ، ص : 15 ، و لسان العرب : 8 / 5 ، و المعجم الوسيط : 1 / 43 .
(7) في ( أ ) : ( إلى ) ، و لا يستقيم بها المعنى .
(8) في ( ر ) : ( و هما ) .
(9) في ( م ) : ( فالمنطقة ) ، و هو خطأ .
(10) قال البغوي في شرح السنة : 6 / 263 : وجه الجمع بين الحديثين أن الهجرة كانت مندوبة في أول الإسلام غير مفروضة ، و ذلك قوله سبحانه : ( و من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً و سعة ) ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة أُمِروا بالهجرة و الانتقال إلى حضرته ؛ ليكونوا معة ... قال الخطابي : فهما هجرتان ، فالمنقطعة هي الفرض ، و الباقية هي الندب . قال الإمام : الأَولى أن يُجمَع بينهما من وجه آخر ، و هو أن قوله : ( لا هجرة بعد الفتح ) أراد به من مكة إلى المدينة ، و قوله : ( لا تنقطع الهجرة ) أراد به هجرة من أسلم في دار الكفر عليه أن يفارق تلك الدار . اهـ .
و قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : 7 / 271 ، بعد أن نقل عن البغوي نحو كلامه السابق : الذي يظهر أن المراد بالشق الأول ـ و هو المنفي ـ ما ذكره في الاحتمال الأخير ، و بالشق الآخر ـ المثبت ـ ما ذكره في الاحتمال الذي قبله ، و قد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الاسماعيلي بلفظ : ( انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار ) أي : ما دام في الدنيا دار كفر فالهجرة واجبة منها على من أسلَم و خشيَ أن يفتن في دينه . اهـ .
(11) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(12) معالم السنن ، للخطابي : 2 / 234 ، 235 ، و حديث معاوية تقدم تخريجه و بيان صحته .(/18)
قلتُ : هاتان الهجرتان اللتان تضمنهما حديث معاوية و حديث ابن عباس هما الهجرتان اللتان انقطع فرضهما بفتح مكة ؛ فالهجرة الأولى [ الهجرة ] (1) من الخوف على الدين و النفس كهجرة النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابة المكيين ؛ فإنها كانت [ عليه ] (2) فريضة لا يُجزىء إيمان دونها ، و الثانية الهجرة إلى النبي صلى الله عليه و سلم في داره التي استقر فيها ، فقد بايع من قصده على الهجرة و بايع آخرين على الإسلام ، و أما الهجرة من أرض الكفر فهي فريضة إلى يوم القيامة .
قال ابن العربي (3) في الأحكام (4) : الذهاب في الأرض ينقسم إلى ستة أقسام :
الأول : الهجرة ، و هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ، و كانت فرضاً في [ أيام ] (5)
__________
(1) ما بين المعكوفتَيْن ساقط من ( أ ) ، و ( ح ) : ( م ) .
(2) في ( ر ) : ( عليه ) .
(3) هو : أبو بكر ، محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد الإشبيلي المالكي ، المعروف بابن العربي ، أحد الحفاظ و القضاة المشهورين ، و لد في إشبيلية سنة ( 468 هـ ) ، رحل مع أبيه إلى المشرق ، و دخل الشام فتفقه بأبي بكر الطرطوشي ، و لقي بها جماعة من العلماء المحدثين ، و دخل بغداد فسمع بها ، و أخذ الأصلين عن أبي بكر الشاشي ، و الغزالي ، و الأدب عن أبي زكريا التبريزي ، و حجَّ ، و رجع إلى مصر و الإسكندرية فسمع بها من جماعة ، و عاد إلى بلده متبحراً في العلوم ، جامعاً للكثير منها ، بالغاً درجة الاجتهاد في علوم الدين ، مقدماً في في المعارف كلها ، جامعاً إلى ما أوتي من العلم و الحكمة أدباً جماً وخلقاً حسناً ، مع حسن المعاشرة و لين الكنف ، مات رحمه الله بفاس ، سنة ( 543 هـ ) و دُفن فيها .
من تصانيفه الحسان : ( العواصم من القواصم ) ، و ( الإنصاف في مسائل الخلاف ) ، و ( قانون التأويل ) .
انظُر ترجمَتَه في : وفيات الأعيان ، لابن خلكان : 4 / 296 ، 297 ، ترجمة رقم ( 626 ) ، و طبقات المفسرين ، للداودي : 1 / 180 و ما بعدها ، و الديباج المذهب : 2 / 252 و ما بعدها ، و الأعلام ، للزركلي : 6 /230.
(4) هو كتاب ( أحكام القرآن ) لابن العربي ، و هو تفسير خمسمائة آية متعلقة بأحكام المكلَّفين ، أتى بها مرتبة بحسب السور على ترتيب المصحف ، ثم فسرها و استنبط ما فيها من الأحكام ، مستوفياً ما يتعلق بها من مسائل لغوية و حديثية و فقيهة على نحوٍ بديع ، حتى صار كتابه هذا مرجعاً لمن بعده من المفسرين بعامّةٍ ، و للمقتصرين على آيات الأحكام بخاصّةً .
ذكر ( أحكام القرآن ) و عرّف به حاجي خليفة في كشف الظنون : 1 / 10 ، و هو محقق مطبوع.
(5) في ( م ) : ( إبّان ) و إبّانُ الشيء : وقته و أوانه ، و يغلب استعماله مضافاً .
انظُر : الصحاح ، 5 : 2066 ، و المعجم الوسيط : 1 / 1- 3 .(/19)
النبي [ صلى الله عليه و سلّم ] (1) ، و هذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة ، و التي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه و سلم حيث كان ... (2) فإن بقي في دار الحرب عصى ، و [ يختلف ] (3) في حاله ... (4) و انظر بقية أقسام الهجرة فيها (5) .
و قال في العارضة : إن الله حرم أولاً على المسلمين أن يقيموا بين أظهر المشركين بمكة ، و افترض عليهم أن يلحقوا بالنبي بالمدينة ، فلما فتح الله مكة سقطت الهجرة ، و بقي تحرم المُقام بين أظهر المشركين .
[ 5/أ ] و هؤلاء الذين اعتصموا بالسجود لم يكونوا أسلموا و أقاموا مع المشركين ؛ إنما كان اعتصامهم في الحال . نعم إنه لا يحل قتل من بادر إلى الإسلام إذا رأى السيف على رأسه بإجماع من [ الأئمة ] (6) ، و لكن قُتلوا لأحد معنيين : إما لأن السجود لا يعصم ، و إنما يعصم الإيمان بالشهادتين لفظاً ، و إما لأن الذين قتلوهم لم يكونوا يعلمون أن ذلك يعصمهم ، و هذا هو الصحيح ؛ فإن بني جَذِيمة (7) لما أسرَع خالدٌ (8)
__________
(1) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) ، و ( م ) : ( عليه السلام ) .
(2) توجد هنا عبارة أسقطها المؤلف من كلام ابن العربي ، نصّها : ( فمن أسلَم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام ) .
(3) في ( ر ) : ( مختلف ) .
(4) أحكام القرآن ، لابن العربي : 1 / 484 .
(5) قال ابن العربي بعد ما نقله عنه الونشريسي في هذه الرسالة : الثاني : الخروج من أرض البدعة ؛ قال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول : لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسَبُّ فيها السلف . قال ابن العربي : و هذا صحيح ؛ فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزُل عنه ، قال الله تعالى : ( و إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ) إلى قوله : ( الظالمين ) [ الأنعام : 68 ] . الثالث : الخروج من أرض غَلَب عليها الحرام ؛ فإنَّ طلب الحلال فرضٌ على كل مسلم . الرابع : الفرار من الأذِيَّة في البَدَن ؛ و ذلك فضل من الله أرخص فيه ، فإذا خشيَ على نفسه في موضع فقد أذن الله في الخروج عنه ، و الفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور ، و أول من فعله إبراهيم عليه السلام ؛ فإنه لما خاف من قومه قال : ( إني مهاجر إلى ربي ) [ العنكبوت : 26 ] ، و قال : ( إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) [ الصافات : 99 ] . و قال مخبراً عن موسى : ( فخرج منها خائفاً يترقب ) [ القصص : 21 ] . الخامس : خوف المرض في البلاد الوخمة و الخروج منها إلى الأرض النزهة ، و قد أذن صلى الله عليه و سلم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصِحُّوا ، و قد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون ؛ فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن نبيه صلى الله عليه و سلم ... بَيْدَ أن علماءنا قالوا : هو مكروه . السادس : الفرار خوف الأذية في المال ؛ فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، و الأهلُ مِثلُه و أوكد . اهـ . أحكام القرآن ، لابن العربي : 1 / 484 و ما بعدها .
(6) في ( أ ) ، و ( ر ) : ( الأمة ) .
(7) بنو جَذيمة هم : بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة ، كانوا يسكنون الغميصاء ، و هو موضع في بادية العرب قرب مكة ـ كما قال ياقوت ـ ، بعث إليهم النبي صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد في ثلاثمائة و خمسين من المهاجرين و الأنصار داعياً إلى الإسلام لا مقاتلاً ( كما في مغازي ابن سعد ) ، و كان ذلك في شوال عقب فتح مكة و قبل الخروج إلى حنين باتفاق أهل المغازي . انظُر : فتح الباري : 7 / 654 ، و معجم البلدان : 4 / 214 .
(8) هو سيف الله خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي ، الصحابي الفاتح الكبير ، كان من أشراف قريش في الجاهلية ، شهد مع مشركيهم حروب الشام حتى عمرة الحديبية ، حيث أسلم قبل الفتح ( سنة 7 هـ ) ، فسُرّ بإسلامه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ولاه الخيل ، و لما ولي أبو بكر الخلافة وجّهه إلى لقتال مسيلمة و من ارتدّ من أعراب نجد ، ثمّ سيّره إلى العراق ( سنة 12 هـ ) ، ففتح الله على يديه الحيرة و جانباً عظيماً من أرض العراق ـ عجّل الله تحريرها من أيدي الغزاة الصليبيين المعاصرين ـ ثم حوّله أبو بكر إلى الشام و أمَّرَه على من فيها من الجند ، حتى كان عهد عمر فعزله ، و وَلَّى مكانه أبا عبيدة بن الجراح ، فقاتل خالد تحت إمرة أبي عبيدة ، و ضرب بسيفه إلى أن تمّ لهما فتح الشام ، فرحل إلى المدينة ، و دعاه عمر ليوليه فأبى .
توفي ( سنة 21هـ ) بحمص الشام ـ و قيل بالمدينة ـ و لا يعرف له قبر إلا في حمص ، كان مظفّراً خطيباً فصيحاً يشبه عمر بن الخطاب في خَلْقِه و صِفَته . قال أبو بكر الصديق : ( عجزت النساء أن يلدن مثل خالد ) .
انظُر ترجمَتَه في : أسد الغابة في معرفة الصحابة ، لابن الأثير : 2 / 100 و ما بعدها ، و الإصابة في تمييز الصحابة ، لابن حجر : 1 / 413 و ما بعدها ، ترجمة رقم ( 2201 ) .(/20)
فيهم القتل قالوا : صبأنا [ صبأنا ] (1) ، و لم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا ، فقتلهم ، فوداهم (2) النبي صلى الله عليه و سلم [ لخطأ ] (3) خالد (4) ، و خطأ الإمام و عامله في بيت المال (5) .
قال : و هذا يدل على أنه ليس بشرط الإسلام قول : لا إله إلا الله محمد رسول الله [ على التعيين ] (6) ... و إنما ودَاهم نصف العقل على معنى الصلح و المصلحة ، كما ودى أهل جذيمة بمثلَيْ ذلك على ما اقتضته حال كل واحد في قوله .
و قد اختلف الناس فيمن أسلم و بقي بدار الحرب [ فقُتل أو سُبيَ ] (7) أهله و ماله ؛ فقال مالك : حُقِنَ دمه ، و ماله لِمَن أَخَذَه ، حتى [ يحوزه ] (8) بدار الإسلام (9) ، وقيل عنه : إنه [ يجوز ] (10) ماله و أهله ، و به قال الشافعي .
و المسألة محققة في مسائل الخلاف ، مبنية على أن الحربي هل يملك ملكاً صحيحاً أم لا ؟ و أن العاصم هل هو الإسلام أو الدار ؟ فمن ذهب إلى أنه يملك ملكاً صحيحاً تمسك بقوله عليه السلام : ( هل ترك لنا عقيل (11) من دار ) (12)
__________
(1) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( م ) .
(2) أي : دفَعَ ديَتهم إلى أهليم .
(3) في ( أ ) ، و ( ر ) : ( بخطأ ) .
(4) روى البخاري : 7 / 653 ، 654 في كتاب المغازي ، باب بعث النبي صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى بني جَذِيمة ، حديث رقم ( 4339 ) ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : بعث النبي صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام ، فلم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا ، فجعل خالد يقتل منهم و يأسر ، و دفع إلى كل رجل منا أسيره ، حتى إذا كان يومٌ ، أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره ، فقلت : و الله لا أقتل أسيري ، و لا يقتل رجل من أصحابي أسيره ، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه و سلم فذكرناه ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فقال : ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ) . مرَّتَيْن .
(5) هذا ما استنبطه العلماء من هذا الحديث . انظُر : تفسير ابن كثير : 1 / 811 .
(6) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(7) في ( أ ) : ( فقتل أو أُسِرَ أو سبي ) .
(8) في ( م ) : ( يجوزه ) .
(9) أي : حتى يحوز ـ أي : يملك ـ مَن أسلَمَ في دار الحرب مالَه بدار الإسلام .
انظُر : المدونة الكبرى ، للإمام مالك بن أنس الأصبحي ، رواية سحنون عن ابن القاسم : 3 / 38 ، 39 .
و البيان و التحصيل و الشرح و التوجيه و التعليل في مسائل المستخرجة ، لأبي الوليد ابن رشد : 3 / 42 .
و بُلغَة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك ، لأحمد بن محمد الصاوي ، على الشرح الصغير ، لأحمد بن محمد بن أحمد الدردير : 1 / 366 .
(10) في ( م ) : ( يجوز ) .
(11) هو : أبو يزيد عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي ، صحابي جليل ، فصيح اللسان ، سريع الجواب ، أعلم قريش بأيامها و مآثرها و مثالبها و أنسابها ، و هو اخو ( علي ) و ( جعفر ) لأبيهما ، و كان أسنّ منهما ، برز اسمه في الجاهلية ، فأخرجته قريش للقتال في بدر كَرْهاً فشهدها معهم ، و أسره المسلمون ففداه العباس بن عبد المطلب ، فرجع إلى مكة ثم أسلم بعد الحديبية ، و هاجر إلى المدينة ( سنة 8 هـ ) ، و شهد غزوة مؤتة ، و لم يسمع له بخبر في فتح مكة و لا الطائف ، و ثبت يوم حنين ، عمي في أواخر أيامه ، و كان الناس يأخذون عنه الأنساب و الأخبار في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة ، إلى أن توفي رضي الله عنه في أول أيام يزيد ـ و قيل : في أيام معاوية ـ ( سنة 60 هـ ) .
انظُر ترجمَتَه في : الإصابة في تمييز الصحابة ، لابن حجر : 2 / 492 ، ترجمة رقم ( 5628 ) .
(12) رواه البخاري : 7 / 606 في كتاب المغازي ، باب أين ركز النبي صلى الله عليه و سلم الراية يوم الفتح ، حديث رقم ( 4282 ) ، و مسلم : 2 / 420 ، 421 في كتاب الحج ، باب النزول بمكة للحج و توريث دُورِها ، حديث رقم ( 1351 ) كلاهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنه ، و تتمة الحديث : ثم قال صلى الله عليه و سلم : ( لا يرث الكافر المؤمن و لا المؤمن الكافر ) .
و قد نقل ابن حجر عن الزهري أن عقيلاً و طالباً و رِثا أبا طالب ، و لم يرث جعفر و لا عليٌّ شيئاً ؛ لأنهما كانا مسلمَيْن و كان عقيل و طالب كافرَين . ثم قال : و هذا يدل على تقدم هذا الحكم في أوائل الإسلام ؛ لأن أبا طالب مات قبل الهجرة ، و يحتمل أن تكون الهجرة لما وقعت استولى عقيل و طالب على ما خَلَّفَه أبو طالب ، و كان أبو طالب قد وضع يده على ما خَلَّفَه عبد الله والد النبي صلى الله عليه و سلم ؛ لأنه كان شقيقَه ، و كان النبي صلى الله عليه و سلم عند أبي طالب بعد موت جده عبد المطلب ، فلما مات أبو طالب ، ثم وقعت الهجرة ، و لم يُسلم طالب ، و تأخر إسلام عقيل ، استوليا على ما خلّفه أبو طالب ، و مات طالب قبل بدر ، و تأخر عقيل ، فلما تقرر حكم الإسلام بترك توريث المسلم من الكافر استمر ذلك بيد عقيل ، فأشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى ذلك ، و كان عقيل قد باع تلك الدور كلّها . اهـ .
فتح الباري : 7 / 607 ، 708 .(/21)
، و بقوله صلى الله عليه و سلم : ( أمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها ) (1) فسوّى بين الدماء و الأموال و أضافها إليهم ، و الإضافة تقتضي التمليك ، [ ثم أخبر عمن أسلم منهم أنه معصوم ، و ذلك يقتضي أن لا يكون لأحد عليه ] (2) سبيل (3) .
و تمسك أيضاً من أتبَعَه ماله بقوله صلى الله عليه و سلم : ( مَن أسلَم على شيء فهو له ) (4) ، و بقوله صلى الله عليه و سلم : ( لا يحل مال امريء مسلم إلا عن طيب نفْسٍ منه ) (5) .
و أما مالك و أبو حنيفة و من قال بقولهما فعندهم أن العاصم إنما هو الدار (6) ، فما لم يحز المسلم ماله و ولده بدار الإسلام ، و إلا فما أصيب من ذلك بدار الكفر فهو فيء للمسلمين ، و كأن الكفار عندهم لا يملكون ، بل أموالهم و أولادهم حلال لمن [ يقدر ] (7) عليها من المسلمين كدمائهم ، فمن أسلم منهم و لم يحز مالاً و [ لا ] (8) ولداً بدار الإسلام فكأنه لا مال له و لا ولد ، و كأن اليد للكفار كما أن الدار لهم ، و ليست يد صاحبه الإسلامي يداً إذا كان بين أظهرهم .
و قال [ ابن ] (9) العربي أيضاً : العاصم لدم المسلم الإسلام ، و لماله الدار (10) .
و قال الشافعي : العاصم لهما جميعاً هو الإسلام (11) .
و قال أبو حنيفة : العاصم المقوِّم لهما هو الدار و المؤثم هو الإسلام (12)
__________
(1) تتمة الحديث : ( و حسابهم على الله ) مثبتة في ( ر ) : دون سائر النسخ .
و الحديث رواه البخاري في صحيحه : 3 / 308 ، في كتاب الزكاة ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، و يقيموا الصلاة ... ، حديث رقم ( 20 ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، و رواه أيضاً في الصحيح : 6 / 130 في كتاب الجهاد ، باب دعاء النبي صلى الله عليه و سلم إلى الإسلام و النبوة ، حديث رقم ( 2946 ) ، و مسلم في صحيحه : 1 / 60 في كتاب الإيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، حديث رقم ( 20 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) ما بين المعكوفتَيْن يقابله في العارضة قول ابن العربي رحمه الله : ( ثم أخبر أنها معصومة ، و ذلك يقتضي أن لا يكون لأحد عليها ) .
(3) انتهى نقله من العارضة : 7 / 105 ، 106 .
(4) أخرجه أبو يعلى في مسنده : 10 / 227 ، و البيهقي في السنن الكبرى : 9 / 113 ، عن أبي هريرة رضي الله عنه . قال الهيثمي في المجمع ( 5 / 336 ) : و فيه يس بن معاذ الزيات و هو متروك .
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك : 1 / 93 ، و البيهقي في السنن الكبرى : 6 / 97 ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(6) انظُر : الجامع لأحكام القرآن ، لابن العربي : 1 / 476 ، 477 ، و أحكام القرآن ، للجصاص : 2 / 241 ، و بدائع الصنائع ، للكاساني : 7 / 132 .
(7) في ( أ ) ، و ( ح ) : ( يقدرون ) .
(8) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(9) ما بين المعكوفتَيْن ساقط من الأصل .
(10) في عارضة الأحوذي لابن العربي خلاف ما نسبه إليه الونشريسي هنا ، فقد قال ابن العربي فيها : ( فالعصمة ثابتة بالإسلام ، و هو العاصم حقيقةً للدم و المال ) ، و هو مذهب الشافعي ، و هو ما استحسنه ابن العربي في ( أحكام القرآن ) و قال بأنه أسلم ، و سيشير المصنف إلى ذلك لاحقاً .
انظُر : عارضة الأحوذي ، لابن العربي : 7 / 106 ، و أحكام القرآن ، له : 1 / 477 .
(11) مذهب الشافعية : إنه إذا قتل مسلم مسلماً في دار الحرب فهو على إحدى حالَيْن :
الحال الأولى : ألا يعلم القاتل بإسلام المقتول ، فينظر في قتله : فإن قتله خطأ ، ضمنه بالكفارة دون الدية ، و إن قتله عمداً ، فلا قود عليه ؛ للشبهة ، و عليه الكفارة ، و في و جوب الدية قولان : أحدهما ـ و هو اختيار المزني ـ : لا دية عليه ؛ لأن الجهل بإسلامه يغلب حكم الدار في سقوط ديته ، كما غلب حكمها في سقوط القود . و الثاني ـ و هو اختيار أبي إسحاق المروزي ـ : ضمن ديته ، تغليباً لحكم قصده ، و لا يؤثر سقوط القود الذي يسقط بالشبهة في سقوط الدية التي لا تسقط بالشبهة .
و الحال الثانية : أن يقتله عالماً بإسلامه ، فيلزم بقتله في دار الحرب ما كان لازماً له بقتله في دار الإسلام ، إن كان بعمدٍ محضٍ وجب عليه القود و الكفارة ، و إن كان بخطأ ، وجبت عليه الدية مخففة و الكفارة .
و لا فرق بين من دخل دار الحرب مسلماً أو أسلم فيها ، سواء هاجر أو لم يهاجر .
انظُر : الحاوي الكبير ، للماوردي : 18 / 243 ، و روضة الطالبين ، للنووي : 10 / 252 .
(12) في الهداية ، للمرغيناني : العصمة المؤثمة هي الآدمية . و مذهب الحنفية : أنه إذا أسلم الحربي في دار الحرب فقتله مسلم عمداً أو خطأ ، و له ورثة مسلمون هناك ؛ فلا شيء عليه إلا الكفارة في الخطأ ، و لا ضمان على متلف ماله ، لأن دمه أعظم حرمة من ماله ، و لا ضمان على مُتْلِفِ نَفْسِهِ ؛ فمالُهُ أحرى .
انظُر : أحكام القرآن ، للجصاص : 1 / 241 – 243 ، و بدائع الصنائع ، للكاساني ، ص : 131 ، 132 ، و الهداية ، للمرغيناني : 2 / 852 .(/22)
، [ 5/ب ] و تفسير ذلك أن من أسلم و لم يهاجر حتى قُتل فإنه تجب فيه الكفارة عنده دون الدية و القَوَد (1) ، و لو هاجر لوجبت الكفارة و الدية على عاقلته .
قيل : فعلى هذا دمه محقون عند مالك و الشافعي ، و قتله خطأ لا دية فيه عند أبي حنيفة و إنما فيه الكفارة خاصة ، و هو الظاهر من قول المفسرين (2) ، و احتجوا في ذلك بقوله تعالى : { و الَّذِينَ آمَنُواْ و لَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن و لاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] ، و بقوله تعالى : { فَإِن كَانَ مِن قَومٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ و هُو مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [ النساء : 92 ] ، و لم يذكر دية . قالوا : و المراد بهذا المؤمن إنما هو المسلم الذي لم يهاجر ؛ لأنه مؤمن في قوم أعداء [ فهو ] (3) منهم (4) ؛ لقوله تعالى : { و مَن يَتَولَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] ، فهو مؤمنٌ من قومٍ عدوٍّ ، فلما ذكر الدية في أول الآية (5) في المؤمن المطلَق ، و في آخرها في المؤمن الذي قومه تحت عهدنا و ميثاقنا و هم الذميون ، و سكت عنها في هذا المؤمن الذي بين الأعداء دلَّ على سقوطها ، و أنه إنما أوجب فيه الكفارة خاصةً ، هذا حكم دمه .
قال ابن العربي : و هذه المسألة خراسانية عِظَماً لم تبلغها المالكية و لا عرفتها الأئمةالعراقية (6) ، فكيف بالمقلدة المغربية ؟
احتج أصحاب أبي حنيفة على أن العاصم الدار ؛ [ بأن ] (7) التحرز و الاعتصام و الامتناع إنما يكون بالحصون و القلاع ، و أن الكافر إذا صار في دارنا عصم دمه و ماله ، فصار كالمال إذا كان مطروحاً على الطريق لم يلزم فيه قطع ، و إذا حُوِزَ [ بحَوْزِه ] (8) كان مضموناً بالقطع (9) .
__________
(1) القَوَد : القصاص ، من أقاد الأميرُ القاتلَ بالقتيل ، قَتَلَه به قَوَداً .
انظُر : المصباح المنير ، للفيومي ، ص : 198 ، و المعجم الوسيط : 2 / 795 .
(2) قال بذلك ابن عباس و قتادة و السُدِّي و عكرمة و مجاهد و النخعي و جماعة من التابعين .
انظُر : أحكام القرآن ، للجصاص : 2 / 240 ، و أحكام القرآن ، لابن العربي : 1 / 476 ، و الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي : 5 / 323 ، 324 .
(3) في ( ر ) : ( فإنه ) .
(4) قال أبو بكر الجصاص : ( هذا محمول على الذي يسلم في دار الحرب فيُقتَل قبلَ أن يُهاجِر إلينا ؛ لأنه غير جائز أن يكون مراده في المؤمن في دار الإسلام إذا قُتِلَ و له أقارب كفار ؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أن على قاتِله الدية لبيت المال ، و أن كَونَ أقربائه كفاراً لا يوجب سقوط ديته ؛ لأنهم بمنزلة الأموات ، حيث لا يرثونه ) . أحكام القرآن ، للجصاص : 2 / 240 .
(5) يريد الآية رقم ( 92 ) من سورة النساء ، و هي قوله تعالى : ( و ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ و من قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة و دية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم و هو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة و إن كان من قوم بينكم و بينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله و تحرير رقبة مؤمنة ) .
(6) لعل الونشريسي رحمه الله يشير إلى ما عرف عن الشافعية من عزو أقوال قد تكون متعارضة ، أو متناقضة إلى أئمتهم ، فيتعسر تحقيق القول فيها على أهل المذهب ، و هو أعسَر على الحنفية و الأئمة العراقية ، فأحرى أن يكون ذلك متعسراً على المالكية الذين لا يكاد يوجد لهم أثر في خراسان أو العراق .
قال أبو شامة المقدسي رحمه الله : ( ثم إن المصنفين من أصحابنا المتصفين بالصفات المتقدمة من الاتكال على نصوص إمامهم معتمدون عليها اعتماد الأئمة قبلهم على الأصلين الكتاب و السنة قد وقع في مصنفاتهم خلل كثير من وجهين عظيمين ، الأول : إنهم يختلفون كثيرا فيما يلقونه من نصوص الشافعي ، و فيما يصححونه منها ، و صارت لهم طرق مختلفة خراسانية و عراقية ، فترى هؤلاء ينقلون عن إمامهم خلاف ما ينقله هؤلاء والمرجع في هذا كله إلى إمام واحد ) . مختصر المؤمل ، لأبي شامة المقدسي ، ص : 47 ، 48 .
(7) في ( أ ) ، و ( ر ) ، و ( ح ) : لأن .
(8) في ( أ ) : ( بحوزة ) و هو أوجَه ؛ لأن مصدر ( حاز ) بمعنى مَلَك ( حيازةً ) و ليس ( وُحوزاً ) أما الحوزة ، فحَوْزة الرجل : ما في ملكه ، و حوزة الإسلام : حدوده و نواحيه ، و حوزة المُلك : بيضته .
انظُر : الصحاح ، للجوهري : 3 / 876 ، و المعجم الوسيط : 1 / 213 .
(9) انظُر : في تقرير هذه المسألة عند الحنفية ، واستدلالهم عليها : أحكام القرآن ، للجصاص : 2 / 241 و ما بعدها ، و بدائع الصنائع ، للكاساني : 7 / 131 ، 132 ، و الهداية للمرغيناني : 2 / 852 .(/23)
و احتج الشافعي بقول النبي صلى الله عليه و سلم : ( أمِرتُ أن أقاتل الناس ) (1) الحديث ، فنص على أن العصمة للنفس و المال إنما تكون بكلمة الإسلام ، و لو أن مسلماً دخل إلى دار الحرب فإنه معصوم الدم و المال ؛ و الدار معدومة (2) .
و أما قول أصحابنا : ( إن الإسلام عاصم النفس دون الولد و المال ) ، و قول أصحاب أبي حنيفة : ( إن التحرز و التعصم يكون بالقلاع ) فكلام فاسد ، لأنه تعلق بالعصمة الحسية التي يكتسبها الكافر و المحارب و لا يعتبرها الشرع ، و إنما الكلام على ما يعتبره الشرع .
ألا ترى أن المحارب من المسلمين و [ الكافر ] (3) يتحصنان بالقلاع و دمهما و أموالهما مباحان ؛ أحدهما على الإطلاق (4) ، و الثاني (5) بشرط أن يستمر و لا يقلع ، و يتمادى و يتمنَّع (6) ، و لكن المال إنما يمنعه إحراز صاحبه له بكونه معه في حرز .
قلتُ : بقول الشافعي قال أشهب (7) و سحنون (8) ، وهو اختيار أبي بكر بن العربي حسبما تضمنه كلامه الآن (9) .
و بقول مالك قال أبو حنيفة و أصبغ بن الفرج (10) ، و اختاره ابن رشد (11) ، و هو المشهور عن مالك رحمه الله (12) .
و منشأ الخلاف ما مرَّ تقريره .
و أجرى الفقيه القاضي الشهير أبو عبد الله بن الحاج (13) [ 6/أ ] و غيره من المتأخرين مالَ هذا المسلم المسئول عنه المقيم بدار الحرب و لم يبرح عنها بعد استيلاء الطاغية عليها ، على هذا الخلاف المتقدم بين علماء الأمصار في مال من أسلم و أقام بدار الحرب ، ثم فرق ابن الحاج بعد الإلحاق و التسوية في هذه الأحكام الملحقة بأن مال من أسلم كان مباحاًً قبل إسلامه ، بخلاف مال المسلم ؛ لأن يده لم تزُل و لا تَقَدَّمَ له في وقت ما كفرٌ يبيح ماله و ولده يوماً للمسلمين ، فليس لأحدٍ عليهما من سبيل ، و هو راجح من القول و واضح من الاستدلال و النظر ، [ و ظاهر ] (14) عند التأمل لمنشأ الخلاف الذي تقدم بيانه على ما لا يخفى .
__________
(1) تقدم تخريجه تقريباً .
(2) انظُر : في تقرير هذه المسألة عند الشافعية ، و استدلالهم عليها : الحاوي الكبير ، للماوردي : 18 / 244 ، و أحكام القرآن ، للجصاص : 2 / 241 ، و أحكام القرآن ، لابن العربي : 1 / 477 .
(3) في ( ر ) : ( الكافرين ) .
(4) و هو الكافر .
(5) وهو المحارب المسلم .
(6) في ( أ ) : ( يتمنح ) ، و في ( م ) : ( يمتنع ) .
(7) انظُر : الذخيرة ، للقرافي : 3 / 439 .
(8) هو عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي ، الملقب بـ ( سحنون ) القاضي ، الفقيه المالكي المشهور ، انتهت إليه رئاسة العلم في المغرب ، ولد في القيروان سنة ( 160 هـ ) ، و عاش فيها إلى أن مات ( سنة 240 هـ ) مع أنَّ أصله من حمص الشام ، كان زاهداً عفيفاً أبيَّ النفس ، لا يهاب ذا سلطان في كلمة حق ، و كان يقول : قبَّح الله الفقر ، أدركنا مالكاً و قرأنا على ابن القاسم ـ يريد أن الفقر حبسه عن الرحلة إلى المدينة ليقرأ على مالك ـ ، روى ( المدونة ) في فروع المالكية على عبد الرحمن بن القاسم ، عن الإمام مالك .
انظُر : رياض النفوس في طبقات علماء القيروان و إفريقية و زهادهم و عبّادهم ونسّاكهم ، لأبي محمد بن عبد الله المالكي : 1 / 249 و ما بعدها ، ترجمة رقم ( 126 ) ، و وفيات الأعيان ، لابن خلكان : 3 / 180 و ما بعدها ، ترجمة رقم ( 382 ) ، و الديباج المذهب ، لابن فرحون :2 / 30 و ما بعدها .
(9) سبق بيان رأي ابن العربي ، و التأكيد على موافقته لرأي الإمام الشافعي رحمهما الله .
(10) هو أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع ، من كبار فقهاء المالكية في مصر ، قال عبد الملك بن الماجشون : ما أخرجت مصر مثل أصبغ ، قيل له : و لا ابن القاسم ؟ قال : و لا ابن القاسم . و قال ابن معين : كان من أعلم خلق الله كلهم برأي مالك ، يعرفها مسألة بمسألة متى قالها مالك ، و من خالفه فيها . و قال العجلي عنه : ثقة صاحب سنّة . توفي سنة ( 225 هـ ) ، من مؤلفاته : ( الأصول ) ، و ( تفسير غريب الموطأ ) ، و ( آداب الصيام ) .
انظُر : وفيات الأعيان ، لابن خلكان : 1 / 240 ، ترجمة رقم ( 101 ) ، و تهذيب التهذيب ، لابن حجر : 1 / 315 ، 316 ، ترجمة رقم ( 657 ) ، و الديباج المذهب ، لابن فرحون :1 / 299 و ما بعدها ، و سير أعلام النبلاء : 10 / 656 و ما بعدها .
(11) انظُر : البيان و التحصيل ، لابن رشد : 3 / 39 .
(12) انظُر : الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي : 5 / 324 .
(13) هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف التجيبي ، المعروف بابن الحاج ، قاضي قرطبة ، كانت الفتوى تدور عليه في زمنه ، ولد ( سنةَ 458 هـ ) و قتل غيلةً و هو ساجد في جامع قرطبة ( سنة 529 هـ ) . له كتابٌ في نوازل الحكام .
انظُر : الأعلام ، للزركلي : 5 / 317 .
(14) في ( ر ) : ( واضح ) .(/24)
و يعتضد هذا الفرق بنص آخر مسألة من سماع يحيى (1) من كتاب الجهاد ، و لفظه : ( و سألته عمن تخلف من أهل برشلونة (2) من المسلمين عن الارتحال عنهم بعد السنة التي أُجِّلَت لهم يوم فُتِحَت في ارتحالهم ... فأغار على المسلمين ؛ تعوذاً مما يخاف من القتل إن ظُفِرَ به . فقال : ما أراه إلا بمنزلة المحارب الذي يتلصص بدار الإسلام من المسلمين ، و ذلك أنه مقيم على دين الإسلام ، فإن أصيب فأمره إلى الإمام يحكم فيه بمثل ما يحكم في أهل الفساد و الحرابة ، و أما ماله فلا أراه يحل لأحد أصابه ) . انتهى محل الحاجة منه (3) .
ابن رشد (4) : قوله : ( إنهم في [ غاراتهم ] (5) على المسلمين بمنزلة المحاربين ) صحيح لا اختلاف فيه ؛ لأن المسلم إذا حارب فسواء [ كانت ] (6) حرابته في بلد الإسلام أو في بلد الكفر الحكم فيه سواء ، و أما قوله في ماله : ( إنه لا يحل لأحد أصابه ) فهو خلاف ظاهر قول مالك في المدونة (7) في الذي يسلم في [ دار ] (8) الحرب ثم يغزو المسلمون تلك الديار فيصيبون أهله و ماله [ و ولده ] (9) إن ذلك كله فيء ؛ إذ لم يفرق فيها بين أن يكون الجيش غَنَمَ مالَه و ولده قبل خروجه (10) أو بعد خروجه . اهـ (11)
__________
(1) هو أبو محمد يحيى بن يحيى بن أبي عيسى كثير بن وِسْلاس الليثي ، عالم الأندلس ، ولد سنة ( 152 هـ ) ، و قرأ بقرطبة ، ثم ارتحل إلى المشرق شاباً فسمع الموطأ من الإمام مالك ، و أخذ عن علماء مكة و مصر ، و عاد إلى الأندلس فنشر فيها مذهب مالك ، و ترفع عن ولاية القضاء فزاد ذلك في جلالته ، و علا شأنه عند السلطان فكان لا يولي قاضٍ في أقطار الأندلس إلا بمشورته و اختياره . قال عنه مالك : هذا عاقِل أهل الأندلُس . توفي بقرطبة سنة ( 234 هـ ) .
انظُر : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، للمقري : 2 / 9 و ما بعدها ، و الديباج المذهب ، لابن فرحون :2 / 352 ، 353 ، و تهذيب التهذيب ، لابن حجر : 11 / 262 ، ترجمة رقم ( 481 ) .
(2) مدينة أندلسية شهيرة ، تقع جنوب الأندلس ، و تطل على البحر المتوسط .
(3) هذا النص من كتاب ( المستخرجة ) لمحمد بن أحمد العتبي ، المتوفى سنة ( 255 هـ ) ، و هو ضمن كتاب البيان و التحصيل و التوجيه و التعليل في مسائل المستخرجة لأبي الوليد ابن رشد : 1 / 41 ، 42 .
و العتبي سمع بالأندلس من يحيى بن يحيى الليثي تلميذ الإمام مالك ، و سعيد بن حسان راويَةَ أشهب ، و رحل إلى المشرق فسمع من سحنون ، و أصبغ بن الفرج تلميذَي ابن القاسم و ابن وهب و أشهب من أصحاب مالك ، و صنف كتابه ( المستخرجة ) من سماعات تلاميذ الإمام مالك منه و سماعات تلاميذهم منهم ، و توسع في الرواية فلم يستبعد المتروكة و الشاذة منها ، و تضاربت أقوال العلماء فيها ، فانتقدها البعض ، و قبلها الجِلّة بقبول حسن .
انظُر : مقدمة تحقيق البيان و التحصيل : 1 / 20 ، 21 ، و نفح الطيب ، للمقري : 2 / 215 ، 216 ، و الديباج المذهب ، لابن فرحون :2 / 176 ، 177 .
(4) أي : قال ابن رشد في تعليقه على ( المستخرجة ) .
(5) في ( أ ) ، و ( م ) : ( غاراتهم ) .
(6) في ( أ ) : ( أكانت ) .
(7) المدونة موسوعة أسئلة و أجوبة عن مسائل الفقه التي وردت للإمام مالك ، و رواها عبد السلام بن سعيد التنوخي الملقب بسحنون ، الذي جمعها و صنفها ، و رواها عن عبد الرحمن بن القاسم العتقي المتوفى سنه ( 191هـ ) عن الإمام مالك بن أنس ، و تنسب أحيانا إلى سحنون ، لأنه رواها ، فيقال : مدونة سحنون .
و المدونة تجمع آراء الإمام مالك بن أنس المروية عنه ، و المخرجة على أصوله ، و على آراء بعض أصحابه ، مع بعض الآثار و الأحاديث التي وردت في مسائل الفقه المالكي ، و يقال أن أصلها الأسدية التي ألفها أسد بن الفرات ، و راجعها على ابن القاسم ، فزاد فيها ، و عدل ، و غيَّر .
تحوي المدونة 6200 مسألة ، ومرتبة على أبواب الفقه ، وضمنها رواية الإمام مالك عن الصحابة والتابعين ، لذلك تعتبر أصح كتب الفروع في الفقه المالكي رواية .
طبعت المدونة عدة طبعات ، من أكثرها تداولاً طبعة دار الكتب العلمية دار الكتب العلمية ، في بيروت .
انظر : وفيات الأعيان ، لابن خلكان : 3 / 181 ، 182 ، و كشف الظنون ، لحاجي خليفة : 2 / 1644 ، و مقدمة تحقيق المدونه : 1 / 29 و ما بعدها .
(8) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(9) ما بين المعكوفتَيْن زيادة مِن ( أ ) ، و هي موجودة في البيان و التحصيل ، لابن رشد ، و يتطلّبها السياق .
(10) أي : قبل خروجه من دار الحرب .
(11) البيان و التحصيل ، لابن رشد : 3 / 42 .
تتمة : جاء في المدونة في الحربي يسلم ثم يغنم المسلمون ماله : قلت ـ القول لسحنون ـ : أرأيتَ إذا أسلم في بلاد الحرب رجل منهم ، ثم خرج إلينا و ترك ماله في دار الحرب ، فغزا المسلمون بلادهم فغنموهم و مالَ هذا المسلم ؟ قال ابن القاسم : سألت مالكاً عن الرجل من المشركين أسلم ثم غزا المسلمون تلك الدار فأصابوا أهله و ولده ؟ قال مالك : أهله و ولده فيء للمسلمين . اهـ . من المدونة الكبرى : 3 / 38 ، 39 .
و قال القرافي في ( الذخيرة ) معقباً على قول ابن القاسم السابق : ( قال ابن يونس : قال غيره ـ أي غير ابن القاسم ـ : ولده الصغير تبع له ، و ماله له إلا أن يقسم فيأخذ بالثمن ، و امرأته فيء . قال مالك : و لو أسلم فأقام ببلده فدخلنا عليه فماله و ولده فيء . و قال أشهب : ولده أحرار تبعٌ له ، و ماله له إلا أن يقسم ، و امرأته فيءٌ ) . الذخيرة : 3 / 439 .(/25)
.
قلتُ : فظاهر كلام ابن رشد هذا يؤذن بترجيح خلاف ما رجحه معاصره و بَلدِيُّهُ (1) القاضي أبو عبد الله بن الحاج في مال هؤلاء المسئول عنهم و أولادهم فتأمَّلْه .
و قال بعض المحققين من الشيوخ : يظهر أن الأحكام الملحقة بهم في الأنفس و الأولاد و الأموال جاريةٌ على المقيمين مع النصارى الحربيين على حسب ما تقرر من الخلاف و تمهد من الترجيح ، ثم إن حاربونا مع أوليائهم ترجحت حينئذٍ استباحة [ دمائهم ] (2) ، و إن أعانوهم بالمال على قتالنا ترجحت استباحة أموالهم ، و قد [ ترَجَّحَ ] (3) سبي ذراريهم للاستخلاص من أيديهم و [ إنشائهم ] (4) بين أظهر المسلمين آمنين من الفتنة في الدين ، معصومين من معصية ترك الهجرة .
و ما ذكر في السؤال من حصول الندم و التسخط لبعض المهاجرين من دار الحربيين إلى دار [ الإسلام ] (5) لما زعموه من ضيق [ 6/ب ] المعاش و عدم الانتعاش - زعمٌ فاسدٌ ، و توهمٌ كاسدٌ ، في نظر الشريعة الغراء ، فلا يتوهم هذا المعنى و يعتبره و يجعله نصب عينيه إلا ضعيف اليقين ، بل عديم العقل و الدين ، و كيف يتخيل هذا المعنى يدلي به حجة في إسقاط الهجرة من دار الحرب ، و في بلاد الإسلام أعلى الله كلمته مجال رحب للقوي و الضعيف ، و الثقيل و الخفيف (6) ، و قد وسع الله البلاد فيستجير بها من أصابته هذه الصدمة الكفرانية و الصاعقة النصرانية ، في الدين و الأهل و الأولاد ؟! فقد هاجر من [ جِلَّةِ ] (7) الصحابة و أكابرهم رضوان الله عليهم إلى أرض الحبشة ؛ فراراً بدينهم من أذى المشركين أهلِ مكةَ - جماعةٌ عظيمةٌ ، و [ رفقةٌ ] (8) كريمةٌ ، منهم جعفر بن أبي طالب (9) ، و أبو [ سلمة ] (10) بن عبد الأسد (11)
__________
(1) بَلدِيُّهُ : ابن بلدته أو موطنه ، حيث إن البلديَّ : المنسوب إلى البلد في طبيعته و بيئته . انظُر : المعجم الوسيط : 1 / 71 .
(2) في ( أ ) ، و ( م ) : ( أموالهم ) ، و المثبَت أوجَه .
(3) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : ( يرجح ) .
(4) في ( ح ) : ( إنشابهم ) .
(5) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) ، و ( م ) : ( المسلمين ) .
(6) المراد بالخفيف و الثقيل كما يستفاد من تفسير قوله تعالى : { انْفِرُواْ خِفَافاً و ثِقَالاً } [ التوبة : 1 ] : أي صغاراً و كباراً ، أو ضعافاً و أقوياء ، أو فقراء و أغنياء ، و نحو ذلك من المتضادات . انظر : تفسير ابن كثير : 2 / 560 .
(7) في ( أ ) : ( عِلية ) ، و المعنى واحد ، و في ( ر ) : يقابل ما بين المعكوفتَيْن بياض .
جاء في المعجم الوسيط : 1 / 136 : جَلَّ يجِلُّ جلالاً و جلالةً : عَظُم ، فهو جَلٌّ ، و جليلٌ ، و الجمع : أجِلّةٌ ، و أجِلاء ، و أجلالٌ ، و جِلَّةٌ ، و في حديث الضحّاك : أخذتَ جِلّةَ أموالهم . اهـ .
و فيه أيضاً : 2 / 648 : عِليةُ : جمعُ عَلِيٍّ ، و العليُّ : هو الشريف الرفيع القدر . اهـ .
(8) في ( ر ) : ( زمرة ) .
(9) هو جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ، من كبار الصحابة و شجعانهم ، لُقّبَ بـ ( جعفر الطيّار ) ، و هو أخو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، و كان أسنّ منه بعشر سنين ، أسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم دار الأرقم ، و هاجر إلى الحبشة الهجرةَ الثانية ، و لم يزل هناك حتى السنة السابعة للهجرة ، فهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بخيبر . استشهد في غزوة مؤتة بالشام ( سنة 8 هـ ) . ذكر ابن حجر في الإصابة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول عن جعفر : إنه أفضل الناس بعد النبي ، و روى الشيخان من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لجعفر : ( أشبَهتَ خَلْقي و خُلُقي ) .
انظر ترجمته في : أسد الغابة في معرفة الصحابة ، لابن الأثير : 1 / 386 و ما بعدها ، و الإصابة في تمييز الصحابة ، لابن حجر : 1 / 237 ، 238 ، ترجمة رقم ( 1166 ) .
(10) في ( م ) : ( مسلمة ) ، و هو تصحيف .
(11) هو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال المخزومي ، أحد السابقين الأولين إلى الإسلام . قال ابن إسحاق : أسلم بعد عشر أنفس ، و كان أخاً للنبي صلى الله عليه و سلم من الرضاعة كما ثبت في الصحيحين ، و أمه برّة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله ، تزوج أمَّ سلمة ، ثم صارت بعده إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، و هو مشهور بكنيته أكثر من اسمه ، هاجر الهجرتين ، و شهد بدراً ، مات بالمدينة بعد غزوة أحد رضي الله عنه و أرضاه .
انظُر ترجمَتَه في : أسد الغابة : 3 / 195 و ما بعدها ، و الإصابة : 2 / 335 ، ترجمة رقم ( 4783 ) .(/26)
و عثمان بن عفان و أبو عبيدة بن الجراح (1) ، و حال أرض الحبشة ما قَد عُلِم ، و هاجر آخرون إلى غيرها ، و [ هاجروا ] (2) أوطانهم و أموالهم و أولادهم و آباءهم ، و نبذوهم و قاتلوهم و حاربوهم ؛ تمسكاً منهم بدينهم و رفضاً لدنياهم .
فكيف بِعَرَضٍ من أعراضها لا يُخِلُّ تركُه بتكسب بين أظهر المسلمين و لا يؤثر رفضه في متسع المسترزقين ، و لا سيما [ بهذا ] (3) القطر الديني المغربي صانه الله و زاده عزاً و شرفاً ، و وقاه من الأغيار و الأكدار وسطاً و طرفاً ؛ فإنه من أخصب أرض الله أرضاً ، و [ أشيعها ] (4) بلاداً طولاً و عرضاً ، و خصوصاً حاضرة [ فاس ] (5) و أنظارها ، و نواحيها من كل الجهات و أقطارها ؟!
و لئن سَلِم هذا الوهم ، و عَدِمَ صاحبُهُ و العياذ بالله العقل الراجح و الرأي الناجح و الفهم ، فقد أقام عَلَماً و برهاناً على نفسه الخسيسة الرذلة بترجيح [ غرض ] (6) دنياوي حُطامي مُحتقر ، على عمل ديني أخروي [ مُذَّخَر ] (7) ، و بئست هذه المفاضلة و الأرجحية ، و خاب و خسر من آثرها و وقع فيها .
أمَا عَلِمَ المغبون في صفقته ، النادم على هجرته من دار يُدَّعى فيها التثليث ، و تضرب فيها [ النواقيس ] (8) ، و يُعبَد فيها الشيطان ، و يُكفَر بالرحمن ، أن [ ليس ] (9) للإنسان إلا دينه ؛ إذ به نجاته الأبدية ، و سعادته الأخروية ، و عليه يبذل نفسه النفيسة ، فضلاً عن [ حَجلة ] (10) ماله .
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ و لا أَولادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ و مَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ المنافقون : 9 ] ، و قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ و أَولادُكُمْ فِتْنَةٌ و اللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التغابن : 15 ] .
و أعظم فوائد المال و أجلها عند العقلاء إنفاقه في سبيل الله و ابتغاء مرضاته ، و كيف [ يقتحم ] (11) بالتشبث و يترامى و يتطارح ، أو يتسارع من أجله إلى موالاة العداة ، و قد قال تعالى : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } [ الخ ] (12) . [ المائدة : 52 ] ، و الدائرة في هذه النازلة فوات [ 7/أ ] التمسك بعقار المال (13)
__________
(1) هو أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح القرشي ، أحد السابقين إلى الإسلام ، و العشرة المبشرين بالجنة ، ولد بمكة ( سنة 40 قبل الهجرة ) و شهد المشاهد كلها ، ولاه عمر قيادة الجيش الزاحف إلى الشام بعد خالد بن الوليد رضي الله عنهم أجمعين ، فأتم الله على يديه فتح الشام ، و بلغ الفرات شرقاً ، و آسيا الصغرى شمالاً ، و رتب للبلاد المرابطين و العمال ، توفي بطاعون عمواس ( سنة 18 هـ ) ، و انقرض عقِبُه . روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فيه : ( لكل أمة أمين ، و أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ) .
انظُر ترجمَتَه في : أسد الغابة : 3 / 84 و ما بعدها ، و الإصابة : 2 / 252 و ما بعدها ، ترجمة رقم ( 4400 ) .
(2) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) : ( هجروا ) .
(3) في ( أ ) ، و ( ر ) : ( هذا ) .
(4) في ( أ ) ، و ( ر ) : ( أشبعها ) .
(5) فاس : إحدى المدن المغربية الكبيرة و الشهيرة ، كانت تعرف بعاصمة القرويين ، و تعرف اليوم بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية ، تقع فيها جامعة القرويين العريقة .
(6) في ( أ ) ، و ( ر ) : ( عَرَض ) .
(7) في ( أ ) ، و ( ر ) ، و ( م ) : ( مدّخر ) بالدال المهملة ، و سبق بيان أن كليهما صواب ، و أصلهما : مذتَخَر .
(8) على هامش ( ح ) : ( الفوانيس ) .
(9) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(10) ما بين المعكوفتَيْن يقابله في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) : ( جملة ) ، و في ( م ) : ( جِلّة ) ، و لعل ما في الأصل مأخوذ من حَجَلَ مالَه ، أي : شَهَرَه ، يقال : أمرٌ أغرٌّ محجَّلٌ ، و يومٌ أغرٌّ محجَّلٌ ، أي : مشهورٌ .
انظُر : المعجم الوسيط : 1 / 163 ، 164 .
(11) في ( ر ) : ( يفتَح ) .
(12) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن : ( ر ) ، و ( ح ) .
(13) قال ابن كثير : ( يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ) أي : يتأولون في مودّتهم و موالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين ، فتكون لهم أيادٍ عند اليهود و النصارى ؛ فينفعهم ذلك . اهـ . تفسير ابن كثير : 2 / 108 ، 109 .
و قال القرطبي : أي : يدور الدهر علينا ؛ إما بقحط فلا يميروننا و لا يُفْضِلون علينا ، و إما أن يظفَر اليهود بالمسلمين فلا يدوم الأمر لمحمد صلى الله عليه و سلم ، و هذا القول أشبه بالمعنى ، كأنه مِنْ دارَت تدور ، أي نخشى أن يدور الأمرُ ، و يدل عليه قوله عز و جل : ( فعسى الله أن يأتي بالفتح ) . اهـ . الجامع لأحكام القرآن : 6 / 217 .(/27)
، فوصف بمرض القلب ، و ضعف اليقين ، [ و لو كان قوي الدين ، صحيح اليقين ] (1) ، واثقاً بالله تعالى معتمداً عليه ، و [ مستنداً ] (2) ظهره إليه ، لما أهمل قاعدة التوكل على علو رتبتها ، و نمو ثمرتها ، و [ شهادتها ] (3) بصحة الإيمان و رسوخ اليقين .
و إذا تقرر هذا فلا رخصة لأحد ممن ذكرتَ في الرجوع ، و لا في عدم الهجرة بوجه و لا حال ، [ و إنه ] (4) لا يعذر مهما توصل إلى ذلك بمشقة فادحة أو حيلة دقيقة ، بل مهما وجد سبيلاً إلى التخلص من رِبْقة (5) الكفر ، و حيث لا يجد عشيرة تَذُبُّ عنه ، وحُمَاةً يحمون عليه ، و رضي بالمقام بمكان فيه الضيم على الدين ، و المنع من إظهار شعائر المسلمين - فهو مارق من الدين ، منخرط في سلك الملحدين .
و الواجب الفرار من دار غلب عليها أهل الشرك و الخسران ، إلى دار الأمن و [ الإيمان ] (6) ، و لذلك قوبلوا في الجواب عند الاعتذار بقوله : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً } [ إلخ ] (7) . [ النساء : 97 ] ، أي : حيثما توجه المهاجر ـ و إن كان ضعيفاً ـ [ فإنه يجد ] (8) الأرض واسعة و متصلة ، فلا عذر بوجهٍ لمستطيع و إن كان بمشقة في العمل أو في الحيلة أو في اكتساب الرزق أو ضيق [ في ] (9) المعيشة ، إلا المستضعف العاجز رأساً ، الذي لا يستطيع حيلةً و لا يهتدي سبيلاً .
و من بادر إلى الفرار ، و سارع في الانتقال من دار البوار إلى دار الأبرار ، فذلك أمارة ظاهرة في الحال العاجلة لما يصير إليه حاله في الآجلة ؛ لأن من يُسِّرَ له العمل الصالح كان مأمولاً له الظفر و الفوز ، و من تيسر له العمل الخبيث كان مَخُوفاً عليه الهلاك و الخسران ، جعلنا الله و إياكم ممن [ يُسِّر ] (10) لليسرى ، و انتفع بالذكرى .
و ما ذَكَرتَ عن هؤلاء المهاجرين من قبيح الكلام ، و سب دار الإسلام ، و تمني الرجوع إلى دار الشرك و الأصنام ... و غير ذلك من الفواحش المنكرة التي لا تصدر إلا من اللئام - يوجب لهم خزي الدنيا و الآخرة و ينزلهم أسوأ المنازل .
و الواجب على من مكَّنَه الله في الأرض و يسَّره لليسرى أن يقبض على هؤلاء و أن يرهقهم العقوبة الشديدة ، و التنكيل المُبَرِّحَ ضرباً و سَجناً ؛ حتى لا يتعدَّوْا حدود الله ؛ لأن فتنة هؤلاء [ في الأمّة ] (11) أشد ضرراً من فتنة الجوع و الخوف و نهب الأنفس و الأموال ، و ذلك أن من هلك هنالك (12) فإلى رحمة الله تعالى و كريم عفوه ، و من هلك دينه فإلى لعنة الله و عظيم سخطه .
فإن محبة الموالاة الشركية ، و المساكنة النصرانية ، و العَزْمَ على رفض الهجرة ، و الركون إلى الكفار و الرضى بدفع الجزية إليهم ، و نبذ العزة الإسلامية [ 7/ب ] و الطاعة الإمامية ، و البيعة السلطانية ، و ظهور السلطان النصراني عليها ، و إذلاله [ إياها ] (13) - فواحش عظيمةٌ مهلكةٌ قاصمةٌ [ للظهر ] (14) ، يكاد أن تكون كفراً و العياذ بالله .
و أما جُرحة (15) المقيم و الراجع بعد الهجرة و المتمني [ الرجوع ] (16) ، و تأخيره عن المراتب الكمالية الدينية من قضاء و شهادة و [ إمامة ] (17) فمما لا خفاء فيه و لا امتراء ، ممن له أدنى مسكة من الفروع الاجتهادية ، و المسائل الفقهية ، و كما لا تقبل شهادتهم كذلك لا يقبل خطاب حكامهم (18) .
__________
(1) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(2) في ( أ ) ، و ( ر ) ، و ( م ) : ( مسنِداً ) .
(3) في ( أ ) : ( شاهدتها ) .
(4) في ( ح ) : ( فإنه ) .
(5) الرِبق : حبْلٌ فيه عدّة عُرىًَ تُشدُّ به البَهمُ ، الواحدة من العُرى رِبقةٌ ، و يقال : خَلَع رِبقة الإسلام من عنقه ، و المراد : عقد الإسلام .
انظُر : المصباح المنير ، ص : 83 ، و الصحاح ، ص : 4 / 1480 ، و المعجم الوسيط : 1 / 337 .
(6) في ( ح ) ، و ( ر ) ، و ( م ) : ( الأمان ) .
(7) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ح ) ، ( ر ) .
(8) في ( أ ) : ( فإنه لا يجد ) ، وهو خطأ .
(9) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( م ) .
(10) في ( أ ) : ( ييسَّر ) .
(11) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( أ ) ، ( م ) .
(12) أي : من هلك بما تقدم من أسباب الهلاك مثل الجوع و الخوف و نهب الأنفس و الأموال ، و هو مستمسك بدينه ، مقيم لحدود الله .
(13) في ( أ ) : ( عليها ) .
(14) في ( أ ) ، و ( ح ) : ( للظهور ) .
(15) الجُرْحة : ما تُجرَحُ به الشهادة ، كما تقدّم في أول الرسالة .
(16) في ( أ ) ، و ( ح ) : ( للرجوع ) .
(17) في ( ر ) : ( أمانة ) .
(18) المراد بخطاب الحكام : حكم القضاة .(/28)
قال ابن عرفة رحمه الله (1) : ( و شرط قبول [ خطاب ] (2) القاضي صحة ولايته ممن تصح توليته بوجهٍ ؛ احترازاً من مخاطبة قضاة أهل الدجن (3) كقضاة مسلمي بلنسية (4) و طرطوشة (5) و [ موصرة ] (6) عندنا ، و نحو ذلك ) . [ انتهى ] (7) .
و سئل الإمام أبو عبد الله المازَري رحمه الله (8) في زمانه عن أحكام [ تأتي ] (9) من صقلية من عند قاضيها [ و شهودها ] (10) عدول (11) ، هل يقبل ذلك منهم أم لا ؟ مع أنها ضرورة ، و لا تدرى إقامتهم هناك تحت أهل الكفر هل هي [ اضطراراً أو اختياراً ] (12) ؟
فأجاب : القادح في هذا وجهان : الأول : يشتمل على القاضي و بيناته من ناحية العدالة ، فلا يباح المقام في دار الحرب في قياد أهل الكفر [ و ذلك لا يباح ] (13) . و الثاني : من ناحية الولاية ؛ إذ القاضي مُولَّى من قبل أهل الكفر .
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة الورغميِّ ـ نسبةً إلى ( ورغمَّة ) قرية بإفريقيّة ، إمام تونس و عالمها و خطيبها في زمنه ، و لد فيها ( سنة 716 هـ ) و تولي إمامة جامعها ، و قدم للخطابة فيه ، ثم للفتيا ، و جلس للتدريس حتى وفاته سنة ( 737 هـ ) ، من مصنفاته : ( المختصر الكبير ) في فقه المالكية ، و ( المختصر الشامل ) في التوحيد ، و ( الطرق الواضحة في عمل المناصحة ) ، و ( الحدود ) في التعاريف الفقهية .
انظُر : الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ، للسخاوي : 9 / 240 و ما بعدها ، ترجمة رقم ( 586 ) ، و الأعلام ، للزركلي : 7 / 43 .
(2) في ( أ ) : ( خلاف ) .
(3) الدجَنُ : ظل الغمام ، و دجَنَ بالمكان دَجْناً و دُجُوناً : أقام به ، و ألِفَهُ و لزِمَهُ ، و الداجِنُ : كلّ ما ألف البيوت و أقام فيها من حيوان و طيرٍ ، و الجمعُ : دواجِن ، و المراد بأهل الدجْن : المسلمون الذين أقاموا في ديار الكفر و ألفوها و لزموها .
انظُر : المصباح المنير ، ص : 72 ، و المعجم الوسيط : 1 / 281 .
(4) تقع على ساحل البحر المتوسط عند مصب نهر الأبيض ، و تعتبر من عواصم الحضارة الإسلامية في الأندلس ، استولى عليها الفرنجة بقيادة الكمبيادور سنة ( 487 هـ ) ، و استردها المرابطون منهم سنة ( 495 هـ ) ، و أحرقها الإسبان عند خروجهم منها ، ثم استولى عليها الإسبان ثانية بقيادة جاك الأول ملك أراغون سنة ( 630 هـ ) ، و بذلك نهائياً من أيدي المسلمين .
(5) طرطوشة : هي آخر مدن المسلمين من شمالي الأندلس .
(6) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) : ( قَوْصَرَة ) ، و هو الصواب .
و قوصرة جزيرة في البحر المتوسط قبالة ساحل تونس على مقربة من مدينة ( نابِل ) ، كانت ملحقة بصقلية ، و فتحها المسلمون بعد فتح صقلية ، و دام حكمها في أيديهم حتى سقطت في أيدي النورمان خلال النصف الأول من القرن الرابع الهجري ، و ظل المسلمون يعيشون فيها أربعة قرون بعد خروجها من سلطة المسلمين .
انظر : قضايا ثقافية من تاريخ الغرب الإسلامي ، لعبد المجيد زكي ، ص : 68 ، 69 .
(7) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
و انظر كلام ابن عرفة رحمه الله في : التاج و الإكليل ، لمحمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري : 6 / 143 .
(8) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازَري ، ولد سنة ( 453 هـ ) ، و من المحتمل أن يكون مولده في إفريقية ، حيث هاجر إليها أبوه ، و نسبته إلى ( مازَر ) ، أو ( مازَرة ) من نواحي صقلّية ، من فقهاء المالكية المشاهير ، عرف بحفظ الحديث ، و كان آخر المشتغلين من شيوخ أفريقية بتحقيق الفقه ، بلَغ رتبة الاجتهاد و عُرِفَ بدقة النظر ، و أخذ عن اللخمي و أبي محمد بن عبد الحميد السوسي و غيرهما من شيوخ أفريقية ، و درس أصول الفقه و الدين و تقدم في ذلك فجاء سابقاً لم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض في وقته أفقه منه و لا أقوم لمذهبهم ، أخذ عنه خلقٌ كثيرٌ منهم ، و ممن أجازَهُم القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله ، و توفي بالمهدية ( بإفريقية ) سنة ( 536 هـ ) ، من مصنفاته : ( المُعلِم بفوائد مسلم ) ، و ( التلقين ) في الفروع ، و ( الكشف و الإنباء ) في الرد على الإحياء للغزالي .
انظُر : وفيات الأعيان : 4 /285 ، ترجمة رقم ( 617 ) ، و الديباج المذهب ، لابن فرحون :2 / 250 ، و الديباج المذهب و الأعلام للزركلي : 6 / 277 ، و الإمام المازري ، لحسن حسني عبد الوهاب ، ص : 49 ، 50 .
(9) ما بين المعكوفتَيْن ساقط من ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) .
(10) في ( أ ) ، و ( ر ) ، و ( م ) : ( أو شهود ) .
(11) خخ ( و شهادة عدولها ) .
(12) في ( أ ) : ( اضطرار أو اختيار ) .
(13) ما بين المعكوفتين زيادة من النص الأصلي لفتوى المازري .(/29)
و الأول له قاعدة يعتمد عليها [ شرعاً ] (1)ُ [ في هذه المسألة و شبهها ] (2) ، و هي تحسين الظن بالمسلمين و مباعدة المعاصي عنهم (3) ، فلا يُعْدَل عنها لظنون [ قد تكون ] (4) كاذبة ( و توهمات واهية ، كتجويز من ظاهره العدالة ) (5) ، و قد يجوز في الخفاء ، و في نفس الأمر [ قد ] (6) ارتكب كبيرة إلا من قام الدليل على عصمته . و هذا التجويز ( مُطَّرَح ) (7) ، و الحكم للظاهر ؛ إذ هو ( الراجح ) (8) ، إلا أن يظهر من المخايل (9) ما ( يوجب الخروج عن العدالة ) (10) ، فيجب التوقف حينئذ حتى يظهر ما ( يوجب ) (11) زوال موجب راجحية العدالة ، و يبقى الحكم [ الظاهر ] (12) لغلبة الظن بعد ذلك ، و الحكم هو مستفاد من قرائن محصورة فيعمل عليها ، و قرائن العدالة مأخوذة من أمر [ مطلق فتلغى ] (13) .
و قد أمليت من هذا طرفاً في شرح [ البرهان ] (14) ، و ذكرت طريقة أبي المعالي (15) و [ طريقتي ] (16) لما تكلمنا فيما جرى بين الصحابة من الوقائع و الفتن ، رضي الله عنهم أجمعين .
__________
(1) ما بين المعكوفتين زيادة من النص الأصلي لفتوى المازري .
(2) ما بين المعكوفتين غير موجود في النص الأصلي لفتوى المازري .
(3) في ( ر ) : ( عنها ) .
(4) ما بين المعكوفتين زيادة من النص الأصلي لفتوى المازري .
(5) في النص الأصلي لفتوى المازري : ( و مثاله حكمنا بظاهر العدالة ) .
(6) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) ، و ( م ) : ( أن يكون ) ، و هو كذلك عند المازري .
(7) في النص الأصلي لفتوى المازري : ( مطروح ) .
(8) في النص الأصلي لفتوى المازري : ( الأصل ) .
(9) المَخايل : جمع مَخِيلة ، و من معانيها : الظن ، يقال : أخطأتُ فيه مَخِيْلَتي ، و يقال : ظهرَت فيه مخايل النجابة ، أي دلائلها و مَظَنُّها .
انظُر : المصباح المنير ، ص : 71 ، و المعجم الوسيط : 1 / 152 .
(10) في النص الأصلي لفتوى المازري : ( ما يخرج عن الأصل ) .
(11) في النص الأصلي لفتوى المازري : ( يوضح ) . و ما بعد هذه اللفظة حتى نهاية قوله : ( رضي الله عنهم أجمعين ) غير موجود في النص الأصلي لفتوى المازري .
(12) ما بين المعكوفتَيْن ساقط من ( ح ) ، و ( ر ) ، و ( م ) .
(13) في ( أ ) : ( مطلق سلفي متلقى ) ، و في ( ر ) : ( مطلَق متلقّى ) ، و العبارة مُشْكِلَةٌ .
(14) في ( م ) : ( القرآن ) ، و المقصود كتاب ( إيضاح المحصول من برهان الأصول ) ، و هو شرح لكتاب أبي المعالي الجويني الشافعي ( البرهان ) في أصول الفقه .
انظُر : وفيات الأعيان : 4 / 285 ، و الأعلام : 6 / 277 ، و الإمام المازري ، للدكتور حسن حسني عبد الوهاب ، ص : 62 .
(15) أبو المعالي الجويني ، هو : إمام الحرمين ، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف ، الطائي ، السنبسي ، الجويني ثم النيسابوري ، ضياء الدين ، الإمام الكبير ، شيخ الشافعية ، صاحب التصانيف ، ولد سنة 419 هـ / 1028 م . اشتغل بعلم الكلام ، و وقعت منه هفوات ، نفي بسببها ، فجاور بمكة و تعبد و تاب منها ، و رجع إلى مذهب السلف في الصفات و أقره ، و قال : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بعلم الكلام ) ، من كتبه : ( نهاية المطلب في دراية المذهب ) في الفقه الشافعي ، و ( الشامل ) ، و ( الإرشاد ) في أصول الدين ، و ( البرهان ) في أصول الفقه ، و هو الذي شرحه المازري في ( إيضاح المحصول ) ، توفي سنة 448 هـ / 1056 م .
انظر ترجمته في : ذيل تاريخ بغداد لابن النجار ص 85 – 95 ، وفيات الأعيان 3 / 167 – 170 ، الطبقات الكبرى للسبكي 5 / 165 – 222 ، سير أعلام النبلاء 18 / 468 ، العقد الثمين 5 / 507 .
(16) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) ، و ( م ) : ( طريقتي ) .(/30)
و هذا المقيم ببلد الحرب إن كان اضطراراً فلا شك أنه لا يقدح في عدالته ، و كذا إن كان [ اختياراً جاهلاً بالحكم أو معتقداً للجواز ؛ إذ لا يجب عليه أن يَعلَمَ هذا الطرف من العلم وجوباً يقدح تركه في عدالته ، و كذا إن كان متأولاً و ] (1) تأويله صحيحاً [ مثل إقامته ببلد أهل الحرب ] (2) لرجاء هداية [ أهل ] (3) [ الحرب ] (4) أو نقلهم عن ضلالةٍ ما ، و أشار إليه الباقلاني (5) ، [ كما ] (6) أشار أصحاب مالك في جواز الدخول لفكاك الأسير (7) . [ و ] (8) [ و كذا إن كان تأويله خطأ و وجوهه لا تنحصر ، كما أن الشُّبَه عند الأصوليين لا تنحصر ، و ربّما كان خطأ عند عالم و صواباً عند آخَر ، على القول بأن المصيب واحد و الآخر معذور ] (9) أما لو أقام بحكم [ الجاهلية ] (10) و الإعراض عن التأويل اختياراً فهذا يقدح في عدالته ، و اختلف [ 8/أ ] المذهب في رد شهادة [ الداخل ] (11) اختياراً لتجارة ، و اختلف في تأويل المدونة [ فيها ] (12) أشد [ اختلاف ] (13) ، فمن ظهرت عدالته منهم و شُكَّ في إقامته [ على أي وجه ] (14) ، فالأصل عذره ؛ لأن جل الاحتمالات السابقة تشهد لعذره ، فلا تُرَدُّ لاحتمال واحدٍ ، إلا أن تكون قرائن تشهد أن إقامته كانت اختياراً لا لوجه .
و أما [ الوجه ] (15) الثاني - و هو تولية الكافر للقضاة [ و العدول ] (16) و الأُمَناء و غيرهم لحجز الناس بعضهم عن بعض - فواجبٌ حتى ادعى بعض أهل المذهب أنه واجب عقلاً ، [ و قد أقام في المدوَّنة شيوخَ الموضِع مقامَ السلطان عند فقده ؛ خوف فوات القضيَّة ، و إن كان باطلاً ] (17) [ تولية ] (18) الكافر لهذا القاضي [ العدل ] (19) . [ أما بطلب الرعية له و إقامته لهم للضرورة لذلك ] (20) ، فلا يقدح في حكمه و [ تنفيذ ] (21) أحكامه كما لو [ كان ] (22) ولاه سلطان مسلم (23).
__________
(1) ما بين المعكوفتين زيادة من النص الأصلي لفتوى المازري .
(2) في النص الأصلي لفتوى المازري : ( كإقامته بدار الحرب لرجاء افتكاكها ، و إرجاعها للإسلام ) .
(3) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(4) في النص الأصلي لفتوى المازري : ( الكفر ) .
(5) أبو بكر الباقلاني ، هو : محمد بن الطيب بن جعفر بن قاسم ، البصري البغدادي ، المالكي القاضي المتكلم ، الإمام الثقة ، صاحب التصانيف ، صنف في الرد على الرافضة و المعتزلة و الخوارج و غيرهم ، قابله الدارقطني يوماً فقال : ( هذا يرد على أهل الأهواء باطلهم ) ، و دعا له بخير ، كان يضرب به المثل بفهمه و ذكائه ، من تصانيفه : ( دقائق الحقائق ) في علم الكلام ، و ( إعجاز القرآن ) و ( التمهيد ) في أصول الفقه . ولد سنة 338 هـ / 950 م ، و توفي سنة 403 هـ / 1013 م .
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 5 / 379 – 383 ، و ترتيب المدارك 4 / 585 – 602 ، و وفيات الأعيان 4 / 269 ، ترجمة رقم ( 608 ) و سير أعلام النبلاء 17 / 190 ، و البداية و النهاية 11 / 446 ، 447 .
(6) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) : ( و كما ) بزيادة واو .
(7) انظُر : الذخيرة ، للقرافي : 3 / 389 .
(8) الواو ساقطة مِن ( ر ) ، ( م ) .
(9) ما بين المعكوفتين زيادة من النص الأصلي لفتوى المازري .
(10) في النص الأصلي لفتوى المازري : ( الجهالة ) ، و هو المناسب للسياق .
(11) ما بين المعكوفتَيْن ساقط من الأصل .
(12) في ( م ) : منها .
(13) ما بين المعكوفتين زيادة من النص الأصلي لفتوى المازري .
(14) ما بين المعكوفتين غير موجود في النص الأصلي لفتوى المازري .
(15) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( م ) .
(16) ما بين المعكوفتين غير موجود في النص الأصلي لفتوى المازري .
(17) ما بين المعكوفتين زيادة من النص الأصلي لفتوى المازري .
(18) في النص الأصلي لفتوى المازري : ( فتولية ) .
(19) ما بين المعكوفتين زيادة من النص الأصلي لفتوى المازري .
(20) في النص الأصلي لفتوى المازري : ( إما لضرورة إلى ذلك أو لطلب من الرعية ) .
(21) في النص الأصلي لفتوى المازري : ( تنفذ ) .
(22) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(23) هذه نهاية فتوى المازري ، و في نصها الأصلي زيادة ( و الله الهادي لسواء السبيل ) .(/31)
و في كتاب [ الأيمان ] (1) في مسألة الحالف : [ ليقضينك حقك ] (2) إلى أجل أقامَ شيوخَ المكان مقامَ السلطان عند فقده ؛ لما يخاف من فوات القضية (3) ، وعن مُطَرِّف (4) و ابن الماجشون (5) في من خرج على الإمام و غلب على بلد فولى قاضياً عدلاً فأحكامه نافذة . انتهى .
قلتُ : و أفتى شيوخ الأندلس فيمن كان في ولاية الثائر المارق عمر بن حفصون (6) أنه لا تجوز شهادتهم و لا قبول خطاب قضاتهم ، و اختُلِف في قبول ولاية القضاء من الأمير غير العدل ، ففي رياض النفوس في طبقات علماء إفريقيا [ لأبي محمد عبد الله ] (7) المالكي (8)
__________
(1) في ( أ ) ، و ( م ) : ( الأمان ) ، و هو خطأ .
(2) في ( ر ) : ( ليقضينَ فلاناً حقّه ) ، و هو أقرب إلى ما في المصدر المنقول عنه .
(3) جاء في المدونة : ( قلتُ – القائل سحنون - : أرأيتَ إن حلف لأقضينَّ فلاناً حقّه رأس الشهر ، فغاب فلانٌ عنه ؟ قال ـ أي ابن القاسم ـ : قال مالك : يقضي وكيلَه أو السلطانَ ، فيكون ذلك مخرجاً له من يمينه .... و ربّما أتى السلطانَ فلم يجده ، أو تحجّبَ ـ أي السلطان ـ عنه ، أو يكون بقرية ليس فيها سلطان ، فإن خرج إلى السلطان سبقه ذلك الأجل ، قال مالك : فإذا جاء ـ أي وقع ـ مثل هذا فأرى إن كان أمراً بيِّناً يُعذر به ، فأتى بذهبه إلى رجال عدول فأشهدهم على ذلك ، و التَمَسَه و اجتهد في طلبه فلم يجده ، تغيب عنه أو غاب عنه أو سافر عنه و قد بَعُدَ عنه السلطان أو حجب عنه ، فإذا شهد له الشهود على حقّه أنه جاء به بعينه على شرطه لم أرَ عليه شيءٌ ) . المدونة الكبرى : 3 / 261 .
و قال الشيخ أحمد بن محمد الصاوي المالكي : ( لو غاب من له الدين برَّ الحالف الذي عليه الدين بدفعٍ لوكيل التقاضي أو التفويض ، فإن لم يكن وكيل للتقاضي أو التفويض فالحاكم ، فإن لم يكن حاكم فوكيل ضيعةٍِ . و قيل : هو مع الحاكم في الرتبة ، فإن لم يكن أحد ممن ذكر فجماعة المسلمين ، يُشهِدُهُم على إحضار الحق و عَدَدِه و وزنِه و صفته ، و أنّه اجتهد في الطلب فلم يجده ، ثم يترك المال عند عدلٍ منهم أو يبقيه عند نفسه حتى يأتي ربُّه ، و لا يبرُّ بلا إشهاد ) . بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب مالك : 1 / 345 .
(4) هو أبو مصعب مطرِّف بن عبد الله بن مطرِّف ، ابن أخت الإمام مالك ، و أحد الرواة عنه ، ولد سنة ( 137 هـ ) و مات سنة ( 214 هـ ) . قال ابن سعد : كان ثقةً و به صَمَمٌ ، و ذكره ابن حبّان في الثقاة .
انظُر ترجمَتَه في : تهذيب التهذيب ، لابن حجر : 10 / 158 ، 159 ، ترجمة رقم ( 329 ) ، و الديباج المذهب ، لابن فرحون :2 / 340 .
(5) هو أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله ، ابن الماجشون ، فقيه مالكي تفقّه على مالك ، دارت عليه الفتيا في زمنه ، كما دارت على أبيه من قبله ، أضرَّ في آخر عمره ، قيل عنه : ( كان عبد الملك بحراً لا تدركه الدلاء ) ، و قال يحيى بن أحمد بن المعذِّل : ( كلّما تذكّرت أن التراب يأكل لسان عبد الملك صغُرَت الدنيا في عيني ) .
انظُر ترجمَتَه في : وفيات الأعيان : 3 / 166 ، 167 ، ترجمة رقم ( 377 ) ، و تهذيب التهذيب : 6 / 361 ، 361 ، ترجمة رقم ( 760 ) ، و الديباج المذهب ، لابن فرحون :2 / 6 و ما بعدها .
(6) قال ابن خلدون في مقدمته : [ 2 / 96 ] : هو عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش بن أذفونش القس هكذا نسبه ابن حيان أول ثائر كان بالأندلس وهو الذي افتتح الخلاف بها وفارق الجماعة أيام محمد بن عبد الرحمن في سني السبعين و المائتين . خرج بجبل يشتر من ناحية رية و مالقة و انضم إليه الكثير من جند الأندلس ممن في قلبه مرض في الطاعة ، و ابتنى قلعته المعروفة به هنالك ، و استولى على غرب الأندلس إلى رندة ، و على السواحل من الثجة إلى البيرة ... هلك سنة ست و ثلاثمائة لسبع و ثلاثين سنة من ثورته . اهـ .
(7) في ( م ) : ( لأبي محمد بن عبد الله ) .
(8) مؤرخ من أهل القيروان بقي فيها مدّةً بعد خرابها سنة ( 449 هـ ) ، و كانت وفاته بعد سنة ( 453 هـ ) ، و قد اختلف في اسمه و كنيته ، فكنيته في كشف الظنون و الأعلام و دراسة الدكتور حسين مؤنس بين يدي تحقيقه لرياض النفوس : أبو بكر ، خلافاً لما في جميع نسخ ( أسنى المتاجر ) من تكنيته بأبي محمد .
و اسمه في كشف الظنون و الأعلام : عبد الله بن محمد بن عبد الله ، خلافاً لما انتهى إليه حسين مؤنس من أنه : عبد الله بن عبد الله .
و كتابه ( رياض النفوس في طبقات علماء القيروان و إفريقيّة زهادهم و عبّادهم و نسّاكهم و سيَرٌ من أخبارهم و فضائلهم و أوصافهم ) في جزأَين : الأول يتناول فتح العرب لإفريقيّة بالتفصيل ، ثم يترجم لعلماء إفريقية و فقهائها طبقةً طبقةً ، حتى يصل إلى نهاية الطبقة الخامسة التي تنتهي سنة ( 300 هـ ) . و يتناول الثاني تراجم العلماء بين سنتي ( 300 هـ ) و ( 356 هـ ) ، و يبدو أن النسختين المعتمد عليهما في إخراج الكتاب ناقصتان .
انظُر ترجمَتَه في : كشف الظنون : 1 / 938 ، و الأعلام : 4 / 121 ، 122 ، و مقدمة رياض النفوس ، للدكتور حسين مؤنس : 1 / 28 و ما بعدها .(/32)
: قال سحنون : اختلف أبو محمد عبد الله بن فروخ (1) و ابن غانم قاضي إفريقية و هما من رواة مالك رضي الله عنه ، فقال ابن فروخ : لا ينبغي لقاضٍ إذا ولاه أمير غير عَدلٍ أن يلي القضاء ، و قال ابن غانم : يجوز أن يليَ و إن كان الأمير غير عدلٍ ، فكُتِبَ بها إلى مالك ، فقال مالك : أصاب الفارسي ، يعني ابن فروخ ، و أخطأ الذي يزعم أنه عربي ، يعني ابن غانم (2) . انتهى (3) .
و قال ابن عرفة : لم يجعلوا قبوله الولايةَ للمتغلب المخالف للإمام جُرْحَةً ؛ لخوف تعطيل الأحكام . انتهى (4) .
هذا ما يتعلق بهم من الأحكام [ الدنياوية ] (5) ، و أما [ الأخراوية ] (6) المتعلقة بمن قطع عمره و أفنى شيبه و شبابه في مساكنتهم و [ توليتهم ] (7) و لم يهاجر ، أو هاجر ثم راجع وطن الكفر و أصر على ارتكاب [ هذه ] (8) المعصية الكبيرة إلى حين وفاته و العياذ بالله ، فالذي عليه السنة و جمهور [ الأئمة ] (9) أنهم معاقبون بالعذاب الشديد ، إلا أنهم غير مخلدين في العذاب ؛ بناء على مذهبهم الحق في انقطاع عذاب أهل الكبائر ، و تخليصهم بشفاعة سيدنا و [ نبينا و مولانا ] (10) محمد صلى الله عليه و سلم المصطفى المختار ، حسبما وردت به صحاح الأخبار (11) .
و الدليل على ذلك قوله عز و جل : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ و يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [ 8/ب ] لِمَن يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] .
و قوله : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ] (12) إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] .
و قوله : { و إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } [ الرعد : 6 ] .
إلا أن قوله تعالى : { و مَن يَتَولَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] ، و قوله عليه السلام : ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ) (13) ، و قوله عليه السلام : ( من (14) ساكنهم أو جامعهم فهو منهم ) (15) شديد جداً عليهم .
__________
(1) هو أبو محمد عبد الله بن فرّوخ الفارسي ، من الفقهاء العلماء بالحديث من أهل إفريقيّة ، ولد سنة ( 115 هـ ) ، رحل في طلب العلم ، و لقي بالمشرق مالكاً و الثوري و أبا حنيفة و ابن جُرَيج و غيرهم ، و كان يكاتب مالكاً و يكاتبه مالكٌ بجواب مسائله . عُرض عليه القضاء فأبى ، توفي بمصر في طريق عودته من رحلة الحج سنة ( 176 هـ ) و دفن بسفح المقطَّم ، له ( ديوانٌ ) يعرف باسمه ، جمع فيه مسموعاته و سؤالاته للإمامين أبي حنيفة و مالك ، و كتابٌ في ( الرد على أهل البدع و الأهواء ) .
انظُر : رياض النفوس ، للمالكي : 1 / 113 و ما بعدها ، ترجمة رقم ( 77 ) ، و تهذيب التهذيب : 5 / 311 ، 312 ، ترجمة رقم ( 612 ) ، و الأعلام : 4 / 112 .
(2) هو أبو عبد الرحمن بن عمر بن غانم بن شرحبيل الرعيني ، قاضٍ فقيهٍ وَرِعٍ من أهل إفريقيّة ، ولد سنة ( 128 هـ ) و رحل إلى الشام و العراق طلباً للعلم ، ولاه هارون الرشيد قضاء إفريقيَّة سنة ( 171 هـ ) ، فوَليَه حتى وفاته بالقيروان سنة ( 190 هـ ) ، جمع ما سمعه من الإمام مالك في ديوانٍ سُميَ باسمه .
انظُر ترجمَتَه في : رياض النفوس : 1 / 143 و ما بعدها ، ترجمة رقم ( 87 ) ، و تهذيب التهذيب : 5 / 289 ، 290 ، ترجمة رقم ( 567 ) ، و الأعلام : 4 / 109 .
(3) رياض النفوس ، للمالكي : 1 / 114 ، و هذا النص موجود أيضاً بنصه في : تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام ، لابن فرحون المدني .
(4) انظر كلام ابن عرفة في : التاج و الإكليل ، لحمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري : 6 / 143 ، و المقصود في كلام ابن عرفة هو : قبول القاضي العدل لولاية القضاء .
(5) في ( م ) : ( الدنيوية ) ، و كلاهما صحيح .
(6) في ( م ) : ( الأخروية ) .
(7) في ( أ ) ، و ( ر ) : ( توليهم ) .
(8) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( م ) .
(9) في ( ر ) : ( العلماء ) .
(10) في ( ر ) : ( مولانا ونبينا ) .
(11) وردت في ذلك أحاديث كثيرة ، منها : حديث الشفاعة المشهور الذي فيه : يأتي الناس يوم القيامة يتشفّعون بالأنبياء إلى أن ينتهوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فيقول : ( أنا لها ) الحديث . رواه البخاري : 8 / 10 في كتاب التفسير ، باب قول الله ( و علّم آدم الأسماء كلها ) ، حديث رقم ( 4476 ) ، و مسلم في كتاب الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلةً فيها ، حديث رقم ( 193 ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
و منها ما رواه الترمذي : 4 / 625 في كتاب صفة القيامة ، برقم ( 2435 ) هم أنس أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي ) .
(12) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ح ) .
(13) تقدم تخريجه في أول الرسالة .
(14) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( ر ) ، و ( م ) : ( فمن ) .
(15) تقدم تخريجه في أول الرسالة .(/33)
و ما ذكرتم عن سخيف العقل و الدين من قوله : ( إلى ها هنا يهاجَر ؟ ) في قالب الازدراء و التهكم . و قول السفيه الآخر : ( إن جاز صاحب قشتالة إلى هذه النواحي نسير إليه ) . [ إلخ ] (1) كلامه البشيع و لفظه الشنيع - لا يخفى على سيادتكم ما في كلام كل واحد منهما من السماجة في التعبير ، كما لا يخفى ما على كل منهما في ذلك من الهُجنة و سوء النكير ، إذ لا يتفوه بذلك و لا يستبيحه إلا من سفه نفسه ، و فقد ـ و العياذ بالله ـ حسه ، و رام رفع (2) ما صح نقله و معناه ، و لم يخالف في تحريمه أحد في جميع معمور الأرض الإسلامية من مطلع الشمس إلى مغربها ؛ لأغراض فاسدة في نظر الشرع ، لا رأس لها و لا ذنَب .
فلا تصدر هذه [ الأغراض ] (3) الهَوسية (4) إلا من قلب استحوذ عليه الشيطان ، فأنساه حلاوة الإيمان ، و مكانه من الأوطان . و من [ ارتكب هذا و تورط فيه ] (5) فقد استعجل لنفسه الخبيثة الخزي المضمون في العاجل و الآجل ، إلا أنه [ لا ] (6) يساوي في العصيان و الإثم ، و العدوان و المقت ، و السماجة و الإبعاد ، و [ الاستنقاص ] (7) و استحقاق [ اللئيمة ] (8) و المذمة الكبرى - التارك للهجرة بالكلية بموالاة الأعداء ، و السكنى بين أظهر البعداء ؛ لأن غاية ما صدر من هذين الخبيثين عزمٌ ، و هو التصميم و توطين النفس على الفعل ، و هما لم يفعلا .
__________
(1) في ( ر ) : ( إلى آخر ) .
(2) الرفع هو النسخ في اصطلاح الأصوليين ، يقولون : رفع الحكم ؛ إذا نسخه .
(3) في ( أ ) : ( الأعراض ) .
(4) الهَوسُ بفتحتين : طرف من الجُنُون .
انظُر : الصحاح ، للجوهري : 3 / 992 ، و المعجم الوسيط : 2 / 1040 .
(5) في ( أ ) : ( ارتكب في هذا و تورط ) ، و في ( ر ) : ( ارتبك في هذا و تورط فيه ) ، و في ( م ) : ( ارتكب هذا و تورط ) .
(6) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن : ( م ) .
(7) في ( ح ) ، و ( م ) : ( الانتقاص ) .
(8) في ( أ ) : ( اللائمة ) ، و هو الأقرب إلى الصواب ، إذ اللائمة هي العذل و اللوم ، و هو المعنى الذي دلَّ عليه السياق ، بخلاف ( اللئيمة ) التي لا تحتمل هذا المعنى و لو من بعيد .
انظُر : تاج العروس من جواهر القاموس ، للزبيدي : 9 / 64 و ما بعدها ، و المصباح المنير ، ص : 214 ، و المعجم الوسيط : 2 / 880 .(/34)
و قد اختلف أئمتنا الأشاعرة في المؤاخذة (1) به ، فنقل الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله عن كثيرين أنه [ غير ] (2) مواخذ به رأساً ، [ لظاهر ] (3) قوله ] (4) عليه السلام : ( إن الله تجاوز لأمتى ما حدثت به أنفسها ) (5) . و قال القاضي أبو بكر الباقلاني : إنه مؤاخذ به ، و احتج له بحديث : ( إذا [ اصطفَّ ] (6) المسلمان [ بسيفيهما ] (7) فالقاتل و المقتول في النار ) قيل : يا رسول الله ! هذا القاتل فما بال المقتول ؟ [ قال ] (8) : ( إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ) (9) [ فإثمه ] (10) بالحرص . و أجيب بأن اللقاء و إشهار السلاح فعل ، و هو المراد بالحرص (11) .
و قال في الإكمال (12) : [ بقول ] (13) القاضي (14) قال عامة السلف من الفقهاء و المتكلمين و المحدثين ؛ لكثرة الأحاديث الدالة على المؤاخذة [ بعمل القلب ، و حملوا أحاديث عدم المواخذه [ 9/أ ] على الهَمّ ] (15) .
قيل للثوري (16) : [ أنُواخَذُ ] (17) بالهَمَّة ؟ قال : إذا كانت عزماً (18) .
__________
(1) حيثما وردت هذه لفظة ( المؤاخذة ) أو أيٍّ من مشتقاتها فإن ما يقابلها في ( م ) وارد بإهمال همزِ الواو ، و هو شائع في الكتابة المغربية .
(2) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن : ( ح ) .
(3) ما بين المعكوفتَين ساقط من ( أ ) .
(4) في ( أ ) : لقوله .
(5) رواه البخاري : 9 / 300 في كتاب الطلاق ، باب الطلاق في الإغلاق ، حديث رقم ( 5269 ) بلفظ : ( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدّثَت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم ) ، و مسلم : 1 / 123 في كتاب الإيمان ، باب تجاوُز الله عن حديث النفس و الخواطر بالقلب إذا لم تستقر ، حديث رقم ( 127 ) ، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(6) في ( أ ) : ( اصطفّا ) ، و هو صحيح على لغة ( أكلوني البراغيث ) التي تساوي بين الفعل و الفاعل في العدد .
(7) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : ( بسيفهما ) .
(8) في ( ر ) : ( قيل ) ، و هو خطأ ؛ لمخالفته السياق ، و الرواية .
(9) رواه البخاري : 1 / 106 في كتاب الإيمان ، باب ( و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) ، حديث رقم ( 31 ) ، و طرفاه في ( 6875 ) و ( 7083 ) ، و مسلم : 4 / 520 في كتاب الفتن و أشراط الساعة ، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما ، حديث رقم ( 2888 ) ، كلاهما عن أبي بكرة رضي الله عنه ، و أوّله عندهما : ( إذا التقى المسلمان ) ، و ( إذا تواجه المسلمان ) ، أما اللفظ الذي أورده المؤلف به فلم أقف عليه في أيٍّ من دواوين السنّة .
(10) في ( ر ) : ( فأَثِمَ ) .
(11) قال المازَري : مذهب القاضي ابن الطيب رحمه الله أن من عزم على المعصية بقلبه و وطَّنَ عليها نفسَه مأثومٌ في اعتقاده و عَزْمه ، و قد يُحمل ما وقع في هذه الأحاديث ، و أمثالها على أن ذلك فيمن لم يوطّن نفسه على المعصية ، و إنما مرَّ ذلك بفكره من غير استقرار ، و يسمّى مِثْلُ هذا ( الهَمّ ) و يفرَّق بين الهمّ و العزم ، فيكون معنى قوله في الحديث : ( إن مَن همَّ لم يُكتَب عليه ) على هذا التقسيم ؛ الذي هو خاطر غير مستقِرٍّ . و خالفه كثير من الفقهاء و المحدثين ؛ أخذاً بظاهر الأحاديث ، و يُحتج للقاضي بقول النبي صلى الله عليه و سلم : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما ... ) الحديث ، و قال فيه : ( لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه ) ، فقد جعله مأثوماً بالحرص على القتل ، و قوله هذا قد يتأوَّلونه على خلاف هذا التأويل ، فيقولون : قد قال : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما ) فالإثم إنما يتعلَّق بالفعل و المقابلة ، وهو الذي وقع عليه اسم الحرص ها هنا . اهـ .
المعلم بفوائد مسلم : 2 / 311 ، 312 .
(12) هو كتاب ( إكمال المُعلِم بفوائد كتاب مسلم ) ، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي ( تـ 544 هـ ) ، و هو مكمل لشرح أبي عبد الله المازري الذي سمّاه ( المعلم بفوائد مسلم ) .
انظُر : وفيات الأعيان : 4 / 285 ، و كشف الظنون : 1 / 557 .
(13) في ( أ ) : ( يقول ) .
(14) هو القاضي أبو بكر الباقلاني ، و قد تقدم التعريف به .
(15) ما بين المعكوفتَيْن يقابله في ( ر ) : ( على أنّه ) .
(16) هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري الكوفي ، الفقيه المجتهد ، شيخ الإسلام ، إمام الحفاظ في زمانه ، و لد في الكوفة سنة ( 97هـ ) و نشأ بها ، راوده المنصور العباسي أن يلي القضاء فأبى ، و تنقل في البلاد حتى مات في البصرة مستخفياً سنة ( 161 هـ ) ، من مصنفاته : ( الجامع الكبير ) و ( الجامع الصغير ) في الحديث .
انظُر ترجمَتَه في : وفيات الأعيان : 2 / 386 و ما بعدها ، ترجمة رقم ( 266 ) ، و البداية و النهاية : 10 / 634 ، و تهذيب التهذيب : 4 / 99 و ما بعدها ، ترجمة رقم ( 199 ) .
(17) في ( أ ) : ( أيؤاخذ ) .
(18) قال الحافظ ابن حجر : سأَلَ ابنُ المباركِ سفيانَ الثوري : أيؤاخذ العبد بما يهم به ؟ قال : إذا جزم بذلك .
فتح الباري : 11 / 335 .(/35)
لكنهم قالوا : إنما يؤاخَذ بسيئة العزم ؛ لأنها معصية ، لا بسيئة المعزوم عليه ؛ لأنها لم تُفعَل ، فإن فُعلت كتبت سيئة ثانية ، و إن كفَّ عنها كتبت حسنةً ، لحديث : ( إنما تركها من جرَّايَ ) (1) .
[ و ] (2) قال محيي الدين النووي (3) : تظاهرت النصوص بالمؤاخذه بالعزم ، كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا } [ النور : 19 ] ، و قوله تعالى : { اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [ الحجرات : 12 ] .
و قد أجمعت الأمة على حرمة الحسد و احتقار [ الناس ] (4) و إرادة المكروه [ بهم ] (5) . انتهى (6) .
و اعتُرِضَ هذا الاحتجاجُ بأن العزم المختلف فيه ما له صورة في الخارج كالزنى و شرب الخمر ، و أما ما لا صورة له في الخارج كالاعتقادات و خبائث النفس من الحسد و نحوه فليس من صور [ محل ] (7) الخلاف ؛ لأن النهي عنه في نفسه ؛ به وقع التكليف فلا يحتج بالإجماع الذي فيه .
و ليكن هذا آخر ما ظهر كَتْبُهُ (8) من الجواب عن السؤال [ المفيد ] (9) الموجه من قبل الفقيه المعظم الخطيب الفاضل القدوة الصالح البقية ، و الجملة [ الفاضلة النقية ] (10) ، السيد أبي عبد الله بن قطية ، أدام الله سموه و رقيّه ، و ينبغي أن يترجم هذا الجواب و يسمى بـ ( أسنى المتاجر ، في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى و لم يهاجر ، و ما يترتب عليه من العقوبات و الزواجر ) ، و اللهَ أسأل أن ينفع به ، و يضاعف الأجر بسببه .
قاله و خطه العبد المستغفر الفقير المسلم عبيد الله أحمد بن [ يحيى ] (11) بن محمد بن علي الوَنْشَرِيْسِي ، وفقه الله .
و كان الفراغ [ من ] (12) كتبه يوم الأحد التاسع عشر لذي قعدة الحرام ، من عام ستة و تسعين و ثمانمائة ،عرفنا الله خيره .
[ انتهى من المعيار ] (13) .
مُلحَقةٌ
__________
(1) رواه مسلم : 1 / 124 في كتاب الإيمان ، باب إذا همّ العبد بحسنة كتبت ، و إذا همّ بسيِّئةٍ لم تُكتَب ، حديث رقم ( 205 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( قال الله عزّ و جل : إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنةً فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها ، و إذا تحدث بأن يعمل سيئةً فأنا أغفرها له ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها ) ، و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( قالَت الملائكة : ربِّ ، ذاك عبدك يريد أن يعمل سيِّئةً ـ و هو أبصر به ـ ؟ فقال : ارقبوه ، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ، و إن تركها فاكتبوها له حسنة ، إنّما تركها من جرّايَ ) .
و انظر كلام القاضي عياض ، في إكمال المعلم بفوائد مسلم : 1 / 425 .
و قد نقل النووي هذا النص في شرحه على صحيح مسلم بمعناه ، و قال بعده : ( و هو ظاهرٌ حَسَنٌ لا مَزيدَ عليه ) .
صحيح مسلم ، بشرح النووي : 2 / 151 .
(2) الواو ساقطة مِن ( م ) .
(3) هو أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي ، شيخ المحدثين ، و كبير فقهاء الشافعية في زمانه . ولد في ( نَوَى ) ـ قرية من قرى حوران بالشام ـ سنة ( 631 هـ ) ، ثم نزل دمشق ، و طلب العلم على المشايخ فيها ، ثم باشر التدريس ، و كان من الزهاد و العبّاد ، على قدر كبير من الورع و التحري و الانجماح عن الناس ، توفي ـ رحمه الله ـ سنة ( 676 هـ ) . و له من الكتب : ( منهاج الطالبين ) ، و ( المجموع شرح المهذب ) في الفقه الشافعي ، و لم يكمله ، و ( شرح صحيح مسلم ) الذي اشتهر و انتشر ، و سارت به الركبان .
انظُر ترجمَتَه في : البداية و النهاية : 13 / 277 ، و طبقات الشافعية الكبرى ، للسبكي : 8 / 395 و ما بعده ، ترجمة رقم ( 1288 ) ، و الأعلام : 8 / 149 .
(4) في ( أ ) : ( النفس ) .
(5) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( م ) .
(6) قال الإمام النووي : ( و قد تظاهرت نصوص الشَّرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقرّ ، و الآيات في هذا كثيرة ... و قد تظاهرت نصوص الشَّرع ، و إجماع العلماء على تحريم الحسد ، و احتقار المسلمين ، و إرادة المكروه بهم ... و غير ذلك من أعمال القلوب و عزمِها ، و اللَّه أعلم ) .
شرح صحيح مسلم : 2 /151 ، 152 .
(7) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ر ) .
(8) كَتَبَ الكتابَ يكتُبُهُ كَتْباً و كِتابةً بمعنىً .
انظُر : المصباح المنير ، ص : 200 ، و المعجم الوسيط : 2 / 805 .
(9) في ( أ ) : ( المقيَّد ) .
(10) في ( ر ) : ( الفاضلة الصالحة النقية ) .
(11) في ( ر ) : ( محمد ) بدلاً من ( يحيى ) ، و هو خطأ .
(12) في ( م ) : ( مذ ) .
(13) ما بين المعكوفتَيْن انفردت به ( ب ) ، و هو نهاية النسخة المعتمدة أصلاً ، و لا وجود للملحقة الآتية فيها ، كما لا ذكر لاسم الناسخ أو سنة النسخ .(/36)
و كتب إليَّ الفقيه أبو عبد الله (1) المذكور أيضاً بما نصه :
الحمد لله ، و الصلاة و السلام علي رسول الله .
جوابَكم يا سيدي ـ رضي الله عنكم ، و متَّع المسلمين بحياتكم ـ في نازلة ، و هي : رجل من أهل مربلة (2) معروف بالفضل و الدين تخلف عن الهجرة مع أهل بلده ؛ ليبحث عن أخ له فُقِدَ قَبْلُ في قتال العدو بأرض الحرب ، فبحث عن خبره إلى الآن فلم يجده ، و أيس منه ، فأراد أن يهاجر فعرض له سبب آخر ، و هو أنه لسانٌ و عونٌ [ للمسلمين الذميين ] (3) ، حيث سكناه ، و لمن جاورهم أيضاً من أمثالهم بغربية الأندلس يتكلم [ عنه ] (4) مع حكام النصارى فيما يعرض لهم معهم من نوائب الدهر ، و يخاصم عنهم و يُخَلِّصُ كثيراً منهم من ورطات عظيمة بحيث إنه يعجز عن تعاطي ذلك عنهم أكثرُهم ، بل [ قلَّ ] (5) ما يجدون مثله في ذلك الفن إن هاجر ، و بحيث إنه يلحقهم في فقده ضرر كبير إن فقدوه .
فهل يرخص له في الإقامة معهم تحت حكم الملة الكافرة ؛ لما في إقامته هناك من المصلحة لأولئك المساكين الذميين ، مع أنه قادر على الهجرة متى شاء ؟ أو لا يرخص له ؛ [ إذ ] (6) لا رخصة لهم أيضاً في إقامتهم هناك تجري عليهم أحكام الكفر ، لا سيما و قد سمح لهم في الهجرة مع [ أنَّهم ] (7) قادرون عليها متى أحبوا ؟
و على تقدير أن لو رُخِّصَ له في ذلك فهل يرخص له أيضاً في الصلاة بثيابه حسب استطاعته ؟ إذ لا تخلو في الغالب عن نجاسة لكثرة مخالطته للنصارى ، و تصرفه بينهم ، و رقاده و قيامه في ديارهم في خدمة المسلمين الذميين حسبما ذُكر ؟
بيِّنوا لنا حكم الله في ذلك [ كلِّه ] (8) مأجورين مشكورين إن شاء الله تعالى ، و السلام الكثير يعتمد مقامكم العليّ و رحمة الله تعالى و بركاته .
فأجبته بما نصه :
الحمد لله تعالى و حده ، [ الجواب ] (9) ـ و الله تعالى وليّ التوفيق بفضله ـ :
إن إلهنا الواحد القهار ، قد جعل [ الجزية ] (10) و الصَغَار في أعناق ملاعين الكفار ، [ سلاسلاً ] (11) و أغلالاً يطوفون بها في الأقطار ، و في أمهات المدائن و الأمصار ؛ إظهاراً لعزة الإسلام ، و [ شَرَفاً لنَبِيِّهِ ] (12) المختار ، فمن حاول من المسلمين ـ عصمهم [ الله و وفرهم ] (13) ـ انقلاب تلك السلاسل و الأغلال في عنقه فقد حاد الله و رسوله ، و عرض بنفسه إلى سخط العزيز الجبار ، وحقيق [ أن ] (14) يكبكبهُ [ الله ] (15) معهم في النار ، { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا و رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] .
فالواجب على كل مؤمن يؤمن بالله و اليوم الآخر السعي في حفظ رأس الإيمان بالبعد و الفرار عن مساكنة أعداء حبيب الرحمن ، و الاعتلالُ لإقامة الفاضل المذكور بما عرض من غرض الترجمة بين الطاغية و أهل ذمته من الدجن العصاة - لا يخلص من واجب الهجرة ، و لا يتوهم معارضةَ ما سطر في السؤال من الأوصاف الطردية لحكمها [ الواجب ] (16) ، إلا متجاهل أو جاهل معكوس الفطرة ، ليس معه من مدارك الشرع خبرة ؛ لأن مساكنة الكفار من غير أهل الذمة و الصغار لا تجوز و لا تباح ساعة من نهار ؛ لما تنتجه من الأدناس و الأوضار و المفاسد الدينية و الدنيوية طول الأعمار ؛ منها : أن غرض الشرع أن تكون كلمة الإسلام [ شهادةً ] (17) ، و شهادة الحق قائمة على ظهورها [ غالبة ] (18) على غيرها ، منزهة عن الازدراء بها ، و من ظهور [ شعار ] (19) الكفر عليها ، و مساكنتهم تحت الذل و الصغار تقتضي ـ و لا بد ـ أن تكون هذه الكلمة الشريفة العالية المنيفة سافلةً لا عالية ، و مزدرى بها لا منزّهةً . و حسبك بهذه المخالفة للقواعد الشرعية والأصول و بمن يتحملها و يصبر عليها مدة عمره من غير ضرورة و لا إكراه .
__________
(1) هو عبد الله بن قطية ، السائل في المسألة الأولى ، و قد ذكره الونشريس في مطلعها ، و أكثر من الثناء عليه ، مع أنه لا يكاد يُعرَف .
(2) مربلة ( Marbella ) ميناء أندلسي على البحر الأبيض ، تقع إلى الغرب من مالقة .
(3) في ( أ ) ، و ( ح ) : ( للمسلمين المساكين الذميين ) .
(4) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : ( عنهم ) ، و هو أوجَه .
(5) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( أ ) .
(6) في ( أ ) : ( أو ) .
(7) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : ( أنّ أكثرهم ) .
(8) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( م ) .
(9) في ( أ ) : ( و هذا الجواب ) ، بزيادة ( و هذا ) .
(10) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : ( الخزية ) ، من الخزي .
(11) في ( أ ) : ( سلاسلَ ) بمنعها من الصرف .
(12) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : ( شرف نبيه ) .
(13) ما بين المعكوفتَيْن مكرر في الأصل .
(14) في ( أ ) ، و ( م ) : ( أنه ) .
(15) لفظ الجلالة غير موجود في الأصل .
(16) في ( م ) : ( بالواجب ) .
(17) ما بين المعكوفتين ساقط من ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) .
(18) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : ( عالية ) .
(19) في ( أ ) : ( شعائر ) .(/37)
و منها : أن كمال الصلاة التي تتلو الشهادتين في الفضل و التعظيم و الإعلان و الظهور ، لا يكون و لا يُتصور إلا بكمال الظهور و العلو و النزاهة من الازدراء و الاحتقار ، [ و ] (1) في مساكنة الكفار ، و ملابسة الفجار تعريضها للإضاعة و الازدراء و الهزء و اللعب ، قال الله تعالى : { و إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً و لَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَومٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } [ المائدة : 58 ] . و حسبك بهذه المخالفة أيضاً .
و منها : إيتاء الزكاة ، و لا يخفى على ذي بصيرة و سريرة مستنيرة أن إخرج الزكاة للإمام من أركان الإسلام ، و شعائر الأنام ، و حيث لا إمام فلا إخراج (2) ؛ لعدم شرطها ، فلا زكاة لفقد مستحقها . فهذا ركن من أركان الإسلام منهدٌّ بهذه الموالاة الكفرية ، و أما إخراجها لمن يستعين بها على المسلمين فلا يخفى أيضاً ما فيه من [ المناقضات ] (3) للمتعبَّدات الشرعية كلها .
و منها صيام رمضان ، و لا يخفى أنه فرض على الأعيان ، و زكاة الأبدان ، و هو مشروط برؤية الهلال ابتداءً و انقضاءً ، و في أكثر الأحوال إنما تثبت الرؤية بالشهادة ، والشهادة لا تؤدى إلا عند الأئمة و خلفائهم ، و حيث لا إمام ، [ لا خليفة ، فلا شهادة الشهر ] (4) إذ ذاك مشكوك الأول و الآخر في العمل الشرعي .
و منها : حج البيت ، و الحج و إن كان ساقطاً عنهم ؛ لعدم الاستطاعة ، لأنها موكولة إليهم ، فالجهاد لإعلاء كلمة الحق و محو الكفر من قواعد الأعمال الإسلامية ، و هو فرض على الكفاية و عند مسيس الحاجة ، ولا سيما بمواضع هذه الإقامة المسئول عنها و ما يجاورها ، ثم هم : إما ضرورة مانعة منه على الإطلاق كالعازم على تركه من [ غير ] (5) ضرورة ، و العازم على [ الترك ] (6) [ من غير ضرورة كالتارك ] (7) قصداً مختاراً ، و إما مقتحمون نقيضه بمعاونة أوليائهم على المسلمين ، إما بالنفوس و إما بالأموال ، فيصيرون [ حينئذ ] (8) حربيين مع المشركين . و حسبك بهذه مناقضة و ضلالة .
__________
(1) الواو ساقطة مِن ( أ ) .
(2) هذا رأي غريب للونشريسي ، و يلزم منه إسقاط الزكاة عند فقد الإمام ، و إن وجد موجبها من التكليف و بلوغ النصاب ، و عليه فإن ركن إخراج الزكاة يسقط عن مسلمي عصرنا ، إذ لا إمام في جل أقطار الأرض .
بل الصواب و الله أعلم أن إخراج الزكاة للإمام واجب عند قيامه أمره بأدائها له ، أو لمن ينيبه من الجباة ، أو يستخلفهم من الولاة و العمّال ، و هذا هو مذهب السادة المالكية الحقُّ .
قال القرافي رحمه الله : قال سند : فإن فرَّقَها ربُّها و الإمام عدلٌ أجزأته عند الجمهور ، و كذلك لو طلبَه [ أي الإمام ] فأقام على إيصالها إلى ربِّها [ أي مستحقها من الأصناف الثمانية ] بيِّنةً . و قال ابن القصَّار : إن طلبه الإمام العَدلُ غَرِمَها ، و إلا [ أي إن لم يطلبه ] أجزأَتهُ ، فإن لم تقم بينةٌ ، قال مالك و ابن القاسم : لا يُقبَلُ قولُه إن كان الإمام عَدلاً . و قال أشهَب : يُقبَلُ إن كان صالحاً ، فإن كان الإمام جائراً فلا تُدفَعُ إليه ؛ لئلا تضيع على مستحِقِّها . قال أشهَب : إن دفعها إلى غير العدل مع إمكان إخفائها لم تجزئه إلا أن يُكرِهَه ، فلعلَّها تجزيء . و قال ابن القاسم : إن أخذها الجائر أو عِوَضاً عنها ، و هو يضعها مواضعها أجزَأَت ، وإلا فلا تجزيء طوعاً و لا كرهاً ، صدقةً و لا عِوَضاً . قال أصبغ : و الناس على خلافه ، و أنها تجزيء مع الإكراه ، قال أصبغ : فلو دَفَعَها طوعاً إليه فأحَبُّ إليَّ أن يُعيد . اهـ .
الذخيرة ، للقرافي : 134 ، 135 .
(3) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : ( المناقضة ) .
(4) المثبت مِن ( ح ) ، و ( م ) ، و في الأصل : ( لا خليفة فالشهادة الشهر ) و يبدو أن ثمة سقط قبل كلمة ( الشهر ) ، و في ( أ ) : ( و لا خليفة و لا شهادة ) ثم بياض قبل كلمة ( الشهر ) و على كل حال فالعبارة مُشكِلةٌ ، و أقربُها ما أثبتناه مِن ( ح ) ، ( م ) ، و الله أعلم بالصواب .
(5) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( ح ) ، ( م ) .
(6) في ( م ) : ( تركه ) .
(7) ما بين المعكوفتَيْن ساقط من الأصل ، و هو في : ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : ، و قد أثبتناه لأن السياق يقتضيه .
(8) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( أ ) .(/38)
و قد اتضح بهذا التقرير نقص صلاتهم و صيامهم و زكاتهم و جهادهم ، و إخلالُهُم بإعلاء كلمة الله و شهادة الحق ، و إهمالهم [ لإجلالها ] (1) و تعظيمهما و تنزيهها عن ازدراء الكفار ، و تلاعب الفجار ، فكيف يتوقف متشرع أو يشك متورع في تحريم هذه الإقامة مع استصحابها لمخالفة جميع هذه القواعد الإسلامية الشريفة الجليلة ، مع ما ينضم إليها و يقترن بهذه المساكنة المقهورة مما لا ينفك عنها غالباً من التنقيص الدنياوي و تحمل الذلة والمهانة ؟! و هو مع ذلك مخالف لمعهود عزة المسلمين ، و رفعة أقدارهم ، و داع إلى احتقار الدين و اهتضامه ، و هو أمور أيضاً تصطك منها المسامع :
منها : الإذلال و الاحتقار و الإهانة ، و قد قال عليه السلام : ( لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه ) (2) ، و قال : ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) (3) .
و منها الازدراء و الاستهزاء ، و لا يتحملهما ذو مروءة فاضلة من غير ضرورة .
و منها السب و [ الإذاية ] (4) في العرض ، و ربما كانت في البدن و المال ، و لا يخفى ما فيه من جهة السنة و المروءة .
و منها الاستغراق في مشاهدة المنكرات ، و التعرض لملابسة النجاسات ، و أكل المحرمات و المتشابهات .
و منها : ما يُتوقَّع مَخُوفاً في هذه الإقامة ، و هو أمور أيضاً :
منها : نقض العهد من المَلك و التسلط على النفس و الأهل و الولد و المال ، و قد روي أن عمر بن عبد العزيز [ رضي الله عنه ] (5) نهى عن الإقامة بجزيرة الأندلس مع أنها كانت في ذلك الوقت رباطاً لا يُجهَل فضلُه ، و مع ما كان المسلمون عليه من القوة و الظهور و وفور العَدَد و العُدَد ، لكن مع ذلك نهى عنه خليفة الوقت المتفق على فضله و دينه و صلاحه و نصيحته لرعيته (6) ؛ خوف التغرير ، فكيف بمن ألقى نفسه و أهله و أولاده بأيديهم عند قوتهم و ظهورهم و كثرة عَدَدِهم و وفور عُدَدِهم ؛ اعتماداً على وفائهم بعهدهم في شريعتهم ؟! و نحن لا نقبل شهادتهم بالإضافة إليهم فضلاً عن قبولها بالإضافة إلينا ، و كيف نعتمد على زعمهم بالوفاء مع ما وقع من هذا التوقع ، و مع ما يشهد له من الوقائع عند من بحث و استقرأ الأخبار في معمور الأقطار .
و منها : الخوف على النفس و الأهل و الولد و المال أيضاً من شرارهم و سفهائهم و مغتاليهم ، هذا على فرض وفاء دَهَاقِينِهم (7) و مَلِكِهم ، و هذا أيضاً [ يشهد ] (8) له العادة ، و يقر بها الوقوع .
و منها : الخوف من الفتنة في الدين ، و هب أن الكبار العقلاء قد يأمنونها ، فمن يؤمن الصغار و السفهاء و ضعفة النساء إذا انتدب إليهم دهاقين الأعداء و شياطينهم ؟
__________
(1) في ( أ ) ، و ( م ) : ( لإجلاها ) .
(2) حديث صحيح رواه الترمذي : 4 / 522 ، 523 في كتاب الفتن ، باب رقم ( 67 ) ، حديث رقم ( 2204 ) ، و ابن ماجة : 2 / 384 في كتاب الفتن ، باب قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ) ، حديث رقم ( 4066 ) ، و أحمد في المسند : 16 / 628 ، حديث رقم ( 23336 ) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( لا ينبغي للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه ) . قالوا : و كيف يذلُّ نفسَه ؟ قال : ( يتعرّض من البلاء لما لا يطيقه ) .
(3) رواه البخاري : 3 / 345 في كتاب الزكاة ، باب : لا صدقة إلا عن ظهر غِنى ، حدبث رقم ( 1427 ) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه ، و رواه أيضاً : 9 / 410 في كتاب النفقات ، باب وجوب النفقة على الأهل و العيال ، حديث رقم ( 5355 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه . و رواه مسلم : 2 / 145 ، 146 في كتاب الزكاة ، باب بيان أن اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى ، حديث رقم ( 1033 ) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، و برقم ( 1402 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(4) في ( أ ) : ( الأذِيَّة ) .
(5) ما بين المعكوفتَيْن ساقط من ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) .
(6) قال ابن خلدون : ( رأى عمر بن عبد العزيز أن يخرج المسلمين منها لانقطاعهم عن قومهم وأهل دينهم ، و شاور في ذلك كبار التابعين و أشراف العرب فرأوه رأياً ، و اعتزم عليه لولا ماعاقه من المنية ) . تاريخ ابن خلدون : 7 / 250 ، و انظر : الكامل في التاريخ ، لأبي الحسن الشيباني : 5 : 120 .
(7) الدهاقين : جمع دهقان ـ بكسر الدال و ضمّها ـ و هو لفظ معرَّب يطلَق على : رئيس القرية ، أو رئيس الإقليم ، أو القادر على التصرف مع شدّةٍ خبرة ، أو من له مالٌ و عقار ، أو التاجر ، و هذه المعاني جميعاً يحتمل أن تكون مرادةً هنا .
انظُر : المصباح المنير ، ص : 77 ، و المعجم الوسيط : 1 / 310 .
(8) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : ( تشهد ) .(/39)
و منها الخوف من الفتنة على الأبضاع و الفروج ، و متى يأمن ذو زوجة أو ابنة أو قريبة وضيئة أن يعثر عليها [ وضيع من كلاب الأعداء ] (1) و [ خنازير ] (2) البُعَداء فيغرّها في نفسها ، و [ يغترها ] (3) في دينها ، و يستولي عليها و تطاوعه و يحال بينها و بين وليِّها بالارتداد و الفتنة في الدين ، كما عرض لكَنّة المعتمد بن عباد (4) ، و من لها من الأولاد ، أعاذنا الله من البلاء و شماتة الأعداء .
و منها : الخوف من سريان سيرهم و [ لباسهم و لسانهم ] (5) و عوائدهم المذمومة إلى المقيمين معهم بطول السنين ، كما عرض لأهل آبُلّة (6) و غيرهم ، و فقدوا اللسان العربي جملةً ، و إذا فقد اللسان [ العربي ] (7) جملةً فقدت متعبداته (8) ، و ناهيك من فوات المتعبدات اللفظية مع كثرتها و كثرة فضلها .
و منها : الخوف من التسلط على المال بإحداث الوظائف الثقيلة و المغارم المجحفة المؤدية إلى استغراق المال ، و إحاطة الضرائب الكفرية به في دفعة واحدة في صورة [ ضرورة ] (9) وقتية ، أو في دُفَع ، وإما استناد إلى تلفيق من العذر و التأويل لا تستطاع مراجعتهم فيه ، و لا مناظرتهم عليه ، و إن كان في غاية من الضعف ، و وضوح الوهن و الفساد ، فلا يقدم على ذلك خوفاً من أن يكون سبباً لتحريك دواعي الحقد ، و داعية لنقض العهد و التسلط على النفس و الأهل و الولد ، و هذا يشهد له الوقوع عند من بحث ، بل ربما وقع في موضع النازلة المسئول عنها و في غيره غير مرة .
__________
(1) ما بين المعكوفتَيْن مكرر في الأصل .
(2) في ( م ) : ( خنازيرهم ) .
(3) في ( أ ) : ( يغرها ) .
(4) هو المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن عبّاد بن محمد اللخمي ، صاحب اشبيليّة و قرطبة و ما حولهما ، و أحد أفراد الدهر شجاعةً و حزماً ، ولد في باجة بالأندلس سنة ( 431 هـ ) ، و ولي إشبيلية بعد وفاة أبيه سنة ( 461 هـ ) ، و استتب له الأمر ، فقصده العلماء و الشعراء و الأمراء ، و ما اجتمع بباب أحد من معاصريه ما كان يجتمع في بابه من أعيان الأدب ، و كان فصيحاً شاعراً له ديوان شعر مطبوع . أرسل إليه ملك الروم ( ألفونس السادس ) سنة ( 478 هـ ) يهدده و يدعوه إلى النزول عما في يده من الحصون ، فاستعان بيوسف بن تاشفين صاحب مراكش ، و ملوكِ الأندلس ، و التقى بمَن معهُ جيشَ ألفونس في معركة ( الزلاقة ) الشهيرة سنة ( 479 هـ ) التي أبيد فيها أكثر عساكر الروم ، و ثبت فيها المعتمد ثباتاً عظيماً ، و في سنة ( 483 هـ ) ، ثارت فتنة في قرطبة قُتِل فيها ابنه أحد بنيه ، و فتنة أخرى في إشبيلية أطفأ المعتمد نارها فخَمَدَت ثم اتَّقَدَت من جديد ( بخيانة ) و ظهر من ورائها جيش يقوده أحد قواد ابن تاشفين ، و حوصر المعتمد في إشبيلية ، و قتل اثنان من أبنائه ، و فُتَّ في عضُده فاستَسلَم سنة ( 484 هـ ) ، و أدخِل على ابن تاشفين في مراكش ، فنفاه إلى ( أغمات ) و هي بلدة صغيرة قريبة من مراكش ، عاش المعتمد سجيناص في ( أغمات ) إلى أن مات سنة ( 488 هـ ) .
أما كنته التي ذكرها الونشريسي فهي ( زايدة ) ، فرَّت إلى معسكر الروم مُرتدّةً عن الإسلام ، و تنصّرت ، و اتخذها ألفونس السادس سريّة ( زوجة غير شرعية ) له ، فأنجبت له ولده الوحيد ( سانشو ) ، و هلَكَت أثناء وضعِه ، أما ابنها فقتله المرابطون في معركة ( اقليش ) سنة ( 501 هـ ) .
انظُر ترجمَة المعتمد في : وفيات الأعيان : 5 / 21 و ما بعدها ، ترجمة رقم ( 686 ) ، و الأعلام ، للزركلي : 6 / 181 .
(5) في ( أ ) ، و ( ح ) ، و ( م ) : ( لسانهم و لباسهم ) .
(6) مدينة آبلة ( Avila ) افتتحها المسلمون سنة ( 145 هـ ) أيام عبد الرحمن الداخل ، و استمرت تحت حكمهم أكثر من مائة عام ثم سقطت في أيدي الفرنجة ، و ما لبث المسلمون أن كروا عليها فافتتحوها من جديد ، و دانت لهم ، و أسلم أهلها ، و ظلت كذلك حتى سقوطها الأخير سنة 481 للهجرة ، في يد الفرنجة ، حيث عمدوا إلى جلب النصارى إليها من كل مكان حتى صار أهلها من المسلمين أقلية ، ما لبثت أن ذابت في المجتمع الجديد ، ففقدت لغتها و كثيراً من معالم و شعائر دينها ، و تلاشت تماماً في القرن الهجري الحادي عشر .
(7) في ( أ ) ، و ( م ) : ( العربية ) .
(8) يريد هنا العبادات المؤداة بالنطق باللسان العربي من أذكار و أدعية و تلاوة للقرآن الكريم و نحو ذلك .
(9) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( م ) .(/40)
فقد ثبت بهذه المفاسد الواقعة و المتوقعة تحريم هذه الإقامة ، و حظر هذه المساكنة المنحرفة عن الاستقامة ، من جهات مختلفة متعاضدة مؤدية إلى معنى واحد ، بل قد نقل الأئمة حكم هذا الأصل إلى غيره ؛ لقوته و ظهوره في التحريم ، فقال إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه : ( إن آية الهجرة تعطي أن كل مسلم ينبغي أن يخرج من البلاد التي تُغَيَّرُ فيها السنن ، و يعمل فيها بغير الحق ) ، فضلاً عن الخروج و الفرار من بلاد الكفرة ، و بقاع الفجرة ، و معاذ الله أن تركن لأهل التثليث أمة فاضلة توحده و ترضى بالمقام بين أظهر الأنجاس الأرجاس ، وهي تعظِّمه [ و تمجِّده ] (1) .
فلا فسحة للفاضل المذكور في إقامته بالموضع المذكور للغرض المذكور ، و لا رخصة له و لا لأصحابه فيما يصيب ثيابهم و أبدانهم من النجاسات و الأخباث ؛ إذ العفو عنها مشروط بعسر التوقِّي و التحرُّز ، و لا عسر مع اختيارهم للإقامة و العمل على غير استقامة .
و الله سبحانه [ و تعالى ] (2) أعلم ، و به التوفيق .
و كتب مسلِّماً على من يقف عليه من أهل لا إله إلا الله العبد المستغفر الفقير الحقير ، الراغب في بركة من يقف عليه ، و ينتهي إليه ، عبيد الله أحمد بن يحيى بن محمد بن علي الونشريسي ، وفقه الله .
فهرس المراجع والمصادر
أحكام القرآن ، لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص ( دار الكتاب العربي ، بيروت 1406هـ/1980م ) ... 1
أحكام القرآن ، لمحمد بن عبد الله المعروف بابن العربي ، بتحقيق علي محمد البجاوي ( دار الفكر ) . ... 2
الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى ، لأحمد بن خالد الناصري ، بتحقيق جعفر الناصري محمد الناصري ( دار الكتاب ، الدار البيضاء 1955 م ) . ... 3
أسد الغابة في معرفة الصحابة ، لابن الأثير علي بن محمد . ... 4
الإصابة في تمييز الصحابة ، لأحمد بن علي حجر العسقلاني ( دار الفكر ) . ... 5
الأعلام ، لخير الدين الزركلي ( الطبعة الحادية عشرة ، دار العلم للملايين ، 1995 ) . ... 6
إكمال المعلم بفوائد مسلم ، للقاضي عياض بن موسي اليحصبي ، بتحقيق د : يحيي إسماعيل ( الطبعة الأولى ، دار الوفاء ، المنصورة 1419هـ/1998م ) . ... 7
أهم مصادر التاريخ و الترجمة في المغرب من القرن العاشر الهجري إلى النصف الأول من القرن الحالي ، لأحمد المكناسي ( المطبعة المهدية ، تطوان ، 1963 م ) . ... 8
أهمية الكتب الفقهية في دراسة تاريخ الأندلس ، نموذج تطبيقي عن كتاب المعيار المعرب للونشريسي ، للدكتور عبد الواحد ذنون طه ( بحث منشور ضمن أبحاث الحضارة الأندلسية في الزمان و المكان المعقودة في الرباط بين 16 و 18 أبريل 1992 م )
إيضاح المكنون ، لإسماعيل باشا البغدادي ، مطبوع مع كشف الظنون لحاجي خليفة . ... 9
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، لأبي بكر بن مسعود الكاساني ( الطبعة الثانية ، دار الكتب العلمية ، بيروت 1406هـ/1986 م ) ... 10
البداية والنهاية ، لإسماعيل بن عمرو بن كثير ، بتحقيق محمد عبد العزيز النجار ( الطبعة الأولى ، دار الغد العربي 1412هـ/1991م ) . ... 11
بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب مالك ، لأحمد بن محمد الصاوي ، على الشرح الصغير لأحمد بن محمد بن أحمد الدردير ( الطبعة الأخيرة ، مكتبة ومطبعة مصطفي البابي الحلبي 1372هـ/1952 م ) . ... 12
البيان و التحصيل و الشرح و التوجيه و التعليل في مسائل المستخرجة ، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد ، بتحقيق محمد حجي ، و عناية عبد الله بن إبراهيم الأنصارى ( دار الغرب الإسلامى ، بيروت 1404هـ/1984م ) . ... 13
تاج العروس من جواهر القاموس ، للسيد محمد مرتضي الزبيدي ( دار الفكر ) . ... 14
التاج والإكليل لمختصر خليل ، تأليف: محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري أبو عبد الله ( الطبعة الثانية ، دار الفكر ، بيروت 1398هـ ) .
تحبير التيسير في قراءات الأئمة العشرة ، لمحمد بن محمد الجزري ، بتحقيق محمد الصادق قمحاوي و عبد الفتاح القاضي ( الطبعة الأولى ، دار الوعي ، حلب 1392هـ/1972م ) . ... 15
تفسير القرآن العظيم ، لإسماعيل بن عمر بن كثير ، بتحقيق حسين بن إبراهيم زهران ( دار إحياء الكتب العربية ) . ... 16
تهذيب التهذيب ، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ( الطبعة الأولى ، دار الفكر ، بيروت 1404هـ/1984 م ) . ... 17
الجامع الصحيح ( سنن الترمذي ) ، لأبي عيسي الترمذي ، بتحقيق أحمد شاكر و آخرين ( دار الحديث ) . ... 18
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي . ... 19
الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب ، لابن فرحون المالكي ، بتحقيق د : محمد الأحمدي أبو النور ( دار التراث ) . ... 20
روضة الطالبين و عمدة المفتين ، لمحيي الدين يحيي بن شرف النووي ، إشراف زهير الشاويش ( الطبعة الثانية ، المكتب الإسلامى بيروت 1405هـ/1985 م ) . ... 21
__________
(1) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( أ ) .
(2) ما بين المعكوفتَيْن ساقط مِن ( أ ) .(/41)
رياض النفوس في طبقات علماء القيروان و إفريقية و زهاوهم و عبادهم و نساكهم ، لأبي محمد بن عبد الله المالكي ، بتحقيق حسين مؤنس ( مكتبة النهضة المصرية ) . ... 22
سنن أبي داود لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ( المكتبة العصرية ، بيروت ) . ... 23
سنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد القزويني ، بتحقيق محمد مصطفي الأعظمي ( الطبعة الثانية ، شركة الطباعة العربية السعودية 1404هـ/1986 م ) . ... 24
سنن النسائي بشرح جلال الدين السيوطي و حاشية السندي ، بتحقيق عبد الفتاح أبو غدة ( الطبعة الأولى ، دار البشائر الاسلامية ، بيروت 1406هـ/ 1986 م ) . ... 25
شرح السنة ، للحسين بن مسعود البغوي ، بتحقيق سعيد اللحام ( دار الفكر ، بيروت 1414هـ/1994 م ) . ... 26
الصحاح ( تاج اللغة و صحاح العربية ) ، لإسماعيل بن حماد الجوهري ، بتحقيق أحمد عبد الغفور ( الطبعة الثانية ، طبع علي نفقة السيد حسن عباس الشربتلي 1402هـ/ 1982 م ) . ... 27
صحيح البخاري ، مع فتح الباري لابن حجر . ... 28
صحيح مسلم لمسلم بن الحجاج ، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، و عناية د. مصطفي الذهبي ( الطبعة الأولى ، دار الحديث 1418هـ/ 1997 م ) . ... 29
الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ، لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي ( الطبعة الأولى ، دار الجيل ، بيروت 1412هـ/1992 م ) . ... 30
طبقات الشافعية الكبرى ، لعبد الوهاب بن علي السبكي ، بتحقيق عبد الفتاح محمد الحلو و د. محمود محمد الطناحي ( الطبعة الثانية ، دار هجر 1413هـ/ 1992 م ) . ... 31
عارضة الأحوذي لشرح صحيح الترمذي ، لمحمد بن عبد الله المعروف بابن العربي . ... 32
فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي و آخرين ( الطبعة الأولى ، دار الريان للتراث 1407هـ/ 1986 م ) . ... 33
قضايا ثقافية من تاريخ الغرب الإسلامي ، الدكتور عبد المجيد زكي ( دار الغرب الإسلامي ، بيروت ) .
كشاف اصطلاحات الفنون و العلوم ، لمحمد بن علي التهانوي ، بتحقيق د. رفيق العجم وآخرين ( الطبعة الأولى ، مكتبة لبنان ، بيروت 1996 م ) . ... 34
كشف الظنون عن أسامي الكتب و الفنون لمصطفي بن عبد الله القسطنطني المعروف بحاجي خليفة ( دار الفكر 1412هـ/ 1991 م ) . ... 35
المدونة الكبري لمالك بن أنس رواية سحنون عن أبى القاسم ، بتحقيق السيد علي ابن السيد عبد الرحمن الهاشم ( طبع علي نفقة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان 1422هـ ) . ... 36
المستخرجة ، لمحمد بن أحمد العتبي ، ضمن كتاب البيان والتحصيل لأبي الوليد ابن رشد . ... 37
المسند ، لأحمد بن حنبل ، بشرح أحمد محمد شاكر و حمزة الزين ( الطبعة الأولى ، دار الحديث 1416هـ/1995 ) . ... 38
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ، لأحمد بن محمد الفيومي ( مكتبة لبنان ، بيروت 1987م ) . ... 39
معالم السنن ( شرح سنن أبى داود ) لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي ( الطبعة الثانية ، المكتبة العلمية ، بيروت 1401هـ /1981 م ) . ... 40
معجم المطبوعات العربية و المعربة ، ليوسف إليان سركيس ( مكتبة الثقافة الدينية ) . ... 41
المعجم الوسيط ، لمجمع اللغة العربية بالقاهرة (الطبعة الثالثة 1405هـ /1985 م ) . ... 42
المعيار المعرب و الجامع المغرب عن فتاوي أهل أفريقية و الأندلس و المغرب لأحمد بن يحي الونشريسي ، إشراف د . محمد حجي ( وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية للمملكة المغربية 1401هـ/1981 م ) . ... 43
المعلم بفوائد مسلم ، لمحمد بن علي المازري ، بتحقيق محمد الشاذلي النيفر( الطبعة الثانية ، الدار التونسية ، تونس 1988 م ) . ... 44
المقدمات الممهدات ، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد ، بتحقيق محمد حجي ( الطبعة الأولى ، دار الغرب الإسلامى ، بيروت 1408هـ/1988 م ) . ... 45
الموطأ، لمالك بن أنس ، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ( دار إحياء الكتب العربية ) . ... 46
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، لأحمد بن محمد المقري ، بتحقيق د. إحسان عباس ( دار صادر ، بيروت ) . ... 47
النهاية في غريب الحديث ، لابن الأثير المبارك بن محمد الجزري ، بتحقيق طاهر أحمد الزاوي و محمود محمد الطناحي ( المكتبة العلمية بيروت ) . ... 48
الهداية شرح بداية المبتدي ، لعلي بن أبى بكر المرغيناني ، بتحقيق محمد تامر و حافظ عاشور ( الطبعة الأولى ، دار السلام 1420هـ/2000 م ) . ... 49
هدية العارفين ، لإسماعيل باشا البغدادي ، مطبوع مع كشف الظنون . ... 50
وفيات الأعيان و أنباء أبناء زمان ، لأحمد بن محمد بن أبى بكر بن خلكان ، بتحقيق د. إحسان عباس ( دار الثقافة ، بيروت ) . ... 51(/42)
أسواق العطاء
أحمد جمال الحموي
عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام
من كرم الله سبحانه أنه منحنا أوقاتاً، وهيأ لنا مناسبات أعطانا فيها ما لا يعطي في غيرها – وهو الذي لا ينقطع عطاؤه ولا تغيض رحمته ونفحاته – وأتاح فيها سبحانه ما لا يتاح في غيرها. وهي مناسبات من محض الجود، ومن بحر الكرم الممدود. لم نستحقها بشيء قدمناه، فليس لأحد عنده سبحانه أو عليه حق بل هو المتفضل على الدوام. ومن ذا الذي يمكن أن يكون له حق على الملك المعبود الفرد الصمد المقصود..
وهي مناسبات كثيرة، من فاته واحدة منها، جاءته الأخرى تسعى ليتدارك ما فاته ويعوض ما ضاع منه. إنها مناسبات لنفحات المغفرة وتصحيح العلاقة معه سبحانه، وأسواقٌ ومحطات للتزود السهل، وشحن القلب بالمدد النوراني الذي يعين على الإبصار، ويمنح المرء قوة على السير في طريق السعادة الأبدية التي لا يشقى من فاز بها. وذلك هو الفوز الكبير. ومن هذه المناسبات العظيمة عشر ذي الحجة، ويوم عرفة، والحج.
1-
أما تصحيح العلاقة مع الكريم الرحيم سبحانه فهو أمر في متناول الناس كل الناس على الدوام، وبابه مفتوح لا يغلق إلا بطلوع الشمس من مغربها، أو عند الغرغرة. والصلح معه دوماً ميسور لمن يسره الله عليه، وهو دائماً سبحانه أكرم وأرحم فمن تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة. ولا مسافة ثمة ولا مشي، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. لكن تجليات هذه المناسبات، ونفحات هذه الأوقات وأنوارها، تبلغ حداً من الإشراق يكشف الطريق للسارين، ويزيح الغشاوة عن الأبصار، فتظهر المعالم والحدود واضحة لا يزيغ عنها إلا هالك، فيسهل على الشارد الضال أن يتوب ويؤوب. فها هو السبيل ممهد مستبين والأبواب مفتوحة واسعة تستوعب حشود الراجعين المنيبين مهما كثروا تسوقهم إلى حظيرة الرضا وتأخذ بهم إلى روضات القرب وأفياء المحبة والأنس. إنها مناسبات للصلح وتصحيح العلاقة مع رب كريم يعلن في كتابه العظيم:
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } .
2-
وهذه المناسبات من بحار السخاء وفيض العطاء الذي لا يحده حد، ولا يستوعبه مقدار، هي فرصة يتزود فيها المؤمن لسفر طويل مديد، ورحلة بعيدة لا رجعة منها. وفي هذه الفرصة، يكاد الزاد يصل إليك قبل أن تصل إليه، وتعجب حينما يغدو بسرعة عجيبة بين يديك، وكأنه يسعى نحوك سعياً ويحرص على أن يدركك قبل أن تدركه.
زد على ذلك أن مقدار الزاد الذي كان يتطلب بذل الأموال وعمل الأيام وسهر الليالي في مشقة ونصب، يأتيك أضعافه بعمل يسير، إن الثمن الذي كنت تبذله لتنال شيئاً من الأجر والثواب في الأوقات الأخرى، لو بذلت مثله في هذه المناسبات لحظيت بأضعاف ذلك الأجر، وبالقناطير المقنطرة من الثواب، لعظيم بركة هذه الأوقات ونثر العطايا نثراً في هذه المناسبات واستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتاز بيانه العذب العصور ويقطع الفيافي ليصل إلينا مبيناً هذا المعنى. فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ما من أيام أفضل عند الله ولا العمل فيهن أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام – يعني أيام العشر- فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير وذكر الله، وإن صيام يوم فيه يُعْدَلُ بصيام سنة، والعمل فيهن يضاعف بسبعمائة ضعف).
كلام لا لبس فيه.. العمل فيهن يضاعف بسبعمائة ضعف، فأي ربح يتخلى عنه الغافل وأي خسارة تحيق بالمعرض ويا فوز المقبل العامل المتملق الذي يجمع الزاد، وخير الزاد التقوى، ويستعد للسفر الطويل.
3 - أما شحن القلب بالأنوار في هذه المناسبات العطرة فحدث عنه ولا حرج، لكأن شلالات النور وشآبيب الرحمة تنصب انصباباً وتنهمر انهماراً تروي الأرواح وتغمرها بفيضها الحلو المستعذب، والسعيد السعيد من كان يقظاً منتبهاً يغسل القلب من الران ويشحنه بالنور والعرفان.
إن للسيارة مدخرة يمدها المولد بالطاقة فإذا توقف المولد عن شحنها وإمدادها لم تستطع أن تقوم بعملها وعجزت عن أداء واجباتها.
وإن القلوب لتصدأ، وإن القلوب ليصيبها ما يصيب المدخرة من فراغ ونضوب يستدعي تداركها بنور الأعمال الصالحات، ومدد الخيرات والطاعات والمبرات، ليقود القلب المسيطر رعيته إلى الكمالات ويسير بها في طريق السعادة والنجاة.
وأية أويقات أعظم لشحن القلب من هذه الأويقات. أويقات عشر ذي الحجة وساعاته المباركة، وأويقات يوم عرفة وأيام الحج المعلومات.(/1)
4 - وهذه المناسبات علامة على كل ما مر من محطات للتجدد والتجديد، فالإنسان يبلى أو يخلق، ويود لو عاد جديداً مثلما كان في أول عهده عندما باشر الحياة، وعاين الدنيا ويتمنى لو ألقى أثقاله وتخفف من أحماله فتأتي مناسبات النفحات الإلهية وأسواق التجارة الربانية تمنح المرء الفرصة لتحقيق الرغبات والأماني العذاب فيجدد المرء فيها ذاته ويبدأ حياته غضاً طرياً، خفيفاً نشيطاً كأنما برز إلى الدنيا الساعة. قال صلى الله عليه وسلم:
(من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
وهنيئاً لمن يقتنص هذه الفرصة السخية الندية من الرب العظيم الكريم.
وإليك أخي المسلم مجموعة من النصوص المباركة التي بينت فضل العشر ويوم عرفة والحج، لنعرف عظيم فضل الله علينا فيها، ونبادر إلى التسوق من أسواق الجود في هذه الأيام المباركات قال تعالى:
{ والفجر وليال عشر والشفع والوتر } .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام – يعني أيام العشر - قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل –وفي رواية إلا رجلاً- خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء" رواه البخاري وغيره.
وفي رواية الطبراني:
"ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير".
أرأيت إلى مقدار الثواب وعظمته؟ إنه يعدل الجهاد إلا أن يجود الإنسان بنفسه وماله. ويالها من فرصة لنا وقد حيل بيننا وبين الجهاد وسُدّتْ أمامنا منافذه وسبله، لنغنم أجره من غير أن نخوض غماره، ونلج بحاره. فهل ترانا نغتنم الفرصة أم نغفل عنها ثم نندم عليها.
وقد رأيتَ أنّ رواية الطبراني ذكرتْ ألواناً من الطاعات والعمل الصالح. لكن العمل الصالح أوسع من ذلك وأكثر، والمذكور في رواية الطبراني السابقة بعضه. فصلاة النافلة وصيام التطوع وقراءة القرآن والصدقات وصلة الأرحام وزيارة الأقارب وعيادة المرضى ومساعدة المحتاجين والفقراء والذكر بصيغه المختلفة كل ذلك من العمل الصالح.
وهذا التنوع يمكّن المسلمَ من الفوز ببعضه إن لم يكن به كله. فلئن حالتْ ظروف المسلم دون نوع من الطاعات، استطاع أن يقوم بغيره، وأن يتناول ما يقدر عليه من أنواعه وألوانه الكثيرة.
أما يوم عرفة فذلك يوم له شأن آخر، إنه من أيام الله المشهودة، فما رؤي الشيطان في يوم أذل ولا أخزى منه في يوم عرفة – إلا ما كان يوم بدر- وذلك لعظيم عفو الله تعالى ومغفرته لعباده من كانوا على عرفات ومن لم يكونوا عليها من المؤمنين المقبلين عليه الواقفين ببابه الملازمين لأعتابه الراجين رحمته وثوابه.
وهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أجر صوم يوم عرفة لغير الحاج، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة فقال: يكفر السنة الماضية والباقية. رواه مسلم وغيره. ولفظ الترمذي "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله" وفي هذا المعنى أحاديث شريفة كثيرة تحرض على صيامه وتبين ثوابه فلننو صيامه قبل مجيئه سائلين المولى أن يعيننا على ذلك وعلى كل خير وطاعة.
أما الحج فحسبك من شأنه الحديث المشهور الذي سبق ذكره عنه صلى الله عليه وسلم:
"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
فهل وضح السنا، وبان للعيان سهولة الصلح وتصحيح العلاقة ويسر التزود والشحن وكثرة الأجر على العمل في هذه المناسبات المباركات وأسواق الآخرة العامرة؟
فإلى العمل أيها الأحبة وخالف النفس والشيطان واعصهما أيها المسلم فيما يدعوان إليه من راحة وكسل يجران الخسران والندم يوم لا ينفع الندم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين(/2)
أشجان الموت وأشواق الشهادة
د. محمد عمر دولة*
مقدّمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد،
[أ] فما أحوجَنا إلى تذكّر (الموت)، ودراسة (فقهه) في كلّ حين؛ لاسيما في هذه الأيام التي صار فيها اليهود والنصارى يتهدّدوننا به! متبجِّحين بقوّة العتاد، وأصبحوا يتجرّؤون على مهاجمة ديار المسلمين بعد أن كانوا يفرّون في عُقر ديارهم من جيوش المسلمين، كما كان يوم خيبر حيث ولّوا مدبرين وهم يصيحون: (محمد والخميس)![1] فليت شعري ما الذي يغيّر الرّجال ويبدّل الأحوال؟ (إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم)![2]
[ب] ولقد كان لأولي الألباب عبرةٌ في تاريخنا الحديث في تواطؤ دول الكفر في وعد بلفور (1917م) وفي احتلال اليهود لفلسطين (سنة 1948م)؛ وفي مجازر (صبرا وشاتيلا) و(البوسنة) وغيرهما. كما كان للأمة في القديم عِبَرٌ في تاريخ (الحروب الصليبية) لاسيما حرب التتار التي قُتِل فيها نحو المليونَيْن من المسلمين!
[ت] ولعلّ ما حصل في هذه الأيّام من احتلال بغداد ـ دار السلام ـ يؤكّد من جديد أحقاد الصليبيّين على يد أحفادهم المجرمين؛ متواطئين هذه المرّة مع اليهود أحفاد القردة والخنازير عليهم من الله ما يستحقون.
[ث] ولا ريبَ أنّ في تذكّر (معاني الموت) ما يحثّ أهل الإسلام على الثبات والجهاد وطلب الشهادة كما قال الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلّكم تفلحون).[3]
[ج] ولعلّ هذا الفقه للموت والحياة عند المجاهدين؛ من أعظم أسباب البشارة النبويّة لهم: بلزوم الحق والظهور على الأعداء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)، وفي رواية: (قائمة بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس).[4]
1) الموت عند الكفار:
[أ] إنّ أعداءنا ـ وإن كانوا يسفكون دماء المسلمين، ويقتّلون المستضعفين في كلّ مكان ـ من أشدّ الناس كراهيةً للموت، كما تحدّاهم الله تعالى بقوله: (قل إن كانت لكم الدارُ الآخرةُ عند الله خالصةً من دون الناس فتمنّوا الموتَ إن كنتم صادقين ولن يتمنّوه أبداً بما قدّمتْ أيديهم والله عليمٌ بالظالمين)![5]
[ب] وأما المسلمون فإنّ بواعثَ الإيمانِ فيهم تشوِّقهم إلى الجنّة؛ فيرجون ما عند الله، كما قال الله تبارك وتعالى: (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة)،[6] وقال عزّ وجلّ: (ولا تَهِنوا في ابتغاءِ القومِ إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون)![7]
[ت] وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث (من أحبّ لقاءَ الله أحبَّ اللهُ لقاءَه، ومن كَرِهَ لقاءَ الله كَرِهَ اللهُ لقاءَه) أنّ (المؤمن إذا بُشِّر برحمةِ الله ورضوانِه وجنّتِه؛ أحبّ لقاءَ الله وأحبّ اللهُ لقاءه، وإنّ الكافر إذا بُشِّر بعذابِ الله وسخطِه؛ كره لقاءَ الله وكَرَهَ اللهُ لقاءه)![8]
2) الموت عند المؤمن:
[أ] إنّ المؤمن يحرص على الموت في سبيل الله؛ لما يعلمه من كرامة الشهداء؛ فتراه إذا نال الشهادة هتف: (فُزْتُ وربِّ الكعبة)![9]
[ب] وقد قصّ علينا القرآن في شأنِ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم قصصاً عظيمةً، وأثنى على (الذين إذا ما أتوك لتحملَهم قلتَ لا أجد ما أحملُكم عليه تولّوا وأعينهم تفيض من الدّمع حَزَناً أن لا يجدوا ما يُنفقون)![10]
[ت] وقد أخرج البخاري في (كتاب الجهاد) باب(تمنّي الشهادة) حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لوددتُ أنّي أُقتَل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أُقتَل، ثم أحيا، ثم أُقتَل، ثم أحيا، ثم أُقتَل)!
[ث] فمن حماقة أولئك الأعداء الأشقياء أنهم يهدّدون المسلمين بأحبّ الأشياء،كما قال الله تعالى: (قُلْ هل تَرَبَّصُون بنا إلا إحْدَى الحُسْنَيَيْن)![11] فالمسلم قد باع روحَه خالصةً لله،كما قال الله عزّ وجلّ: (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالهَم بأنّ لهم الجنّة يُقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتَلون وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهدِهِ من اللهِ فاستبشِروا بِبَيْعِكُم الذي بايعتم به وذلك هو الفوزُ العظيم).[12]
[ج] فشعارُ المسلمِ قولُ خُبيب بن عديّ:
ولستُ أبالي حين أُقتَلُ مسلماً
على أيّ شِقٍّ كان في الله مصرعي!
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإن يشأْ
يُبارِكْ على أوصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ![13]
3) ارتباط الموت بعقائد الأمم:
[أ] وأما أعداء هذه الأمة من اليهود والصليبيّين قاتلهم الله؛ فإنهم من أشدّ الأممِ حرصاً على هذه الحياة (الدنيا)؛ لأنهم كما قال ربُّنا عزّ وجلّ: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون)![14](/1)
[ب] وقد فضح الله تعالى عقولَهم الكَلِيلَة وأنفسَهم العَلِيلَة وأمانيَّهم الهزيلة، فقال جلّ جلاله: (ولتجدنَّهم أحرصَ الناسِ على حياةٍ ومن الذين أشركوا يودُّ أحدُهم لَوْ يُعمَّر ألفَ سنةٍ)؛[15] وما ذاك إلا لضحالةِ عُقولهِم وضآلةِ عُلومِهم؛ كما قال عزّ وجلّ: (قلْ إن كانت لكم الدارُ الآخرةُ عند اللهِ خالصةً من دون الناسِ فتمنَّوا الموتَِ إن كنتم صادقين ولن يتمنَّوهُ أبداً بما قدّمتْ أيديهم واللهُ عليمٌ بالظالمين)![16]
[ت] فإذا كان الموتُ في سبيل الله نِعْمةً ومِنْحةً لنا نحن المسلمين؛ فإنّه نِقْمَةٌ ومِحْنةٌ على الكفار والمشركين؛ ولذلك تجد اليهود والنصارى من أشدّ الناس جُبْناً وخَوَراً وخوفاً من ملاقاة المجاهدين من المسلمين خاصّةً ومن أسباب المنايا عامّةً ـ بالرغم من تفوّقهم المادّي ـ كما حكى القرآن ذلك في قول الله تعالى: (لأنتم أشدّ رهبةً في صدورهم من الله ذلك بأنهم قومٌ لا يفقهون لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قُرًى محصَّنةٍ أو من وراء جُدُر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون)![17]
[ث] ولعلّ ما يعيشه أعداؤنا هذه الأيامَ من رُعبٍ مُستمرٍّ وعذابٍ مُستقِرّ خيرُ دليلٍ على فِقدان الكُفّار للأمن؛ لأنّ (الأمن) ليس من صناعة الطائرات والأساطيل الجرّارة؛ ولكنه من صِياغة الإيمانِ وصِناعة القلوبِ الجبّارة، كما جاء في حديث هرقل مع أبي سفيان: (وسألتك: أيرتدُّ أحدٌ منهم سَخْطَةً لدينه؟ فذكرتَ أن لا؛ وكذلك الإيمانُ حين تُخَالِطُ بشاشتُه القلوب)![18] وما أحلى ما ورد من صفة المؤمن في حديث حلاوة الإيمان ـ عند الشيخين ـ (أن يكرهَ أن يعودَ في الكفر كما يكرهُ أن يُقذفَ في النار)![19]
[ج] وقد عبّر عن ذلك أحسنَ التعبير إمامُ الحنيفيّةِ إبراهيم عليه السلام بقوله: (وكيف أخافُ ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزّلْ به عليكم سُلْطاناً فأيُّ الفريقين أحقُّ بالأمن إن كنتم تعلمون. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهَم بظلمٍ أولئك لهم الأمنُ وهم مهتدون).[20]
4) حقيقة الموت:
[أ] إنّ الموت حقيقةٌ عظمى يعتقدها المسلم؛ فهو يؤمن بها كما يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله؛ فالموت هو القنطرة إلى عالم البرزخ؛ حيث يعقبه البعثُ والنشورُ، والجنّة والنّار! كما قال القحطاني رحمه الله:
وحياتُنا في القبرِ بعد مماتِنا حقّاً ويسألنا بها الملَكانِ!
والقبرُ صحَّ نعيمُهُ وعذابُهُ وكلاهُما للناسِ مُدَّخَرانِ!
والبعثُ بعد الموتِ وعدٌ صادقٌ بإعادةِ الأرواحِ في الأبدانِ!
وصراطُنا حقٌّ وحوضُ نبيِّنا صدقٌ له عددُ النجومِ أواني!
يومُ القيامةِ لو علِمتَ بهَوْلِهِ لفررتَ من أهلٍ ومن أوطانِ![21]
[ب] بل إنّ شعراء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام كانوا يلهجون بذكر حتميّة الموت! كما قال أُمَيّة بن أبي الصلت: وقد عَلِمْنَا لَوَ أنّ العلمَ ينفعنا
أن سوف يُتبع أولانا بأخرانا!
وقال لبيد:
وكلُّ نفسٍ سوفَ تدخلُ بيتَهم
دُوَيْهِيَةٌ تَصَْفرُّ منها الأنامِلُ!
وقال قسُّ بن ساعدة:
في الذاهبين الأوّلين
من القُرونِ لنا بَصائرْ!
لما رأيتُ موارداً
للموتِ ليس لها مصادرْ!
ورأيتُ قومي نحوها
يمضي الأصاغرُ والأكابرْ!
أيقنتُ أنّي لا محالةَ
حيث صارَ القومُ صائِرْ!
وقال زهيرُ بن أبي سلمى:
ومن هاب أسبابَ المنايا ينَلْنَهُ
وإن يَرْقَ أسبابَ السماءِ بسُلّمِ!
وقال كعبُ بن زهير:
كلُّ ابنِ أُنثى وإن طالتْ سلامتُهُ
يوماً على آلةٍ حدباءَ مَحْمُولُ!
5) الموت ووجود الخالق:
[أ] والموت ـ لعمري ـ دليلٌ على وجود الخالق سبحانه؛ إذ إنّ البقاء لله وحده، وللخلق الفناء؛ كما قال جل جلاله: (يا أيها الناسُ أنتم الفقراءُ إلى الله واللهُ هو الغنيُّ الحميد إن يشأْ يُذهبْكم ويأْتِ بخلقٍ جديدٍ وما ذلك على الله بعزيز).[22]
[ب] وذلك من أسرارِ المقارنةِ القرآنيّة البديعة بين الخالق والمخلوق؛ حيث انتفى الشبهُ بقول الله عزّ وجلّ: (أفَمَن يخلقُ كمن لا يَخْلُقُ أفلا تذكَّرون)! ومن معاني المقابلة في كتاب الله تعالى بين بقاء الخالق وفناء المخلوق: (كلُّ مَنْ عليها فانٍ ويبقى وجهُ ربّك ذو الجلال والإكرام).[23] [ت] فكلُّ أحدٍ ـ بعد ذلك ـ يعلم الجواب عن قوله تعالى: (أمْ خُلِقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون)![24]
6) الموت ومعرفة الله:
[أ] لا ريب أنّ التفكُّرَ في الموت يبعث في النفسِ المعرفةَ بالله(الحيِّ الذي لا يموت)[25]: الذي خلَق الخلْق، وقدّر الأجل والرِّزْقَ، وأحاط بخفايا الأقوالِ ودقائقِ الأعمال!(/2)
[ب] ولا شكّ أنّ في استرجاعِ العبدِ عند المصيبةِ وحُلولِ الموت؛ علامةً على الإيمان والهداية وشهادةً بالعبودية لله، ويقيناً بالبعث والنشور! كما قال الله عزّ وجلّ: (وبشِّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون)![26]
[ت] ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة التي مرّ بها وهي تبكي على صبيٍّ لها: (اتّقي الله واصبري. فقالت: إليك عنّي؛ فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي ـ ولم تعرفْه ـ فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأتتْ باب النبي صلى الله عليه وسلم فقالتْ: لم أعرفْك؛ فقال: إنّما الصبرُ عند الصّدمة الأولى!)؛ دلالةً على أنّ الصّبرَ قائمٌ على معرفةٍ بالله سبحانه وإيمانٍ بقدرِه ويقينٍ بما عنده، ووعيٍ عند الصّدمة الأولى بفقه الابتلاء وإدراكِ معاني الموت والحياة!
[ث] ولله درّ من قال:
إذا مات ابنُها صرختْ بجهلٍ
وماذا تستفيدُ من الصّراخِ؟
ستتبعه كعطفِ (الفاءِ) ليستْ
بِمَهْلٍ أو كـ(ثُمّ) على التراخِي!
[ج] وقد قَرَنَ يعقوبُ عليه السلام ـ بتمامِ علمِه وكمالِ فهمِه ـ بين الصّبرِ على البلاء والاستعانة بفاطر الأرض والسماء في قوله عليه السلام: (فصبرٌ جميلٌ والله المستعانُ على ما تصِفون)![27]
[ح] وكأنّي بعمر الفاروق رضي الله عنه أدرك هذا المعنى الجليل ـ بعلمه الوفير وقلبه الكبير ـ فبكى! كما روى البخاري في (كتاب الأذان) (باب إذا بكى الإمام في الصلاة): (قال عبد الله بن شدّاد: سمعتُ نَشِيجَ عُمَرَ وأنا في آخر الصُّفُوفِ يقرأ: (إنما أشكو بثّي وحُزْنِي إلى الله وأعلمُ مِنَ اللهِ ما لا تعلمون)[28])![29]
7) الموت والتوكُّل:
[أ] ومن فقه تذكُّر الموتِ أن نُحيىَ التوكُّلَ على الله في قلوبنا؛ وهذا من روائع إشارات الكتاب العزيز في قول الله تعالى: (فتوكَّلْ على الحيّ الذي لا يموت)![30]
[ب] وإنّ من تمام المعرفة أن نجدّد الإقرار بالعبوديّة لله ربّ العالمين الذي (يُخرج الحيّ من الميّت ويُخرج الميّت من الحيّ ويُحيي الأرض بعد موتها وكذلك تُخرَجون)؛[31] (وأنّه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزّوجَيْن الذكرَ والأنثى مِن نطفةٍ إذا تُمنى وأنّ عليه النشأةَ الأخرى)![32]
[ت] وقد كان من حَنِيفِيَّةِ أبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم ما حكاه القرآن من قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنّهم عدوٌّ لي إلا ربَّ العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يُطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يُميتني ثم يُحيين)![33]
[ث] وهذا المعنى ظاهرٌ في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: اللّهمّ باسمك أحيا وأموت! وإذا أصبح قال: الحمدُ لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النُّشور)! وقد أخرجه الإمامُ البخاري بشفوف نظره في (الدّعوات) و(التوحيد)؛[34] كأنما يُشير إلى هذه المعاني رحمه الله تعالى!
[ج] فالله ـ جلّ جلالُه ـ (الذي خلق الموتَ والحياة)[35] هو الذي يستحقُّ أن يُعْلَى ويُعبَد، ويُعظَّمَ ويُمجَّد! كما ورد بذلك العتابُ القرآنيُّ: (واتخذوا من دونه آلهةً لا يَخْلُقون شيئاً وهم يُخْلَقون ولا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً)![36]
8) الموتُ والقدر:
[أ] إنّ ذكرَ الموت يبعث في النفس اليقينَ بالقدر والصَّبرَ على مقارعة الخطوب؛ مصداقاً لقول الله عزّ وجلّ: (قل إنّ الموت الذي تفرّون منه فإنه مُلاقيكم ثم تُردُّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون)،[37] وقوله جل جلالُه: (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة)![38]
[ب] وليتَ شِعْرِي هل كان شموخُ الإيمان بأهله إلا بالنظر إلى هذه المعاني ؟! كما قال الله عزّ وجلّ: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إلا إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ)؟! وقال السحرة بعد أن صاروا من البررة: (فاقْضِ ما أنتَ قاضٍ إنما تقضي هذه الحياةَ الدنيا)!
[ت] وفي قصة الغلامِ والرّاهبِ وأصحابِ الأخدودِ آيةٌ بيِّنةٌ في تحمُّلِ النارِ والقُروحِ، ونصرِ القضيّة ببذل الرُّوح، وفي حديث حلاوة الإيمان: (أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار) عبرةٌ لأولي الأبصار!
[ث] ورحم الله البخاري حيث في ترجم في (كتاب الدعوات): (باب الدعاء بالموت والحياة) أورد فيه حديث أنس: (لا يتمنَّيَنَّ أحدُكم الموتَ لضُرٍّ نزل به؛ فإن كان لا بدّ متمنِّياً للموت فلْيقلْ: اللهمّ أحْيِنِي ما كانت الحياةُ خيراً لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيراً لي).[39]
[ج] وقد كان العارفون الحكماء يَتَسَلَّوْن في مصائبهم بشيءٍ من أشعار الرثاء، التي لم يَعُدْ لها في حياتنا ـ لأجل غُرْبتِنا عن اللغة العربيّة! ـ وظيفةٌ تربويّةٌ: كقول أبي ذؤيب الهذلي في مرثيّته السائرة:
أَمِنَ المَنُونِ ورَيْبِها تتوجّعُ
والدهرُ ليس بِمُعْتِبٍ مَن يجزعُ؟!(/3)
وقولِ التهامي بِحِكْمَتِهِ النّادرة:
حُكُمُ المنيّةِ في البريّةِ جاري ما هذه الدنيا بذاتِ قَرارِ!
بَيْنَا يُرى الإنسانُ فيها مُخبِراً حتى يُرى خبراً من الأخبارِ
طُبِعتْ على كَدَرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدارِ!
وإذا رجوت المستحيلَ فإنما تبني الرَّجاء على شفيرٍ هارِ!
9) اليقين بالموت:
ولا عجباً؛ فالمسلم يعلم أنّ الله تعالى قد سمّى الموت يقيناً، فقال عزّ وجل: (واعبدْ ربَّك حتى يأتيك اليقين)،[40] ويَعي قولَ الله تعالى: (كلُّ نفسٍ ذائقة الموت).[41] ويُدرك ما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه من اقتران الموت بحياة ابن آدم وهو بعدُ في بطن أُمّه لم تمسَّ قدماه الأرض! (فيُكتب رزقُهُ وعملُهُ وأجلُهُ وشقيٌّ أو سعيدٌ)؛[42] وكأنما تمثّل أبو العتاهية هذه المعاني حين قال:
خُلِقْنا للحياةِ وللمماتِ! ومن هذين كلُّ الحادثاتِ!
ومهدُ المرء في أيدي الرَّواقي كنعش المرء بين النائحاتِ!
وما سَلِمَ الوليدُ من اشتكاءٍ فهل يخلو المُعمَّرُ من أذاةِ؟
10) الغفلة عن الموت
[أ] ولكنّ الغفلة تطغى على قلبِ الإنسان؛ فتهوي به في منازل النسيان، كما قال الله تبارك وتعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).[43] وقال القرطبي رحمه الله: "إنّ من ذَكَر الموتَ حقيقةَ ذكرِهِ؛ نغّص عليه لذّتَه الحاضرة، ومنعه من تمنِّيها في المستقبل، وزهّده فيما كان منها يؤمِّل؛ ولكنّ النفوسَ الرّاكدة والقلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوُعّاظ وتزويق الألفاظ"![44]
[ب] وبمعاني (الغفلة) عن (الحق)، و(كشف الغطاء)، و(عدم التذكّر)؛ يجيء التعبير القرآني مصوِّراً موقف الناس من الموت! (وجاءت سكرةُ الموت بالحق ذلك ما كنتَ منه تحيد ونُفِخ في الصُّورِذلك يومُ الوعيدِ وجاءت كلُّ نفسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ لقد كنتَ في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد).[45] وقال تعالى: (أَوَلمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يتذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النذير)![46]
[ت] وقد قال الشعراء في هذا المعنى ما شاء الله أن يقولوا، فأنشد عمران بن حطان:
حتى متى تُسقى النفوسُ بكأسها
ريبَ المنونِ وأنتَ لاهٍ تلعبُ!
وقال محمد الحميري:
نُراعُ لذكرِ الموتِ ساعةَ ذكرِهِ
وتعترض الدنيا فنلهو ونلعبُ!
[ث] وما أصدقَ ما قال زين العابدين رضي الله عنه:
نُراعُ إذا الجنائزُ واجهَتْنا ونَلْهُو حين تغدو رائحاتِ!
كروعة ثُلّةٍ لمغار ذئبٍ فلما غاب عادتْ راتعاتِ!
[ج] وما أحسنَ قولَ الشاعر يرثي أخاه:
عَجَباً يا عمرو من غَفْلَتِنا! والمنايا مُقبِلاتٌ عَنَقا!
قاصداتٌ نحونا مسرعةٌ يتخلّلْنَ إلينا الطُّرُقا!
فإذا أذكرُ فِقدانَ أخي أتقلّبُ في فراشي أَرَقا!
وأخي أيُّ أخٍ مثلُ أخي قد جرى في كلّ خيرٍ سَبَقا![47]
11) اقتراب الموت:
[أ] إنّ المؤمن يَعِي أنّ المنيّة، وإن كانت غائبةً عنه؛ فإنها قريبةٌ منه، كما قال ربُّ العالمين: (وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً وما تدري نفسٌ بأيّ أرضٍ تموت)![48]
[ب] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود الذي ترجم به البخاري في كتاب الرقاق: (الجنةُ أقربُ إلى أحدِكم من شِراك نَعْلِه، والنارُ مثل ذلك)! وأنشد الصِّدِّيقُ رضي الله عنه :
كلُّ امريءٍ مصبَّحٌ في سِرْبِهِ
والموتُ أدنى من شِراكِ نَعْلِهِ!
[ب] فلا شيءَ في الدنيا يَقِي من الموت أو يمنعُ! كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
وإذا المنيّةُ أنشبَتْ أظفارَها
ألفيتَ كلَّ تميمة ٍلا تنفعُ!
ولقد أرى أنّ البكاءَ سفاهةٌ!
ولسوف يُولع بالبكا من يُفْجَعُ!
وليأتينّ عليكَ يومٌ مرّةً
يُبكَى عليك مُقنَّعاً لا تسمعُ!
12) الموت وفناء الدنيا:
[أ] والموتُ أقوى دليلٍ على فناء الدنيا، كما قال تعالى: (ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ)،[49] وقال جلّ جلاله: (كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ وإنّما تُوفَّوْنَ أُجُورَكم يوم القيامة فمن زُحْزِح عن النار وأُدْخِل الجنّةَ فقد فاز وما الحياةُ الدنيا إلا متاعُ الغرور)![50]
[ب] فالدنيا مضمحلّةٌ اضمحلالَ الزبد الذي يذهب جُفاءً! وفانيةٌ فناء الهشيم الذي اشتدّت به الريح في يومٍ عاصفٍ! فالمسلم يوقن بذهابه منفرداً إلى مصيره غداً! حين يُفارق الأحباب، ويترك فلذات الأكباد، كما قال عزّ وجل: (إن كلّ من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدّهم عدّاً وكلّهم آتيه يومَ القيامة فرداً)![51]
[ت] فحينئذٍ تنقضي أعمارُنا ويُقسَّمُ الميراث، وتنقطع أعمالُنا (إلا من ثلاث)! ورحم الله الحسن بن صالح بن حَيّ فقد جاء في [ميزان الاعتدال] أنه سُئل عن غسل الميّت فما استطاع أن يبيّنه للناس من البكاء![52]
13) الموت ولذّات الدنيا:
[أ] فالموتُ علاجٌ لأدواء الدنيا، كما قال رب العالمين: (إنّ وعدَ اللهِ حقٌّ فلا تغرّنّكم الحياة الدنيا ولا يغرّنّكم بالله الغرور)؛[53] وهذا سرّ الهدي النبوي: (أكثروا ذكر هاذم اللّذّات)![54] و(كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)؛ (فإنها تذكّرنا الآخرة)![55](/4)
[ب] ورحم الله البخاري حيث روى في كتاب الرقاق (باب سكرات الموت) عن أبي قتادة الأنصاري (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازةٍ، فقال: مستريحٌ ومستراحٌ منه... العبدُ المؤمن يستريح من نَصَب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله عزّ وجل، والعبدُ الفاجرُ يستريح منه العبادُ والبلادُ والشجرُ والدَّوابُّ)![56]
[ت] ولله درّ النوويّ حيث قال: "إنها دارُ نفادٍ لا محلّ إخلاد، ومَرْكَبُ عُبورٍ لا منْزل حُبور! ومَشْرَعُ انفصامٍ لا موطن دوام؛ فلهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العُبّاد، وأعقل الناس فيها هم الزُّهّاد! قال الله تعالى:(إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نباتُ الأرضِ مما يأكلُ الناسُ والأنعامُ حتى إذا أخذت الأرضُ زُخرُفَها وازّيَّنتْ وظنّ أهلُها أنّهم قادرون عليها أتاها أمرُنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأنْ لم تغنَ بالأمس كذلك نفصِّل الآيات لقومٍ يتفكّرون).[57] والآيات في هذا المعنى كثيرة. ولقد أحسنَ القائل:
إنّ لله عِباداً فُطَناً
طلّقوا الدّنيا وخافوا الفِتَنا !
نظروا فيها فلما علموا
أنّها ليست لحيٍّ وطناً
جعلوها لُجّةً واتّخَذوا
صالح الأعمال فيها سُفُنا !"[58]
14) الموت والزهد:
[أ] ومن هنا كان تذكّرُ الموتِ من أقوى البواعِثِ على العُزوف عن الدنيا؛ لاسيما عند ذهاب الصالحين؛ وكأنما قصد البخاريُّ هذا المعنى في ترجمته البديعة في كتاب الرِّقاق: (باب ذهاب الصالحين)، حيث أورد حديث مرداس الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يذهب الصالحون الأول فالأول، وتبقى حُثالةٌ كحُثالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالة)![59]
[ب] وما أحسنَ قولَ الشاعر:
ألا أيها الموتُ الذي ليس تاركي
أرِحْنِي! فقد أفنيتَ كلَّ خَلِيلِ!
أراكَ بصيراً بالذين أَوَدُّهُمْ!
كأنّك تَنْحُو نَحْوَهُمْ بدليلِ!
[ت] ورحم الله أبا بكر رضي الله عنه؛ فقد روى مالك ـ في الجهاد من الموطّأ ـ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أدري ما أنتم صانعون بعدي؟ فبكى أبو بكر ثم بكى؛ ثم قال: أئنّا لكائنون بعدك؟!).[60]
[ث] وكذلك كانت عائشة الصدّيقة رضي الله عنها تتمثّل قول لبيد:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم
وبقيتُ في خَلْفٍ كجلد الأجربِ !
[ج] فلسانُ حالِ المسلم عند ذهاب الصالحين:
هَبْنِي بَقِيتُ على الأيّامِ والأبدِ!
ونلتُ ما شئتُ من مالٍ ومن ولدِ!
مَنْ لي برؤية مَنْ قد كنتُ آلَفَهم؟!
وبالزمانِ الذي ولّى! فلم يَعُدِ؟!
[ح] ورحم الله القائل:
وإنّ افتقادي واحداً بعد واحدٍ
دليلٌ على أن لا يدوم خليلُ!
[خ] فما من صاحبيِن ـ ولو كانا شقيقين ـ إلا سيفترقانِ! كما قيل:
وكلُّ أخٍ مُفارقُهُ أخوهُ لعمرُ أبيك إلا الفَرْقدانِ !
وكذلك قال البخاري رحمه الله حينما نُعِيَ إليه الحافظُ عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي:
إن عشتَ تُفجع بالأحبّةِ كلِّهم
وبقاءُ نفسِك لا أبا لك أفجعُ![61]
[د] فعزاء المؤمن أنه إذا مات لقي الأحبة: محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه! كما ذكر أنس رضي الله عنه: عنه أنّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ما أعددتَ لها؟ قال: ما أعددتُ لها كثيرَ صلاةٍ ولا صومٍ ولا صدقةٍ؛ ولكنّي أُحِبّ الله ورسوله، قال: أنتَ مع من أحببت)![62]
[ذ] وتأمَّلْ فقهَ فاطمةَ رضي الله عنها فقد سارّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدُنُوِّ أجله؛ فبكت، ثم سارّها بأنها أول من تلحق به؛ فضحكت![63] ورحم الله أمّنا عائشة فقد كانت كلما ذكرت أخاها عبد الرحمان تمثّلت بقول متمّم بن نُوَيْرة يرثي أخاه مالكاً:
وكُنّا كَنَدْمانَيْ جُذَيْمةَ حِقْبَةً
من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا!
فلما تفرّقنا كأني ومالكاً
لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا![64]
15) اليقين بأنّ الموت بالمرصاد
[أ] وذلك لقبض الناس أجمعين الأوّلين منهم والآخرين؛ كما قال الله عزّ وجلّ: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قُضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يُرجَعون)![65]
[ب] فالموت أجلٌ مقدَّر وقدرٌ محتومٌ على الأوّلين والآخرين، كما قال تعالى: (إنّك ميّتٌ وإنّهم ميّتون)! (أفإن متَّ فهم الخالدون)؛ فلا ينجو منه إنسانٌ (كلُّ نفسٍ ذائقة الموت)، ولا يحول دونه زمانٌ! (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يُعمَّر)، ولا يُتخفّى منه في مكان! (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتال إلى مضاجعهم)! (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيَّدة)!
[ت] ولقد صدق المتنبي حيث قال:
نُعِدُّ المشرفيّةَ والعوالِي وتقتلنا المنون بلا قتالِ!
فإنه ليس عن الموت مَحيدٌ؛ فهو قدرٌ مكتوبٌ، وحوضٌ مورودٌ!
[ث] وقد تمثّل الشعراء هذا المعنى، كما قال شرف الدين بن أبي عصرون:
أؤمّل أن أحيا وفي كل ساعةٍ
تمرّ بيَ الموتى يُهَزُّ نعوشُها!
وهل أنا إلا مثلهم غير أنّ لي
بقايا ليالٍ في الزمان أعيشُها!(/5)
[ج] ولا يخفى أنّ في سلام الأحياء على الأموات إشارةً إلى هذه المعاني: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين؛ وإنّا إن شاء الله بكم لَلاحِقُون)![66]
[ح] وقد وعظ النبي صلى الله عليه وسلم الصحابةَ عند القبر، كما روى الشيخان عن عليٍّ رضي الله عنه قال: (كنا في جنازةٍ في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرة، فنكّس وجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحدٍ إلا وقد كُتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. فقالوا: يا رسول الله أفلا نتّكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا؛ فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له)!
[خ] وما أروعَ ما قال المعرّي:
يمرّ الحولُ بعد الحولِ عنّي
وتلك مصارعُ الأقوام حولي!
كأنّي بالأُلى حفروا لجاري
وقد أخذوا المحافرَ وانتحوا لي!
[د] ولله درّ ابن سناء الملك حيث قال:
وإذا رأيتَ جنازةً محمولةً فاعلمْ بأنك فوقها محمولُ!
16) الموت والانتقاء:
[أ] إنّ الموت ينتقي الأخيار، كما قال تعالى: (ويتّخذ منكم شهداء)،[67] وقال صلى الله عليه وسلم (من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه)!
[ب] وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم شهادة المسلمين للميّت بالصلاح مقبولةً، وعبّر عن ذلك بقوله: (وجبتْ)![68] كما ذكر صلى الله عليه وسلم أنها من (عاجل بشرى المؤمن)![69]
[ت] وإنّ في ما نراه اليومَ من تحسُّر الناس على ذهاب الصالحين وحُزنهم على فقدهم لآيةً على زوال الدنيا وهوانها؛ إذ يتلازم ذهاب الدنيا مع ذهاب العلماء ونزول الجهل ورفع العلم وحلول الفتن؛ نسأل الله السلامة.
17) الموت بوّابة اليوم الآخر:
[أ] والموت يبعث على اليقين بأنّ ما عند الله خيرٌ لعباده الصالحين من متاع الدنيا كلّه؛ ولذلك هوّن الشيخان على أمّ أيمن رضي الله عنهم جميعا بأنّ (ما عند الله خيرٌ لرسول الله)![70]
[ب] وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم (الرفيق الأعلى)،[71] وروى أبو سعيد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ عبداً خيّره الله بين ما عنده وبين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء فاختار ما عند الله. فبكى أبو بكرٍ وقال :فديناك بآبائنا وأمّهاتنا...فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر وكان أبو بكر ٍأعلمنا به)،[72] وقال يوسف عليه السلام: (ربّ قد آتيتني من الملك وعلّمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليّي في الدنيا والآخرة توفَّني مسلما وألحقني بالصالحين).[73]
[ت] وقد تمنّى عمر رضي الله عنه الموت لما كبرت سنّه وكثرت رعيّته. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في زمان الفتن التي تموج كموج البحر (ويصبح المرء مؤمنا ويمسي كافرا)؛ يتمنى العبد أن يُنجيه الموت من فتنة الدِّين، كما روى البخاري في كتاب (الفتن) باب (لا تقوم الساعة حتى يُغبَطَ أهلُ القبور) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل على القبر يتمرّغ عليه ويقول:يا ليتني مكانه؛ ما به إلا الدِّين)![74]
[ث] ورحم الله التهامي؛ فقد أحسنَ التعبير عن هذا المعنى في رثاء ولده، فقال:
أبكيهِ ثم أقول مُعتذراً له
وُفِّقتَ حين تركتَ أَلْأَمَ دارِ !
جاورتُ أعدائي وجاوَرَ ربَّهُ
شتّان بين جِوارِه وجِواري !
18) الموت الحقيقي:
[أ] إنّ الموت الحقيقيَّ ليس بقبض الأرواح وانقطاع الأنفاس؛ ولكنّ الموت غفلةُ الناس عن الحقّ وإعراضهم عن النبراس! كما قال تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله)،[75] وقال سبحانه: (أَوَ من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها).[76]
[ب] وقد بيّن الله عزّ وجلّ أنّ الشهداء من الأحياء؛ فقال جل جلالُه: (ولا تحسبنّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).[77]
[ت] وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أثر العبد الصالح يبقى من بعده، ومآثره تُكتب له: صدقةً جاريةً وولداً صالحاً وعلماً نافعاً.[78]
[ث] وقد عبّر الشعراء عن هذا المعنى بقولهم:
ما مات مَن ترك الحياةَ وذكرُهُ
عَطِرٌ يطير مع الرياح الأربعِ!
وأنشدوا: ليس من مات فاستراح بميِّت
إنما الميت ميت الأحياء!
وقالوا: رُبَّ حيٍّ رُفاتُ القبر مسكنُه!
ورُبّ ميتٍ على أقدامه انتصبا!
وأنشدوا: لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً!
ولكن لا حياةَ لمن تنادي !
19) الموت ورسالتنا في الحياة:
[أ] لا شكّ أنّ الموتَ يُحيي فينا الوعيَ برسالتنا في هذا الوجود؛ كما قال الله عزّ وجلّ: (أَفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجَعون)![79] (حتى إذا جاء أحدَهم الموتُ قال ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركتُ كلا إنها كلمةٌ هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يُبعَثون)![80](/6)
[ب] فمن عاش في الدنيا حياةً طويلةً وليس له هدفٌ ولا قضيّةٌ إلا عيش البهائم، وغرائز البهائم، وطعام البهائم، وشهوات البهائم؛ فكأنما قضى في يوم مولدِهِ؛ فليس له من الحياة يومُ واحدٌ! ورحم الله الشاطبي حيث قال:
ولو أنّ عيناً ساعدتْ لتوكّفَتْ
سَحائبُها بالدّمعِ دِِيماً وهُطَّلا!
ولكنّها عن قسوةِ القلبِ قَحْطُها
فيا ضيعةَ الأعمارِ تمضي سَبَهْللا![81]
[ت] وأما العاقلُ الذي أيقن أنّ الحياة قصيرةٌ، ومُتعتها قليلةٌ، وأنه ميّتٌ لا محالة؛ فإنه لا بدّ سيختار ميتةً نبيلةً جليلةً! كما قال ابن نباتة:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيرِهِِ
تنوّعَت الأسبابُ والدّاءُ واحدُ!
[ث] وقد أحسن من قال:
إنّ الرّدى دَيْنٌ عليك قضاؤه
فاسْمَحْ به في أشرفِ الأوطانِ!
من فات أسبابَ الرَّدَى يوم الوغى
لَحِقَتْهُ في أمْنٍ يَدُ الحَدَثانِ!
20) الصلة بين الشهادتين:
[أ] إنّ بين شهادة (أن لا إله إلا الله)، وبين الشهادة (في سبيل الله) رَحِماً أدْرَكَه أولياء الله؛ فمضوا إلى ربِّهم مخلصين، وقضوا نحبهم في سبيل الله صادقين! كما قال الله عزّ وجلّ: (مِنَ المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا اللهَ عليه فمنهم من قضى نحبَه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً)![82]
[ب] وقال سيِّدٌ منهم: "إنّ كَلِمَاتِنا ستبقى ميّتةً: أعراساً من الشموعِ! لا حراك فيها جامدةً! حتى إذا مِتْنَا من أجلِها؛ انتفضتْ حيّةً، وعاشَتْ بين الأحياء! كلُّ كلمةٍ عاشتْ بين الأحياء كانت قد اقتاتتْ قلبَ إنسانٍ حيٍّ؛ فعاشتْ بين الأحياء، والأحْياءُ لا يتبنَّون الأموات!"
[ت] فنسأل الله تعالى أن يُحسِن ختامنا، وأن يجعل (لا إله إلا الله)آخرَ كلامِنا: كما ذكر ابن أبي حاتم أنّ أبا زُرعة الرازيّ سُئل في مرض موته عن حديث (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)، فذكر الشيخ الحديث؛ حتى إذا بلغ (لا إله إلا الله)فاضتْ روحُه![83]
[ث] ونسأله تبارك وتعالى الشهادةَ الصادقةَ في سبيله؛ فلن تعودَ ـ واللهِ ـ أمجادُ المسلمين، أو تعلوَ رايةُ (لا إله إلا الله)؛ إلا إذا اشتقنا إلى الموت في سبيل الله؛ فنكون كما قال ابن النحّاس في (مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق): "يبيت كلٌّ منا: السيفُ العضبُ له ضجيعاً، ويُصبحُ معتركُ الحربِ الضَّرُوسِ له رَبيعاً...وأن نتطهّر بدماء المشركين والكفار؛ من أرجاس الذنوب والأوزار!"[84]
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه الشيخان في غزوة خيبر. راجع صحيح البخاري في كتاب المغازي 4198 و4199. ومسلم بشرح النووي 12/164-165.
[2] الرعد 11.
[3] آل عمران 45.
[4] رواه الشيخان بألفاظٍ مختلفةٍ. راجع صحيح البخاري في كتاب المناقب 3641، وكتاب الاعتصام 7311، وكتاب التوحيد 7459 و7560. ومسلم بشرح النووي 13/67. دار إحياء التراث العربي. بيروت.
5 البقرة 94-95
[6] التوبة 111.
7 النساء 104.
8 رواه الستة إلا أبا داود.
9 قالها حرام بن ملحان رضي الله تعالى عنه. راجع فتح الباري 8/140 دار الفكر. بيروت. ط1. 1414هـ، وشرح النووي على مسلم 7/47.
[10] التوبة 92.
11 التوبة 52.
[12] التوبة 111.
13 رواه البخاري في كتاب المغازي باب (غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة) 4078. والشِّلْو: الجسد، والممزَّع: المقطَّعُ، راجع فتح الباري 8/137.
[14] الروم 7.
[15] البقرة 96.
16 البقرة 94-95.
[17] الحشر 13-14.
[18] وقد ختم به البخاري كتاب (بدء الوحي)، ح 7. وكرّر أجزاءً منه في 51 و2681 و2804 و2941 و2978 و3174 و4553 و5980 و6260 و7196 و7541. وشرحه ابن حجر في فتح الباري 1/49-66.
[19] رواه البخاري في حديث (ثلاثٌ من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان) ح 16 و21 في كتاب الإيمان، وح 6941 في الإكراه. وراجع شرح النووي على مسلم.كتاب الإيمان 2/13.
[20] الأنعام 81-82.
[21] نونيّة القحطاني ص 25-27. ط4. 1420هـ.
[22] فاطر 15-16.
[23] الرحمن 26-27.
[24] الطور 35-36.
[25] الفرقان 58.
[26] البقرة 155-157.
[27] يوسف 18.
[28] يوسف 84.
[29] فتح الباري 2/441.
[30] الفرقان 58.
[31] الروم 19
[32] النجم 44-47.
[33] الشعراء 77-81.
[34] راجع صحيح البخاري ح 6314 و7394.
[35] الملك 2.
[36] الفرقان 3.
[37] الجمعة 8.
[38] التوبة 111.
[39] صحيح البخاري ح 6351. راجع فتح الباري 12/438.
[40] الحجر 99.
[41] آل عمران 185. والعنكبوت 57.
[42] رواه البخاري في بدء الخلق ح 3208، وفي أحاديث الأنبياء ح 3332. شرح النووي على مسلم في مطلع القدر 16/189.
[43] المطفّفين 14.
[44] التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي ص9. دار الريّان القاهرة. ط2. 1407هـ.
[45] ق 19-22
[46] فاطر 37.(/7)
[47] ذكر الذهبي هذه الأبيات في ترجمة (مندل بن علي العنزي)، وقال: "رثاه أخوه حبّان بتلك الأبيات السائرة..." ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي 4/180. دار المعرفة. بيروت.
[48] لقمان 34.
[49] النحل 96.
[50] آل عمران 185.
[51] مريم 93-95.
[52] ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي 1/497.
[53] لقمان 33.
[54] رواه الترمذي.
[55] رواه مسلم.
[56] صحيح البخاري ح 6512 و6513. فتح الباري 13/168.
[57] يونس 24.
[58] رياض الصالحين 38. المكتب الإسلامي. 1418هـ.
[59] صحيح البخاري ح 6434. راجع فتح الباري 13/30.
[60] الموطأ ص 462. دار الحديث. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
[61] هدي الساري مقدّمة فتح الباري لابن حجر ص 668.
[62] فتح الباري 12/195. دار الفكر بيروت. ط1-1414هـ.
[63] فتح الباري 8/481.
[64] ذكر ذلك أبو الحجّاج المزّي في تهذيب الكمال بأسماء الرّجال في ترجمة عبد الرحمن بن أبي بكر 16/595. مؤسسة الرسالة. ط1. 1413هـ.
[65] مريم 39-40.
[66] رواه مسلم بعدّة ألفاظ. راجع شرح النووي على مسلم 8/44-45.
[67] آل عمران 140.
[68] متفق عليه.
[69] رواه مسلم.
[70] متفق عليه.
[71] ترجم به البخاري في الدعوات: (باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهمّ الرفيقَ الأعلى). ح 6348.
[72] متفق عليه.
[73] يوسف 101.
[74] ح 7115. راجع فتح الباري 14/581.
[75] الأنعام 36.
[76] الأنعام 122.
[77] آل عمران 169.
[78] كما في حديث (إذا مات ابنُ آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) عند مسلم.
[79] المؤمنون 115.
[80] المؤمنون 99-100.
[81] حرز الأماني ووجه التهاني للشاطبي ص 24. دار الكتاب النفيس. بيروت. ط1. 1407هـ.
[82] الأحزاب 23.
[83] وذكره القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ص 35-36. دار الريّان القاهرة. ط2. 1407هـ.
[84] مشارق الأشواق ص 21. ط1419هـ.(/8)
أشداء على الكفار رحماء بينهم
الحمدلله الهادي إلى سواء السبيل ، والحمدلله أقام على الأمة الحجة وأوضح لها الدليل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليس له من خلقه نظير ولا مثيل ،والصلاة والسلام على محمد بن عبدالله خير خلق الله والهادي إلى أفضل سبيل، وعلى آله وأصحابه الذين مدحهم الرب جل وعلا في محكم التنزيل { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب على كل صغير وجليل أما بعد :
أيها المسلمون : إن من دعائم هذا الدين العظيم ، وأسُسِه المتينه ، ومبانيه القويمه ، ما شرعه الله عزوجل من وجوبِ التراحم والتلاحم ، ونبذِ الفرقة والتشاحن ، فالمؤمنون أخبر الله عنهم بقوله { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } ، والله عزوجل لما مدح خير الخلق بعد الأنبياء وهم الصحابة الكرام ، البررة الأطهار ،كان أخصَّ صفة اتصفوا بها ، والوسام الذي شَرُفوا به ، والعنوان الذي عُرفوا به هو التراحم بينهم فقال عز من قائل حكيم { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } وتأمل كيف قدم تراحمَهم على عبادتهم وتهجدِهم وابتغاءِهم الفضل من الله ، بل إن الله جل وعلا في غير ما آية بين أن أساس علاقة المسلم بأخية المسلم لها من القدسية والمكانة ماليس في أي علاقة مع أحد من البشر فقد قال جل وعلا في محكم التنزيل :{ فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه } ماهي أعلا وأسمى صفاتهم { أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم } ،يقول ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية : "هذه صفات المؤمنين الكُمَّل ، أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه ، متعزِّزاً على خصمه وعدوه ، كما قال تعالى { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } ، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه (الضَّحُوك القَتَّال ) فهو ضحوك لأوليائه قتَّال لأعدائه "أ.هـ ، والله سبحانه أكد وبين أن أساس العلاقة بين المسلم والمسلم والمؤمن والمؤمن هي الأخوة الإيمانية فقال جل وعلا :{ إنما المؤمنون إخوة } ، وأعظم نعمة امتن الله بها على أفضل مجتمع وهو مجتمع الصحابة رضي الله عنهم نعمة الأخوة الإيمانية { فأصبحتم بنعمته إخوان} ، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه ).
أيها المسلمون: لهذا كله فإن شريعة الإسلام حرمت وجرمت كل عمل يضاد هذه الأخوة وهذه الرحمة بين المؤمنين ،كل عمل يفت في عضد هذه الأمة المباركة المنصورة ، وقد أعلن هذا المنهج المصطفى صلى الله عليه وسلم في يوم الحج الأكبر في آخر حياته فقال (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ) فهو حرام بنص كتاب الله وسنة المصطفى نصاً صريحاً لا يقبل التحريف ولا التأويل ولا التلبيس وبإجماع الأمة بل وأصحاب الملل والأديان كلها ، ومن اعتقد حل دماء المسلمين فقد استحل أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وهذا يعتبر مكذباً بالكتاب وبما تواتر في السنة بلا ارتياب .
أيها المؤمنون : إن هذا الحادث الأليم وما سبقه من أحداث ونسأل الله أن يلطف بنا في الأيام القادمة يستوجب منا أن نقف بعض الوقفات مع استحضار ما سبق من المسلمات التي لا يجوز أن يكون لدى أي مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أدنى شك فيها ولا ارتياب ،ويمكن أن نوجز هذه الوقفات فيما يلي :(/1)
الوقفة الأولى : يقول جل وعلا :{ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيم} ، والنبي صلى الله عليه وسلم تواترت عنه الأحاديث في حرمة دماء المسلمين فقد قال صلى الله عليه وسلم : (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ) ، ويقول صلى الله عليه وسلم : (لايزال الرجل مُعْنِقاً صالحاً مالم يصب دماً حراماً ، فإذا أصاب دماً حراماً بلَّح ) (قوله مُعْنِقاً: خفيف الظهر سريع السير ، وبلَّح : أعيا وانقطع ) ،ويقول أيضاً: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم ) ، وفي الحديث الآخر : (لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار)، وقال صلى الله عليه وسلم : (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينية آيس من رحمة الله ) وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة للقاتل عمداً لمؤمن وهذا صح عنه كما في البخاري، وجاء عند الإمام أحمد وغيره عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس أن رجلاً أتاه فقال : أرأيت رجلاً قتل رجلاً متعمداً ؟فقال : { جزاؤه جهنم خالداً فيها } الآية ، قال : لقد نزلت في آخر ما نزل مانسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومانزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ؟، قال : وأنَّى له التوبة وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (ثكلته أمه رجل قتل رجلاً متعمداً يجيء يوم القيامة آخذاً قاتله بيمينه أو يساره ، وأخذاً رأسه بيمينه أو بشماله ، تَشْخُبُ أوداجُه دماً في قُبُل العرش ،يقول يارب : سل عبدك فيم قتلني ). وهذا أمر لا يحتاج إلى كثير كلام حوله فهو معلوم لدى كل فئات المجتمع ولكن عندما تختلط الأمور وتغلب العاطفة العقل والعلم فلا تسل عن طرق الهلكة والغواية نسأل الله السلامة والعافية ، فيجب على كل امرئٍ مسلم عاقل أن يتورع أن تتلطخ يده بدماء المسلمين الطاهرة أما يكفي الجروح النازفة في فلسطين والعراق والشيشان وأفغانستان وكشمير ، اللهم ارحم موتى المسلمين وتقبلهم في الشهداء وارفع منزلتهم في عليين يا أرحم الراحمين ،أيها المسلمون : إن قتل المسلمين والأبرياء المعصومين يضاد كل معاني الرحمة والمودة والأخوة التي جاء الإسلام لتوطيدها وتأكيدها وغرسها في قلوب المسلمين حتى يصبح مجتمعاً قوياً متماسكاً .
الوقفة الثانية : يقول جل وعلا: { ومن يرتدد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } فجيل النصر الذي وعدهم الله بالنصر والتمكين من أبرز صفاتهم أنهم أذلة متواضعين محبين للمؤمنين ، فإذا أردنا النصر والتمكين علينا بهذا الشرط وهذه الصفة ولن يكون نصر وبعضنا يقتل بعضاً وبعضنا لا يرحم بعضاً، إن النصر لن يكون إلا إذا كانت الأمة متماسكة مترابطة ولهذا لما ذكر الله قتال المؤمنين للكفار ذكر هذا الشرط فقال سبحانه : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } فيا شباب الأمة يامن تغلي قلوبكم حرقة على ما يمر بالأمة من هجمات ظالمة من قبل أعداءها لا تخطئوا طريق النصر على أعدائكم لا توجهوا سهامكم إلى إخوانكم في الدين والعقيدة ، وفروا وقتكم وجهدكم ومالكم في مواجهة الخطر المحدق ببلدان المسلمين لا تنقلوا المعركة إلى دياركم الآمنة التي تقام فيها الصلوات ويعبد الله فيها ويدعى فيها إلى الله فالحذر الحذر والمؤمن كيس فطن ، والله هو الهادي إلى سواء السبيل .
الوقفة الثالثة: يقول المولى جل وعلا : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقو} ويقول جل وعلا : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } ويقول سبحانه { ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } ويقول سبحانه :{ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء } .(/2)
أيها المسلمون : إن شعار أهل السنة الذي تميزوا به عن أهل البدع بل شعار أهل الإسلام الذي تميزوا به عن أهل الأديان الأخرى أنهم يحرصون على الألفة والاجتماع ويكرهون ويحرمون الفرقة والتنازع ، لما فيها من أضرار وعواقب وخيمة على الأفراد والمجتمعات؛ بل إن الاجتماع والألفة عند أهل السنة من أصول الإسلام الكبرى التي لا تقل أهمية إن أصول الدين الأخرى وهي مرتبطة بالاعتقاد وليست من فروع الدين كما يظن من قل نصيبه في العلم ،ولعلي أسوق لك كلاماً نفيساً يكتب بماء الذهب لشيخ الإسلام ابن تيمية وأرجوا منك أخي أن ترعني سمعك وتفتح قلبك لكلام هذا الإمام الذي أجمعت الأمة على إمامته وجلالته يقول رحمه الله [مجموع الفتاوى22/356-376، مجموعة الرسائل المنيرية 3/115-127]،:"وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن لا يُتَفرق هو من أعظم أصول الإسلام ، ومما عظُمت وصية الله تعالى به في كتابه ، ومما عظُم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ، ومما عظُمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة مثل قوله : (عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ) ، وقوله : (فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد ) ، وقوله : (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه ، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ) وقوله : (ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : إصلاحُ ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين ) ....(إلى أن قال): .. وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة ، بل وفي غيرها ، هو : التفرق والاختلاف ، فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم ، وإن كان بعض ذلك مغفوراً لصاحبه لاجتهاده الذي يُغفر فيه خطؤه ، أو لحسناته الماحية أو لتوبته أو لغير ذلك ، لكن يُعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام "أ.هـ ، فيا شباب الأمة إذا أردنا اقتفاء الكتاب والسنة فلنراع هذا الأصل في كل ما يجد علينا وما ينزل بنا من نوازل وحوادث في المستقبل نسأل الله أن يلطف بهذه الأمة .(/3)
الوقفة الرابعة : ليُعلم أن من رحمة الله بهذه الأمة أن جعل من مقاصد الشرع العظمى : النظرَ إلى مصلحة الجماعة والأمة وتقديمها على المصالح الفردية والحظوظ الشخصية مع عدم إهمال المصالح الفردية وتضييعها ولكن عند التعارض تقدم المصلحة العظمى والكبرى ،وهذا المقصد واضح وضوح الشمس في رابعة النهار لمن تأمل وتتدبر التشريعات العظيمة في هذا الدين العظيم ، ولهذا أمر الناس بالصبر على جور وظلم الولاة المسلمين لأن مصلحة لمِّ الشمل وعدمِ التفرق وحقن الدماء مقدمةٌ على الانتصار لحق شخص واحد مع عدم إهمال حق هذا الشخص بل لابد من السعي لرفع الظلم عنه بشرط عدم الإخلال بمصلحة الجماعة وتفريق الصف ، وهذا الكلام قرره العلماء في أكثر من موطن بل إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعيش في ظل حكم قريش الجاهلي الكافر المحاد لله ورسوله لما كان ضعيفاً ويخشى أن ينفرط عقد الدعوة أو توأد الدعوة في مهدها صبر على الأذى فتربى الصحابة ليس على العاطفة التي لا يضبطها الشرع بل تربوا على الاتباع والإئتمار والانصياع لأوامر الله ورسوله، وكانوا لايقدمون شيئاً من حظوظ أنفسهم على أمر الله وأمر رسوله لم تكن عاطفتهم الجياشة هي التي تسيرهم بل الشرع والشرع وحده فكان ذلك العربي صاحب النخوة والحمية الذي لا يرضى أن يهان في كرامته ولا أن تمس هيبته يضرب ويسحل في رمضاء مكة والله سبحانه كان يقول لهم { كفوا أيديكم } فامتثلوا أمر الله وامتثلوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم لما ضاق بهم الحال وقالوا ألا تدعوا لنا ألا تستنصر لنا فقال لهم (ولكنكم تستعجلون )، ولم ينتقم لهم حفظاً للمقصد الأعلى وهو حماية الدين المقدمة على حماية النفس والمال ، ومقدمةً على المصالح الفردية ، فيا شباب الأمة أين أنتم عن فهم مقاصد دينكم فإن تمسكتم بدليل واحد فقد يغيب عنكم أدلة ، وإن أخذتم بظاهر نص ولم ترجعوا إلى فقهه واستنباطه فسوف تضلون ضلالاً بعيداً فليس العبرة في جمع النصوص وقراءتها ولكن في فهمها واستنبطاها وتنزيلها على الواقع وهذا لا يستطيعوه كل أحد ولكن يستطيعه الراسخون في العلم ،يقول ابن القيم رحمه الله مقرراً بكلام نفيس هذه المقاصد العظيمة لشريعة الإسلام فيقول[إعلام الموقعين3/4]:" فإن الشريعة مبناها وأساسَها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدلٌ كلُّها ، ورحمةٌ كلُّها ،ومصالحٌ كلُّها ، وحكمةٌ كلُّها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة ، وإن أُدخلت فيها بالتأويل ، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه.. (إلى أن قال )... أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله ، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ماهو أنكر منه ، وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لايسوغ إنكاره ، وإن كان الله يبغضه ، ويمقت أهله ، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم ، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر ، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها ، وقالوا : أفلا نقاتلهم ؟ فقال : ( لا ما أقاموا الصلاة ) ،وقال : ( من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يداً من طاعته ) ، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل ، وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته ، فتولد منه ماهو أكبر منه ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها ، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغييرِ البيت وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعَهُ من ذلك مع قدرته عليه خشيةُ وقوعِ ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك ، لقرب عهدهم بالإسلام وكونِهم حديثي عهد بكفر ، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه "أ.هـ ،وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه وهدانا وإياكم سبيل الرشد والهداية . أقول ما تسمعون وأستغفرالله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله مفرجِ الكروب ، ومنيرِ المسالك والدروب ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وحجةً على الخلق أجمعين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :أيها المؤمنون : ونقف معكم الوقفة الخامسة وهي :(/4)
لابد أن نتجاوز مجرد الاستنكار ، مع أهميته ووجوبه ووجوب بيان عظم حرمة دم المسلمين ووجوب التعاون على البر والتقوى ومن أعظم البر التعاون لاستتباب الأمن في بلاد المسلمين ، ولكن لايصح لأمة تريد أن تنتصر على أعداءها وتتجاوز محنها ومشاكلها لايليق بها أن تكتفي بالعويل والويل والثبور لمن فعل ودبر مثل هذه الأعمال ، وعليه فإننا نوجه هذه الوصايا حتى يكتمل الحل وتحصل النجاة من هذه المحن بإذن الله فنقول وبالله التوفيق ومنه الإعانة والتسديد :
أولاً: لابد أن تؤصَّل كلُّ قضايانا تأصيلاً شرعياً علمياً يجتمع فيه المتخصصون في علم الشريعة بكافة تخصصاتهم الفقهية والأصولية والحديثية والعقدية واللغوية ، ويخرجون أبحاثاً قائمة على الدليل والاستنباط والقواعد الشرعية والمقاصد المرعية مع تفيند الشبهات وردها رداً علمياً بعيداً عن العاطفة التي مل الناس من سماعها والاستماع إليها فهي لا تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً.
ثانياً: إعطاءُ العلماءِ الربانيين مكانةً عاليةً في المجتمع ،وتعزيز دورهم في المجتمع بشكل أكبر ، واستشارتهم في أمور الأمة العظيمة وأن لا يحرص على إظهارهم إلا وقت النكبات والمحن فقط بل لابد أن يكون حضورهم دائماً ومستمراً ، العلماء الذين لهم قبول عند العامة والخاصة عند عامة الناس وطلاب العلم ، ويكون ذلك بالسماع لفتاواهم ونشرها في كل مكان ، وفتح المجال لهم في كل وسائل الإعلام ليبلغوا دين الله ويبينوا للناس ، إن تهميش دور العلماء من أعظم الأسباب في تردي أوضاع العالم الإسلامي كله ، فالناس إذا لم يكن للعالم عندهم مكانة ولا تُسمع كلمته فإنهم سوف يجتهدون ويرجعون إلى الجهلة الذين يفتون بغير علم فيَضِلُّون ويُضِلُّون.
ثالثاً: إيصال كلمةِ الدعاة وطلاب العلم والمربين والموجهين وأهل الرأي والحكمة والعقل في كافة تخصصاتهم إلى أكبر شريحة في المجتمع وخاصة الشباب ولن يكون ذلك إلا بفسح المجال لهم في إقامة الدروس والخطب والمحاضرات وإقامة المنتديات والمؤتمرات العلمية حتى يوجهون الشباب ، وحين يمنع الموجهون والمصلحون من إيصال الحق للشباب سوف يتجهون إلى المجاهيل والنكرات الذي هم أنصاف المتعلمين وحينها لا تسل عن ظهور التوجهات الفكرية المنحرفة ، والأهواء المضلة .
رابعاً : إيقاف أي شكل من أشكال محاربة الدين وشعائره وسننه أومحاربة رموزه وعلماءه وإيقاف الحملات الظالمة التي طالت المناهجَ و حجابَ المرأة المسلمة وثوابتَ الأمة حتى لا يكون مبرراً للجهلة والمتحمسين والغيورين من أبناء المسلمين الذين يجدون مبرراً من خلال هذا الاستفزاز المتواصل فلابد أن يكون الحل من جميع الجوانب ولا يقتصر على جانب دون آخر .
خامساً : تعزيز جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه صمام أمان للأمة ،وهو أمر رباني لا خيار لنا فيه وهو سر سعادتنا وحفظ أمننا ، وأيضاً فإن الشباب لما يرون هذه الشعيرة قائمة وظاهرة بالأساليب السلمية المعروفة تهدأ نفوسهم وتستريح أفئدتهم فلا يتجهون إلى البدائل غير المشروعة مثل هذه الأعمال التخريبية التي تهدم ولا تبني وتفسد ولا تصلح .
سادساً: لابد من توجيه نداء لكل الأمة حكاماً ومحكومين أفراداً وجماعات للقائمين على التعليم والإعلام لكل فئات المجتمع نقول لهم لابد من إعلان التوبة والرجوع إلى الله وامتثال أمر ربنا جل { وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} فهو طريق الفلاح والنجاح ، وليعلم الجميع أن من أعظم العقوبات الربانية على الأمم والشعوب التي يتفشى فيها المنكر ويعلن عبر وسائل الإعلام وغيرها من أعظم العقوبات ماجاء في قول الله تعالى:{ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف نصرف الآيات لعلم يفقهون} قال ابن عباس وغير واحد : " يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل "أ.هـ
ويقول الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله : " { ويذيق بعضكم بأس بعض }: أي في الفتنة وقتل بعضكم بعضاً فهو قادر على ذلك كله فاحذروا من الإقامة على معاصيه فيصيبكم من العذاب ما يتلفَكم ويمحقَكم "أ.هـ .
فاللهم أصلح أحوال المسلمين وانشر الأمن في ربوعهم واهدهم إلى مافيه مرضاتك ورحمتك يا أرحم الراحمين .
د.ناصر بن يحيى الحنيني(/5)
أشراط الساعة
عبدالمحسن بن محمد القاسم
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه ومذل من أضاع أمره وعصاه، أحمده على جزيل كرمه وما أولاه وأشكره على آلائه الجسيمة وما أسداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا رب لنا سواه ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله خير عبد اجتباه وأفضل رسول اصطفاه، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن كان هواه تبعاً لهداه، وبعد:
فإن الإيمان باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وقد جعل الله بين يدي الساعة أشراطاً تدل على قربها، ولقد كان نبيكم يعظم أمر الساعة فكان إذا ذكرها احمرّت وجنتاه وعلا صوته واشتد غضبه وقد أبدى فيها وأعاد. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتذاكرون أمر الساعة، قال حذيفة اطلع النبي علينا ونحن نتذاكر فقال: { ما تذاكرون؟ } قلنا: نتذاكر الساعة، ولما أكثر النبي من ذكرها وتعددت الآيات بقربها أشفق الصحابة من قيامها عليهم.
وقد ظهر كثير من أشراطها وتحقق ما أخبر به المصطفى ، فكل يوم يزداد فيه المؤمنون إيماناً به وتصديقاً له، إذ يظهر من دلائل نبوته وآيات صدقه ما يوجب على المسلمين التمسك بهذا الدين الحنيف ليتأهبوا للنقلة فإن الساعة قد قربت وبدت أماراتها قال تعالى: اقتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ [القمر:1].
وإذا ظهرت الأشراط الكبرى تتابعت كتتابع الخرز في النظام إذا انفرط عقده يقول النبي : { وأيها كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريباً } [رواه مسلم].
وفي المسند: ( الآيات خرزات منظومات في سلك فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضاً ).
أيها المسلمون:
إن من أمارات الساعة بعثة المصطفى فقد ثبت عنه أنه قال: { بعثت أنا والساعة جميعاً وإن كادت لتسبقني }. ومنها موته عليه الصلاة والسلام وقد أظلمت الدنيا في عيون الصحابة بوفاته، ومن أشراطها ظهور فتن عظيمة يلتبس فيها الحق بالباطل ويتزلزل الإيمان ويمر الرجل بقبر الرجل ويتمرغ عليه لتغير الأحوال وتبدل الشريعة، ويقول: ياليتني كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به إلا البلاء.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: ( سيأتي عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يُباع لاشتراه ). ويقول النبي : { إن بين الساعة فتناً كقطع الليل المُظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً } [رواه أحمد].
وآخر هذه الأمة يصاب بالبلاء يقول النبي : { إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء الفتنة فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر }.
أيها المسلمون:
من أشراط الساعة: كثرة الزلازل، ويقع خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ويكلم السباع الإنس، ويكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده، وتخرج دابة على الناس ضحى تكلم الناس أن الناس كانوا بآيات ربهم يوقنون، ويقرب الزمان فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاحتراق السعفة، ويكثر النساء ويقل الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد، ويخرج يأجوج ومأجوج، في الصحيحين عن زينب بنت جحش أن الرسول دخل عليها يوماً فزعاً يقول: { لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها }، ويقل العلم ويظهر الجهل حتى لا يعرف الناس فرائض الإسلام، يقول النبي : { يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويُسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة يقولون لا إله إلا الله فنحن نقولها } [رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم].
ويستهان بالمحارم، ويستخف بالنواهي، فيشرب الخمر، ويفشو الزنا، ويلقى الشح في القلوب، ويكثر الهرج وهو القتل، حتى لا يدري القاتل فيم قَتل ولا المقتول فيم قُتل، فقيل كيف يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: { القاتل والمقتول في النار } [رواه مسلم].
وتشرئب أعناق البشر إلى الدنيا فيتطاولون في البنيان ويعرضون عن دين الله فيقع الشرك في هذه الأمة وتلحق قبائل منها بالمشركين، يقول النبي : { لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان } [ رواه الترمذي وقال حديث صحيح].(/1)
وإذا انسلخت عن دينها وأضاعت ملتها وتنكرت لشريعتها ضلت وتلمست الهدى من غير وحيها ويقول النبي : { لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع } [رواه البخاري]. ويكثر فيها الدجل والكذب، ويبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه نبي. وتسلب صفات محمودة في البشر فلا تكاد تؤدى الأمانة فيقال: { إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان } [رواه البخاري]. ومن إضاعة الأمانة إسناد الأمر إلى غير أهله. ولا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد، وتترك المدينة عامرة على خير ما كانت لا يغشاها إلا عوافي السباع والطير وآخر من يحشر راعيان من مُزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها - أي المدينة - وحشاً - أي خالية ليس فيها أحد - حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرّا على وجوههما.
أيها المسلمون:
ليس بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال، وما نبي إلا حذر أمته منه، وقد كان النبي يتعوذ منه في كل صلاة وقد أكثر النبي من ذكره لأصحابه، قال النواس بن سمعان حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: { ما شأنكم } قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال الغداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل - أي ناحيته - فقال: { غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجة دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامروء حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم } [رواه مسلم].
وفي خفقة من الدين وإدبار من العلم يخرج مسيح الضلالة من جهة المشرق فيفر الناس منه في الجبال، ويسير في الأرض، فلا يترك بلداً إلا دخله إلا مكة والمدينة فقد حرّم الله عليه دخولهما كلما أراد أن يدخلهما استقبله ملك بيده السيف صلتاً يصده عنهما على كل نقب من أنقابهما ملائكة يحرسونهما، وترجف المدينة ثلاث رجفات فيخرج منها كل منافق وكافر وينزل في السبخة في الجرف ويكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل يرجع إلى حميمته وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إلى الدجال.
أيها المسلمون:
إن للدجال فتنة عظيمة وإن معه نهران يجريان أحدهما تراه العين ماء أبيض والآخر تراه العين نار تأجج يقول النبي : { فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمص ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد } [رواه مسلم].
هذا وإن الذي يرى الناس أنه ماء فهو نار تحرق. يمتحن الله بالدجال عباده بما يخلقه معه من الخوارق المشاهدة في زمانه، ويقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى من إحياء الرجل الميت الذي قتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه وجنته وناره ونهريه واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، ومن لا يستجيب له يرد عليه أمره، تصيبهم السنة والجدب والقحط والقلة وموت الأنعام ونقص الأموال والأنفس والثمرات، يقع ذلك كله بقدرة الله تعالى ومشيئته ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل الذي أحياه بعد قتله ولا غيره.
يبتلي الرب به عباده في آخر الزمان فيضل به كثيراً ويهدي به كثيراً، ويكفر المرتابون، ويزداد الذين آمنوا إيماناً، لبثه في الأرض أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم وإسراعه في الأرض كغيث استدبرته الريح.
وأما نعته: فشاب جسيم أحمر أجلى الجبهة عريض النحر، فيه دفأ - أي انحناء - جعد الرأس، كثير الشعر، أعور العين، كأن عينه عنبة طافية، لا يولد له. قال تميم الداري عنه: أعظم إنسان رأيناه قط وأشده وثاقاً مكتوب بين عينيه كافر. وفي رواية لمسلم ثم تهجاه ك ف ر يقرأ ذلك كل مؤمن كاتب وغير كاتب.
يقول الإمام السفاريني رحمه الله: ( ينبغي لكل عالم أن يبث أحاديث الدجال بين الأولاد والنساء والرجال لاسيما في زماننا هذا الذي اشرأبت فيه الفتن وكثرت فيه المحن ).
إن العصمة من الدجال بالتمسك بالإسلام والتسلح بالإيمان ومعرفة أسماء الله وصفاته الحسنى على ضوء ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، فالمسيح بشر يأكل ويشرب، والله تعالى منزه عن ذلك، والدجال أعور، وربنا ليس بأعور، والله لا يراه أحد قبل أن يموت، والدجال يراه الناس مؤمنهم وكافرهم.
أيها المسلمون:
أكثروا من التعوذ من فتنته ومن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، وفي لفظ لمسلم { من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف }، وفي لفظ { خواتمها } { عُصم من الدجال } وإذا سمعت بالدجال فانأ عنه، ولا تأته، فإن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات.
أيها المسلمون:(/2)
إذا خرج الدجال في آخر الزمان كثر أتباعه وعمت فتنته، ولا ينجو منه إلا قلة من المؤمنين، وعند ذلك ينزل عيسى ابن مريم في شرقي دمشق، عند المنارة البيضاء، ويلتقي حوله عبادُ الله المؤمنون، فيسير بهم قاصداً مسيح الضلالة ويكون الدجال عند نزول عيسى متوجهاً بيت المقدس، فيلحق به عيسى عند باب لُدِّ في فلسطين، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، فيقول له عيسى: إن لي فيك ضربة لن تفوتني.
فيدركه عيسى فيقتله بحربته وينهزم أتباعه، فيتبعهم المؤمنون فيقتلونهم. وبقتله تنتهي فتنته العظيمة، والأمر لله من قبل ومن بعد.
عباد الله:
إن زمن عيسى بعد قتل الدجال زمن أمن ورخاء ورغد من العيش، يرسل الله مطراً لا يُكنُّ منه بيت مدر ولا وبر، ويقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فيومئذ تأكل الجماعة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرّسل - أي اللبن - حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس.
وتقع الآمنة على الأرض فترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، ويعد مكث عيسى عليه السلام في الأرض سبع سنين، يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، وتقوم الساعة وليس على وجه الأرض من يقول: الله الله وتطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا جميعاً، فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ويطبع على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل، وآخر أشراط الساعة الكبرى وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة نار عظيمة تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا.
وبعد:
أيها المسلمون فوعد الله حق والساعة آتية لا ريب فيها، والدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء والآزفة قد أزفت، ومن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته ثم اشتدت عليه حسراته، فالآمال تطوى، والأعمار تفنى ومن أطال الأمل نسي العمل وغفل عن الأجل.
وفي صباح كل يوم ينعاك ضوءه، فالسعيد من أعد العدة واستعد للنقلة.
قال بعض الحكماء: عجبت ممن يحزن على نقصان ماله ولا يحزن على نقصان عمره، فاجتهد في العبادة وابكِ على الخطيئة، وفر من العقوبة. فالموفق من صرف أمله إلى ما يبقى وقطعه عما يفنى، لما حضرت محمد بن سيرين الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك فقال: ( أبكي لتفريطي في الأيام الخالية، وقلة عملي للجنة العالية ).(/3)
أشياء لا تُفسد الصوم ...
ابن باز & ابن عثيمين ...
الإمام / عبد العزيز بن عبد الله بن باز
و العلامة / محمد بن عثيمين
الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .. أما بعد.
فإنه يكثر السؤال مع دخول كل رمضان عن أشياء تقع للمسلم في حياته اليومية وهي لا تفطر ولله الحمد. فبين يديك ـ أخي المسلم ـ هذه الفتاوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وسماحة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله .
سؤال: إذا احتلم الصائم في نهار رمضان هل يبطل صومه أم لا؟ وهل تجب عليه المبادرة بالغسل؟
الجواب: الاحتلام لا يبطل الصوم؛ لأنه ليس باختيار الصائم، وعليه أن يغتسل غسل الجنابة. إذا رأى الماء وهو المني.
ولو أحتلم بعد صلاة الفجر وأخر الغسل إلى وقت صلاة الظهر فلا بأس.. وهكذا لو جامع أهله في الليل ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر، لم يكن عليه حرج في ذلك، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنباً من جماع ثم يغتسل ويصوم.. وهكذا الحائض والنفساء لو طهرتا في الليل ولم تغتسلا إلا بعد طلوع الفجر لم يكن عليهما بأس في ذلك وصومهما صحيح.. ولكن لا يجوز لهما ولا للجنب تأخير الغسل أو الصلاة إلى طلوع الشمس، بل يجب على الجميع البدار بالغسل قبل طلوع الشمس حتى يؤدوا الصلاة في وقتها.
وعلى الرجل أن يبادر بالغسل من الجنابة قبل صلاة الفجر حتى يتمكن من أداء الصلاة في الجماعة .. والله ولي التوفيق.
سؤال: كنت صائماً ونمت في المسجد وبعدما استيقظت وجدت أني محتلم، هل يؤثر الاحتلام في الصوم علماً بأنني لم أغتسل وصليت الصلاة بدون غسل. ومرة أخرى أصابني حجر في رأسي وسال الدم منه هل أفطر بسبب الدم؟ وبالنسبة للقيء هل يفسد الصوم أم لا؟ أرجو إفادتي.
الجواب: الاحتلام لا يفسد الصوم؛ لأنه ليس باختيار العبد ولكن عليه غسل الجنابة إذا خرج منه مني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك أجاب بأن على المحتلم الغسل إذا وجد الماء يعني المني، وكونك صليت بدون غسل هذا غلط منك ومنكر عظيم، وعليك أن تعيد الصلاة مع التوبة إلى الله سبحانه، والحجر الذي أصاب رأسك حتى أسال الدم لا يبطل صومك، وهذا القي الذي خرج منك بغير اختيارك لا يبطل صومك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء" رواه أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح .
سؤال: هل خروج المذي لأي سبب كان، يفطر الصائم أم لا؟
الجواب: لا يفطر الصائم بخروجه منه في أصح قولي العلماء.
سؤال: ما حكم أخذ الصائم الحقنة الشرجية للحاجة؟
الجواب: حكمها عدم الحرج في ذلك إذا احتاج إليها المريض في أصح قولي العلماء، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ وجمع كثير من أهل العلم لعدم مشابهتها للأكل والشرب.
سؤال: ما حكم استعمال الإبر التي في الوريد والإبر في العضل.. وما الفرق بينهما للصائم؟
الجواب: بسم الله والحمد لله.. الصحيح أنهما لا يفطران، وإنما التي تفطر هي إبر التغذية خاصة، وهكذا أخذ الدم للتحليل لا يفطر به الصائم؛ لأنه ليس مثل الحجامة، أما الحجامة فيفطر بها الحاجم والمحجوم في أصح أقوال العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم" .
سؤال: إذا حصل للإنسان ألم في أسنانه،وراجع الطبيب، وعمل له تنظيفاً أو حشواً أو خلع أحد أسنانه، فهل يؤثر ذلك على صيامه؟ ولو أن الطبيب أعطاه إبرة لتخدير سنة، فهل لذلك أثر على الصيام؟
الجواب: ليس لما ذكر في السؤال أثر في صحة الصيام،بل ذلك معفو عنه، وعليه أن تحفظ من ابتلاع شيء من الدواء أو الدم، وهكذا الإبرة المذكورة لا أثر لها في صحة الصوم لكونها ليس في معنى الأكل والشرب.. والأصل صحة الصوم وسلامته.
سؤال: هل يجوز للصائم أن يستعمل معجون الأسنان وهو صائم في نهار رمضان؟
الجواب: لا حرج في ذلك مع التحفظ عن ابتلاع شيء منه، كما يشرع استعمال السواك للصائم في أول النهار وآخره، وذهب بعض أهل العلم إلى كراهة السواك بعد الزوال، وهو قول مرجوح والصواب عدم الكراهة، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها. ولقوله صلى الله عليه وسلم: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" متفق عليه. وهذا يشمل صلاة الظهر والعصر، وهما بعد الزوال. والله ولي التوفيق.
سؤال: استعمال قطرة العين في نهار رمضان هل تفطر أم لا؟
الجواب: الصحيح أن قطرة العين لا تفطر، وإن كان فيها خلاف بين أهل العلم، حيث قال بعضهم: إنه إذا وصل طعمها إلى الحلق فإنها تفطر. والصحيح أنها لا تفطر مطلقاً، لأن العين ليست منفذاً، لكن لو قضى احتياطاً وخروجاً من الخلاف من وجد طعمها في الحلق فلا بأس، وإلا فالصحيح لا تفطر سواء كانت في العين أو في الأذن.(/1)
سؤال: أنا رجل مصاب بمرض الربو، وقد نصحني الطبيب باستخدام العلاج بواسطة البخاخ عن طريق الفم، فما حكم استعمالي هذا العلاج حال صومي رمضان؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب: بسم الله والحمد الله، حكمه الإباحة إذا اضطررت إلى ذلك؛ لقول الله عز وجل: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}[الأنعام: 119] ، ولأنه لا يشبه الأكل والشرب فأشبه سحب الدم للتحليل، والإبر غير المغذية.
سؤال: يوجد في الصيدليات معطر خاص للفم، وهو عبارة عن بخاخ. فهل يجوز استعماله خلال نهار رمضان لإزالة الرائحة من الفم؟
الجواب: لا نعلم بأساً في استعمال ما يزيل الرائحة الكريهة من الفم في حق الصائم وغيره إذا كان ذلك طاهراً مباحاً.
سؤال: ما حكم استعمال الكحل وبعض أدوات التجميل للنساء خلال نهار رمضان، وهل تفطر هذه أم لا ؟
الجواب: الكحل لا يفطر النساء ولا الرجال في أصح قولي العلماء مطلقاً، ولكن استعماله في الليل أفضل في حق الصائم، وهكذا ما يحصل به تجميل الوجه من الصابون والأدهان وغير ذلك مما يتعلق بظاهرة الجلد، ومن ذلك الحناء والمكياج وأشباه ذلك،مع أنه لا ينبغي استعمال المكياج إذا كان يضر الوجه،والله ولي التوفيق.
سؤال: هل القيء يفسد الصوم؟
الجواب: كثيراً ما يعرض للصائم أموراً لم يتعمدها، من جراح، أو رعاف، أو قيء، أو ذهاب الماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره، فكل هذه الأمور لا تفسد الصوم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء".
سؤال: ما حكم بلع الريق للصائم؟
الجواب: لا حرج في بلع الريق، ولا أعلم في ذلك خلافاً بين أهل العلم لمشقة أو تعذر التحرز منه، أما النخامة والبلغم فيجب لفظهما إذا وصلتا إلى الفم، ولا يجوز للصائم بلعهما لإمكان التحرز منها، وليسا مثل الريق، وبالله التوفيق.
سؤال: هل يجوز استعمال الطيب، كدهن العود والكولونيا والبخور في نهار رمضان؟
الجواب: نعم يجوز استعماله بشرط ألا يستنشق البخور.
سؤال: رجل صائم اغتسل وبسبب قوة ضغط الماء دخل الماء إلى جوفه من غير اختياره فهل عليه القضاء؟
الجواب: ليس عليه قضاء لكونه لم يتعمد ذلك، فهو في حكم المكره والناسي.
سؤال: هل اغتياب الناس يفطر في رمضان؟
الجواب: الغيبة لا تفطر الصائم وهي ذكر الإنسان أخاه بما يكره وهي معصية، لقول الله عز وجل: {ولا يغتب بعضكم بعضا}[الحجرات: 12]، وهكذا النميمة والسب والشتم والكذب كل ذلك لا يفطر الصائم، ولكنها معاصي يجب الحذر منها واجتنابها من الصائم وغيره، وهي تجرح الصوم وتضعف الأجر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"رواه الإمام البخاري في صحيحه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل أني صائم"متفق عليه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
سؤال: ما الحكم إذا خرج من الصائم دم كالرعاف ونحوه، وهل يجوز للصائم التبرع بدمه أو سحب شيء منه للتحليل؟
الجواب: خروج الدم من الصائم كالرعاف والاستحاضة ونحوهما لا يفسد الصوم. وإنما يفسد الصوم الحيض والنفاس والحجامة.
ولا حرج على الصائم في تحليل الدم عند الحاجة إلى ذلك، ولا يفسد الصوم بذلك، أما التبرع بالدم فالأحوط تأجيله إلى ما بعد الإفطار؛ لأنه في الغالب يكون كثيراً، فيشبه الحجامة. والله ولي التوفيق.
[مجموعة فتاوى سماحة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ]
سؤال: ما الحكم إذا أكل الصائم ناسياً؟ وما الواجب على من رآه؟
الجواب: من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم فإن صيامه صحيح، لكن إذا تذكر فيجب عليه أن يقلع، حتى إذا كانت اللقمة أو الشربة في فمه فإنه يجب عليه أن يلفظها، ودليل تمام صومه قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه من حديث أبي هريرة: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" ولأن النسيان لا يؤاخذ به المرء في فعل محظور لقوله ـ تعالى ـ: {ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا} [البقرة: 286] فقال الله ـ تعالى ـ: "قد فعلت".
أما من رآه فإنه يجب عليه أن يذكره؛ لأن هذا من تغيير المنكر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" ولا ريب أن أكل الصائم وشربه حال صيامه من المنكر ولكنه يعفى عنه حال النسيان لعدم المؤاخذة، أما من رآه فإنه لا عذر له في ترك الإنكار عليه.
سؤال: ما حكم السواك والطيب للصائم؟
الجواب: الصواب أن التسوك للصائم سنة في أول النهار وفي آخره، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب". وقوله: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة".(/2)
وأما الطيب فكذلك جائز للصائم في أول النهار وفي آخره سواء كان الطيب بخوراً، أو دهناً، أو غير ذلك، إلا أنه لا يجوز أن يستنشق البخور، لأن البخور له أجزاء محسوسة مشاهدة إذا استنشقه تصاعدت إلى داخل أنفه ثم إلى معدته،ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً"
سؤال: خروج الدم من لثة الصائم هل يفطر؟
الجواب: الدم الذي يخرج من الأسنان لا يؤثر على الصوم، لكن يحترز من ابتلاعه ما أمكن، وكذلك لو رعف أنفه واحترز من ابتلاعه، فإنه ليس عليه في ذلك شيء، ولا يلزم القضاء.
سؤال: إذا طهرت الحائض قبل الفجر واغتسلت بعد طلوعه فما حكم صومها؟
الجواب: صومها صحيح إذا تيقنت الطهر قبل طلوع الفجر، المهم أن تتيقن أنها طهرت، لأن بعض النساء تظن أنها طهرت وهي لم تطهر، ولهذا كانت النساء يأتين بالقطن لعائشة ـ رضي الله عنها ـ فيرينها إياه علامة على الطهر، فتقول لهن: ((لا تجعلن حتى ترين القصة البيضاء))، فالمرأة عليها أن تتأنى حتى تتيقن أنها طهرت، فإذا طهرت فإنها تنوي الصوم وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر، ولكن عليها أن تراعي الصلاة فتبادر بالاغتسال لتصلي صلاة الفجر في وقتها.
وقد بلغنا أن بعض النساء تطهر بعد طلوع الفجر، أو قبل طلوع الفجر، ولكنها تؤخر الاغتسال إلى ما بعد طلوع الفجر بحجة أنها تريد أن تغتسل غسلاً أكمل وأنظف وأطهر، وهذا خطأ في رمضان وفي غيره، لأن الواجب عليها أن تبادر وتغتسل لتصلي الصلاة في وقتها، ولها أن تقتصر على الغسل الواجب لأداء الصلاة، وإذا أحبت أن تزداد طهارة ونظافة بعد طلوع الشمس فلا حرج عليها، ومثل المرأة الحائض من كان عليه جنابة فلم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر فإنه لا حرج عليها وصومها صحيح، كما أن الرجل عليه جنابة ولم يغتسل منها إلا بعد طلوع الفجر وهو صائم فإنه لا حرج عليه في ذلك، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه يدركه الفجر وهو جنب من أهله فيصوم ويغتسل بعد طلوع الفجر صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
سؤال: ما حكم التبرد للصائم؟
الجواب: التبرد للصائم جائز لا بأس به، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصب على رأسه الماء من الحر، أو من العطش وهو صائم، وكان ابن عمر يبل ثوبه وهو صائم بالماء لتخفيف شدة الحرارة، أو العطش، والرطوبة لا تؤثر؛ لأنها ليس ماء يصل إلى المعدة.
سؤال: هل يبطل الصوم بتذوق الطعام؟
الجواب: لا يبطل الصوم بتذوق الطعام إذا لم يبتلعه ولكن لا يفعله إلا إذا دعت الحاجة إليه، وفي هذه الحال لو دخل منه شيء إلى بطنك بغير قصد فصومك لا يبطل.
[فتاوى أركان الإسلام للشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ](/3)
أصح البشائر في مبعث سيد الأوائل
محمد المجذوب
لا حاجة إلى القول بأني أحد المستمتعين بأحاديث الأخ الشيخ علي الطنطاوي ، التي يرسلها عن طريق المذياع قبيل صلاة العصر من كل يوم ، حتى لا يكاد يفوتني أحدها إلا تحت ضغط الضرورة ، فالشيخ ـ حفظه الله وبارك في حياته ـ قد أصبح منذ بدأ هذه الأحاديث أنيس الجماهير ، إذ اقتحم على الناس مساكنهم ومشاغلهم ، واجتذب اهتمامهم فألفوا صوته ، واستعذبوا أسلوبه ، الذي يمزج الجد باللعب ، والعلم بالأدب ، ويخالط مشاعرهم بما يتناول من مسائلهم ومشكلاتهم وتطلعاتهم .. بتلك اللهجة المحببة التي يطلقها على فطرتها ، فتحمل إلى المستمع ـ والرائي ـ نفحات الغوطة ومشاهد قاسيون ، وذكريات دمّر وبردى من دنيا الشام ، دنيا الصبا والشباب والأحلام ..
والله تبارك اسمه ، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، هو الذي قدر التلاقي والافتراق في نطاق الأفكار ، فقد تتقارب حتى لتجمعها الوحدة ، وتتباين حتى لا يتصور بينها لقاء . وطبيعي أن يرتفع منسوب هذا وذاك بالنسبة إلى أحاديث تكاد تؤلف موسوعة يتعذر تحديدها من المعلومات والمفهومات والتقريرات والفكاهات .. وعلى الرغم من كثرة نقاط التلاقي بين أفكار الأخ علي الطنطاوي وأفكاري ، فهناك مواقف نختلف عليها وقد يبلغ بعضها حداً يقتضي الحوار، فأكتب به إليه أو يعقب في أحاديثه عليه .. وعلى هذا السنن أراني اليوم مدفوعاً لمناقشة واحدة من نقاط الاختلاف التي عرض لها في بعض أحاديثه أكثر من مرة . وقد كان عليّ أن أثير هذه المناقشة معه من زمان ، بيد أن ظروف العمل التي تستحوذ على معظم وقتي حالت دون ذلك من قبل ، وإنما حفزني إليها اليوم خبر اورده ابن إسحاق في تضاعيف السيرة ومرّ به ابن هشام ثم العاملون في خدمتها من المحققين والناشرين دون أن يلقوا إليه بالاً فيما أعلم ..
وبإزاء هذا الخبر وقفت أتأمل وأفكر وأقارن ، حتى انتهيت على القناعة بأن من الخير كتابة هذا البحث لا في شأنه وحده ، بل في أهم جوانب الموضوع المتصل به ، مما سبق أن أثاره في صدري حديث الأستاذ المكرر ..
أما الموضوع ففي نطاق البشائر التي تقدمت مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقدمه وبعثه والرسالة العظمى التي يحملها إلى الثقلين جميعاً ، فيجمع بها شمل الإنسانية التي فرقتها العصبيات ، وينشر لأول مرة في تاريخ الدنيا إعلانه العالمي عن حقوق الإنسان في الحياة والكرامة والحرية .
ومهما تكن المناسبة التي دعت الأستاذ الطنطاوي إلى التعرض لهذا الموضوع ، فهي لا تعدو سؤالاً أورده مستمعيه بغية الوقوف على جوابه بشأن ما ذكره كتّاب السيرة النبوية عن المبشرات بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم في مختلف الروايات التاريخية .
وقد رأيت الأستاذ أجزل الله مثوبته يميل صراحة إلى إنكار هذه الأخبار ، ليؤكد خلو ذهن المصطفى صلى الله عليه وسلم من أي علم سابق عن ترشيحه لذلك المنصب الأعلى .. وما أدري أجاء تكراره لهذه الأفكار من قبل الإذاعة التي من عادتها إعادة بعض الحلقات في مناسبات مختلفة ، أم كان جواباً مؤكداً على سؤال جديد في الموضوع نفسه ! .. وعلى أي حال فقد كان لموقفه هذا أثره في صدري كما أسلفت ، لاعتقادي أنه ينطوي على إطلاق لابد من تقييده ، حفاظاً على الحقيقة التي نحبها جميعاً ، ذلك لأن قبول كل ما ورد في السيرة من هذه البشائر ضرب من الاستسلام الضرير، الذي لا تقره الرؤية الإسلامية ، كما أن رفض كل ما يتعلق بهذا الجانب تحكم لا مسوغ له في منطق العلم والعقل ..
وإذن ففي جوابي الأستاذ حول هذه البشائر صواب لا مندوحة عن إقراره ، وفيهما خطأ لا يرضى هو بالسكوت عنه ، ولا يتفق مع منهجه العلمي .. ولننظر الآن في كل من الجانبين على حدة .
• إن المتتبع في وعي لروايات السيرة حول نشأة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يجد نفسه بإزاء أخبار من حقها ـ لو صحت ـ أن تهيئ ذهنه صلى الله عليه وسلم لاستقبال النبأ العظيم .. وفي مقدمة هذه الروايات خبر بحيرا ، الذي تقدمه الرواية على أنه راهب عربي ، اتخذ في طريق القوافل على حدود الشام صومعة يعبد بها ربه ، حتى إذا مرّ به ركب قريش ، وفيه أبو طالب وابن أخيه ـ الذي لم يتجاوز الثانية عشرة بعد ـ شدّت انتباهه ظاهرة غير مألوفة ما لبث أن تحرك لاستكشافها ، فدعا القوم لطعامه ، وأكد عليهم أن لا يتخلف عنه أحد منهم ومن ثم شرع في تحريه ، استقراء عن طريق العلامات المميزة ، واستنطاقاً بالأسئلة التي طرحها على الغلام المنشود ، حتى استيقن الحقيقة التي يتطلع إليها أولو العلم من أحبار يهود ورهبان النصارى .. وهنا تنتهي قصة بحيرا لدى ابن هشام وابن كثير (1) ثم يواصل الثاني حديثه عن بحيرا برواية قراد أبي نوح ، التي تقول إن بحيرا قد أعلن قناعته بكون هذا اليتيم هو المبعوث المنتظر (2).(/1)
ثم تأتي الرواية الأخرى عن رحلته صلى الله عليه وسلم بتجارة الطاهرة ـ خديجة ـ إلى الشام ، حيث أتيح لفتاها ميسرة أن يرى ويسمع من خلال محمد صلى الله عليه وسلم ما ملأ قلبه إعجاباً وتقديراً .
ولا تقف الرواية عند هذا الحد ، بل تضم إليه أيضاً بعض المشاهد الخارقة التي أحاطت بالرفيق الكريم أثناء رحلته ، من تضليل الغمام ورعاية الملكين له .. وإخبار راهب نصراني لميسرة بما يفيد أن رفيقه مرشح لمقام النبوة ... (2) حتى إذا وصل ركبهما مكة ذهب ميسرة يحدث مولاته خديجة بمرئياته ومسموعاته ، وبخاصة كلمة الراهب ، فلم تتمالك أن مضت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل تذكر له حديث ميسرة ، فما كان من هذا إلا أن أكد لها توقعات الراهب قائلاً : لئن كان هذا حقاً يا خديجة إن محمداً لنبي هذه الأمة .. (3)
وتمضي الرواية فتعرض لنا اهتمام ورقة عقيب ذلك بخبر محمد صلى الله عليه وسلم حتى ليترجم أشواقه إلى يوم إعلانه دعوته بأبيات نثبت فيما يلي بعضها .
لججت ، وكنتن في الذكرى لجوجاً
ووصف من خديجة بعد iiوصف
ببطن المكتين على رجائي
بما خبرتنا من قول iiقسّ
بأن محمداً سيسود iiفينا
ويظهر في البلاد ضياء iiنور
فياليتي إذا ما كان iiذاكم
ولوجا في الذي كرهت iiقريش ...
... لهمّ طالما بعث iiالنشيجا
فقد طال انتظاري يا iiخديجا
حديثك أن أرى منه iiخروجا
من الرهبان أكره أن iiيعوجا
ويخصم من يكون له iiحجيجا
يقيم به البرية أن iiتموجا
شهدت وكنت أكثرهم iiولوجا
ولو عجت بمكتها iiعجيجا
ويتبع هذه الروايات أخبار أخرى عن كهنة العرب ، تشير على مبعث النبي الموعود ، مرة بالرمز إليه ، وأخرى بالتصريح عن اسمه .. وحسبنا منها جميعاً معالجة الخبرين الأولين بالممكن من التدقيق في قيمتهما العلمية ومدى صلتهما بالواقع .
ونبدأ بخبر بحيرا .. فمع اختلاف مؤرخي السيرة في شخصيته ونسبه وملته يكادون يتفقون على كونه من أحبار أهل الكتاب ، قد أقام في صومعته تلك يعبد الله في معزل عن مفاسد عصره . وحين يعرضون ليوم لقائه محمداً صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب يكادون يتفقون كذلك على تنويهه بشأنه ، بعد تحققه من صفاته التي يجدها في بعض آثار الأنبياء السابقين .. ويزيد بعضهم أنه على مرأى ومسمع من أشياخ الركب (أخذ بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقال : هذا سيد العالمين ، وفي رواية الترمذي والبيهقي قال : هذا رسول رب العالمين بعثه الله رحمة للعالمين ..) ولما سأله هؤلاء عن مستند علمه عنه أجاب (إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجداً ، ولا يسجدون غلا لنبي .. وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف في كتفه ..) ولم يكتف بالخبر فأراهم فأراهم الشجرة وهي تفيء بظلها عليه .. ثم ما زال بعمه حتى رده إلى مكة حماية له من الروم ـ وفي رواية من يهود ـ وتختم هذه الرواية بأن أبا بكر بعث معه بلالاً وزوده الراهب بالكعك والزيت (4) .
والذي يهمنا من حديث بحيرا هو إخباره بمستقبل محمد صلى الله عليه وسلم من حيث اصطفاء الله إياه لرسالته الخاتمة ، وتوكيده ذلك بسجود الشجر والحجر له .. فها هنا يتوقف القارئ المفكر ليتساءل عن نصيب القصة من الواقع ، وبخاصة أن بحيرا لم يلق بالخبر همساً في مسمع واحد بعينه بل أعلنه صراحة على ملأ من أفراد الركب ، الذي طالبه أشياخهم بالبرهان على مدعاه ..
وأنت حين تواجه هذا الخبر لابد لك من التساؤل كيف ينسى محمد صلى الله عليه وسلم ذلك النبأ في ما بعد ، وما بال أشياخ قريش ينسونه أيضاً ، فلا يتذكرونه يوم يطلع عليهم بدعوة ربه ؟ .. بل يقابلونها بالجحود والعناد ، الذي يقطع بأن المعارضين قد فوجئوا بها ، كما فوجئ بها محمد صلى الله عليه وسلم نفسه ، الذي ناء تحت ثقله أول الأمر، ثم لم يطمئن قلبه إليها إلا بعد أن ثبته الله بلطفه ، وبما يسر له من عون الزوج العظيمة خديجة ..
ونظرة أخيرة إلى خاتمة القصة تكشف لك عن واحدة من المشكلات التي لا تجد لها حلاً .. إذ المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في الثانية عشرة ، يكبر صديقه أبا بكر بما يقارب الثلاث من السنوات ، إذ كان ما بين التاسعة والعاشرة ، ولم تذكر له السيرة أي صلة ببلال ، الذي كان في رق أمية بن خلف حتى يوم انتقاله إلى ملك الصديق في أوائل سني البعثة .. فكيف كبر الصديق حتى قام بمسؤولية الحماية لمحمد ؟.. وكيف أفلت بلال من رق أمية ودخل في سلطان ودخل في سلطان الصديق ؟.. وكيف ارتفعت سنه بغتة حتى صار قادراً على القيام بهذه المهمة ؟ ! ومن أين جاء اسم الكعك إلى القصة وهو لفظ لعله لم يتطرق إلى العربية إلا بعد الفتح الإسلامي ؟!!(/2)
وهذه الحيرة التي تراودك بإزاء القصة قد سبقتنا إليها عدد من رجال الحديث الذين لم يستطيعوا ردها تهيباً لسنده ولكنهم لم يكتموا رأيهم بأن من حملها إنما حملها لغرابتها مع التوكيد على انفراد راويها الأخير بها ، حتى أن ابن إسحاق نفسه لم يستطع عرضها إلا في صيغة " الزعم " التي تنم عن منتهى الشك (5) وكذلك فعل ابن كثير حين وجه إليها نقداً يوشك أن يكون رداً للرواية بأسرها ، ومثله صنع الزرقاني في شرحه على المواهب إذ نقل تضعيف الذهبي للخبر (6) كما فعل البيهقي بقوله نقلاً عن أحدهم (ليس في الدنيا مخلوق يحدث به غير قراد) (7) .
وننتقل الآن إلى القسم الثاني .
لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارة خديجة وهو في الخامسة والعشرين من سنيه ، وكان رفيقه في هذا الرحلة ميسرة غلامها ، ولابد أنها استغرقت طويلاً من الزمن ، وبذلك أتيح لميسرة وهو العاقل الفهم ـ كما يلوح من خلال الرواية ـ أن يشهد من خلائق محمد وسمو تصرفاته أثناءها ما يدفعه إلى الحديث عنهما لكل من يتصل به وبخاصة مولاته خديجة ، التي لا بد أنها أصغت إلى روايته تلك بإعجاب الكريم الفاضل يسمع أنباء إنسان بلغ القمة في عالم الفضائل ، حتى ليدفعها ذلك الإعجاب إلى التفكير في الاقتران به . وسواء توسلت إلى هذه الأمنية الغالية بعرض أمرها عليه مباشرة ـ كرواية ابن إسحاق (10) ـ أو بوساطة المرأة الحكيمة نفيسة بنت علية (11) أو عن طريق أخت لخديجة في إحدى الروايات ، فقد أتم الله ذلك القران السعيد الذي عم ببركته لا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب بل العالم الإسلامي بأجمعه حتى الساعة .
وإلى هنا والخبر طبيعي ومعقول ، ولكن التوقف إنما يتأتى عند بقيته ، حيث نرى خديجة رضي الله عنها مشغولة الذهن بموضوع الغمامة والملائكة وخبر النبوة ، حتى لا تتمالك أن تقصد إلى ذلك الرجل الحكيم العليم ورقة بن نوفل لتتعرف تأويل تلك الظواهر ، فتسمع منه البشرى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك باعثها الفعال على طلب الزواج منه .
وبقليل من التأمل في مسيرة هذا الجزء من الرواية يتضح اضطرابه هو الآخر ذلك أن خبراً كهذا تسمعه خديجة من ميسرة ثم من ورقة من حقه أن يصل إلى محمد صلى الله عليه وسلم عقب زواجه أو خلال الخمس عشرة سنة التي سبقت الوحي ، وهذا ما ترفضه الوقائع ، التي تؤكد أن محمداً وخديجة كليهما كانا سواء في خلو ذهنيهما من أمر الوحي ، إذ فاجأه على غير انتظار، وفاجأها به في جو من الروع المهيب ، فلم تجد ما تقوله له سوى التذكير بفضائله التي لا يقاربها الشيطان .. وحسبنا دليلاً حاسماً على خلو ذهنه صلى الله عليه وسلم من موضوع النبوة كلياً قول ربه له تبارك اسمه : [وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ..] (الشورى 52) . وهو توكيد جازم لما سبق من قوله الآخر سبحانه في سورة الضحى [ووجدك ضالاً فهدى] ففي كلتا الآيتين تصوير عميق الدلالة على الوضع النفسي الذي كان يلابس محمداً صلى الله عليه وسلم قبل الوحي ، فهو في حيرة لا يعرف السبيل إلى جلائها ، فلا فكرة لديه عن رسالات الله ، ولا يعرف من الإيمان سوى التوحيد الفطري الذي ينطق به كل شيء في هذا الكون ، إلى أن فاجأه الزائر العظيم في أحضان حراء ..
ومن هذا كله نجد أنفسنا تلقاء أمرين : أحدهما الشك في خبر الراهب النصراني عن الغمام والملائكة والشجرة التي (ما نزل تحتها نبي قط) (11) والثاني أن يكون اتصال خديجة بورقة لاستطلاع رأيه لم يأت عقيب عودته وميسرة من الشام ، بل الأحرى أن يكون حصوله على أثر نزول الوحي مباشرة ، يوم عاد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف من الروع ، فذهبت به إلى ابن عمها الذي طمأنه وبشره بالنبوة (12) .
وعلى هذا التقدير يكون ثمة تقديم وتأخير في أجزاء الحادث المتصل ببشرى ورقة .. ولعلنا لو أعدنا ترتيب هذه الأجزاء وفق منطق الحوادث لوجدنا أنفسنا تلقاء الصورة التالية أو قريباً منها :
يعود رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر اللحظة الهائلة التي قدر له فيها لقاء جبريل عليه السلام إلى خديجة يرتجف من الروع ، فتتلقاه بأحسن ما تملك من كريم الرعاية وجميل البيان ، حتى إذا اطمأنت إلى هدوئه ، أخذت سبيلها في زورة عجلى إلى ابن عمها ورقة ، أعلم أهل مكة بأمور الدين ، فما إن يسمع حديثها عن تلك المفاجأة حتى يهزه الوجد ، ويأخذ في التسبيح : قدوس قدوس .. ثم يصرح بالبشرى : (والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر ـ جبريل ـ وإنه لنبي هذه الأمة ، فقولي له فليثبت) (13) .(/3)
وهكذا تعود خديجة رضي الله عنها إلى محمد صلى الله عليه وسلم بكلمة ورقة تشد بها عزيمته ، ولتقول له في ثقة عالية وبألفاظ ورقة نفسها : (والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة) (14) . وطلباً للمزيد من التثبيت ترى أن يسمع محمد تلك البشرى الشافية من فم صاحبها مباشرة ، ولذلك (انطلقت بمحمد حتى أتت ورقة فقالت له : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك .. فأخبره صلى الله عليه وسلم ما رأى فقال له ورقة : هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى (14) ومن هنا جعلت الأشواق تتفاعل في صدر ورقة إلى اليوم الذي يؤمر فيه النبي الخاتم بتبليغ رسالة ربه . فلا يتمالك أن يترجمها بتلك الأبيات التي أثبتناها فيما تقدم . ثم يلقى محمداً صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فيستعيد خبره ، ولعله يستوضحه عما جد له ، فيقص عليه ما رأى وما سمع ، فيكرر وورقة ما قاله من قبل مؤكداً بشراه بالقسم : (والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة) (14) .
ومما يؤكد هذا الاتجاه في ترتيب أجزاء الخبر رواية ابن كثير له حيث يعرض نبأ عودته صلى الله عليه وسلم إلى خديجة وهو يقول : (زملوني زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فأخبر خديجة بأمره . وقال لقد خشيت على نفسي .. فجعلت خديجة تسري عنه بقولها : كلا .. والله لا يخزيك الله أبداً . إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق ..) ويعقب ابن كثير ذلك بقوله : (فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة ..) إلى نهاية الخبر .
فأنت ترى خلو رواية ابن كثير من هذا القول المنسوب في السيرة إلى خديجة (.. إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة) وتؤكد ذلك رواية البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي (15) .
ورب متسائل يقول : ومن أين جاء خبر تظليل الملائكة والغمام وسجود الحجر والشجر لمحمد صلى الله عليه وسلم وانهصارها عليه ؟!.. فأقرب جواب على ذلك أن يكون بعض نساخ السيرة ، وربما كان من مسلمة أهل الكتاب ، قد آسفه أن يقرأ في أسفارهم مثل تلك العجائب تواكب بعثة بعض الأنبياء ، ولا يرى مثل ذلك في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي أكرمه الله بإمامتهم جميعاً ، فلم ير بأساً في إضافة مثلها إلى بعض أخباره .. بل لا أستغرب أن يكون من هذه الإضافات ذلك الخبر القائل إن يهودياً أطل من أطمه في يثرب ليصرخ في قوة يا معشر يهود .. طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به) (16) وذلك مضاهاة لما تقوله بعض مكتوبات النصارى من أن رجالاً من فارس قد عرفوا بميلاد المسيح عليه السلام من نجم معين فجعلوا يتتبعونه حتى انتهوا إلى مقره في بيت لحم (17) .
وأنا إذ أعرض هذه التصورات لا أنسى أن بعض هذه الأخبار مكتوب في بعض المؤلفات المقدرة عند جمهور المسلمين ، ولكن علينا أن نتذكر كذلك أن لمؤلفيها رأياً معلوماً في التفريق بين التاريخ والشريعة ، فهم إذا رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تشددوا في التحقيق ، وإذا عرضوا للأخبار التاريخية مالوا على التساهل . وليتهم لم يفعلوا ذلك لأن التاريخ في ضوء الإسلام معرض العبر التي يجب على المسلم تطبيقها في حياته ، وإنما يصلح التطبيق إذا صحت الوقائع ، وكا تحريف في عرضها إنما هو مضيعة أو مفسدة للعبرة نفسها ..
ونعود الآن إلى قصيدة ورقة ذات الصلة بهذا الموضوع ، فهي من الناحية الفنية أشبه صياغة بأساليب الشعر المكي أثناء البعثة ، الذي قلما يتوافر له الألق الجذاب ، الذي نعرفه في أساليب الفحول من نجد ويثرب .. إنه أقرب ما يكون إلى نظم العلماء منه إلى غناء الشعراء .. ولذلك لا يستبعد أن تكون نسبتها إلى ورقة الحبر العالم صحيحة لما تحمله من التركيز على الجانب الفكري ، الذي يصور تطلعه إلى موعد الجهر بدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم ليقف بجانبه يشاطره ما سيتحمله من العناء والبلاء في سبيل الله .. ولا نرى حاجة إلى استعادتها مرة ثانية هنا ، ولكن ثمة بعض المؤشرات التي لا مندوحة من التوقف عندها قليلاً .
يقول ورقة (رح) :
لججت وكنت في الذكرى لجوجاً
ووصفٍ من خديجة بعد iiوصف
ببطن المكتين على iiرجائي ... ... لهمٍ طالما بعث iiالنشيجا
فقد طال انتظاري يا iiخديجا
حديثك أن أرى منه خروجا
فهو في هذه المقدمة يعبر عن تشوقه لأخبار محمد صلى الله عليه وسلم التي حركت سواكن الأشجان في صدره من أوضاع الناس الغارقين في حلكات الظلام .. فهو يتطلع بلهفة إلى الموعد المنتظر.. وهي مقدمة واضحة الدلالة ، على الرغم مما فيها من جفاف العبارة وتكلف الشاعرية .،. ولكن هذا الانسجام لا يلبث أن يتقلقل عندما نقرأ البيت الرابع :
بما خبرتنا من قول قس
من الرهبان أكره أن يعوجا(/4)
والمراد بالقس هو ذلك الراهب الذي سبقت إشارته إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لمجرد جلوسه تحت الشجرة .. وهو بيت غريب عن السياق غرابة خبر الراهب هذا ، ويكاد ينطق بأنه مدسوس على القصيدة دساً ، سواء من حيث صياغته أو مضمونه أو بعض مفرداته ، ففي (يعوجا) محاولة لقسر اللفظ على أن يكون قافية في منظومة لا قرابة بينه وبينها البتة ، فضلاً عن ضياع موضع الربط بين (بما) ومتعلقها أهو (الهم) أم (النشيج) أم (الانتظار) أم (الخروج) ! ولكي تتضح لك غرابة هذا البيت أكثر فما عليك إلا أن تحذفه من خيالك ثم تقرأ بدله البيت الخامس مباشرة :
بأن محمداً سيسود فينا
ويخصم من يكون له حجيما
فأحق مكان بتعليق المصدر المجرور أول هذا البيت (بأن ..) هو (وصف) في صدر البيت الثاني .
وهكذا تستكمل الدارة الفكرية تلاقيها ، فينسجم مضمون الأبيات في مجرى واحد لا عوج فيه ولا أمت .. فنشعر أن الباعث النفسي لصياغة القصيدة هو ما قصته خديجة على ورقة من أمر الوحي ، وما سمعه عقيب ذلك من الرسول نفسه عن ملابساته ، وكل ما قيل عن علاقتها بغير هذه المناسبة فهو ادعاء ينقصه الدليل المعقول .
* ولقد آن لنا بعد هذه الرحلة الطويلة أن نعود إلى منطق البحث ، وهو موقف الأخ الكريم الأستاذ علي الطنطاوي وآخرين مثله من موضوع البشائر عن مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السابقة لظهوره .
وأما جانب الصواب في إنكار هؤلاء الأفاضل فقد أوضحناه مؤيداً بكل ما نملك من الحجج والبينات ، وقد بقي أن نقف بعض الكلام على الجانب الآخر، جانب المبشرات الثابتة بأقوى ما يهتدي به العقل والقلب من وسائل الإثبات .
وقبل التعرض لهذه الوسائل يحسن بنا أن نذكر القارئ بما لا يحسن أن يغفله من المعلومات الأولية ، وهي أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت ولا تزال أعظم أحداث التاريخ البشري قاطبة ، لأن الإنسانية بها انتقلت من صحراء الضياع ، الذي يصوره قول الله تبارك اسمه [ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ...] الروم ـ 41 . ثم قول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في وصف الوضع البشري أثناء بعثته (.. إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب) (18) . إلى ساحة النور فاتضحت معالم الطريق ، وتحددت المسؤوليات ، وانكشف للأبصار ما طمسته الجاهلية من حقيقة الإنسان وتبعاته ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيّ عن بينة ..
وحدث له مثل هذا الثقل في موازين الوجود لا يعقل أن يفاجئ الله به الجنس البشري دون أن يمهد له بما يهيئ لاستقباله الأذهان .. ولذلك لم يبعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد بالإبلاغ عن هذا المبعوث الذي يدخره سبحانه لإنقاذ سفينة الحياة من زوابع الضلال ..
يقول جل شأنه في سورة آل عمران : [وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه . قال أأقررتم وأخذتم على إصري ؟. قالوا أقررنا . قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين] .
وفي تفسير هذا الميثاق ينقل ابن كثير عن علي وابن عباس أن الله لم يبعث نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه ..
ويقول سبحانه في التعقيب على استغفار نبيه موسى عليه السلام [... ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون] الأعراف ـ 156 ـ 157 .
وفي هاتين الآيتين يقول ابن كثير أيضاً : وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم ..) .(/5)
ولقد والله رأينا صفاته في التوراة لا تزال قائمة على الرغم من كل التحريفات التي لحقت بها ، ورأيناها في إنجيل يوحنا منقولة عن لسان عيسى عليه السلام يبشر فيها بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ويحدد صفته بالاسم ، على الرغم من تلاعبهم بتغييره في الترجمة العربية ، إذ جعلوه (المعزي) بدل (أحمد) ويأبى الله إلا أن يفضح المزورين فيكشف الحقيقة بلسان المستشرق الإيطالي الدكتور " نلينو " الذي صرح للشيخ عبد الوهاب النجار بأن اسم المفكر به باليونانية وهو (الفارقليطس) يعني بالعربية الكثير الحمد .. بل لقد كشفوا هم أنفسهم عن تزويرهم هذا بما كتبوه في ذيل الصحف التي حملت البشارة من إنجيل يوحنا المطبوع بالعربية ، حيث يقولون بالحرف الواحد تعقيباً على كلمة المعزي (أن لفظ المعزي ليس له في المتن الأصلي شيء من معنى الحمد . ومن فسره بالمعزي فإنما تحرف عليه لفظ المعزي الذي في الترجمات العربية ..) ومجرد ذكرهم هنا لفظ الحمد دليل قاطع على اختلافهم حول ترجمة اللفظ اليوناني الأصلي ، وعلى أن بينهم من ذهب إلى ربطه بمعنى (الحمد) الذي يراد استبعاده بهذه الحاشية ، فكان ذلك شهادة منهم على أنفسهم بالتزوير والتحريف .. وملاحظة أخرى وهي أن في الفقرة الأخيرة إشارة صريحة إلى وجود ترجمات سابقة بالعربية أثبت فيها اللفظ المشتق من الحمد بدل (المعزي) (19).. ولو أنهم أنصفوا عقولهم وآثروا الحق لتركوا لبشارة المسيح أن تصل إلى آذان الناس وقلوبهم ، لأنها إذ ذاك لن تكون إلا إعلاناً لحقيقة التي بلغها المسيح عليه السلام من قبل في قوله لنبي إسرائيل [ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ] الصف 6 .
ولقد بلغت تلك البشريات في التوراة والإنجيل بمبعث خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم حداً لم يبق معه مجال للتجاهل ، حتى اصبح أولو العلم من أهل الكتاب [يعرفونه كما يعرفون أبناءهم] البقرة 146 . ولم يقف أمر هذه البشائر على ذوي العلم من خاصة أهل الكتاب وحدهم ، بل لقد انتشرت أنباؤها في سوادهم ، حتى لقد كان يهود يثرب يوعدون وثنيها من العرب بأن نبياً أطل زمانه سيتبعونه ويقاتلونهم معه فيقتلونهم قتل عاد وإرم [وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا .. فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .. فلعنة الله على الكافرين] البقرة 89 .
وحسبنا بهذه الشهادات الدامغة أدلة مقنعة بما أسلفناه من أن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم كان محفوظاً في الكتب المقدسة ، وعلى السنة أهل العلم ، الذين كانوا ولا يبرحون يتوارثونه جيلاً عن جيل منذ بعث الله أول نبي وحتى تقوم الساعة .
وليست قصة سلمان رضي الله عنه وضربه في الرض بحثاً عن الحق وتلقيه خبر محمد صلى الله عليه وسلم وعلاماته من أسقف عمورية ، إلا واحداً من نقول الثقات بعضهم عن بعض لهذه المبشرات .
وحتى موروثات الهنود والفرس القديمة من علوم أسلافهم لم تخل من هذه المبشرات ، وقد عني بالحديث عنها كثيرون من مؤرخي المسلمين كابن حزم والشهرستاني وابن تيمية ورحمة الله الدهلوي ، وفي كتاب (مطلع الأنوار) لعباس محمود العقاد نماذج وفيرة لمن شاء المزيد من أخبارها . ويقول الأخ الدكتور ضياء الرحمن الأعظمي ـ الهندي ـ أنه معنى بتأليف كتاب يحمل الكثير من بشائر الكتب الهندوسية بمحمد صلى الله عليه وسلم (20) .
وسأختم هذا العرض بواحدة من هذه البشائر التي لا مجال للمراء في مدلولها ، وقد اخترتها من الكتاب المنسوب إلى أشعياء في مجموعة العهد القديم .
في الإصحاح 35 من رؤى أشعياء يعرض هذا النبي صورة رائعة الوضوح والجلال للحدث العظيم الذي أطل على الدنيا ببعث محمد صلى الله عليه وسلم فيرينا معالم الخير الذي غمر الجزيرة العربية ، والحضارة المثلى التي نشرها الإسلام ، لا في الإنسان وحده بل في كل شيء .
فلنستمع إليه يفصل مرئياته من وراء أكثر من ألف سنة قبل بعثة ذلك المنقذ العالمي الذي اصطفاه الله رحمة للعالمين :
يقول أشعياء : تفرح البرية والأرض اليابسة ، ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس يزهر أزهاراً ويبتهج ابتهاجاً ويرنم .
يدفع إليه مجد لبنان بهاء كرمل وشارون ، هم يرون مجد الرب بهاء إلهنا .
شددوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة ثبتوها . قولوا لخائفي القلوب تشددوا لا تخافوا هو ذا إلهكم . الانتقام يأتي جزاء الله هو يأتي ويخلصكم .
حينئذ تتفتح عيون العمي ، وآذان الصم تتفتح ، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل ، ويترنم لسان الأخرس ، لأنه قد انفجرت في البرية مياه وأنهار في القفر ويصير السراب أجماً ، والمعطشة ينابيع ماء .
في مسكن الذئاب ، في مربضها دار للقصب والبردي .
وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة ، لا يعبر فيها نجنس ، بل هي لهم . من سلك في الطريق حتى الجهال لا يضل .(/6)
لا يكون هناك أسد ، وحش مفترس لا يصعد إليها ، بل يسلك المفديون فيها ، ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح ، فرح أبدي على رؤوسهم .. ابتهاج وفرح يدر كانهم ، ويهرب الحزن والتنهد (21) .
إن أشعياء يصوغ مرئياته السعيدة هذه في أسلوب شعري يترقرق بالفرح والبهجة ، فلا يتمالك أن يسكب من مشاعره على الأرض اليابسة فإذا هي تموج بمثل فرحه وبهجته .. حتى ليرى كل شيء فيها يضحك ويزهر ويغني ..
لأن انقلاباً خارقاً قد غير مسيرة الحياة فاستبدلت بكآبة الشقاء والضياع هداية السماء التي ملأت الأرض بنور الله ..
ولذلك يهب بالمظلومين : أن افتحوا قلوبكم للأمل فقد جاءكم الخلاص على قدر، فلا عدوان بعد اليوم ولا بغي ولا طغيان ..
إنه انقلاب شامل يطلق المواهب كلها في جزيرة العرب ، فتنشط العقول ، وتتفجر منابع الحكمة على كل لسان .. وتستحيل الأرض ، التي كانت حتى الأمس مرتعاً للموت ، جنات ترف بالأمن الذي ينعم به كل شيء من إنسان وحيوان .
يا لها معجزة أحالت مرابض الذئاب دوراً للعلم فلا يكاد يرى فيها إلا القارئون والكاتبون والمعلمون ..!
ثم ماذا ؟..
ثم الحرم المقدس الذي طهره الله من نجس الكفر، فلا يرتاده إلا القائمون والعاكفون والركع السجود ..
إليه يزحف الملبون لنداء السماء من كل حدب وصوب ، ومن جوار المسجد الأقصى يفدون لتمجيد الله ، الذي وهب لهم كل هذه النعم ، حتى إذا قضوا حجهم ، وأدوا مناسكهم ، عادوا إلى ربوعهم فرحين بما نالوا من تجلي مولاهم الحق وقد غمرتهم السعادة بما استشعروه من مغفرته ورضوانه ..
لقد قربوا الذبائح في طاعته ، وأكثروا من صدقات الفداء عن كل مساءة يتوهمون أنهم أتوها ، ومن أجل ذلك استحقوا أن يسميهم أشعياء (مَفدِيّي الرب) ..
ويا لها بشارة من حقها أن تذكر أهل الكتاب بالعهد الذي أخذه الله عليهم أن يكونوا أول المؤمنين بالصادق الأمين ، إمام المرسلين ، وسيد الأولين والآخرين ...
عليه صلوات الله وسلامه إلى يوم الدين ..
تذييل
بعد الفراغ من كتابة هذا البحث شاء الله أن أقع على خبر بحيرا في (فقه السيرة) للأستاذ محمد الغزالي وأن أقف هناك على مناقشة المحدث الفاضل الشيخ ناصر الدين الألباني لقول المؤلف (سواء صحت قصة بحيرا أو بطلت) ثم لقوله الآخر في شأنها (والمحققون على أن هذه الرواية موضوعة مضاهاة لمزاعم الإنجيليين في شأن المسيح) حيث يقفي الشيخ ناصر على الفقرة الأولى بقوله (بل هي صحيحة ..) ويحتج لرأيه بأن الترمذي قد أخرج الخبر من طريق أبي موسى الأشعري وعرفه بأنه (حديث حسن) ثم نقل قول الجزري بأن (ذكر أبي بكر وبلال في غير محفوظ) وأردف ذلك برواية البزار عن هذه الفقرة أن الذي عاد بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى مكة رجل آخر أرسله معه عمه. ومن ثم عمد إلى نفي الوضع عن الخبر في الفقرة الثانية محتجاً لصحته بما أورده الإنجيليون من أخبار موسى عليه السلام مطابقة لمضمون القرآن .
وقد دافع الأستاذ الغزالي عن وجهته في الصفحة نفسها محتجاً بتقرير أئمة من أهل الحديث ، كالذهبي الذي يقول ـ في ميزان الاعتدال ـ " مما يدل على بطلان هذا الحديث قوله (وبعث معه أبو بكر بلالاً) وكالحافظ ابن حجر الذي ينقل قوله في (المواهب اللدنية) أن رجاله الثقات
الهوامش :
(1) انظر سيرة ابن هشام ص 183 / ج1 / ط الحلبي / 1375 والبداية والنهاية ص 283 ـ 284 ج 2 / ط المعارف بيروت 1977 .
(2) ابن كثير ج 2 / ص 284 ـ 285 .
(3) ابن هشام ج 1 / ط الحلبي / ص 177 ـ 191 وابن كثير ج 2 / ص 293 ـ 296 .
(4) انظر البداية والنهاية 284 و285 ج 5 وسنن الترمذي ج 5 250 ـ 151 ط السلفية والدلائل للبيهقي 1 / 307 .
(5) و(6) ابن كثير ج 2 / 285 وابن هشام ج 1 / 180 ـ 183 ط الحلبي .
(7) انظر هامش ص 82 من كتاب (الفصول في اختصار سيرة الرسول) ط دار القلم ببيروت .
(8) راجع الدلائل ص 309 ط السلفية .
(9) ابن هشام ط الحلبي ص 189 ج 1 .
(10) ابن هشام ط دار الفكر ج 1 / 205 ـ في الهامش ـ وفي (المنتخب من السنة) تذكر باسم نفيسة .
(11) ابن هشام ط الحلبي ج 1 ص 188 / وعبارة ابن كثير خالية من الظرف " قط " ج 2 ص 294 ويفسر السهيلي عبارة الراهب بقصده إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو بعيد ، وذكر الظرف المستغرق للماضي عند ابن هشام يفيد أنه لم يجلس تحت هذه الشجرة قبل محمد صلى الله عليه وسلم إلا النبيون .
(12) و (13) و (14) ابن هشام ط الحلبي ص 338 ج 1 وانظر ابن كثير ج 3 ص 3 والمنتخب من السنة ج 1 / 73 / 74 .
(15) (المنتخب من السنة) ص 72 ـ 74 ج 1 .
(16) ابن هشام ج 1 / 159 ط الحلبي ، وقريب من ذلك رواية الحاكم في المستدرك عن يهودي فعل بعض هذا في مكة أيضاً ج 2 / 601 ـ 602 .
(17) راجع الفصل الثاني من إنجيل متى .
(18) من حديث طويل أخرجه مسلم .(/7)
(19) انظر الفصل 16 من إنجيل يوحنا وحاشيته في الطبعة اليسوعية . ويلاحظ في الفقرة الأخيرة من الحاشية أن ثمة زلقة قلم وضعت كلمة (المعزي) مكان (الحمد) يقول المحشي (ومن فسره بالمعزي) يريد (ومن فسره بالحمد) حسب مفهوم السياق .
(20) الدكتور ضياء الرحمن من خريجي الجامعة الإسلامية وهو اليوم من مدرسيها ، وقد كان هندوسياً فهداه الله إلى الإسلام .
(21) انظر أشعياء صفحة 35 .(/8)
أصحاب الأخدود في القرن الحادي والعشرين
تحدث القرآن الكريم عن أصحاب الأخدود، حيث قال تعالى في محكم آياته: ((قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8))) البروج 4-8
ولكن.. من هم أصحاب الأخدود؟
لنقرأ معا قصتهم على لسان سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم:
فَعَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ : « كَانَ مَلِكٌ فيِمَنْ كَانَ قبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِك : إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابعَثْ إِلَيَّ غُلاَماً أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَماً يعَلِّمُهُ ، وَكَانَ في طَريقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمهُ فأَعْجَبهُ ، وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهِب وَقَعَدَ إِلَيْه ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فقال : إِذَا خَشِيتَ السَّاحِر فَقُلْ : حبَسَنِي أَهْلي ، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحرُ .(/1)
فَبيْنَمَا هُو عَلَى ذَلِكَ إذْ أتَى عَلَى دابَّةٍ عظِيمَة قدْ حَبَسَت النَّاس فقال : اليوْمَ أعْلَمُ السَّاحِرُ أفْضَل أم الرَّاهبُ أفْضلَ ؟ فأخَذَ حجَراً فقالَ : اللهُمَّ إنْ كان أمْرُ الرَّاهب أحَبَّ إلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فاقتُلْ هَذِهِ الدَّابَّة حتَّى يمْضِيَ النَّاسُ ، فرَماها فقتَلَها ومَضى النَّاسُ، فأتَى الرَّاهب فأخبَرهُ . فقال لهُ الرَّاهبُ : أىْ بُنيَّ أَنْتَ اليوْمَ أفْضلُ منِّي ، قدْ بلَغَ مِنْ أمْركَ مَا أَرَى ، وإِنَّكَ ستُبْتَلَى ، فإنِ ابْتُليتَ فَلاَ تدُلَّ عليَّ ، وكانَ الغُلامُ يبْرئُ الأكْمةَ والأبرصَ ، ويدَاوي النَّاس مِنْ سائِرِ الأدوَاءِ . فَسَمعَ جلِيسٌ للملِكِ كانَ قدْ عمِىَ، فأتَاهُ بهداياَ كثيرَةٍ فقال : ما ههُنَا لك أجْمَعُ إنْ أنْتَ شفَيْتني ، فقال إنِّي لا أشفِي أحَداً، إِنَّمَا يشْفِي الله تعَالى، فإنْ آمنْتَ بِاللَّهِ تعَالَى دعوْتُ الله فشَفاكَ ، فآمَنَ باللَّه تعَالى فشفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فأتَى المَلِكَ فجَلَس إليْهِ كما كانَ يجْلِسُ فقالَ لَهُ المَلكُ : منْ ردَّ علَيْك بصَرك؟ قال : ربِّي . قَالَ: ولكَ ربٌّ غيْرِي ؟، قَالَ : رَبِّي وربُّكَ الله ، فأَخَذَهُ فلَمْ يزلْ يُعذِّبُهُ حتَّى دلَّ عَلَى الغُلاَمِ فجئَ بِالغُلاَمِ ، فقال لهُ المَلكُ : أىْ بُنَيَّ قدْ بَلَغَ منْ سِحْرِك مَا تبْرئُ الأكمَهَ والأبرَصَ وتَفْعلُ وَتفْعَلُ فقالَ : إِنَّي لا أشْفي أَحَداً ، إنَّما يشْفي الله تَعَالَى، فأخَذَهُ فَلَمْ يزَلْ يعذِّبُهُ حتَّى دلَّ عَلَى الرَّاهبِ ، فجِئ بالرَّاهِبِ فقيل لَهُ : ارجَعْ عنْ دِينكَ، فأبَى ، فدَعا بالمنْشَار فوُضِع المنْشَارُ في مفْرقِ رأْسِهِ، فشقَّهُ حتَّى وقَعَ شقَّاهُ ، ثُمَّ جِئ بجَلِيسِ المَلكِ فقِلَ لَهُ : ارجِعْ عنْ دينِكَ فأبَى ، فوُضِعَ المنْشَارُ في مفْرِقِ رَأسِهِ ، فشقَّهُ به حتَّى وقَع شقَّاهُ ، ثُمَّ جئ بالغُلامِ فقِيل لَهُ : ارجِعْ عنْ دينِكَ ، فأبَى ، فدَفعَهُ إِلَى نَفَرٍ منْ أصْحابِهِ فقال : اذهبُوا بِهِ إِلَى جبَلِ كَذَا وكذَا فاصعدُوا بِهِ الجبلَ ، فإذَا بلغتُمْ ذروتهُ فإنْ رجعَ عنْ دينِهِ وإِلاَّ فاطرَحوهُ فذهبُوا به فصعدُوا بهِ الجَبَل فقال : اللَّهُمَّ اكفنِيهمْ بمَا شئْت ، فرجَف بِهمُ الجَبَلُ فسَقطُوا ، وجَاءَ يمْشي إِلَى المَلِكِ ، فقالَ لَهُ المَلكُ : ما فَعَلَ أَصحَابكَ ؟ فقالَ : كفانيهِمُ الله تعالَى ، فدفعَهُ إِلَى نَفَرَ منْ أصْحَابِهِ فقال : اذهبُوا بِهِ فاحملُوه في قُرقُور وَتَوسَّطُوا بِهِ البحْرَ ، فإنْ رَجَعَ عنْ دينِهِ وإلاَّ فَاقْذفُوهُ ، فذَهبُوا بِهِ فقال : اللَّهُمَّ اكفنِيهمْ بمَا شِئْت ، فانكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفينةُ فغرِقوا ، وجَاءَ يمْشِي إِلَى المَلِك . فقالَ لَهُ الملِكُ : ما فَعَلَ أَصحَابكَ ؟ فقال : كفانِيهمُ الله تعالَى . فقالَ للمَلِكِ إنَّك لسْتَ بقَاتِلِي حتَّى تفْعلَ ما آمُركَ بِهِ . قال : ما هُوَ ؟ قال : تجْمَعُ النَّاس في صَعيدٍ واحدٍ ، وتصلُبُني عَلَى جذْعٍ ، ثُمَّ خُذ سهْماً مِنْ كنَانتِي ، ثُمَّ ضعِ السَّهْمِ في كَبدِ القَوْسِ ثُمَّ قُل : بسْمِ اللَّهِ ربِّ الغُلاَمِ ثُمَّ ارمِنِي ، فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتنِي . فجَمَع النَّاس في صَعيدٍ واحِدٍ ، وصلَبَهُ عَلَى جذْعٍ ، ثُمَّ أَخَذَ سهْماً منْ كنَانَتِهِ ، ثُمَّ وضَعَ السَّهمَ في كبِدِ القَوْسِ، ثُمَّ قَالَ : بِسْم اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ ، ثُمَّ رمَاهُ فَوقَعَ السَّهمُ في صُدْغِهِ ، فَوضَعَ يدَهُ في صُدْغِهِ فمَاتَ . فقَالَ النَّاسُ : آمَنَّا بِرَبِّ الغُلاَمِ ، فَأُتِىَ المَلكُ فَقِيلُ لَهُ : أَرَأَيْت ما كُنْت تحْذَر قَدْ وَاللَّه نَزَلَ بِك حَذرُكَ . قدْ آمنَ النَّاسُ . فأَمَرَ بِالأخدُودِ بأفْوَاهِ السِّكك فخُدَّتَ وَأضْرِمَ فِيها النيرانُ وقالَ : مَنْ لَمْ يرْجَعْ عنْ دينِهِ فأقْحمُوهُ فِيهَا أوْ قيلَ لَهُ : اقْتَحمْ ، ففعَلُوا حتَّى جَاءتِ امرَأَةٌ ومعَهَا صَبِيٌّ لهَا ، فَتقَاعَسَت أنْ تَقعَ فِيهَا ، فقال لَهَا الغُلاَمُ : يا أمَّاهْ اصبِرِي فَإِنَّكَ عَلَي الحَقِّ » روَاهُ مُسْلَمٌ.
إن عقول هذه الفئة الكافرة لم تتغير منذ قديم الزمان إلى عصرنا الحالي (القرن الواحد والعشرين). فنرى اليهود ارتكبوا ابشع الجرائم في فلسطين المسلمة. والروس قاموا بأفظع المذابح في أفغانستان، والصرب قتلوا وشردوا ويتموا الكثير من العوائل في البوسنة والهرسك ومن بعدها في كوسوفا، ويعود الروس ثانية لجرح المسلمين جرحا جديدا في الشيشان.
فنظرة البشر لكل شيء تطورت مع مرور الزمن إلا نظرة الكفار للمسلمين ودمائهم.
فنرى الجمعيات التي أنشأت للرفق بالحيوان، والمحافظة على البيئة، ولكن لم يتخذ أي إجراء حقيقي ولم تنشأ أي جمعية أو رابطة لحفظ دماء المسلمين وأعراضهم.(/2)
ولكن اخوتي الكرام.. لماذا كل هذا الحقد على المسلمين من جهة، وتجاهلهم من الجهة الآخر؟
لقد بين الله عز وجل هذا العداء وسببه في كتابه العزيز، حيث قال جل جلاله: ((وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)) البقرة 120
إنها قاعدة ربانية واضحة، تبين طبيعة العلاقة بين اليهود والنصارى وبين المسلمين (ولا يخفى على أحد دور اليهود والنصارى وتأثيرهم في إدارة العالم كله).. إن هذه العلاقة مبنية على الكره والحقد من هؤلاء (الضالين والمغضوب عليهم) تجاه المسلمين، والسبب في ذلك، هو أن المسلمين عرفوا الحق فاتبعوه، أما اليهود والنصارى عرفوا الحق فحاربوه، فهم يحسدون المسلمين على اتباعهم المنهج الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.. ويشير الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله: ((وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) البقرة 109
ومع وضوح هذه الآيات والتوجيهات الربانية، نجد من يوالي اليهود والنصارى، فيعقد اتفاقيات السلام، واتفاقيات الدفاع المشترك، وغيرها من الاتفاقيات.. وقد نهانا الله في آيات كثيرة عن هذا الفعل المجانب للصواب، حيث قال جل شأنه: ((لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) المجادلة 22
فبين المولى أن هذه المولاة من صفات المنافقين، أما الذين آمنوا فهم أبعد ما يكونون عن موالاة من حاد الله ورسوله ولو كانوا أولى قربا لهم.
وأود أن أختم مقالي هذا بتوضيح أمر هام جدا، أو سبب هذه الابتلاءات التي تصيب المسلمين، من أقتل وتشريد وانتهاك أعراض وسلب أموال وغيرها. إن هنالك سببين رئيسيين لهذه الابتلاءات هما:
الأول: اختبار المسلمين وتمحيصهم لمعرفة المؤمن من المنافق، وتربية المؤمنين وتعويدهم على الشدائد، ورفع مقام المؤمنين عند الله بزيادة حسناتهم لصبرهم على هذا الابتلاء.
الثاني: الابتعاد عن الدين. وفي قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إشارة واضحة لهذا المعنى حيث قال: ((نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله)). فلن ينفعنا الشرق ولا الغرب إذا ابتعدنا عن الإسلام.
وفي الختام.. اللهم ردنا إلى الإسلام ردا جميلا.. اللهم آمين
بقلم: خالد الحر(/3)
أصحاب الأخدود
رئيسي :قصص وعبر :الأربعاء15 ذو القعدة 1424هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،،،
فهذه القصة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي فَقَالَ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّي قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي قَالَ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ فَقَالَ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ(/1)
السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ] رواه مسلم.
[كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ] وهذه هي بداية القصة، دون ذكر للزمان والمكان ليمكن اعتناقها والاستفادة بها بغير الارتباط، أو التعلق بظروفها وملابساتها.
وفي قوله: [فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ] يريد فيما مضى، فيربط هذا الماضي بحاضر الدعوة في عهده فيقول: [قَبْلَكُمْ] حيث أن هذا الواقع القائم الآن هو الامتداد الصحيح لواقع الدعوة منذ بدايتها مع بداية الزمان. وهذا هو المعنى الأول المأخوذ من تلك البداية.
والمعنى الثاني: هو أن هذه البداية: [كَانَ مَلِكٌ] أبرزت ضرورة المواجهة بين الدعوة إلى الحق والحكم الباطل بصورة واضحة. وبذلك نفهم أن العداء بين الدعاة إلى الحق وبين حكام الباطل أمر بدهي مفروض من البداية وبمجرد التفكير في غاية الدعوة والنظر إلى واقع الناس.
وعلى هذا فإن أي دعوة إلى الحق تظهر في الواقع الباطل توجيهاً نظرياً، أو فكرياً مجرداً لا يتضمن تقدير مواجهة هذا الباطل في قوته وسلطانه؛ ستكون قتيلة بسنن الوجود، وتُلفظ من واقع الناس؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً في بداية الدعوة على إعلانها على الملأ والجهر بأنها دعوة إلى جميع الناس فكان يبعث إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وهو لا يزال في مرحلة الاستضعاف تأكيداً لأبعاد الدعوة من البداية، ودون اعتبار للإمكانيات، أو مراعاة لميزان القوة بينه وبين هؤلاء الملوك.
ولقد كانت قريش من الذين لم يفهموا قصد الرسول صلى الله عليه وسلم فظنت أنه لايريد إلا الحكم- فعرض عليه سادتها أن يكون سيداً عليهم، فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم تلك السيادة.
فالحكم ضرورة في تصور الدعوة، ولكنه لن يأتي منحة من المغتصبين له، ولن يتحقق بالمساومات الرخيصة، بل يجب أن يسترد بالجهاد والعمل؛ ليكون ولاية شرعية حقيقية.
ويجب ألا يمنع الاستضعاف ضرورة المواجهة بين الدعوة والحكم الظالم، وليس في تلك المواجهة -دون اعتبار للإمكانيات المادية- أي تهور، ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن سيد الشهداء من يقوم إلى حاكم ظالم يأمره وينهاه، وهو يعلم أنه سيقتله، فقال: [سَيِّد الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ ظَالِمٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ] رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في الأوسط . لأنه أكد مايؤكده الشهداء بقتالهم الكافرين أصحاب القوة والسلطان، ويزيد عليهم أن الشهداء كانوا يقاتلون باحتمال النصر أو الشهادة، وهو يواجه باحتمال واحد وهو الشهادة.
[وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ] تفيد أن الساحر للملك والسحر للحكم، وعندما يحكم السحر نفهم طبيعة الواقع الخاضع، فلابد أنه واقع فاسد، قائم بالظلم، ومحكوم بالهوى. ولابد أن المنهج وهم، وأن القيادة قهر، وأن الفكر خرافة، والواقع ضياع، وعندئذ يكون الإنسان إما متكبراً لا يعجبه إلا نفسه، أو مقهوراً لا يشعر بنفسه.
وهذه ضرورة الحكم الظالم؛ لأن الحكم الجاهلي يقوم على تفتيت كيان الفرد، وتشتيت كيان المجتمع؛ لأن الحكم الجاهلي لايريد إلا السيطرة دائماً، ولو إلى الدمار، وفي هذه الحالة يكون من مصلحة الحاكم أن يكون الإنسان الذي يواليه غبياً جاهلاً ضعيفاً.
وأي منهج ليس من عند الله يخضع له الناس يحقق نتائج السحر، وليس هناك فارق بينهما إلا في الشكل والاسم، وأي منهج يتخيل الإنسان أنه سليم بتأثير الإرهاب الذي يُفرض به المنهج من خلال الجهل والضعف؛ يحقق نتائج السحر.
[فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ] ومن هذا القول نجد نموذجاً لبطانة السوء التى يهمها أن تبقى الأوضاع التي يستفيدون منها، وينعمون فيها، ومثلهم الواضح سحرة فرعون الذين جاءوا إلى المدائن لمواجهة موسى، فكان أول ما قالوا:{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ[113]قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ[114]}[سورة الأعراف]. فلم يسألوا عمن سيواجهون، وما هي قضيته.. فهذا لا يهم ولكن الذي يهم هو الأجر .(/2)
[فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا] وقد جاء طلب الساحر - في رواية الترمذي – بعبارة: [انْظُرُوا لِي غُلَامًا فَهِمًا أَوْ قَالَ فَطِنًا لَقِنًا فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي] وهذا يكشف بُعداً خطيراً للخطة الجاهلية الرامية إلى إفساد الفطرة، وهي التركيز على النابهين المتفوقين أصحاب المواهب والقدرات الخاصة لضمان السيطرة الجاهلية على الواقع البشري.
[فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ]وتلمح من النص أن الغلام كان على إصرار في القعود إلى الراهب؛ لأنه كان يقعد إليه كلما أتى الساحر، رغم أن الساحر كان يضربه كلما تأخر عنه. وهذا الضرب يمثل بالنسبة للغلام بلاءاً وامتحاناً -إذا راعينا أنه غلام صغير- . ولكن الله يريد أن يتربى هذا الغلام - من البداية - تربية حقيقية كاملة، ويريد أن يكون ارتباطه بالدعوة متفقاً مع طبيعتها؛ لأن هذا الغلام سيكون منطلقاً أساسياً لتلك الدعوة، وسيكون دليل الناس إليها.
لذا كان لابد من أن يكون شخصية متكاملة بمعنى التكامل الشخصي للدعاة، والذي لا يتحقق ولا يتم إلا بالاستعداد للبلاء والصبر عليه عندما يقع.
فطبيعة التلقي لهذا الدين هي التي تحدد طبيعة اعتناقه والالتزام به والدعوة إليه، والذين يتلقون هذا الدين على أنه بلاء، هم الذين يبقون إلى النهاية، وأخذ هذا الدين بقوة هو ضمان الاستمرار عليه.
وبذلك أراد الله أن يتفق تكوين هذا الغلام مع طبيعة الدعوة، وأن لا تشذ شخصيته عن تكاليفها، فابتلاه الله في لحظات التكوين، ووقت النمو، وفترة التربية؛ فصدق وصبر.
ودائماً..مع شدة البلاء والأذى تظهر الآيات التى تعين على الصبر وتطمئن النفوس: [فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ].
وهنا نكتشف أن الغلام كان قلقاً لتلقيه من الراهب والساحر في وقت واحد، ولقد كان من الممكن أن يستمر الغلام دون قلق إذا كان يسمع للراهب والساحر بدون شعور أو تفكير؛ لأن السماع حينئذ سيكون مجرداً من التأثر، وسيصبح الدين والسحر عند الغلام مجرد فكر وكلام ولكن القلق نشأ بسبب تأثره العميق بكلام الراهب، وإدراكه السليم لمعنى الدين.
ومن هنا ندرك الصعوبة الكبيرة التي يعانيها المسلم الأصيل في مواجهة الواقع الفاسد وندرك أن الأصالة الإسلامية لابد أن تحرك المسلم لتحديد موقفه كما فعل الغلام.
ويدل طلب الغلام لليقين -من خلال الواقع - بفضل الراهب على الاتجاه الذي يريد الغلام أن يأخذه بدينه؛ لأنه كان يريد أن يتحرك به في حياة الناس، وسيواجههم بما يؤمن به مواجهة واقعية عملية، فلابد أن تبدأ هذه المواجهة بيقين من خلال هذا الواقع، فليست الدعوة في نظر الغلام مجرد فكرة واقتناع شخصي بها، ولكنها فوق ذلك واقع يتحقق بالقَدَر الذي يسير به الوجود.
[فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ] ولم يكن الموقف الذي وقفه الراهب موقفاً عادياً عندما قال للغلام ذلك، ولكنه موقف فاصل في حياة كل داعية، فقد تخفي الدعوة في الإنسان الذي يمارسها حباً خفياً للتميز باعتبار أن هذه الممارسة صورة من صور تميزه على الناس.
ولكن هذه العورة النفسية القبيحة تنكشف حتماً إذا واجه الإنسان موقفاً يشعر فيه أن هناك من هو أفضل منه في فهم الدعوة، وأقدر على تحقيق مصلحتها. ولكن الراهب لم يكن من هذا النوع بل كان تقياً نقياً: [ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي] كلمات كلها إخلاص وتجرد. فهذا الراهب المعلم كان أصيلاً إذ أخبر الغلام أنه قد أصبح أفضل منه بلا حرج، ومن أين سيأتيه الحرج وقد خلصت نفسه لله تبارك وتعالى؟ فهو لم يكن يعلم ليقال عنه عالم، ولم يكن يدعو ليكون على رأس أتباع؛ ولهذا يفتح الطريق لمن يظن أنه يملك خدمة الدعوة أكثر منه؛ فيجعل من نفسه نقطة على محيط دائرة النمو العقيدي والحركي للغلام، فيقول له: [أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي] .(/3)
وإذا تذكرنا أن الغلام كان صغيراً سناً، وأنه ما التقى بالراهب إلا منذ وقت قريب فإننا ندرك مدى الفهم الصحيح عند الراهب للدعوة؛ فالدعوة ليست بالعمر الذي يعيشه الإنسان، ولكن بالإيمان والكفاءة، والأثر. وبذلك يمثل الراهب في واقع الدعوة ضرورة القيادة الزاهدة، ويمثل الغلام ضرورة الاستجابة الفطرية.
فالقائد لايريد حظاً من الدنيا، والمستجيب كان غلاماً حديث عهد بالدنيا. فالقيادة الزاهدة والاستجابة الفطرية هي الارتباط الصحيح الذي يبارك الله فيه ليكون بداية البناء وأساسه، وهي المقياس الذي يقبل به أي ارتباط، أو يرفض منذ البداية حتى يتم البناء.
وبعد أن رأينا التجرد نرى التربية الصحيحة، إذ أن الراهب لما ذكر للغلام ميزته أتبعها بالمسئولية التى تقع عليه باعتبار تلك الميزة، وهذا في الواقع حماية للإنسان من الغرور؛ لأن الإحساس بتكاليفها يجعل الإنسان يعيش في شعور دائم بميزاته، فينحرف به ذلك الشعور إلى الغرور، ولهذا لما قال الراهب للغلام: [أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي] قال له: [وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى].
[وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ]وهكذا حدد الغلام قضية دعوته وربط تلك القضية بواقع الناس وألف قلوبهم عليها. فأصبح للدعوة تياراً قوياً امتد إلى كل مجالات المجتمع.
وحتى هذه اللحظة لم يكن الملك قد علم بخبر الغلام، ولكن الله قدر أن لا يعلم الملك بخبر الغلام إلا من خلال هذا الجليس وبعد أن أصبح للدعوة تيار قوي. وهذه كانت مرحلة البداية.
[فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي] ويرد الغلام على الجليس مبيناً له أنه ليس هو الذي يشفي، ولكنه الله سبحانه، فيقول: [ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ] ويتجاهل الغلام الفكرة التي عرضها الجليس- فكرة الهدايا- والتي لم تنل من إحساسه شيئاً، ويقول له: [فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ] وهنا ترتفع قيمة الأمر بالإيمان في تصور الجليس؛ لأن شفاؤه سيكون بهذا الإيمان، ولأن الأمر بالإيمان كان بديلاً للهدايا والمادة التي تنال من نفوس الناس تقديراً واعتباراً، فانعكس هذا التقدير والاعتبار على الأمر الذي طلبه الغلام [فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ].
وعندما قال الغلام: [ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ]إنما أكد بذلك عقيدته من خلال المنفعة التي قدمها للجليس.
[فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ].
وهكذا في بساطة، وهذا يؤكد لنا أن أساس الدعوة ليس بالكلام الذي تعرض به القضية فقط بل بصحة الأسلوب العملي الذي ينجح في كشف حقيقة الإيمان الكامنة في كيان الإنسان. حتى دون الطلب الصريح أو الدعوة المباشرة ولو بكلمة واحدة .
ولذلك نلاحظ أن الغلام لم ينطق في تبليغه لقضية الدعوة إلا بثلاث عبارات في القصة كلها:
قوله: [ إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ] رداً على الجليس عندما طلب الشفاء، ورداً على الملك عندما ادعى أن مايفعله الغلام إنما هو سحر.
وقوله: [كَفَانِيهِمُ اللَّهُ] رداً على الملك بعد نجاته من الموت فوق الجبل، وفي السفينة.
وقوله: [ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ] عندما دل الملك على الكيفية التي يستطيع أن يقتله بها.
ولكن هذه العبارات الثلاث تمثل في الحقيقة ثلاث نقاط في خط الإثبات العقيدي لقضايا الدعوة من خلال الواقع: فالله الشافي.. والله الكافي.. والله المحيي المميت.. حقائق لم يرددها الغلام كقضايا جدلية وكلامية.
ولكنه ذكرها كحقائق نهائية ثابتة في واقع قائم بحيث لا يمكن ردها أو حتى مناقشتها، والحقيقة أن البداية لهذا الخط -كما جاء في القصة -ترجع إلى إيمان الغلام نفسه.. وذلك عندما طلب الغلام اليقين من خلال الواقع، فدعا الله أن يقتل هذه الدابة إذا كان أمر الراهب أحب إليه سبحانه من أمر الساحر، وهذا يعني أن طبيعة التلقي لحقائق هذا الدين واليقين به هي التي تحدد طبيعة الدعوة إليه في خط واحد.
نعود إلى القصة، فنجد الجليس قد أتى إلى الملك فجلس إليه كما كان يجلس من قبل فقال له الملك: [مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّي قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي قَالَ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ]. وفظيع جداً أن يدعى الإنسان الربوبية لنفسه، ولكن كيف يكون هذا الإدعاء؟ فمن خلال دراسة هذه الظاهرة البشعة نجد أن القرآن سجلها على فرعون، وعلى الملك النمرود الذي حاجّ إبراهيم في ربه، وهذان يتفقان مع هذا الملك في أمرين هما: الكفر بالله، والملك على الناس.(/4)
فبدأ الأمر بكفر الإنسان بالله، ومنه الكفر بقضائه وقدره، ومنه ظن الكافر أنه هو الذي يصنع حياته ويصرفها برغبته، وإن كان متسلطاً على الخلق ظن أنه يؤثر بذاته في معيشتهم، ويصنع حياتهم فهو يأمر فيطاع، ويحكم فيستبد، ويتصرف بالهوى دون معارضة أو مراقبة، وهو الذي يتصرف في مقدرات الناس دون منازع، وهو الذي يعلو في الأرض ويستكبر على الأتباع كما قال فرعون:{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ[51]}[سورة الزخرف]. وقال:{...مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ[29]}[سورة غافر]. ثم قال:{ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي...[38]}[سورة القصص].
ولكن المؤمن لايبالي بمثل هؤلاء الناس فيواجههم بقوة وصراحة كما فعل الجليس مع الملك، فقال له: [ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ] ولم يكن الجليس ليستطيع هذه المواجهة إلا إذا خالط قلبه بشاشة الإيمان؛ لأنه حينما يكون ذلك، تكون الثقة والطلاقة والقوة، وهؤلاء هم سحرة فرعون يسجدون لله بعد أن علموا أن موسى رسول الله، وليس ساحراً، فيهددهم فرعون قائلاً:{ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى[71]}[سورة طه]. فيردون عليه قائلين: { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[72]} [سورة طه]..
وهكذا أيضاً تعامل الملك مع الجليس: [فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ] لم يقتله فوراً حتى يكشف بقية الجماعة.
[فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ] الملك الطاغوت يقول: [أَيْ بُنَيَّ] كلمة كلها مكر وخبث، وضغط على نفس الغلام، وإغراء له بالقرب منه بما يتضمن هذا القرب من مستقبل زاهر، وحياة مترفة.
ويقول الملك: [قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ] وقد حاول الملك بهذه العبارة أن يسرق ما كسبه الغلام من تقدير في نفوس الناس بأن يعود بتفسير أعمال الغلام إلى السحر الذي تعلمه من ساحر الملك الذي أتى الملك إليه بالغلام.
وهذا ما يصنعه الذين لايريدون الاعتراف بالحق فيفسرونه بأي شيء غير الحق:
وهذا ما فعله فرعون لما هزمه موسى فقال:{...إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ...[71]}[سورة طه]. ولما ناقشه موسى في قضاياه ومسلمات حياته بجرأة وحزم: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ[27]}[سورة الشعراء].
وهذا مافعله أيضاً المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما رأوه ينفي الألوهية عن أصنامهم بجرأة وقوة قالوا:{...مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ[14]}[سورة الدخان].
ولما رأوه يواجههم بالبلاغة القرآنية قالوا:{...شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ[30]}[سورة الطور].
ولما رأوا الصحابة واثقين في دعوتهم قالوا:{...غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ...[49]}[سورة الأنفال] والملاحظة الدقيقة في تفسير أصحاب الباطل للحق بغير الحق هي شرط أن يكون هذا التفسير مقبولاً عند الناس.
ومن هنا كان تفسير المعجزة بالسحر والجرأة بالجنون والبلاغة بالشعر والثقة بالغرور ولذلك عقدت قريش مؤتمراً نراها فيه تحاول محاولة دقيقة للاتفاق على الوصف الذي سيصفون به الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن بحيث تراعي فيه هذه الشروط.
قالوا: نقول : كاهن؟ قال: لا والله، ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: نقول مجنون.قال ما هو مجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، قال: ماهو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولاعقدهم. قالوا: ما نقول ياأبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن قرعه لجناه، ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا وعرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك.(/5)
ويفشل الملك في إغراء الغلام: [فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ]. ليست خيانة ولا عمالة ولكنها الطاقة البشرية المحدودة. هذه حقيقة يجب الاعتراف بها، وأي إنسان يقف موقف الغلام عندما دل على الراهب يتألم ألماً أكبر من ألم التعذيب، ثم يتضائل أمام نفسه.. ينطوي عليها.. يحتقرها.. يكرهها، ثم يظل يرقب من بعيد نظرة فيها الرحمة، وطلاقة وجه فيها الإعذار، ويد فيها العون، ويكون هذا واجب الجماعة في ذلك الموقف.
ولكن حدوث هذه النتيجة التي انتهى إليها الغلام لا يكون إلا بعد بلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمل والثبات وهذا هو الحد الفاصل بين أن يكون المتكلم في محنة التعذيب معذوراً أو مقصراً.
وبلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمل والثبت لايكون إلا بمعرفة إمكانية المواجهة الصحيحة لمحنة التعذيب.
وأهم عناصر هذه الإمكانية هي دخول المحنة بالعزم المسبق على مقاومة الانهيار، حيث إن دخول مرحلة التعذيب تجعل الفرد في حالة شبه لا إرادية والعزم المسبق هو الذي يحقق المقاومة.
وكذلك الأمر في التعذيب حيث ينشىء العزم المسبق نوعاً من الإرادة ومقاومة الانهيار.
والمقاومة الدائمة هي أكبر إمكانيات المواجهة.
وأهم العوامل المساعدة على المقاومة هي المتابعة الذهنية عند الفرد لمراحل التعذيب والغرض المحدد لكل مرحلة؛ فمثلاً مرحلة أن يبدأ تعذيب الفرد برؤيته لتعذيب الآخرين - كما فعل الملك مع الغلام- يكون الغرض منها تحطيم العزم المسبق بعدم الكلام.. وجعل الفرد يدخل محنة التعذيب بلا عزم على الصبر والتحمل والثبات، وذلك من خلال استغلال الخوف الذي يسبق الدخول في التعذيب وهذا الخوف أشد من آثار التعذيب ذاته.
وإدراك مثل هذه الأغراض هو الذي يمكن الفرد من تفادي الأثر المطلوب منها. كما أن وصول الفرد الممتحن إلى مرحلة الانهيار لايعنى هدم كل خطوط الدفاع النفسية. حيث إن هناك خطاً قوياً يجب الانتباه إليه، وهو خط العلاقة النفسية بين الفرد الواقع تحت التعذيب والأفراد الذين سينالهم الأذى بانهياره، فكلما كان الحب قوياً وشديداً كانت إرادة الصبر والتحمل قوية وشديدة أيضاً.
وأساليب التعذيب لا تتجاوز في مجموعها غرض سلب الإرادة ولعل أخطر هذه الأساليب المحققة لهذا الغرض هو الإهانة النفسية.. لإفقاد الفرد كرامته لأن العلاقة بين الكرامة والإرادة علاقة مطردة، فإذا قويت كرامة الفرد وعزيمته قويت إرادته.
ومن هنا: فإن الشعور بالاستعلاء والعزة من أهم موانع فقد الإرادة والانهيار، فلا يؤثر السب والبصق والركل بالقدم على الاستعلاء والعزة، بل واليقين بأنك تمتلىء عزة واستعلاء بالقدر الذي يمتلىء فيه من يعذبك حقارة ومهانة.
والفزع والترويع هما أخطر آثار التعذيب، ولا يبطل هذا الخطر إلا الطمأنينة والسكينة، ولا يحقق الطمأنينة والسكينة إلا الذكر {...أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[28]}[سورة الرعد] وعلى أن يكون الذكر هو الواجب الأول والدائم على من يقع في محنة التعذيب، كما أن الصيغ المتعددة للذكر تعالج بصورة مباشرة الآثار المتعددة التعذيب.
فدعاء الدخول على ذوى السلطان الظالمين يكون عند لحظة المواجهة الأولى، والاستغفار يرفع الذنوب التي قد تكون سبباً في وقوع المحنة، وعندما ترفع الذنوب تذهب أسباب المحنة، وتتحقق العافية، ومع الاستغفار يكون دعاء تفريج الكرب. وكذلك التكبير الذي يحقق الشعور بإكبار الله فيهون التعذيب والقائمين عليه.. وكذلك يهون التعذيب والقائمين عليه برضى الله سبحانه. وهذا المعنى مأخوذ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف. وفي نهايته: [...إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَليَّ فَلَا أُبَالِي وَلَكِنَّ عَافِيَتك أَوْسَع لِي] قال الهيثمي في مجمع الزوائد [35/6]:'رواه الطبراني وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة'.
ولعل من صيغ الأذكار المناسبة لمحنة التعذيب هي الاستعاذة الواردة في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: [...أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ]رواه الترمذي وأحمد.
لأن الانهيار هو الذي يجر السوء على النفس وعلى المسلمين. وفي النهاية فإن ما يذهب بمحنة التعذيب، وكأنها لا تكون هو تذكر عذاب الله، وعدم المقارنة بين فتنة الناس وعذاب الله كما في قوله سبحانه:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ...[10]}[سورة العنكبوت]. حيث لا وجه للمقارنة.
فعذاب الله يلازمه سخط الله والمهانة الحقيقية كما أنه يتضاعف ولاينفع معه الصبر وليس له نهاية وليست منه نجاة، وفتنة الناس والإيذاء في الله يحقق رضى الله والعزة لمن يؤذى في سبيل الله . كما أن فتنة الناس تَضْعُف وينفع معها الصبر ولها نهاية ومنها النجاة بإذن الله.(/6)
وبعد معالجة مشكلة التعذيب يتقرر حقيقة هامة وهي أن التوكل على الله هو الشعور الذي يدخل به المسلم تلك المحنة، وأن التسليم بقدر الله هو الشعور الذي يتقبل به المسلم نتيجة تلك المحنة حيث إن محنة التعذيب مع ما ذكر من عناصر لمعالجتها هي في النهاية بيد الله وحده.
ولعلنا نفهم من هذا الموقف أن ما بين التوكل الذي ندخل به المحنة والرضى بالقدر الذي نخرج به منها تكون ضرورة التفكير العملي للمحافظة على واقع الدعوة، وعدم الارتكاز في ذلك بصفة كلية على إيمان الأتباع. فقد كان من الممكن أن يغير الراهب مكانه حتى إذا ضعف الغلام، وأراد أن يدل عليه لا يجده، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
[فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ] وهذا الذي حدث من الملك مع الراهب والجليس هو الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عندما شكوا إليه الاستضعاف: عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا فَقَالَ: [قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ]رواه البخاري. وهكذا يتعامل الظلمة مع دعاة الحق فلا فرصة للمناقشة، ولا سبيل إلى الإقناع، ولئن كان الملك ظالماً وسبيل بقائه في الحكم هو السحر؛ إذن فلا قضية عنده ولا مبدأ، ولهذا لم يجد وسيلة في مواجهة الموقف إلا التعذيب والتقتيل.
ونلاحظ أن الملك كان حريصاً على أن يرتد الراهب والجليس قبل أن يقتلهما؛ لأن ارتدادهما قتل للدعوة، وقتلهما حياة لها؛ ولهذا لم يقتلهما إلا بعد أن عرض عليهما الدعوة، ويئس من الاستجابة.
[ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا] وأما هنا فنلحظ حرص الملك الشديد على ارتداد الغلام حتى لا يسبب قتله حرجاً للملك، وبلبلة في عقول الناس؛ لأن الغلام كان معروفاً لهؤلاء الناس بأعماله الطيبة وبحبه للخير..هذا من ناحية..
ومن ناحية أخرى: فإن الملك أراد أن تخسر الدعوة هذا الداعية، ويتحدث الناس أن الغلام لم يكن على شيء؛ لأنه ارتد عن دعوته.
ومن ناحية ثالثة: فإن الملك كان طامعاً في أن يستفيد من هذا الغلام في تثبيت موقفه بجعله ساحراً له، وداعياً إلى ملكه طالما أن عنده هذه القدرة العجيبة على أن يشفي الناس من أدوائهم، والذي يؤكد لنا حرص الملك على ارتداد الغلام هو الأسلوب الذي تعامل به معه:
فقد أخره عن الراهب والجليس حتى يشهد مصرعهما، فيتأثر ويضعف،
وكذلك فإن الملك اختار وسيلة غير الوسيلة التي قتل بها الراهب والجليس، وسيلة فيها فرصة للتردد والتفكير أثناء المسافة بين القصر والجبل، ثم صعود الجبل،
والذي يؤكد لنا أن الملك كان يفعل ذلك بقصد ردة الغلام هو أنه طلب من أصحابه أن يعرضوا عليه الارتداد في ذروة الجبل وقبل أن يقذفوه.
وابتداءاً من تعذيب الجليس، ثم تعذيب الغلام، ثم قتل الراهب والجليس قبل الغلام: ثم قول الملك للغلام: [أَيْ بُنَيَّ] ثم تحديد كيفية معينة لقتل الغلام.. تجدها كلها تصرفات محسوبة ومدروسة..
متى يكون التعذيب؟ ومتى يكون اللين؟ ثم متى يكون القتل؟ وكيف؟ ولهذه التصرفات دائماً هدف واحد محدد هو التخلص من الدعوة: إما بارتداد الدعاة، أو قتلهم.
غير أن أهم ملاحظة في تجربة القتل والتعذيب واللين هي التعبير عن طلب الرجوع عن الدين، أو المساومة فيه بصيغة المبنى للمجهول: [ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ] ذلك للراهب والجليس والغلام.(/7)
وأما القتل فعلاً فجاء بصيغة الفعل المبني للمعلوم وهو الملك: [ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ] والسبب في ذلك: هو أن المساومة مع أصحاب الدعوة لايتناسب مع الإرادة السياسية العليا، ولكن الجاهلية عندما ترغب في المساومة فإنها توكل بها مجهول يساوم خفية لكي لا يؤثر على مهابة الدولة، أما القتل والتعذيب فهو الأمر الذي يتفق مع تلك المهابة بل يزيدها.
ولكن الغلام يدعو الله فوق الجبل: [اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ] بأي كيفية يرضاها الله سبحانه، وبأي سبب يختاره عز وجل، فليس التوكل على الله عند المؤمن محدوداً بخبرة الواقع، ودراسة الظروف؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما استطاع الغلام أن يدعو بهذا الدعاء؛ لأن الواقع لم يكن يحتمل أي تفكير، ولكنه التوكل بكامل حقيقته، وجوهر معناه، انطلاقاً إيمانياً لا يتقيد بضيق الواقع، وارتفاعاًَ وجدانياً لا يهبط بشدة الظروف.
وعندما يتحقق التوكل... تتحقق الاستجابة بإذن الله..[ فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ] وسبب عودته إلى الملك هو سبب طلبه للنجاة من أصحاب الملك فوق الجبل وهو أن الدعوة لم تتم، وليست الحياة هدفاً يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة، أو الحرص على الموت.
والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص الذي لايعدو أن يكون فلسفة للجبن، أو للارتداد عن سبيل الله.
فالجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلاضرورة أومنفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا لم يكن طلب الغلام للنجاة جبناً، ولم تكن عودته إلى الملك تهوراً بل كان في كلا الموقفين شجاعاً حكيماً.
[وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ]لم تؤثر محنته على منهجه..لم يحدث التصرف الذي غالباً مايتصرفه بعض الدعاة بعد أن يعيشوا مرحلة من مراحل الخطر.. يخرجون من هذا الخطر وقد قرروا تفاديه في كل مواقفهم.. ويصبح هذا القرار أساساً في تحديد تصور جديد، ومنهج جديد.
لم يفعل الغلام ذلك بل عاد متمسكاً بمنهجه بصورة كاملة ودقيقة..عاد إلى نفس النقطة التي كان عليها..نفس الموقف الذي كان فيه..موقف المواجهة مع الملك.. فقد تحقق للغلام إمكانية تلك المواجهة فلا يجوز التراجع، ولا حتى التأجيل.
ولما ذهب إلى الملك سأله: [مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ] لا يريد أن ينسب الأصحاب إليه؛ لأنهم منهزمون أمام الغلام، حتى لا يكون لهزيمته بأصحابه أمام الغلام حساسية تؤثر على ادعاء الربوبية لنفسه، ولم يقل ماذا فعل أصحابي رغم أنهم أصحابه كما قال النص: [فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ].
قال الغلام: [كَفَانِيهِمُ اللَّهُ] ولعلنا نلاحظ أن قول الغلام هذا للملك بعد النجاة كان مثل قوله قبل النجاة : [اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ] نفس الكلمة التي قالها عند الضر فوق الجبل، قالها بعد كشف الضر واهتزاز الجبل بلا زيادة ولاتغيير، فقد ينطلق لسان الإنسان عند الضر بكلمات اللجوء إلى الله والاستغاثة به فإذا ما انكشف الضر تتغير الكلمات والألفاظ، ويدخل فيها إحساس الإنسان بنفسه وعمله، ويفسر الكشف الإلهي لضره بمجهود بذله، أو تصرف تصرفه.
ويحاول الملك قتله مرة ثانية..[فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ] إن اختيار الملك لأسلوب القذف بالغلام في وسط البحر بعد محاولة القذف به من فوق الجبل يعتبر نموذجاً لطبيعة تطور المواجهة الجاهلية المادية البحتة في مواجهة دعوة قائمة بقدر الله وحده. تلك المادية التى أعمت أصحابها عن قدر الله السافر فوق ذروة الجبل حيث اهتز الجبل، فسقطوا هم، وعاد هو سالماً.
أحداث ناشئة عن إرادة إلهية غالبة بتمام الدعوة، أدرك الغلام هذه الحقيقة، فجاء يمشي إلى الملك.(/8)
ويقين الغلام بعجز الملك عن قتله- وإن كان موقفاً خاصاً إلا أنه- تضمن حقيقة اعتقادية مطلقة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس في حديثه: [...وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ]رواه الترمذي وأحمد. ولن تكون الحركة صحيحة إلا إذا تحقق في ضمير كل داعية هذا الاطمئنان الذي كان عند الغلام.
فقال للملك: [إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ] ونرى في كلمات الغلام شيئين:
إثبات عجز الملك.. والأمر الذي سيأمر الملك به.. ولعل هذا أول أمر يتلقاه الملك في حياته، ويجد نفسه مضطراً إلى تنفيذه. وبذلك ينهي الغلام ادعاء الربوبية الذي يدعيه الملك بإثبات عجزه واضطراره إلى تنفيذ الأمر الذي يصدر إليه. ولقد حرص الغلام على إنهاء هذا الإدعاء في ذلك الموقف؛ لأنه الموقف الأخير الذي يجب أن ينتهي معه هذا الإدعاء الفظيع.
ويكون الأمر هو: [تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ] حتى يشهدوا الأحداث، ويفهموا معناها، ولقد بدأ الغلام أوامره بهذا الأمر؛ لأنه يعلم أن مثل هؤلاء الحكام يخفون الحقائق التي تفيد الناس، وتساعدهم على الإيمان، ومعرفة الحق. وهذا هو ماقصده موسى عندما طلب من فرعون أن يكون موعد المواجهة بينه وبين السحرة: يوم اجتماع الناس:{...يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى[59]}[سورة طه].
ويستمر الغلام في إصدار الأوامر إلى الملك العاجز: [وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ] حتى يكتمل ضعف الغلام في إحساس الناس، فيكون غلاماً صغيراً مصلوباً في جذع شجرة،حتى يسهل على الناس الانطلاق بإحساسهم نحو الإيمان بالقوة التي قهرت الملك، والتي تقف مع ذلك الغلام الصغير المصلوب.. قوة الله رب الغلام.
[ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي]واشتراط أن يكون السهم من كنانته هو؛ فيكون سبب القتل من عنده، وتتأكد رغبته في القتل. [ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ] والطبيعي أن يوضع السهم في كبد القوس، ولكن الغلام جعل التصرف الطبيعي تنفيذاً لأمر منه حتى لايتحرك الملك أي حركة من تلقاء نفسه؛ ليكون خضوعه كاملاً ونهائياً لأوامر الغلام التي جعلها الله صياغة لإرادته هو سبحانه.
[ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ] وبهذا يكون الغلام قد أعطى للناس تفسيراً للموقف، فيكون قتله رغبة منه وسبباً من عنده..يتحقق بقدر الله بعد أن عجز الملك.
ويستجيب الملك لأوامر الغلام استجابة الضعيف المضطر، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: [بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ].
استجاب الملك لأوامر الغلام لأنه وجد نفسه أمام ثلاثة أمور:
إما: أن يترك الغلام يدعو بدعوته كيفما شاء.. وكان هذا الحال سينتهي بإيمان الناس.
وإما: أن يستمر في تأكيد عجزه عن ذلك، وتتأكد للناس قوة الله الذي يحمي الغلام، وكان هذا الحال أيضاً سينتهي بإيمان الناس.
والأمر الثالث: وهو ما اختاره الملك، والذي انتهى بقتل الغلام، وأيضاً آمن الناس، فقد أراد الله أن يؤمن الناس، وأن تعلو كلمته، وقضى بذلك سبحانه وحكم، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. وعلى أساس هذا الموقف نفهم قول الله الذي جاء في سورة البروج:{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ[20]}[سورة البروج].
[ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ]وقد كانت هذه الحقيقة القدرية الأخيرة التي تتحدد بها العلاقة السبب والنتيجة. سبقها عدة حقائق، ففي القصة:
النتيجة التي تتحقق بعكس مقصود البشر من السبب: فنفس الغلام الذي أراد البشر أن يكون داعية للضلال.. يريد الله أن يكون داعية للحق، وفي نفس طريق الغلام إلى الساحر يلتقي بالراهب، ويجلس إليه، ويسمع منه، ويعجبه كلامه.
وفي القصة النتيجة الهائلة بالسبب البسيط.. مثلما قتل الغلام الدابة التي كانت تسد على الناس الطريق بحجر صغير. وهو المعنى المتحقق كذلك بهزيمة الملك ووقوع ما كان يحذره بسبب هذا الغلام الصغير.
وفي القصة النتيجة المختلفة بالسبب الواحد.. وذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك فوق الجبل، فرجف بهم الجبل، وجاء إلى الملك، وكذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك في السفينة، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك. ومن مجموع هذه الحقائق نفهم من سورة البروج قول الله سبحانه:{ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ[16]}[سورة البروج]. لأن هذه الآية هي حقيقة كل الحقائق.(/9)
ولقد كان آخر ما قاله الغلام هو أمره للملك بأن يقول: [بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ] وبهذه الكلمة فتح الغلام للناس باب الإيمان، فقد كانوا يعرفونه محباً لهم، وساعياً لمنفعتهم، ومداوياً لأدوائهم، وما بقي إلا أن يعرف الناس أن للغلام رباً هداه إلى محبتهم، وأذن له بشفائهم.
باسمه تحقق عجز الملك، وباسمه سيموت الغلام راغباً من أجل إيمانهم، وهنا نشعر بمدى القهر الذي انتهى إليه الملك، فبعد أن كان يدعي الربوبية، ويعذب، ويقتل من لا يدَّعيها له، يقول في النهاية بنفسه.. [بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ].
ولذلك لم يكن الغلام خائفاً من أن تنعكس رؤية الناس له وهو يموت خوفاً من الملك بعد قهره بهذا الموقف. كما أن الغلام لم يكن خائفاً لأنه استطاع أن ينشئ تعاطفاً كاملاً له في نفوس هؤلاء الناس بسلوكه معهم قبل ذلك، وبموقف الموت ذاته حيث تحدد الفارق بينه كغلام صغير مصلوب على جذع شجرة، وبين الملك الظالم.
وعندما انتهى الخوف من الملك المقهور، وبدأ التعاطف مع الغلام الداعية؛ بدأ الناس في الإحساس الصحيح بالموقف.. غلام صغير يحب الناس، ويقدم بهم المنافع والخير.. يموت برغبته من أجلهم.. بعد أن أثبت عجز الملك وضعفه من أجل أن يؤمنوا بالله رب الغلام.
واستجاب الناس.. فاندفعوا من كل مكان بلا خوف يرددون نداءات الإيمان [آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ].. ففي لحظة الانطلاق من قيود الوهم والجهل.. وفي لحظة العزة بعد القهر والذل..وفي لحظة القوة بعد الوهن والضعف.. يؤمن الناس.
[فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ] وتغيرت ملامح المجتمع، وأنهت الجماهير ادعاء الحاكم الكاذب، فجاء إلى الملك من يقسم له بالله على هزيمته وعجزه ويقول له: [قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ].
[فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ] ورغم هذا لم يتوقف اندفاع الناس من كل طريق، وفي كل السكك، وواصلوا الاندفاع حتى أخاديد النيران.
وواصل الملك مواجهة الجماهير المندفعة فقال: [مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ فَفَعَلُوا] ليقاوم كل إنسان بنفسه حب البقاء في نفسه، فيكون أقل مقدار للضعف كافياً وسبباً للارتداد، وقد كانت هذه الفكرة آخر ما أفرزته رأس هذا الملك المهزوم من سموم المكر. ولكن الإيمان أبطل أثرها، وعالجت قوة الاندفاع الأصيل إلى الموت أثر أي ضعف كان كامناً في النفوس.
ويلتقط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لمعالجة الإيمان لإحساس التعلق بالحياة فيه [حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ].
جاءت الأم بولدها متمسكة به إلى النهاية لم تفصلها أهوال الأحداث عنه حتى جاءت إلى حافة الأخدود، واشتعلت مشاعر الأمومة، وكراهية الموت فيها، فترددت أن تقع بابنها، ولكن الطفل يطفئ في إحساس أمه لهيب النار ذات الوقود لتلقي بنفسها وتنجو من الضعف والتقاعس، وكان حديث هذا الصبي هو آخر كلمات القصة عند حافة الأخدود.. قصة الانتصار للحق.
وتبقى مشاهد العذاب، وأخاديد النيران بشررها المتطاير ولهيبها ترتفع ألسنته بأجساد المؤمنين الطاهرة.. ويبقى أثر تلك النار في قلب كل مؤمن استضعافاً في الأرض، وجاهلية في الحياة ترتفع ألسنتها كلما استشهد شهيد في سبيل تلك الدعوة من أجل التمكين لها في الأرض وهذه الحياة.
وفي ذلك جاء قول الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ[1]وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ[2]وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ[3]قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ[4]النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ[5]إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ[6]وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ[7]وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[8]}[سورة البروج].
من كتاب:'أصحاب الأخدود' للأستاذ/ رفاعي سرور(/10)
أصحاب الأعراف
قال - تعالى -: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ 46 وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 47 وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ 48 أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ 49 وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ 50).
ذكر الله - سبحانه وتعالى - أَنَّ بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار حِجَابًا وَهُوَ الْحَاجِز الْمَانِع مِنْ وُصُول أَهْل النَّار إِلَى الْجَنَّة قَالَ اِبْن جَرِير وَهُوَ السُّور الَّذِي قَالَ اللَّه - تعالى -"فَضُرِبَ بَيْنهمْ بِسُورٍ لَهُ بَاب بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهِره مِنْ قِبَله الْعَذَاب" وَهُوَ الْأَعْرَاف الَّذِي قَالَ اللَّه - تعالى - فِيه "وَعَلَى الْأَعْرَاف رِجَال ".
ثُمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ السُّدِّيّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله - تعالى -: "وَبَيْنهمَا حِجَاب" هُوَ السُّور وَهُوَ الْأَعْرَاف
وَقَالَ مُجَاهِد الْأَعْرَاف حِجَاب بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار سُور لَهُ بَاب.
قَالَ اِبْن جَرِير وَالْأَعْرَاف: جَمْع عُرْف وَكُلّ مُرْتَفِع مِنْ الْأَرْض عِنْد الْعَرَب يُسَمَّى عُرْفًا وَإِنَّمَا قِيلَ لِعُرْفِ الدِّيك عُرْفًا لِارْتِفَاعِهِ.
وروي عن اِبْن عَبَّاس أنه قال الْأَعْرَاف هُوَ الشَّيْء الْمُشْرِف.
وَقَالَ الثَّوْرِيّ عَنْ جَابِر عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ الْأَعْرَاف سُور كَعُرْفِ الدِّيك.
وَفِي رِوَايَة عَنْ اِبْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّه تعالى عَنْهُ- الْأَعْرَاف جَمْع: تَلّ بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار حُبِسَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْل الذُّنُوب بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار.
وَفِي رِوَايَة عَنْهُ: الأعراف سُور بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار.
وَقَالَ السُّدِّيّ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْأَعْرَاف أَعْرَافًا لِأَنَّ أَصْحَابه يَعْرِفُونَ النَّاس.
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَات الْمُفَسِّرِينَ فِي أَصْحَاب الْأَعْرَاف مَنْ هُمْ وَكُلّهَا قَرِيبَة تَرْجِع إِلَى مَعْنًى وَاحِد وَهُوَ أَنَّهُمْ قَوْم اِسْتَوَتْ حَسَنَاتهمْ وَسَيِّئَاتهمْ نَصَّ عَلَيْهِ حُذَيْفَة وَابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَغَيْر وَاحِد مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف - رَحِمَهُمْ اللَّه - وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث مَرْفُوع عن رَجُل مِنْ مُزَيْنَة قَالَ: سُئِلَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَمَّنْ اِسْتَوَتْ حَسَنَاته وَسَيِّئَاته وَعَنْ أَصْحَاب الْأَعْرَاف فَقَالَ"إِنَّهُمْ قَوْم خَرَجُوا عُصَاة بِغَيْرِ إِذْن آبَائِهِمْ فَقُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه".
وَقَالَ سَعِيد بْن مَنْصُور حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن شِبْل عَنْ يَحْيَى بْن عَبْد الرَّحْمَن الْمُزَنِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَصْحَاب الْأَعْرَاف قَالَ "هُمْ نَاس قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه بِمَعْصِيَةِ آبَائِهِمْ فَمَنَعَهُمْ مِنْ دُخُول الْجَنَّة مَعْصِيَة آبَائِهِمْ وَمَنَعَهُمْ مِنْ النَّار قَتْلهمْ فِي سَبِيل اللَّه " . وَرَوَاهُ اِبْن مَرْدَوَيْهِ وَابْن جَرِير وَابْن أَبِي حَاتِم مِنْ طُرُق عَنْ أَبِي مَعْشَر بِهِ وَكَذَا رَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ وَابْن عَبَّاس وَاَللَّه أَعْلَم بِصِحَّةِ هَذِهِ الْأَخْبَار الْمَرْفُوعَة وَقُصَارَاهَا أَنْ تَكُون مَوْقُوفَة وَفِيهِ دَلَالَة عَلَى مَا ذُكِرَ.
وَقَالَ اِبْن جَرِير حَدَّثَنِي يَعْقُوب حَدَّثَنَا هُشَيْم أَخْبَرَنَا حُصَيْن عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ حُذَيْفَة أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَصْحَاب الْأَعْرَاف قَالَ: فَقَالَ "هُمْ قَوْم اِسْتَوَتْ حَسَنَاتهمْ وَسَيِّئَاتهمْ فَقَعَدَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتهمْ عَنْ الْجَنَّة وَخَلَفَتْ بِهِمْ حَسَنَاتهمْ عَنْ النَّار قَالَ فَوَقَفُوا هُنَالِكَ عَلَى السُّور حَتَّى يَقْضِي اللَّه فِيهِمْ".(/1)
وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ وَجْه آخَر أَبْسَط مِنْ هَذَا فَقَالَ حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن وَاضِح حَدَّثَنَا يُونُس بْن أَبِي إِسْحَاق قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيّ أُرْسِلَ إِلَى عَبْد الْحَمِيد بْن عَبْد الرَّحْمَن وَعِنْده أَبُو الزِّنَاد عَبْد اللَّه بْن ذَكْوَان مَوْلَى قُرَيْش فَإِذَا هُمَا قَدْ ذَكَرَا مِنْ أَصْحَاب الْأَعْرَاف ذِكْرًا لَيْسَ كَمَا ذَكَرَا فَقُلْت لَهُمَا إِنْ شِئْتُمَا أَنْبَأْتُكُمَا بِمَا ذَكَرَ حُذَيْفَة فَقَالَا هَاتِ فَقُلْت إِنَّ حُذَيْفَة ذَكَرَ أَصْحَاب الْأَعْرَاف فَقَالَ هُمْ قَوْم تَجَاوَزَتْ بِهِمْ حَسَنَاتهمْ النَّار وَقَعَدَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتهمْ عَنْ الْجَنَّة" فَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارهمْ تِلْقَاء أَصْحَاب النَّار قَالُوا رَبّنَا لَا تَجْعَلنَا مَعَ الْقَوْم الظَّالِمِينَ"فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَبّك فَقَالَ لَهُمْ اِذْهَبُوا فَادْخُلُوا الْجَنَّة فَإِنِّي قَدْ غَفَرْت لَكُمْ.
وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك عَنْ أَبِي بَكْر الْهُذَلِيّ قَالَ: قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَهُوَ يُحَدِّث ذَلِكَ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ يُحَاسَب النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاته أَكْثَر مِنْ سَيِّئَاته بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ الْجَنَّة وَمَنْ كَانَتْ سَيِّئَاته أَكْثَر مِنْ حَسَنَاته بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ النَّار ثُمَّ قَرَأَ قَوْل اللَّه "فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينه"الْآيَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ الْمِيزَان يَخِفّ بِمِثْقَالِ حَبَّة وَيَرْجَح قَالَ وَمَنْ اِسْتَوَتْ حَسَنَاته وَسَيِّئَاته كَانَ مِنْ أَصْحَاب الْأَعْرَاف فَوَقَفُوا عَلَى الصِّرَاط ثُمَّ عَرَفُوا أَهْل الْجَنَّة وَأَهْل النَّار فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْل الْجَنَّة نَادَوْا سَلَام عَلَيْكُمْ وَإِذَا صَرَفُوا أَبْصَارهمْ إِلَى يَسَارهمْ نَظَرُوا أَهْل النَّار" قَالُوا رَبّنَا لَا تَجْعَلنَا مَعَ الْقَوْم الظَّالِمِينَ "تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ مَنَازِلهمْ قَالَ فَأَمَّا أَصْحَاب الْحَسَنَات فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ بَيْن أَيْدِيهمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ وَيُعْطَى كُلّ عَبْد يَوْمئِذٍ نُورًا وَكُلّ أَمَة نُورًا فَإِذَا أَتَوْا عَلَى الصِّرَاط سَلَبَ اللَّه نُور كُلّ مُنَافِق وَمُنَافِقَة فَلَمَّا رَأَى أَهْل الْجَنَّة مَا لَقِيَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا" رَبّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورنَا " وَأَمَّا أَصْحَاب الْأَعْرَاف فَإِنَّ النُّور كَانَ بِأَيْدِيهِمْ فَلَمْ يُنْزَع فَهُنَالِكَ يَقُول اللَّه - تعالى - " لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ "فَكَانَ الطَّمَع دُخُولًا قَالَ: فَقَالَ اِبْن مَسْعُود إِنَّ الْعَبْد إِذَا عَمِلَ حَسَنَة كُتِبَ لَهُ بِهَا عَشْر وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَة لَمْ تُكْتَب إِلَّا وَاحِدَة ثُمَّ يَقُول هَلَكَ مَنْ غَلَبَتْ آحَاده عَشَرَاته رَوَاهُ اِبْن جَرِير
وَقَالَ أَيْضًا حَدَّثَنِي اِبْن وَكِيع حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد قَالَا حَدَّثَنَا جَرِير عَنْ مَنْصُور عَنْ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ: الْأَعْرَاف السُّور الَّذِي بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار وَأَصْحَاب الْأَعْرَاف بِذَلِكَ الْمَكَان حَتَّى إِذَا بَدَأَ اللَّه أَنْ يُعَافِيهِمْ اِنْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى نَهَر يُقَال لَهُ نَهَر الْحَيَاة حَافَّتَاهُ قَصَب الذَّهَب مُكَلَّل بِاللُّؤْلُؤِ تُرَابه الْمِسْك فَأُلْقُوا فِيهِ حَتَّى تَصْلُح أَلْوَانهمْ وَتَبْدُو فِي نُحُورهمْ شَامَة بَيْضَاء يُعْرَفُونَ بِهَا حَتَّى إِذَا صَلَحَتْ أَلْوَانهمْ أَتَى بِهِمْ الرَّحْمَن - تَبَارَكَ وَتعالى - فَقَالَ " تَمَنَّوْا مَا شِئْتُمْ "فَيَتَمَنَّوْنَ حَتَّى إِذَا اِنْقَطَعَتْ أُمْنِيَّاتهمْ قَالَ لَهُمْ" لَكُمْ الَّذِي تَمَنَّيْتُمْ وَمِثْله سَبْعُونَ ضِعْفًا "فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّة وَفِي نُحُورهمْ شَامَة بَيْضَاء يُعْرَفُونَ بِهَا يُسَمُّونَ مَسَاكِين أَهْل الْجَنَّة".
وَقَالَ سَعِيد بْن دَاوُدَ حَدَّثَنِي جَرِير عَنْ عُمَارَة بْن الْقَعْقَاع عَنْ أَبِي زُرْعَة عَنْ عَمْرو بْن جَرِير قَالَ: سُئِلَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَصْحَاب الْأَعْرَاف قَالَ "هُمْ آخِر مَنْ يُفْصَل بَيْنهمْ مِنْ الْعِبَاد فَإِذَا فَرَغَ رَبّ الْعَالَمِينَ مِنْ الْفَصْل بَيْن الْعِبَاد قَالَ أَنْتُمْ قَوْم أَخْرَجَتْكُمْ حَسَنَاتكُمْ مِنْ النَّار وَلَمْ تَدْخُلُوا الْجَنَّة فَأَنْتُمْ عُتَقَائِي فَارْعَوْا مِنْ الْجَنَّة حَيْثُ شِئْتُمْ" . وَهَذَا مُرْسَل حَسَن.(/2)
وَقِيل أصحاب الأعراف هم أَوْلَاد الزِّنَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ وَرَوَى الْحَافِظ اِبْن عَسَاكِر فِي تَرْجَمَة الْوَلِيد بْن مُوسَى عَنْ شَيْبَة بْن عُثْمَان عَنْ عُرْوَة بْن رُوَيْم عَنْ الْحَسَن عَنْ أَنَس بْن مَالِك عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ مُؤْمِنِي الْجِنّ لَهُمْ ثَوَاب وَعَلَيْهِمْ عِقَاب فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ثَوَابهمْ وَعَنْ مُؤْمِنِيهِمْ فَقَالَ عَلَى الْأَعْرَاف وَلَيْسُوا فِي الْجَنَّة مَعَ أُمَّة مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلْنَاهُ وَمَا الْأَعْرَاف فَقَالَ حَائِط الْجَنَّة تَجْرِي فِيهَا الْأَنْهَار وَتَنْبُت فِيهِ الْأَشْجَار وَالثِّمَار. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ.
وَقَوْله - تعالى - " يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ " قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ يَعْرِفُونَ أَهْل الْجَنَّة بِبَيَاضِ الْوُجُوه وَأَهْل النَّار بِسَوَادِ الْوُجُوه وَكَذَا رَوَى الضَّحَّاك عَنْهُ وَقَالَ الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس: أَنْزَلَهُمْ اللَّه تِلْكَ الْمَنْزِلَة لِيُعْرَفُوا فِي الْجَنَّة وَالنَّار وَلِيَعْرِفُوا أَهْل النَّار بِسَوَادِ الْوُجُوه وَيَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ أَنْ يَجْعَلهُمْ مَعَ الْقَوْم الظَّالِمِينَ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يُحَيُّونَ أَهْل الْجَنَّة بِالسَّلَامِ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ دَاخِلُوهَا إِنْ شَاءَ اللَّه وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ وَالْحَسَن وَعَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَمَ وَغَيْرهمْ وَقَالَ مَعْمَر عَنْ الْحَسَن إِنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَة" لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ "قَالَ وَاَللَّه مَا جُعِلَ ذَلِكَ الطَّمَع فِي قُلُوبهمْ إِلَّا لِكَرَامَةٍ يُرِيدهَا بِهِمْ وَقَالَ قَتَادَة قَدْ أَنْبَأَكُمْ اللَّه بِمَكَانِهِمْ مِنْ الطَّمَع.
وعلى اختلاف عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف، من هم؟ ومن يكونون؟ إلا أنها كلها قريبة ترجع إلى معنى واحد وهو ((أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم)).
والله أعلم.
http://www.almawa.net المصدر:(/3)
أصحاب الفكر الاستعلائي ... إلى أين ؟؟
بسم الله الرحمن الرحيم ...
ظاهرة غريبة تسود العالم من الدول إلى الشعوب إلى الأفراد
إنها ظاهرة الفكر الاستعلائي ويمكن تعريف هذه الظاهرة بأنها " ذلك المذهب الفكري ذو الاتجاه الواحد والرأي الواحد مع ادعائه بحرية الرأي للجميع "
فعندما يتحاور اثنان ويحكم أحدهما بأنه لا ينفع الحوار فماذا ينتظر بعد ذلك
من يعطي القرار بمنع الحوار ومن يجرؤ على ذلك بعد أن فتحه الله سبحانه وجعله وسيلة من وسائل الوصول إلى الحق
إنها ظاهرة الفكر الاستعلائي تلك الحرية المصطنعة والمختلقة بل الحرية الموجهة التي تسود أغلب العالم اليوم هي أخطر الظواهر على الإطلاق لها ميزات وخصائص متعددة ومتنوعة ومن أهم ميزات هذه الظاهرة :
1- أنها تستخدم مصطلحات رنانة غريبة وعجيبة تسحر العقول وتسبي الألباب ومن هذه الألفاظ النور الحرية والظلام والتساوي والشمعة و و و و
ولطالما وقع الكثير من الناس في فخ هذه المصطلحات مع أن الإسلام حذرنا من الوقوع في مثل هذا السحر البياني واللغوي فقال عليه السلام : " إن من البيان لسحرا "
2- أنها تسمح بالحريات وتنادي بها وتجهر بذلك والحريات المسموحة بمقدار ما تخدم هذا الفكر الاستعلائي وغيره فهي لا ترضى إلا حرية من طرف واحد ولابد لكل الحريات أن تدور في فلكها فإن خرجت هذه الحرية المسموح بها عن الدوران في هذا الفلك ترى هذه الظاهرة
( ظاهرة الاستعلاء ) تظهر وتستعلي وتكيل الاتهامات وتخلط الحابل بالنابل وتضع أمامنا أخطاء الماضي لتعكر رؤية المستقبل
3- تظن نفسها أنها هي الوحيدة التي تملك الحق فتتصدق به على الناس وما سواها شارد عن الحقيقة جاهل بها بالتالي فهي التي تأمر وتنهى وتتصدق على الناس بالحقيقة وتقرع رؤوسهم بالتهامات المختلفة .
4- أنها تظهر الشفقة على الناس وتتود لهم بأساليب مختلفة لتأخذ الولاء لها وتزيد عدد الأجرام في أفلاكها وتحشد حولها الدائرين في أفلاكها
5- ومن أخطر مظاهرها التأويل السافر للقرآن والسنة للإسلام ذلك التأويل الذي يخرج القرآن والسنة عن المقاصد العامة للإسلام فمثلا يفسرون الصوم بالصوم عن الجهل ويفسرون الحجاب بالحجاب المعنوي وغير ذلك
لقد تكلم القرآن عن هذه الظاهرة في القرآن الكريم وأطنب فيها وذلك في مواضع عديد ومن هذه المواضع فرعون مصر الذي جاءه الحق فأعرض عنه فانطلقت هذه الظاهرة لتعبر عن وجودها على لسان فرعون بقوله " ... قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " غافر (29)
وأما الأساليب فهي متنوعة وعديدة منها استخدام الألفاظ والمصطلحات البراقة وهاهو فرعون يستخدم كلمة الرشاد مع أنه أبعد الناس عنها
وفي موضع آخر يظهر الشفقة على قومه ويحشد لذلك أكبر عدد منهم ليدوروا في فلكه (وهما أسلوبان من الأساليب 1 -4 مما ذكرنا ) فيقول " وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد(26) غافر
فهو يحشد قومه ويستخدم كلمة الفساد وينسبها إلى موسى ويظهر بذلك الشفقة على قومه
وقارون وهامان وغيرهما من أصحاب الفكر الإستعلائي البغيض
وعبر التاريخ تناقل الناس هذا الفكر حتى وصل إلينا وهاهو بوش يقول للعالم إما معنا أو علينا
فأي استعلاء أكبر من ذلك
بينما القرآن الكريم يوجهنا إلى عدم الاستعلاء وقبول الآخر ومحاورته والنقاش معه بهدوء للوصول إلى الهدف الأسمى والأنقى " وجادلهم بالتي هي أحسن "
حتى إن الله أوصل المحاور المسلم إلى مرتبة يضع الإسلام والشرك بمرتبة واحدة للوصول إلى الهدف عندما قال " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين "(24) سبأ
بل إن الله ألزمنا بذلك وجعل الحوار والدليل هو الحكم والفصل بين الناس " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " (111) البقرة
هذا هو الحوار الذي طالبنا به الإسلام وهذه هي صفات الحوار
وهذه هي صفات الفكر الإسلامي فكر معتدل متزن يسمع ويقبل ويحاور
فأين يذهب أصحاب الفكر الاستعلائي بهذا التفكير ذو الاتجاه الواحد والرأي الواحد ؟
الذين يظنون أنهم وحدهم الذين يملكون الحقيقة وحدها وهم يتصدقون بها على الناس وهم وحدهم الذين أكرمهم الله بها !!!
ماذا يريدن من أنفسهم أولا؟؟
وماذا يريدون من العالم ؟؟
وكتبه
م. عبد اللطيف البريجاوي ...(/1)
أصل التوحيد
د. لطف الله بن عبد العظيم خوجه 15/12/1425
26/01/2005
لا نعلم أمرا اجتمع كثير من الناس، على التفريط فيه والغفلة عنه ونسيانه، كاجتماعهم على التفريط في الدعوة إلى سؤال الله وحده، وترك سؤال المخلوق، فهذا الأمر بالرغم من كونه أصل التوحيد والدين، إلا أنه ما زال مجهولا عند أكثر الناس.. العامي منهم والمتعلم..!!. ولا تكاد تجد أحدا يذكر به، أو يلفت النظر إليه، بل جل المواعظ منصبة في التحذير من الذنوب، والتحذير من كيد الأعداء، والمسارعة في الطاعات، أما هذا الأصل الكبير، فقل من يتكلم به، مع أن القرآن يوليه الأهمية الكبرى، والسنة تفسح له مكانا كبيرا بالتفصيل والبيان البليغ، حتى ليخيل إلى المتأمل أن الدين كله في سؤال الله وحده.
فإذا تتبعنا آي القرآن، وجدناها تحرض على سؤال الله تعالى، وتأمر به:
- تارة ببيان أن الفضل له، يقول تعالى: {واسألوا الله من فضله}.
- وأخرى ببيان قربه من عباده، وسماعه كل ما يسألونه، وإجابته لهم، يقول تعالى:
- { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}.
- وثالثة بوعيد من استغنى، فلم يرفع حاجاته إلى الله تعالى، واستكبر عن سؤاله، يقول تعالى:
- {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}.
- ورابعة بالترغيب في سؤال الله وحده، والتنفير من سؤال الخلق، بوصفهم لا يملكون شيئا، قال الله تعالى:
- {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون}.
- ويقول: { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير}.
- ويقول: { الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا * واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا}.
- وخامسة بالثناء الكبير على المستعفين المستغنين عن سؤال الناس، يقول الله تعالى:
- { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا}.
والآيات في هذا المعنى كثيرة.. وإذا التفتنا إلى السنة وجدناها تفصل في هذه القاعدة تفصيلا دقيقا..
- فتارة ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل أحد شيئا لا يحل له فيقول:
- " ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم"(1).
- وأخرى يحث على العمل والتكسب حتى لا يتعرض لسؤال الناس فيقول:
- "لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو فيحتطب، فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس"(2).
- وثالثة يخبر بأن الجنة ثواب من عف عن سؤال الناس، يقول ثوبان رضي الله عنه:
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا فأتكفل له بالجنة؟، فقلت: أنا، فكان لا يسأل أحدا شيئا) (3).
- وفي الرابعة يبلغ به الحرص لتأصيل هذا الركن، فيجعله من بيعته لأصحابه، فعن عوف بن مالك الأشجعي قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال:
- ( ألا تبايعون)؟، وكنا حديثي عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: (ألا تبايعون رسول الله)؟، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ( ألا تبايعون رسول الله)؟، فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟، قال: ( على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس وتطيعوا)، وأسر كلمة خفية: ( ولا تسألوا الناس شيئا)، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه"(4).
- وخامسة لكون هذا الأمر من أصول الدين، فقد كان يبادر به الصبيان والصغار، فيأمرهم به، كما كان يأمرهم بالصلاة لسبع، فها هو يقول لابن عباس رضي الله عنهما وهو غلام صغير:
- "يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"، ويؤكد له هذا المعنى بقوله: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف"(5).
- وسادسة كان عليه الصلاة والسلام يستغل كل مناسبة وحادثة، ليبين للناس أن سؤال الله تعالى أجدى لهم من سؤال غيره، فيقول:
- "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل"(6).
- وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه - أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: "ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا و أوسع من الصبر"(7).(/1)
وقد انتفع الصحابة – رضي الله عنه -من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، ورسخت فيهم هذه القاعدة فكانوا لا يسألون أحدا شيئا، كما مر معنا في حديث عوف وثوبان .. جاء حكيم بن حزام فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال:
- ( يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس، لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع.. اليد العليا خير من اليد السفلى). قال حكيم: " فقلت: " يا رسول الله! والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحدا بعدك شيئا، حتى أفارق الدنيا". فكان أبو بكر يدعو حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا، فقال: " إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه،"، فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي(8).
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأمرهم بما يأمرهم به إلا ممتثلا قولا وعملا لما يدعو إليه، وذلك كان له أبلغ الأثر في قلوبهم وسلوكهم، ففي رحلة الهجرة قدم له أبو بكر راحلة ليركبها فأبى إلا بالثمن(9).
ومن هنا فلقد تربى الصحابة على سؤال الخالق وحده وترك سؤال المخلوق، ولو كان هذا المخلوق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا يسألونه شيئا من أمر الدنيا، بل كانوا يسألون الله تعالى ويطلبونه قبل كل شيء.
- لما نزلت براءة عائشة قالت لها أمها: " قومي إلى رسول الله"، قالت: " والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي"(10).
- ولما نزلت توبة كعب بن مالك جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: " أمن عندك أم من عند الله"؟، قال: "لا، بل من عند الله"(11)..
لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا السؤال، ولم يعد موقفه وموقف عائشة رضي الله عنهما من سوء الأدب، لأنه هو الذي رباهم على هذه القاعدة، التي هي من أصول الدين، وليس في ذلك سوء أدب، بل هو الأدب كله مع الله تعالى، حيث لا ينبغي لأحد أن يقدم على حق الله تعالى حق أي من البشر، ولو كان نبيا.
ولقد كان الأصل في كبار الصحابة – رضي الله عنهم- أنهم لا يسألون رسول الله عليه وسلم شيئا لأنفسهم، هذا في أمور دنياهم، أما في أمور دينهم فقد كانوا ينتظرون ما يأتي به، ولم يكونوا يتقدمون بين يديه، وكان من أدبهم أنهم لم يسألوه إلا أربع عشرة مسألة كلها في القرآن كقوله تعالى: { يسألونك ماذا ينفقون..}..
نعم قد كان بعض الصحابة الذين لم يلازموا رسول الله الملازمة الكاملة يسألونه شيئا من أمور الدنيا، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يترفق بهم، ويربيهم، ويدلهم على الأحسن والأفضل..
- عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أدع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت فهو خير لك".
فخيره بين أمرين ورغبه في الصبر، ووصف ذلك بأنه خير له من دعائه له، لكنه قال: ادعه، فأمره أن يتوضأ، فيحسن الوضوء، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، لتقضى لي، اللهم فشفعه في"(12). رغبه في دعاء الله والالتجاء إليه وحده، لكن لما أصر على دعائه له، علمه شيئا فيه خير له، فأمره بالدعاء مع دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم - له، وهذا فيه غاية النصح، حيث علمه أن يرغب إلى الله، ولا يكتفي بدعاء أحد له، ولو كان هذا الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- ومثل هذا أن امرأة كانت تصرع فسألت النبي – صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لها، فقال لها: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك"(13)، وهذا أيضا في نفس المعنى، خيرها بين الدعاء وبين الصبر، وجعل صبرها ورغبتها إلى الله تعالى خير من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم - لها.
ومثل هذا كثير، في كل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على تعليق قلوب الصحابة بالله تعالى بالسؤال والرغبة، ويصرفهم عن سؤال غيره مهما كان شأنه، ولولا أنه من أصول الإيمان والدين لما اعتنى به هذه العناية.
وبعد: فقد رأينا كيف حرص الشارع على ترسيخ هذه القاعدة في نفوس الناس، والدارس المتعمق لهذه القضية في النصوص الشرعية وأحوال الرسل والأنبياء لا يتردد لحظة أن يخرج بقاعدة مفادها أن:
"أصل التوحيد سؤال الله تعالى، وأصل الشرك سؤال غير الله تعالى"
تشرب الصحابة تلك القاعدة العظيمة، فتلاشى من بينهم التنازع والتناحر على الدنيا، وأخلصوا عملهم لله تعالى، وكان ذلك من أهم أسباب ثباتهم على دينهم من بعده: لما مات قام تلميذه الأول أبو بكر في الناس خطيبا فقال:(/2)
- " أما بعد: من كان منكم يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، قال تعالى: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين"(14).
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علمهم أن يعبدوا الله وحده، ويسألوه وحده كل شيء:
- " ليسأل أحدكم ربه حاجاته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع"(15).
فلما مات كانت قلوبهم قد اتصلت بربها الحي الذي لا يموت، فتسلت وصبرت وثبتت فلم تنتكس، وقامت بما عليها من واجب تجاه دينها، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم رباهم على التعلق به لا بالله تعالى لما كان منهم ذلك، بل لما انتشر الدين، ولما عز الإسلام من بعد..
إن الصحابة عاشوا وهم يحملون في قلوبهم تعظيم الله وحده والثقة به وسؤاله على الدوام كل صغيرة وكبيرة، ولذا كانوا نموذجا فريدا في التاريخ من حيث التحمل والصبر والبذل والثقة بالله تعالى والإيمان.
- لما كتب أبو عبيدة عام اليرموك إلى عمر يستنصره على الكفار، ويخبره أنه قد نزل بهم جموع لا طاقة لهم بها، فلما وصل كتابه بكى الناس، وكان من أشدهم عبد الرحمن بن عوف، وأشار على عمر أن يخرج بالناس، فرأى عمر أن ذلك لا يمكن، فكتب إلى أبي عبيدة يقول: " مهما ينزل بامريء مسلم من شدة، فينزلها بالله، يجعل الله له فرجا ومخرجا، فإذا جاءك كتابي هذا فاستعن بالله وقاتلهم"(16).
إن موقف عمر -رضي الله عنه - يعد في ميزان كثير من الناس إلقاءا بالنفس إلى التهلكة وتعرضا للهزيمة المؤكدة، لكن عمر كان يعلم أن النصر من الله تعالى، ولأن قلبه معلق بالله تعالى، لم يتعود إلا سؤاله، لم يغفل في تلك اللحظة الحرجة حين جاءه الكتاب عن الحقيقة التي تربى عليها، وتذكر أن الله تعالى فوق كل شيء، وقال ما قال بثقة كاملة وإيمان راسخ.
لكن إلى الآن ربما نكون بحاجة أكثر إلى شرح مفصل لنؤكد ونرسخ صدق هذه القاعدة:
"أصل التوحيد سؤال الله تعالى، وأصل الشرك سؤال غير الله".
* * *
بعد أن عرضنا النصوص والآثار في المسألة، بقي أن نعرج إلى فوائد سؤال الله تعالى، ومفاسد سؤال الخلق، التي بها نؤكد صدق تلك القاعدة السابقة، وموافقتها لما جاء عن الشرع.
إن الذي يعتاد سؤال الله تعالى وحده ينعم بنعمتين كبيرتين:
- الأولى: لذة المناجاة.
- والثانية: محبة الله.
أما عن لذة المناجاة: فالإنسان له حوائج لا تنتهي، ومسائل لا تنقضي، فإذا كان لا يسأل إلا الله تعالى، فإنه يكون دائم الصلة به، وذلك يفتح له باب معرفة الله تعالى، هذه المعرفة وتلك الصلة، من خلال التضرع والسؤال الملح، تفتح على الإنسان من أبواب الرحمة والإيمان، ما لم يكن يعلم، فيجد لذة الإيمان ولذة المناجاة، فالقرب من الرحيم الكريم العظيم يورث النفس طمأنينة وسعادة، بخلاف الذي لا يسأل الله تعالى فإنه يفقد الصلة به، وإذا لم يتصل بالله، اتصل بغيره من المخلوقين، والاتصال بالمخلوقين وذكرهم بلية وداء، كما يذكر عن عبد الله بن عون قوله: (ذكر الناس داء، وذكر الله دواء) (17).
فهذا التوجه إلى الله تعالى يعود بالأثر الطيب على النفس، كما يذكر عن بعضهم قوله: (إنه ليكون لي إلى الله حاجة، فأدعوه، فيفتح لي من لذيذ معرفته، وحلاوة مناجاته، ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي، خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك، لأن النفس لا تريد إلا حظها، فإذا قضت انصرفت) (18)، وصدق الله تعالى حين قال:
- "فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خير كثيرا".
وأما عن محبة الله تعالى: فإن الإنسان إذا كان لا يسأل إلا الله، عرف الله تعالى حق المعرفة، من إجابته له، فما يسأل الإنسان ربه شيئا من الخير إلا أعطاه، فإذا جرب سؤاله على الدوام، رأى كيف إكرام الله له، من حيث الإجابة، أو صرف السوء، أو ادخار الحسنات له، كما جاء في الحديث أن الداعي له إحدى ثلاث:
- إما أن يعجل له بالإجابة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له(19).
وهذه مما يولد في قلبه المحبة لله تعالى، حيث يراه محسنا رحيما به، رؤوفا كريما جواد عفوا غفورا توابا برا رزاقا، فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، والذي يعتاد سؤال الله يعرف مدى إحسان الله تعالى إليه في قضاء حوائجه كلها.
* * *
كل هذه المزايا والبركات غير حاصلة في سؤال المخلوق، بل سؤال المخلوق فيه مفاسد كثيرة، منها:
- أولا: سؤاله يورث القلب الظلمة والألم، لأنه اتصال بمن خلق ظلوما جهولا، والاتصال بالظالم الجاهل يؤثر في النفس بالظلمة والجهل.
- ثانيا: التعلق بهم إن هم أجابوه، حبا وخضوعا وطاعة، وهذا فيه طعن في توحيده وإخلاصه لله تعالى.
- ثالثا: أنه يبقى في منتّهم وعلوهم عليه وذله لهم، ومثل هذه عبودية لا تنبغي إلا لله تعالى.
- رابعا: أنه يجب عليه أن يكافئهم، فقد لا يقدر فيبقى أسيرا لهم، كما قال بعضهم:
- (ما وضعت يدي في قصعة أحد إلا ذللت له) (20).(/3)
- وقال بعضهم: (احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره) (21).
وقد يقدر على المكافأة، لكن لا يمكنه ذلك إلا بخرق دينه والتنازل عن مبادئه.
وإذا قدر على المكافأة، دون أن يخرب دينه فلا أقل من أن يكون قد استهلك زمنا من عمره في هم قضاء الدين، ما لو قضاه في سؤال الله والسعي في الرزق لكان خيرا له.
- خامسا: ذلك حال إجابتهم سؤاله، أما إذا لم يجبيوه فالنتيجة التنازع والتناحر والقطيعة والتباغض والحقد والحسد، فكم من عداوات وقعت، وأرحام تقطعت، وأحوال طيبة تبدلت، بسؤال سائل لم يجد إجابة أو عونا.
- سادسا: وأخطرها أنها تفضي بكثير من الناس إلى التعبد لغير الله تعالى، والإسلام حرص غاية الحرص على سد كل منافذ الشرك والعبودية لغير الله تعالى، فمن ذلك أنه منع الواسطة بينه وبين خلقه، وأمر بسؤاله مباشرة، ونهى عن اتخاذ الشفعاء، لأمرين:
- الأول: حتى تكون العبادة خالصة له.
- الثاني: حتى لا يحرم الإنسان فرصة القرب من الله والقبول.. وبيان هذا:
أن الإنسان أذل ما يكون في حالين:
- الأول: بعد الذنب.
- الثاني: حين الحاجة.
أما بعد الذنب: فشعوره بعظم ما أتى، وانكسار نفسه، وخوفه من الله تعالى والحياء منه، فهذه فرصته للإقبال على الله تعالى، والفوز بالتوبة والقرب، حيث إن الله تعالى يحب من عبده الانكسار له والذل والخضوع، وهو يكره العجب والكبر ولو بالطاعة، فمن انكسر له وذل وخضع رفعه وقربه، فعلى العبد أن يستغل فرصة الندم والذل والانكسار بعد الذنب بسؤال الله وحده أن يغفر له.
والشيطان في هذه اللحظة أحرص ما يكون، على استغلال هذا الظرف العصيب، بالغواية، والوسوسة بأن الله لن يقبل الإنسان وهو على هذه الحال، فهذا ما فعله مع المشركين قديما، حيث أغراهم وزين لهم أن الله تعالى لن يقبلهم وهم متلطخون بالمعاصي إلا بأن يتوسلوا بالصالحين الطاهرين، فاستجابوا لوسوسة الشيطان وفوتوا على أنفسهم فرصة المغفرة والقبول والقربى، وانجروا إلى الشرك بما صنعوا من التوجه إلى غير الله تعالى وسؤالهم باسم الشفاعة والوسيلة.
وقد وقع مثل هذا في المسلمين، حيث صار منهم من يعبد الأولياء والأضرحة باسم الولاية وجعلوهم الواسطة بينهم وبين الله، وهذا هو بعينه ما فعله المشركون، والله تعالى كره ذلك منهم، وكفرهم به حيث قال:
- {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبؤون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون}.
إن الله تعالى يقبل سؤال العبد أن يغفر له مهما أتى من الذنب ..!!.
- ألم يغفر الله تعالى لمن قتل مائة نفس؟ (22)..
- ألم يغفر لبغي(23)، سقت كلبا من عطش، فشكر الله لها فغفر لها.
- وهو الذي يقول: "يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ولا أبالي.
يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي.
يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة) (24).
كل هذا تأكيد وتحريض من الله تعالى لعباده، أن يسألوه وحده، كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، حتى لا يفتحوا على أنفسهم باب الشرك.
- وحين الحاجة: يكون الإنسان أذل ما يكون لمن يقضي حاجته، والله تعالى يحب من عبده الذلة له، فإذا ترك سؤال الله تعالى وتوجه إلى سؤال المخلوق، ذل لمن لا يستحق أن يذل له، وترك من يستحق أن يذل له.
إن خزائن الله ملآى لا تنفد، والله يرزق بغير حساب، فقط ينبغي لنا:
1. أن نثق بالله تعالى، وندعوه ونحن موقنون بالإجابة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة"(25).
2. أن ندعوه تضرعا وخفية، كما قال تعالى: "ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين".
3. أن ندعوه بعزم وإلحاح، قال عليه الصلاة والسلام: "إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقل: اللهم إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له"(26).
4. أن لا نستعجل الإجابة، قال عليه الصلاة والسلام: "يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل"، قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟، قال: "يقول: قد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء"(27).
فإذا فعلنا ذلك، رأينا كيف إكرام الله تعالى لمن دعاه، فالله تعالى يفرح بدعوة العبد له، وهذا بعكس المخلوق فإنه يغضب من السؤال، لشعوره بالنقص والفقر، قال ابن تيمية:
- (فالرب سبحانه: أكرم ما تكون عليه، أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه، والخلق أهون ما تكون عليهم، أحوج ما تكون إليهم، لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم؟!) (28).
* * *
- كلما اعتاد الإنسان سؤال الله تعالى، فتح لنفسه أبواب الإيمان والتوحيد، وأغلق عنها أبواب الشرك.(/4)
- وكلما اعتاد سؤال المخلوق، فتح على نفسه باب الشرك، وأغلق عنها باب التوحيد.
ولأن هذه القاعدة من قواعد الإسلام العظيمة، فقد لفتت نظر العلماء، فبنوا عليها أحكاما فقهية:
- فالحج لا يجب بالهبة، فمن لم يملك الزاد والراحلة لم يجب عليه قبول الهبة من أجل أن يحج، ولو كان الفريضة، حتى لا تكون للمخلوق عليه منّة، قال ابن تيمية في شرح العمدة: (فإن كان قادرا على تحصيله بصنعة أو هبة أو وصية أو مسألة أو أخذ من صدقة أو بيت المال: لم يجب عليه ذلك) (29)، أي الحج.
- وكذا لا يلزم قبول الهبة لمن عدم السترة في الصلاة، مع كون ستر العورة من شروط الصلاة، جاء في الروض المربع: ( (وإن أعير سترة لزمه قبولها)، لأنه قادر على ستر عورته بلا ضرر فيه، بخلاف الهبة للمنة، ولا يلزمه استعارتها) (30).
ولأجل ما سبق قال الإمام ابن تيمية:
- (سؤال الخلق في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلا على الله تعالى أفضل"وأسند ذلك إلا الإمام أحمد رحمه الله) (31) .
فهذه قاعدة مهمة، أن: الأصل في سؤال الخلق أنه محرم
لكن لما كانت بعض حاجات الناس لا تقضى إلا بالسؤال فيما بينهم، حتى يتم التعاون والمودة والتكافل، أباح الله هذا السؤال، على أن لا يتجاوز الحد، بحيث لا يكون هو الديدن والأصل، فيسأل كل شيء، من غير تفريق بين ما يحسن وما لا يحسن، ولا بين الضروري وغير الضروري، وإذا تعرض لسؤال إضطرارا فيجب عليه أن يرد بالمثل ويجتهد في الرد بأحسن من ذلك، فإن لم يقدر لضيق في رزقه، فليجتهد في الدعاء لمن أسدى إليه معروفا، يقول عليه الصلاة والسلام:
- " من صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه به، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه"(32).
* * *
وبعد هذا العرض حول هذه القضية الخطيرة المهملة ليس أمامنا طريق نسلكه نعلم عاقبته إلا هذا الطريق:
- فأولى ما نربي نفوسنا عليه، هو تربيتها على سؤال الله وحده.
- وأولى ما نربي أولادنا وأهلينا عليه هو ذلك،.
- وأولى ما نربي الناس عليه، هو هذا الأمر العظيم.
ويقيني أننا لو أخذنا بهذا المبدأ، تعلما وتعليما ودعوة، وترسيخا بالتكرار، في كل مناسبة وحادثة، كما كان عليه الصلاة والسلام يفعل، أن ذلك سيحل كثيرا من المشكلات، التي تعترض طريقنا في هذه الدنيا، من أصغر شيء إلى أكبره، من الذنب الصغير إلى الذنب الكبير، من الصغيرة إلى الكبيرة إلى الشرك، كلها ستحل، وكل أخطائنا ستتلاشى، وكل شيء في حياتنا سيحسن وسيطيب، كما طابت حياة الصحابة والصالحين، فلتكن هذه القاعدة المهمة منا على بال، في كل وقت وآن.
________________________________________
(1) رواه البخاري في الزكاة، باب: من سأل الناس تكثرا، ورواه مسلم أيضا.
(2) رواه البخاري في الزكاة، باب: قوله تعالى: { لا يسألون الناس إلحافا}
(3) رواه أبو داود في زكاة الفطر، باب: كراهية المسألة.
(4) رواه مسلم في الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس.
(5) رواه الترمذي في صفة القيامة، باب رقم 60، صحيح الترمذي رقم 2043.
(6) رواه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في الهم في الدنيا وحبها، صحيح الترمذي رقم 1895.
(7) رواه البخاري في الزكاة، باب: الاستعفاف عن المسألة، ورواه مسلم أيضا.
(8) رواه البخاري في الزكاة، باب: بالاستعفاف عن المسألة، ورواه مسلم أيضا.
(9) الحديث في صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي صلى الله وأصحابه إلى المدينة، انظر: الفتح:7/235.
(10) رواه مسلم في كتاب التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.
(11) رواه مسلم في التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه،
(12) رواه الترمذي في الدعوات، باب: 7، رقم 2832، صحيح الترمذي، صحيح ابن ماجة رقم 1137.
(13) رواه البخاري في المرضى، فضل من يصرع من الريح.
(14) رواه البخاري في المغازي باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، فتح الباري: 8/145.
(15) رواه الترمذي من حديث أنس، قال عبد القادر الأناؤوط: إسناده صحيح، انظر: جامع الأصول 4/165، ورواه أبو يعلى من حديث عائشة بلفظ: ( سلوا الله كل شيء حتى الشسع إذا انقطع)، حسنه محقق فتح المجيد ص192، طبعة المؤيد.
(16) رواه مالك في الموطأ في الجهاد، باب: الترغيب في الجهاد، ومثله في المسند، انظر الفتح الرباني 23/82، الرد على البكري لابن تيمية، تحقيق: السهلي 1/272.
(17) سير أعلام النبلاء 6/369، قال الذهبي عقبه: " إي والله، فالعجب منا ومن جهلنا، كيف ندع الدواء، ونقتحم الداء؟!، قال الله تعالى: {فاذكروني أذكركم، {ولذكر الله أكبر}"، وذكر ابن القيم في الوابل الصيب (ص99) عن محكول قوله: "ذكر الله شفاء، وذكر الناس داء".
(18) مجموع الفتاوى 10/333.
(19) رواه الترمذي في الدعوات، باب: انتظار الفرج، وباب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، وفي الموطأ، في القرآن، باب ما جاء في الدعاء.
(20) انظر: الفتاوى 1/98.
(21) انظر: الفتاوى 1/39.(/5)
(22) رواه البخاري في الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم في التوبة، باب: قبول توبة القاتل.
(23) رواه مسلم في السلام، باب: فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها.
(24) رواه الترمذي في الدعوات، باب: رقم 106، عن أنس، صحيح الترمذي 280.
(25) رواه الترمذي في الدعوات، باب: رقم 66، انظر السلسلة الصحيحة 594.
(26) رواه البخاري في الدعوات، باب: ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له.
(27) رواه مسلم في الذكر والدعاء، باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل.
(28) مجموع الفتاوى 1/40.
(29) شرح العمدة 1/131.
(30) 1/505.
(31) الفتاوى 1/181،134،78، وانظر: المدارج 2/242، شرح العمدة: 1/144.
(32) رواه أبو داود في الزكاة، باب: عطية من سأل الله.(/6)
أصناف أهل النار
الصنف الأول :الكفار والمنافقون.
قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} (1 )
قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)} (2 )
قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (65)} ( 3)
قال تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)} ( 4)
قال تعالى {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)} (5 )
الصنف الثاني:عصاة الموحدين..
وهؤلاء رحم الله منهم من شاء وعذب منهم من شاء بعدله وحكمته ولكن لايخلدون بل كل على قدر ذنبه ويكفيه أن غمسة في النار تنسيه نعيم الدنيا وما فيها .وهم أصناف ودرجات.منهم:
علماء السوء ومن راءَ بعمله.
عَنْ ِأُسَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ .( 6)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ .(7 )
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا.(8 )
الحكام الجائرون وأعوانهم.
وهذا عام في كل من أعان ظالماً بالفعل أو القول أو الرضا.
{ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)} (9 )(/1)
{ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} ( 10)
وآل فرعون من كان على دينه وعلى مذهبه وإذا كان من كان على دينه ومذهبه في أشد العذاب كان هو أقرب إلى ذلك.( 11)
وحاق بآل فرعون سوء العذاب, وهو الغرق في اليم ثم النقلة منه إلى الجحيم, فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا ومساء إلى قيام الساعة, فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار, ولهذا قال ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ,أي أشده ألما وأعظمه نكالا. ( 12)
قال تعالى {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113)} (13 )
عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّه مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الزَّيْتُ فَقَالَ مَا هَذَا قِيلَ يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ فَقَالَ أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا.(14 )
عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ كَانَ رَجُلٌ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الْأَمِيرِ فَكُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ الْقَوْمُ هَذَا مِمَّنْ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الْأَمِيرِ قَالَ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا فَقَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ.( 15)
النساء المتبرجات*
وهذا وعيد لكل سافرة متبرجة متعطرة وجد الناس منها ريحا..
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا. ( 16)
قال القرطبي:وقوله(نساء كاسيات عاريات) يعني أنهن كاسيات من الثياب عاريات من الدين لإنكشافهن وإبدائهن بعض محاسنهن.وقيل:كاسيات في الظاهر عاريات في الحقيقة.
وقيل:كاسيات في الدنيا بأنواع الزينة من الحرام وما لا يجوز لبسه عاريات يوم القيامة،
وقيل: مائلات متبخترات في مشيهن مميلات يملن رؤوسهن وأعطافهن من الخيلاء والتبختر ومميلات لقلوب الرجال إليهن لما يبدين من زينتهن وطيب رائحتهن.
وقيل:يتمشين الميلاء وهي مشية البغايا,والمميلات:اللواتي يمشين غيرهن مشية الميلاء.
وقوله صلى الله عليه وسلم(رؤوسهن كأسنمة البخت)معناه يعظمن رؤوسهن بالخمر والمقانع ويجعلن على رؤوسهن شيئا لعقص الشعر .( 17)
وكيف لو رأى القرطبي حال بنات المسلمين ونسائهم في هذا الزمان وما وصلن إليه من عري وإظهار لمفاتنهن, وكشف للشعور والأبدان دون رقيب,فقد تحطم الحياء وتهشم في بيوت المسلمين, إلا ما رحم ربي, بل أصبحت المحجبة المتسترة عند أهلها من سقط المتاع.
من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ.(18 )
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ِ قَالَ قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ.( 19)
قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ.( 20)
عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ.(21 )
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ.( 22)(/2)
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ..(23 )
من خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن أعظم أسباب دخول الجنة والنجاة من النار متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والصبر على هذه المتابعة من أعظم الأسباب للنجاة من النار في وقت شرقت الأمة بمخالفته صلى الله عليه وسلم إلا من رحم الله.فالزم بغرزه تنجو إنشاء الله.
قال تعالى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (24 )
قال تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} ( 25)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى.(26 )
الكبر.
وهو الداء العضال الذي أوقع إبليس في مخالفة رب العالمين وهو سبب هلاك كل ظالم وطاغي وهو الذي من الكثير عن اتباع الحق ومخالفة الهوى.
قال تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} (27 )
قال تعالى {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)} ( 28)
قال تعالى {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنْ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)} (29 )
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ. ( 30)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ.( 31)
قتل النفس التي حرم الله .
قال تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93)} (32 )
قال تعالى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69)} ( 33)
عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَخْطُبُ وَكَانَ قَلِيلَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَمِعْتُهُ يَخْطُبُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلَّا الرَّجُلُ يَقْتُلُ الْمُؤْمِنَ مُتَعَمِّدًا أَوْ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا.( 34)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ.(35 )
وَعَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قُلْتُ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ قَالَ ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ. ( 36)
ويدخل في ذلك من قتل نفسه.(/3)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا. ( 37)
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ. (38 )
أكلة الربا.
قال تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} ( 39)
قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} ( 40)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ. ( 41)
[من كتاب "الاعتبار" للشيخ]
________________________________________
( 1) [سورة البقرة 2/6-7]
( 2) [سورة آل 3/21-22]
( 3) [سورة الأحزاب 33/64-65]
( 4) [سورة النساء 4/145]
( 5) [سورة الحديد 57/13-15]
( 6) البخاري(3267).
( 7) مسلم(1905).
( 8) حسن :أبوداود(3664) ابن ماجة(252) الد ارمي (257)أحمد(8252).
( 9) [سورة القصص 28/8]
( 10) [سورة غافر 40/45-46]
(11 ) تفسيرالقرطبي(15/320)
( 12) ابن كثير عند ذكر الآية.
( 13) [سورة هود 11/113]
(14 ) مسلم(2613).
(15 ) مسلم(105).
( 16) مسلم(2128).
( 17) القرطبي(التذكرة/428)
( 18) البخاري(106)مسلم(1).
( 19) البخاري(107).
( 20) البخاري(108)مسلم(2).
(21 ) البخاري(109).
( 22) البخاري(110)مسلم(3).
( 23) مسلم(4)
( 24) [سورة النور 24/63]
(25 ) [سورة النساء 4/14]
( 26) البخاري(7280) مسلم(1835).
( 27) [سورة غافر 40/60]
( 28) [سورة غافر 40/76]
( 29) [سورة غافر 40/47-48]
(30 ) مسلم(91)
( 31) مسلم(2620)
( 32) [سورة النساء 4/93]
( 33) [سورة الفرقان 25/68-69]
( 34) صحيح:النسائي(3919) أحمد(16464).
(35 ) البخاري(6878) مسلم(1676).
(36 ) البخاري(31) مسلم(2888).
( 37) البخاري(5778) مسلم(109).
( 38) البخاري(1365)
(39 ) [سورة البقرة 2/275]
( 40) [سورة آل 3/130-131]
( 41) البخاري(2767) مسلم(89).(/4)
أصول التعامل مع غير المسلمين
أولاً: أصناف غير المسلمين:
1- المحاربون.
2- أهل الذمة.
3- أهل العهد.
4- أهل الأمان.
ثانيًا: أحكام فقهية متعلقة بغير المسلمين:
1- التجارة.
2- دخول الكافر المسجد.
3- استئجار المسلم الكافر.
4- استئجار الكافر المسلم.
5- التبايع.
ثالثًا:أصول في التعامل مع غير المسلمين عموما:
1- العدل.
2- الدعوة إلى الحقّ.
3- البراءة منهم، وعدم موالاتِهم.
4- النهي عن مشابَهتهم، والأمر بمخالفتهم.
5- الإحسان إلى المحتاج منهم بالصدقة والصلة.
رابعًا:أصول في التعامل خاصّة بكل صنِّف:
1- أهل الحرب:
أ- الشدة في قتالهم وعدم اللين معهم.
ب- عدم الغدر والخيانة بِهم، إذا وقع الصلح والهدنة معهم.
ج- عدم قتل من لا يقاتل غالبًا منهم، كالمرأة، والصبيان، والشيخ الفانِي، والأجير، والعابد في صومعته.
د- حِلُّ الدم و المال.
2- أهل الذمّة:
أ- إلزامهم بدفع الجزية.
ب- وجوب حمايتهم.
ج- حرمة دمائهم وأموالهم.
د- النكاح بأهل الكتاب منهم.
3- أهل العهد:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم مثل ردّه عن أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم حال العهد.
4- أهل الأمان:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم، مثل ردّه عن أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم. (انظر: حرمة أموالهم ودمائهم في حقوق أهل الذمة).
خامسًا: المسلمون في ديار الكفر:
1- حكم الإقامة في بلاد الكفّار.
2- النكاح بأهل الكتاب اليوم في ديارهم.
أولاً: أصناف غير المسلمين:
الكفار غير المسلمين من حيث موقفهم من الإسلام وأهله أصناف، قال ابن القيّم: "الكفار: إمّا أهل حربٍ، وإمّا أهل عهدٍ. وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمّة، وأهل هُدنة، وأهل أمانٍ"، وذلك لأنّ لفظ الذمّة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل.
قال: "ولكن صار في اصطلاح كثيرٍ من الفقهاء (أهل الذمّة) عبارة عمّن يؤدي الجزيّة".
1- أهل الحرب:
هو الكافر الذي بين المسلمين وبين دولته حالة حربٍ، ولا ذمّة له ولا عهد.
قال الشوكانِيُّ: "الحربي الذي لا ذمة له ولا عهد".
2- أهل الذمة:
الكفَّار المقيمون تحت ذمَّة المسلمين بدفع الجزيَّة.
قال ابن القيّم: "أجمع الفقهاء على أنّ الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس".
ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.
وحكم أهل الذمّة المعاهدين الذين يساكنون المسلمين في ديارهم ويدفعون الجزية أنّهم يخضعون للأحكام الإسلاميّة في غير ما أُقروا عليه من أحكام العقائد والعبادات والزواج والطلاق والمطعومات والملبوسات. ولهم على المسلمين الكفّ عنهم وحمايتُهم.
قال الماورديّ: "ويلتزم - أي الإمام - لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين".
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم".
والغرض من عقد الذمّة مع الكتابِي والمجوسي: أن يترك القتال، مع احتمال دخوله الإسلام عن طريق مخالطته للمسلمين، ووقوفه على محاسن الدين، فكان عقد الذمّة للدعوة إلى الإسلام، لا للرغبة في المال.
3- أهل العهد:
المعاهَد: هو الكافر الذي بينه وبين المسلمين عهد مهادنة.
قال ابن بطال: "والمعاهَد: الذي بينه وبين الإمام عهد وهدنة".
وإذا دخل ديار المسلمين سُمِّي مستأمنًا.
4- أهل الأمان:
المستأمن: هو الحربِي المقيم إقامة مؤقتة في ديار الإسلام.
والفرق بين أمان الذمِّي وبين المستأمن هو أنّ أمان الذمِّي مؤبد، وأمان المعاهد والمستأمن مؤقت بمدة إقامته التي يصير بتجاوزها من أهل الذمّة، وتضرب عليه الجزية.
قال ابن نجيم الحنفي: "وإذا دخل الحربِي إلينا مستأمنًا لم يُمكَّن أن يقيم في دارنا سنة، ويقول له الإمام: إن أقمت تمام السنة وضعتُ عليك الجزية".
وينقلب الذمِّي أو المعاهد أو المستأمِن حربيًا بأن يلحق باختياره بدار الحرب مقيمًا فيها، أو إذا نقض عهد ذمّته؛ فيحل دمه وماله، قال تعالى: ?وإن نكثوا أيمانَهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون? (التوبة: 12).
قال ابن عباس: نزلت في أبِي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعكرمة ابن أبي جهل وسائر رؤساء قريش، الذين نقضوا العهد؛ حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله، فأُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إليهم، فينصر خزاعة.
قال القرطبيُّ: "إذا حارب الذمي نقضَ عهدَه، وكان ماله وولده فيئا معه".(/1)
وقد حارب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بني قريظة، وأنزلهم على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما رجع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل؛ أتاه جبريل عليه السلام، فقال: قد وضعت السلاح؟! والله ما وضعناه، فاخرج إليهم. قال: ((فإلى أين؟)). قال: ها هنا. وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم.
وعن ابن عمر أنّ يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، وأقرَّ قريظة، ومَنَّ عليهم؛ حتى حاربت قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلاَّ أنَّ بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم، وأسلموا، وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم؛ بني قينقاع - وهم قوم عبد الله بن سلام - ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة.
قال النوويُّ: "في هذا: أنّ المعاهد والذميَّ إذا نقض العهد صار حربيًا، وجرت عليه أحكام أهل الحرب، وللإمام سبي من أراد منهم، وله المَنُّ على من أراد. وفيه: أنّه إذا مَنَّ عليه ثم ظهرت منه محاربة انتقض عهده، وإنّما ينفع المَنُّ فيما مضى، لا فيما يستقبل، وكانت قريظة في أمان، ثم حاربوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ونقضوا العهد، وظاهروا قريشًا على قتال النبيِّ صلى الله عليه وسلم".
أحكام أهل الذمة (2/475).
أحكام أهل الذمّة (2/475).
السيل الجرار (4/441).
الدرّ النقي (289).
أحكام أهل الذمة (1/1).
البخاري في الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب (3157).
الأحكام السلطانية (143).
انظر: مغني المحتاج (4/253).
جامع الأصول لابن الأثير (7/466).
نظم المستعذب (1/157،156).
الهداية شرح البداية للمرغيناني (1/221)، والبحر الرائق لابن نجيم (7/95)، والمدونة الكبرى لسحنون (3/24)، والأم للشافعي (4/283)، والفروع لابن مفلح (2/367).
انظر: بدائع الصنائع (7/106).
البحر الرائق (5/109).
انظر: زاد المسير لابن الجوزي (3/404).
الجامع لأحكام القرآن (8/83).
البخاري في المغازي، باب مرجع النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الأحزاب (4117)، ومسلم في الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد (1769).
البخاري في المغازي، باب حديث بني النضير (2048)، ومسلم في الجهاد والسير، باب إجلاء اليهود من الحجاز
(1766)، واللفظ له.
شرح مسلم (12/91).
ثانيا: أحكام فقهية متعلقة بغير المسلمين:
1- التجارة:
تدل عبارات الفقهاء على جواز الاتجار مع الحربيين، فللمسلم دخول دار الحرب بأمان التجارة، وللحربي دخول دار الإسلام للتجارة.
قال المرغينانِي: "وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرًا؛ فلا يحل له أن يتعرض لشيءٍ من أموالهم، ولا من دمائهم".
وقال السرخسي: "وإذا دخل المسلم أو الذميّ دار الحرب تاجرًا بأمان؛ فأصاب هناك مالاً ودورًا ثم ظهر المسلمون على ذلك كله فهو له كله".
وقال الشافعيّ: "لو أنَّ حربيًا دخل إلينا بأمان وكان معه مال لنفسه ومال لغيره من أهل الحرب لم نعرض له في ماله".
وقال أبو إسحاق الشيرازي: "ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير الإقامة؛ لأنّ عمر رضي الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجرا في مقام ثلاثة أيام".
وقال ابن تيميّة: "وإذا سافر الرَّجل إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا، كما دلّ عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام، وهي حينذاك دار حرب، وغير ذلك من الأحاديث".
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: هل يجوز للمسلم أن يكون شريكًا للنصراني في تربية الأغنام أو تجارتِها أو أيِّ تجارة أخرى, أفيدونا أفادكم الله؟
فأجاب رحمه الله: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بِهداه.
أمَّا بعد: فإنّ اشتراك مسلم مع نصراني أو غيره من الكفرة في المواشي أو في الزراعة أو في أي شيء آخر، الأصل في ذلك جوازه إذا لم يكن هناك موالاة، وإنّما تعاون في شيء من المال كالزراعة أو الماشية أو نحو ذلك، وقال جماعة من أهل العلم: بشرط أن يتولى ذلك المسلم، أي: أن يتولى العمل في الزراعة، أو في الماشية المسلم، ولا يتولى ذلك الكافر لأنه لا يُؤْمَن.
وهذا فيه تفصيل: فإن كانت هذه الشركة تجر إلى موالاة، أو لفعل ما حرم الله، أو ترك ما أوجب الله حرمت هذه الشركة لما تفضي إليه من الفساد، أما إن كانت لا تفضي لشيء من ذلك، والمسلم هو الذي يباشرها وهو الذي يعتني بِها حتى لا يخدع فلا حرج في ذلك.(/2)
ولكن بكل حال فالأولى به السلامة من هذه الشركة، وأن يشترك مع إخوانه المسلمين دون غيرهم، حتى يأمن على دينه ويأمن على ماله، فالاشتراك مع عدو له في الدين فيه خطر على خلقه ودينه وماله، فالأولى بالمؤمن في كل حال أن يبتعد عن هذا الأمر؛ حفظًا لدينه؛ وحفظًا لعرضه؛ وحفظًا لماله؛ وحذرًا من خيانة عدوه في الدين، إلاَّ عند الضرورة والحاجة التي قد تدعو إلى ذلك، فإنَّه لا حرج عليه بشرط مراعاة ما تقدم، أي: بشرط ألا يكون في ذلك مضرة على دينه أو عرضه أو ماله، وبشرط أن يتولى ذلك بنفسه فإنَّه أحوط له، فلا يتولاه الكافر بل يتولى الشركة والأعمال فيها المسلم، أو مسلم ينوب عنهما جميعًا".
2- دخول الكافر المسجد:
يجوز للمشرك أن يدخل المسجد، فعن أبِي هريرة رضي الله عنه، قال: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجدٍ، فجاءت برجلٍ من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فترك حتى كان الغد، ثم قال له: ((ما عندك يا ثمامة؟)) قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي ما قلت لك. فقال: ((أطلقوا ثمامة)). فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله.
قال ابن حجر: "وفي قصة ثمامة من الفوائد: ربط الكافر في المسجد".
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم دخول الكافر المساجد فأجاب: "أمّا المسجد الحرام؛ فلا يجوز دخوله لجميع الكفرة؛ اليهود، والنصارى وعباد الأوثان، والشيوعيين، فجميع الكفرة لا يجوز لهم دخول المسجد الحرام؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? [التوبة: 28]، فمنع سبحانه من دخولهم المسجد الحرام، والمشركون يدخل فيهم اليهود والنصارى عند الإطلاق، فلا يجوز دخول أي مشرك المسجد الحرام، لا يهودي، ولا نصراني، ولا غيرهما، بل هذا خاص بالمسلمين. وأمَّا بقية المساجد فلا بأس من دخولهم للحاجة والمصلحة، ومن ذلك المدينة، وإن كانت المدينة لها خصوصية، لكنها في هذه المسألة كغيرها من المساجد، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ربط فيها الكافر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرَّ وفد ثقيف حين دخلوا المسجد قبل أن يسلموا، وهكذا وفد النصارى دخلوا مسجده عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أنه يجوز دخول المسجد النبوي للمشرك, وهكذا بقية المساجد من باب أولى إذا كان لحاجة، إما لسؤال، أو لحاجة أخرى، أو لسماع درس ليستفيد، أو ليسلم ويعلن إسلامه، أو ما أشبه ذلك.
والحاصل: أنَّه يجوز دخوله إذا كان هناك مصلحة، أمَّا إذا لم يكن هناك مصلحة؛ فلا حاجة إلى دخوله المسجد، أو أن يخشى من دخوله العبث في أثاث المسجد، أو النجاسة فيمنع".
3- استئجار المسلم الكافر:
عن عائشة رضي الله عنها: استأجر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل، ثم من بني عبد بن عدي، هاديًا خريتًا - الخريت الماهر بالهداية - قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأمِناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي، فأخذ بِهم أسفل مكة، وهو طريق الساحل.
قال ابن حجر: "وفي الحديث: استئجارُ المسلمِ الكافرَ على هداية الطريق إذا أمن إليه".
قال ابن بطال: "عامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها لما في ذلك من المذلة لهم، وإنّما الممتنع أن يؤاجر المسلم نفسه من المشرك، لما فيه من إذلال المسلم".
4- استئجار الكافر المسلم:
قال المهلب: "كره أهل العلم ذلك إلاّ لضرروة بشرطين: أحدهما: أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله، والآخر: أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين".
وقال ابن المنيّر: "استقرت المذاهب على أنّ الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمَّة، ولا يعد ذلك من الذلة، بخلاف أن يخدمه في منْزله، وبطريق التبعية له، والله أعلم".
وقال الشربيني: "يصح من الكافر استئجار المسلم إجارة ذمة".
5- التبايع:
يجوز البيع والشراء مع غير المسلمين، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديٍّ بثلاثين صاعًا من شعيرٍ.(/3)
وعن عبد الرحمن بن أبِي بكر رضي الله عنهما، قال: كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((هل مع أحد منكم طعام؟)). فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن، ثم جاء رجل مشركٌ مشعانٌ طويلٌ بغنم يسوقها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((بيعًا أم عطيةً؟))، أو قال: ((أم هبة؟)) قال: لا، بل بيع. فاشترى منه شاة، فصنعت، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى، وايم الله ما في الثلاثين والمائة إلاَّ قد حزَّ النبي صلى الله عليه وسلم له حزة من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاها إياه، وإن كان غائبًا خبأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون، وشبعنا ففضلت القصعتان، فحملناه على البعير، أو كما قال.
قال ابن بطال: "معاملة الكفَّار جائزة، إلاّ بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين".
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز: هناك أصحاب مهن كالحلاقة والخياطة وعمال في المطاعم أو غير ذلك وهم غير مسلمين؛ إما مسيحيون أو لا دينيون، فما حكم تعامل المسلم معهم؟
فأجاب رحمه الله: "ما داموا في البلاد يتعاطون هذه الأمور فلا مانع من الشراء منهم، وقضاء الحاجة، والبيع عليهم، فقد اشترى الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود، واشترى من بعض المشركين، فلا بأس، ولكن لا يحبهم، ولا يواليهم، بل يبغضهم في الله، ولا يتخذهم أصدقاء ولا أحبابا، والأفضل أن يستخدم المسلمون والمسلمات دون الكفار في كل الأعمال.
لكن إذا كان العمل في الجزيرة العربية حرم استقدام الكفار إليها واستخدامهم فيها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بإخراجهم من هذه الجزيرة العربية وقال: ((لا يجتمع فيها دينان))، لكن إذا قدموا لتجارة ثم يعودون أو بيع حاجات على المسلمين أو قدموا إلى ولي الأمر برسالة من رؤسائهم فلا حرج في ذلك؛ لأن رسل الكفار كانوا يقدمون على النبي في المدينة عليه الصلاة والسلام، وكان بعض الكفار من أهل الشام يقدمون على المدينة لبيع بعض ما لديهم من طعام وغيره".
ولكن لا يجوز بيعهم السلاح الذي يتقوون به على المسلمين، قال السرخسي: "ولا يمنع التجار من حمل التجارات إليهم إلا الكراع والسلاح والحديد؛ لأنّهم أهل حرب، وإن كانوا موادعين؛ ألا ترى أنّهم بعد مضي المدة يعودون حربًا للمسلمين، ولا يمنع التجار من دخول دار الحرب بالتجارات، ما خلا الكراع والسلاح؛ فإنّهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين، فيمنعون من حمله إليهم، وكذلك الحديد؛ فإنه أصل السلاح، قال الله تعالى: ?وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ? (الحديد: 25)".
بل وأيُّ شيءٍ يتحقق منه أنّه يقويهم على المسلمين، وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: "الكافر الحربي لا يُمَكَّن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ولو بالميرة والمال، ونحوه، والدواب والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به".
بداية المنتهي (ص: 118).
المبسوط (10/67).
الأم (4/247).
المهذب (2/258).
اقتضاء الصراط المستقيم (2/15).
عن الموقع الرسمي للشيخ رحمه الله، رقم السؤال (173).
فتح الباري (8/88).
عن الموقع الرسمي للشيخ، رقم السؤال (175).
البخاري في الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة (2263).
فتح الباري (4/442).
انظر: فتح الباري (4/442).
انظر: فتح الباري (4/452).
انظر: فتح الباري (4/452).
الإقناع (2/349).
البخاري في الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبيِّ صلى الله عليه وسلم (2916).
البخاري في الهبة، باب قبول هدية المشركين (2618).
انظر: فتح الباري (4/410).
مالك في الموطأ (2/892)، والبيهقيّ في الكبرى (6/115)، بلفظ: ((لا يجتمع في جزيرة العرب دينان))، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4617).
عن موقع الرسمي للشيخ، سؤال رقم (172).
المبسوط (10/88-89).
الدرر السنية (8/340).
ثالثًا: أصول في التعامل مع غير المسلمين عموما:
1- العدل:
قال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إنّ الله خبيرٌ بما تعملون? (المائدة: 8).
قال البيضاويُّ: "لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيًا مما في قلوبكم. ?اعدلوا هو أقرب للتقوى? أي: العدل أقرب للتقوى، صرَّح لهم بالأمر بالعدل، وبيَّن أنَّه بمكانٍ من التقوى بعدما نَهاهم عن الجور، وبيَّن أنَّه مقتضى الهوى، وإذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين".(/4)
وقال ابن كثير: "ومن هذا - أي ومن العمل بِهذه الآية - قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بِهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبِّي إيّاه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بِهذا قامت السموات والأرض".
عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم دِنيَةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)).
ودخل ذمِّيٌّ من أهل حمص أبيض الرأس واللحية على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله. قال عمر: ما ذاك؟ قال: العبّاس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي. وكان عددٌ من رؤوس النّاس، وفيهم العباس بمجلس عمر، فسأله: يا عبّاس ما تقول؟ قال: نعم، أقطعنيها أبِي أمير المؤمنين، وكتب لي بِها سجلاً. فقال عمر: ما تقول يا ذمّيّ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله تعالى. فقال عمر: نعم، كتاب الله أحقّ أن يتبع من كتاب الوليد. قم؛ فاردد عليه ضيعته يا عبّاس.
2- الدعوة إلى الحقّ:
قال الله تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ? (سبأ:28).
قال البيضاويُّ: "إلا إرسالة عامة لهم من الكف، أنَّها إذا عمتهم قد كفَّتهم أن يخرج منها أحد منهم، أو إلاَّ جامعًا لهم في الإبلاغ".
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بِي أحد من هذه الأمّة؛ يهوديّ ولا نصرانِيّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلاَّ كان من أصحاب النار)).
قال النوويُّ: "فيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم".
3- البراءة منهم، وعدم موالاتِهم:
البراء: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار، وهي ضد الولاء.
قال ابن تيمية: "الولاية: ضد العداوة. وأصل الولاية: المحبّة والقرب. وأصل العداوة: البغض والبعد".
قال تعالى: ? وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ? (التوبة: 3).
قال ابن كثير: "وإعلام من الله ورسوله وتقدم إنذار إلى الناس يوم الحج الأكبر - وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعًا - أنّ الله بريء من المشركين ورسوله: أي بريء منهم أيضًا".
فيجب على المسلمين أن يتبرؤوا ممّن برئ منه الله ورسوله، وعن ابن أبي ملكية، قال: قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من يقرئني ممّا أُنزِل على محمد صلى الله عليه وسلم. قال: فأقرأه رجلٌ براءة، فقال: ?إنّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِه? بالجر. فقال الأعرابي: أَوَقد برئ الله من رسوله؟! فإن يكن اللهُ برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فبلغ عمر مقالة الأعرابي، فدعاه، فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأنِي هذا سورة براءة، فقال: ?إنّ الله بريء من المشركين ورسولِه?، فقلتُ: أَوَقد بريء الله من رسوله؟! إن يكن الله برئ من رسوله؛ فأنا أبرأ منه. فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي. قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ?إنّ الله بريء من المشركين ورسولُه?. فقال الأعرابِي: وأنا والله أبرأ ممَّا برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا يقرئ الناس إلاَّ عالم باللغة.
فأهل الإيمان يتبرؤون من الكفرة جملة وتفصيلاً، قال تعالى: ?لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ? (المجادلة: 22).
وقد مدح الله نبيَّه إبراهيم عليه السلام في براءته لأهل الكفر والشرك، وأمر بالاقتداء به، فقال: ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لأَبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْء رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ? (الممتحنة: 4).(/5)
قال الطبريُّ: "قد كانت لكم ـ يا أمّة محمّد ـ أسوة حسنة في فعل إبراهيم والذين معه في هذه الأمور من مباينة الكفار، ومعاداتِهم، وترك موالاتِهم إلاّ في قول إبراهيم: ?لأستغفرنّ لك?، فإنّه لا أسوة لكم فيه في ذلك؛ لأنّ ذلك كان من إبراهيم ?عن موعدةٍٍ وعدها إيّاه? قبل أن يتبيَّن ?أنّه عدوٌ لله فلمّا تبيّن أنّه عدو لله تبرأ منه?، فتبرؤوا من أعداء الله، ولا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا بالله وحده، ويتبرؤوا من عبادة ما سواه، وأظهروا العداوة والبغضاء".
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بما نصه: يسكن معي شخص مسيحي، وهو يقول لي: يا أخي، ونحن إخوة، ويأكل معنا ويشرب فهل يجوز هذا العمل أم لا؟
فأجاب رحمه الله: "الكافر ليس أخًا للمسلم، والله يقول: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ? (الحجرات: 10)، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم))، فليس الكافر - يهوديًا أو نصرانيًا أو وثنيًا أو مجوسيًا أو شيوعيًا أو غيرهم - ليس أخًا للمسلم، ولا يجوز اتخاذه صاحبًا وصديقًا، لكن إذا أكل معكم بعض الأحيان من غير أن تتخذوه صاحبًا وصديقًا، وإنّما يصادف أن يأكل معكم، أو في وليمة عامة فلا بأس.
أمَّا اتخاذه صاحبًا وصديقًا وجليسًا وأكيلاً؛ فلا يجوز؛ لأنّ الله قطع بيننا وبينهم المحبة والموالاة، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ? (الممتحنة: 4)، وقال سبحانه: ?لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ? يعني يحبون ?وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ? (المجادلة: 22).
فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله، ولكن لا يؤذيهم ولا يضرهم ولا يتعدى عليهم بغير حق، لكن لا يتخذهم أصحابًا ولا أخدانًا، ومتى صادف أن أكل معهم في وليمة عامة أو طعام عارض من غير صحبة ولا ولاية ولا مودة فلا بأس".
4- النهي عن مشابَهتهم، والأمر بمخالفتهم:
نَهى الشرع الحنيف عن مشابَهة الكفار؛ لأنّه يخلق في النفوس ميلاً إليهم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
قال ابن تيمية: "المشابَهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابَهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي".
المشابَهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أنّ المحبة في الباطن؛ تورث المشابَهة في الظاهر. وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة؛ حتى إنّ الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين، وذلك لأنّ الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابَهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر ممّا بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضًا ما لا يألفون غيرهم؛ حتى إنّ ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة".
5- الإحسان إلى المحتاج منهم بالصدقة والصلة:
قال الله تعالى: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين? (الممتحنة: 8).
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمت عليَّ أمي، وهي مشركة في عهد قريشٍ إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُدتِهم مع أبيها، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنّ أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: ((نعم، صليها)).
قال ابن عيينة: "فأنزل الله تعالى فيها: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين?".
وعن ابن عمر أنّ عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما يلبس هذه مَن لا خلاق له في الآخرة))، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حللٌ، فأعطى عمر منها حلة. فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها، وقد قلتَ في حلة عطارد ما قلت؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّي لم أكسكها لتلبسها)) فكساها عمر أخًا له مشركًا بمكة.
قال النوويّ: "وفيه: صلة الأقارب والمعارف، وإن كانوا كفارًا"، والمشركون بمكة كانوا أهل حربٍ.
ومن الإحسان: الإحسان إلى الحربِي الأسير:(/6)
قال تعالى: ?ويطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا? (الإنسان: 8-9).
قال قتادة: "لقد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك".
وقال الحسن: "ما كان أسراهم إلاَّ المشركين".
وقال الطبريّ: "هو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرًا بالغلبة، أو من أهل القبلة يؤخذ فيحبس بحقّ".
أنوار التنْزيل (2/303).
تفسير القرآن العظيم (1/566).
أبو داود في الخراج والإمارة، باب في تعشير أهل الذمّة (3052)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود
(2626).
انظر: صفة الصفوة (2/115).
أنوار التنْزيل (1/344).
مسلم في الإيان، باب وجوب الإيمان برسالة نبيِّنا محمّد صلى الله عليه وسلم (153).
شرح مسلم (2/188).
انظر: الولاء والبراء، د. محمد سعيد القحطاني (ص: 90).
مجموع الفتاوى (5/510).
تفسير القرآن العظيم (2/333).
انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/24).
جامع البيان (28/62).
عن موقع الرسمي للشيخ، رقم السؤال (166).
أبو داود في اللباس، باب لباس الشهرة (4031)، وصححه الألباني في الإرواء (1269).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/488).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/488).
البخاري في الجزية، باب إثم من عاهد ثم غدر (3182)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة على الأقربين والزوج (1003).
البخاري في الأدب، باب صلة الوالد المشرك (5979).
مسلم في اللباس والزينة، باب تحريم استعمال الذهب والفضة على الرجال (2068).
شرح مسلم (14/38).
رواه الطبري في جامع البيان (29/209).
رواه الطبري في جامع البيان (29/210).
جامع البيان (29/209).
رابعًا: أصول في التعامل خاصّة بكل صنف:
1- أهل الحرب:
أ- الشدة في قتالهم وعدم اللين معهم:
قال تعالى: ?فإمّا تثقفنَّهم في الحرب فشرد بِهم من خلفهم لعلهم يذَّكرون? (الأنفال: 57).
قال ابن كثير: "معناه: غلِّظ عقوبتهم، وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة".
وقال تعالى: ?يا أيّها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتقين? (التوبة: 123).
قال القرطبيُّ: "أي: شدة وقوة".
وقال ابن كثير: "أي: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإنّ المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقًا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر".
وقال الله تعالى: ?يا أيها النبيّ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير? (التحريم: 9).
قال القرطبيُّ: "أمره أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله، والمنافقين بالغلظة وإقامة الحجة وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين".
ب- عدم الغدر والخيانة بِهم إذا وقع الصلح والهدنة معهم:
الوفاء بالعهود والمواثيق وتحريم الغدر والخيانة في الظاهر والباطن من أحكام الإسلام القطعيّة النافذة على الأفراد والجماعات، وليس مجرد مبدأ خلقي يستعمل حينًا، ويهمل حينًا آخر.
قال تعالى: ?وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ? (الأنفال:72).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به، يقال: هذه غدرة فلان)).
وقد ردّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بصير للمشركين، وأبَى أن يقبله بعد أن عاد إليه وفاءً بالعهد الذي بينه وبين المشركين.
وإذا خشي المسلمون من المشركين نقضًا للعهد فعليهم أن يردوا إليهم عهدهم: ?وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين? (الأنفال: 58).
قال الطبريّ: "يقول تعالى ذكره: وإمّا تخافنّ ـ يا محمد ـ من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد أن ينكث عهده وينقض عقده ويغدر بك، وذلك هو الخيانة والغدر، ?فانبذ إليهم على سواء? يقول: فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إيّاهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور آثار الغدر والخيانة منهم؛ حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر. ?إنّ الله لا يحب الخائنين? الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به، فيحاربه قبل إعلامه إيّاه أنّه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد".
وعن سليم بن عامر، قال: كان بين معاوية وبين أهل الروم عهد، وكان يسير في بلادهم؛ حتى إذا انقضى العهد أغار عليهم، فإذا رجل على دابة أو على فرس، وهو يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر. وإذا هو عمرو بن عبسة، فسأله معاوية عن ذلك، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان بينه وبين قوم عهد؛ فلا يحلنَّ عهدًا، ولا يشدنَّه؛ حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء)). قال: فرجع معاوية بالناس.(/7)
قال البغويُّ: "ويشبه أن يكون إنّما كره عمرو بن عبسة ذلك؛ لأنّه إذا هادنَهم إلى مدة، وهو مقيم في وطنه، فقد صارت مدة مسيره بعد انقضاء المدة المضروبة كالمشروط مع المدة في أن لا يغزوهم فيها، فإذا صار إليهم في أيام الهدنة كان إيقاعه قبل الوقت الذي يتوقعونه، فعدَّ ذلك عمرو غدرًا، والله أعلم. وإن نقض أهل الهدنة عهدهم له أن يسير إليهم على غفلة منهم، كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأهل مكة. وإن ظهرت منهم خيانة بأهل الإسلام نبذ إليهم العهد، قال تعالى: ?وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانة فانبذ إليهم على سواء? (الأنفال: 58). ومن دخل إلينا رسولاً؛ فله الأمان حتى يؤدي الرسالة، ويرجع إلى مأمنه، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لابن النواحة: ((لولا أنّك رسولٌ لضربتُ عنقك))".
قال ابن القيّم: "ولمّا أسرت قريش حذيفة وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خارجين إلى بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم))".
ج- عدم قتل من لا يقاتل غالبًا منهم، كالمرأة والصبيان والشيخ الفانِي والأجير والعابد في صومعته:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وُجِدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
وعن رباح بن ربيع، قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ، فرأى النَّاس مجتمعين على شيءٍ، فبعث رجلاً، فقال: ((انظر علام اجتمع هؤلاء)). فجاء، فقال: على امرأةٍ قتيلٍ. فقال: ((ما كانت هذه لتقاتل)). قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً، فقال: ((قل لخالد: لا يقتلنَّ امرأةً ولا عسيفًا)).
والمراد بالعسيف هو من يكون عمله بعيد الصلة بالأعمال القتالية، قال الشوكانِيّ: "وأمّا العبد؛ فلم يَرد ما يدلّ على عدم جواز قتله... ولا يصحّ قياسه على العسيف؛ لأنّ العسيف لا يقاتل، وإنّما هو لحفظ المتاع والدواب، وإن قاتل جاز قتله".
د- حِلُّ دمائهم وأموالهم:
قال تعالى: ?وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضًا لم تطؤوها وكان الله على كل شيءٍ قديرًا? (الأحزاب: 27).
قال الطبري: "وملككم بعد مهلكهم ?أرضهم? يعني: مزارعهم ومغارسهم، ?وديارهم? يقول: ومساكنهم، ?وأموالهم? يعني: سائر الأموال غير الأرض والدور".
قال ابن كثير: "أي: جعلها لكم مِن قتلكم لهم".
2- أهل الذمّة:
أ- إلزامهم بدفع الجزية:
الجزية: المال الذي يلتزم أهل الذمّة بأدائه إلى الدولة الإسلاميّة كل عامٍ.
قال ابن قدامة: "هي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام".
قال الشربيني: "تطلق على العقد، وعلى المال الملتزم به".
وصورتُها أن يقول الإمام أو من ينوب عنه: "أقرُّكم بدار الإسلام أو أذنتُ في إقامتكم بِها على أن تبذلوا جزية، وتنقادوا إلى حكم الإسلام".
ب- وجوب حمايتهم:
قال الماورديّ: "ويلتزم لهم - أي الإمام - ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين".
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم".
ج- حرمة دمائهم وأموالهم:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإنّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا)).
قال ابن حجر: "المراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم".
قال القرطبيُّ: "الذمي محقون الدم على التأبيد والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه".
د- النكاح بأهل الكتاب منهم:
يحل نكاح الكتابية صراحةً، ويدخل في ذلك الذمِّيات منهن، كما تدخل الحربيات الكتابيات لا فرق بين الصنفين، قال تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ? (المائدة: 5).
قال البيضاويُّ: "وإن كنَّ حربيات".(/8)
قال الجصاص: "لم يفرق فيه بين الحربيات والذميات وغير جائز تخصيصه بغير دلالة، وقوله تعالى: ?قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر? لا تعلق له بجواز النكاح ولا فساده، ولو كان وجوب القتال علة لفساد النكاح لوجب أن لا يجوز نكاح نساء الخوارج وأهل البغي؛ لقوله تعالى: ?فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله?. فبان بما وصفنا أنّه لا تأثير لوجوب القتال في إفساد النكاح، وإنما كرهه أصحابنا لقوله تعالى: ?لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانَهم أو عشيرتَهم?، والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى: ?وجعل بينكم مودة ورحمة?، فلما أخبر أنّ النكاح سبب المودة والرحمة، ونَهانا عن موادّة أهل الحرب؛ كرهوا ذلك".
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم نكاح نساء أهل الكتاب، فأجاب: "حكم ذلك الحل والإباحة عند جمهور أهل العلم؛ لقول الله سبحانه في الآية السابقة من سورة المائدة: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ? (المائدة: 5)، والمحصنة: هي الحرة العفيفة في أصح أقوال علماء التفسير، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: (وقوله: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ? أي: وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فقيل: أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد المحصنات الحرائر فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة كما في الرواية الأخرى عنه وهو قول الجمهور ههنا وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل (حشف وسوء كيل).
والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنى كما قال تعالى في الآية الأخرى: ?مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ? ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ? هل يعم كل كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمة، حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيليات وهو مذهب الشافعي، وقيل المراد بذلك الذميات دون الحربيات لقوله تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ? الآية، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى وقد قال الله تعالى: ?وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري قال: نزلت هذه الآية ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية الكريمة ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة ?وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ?، إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها وإلا فلا معارضة بينها وبينها؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع كقوله تعالى: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ?، وكقوله: ?وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ? الآية) انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله.(/9)
وقال أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي رحمه الله في كتابه المغني ما نصه: (ليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حل حرائر نساء أهل الكتاب، وممن روي عنه ذلك عمر وعثمان وطلحة صلى الله عليه وسلم وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم، قال ابن المنذر ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك، وروى الخلال بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوجوا نساء من أهل الكتاب وبه قال سائر أهل العلم، وحرمته الإمامية تمسكا بقوله تعالى: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ?، ?وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ?، ولنا قول الله تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ?، إلى قوله: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ?، وإجماع الصحابة، فأما قوله سبحانه: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ? فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نسخت بالآية التي في سورة المائدة وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى؛ لأنهما متقدمتان والآية التي في المائدة متأخرة عنهما، وقال آخرون ليس هذا نسخا فإن لفظ المشركين بإطلاقه لا يتناول أهل الكتاب بدليل قوله سبحانه: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ?، وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ?، وقوله عز وجل: ?لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا?، وقوله تعالى: ?مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ?، وسائر آي القرآن يفصل بينهما، فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب، وهذا معنى قول سعيد بن جبير وقتادة؛ ولأن ما احتجوا به عام في كل كافرة، وأيتنا خاصة في حل نساء أهل الكتاب والخاص يجب تقديمه، إذا ثبت هذا فالأولى أن لا يتزوج كتابية؛ لأن عمر رضي الله عنه قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: طلِّقوهن، فطلَّقوهنّ إلاّ حذيفة، فقال له عمر: طلِّقها، قال: تشهد أنّها حرام؟! قال: هي خمرة طلِّقها. قال: تشهد أنّها حرام؟! قال: هي خمرة، قال: قد علمت أنها خمرة ولكنها لي حلال، فلما كان بعد طلقها فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمرا لا ينبغي لي، ولأنه ربما مال إليها قلبه فتفتنه، وربما كان بينهما ولد فيميل إليها) انتهى كلام صاحب المغني رحمه الله.
والخلاصة مما ذكره الحافظ ابن كثير وصاحب المغني رحمة الله عليهما أنه لا تعارض بين قوله سبحانه في سورة البقرة: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? الآية، وبين قوله عز وجل في سورة المائدة: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ? الآية، لوجهين: أحدهما: أن أهل الكتاب غير داخلين في المشركين عند الإطلاق. لأن الله سبحانه فصل بينهم في آيات كثيرات مثل قوله عز وجل: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ? الآية، وقوله سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا? الآية، وقوله عز وجل: ?مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ? الآية، إلى غير ذلك من الآيات المفرقة بين أهل الكتاب والمشركين، وعلى هذا الوجه لا تكون المحصنات من أهل الكتاب داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن في سورة البقرة، فلا يبقى بين الآيتين تعارض، وهذا القول فيه نظر، والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في المشركين والمشركات عند الإطلاق رجالهم ونساؤهم؛ لأنهم كفار مشركون بلا شك، ولهذا يصنعون من دخول المسجد الحرام لقوله عز وجل: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? الآية، ولو كان أهل الكتاب لا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق لم تشملهم هذه الآية، ولما ذكر سبحانه عقيدة اليهود والنصارى في سورة براءة قال بعد ذلك: "?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ? فوصفهم جميعًا بالشرك. لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ولأنهم جميعا اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وهذا كله من أقبح الشرك والآيات في هذا المعنى كثيرة.(/10)
والوجه الثاني: أن آية المائدة مخصصة لآية البقرة، والخاص يقضي على العام ويقدم عليه كما هو معروف في الأصول وهو مجمع عليه في الجملة، وهذا هو الصواب، وبذلك يتضح أن المحصنات من أهل الكتاب حل للمسلمين غير داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن عند جمهور أهل العلم بل هو كالإجماع منهم لما تقدم في كلام صاحب المغني، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل لما جاء في ذلك عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وابنه عبد الله وجماعة من السلف الصالح رضي الله عنهم، ولأن نكاح نساء أهل الكتاب فيه خطر ولا سيما في هذا العصر الذي استحكمت فيه غربة الإسلام وقل فيه الرجال الصالحون الفقهاء في الدين وكثر فيه الميل إلى النساء والسمع والطاعة لهن في كل شيء إلا ما شاء الله، فيخشى على الزوج أن تجره زوجته الكتابية إلى دينها وأخلاقها كما يخشى على أولاده منها من ذلك والله المستعان.
فإن قيل: فما وجه الحكمة في إباحة المحصنات من أهل الكتاب للمسلمين وعدم إباحة المسلمات للرجال من أهل الكتاب، فالجواب عن ذلك- والله أعلم- أن يقال: إن المسلمين لما آمنوا بالله وبرسله وما أنزل عليهم ومن جملتهم موسى بن عمران وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام ومن جملة ما أنزل على الرسل التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى، لما آمن المسلمون بهذا كله أباح الله لهم نساء أهل الكتاب المحصنات فضلا منه عليهم وإكمالا لإحسانه إليهم، ولما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من الكتاب العظيم وهو القرآن حرم الله عليهم نساء المسلمين حتى يؤمنوا بنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فإذا آمنوا به حل لهم نساؤنا وصار لهم ما لنا وعليهم ما علينا والله سبحانه هو الحكم العدل البصير بأحوال عباده العليم بما يصلحهم الحكيم في كل شيء تعالى وتقدس وتنزه عن قول الضالين والكافرين وسائر المشركين.
وهناك حكمة أخرى وهي: أن المرأة ضعيفة سريعة الانقياد للزوج فلو أبيحت المسلمة لرجال أهل الكتاب لأفضى بها ذلك غالبا إلى دين زوجها فاقتضت حكمة الله سبحانه تحريم ذلك".
3- أهل العهد:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم مثل ردّه عن أهل الذمّة:
المعاهدون مستأمنون بمقتضى معاهدة السلام مع دولهم، وما داموا قد دخلوا دار الإسلام بموجب تلك المعاهدة القاضية بذلك فهم تحت ولاية الإمام، وعليه حمايتهم والدفاع عنهم.
جاء في السير وشرحه: "قد بيَّنا أنّ المستأمنين فينا إذا لم يكونوا أهل منعة فحالهم كحالِ أهل الذمّة في وجوب نصرتِهم على أمير المسلمين، ودفع الظلم عنهم؛ لأنّهم تحت ولايته. ألا ترى أنّه كان يجب على الإمام والمسلمين اتّباعهم لاستنقاذهم من أيدي المشركين الذين قهروهم ما لم يدخلوا حصونَهم ومدائنهم، كما يجب عليهم ذلك إذا وقع الظهور على المسلمين، أو على أهل الذمّة؟ وكذلك لو أنّ هؤلاء المستأمنين كانوا من أهل دار الموادعة، دخلوا إلينا بتلك الموادعة"().
ب- حرمة أموالهم ودمائهم حال العهد:
قال المرغينانِي: "وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرًا؛ فلا يحل له أن يتعرض لشيءٍ من أموالهم، ولا من دمائهم؛ لأنّه ضمن أن لا يتعرض لهم بالاستئمان، فالتعرض بعد ذلك يكون غدرًا، والغدر حرام، إلاَّ إذا غدر بِه ملكهم، فأخذ أمواله أو حبسه، أو فعل ذلك غيرُه بعلم الملك ولم يمنعه؛ لأنّهم هم الذين نقضوا العهد، بخلاف الأسير؛ لأنّه غير مستأمن، فيباح له التعرض للمال والدم، وإن أطلقوه طوعًا".
4- أهل الأمان:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم، مثل ردّه عن أهل الذمّة:
يعامل المستأمِنون ما داموا في أرض الإسلام معاملة أهل الذمّة في وجوب الدفاع عنهم، لأنّهم وهم في دار الإسلام يكونون تحت ولاية الإمام، فعليه الدفاع عن جميع من كان تحت ولايته.
جاء في السير الكبير وشرحه: "الأصل أنّه يجب على إمام المسلمين أن ينصر المستأمنين ما داموا في دارنا؛ لأنّهم تحت ولايته، ما داموا في دار الإسلام، فكان حكمهم كحكم أهل الذمّة".
ولو أنّ قومًا من أهل الحرب لهم منعة دخلوا دارنا بأمانٍ فشرطوا علينا أن نمنعهم ممّا نمنع منه المسلمين وأهل الذمّة؛ فعلينا الوفاء بشرطهم.
ولو كان المستأمنون في دارنا قومًا لا منعة لهم... فعلى الإمام أن يدفع عنهم من الظلم ما يدفعه عن أهل الذمّة.
ولو كان الذين ظهروا عليهم من أهل الحرب... مرّوا بِهم على منعةٍ للمسلمين في دار الحرب كان عليهم القيام بنصرتِهم، وتخليصهم من أيديهم، كما في حقّ أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم:
انظر: حرمة أموال ودماء أهل الذمة.
تفسير القرآن العظيم (2/321).
الجامع لأحكام القرآن (9/352).
تفسير القرآن العظيم (2/403).
الجامع لأحكام القرآن (18/201).
البخاري في الجزية، باب إثم الغادر للبر والفاجر (3187)، ومسلم في الجهاد والسير، باب تحريم الغدر (1736)، واللفظ له.(/11)
انظر: البخاري في الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة في الحرب (2734).
جامع البيان (10/26-27).
أبو داود في الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه (2759)، والترمذي في السير، باب ما جاء في الغدر (1580) واللفظ له، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1285).
أحمد (1/384)، وأبو داود في الجهاد، باب في الرسل (2762)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2400).
شرح السنة (11/166-167).
مسلم في الجهاد، باب الوفاء بالعهد (1787).
زاد المعاد (3/88).
البخاري في الجهاد والسير، باب قتل النساء والصبيان (3015)، ومسلم في الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان (1744).
أبو داود في الجهاد، باب في قتل النساء (2669)، وصححه الألبانيُّ في صحيح سنن أبي داود (2324). قال الزمخشريّ: "العسيف: الأجير" (الفائق 2/7).
السيل الجرار (4/532).
جامع البيان (12/155).
تفسير القرآن العظيم (3/479).
المغني (10/567).
مغني المحتاج (4/242).
انظر: مغني المحتاج (4/242).
الأحكام السلطانية (143).
انظر: مغني المحتاج (4/253).
البخاري في الجزية، باب إثم من قتل معاهدًا (3166).
فتح الباري (12/259).
الجامع لأحكام القرآن (2/246).
أنوار التنْزيل (2/297).
أحكام القرآن (2/18).
عن موقع الشيخ الرسمي http://www.binbaz.org.sa/last_resault.asp?hID=1229.
السير الكبير وشرحه (5/1892،1891).
بداية المنتهي (ص: 118)، وانظر حرمة دمائهم وأموالهم في معاملة أهل الذمة.
السير الكبير وشرحه (5/1853).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1857).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1858).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1859).
خامسًا: المسلمون في ديار الكفر:
1- حكم الإقامة في بلاد الكفّار:
الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام يختلف حكمها باختلاف حالات المقيمين بديار الكفر:
أ. فتكون واجبة، وذلك في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو إقامة واجبات دينه في ديار الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:97].
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تراءى ناراهما))، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، ولأن القيام بواجبات دينه واجب، والهجرة من ضرورة الواجبات وتتمتها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب. وتسقط عمن يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف كالنساء والولدان وشبههم، فالعاجز لا هجرة عليه لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً % فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:98-99].
ج. وتستحب في حق من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامة واجباته في دار الكفر، فهذا تستحب في حقه ليتمكن من جهادهم، ولتكثير المسلمين ومعونتهم، والتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ومشاهدة المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكانه إقامة واجبات دينه بدون الهجرة.
وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة قبل فتحها مع إسلامه.
فإن قيل: ما ضابط إظهار الدين؟
فالجواب: ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "إظهاره دينَه ليس مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا وغير ذلك، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال".
ويرى بعض العلماء أنه قد يستحب للمسلم أن يقيم في دار الكفر وذلك إذا كان يرجو ظهور الإسلام بإقامته أو إذا ترتب على بقائه بدار الكفر مصلحة للمسلمين، فقد نقل صاحب مغني المحتاج أن إسلام العباس رضي الله عنه كان قبل بدر وكان يكتمه ويكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب القدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم: ((إن مقامك بمكة خير))، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة.
ولا شك أن هذا ليس لكل أحد، وأغلب الناس سريع التأثر بما عليه الكفار، وخاصة في هذا الزمان الذي غلب فيه أهل الكفر، ونحن نرى ولوع كثير من المسلمين بتقليد الكفار واتباعهم وهم في ديار الإسلام فكيف الحال بمن هو مقيم بين أظهرهم، لا شك أن الفتنة أعظم والخطر أكبر، وأحكام الشريعة مبنية على الغالب الكثير لا على ما شذّ وندر.
2- النكاح بأهل الكتاب اليوم في ديارهم:(/12)
يترتب في الوقت الراهن من الزواج بالكتابية في ديارها وإن لم تكن دار حربٍ مفاسد شتى، من أعظمها أنّ الولد يتبع أمّه في دينها، ولا سلطة للأب المسلم على ذلك.
ولأجل ذلك كره من كره من أهل العلم الزواج بالحربيّة؛ لخشية ضياع الولد، قال القرطبيُّ: "وكره مالك تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير".
وقال ابن مفلح: "وعلل الإمام المنع في دار الحرب من أجل الولد لئلا يستعبد الرجعة على دينهم".
وقد أشار الشيخ عبد العزيز بن باز في الفتوى المتقدمة في حكم نكاح الكتابية إلى هذه العلّة في كراهية التزوج بالكتابيّة في بلدها في الوقت الحالي.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
أخرجه أبو داود [2645] والترمذي [1604] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع [1461].
انظر: المغني لابن قدامة (13/151).
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/91-92)
مغني المحتاج (4/239) وانظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور محمد خير هيكل (1/687-692).
الجامع لأحكام القرآن (3/69).
المبدع (7/71).
انظر: النكاح بأهل الكتاب منهم.(/13)
أصول التعامل مع غير المسلمين
أولاً: أصناف غير المسلمين:
1- المحاربون.
2- أهل الذمة.
3- أهل العهد.
4- أهل الأمان.
ثانيًا: أحكام فقهية متعلقة بغير المسلمين:
1- التجارة.
2- دخول الكافر المسجد.
3- استئجار المسلم الكافر.
4- استئجار الكافر المسلم.
5- التبايع.
ثالثًا:أصول في التعامل مع غير المسلمين عموما:
1- العدل.
2- الدعوة إلى الحقّ.
3- البراءة منهم، وعدم موالاتِهم.
4- النهي عن مشابَهتهم، والأمر بمخالفتهم.
5- الإحسان إلى المحتاج منهم بالصدقة والصلة.
رابعًا:أصول في التعامل خاصّة بكل صنِّف:
1- أهل الحرب:
أ- الشدة في قتالهم وعدم اللين معهم.
ب- عدم الغدر والخيانة بِهم، إذا وقع الصلح والهدنة معهم.
ج- عدم قتل من لا يقاتل غالبًا منهم، كالمرأة، والصبيان، والشيخ الفانِي، والأجير، والعابد في صومعته.
د- حِلُّ الدم و المال.
2- أهل الذمّة:
أ- إلزامهم بدفع الجزية.
ب- وجوب حمايتهم.
ج- حرمة دمائهم وأموالهم.
د- النكاح بأهل الكتاب منهم.
3- أهل العهد:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم مثل ردّه عن أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم حال العهد.
4- أهل الأمان:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم، مثل ردّه عن أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم. (انظر: حرمة أموالهم ودمائهم في حقوق أهل الذمة).
خامسًا: المسلمون في ديار الكفر:
1- حكم الإقامة في بلاد الكفّار.
2- النكاح بأهل الكتاب اليوم في ديارهم.
أولاً: أصناف غير المسلمين:
الكفار غير المسلمين من حيث موقفهم من الإسلام وأهله أصناف، قال ابن القيّم: "الكفار: إمّا أهل حربٍ، وإمّا أهل عهدٍ. وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمّة، وأهل هُدنة، وأهل أمانٍ"، وذلك لأنّ لفظ الذمّة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل.
قال: "ولكن صار في اصطلاح كثيرٍ من الفقهاء (أهل الذمّة) عبارة عمّن يؤدي الجزيّة".
1- أهل الحرب:
هو الكافر الذي بين المسلمين وبين دولته حالة حربٍ، ولا ذمّة له ولا عهد.
قال الشوكانِيُّ: "الحربي الذي لا ذمة له ولا عهد".
2- أهل الذمة:
الكفَّار المقيمون تحت ذمَّة المسلمين بدفع الجزيَّة.
قال ابن القيّم: "أجمع الفقهاء على أنّ الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس".
ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.
وحكم أهل الذمّة المعاهدين الذين يساكنون المسلمين في ديارهم ويدفعون الجزية أنّهم يخضعون للأحكام الإسلاميّة في غير ما أُقروا عليه من أحكام العقائد والعبادات والزواج والطلاق والمطعومات والملبوسات. ولهم على المسلمين الكفّ عنهم وحمايتُهم.
قال الماورديّ: "ويلتزم - أي الإمام - لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين".
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم".
والغرض من عقد الذمّة مع الكتابِي والمجوسي: أن يترك القتال، مع احتمال دخوله الإسلام عن طريق مخالطته للمسلمين، ووقوفه على محاسن الدين، فكان عقد الذمّة للدعوة إلى الإسلام، لا للرغبة في المال.
3- أهل العهد:
المعاهَد: هو الكافر الذي بينه وبين المسلمين عهد مهادنة.
قال ابن بطال: "والمعاهَد: الذي بينه وبين الإمام عهد وهدنة".
وإذا دخل ديار المسلمين سُمِّي مستأمنًا.
4- أهل الأمان:
المستأمن: هو الحربِي المقيم إقامة مؤقتة في ديار الإسلام.
والفرق بين أمان الذمِّي وبين المستأمن هو أنّ أمان الذمِّي مؤبد، وأمان المعاهد والمستأمن مؤقت بمدة إقامته التي يصير بتجاوزها من أهل الذمّة، وتضرب عليه الجزية.
قال ابن نجيم الحنفي: "وإذا دخل الحربِي إلينا مستأمنًا لم يُمكَّن أن يقيم في دارنا سنة، ويقول له الإمام: إن أقمت تمام السنة وضعتُ عليك الجزية".
وينقلب الذمِّي أو المعاهد أو المستأمِن حربيًا بأن يلحق باختياره بدار الحرب مقيمًا فيها، أو إذا نقض عهد ذمّته؛ فيحل دمه وماله، قال تعالى: ?وإن نكثوا أيمانَهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون? (التوبة: 12).
قال ابن عباس: نزلت في أبِي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعكرمة ابن أبي جهل وسائر رؤساء قريش، الذين نقضوا العهد؛ حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله، فأُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إليهم، فينصر خزاعة.
قال القرطبيُّ: "إذا حارب الذمي نقضَ عهدَه، وكان ماله وولده فيئا معه".(/1)
وقد حارب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بني قريظة، وأنزلهم على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما رجع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل؛ أتاه جبريل عليه السلام، فقال: قد وضعت السلاح؟! والله ما وضعناه، فاخرج إليهم. قال: ((فإلى أين؟)). قال: ها هنا. وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم.
وعن ابن عمر أنّ يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، وأقرَّ قريظة، ومَنَّ عليهم؛ حتى حاربت قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلاَّ أنَّ بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم، وأسلموا، وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم؛ بني قينقاع - وهم قوم عبد الله بن سلام - ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة.
قال النوويُّ: "في هذا: أنّ المعاهد والذميَّ إذا نقض العهد صار حربيًا، وجرت عليه أحكام أهل الحرب، وللإمام سبي من أراد منهم، وله المَنُّ على من أراد. وفيه: أنّه إذا مَنَّ عليه ثم ظهرت منه محاربة انتقض عهده، وإنّما ينفع المَنُّ فيما مضى، لا فيما يستقبل، وكانت قريظة في أمان، ثم حاربوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ونقضوا العهد، وظاهروا قريشًا على قتال النبيِّ صلى الله عليه وسلم".
أحكام أهل الذمة (2/475).
أحكام أهل الذمّة (2/475).
السيل الجرار (4/441).
الدرّ النقي (289).
أحكام أهل الذمة (1/1).
البخاري في الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب (3157).
الأحكام السلطانية (143).
انظر: مغني المحتاج (4/253).
جامع الأصول لابن الأثير (7/466).
نظم المستعذب (1/157،156).
الهداية شرح البداية للمرغيناني (1/221)، والبحر الرائق لابن نجيم (7/95)، والمدونة الكبرى لسحنون (3/24)، والأم للشافعي (4/283)، والفروع لابن مفلح (2/367).
انظر: بدائع الصنائع (7/106).
البحر الرائق (5/109).
انظر: زاد المسير لابن الجوزي (3/404).
الجامع لأحكام القرآن (8/83).
البخاري في المغازي، باب مرجع النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الأحزاب (4117)، ومسلم في الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد (1769).
البخاري في المغازي، باب حديث بني النضير (2048)، ومسلم في الجهاد والسير، باب إجلاء اليهود من الحجاز
(1766)، واللفظ له.
شرح مسلم (12/91).
ثانيا: أحكام فقهية متعلقة بغير المسلمين:
1- التجارة:
تدل عبارات الفقهاء على جواز الاتجار مع الحربيين، فللمسلم دخول دار الحرب بأمان التجارة، وللحربي دخول دار الإسلام للتجارة.
قال المرغينانِي: "وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرًا؛ فلا يحل له أن يتعرض لشيءٍ من أموالهم، ولا من دمائهم".
وقال السرخسي: "وإذا دخل المسلم أو الذميّ دار الحرب تاجرًا بأمان؛ فأصاب هناك مالاً ودورًا ثم ظهر المسلمون على ذلك كله فهو له كله".
وقال الشافعيّ: "لو أنَّ حربيًا دخل إلينا بأمان وكان معه مال لنفسه ومال لغيره من أهل الحرب لم نعرض له في ماله".
وقال أبو إسحاق الشيرازي: "ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير الإقامة؛ لأنّ عمر رضي الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجرا في مقام ثلاثة أيام".
وقال ابن تيميّة: "وإذا سافر الرَّجل إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا، كما دلّ عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام، وهي حينذاك دار حرب، وغير ذلك من الأحاديث".
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: هل يجوز للمسلم أن يكون شريكًا للنصراني في تربية الأغنام أو تجارتِها أو أيِّ تجارة أخرى, أفيدونا أفادكم الله؟
فأجاب رحمه الله: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بِهداه.
أمَّا بعد: فإنّ اشتراك مسلم مع نصراني أو غيره من الكفرة في المواشي أو في الزراعة أو في أي شيء آخر، الأصل في ذلك جوازه إذا لم يكن هناك موالاة، وإنّما تعاون في شيء من المال كالزراعة أو الماشية أو نحو ذلك، وقال جماعة من أهل العلم: بشرط أن يتولى ذلك المسلم، أي: أن يتولى العمل في الزراعة، أو في الماشية المسلم، ولا يتولى ذلك الكافر لأنه لا يُؤْمَن.
وهذا فيه تفصيل: فإن كانت هذه الشركة تجر إلى موالاة، أو لفعل ما حرم الله، أو ترك ما أوجب الله حرمت هذه الشركة لما تفضي إليه من الفساد، أما إن كانت لا تفضي لشيء من ذلك، والمسلم هو الذي يباشرها وهو الذي يعتني بِها حتى لا يخدع فلا حرج في ذلك.(/2)
ولكن بكل حال فالأولى به السلامة من هذه الشركة، وأن يشترك مع إخوانه المسلمين دون غيرهم، حتى يأمن على دينه ويأمن على ماله، فالاشتراك مع عدو له في الدين فيه خطر على خلقه ودينه وماله، فالأولى بالمؤمن في كل حال أن يبتعد عن هذا الأمر؛ حفظًا لدينه؛ وحفظًا لعرضه؛ وحفظًا لماله؛ وحذرًا من خيانة عدوه في الدين، إلاَّ عند الضرورة والحاجة التي قد تدعو إلى ذلك، فإنَّه لا حرج عليه بشرط مراعاة ما تقدم، أي: بشرط ألا يكون في ذلك مضرة على دينه أو عرضه أو ماله، وبشرط أن يتولى ذلك بنفسه فإنَّه أحوط له، فلا يتولاه الكافر بل يتولى الشركة والأعمال فيها المسلم، أو مسلم ينوب عنهما جميعًا".
2- دخول الكافر المسجد:
يجوز للمشرك أن يدخل المسجد، فعن أبِي هريرة رضي الله عنه، قال: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجدٍ، فجاءت برجلٍ من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فترك حتى كان الغد، ثم قال له: ((ما عندك يا ثمامة؟)) قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي ما قلت لك. فقال: ((أطلقوا ثمامة)). فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله.
قال ابن حجر: "وفي قصة ثمامة من الفوائد: ربط الكافر في المسجد".
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم دخول الكافر المساجد فأجاب: "أمّا المسجد الحرام؛ فلا يجوز دخوله لجميع الكفرة؛ اليهود، والنصارى وعباد الأوثان، والشيوعيين، فجميع الكفرة لا يجوز لهم دخول المسجد الحرام؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? [التوبة: 28]، فمنع سبحانه من دخولهم المسجد الحرام، والمشركون يدخل فيهم اليهود والنصارى عند الإطلاق، فلا يجوز دخول أي مشرك المسجد الحرام، لا يهودي، ولا نصراني، ولا غيرهما، بل هذا خاص بالمسلمين. وأمَّا بقية المساجد فلا بأس من دخولهم للحاجة والمصلحة، ومن ذلك المدينة، وإن كانت المدينة لها خصوصية، لكنها في هذه المسألة كغيرها من المساجد، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ربط فيها الكافر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرَّ وفد ثقيف حين دخلوا المسجد قبل أن يسلموا، وهكذا وفد النصارى دخلوا مسجده عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أنه يجوز دخول المسجد النبوي للمشرك, وهكذا بقية المساجد من باب أولى إذا كان لحاجة، إما لسؤال، أو لحاجة أخرى، أو لسماع درس ليستفيد، أو ليسلم ويعلن إسلامه، أو ما أشبه ذلك.
والحاصل: أنَّه يجوز دخوله إذا كان هناك مصلحة، أمَّا إذا لم يكن هناك مصلحة؛ فلا حاجة إلى دخوله المسجد، أو أن يخشى من دخوله العبث في أثاث المسجد، أو النجاسة فيمنع".
3- استئجار المسلم الكافر:
عن عائشة رضي الله عنها: استأجر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل، ثم من بني عبد بن عدي، هاديًا خريتًا - الخريت الماهر بالهداية - قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأمِناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي، فأخذ بِهم أسفل مكة، وهو طريق الساحل.
قال ابن حجر: "وفي الحديث: استئجارُ المسلمِ الكافرَ على هداية الطريق إذا أمن إليه".
قال ابن بطال: "عامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها لما في ذلك من المذلة لهم، وإنّما الممتنع أن يؤاجر المسلم نفسه من المشرك، لما فيه من إذلال المسلم".
4- استئجار الكافر المسلم:
قال المهلب: "كره أهل العلم ذلك إلاّ لضرروة بشرطين: أحدهما: أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله، والآخر: أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين".
وقال ابن المنيّر: "استقرت المذاهب على أنّ الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمَّة، ولا يعد ذلك من الذلة، بخلاف أن يخدمه في منْزله، وبطريق التبعية له، والله أعلم".
وقال الشربيني: "يصح من الكافر استئجار المسلم إجارة ذمة".
5- التبايع:
يجوز البيع والشراء مع غير المسلمين، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديٍّ بثلاثين صاعًا من شعيرٍ.(/3)
وعن عبد الرحمن بن أبِي بكر رضي الله عنهما، قال: كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((هل مع أحد منكم طعام؟)). فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن، ثم جاء رجل مشركٌ مشعانٌ طويلٌ بغنم يسوقها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((بيعًا أم عطيةً؟))، أو قال: ((أم هبة؟)) قال: لا، بل بيع. فاشترى منه شاة، فصنعت، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى، وايم الله ما في الثلاثين والمائة إلاَّ قد حزَّ النبي صلى الله عليه وسلم له حزة من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاها إياه، وإن كان غائبًا خبأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون، وشبعنا ففضلت القصعتان، فحملناه على البعير، أو كما قال.
قال ابن بطال: "معاملة الكفَّار جائزة، إلاّ بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين".
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز: هناك أصحاب مهن كالحلاقة والخياطة وعمال في المطاعم أو غير ذلك وهم غير مسلمين؛ إما مسيحيون أو لا دينيون، فما حكم تعامل المسلم معهم؟
فأجاب رحمه الله: "ما داموا في البلاد يتعاطون هذه الأمور فلا مانع من الشراء منهم، وقضاء الحاجة، والبيع عليهم، فقد اشترى الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود، واشترى من بعض المشركين، فلا بأس، ولكن لا يحبهم، ولا يواليهم، بل يبغضهم في الله، ولا يتخذهم أصدقاء ولا أحبابا، والأفضل أن يستخدم المسلمون والمسلمات دون الكفار في كل الأعمال.
لكن إذا كان العمل في الجزيرة العربية حرم استقدام الكفار إليها واستخدامهم فيها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بإخراجهم من هذه الجزيرة العربية وقال: ((لا يجتمع فيها دينان))، لكن إذا قدموا لتجارة ثم يعودون أو بيع حاجات على المسلمين أو قدموا إلى ولي الأمر برسالة من رؤسائهم فلا حرج في ذلك؛ لأن رسل الكفار كانوا يقدمون على النبي في المدينة عليه الصلاة والسلام، وكان بعض الكفار من أهل الشام يقدمون على المدينة لبيع بعض ما لديهم من طعام وغيره".
ولكن لا يجوز بيعهم السلاح الذي يتقوون به على المسلمين، قال السرخسي: "ولا يمنع التجار من حمل التجارات إليهم إلا الكراع والسلاح والحديد؛ لأنّهم أهل حرب، وإن كانوا موادعين؛ ألا ترى أنّهم بعد مضي المدة يعودون حربًا للمسلمين، ولا يمنع التجار من دخول دار الحرب بالتجارات، ما خلا الكراع والسلاح؛ فإنّهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين، فيمنعون من حمله إليهم، وكذلك الحديد؛ فإنه أصل السلاح، قال الله تعالى: ?وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ? (الحديد: 25)".
بل وأيُّ شيءٍ يتحقق منه أنّه يقويهم على المسلمين، وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: "الكافر الحربي لا يُمَكَّن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ولو بالميرة والمال، ونحوه، والدواب والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به".
بداية المنتهي (ص: 118).
المبسوط (10/67).
الأم (4/247).
المهذب (2/258).
اقتضاء الصراط المستقيم (2/15).
عن الموقع الرسمي للشيخ رحمه الله، رقم السؤال (173).
فتح الباري (8/88).
عن الموقع الرسمي للشيخ، رقم السؤال (175).
البخاري في الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة (2263).
فتح الباري (4/442).
انظر: فتح الباري (4/442).
انظر: فتح الباري (4/452).
انظر: فتح الباري (4/452).
الإقناع (2/349).
البخاري في الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبيِّ صلى الله عليه وسلم (2916).
البخاري في الهبة، باب قبول هدية المشركين (2618).
انظر: فتح الباري (4/410).
مالك في الموطأ (2/892)، والبيهقيّ في الكبرى (6/115)، بلفظ: ((لا يجتمع في جزيرة العرب دينان))، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4617).
عن موقع الرسمي للشيخ، سؤال رقم (172).
المبسوط (10/88-89).
الدرر السنية (8/340).
ثالثًا: أصول في التعامل مع غير المسلمين عموما:
1- العدل:
قال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إنّ الله خبيرٌ بما تعملون? (المائدة: 8).
قال البيضاويُّ: "لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيًا مما في قلوبكم. ?اعدلوا هو أقرب للتقوى? أي: العدل أقرب للتقوى، صرَّح لهم بالأمر بالعدل، وبيَّن أنَّه بمكانٍ من التقوى بعدما نَهاهم عن الجور، وبيَّن أنَّه مقتضى الهوى، وإذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين".(/4)
وقال ابن كثير: "ومن هذا - أي ومن العمل بِهذه الآية - قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بِهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبِّي إيّاه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بِهذا قامت السموات والأرض".
عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم دِنيَةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)).
ودخل ذمِّيٌّ من أهل حمص أبيض الرأس واللحية على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله. قال عمر: ما ذاك؟ قال: العبّاس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي. وكان عددٌ من رؤوس النّاس، وفيهم العباس بمجلس عمر، فسأله: يا عبّاس ما تقول؟ قال: نعم، أقطعنيها أبِي أمير المؤمنين، وكتب لي بِها سجلاً. فقال عمر: ما تقول يا ذمّيّ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله تعالى. فقال عمر: نعم، كتاب الله أحقّ أن يتبع من كتاب الوليد. قم؛ فاردد عليه ضيعته يا عبّاس.
2- الدعوة إلى الحقّ:
قال الله تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ? (سبأ:28).
قال البيضاويُّ: "إلا إرسالة عامة لهم من الكف، أنَّها إذا عمتهم قد كفَّتهم أن يخرج منها أحد منهم، أو إلاَّ جامعًا لهم في الإبلاغ".
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بِي أحد من هذه الأمّة؛ يهوديّ ولا نصرانِيّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلاَّ كان من أصحاب النار)).
قال النوويُّ: "فيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم".
3- البراءة منهم، وعدم موالاتِهم:
البراء: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار، وهي ضد الولاء.
قال ابن تيمية: "الولاية: ضد العداوة. وأصل الولاية: المحبّة والقرب. وأصل العداوة: البغض والبعد".
قال تعالى: ? وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ? (التوبة: 3).
قال ابن كثير: "وإعلام من الله ورسوله وتقدم إنذار إلى الناس يوم الحج الأكبر - وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعًا - أنّ الله بريء من المشركين ورسوله: أي بريء منهم أيضًا".
فيجب على المسلمين أن يتبرؤوا ممّن برئ منه الله ورسوله، وعن ابن أبي ملكية، قال: قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من يقرئني ممّا أُنزِل على محمد صلى الله عليه وسلم. قال: فأقرأه رجلٌ براءة، فقال: ?إنّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِه? بالجر. فقال الأعرابي: أَوَقد برئ الله من رسوله؟! فإن يكن اللهُ برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فبلغ عمر مقالة الأعرابي، فدعاه، فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأنِي هذا سورة براءة، فقال: ?إنّ الله بريء من المشركين ورسولِه?، فقلتُ: أَوَقد بريء الله من رسوله؟! إن يكن الله برئ من رسوله؛ فأنا أبرأ منه. فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي. قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ?إنّ الله بريء من المشركين ورسولُه?. فقال الأعرابِي: وأنا والله أبرأ ممَّا برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا يقرئ الناس إلاَّ عالم باللغة.
فأهل الإيمان يتبرؤون من الكفرة جملة وتفصيلاً، قال تعالى: ?لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ? (المجادلة: 22).
وقد مدح الله نبيَّه إبراهيم عليه السلام في براءته لأهل الكفر والشرك، وأمر بالاقتداء به، فقال: ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لأَبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْء رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ? (الممتحنة: 4).(/5)
قال الطبريُّ: "قد كانت لكم ـ يا أمّة محمّد ـ أسوة حسنة في فعل إبراهيم والذين معه في هذه الأمور من مباينة الكفار، ومعاداتِهم، وترك موالاتِهم إلاّ في قول إبراهيم: ?لأستغفرنّ لك?، فإنّه لا أسوة لكم فيه في ذلك؛ لأنّ ذلك كان من إبراهيم ?عن موعدةٍٍ وعدها إيّاه? قبل أن يتبيَّن ?أنّه عدوٌ لله فلمّا تبيّن أنّه عدو لله تبرأ منه?، فتبرؤوا من أعداء الله، ولا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا بالله وحده، ويتبرؤوا من عبادة ما سواه، وأظهروا العداوة والبغضاء".
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بما نصه: يسكن معي شخص مسيحي، وهو يقول لي: يا أخي، ونحن إخوة، ويأكل معنا ويشرب فهل يجوز هذا العمل أم لا؟
فأجاب رحمه الله: "الكافر ليس أخًا للمسلم، والله يقول: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ? (الحجرات: 10)، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم))، فليس الكافر - يهوديًا أو نصرانيًا أو وثنيًا أو مجوسيًا أو شيوعيًا أو غيرهم - ليس أخًا للمسلم، ولا يجوز اتخاذه صاحبًا وصديقًا، لكن إذا أكل معكم بعض الأحيان من غير أن تتخذوه صاحبًا وصديقًا، وإنّما يصادف أن يأكل معكم، أو في وليمة عامة فلا بأس.
أمَّا اتخاذه صاحبًا وصديقًا وجليسًا وأكيلاً؛ فلا يجوز؛ لأنّ الله قطع بيننا وبينهم المحبة والموالاة، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ? (الممتحنة: 4)، وقال سبحانه: ?لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ? يعني يحبون ?وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ? (المجادلة: 22).
فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله، ولكن لا يؤذيهم ولا يضرهم ولا يتعدى عليهم بغير حق، لكن لا يتخذهم أصحابًا ولا أخدانًا، ومتى صادف أن أكل معهم في وليمة عامة أو طعام عارض من غير صحبة ولا ولاية ولا مودة فلا بأس".
4- النهي عن مشابَهتهم، والأمر بمخالفتهم:
نَهى الشرع الحنيف عن مشابَهة الكفار؛ لأنّه يخلق في النفوس ميلاً إليهم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
قال ابن تيمية: "المشابَهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابَهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي".
المشابَهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أنّ المحبة في الباطن؛ تورث المشابَهة في الظاهر. وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة؛ حتى إنّ الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين، وذلك لأنّ الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابَهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر ممّا بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضًا ما لا يألفون غيرهم؛ حتى إنّ ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة".
5- الإحسان إلى المحتاج منهم بالصدقة والصلة:
قال الله تعالى: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين? (الممتحنة: 8).
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمت عليَّ أمي، وهي مشركة في عهد قريشٍ إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُدتِهم مع أبيها، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنّ أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: ((نعم، صليها)).
قال ابن عيينة: "فأنزل الله تعالى فيها: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين?".
وعن ابن عمر أنّ عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما يلبس هذه مَن لا خلاق له في الآخرة))، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حللٌ، فأعطى عمر منها حلة. فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها، وقد قلتَ في حلة عطارد ما قلت؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّي لم أكسكها لتلبسها)) فكساها عمر أخًا له مشركًا بمكة.
قال النوويّ: "وفيه: صلة الأقارب والمعارف، وإن كانوا كفارًا"، والمشركون بمكة كانوا أهل حربٍ.
ومن الإحسان: الإحسان إلى الحربِي الأسير:(/6)
قال تعالى: ?ويطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا? (الإنسان: 8-9).
قال قتادة: "لقد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك".
وقال الحسن: "ما كان أسراهم إلاَّ المشركين".
وقال الطبريّ: "هو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرًا بالغلبة، أو من أهل القبلة يؤخذ فيحبس بحقّ".
أنوار التنْزيل (2/303).
تفسير القرآن العظيم (1/566).
أبو داود في الخراج والإمارة، باب في تعشير أهل الذمّة (3052)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود
(2626).
انظر: صفة الصفوة (2/115).
أنوار التنْزيل (1/344).
مسلم في الإيان، باب وجوب الإيمان برسالة نبيِّنا محمّد صلى الله عليه وسلم (153).
شرح مسلم (2/188).
انظر: الولاء والبراء، د. محمد سعيد القحطاني (ص: 90).
مجموع الفتاوى (5/510).
تفسير القرآن العظيم (2/333).
انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/24).
جامع البيان (28/62).
عن موقع الرسمي للشيخ، رقم السؤال (166).
أبو داود في اللباس، باب لباس الشهرة (4031)، وصححه الألباني في الإرواء (1269).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/488).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/488).
البخاري في الجزية، باب إثم من عاهد ثم غدر (3182)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة على الأقربين والزوج (1003).
البخاري في الأدب، باب صلة الوالد المشرك (5979).
مسلم في اللباس والزينة، باب تحريم استعمال الذهب والفضة على الرجال (2068).
شرح مسلم (14/38).
رواه الطبري في جامع البيان (29/209).
رواه الطبري في جامع البيان (29/210).
جامع البيان (29/209).
رابعًا: أصول في التعامل خاصّة بكل صنف:
1- أهل الحرب:
أ- الشدة في قتالهم وعدم اللين معهم:
قال تعالى: ?فإمّا تثقفنَّهم في الحرب فشرد بِهم من خلفهم لعلهم يذَّكرون? (الأنفال: 57).
قال ابن كثير: "معناه: غلِّظ عقوبتهم، وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة".
وقال تعالى: ?يا أيّها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتقين? (التوبة: 123).
قال القرطبيُّ: "أي: شدة وقوة".
وقال ابن كثير: "أي: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإنّ المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقًا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر".
وقال الله تعالى: ?يا أيها النبيّ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير? (التحريم: 9).
قال القرطبيُّ: "أمره أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله، والمنافقين بالغلظة وإقامة الحجة وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين".
ب- عدم الغدر والخيانة بِهم إذا وقع الصلح والهدنة معهم:
الوفاء بالعهود والمواثيق وتحريم الغدر والخيانة في الظاهر والباطن من أحكام الإسلام القطعيّة النافذة على الأفراد والجماعات، وليس مجرد مبدأ خلقي يستعمل حينًا، ويهمل حينًا آخر.
قال تعالى: ?وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ? (الأنفال:72).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به، يقال: هذه غدرة فلان)).
وقد ردّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بصير للمشركين، وأبَى أن يقبله بعد أن عاد إليه وفاءً بالعهد الذي بينه وبين المشركين.
وإذا خشي المسلمون من المشركين نقضًا للعهد فعليهم أن يردوا إليهم عهدهم: ?وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين? (الأنفال: 58).
قال الطبريّ: "يقول تعالى ذكره: وإمّا تخافنّ ـ يا محمد ـ من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد أن ينكث عهده وينقض عقده ويغدر بك، وذلك هو الخيانة والغدر، ?فانبذ إليهم على سواء? يقول: فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إيّاهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور آثار الغدر والخيانة منهم؛ حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر. ?إنّ الله لا يحب الخائنين? الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به، فيحاربه قبل إعلامه إيّاه أنّه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد".
وعن سليم بن عامر، قال: كان بين معاوية وبين أهل الروم عهد، وكان يسير في بلادهم؛ حتى إذا انقضى العهد أغار عليهم، فإذا رجل على دابة أو على فرس، وهو يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر. وإذا هو عمرو بن عبسة، فسأله معاوية عن ذلك، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان بينه وبين قوم عهد؛ فلا يحلنَّ عهدًا، ولا يشدنَّه؛ حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء)). قال: فرجع معاوية بالناس.(/7)
قال البغويُّ: "ويشبه أن يكون إنّما كره عمرو بن عبسة ذلك؛ لأنّه إذا هادنَهم إلى مدة، وهو مقيم في وطنه، فقد صارت مدة مسيره بعد انقضاء المدة المضروبة كالمشروط مع المدة في أن لا يغزوهم فيها، فإذا صار إليهم في أيام الهدنة كان إيقاعه قبل الوقت الذي يتوقعونه، فعدَّ ذلك عمرو غدرًا، والله أعلم. وإن نقض أهل الهدنة عهدهم له أن يسير إليهم على غفلة منهم، كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأهل مكة. وإن ظهرت منهم خيانة بأهل الإسلام نبذ إليهم العهد، قال تعالى: ?وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانة فانبذ إليهم على سواء? (الأنفال: 58). ومن دخل إلينا رسولاً؛ فله الأمان حتى يؤدي الرسالة، ويرجع إلى مأمنه، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لابن النواحة: ((لولا أنّك رسولٌ لضربتُ عنقك))".
قال ابن القيّم: "ولمّا أسرت قريش حذيفة وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خارجين إلى بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم))".
ج- عدم قتل من لا يقاتل غالبًا منهم، كالمرأة والصبيان والشيخ الفانِي والأجير والعابد في صومعته:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وُجِدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
وعن رباح بن ربيع، قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ، فرأى النَّاس مجتمعين على شيءٍ، فبعث رجلاً، فقال: ((انظر علام اجتمع هؤلاء)). فجاء، فقال: على امرأةٍ قتيلٍ. فقال: ((ما كانت هذه لتقاتل)). قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً، فقال: ((قل لخالد: لا يقتلنَّ امرأةً ولا عسيفًا)).
والمراد بالعسيف هو من يكون عمله بعيد الصلة بالأعمال القتالية، قال الشوكانِيّ: "وأمّا العبد؛ فلم يَرد ما يدلّ على عدم جواز قتله... ولا يصحّ قياسه على العسيف؛ لأنّ العسيف لا يقاتل، وإنّما هو لحفظ المتاع والدواب، وإن قاتل جاز قتله".
د- حِلُّ دمائهم وأموالهم:
قال تعالى: ?وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضًا لم تطؤوها وكان الله على كل شيءٍ قديرًا? (الأحزاب: 27).
قال الطبري: "وملككم بعد مهلكهم ?أرضهم? يعني: مزارعهم ومغارسهم، ?وديارهم? يقول: ومساكنهم، ?وأموالهم? يعني: سائر الأموال غير الأرض والدور".
قال ابن كثير: "أي: جعلها لكم مِن قتلكم لهم".
2- أهل الذمّة:
أ- إلزامهم بدفع الجزية:
الجزية: المال الذي يلتزم أهل الذمّة بأدائه إلى الدولة الإسلاميّة كل عامٍ.
قال ابن قدامة: "هي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام".
قال الشربيني: "تطلق على العقد، وعلى المال الملتزم به".
وصورتُها أن يقول الإمام أو من ينوب عنه: "أقرُّكم بدار الإسلام أو أذنتُ في إقامتكم بِها على أن تبذلوا جزية، وتنقادوا إلى حكم الإسلام".
ب- وجوب حمايتهم:
قال الماورديّ: "ويلتزم لهم - أي الإمام - ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين".
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم".
ج- حرمة دمائهم وأموالهم:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإنّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا)).
قال ابن حجر: "المراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم".
قال القرطبيُّ: "الذمي محقون الدم على التأبيد والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه".
د- النكاح بأهل الكتاب منهم:
يحل نكاح الكتابية صراحةً، ويدخل في ذلك الذمِّيات منهن، كما تدخل الحربيات الكتابيات لا فرق بين الصنفين، قال تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ? (المائدة: 5).
قال البيضاويُّ: "وإن كنَّ حربيات".(/8)
قال الجصاص: "لم يفرق فيه بين الحربيات والذميات وغير جائز تخصيصه بغير دلالة، وقوله تعالى: ?قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر? لا تعلق له بجواز النكاح ولا فساده، ولو كان وجوب القتال علة لفساد النكاح لوجب أن لا يجوز نكاح نساء الخوارج وأهل البغي؛ لقوله تعالى: ?فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله?. فبان بما وصفنا أنّه لا تأثير لوجوب القتال في إفساد النكاح، وإنما كرهه أصحابنا لقوله تعالى: ?لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانَهم أو عشيرتَهم?، والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى: ?وجعل بينكم مودة ورحمة?، فلما أخبر أنّ النكاح سبب المودة والرحمة، ونَهانا عن موادّة أهل الحرب؛ كرهوا ذلك".
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم نكاح نساء أهل الكتاب، فأجاب: "حكم ذلك الحل والإباحة عند جمهور أهل العلم؛ لقول الله سبحانه في الآية السابقة من سورة المائدة: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ? (المائدة: 5)، والمحصنة: هي الحرة العفيفة في أصح أقوال علماء التفسير، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: (وقوله: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ? أي: وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فقيل: أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد المحصنات الحرائر فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة كما في الرواية الأخرى عنه وهو قول الجمهور ههنا وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل (حشف وسوء كيل).
والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنى كما قال تعالى في الآية الأخرى: ?مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ? ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ? هل يعم كل كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمة، حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيليات وهو مذهب الشافعي، وقيل المراد بذلك الذميات دون الحربيات لقوله تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ? الآية، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى وقد قال الله تعالى: ?وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري قال: نزلت هذه الآية ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية الكريمة ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة ?وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ?، إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها وإلا فلا معارضة بينها وبينها؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع كقوله تعالى: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ?، وكقوله: ?وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ? الآية) انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله.(/9)
وقال أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي رحمه الله في كتابه المغني ما نصه: (ليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حل حرائر نساء أهل الكتاب، وممن روي عنه ذلك عمر وعثمان وطلحة صلى الله عليه وسلم وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم، قال ابن المنذر ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك، وروى الخلال بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوجوا نساء من أهل الكتاب وبه قال سائر أهل العلم، وحرمته الإمامية تمسكا بقوله تعالى: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ?، ?وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ?، ولنا قول الله تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ?، إلى قوله: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ?، وإجماع الصحابة، فأما قوله سبحانه: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ? فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نسخت بالآية التي في سورة المائدة وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى؛ لأنهما متقدمتان والآية التي في المائدة متأخرة عنهما، وقال آخرون ليس هذا نسخا فإن لفظ المشركين بإطلاقه لا يتناول أهل الكتاب بدليل قوله سبحانه: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ?، وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ?، وقوله عز وجل: ?لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا?، وقوله تعالى: ?مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ?، وسائر آي القرآن يفصل بينهما، فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب، وهذا معنى قول سعيد بن جبير وقتادة؛ ولأن ما احتجوا به عام في كل كافرة، وأيتنا خاصة في حل نساء أهل الكتاب والخاص يجب تقديمه، إذا ثبت هذا فالأولى أن لا يتزوج كتابية؛ لأن عمر رضي الله عنه قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: طلِّقوهن، فطلَّقوهنّ إلاّ حذيفة، فقال له عمر: طلِّقها، قال: تشهد أنّها حرام؟! قال: هي خمرة طلِّقها. قال: تشهد أنّها حرام؟! قال: هي خمرة، قال: قد علمت أنها خمرة ولكنها لي حلال، فلما كان بعد طلقها فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمرا لا ينبغي لي، ولأنه ربما مال إليها قلبه فتفتنه، وربما كان بينهما ولد فيميل إليها) انتهى كلام صاحب المغني رحمه الله.
والخلاصة مما ذكره الحافظ ابن كثير وصاحب المغني رحمة الله عليهما أنه لا تعارض بين قوله سبحانه في سورة البقرة: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? الآية، وبين قوله عز وجل في سورة المائدة: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ? الآية، لوجهين: أحدهما: أن أهل الكتاب غير داخلين في المشركين عند الإطلاق. لأن الله سبحانه فصل بينهم في آيات كثيرات مثل قوله عز وجل: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ? الآية، وقوله سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا? الآية، وقوله عز وجل: ?مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ? الآية، إلى غير ذلك من الآيات المفرقة بين أهل الكتاب والمشركين، وعلى هذا الوجه لا تكون المحصنات من أهل الكتاب داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن في سورة البقرة، فلا يبقى بين الآيتين تعارض، وهذا القول فيه نظر، والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في المشركين والمشركات عند الإطلاق رجالهم ونساؤهم؛ لأنهم كفار مشركون بلا شك، ولهذا يصنعون من دخول المسجد الحرام لقوله عز وجل: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? الآية، ولو كان أهل الكتاب لا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق لم تشملهم هذه الآية، ولما ذكر سبحانه عقيدة اليهود والنصارى في سورة براءة قال بعد ذلك: "?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ? فوصفهم جميعًا بالشرك. لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ولأنهم جميعا اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وهذا كله من أقبح الشرك والآيات في هذا المعنى كثيرة.(/10)
والوجه الثاني: أن آية المائدة مخصصة لآية البقرة، والخاص يقضي على العام ويقدم عليه كما هو معروف في الأصول وهو مجمع عليه في الجملة، وهذا هو الصواب، وبذلك يتضح أن المحصنات من أهل الكتاب حل للمسلمين غير داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن عند جمهور أهل العلم بل هو كالإجماع منهم لما تقدم في كلام صاحب المغني، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل لما جاء في ذلك عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وابنه عبد الله وجماعة من السلف الصالح رضي الله عنهم، ولأن نكاح نساء أهل الكتاب فيه خطر ولا سيما في هذا العصر الذي استحكمت فيه غربة الإسلام وقل فيه الرجال الصالحون الفقهاء في الدين وكثر فيه الميل إلى النساء والسمع والطاعة لهن في كل شيء إلا ما شاء الله، فيخشى على الزوج أن تجره زوجته الكتابية إلى دينها وأخلاقها كما يخشى على أولاده منها من ذلك والله المستعان.
فإن قيل: فما وجه الحكمة في إباحة المحصنات من أهل الكتاب للمسلمين وعدم إباحة المسلمات للرجال من أهل الكتاب، فالجواب عن ذلك- والله أعلم- أن يقال: إن المسلمين لما آمنوا بالله وبرسله وما أنزل عليهم ومن جملتهم موسى بن عمران وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام ومن جملة ما أنزل على الرسل التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى، لما آمن المسلمون بهذا كله أباح الله لهم نساء أهل الكتاب المحصنات فضلا منه عليهم وإكمالا لإحسانه إليهم، ولما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من الكتاب العظيم وهو القرآن حرم الله عليهم نساء المسلمين حتى يؤمنوا بنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فإذا آمنوا به حل لهم نساؤنا وصار لهم ما لنا وعليهم ما علينا والله سبحانه هو الحكم العدل البصير بأحوال عباده العليم بما يصلحهم الحكيم في كل شيء تعالى وتقدس وتنزه عن قول الضالين والكافرين وسائر المشركين.
وهناك حكمة أخرى وهي: أن المرأة ضعيفة سريعة الانقياد للزوج فلو أبيحت المسلمة لرجال أهل الكتاب لأفضى بها ذلك غالبا إلى دين زوجها فاقتضت حكمة الله سبحانه تحريم ذلك".
3- أهل العهد:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم مثل ردّه عن أهل الذمّة:
المعاهدون مستأمنون بمقتضى معاهدة السلام مع دولهم، وما داموا قد دخلوا دار الإسلام بموجب تلك المعاهدة القاضية بذلك فهم تحت ولاية الإمام، وعليه حمايتهم والدفاع عنهم.
جاء في السير وشرحه: "قد بيَّنا أنّ المستأمنين فينا إذا لم يكونوا أهل منعة فحالهم كحالِ أهل الذمّة في وجوب نصرتِهم على أمير المسلمين، ودفع الظلم عنهم؛ لأنّهم تحت ولايته. ألا ترى أنّه كان يجب على الإمام والمسلمين اتّباعهم لاستنقاذهم من أيدي المشركين الذين قهروهم ما لم يدخلوا حصونَهم ومدائنهم، كما يجب عليهم ذلك إذا وقع الظهور على المسلمين، أو على أهل الذمّة؟ وكذلك لو أنّ هؤلاء المستأمنين كانوا من أهل دار الموادعة، دخلوا إلينا بتلك الموادعة"().
ب- حرمة أموالهم ودمائهم حال العهد:
قال المرغينانِي: "وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرًا؛ فلا يحل له أن يتعرض لشيءٍ من أموالهم، ولا من دمائهم؛ لأنّه ضمن أن لا يتعرض لهم بالاستئمان، فالتعرض بعد ذلك يكون غدرًا، والغدر حرام، إلاَّ إذا غدر بِه ملكهم، فأخذ أمواله أو حبسه، أو فعل ذلك غيرُه بعلم الملك ولم يمنعه؛ لأنّهم هم الذين نقضوا العهد، بخلاف الأسير؛ لأنّه غير مستأمن، فيباح له التعرض للمال والدم، وإن أطلقوه طوعًا".
4- أهل الأمان:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم، مثل ردّه عن أهل الذمّة:
يعامل المستأمِنون ما داموا في أرض الإسلام معاملة أهل الذمّة في وجوب الدفاع عنهم، لأنّهم وهم في دار الإسلام يكونون تحت ولاية الإمام، فعليه الدفاع عن جميع من كان تحت ولايته.
جاء في السير الكبير وشرحه: "الأصل أنّه يجب على إمام المسلمين أن ينصر المستأمنين ما داموا في دارنا؛ لأنّهم تحت ولايته، ما داموا في دار الإسلام، فكان حكمهم كحكم أهل الذمّة".
ولو أنّ قومًا من أهل الحرب لهم منعة دخلوا دارنا بأمانٍ فشرطوا علينا أن نمنعهم ممّا نمنع منه المسلمين وأهل الذمّة؛ فعلينا الوفاء بشرطهم.
ولو كان المستأمنون في دارنا قومًا لا منعة لهم... فعلى الإمام أن يدفع عنهم من الظلم ما يدفعه عن أهل الذمّة.
ولو كان الذين ظهروا عليهم من أهل الحرب... مرّوا بِهم على منعةٍ للمسلمين في دار الحرب كان عليهم القيام بنصرتِهم، وتخليصهم من أيديهم، كما في حقّ أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم:
انظر: حرمة أموال ودماء أهل الذمة.
تفسير القرآن العظيم (2/321).
الجامع لأحكام القرآن (9/352).
تفسير القرآن العظيم (2/403).
الجامع لأحكام القرآن (18/201).
البخاري في الجزية، باب إثم الغادر للبر والفاجر (3187)، ومسلم في الجهاد والسير، باب تحريم الغدر (1736)، واللفظ له.(/11)
انظر: البخاري في الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة في الحرب (2734).
جامع البيان (10/26-27).
أبو داود في الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه (2759)، والترمذي في السير، باب ما جاء في الغدر (1580) واللفظ له، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1285).
أحمد (1/384)، وأبو داود في الجهاد، باب في الرسل (2762)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2400).
شرح السنة (11/166-167).
مسلم في الجهاد، باب الوفاء بالعهد (1787).
زاد المعاد (3/88).
البخاري في الجهاد والسير، باب قتل النساء والصبيان (3015)، ومسلم في الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان (1744).
أبو داود في الجهاد، باب في قتل النساء (2669)، وصححه الألبانيُّ في صحيح سنن أبي داود (2324). قال الزمخشريّ: "العسيف: الأجير" (الفائق 2/7).
السيل الجرار (4/532).
جامع البيان (12/155).
تفسير القرآن العظيم (3/479).
المغني (10/567).
مغني المحتاج (4/242).
انظر: مغني المحتاج (4/242).
الأحكام السلطانية (143).
انظر: مغني المحتاج (4/253).
البخاري في الجزية، باب إثم من قتل معاهدًا (3166).
فتح الباري (12/259).
الجامع لأحكام القرآن (2/246).
أنوار التنْزيل (2/297).
أحكام القرآن (2/18).
عن موقع الشيخ الرسمي http://www.binbaz.org.sa/last_resault.asp?hID=1229.
السير الكبير وشرحه (5/1892،1891).
بداية المنتهي (ص: 118)، وانظر حرمة دمائهم وأموالهم في معاملة أهل الذمة.
السير الكبير وشرحه (5/1853).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1857).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1858).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1859).
خامسًا: المسلمون في ديار الكفر:
1- حكم الإقامة في بلاد الكفّار:
الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام يختلف حكمها باختلاف حالات المقيمين بديار الكفر:
أ. فتكون واجبة، وذلك في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو إقامة واجبات دينه في ديار الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:97].
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تراءى ناراهما))، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، ولأن القيام بواجبات دينه واجب، والهجرة من ضرورة الواجبات وتتمتها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب. وتسقط عمن يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف كالنساء والولدان وشبههم، فالعاجز لا هجرة عليه لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً % فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:98-99].
ج. وتستحب في حق من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامة واجباته في دار الكفر، فهذا تستحب في حقه ليتمكن من جهادهم، ولتكثير المسلمين ومعونتهم، والتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ومشاهدة المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكانه إقامة واجبات دينه بدون الهجرة.
وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة قبل فتحها مع إسلامه.
فإن قيل: ما ضابط إظهار الدين؟
فالجواب: ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "إظهاره دينَه ليس مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا وغير ذلك، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال".
ويرى بعض العلماء أنه قد يستحب للمسلم أن يقيم في دار الكفر وذلك إذا كان يرجو ظهور الإسلام بإقامته أو إذا ترتب على بقائه بدار الكفر مصلحة للمسلمين، فقد نقل صاحب مغني المحتاج أن إسلام العباس رضي الله عنه كان قبل بدر وكان يكتمه ويكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب القدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم: ((إن مقامك بمكة خير))، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة.
ولا شك أن هذا ليس لكل أحد، وأغلب الناس سريع التأثر بما عليه الكفار، وخاصة في هذا الزمان الذي غلب فيه أهل الكفر، ونحن نرى ولوع كثير من المسلمين بتقليد الكفار واتباعهم وهم في ديار الإسلام فكيف الحال بمن هو مقيم بين أظهرهم، لا شك أن الفتنة أعظم والخطر أكبر، وأحكام الشريعة مبنية على الغالب الكثير لا على ما شذّ وندر.
2- النكاح بأهل الكتاب اليوم في ديارهم:(/12)
يترتب في الوقت الراهن من الزواج بالكتابية في ديارها وإن لم تكن دار حربٍ مفاسد شتى، من أعظمها أنّ الولد يتبع أمّه في دينها، ولا سلطة للأب المسلم على ذلك.
ولأجل ذلك كره من كره من أهل العلم الزواج بالحربيّة؛ لخشية ضياع الولد، قال القرطبيُّ: "وكره مالك تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير".
وقال ابن مفلح: "وعلل الإمام المنع في دار الحرب من أجل الولد لئلا يستعبد الرجعة على دينهم".
وقد أشار الشيخ عبد العزيز بن باز في الفتوى المتقدمة في حكم نكاح الكتابية إلى هذه العلّة في كراهية التزوج بالكتابيّة في بلدها في الوقت الحالي.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
أخرجه أبو داود [2645] والترمذي [1604] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع [1461].
انظر: المغني لابن قدامة (13/151).
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/91-92)
مغني المحتاج (4/239) وانظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور محمد خير هيكل (1/687-692).
الجامع لأحكام القرآن (3/69).
المبدع (7/71).
انظر: النكاح بأهل الكتاب منهم.(/13)
أصول الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى
يتناول الدرس أهمية الدعوة إلى الله وفضلها وحكمها مع تفصيل أدلة ذلك، وبيان أهداف ومقاصد الدعوة إلى الله، ونماذج من سير الأنبياء، وتناول أركان الدعوة إلى الله، وكيفية الدعوة بين المسلمين ووسائلها وقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
المقدمة : الحمد لله نور السماوات ، والأرض الذي أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ، ودين الحق ؛ ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيداً. والصلاة والسلام على البشير النذير ، والسراج المنير؛ الذي بعثه الله بالحق إلى قيام الساعة ، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.. وبعد،،،
فلما كانت الدعوة إلى الله هي المهمة التي كلف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : [ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ 1 ] قُمْ فَأَنذِرْ [ 2 ] ] سورة المدثر . وكلف الله بها هذه الأمة كما قال تعالى [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [110 ]] سورة آل عمران .
فإنني أحببت أن أجمع رسالة قصيرة ، توضح لكل مسلم مكلف بالدعوة أصول هذه الدعوة ، كيف يدعو إلى الله ؛ وذلك حتى تكون دعوته على بصيرة كما قال تعالى : [ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ 108 ] ] سورة يوسف .
وإني لأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذه الرسالة ، ويكتب لها القبول ، وأن يقوم المسلمون جميعاً بواجب الدعوة إلى الله على بصيرة ؛ ليشرق نور الله في الأرض كلها ؛ ويعلو دين الله على كل الأديان ، إنه هو السميع البصير والعلي العظيم..
وكتبه/ عبدالرحمن بن عبدالخالق ، الكويت في 27 من ذي الحجة 1416هـ
أولا: حكم الدعوة إلى الله :
الدعوة إلى الله واجب كفائي على الأمة الإسلامية جميعها لقوله تعالى : [ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [110 ]] سورة آل عمران .
وقوله تعالى: [ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ [125] ] سورة النحل . وقوله تعالى: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ 77 ] وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [ 77 ] ] سورة الحج .
ويتعين الوجوب على الإمام ؛ لقوله تعالى : [ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [ 41 ] ] سورة الحج .
فجعل سبحانه وتعالى شرط التمكين : إقامتهم للصلاة ، وأداءهم للزكاة ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر . ولقوله صلى الله عليه وسلم : [ فالْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ] رواه البخاري ، و مسلم ، و الترمذي ، و أبو داود ، و أحمد .
والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله أولى واجباته ، ثم أولى العلم من المسلمين الذين أخذ الله عليهم الميثاق ببيان العلم ، وعدم كتمانه كما قال تعالى : [ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ [ 187] ] سورة آل عمران.
وهذا تحذير من الله لهذه الأمة... وقال تعالى : [ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [ 159 ] إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ 160 ] ] سورة البقرة .
وقال تعالى: [ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ 174 ] ] سورة البقرة .(/1)
و قال صلى الله عليه وسلم : [ مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] رواه أبو داود ، و الترمذي ، وأحمد ، و ابن ماجه عن أبي هريرة وصححه الألباني في صحيح الجامع 6284.
ويقول الشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله : ' أما بالنسبة لولاة الأمور، و من لهم القدرة الواسعة فعليهم من الواجب أكثر ، و عليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار ' [ الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة ص 17] . ويقول أيضاً : ' ونظراً إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة ، و إلى الإلحاد ، وإنكار رب العباد ، وإنكار الرسالات، وإنكار الآخرة ، وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان ، و غير ذلك من الدعوات المضللة ، نظراً إلى هذا ؛ فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضاً عاماً , و واجباً على جميع العلماء ، و على جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام ، فرض عليهم أن يبلغوا دين الله ' [ الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة ص17 ].
ثانيا: فضل الدعوة إلى الله
والدعوة إلى الله فضلها عظيم ؛ فهي مهمة الرسل ، الأنبياء ، وهم أشرف الخلق ، وأكرمهم على الله ، و هم الذين اختارهم الله لهداية البشر … والعلماء هم ورثة الأنبياء ، و قيامهم بالدعوة أعظم تشريف لهم ? قال تعالى : [ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ 108 ] ] سورة يوسف .
ومن فضل الدعوة إلى الله أن : [ مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا ] رواه مسلم ، و أبو داود ، و الترمذي ، و ابن ماجه ، و الدارمي ،و أحمد.
و الدعوة إلى الله هي التي من أجلها شرّف الله بها أمة الإسلام جميعاً ، فجعلها بذلك خير أمة أخرجت للناس، لأنها حملت رسالة الله إلى العالمين ، و جاهدت بها كل الأمم فهم ، خير الناس للناس.
ثالثا: أهداف الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى :
* الأهداف العامة :
إرشاد الناس إلى صراط الله المستقيم ، و دينه القويم ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، و من الشرك إلى التوحيد، ومن الجور، والظلم إلى العدل، والرحمة والإحسان ، والأدلة على هذا كثيرة جداً منها : قوله تعالى : [ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [ 104 ] ] سورة آل عمرا .
وقوله تعالى :[ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [ 73 ] ] سورة المؤمنون .
وقوله تعالى : [ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [ 52 ] صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [ 53 ] ] سورة الشورى .وقوله تعالى : [ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [ 67 ] ] سورة الحج . و قال تعالى : [ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو [ 36 ] ] سورة الرعد . و قوله تعالى : [ الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [ 1 ] ] سورة إبراهيم .
وأمة الإسلام التي هي خير الأمم قد أخرجها الله لهذه الغاية ، فقال سبحانه و تعالى : [ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [110 ] ] سورة آل عمران .
ولم يشرع الجهاد بالكلمة ، و المال ، و السيف إلا لتحقيق هذه الغايات . وقد أجمل ربعي بن عامر رضي الله عنه مهمة أمة الإسلام في الجهاد ، فقال _ عندما أرسله سعد بن أبي وقاص لرستم قائد الفرس ، فقال له رستم : لماذا جئتم ، فقال _ : إن الله ابتعثنا؛ لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . [ البداية والنهاية 7/ 39] .
أما المقصود من الدعوة والهدف منها:
فالمقصود ، و الهدف الأعظم من الدعوة هو: إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، و إرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به ، و ينجوا من النار ، و ينجوا من غضب الله ، و إخراج الكافر من ظلمة الكفر إلى النور و الهدى ، وإخراج الجاهل من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة ، هذا هو المقصود من الدعوة كما قال جل وعلا : [ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [ 257 ] ] سورة البقرة .(/2)
فالرسل بعثوا ؛ ليخرجوا من شاء الله من الظلمات إلى النور ، و دعاة الحق كذلك يقومون بالدعوة وينشطون لها ؛ لإخراج من شاء الله من الظلمات إلى النور ، و من العذاب إلى المغفرة و الجنة، و من طاعة الشيطان ، و الهوى إلى طاعة الله ، و رسوله.
الأهداف التفصيلية:
1] إيجاد الأمة الصالحة ، الداعية إلى الله المجاهدة ، في سبيله :
من أول أهداف الدعوة : العمل لإخراج الأمة الصالحة التي تعبد الله سبحانه ? تعالى . قال سبحانه ? تعالى : [ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [ 2 ] ] سورة الجمعة . وقال تعالى : [ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [ 164 ] ] سورة آل عمران . وقال تعالى : [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [ 28 ] ] سورة الفتح.
والأمة الصالحة: هي مجموع الأفراد الصالحين المجتمعين على الهدى والصراط المستقيم.
2] إيجاد المؤمن الصالح :
وذلك ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : [ … لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ] رواه البخاري ، و مسلم ، و أبو داود ، و أحمد .
وقوله صلى الله عليه وسلم : [ يَجِيءُ النَّبِيُّ ، وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ ، وَيَجِيءُ النَّبِيُّ ، وَمَعَهُ الثَّلَاثَةُ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ،وَأَقَلُّ ... ] رواه أحمد ، و ابن ماجه ، و صححه الألباني في صحيح الجامع 8033 .
فهداية مؤمن ـ ولو واحد ـ تحقيق لهدف عظيم من أهداف الرسالات.
3] إقامة الحجة لله على الجاحدين والكافرين :
والدليل على ذلك قوله تعالى : [ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [ 163 ] وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [ 164 ] رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [ 165 ] ] سورة النساء .
4] النهي عن الفساد في الأرض :
وذلك لقوله تعالى : [ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ [ 116 ] ] سورة هود .
و النهي عن الفساد في الأرض عصمة للجميع من عقوبة الله العاجلة في الدنيا كما قال تعالى : [ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [ 59 ] ] سورة القصص .
وكل ما نهى الله عنه فهو من الفساد في الأرض ، قال تعالى : [ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ 90 ] ] سورة النحل . وكل الرسل الذين أرسلهم الله نهوا أقوامهم عن الفساد ، و الطغيان بعد أمرهم إياهم بتوحيد الله ، وعبادته ، وطاعته.
فنوح عليه السلام
نهى قومه عن الشرك بالله ، و عبادة الصالحين ، و هو أعظم الفساد ، و الشر ،و نهاهم عن صد المؤمنين عن سبيل الله ، واحتقارهم ، و ازدرائهم .
و هود عليه السلام
نهى قومه عن الطغيان ? ? العتو في الأرض بإهدار الأموال في العبث ? ? الضياع ? كما قال تعالى : [ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [ 128 ] وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [ 129 ] وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [ 130 ] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ] سورة الشعراء .
و صالح عليه السلام(/3)
أمر قومه بعبادة الله وحده لا شريك له ،و نبذ ما يعبد من دون الله ، ثم نهاهم عن الإفساد في الأرض بالصد عن سبيل الله ، و إيثار الحياة الدنيا على الآخرة ، فقال لهم : [ فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [ 74 ] ] سورة الأعراف . و قال لهم : [ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ [ 146 ] فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [ 147 ] وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ [ 148 ] وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ [ 149 ] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [ 150 ] وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ [ 151 ] الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ [ 152 ] ] سورة الشعراء .
و شعيب عليه السلام
نهى قومه بعد الشرك بالله قائلاً : [ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [ 85 ] وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا [ 86 ] ] سورة الأعراف.
و لذلك : فإن سبب ما يحصل لأهل الأرض من فساد أحوالهم ، ودنياهم هو المعاصي ؛ ولذا كان من أعظم أهداف الدعوة إزالة هذا السبب .
و رسالة رسولنا الخاتمة
جاءت بالأمر بكل معروف ، و النهي عن كل منكر ، و البعد عن كل فساد في الأرض، حتى لو كان عدواناً على حرث ، أو زرع ، كما قال تعالى : [ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [ 204 ] وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [ 205 ] ] سورة البقرة .
5] عمارة الأرض بالخير والعمل الصالح :
من أهداف الدعوة إلى الله : عمارة الأرض بالخير، والعمل الصالح ، قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ 77 ] ] سورة الحج .
و قال تعالى : [ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [ 104 ] ] سورة آل عمران .
والخير : اسم جامع لكل نفع ، فالخلق الحسن خير ، والبر ، والصلة ، والإحسان خير ، وإعمار الأرض بالزرع النافع خير ،كما قال صلى الله عليه وسلم : [ إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ ] رواه أحمد ، والبخاري في الأدب المفرد ، وصححه الألباني في الجامع 1424.
و لا شك أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم قد استفاد منها كل العالمين ، حتى الذين لم يؤمنوا بالإسلام كما قال سبحانه وتعالى : [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [ 107 ] ] سورة الأنبياء . فإن تعاليم الإسلام التي جاءت بالفضيلة ، و الإحسان ، و نبذ الظلم ، و إقامة العدل قد استفاد منها كثير من الأمم ، و الشعوب ، و إن لم تدخل في الإسلام ، و قد أخذت كثير من دول العالم نظام الإسلام في المعاملات ؛ فاستفادت بذلك فائدة دنيوية .
وقد جاء الإسلام برفع الظلم عن النساء ، و العبيد ، و الضعفاء ؛ فاستفاد الناس من ذلك ، و جعل الإسلام حقوقاً للأسرى ، و نظاماً في الحروب استفاد منه الكفار أيضاً .
فقد جاء الإسلام في وقت عم فيه الجهل ، و الظلم ، فغير نظرة الناس عمومهم نحو المرأة والعبد ؛ فأزال الفروق الجاهلية التي كان الناس يتفاضلون بها ، و يقتتلون عليها كاللون ، و الوطن ، و الأصل وأعلن في الناس جميعاً أنهم لآدم و آدم من تراب ، قال تعالى : [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ 13 ] ] سورة الحجرات .وقد استفاد الناس من هذا التعاليم ، و لو بعد حين .
رابعا : أركان الدعوة إلى الله
أركان الدعوة إلى الله ثلاثة هي:
1] المدعو إليه: و هو دين الإسلام الذي يراد دعوة الناس إليه ، و هو سبيل الله ، و صراطه المستقيم.
2] الداعي: هو القائم بأمر دعوة الناس .
3] المدعو: و هو من يراد دعوته ، و هم الناس جميعاً بوجه عام ، و أهل الإسلام بوجه خاص .
الركن الأول: المدعو إليه:
الأصول العامة للركن الأول :
1] لا يدعي إلا إلى الإسلام :(/4)
الركن الأول في الدعوة إلى الله هو: دين الإسلام الذي يراد دعوة الناس إليه ، وحملهم عليه ، و دين الإسلام هو: سبيل الله ، وصراطه المستقيم ? قال تعالى : [ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ [ 125 ] ] سورة النحل . ? قال : [ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [ 6 ] صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [ 7 ] ] سورة الفاتحة. و قال تعالى: [ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [ 108 ] ] سورة يوسف . و قال تعالى : [ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ 87 ] ] سورة القصص . و قال : [ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [ 52 ] صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [ 53 ] ] سورة الشورى .
فالدعوة إلى الله هي: الدعوة إلى توحيده ، و الإيمان به ، و الدخول في دينه ، و صراطه المستقيم ، وشرعه القويم ، و هو دين الإسلام الذي بعث به خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم.قال شيخ الإسلام رحمه الله : ' الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به ، و ما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به ، و طاعتهم فيما أمروا ' مجموع الفتاوى 15/157 .
2] الإسلام هو كتاب الله وسنة رسوله ، وما أجمعت عليه الأمة:
و الإسلام هو ما يتضمنه كتاب الله ، و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي وردتنا بطريق صحيح ، فهذا هو الحق الذي لا شائبة فيه ، و لا يتطرق إليه خلل ، ثم ما أجمعت عليه الأمة كلها ؛ لأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : [ لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ] رواه ابن ماجه .
وما سوى ذلك من رأي ، و اجتهاد ، فإنه يصيب ، و يخطئ ، ولا يجوز حمل الناس على قول أحد إلا ما وافق كتاب الله ، و سنة رسوله.
و قال شيخنا ، و أستاذنا الشيخ عبدالعزيز بن باز -حفظه الله- : ' أما الشيء الذي يدعى إليه ويجب على الدعاة أن يوضحوه للناس كما أوضحه الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فهو الدعوة إلى صراط الله المستقيم ، و هو الإسلام ، وهو دين الله الحق ، هذا هو محل الدعوة كما قال سبحانه : [ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ [ 125 ] ] سورة النحل . فسبيل الله جل وعلا هو الإسلام وهو الصراط المستقيم ، و هو دين الله الذي بعث به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم . هذا هو الذي تجب الدعوة إليه لا إلى مذهب فلان ، و لا إلى رأي فلان ، و لكن إلى دين الله ، و إلى صراط الله المستقيم الذي بعث الله به نبيه ، و خليله ، و هو ما دل عليه القرآن العظيم ، و السنة المطهرة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم]' الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة ص/26 .
3] حقيقة الإسلام:
وحقيقة هذا الدين ، و هدفه : هو عبادة الله وحده لا شريك له ، ونبذ ما يعبد من دون الله ، والاستسلام ، و الخضوع لأوامره . قال تعالى: [ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [ 19 ]] سورة آل عمران. وقال تعالى : [ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ 85 ] ] سورة آل عمران . وقال تعالى: [ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [ 36 ] ] سورة النحل . و قال تعالى : [ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [ 110 ] ] سورة الكهف . و قال تعالى : [ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [162 ] لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [ 163 ] ] سورة الأنعام.
والخلق جميعاً _ ومنهم الإنس والجن _ قد خلقوا لهذه الغاية، قال تعالى : [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [ 56 ] مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ [ 57 ] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [ 58 ] ] سورة الذاريات .
4] الإسلام نظام شامل لكل أعمال الإنسان :
والإسلام نظام شامل ، كامل لتنظيم أعمال الإنسان جميعها على هذه الأرض ، فهو أولاً : يحدد عقيدة الإنسان ، و عمله تجاه إلهه ، و خالقه سبحانه و تعالى .
ثم : عقيدته ، و عمله نحو أهل الإيمان ممن دخلوا في هذا الدين ، ثم عقيدته ، و عمله نحو كل مخلوقات الله التي تحيط بالإنسان في السموات والأرض..
وفي كل هذه الأمور تأتي الأحكام الشرعية التكليفية الخمسة : الوجوب ، و الندب ، و الإباحة ، والتحريم ، و الكراهة .(/5)
فلا يوجد عمل ، و لا اعتقاد إلا وفيه حكم من هذه الأحكام ، قال تعالى : [ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [ 89 ] ] سورة النحل . وقال تعالى : [ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [ 3 ] ] سورة المائدة .
وقد بين سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز _ حفظه الله _ الكليات العامة للإسلام الذي تجب الدعوة إليه ، فقال : ' و على رأس الدعوة إلى الإسلام : الدعوة إلى العقيدة الصحيحة ، إلى الإخلاص لله ، و توحيده بالعبادة ، و الإيمان به ، و برسله ، و الإيمان باليوم الآخر ، و بكل ما أخبر الله به ، و رسوله ، هذا هو الأساس ، الصراط المستقيم ، و هو : الدعوة إلى شهادة ألا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، و معنى ذلك : الدعوة إلى توحيد الله ، و الإخلاص له ، و الإيمان به ، و برسله عليهم الصلاة و السلام .
و يدخل في ذلك: الدعوة إلى الإيمان بكل ما أخبر الله به ، و رسله مما كان ، و ما يكون من أمر الآخرة ، و أمر آخر الزمان ، و غير ذلك.
ويدخل في ذلك أيضاً: الدعوة إلى ما أوجب الله : من إقامة الصلاة ، و إيتاء الزكاة ، و صوم رمضان ، و حج البيت إلى غير ذلك .
و يدخل أيضاً في ذلك : الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ، و الأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر ، و الأخذ بما شرع الله في الطهارة ، و الصلاة ، و المعاملات ، و النكاح ، و الطلاق ، و الجنايات ، و النفقات ، و الحرب ، و السلم ، و في كل شيء ؛ لأن دين الله عز وجل دين شامل ، يشمل مصالح العباد في المعاش ، و المعاد . ويشمل كل ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ، و دنياهم ، و يدعو إلى مكارم الأخلاق ، و محاسن الأعمال ، و ينهى عن سفاسف الأخلاق ، و عن سيء الأعمال .
فهو عبادة ، و قيادة : يكون عابداً ، و يكون قائداً للجيش .
عبادة ، و حكم : ويكون عابداً مصلياً صائماً، ويكون حاكماً بشرع الله منفذاً لأحكامه عز وجل. عبادة ، و جهاد : و يدعو إلى الله ، و يجاهد في سبيل الله من خرج عن دين الله.
مصحف ، و سيف : يتأمل القرآن ، و يتدبره ، و ينفذ أحكامه بالقوة ، و لو بالسيف إذا دعت الحاجة إليه .
سياسة ، و اجتماع : فهو يدعو إلى الأخلاق الفاضلة ، و الأخوة الإيمانية ، و الجمع بين المسلمين
والتأليف بينهم _ كما قال جل و علا : [ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [ 103 ] ] سورة آل عمران . فدين الله يدعو إلى الاجتماع ، و إلى السياسة الصالحة الحكيمة التي تجمع الأخوة الإسلامية ، و التعاون على البر ، و التقوى ، و النصح لله ، و لعباده .
وهو أيضاً : يدعو إلى أداء الأمانة ? والحكم بالشريعة ? ? ترك الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل كما قال سبحانه : [ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ [ 58 ] ] سورة النساء .
وهو أيضاً : سياسة ، و اقتصاد ، كما أنه : سياسة ، و عبادة ، و جهاد ، فهو يدعو إلى الاقتصاد الشرعي المتوسط ليس رأسماليا ، و لا شيوعيا : تكسب المال ، و تطلبه بالطرق الشرعية ، و أنت أولى بمالك ، و بكسبك بالطريقة التي شرعها الله ، و أباحها جل وعلا.
والإسلام أيضاً يدعو إلي : الأخوة الإيمانية، وإلى النصح لله ، ولعباده ، وإلى احترام المسلم لأخيه المسلم: لا غل ، ولا حسد ، ولا غش ، ولا خيانة ، ولا غير ذلك من الأخلاق الذميمة كما قال جل وعلا : [ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [ 71 ] ] سورة التوبة ، و قال جل وعلا : [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [ 10 ] ] سورة الحجرات .
و قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ،وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ ] رواه البخاري ، و مسلم ، و أحمد .
فالمسلم أخو المسلم يجب عليه احترامه ، و عدم احتقاره ، و يجب عليه إنصافه ، و إعطاؤه حقه من كل الوجوه التي شرعها الله عز وجل ، و قال صلى الله عليه وسلم : [ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ] رواه البخاري ، و مسلم ، و الترمذي ، و النسائي ، و أحمد .
و قال صلى الله عليه وسلم : [ الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ ] رواه أبو داود ، و الترمذي ، و الطبراني في الأوسط ، و صححه الألباني في الجامع 6655 .
فأنت يا أخي ... مرآة أخيك ، و أنت لبنة من البناء الذي قام عليه بنيان الأخوة الإيمانية ، فاتق الله في حق أخيك ، و اعرف حقه ، وعامله بالحق ، و النصح ، و الصدق. و عليك أن تأخذ الإسلام كله ، و لا تأخذ جانباً دون جانب :(/6)
لا تأخذ العقيدة ، و تدع الأحكام و الأعمال ... و لا تأخذ الأعمال والأحكام ، و تدع العقيدة ... بل خذ الإسلام كله ... خذه عقيدة ، و عملاً ، و جهاداً ، و سياسة ، و اقتصاداً ،
و غير ذلك ... خذ من كل الوجوه كما قال سبحانه : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [ 208 ] ] سورة البقرة .
قال جماعة من السلف : معنى ذلك : ادخلوا في السلم جميعه ، يعني : في الإسلام .
يقال للإسلام : سلم ؛ لأنه طريق السلامة ، و طريق النجاة في الدنيا ، و الآخرة ؛ فهو سلم ، و إسلام ؛ فالإسلام يدعو إلى السلم ، يدعو إلى حقن الدماء بما شرع من الحدود ، و القصاص ، و الجهاد الشرعي الصادق .
فهو سلم ، و إسلام ، و أمن ، و إيمان ؛ و لهذا قال جل وعلا: [ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ] أي : ادخلوا في جميع شعب الإيمان … لا تأخذوا بعضاً ، و تدعوا بعضاً … عليكم أن تأخذوا بالإسلام كله . [ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [ 208 ] ] سورة البقرة . يعني : المعاصي التي حرمها الله عز وجل ، فإن الشيطان يدعو إلى المعاصي ، و إلى ترك دين الله كله ، فهو أعدى عدو.
و لهذا يجب على المسلم أن يتمسك بالإسلام كله ، و أن يدين بالإسلام كله ، و أن يعتصم بحبل الله عز وجل ، و أن يحذر أسباب الفرقة ، و الاختلاف في جميع الأحوال .
فعليك أن تحكم شرع الله في العبادات ، و في المعاملات ، و في النكاح ، و الطلاق ، و في النفقات ، و في الرضاع ، و في السلم ، و الحرب ، و مع العدو ، و الصديق ، و في الجنايات ، و في كل شيء ... دين الله يجب أن يحكم في كل شيء .
و إياك أن توالي أخاك ؛ لأنه وافقك في كذا ، و تعادي الآخر ؛ لأنه خالفك في رأي ، أو في مسألة ، فليس هذا من الإنصاف ، فالصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل ، و مع ذلك لم يؤثر ذلك في الصفاء بينهم ، و الموالاة ، و المحبة رضي الله عنهم ، و أرضاهم.
فالمؤمن يعمل بشرع الله ، و يدين بالحق ، و يقدمه على كل أحد بالدليل ، و لكن لا يحمله ذلك على ظلم أخيه ، و عدم إنصافه إذا خالفه في الرأي في مسائل الاجتهاد التي قد يخفي دليلها ، و هكذا في المسائل التي قد يختلف في تأويل النص فيها ، فإنه قد يعذر ، فعليك أن تنصح له ، وأن تحب له الخير ، و لا يحملك ذلك على العداء ، والانشقاق ، و تمكين العدو منك ، و من أخيك ، ولا حو ل و لا قوة إلا بالله.
الإسلام دين العدالة ... و دين الحكم بالحق والإحسان ... و دين المساواة إلا فيما استثنى الله عز وجل ... ففيه الدعوة إلى كل خير ? ? فيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ? ? محاسن الأعمال ? ? الإنصاف ? ? العدالة ? ? البعد عن كل خلق ذميم . قال تعالى : [ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْل وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ 90 ] ] سورة النحل . و قال تعالى : [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ 13 ]] سورة الحجرات.
والخلاصة : إن الواجب على الداعية الإسلامي أن يدعو إلى الإسلام كله ، و لا يفرق بين الناس ، و أن لا يكون متعصباً لمذهب دون مذهب ، أو لقبيلة دون قبيلة ، أو لشيخه ، أو رئيسه ، أو غير ذلك ، بل الواجب أن يكون هدفه : إثبات الحق وإيضاحه ، و استقامة الناس عليه _ و إن خالف رأي فلان أو فلان _ .
و لما نشأ في الناس من يتعصب للمذاهب ، و يقول : إن مذهب فلان أولى من مذهب فلان ، جاءت الفرقة ، و الاختلاف ، حتى آل ببعض الناس هذا الأمر إلى أن لا يصلي مع من هو على غير مذهبه ، فلا يصلي الشافعي خلف الحنفي ، و لا الحنفي خلف المالكي ، و لا خلف الحنبلي ، و كذا وقع من بعض المتطرفين المتعصبين ، و هذا من البلاء و من اتباع خطوات الشيطان.
فالأئمة أئمة هدى ، الشافعي ، ومالك، وأحمد ، وأبو حنيفة والأوزاعي ، وإسحاق بن راهويه ، وأشباههم كلهم أئمة هدى ، و دعاة حق ، دعوا الناس إلى دين الله ، و أرشدوهم إلى الحق ، و وقع هناك مسائل بينهم اختلفوا فيها ؛لخفاء الدليل على بعضهم فهم بين مجتهد مصيب له أجران ، وبين مجتهد أخطأ الحق ، فله أجر واحد ، فعليك أن تعرف لهم قدرهم ، وفضلهم ، وأن تترحم عليهم، وأن تعرف أنهم أئمة الإسلام ، ودعاة الهدى ، ولكن لا يحملك ذلك على التعصب ، والتقليد الأعمى ، فتقول : مذهب فلان أولى بالحق بكل حال ، أو مذهب فلان أولى بالحق بكل حال ؛ لأنه لا يخطئ ، لا هذا غلط .(/7)
عليك أن تأخذ بالحق ، وأن تتبع الحق إذا ظهر دليله ، ولو خالف فلاناً ، أو فلاناً ، وعليك ألا تتعصب ، وتقلد تقليداً أعمى ، بل تعرف للأئمة فضلهم ، وقدرهم ، ولكن مع ذلك تحتاط لنفسك ودينك ، فتأخذ بالحق ، وترضى به ، وترشد إليه إذا طلب منك ، وتخاف الله ، وتراقبه جل وعلا وتنصف من نفسك مع إيمانك بأن الحق واحد ، وأن المجتهدين إن أصابوا ، فلهم أجران ، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد –أعني : مجتهدي أهل السنة ، أهل العلم ، والإيمان ، والهدى- كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ' أ.هـ الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة ص/27-35.
الركن الثاني : الداعي إلى الله
الركن الثاني من أركان الدعوة هو : الداعي إلى الله ، والمراد به كل مسلم حمل أمانة الدعوة ، ودخل في قوله تعالى : [ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ 108 ] ] سورة يوسف .
والواجبات التي يجب توفرها في الداعي إلى الله هي :
1] العلم بما يدعو إليه :
الواجب الأول الذي يجب توفره في الداعي إلى الله : أن يكون عالماً بما يدعو إليه ، موقناً أن الذي يدعو إليه هو الإسلام . ولأن الإسلام دين متين يشمل جميع عمل الإنسان ، وعلاقاته بربه ، ثم بجميع المخلوقات ، والعالم من حوله ، والعلوم التي جاء بها الدين واسعة جداً ، فالغيب الذي أخبرنا الله به يبدأ من بدايات الخلق إلى نهاية الدنيا ، مروراً بكل الرسالات والنبوات، و وصولاً إلى أحوال المعاد ، و الجنة ، والنار… ثم إن الشريعة التي فرضها الله علينا تنتظم جميع أعمال المكلفين وتصرفاتهم على الأرض ، وحلاً لجميع مشكلاتهم ، وقضاءً لجميع أقضياتهم . ولأن هذا العلم من الاتساع ، والشمول ، والعمق مما لا يحيط به إلا الأفذاذ من الرجال ، ولا يجمعه إلا الفحول من العلماء ، ولا يفقهه حق الفقه إلا الأفراد من الراسخين في العلم ؛ كان لا بد للداعي إلى الله أن لا يهجم على أمر من أمور الدين إلا بعد العلم به ، ولا يفتي في مسألة إلا بعد فقه أبعادها ، ولا يدعو الناس إلا بعد العلم أن ما يدعو إليه هو ما أمر به الله ، ورسوله ، ولا ينهى عن شيء إلا بعد العلم أن ما ينهى عنه هو مما نهى الله ، ورسوله عنه.
ولا يجوز أن تجعل الأمور الاجتهادية، وما لا نص فيه في منزلة الأمور المنصوص عليها المقطوع بها.. ويجب على الداعي أن يضع كل أمر في نصابه، ودليل هذا كله قوله تعالى : [ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ 108 ] ] سورة يوسف . فالبصيرة : العلم، وكذلك قوله : [ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [ 125 ] ] سورة النحل.
فما لم يكن من سبيل الله لا يجوز الدعوة إليه ، وما لم يعلم أنه من سبيل الله لا يجوز أن يدعى إليه . والدعوة على جهل تؤدي إلى فساد الدين، فكثيرون دعوا على جهل؛ فضلوا، وأضلوا.
و سبيل العلم هو : المربي ، والكتاب ، والمنهج ، وقد سئل شيخنا عبدالعزيز بن باز حفظه الله عن الكتب التي يجب على الداعي إلى الله أن يتعلمها فقال:' أعظم كتاب ، وأشرف كتاب أنصح به هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، فأنصح كل داع إلى الله ، وكل آمر بالمعروف ، وناه عن المنكر ، ومعلم ، ومدرس، ومرشد ، ذكراً كان ، أو أنثى ، أن يعتني بكتاب الله ، ويتدبره ، ويكثر من قراءته، فهو أصل كل خير ، وهو المعلم ، وهو الهادي إلى الخير ، كما قال عز وجل: [ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [ 9 ] ] سورة الإسراء . وهو يهدي بهداية الله إلى الطريق الأقوم ، إلى سبيل الرشاد ، فالواجب على الدعاة ، والآمرين بالمعروف ، والمعلمين ، أن يجتهدوا في قراءته ، وتدبر معانيه ؛ فإنهم بذلك يستفيدون الفائدة العظيمة ، ويتأهلون بذلك للدعوة ، والتعليم بتوفيق الله عز وجل.
ثم أنصح بالسنة ، وما جاء فيها من العلم والهدى ، وأن يراجع الداعي إلى الله ، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، والمدرس ذكوراً ، وإناثاً كتب الحديث ، وما ألفه الناس من هذا ، حتى يستفيد من ذلك ، وأهم كتب الحديث وأصحها : صحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، فليكثر من مراجعتهما، والاستفادة منهما، ومن بقية كتب الحديث كالسنن الأربع، ومسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك، وسنن الدارمي ، وغيرها من كتب الحديث المعروفة كما أوصي بمراجعة كتب أهل العلم المفيدة، مثل : المنتقى للمجد ابن تيمية، ورياض الصالحين، وبلوغ المرام، وعمدة الحديث، وجامع العلم ، وفضله لابن عبدالبر، وجامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب، وزاد المعاد في هدي خير العباد للعلامة ابن القيم، وأعلام الموقعين، وطريق الهجرتين، والطرق الحكمية كلها له أيضاً..(/8)
وكذلك ما كتبه أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعية، والحسبة في الفتاوى، ومنهاج السنة، فهو من الأئمة العظماء الذين جربوا هذا الأمر، وبرزوا فيه، ونفع الله به الأمة ونصر به الحق، وأذل به البدع وأهلها فجزاه الله وإخوانه العلماء عن صبرهم ، وجهادهم أفضل ما جزي به المحسنين إنه جواد كريم ، فأنا أنصح كل مسلم، وكل معلم، وكل مرشد أن يعتني بهذه الكتب المفيدة بعد العناية بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم '.
2] العمل بما يدعو إليه:
الواجب الثاني الذي يجب للداعي : أن يكون عاملاً بما يدعو الناس إليه، فإذا دعا غيره إلى خير كان أسبق الناس إليه، وإذا نهاهم عن شر كان أبعد الناس منه، ودليل هذا قوله تعالى : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [ 2 ] كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [ 3 ] ] سورة الصف . وقوله تعالى : [ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [ 44 ] ] سورة البقرة . وقوله تعالى عن شعيب : [ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [ 88 ] ] سورة هود .
وفي الحديث الصحيح : [ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ ،فَيَقُولُونَ : أَيْ فُلَانُ : مَا شَأْنُكَ ، أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَر، ِ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ] رواه البخاري ، و مسلم ، و أحمد .
قال شيخنا عبدالعزيز بن باز حفظه الله : ' ومن الأخلاق ، والأوصاف التي ينبغي، بل يجب أن يكون عليها الداعية : العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس ممن يدعو إلى شيء ،ثم يتركه، أو ينهى عن شيء ، ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك، أما المؤمنون الرابحون ، فهم دعاة الحق يعملون به ، وينشطون فيه ، ويسارعون إليه ، ويبتعدون عما ينهون عنه قال الله جل وعلا : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [ 2 ] كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [ 3 ] ] سورة الصف .هذه الآية العظيمة تبين لنا أن الداعي إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضاً، ولهذا قال بعده : [ وَعَمِلَ صَالِحًا [ 33 ] ] سورة فصلت . فهو داعية إلى الله باللسان، وداعية بالعمل ولا أحسن قولاً من هذا الصنف من الناس: هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة، و هم يوجهون الناس بالأقوال والأعمال، فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم ، وأعمالهم ، وسيرتهم.
وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال، والسيرة... وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولا سيماً العامة ، وأرباب العلوم القاصرة ، فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها، فالداعي إلى الله عز وجل من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة، وذا عمل صالح، وذا خلق فاضل حتى يقتدي بفعاله وأقواله ' من أقوال الشيخ بن باز ص/65-66.
3] احتساب أجر الدعوة إلى الله :
يجب على الداعي إلى الله أن يكون محتسباً لا يطلب على دعوته أجراً . قال تعالى : [ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ 86 ] ] سورة ص . وحتى لا يتهم في دعوته، وأنه لم يدع إلا للدنيا، ولذلك أمر الله جميع رسله أن يقولوا : [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [ 109 ] ] سورة الشعراء .
وأتباع الرسل ، والأنبياء يجب أن يأتسوا بهم في دعوتهم إلى الله ، فتكون دعوتهم إلى الله من أجل دينه، واحتساباً لله ؛ وبهذا تجد دعوتهم القبول، وتنتفي عنهم الظنة، ويكونون بعيدين عن الشبهة.
قال شيخنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز حفظه الله : ' أما أخلاق الدعاة، وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها، فقد أوضحها الله جل وعلا في آيات كثيرة في أماكن متعددة من كتابه الكريم، منها:(/9)
الإخلاص : فيجب على الداعية أن يكون مخلصاً لله عز وجل، لا يريد رياء ? ولا سمعة،[ ولا ثناء الناس ولا حمدهم، إنما يدعو إلى الله يريد وجهه عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى : [ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ [ 108 ] ] سورة يوسف … وقال عز وجل : [ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ [ 33 ] ] سورة فصلت . فعليك أن تخلص لله عز وجل، هذا أهم الأخلاق، هذا أعظم الصفات : أن تكون في دعوتك تريد وجه الله والدار الآخرة ' الدعوة وأخلاق الدعاة ?/36-37]
ولاشك أن إخلاص الداعية لله في دعوته ، هو من سر النجاح فيها، ووضع القبول له في الأرض، قال الإمام الذهبي رحمه الله : ' كان السلف يطلبون العلم لله ؛ فنبلوا ، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولاً : لا ، لله ، وحصلوه، ثم استفاقوا ، وحاسبوا أنفسهم ، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد ، وغيره : طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد، وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله. فهذا أيضاً حسن، ثم نشروه بنية صالحة .
وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا وليثنى عليهم، فلهم ما نووا ، قال عليه السلام : [ مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا، فَلَهُ مَا نَوَى ] رواه أحمد ، والنسائي ، والحاكم ، وصححه الألباني في صحيح الجامع 6401.
وترى هذا الضرب :لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى ... وقوم نالوا العلم ، وولوا به المناصب، فظلموا، وتركوا التقيد بالعلم ، وركبوا الكبائر والفواحش، فتباً لهم، فما هؤلاء بعلماء! ... وبعضهم لم يتق الله في علمه بل رَكِبَ الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار... وبعضهم اجترأ على الله، ووضع الأحاديث فهتكه الله، وذهب علمه، وصار زاده إلى النار.
وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيراً، وتضلعوا منه في الجملة، فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر، ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير، أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يدر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم، فصاروا همجاً رعاعاً، غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنة يخزنها، وينظر فيها يوماً ما، فيصحف ما يورده ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو' سير أعلام النبلاء 7/152-153.
قال عبدالله بن المبارك: ' قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا، قال : لأنهم تكلموا لعز الإسلام ، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق ' صفوة الصفوة 4/122.
4] الصبر على الأذى:
لا بد للداعي إلى الله من التحلي بالصبر ؛ لأنه لا بد وأن يؤذى في دعوته ، فكل الرسل قد عودوا، وقد قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم : [ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ] رواه البخاري ، و مسلم ، و الترمذي ، و أحمد .
قال تعالى : [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [ 31 ] ] سورة الفرقان . وقال صلى الله عليه وسلم : [ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً : الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ ] رواه الترمذي ، و ابن ماجه ، و الدارمي ، و أحمد ، و ابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني في صحيح الجامع 993.
ومن أجل ذلك قرن الله الصبر مع التواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال تعالى : [ وَالْعَصْرِ [ 1 ] إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [ 2 ] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [ 3 ] ] سورة العصر . وقال تعالى عن لقمان وهو يعظ ابنه : [ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [ 17 ] ] سورة لقمان .
والرسل أوذوا من الكفار المعلنين للكفر، ومن أهل النفاق ومن أهل الجهل، والحمق كذلك ممن يظهر الدين … وقد أوذي سيد البشر، وخاتم الرسل ، وإمام المتقين، سيدنا ، ونبينا محمد صلىالله عليه وسلم من المشركين ، واليهود ، والنصارى ، كما لقي أيضاً من المنافقين أذى كبيراً ؛ فقد كان منهم من قال في حقه : [ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [ 8 ] ] سورة المنافقون .
وكان منهم من سب زوجته، وآذاه في أهله ومنهم من قال : [ هُوَ أُذُنٌ [ 61 ] ] سورة التوبة ... ومنهم من تآمر على قتله... الخ.(/10)
كما أوذي صلى الله عليه وسلم من بعض الجهال الحمقى ، من أمثال من قال له : [ اعدل يا محمد ، فوالله هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ] رواه البخاري ، و مسلم ، و أحمد .
وكذلك أوذي خيار أصحابه من بعده، وما زال الصديق ، والفاروق يسبان أشد السب إلى يومنا هذا... فالداعي إلى الله لا بد ، وأن يؤذى، ويبتلى ، فإذا كان الداعي إلى الله من أهل الصبر استمر في دعوته، وإن كان من أهل الجزع ، والضعف ، والخور ؛ ترك الدعوة إلى الله .وإن كان من أهل الحمق ، والجهل ؛ ربما اعتدى على من يدعوهم، وانتصر لنفسه فأفسد دعوته، وأبطل جهاده في سبيل الله.
5] الحرص على هداية من يدعوه :
الواجب الخامس الذي يجب توفره في الداعي إلى الله : أن يكون حريصاً على هداية من يدعوه ؛ فإذا كان من يدعوه كافراً ، كان حريصاً على إيمانه ، ساعياً في ذلك بكل سبيل، وقد كان سيد الدعاة ، والمهتدين _ وهو نبينا صلى الله عليه وسلم _ ليحزن أشد الحزن حتى ، يكاد يقتله الغم أسفاً على نفور الناس من دعوته… قال تعالى معزياً ، ومعاتباً له : [ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [ 6 ] ] سورة الكهف .
وقد وصفه تعالى بالحرص على هداية الناس ، قال تعالى [لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [ 128 ] ] سورة التوبة. وقال تعالى : [ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ [ 37 ] ] سورة النحل .
والداعي إذا كان حريصاً على هداية من يدعوه ؛ سعى إلى ذلك بكل سبيل ، ولم يدخر وسعاً في إيصال الحق له ، واستخدم معه كل وسيلة ناجعة، وأزال كل عقبة تصده عن الحق . وأما إذا اتصف بضد ذلك ؛ أهمل في دعوة من يدعوه، ولم يكترث لهدايته ، أو ضلاله.
وإذا كان من تدعوه مسلماً ، وكنت حريصاً على أن يهتدي للحق الذي تدعوه إليه، وللمعروف الذي تأمره به؛ حملك هذا على إخلاص النية، وبذل قصارى الجهد، والفرح بهداية من تدعوه، والحزن إذا لم يستجب لك.
6] اتخاذ الحكمة منهجاً وسبيلاً :
أمر الله سبحانه وتعالى أن تكون الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالحسنى، قال تعالى : [ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [ 125 ] ] سورة النحل .
قال في لسان العرب: ' الحكمة : هي العدل، ورجل حكيم: عدل حكيم، وأحكم الأمر : أتقنه، ويقال للرجل إذا كان حكيماً : قد أحكمته التجارب. والحكيم المتقن للأمور ... وأصله من المنع ، ومنه قوله الشاعر :
أبني حنيفة أَحكموا سفهاءكم أني أخاف عليكم أن أغضبا !
أي ردوهم وكفوهم . ومنه حَكَمَةُ اللجام : ما أحاط بحنكي الدابة ، وسميت حكمة لأنها تمنعها من الجري الشديد ... والحكمة : مانعة لصاحبها من الوقوع في الخطأ '.
معنى الحكمة في الشرع :
قال الإمام ابن جرير رحمه الله : ' القول في تأويل قوله تعالى : [ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [ 125 ] ] سورة النحل .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: [ ادْعُ ] يا محمد من أرسلك إليه ربك بالدعاء إلى طاعته[ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ ] يقول: إلى شريعة ربك التي شرعها لخلقه ، وهو الإسلام [ بِالْحِكْمَةِ ] يقول : بوحي الله الذي يوحيه إليك، وكتابه الذي نزله عليك [ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ] يقول: وبالعبر الجميلة التي جعلها الله حجة عليهم في كتابه، وذكرهم بها في تنزيله، كالتي عدد عليهم في هذه السورة من حججه، وذكرهم فيها ما ذكرهم من آلائه [ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ] يقول : وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها ، أن تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربك '.(/11)
وقال الإمام برهان الدين البقاعي في نظم الدرر:' [ ادْعُ ] أي كل من يمكن دعوته[ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ ] أي: المحسن إليك، بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه، وهو الإسلام الذي هو الملة الحنفية . [بِالْحِكْمَةِ ] وهي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن، والقبح، والصلاح، والفساد . وقيل لها حكمة ؛ لأنها بمنزلة المانع من الفساد، وما لا ينبغي أن يختار، فالحكيم : هو العالم بما يمنع من الفساد، قال الرماني، وهي في الحقيقة الحق الصريح، فمن كان أهلاً له دعا به [ وَالْمَوْعِظَةِ ] بضرب الأمثال والوعد والوعيد مع خلط الرغبة بالرهبة ، والإنذار بالبشارة. [ الْحَسَنَةِ ] أي التي يسهل على كل فهم ظاهرها، ويروق كل نحرير ما ضمنته سرائرها، مع اللين في مقصودها، وتأديتها هذا لمن لا يحتمل إلا ذلك[ وَجَادِلْهُم ] أي : الذين يحتملون ذلك منهم افْتِلهم عن مذاهبهم الباطلة إلى مذهبك الحق بطريق الحجاج[ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ] من الطرق بالترفق واللين والوقار، والسكينة، ولا تعرض عنهم، ولا تجازهم بسيء مقالهم، وقبيح فعالهم صفحاً عنهم ورفقاً بهم، فهو بيان لأصناف الدعوة بحسب عقول المدعوين ؛ لأن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بأن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم' .
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره في بيان معنى الحكمة : ' [ بِالْحِكْمَةِ ] أي: كل أحد على حسب حاله وفهمه، وقبوله وانقياده، ومن الحكمة: الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبدأة بالأهم ، فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة ؛ وإلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة_ وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب _ :
إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها، والنواهي من المضار وتعدادها ...
وإما بذكر إكرام من قام بدين الله، وإهانة من لم يقم به ...
وإما بذكر ما أعد الله للطائعين، من الثواب العاجل و الآجل، وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل .
فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق، أو كان داعية إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلاً ونقلاً، و من ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام ، أو مشاتمة ؛ تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها '. تفسير السعدي 3/92-93.
وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله : ' و من الحكمة : إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها المدعو ، وبلغته التي يفهمها حتى لا تبقى عنده شبهة ، وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، أو بسبب تعارض بعض الأدلة، وعدم بيان المرجح، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة ؛ وعظ ، وذكر بالآيات الزواجر، والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب، حتى ينتبه المدعو، ويرق قلبه، وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج فيه المدعو إلى موعظة وترغيب وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعداً لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق، وتكفيه الحكمة، وقد يكون عنده بعض التمنع، وبعض الإعراض فيحتاج إلى وعظ و إلى توجيه و إلى ذكر آيات الزجر ' من أقوال الشيخ ابن باز في الدعوة ص/64.
ومما سبق يتبين أن الحكمة تأتي لمعان كثيرة :
1] ما تضمنه كتاب الله سبحانه وتعالى من الدعوة إلى الإيمان بالله ، وعبادته ، والتزام صراطه المستقيم، ودينه القويم ، فالآخذ بهذا قد أحكم أمره، وعرف طريقه، وبهذا فسر ابن جرير الطبري معنى : [ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [ 125 ] ] سورة النحل . أي : ما تضمنه هذا القرآن الكريم.
2] سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد جاءت الحكمة معطوفة على الكتاب كثيراً في القرآن كما قال تعالى: [ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [ 164 ] ] سورة آل عمران.
فالحكمة هنا : هي بيان القرآن الكريم ، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
3] الحكمة يعنى : وضع الأمور في نصابها، والوصول إلى الأهداف المطلوبة بأيسر الطرق ، وأحسنها كما أمر الله باللين في الدعوة مع الجبابرة : [ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [ 44 ] ]سورة طه . وبالشدة في مواطنها ، كما قال تعالى : [ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ 9 ] ] سورة التحريم ... وبالعفو ، واللين في مواطنه : [ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [ 159 ] ] سورة آل عمران.(/12)
والخلاصة : أن الحكمة : وصف جامع للعلم النافع الذي يمكن صاحبه من وضع كل أمر في نصابه، مما ييسر له الوصول إلى أفضل النتائج بأيسر السبل .
الركن الثالث : المدعو
1] عالمية الرسالة: رسالة الإسلام رسالة للعالمين قال تعالى : [ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ 158 ] ] سورة الأعراف ... وقال تعالى : [ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [ 19 ] ] سورة الأنعام ... وقال تعالى : [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [ 28 ] ] سورة سبأ ... وقال تعالى : [ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [ 1 ] ] سورة الفرقان …
عالمية الرسالة: رسالة الإسلام رسالة للعالمين قال تعالى : [ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ 158 ] ] سورة الأعراف ... وقال تعالى : [ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [ 19 ] ] سورة الأنعام ... وقال تعالى : [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [ 28 ] ] سورة سبأ ... وقال تعالى : [ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [ 1 ] ] سورة الفرقان …
ومن أجل ذلك فالبشر جميعاً مدعوون إلى هذا الدين، والناس جميعاً هم أمة الدعوة الذين أرسل إليهم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .
2] أقسام الناس حيال رسالة الإسلام :
جاء الإسلام بنسخ جميع الشرائع السماوية التي قبله، و وجوب دخول اليهود ، والنصارى في شريعة الله المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم، واتباعه في القليل والكثير .
وقد انقسم الناس بعد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قسمين :
قسم آمن به واتبع ما جاء به من الهدى والنور... وقسم كفر بالإسلام ، وجحد ما أنزل الله على رسوله... وهذا القسم الأخير افترقوا فريقين :كفار معلنين لكفرهم ... وكفار تظاهروا بالإسلام، وأضمروا الكفر، وقد سماهم القرآن بالمنافقين .
و قد أنزل الله سبحانه وتعالى الأحكام التي يجب اتباعها مع كل قسم من هذه الأقسام ، و رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم السياسة الشرعية الواجبة في دعوة هذه الأقسام إلى الله ، وكيفية التعامل مع كل قسم منهم.
وهذه هي الأصول العامة ، والسياسة الشرعية في الدعوة ، و المعاملة مع هذه الأقسام :
أولاً: الأصول الشرعية في دعوة الكفار الأصليين للإسلام :
من الكفار الأصليين : من بلغته دعوة الإسلام على الوجه الصحيح، ومنهم بلغته دعوة الإسلام بصورة مشوهة، ومنهم من لم تبلغه دعوة الإسلام .
و من الكفار الأصليين : أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، و الوثنيون ، والمجوس ، وغيرهم من أتباع هذه الملل الكثيرة ، ومنهم من لا ينتمي لدين أصلاً.
والأصول التي يجب اتباعها مع هؤلاء جميعاً هي :
1] إبلاغ دعوة الإسلام على وجهها الصحيح بلاغاً يقطع العذر :
الأصل الأول في دعوة المسلمين إلى الإسلام : أن يبلغوا هذه الدعوة على وجهها الصحيح بلاغاً يقطع العذر كما جاءت في كتاب الله ، و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولا تقوم الحجة عليهم إلا بهذا … قال تعالى : [ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [ 67 ] ] سورة المائدة … و قال تعالى : [ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [ 54 ] ] سورة النور. ولا يكون البلاغ مبيناً قاطعاً للعذر إلا إذا فهموه بلغتهم ، أو تمكنوا من العربية تمكناً يجعلهم يفهمون معانيها ، كما قال تعالى: [ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [ 4 ] ] سورة إبراهيم .
فالواجب على أمة الإسلام الذين أخرجهم الله للناس أن يبلغوهم دين الله باللسان الذي يفهمونه ، ثم يعلموهم العربية ؛ ليفهموا عن الله ، ورسوله ، قال شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله : ' أما بالنسبة إلى ولاة الأمور، و من لهم القدرة الواسعة، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة ، وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية ، وبغيرها' الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة ص/17.
ب] إبطال شبهات الكفار، ودفع باطلهم:
ويجب أن تدحض كل حجج الكفار ، وشبهاتهم حول دينهم الباطل . وكل دين غير الإسلام ، فباطل كما قال تعالى : [ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [ 18 ] ] سورة الأنبياء . وقال تعالى: [ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [ 149 ] ] سورة الأنعام . و قال تعالى: [ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [ 33 ] ] سورة الفرقان .(/13)
ومن أجل ذلك ؛ أبطل الله في القرآن كل ما احتج به الكفار على اختلاف عقائدهم في احتجاجهم لدينهم الباطل، فقد رد الله على اليهود مزاعمهم، وعلى النصارى ضلالهم ، وشبههم، وعلى مشركي العرب في جميع ما عارضوا به الإسلام، وعلى ما احتجوا به على ما هم عليه من الشرك والضلال .
2] لا يبدأ مع الكافر الأصلي إلا بالتوحيد، ثم الأهم، فالأهم:
يجب البدء مع الكافر الأصلي الذي لم يدخل الإسلام بالتوحيد ؛ لأنه أساس الدين، وجميع الأحكام ترجع إليه، ولا يصح العمل الصالح إلا به ؛ ولذلك كان كل رسول أول ما يدعو قومه يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ؛ إذ هو الفارق بين المسلم ، والكافر . وجميع أعمال الدين ترجع إلى التوحيد، وتبنى عليه ؛ فلا يصح عمل صالح للعبد إلا بتحقيق التوحيد لله، وجميع الأعمال الصالحة تكون باطلة إذا لم يكن فاعلها موحداً لله سبحانه وتعالى ؛ كما قال جل وعلا في عمل المشركين والكفار : [ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [ 39 ] ] سورة النور . وقال تعالى : [ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ [ 18 ] ] سورة إبراهيم . وقال تعالى : [ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ 65 ] ] سورة الزمر .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل عندما أرسله داعياً إلى أهل اليمن أن يبدأ بالتوحيد ، ثم بالصلاة ، ثم بالزكاة ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : [ إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ ، فَإِذَا صَلَّوْا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ : تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ ، فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ ،فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ ، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ ] رواه البخاري ، و مسلم ، و أبو داود ، و الترمذي ، و النسائي ، و ابن ماجه ، و الدارمي ، و أحمد .
قال ابن حجر في الفتح : ' بدأ بالشهادتين ؛ لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء إلا بهما ، فمن كان غير موحد ، فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين ، ومن كان موحداً فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار ، والوحدانية '... وقال : ' يبدأ بالأهم ، فالأهم ، وذلك من التلطف في الخطاب ؛ لأنه لو طالبهم بالجميع لأول مرة ؛ لم يأمن النفرة ' الفتح 3/357.
3] عرض الدعوة على الكفار باللين ، والحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالحسنى :
في مقام عرض دعوة الإسلام على الكفار، وإن كانوا من المجرمين العتاة، والجبابرة الطغاة يجب اتخاذ اللين ، والحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالحسنى سبيلاً إلى عرض الدعوة، والدليل على هذا وصية الله لموسى ، و هارون أن يعرضا الدعوة على فرعون باللين ، قال تعالى : [ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [ 43 ] فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [ 44 ] ] سورة طه .
فمع طغيانه ، وقتله لذكور بني إسرائيل ، و استحيائه لنساءهم، وسومهم رسولهم سوء العذاب إلا أن الله أمر الرسول عليه السلام أن يكون ليناً في عرض الدعوة عليه، ولعل اللين أن ينفعه ؛ فيتذكر ويخشى.
وقال تعالى أيضاً : [ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ 125 ] ] سورة النحل … وقال تعالى : [ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [ 46 ] ] سورة العنكبوت .
4] وجوب رد إساءتهم ، وعدم السكوت على طعنهم في الدين :
لا يجوز للداعي إلى الله ؛ الذي يعرض دعوته باللين والحكمة على الكفار أن يأخذ جانب اللين مع الذين يردون رداً سيئاً ، ويطعنون في الدين الحق، ويسبون رسول الله، أو يعيبون شريعة الله، بل يجب الرد المناسب عليهم ، والانتصار منهم ؛ لقوله تعالى : [ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [ 46 ] ] سورة العنكبوت .(/14)
فالظالمون منهم ؛ يجب الرد بما يتناسب مع هجومهم ، وتهجمهم على الإسلام وطعنهم فيه ، قال تعالى : [ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ] سورة الشورى… و لذلك جاء في كثير من آيات القرآن الرد والزجر الشديد على المعاندين من الكفار : كبيان فضائحهم، وكشف مخازيهم ، و وصفهم بفقدان العقل والفهم، والاستهزاء بحالهم ومآلهم، وتحقير آلهتهم، وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة .
5] قبول الكافر أخاً في الإسلام مهما سلف منه في الكفر:
يجب أن يقبل الكافر أخاً في الدين إذا انتقل من الكفر إلى الإسلام، فلا يعير بدينه السابق، ولا بما كان عليه من الكفر والشرك، ولا يذكر بماضيه إلا أن يكون على وجه حمد الله وشكره وفضله عليه كما قال تعالى عن المشركين : [ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ] سورة التوبة .
أصول في دعوة المرتد :
المرتد : هو كل من رجع عن الإسلام بعد دخوله فيه ، وللمرتد أحكام خاصة في الدعوة، منها :
1] لا حكم بالردة إلا من عالم بالإسلام :
لا يجوز الحكم على مسلم بالردة إلا إذا أعلن بنفسه هو أنه راجع عن الإسلام ، أو أن يكون قوله ، أو فعله كفراً مخرجاً من الملة ، ولا يحكم عليه بالردة إلا عالم بالإسلام ؛ و ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: [ أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ ] رواه البخاري ، و مسلم ، و أبو داود ، و الترمذي ، و مالك ، و أحمد .
2] يجب التفريق بين مقالة الكفر ، و الكافر:
ليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً ؛ فربما وقع جهلاً ، أو تأولاً ؛ و لذلك يجب الرد على المخالف ، و إقامة الحجة ببيان المقالة الخاطئة، دون الحكم على قائلها حتى يتبين أنه قد اختار الكفر ، أو أقيمت عليه الحجة البالغة التي تقطع عذره .
أصول في دعوة المنافق :
المنافق: هو الذي يظهر الإسلام ، ويبطن الكفر، وهذه بعض الأصول الشرعية في دعوته للإسلام:
1] لا يحكم على شخص أنه منافق نفاقاً اعتقادياً إلا ببرهان لا يقبل النقض أنه يبطن الكفر،
ويظهر الإسلام كذباً.
2] المنافق يدعى إلى الإسلام، ويوعظ ، و يذكر بالله ، و يجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة ، و يغلظ عليه عند مخالفة الأمر الشرعي ، قال تعالى : [ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا [ 63 ] ] سورة النساء … و قال : [جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [ 73 ] ] سورة التوبة … قال ابن كثير : ' قال تعالى : [ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ] هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم ، وسيجزيهم على ذلك ؛ فإنه لا تخفى عليه خافية ، فاكتف به يا محمد فيهم ؛ فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم ؛ ولهذا قال له: [ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ] أي : لا تعنفهم على ما في قلوبهم [ وَعِظْهُمْ ] أي : واتهمهم عما في قلوبهم من النفاق ، وسرائر الشر [ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ] أي : و انصحهم فيما بينك ، وبينهم بكلام بليغ رادع لهم '.
ثانياً : الدعوة بين المسلمين :
للدعوة إلى الله بين المسلمين ميدانان هما :
أ] التربية والتعليم.
ب] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكل ميدان من هذين الميدانين أصوله وقواعده.
أ] قواعد في التربية على الإسلام وتعليمه:
التربية _ وهي : التزكية والتعليم _ هي مهمة النبي في المؤمنين ، قال تعالى : [ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [ 2 ] ] سورة الجمعة ... والتربية هي : تنشأة الإنسان ، وبناؤه.. قال رسول صلى الله عليه وسلم : [ مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ] رواه البخاري ، و مسلم .
وهذه أهم قواعد التربية ، والتزكية :
1] تصور النموذج المثالي للإنسان الكامل ، والعبد الصالح :(/15)
يجب أولاً : أن يتضح أمام المربي، والمعلم النموذج، والمثال الذي يجب أن يربى على غراره، وهذا النموذج قد جاء وصفه التفصيلي في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى منها : أول سورة المؤمنون... قال تعالى : [ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [ 1 ] الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [ 2 ] وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [ 3 ] وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [ 4 ] وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [ 5 ] إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [ 6 ] فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [ 7 ] وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [ 8 ] وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [ 9 ] ] سورة المؤمنون .
وفي غيرها من سور القرآن : كمطلع سورة البقرة، والآيات الأولى من سورة الأنفال، وسورة الحجرات بكمالها، والآيات من سورة الإسراء من قوله تعالى : [ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً [ 22 ] ] سورة الإسراء … إلى قوله : [ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا [ 39 ] ] سورة الإسراء .
ولا شك أن القرآن كله قد فصل صفات النموذج الطيب للمؤمن الصالح الذي يحبه الله، ويرضاه.
وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل، والنموذج، والقدوة، والأسوة الذي أمر المسلمون جميعاً بالتأسي به : [ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ 21 ] ] سورة الأحزاب . فهو النموذج الكامل للتأسي، وقد كان خلقه القرآن كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : [ كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ] رواه أبو داود ، والنسائي .
وكذلك صور القرآن النماذج السيئة من المجرمين، والكافرين، والمنافقين ، قال تعالى : [ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [ 55 ] ] سورة الأنعام .
2] التعليم الدائم :
يجب على الداعي إلى الله ، ومعلم الخير أن يعتمد لنفسه، ومن يعلمهم نظام التعليم الدائم من المهد إلى اللحد، والمسلم الحق هو من يزداد في دينه كل يوم علماً وعباده : [ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [ 114 ] ] سورة طه . وعلم الدين لا يحاط به، والقرآن لا يشبع منه العلماء، وفضل العلم خير من فضل العبادة .
3] أخذ العلم والعمل جميعاً :
يجب أخذ العلم والعمل جميعاً، وعدم إفراد العلم عن العمل ؛ لأن هذا مدعاة لأن يقول المسلم ما لا يفعل، وأن يصبح العلم حجة على صاحبه لا حجة له . وقد كان منهج الصحابة في التعلم أخذ العلم والعمل جميعاً ؛ فقد كان منهم من حفظ سورة البقرة في عدة سنوات ؛ ليحفظ السورة وليعلمها ؛ وليعمل بها كما قال الأعمش : [ كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات ؛ لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن ] فتأخذ العلم والعمل جميعاً، وهذا لمن جاوز مرحلة الصغر وسنوات الحفظ الذهبية.
4] اغتنام سني الحفظ الذهبية عند الصغير :
تعليم الصغار يجب أن يكون بالحفظ أولاً ؛ اغتناماً لسنوات الحفظ الذهبية ، وهي من الثالثة إلى العشرين تقريباً … وقد كان منهج التابعين، وتابعيهم : تحفيظ الصغير القرآن الكريم أولاً ، ثم السنة ، ثم متون العلوم المختلفة _ المتون : هي كليات العلوم ، وقضاياها الأساسية ، وكثيراً ما تكون نظماً _ . ثم في الكبر يعتني بعد ذلك بالفهم ، والتعلم ، والتفقه فيما يكون قد حفظه.
5] تعلم الحق قبل الباطل، والتحصن بجواب الشبهة قبل ورودها:
من قواعد التعليم: تعلم الحق قبل تعليم الباطل ؛ لأن السابق إلى الذهن يتمكن منه ويستقر فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم : [ مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ] رواه البخاري ، و مسلم .
والفطرة هي : التوحيد . قال تعالى : [ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ [ 30 ] ] سورة الروم .
فيجب تعليم الصغار كلمة التوحيد، وتنشئتهم على الفضيلة، والخلق الطيب قبل إطلاعهم على أنواع الشرك والكفر، ومعرفة الرذيلة...(/16)
ثم يجب تعلم جواب الشبهة قبل ورودها تحصناً منها ؛ كما كان الله سبحانه وتعالى يعلم المسلمين ما يقولونه جواباً لشبهات الكفار قبل أن يلقيها الكفار ، قال تعالى : [ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا [ 148 ] ] سورة الأنعام . فأخبرهم بقول المشركين سبحانه، قبل أن يقولوه ليعلمهم جوابه. وقال تعالى : [ سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [ 142 ] ] سورة البقرة . وهذا كثير في القرآن .
6] التربية بالأسوة :
يجب أن تكون الدعوة إلى الله بالأسوة الصالحة، قبل أن تكون بالتعلم ، والقدوة الحسنة أبلغ في الدعوة ؛ فالعالم العامل المربي يدعو بسيرته، وأخلاقه، وأعماله أكثر مما يدعو بأقواله ... والرسول المربي صلى الله عليه وسلم قد أثر في سلوك أصحابه بأخلاقه، وشمائله أعظم من تأثيره بأقواله ومواعظه .
7] الحلم بالتحلم :
هناك فارق كبير بين التعلم والتربية، فالتعليم يكون بنقل العلم بأي وسيلة من وسائل النقل، ولكن اكتساب الأخلاق لا يكون بمجرد معرفتها ، وتعلمها، بل بوجوب التعود عليها ، والتخلق بها كما قال صلى الله عليه وسلم : [ إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم ] رواه الدارقطني في الأفراد ، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2328 .
فلابد للمربي أن يهيئ من يربيهم على التعود على أخلاق الإسلام، ولا يكتفي بتلقينها، وتعليمها لهم.
8] التدرج في التعليم [تعليم صغار العلم قبل كباره]:
من القواعد الهامة في التربية والتعليم : أن يكون التعليم متدرجاً ، فيبدأ بصغار العلم قبل كباره ، وبسهله قبل صعبه ومشكله ، قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى : [ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [ 79 ] ] سورة آل عمران. قال : مربين تعلمون الناس بصغار العلم قبل كباره .
9] التقويم المستمر :
من قواعد التربية و التعليم : أن يكون التقويم مستمراً ، ولو كان في حال الكبر ، فكل من وقع منه خطأ ، أو ارتكب منكراً يجب تقويمه بالتقويم المناسب ؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم _ وهو سيد المعلمين ، والمربين _ لأبي ذر رضي الله عنه : [ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ] قُلْتُ : عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ ، قَالَ : [ نَعَمْ ] رواه البخاري ، و مسلم .
ووعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل _ مع حبه له _ موعظة غضب فيها الرسول
صلى الله عليه وسلم قائلاً له : [ يَا مُعَاذُ : أَفَتَّانٌ أَنْتَ ! ] رواه البخاري ، و مسلم .
وكل هذا يدل على أن الكبير في الفضل ، أو السن يجب تنبيهه إذا خالف شيئاً من الحق ، وكذلك غضب صلى الله عليه وسلم على عمر عندما خاصم الصديق ، وقال : [ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ ] رواه البخاري .
10] تعليم الناس ما ينفعهم ، ويحتاجون إليه:
قال العلامة عبدالرحمن بن حسن رحمه الله : ' وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله – يعني : الإمام محمد بن عبدالوهاب- لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم، ومعاملاتهم مما لا غنى لهم عن معرفته ' [فتح المجيد ص/414] .
وإذا سأل العامي عن أمور لا يحتاج إليها ، فإنه ينبغي للمعلم أن يفتح له باباً إلى ما يهمه ، قال الإمام محمد بن عبدالوهاب : ' وينبغي للعالم إذا سأله العامي عما يحتاج إليه ، أو سأله عما غيره أهم منه، أن يفتح له باباً إلى المهم، ولا يحقر عن التعليم من يظنه أبعد الناس عنه، ولا يستبعد فضل الله عليه ' [مؤلفات الشيخ: القسم الرابع-التفسير. سورة يوسف ص/147-148] .
11] تعليم الناس على قدر أفهامهم :
وينبغي للعالم أن يخاطب الناس كلاً على قدر فهمه... قال الإمام محمد بن عبدالوهاب : ' فينبغي للمعلم أن يعلم أن الإنسان على قدر فهمه، وإن كان ممن يقرأ القرآن، أو عرف أنه ذكي ، فيعلم أصل الدين، وأدلته، والشرك، وأدلته، ويقرأ عليه القرآن، ويجتهد أن يفهم القرآن فهم قلب، وإن كان رجلاً متوسطاً ذكر له بعض هذا، وإن كان مثل غالب الناس، ضعيف الفهم، فيصرح له بحق الله على العبيد، مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على المسلم، وحق الأرحام، وحق الوالدين، وأعظم من ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم ' [الدرر السنية 1/98-99] .
12] عدم تضييع الزمان في إبطال الشبه الواضحة البطلان :
قال الإمام محمد بن عبدالوهاب : 'إن الشبهة إذا كانت واضحة البطلان لا عذر لصاحبها ، فإن - معه في إبطالها تضييع للزمان، وإتعاب للحيوان مع أن ذلك لا يردعه عن بدعته... وكان السلف لا يخوضون مع أهل الباطل في رد باطلهم عنهم ' [مؤلفات الشيخ القسم الرابع-التفسير ص/92].(/17)
أما إذا كانت الشبهة قد أشكلت على المتعلم، أو الناس، واحتاجوا إلى إبطالها ، وجب حينئذ على أهل العلم ردها، وتفنيدها، وإبطالها بالحجج الدامغة لئلا تستقر في صدورهم، فتورث الشك ، والإضطراب، أو الحيرة والارتياب.
ب] الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر :
الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هو الميدان الثاني من ميادين الدعوة إلى الله، وهو من فروض الكفايات على الأمة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ' الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن '.
ولكنه واجب عيني على أولى الأمر من المسلمين _ وهم الأمراء العلماء _ كما قال شيخ الإسلام أيضاً: ' ويجب على كل أولي الأمر، وهم علماء كل طائفة، ومشايخها أن يقوموا على عامتهم، ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكر' [رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص/40-41].
والمعروف: هو كل ما يحبه الله، ويرضاه، ويأمر به.
والمنكر: يعم كل ما كرهه الله، ونهى عنه.
وهذه أهم قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1] لا تأمر بمعروف ، ولا تنه عن منكر إلا بعد العلم بما تأمر به ، وتنهى عنه :
لا يجوز لمن يأمر بالمعروف أن يقدم على ذلك إلا إذا علم أن ما يأمر به هو من المعروف حقاً، ولا ينهى عن منكر إلا إذا علم أن ما ينهى عنه هو من المنكر ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ' والله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر : والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلم المعروف؛ لا يمكنه الأمر به... والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته، فمن لم يعلمه؛ لا يمكنه النهي عنه ' [التفسير الكبير 5/304].
وقال النووي رحمه الله : ' ثم أنه إنما يأمر ، وينهى : من كان عالماً بما يأمر به، وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة، والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا، الخمر ونحوها، فكل المسلمين علماء بها . وإن كان من دقائق الأفعال، والأقوال، ومما يتعلق بالاجتهاد؛ لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء '.
ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه، فلا إنكار فيه؛ لأن على أحد المذهبين : كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين، أو أكثرهم.
وعلى المذهب الآخر : المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه -على جهة النصيحة- إلى الخروج من الخلاف، فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو وقوع في خلاف آخر.
وذكر القاضي أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي في كتابه ' الأحكام السلطانية ' : خلافاً بين العلماء في أن من قلده السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد، أم لا يغير ما كان على مذهب غيره ، والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه .
ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة، والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين ... ولا ينكر محتسب، ولا غيره، وكذلك قالوا : ليس للمفتي، ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً، أو إجماعاً أو قياساً جلياً . والله أعلم .
2] اتخاذ إحدى مراتب الإنكار اتباعاً للحكمة ، والقدرة :
و ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : [ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ] رواه مسلم .
فالإنكار باليد أعلى درجات الإنكار وهو [لأولي الأيدي والأبصار] : أهل القوة، والتمكن ، والقدرة ، فمن لم يستطع لسبب، أو آخر ؛ تحول إلى الإنكار باللسان، ذماً للمنكر وأهله، وبياناً لفساده، وتحذيراً منه، فإن لم يستطع تحول إلى الإنكار بقلبه بغضاً للمنكر، وأهله، ومفارقة لمجالسهم كما قال تعالى : [ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ] سورة الأنعام .
ولا يختص الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل هو ثابت لآحاد المسلمين وعليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول، والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف، وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم، وهذا إجماع من الأمة على ذلك، وأدلة القرآن والسنة شاهدة بذلك ...' .
3] وجوب اتباع المصالح الشرعية في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر :(/18)
ومما يجب على الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر أن يعلم المصالح، والمفاسد الشرعية التي تترتب على أمره، ونهيه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ' وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد.
فإن الأمر والنهي – وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة، ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون حراماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته. لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد، هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، ولن تعوز النصوص من يكون خبيراً بدلالاتها على الأحكام.
ومن هذا الباب ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن أبي سلول، وأمثاله من أئمة النفاق والفجور؛ لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه؛ مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به، واعتذر عنه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه، حمي له سعد بن عبادة، مع حسن إيمانه وصدقه - وتعصب لكلٍ منهم قبيلته حتى كادت تكون فتنة ' [ قاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص/47- 48 ] .
4] وجوب إخلاص النية ، والبعد عن الهوى :
يجب على من يتصدى للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أن يكون عمله لله خالصاً، وأن يكون صواباً، وألا يتبع هواه، ويأمر أو ينهى لحظ نفسه، وذلك أن الضلال في الدين عظيم، ومن فقد الإخلاص، ولم يتحر الصواب؛ أوقعه الشيطان في الهوى، ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية : ' واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات '
فإن أهل الكتاب اتبعوا أهواءهم ? فضلوا ? قال تعالى عنهم : [ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ 50 ] ] سورة القصص . ولذلك نهى نبينا أن يتبع أهواء أهل الكتاب، قال تعالى : [ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [ 120 ] ] سورة البقرة .
فاتباع الهوى هو الذي أفسد الديانات السابقة، و أوجد الفرقة بين أهل الدين الواحد، وهو الذي خرج به من خرج عن موجب الكتاب، والسنة، وسماهم علماء الإسلام : أهل الأهواء .
فيجب على الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر : أن يكون باعثه إخلاص النية، وعمله على الكتاب، والسنة، و أن يجانب الهوى . وإتباع الهوى : هو أن يحب، ويبغض بدافع من هواه لا إتباعاً للأمر، والنهي.
5] الرفق سبيل الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر :
يجب أن يكون الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر رفيقاً ،كما قال صلى الله عليه وسلم : [ إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ ] رواه مسلم .
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : [ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ ] رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد.
ولهذا قيل : [ ليكن أمرك بالمعروف معروفاً ونهيك عن المنكر غير منكر ] . هذا وينظر كذلك إلى الفصل الخاص بالصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعي في دعوته إلى الله .
وسائل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى
1] معنى الوسيلة :
الوسيلة في أصل اللغة : هي المنزلة عند الملك، والدرجة والقربة، وقال الجوهري: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوسل، والوسائل . [لسان العرب].
وتطلق في العرف والاستعمال الشائع على : كل ما يتخذ وصولاً إلى غاية .
والمقصود بالوسيلة هنا : كل أمر، وطريقة مشروعة، وأسلوب، وآلة يمكن اتخاذه وصولاً إلى نشر الدين، وتبليغه، وتعليمه، والدعوة إلى الإسلام .
2] حكم الوسيلة في الدعوة إلى الله :
كل وسيلة أمر بها الله سبحانه وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو وفق الله إليها المسلمون في أي عصر من عصورهم … فهي وسيلة مشروعة ما لم يأت في الشرع ما يحرمها، فالأصل في هذه الوسائل الإباحة، وقد تجب الوسيلة إذا كانت مما لا يقوم الواجب إلا به؛ كما هو مقرر في أصول الفقه : [ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب] .(/19)
فإذا وجب قتال الكفار، و دفعهم، ولم يمكن ذلك إلا بسلاح يمكن المسلمين من دفعهم وجب تحصيل هذا السلاح واستعماله . وهكذا الأمر في رد الشبهات، وإنكار المنكرات، و إبلاغ دين الله إلى العالمين، فكل وسيلة لم يأت الشرع بتحريمها بعينها، فهي مشروعة من أجل القيام بهذه الواجبات .
قال شيخنا عبدالعزيز بن باز حفظه الله : ' ونظراً إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة، و إلى الإلحاد، وإنكار رب العباد، وإنكار الرسالات، وإنكار الآخرة، وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان، وغير ذلك من الدعوات المضللة، نظراً إلى هذا ؛ فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضاً عاماً ،و واجباً على جميع العلماء، وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام .
فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة، والإمكان : بالكتابة، والخطابة، والإذاعة، وبكل وسيلة استطاعوا، وأن لا يتقاعسوا عن ذلك، أو يتكلوا على زيد، أو عمرو ؛ فإن الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون، والاشتراك، والتكاتف في هذا الأمر العظيم أكثر مما كان قبل ذلك ؛ لأن أعداء الله قد تكاتفوا ، وتعاونوا بكل وسيلة للصد عن سبيل الله عز وجل، فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط المضل، وهذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي، وبدعوة إسلامية على شتى المستويات، وبجميع الوسائل، وبجميع الطرق الممكنة، وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من الدعوة إلى سبيله ' [الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة ص/18].
ويقول شيخنا محمد الصالح العثيمين : ' ليس للوسائل حد شرعي، فكل ما أدى إلى المقصود، فهو مقصود، ما لم يكن منهياً عنه بعينه، فإن كان منهياً عنه بعينه، فلا نقر به، فلو قال: أنا أريد أن أدعو شخصاً بالغناء، والموسيقا؛ لأنه يطرب لها، ويستأنس بها وربما يكون هذا جذباً له، فأدعوه بالموسيقا، والغناء هل نبيح له ذلك ، لا ، لا يجوز أبداً .
لكن إذا كانت وسيلة لم ينه عنها، و لها أثر، فهذه لا بأس بها، فالوسائل غير المقاصد، وليس من اللازم أن ينص الشرع على كل وسيلة بعينها، يقول : هذه جائزة، وهذه غير جائزة؛ لأن الوسائل لا حصر لها،
ولا حد لها، فكل ما كان وسيلة لخير فهو خير' [لقاء الباب المفتوح 15/49] .
3] حكم الوسائل التي تختلط فيها المصالح والمفاسد :
الوسائل التي تختلط فيها المصالح ، والمفاسد ، كتولي الولايات في ظل الحكومات المعاصرة، والدخول إلى المجالس التشريعية في ظل الأنظمة المسماة بالديمقراطية، والدخول إلى الاتحادات والنقابات العمالية والمهنية، ونحو ذلك... ينظر دائماً فيها إلى المصالح ، والمفاس :
فإذا رجحت المصالح على المفاسد ؛ كان اتخاذ هذه الوسيلة مشروعاً ... وإذا ترجحت المفاسد تركت هذه الوسيلة ... ولا شك أن تقدير المصالح ، والمفاسد ، إنما هو بميزان الشرع لا بميزان الهوى ، والمصالح الدنيوية. ويختلف الحكم من بلد إلى بلد ومن وقت إلى آخر ... ولا يجوز تحريم وسيلة من هذه الوسائل بدعوى أن وسائل الدعوة لابد ، وأن يكون قد جرى عليها عمل السلف الصالح ... فإن في كل عصر تتطور وسائل الناس ، و وسائل الاتصال بينهم كما تتطور أسلحة الحرب والدمار، ويجب أن يجابه العدو بالوسيلة التي تكافئ وسائله، وتدفع عدوانه عن المسلمين بما يندفع به، والحرب الإعلامية شأنها كالحرب العسكرية .
4] حكم الوسائل المحرمة :
وكل ما حرمه الله سبحانه وتعالى ، فلا يجوز استخدامه في الدعوة إلى الله ، ولو أدى إلى نفع المسلمين، وذلك كالقصص المكذوب، والحكايات الملفقة ، والأحاديث الموضوعة للمبالغة في الترغيب والترهيب ؛ فإن هذه الأساليب _ وإن كان تفيد أحياناً في توبة بعض العصاة، وهداية بعض الناس _ إلا أن هذا من الكذب الذي حرم الله أصله .
5] أعظم الوسائل في الدعوة إلى الله :
[1] تعلم القرآن ، وتعليمه ، ونشره :
أعظم وسيلة للدعوة إلى الله هي : تعلم القرآن وتعليمه، ونشره، فهو الكتاب المعجز الذي لا يمحوه الماء ، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] رواه البخاري ، و مسلم .
فكثرة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ إنما مرده إلى هذا القرآن الذي يقطع العذر، ويدمغ الباطل، ينفذ إلى القلوب، ويدمع العين، ويحيي موات القلوب، وينير البصائر ، قال تعالى : [ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [ 52 ] صِرَاطِ اللَّهِ [ 53 ] ] سورة الشورى .(/20)
فالعناية بكتاب الله : حفظاً، وفقهاً، وتعليماً، ونشراً، وترجمة لمعانيه ؛ من أكبر أسباب الهداية، ونشر الإسلام في العالمين … وقد أمرنا الله أن نجاهد به الكفار فقال تعالى : [ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا [ 51 ] فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [ 52 ] ] سورة الفرقان .
[2] إعلاء منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمة، ونشر كتب السنة :
الوسيلة الثانية من الوسائل العظمى في الدعوة إلى الله : هي إعلاء منزلة رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الأمة، ونشر كتب السنة، ورفعه؛ ليكون هو الأسوة، والقدوة لكل مسلم؛ فلا يجوز أن يخلو بيت مسلم من أصل من الأصول الصحيحة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة صحيحي البخاري ومسلم اللذين هما أصح كتابين بعد كتاب الله سبحانه وتعالى .
فالعناية بنشر صحيح السنة، وتعليمها، والتفقه فيها، وتدريس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعله ماثلاً في العيان أمام كل مسلم؛ ليأتسي به في حركاته، وسكناته في إيمانه … ويقينه … وصبره … وجهاده … وعبادته، بل في سمته، وهديه، ومخرجه، ومدخله .
هذه العناية بالسنة علماً ، ونشراً هي من أبلغ وسائل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى .
[3] الإمام المسلم الداعي إلى الله :
قيام الإمام المسلم بما أوصى به الله سبحانه وتعالى عليه، والدعوة ، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، من أعظم الوسائل التي ينتشر بها الدين، ويتحقق بها أهداف الرسالة، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : [ إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ] .
ومن أجل ذلك جعل الله الخلافة في الأرض لمن يقوم بهذه المهمة فقال جل وعلا : [ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [ 4] ] سورة الحج .
[4] تجنيد الأمة كلها في الدعوة إلى الله :
الوسيلة العظمى الثانية بعد كتاب الله هي : تجنيد الأمة كلها لتقوم بما فرض الله عليها في حمل رسالة الإسلام، وتبليغها، كما قال تعالى : [ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ 104 ] ] سورة آل عمران .وقال : [ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [ 110 ] ] سورة آل عمران .
وقال تعالى : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ 77 ] وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [ 78 ] ] سورة الحج .
وقال صلى الله عليه وسلم : [ بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ] رواه البخاري.. وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً : [ نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ ] رواه أحمد و الترمذي ، و ابن ماجه ، و ابن حبان ، وصححه الألباني في الجامع 6764 .
فيجب أن تهب الأمة بكاملها لنشر الدين، وإبلاغ رسالة الله للعالمين، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
[5] العلماء العاملون المربون :
الوسيلة الرابعة العظيمة في الدعوة إلى الله هي : وجود العلماء العاملين المربين؛ إذ هم حياة الأمة، ونورها، وقادتها، وأولو الأمر فيها، فالعناية بوجود هؤلاء العلماء من أعظم ما ينفع أمة الإسلام.
والطريق إلى وجودهم يبدأ بتعليم النابهين، والأذكياء من أطفال المسلمين بدءا بحفظ القرآن الكريم، ومتون علوم الإسلام، ثم تهيئة الجو المناسب، لتفقههم، وزكاة نفوسهم، وتفرغهم لعمل الدعوة والتعليم، والتوجيه، وقد عز سلفنا الصالح رضوان الله عليهم عندما كان للعلماء فيهم مكانتهم فقد كانت الشعوب والعامة تسير في ركابهم، وتأتمر بأمرهم ، وترى أن سلطانهم أعز من سلطان الملوك، وهذا عبدالله بن المبارك -رحمه الله- يدخل بغداد ، فينجفل الناس إليه، وتقول امرأة لهارون الرشيد _ وقد رأت خروج بغداد كلها لاستقباله _ : ' هذا والله الملك، لا ملك هارون' [البداية والنهاية 10/178] .
[6] إحياء مهمة المسجد :(/21)
ومن الوسائل الناجحة في الدعوة إلى الله : إحياء مهمة المسجد، وذلك بالحث على الجمع والجماعات، والجلوس لقراءة القرآن ومدارسته، وتعلم العلم، وذكر الله سبحانه، كما كان الشأن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في المساجد التي أشرق فيها نور الإسلام، وأخرجت أجيالاً من العلماء والدعاة في العصور الزاهرة، كمساجد بغداد أيام العباسيين التي قيل فيها: 'من أراد أن يرى عز الإسلام فليصل الجمعة ببغداد'!!
وقد حزر من يصلون الجمعة فيها أيام المنصور فكانوا نحواً من خمسة آلاف ألف. أي خمسة ملايين… إن مثل هذا المشهد وحده يملأ قلب المسلم عزاً بالإسلام، ويكسر قلوب أعداء الله كما قال الله في شأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : [ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [ 21 ] ] سورة الفتح .
وقد خرَّج الحرم المكي، والمسجد النبوي، والأزهر، والزيتونة على الدوام آلاف الآلاف من حملة العلم الشرعي الذين كانوا نور الأمة، وعزها، ومجدها.
[7] إخراج الزكاة والصدقات، والاهتمام بأعمال البر والخير :
إخراج الزكاة، والصدقات، والاهتمام بأعمال البر، وعمل الخير إلى جانب كونها في ذاتها قربة عظيمة إلى الله، وأداءً للحق الواجب في مال الله ، فهي من أعظم أسباب نشر الإسلام، والدعوة إلى الله ، وتثبيت المسلمين، وتأليف القلوب على الإسلام .
[8] شهر رمضان شهر الدعوة إلى الله والهداية :
شهر رمضان شهر مبارك، وإذا كان الله سبحانه قد أوجب فيه الصوم، فإن هذا الشهر وما يكتنفه من أسباب الخير هو من أعظم شهور السنة بركة في الدعوة إلى الله ، وهداية العصاة؛ ففيه تصفد مردة الشياطين، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، ويقرأ القرآن آناء الليل، وأطراف النهار، ويجود فيه المسلمون الصالحون بصدقاتهم، ويشغل الصالحون نهارهم بالصوم ، وليلهم بالعبادة… وكل ذلك يدفع في النهاية إلى توبة كثير من العصاة، وهذا الشهر فرصة عظيمة، يجب أن يغتنمها الدعاة في الدعوة إلى الله،
وقد يكسبون من المهتدين مالا يحصلون على مثله طيلة العام .
[9] الحج ، والدعوة إلى الله :
الحج من الوسائل العظمى في الدعوة إلى الله، فهو جمع لجمهور عظيم من المسلمين من كل فج عميق إلى مكان واحد يؤدون عبادة واحدة، ويذكرون الله بأذكار هي كليات الإسلام وأصوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك؛ إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .
وهذه التلبية تضمنت غاية الدين، وهدفه، وعقيدته العظمى، ولا شك أن من فهم هذه التلبية وعلم معناها واعتقدها، وعمل بمقتضاها فهم أصل الإسلام الأصيل : [ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ] رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه، وأبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني في الجامع 6433 .
وقد كان الحج _ وما زال _ من أعظم الوسائل في التعريف بالإسلام وتوحيد الأمة، وجمع الكلمة، ونشر الدين كما قال تعالى : [ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [ 27 ] لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [ 28 ] ] سورة الحج .
وتعلم الإسلام، والتفقه في الدين، وجمع كلمة المسلمين من أعظم منافع الحج.
[10] الجماعات الدعوية :
جماعة الدعوة وسيلة عظيمة للدعوة إلى الله ، فهي من باب التعاون على البر والتقوى، ولا شك أن الدعوة إلى الله ونشر دينه، وإعلاء كلمته سبحانه وتعالى هو أعظم البر والتقوى .
فإذا قامت هذه الجماعة الدعوية على الكتاب والسنة، والنصح لكل مسلم، وأن تقول الحق لا تخاف في الله لومة لائم، ونظمت صفوفها، و وحدت كلمتها، وجعلت جهادها نصراً للدين، وإعلاءً لكلمة الله في الأرض، وأعزها الله ونصرها كما قال تعالى:[ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ 40 ] ] سورة الحج .
ولا شك أن جهود جماعة مؤتلفة في الدعوة إلى الله خير من جهود أعدادهم متفرقين .
[11] المؤسسات التعليمية :
المؤسسات التعليمية وسيلة عظيمة في الدعوة إلى الله ، فالكتّاب الصغير، ومركز تحفيظ القرآن، والمدرسة، والجامعة، والمعهد ، هذه المؤسسات التعليمية إذا تيسر فيها المنهج الدراسي الجيد لدراسة الإسلام، والمعلمون، المخلصون، العالمون، المربون، والنظام الجيد، فإن هذا يخرج أجيالاً من حملة الدين، وعلماء الملة، وقادة الأمة .
[12] الآلات الإعلامية :(/22)
مكن الله بالعلم الحديث الإنسان من استخدام آلات، و وسائل بالغة التأثير يمكن للإنسان بواسطتها أن يسمع الألوف المؤلفة في وقت واحد، وأن يقرأ الملايين من الناس مقالة رجل واحد في وقت واحد... فجهاز التلفاز الذي يستطيع أن يراه أكثر من مائة مليون في وقت واحد بل عدة مئات من الملايين، والصحف السيارة التي تطبع في أماكن عديدة من العالم في وقت واحد، وجهاز المذياع الذي تسمع منه الرسالة الواحدة في كل أرجاء الدنيا في وقت واحد!!
إن هذه الآلات الضخمة أصبحت بالغة التأثير ... ولا مجال لمقارنتها مع الوسائل القديمة حيث كان يعتمد الخطيب، أو المتكلم على صوته، أو مكبر للصوت يسمع بضعة مئات، أو آلاف من الناس ... أما اليوم، فيستطيع نصف سكان الأرض، وأكثر من ذلك أن يسمعوا رجلاً واحداً يخطبهم، أو يعظهم، أو يذكرهم، أو ينشر الشر والفساد بينهم.
وهذه الآلات الخطيرة أصبحت في الحرب الإعلامية تفعل فعل الأسلحة الخطيرة، وقد شبه التلفزيون بالقنبلة الذرية ؛ فإن خطره في كل بيت، بل ويدخل إلى الغرف المغلقة، ويهجم على العواتق وذوات الخدور، فالرسالة الإعلامية الفاسدة تدمر الرجال، والنساء، والأطفال .
ولا سبيل إلى مقاومة هذا الشر العظيم إلا بما يماثل ذلك من استخدام هذه الآلات... فكما لا يمكن مقاومة عدو يستعمل سلاحاً فتاكاً إلا بمثل سلاحه ؛ فكذلك في الحرب العقائدية لا بد من وسائل تكافئ وسائل الخصوم، وإلا كانت الهزيمة ، والضياع.
[13] الوسائل في الدعوة إلى الله كثيرة جداً :
ولا شك أن الوسائل التي يمكن أن يبلغ بها دين الله، وينشر بواسطتها الخير كثيرة جداً:
فالاتصال الفردي وسيلة عظيمة، وقد كان أول وسيلة دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل خيار أصحابه في الإسلام عن طريقها، فقد آمن أبو بكر رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه، والسيدة خديجة رضي الله عنها، وزيد بن حارثة رضي الله عنه، لما عرض النبي عليهم الإسلام، قبل أن يسمعوا خطبة، أو يحضروا درساً، وآمن بدعوة أبي بكر _ الفردية _ عدد كبير جداً من الصحابة، وهذا في الاتصال الفردي .
ومن الوسائل : الدعوة إلى الطعام، واستخدام الولاء القبلي كما فعله سعد بن عبادة، وأسيد بن خضير، فقد دعا كل منهما قبيلته -وهو شيخها- فدخلوا جميعاً في الإسلام في ليلة واحدة.
ومن الوسائل النافعة: حمل الدعوة مع التجارة، فقد دخل بدعوة التجار المسلمين أمم وشعوب كثيرة، وكذلك السياحة، والمراسلات، والمناظرات، واستغلال المناسبات الاجتماعية كحفلات الزواج، والجنائز ... هذا عدا عن الدروس العلمية، والخطابة، وإنشاء الشعر والأدب .
والخلاصة: أنه يمكن لكل أحد أن يدعو إلى الله ، وأن يبلغ الحق، وينشر الخير حتى ولو كان ممن لا يستطيع أن يحفظ العلم ويؤديه كما سمعه، فإنه يستطيع أن ينشر الكتاب، والشريط ويدل على الخير، وأن يكثر سواد الدعاة إلى الله بمصاحبتهم فضلاً عما ينفعه الله به من صحبتهم .
خاتمة
هذا بحمد الله ما تيسر لي جمعه في أصول، وقواعد الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى سائلاً جل وعلا أن يوفق المسلمين إلى القيام بهذا الواجب العظيم الذي جعلهم الله به خير أمة أخرجت للناس قال تعالى : [ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [ 110] ] سورة آل عمران .
ونسأله تعالى أن يسلكنا في عداد الداعين إليه، والمجاهدين في سبيله، وأن يجعل عملنا كله له خالصاً
وكان الفراغ منه في الثاني من محرم الحرام لعام 1417 من هجرة المصطفى عليه السلام
من كتاب أصول الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.(/23)
أصول السنة
[عقيدة الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد حنبل - 241 هـ -]
قال الشيخ الإمام أبو المظفر عبد الملك بن علي بن محمد الهمْداني :
حدثنا الشيخ أبو عبد الله يحيى بن أبي الحسن بن البنا ، قال : أخبرنا والدي أبو علي الحسن بن احمد بن البنا ، قال أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران المعدل ، قال : أخبرنا عثمان بن أحمد بن السماك ، قال : حدثنا أبو محمد الحسن بن عبد الوهاب أبو العنبر قراءة عليه من كتابه في شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وتسعين ومائتين ، قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن سليمان المنقري البصري – بتنيس - قال : حدثني عبدوس بن مالك العطار ، قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل – رضي الله عنه – يقول :
أصول السنة عندنا :
التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإقتداء بهم ، وترك البدع ، وكل بدعة فهي ضلالة ، وترك الخصومات ، والجلوس مع أصحاب الأهواء ، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين .
والسنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسنة تفسر القرآن ، وهي دلائل القرآن ، وليس في السنة قياس ، ولا تضرب لها الأمثال ، ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء ، إنما هو الاتباع وترك الهوى .
ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة - لم يقبلها ويؤمن بها - لم يكن من أهلها :
الإيمان بالقدر خيره وشره ، والتصديق بالأحاديث فيه ، والإيمان بها ، لا يُقال لِمَ ولا كيف ، إنما هو التصديق والإيمان بها ، ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كُفِيَ ذلك وأُحكِمَ له ، فعليه الإيمان به والتسليم له ، مثل حديث " الصادق المصدوق " ومثل ما كان مثله في القدر ، ومثل أحاديث الرؤية كلها ، وإن نأت عن الأسماع واستوحش منها المستمع ، وإنما عليه الإيمان بها ، وأن لا يرد منها حرفاً واحدا ً ، وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات .
وأن لا يخاصم أحداً ولا يناظره ، ولا يتعلم الجدال ، فإن الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروه ومنهي عنه ، لا يكون صاحبه و إن أصاب بكلامه السنة من أهل السنة حتى يدع الجدال ويسلم ويؤمن بالآثار .
والقرآن كلام الله وليس بمخلوق ، ولا يضعف أن يقول : ليس بمخلوق ، فإن كلام الله ليس ببائن منه ، وليس منه شيء مخلوق ، وإياك ومناظرة من أحدث فيه ، ومن قال باللفظ وغيره ، ومن وقف فيه ، فقال : لا أدري مخلوق أو ليس بمخلوق ، وإنما هو كلام الله فهذا صاحب بدعة مثل من قال : ( هو مخلوق ) ، وإنما هو كلام الله وليس بمخلوق .
والإيمان بالرؤية يوم القيامة ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحاح ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه ، فإنه مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صحيح ، رواه قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ ورواه الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ ورواه علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، والحديث عندنا على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والكلام فيه بدعة ، ولكن نؤمن كما جاء على ظاهره ، ولا نناظر فيه أحداً .
والإيمان بالميزان يوم القيامه كما جاء ، يوزن العبد يوم القيامة فلا يزن جناح بعوضة ، وتوزن أعمال العباد كما جاء في الأثر ، والإيمان به ، والتصديق به ، والإعراض عن من ردّ ذلك ، وتركُ مجادلته .
وأن الله يكلم العباد يوم القيامه ، ليس بينهم وبينه ترجمان ، والتصديق به .
والإيمان بالحوض ، وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضا يوم القيامة تَرِدُ عليه أمته ، عرضه مثل طوله ، مسيرة شهر ، آنيته كعدد نجوم السماء على ما صحت به الأخبار من غير وجه .
والإيمان بعذاب القبر ، وأن هذه الأمة تُفتَن في قبورها ، وتُسأل عن الإيمان والإسلام ، ومن ربه ؟ ومن نبيه ؟
ويأتيه منكر ونكير ، كيف شاء الله عزوجل ، وكيف أراد ، والايمان به والتصديق به .
والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبقوم يخرجون من النار بعد ما احترقوا وصاروا فحما ، فيؤمر بهم إلى نهر على باب الجنة كما جاء في الأثر ، كيف شاء الله ، و كما شاء ، إنما هو الإيمان به ، والتصديق به .
والإيمان أن المسيح الدجال خارج ، مكتوب بين عينيه كافر ، والأحاديث التي جاءت فيه ، والإيمان بأن ذلك كائن ، وأن عيسى ابن مريم عليه السلام ينزل فيقتله بباب لُدٍّ .
والإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص ، كما جاء في الخبر : (( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا )) .
ومن ترك الصلاة فقد كفر ، وليس من الأعمال شيء تركه كفر إلا الصلاة ، من تركها فهو كافر ، وقد أحل الله قتله .(/1)
وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان ، نُقدّم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يختلفوا في ذلك ، ثم بعد هؤلاء الثلاثة أصحاب الشورى الخمسة : علي بن أبي طالب ، وطلحة ، والزبير ، وعبدالرحمن بن عوف ، وسعد ، كلهم يصلح للخلافة ، وكلهم إمام ، ونذهب في ذلك إلى حديث ابن عمر : ( كنا نعُدُّ ورسول الله حي وأصحابه متوافرون : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نسكت ) ... ثم من بعد أصحاب الشورى أهل بدر من المهاجرين ، ثم أهل بدر من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدر الهجرة والسابقة ، أولاً فأولا ، ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، القرن الذي بعث فيهم .
وكل من صحبه سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة ، أو رآه فهو من أصحابه ، له من الصحبة على قدر ما صحبه ، وكانت سابقته معه ، وسمع منه ، ونظر إليه نظرة ، فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذين لم يروه ، ولو لقوا الله بجميع الأعمال ، كان هؤلاء الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وسمعوا منه ، ومن رآه بعينه وآمن به ولو ساعة ، أفضل لصحبتهم من التابعين ، ولو عملوا كل أعمال الخير .
والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البَرّ والفاجر ، ومن ولي الخلافة ، واجتمع الناس عليه ، ورضوا به ، ومن عليهم بالسيف حتى صار خليفة ، وسمي أميرالمؤمنين .
والغزو ماض مع الأمير إلى يوم القيامه البَرّ والفاجر لا يُترَك .
وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة ماضٍ ، ليس لأحد أن يطعن عليهم ، ولا ينازعهم ، ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة ، من دفعها إليهم أجزأت عنه ، بَرّاً كان أو فاجراً .
وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولاه ، جائزة باقية تامة ركعتين ، من أعادهما فهو مبتدع تارك للآثار ، مخالف للسنة ، ليس له من فضل الجمعة شيء ؛ إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا برهم وفاجرهم ، فالسنة : أن يصلي معهم ركعتين ، ويدين بأنها تامة ، لا يكن في صدرك من ذلك شك .
ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين – وقد كانوا اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة ، بأي وجه كان ، بالرضا أو بالغلبة - فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين ، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية .
ولا يحل قتال السلطان ، ولا الخروج عليه لأحد من الناس ، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق .
وقتال اللصوص والخوارج جائز ، إذا عرضوا للرجل في نفسه وماله فله أن يقاتل عن نفسه وماله ، ويدفع عنها بكل ما يقدر ، وليس له إذا فارقوه أو تركوه أن يطلبهم ، ولا يتبع آثارهم ، ليس لأحد إلا الإمام أو ولاة المسلمين ، إنما له أن يدفع عن نفسه في مقامه ذلك ، وينوي بجهده أن لا يقتل أحداً ، فإن مات على يديه في دفعه عن نفسه في المعركة فأبعد الله المقتول ، وإن قُتِل هذا في تلك الحال وهو يدفع عن نفسه وماله ، رجوت له الشهادة ، كما جاء في الأحاديث وجميع الآثار في هذا إنما أُمِر بقتاله ، ولم يُؤمَر بقتله ولا اتباعه ، ولا يجهز عليه إن صُرِع أو كان جريحا ، وإن أخذه أسيرا فليس له أن يقتله ، ولا يقيم عليه الحد ، ولكن يرفع أمره إلى من ولاه الله ، فيحكم فيه .
ولا نشهد على أحد من أهل القبلة بعمل يعمله بجنة ولا نار ، نرجو للصالح ونخاف عليه ، ونخاف على المسيء المذنب ، ونرجو له رحمة الله .
ومن لقى الله بذنب يجب له به النار تائبا غير مُصرٍّ عليه ، فإن الله يتوب عليه ، ويقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، ومن لقيه وقد أقيم عليه حد ذلك الذنب في الدنيا ، فهو كفارته ، كما جاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن لَقِيَه مُصِرّا غير تائب من الذنوب التي استوجب بها العقوبة فأمره إلى الله ، إن شاء عذّبه ، وإن شاء غفر له ، ومن لَقِيَه وهو كافر عذّبه ولم يغفر له .
والرجم حق على من زنا وقد أُحصن ، إذا اعترف أو قامت عليه بيّنة ، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدون .
ومن انتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أبغضه بحدث كان منه ، أو ذكر مساوئه ، كان مبتدعا ، حتى يترحم عليهم جميعا ، ويكون قلبه لهم سليما .
والنفاق هو : الكفر ، أن يكفر بالله ويعبد غيره ، ويُظهِر الإسلام في العلانية ، مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث من كن فيه فهو منافق )) هذا على التغليظ ، نرويها كما جاءت ، ولا نفسرها .(/2)
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا ترجعوا بعدي كفارا ضُلالا يضرب بعضكم رقاب بعض )) ، ومثل : (( إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار )) ، ومثل : (( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر )) ، ومثل : (( من قال لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما )) ، ومثل : (( كُفرٌ بالله تَبَرؤٌ من نَسَبٍ وإن دَقّ )) ، ونحو هذه الأحاديث مما قد صح وحُفِظ ، فإنا نُسَلم له ، وإن لم نعلم تفسيرها ، ولا نتكلم فيها ، ولا نجادل فيها ، ولا نفسّر هذه الأحاديث إلا مثل ما جاءت ، لا نردها إلا بأحق منها .
والجنة والنار مخلوقتان ، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( دخلتُ الجنة فرأيت قصراً ... )) ، و (( رأيت الكوثر )) ، و (( واطلعت في الجنة ، فرأيت أكثر أهلها... )) كذا ، و (( واطلعت في النار ، فرأيت ... )) كذا وكذا ، فمن زعم أنهما لم تُخلقا ، فهو مكذّب بالقرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحسبه يؤمن بالجنة والنار.
ومن مات من أهل القبلة مُوَحِداً يُصلّى عليه ، ويُستغفر له ، ولا يُحجب عنه الاستغفار ، ولا تترك الصلاة عليه لذنب أذنبه صغيرا كان أو كبيرا ، أَمرُهُ إلى الله تعالى . آخر الرسالة والحمد لله وحده وصلواته على محمد وآله وسلم تسليما .(/3)
أصول جامعة في النصر والهزيمة وفقه الابتلاء
رئيسي :علم :الخميس 5 جمادى الأخرة 1425هـ - 22 يوليو 2004
الأصل الأول: أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار- والواقع شاهد بذلك-. وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير.
الأصل الثاني: أن ما يصيب المؤمنين في الله مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا، فمعولهم على الصبر، وعلى الاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته، فإنهم كلما شاهدوا العوض؛ هان عليهم تحمل المشاق والبلاء. والكفار لا رضا عندهم، ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله:{ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[104]}[سورة النساء] . فاشتركوا في الألم وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى.
الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أوذي في الله، فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ووجود حقائق الإيمان في قلبه حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله، وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرًا من البلاء، وإذا كان لا بد له من شيء منه دفع عنه ثقله، ومؤنته، ومشقته وتبعته.
الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه؛ كان أذى المحب في رضى محبوبه مستحلى غير مسخوط، والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالك
فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له، وإحسان إليه.
الأصل الخامس: أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان-وإن كان في الظاهر بخلافه- قال الحسن:' إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه'.
الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ] رواه مسلم. فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم، فالأقرب، يبتلى المرء على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة.
الأصل السابع: أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه له في بعض الأحيان: أمر لازم لابد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض، والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة، والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم؛ لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم؛ لكان ذلك عَالمًا غير هذا، وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار، وإنما يكون تخليص هذا من هذا، وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار كما قال تعالى:{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[37]}[سورة الأنفال] .
الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحيانًا فيه حكمة عظيمة لا يعلمها على التفضيل إلا الله عز وجل:
فمنها:استخراج عبوديتهم، وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائما منصورين قاهرين، غالبين؛ لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوهم؛ لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة.
فإذا غُلبوا.. تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غَلبوا؛ أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه.(/1)
ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين؛ لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة. ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا؛ لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية: أن كانت لهم الدولة تارةً، وعليهم تارةً، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم، والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال، لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنصب، وأضدادها، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم، كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد:{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140]وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[141]أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[141] وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[143]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[144]وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[145]}[سورة آل عمران].
فذكر سبحانه أنواعا من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله، فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله، ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولًا بين الناس، فيصيب كلا منهم نصيبه منها كالأرزاق والآجال، ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم -وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه- ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعًا.
ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة، لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو؛ لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد، ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين أي: تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة، والرجوع إليه، واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا.
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد، ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك، فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم..فهذا بعض حكمه في نصرة عدوهم عليهم، وإدالته في بعض الأحيان.
الأصل التاسع: أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السموات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها لابتلاء عباده، وامتحانهم؛ ليعلم من يريده ويريد ما عنده، ممن يريد الدنيا وزينتها، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...[7]}[سورة هود]. وقال:{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[7]}[سورة الكهف]. وقال:{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...[2]}[سورة الملك]. وقال تعالى:{...وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[35]}[سورة الأنبياء].(/2)
وقال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[31]}[سورة محمد]. وقال تعالى:{ الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت].
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين:
إما أن يقول أحدهم: آمنت، أو لا يؤمن بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا. فأما من قال: آمنت، فلابد أن يمتحنه الرب، ويبتليه ليتبين: هل هو صادق في قوله: آمنت، أو كاذب، فإن كان كاذبًا؛ رجع على عقبيه، وفر من الامتحان كما يفر من عذاب الله. وإن كان صادقًا؛ ثبت على قوله، ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانًا على إيمانه، قال تعالى:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[22]}[سورة الأحزاب].
وأما من لم يؤمن: فإنه يمتحن في الآخرة بالعذاب، ويفتن به، وهي أعظم المحنتين، هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها وعقوبتها التي أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم، فلابد من المحنة في هذه الدار، وفي البرزخ، وفي القيامة لكل أحد، ولكن المؤمن أخف محنة، وأسهل بلية، فإن الله يدفع عنه بالإيمان، ويحمل عنه به، ويرزقه من الصبر والثبات، والرضى والتسليم ما يهون به عليه محنته، وأما الكافر، والمنافق، والفاجر، فتشتد محنته وبليته وتدوم.
فمحنة المؤمن خفيفة منقطعة، ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متصلة، فلا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت، أو كفرت لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة، والكافر والمنافق والفاجر تحصل له اللذة والنعيم ابتداءً، ثم يصير إلى الألم، فلا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم ألبتة.. يوضحه:
الأصل العاشر: وهو أن الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم؛ آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر، فلابد له من الناس ومخالطتهم، ولا ينفك عن موافقتهم، أو مخالفتهم، وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل، وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم وإراداتهم.
ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المترتب على موافقتهم، واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم، أو فاحشة، أو شهادة زور، أو المعاونة على محرم، فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه، ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى. وإن وافقهم فرارًا من ألم المخالفة؛ أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فر منه، والغالب أنهم يسلطون عليه، فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولًا بموافقتهم.. فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد، فألم يسير يعقب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تعقب ألمًا عظيمًا دائمًا.. والتوفيق بيد الله.
الأصل الحادي عشر: أن البلاء الذي يصيب العبد في الله لا يخرج عن أربعة أقسام، فإنه: إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يحب، والذي في نفسه قد يكون بتلفها تارةً، وبتألمها بدون التلف.. فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله.
وأشد هذه الأقسام: المصيبة في النفس، ومن المعلوم: أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يستشهد في الله، وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة، فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم، فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الميتات، وأفضلها، وأعلاها، ولكن الفار يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش، وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن حيث يقول:{ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا[16]}[سورة الأحزاب]. فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلًا؛ إذ لابد له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه.(/3)
ثم قال:{ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا[17]}[سورة الأحزاب]. فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحد من الله إن أراد به سوءًا غير الموت الذي فرّ منه، فإنه فرّ من الموت لما كان يسوءه، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءًا غيره؛ لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يفر مما يسوءه من القتل في سبيل الله، فيقع فيما يسوءه مما هو أعظم منه، وإذا كان هذا في مصيبة النفس، فالأمر هكذا في مصيبة المال، والعرض، والبدن، فإن من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته؛ سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلًا وآجلًا، وإن حبسه وادخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره، فيكون له مهنؤه وعلى مخلفه وزره، وكذلك من رفه بدنه وعرضه، وآثر راحته على التعب لله، وفي سبيله؛ أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب.. قال أبو حازم:' لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقى الله من معالجة التقوى'.
واعتبر ذلك بحال إبليس، فإنه امتنع من السجود لأدم فرارًا أن يخضع له، وطلب إعزاز نفسه، فصيره الله أذل الأذلين، وجعله خادمًا لأهل الفسوق والفجور من ذريته، فلم يرض بالسجود له، ورضى أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته. وكذلك عباد الأصنام أنفوا أن يتبعوا رسولًا من البشر، وأن يعبدوا إلهًا واحدًا سبحانه، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار.
وكذلك كل من امتنع أن يذل لله، أو يبذل ماله في مرضاته، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته، لابد أن يذل لمن لا يسوى، ويبذل له ماله، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته؛ عقوبة له، كما قال بعض السلف:' من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته'.
من كتاب:'إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان' للعلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله.(/4)
أصول مهمة في باب الإيمان ...
...
29-11-2004
باب الإيمان ومسائله من أهم أبواب علم العقيدة، وهو من أوائل القضايا التي حصل فيها خلاف الأمة في الصدر الأول، فأول افتراق حصل هو ظهور رأي الخوارج الذي خالفوا فيه أهل السنة في باب الإيمان. وقد اعتنى سلفنا الصالح بهذا الباب عناية كبيرة، وأفردوا له مصنفات عديدة ما بين مختصرة ومطولة، وكذلك عقدوا له أبواباً مستقلة في مصنفاتهم وجوامعهم الحديثية، وكان مما ميز كتبهم وعرضهم لقضايا ومسائل الإيمان عنايتهم بذكر أصول المسائل والأصول التي بنى عليها المخالفون لهم في هذا الباب، فنقضوها وفندوا الشبه التي بنوا عليها تلك الأصول، فانهدمت كل المسائل المتفرعة عنها. وسوف نشير لبعض تلك الأصول المهمة في باب الإيمان، وغالب المسائل مبنية عليها.
وقبل الدخول في عرض هذه الأصول لا بد أن نشير ولو إشارة مختصرة إلى أهمية العناية بالأصول في هذا الباب، ويمكن أن نجملها فيما يلي:
1 - إن معرفة أصول المسائل تسهل معرفة ما يتفرع عنها من مسائل، وتوضح وجه الخلاف بين أهل السنة وأهل البدع؛ لأن الغالب أن الخلاف بين أهل السنة وأهل البدع هو في أصول المسائل، وعليها جرى الخلاف في الفروع؛ فمن رام تقرير مذهب أهل السنة بوضوح وجلاء فعليه بالعناية بالأصول.
2 - إن هدم الأصل الذي تقوم عليه البدعة يكفي في الرد عليها وبيان بطلانها. وعدم العناية بالأصول يجعلنا نقف مع كل بدعة تظهر وكل ما يتفرع عنها، وقد يطول البحث بالإنسان ولا يجد ما يشفي العليل ويروي الغليل.
3 - إن المتقدمين من أهل البدع والمتأخرين يوجد بينهم اشتراك واضح في مخالفة أصول أهل السنة المجمع والمتفق عليها، وغالباً ما يكون الاختلاف بينهم شكلياً ولفظياً كل على ما يناسب العصر الذي عاش فيه، ولكن لا اختلاف بينهم في الأصول.
ومن أبرز من أشار إلى هذه القضية شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مبيناً أن متأخري المتكلمين كأبي المعالي الجويني وغيره تأثروا بأصول أهل البدع السابقين؛ حيث قال: «إن أبا المعالي وأمثاله يضعون كتب الكلام التي تلقوا أصوله عن المعتزلة والمتفلسفة، ويبوبون أبواباً ما أنزل الله بها من سلطان، ويتكلمون فيها بما يخالف الشرع والعقل.... والأصول التي يقررها هي أصول جهم بن صفوان في الصفات والقدر والإرجاء.. » ا. هـ(1)، ويقول أيضاً مبيناً أن أصول الرازي هي أصول جهم كذلك: «فقول جهم هو قول هؤلاء، كما قال - تعالى -: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]... » أ. هـ(1).
وقال في موضع آخر: «وهذه الحجج من حجج الجهمية قديماً كما ذكر دلك الأئمة... »(2).
وأصول البدع مستمرة إلى وقتنا الحاضر، ولكن تغيرت مسمياتها؛ فالمعتزلة في العصر الحاضر أصولهم هي أصول أسلافهم ويسمون أنفسهم (عقلانيين وعصرانيين)، والمعطلة في الوقت الحاضر أصولهم أصول أسلافهم ويسمون أنفسهم بالـ (متنورين)، والزنادقة المعاصرون يسمون أنفسهم: حداثيين تجديديين، ولكل قوم وارث، وبمعرفة أصول البدع يتعرف طالب العلم على امتدادها المعاصر، ولا تخدعه هذه المسميات.
4 - إن هذه الطريقة ـ وهي معرفة أصول المسائل وأصول البدع والحرص على نقضها ـ هي طريقة السلف المتقدمين الراسخين في العلم الذين أخذوها من القرآن والسنة ومن أفواه الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى عصرهم؛ بل إن طريقة القرآن هي التركيز على تقرير الأصول الشرعية التي تبنى عليها كل الطاعات، ونقض الأصول التي تبنى عليها الانحرافات في الاعتقاد والعمل؛ فعلى سبيل المثال من أبرز هذه الأصول التي أشار إليها القرآن وأشارت إليها السنة أن أصل الضلال والمعاصي هو: اتباع الهوى(3):
وقد جاءت الآيات والأحاديث تبين هذا الأصل في غير ما موضع:
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: «فجميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه، وقال - تعالى -: {فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمى أهلها أهل الأهواء» ا. هـ(4).(/1)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهكذا تجد كل أهل المقالات وأهل الأعمال الفاسدة ـ وإبليس إمام هؤلاء كلهم ـ فإنه اتبع قياسه الفاسد المخالف للنص، واتبع هواه في استكباره عن طاعة ربه - تعالى -.... (إلى أن قال): وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا الأصل، وهو أن من أعرض عن هدى الله علماً وعملاً فإنه لا يحصل له مطلوب ولا ينجو من مرهوب، بل يلحقه من المرهوب أعظم مما فر منه، ويفوته من المطلوب أعظم مما رغب فيه. وأما المتبعون لهداه فإنهم على هدى من ربهم، وهم المفلحون الذين أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب» ا. هـ باختصار(5).
بعض الأصول المهمة في الإيمان:
ولعلنا نبدأ بذكر أهم الأصول في باب الإيمان وهي على وجه الإجمال كما يلي:
الأصل الأول: أن الألفاظ التي جاء تفسيرها وبيانها في القرآن والسنة لا يجوز أن تُعارَض بأقوال أهل اللغة وما تستعمله العرب من شواهد، ومن هذه الألفاظ لفظ الإيمان والإسلام والكفر والنفاق والشرك؛ فهذه ألفاظ قد ورد في الشرع ما يبين معناها بجلاء ووضوح، فلا يسوغ لمحتج مثلاً أن يحتج بأن معنى الإيمان في اللغة التصديق، فنقول: هذا قد يقبل لو أن الشارع لم يبين لنا معنى الإيمان، أما وقد جاء في لفظ الشارع ما يبينه فلا نحتاج إلى أن نقصره على هذا المعنى اللغوي؛ إضافة إلى أنه حتى في اللغة ليس مقصوراً على هذا المعنى بل يشمل التصديق وزيادة، والتصديق في لغة العرب لا يقتصر على القلب بل يشمل حتى التصديق باللسان والجوارح(6).
يقول شيخ الإسلام: «ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عُرف تفسيرها وما أُريد بها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع: نوع يعرف حده بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ونحو ذلك.... واسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر هي أعظم من هذا كله؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين المراد بهذه الألفاظ بياناً لا يُحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك؛ فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله؛ فإنه شاف كاف، بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للخاصة والعامة، بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان، وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنباً كافراً، ويعلم أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألستنا بالشهادتين إلا أنَّا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه؛ فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نصدق الحديث ونؤدي الأمانة..... هل كان يتوهم عاقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويُرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار؟ بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك.. » ا. هـ. بتصرف واختصار(1). ومما يتمم هذا الأصل أنه لا يجوز كذلك أن يحمل كلام الله ورسوله على وفق مذهبه إن لم يتبين مراد الله ورسوله؛ وفي هذا يقول شيخ الإسلام: «وليس لأحد أن يحمل كلام الله ورسوله وفق مذهبه، إن لم يتبين من كلام الله ورسوله ما يدل على مراد الله ورسوله، وإلا فأقوال العلماء تابعة لقول الله ـ - تعالى - ـ ورسوله... فإذا كان في وجوب شيء نزاع بين العلماء، ولفظ الشارع قد اطَّرد في معنى لم يجُز أن ينقض الأصل المعروف من كلام الله ورسوله بقول فيه نزاع بين العلماء» ا. هـ. باختصار(2).
فالشاهد مما تقدم أن الأصل في معرفة هذه المسائل والأصول الكبار يرجع فيها إلى ما فسره الله ورسوله من خلال جمع النصوص الشرعية. ومن نظر في معنى الإيمان في النصوص الشرعيه وجده يشتمل على القضايا الثلاث الكبرى التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة وهي أن الإيمان قول، وعمل، واعتقاد.(/2)
الأصل الثاني: أن الإيمان ثلاثة أجزاء لا يغني واحد عن الآخر، بل لا بد من الإتيان بها جميعاً، والمقصود أنه لا بد أن يكون المسلم معتقداً الإيمان بالله في قلبه ناطقاً بلسانه مصدقاً لذلك بما يعمله من أعمال صالحة؛ فإذا تخلف واحد من هذه الثلاثة فلم يأت به مطلقاً لا يصح أن يكون مؤمناً، وقد تواتر تقرير هذا عن سلف الأمة، وأن الإيمان يقوم على هذه الثلاث، يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: «فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً» ا. هـ(3). يقول الإمام الشافعي - رحمه الله - في كتاب الأم في باب النية في الصلاة: «وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر» ا. هـ. (4). ويقول الإمام الآجري: «باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمناً إلا بأن تجتمع فيه هذه الخصال، (ثم قال): اعلموا ـ رحمنا الله وإياكم ـ أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، ثم اعلموا أنه لا يجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، ولا تجزئ معرفة بالقلب ونطق اللسان حتى يكون عمل بالجوارح؛ فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث كان مؤمناً، دل على ذلك القرآن والسنة وقول علماء المسلمين.. » ا. هـ. ثم ذكر الأدلة(5).
وعليه فالذين أخرجوا الإيمان عن مسمى الأعمال مخالفون للكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة، وليس المجال هنا لسرد النصوص المتواترة والمتضافرة التي تبين أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأنها حين تتخلف بالكلية فإن الإيمان ينتقض.
الأصل الثالث: أن الإيمان يتجزأ ويتبعَّض، وأنه شُعَب كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة»(6)؛ وعليه فإن الشخص الواحد يجتمع فيه طاعة ومعصية، وإيمان وفسق. وأصل ضلال أهل البدع أنهم جعلوه شيئاً واحداً. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان، من الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعاً، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان»، ثم قال الخوارج والمعتزلة: الطاعات كلها من الإيمان فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان، فذهب سائره، فحكموا أن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان.
وقالت المرجئة والجهمية: ليس الإيمان إلا شيئاً واحداً لا يتبعض، إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية، أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة، قالوا: لأنَّا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزاءً منه؛ فإذا ذهبت ذهب بعضه فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول المعتزلة والخوارج.. » ا. هـ. (7)، وقال في موضع آخر: «وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله. فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان.. » ا. هـ. (8).
ومما يتفرع على هذا الأصل أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن بعض شعبه إذا زالت بقيت الشعب الأخرى، لكنه ينقص ويضعف، وقد دلت النصوص الشرعية المتواترة من الكتاب والسنة على هذا الأمر كما قال - تعالى -: {لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَّعَ إيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وقوله - تعالى -: {وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} [الأنفال: 2]، وأما النقصان كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان». فالشاهد أن من الإيمان ما هو قوي، ومنه ما هو ضعيف؛ والأدلة لا يتسع المجال لذكرها وسردها، وإنما غرضنا التركيز على الأصول التي قد تخفى على بعض الناس.
الأصل الرابع: أن شعب الإيمان قد تتلازم في الظاهر والباطن عند القوة، وقد لا تتلازم عند الضعف: لا يتصور أن يقوم الإنسان بالأعمال الصالحة ويكون قلبه غير مشتمل على الإيمان بل هو من أعظم الأدلة على الإيمان الذي في قلبه، يقول شيخ الإسلام: «وكذا الإيمان في القلب، والإسلام علانية، ولما كانت الأقوال والأعمال الظاهرة لازمة ومستلزمة للأقوال والأعمال الباطنة، كان يستدل بها عليها» ا. هـ(1).(/3)
يقول الإمام الآجري: «فالأعمال ـ رحمكم الله ـ بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان؛ فمن لم يصدق الإيمان بعمله بجوارحه مثل الطهارة والصلاة لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً لإيمانه، وكان العمل بما ذكرناه تصديقاً منه لإيمانه...، وقد قال - تعالى - في كتابه وبين في غير موضع أن الإيمان لا يكون إلا بعمل، وبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما قالت المرجئة الذين لعب بهم الشيطان. قال الله - تعالى -: {لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة: 177].. » ا. هـ(2). وكذلك إذا حصل الإيمان التام في القلب فإنه يستلزم العمل الظاهر ولا يتخلف عنه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر»(3).
وكذلك لا يتصور وجود إيمان في القلب ولو ادعاه بلسانه وهو يترك الفرائض كلها ويقع في المكفرات والنواقض كسبِّ الله والرسول ونحوها، وقد قرر هذا العلماء وهذا من الصور التي يتلازم فيها الظاهر بالباطن، وإن لم يظهر الجحود، وإن زعم أنه يؤمن بوجوب هذه الفرائض وبحرمة وكفر من وقع في هذه النواقض؛ فإن هذه الدعوى لا تنفع صاحبها فأما في ترك الفرائض فيقول الإمام الحميدي: «أُخبرت أن قوماً يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، أو يصلي مسندَ ظهره مستدبرَ القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً، إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه إذا كان يقر بالفروض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفعل المسلمين. قال الله - عز وجل -: {حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، قال حنبل: قال أبو عبد الله (يعني الإمام أحمد) أو سمعته يقول: «من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به» ا. هـ. (4).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر، والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث: قول وعمل: قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد» ا. هـ(5).
ويزيد الأمر وضوحاً فيقول: «إن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عندالضعف، فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أوجب بغض أعداء الله؛ كما قال - تعالى -: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]، وقال - تعالى -: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22]، وقد يحصل من الرجال نوع من موادتهم لرحم أو حاجة فيكون ذنباً ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] »ا. هـ. (6).
ويقول أيضاً: «فالإيمان الذي في القلب، لا يكون بمجرد ظن تصديق القلب ليس معه عمل القلب وموجبه من محبة الله ورسوله ونحو ذلك، كما أنه لا يكون إيماناً بمجرد ظن وهوى، بل لا بد في أصل الإيمان من قول القلب وعمل القلب» ا. هـ. (7).
ويقول أيضاً: «فلا بد في الإيمان الذي في القلب من تصديق بالله ورسوله وحب الله ورسوله؛ وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ورسوله ومعاداة الله ورسوله ليس إيماناً باتفاق المسلمين» ا. هـ. (8).
والكلام في هذا الأمر يطول ويصعب استقصاؤه في مثل هذه العجالة؛ وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(9).
د. ناصر بن يحيى الحنيني
----------------------------------------
(1) التسعينية (3/938ـ 939) باختصار.
(1) بيان تلبيس الجهمية (2/56).(/4)
(2) المصدر السابق (2/156)، وانظر (2/157).
(3) قال ابن الجوزي في تعريف الهوى: «اعلم أن الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل قد خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم ما أكل، وإلى المشرب ما شرب، وإلى المنكح ما نكح، وكذلك كل ما يشتهيه؛ فالهوى مستجلب له ما يفيد، كما أن الغضب دفاع عنه ما يؤذي، فلا يصلح ذم الهوى على الإطلاق، وإنما يذم المفرط من ذلك، وهو ما يزيد على جلب المصالح ودفع المضار» ا. هـ. ذم الهوى، ص 18 تحقيق أحمد عطا، ط. دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1413هـ، والكتاب من أنفس من تكلم عن هذا الموضوع (أعني اتباع الهوى).
(4) جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/397).
(5) بيان تلبيس الجهمية (1/149-150) باختصار.
(6) انظر تفصيل الرد على من زعم أن الإيمان في اللغة هو التصديق فقط في: مجموع الفتاوى 7/123، 289، شرح الطحاوية ص 471 ـ 473 ط. ت. د. التركي.
(1) الإيمان ضمن مجموع الفتاوى، 7/ 286 ـ 288، وانظر كلام الإمام أحمد في إنكاره ورده على المرجئة باحتجاجهم على باطلهم بغير ما ورد في الشرع، السنة، للخلال (4/23-25).
(2) الإيمان ضمن مجموع الفتاوى، 7/ 35.
(3) الإيمان لأبي عبيد، ص10 ت: الألباني.
(4) انظر اللالكائي (5/886) ومجموع الفتاوى (7/209).
(5) الشريعة، للآجري (2/611) ط. دار الوطن، ت: د. الدميجي.
(6) الحديث في الصحيحين.
(7) شرح حديث جبريل أو (الإيمان الأوسط) لشيخ الإسلام ابن تيمية، 2 ص 383، طبعة ابن الجوزي، تحقيق الدكتور، علي الزهراني.
(8) الإيمان الأوسط، ص 428.
(1) الإيمان الأوسط، ص 412.
(2) الشريعة للآجري (2/614).
(3) مجموع الفتاوى (7/204).
(4) الأثر أخرجه الخلال في السنة (3/586)، واللالكائي (5/887).
(5) مجموع الفتاوى (7/187).
(6) الإيمان الأوسط، ص 402.
(7) المرجع السابق، ص 412.
(8) المرجع السابق، ص 422.
(9) أنظر لزاماً للفائدة ما كتبه الدكتور عبد الله القرني في كتابه: ضوابط التكفير، ص 288 ـ 307 طبعة عالم الفوائد، الطبعة الثانية، 1420هـ.(/5)
أصول وقواعد في الاتفاق والافتراق
د. إسماعيل محمد حنفي*
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
يطيب لي أن أقدم هذا البحث المتواضع بعنوان: (أصول وقواعد في الإتفاق والافتراق)، مساهمةً في مؤتمر (العمل الإسلامي بين الاتفاق والافتراق) والذي يتكرَّم الإخوة الأفاضل في قسم الثقافة الإسلامية في جامعة الخرطوم بإقامته، جزاهم الله خيراً ووفَّق سعيهم لجمع صف العاملين في الحقل الإسلامي.
وقد تناولت الموضوع من خلال ثلاثة مباحث وخاتمة كما يلي:
v المبحث الأول: لتحقيق الاتفاق واجتناب الافتراق.
v المبحث الثاني: في حال الاتفاق.
v المبحث الثالث: في حال عدم الاتفاق.
v خاتمة: أ/النتائج ب/التوصيات.
وقد قسمت كل مبحث إلى خمسة أو أربعة أجزاء (أولاً، ثانياً،...)
حاولت في هذا البحث استنباط بعض الأصول والقواعد التي تساعد في جلب الاتفاق في حقل الدعوة الإسلامية، ونقصد بالاتفاق هنا وحدة الصف أي لمَ َّالشمل، وتجنُّب الشِّقاق، وقصدت كذلك رصد أصول وقواعد تعين على تجاوز حالات الانقسام والفرقة، أو التعامل معها وفق منهج شرعي حكيم.
ولا شكَّ أنَّ كل جزئية تحتاج إلى تفصيل كثير ونُقُولٍ لكلام أهل العلم، وذكرٍ لنماذج من الوقائع والأحداث، ولكن المقام لا يتسع لذلك، ويمكن أن يُوسَّع الموضوع إذا أُريد نشره بإذن الله.
ولعلِّي كذلك هدفت من خلال هذا العمل إلى تبسيط الموضوع ليكون استيعابه سهلاً لا يؤدي إلى الإغراق في التفاصيل والجزئيات، وإنَّما يُكتفى فيه بإيراد ما يسهل تذكره والعمل به.
وإني على يقين أنَّ هناك من سيضيف الكثير إلى الموضوع وفق فكرته الأساسية، كما أن النقد والملاحظات أمر وارد، أو لعلَّها تثري الموضوع بإذن الله.
المبحث الأول
لتحقيق الاتفاق واجتناب الافتراق
أولاً: البراء والولاء يدفعان البلاء
ثانياً: إصلاح ذات البين أصل في الدين
ثالثاً: الارتفاق سبيل للاتفاق
رابعاً: لا مفارقة لأهل الإيمان إلا ببيان
خامساً: التوافق أولى من التفارق
المبحث الأول
لتحقيق الاتفاق واجتناب الافتراق
أولاً: البراء والولاء يدفعان البلاء:
البراء والولاء أصل من أصول الإسلام، وهما مظهران من مظاهر إخلاص المحبة لله، ثم لأنبيائه وللمؤمنين.
والبراء مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله. وهذا أصل من أصول الإيمان، أمَّا أهميته بالنظر للوقت الحاضر فلأنه قد اختلط الحابل بالنابل! وغفل الناس عن مميزات المؤمنين التي يتميزون بها عن الكافرين، وضَعُفَ الإيمان في قلوبهم حتى ظهرت فيهم مظاهر يكرهها المؤمن. والوا الكافرين أمماً ودولاً، وزهدوا في كثير من المؤمنين، وحطُّوا من قدرهم وساموهم سوء العذاب"([1]).
الولاء في اللغة([2]): يدور حول النصرة والمحبة. والموالاة ضد المعاداة، والولي ضد العدو.
الولاء في الاصطلاح([3]): النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطناً. فالولاء في الله هو محبة الله ونصرة دينه ومحبة أوليائه ونصرتهم. وموالاة الكفار تعني التقرب إليهم وإظهار الوُدْ لهم، بالأقوال والأفعال والنوايا.
أما البراء في اللغة([4]): فيدور حول التخلص والتباعد.
وفي الاصطلاح([5]): يعني البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار.
يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ: "ولما عقد الله الأخوة والمحبة والموالاة والنصرة بين المؤمنين، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم من يهود ونصارى وملحدين ومشركين وغيرهم كان من الأصول المتفق عليها بين المسلمين: أنَّ كل مؤمن موحِّد تارك لجميع المكفرات الشرعية تجب محبته وموالاته ونصرته، وكل من كان بخلاف ذلك وجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته، وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة والإمكان.
وحيث إنَّ الولاء والبراء تابعان للحب والبغض فإنَّ أصل الإيمان أن تحب في الله أنبياءه وأتباعهم، وتبغض في الله أعداءه وأعداء رسله"([6]).
ويتأكد من خلال ذلك أن الولاء والبراء أصل من الأصول التي يتعامل بها المسلم، ولا يكتفي بالاعتقاد في الغالب فقط أنه تجب عليه موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين.
وهو كذلك ينبغي أن يدرك أن المؤمنين أنفسهم ليسوا على درجة واحدة من الإيمان، ومن ثم في العمل التابع لذلك الإيمان فقد يقع منهم التقصير أو الخطأ، فيكون التعامل معهم بالعدل حينئذ كما قرر علماؤنا: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور، وطاعة ومعصية، وسُنَّة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له هذا وهذا"([7]).(/1)
ولعلَّ الإشكال هو أنَّ بعض النَّاس ربما وَجَّه هذا الأصل إلى غير الأهداف الشرعية النبيلة، فيستخدمه غالياً في فهمه والعمل به للتفريق لا للجمع، فقط لأنَّ أخاه أساء إليه أو ظلمه أو أخطأ في الفهم فارتكب إثماً لا يستحق عليه التبرؤ منه ومعاداته. يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو يتحدث عمَّا يحدث من الهجر بين المؤمنين بحق أو بدون حق: "وإذا عُرِف هذا، فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها رسوله: فالطاعة لا بُدَّ أن تكون خالصةً لله، وأن تكون موافقةً لأمره، فتكون خالصةً لله صواباً، فمن هجر لهوىً نفسه، أو هجر هجراً غير مأمور به، كان خارجاً عن هذا. وما أكثر ما تفعل النُّفوس وما تهوى، ظانَّةً أنَّها تفعله طاعةً لله. والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز لأكثر من ثلاث، فهذا الهجر لحق الإنسان حرام، وإنَّما رُخِّص في بعضه، كما رُخِّص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت, كما رُخِّص في الهجر ثلاث، فينبغي أن يُفرَّق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه. فالأول مأمورٌ به, والثاني منهيٌّ عنه، لأنَّ المؤمنين إخوة"، ثم يقول: "وهذا لأنَّ أمر الهجر من باب العقوبات الشرعية، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله. وهذا يُفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله. والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله. فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه, فإنَّ الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية. قال تعالى: ]وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ[ إلى قوله:
]إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[ ([8])، فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم. فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أنَّ المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فإن الله سبحانه وتعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه, والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه "([9]).
ثانياً: إصلاح ذات البين أصل في الدين:
يقول الله سبحانه وتعالى: ]فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ[ ([10]).
هذا يدل على أن الاجتماع والتآلف وإصلاح ذات البين أصل من أصول الدين، وقد أكد ذلك المحققون من أهل العلم:
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في ذلك: "تعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدِّين تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين فإنَّ الله تعالى يقول: ]فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ[ ([11])، ويقول: ]وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا[ ([12])، ويقول: ]وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ ([13]).
وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهي عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أنَّ الخارجين عنه هم أهل الفرقة "([14]).
ويقول: "فإنَّ الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن الفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان "([15]).
إنَّ النصوص القرآنية التي ذكرنا طرفاً منها في بداية هذه الجزئية تشير إلى وجوب الاعتصام بحبل الله المتين وتنهى في المقابل عن التفرُّق والاختلاف المؤدِّي إلى التنازع والشِّقاق مثل بعض الناس الذين وقعوا في ذلك فكانت عاقبتهم الفشل والضَّلال البعيد.
وكأنَّ الآيات تُلمِّح إلى أنَّ الاتفاق وإنْ حصل ولكن احتمال الشقاق الاختلاف وارد، وقد تفسد ذات البين بين المؤمنين والمطلوب المبادرة إلى إصلاحها والإصلاح يتطلب تنازلاً من كل طرف، وهذا لا يكون إلا بإخلاص النوايا لله ثم مغالبة هوى النَّفس وشهوتها بطاعة الله ورسوله.
لذلك كان الساعي في الإصلاح بين النَّاس موفِّقاً في الجمع بين المتخاصمين إن كان يريد الإصلاح فعلاً: ]إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا[ ([16]).(/2)
وأنقل فيما يلي صورة رائعة من تاريخنا للسعي إلى الإصلاح وجمع الكلمة: يقول الإمام ابن كثير (رحمه الله): "... فبعث عليٌّ القعقاع رسولاً إلى طلحة والزبير بالبصرة يدعوهما إلى الألفة والجماعة، ويعظم عليهما الفُرقة والاختلاف، فذهب القعقاع إلى البصرة فبدأ بعائشة أم المؤمنين فقال: أي أُمَّاه، ما أقدمكِ هذا البلد؟ فقالت: أي بُنيّ الإصلاح بين الناس. فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا عندها، فقال القعقاع: إنِّي سألتُ أُم المؤمنين ما أقدمها؟ فقالت: إنَّما جئت للإصلاح بين الناس، فقالا: ونحن كذلك، قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ وعلى أي شيءٍ يكون، فوالله لئن عرفناه لنصلِحنّ، ولئن أنكرناه لا نصلحنّ. قالا: قتلة عثمان، فإنَّ هذا إن تُرِك كان تركاً للقرآن. فقال: قتلتما قَتَلَتَهُ مِنْ أهلِ البصرى، وأنتما قبل قتلِهِم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجلٍ فغضب لهم ستة آلاف، فاعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمَنَعَهُ ستةُ آلاف، فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم فأُديلوا عليكم كان الذي حذِرتم وفرقتم مِنْ هذا الأمر أعظم ممَّا أراكم تدفعون وتجمعون منه، يعني أنَّ الذي تريدونه من قَتْلِ قَتَلَةِ عثمان مصلحة، ولكنه يترتَّب عليه مفسدةٌ هي أرْبَى منها، وكما أنَّكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير لقيام ستة آلاف في منعه ممَّن يريد قتله، فعليٌّ أعْذَر في تركِهِ الآن قتَلَ قتَلَة عثمان، وإنَّما أخَّرَ قتل قَتَلَة عثمان إلى أن يتمكَّن منهم، فإنَّ الكلمة في جميع الأمصار مختلفة. ثمَّ أعْلَمَهُمْ أنَّ خَلْقاً من ربيعةَ ومُضر قد اجتمعوا لحربهم بسبب هذا الأمر الذي وقع. فقالت له عائشة أم المؤمنين: فماذا تقول أنت؟ قال: أقول إنَّ هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين، فإن سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة وإدراك الثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر وائتنافه كانت علامة شر وذهاب هذا المُلك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خيرٍ كما كنتم أولاً، ولا تعرِّضونا للبلاء فتتعرَّضوا له فيصرعنا الله وإيَّاكم، وأيم الله إنَّي لأقول قولي هذا وأدعوكم إليه وإنِّي لخائفٌ أنْ لا يتم حتى يأخذ الله حاجته مِنْ هذه الأُمَّة التي قلَّ متاعها ونزل بها ما نزل، فإنَّ هذا الأمر الذي قد حدث أمرٌ عظيم، وليس كقتل الرجلِ الرجلَ ولا النَّفرِ الرجلَ ولا القبيلةِ القبيلة. فقالوا: قد أصَبْتَ وأحْسَنْت، فارجع فإنْ قَدِمَ عليٌّ وهو على مثل رأيك صلُحَ الأمر. قال: فرجع إلى عليّ فأخبره، فأعجبه ذلك، وأشرفَ القومُ على الصُّلح، كَرِه ذلك مَنْ كرِهَهُ، ورَضِيَهُ من رَضِيَهُ. وأرسلتْ عائشة إلى عليّ تُعْلِمُهُ أنَّها إنَّما جاءت للصُّلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام عليٌّ في النَّاس خطيباً فذَكَرَ الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهله بالأُلفة والجماعة، وأنَّ الله جمعهم بعد نبيِّه (صلى الله عليه وسلم) على الخليفة أبي بكر الصِّديق، ثم بعده على عمر بن الخطَّاب، ثم على عثمان، ثم حدث هذا الحدث الذي جرى على الأُمَّة، أقوامٌ طلبوا الدُّنيا وحسدوا مَنْ أنْعَمَ الله عليه بها، وعلى الفضيلة التي منَّ الله بها، وأرادوا ردَّ الإسلام والأشياء على أدبارها"([17]).
قلت: قد نطق القعقاع (رضي الله عنه) بالحكمة:
ـ حين بصَّرهم بالمصلحة الأكبر التي تفوت في مقابل المصلحة التي يطلبون. وبالمفسدة الأعظم التي ستحصل في سبيل محو المفسدة الحاصلة.
ـ حين بصَّرهم بالدواء وهو "التسكين". وما أحوجنا إليه الآن وفي كل وقت.
ـ ثمَّ لمَّا حذَّرهم من زوال المُلك .. فماذا سيكسب الطرفان من ذلك؟ حين يتولاَّه أعداء الدين؟
أليس إصلاح ذات البين واجباً لأنَّ بقاء الدِّين لا يكون إلاَّ به؟
وأليس رفض الصُّلح حراماً لأنَّ ضياع الدين يكون بسببه؟ ... اللهمَّ بلى.
ثالثاً: الارتفاق سبيل للاتفاق:
ونقصد هنا الرفق بالمخالف، وذلك لأنَّ الرفق محبَّبٌ إلى الناس، لأنَّ الإنسان بطبعه وفطرته يحب الإحسان ويكره الإساءة، وهو يقبل من طريق الرفق ما لا يقبل من طريق العنف والشدّة.
وقد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إنّ الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف)([18])، وقال: (إنَّ الرِّفق لا يكون في شئ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلاَّ شانه)([19])، وعن جرير ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً: (مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الخيرَ كُلَّه)([20])، والمراد أنَّ الرفق مدعاةٌ إلى القبول، قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: "ما أغضبتَ رجلاً فَقَبِلَ مِنْكَ"([21]).(/3)
فإذا أردنا للآخرين أن يتفقوا معنا أو أن يضعوا أيديهم على أيدينا، فلا سبيل لذلك إلا بتليين قلوبهم وكسب مودتهم ،وذلك لا يكون بالعنف والشدة، وإنَّما بالرفق واللين، ولذا كان السلف الصالح ـ رحمهم الله ـ يسلكون هذا السبيل مع مخالفيهم في الرأي ومن أساء إليهم.
رابعاً: لا مفارقة لأهل الإيمان إلاَّ ببيان:
إن كان الأصل في علاقاتنا مع المؤمنين الاجتماع علي الإسلام والولاء لله ورسوله، فإنَّ الافتراق عنهم لا يكون إلاَّ لأمرٍ بيِّنٍ بمستوى ذلك الرابط والميثاق الغليظ، فلا يكون إلا بيقين لأنَّ ما ثبت بيقين، لا يزول إلا بيقين، واليقين لا يزول بالشك كما قال أهل العلم في قواعدهم([22]).
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر شيئاً من أدلة وجوب الاجتماع والنهي عن الافتراق: "فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى وقد بَرَّأ الله نبيَّه (صلى الله عليه وسلم) مِمَّن كان هكذا، فهذا فعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم .. وأما أهل السُّنَّة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله"([23]).
ولذا كان التثبت مطلوباً شرعاً: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[ ([24])، والندم قد يكون عظيماً لأن الخسارة قد لا تنحصر آثارها فهي فرقة ونزاع وشقاق، قد تكون عواقبها وخيمة على الأفراد والجماعات بل الشعوب والدول.
يقول الإمام ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: "ما اعتمد أحد أمراً إذا هَمَّ بشيءٍ مثل التثبُّت، فإنَّه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم، ولهذا أُمِرَ الإنسان بالمشاورة، لأنَّ الإنسان بالتثبُّت يطول تفكيره فتعرض على نفسه الأحوال، وكأنَّه شاور. وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره.
وأشد الناس تفريطاً مَنْ عَمِلَ مبادرةً في واقعة من غير تثبت ولا استشارة، خصوصاً فيما يوجبه الغضب، فإنَّه بنزقِهِ طلب الهلاك أو استتبع الندم العظيم، فالله الله! التثبُّت التثبُّت! في كل الأمور، والنظر في عواقبها، خصوصاً الغضب المثير للخصومة "([25]).
خامساً: التوافُق أَوْلَى مِن التفارُق:
أو بعبارة أخرى: ليس كل من أخطأ يُفارَق، والتوافُق أَوْلَى مِن التفارُق:
وذلك لأننا بشر، نتعامل مع بشر مثلنا، والخطأ متوقع من كل إنسان كما ورد في الحديث: (كل بني آدم خَطَّاء، وخير الخطَّائِين التَّوابون)([26])، فإن كُنَّا نسارع بتفسيق أو تبديع ـ ومن ثم مفارقة ـ كل مخطئ ومقاطعته فَمَنْ يبقى لمن؟ أليس الأولى التوافق؟
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يُضلِّل غيره ويُكفِّره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم أخطأ في كل شيء من أمور الدين فليس كل مَنْ أخطأ يكون كافراً أو فاسقاً، بل قد عفا الله لهذه الأمة الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين: ]ربَّنا لا تؤاخذنا إنْ نسينا أو أخطأنا[ ([27])، وثبت في الصحيح أن الله تعالى قال:
(قد فعلت)([28])"([29]). مع الانتباه إلى أن الخطأ يختلف، فـ: "من كان خطئوه لتفريط فيما يجب عليه من اتِّباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعدِّيه حدود الله، بسلوك السبيل التي نُهِيَ عنها، أو لاتِّباع هواه بغير هدىً من الله، فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطناً وظاهراً، الذي يطلب الحق باجتهاده، كما أمر الله ورسوله، فهذا مغفورٌ له خطؤه"([30]).
ولذا كان أصحاب منهج المسارعة بالمفارقة بعد الاتِّهام منهجاً منحرفاً، قال علماؤنا: "ومَنْ جَعَلَ كُلَّ مجتهدٍ في طاعةٍ أخطأ في بعض الأمور مذموماً معيباً ممقوتاً، فهو مخطئ ضال مبتدع "([31]).
فأيُّهما أولى بالعمل: تَرَصُّدُ النَّاس لا سيّما أهل الفضل والعلم .. لمحاسبتهم والحكم عليهم ومفارقتهم ،أم التماس الأعذار لهم؟ أليس كُلٌّ يُؤْخَذُ مِنْ قولهِ ويُرَدْ إلاَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم)؟
يقول الذهبي ـ رحمه الله ـ وهو يدفع العتاب عن بعض أهل العلم: "ولو أنَّا كُلَّما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه، وبَّدعناه وهجرناه، لَمَا سَلِمَ معنا لا ابنُ نصرٍ ولا ابنُ مندهٍ ولا مَنْ هو أكبر منهما، والله هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة"([32]).
إنَّنا نعني هنا أنَّ الخلاف لو حدث فإمَّا أن يتمسك كُلٌّ برأيه وموقفه ولا يتزحزح عنه، لاعتقاده أنه على صواب، والآخر على خطأ قولاً واحداً، وإمَّا أنْ يقبل كُلُّ واحدٍ أن يكون هناك احتمال لصواب الآخر وخطئه هو.(/4)
ومِنْ ثمَّ أليس الأفضل لكليهما أن يجلسا ويتعاونا فيما يجمعهما، وأن يتوافقا على المشترك بينهما، فيعضِّد بعضُهما الآخر فيه ليكونا صَفَّاً واحداً على مَنْ يخالفهما في الأمور الكبيرة الخطيرة ؟
ألم يذهب أهلُ العلمِ عند تعارض الدليلين إلى مذهب الجمع والتوفيق بينهما قبل ترجيح وتقديم أحدهما على الآخر؟ وذلك بحسبان أن الجمع بين الدليلين فيه إعمال لهما كليهما، بخلاف ترجيح أحدهما علي الآخر، ففيه عمل بأحد الدليلين وتعطيل للآخر([33]).
ولعل التوافق بين المختلفين في حقل الدعوة الإسلامية فيه إعمال لجهديهما وطاقتيهما ومواهبهما، بل أكثر من ذلك إضافة قوة كل منهما إلى الآخر ليُولَد كيانٌ جديدٌ يجمع محاسنَ الفرقاء ويستثمر خبراتهم.
ولو تأمَّلنا في وصية النّبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري (رضي الله عنهما) حين أرسلهما إلى اليمن، لوجدنا هذا المعنى، حيث قال لهما: (تطاوعا ولا تختلفا)([34])، أي "لا يُصِرُّ كُلٌّ على منكما على رأيه واجتهاده؛ ويُصعَّد الخلاف حوله، وإنَّما يتساهل فيه ليقدم وحدة العمل على اختلاف الاجتهاد والآراء"([35]).
المبحث الثاني:
في حال الاتفاق
أولاً: التأسيس على التقوى أقوى.
ثانياً: الابتداء لا يستلزم البقاء.
ثالثاً: التعاون في المتفق عليه، والتسامح في المختلف فيه.
رابعاً: ما لا حُجَّة عليه لا التفات إليه.
المبحث الثاني
في حالة الاتفاق
أولاً: التأسيس على التقوى أقوى:
ومقصودنا هنا أن الاتفاق بين أهل الإيمان ينبغي أن ينشأ نشأة صلبة متينة، كالبنيان يكون أساسُهُ قوياً فيثبت، وبنيان أهل الإيمان لا يكون قوياً إلا إن كان أساسه التقوى:
]أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ[ ([36]). إنَّه البنيان الذي تراصت لبناته وتماسكت حتى أضحت صَفَّاً يصعب اختراقه وهدمه حتى عند القتال: ]إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاًّ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ[ ([37]). روي ابن كثير عن سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ أنَّه قال في قوله تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاًّ[: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يقاتل العدو إلا أن يصافّهم، وهذا تعليم من الله للمؤمنين. وقوله: ]كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ[ أي ملتصق بعضه في بعض من الصف في القتال، وقال مقاتل بن حيان: ملتصق بعضه إلى بعض، وقال ابن عباس: ]كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ[: مثبت لا يزول ملصق بعضه ببعض. وقال قتاده: ]كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ[: ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحب يختلف بنيانه. فكذلك الله عز وجل لا يحب أن يختلف أمره، وأن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله عصمة لمن أخذ به"([38]). والتأسيس على التقوى إنَّما يكون بمراقبة الله تعالى، فهو الشاهد على كل اتفاق والرقيب على أهله، فمن وفى كان وفاؤه لله، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه لأنَّ غضب الله ينتظره. فبذلك يُضمن المحافظة على بنود الاتفاق والوفاء بها. إن التأسيس للاتفاق على التقوى يستلزم الدقة في صياغة أركانه وجزئياته لتستوفي كل الجوانب المهمة التي أثبت الواقع كثرة الخلاف بسببها. فإن حصل التوافق حولها ووقع المتفقون على ذلك بقي أمر التطبيق، وهو يرتبط بالتقوى التي قام عليها الاتفاق وتوقيعه، وتستلزم الأمانة والصدق في الوفاء بالعهد ومراقبة الله تعالى في العمل بما اتُّفِق عليه.
إنَّ ما ذكرناه هنا من أمر اتفاقٍ مدوَّنٍ ليس بالأمر الغريب فقد عقد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وثيقة المدينة([39]) التي فيها تنظيم للعلاقة بين أعضاء المجتمع المدني من جانبين: الجانب الأول: المسلمون فيما بينهم من أهل البلد الأصليين (الأنصار) والوافدين من خارج البلد (المهاجرين)، فكانت الوثيقة من هذا الجانب استباقاً لأي خلاف أو نزاع ينشأ بين المؤمنين، لوجود أسباب الخلاف المحتمل من محدودية الأرض والموارد، ووجود اليهود والمنافقين ... إلخ.
وكان الجانب الآخر للوثيقة مُنظِّماً لعلاقة غير المسلمين بالمسلمين ودولتهم، وهذا لا يعنينا هنا.
ومعنى ذلك أنَّه عقد ميثاق للتقوى، ينظم العلاقة بين المتفقين من المؤمنين العاملين للإسلام، يمكن أن يتم سياسةً شرعية، بحيث يشارك فيه الجميع ويرتضونه ويلتزمون به، ويمكن أن تكون هناك لجنة عليا أو هيئة تراقب تنفيذ الميثاق، وهي تضم ممثلين للجميع، بحيث تتوافر فيهم سمات أهل العلم والتقوى.
ثانياً: الابتداء لا يستلزم البقاء:(/5)
ونقصد هنا أن الاتفاق لو تحقق فإن ذلك وإن كان مبشراً ومفرحاً لأهل الخير، إلا أنهم لا ينبغي عليهم أن يركنوا لذلك ويسترسلوا في الأمل، ويبرد سعيهم ويقل بذلك عطاؤهم وكأنَّهم جزموا بدوام الاتفاق وعدم زواله.
والصواب أن نتذكر أن الضعف والهرم يأتي على الكائنات الجامدة كما يأتي على الحيَّة منها. فالكيانات والتجمُّعات تشيخ وتضعف وربما تنهار وتتلاشى, كما أن التطور سنة في هذا الكون ولابد من تدارك الاتفاق أولاً بأول، ولا يأتي ذلك إلا بجودة الرقابة وحكمة التعامل التي تستصحب تلك المتغيرات والنوازل التي ربما تستلزم ترميماً أو إصلاحاً لخلل وقع أو تدبيراً وترتيباً لشيءٍ متوقع حدوثه.
إنَّ التحوُّط مطلوب، وأخذ الحذر واجب، لأنَّه يُمكِّن مِن التصدِّي للشَّر ودفعه قبل وقوعه أو تقليل آثاره إن وقع، يقول تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعَاً[ ([40]).
وأخذ الحذر يكون بالانتباه إلى مهدِّدات الاتفاق، ومنها:
مخالفة أمر الله تعالى وعدم رعاية حرمة العهود: قال سبحانه: ]فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ ([41]).
النِّفاق: إنَّه الخطر الماثل دائماً للجماعة المؤمنة، لا يعجب المنافقين اجتماعٌ أو تآلف، لأنَّه شرٌّ عليهم ومهدِّدٌ لهم. قال الله عنهم: ]وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ[ ([42])، فالخطورة فيهم حسن مظهرهم وبلاغة كلامهم أو حلاوة ألفاظهم وتنميقهم لها بما قد يؤثرون به في المؤمنين فيشقون صفهم. قال ابن كثير في تفسير الآية المذكورة: "أي وكانوا أشكالاً حسنة وذوي فصاحة ألسنة، وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخور والهلع والجزع والجبن، ولهذا قال سبحانه: ]يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ[ أي كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف يعتقدون ـ لجبنهم ـ أنه نازل بهم كما قال سبحانه: ]أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً[ ([43]). فهم جهامات وصور بلا معاني، ولهذا قال تعالى هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، أي كيف يُصْرَفون عن الهدى إلى الضلال"([44]).
وكتب السيرة فيها نماذج من ممارسات المنافقين لتفريق الجماعة المؤمنة. ولكن كانت حكمة النبي r وحسن قيادته سبباً في إفشال كل ذلك بفضل الله([45]).
ومن المهدِّدات كذلك التي حذَّر الله منها:
الكفار عموماً، واليهود المشركون منهم على وجه الخصوص: فقد حذَّر الله من عداوتهم الشديدة، والعداوة الشديدة هي التي تدفع لكل تصرف أو تدبير سيئ، ومن ذلك السعي لإيقاع الفتن والخلاف بين المؤمنين: ]لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا[ ([46]).(/6)
وقد ورد في كتب السيرة والتفسير أنَّ "شاس بن قيس" وكان شيخاً قد عاش في الجاهلية عظيم الكفر، شديد الغضب على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرَّ على نفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الأوْس والخزرج في مجلسٍ قد جمعهم يتحدَّثون فيه، فغاظه ما رأى من إلْفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، واللهِ ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. فأمر فتىً شابَّاً معه من زُفَر، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثمَّ ذكِّرهم يوم بُعاثٍ وما كان قبله، وأنْشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. وكان يوم بُعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، ففعل، وتكلَّم القوم ثَمَّ ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين على الركب أوس بني قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجبَّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثمَّ قال أحدهما لصاحبه: إنْ شئتم والله رددناها جذعة. وغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا...السلاح السلاح...موعدكم الظاهرة، والظاهرة الحرَّة. فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: (يا معشر المسلمين، الله الله، أبِدَعْوَى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذْ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كُفَّاراً؟!
فعرف القوم أنَّها نزغةٌ من الشيطان وكيد من عدُوَّهِ لهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شاس. وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع: ]قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ[ إلى قوله تعالى: ]وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[ ([47]))([48]).
الزعماء والحكام: لا سيما مِن غير المسلمين، وبعض حكام المسلمين، فكتب السيرة تؤكد لنا كيف أن أمثال هؤلاء قد ينتهزون أي فرصة، ويستثمرون أي ظرف لكسب بعض المؤمنين لصفهم، ومن ثم الإستفادة منهم في تفتيت الجماعة المؤمنة.
وقصة كعب بن مالك ـ رضي الله ـ عنه بعد تخلُّفه عن غزوة تبوك وهجر الرسول (صلى الله عليه وسلم) له ولصاحبيه تدل على ذلك: حيث ورده خطاب من ملك غسان فيه: "أمَّا بعد، فإنَّه بلغني أنَّ صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فَالْحَقْ بِنَا نُواسِكَ" ولكن كعباً ـ رضي الله ـ عنه حبسه إيمانه وتقواه وعَلِم أن الله يمتحنه فقال :" وهذا أيضاً من البلاء"([49]). ثم أتْبَعَ ذلك بالعمل بأن أحرق ذلك المكتوب حيث قال: "فتيمَّمتُ بها التَّنور فسجرتها"([50]).
ثالثاً: التعاون في المتفق عليه والتسامح في المختلف عليه:
وهذا من الأدب الجم، ولعلَّها من العبارات التي تستحق أن تُكتب بماء الذهب كما يقولون، رحم الله من قالها مِنْ خِيرة دُعاة هذه الأُمَّة، ومَنْ عَمِلَ بها.
وهذا الأصل ينطلق من نصوص الشريعة، يقول الله تعالى: ]وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ[ ([51]).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما يرويه عن ربه تعالى: (وحقَّت محبَّتي للذين يتناصرون من أجلي، وحقَّت محبَّتي للذين يتصادقون من أجلي)([52]).
إنَّ المراد بذلك طمأنة كل مَنْ يفكر في الانضمام إلى إخوانه في تجمُّع يُشكِّل صَفَّاً لأهل الإيمان، وحائطاً تتكسر عنده حملات الكيد للإسلام وأهله. ربما يكون التردد في هذا التعاون على البر والتقوى ليس رفضاً للمبدأ وإنَّما خوفاً مِن الذوبان، وضياع الشخصية المميّزة لمجوعة أو جماعةٍ مّا، وتعطُّل برامجها وتلاشي منهجها الدعوي، وتخليها عن واجب النصح للآخرين فيما يظهر لها من نقص أو تجاوز لديهم.(/7)
ليس الأمر كذلك ، إنَّما الاتفاق المنشود يكون بناءً على أن ما يجمع أكثر مما يفرق، وأن القواسم المشتركة أكبر، فإن كان الأمر كذلك فليكن الاتفاق قائماً على صَبِّ المجهود لدعم المتفق عليه وتقويته ونصرته، وهذه هي المولاة في الله، والتعاون على البر والتقوى، وأما المختلف فيه فليجتهد الجميع في التناصح والتشاور حوله بالحسنى، والتزام أدب الخلاف والحوار "والمقصود أنَّه لا بُدَّ أن نتعاون على البرِّ والتقوى، وأنْ نعالج مشاكلنا بالعلِمِ والحكمة والأسلوب الحسن، فمَنْ أخطأ في شيءٍ من هذه الجماعات أو غيرهم ممَّا يتعلق بالعقيدة، أو بما أوجب الله، أو ما حرَّم الله، نُبِّهوا بالأدلة الشرعية بالرِّفق والحكمة والأسلوب الحسن، حتى ينصاعوا إلى الحق، وحتى يقبلوه، وحتى لا ينفروا منه، هذا هو الواجب على أهل الإسلام أن يتعاونوا على البرِّ والتقوى، وأنْ يتناصحوا فيما بينهم، وأن لا يتخاذلوا فيطمع فيهم العدوّ "([53]).
وليس بالغريب أن يثمر ذلك تقارباً أكثر واقتناعاً لدى كل طرف بوجهة نظر الآخر ـ فيما كان الأمر فيه اجتهاداً والأدلة الواردة فيه ظنية الدلالة ـ ومِنْ ثَمَّ فإما أن يحدث الاتفاق حول المختلف فيه، أو التفهم لموقف الآخر، فيكون العذر له متوفراً بما يحقق احترامه وعدم الإساءة إليه أو الاستخفاف به.
وذلك كفيلٌ بدوام الاتفاق وصلابته أمام أي محاولات لتفتيته باستثمار مواطن الخلاف وتضخيمها والتركيز عليها والتحريض على النفخ في كيرها([54]).
رابعاً: ما لا حجة عليه لا التفات إليه:
ونريد أن نقول من خلال هذه العبارة إنَّ الأسس التي قام عليها الاتفاق بين أهل الخير والدعوة تُحتِّم عليهم العمل بالعلم الشرعي الذي لا يعترف بالتوهُّم في مقابل التصريح، ولا بالشك في مقابل اليقين، ولا بالظن البيِّن خطؤه في مقابل القطع الواضح صوابه ودلالاته.
إن العلاقة الطيبة ذات المنطلقات الشرعية والأهداف النبيلة لا ينبغي أنْ تُحدَّد نهايتها على أيدي حُدَثَاءِ الأسنان ضعيفي الإيمان والبنيان والبيان، مِمَّن لا يحسنون تقدير العواقب وربما نصبوا الأدلة لِفَضِّ الاتفاق ورفضه، ولكن بالتأمل قد نجد أن الأدلة لا تدل على ما ذهبوا إليه، مما يكشف قصوراً جلياً في الفهم والاستنباط، لأنهم لا يملكون آلته، قصرت بصائرهم عن معرفة الملابسات والظروف والأحوال التي خاطبتها النصوص ذات الدلالة الواسعة والأحكام المرنة.
إن المطلوب ألاَّ تُبنى الأحكام والقرارات العامة على حجج واهية واهنة، وإنَّما على الأدلة الصحيحة الصريحة، وبعد الرجوع إلى أهل العلم والخير مِمَّن لا يُتَّهمون بهوىً أو مصلحةٍ تتحكَّم في أحكامهم، ولا يخلو زمانٌ من أمثالهم، إن خَلُصَتِ النَّوايا وصلنا إليهم واستشرناهم واستفدنا من حكمتهم.
المبحث الثالث
في حال عدم الاتفاق
أولاً: إذا تعذَّر الاتفاق فليُجتَنَب الشِّقاق.
ثانياً: التعامل مع الافتراق أولى من تجاهله .
ثالثاً: التعامل مع الافتراق لا يعني قبوله.
رابعاً: الأمل في تجاوز الافتراق يستلزم العمل له.
خامساً: مَنْ لم يتفق معنا قد لا يكون ضدنا.
المبحث الثالث
في حالة عدم الاتفاق
أولاً: إذا تعذر الاتفاق فليُجْتَنَب الشقاق:
والمقصود بذلك أننا لو لم نتمكن من إدراك الغاية وهي تحقيق الاتفاق، فلا أقل من أن نتجّنب الشقاق والتناحر، لأنَّ مُؤدَّى ذلك إلى الفشل والضعف، يقول تعالى: ]وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[ ([55]).
وإنما يتحقق ذلك بالتأدب بالآداب الشرعية من إخلاص النية لله تعالي، واستحضار عظمته سبحانه، وحسن الظن بالآخرين، وإنصافهم وسلامة الصدر تجاههم، وإيجاد المخارج لكلامهم وحمله أحسن المحامل، والتماس العذر لهم، وسعة الصدر معهم، وقبول نقدهم ونصحهم، مع بذل النصح الصادق لهم في غير تشهير ولا مبالغة.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: "يعجبني ما وقع لبعض أهل العلم، وهو أنه كتب له إنسان من أهل العلم والدين ينتقده انتقاداً حاراً في بعض المسائل ويزعم أنه مخطئ فيها، حتى إنَّه قدح في قصده ونيته، وادَّعى أنَّه يدين الله ببغضه، بناءاً على توهم من خطئه. فأجاب المكتوب له:(/8)
يا أخي، إنَّك إذا تركتَ ما يجب عليك من المودة الدينية وسلكتَ ما يحرم عليك من اتهام أخيك بالقصد السيئ ـ على فرض أنه أخطأ ـ وتجنبت دعوة إلى الله بالحكمة في مثل هذه الأمور، فإني أخبرك ـ قبل الشروع في جوابي لك عما انتقدتني عليه ـ بأني لا أترك ما يجب عليَّ من الإقامة على مودتك والاستمرار على محبتك المبنية على ما أعرفه من دينك، انتصاراً لنفسي، بل أزيد على ذلك بإقامة العذر لك في قدحك في أخيك، بأن الدافع لك على ذلك قصد حسن لكن لم يصحبه علم يصححه، ولا معرفة تبيِّن مرتبته، ولا ورع صحيح يوقف العبد عند حدِّه الذي أوجبه الشارع عليه، فلحسن قصدك عفوتُ لك عمَّا كان منك لي من الاتهام بالقصد السَّيئ، فَهَبْ أنَّ الصواب معك يقيناً، فهل خطأ الإنسان عنوانٌ على سوء قصده؟ فلو كان الأمر كذلك لوجب رمي جميع علماء الأمة بالقصود السيئة فهل سلم أحد من الخطأ؟! وهل هذا الذي تجرَّأتَ عليه إلا مخالف لما أجمع عليه المسلمون من أن لا يحل رمي المسلم بالقصد السيئ إذا أخطأ؟ والله تعالى قد عفا عن خطأ المؤمنين في الأقوال والأفعال وجميع الأحوال.
ثم نقول هب أنه جاز للإنسان القدح في إرادة مَنْ دلَّت القرائن والعلامات على قصده السَّيئ، أفيحل القدح فيمن عندك من الأدلة الكثيرة على حسن قصده، وبُعْدِهِ عن إرادة السُّوء، ما لا يسوغ لك أن تتوهم فيه شيئاً مما رميته به، وإن الله أمر المؤمنين أن يظنوا بإخوانهم خيراً، إذا قيل فيهم خلاف ما يقتضيه الإيمان، فقال تعالى: ]لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً[ ([56]).
واعلم أن هذه المقدمة ليس الغرض منها مقابلتك بما قلتَ، فإني كما أشرت لك: قد عفوتُ عن حقي إنْ كان لي حق، ولكن الغرض النصيحة، وبيان موقع الاتهام من العقل والدِّين والمروءة والإنسانية"([57]).
ثانياً: التعامل أولى من التجاهل:
والمراد بذلك أن بعض الناس قد يدفعه كرهه للافتراق والخلاف إلى عدم الاعتراف بوجوده، أو التهوين من شأنه أو تجاهله. فتكون النتيجة زيادته واستفحاله، وحينها يكون الخرق قد اتسع على الراقع، فلا ينفع العلاج، لأنَّ عدم الاعتراف بالمرض لا يؤدي إلى زواله، وإنَّما تكون درجات المعالجة بعد الإحساس بالداء وتشخيصه ثم وصف الدواء الذي يناسبه.
والافتراق حالة مرضية تحتاج إلى معالجة ومعالجتها تكون بالتعامل معها تعاملاً حذراً يتلمس الحكمة، ويتجنَّب التسرع والتهور.
ثالثاً: التعامل مع الافتراق لا يعني الرضا به أو قبوله:
والمراد بذلك أن الافتراق إذا كان موجوداً فهو أمر واقع لا مهرب منه، مثله مثل الأشياء السيئة أو المذمومة في حياتنا، فإن بغضنا لها لا يؤدِّي إلى زوالها، وإنما المطلوب أن ندرك أنها موجودة شئنا أم أبينا، والواجب أن نعرف كيف نتعامل معها، محاولين إزالتها، فإنْ لم يمكن ذلك فتحجيمها وتقليل ضررها، وقد يستمر ذلك النوع من التعامل الذي يؤدي إلي حبس الشر أو السوء حتى لا يتسع. وهذا الذي نقصده في حالة الخلاف والافتراق الموجود فإننا نتعامل معه كشر لابد منه ـ ولو مؤقتاً ـ تعاملاً يؤدي إلي عدم اتساع دائرته أو آثاره.
وبذا يتضح أنه تعامل لا يفهم منه الرضا بالافتراق وإنَّما ملاطفته وإحسان معاملته إلى أن يغادر، وكأنَّ المراد أن نتعامل مع الافتراق ونحن نتطلع إلى الاتفاق، وهذا يضمن لنا بالتأكيد التعامل الحكيم الذي يبشِّر بتلاشي الافتراق وتحاشي الشقاق.
رابعاً: لتجاوز الافتراق: الأمل يستلزم العمل:
كما ذكرنا في (ثالثاً) فإن التطلُّع الدائم ينبغي أن يكون موجوداً ـ لدى المتفرقين جميعاً ـ نحو الوصول إلى الاتفاق، ولعل اشتداد وطأة الافتراق أحياناً تورث نوعاً من اليأس في انقضائه وحلول الاتفاق محله، وذلك بسبب التنازع الذي قد ينشأ، وشدة الخصومة بين الأطراف التي قد تطول.
ولكن المطلوب أن يبقى الأمل في رحمة الله تعالى: ]فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[ ([58])، ]وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ[ ([59])، يبقى الأمل كذلك في حلول نعمته سبحانه التي حلت على جيل الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ: ]وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[ ([60]).(/9)
ولكن الأمل يتبع العمل. العمل على تضييق فجوة الخلاف والسعي نحو أسباب الاتفاق. ولا يكون ذلك العمل موفقاً إلا إذا خَلُصَت النَّوايا لله سبحانه، وكان الاتِّباع للحق لا للهوى، والتعامل بالعلم لا بالجهل، والأخذ بالإنصاف لا الظلم.
خامساً: من لم يقف معنا قد لا يكون ضدنا([61]):
ونقصد بذلك عدم التسرع في الحكم على الآخرين الذين لم يشأ الله أن يتفقوا معنا، حيث إن الاحتمالات في حقهم عديدة: فقد يكونون من الباحثين عن الحق، ولم يهتدوا إليه بعد، أو لم تحصل القناعة في صدورهم ولكنهم ساعون إليها باذلون الجهد في إدراكها.
وقد يكونون متوجِّسين، باحثين عما يطمئنهم، يتطلعون إلى مزيد من اليقين والتثبُّت ـ وإن كان قد حصل بعضه ـ ليكون لهم أقوى على الاتفاق مع إخوانهم.
وقد يكونون متفقين معنا راغبين في وحدة الصف مقتنعين بها مطمئنين إليها، ولكنَّ ظرفاً قاهراً وعذراً مانعاً حال دون إظهار ذلك أو أدَّى إلى إخفائه مؤقتاً.
و احتمال رابع هو أن بعض أولئك إنما يمنعهم من الاتفاق مع إخوانهم مصلحة دنيوية يخافون زوالها، أو مفسدة قد تنزل بهم أو تحل قريباً من منهم، وإن كانوا في قرارة أنفسهم يميلون إلى الاتفاق، ولا يجدون أنهم ضده.
فإن كانت الاحتمالات واردة فإن من الخطأ والظلم أن نحكم على كل من لا يقف في صفنا بأنه عدو لنا، ومِنْ ثَمَّ نبرأ منه ونطلق عليه سهامنا ونجرحه ونصنِّف فيه المصنَّفات، ونحذِّر الناس منه.
فهذا ـ بالإضافة إلى مجانبته للإنصاف ـ فهو إصابة للآخرين بجهالة قد تكون عظيمة لا يجبر كسرها ولا يزول أثرها، وكل ذلك بسبب الاندفاع وعدم التبيُّن، وذلك خلاف المنهج القرآني، وخلاف منهج أهل العلم الأخيار.
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ و الاحتراز من أكل الحرام، والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرَّم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفُّظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدِّين والزُّهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقى لها بالاً ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب. وكم نري مِنْ رجلٍ متورِّعٍ عن الفواحش والظلم ولسانُهُ يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول "([62]).
والحكمة تقتضي أن نضع للصلح موضعاً ، وأن يكون لدينا خط رجعة كما يقولون، وذلك بعدم التسرع مع الآخر ـ الذي ذكرنا الاحتمالات في حقه ـ ولنذكر قول من قال: "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"([63]).
وقد قيل لأبي سفيان بن حرب رضي الله عنه :"بم نلت هذا الشرف؟ فقال: ما خاصمتُ رجلاً إلا جعلتُ للصُّلح بيننا موضعاً"([64]).
ولننظر إلى عدم الاتفاق الحالي على أنَّه وحشة مؤقتة ونفرة عارضة يمكن أن تزول، ولذا فلا بُدَّ من التمسُّك بأسباب الاتفاق وترجيحها على أسباب الافتراق، يقول بعض أهل العلم وهو يُعدِّد آداب العشرة: "ومنها الدوام للإخوان على حُسن العِشرة وإنْ وقعتْ بينهم وَحشةٌ أو نفرة فلا يترك كرم العهد ولا يفشي الأسرار المعلومة في أيام الأُخُوَّة، ويُنْشَدُ لبعضهم:
نَصِلُ الصَّديقَ إذا أرادَ وِصَالَنَا *** ونَصُدُّ عَنْ صُدُودِهِ أحيانا
إنْ صَدَّ عَنِّي كُنْتُ أَكْرَمَ مُعْرضٍ *** ووجدتُ عنه مَذْهَباً ومكانا
لا مُفْشِياً بَعْدَ القطيعةِ سرَّه *** بلْ كاتمٌ عَنْ ذاكَ ما اسْتَرعانا
إنَّ الكريمَ إذا تَقَطَّعَ وُدُّهُ *** كَتَمَ القبيحَ وأَظْهَرَ الإحْسَانا"([65])
ثم يرشدنا إلى أدب آخر يناسب ما نتحدث عنه فيقول: "ومنها التغافل عن الإخوان، قال جعفر الصادق: "عظِّموا أقداركم بالتغافل"، قال محقق الكتاب معلقاً على لفظة (التغافل): "وذلك بالسكوت عما يصدر منهم من هفوات وغلطات لا يخلو منها إنسان وبشر، وليس بتتبُّع كل هفوةٍ، وملاحقة كُلِّ غلطةٍ، فهذا مُذهبٌ لقيمة الإنسان وقدره "([66]).
خاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. أحمده سبحانه وتعالى على توفيقه...
ونحن نأتي إلى نهاية هذا البحث الوجيز، أسرد فيما يلي أهم النتائج التي يمكن استخلاصها منه، ثمَّ أهمّ التوصيات:
(أ) نتائج البحث:
[1] في الإسلام أصول وقواعد ثابتة تدعو إلى وحدة الصَّف واجتناب الشِّقاق.
[2] البراء والولاء من أصول الإسلام، وهما من محتِّمات ودواعي اجتماع المؤمنين وتناصرهم على أعمال البر.
[3] إصلاح ذات البين من أصول الإسلام، وهو من الأصول التي تدعو الحاجة إليها حال وقوع الاختلاف.
[4] إذا أردنا الوصول إلى الاتفاق، فمن أهم سمات الوسائل المؤدية إليه الترفُّق بالآخرين.
[5] الاجتماع بالمؤمنين قويٌّ بقوة رابطة الإيمان، فلا يمكن ولا يُقبل تفكيكه بشُبهة واهية أو ادِّعاء لا أساس له من الصحة.
[6] ليس كل مَنْ أخطأ يُفارق، والتوافق أولى من التفارق.(/10)
[7] الاتفاق والاجتماع لا ينشأ قويَّاً ويثبت أمام التحديات إلاَّ إنْ أُسِّس على التقوى.
[8] حصول الاتفاق والاجتماع لا يعني بالضرورة استقراره، وإنَّما لا بُدَّ من الانتباه للأخطاء والحذر منها.
[9] الفطنة تستلزم أن نتعاون مع غيرنا في الأمور التي نتفق حولها، وأنْ يَلتمس كلٌّ مِنَّا العذر للآخر في الأمور المختلف حولها، ونتعامل بأدب الخلاف.
[10] لا يُلتفت إلى الأقاويل والشائعات وما شابهها في التعامل مع الآخرين، لأنَّ ذلك يُهدِّد بقاء الاتفاق.
[11] قد يُبذل الجهد لجمع الشمل، ولكن لا يتحقق ذلك، فعندئذٍ ليس معنى ذلك حدوث الشقاق والاقتتال، بل التعامل بالحُسنى لتضييق آثار الاختلاف السالبة.
[12] ليس من الحكمة عدم الإقرار بوجود خلافٍ مّا، بل التعامل معه بالحكمة ووفق حجمه الطبيعي، ليس إقراراً له، وإنَّما اعترافاً بوجوده، وسعياً لتحجيمه.
[13] الآمال والأماني لا تزيل الاختلاف، وإنَّما العمل الجاد.
[14] من الظلم الحكم على كل مخالفٍ لنا، أو ليس مُجْتَمِع معنا بأنَّه عدوّ تجب معاداته، بل لعلَّ له عذراً أو مانعاً منعه من الاجتماع بإخوانه.
(ب) توصيات البحث:
[1] العلماء والدعاة وأمثالهم من أهل الفضل الذين يقتدي بهم الناس، عليهم نبذ الهوى والحرص على الدُّنيا والمصالح الشخصية الزائلة، وأن يكونوا أُسوةً لمن يقتدي بهم في التجرُّد وتحكيم الدِّين في العلاقة مع المخالفين.
[2] الأتباع والتلاميذ عليهم أن يعينوا العلماء والدعاة والشيوخ على تجاوز الخلاف مع إخوانهم، ويناصحونهم بالأدب المعروف بين الطلاب ومعلميهم إذا رأوهم بعدوا عن الصواب ومالوا للخطأ والأهواء مع مخالفيهم.
[3] أوصي بتكوين هيئة للتوافق والإصلاح بين الدعاة والعلماء، تُمثَّل فيها كل الجماعات وما شابهها، ويكون ممثلو تلك الجماعات من المعروفين بالتقوى والورع والحرص على جمع الكلمة. ويمكن أن تقوم هذه الهيئة بمبادرة بوثيقة يتفق عليها الجميع، ويُحاسب من خرج عليها.
[4] إقامة منتدى علمي شهري يشارك فيه دعاة وعلماء من مختلف المشارب لمناقشة موضوعات مهمة.
[5] استنباط المزيد من القواعد، وإبراز المزيد من الأصول في هذا الإطار، وبسطها للنَّاس.
والله الموفِّق
قائمة المصادر والمراجع
[1] آداب العِشرة وذِكر الصُّحبة والأُخُوَّة، الغزّي (بدر الدين محمد أبو البركات)، المكتب الإسلامي، بيروت، ط/1، 1987م، تحقيق: علي حسن علي عبد الحميد.
[2] الإحكام، الآمدي (علي بن محمد أبو الحسن)، دار الكتاب العربي، بيروت، ط/1، 1404هـ، تحقيق: د. سيِّد الجميلي.
[3] الأشباه والنظائر، السيوطي (عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1399هـ.
[4] الأشباه والنظائر، ابن نجيم (إبراهيم بن نجيم زين العابدين المصري)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400هـ.
[5] الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، الخَلاَّل (أحمد بن محمد بن هارون بن زيد أبو بكر).
[6] البداية والنهاية، ابن كثير (إسماعيل بن عمر القرشي)، مكتبة المعارف، بيروت.
[7] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار الفكر، بيروت.
[8] خلاصة الأثر في سيرة سيد البشر، عسَّاف (أحمد محمد).
[9] الدَّاء والدَّواء، ابن القيِّم.
[10] درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم الحرَّاني أبو العبَّاس)، دار الكنوز العربية، الرياض، 1391هـ، تحقيق: محمد رشاد سالم.
[11] الدُّر المنثور في التفسير بالمأثور، السيوطي (عبد الرحمن بن الكمال جلال الدِّين)، دار الفكر، بيروت، 1993م.
[12] سُبُل السَّلام، الصنعاني (محمد بن إسماعيل)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط/4، 1379هـ، تحقيق: محمد عبد العزيز الخولي.
[13] سنن ابن ماجة، ابن ماجة (محمد بن يزيد أبو عبد الله القزويني)، دار الفكر، بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
[14] سير أعلام النبلاء، الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز أبو عبد الله)، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط/9، 1413هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ـ محمد نعيم العرقسوسي.
[15] السيرة النبوية، ابن هشام (عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري أبو محمد)، دار الجيل، بيروت، 1411هـ، ط/1، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد.
[16] السيرة الحلبية، الحلبي (علي بن برهان الدِّين)، بيروت، 1400هـ.
[17] صحيح مسلم، مسلم (مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري أبو الحسن)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
[18] صيد الخاطر، ابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي بن الجوزي التميمي القرشي أبو الفرج).
[19] الفتاوى السعدية، عبد الرحمن بن سعدي.
[20] القاموس المحيط، الفيروزآبادي (محمد بن يعقوب).
[21] القواعد الذهبية في أدب الخلاف، الشبكة الذهبية.
[22] لسان العرب، ابن منظور (محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري)، دار صادر، بيروت، ط/1.
[23] مجلة البيان، العدد 19، ذو الحجة/1409هـ، يوليو 1989م.(/11)
[24] مجلة البيان، العدد 41، محرَّم/1411هـ، يوليو 1991م.
[25] مجلة البيان، العدد 116، ربيع آخر/ 1418هـ، أغسطس 1997م.
[26] مجموع الفتاوى، ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم الحرَّاني أبو العبَّاس)، مكتبة ابن تيمية، تحقيق: عبد الرحمن محمد قاسم العاصمي النَّجدي.
[27] المدخل الفقهي العام، الزرقا (مصطفى)، مطبعة طربية، دمشق، 1387هـ.
[28] المحصول، الرازي (محمد بن عمر بن الحسين)، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، 1400هـ، تحقيق: طه جابر العلواني.
[29] المستصفى، الغزالي (محمد بن محمد أبو حامد)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ، ط/، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي.
[30] المسند، ابن حنبل (أحمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الله)، المكتب الإسلامي ودار صادر، بيروت.
[31] الولاء والبراء، القحطاني (سعيد بن سالم)، دار طيبة، الرياض، ط/1، 1402هـ، و ط/2، 1404هـ.
(1) عبد الرزاق عفيفي في تقديمه لكتاب: الولاء والبراء لمحمد بن سعيد بن سالم القحطاني، ص7ـ8، دار طيبة، الرياض، ط/1، سنة 1402هـ، ط/2، سنة 1404هـ.
(2) لسان العرب، ابن منظور3/985ـ986. وانظر القاموس المحيط4/294، ط/2.
(3) الولاء والبراء في الإسلام، محمد بن سعيد بن سالم القحطاني، 45، ص91ـ92.
(4) لسان العرب1/183، والقاموس المحيط1/8.
(5) الولاء والبراء، القحطاني، ص92.
(1) انظر: الفتاوى السعدية، عبد الرحمن بن سعدي 1/8.
(2) مجموع الفتاوى، ابن تيمية 28/228ـ229.
(1) سورة الحجرات: الآيات (9ـ10).
(2) مجموع الفتاوى، ابن تيمية 28/207ـ209.
(3) سورة الأنفال، الآية (1).
(1) سورة الأنفال: الآية (1).
(2) سورة آل عمران: الآية (103).
(3) سورة آل عمران: الآية (105).
(4) مجموع الفتاوى 28/51.
(5) المرجع السابق 11/92.
(6) سورة النساء: الآية (35).
(1) البداية والنهاية: إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، 7/238ـ139، مكتبة المعارف، بيروت.
(2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب الرفق حديث رقم (2593) 4/2004
(1) أخرجه مسلم بنفس الكتاب والباب (2594) 4/2004.
(2) أخرجه مسلم بنفس الكتاب والباب (2592) 4/2004.
(3) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – الخلال : أثر رقم (38-43) .
ج
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 50 – دار الكتب العلمية بيروت سنة 1399هـ الأشباه والنظائر ابن نجيم ص55 دار الكتب العلمية بيروت سنة 1400هـ . قواعد الونشريسي – القاعدة 26 . المدخل الفقهي العام – مصطفى الزرقا فقرة 574 ط:10 مطبعة طربية- دمشق سنة 1387هـ .
(5) مجموع الفتاوى 3/419-421 .
(1) سورة الحجرات: الآية (6).
(2) صيد الخاطر: ابن الجوزي، ص374. وانظر: القواعد الذهبية في أدب الخلاف، الشبكة السلفية (إنترنت).
(3) سنن ابن ماجة، 2/1420. قال الصنعاني: سنده قوي. انظر: سبل السلام، 4/180.
(1) سورة البقرة: الآية (286).
(2) صحيح مسلم، 1/116، حديث رقم (127).
(3) مجموع الفتاوى، 3/421.
(4) درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، 1/59.
(5) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 11/15.
(6) سير أعلام النبلاء 14/40 .
(1) انظر: الإحكام، الآمدي، 2/253، 3/33، 3/43، دار الكتاب العربي، بيروت، سنة 1404هـ، ط/1، تحقيق: د. سيِّد الجميلي. المستصفى، الغزالي، 1/253، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1413هـ، ط/1، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي. المحصول، الرازي، 5/546، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، سنة 1400هـ، ط/1، تحقيق: طه العلواني.
(2) متفق عليه.
(3) مقال: فقه الخلاف، مدخل إلى وحدة العمل (عرض) ـ تأليف: جمال سلطان. عرض وتلخيص د. حسن حسن إبراهيم، مجلة البيان، العدد 41، ص 57، محرَّم /1411هـ، يوليو 1991م.
(1) سورة التوبة: الآية (109).
(2) سورة الصف: الآية (4).
(3) تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، 4/360، دار الفكر.
(1) راجع سيرة ابن هشام، 2/167ـ172.
(1) سورة النساء: الآية (71).
(2) سورة النور: الآية (63).
(3) سورة المنافقون: الآية (4).
(4) سورة الأحزاب: الآية (19).
(5) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 4/369.
(6) مثل قول ابن سلول : ( لئن رجعنا إلي المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) بسبب نزاع كاد ينشب بين الأوس والخزرج علي ماء لكن الرسولr عالجه بحكمته فغضب ابن سلول وقال قولته تلك التي حكاها القرآن وكتب السيرة . انظر خلاصة الأثر – أحمد محمد عساف ص232-233 .
(1) سورة المائدة: الآية (82).
(1) سورة آل عمران: الآيات (98ـ99).
(2) الدُّر المنثور، عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي، 2/279، دار الفكر، بيروت، 1993م. وانظر: السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ.
(3) خلاصة الأثر في سيرة سيِّد البشر، عسَّاف، ص329.
(4) أورد البخاري القصة في كتاب المغازي، باب غزوة تبوك، وفي مواضع أخرى. ومسلم كذلك في كتاب: التوبة، باب توبة كعب بن مالك.
(1) سورة المائدة، الآية (2).(/12)
(2) مسند أحمد، 4/386.
(3) الفتاوى، ابن باز (عبد العزيز بن عبد الله)، 8/181ـ183.
(1) انظر: مقال (هل يمكن التعاون بين المسلمين مع وجود الاختلاف؟) سلمان بن عمر السنيدي، مجلة البيان، العدد 116، ص 18، ربيع آخر/1418هـ، أغسطس 1997م.
(1) سورة الأنفال: الآية (46).
(1) سورة النور: الآية (12).
(2) الفتاوى السعدية، ص71ـ73. وانظر: القواعد الذهبية في أدب الخلاف، الشبكة السلفية.
(1) سورة آل عمران: الآية (159).
(2) سورة الأنفال: الآية (63).
(1) سورة آل عمران: الآية (103).
(2) انظر: مقال (رؤية نقدية) صالح علي بن الكناني، مجلة البيان، العدد 19، ص 42، ذو الحجة 1409هـ، يوليو 1988م.
(1) الدَّاء والدَّواء، ابن قيِّم الجوزية، ص187.
(2) روي عن علي رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً ولكن سنده ضعيف كما شرحه الألباني في "غاية المرام في تخريج الحلال والحرام" 472، ولكن ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً رواه الترمذي (1998) وابن عدي (2/593) وابن حبان في المجروحين (1/351) وسنده حسن .
(3) آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة ـ أبو البركات بدر الدين محمد الغزي ـ ص 51 . تحقيق علي حسن علي عبد الحميد – المكتب الإسلامي – بيروت ط:1 سنة 1987 م .
(1) الغزي، المرجع السابق، ص42.
(2) المرجع السابق، نفس الصفحة.(/13)
أصُوُلُ السُنَّة
للإمام أبي بكر عبد الله بنْ الزبير الحميدي (ت 219 هـ )
حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال :
1ـ السنة عندنا : أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأن ذلك كله قضاء من الله ـ عزوجل ـ
2ـ وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا ينفع قول إلا بعمل ولا عمل وقول إلا بنية ، ولا قول وعمل ونية إلا بسنة .
3ـ والترحم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم ، فإن الله ـ عزوجل ـ قال ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) [الحشر 10] فلم نؤمر إلا باستغفار لهم ، فمن سبهم أو تنقصهم أو أحداً منهم فليس على السنة ، وليس له في الفئ حق ، أخبرنا بذلك غير واحد عن مالك بن أنس أنه قال : " قسم الله ـ تعالى ـ الفئ فقال : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ) ـ ثم قال ـ : (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا ) الآية [الحشر 8ـ10 ) فمن لم يقل هذا لهم فليس ممن جعل له الفئ ".
4ـ والقرآن : كلام الله ، سمعت سفيان [ بن عيينة ] يقول :" القرآن كلام الله ، ومن قال مخلوق فهو مبتدع ، لم نسمع أحدا يقول هذا " .
ـ وسمعت سفيان يقول : الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص " .
فقال له اخوه إبراهيم بن عيينة :" يا أبا محمد ، لا تقل ينقص ". فغضب وقال :" اسكت يا صبي ، بلى حتى لا يبقى منه شئ " .
5ـ والإقرار بالرؤية بعد الموت .
6ـ وما نطق به القرآن والحديث مثل : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ) [ المائدة 64] ومثل ( والسموات مطويات بيمينه ) [الزمر :67] وما أشبه هذا في القرآن والحديث لا نزيد فيه ولا نفسره ، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول ( الرحمن على العرش استوى ) [طه :5] ومن زعم غير هذا فهو معطل جهمي .
7ـ وأن لا نقول كما قالت الخوراج :" من أصاب كبيرة فقد كفر " . ولا تكفير بشئ من الذنوب ، إنما الكفر في ترك الخمس التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ".
*ـ فأما ثلاث منها فلا يناظر تاركه : من لم يتشهد ، ولم يصل ، ولم يصم لأنه لايؤخر من هذا شئ عن وقته ، ولا يجزئ من قضاه بعد تفريطه فيه عامداً عن وقته .
• فأما الزكاة فمتى ما أداها أجزأت عنه وكان آثماً في الحبس .
• ـ وأما الحج فمن وجب عليه ، ووجد السبيل إليه وجب عليه ولا يجب عليه في عامه ذلك حتى لا يكون له منه بد متى أداه كان مؤدياً ولم يكن آثماً في تأخيره إذا أداه كما كان آثماً في الزكاة ، لأن الزكاة حق لمسلمين مساكين حبسه عليهم فكان آثما حتى وصل إليهم وأما الحج فكان فيما بينه وبين ربه إذا أداه فقد أدى ، وإن هو مات وهو واجد مستطيع ولم يحج سأل الرجعة إلى الدنيا أن يحج ويجب على أهله أن يحجوا عنه ، ونرجو أن يكون ذلك مؤدياً عنه كما لو كان عليه دين فقضي عنه بعد موته .
[ تمت الرسالة والحمدلله رب العالمين ]
----------------
ترجمة المؤلف :
- اسمه ونسبه : هو عبدالله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن أسامة ، أبو بكر القرشي الأسدي الحميدي المكي (219هـ ) شيخ الحرم وصاحب " المسند " .
شيوخه : حدث عن فضيل بن عياض وسفيان بن عيينة - فأكثر عنه وجود - ووكيع ، والشافعي ، وغيرهم .
تلاميذه : حدث عنه البخاري في أول حديث في صحيحه ، والذهلي وأبو زرعة وأبوحاتم الرازيّان ، وأبوبكر محمد بن إدريس المكي - ورقة - وخلق سواهم .
- ثناء العلماء عليه : قال الإمام أحمد بن حنبل " الحميدي عندنا إمام " .وقال أبو حاتم : " أثبت الناس في ابن عيينة الحميدي وهو رئيس أصحاب ابن عيينة وهو ثقة إمام " .وقال يعقوب الفسوي "حدثنا الحميدي وما لقيت أنصح للإسلام وأهله منه وقال الحاكم : " كان البخاري إذا وجد الحديث عند الحميدي لا يعدوه إلى غيره " .ووصفه أبو محمد حرب الكرماني ، واللالكائي ، وابن تيمية وغيرهم بالإمامة في السنة .(/1)
أضرار الكومبيوتر الصحية .. وتجاوزها
مواقع أخرى*
عشرة أساليب لتصحيح طريقة استخدامه والتعامل السليم
* الجلوس الطويل أمام الكومبيوتر سواء للعمل، أو اللهو من شأنه احداث ضرر في بدنك وعقلك وهذا لايخدم أحدا، لذا ينبغي عليك قراءة الاسباب العشرة الرئيسية التي تسبب الضرر لك، كما يقول خبراء «بي سي ورلد». واتخاذ الاساليب اللازمة لمراعاة وضع جلوسك أمام جهاز الكومبيوتر واستخدامه.
1 إصابات الضغط المتكرر
* اصابات التوتر والضغط المتكررين اصبحت منتشرة. وعندما كان الإنترنت في بداية عهده شرع جيل جديد من مستخدمي الكومبيوتر العمل عليه فترات تصل الى 15 ساعة في الجلسة الواحدة. وعند ذاك بدأ أمر غريب يحدث، اذ شرع بعض الموظفين يشكو من آلام لا تزول، بل بدت وكأنها باتت تسير من سيئ الى أسوأ.
وبات الان معروفا حدوث اصابات التوتر والضغط المتكررة التي تشتمل على متلازمة النفق الرسغي، وحتى ظاهرة الابهام العليقي (بلاك بيري ثمب)، وبالتالي معالجتها مع المشاكل الاخرى التي تسببها أمكنة العمل.
ما سبب ذلك اذن؟ السبب هو التكرار، اذ تبين أن اجسأمنا غير مصممة للقيام بالعمليات ذاتها مرة تلو الاخرى، فأجسأمنا كعقولنا تهوى الاختلاف، أي الحركات المختلفة والمتباينة، فتكرارها مرات عدة كتحريك الرسغ من جانب الى جانب لدى استخدام الماوس يجعل جسدك يرد على ذلك بعضلات ملتهبة واحداث اضرار في المفاصل مع ظهور آلام مستمرة.
والدفاع الافضل في هذا السبيل لتفادي الحركات المستمرة هو الجلوس على المقعد أمام الكومبيوتر بطريقة صحيحة، وأخذ فترات من الراحة وتحريك الجسم وبسطه. ويتفق خبراء الصحة على ضرورة أخذ فترات الراحة هذه كل نصف ساعة تقريبا.
وينبغي هنا القيام ببعض التمرينات الرياضية وبسط الجسم وهي المصممة جميعها لعلاج مناطق التوتر والضغط، وذلك من موقع اليوغا في الإنترنت الموجود تحت عنوان My Daily yogas Web. كما ينبغي تذكر استخدام المعدات المريحة المصممة لاراحة الجسم البشري والتجاوب معه، مثل لوحة المفاتيح الخاصة بذلك، والكرات التي تقوم مقام الماوس وتحل محله، والكراسي، أو المقاعد التي يمكن تعديل وضعها.
2 الوزن الإضافي
* ذكرت مجلة أميركان جورنال للطب الوقائي في عدد اغسطس 2005 ان الرجل الذي يجلس على مكتبه لمدة ست ساعات في اليوم الواحد معرض أكثر من غيره بمقدار الضعفين أن يكون من اصحاب الوزن الزائد مقارنة بالاخرين الذين يمارسون أعمالا نشيطة.
والأشخاص البدينون كما هو معروف هم اكثر عرضة للاصابة بامراض القلب وداء السكري والجلطات وضغط الدم العالي وبعض الامراض السرطانية، فضلا عن العديد من الامراض الأخرى. وأفضل دفاع عن ذلك هو الحركة، كالقيام بالسير 10 آلاف خطوة في اليوم. أما بالنسبة الى الذين يشكون من البدانة المفرطة وعدم القدرة على السيطرة عليها فإن وزارة الزراعة الاميركية توصي بتمارين رياضية يومية تصل مدتها الى ساعة ونصف يوميا.
3 آلام الكتف والظهر
* آلام الكتف والظهر التي تسببها الكومبيوترات الحضنية، احدى شرور هذه الكومبيوترات المحمولة، فهي تسبب تجمد الابهام وتصلب موقعه لدى العمل على لوحة المفاتيح. أما التحكم بالمؤشر فهو أمر غريب أيضا، كذلك فإن وضع الكومبيوتر على حضنك من شانه ان يسبب ألما في العنق، كما ان امكانية نقل الكومبيوتر الحضني وحمله من مكان الى أآخر تعني استخدامه بشكل دائم. وهل تعلم ان آلام الكتف التي يسببها الكومبيوتر الحضني قد تكون هي الظاهرة الجديدة لمتلازمة «لابهام العليقي» (بلاك بيري ثمب).
والكومبيوتر الحضني وزنه كبير بحد ذاته بحيث يتراوح وزنه بين أربعة وعشرة أرطال (الرطل 453 غراما تقريبا) . ومع اضافة وصلة مهيأة له للتيار المتناوب (أيه سي)، وبعض التقارير المطبوعة، وهاتف جوال، ومساعد رقمي خاص، ولوحة مفاتيح، وبطاقات شخصية، وغيرها من الاشياء الملحقة، فاذا بك من دون أن تشعر لايبقى الكومبيوتر الحضني المحمول أداة محمولة فحسب، يمكن نقلها من مكان الى آخر بسهولة.
وهذا أمر سيئ بالنسبة الى كتفك وظهرك. تصور نفسك في حاجز الأمن في أحد المطارات منتظرا طائرتك التي ستقلع بعد ساعتين وانت تحمل ثقلا يعادل عشرة أرطال (4.5 كيلوغرام) على كتفك الايمن. فالذي تظنه توترا على هذا الكتف ما هو في الواقع سوى عضلة مصابة مجروحة. ولا تنس تمايل حقيبة الكومبيوتر على كتفك وتأرجحها وانت تسير، فنحن دائما نقلل من خطورة الوزن والمجازفة.
إن أفضل دفاع هنا هو رفع الكومبيوتر ببطء وعناية فائقة مع الأخذ بعين الاعتبار حمل دفتر الملاحظات الإلكتروني هذا على الكتف الاخرى لموازنة الثقل بين الكتفين، أو قم بشراء حامل متدحرج للكومبيوتر الحضني. وأخيرا ادفع بعربة الكومبيوتر المتدحرجة هذه، أو حقيبته مع حقيبة المتاع أمامك بدلا من سحبها وراءك، فأنت بهذه الحالة تسيطر على الوضع بشكل أفضل، وبالتالي تقلل من الاضرار التي قد تصيبك.
4 اجهاد العين(/1)
* لدى التركيز على شاشة الكومبيوتر فنحن نرمش أعيننا بشكل أقل. وهذا ما يقلل التزييت الطبيعي للعينين.
ورغم ما نراه على الشاشة قد يبدو ثابتا الا أن الشاشات جميعها لها معدل انعاشي لتجديد المنظر الذي من شأنه تعديل الصورة بشكل مستمر. ومن شأن العينين تسجيل هذا التقلب المستمر مما يشكل عاملا كبيرا في اجهادهما خاصة بالنسبة الى أولئك الذين يقضون ساعات طويلة على الشاشة. ولاتظن أن الشاشة البلورية (ال سي دي) تقضي على المشكلة، فهي شأنها شأن الشاشة العاملة بأنبوب اشعة الكاثود (سي آر تي) تجدد شكلها باستمرار من دون أن تلاحظ ذلك العينان.
امر آخر وهو أن العينين غير مصممتين على التركيز على شيء ما يبعد عنهما قدمين فقط لساعات طوال، اذ ان العيون تعمل على افضل وجه عند النظر الى الاشياء التي تبعد عنها 20 قدما أو أكثر. فعند النظر الى الاشياء القريبة تدور العينان الى الداخل ويتقلص البؤبؤ داخلهما مما يوتر عضلات العين والاعصاب الجمجمية (القحفية) التي تؤدي الى أعراض تراوح بين احمرار العين وتأزمها والشعور بالحكة، وبين ابهرار النظر وازدياد الوهج وزيادة الحساسية للضوء. ومثل هذه الاعراض تزول عادة مع الراحة. لكن أعراض النظر المزدوج لدى قيادة السيارة عند العودة الى المنزل في المساء هو أمر خطير جدا.
وافضل دفاع لمثل هذه الحالات هو اراحة العينين لمدة خمس دقائق لكل ساعة عمل على الكومبيوتر عن طريق النظر عبر النافذة والتركيز على شيء بعيد. كما يمكن التجول حول المكان لاتاحة الفرصة للعينين لكي ترتاحان.
حاول قسرا أن ترمش بعينيك فاذا كان جفافهما ما زالا يزعجانك حاول استخدام قطرة مرطبة للقضاء على الجفاف، لكن عليك البحث عن قطرة مرطبة وليس قطرة تعالج احمرار العين.
5 اعتلال الدورة الدموية
* اعتلال الدورة الدموية مسألة تثير الرعب لانها تسبب الجلطات الدموية في الشرايين العميقة بسبب تخثر الدم في الساقين وانتقاله الى الرئتين وهو الامر الذي سبب ذعرا للمسافرين في الجو قبل سنوات. والخبر السيئ ان هذا الامر قد يحصل لمستخدمي الكومبيوتر، لكن الخبر الجيد بالنسبة لهم هو أنه قد لا يحدث بتلك الكثرة.
وفي العام 2003 أفادت مجلة «يروبيان ريسبيراتوري جورنال» عن حالة شاب في نيوزيلاندا أصيب بتجلط في الشرايين العميقة نتيجة جلوسه لمدة 18 ساعة يوميا امام الكومبيوتر، وهي فترة طويلة فعلا لكن من الممكن تصور ذلك. وأفضل دفاع لمثل هذه الحالات هو الابتعاد قليلا ايضا عن الكومبيوتر وبسط الساقين ولي الكاحلين فإذا ما شعرت بتأزم، أو ضيق في ساقيك، قم ببعض التمارين الرياضية الخفيفة لتسريع جريان الدم.
6 الجلوس السيئ
* اصابة الظهر والعنق بسبب وضعية الجلوس السيئة: علينا أن نتحمل مسؤولية أوجاع الظهر والرقبة بسبب ترهلنا بطريقة الجلوس ووضعيته. فالكثيرون من أمثالنا يتكومون بأجسادهم امام الكومبيوتر مقوسي ظهورهم مخفضي ذقونهم، أو رافعيها لرؤية الشاشة. واذا كنت تقوم بالطباعة على لوحة المفاتيح وقد اسندت كوعيك على فخذيك فأنت لا تخدم نفسك بتاتا.
ولنتناول مسألة العنق أولا. فاذا كنت تنظر الى شاشة الكومبيوتر نزولا أو صعودا فأنت تسبب ضغطا وتأزما غير طبيعي على الفقرات العنقية لفترات طويلة مملا يؤدي الى التهابها وربما الى عطل أو جرح دائم.
أما بالنسبة الى مسألة الظهر فإن التراخي والتقوس والانحناء فوق لوحة المفاتيح يعني إحناء الظهر والاضرار به خاصة أن هناك بين الفقرات أقراص تعمل كوسائد، أو مخمدات للصدمات تمنع الفقرات من الاحتكاك سوية والاعصاب من الانضغاط. لذا فإن الكثير من الضغط لفترات طويلة قد تسبب انفلات هذه الاقراص من مكانها والتسبب في آلام مبرحة، كما أن الاصابات والجروح الاقل خطرا قد يسببها سحب العضلات.
وأفضل وقاية أو علاج لها هو وضعية الجلوس الصحيحة بشكل منتصب أمام الكومبيوتر كما لو أنك تحاول موازنة كتاب على قمة رأسك.
ان أمكنة العمل هي مهمة بالنسبة لفعاليته تماما مثل نوع الكومبيوترات التي تستخدمها. حافظ على الشاشة عالية بما فيه الكفاية بحيث لا تخفض رأسك لرؤية محتوياتها واستثمر، أو اجعل اصحاب العمل يستثمرون بالمفروشات الصحيحة الصديقة للجسم البشري. فكلفة اليوم ستعوضك عن تكاليف العلاج الطبي مستقبلا.
7 الصداع والصداع النصفي
* الصداع والصداع النصفي (الشقيقة) من علامات استخدامات الكومبيوتر. وقد يتكهن البعض ان الذين يعانون من الصداع هم أكثر حساسية للتجدد الانتعاشي المستمر في منظر الشاشة مما يجعلهم أكثر عرضة له. في حين يتكهن البعض الآخر أن التوتر الناتج عن قضاء ساعات طوال أمام الكومبيوتر، وليس الكومبيوتر ذاته هو السبب. ويبقى من يقول ايضا إن مستخدمي الكومبيوتر يعانون من تأزم وتوتر في العينين يصفونهما بالصداع. ولكن مهما كانت الاسباب فان الواقع هو أن الكومبيوتر يسبب ضربة موجعة للرأس.(/2)
وأفضل علاج لذلك هو كسر النمط الذي تسير عليه عن طريق سحب عينيك من الشاشة والبقاء متأهبا لأي علامة من علامات بدء الصداع. فاذا ما شعرت بوخزة ما في رأسك فالافضل كبحها فورا عن طريق الابتعاد عن مكان الكومبيوتر.
8 الأرق
* قد يكون من الصعب أحيانا التخلص من توتر العمل، بيد أن العمل على الكومبيوتر من شأنه أن يضاعف ذلك.
يذكر المركز الطبي لجامعة ميريلاند في الولايات المتحدة ان الاستخدام المسرف للكومبيوتر هو السبب في الارق وقلة النوم. وهذا ليس سببه التفكير في انهاء التقرير الذي حان تاريخ تسليمه، بل ان السبب هو أكثر تعقيدا. فقد دلت دراسة يابانية أن انجاز الاعمال المثيرة على الشاشات البراقة في أجهزة الكومبيوتر ليلا تخفض من درجة تركيز الميلاتونين، وبالتالي تؤثر على الساعة البايولوجية في الجسم البشري والنوم.
وأفضل علاج لذلك تحديد ساعات العمل أمام الكومبيوتر في الليل.
9 الإدمان على الإنترنت
* يقوم الاطباء بشكل متزايد بمعالجة المرضى الذين يقولون إنهم مرغمون على أن يكونوا على الإنترنت طوال الوقت لتبادل الرسائل الإلكترونية وارسال الرسائل الفورية والقيام بعمليات التبضع والاشتراك في غرف الدردشة وممارسة ألعاب الفيديو وغيرها من الامور الاخرى. كل ذلك على حساب الاعمال اليومية والمدرسة والحياة العائلية. والكلمة، أو الاصطلاح الصحيح لهذه الحالة هو ادمان الإنترنت رغم أن العديد من خبراء الصحة يشكون من أن الرغبة في البقاء على الشبكة طوال الوقت هي ادمان نفسي. وفي الواقع أن جمعية الاطباء النفسيين الاميركيين لا تعترف بأن الادمان على الإنترنت هو حالة طبية.
وسواء كان ذلك، على الصعيد الفني، ادمانا أم لا إلا أنه لا يمكن انكار قضاء ساعات طويلة على الإنترنت له عواقبه الوخيمة على الحياة الشخصية. والاكثر من ذلك يمكن استخدام الإنترنت لتغذية انواع أخرى من الادمان على الموبقات مثل الجنس والميسر. وحتى الادمان على التسوق والمشتريات. وقد يؤدي ذلك في بعض الحالات الى فقدان الوظائف وانهيار العلاقات ونضوب الحسابات المصرفية. واذا كان الادمان بحاجة الى وقود، فكر في وسيلة الاتصال بالإنترنت على انها أقرب محطة وقود. وقد نفكر في الاسراف في استخدام الكومبيوتر كمشكلة في الولايات المتحدة فقط المهوسة بالتقنيات، ولكن ليس كذلك، ففي مارس الماضي جرى افتتاح مركز حكومي لمعالجة الادمان على الإنترنت في العاصمة الصينية بكين لمساعدة الذين يسيئون استخدام الإنترنت واعادة التوازن الى حياتهم. وقد جرى الافادة عن شخص كان يتلقى العلاج أنه كان يقضي فترات تمتد الى 24 ساعة أمام الكومبيوتر. وكانت النتيجة عبارة عن علاجا شمل المواساة وتقديم النصائح والاستشارات، فضلا عن الصدمات الكهربائية. وأفضل علاج لمثل هذه الحالة هو الابتعاد تماما عن لوحة المفاتيح.
10 التأثير البيئي
* هناك ما يكفي من الأذى الذي يصل مباشرة الى المستهلك. وهل تعلم أن تغذية جهازك الكومبيوتري بالعديد من متطلباته وادواته من شأنها أن تسبب تلفا واضرارا بكوكبنا هذا؟ ان توقنا الى آخر الالعاب والمعدات الكومبيوترية، وبالتالي التخلص منها بعد انقضاء مهمتها، أو ظهور الجديد منها، مثل الاقراص الصلبة والهواتف الجوالة والمساعدات الرقمية الخاصة (بي دي أيه) يسبب تلوث بيئة الارض.
والمعلوم أن أجهزة الكومبيوتر تحتوي على معادن ثقيلة مثل الرصاص والزئبق والكادميوم. ولدى طرحها والتخلص منها بسبب قدمها فإنها تنتهي في المكبات مسببة تسمم الارض والمياه الجوفية. ورغم جهود منظمات وهيئات البيئة فإن أقل من 10 في المائة من هذه الاجهزة يجري تدويرها، كما وأن جزءا منها فقط يجري تدويره بشكل أمن وسليم.
والمشكلة أبعد من ذلك بكثير كما تذكر منظمة «غرين بيسط العالمية، اذ يجري تصدير النفايات الإلكترونية بشكل منظم الى البلدان المتطورة في خرق واضح للقانون الدولي. فقد تبين من عمليات تفتيش 18 ميناء أوروبيا في العام الماضي وجد أن نحو 47 في المائة من النفايات المخصصة للتصدير، بما فيها النفايات الإلكترونية هي نفايات غير قانونية. ففي المملكة المتحدة وحدها جرى شحن نحو 23 ألف طن من النفايات الإلكترونية «الرمادية» غير المصرح بها في العام 2003 الى الشرق الاقصى والهند والصين. أما في الولايات المتحدة فيقدر أن حوالي 50 ـ 80 في المائة من النفايات التي جمعت لأغراض التدوير يجري تصديرها وفقا لهذا الاسلوب. وافضل علاج لهذه المشكلة هو تحمل مسؤولية المواد الخاصة بجهازك الكومبيوتري والتأكد من أنها تصل الى غايتها الصحيحة لدى الانتهاء منها. فالتخلص منها ليس الخيار الوحيد، بل حاول الاتصال بمراكز العمل الخيري للتأكد من وجود مكان تستخدم فيه أجهزة مضى عليها بعض الزمن.
--------
نقلا عن «الشرق الأوسط» اللندنية(/3)
أضواء من الهدي النبوي (1)
الكاتب: الشيخ د.عبد العزيز بن عبد الله الحميدي
الأعمال الصالحة الدائمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فإن هذه الحياة الدنيا دارُ عمل وابتلاء , وإن الآخرة هي دار الجزاء , فالعامل في هذه الحياة الدنيا أشبهُ شيء بالزارع الذي يزرع الحب ثم يحصده بعد ذلك , فإذا هو اعتنى به عناية كبيرة ولم يستهلكه قبل أوان نضجه فإنه يحصد حبّا جيدًا .
وإن أوان حصاد الثمرة من الأعمال الطيبة إنما يكون في الآخرة , فالذي يستهلك ثمرة أعماله في الدنيا لايحصد في الآخرة إلا الندامة , فبعض الناس يقومون بأعمال البر والخير سواء منها اللازم لهم أو المتعدي إلى غيرهم , لكنهم لايريدون بها وجه الله تعالى , وإنما يريدون بها السمعة والجاه بين الناس , وقد يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا , فيريدون وجه الله ويريدون أيضا ثناء الناس عليهم , فعلى قدر إخلاص الإنسان لله تعالى يحصد ثمرة عمله في الآخرة .
وإذا كان في معلوم المسلم أن الحياة الآخرة هي دار الخلود , وأن مستقبله في هذه الحياة يتحدد على ضوء مايقدَّم في الدنيا من عمل فإن العقل كلَّ العقل أن يكون أكبر همه تقديمُ العمل الصالح الذي يرفع الله جل وعلا به رصيده من الحسنات , ولكن مادامت الفرصة محدودة في الحياة الدنيا , خاصة وأن أعمار هذه الأمة مابين الستين والسبعين غالبا لمن وصلوا إلى سن الشيخوخة فماذا يعمل من يود أن يستمر في العمل الصالح لتستمر حسناته في النماء والزيادة وترتفع درجاته في الجنة ؟!
يجيب على هذا التساؤل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثٌ إلا من صدقة جارية , أو علم ينتفع به , أو ولد صالح يدعو له" أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ([1])فإن هذا الحديث الشريف يبين لنا السُّبُل التي يستمر بها رفع أعمالنا الصالحة بعد مفارقة هذه الحياة .
إن الإنسان المسلم بحاجة إلى حسنة ترفع من رصيده يوم القيامة , فقد يقع في سيئات لايحسب لها حسابا فينفعُه الله برصيده الكبير من الحسنات التي يمحو الله بها السيئات , فإذا توافر للإنسان عمل صالح لاينقطع بموته فهذا هو المعدن الكريم والمورد الدائم الذي ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون .
إن الناس جميعا يموتون وتموت معهم أعمالهم إلا المؤمنين الذين رتبوا لأنفسهم أعمالا يستمر عطاؤها لهم بعد مماتهم , وإنه لخير عظيم وفضل عميم .
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ثلاثة أعمال يستمر نفعها للإنسان بعد موته ويُرفع له بها عمل صالح .
1 – صدقة جارية : وهي التي يبقى أصلها ثابتا ويُتصدق بما ينتج عنها من ريعها كالأوقاف , ولقد أدرك المسلمون قيمة الأوقاف لما يترتب عليها من استمرار العمل الصالح, فكان من نتيجة ذلك قيام مرافق اجتماعية مهمة على هذه الأوقاف كالمساجد والمدارس والمكتبات ودور الأيتام والعجزة , وكان الدافع للمسلمين في ذلك البذل هو الاستجابة لتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث , وهذا يُعدُّ من مقاييس صلاح المجتمع ووعيه الصحيح لمفاهيم دينه .
2 – أو علم ينتفع به : والمقصود بذلك العلمُ الذي يستمر انتفاع طلاب العلم منه بعد موت صاحبه , وإنَّ من أبرز مايدخل في ذلك الكتب الإسلامية , ولقد أدرك ذلك العلماء رحمهم الله تعالى فأثروا المكتبة الإسلامية بمؤلفاتهم التي خلَّدت ذكرهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, وكم من دعوات صالحة نالها هؤلاء العلماء من المنتفعين بكتبهم من طلاب العلم على مر العصور.
وإن ما يخلِّفه العالم من طلاب العلم الذين يُعدُّون امتدادا لمدرسته ممَّا يدخل في مفهوم هذا الحديث , لأن هؤلاء الطلاب يحملون علمه إلى الناس المعاصرين لهم ويورثونه من يأتي بعدهم .
ومن هنا يتبين لنا أن تربية التلاميذ وتعليمهم حتى يصبحوا قادرين على حمل مسؤولية العلم أمرٌ مهم لايقل عن تأليف الكتب أهمية , بل كلاهما مصدر لبث العلم النافع .
ولقد اكتُشفتْ في هذا العصر وسائل نافعة لحمل العلم مدة طويلة وأدائه بصوت صاحبه أو بصوته وصورته معا بعد موته وكأنه لايزال على قيد الحياة .
ومن قوله صلى الله عليه وسلم "أو علم ينتفع به" نفهم أن هذا الخير الكبير الذي هو استمرار العمل الصالح بعد الموت إنما يكون بالجمع بين كون ما يُؤدَّى علما وكونه نافعا , فإذا لم يكن علما أو كان غير نافع فإنه لايترتب عليه رفع عمل صالح .
3 – أو ولد صالح يدعو له : والولد يعني المولود فهو يشمل الذكر والأنثى , وهذا العنصر الثالث يلزم لتحقق الانتفاع به ثلاثة أشياء : وجود الأولاد من بنين وبنات , وكونهم صالحين, واهتمامهم بالدعاء لوالديهم , فإذا تحقق ذلك فإن الإنسان يستمر عمله الصالح بعد موته , وهو بهذا يجني ثمرات جهده الطويل واهتمامه الكبير بتربية أولاده حتى أصبحوا صالحين .(/1)
وفي هذه الجملة لفتة كريمة نحو التركيز على تربية الأولاد وتوجيههم الوجهة الصالحة, مهما كلف ذلك الأباء والأمهات من جهد وعناء , فالإنسان حينما يهتم بتربية أولاده التربية الصالحة يكتسب عدة مكاسب , فهو أولا يثاب على جهده في تلك التربية لأن ذلك عمل صالح, وهو ثانيًا يُسهم في تكوين المجتمع الصالح , لأن المجتمع مكوَّن من أفراد , فإذا بذل كل صاحب أسرة جهده في تربية أولاده على الصلاح تعدد وجود الأفراد الصالحين الذين يقوم بهم المجتمع الصالح , وهو ثالثًا يستفيد من دعائهم الصالح له بعد موته , فيكون بوجودهم كأنه مايزال على قيد الحياة ويقدم الأعمال الصالحة .
ولنا عود على العنصر الأول وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "صدقة جارية" فإن بإمكان كل مسلم يملك شيئا من المال أن يوقف من ماله ولو شيئا يسيرا بينما قد لايكون بإمكان الإنسان أن يخلِّف علما ينتفع به , لكونه ليس من أهل العلم , وقد لايكون له أولاد أو لايكونون صالحين حتى يدعوا له , فيظل الوقف الإسلامي مجالا واسعا يستطيع كل مسلم أن يستفيد منه بعد موته .
---------------------------
([1] ) صحيح مسلم , رقم 1631 , الوصية (ص 1255) .(/2)
أضواء من هدي القرآن الكريم (1)
الكاتب: الشيخ د.عبد العزيز بن عبد الله الحميدي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : يقول الله تبارك وتعالى :
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (العنكبوت : 67 )
أي أوَلَم يشاهد كفار مكة أن الله جل وعلا قد هيأ لهم هذا البلد الأمين حرما آمنا يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم , بينما الناس من حولهم يعيشون في رعب وخوف من كثرة الغارات والأخذ بالثأر والسلب والنهب ؟!
أفلا يعتبرون بهذه النعمة العظيمة فيهديهم ذلك إلى شكر المنعم جل وعلا وعبادته وحده ؟! أفبالأمر الباطل الذي يعتقدونه من عبادة الأوثان يؤمنون بعد دعوتهم إلى التوحيد وظهور الحق لهم وبنعمة الله التي خصهم بها من الأمن والاستقرار هم يجحدون فيعبدون غيره وهو المنعم الوحيد عليهم؟
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ) (العنكبوت : 68 )
[العنكبوت: 68] أي لا أحد أشدُّ ظلما ممن اختلق على الله كذبا فزعم أن الشرك والموروثات الجاهلية هي الدين الحق الذي يرضاه الله تعالى , أو كذب بالحق الذي جاءه بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهل نسي هؤلاء مصيرهم السيء الذي ينتظرهم يوم القيامة ؟ أليست جهنم هي مكانَهم في الآخرة جزاء كفرهم بنعمة الله تعالى عليهم ؟! بلى إنها مأواهم الذي يخلدون فيه .
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت : 69 )
ففي مقابل أولئك الكفار الجاحدين يوجد المؤمنون الذين جاهدوا أنفسهم الأمارةَ بالسوء وشياطين الإنس والجن من أجل الله تعالى , فإنه سبحانه سيهديهم طرق الخير الموصلةَ إلى رضوانه عز وجل وإلى سعادة الآخرة, لأنهم قد فازوا بدرجة الإحسان وإن الله عز وجل مع المحسنين بحفظه وإعانته ونصره, ومن كان الله معه فإنه لايُخذل .
ويقول الله تبارك وتعالى :
(اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (الروم : 11 )
يعني أن الله عز وجل هو الذي يخلق الخلق أولا ويُنْشِؤُهم من العدم ثم يعيدهم بعد الموت أحياء , ثم إليه تُرجعون أيها الناس في الآخرة فتحاسبون على أعمالكم إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر .
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) (الروم : 12 )
أي ييأس الكفار من السعادة حينما يعلمون عن مصيرهم السيء في الآخرة .
(وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ) (الروم : 13 )
أي لم يكن لهم من الذين أشركوهم مع الله تعالى في العبادة وسطاءُ يخلصونهم من العذاب , لأن الله تعالى لايأذن لشركائهم بذلك , وكان المشركون في الآخرة بآلهتهم الذين جعلوهم شركاء مع الله تعالى جاحدين كونَهم آلهة بعدما عاينوا العاقبة السيئة لعبادتهم إياهم .
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) (الروم : 14 )
أي يتفرق المؤمنون والكفار .
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) (الروم : 15 )
أي في رياض الجنة ينعمون ويكرمون , فهم في حبور وسرور .
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) (الروم : 16 )
أي مقيمون فيه مخلدون جزاء كفرهم بالله وبالقرآن وبالبعث والحساب والجنة والنار , فهم على الضد من المؤمنين عملاً وعاقبة , فلا يغتر الكفار بما هم فيه في الدنيا من التمكين في الأرض والنعم الوافرة فإن الدنيا فانية , وإنما العبرة بالحياة الآخرة الخالدة التي يتفرق فيها الناس إلى مصائرهم وجزائهم .(/1)
أطب مطعمك
علي بن محمد الدهامي
دار القاسم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
لا يخفى أننا في زمن فتحت فيه الدنيا على الناس، وكثرت تجاراتهم، وتعددت مكاسبهم، وكثرت صور البيوع التي حيرت الناس ولبست عليهم، وقد أخبر النبي أنه يأتي على الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام. ولكن من يسعى إلى اللحاق بركب النبي وصحبه لا يتأثر بما يتأثر به الناس، ولا يتابعهم فيما يخالفون فيه هدي رسول الله الذي لم يأكل التمرة؛ لأنه يخشى أن تكون من تمر الصدقة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: { أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طعمة }، وقال : { لا تستبطئوا الرزق، فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال، وترك الحرام } [ السلسلة الصحيحة:2607]، وقد قال : { إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، لأن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمده يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك } [رواه مسلم].
قال ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: (وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله، فإنه قال بعد تقريره { إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً } إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حلالا فالعمل صالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولا؟! وما ذكره بعد ذلك من الدعاء وأنه كيف يتقبل مع الحرام فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام).
وقد اختلف العلماء في حج من حج بمال حرام أو من صلى في ثوب حرام، هل يسقط عنه فرض الصلاة والحج بذلك؟ وفيه عن الإمام أحمد روايتان، وهذه الأحاديث المذكورة تدل على أنه لا يتقبل العمل مع مباشرة الحرام، لكن القبول قد يراد به الرضا بالعمل، ومدح فاعله، والثناء عليه بين الملائكة، والمباهاة به، وقد يراد به حصول الثواب والأجر عليه، وقد يراد به سقوط الفرض به من الذمة كما ورد أنه لا تقبل صلاة الآبق ولا المرأة التي زوجها عليها ساخط، ولا من أتى كاهنا، ولا من شرب الخمر أربعين يوما، والمراد والله أعلم نفي القبول بالمعنى الأول أو الثاني وهو المراد والله أعلم من قوله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [ المائدة:27]، ولهذا كانت هذه الآية يشتد منها خوف السلف على نفوسهم، فخافوا أن لا يكونوا من المتقين الذين يتقبل منهم، وسئل أحمد عن معنى (المتقين) فيها فقال: (يتقي الأشياء فلا يقع فيما لا يحل له). وقال أبو عبدالله النباجي الزاهد رحمه الله: ( خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق، واخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرتفع العمل، وذلك أنك إذا عرفت الله عز وجل ولم تعرف الحق لم تنتفع، وإن عرفت الحق ولم تعرف الله لم تنتفع، وان عرفت الله وعرفت الحق ولم تخلص العمل لم تنتفع، وان عرفت الله وعرفت الحق وأخلصت العمل ولم يكن على السنة لم تنتفع، وإن تمت الأربع ولم يكن الأكل منا حلال لم تنتفع).
وقال وهيب بن الورد: (لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أم حرام).
ويقول ميمون بن مهران: (لا يكون الرجل تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه وحتى يعلم من أين ملبسه، ومطعمه، ومشربه).
ويقول حذيفة المرعشي: (جماع الخير في حرفين: حل الكسرة، وإخلاص العمل لله).
ويقولى أبو حفص النيسابوري: (أحسن ما يتوسل به العبد إلى مولاه الافتقار إليه، وملازمة السنة، وطلب القوت من حله).
وقال يوسف بن أسباط: (إذا تعبد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعمه مطعم سوء قال: دعوه لا تشتغلوا به، دعوه يجتهد وينصب، فقد كفاكم نفسه).
وقال سهل بن عبدالله: (من نظر في مطعمه دخل عليه الزهد من غير دعوى).
وسأل رجل سفيان الثوري عن فضل الصف الأول فقال: (انظر كسرتك التي تأكلها من أين تأكلها؟ وقم في الصف الأخير، وكأنه رحمه الله رأى من الرجل استهانة بهذا الأمر، فأحب أن ينبهه إليه؟ لأنه أهتم مما سأل عنه).(/1)
وقال إبراهيم بن أدهم: (ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه).
وقال يحيى بن معاذ: (الطاعة خزانة من خزائن الله إلا أن مفتاحها الدعاء، وأسنانه لقم الحلال). وقال ابن المبارك: (رد درهم من شبهة أحب إلي من أن أتصدق. بمائة ألف درهم ومائة ألف ومائة ألف حتى بلغ ستمائة ألف) وكان يحيى بن معين ينشد:
المال يذهب حله وحرامه *** يوما وتبقئ في غد آثامه
ليس التقي بمتق لألهه *** حتى يطيب شرابه وطعامه
ويطيب ما يحوي وتكسب كفه *** ويكون في حسن الحديث كلامه
نطق النبي لنا به عن ربه *** فعلى النبي صلاته وسلامه
لقد كانوا رحمة الله عليهم يؤكدون على هذا المعنى كثيرا حتى أن الفضيل رحمه الله لما أراد أن يعرف أهل السنة قال: (أهل السنة من عرف ما يدخل بطنه من حلال).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: { كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه }.
فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك.
وصلى الله وسلم وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/2)
أطفالكم في خطر.. انتبهوا أيها الآباء!!
محمد محمود عبد الخالق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين ثم أما بعد:-
فلست أغالي ولا أزايد في ذلك العنوان فهو حقيقة موجودة في هذا الزمان الذي أصبحت فيه الفتن تحيط بنا من كل مكان، وتعرض علينا ليلاً ونهاراً، فتنُ كقطع الليل المظلم، ومما لا شك فيه أن أطفالنا يتأثرون بهذه الفتن، ويعانون منها، وقبل أن أتكلم في تلك المعاناة وذلك الخطر الذي يحيط بأطفالنا فإنني أود أن أنبه إلى عدة نقاط نرجو من الآباء أن ينتبهوا إليها وهي كالتالي:-
أولاً:- لعلنا نعرف أو يجب أن نعرف أننا جئنا إلى هذه الدنيا لغاية واضحة ومحددة وبدقة شديدة لا تحتمل معها أي لبس فالله يقول: (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ))، فعبادة الله هي الغاية التي يجب أن يسعى إليها كل إنسان يؤمن بالله، وعليه أن يسخر كل طاقاته وإمكانياته في سبيل تحقيق تلك الغاية، بل ويضحي بكل شيء قد يصرفه عن غايته التي خلق لها، فعلى سبيل المثال: نجد أن المال يجب أن يكون وسيلة لتحقيق العبادة لله، ولا يكون هو غاية في حد ذاته، لأنه لو صار غاية فقد يضحي المسلم بدينه من أجله كما يحدث مع بعض المسلمين الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، وكذلك الزوجة يجب أن تكون وسيلة لتحقيق العبادة، فيختارها الإنسان من البداية تقية نقية لتعينه على طاعة لا أن تصرفه عنها كما نرى في بعض بيوت المسلمين، وكذلك الأولاد يجب أن يكونوا وسيلة لتحقيق العبادة، فيربيهم الأب على طاعة الله ليكونوا في ميزان حسناته، لا أن يترك لهم الحبل على الغارب كما هو حال الكثير من الآباء مع أبناءهم، ولعل استغلال تلك الأمور وغيرها يحتاج إلى فطنة وذكاء من المسلم حتى يستطيع أن يستثمرها في تحقيق عبادة الله، وإقامة دينه في الأرض.
ثانياً:- يقول رب العزة - سبحانه وتعالى -: (( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ))، ولقد جاء في تفسير ابن كثير - رحمه الله -: "يقول مجاهد: (( قوا أنفسكم وأهليكم ناراً )) اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله، وقال ابن عباس: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بالذكر، ينجيكم الله من النار، وقال قتادة: تأمرهم بطاعة الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قرعتهم عنها، وزجرتهم عنها، وقال الضحاك ومقاتل: حق المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه".ا.هـ
فانظر أخي وتدبر هذا الكلام الواضح لعله يرشدك إلى بعض ما نريد إيصاله إليك.
ثالثاً:- إذا تبين لك أيها الأب الفاضل أن الأطفال والأبناء وسيلة لتحقيق غاية العبادة لله، وأنه يجب عليك أن تعلمهم طاعة الله، وتبينها لهم، وتسعى إلى إنقاذهم من جهنم - أعاذنا الله وإياك منها - فإن ما تحتاج إليه حتى يتحقق لك ذلك هو أن تربيهم على الإسلام كما ربى الصحابة والتابعين والصالحين أبناءهم/ فيجب أن يعرف الابن القرآن ويحفظه ويتعلمه، ويجب أن يعرف سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يعرف حق ربه عليه، وحق الناس عليه، ويتربى على الأخلاق والقيم الإسلامية الرفيعة وذلك بأسلوب طيب رقيق يرغب ولا ينفر، ييسر ولا يعسر، يَسرُ ولا يُحزن؛ حتى يخرج الطفل محباً لدينه، مخلصاً لربه، عارفاً بسنة نبيه، مقتدياً بأصحابه، فيخرج الابن سعيداً فرحاً بطاعة الله، شاكراً لأباه أنه رباه، وأخلص في تربيته، فتجد الابن يحفظ الحق لأبيه في الدنيا حال حياته، ولا ينسى حقه حتى بعد مماته، وهنا أهمس في أذن الأب فأسأله قائلاً: ألا تريد أن ترى أسرتك يوم القيامة كلها في الجنة وأنت معهم؟
إن قلت: نعم - وهو ما أظنه - فاسع إلى تحقيق ذلك، واستعن بالله ولا تعجز، واعلم أن الله لو رأى صدقك أنت وأهل بيتك في طلب الجنة فسيعطيكم إياها، وأما إن قلت: لا، أو كان حالك يعبر عن ذلك؛ فراجع نفسك، واعلم أنك على خطر عظيم.
أحبتي في الله: من خلال النقاط الثلاثة نستطيع أن نتحدث عن موضوعنا الرئيسي، وذلك لأن عدم أخذ هذه النقاط في الاعتبار من جانب الأباء يجعل الأبناء لا رقيب عليهم ولا حسيب، فيفعلون ما يريدون، ويسيرون في الطرق التي يرونها تناسبهم وفقاً لهواهم وليس وفقاً لمقتضى شرع ربهم، وعليه فإننا نرى أن ضياع وفشل الكثير من الأبناء يرجع سببه الرئيسي إلى إهمال الآباء ما أشرنا إليه في النقاط الثلاث، فما نراه اليوم من الأبناء حتى في سن مبكرة يشعرنا بالحزن والأسى على الحال التي وصلوا إليها، والتي قد يعبر عن جزء منها هذه الأسئلة التي أريد من الجميع أن يجيبوا عليها:-(/1)
1) من الذي علم أبنائنا ( أطفالنا) هذه الأغاني، وغرس حبها في قلوبهم، فلا يكاد يمر يوم إلا وهم يسمعونها، بل تجد أكثرهم يحفظونها عن ظهر قلب، ويرددونها وكأنهم يتعبدون بها؟
2) من الذي علم أبنائنا ( أطفالنا) معاكسة الفتيات وبكلمات قد يعجز الكبار عن ذكرها أو معرفتها؟
3) من الذي علم أبنائنا ( أطفالنا) كتابة خطابات الحب والعشق، والتي لم تقتصر على الشباب، بل وصلت إلى الأطفال في المرحلة الابتدائية، ورأيت هذا وحدث لي ذات مرة أن شكت لي إحدى الأمهات من أن بعض الطلبة في الصف الثالث الابتدائي يكتبون الخطابات ويعطونها إلى ابنتها، بل ويتصلون بها على التليفون ليكلموها؟
سبحان الله إنها مأساة قد لا يشعر البعض بخطرها، ولكنها موجودة بالفعل وذات خطورة كبيرة.
4) من الذي علم أبنائنا ( أطفالنا) أسماء الممثلين والممثلات، والمغنيين والمغنيات، وجعلهم قدوة وأسوة لهم في حياتهم؟ بل وجدنا الكثير من أبناء المسلمين يتمنون لقاء هؤلاء المهرجين ليصافحوهم، ويملون أعينهم من منظرهم البهيج، فهم يرون المجتمع يحبهم ويكثر من ذكرهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
5) من علم أبنائنا تقليد الفجرة والفسقه في الداخل والخارج في أقوالهم وأفعالهم، وحركاتهم وسكناتهم، ومأكلهم وملبسهم؟
6) من الذي علم أبنائنا الاهتمام بالكرتون الذي يُهدف من وراءه إلى أمور كثيرة يدركها كل من شاهده ودرسه دراسة واعية؟
7) من علم أبنائنا مشاهدة الجنس، ومتابعة قنواته، بل ورأينا أن الأمر لم يعد يقتصر على الكبار والشباب فقط بل شمل الصغار بصورة تجعلنا نحذر من حدوث خطر كبير قد لا يحمد عقباه؟
8) من الذي علم أبنائنا التلامز والتغامز في علاقة الأب مع الأم من الناحية الجنسية، والكل يعرف ماذا أقصد من ذلك، ولا داعي للتوضيح أكثر من هذا؟
9) من الذي علم أبنائنا العلاقات الجنسية؟ فلقد سمعت عن أطفال صغار يمارسون الجنس أو الشذوذ مع بعضهم البعض مع أنهم قد لا يعرفون ماذا يفعلون، ولكننا نريد أن نعرف من علمهم وبصَّرهم بهذا؟
10) من الذي علم أبنائنا - وأقصد هنا الفتيات - الرقصات المتنوعة؟ فتجد البنت الصغيرة ترقص وتتمايل أمام الناس وخاصة في الأفراح بصورة تجعلك تظن أنها تخرجت في مدرسة للرقص، ولكننا نتساءل من علمهم هذا؟
11) من الذي علم أبنائنا التلفظ بالكلمات السوقية والتي يخجل المرء من ذكرها؟ وللأسف الشديد رأينا الأطفال يسبون الدين، ويقولون كلاماً لا يرضاه رب العالمين؛ يخجل المرء من سماعه، ولكن للأسف أن هذا يحدث وعلى مرأى الجميع.
من الذي علم...إلخ، إننا في مأزق حقيقي، ويجب أن نعترف به وإلا فإننا سنجد أنفسنا في تلك اللحظة التي لا نستطيع فيها تغيير أي شيء، وقد يظن البعض أن كلامي فيه مبالغة، ولكني سأذكر ما قاله أحد علماء الغرب حيث يقول: " والواقع أن مستقبل الأجيال الناشئة محفوف بالمكاره، ربما يتحولوا أطفال اليوم إلى وحوش عندما تحيط بهم وسائل الإغراء المتجددة بالليل والنهار!! إن تشويهاً كبيراً سوف يلحق البشر حيث كانوا..." جورج بالوشي هورفت في كتابه " الثورة الجنسية ".(/2)
ومن أجل هذا ننادي الجميع بأن ينتبهوا فأعدائنا يريدون أن يدمروا أطفالنا، يريدون أن يخرجوا شباباً لا يعرف إلا الشهوة، ولا يسعى إلا إلى تحصيلها، ولعلنا نرى هؤلاء الأعداء يبذلون كل ما في وسعهم وطاقاتهم في سبيل حدوث ذلك، فهم يريدون مسلماً مفرغاً من الإسلام، ومما يبرهن على هذا تلك التهنئة التي حملها هذا القس زويمر إلى المجتمعين في إحدى المؤتمرات التنصيرية حيث قال لهم: " أيها الأخوان الأبطال، والزملاء الذين كتب الله لهم الجهاد في سبيل المسيحية واستعمارها لبلاد الإسلام، فأحاطتهم عناية الرب بالتوفيق الجليل المقدس؛ لقد أديتم الرسالة التي نيطت بكم أحسن الأداء، ووقفتم لها أسمى توفيق، وإن كان يخيل إلىَّ أنه مع إتمامكم العمل على أكمل الوجوه لم يفطن بعضكم إلى الغاية الأساسية منه، إني أقركم على أن الذين أدخلوا من المسلمين في حظيرة المسيحية لم يكونوا مسلمين حقيقيين، لقد كانوا كما قلتم أحد ثلاثة: إما صغير لم يكن له من أهله من يعرفه ما هو الإسلام، أو رجل مستخف بالأديان لا يبغي غير الحصول على قوته، وقد اشتد به الفقر، وعزت عليه لقمة العيش، أو آخر يبغي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصية، ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريماً، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به في خلال الأعوام المئة السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه، وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعاً من أجله كل التهنئة، لقد قبضنا أيها الأخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية المستقلة، أو التي تخضع لنفوذ المسيحية، أو التي يحكمها المسيحيون حكماً مباشراً، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير المسيحي في الكنائس والجمعيات، وفي المدارس المسيحية الكثيرة التي تهيمن عليها الدول الأوروبية والأمريكية، وفي مراكز كثيرة ولدى شخصيات لا تجوز الإشارة إليها، الأمر الذي يرجع الفضل فيه إليكم أولاً، وإلى ضروب كثيرة من التعاون بارعة باهرة النتائج، وهي من أخطر ما عرف البشر في حياة الإنسانية كله، إنكم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد، إنكم أعددتم نشئاً لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده له الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة و الكسل، ولا يصرف همه في دنياه إلا إلى الشهوات، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات، يجود بكل شيء.
إن مهمتكم تمت على أكمل الوجوه، وانتهيتم إلى خير النتائج، وباركتكم المسيحية، ورضي عنكم الاستعمار، فاستمروا في أداء رسالتكم، فقد أصبحتم بفضل جهادكم المبارك موضع بركات الرب".
فمتى نفيق من غفلتنا؟ ومتى نستشعر أننا مستهدفون؟ وأن أبنائنا في خطر عظيم، وأننا بإهمالنا لتربيتهم ندمر أخلاقهم، ونمكن منهم عدوهم من شياطين الأنس والجان، متى يستشعر المسلمون أن تربية الأبناء أساس السعادة للأمة بأسرها، فهم حاضر هذا الزمان ومستقبله؟ وإنّا والله لنخشى أن نتركهم دون أن تكون لديهم مناعة يواجهون بها هذا الزحف والغزو الثقافي المدمر الذي يستهدف الأخلاق، ويفرض سلوكيات وعادات لا تمت إلى الدين بصلة، بل إنها تكاد أن تبرئ منه على الإطلاق.(/3)
إن ما نراه اليوم من نهم الكثير من الشباب، وحبهم الشديد للمعاصي التي تحيط بهم من كل اتجاه؛ يجعلنا نستشعر بخطورة ما نذكره، فتلك المعاصي التي رأينا تعوَّد الشباب على فعلها حتى أصبح من الصعب أن يتخلصوا منها، وأن يهجروها إلا بمجاهدة وعزم أكيد، فالكثير من شبابنا تعود من صغره على تلك المعاصي فأصبحت كالماء بالنسبة للسمك، وللأسف الشديد أن الكثير من الشباب حينما يعلمون بأن كثيراً مما يفعلونه هو من باب المعصية يتعجبون لأنه لم يكن من أحد يخبرهم بذلك الأمر، فالأب منشغل، أو غير عالم، أو غير مبالي بالحلال والحرام، وأكثر الناس مشغولون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسلبية هي السائد في علاقات الناس، فقد يمر الرجل على الشاب ويراه في معصية دون أن يحرك له ساكن، حتى صار الشباب يجاهرون بالمعاصي لأنهم لم يجدوا من ينهاهم عنها، ويأخذ على أيديهم ليتركوها، فشارب الدخان الذي شرب منذ الصغر، وتعود على ذلك، وكان الناس يرونه ولا يحرك لهم ساكن، وكان الأب منشغلاً عنه، تاركاً الأمر برمته له ليفعل ما يشاء، ويخرج متى شاء، ويصاحب من يشاء، فما كان منه إلا أن صار في طريق الانحراف منذ صغره، فإذا حاولت معه في الكبر وجدت صعوبة وعناء، وقس على ذلك سائر المعاصي التي يفعلها الطفل منذ صغره دون أن يجد من يوجهه، بل أحياناً وعلى العكس يجد من يدعم هذه المعصية، فمثلاً الأغاني التي اتفق أهل العلم على حرمتها، ولا يمكن أن تجد عالماً يستطيع أن يحل أو يبيح تلك الأغاني، ولكننا نرى الأب يسمع مع الابن الأغاني، بل ويعلمه إياها، ويرددها معه، ويشتري له الأشرطة والوسائل التي تعينه على سمعاها كالتلفاز ذلك الجهاز الذي كثيراًُ ما يساء استخدامه، ولعله سبب رئيسي في كثير مما يحدث للأمة والمسلمين.
والمهم أن الأب يعاون ابنه على تلك المعصية، فينشئ الابن على حب الأغاني، ولا يستطيع أن يفارقها، ولذلك رأينا بعضاً من الشباب يسير في طريق الالتزام دون أن يترك بعض المعاصي التي كان يفعلها وذلك لمكانتها في قلبه، وصعوبة مفارقته لها، ولعل هذا يوضح خطورة ترك الأبناء بلا تربية على دين الله، ويؤكد ضرورة أن يربوا من الصغر على الطاعة، فإذا شبوا لا يستطيعون مفارقتها، وتسير لهم كالماء بالنسبة للسمك، وتكون لديهم مناعة ضد المعاصي والفتن، فيرفضوها ويقاطعوها بالكلية، حتى إذا وقعوا فيها عادوا وتابوا إلى ربهم.
وأخيراً ونحن نتحدث في هذا المقام أريد أوجه بعض الرسائل:
أولاً: إلى علماء الأمة ودعاتها أريد من فضيلتكم توجيه الاهتمام إلى تنشئة الأطفال على طاعة الله، فنحن إن أردنا أن نعيد الأمة إلى مكانتها فعلينا أن نربي جيلاً كجيل عمر وعثمان وخالد وسعد وعبد الله بن الزبير، ولعلكم تعرفون ما أقصد، وأنتم أهل لذلك - إن شاء الله -، فاجتهدوا ما استطعتم في تحقيق تلك التربية لعل النصرة والعزة تعود إلى أمة الإسلام بعد غياب طويل.
ثانياً: إلى الآباء أدعوهم فيها إلى أن يراعوا حق الله في أبنائهم، فهم سيسألون أمام الله عنهم، وأدعوهم إلى أن يقرءوا كلام ابن القيم الذي اقتبسته خصيصاً من كتابه " تحفةالمودود بأحكام المولود "، والذي أدعو الجميع إلى قراءته لما فيه من نفع كبير، يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: " ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره من حرد وغضب، ولجاج وعجلة، وخفة مع هواه، وطيش وحدة وجشع، فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخة له، فلو تحرز منها غاية التحرز فضحته، ولا بد يوماً ما، ولهذا تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم وذلك من قبل التربية التي نشأ عليها، وكذلك يجب أن يتجنب الصبي إذا عقل مجالس اللهو والباطل، والغناء وسماع الفحش والبدع، ومنطق السوء، فإنه إذا علق بسمعه عسر عليه مفارقته في الكبر، وعز على وليه استنقاذه منه، فتغيير العوائد من أصعب الأمور يحتاج صاحبه إلى استجداد طبيعة ثانية، والخروج عن حكم الطبيعة عسر جداً.
وينبغي لوليه أن يجنبه الأخذ من غيره غاية التجنب، فإنه متى اعتاد الأخذ صار له طبيعة، ونشأ بأن يأخذ لا بأن يعطي، ويعوده البذل والإعطاء، وإذا أراد الولي أن يعطي شيئاً أعطاه إياه على يده ليذوق حلاوة الإعطاء، ويجنبه الكذب والخيانة أعظم مما يجنبه السم الناقع، فإنه متى سهل له سبيل الكذب والخيانة أفسد عليه سعادة الدنيا والآخرة، وحرمه كل خير، ويجنبه الكسل والبطالة، والدعة والراحة، بل يأخذه بأضدادها، ولا يريحه إلا بما يجم نفسه وبدنه للشغل، فإن الكسل والبطالة عواقب سوء، ومغبة ندم، وللجد والتعب عواقب حميدة إما في الدنيا وإما في العقبى، وإما فيهما، فأروح الناس أتعب الناس، وأتعب الناس أروح الناس، فالسيادة في الدنيا والسعادة في العقبى لا يوصل إليها إلا على جسر من التعب، قال يحيى بن أبي كثير: "لا ينال العلم براحة الجسم".(/4)
ويعوده الانتباه آخر الليل، فإنه وقت قسم الغنائم، وتفريق الجوائز، فمستقل ومستكثر ومحروم، فمتى اعتاد ذلك صغيراً سهل عليه كبيراً، ويجنبه فضول الطعام والكلام والمنام ومخالطة الأنام، فإن الخسارة في هذه الفضلات وهي تفوت على العبد خير دنياه وآخرته، ويجنبه مضار الشهوات المتعلقة بالبطن والفرج غاية التجنب، فإن تمكينه من أسبابها والفسح له فيها يفسده فساداً يعز عليه بعده صلاحه، وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله، وترك تأديبه وإعانته له على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء، والحذر كل الحذر من تمكينه من تناول ما يزيل عقله من مسكر وغيره، أو عشرة من يخشى فساده أو كلامه له، أو الأخذ في يده، فإن ذلك الهلاك كله، ومتى سهل عليه ذلك فقد استسهل الدياثة، ولا يدخل الجنة ديوث، فما أفسد الأبناء مثل تغفل الآباء وإهمالهم، واستسهالهم شرر النار بين الثياب، فأكثر الآباء يعتمدون مع أولادهم أعظم ما يعتمد العدو الشديد العداوة مع عدوه، وهم لا يشعرون، فكم من والد حرم والده خير الدنيا والآخرة، وعرضه لهلاك الدنيا والآخرة، وكل هذا عواقب تفريط الآباء في حقوق الله وإضاعتهم لها، وإعراضهم عما أوجب الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح، حرمهم الانتفاع بأولادهم، وحرم الأولاد خيرهم ونفعهم لهم، وهو من عقوبة الآباء.
ويجنبه لبس الحرير فإنه مفسد له، ومخنث لطبيعته، كما يخنثه اللواط، وشرب الخمر، والسرقة والكذب، وقد قال النبي يحرم الحرير والذهب على ذكور أمته، وأحل لإناثهم، والصبي وإن لم يكن مكلفاً فوليه مكلف، ولا يحل له تمكينه من المحرم، فإنه يعتاده ويعسر فطامه عنه، وهذا أصح قولي العلماء، واحتج من لم يره حراماً عليه بأنه غير مكلف، فلم يحرم لبسه للحرير كالدابة، وهذا من أفسد القياس، فإن الصبي وإن لم يكن مكلفاً فإنه مستعد للتكليف، ولهذا لا يمكن من الصلاة بغير وضوء، ولا من الصلاة عرياناً ونجساً، ولا من شرب الخمر والقمار واللواط، ومما ينبغي أن يعتمد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال، ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غير ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيأ له، فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيد الحفظ، واعياً؛ فهذه من علامات قبوله، وتهيئه للعلم لينقشه في لوح قلبه ما دام خالياً، فإنه يتمكن فيه، ويستقر ويزكو معه، وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي، واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم، ولم يخلق له؛ مكَّنه من أسباب الفروسية، والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يخلق لذلك، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، مستعداً لها، قابلاً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس؛ فليمكنه منها، هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه، فإن ذلك ميسر على كل أحد لتقوم حجة الله على العبد، فإن له على عباده الحجة البالغة، كما له عليهم النعمة السابغة، والله أعلم".
وأضيف هنا بعض الأمور الأخرى التي أود التنبيه إليها:-
1) يقرر الإسلام بأن تربية الأبناء يجب أن تكون على أساس الخشية من الله، وليس من الآباء فقط، فالابن الذي تدرب وتعلم وتربى على الخوف من الله لن يرتكب ذنباً أو معصية، سواء كان ذلك في حضور الأب أم في غيابه.
2) يقرر الإسلام بأن يكون هناك حوار دائم بين الآباء وأبناءهم في كافة الأمور، وأن يكون الإقناع هو السبيل الوحيد للحوار والنقاش لا الإلزام، مع ضرورة أن لا توضع الحواجز بين الآباء وأبناءهم، والتي من شأنها لجوء الأبناء إلى غير آباءهم للسؤال عن أمور يتعرضون إليها، ويكون من نتيجة ذلك الضلال، خاصة عندما يكون السؤال موجهاً إلى جماعة من الفسقة، وما أكثرهم في هذا الزمان.
3) يقرر الإسلام بأن تربية الأبناء يجب أن تأخذ منحنى في التدرج، وأن تتناسب التربية المرحلة التي يمر بها الأبناء، فتربية ذوي السبع سنيين ليست كتربية ذوي العشر سنين، ولعل ذلك ملاحظ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر )، ولعلنا نلاحظ تغير أسلوب التربية حيث كان الأمر بالصلاة على سبع سنين، ثم إن لم يطبق وينفذ الأمر يكون الضرب غير المبرح ولكن لعشر سنين، فتغيرت التربية بتغير المرحلة التي يمر بها الابن، كما أن تربية الابن ليست كتربية البنت، نظراً لما بينهما من اختلاف، وهذا من جميل وعظيم أمر الإسلام.(/5)
ثالثاً: إلى المجتمع برمته أدعوهم فيها إلى أن يصلحوا ولا يفسدوا، ويبنوا ولا يهدموا، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن يرفعوا من شأن الطائعين بينهم، ويسقطوا من شأن العصاة بينهم، وأن يكثروا من ذكر الخير حتى ينتشر، ويكفوا عن ذكر الباطل حتى يندثر، وأدعوهم إلى أن يحفظوا أبناء غيرهم حتى يحفظهم الله في أبنائهم، وأن يصونوا أعراض غيرهم حتى يصون الله أعراضهم، وليعلم الجميع أن الفتنة إذا انتشرت لا تصيب من عنده الفتنة فقط، بل تكون كالنار المشتعلة التي إذا لم يسعى الناس إلى إطفاءها فإنها ستصيبهم جميعاً، فعلى الجميع أن يتحركوا لنصرة هذا الدين، وإعلاء كلمته خفاقة، وهذا لن يتأتى إلا بالعودة الصادقة إلى تحكيم شرع الله بيننا، والإقتداء بحبيبنا قولاً وعملاً، وفهم الدين بفهم سلفنا رضوان عليهم، فتلك هي غايتنا، وهذا هو مقصودنا، وبالله التوفيق.
http://www.islamselect.com:المصدر(/6)
أطفالنا وحب الله - عز وجل -
د. أماني زكريا الرمادي
تمهيد:
سبحان الله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين - كما ينبغي لجلال وجهه الكريم، و عظيم سلطانه القديم - ولا إله إلا الله العليم الحكيم، والصلاة والسلام على خاتم النبيين المبعوث رحمةً للعالمين وبعد.
إن الطفل نبتة صغيرة تنمو، وتترعرع، فتصير شجرة مثمرة، أو وارفة الظلال...أو قد تصير شجرة شائكة، أو سامَّة والعياذ بالله.
وحتى نربي جيلاً من الأشجار المثمرة، أو وارفة الظلال؛ فإنه علينا أن نعتني بهم منذ البداية، مع التوكل على الله - تعالى -والاستعانة به في صلاحهم.
وما أحوجنا في هذا العصر الذي أصبحت فيه الأمم تتداعى على أمة الإسلام كما تتداعى الأكَلَة على قصعتها- كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن نربي وننشئ جيلاً قوي الإيمان يثبُت على الحق، و يحمل لواء الإسلام، ويدافع عنه بكل طاقته.
وفيما يلي تقترح كاتبة هذه السطور أول ما يمكن أن يحقق هذا الهدف النبيل، ويعين على بلوغ تلك الغاية السامية، ألا وهو: "مساعدة أطفالنا على حب الله - عز وجل -"... فما جاء بها من صواب فهو من توفيق الله - تعالى -وفضله ومَنِّه، وما كان من خطأ فمن نفسها والشيطان، والحمد لله أولاً وآخرا.
1- ما هو حب الله؟
هو أن يكون الله - تعالى -أحب إلى الإنسان من نفسه، ووالديه، وكل مايملك.
2- لماذا الأطفال؟
لأن" الطفل هو اللبنة الأولى في المجتمع، فإذا و ضعناها بشكل سليم كان البناء العام مستقيماً، مهما ارتفع وتعاظم؛ كما أن الطفل هو نواة الجيل الصاعد التي تتفرع منها أغصانه وفروعه... وكما نعتني بسلامة نمو جسمه فيجب أن نهتم بسلامة مشاعره، ومعنوياته "(1) فإذا حرصنا على ذلك فإن جهودنا سوف تؤتي ثمارها حين يشب الطفل ويحمل لواء دينه- إذا أحب ربه وأخلص العمل له- وإن لم نفعل نراه يعيش ضائعاً بلا هوية - والعياذ بالله - كما نرى الكثير ممن حولنا.
3- لماذا نعلمهم حب الله؟
أ-لأن الله - تعالى -قال عن الذين يحبونه في الآية رقم (31) من سورة آل عمران: {قُل إن كُنتم تحبون اللهَ فاتَّبعوني يُحِببْكُم اللهُ، ويَغفر لكم ذنوبَكم، واللهُ غفورٌ رحيم}.
ب- لأن الله جلَّ شأنه هو الذي أوجدنا من عَدَم، وسوَّى خَلقنا وفضَّلنا على كثير ممَّن خلق تفضيلا، ومَنَّ علينا بأفضل نعمة وهي الإسلام، ثم رزقنا من غير أن نستحق ذلك، ثم هو ذا يعدنا بالجنة جزاءً لأفعال هي من عطاءه وفضله، فهو المتفضِّل أولاً وآخِرا!!!
ج- لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: (اللهم اجعل حُبك أحب إلىَّ مِن نفسي، وأهلي، ومالي، وولدي، ومن الماء البارد على الظمأ)، ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة.
د- لأن الحب يتولد عنه الاحترام والهيبة في ا لسر والعلن، وما أحوجنا إلى أن يحترم أطفالنا ربهم ويهابونه- بدلاً من أن تكون علاقتهم به قائمة على الخوف من عقابه أو من جهنم- فتكون عبادتهم له متعة روحية يعيشون بها وتحفظهم من الزلل.
هـ- لأن الأطفال في الغالب يتعلقون بآبائهم وأمهاتهم -أو مَن يقوم برعايتهم وتربيتهم- أكثر من أي أحد، مع العلم بأن الآباء، والأمهات، والمربين لا يدومون لأطفالهم، بينما الله - تعالى -هو الحيُّ القيوم الدائم الباقي الذي لا يموت، والذي لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، فهو معهم أينما كانوا وهو الذي يحفظهم ويرعاهم أكثر من والديهم... إذن فتعلقهم به وحبهم له يُعد ضرورة، حتى إذا ما تعرضوا لفقدان الوالدين أو أحدهم عرفوا أن لهم صدراً حانياً، وعماداً متيناً، وسنداً قوياً هو الله - سبحانه وتعالى -.
و- لأنهم إذا أحبوا الله - عز وجل - وعلموا أن القرآن كلامه أحبوا القرآن، وإذا علموا أن الصلاة لقاء مع الله فرحوا بسماع الأذان، و حرصوا على الصلاة وخشعوا فيها، وإذا علموا أن الله جميل يحب الجمال فعلوا كل ما هو جميل وتركوا كل ما هو قبيح، وإذا علموا أن الله يحب التوابين والمتطهرين، والمحسنين، والمتصدقين، والصابرين، والمقسطين، والمتوكلين، وأن الله مع الصابرين، وأن الله ولي المتقين، وأنه وليُّ الذين آمنوا وأن اللهَ يدافع عن الذين آمنوا... اجتهدوا ليتصفوا بكل هذه الصفات، ابتغاء مرضاته، وحبه، وولايته لهم، ودفاعه عنهم.
أما إذا علموا أن الله لا يحب الخائنين، ولا الكافرين، ولا المتكبرين، ولا المعتدين، ولا الظالمين، ولا المفسدين، وأنه لا يحب كل خَوَّان كفور، أو من كان مختالاً فخورا... لابتعدوا قدر استطاعتهم عن كل هذه الصفات حباً في الله ورغبة في إرضاءه.
ز- لأنهم إذا أحبوا الله - جل وعلا - أطاعوا أوامره واجتنبوا نواهيه بطيب نفس ورحابة صدر؛ وشبُّوا على تفضيل مراده على مرادهم، و" تقديم كل غال وثمين من أجله، والتضحية من أجل إرضاءه، وضبط الشهوات من أجل نيل محبته، فالمُحب لمن يحب مطيع... أما إذا لم يحبوه شَبُّوا على التفنن في البحث عن الفتاوى الضعيفة من أجل التَفَلُّت من أمره ونهيه"(2)(/1)
ح- لأن حب الله يعني استشعار أنه - عز وجل - يرعانا ويحفظنا في كل وقت ومكان، مما يترتب عليه الشعور بالراحة والاطمئنان والثبات، وعدم القلق أو الحزن... ومن ثم سلامة النفس والجسد من الأمراض النفسية والعضوية… بل والأهم من ذلك السلامة من المعاصي والآثام، فعلينا أن نفهمهم أن " مَن كان الله معه، فمَن عليه؟!!! ومَن كان الله عليه فمَن معه؟!!!
ط-لأن هناك نماذج للمسلمين ترى كاتبة هذه السطور أن الحل الجذري لمشكلاتهم هو تجنب تكرارها، بتربية الطفل منذ نعومة أظفاره على محبة الله - تعالى -.
و من هذه النماذج على سبيل المثال لا الحصر:
* الذين يفصِلون الدين عن الدنيا، ويعتقدون أن الدين مكانه في المسجد، أو على سجادة الصلاة فقط، ثم يفعلون بعد ذلك ما يحلو لهم.
** الذين يسيئون الخُلُق داخل بيوت الله- ولا يستثنون من ذلك المسجد الحرام ولا المسجد النبوي!!! - وفي مجالس العلم، ظانِّين أن التعاملات اليومية والأخلاق لا علاقة لها بالدين.
*** الذين يتركون أحد أركان الإسلام مع استطاعتهم - وهي فريضة الحج- بدعوى أنهم ليسوا كبار السن وأن أمامهم حياة طويلة سوف يذنبون فيها، ولذلك سوف يحجون عندما يتقدم بهم العمر، ويشيب الشعر، ليمسحوا كل الذنوب الماضية في مرة واحدة!!!
**** اللواتي ترفضن الحجاب بدعوى أن قلوبهن مؤمنة، وأن صلاح القلوب أهم من المظهر الخارجي، غافلات -أو متغافلات- عن كونه أمراً من الله - تعالى -وفرضاً كالصلاة!!! وكذلك الآباء والأمهات والأزواج الذين يعارضون، بل ويحاربون بناتهم وزوجاتهم في ارتداء الحجاب!!!
***** الذين يعرضون عن مجالس العلم الشرعي، وكل ما يذكرهم بالله - تعالى -، قائلين أن "لبدنك عليك حقا"، وأن"الدين يسر"، و"لا تنس نصيبك من الدنيا"، بينما ينسون نصيبهم من الآخرة!!!
****** الذين ينبهرون بمظاهر الحضارة الغربية، وبريقها الزائف، فينفصلون عن دينهم تدريجياً ويظل كل ما يربطهم به هو الاسم المسلم، أو بيان الديانة في جواز السفر!!! ومنهم الذين تغمرهم هذه المظاهر حتى تصل بهم إلى الردة عن الدين- والعياذ بالله- ويصبح اسم الواحد منهم "ميمي " أو " مايكل " بعد أن كان " محمداً "!!!
ح- لأن أعز ما يملكه الإنسان - بعد إيمانه بالله - عز وجل - هو الكرامة " وليس المال أو المنال، أو الجاه أو القدرة... فالمجرم يتعذب في داخله قبل أن يحاسبه الآخرون، لأنه على بصيرة من قرارة نفسه التي تحس بغياب الكرامة بفعل الأفعال الدنيئة، أما الإنسان المحترم الذي يحس بوفرة الكرامة لديه، فإنه أحرى أن يعتلي القمم السامية والمنازل الرفيعة... وهكذا كان شأن « يوسف » الصدِّيق - عليه السلام - حين توسم فيه عزيز مصر أن ينفعه ذات يوم، ويكون خليفة له على شعبه، أو يتخذه ولداً؛ لذا فقد قال لامرأته حين أتى بيوسف مستبشراً به: {أكرِمي مثواه} أي أكرمي مكانته، واجعليه محط احترام وتقدير، ولم يوصها بأي شيء آخر... فلعله رأى أن التربية القائمة على أساس الكرامة تنتهي بالإنسان إلى أن يكون عالماً، وقادراً على أًن يتخذ القرارات السليمة وفقاً لأسس وقواعد التفكير الحكيم، هذا بالإضافة إلى قدرته على وضعها موضع التنفيذ " (3)
فإذا أردنا الكرامة ونتائجها لأطفالنا فما أحرانا بأن نهبها لهم من خلال حبهم لخالق الكرامة الذي كرَّم أباهم آدم وأسجد له الملائكة، وقال عنهم: {ولقد كرَّمنا بني آدم}... وإذا أردنا لهم الدرجات العُلا في الدنيا والآخرة، فلا مفر من مساعدتهم على حب الله الذي يقودهم إلى التقوى، فيصبحوا من الذين قال عنهم: {إن أكرمكم عند اللهِ أتقاكم}
4- كيف نزرع حب الله - عز وجل - في قلوب أطفالنا؟
تحتاج هذه المهمة في البداية إلى أن يستعين الوالدان بالله القوي العليم الرشيد، فيطلبا عونه، ويسألاه الأجر على حسن تربية أولادهما ابتغاء مرضاته، ويرددان دائماً: {رب اشرَح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واحلُل عقدةً من لساني يفقهوا قولي}؛ " مع ضرورة بناء علاقات صحيحة وسليمة بين الأهل والأولاد " (4) ثم بعد ذلك تأتي العناية، والاهتمام، واليقظة، والحرص من الوالدين أو المربين لأنهم سوف يتحدثون عن أهم شيء في العالم، وأهم ما يحتاج إليه طفلهم؛ لذلك فإنهم " يجب أن يتناولوا هذا الموضوع بفهم وعمق وحب وود " (5)... أما إن أخطأوا، فإن الآثار السلبية المترتبة على ذلك ستكون ذات عواقب وخيمة.
لذا يجب مراعاة متطلبات المرحلة العمرية للطفل، وسماته الشخصية، وظروفه... وكلما بدأنا مبكرين كان ذلك أفضل، كما أننا إذا اهتممنا بالطفل الأول كان ذلك أيسر، وأكثر عوناً على مساعدة إخوته الأصغر على حب الله - تعالى -؛ لأن الأخ الأكبر هو قدوتهم، كما أنه أكثر تأثيراً فيهم من الوالدين.
و يجب أيضاً اختيار الوقت والطريقة المناسبة للحديث في هذا الموضوع معهم... وفيما يلي توضيح كيفية تعليمهم حب الله في شتى المراحل:
أولاً: مرحلة ما قبل الزواج:(/2)
إن البذرة الصالحة إذا وضعت في أرض خبيثة اختنقت، وماتت، ولم تؤت ثمارها، لذا فقد جعل الإسلام حسن اختيار الزوج والزوجة من أحد حقوق الطفل على والديه، فقد قال الله - تعالى -في كتابه الكريم: {الطيباتُ للطيبين، والطيبون للطيبات}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (تخيَّروا لِنُطَفِكُم، فإن العِرق دسَّاس)، وقال أيضاً: (تُنكح المرأة لأربع: لمالها، وجمالها، وحسبها، ودينها، فاظفَر بذات الدين تَرِبَت يداك)، وروي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: قام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خطيباً، فقال: (أيُّها الناس إياكم وخضراء الدُّمُن. قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدُّمُن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء).
كما أكَّد - صلى الله عليه وسلم - على أن يكون الزوج مُرضياً في خُلُقه ودينه، حيث قال: (إذا جاءكم من ترضون خُلُقه ودينه فزوجوه)، وأردف - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك بالنهي عن ردّ صاحب الخلق والدين فقال: (إنّكم إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (من زوّج ابنته من فاسق، فقد قطع رحمها).
فإذا اختلط الأمر على المقدمين على الزواج، فإن الإسلام يقدم لهم الحل في" صلاة الاستخارة".
ثم يأتي بعد حُسن اختيار الزوج أو االزوجة: الدعاء بأن يهبنا الله الذرية الصالحة، كما قال سيدنا زكريا - عليه السلام - مبتهلاً: {رب هَب لي ِمن لَدُنكَ ذُرِّيَةً طيبةً إنك سميعُ الدعاء}، وكما دعا الصالحون: {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما}.
ثانياً: مرحلة الأجِنَّة:
تقترح كاتبة هذه السطور على كل أم مسلمة تنتظر طفلاً أن تبدأ منذ علمها بأن هناك رزق من الله في أحشائها؛ فتزيد من تقربها إلى الله شكراً له على نعمته، واستعداداً لاستقبال هذه النعمة، فتنبعث السكينة في قلبها، والراحة في نفسها، مما يؤثر بالإيجاب في الراحة النفسية للجنين؛ كما يجب أن تُكثر من الاستماع إلى القرآن الكريم، الذي يصل أيضاً إلى الجنين، ويعتاد سماعه، فيظل مرتبطاً به في حياته المستقبلة إن شاء الله.
ولنا في امرأة عمران- والدة السيدة مريم- الأسوة الحسنة حين قالت: {ربِّ إني نَذَرتُ لك ما في بطني مُحرَّراً، فتقبل مني إنك أنت السميع العليم}، فكانت النتيجة: {فتقبَّلها ربُّها بقَبول حَسَن}.
ولقد أثبتت التجربة أن أفضل الطعام عند الطفل هو ما كانت تُكثر الأم من تناوله أثناء حملها بهذا الطفل، كما أن الجنين يكون أكثر حركة إذا كان حول الأم صخباً أو ضجة، وهذا يعني تأثر الجنين بما هو حول الأم من مؤثرات.
(وهاهي الهندسة الوراثية تؤكد وجود الكثير من التأثيرات التي تنطبع عليها حالة الجنين، سواء أكانت هذه التأثيرات بيولوجية، أو سيكولوجية، أو روحية، أو عاطفية.
ونحن نطالع باستمرار مدى تأثر الجنين بإدمان الأم على التدخين، فإذا كان التدخين يؤثر تأثيراً بليغاً على صحة الجنين البدنية، فَتُرى ما مدى تأثره الأخلاقي والروحي بسماع الأم للغيبة أو أكلها للحم الخنزير، أو خوضها في المحرمات وهي تحمله في أحشائها؟! ) (6)
ويؤكد الدكتور "علاء الدين القبانجي" (7) هذا بقوله: " هناك خطأ كبير في نفي التأثير البيئي على النطفة، في نفس الوقت الذي نلاحظ فيه التأثير ا لبيئي على الفرد ذاته سواء بسواء، ولن تتوقف النطفة عن التأثر بالمنبهات الكيماوية - بما فيها المواد الغذائية والعقاقير- أو بالظروف البيئية، بل ستظل تتأثر بقوة التوجه إلى الله أيضا، فروح الاطمئنان والتوجه إلى الله - تعالى -تخفف من التوترات والتفاعلات النفسية المضطربة.
ويضيف فضيلة الشيخ "علي القرني": " أثبت العلم الحديث أن للجنين نفسية لا تنفصل عن نفسية أمه، فيفرح أحياناً، ويحزن أحياناً، وينزعج أحياناً لما ترتكبه أمه من مخالفات كالتدخين مثلاً، فقد أجرى أحد الأطباء تجربة على سيدة حامل في شهرها السادس وهي مدمنة للتدخين، حيث طلب منها الامتناع عن التدخين لمدة أربع وعشرين ساعة، بينما كان يتابع الجنين بالتصوير الضوئي، فإذا به ساكن هادئ، حتى أعطى الطبيب الأم لفافة تبغ، فما إن بدأت بإشعالها ووضعها في فمها حتى بدأ الجنين في الاضطراب، تبعاً لاضطراب قلب أمه.
كما أثبت العلم أيضاً أن مشاعر الأم تنتقل لجنينها، فيتحرك بحركات امتنان حين يشعر أن أمه ترغب فيه ومستعدة للقائه، بينما يضطرب وينكمش، ويركل بقدميه معلناً عن احتجاجه حين يشعر بعدم رغبة أمه فيه... حتى أن طفلة كانت أمها قد حملتها كُرهاً، وحاولت إسقاطها، دون جدوى، فلما وضعتها رفضت الطفلة الرضاعة من أمها، فلما أرضعتها مرضعة أخرى قبلت!!! ولكنها عادت لرفض الرضاعة مرة أخرى حين عصبوا عيني الطفلة، ثم أعطوها لأمها كي ترضعها!!! " (8)(/3)
بينما نرى أماً أخرى حرصت- منذ بداية الحمل- على تلاوة القرآن والاستماع له في كل أحوالها... قائمة، وقاعدة، ومضطجعة، فكانت النتيجة أن وضعت طفلاً تمكن بفضل الله - تعالى -من ختم القرآن الكريم حفظاً، وتجويداً، وهو في الخامسة من عمره!!! فتبارك الله أحسن الخالقين" (9)
مما تقدم نخلص إلى أن تربية الطفل تبدأ من مرحلة الأجنة، " فإذا نشأ الجنين في بطن أمه في جو من الهدوء والسكينة - وخير ما يمنحهما هو القرب من الله - سبحانه - فإنه يستجيب بإذن ربه، ويعترف بفضل أمه عليه، ويتمتع بشخصية سوية ونفسية هادئة، يقول لسان حاله: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!!! } " (10)
ثالثا: مرحلة مابعد الوضع حتى السنة الثانية:
" بعد أن يولد الطفل ويبدأ بالرضاعة والنمو يكون أشد استقبالاً لمتغيرات الحياة من الشاب البالغ، لأن الوليد يكون مثل الصفحة البيضاء الجاهزة لاستقبال خطوط الكتابة، بينما يكون الشاب البالغ قد أوشكت قناعته على الاكتمال، فيصبح من الصعب التلاعب بها أو محوها " (11)
لذا يجب أن نرقيه بالرقية الشرعية (المأخوذة من الكتاب والسنة المطهرة)، ونسمع معه التلاوات القرآنية لشيوخ ذوي أصوات ندية، كما نُكثر من الاستغفار والتسبيح والتحميد والتهليل والحوقلة ونحن نحمله، حتى تحُفُّه الملائكة، ويتعود سماع مثل هذه الكلمات النورانية.
" ومع زيادة نمو الوعي عند الطفل يجب أن نحرص على أن نَذكُر الله - عز وجل - أمامه دائماً، فبدلاً من أن نقول: " غاغا "، أو ما شابه ذلك من ألفاظ نقول: " يا الله "، ونسعى دائماً إلى أن يكون لفظ الجلالة ملامساً لسمعه حتى يحفظه، ويصبح من أوائل مفرداته اللغوية، وإذا أراد أن يحبو، وصار قادراً على النطق، فيجب أن نأخذ بيده ونريه أننا نريد أن نرفعه، فنقول: " يا رب.. يا مُعين "، ونحاول أن نجعله يردد معنا، وإذا أصبح أكثر قدرة على التلفظ بالكلمات علمناه الشهادتين، ورددناها معه حتى يعتادها " (12) فنراه يَسأل عن معناها حين يستطيع الكلام.
رابعاً: من سنتين إلى ثلاث سنوات:
(في هذا العمر يكون الطفل متفتح الذهن، مما يدعونا إلى تحفيظه بعض قصار السور كالفاتحة، والعصر، والكوثر... إلخ، وذلك حسب قدرته على الحفظ، وكذلك تحفيظه بعض الأناشيد مثل: " الله رب الخلق، أمدنا بالرزق "، و" من علِّم العصفور أن يبني عشا في الشجر، الله قد علمه وبالهُدى جَمَّلهُ ") (13)
وكذلك: " اللهُ ربي، محمدٌ نبيي، والإسلامُ ديني، والكعبةُ قبلتي، والقرآن كتابي، والنبي قدوتي، والصيام حصني، والصَدَقة شفائي، والوضوء طَهوري، والصلاة قرة عيني، والإخلاص نِيَّتي، والصِدق خُلُقي، والجَنَّةُ أملي، ورضا الله غايتي ".
(وكلما زاد وعيه وإدراكه ردَّدنا أمامه أن الله هو الذي رزقنا الطعام، وهو الذي جعل لنا الماء عذباً ليروي عطشنا، وهو الذي أعطاه أبوه وأمه لرعايته، وهو الذي أعطانا المال والمنزل، والسيارة واللعب... إلخ، ولذلك فهو جدير بالشكر، وأول شكر له هو أن نحبه ولا نغضبه، وذلك بأن نعبده ولا نعبد سواه) (14)
كما نذكر ونحن نلعب معه بدميته مثلا: أن هاتين اليدين والعينين والأذرع والرجلين لدينا مثلها ولكن ما يخص الدمية من القماش أو البلاستيك، أما ما أعطانا الله فهي أشياء حقيقية تنفعنا في حياتنا وتعيننا عليها.
(وإذا جلسنا إلى الطعام قلنا بصوت يسمعه: " بسم الله "، وإذا انتهينا قلنا " الحمد لله "، وكذلك إذا شربنا، وإذا اضطجعنا وإذا قمنا من النوم) (15)... حتى يعتاد الطفل ذلك ويردده بنفسه دون أن نطلب منه ذلك.
كما يجب أن نخبره أن الله - تعالى -يحب لهم الخير ويعلم ما يصلحهم، فهو الذين أوصى بهم الوالدين أن يحسنوا اختيار أسماءهم (ويعلِّموهم أمور دينهم ودنياهم، ويحسنوا تأديبهم و تربيتهم، وهو الذي أمر الوالدين بالعطف عليهم والترفق بهم، والعدل بينهم وبين إخوتهم في كل الأمور) (16)، وهو حبيبهم الذي يتجاوز عنهم حتى يصلوا إلى سن الإدراك، فنخبرهم أنه يسامحهم على أخطائهم ماداموا صغاراً. فعليهم أن يستحيوا من الله وأن لا يعصوه.
ومن المفيد أن نربط كل جميل من حولهم بالله - تعالى -، فالوردة، والنحلة، والفراشة، والقمر، وغيرها من مخلوقات الله، أما الأشياء التي تبدو ضارة بالنسبة لنا كالذبابة، والفأر، وغيرهما فهي من مخلوقات الله أيضاً، وهي تقوم بوظيفة تساعد على أن يظل الكون من حولنا جميلاً ونظيفاً.
كما يجب أن نربط كل خُلُق جميل بالله - تعالى -، فالله يحب الرحمة والرفق والعدل والجمال والنظافة... إلخ.
كما يجب ان نقرِّب إلى أذهانهم فكرة وجود الله مع عدم إمكانية رؤيته في الدنيا، فهناك أشياء نحسها ونرى أثرها ونستفيد منها دون أن نراها كالهواء والكهرباء والعطر... إلخ. أما من يريد رؤيته جل شأنه فعليه أن يكثر من الطاعات كي يحظى برؤيته في الجنة.(/4)
وينبغي أن نعلِّق في بيوتنا صوراً للحرمين الشريفين حتى تعتادهما عينيه ويدفعه الفضول للسؤال عنهما، وعندها نجيبه بطريقة تشوِّقه إليهما، كأن نقول عن الكعبة: " هي بيت الله، والله كريم يكرم ضيوفه الذين يزورون بيته بأشياء جميلة ويرزقهم بها كاللعب والحلوى، وغير ذلك مما يحب الطفل "، مع ملاحظة أننا إذا اصطحبناه إلى هناك فلابد أن نجعل ذكرياته عن الزيارة سعيدة قدر الإمكان ونشتري له من الهدايا والأشياء المحببة إليه ما يرضيه، حتى ترتبط سعادته بالبيت الحرام، ومن ثم برب البيت.
خامساً: من الثالثة حتى السادسة:
(يكون استقبال الطفل للمعلومات، واستفادته منها، واقتداؤه بأهله- في هذه المرحلة- في أحسن حالاته) (17)، كما يكون شغوفاً بالاستماع للقصص، لذا يجب الاستفادة من هذا في تأليف ورواية القصص التي توجهه للتصرف بالسلوك القويم الذي نتمناه له، وتكون هذه الطريقة أكثر تأثيراً، إذا كانت معظم القصص تدور حول شخصية واحدة تحمل اسماً معيناً، لبطل أو بطلة القصة [يفضل أن يكون ولداً إذا كان الطفل ولداً، والعكس صحيح]، بحيث تدور أحداثها المختلفة في أجواء مختلفة، وتهدف كل منها إلى تعريفه بالله - تعالى -على أنه الرحيم الرحمن الودود الحنان المنَّان الكريم العَفُوّ الرءوف الغفور الشكور التواب، مالك الملك، كما تهدف القصة إلى إكسابه أخلاقيات مختلفة إذا قامت الأم برواية كل قصة على حده في يوم منفصل- لتعطيه الفرصة في التفكير فيها، أما إذا طلب قصة أخرى في نفس اليوم فيمكن أن نحكي له عن الحيوانات الأليفة التي يفضلها مثلاً- فيصبح الطفل متعلقا بشخصية البطل أو البطلة وينتظر آخر أخبار مغامراته كل يوم، فتنغرس في نفسه الصغيرة الخبرات المكتسبة من تلك القصص.
وإذا كانت الأم لا تستطيع تأليف القصص فيمكنها الاستعانة بالقصص المنشورة، منها على سبيل المثال لا الحصر سلسلة «أطفالنا»، وقصص شركة « سفير » للأطفال، وقصص الأديب التربوي « عبد التواب يوسف »، وقصص الأنبياء المصورة للأطفال المتاحة لدى « دار المعارف » بالقاهرة، وغير ذلك مما يتيسر.
وفيما يلي قصة سمعتها كاتبة هذه السطور من معلمة ابنتها التي كانت تحفِّظها القرآن، وهي تفيد حب الله والثقة به - تعالى -، وحسن التصرف، وأخذ الأسباب، ثم التوكل عليه.
كانت " ندى" تجلس بجوار والدتها التي كانت تقوم بتغيير ملابس أختها الرضيعة" بسمة"، بينما اكتشفت الوالدة أن" بسمة" حرارتها آخذة في الارتفاع، فحاولت إسعافها بالمواد الطبيعية المتاحة بالمنزل، دون جدوى، ولما كان الوالد مسافراً، فقد طلبت الوالدة من" ندى" أن تظل بجوار أختها حتى تذهب إلى الصيدلية القريبة من منزلهم لتشتري لها دواء يسعفها، فقالت"ندى": "سمعاً وطاعة يا أمي"
وبينما كانت" ندى" تغني لأختها بعد خروج الأم انقطع التيار الكهربي وساد الظلام الغرفة، فشعرت "ندى" بالخوف الشديد، ولم تدر ماذا تفعل... ولكنها تذكرت قول والدتها لها: "أن الله - تعالى -يظل معنا أينما كنا وفي كل الأوقات من الليل والنهار، وهو يرانا ويرعانا ويحمينا أكثر من الوالدين لأنه أقوى من كل المخلوقات، ولأنه يحب عباده المؤمنين؛ فظلت تربُت على"بسمة" التي بدأت في البكاء، ثم جرت إلى الشباك ففتحته ليدخل بعض الضوء إلى الغرفة، فإذا بالقمر يسطع في السماء ويطل بنوره الفضي، فيرسل أشعته على الغرفة فيضيئها، ففرحت "ندى" وقالت لبسمة: "انظري هذا هو القمر أرسله الله - تعالى -ليؤنسنا في وحدتنا ويضيء لنا الغرفة حتى تعود أمنا ويعود التيار الكهربي، انظري كم هو جميل ضوء القمر لأن الله هو الذي صنعه، فهو خافت لا يؤذي العين، كما أنه يشيع في النفس الاطمئنان، هل تحبين الله كما أحبه يا بسمة؟ " وظلت تحدِّث أختها وتغني لها حتى عادت الأم، فأعطت الدواء لبسمة، ثم اثنت على" ندى" التي أحسنت التصرف، ثم وعدتها بأن تذهب معها إلى المكتبة لشراء كتاب للأطفال عن القمر لتعرف عنه معلومات أكثر، كما قامت بتلاوة سورة القمر عليها مكافأة لها على ما فعلت.(/5)
وينبغي حين نتحدث عن الله معهم في هذا العمر أن نكون صادقين، (ونبتعد عن المبالغات، فالله موجود في السماء ونحن نرفع أيدينا عندما ندعوه، وهو يستحي أن نمدها إليه ويردها فارغة، لأنه حييٌ كريم، وهو أكبر من كل شيء، وأقوى من كل شيء وهو يرانا في كل مكان ويسمعنا ولو كنا وحدنا، وهو يحبنا كثيراً، وعلينا أن نحبه لأنه خلقنا وخلق لنا كل ما نحتاجه، فهو يأمر جنوده فينفذون أوامره، فيقول للسحاب أمطر على عبادي كي يشربوا ويسقوا زرعهم وماشيتهم، فينزل المطر، وهو الذي يدخل المسلمين الذين يحبونه الجنة... ويتمتع في الجنة المسلم الذي يصلي ويصوم ويتصدق ويصدُق مع الناس، ويطيع والديه، ويحترم الكبار، ويجتهد في دراسته، ولا يؤذي إخوته أو أصحابه، والله - تعالى -يحب الأطفال، وسوف يعطيهم ما يريدون إذا ابتعدوا عن كل ما لا يرضيه... وينبغي عدم الخوض في تفاصيل الذات الإلهية مع الطفل خشية من أي زلل قد نُحاسَب عليه " (18)
سادساً: مرحلة ما بين السابعة والعاشرة:
وهي مرحلة (غاية في الأهمية، لذا لا يصح التهاون بها على الإطلاق، ففيها تبدأ مَلكاته العقلية والفكرية في التفتح بشكل جيد، لذا فإنه يحتاج في هذه المرحلة إلى أن نصاحبه ونعامله كصديق، ومن خلال ذلك نغرس في نفسه فكرة العبودية لله - تعالى -بشكل عميق، فإذا أحضرنا له هدية مثلا وقال: "شكراً"، ذكرنا له أن الله - تعالى -أيضاً يستحق الشكر فهو المنعم الأول، فنقول له: " ما رأيك بعينيك، هل هما غاليتين عليك؟!، وهل يمكن أن تستبدلهما بكنوز الأرض؟! "، وكذلك الأذنين واللسان وبقية الجوارح... حتى يتعمق في نفسه الإحساس بقيمة هذه الجوارح، ثم نطرح عليه السؤال " مَن الذي تكرَّم علينا وأعطانا هذه الجوارح؟ وكيف تكون حياتنا إذا لم يعطها لنا؟! " لذا فإن هذه الجوارح هي أغلى الهدايا التي منحنا الله - عز وجل - إياها- بعد الإيمان به- ومن الواجب أن نشكره هو وليس غيره على عطاياه) (19)
ومن الضروري بناء قاعدة تعليمية اختيارية لدى الطفل من خلال تشجيعه على القراءة، ومكافأته بقصة أو موسوعة مبسطة أو كتاب نافع أو مجلة جذابة مفيدة بدلاً من الحلوى، ولكن قبل أن نشتري له ما يقرأه يجب أن نتصفحه جيدا، فنبتعد مثلاً عن مجلة " ميكي " و"سوبرمان" و"الوطواط"، وأمثالها التي تحكي قصصاً تحدث في بيئة غربية وتنقل عاداتهم وتقاليدهم الغريبة علينا... مما يؤثر بالسلب في أطفالنا، فنستبدلها مثلاً بمجلة "ماجد"، ومجلة "سلام وفرسان الخير" اللتان تصدران في الإمارات العربية، و تبثان القيم الدينية والأخلاقية في الطفل بشكل لطيف محبب إليه، بالإضافة إلى تثقيفه وتعليمه؛ وكذلك مجلتي: "العربي الصغير"، و"سعد" اللتان تصدران في الكويت.
ويمكن اصطحابه إلى مكتبة تبيع أو تقتني كتباً نعلم أنها جيدة، ثم نتركه يختار بنفسه. ولا بأس من أن نقص على الطفل في هذه المرحلة قصة النبي "يحي" - عليه السلام - ليكون قدوة له، (فقد كان يحيي في الأنبياء نموذجا لا مثيل له في النُُسُك والزهد والحب الإلهي... كان يضيء حبا لكل الكائنات، وأحبه الناس وأحبته الطيور والوحوش والصحاري والجبال، ثم أهدرت دمه كلمة حق قالها في بلاط ملك ظالم، بشأن أمر يتصل براقصة بغي.
ويذكر العلماء فضل يحيي ويوردون لذلك أمثلة كثيرة، فقد كان يحيي معاصراً لعيسى وقريبه من جهة الأم (ابن خالة أمه)..
وتروي السنة أن يحيي وعيسى التقيا يوما.
فقال عيسى ليحيى: استغفر لي يا يحيى.. أنت خير مني.
قال يحيى: استغفر لي يا عيسى. أنت خير مني.
قال عيسى: بل أنت خير مني.. سلمت على نفسي وسلم الله عليك.
وتشير القصة إلى فضل يحيي حين سلم الله عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.
ويقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه يوما فوجدهم يتذاكرون فضل الأنبياء.
قال قائل: موسى كليم الله.
وقال قائل: عيسى روح الله وكلمته.
وقال قائل: إبراهيم خليل الله.
ومضى الصحابة يتحدثون عن الأنبياء، فتدخل الرسول - عليه الصلاة والسلام - حين رآهم لا يذكرون يحيي. أين الشهيد ابن الشهيد؟ يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب. أين يحيي بن زكريا؟
وقد كان ميلاده معجزة.. فقد وهبه الله - تعالى - لأبيه زكريا بعد عمر طال حتى يئس الشيخ من الذرية.. وجاء بعد دعوة نقية تحرك بها قلب النبي زكريا.
وكانت طفولته غريبة عن دنيا الأطفال.. كان معظم الأطفال يمارسون اللهو، أما هو فكان جادا طوال الوقت.. كان بعض الأطفال يتسلى بتعذيب الحيوانات، وكان يحيي يطعم الحيوانات والطيور من طعامه رحمة بها، وحنانا عليها، ويبقى هو بغير طعام.. أو يأكل من أوراق الشجر أو ثمارها.
وكلما كبر يحيى في السن زاد النور في وجهه وامتلأ قلبه بالحكمة وحب الله والمعرفة والسلام. وكان يحيى يحب القراءة، وكان يقرأ في العلم من طفولته.. فلما صار صبيا نادته رحمة ربه:
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}(/6)
فقد صدر الأمر ليحيي وهو صبي أن يأخذ الكتاب بقوة، بمعنى أن يدرس الكتاب بإحكام، كتاب الشريعة.. ورزقه الله الإقبال على معرفة الشريعة والقضاء بين الناس وهو صبي.. كان أعلم الناس وأشدهم حكمة في زمانه درس الشريعة دراسة كاملة، ولهذا السبب آتاه الله الحكم وهو صبي.. كان يحكم بين الناس، ويبين لهم أسرار الدين، ويعرفهم طريق الصواب ويحذرهم من طريق الخطأ.
وكبر يحيى فزاد علمه، وزادت رحمته، وزاد حنانه بوالديه، والناس، والمخلوقات، والطيور، والأشجار.. حتى عم حنانه الدنيا وملأها بالرحمة.. كان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب، وكان يدعو الله لهم.. ولم يكن هناك إنسان يكره يحيي أو يتمنى له الضرر. كان محبوبا لحنانه وزكاته وتقواه وعلمه وفضله.. ثم زاد يحيي على ذلك بالتنسك.
وكان يحيي إذا وقف بين الناس ليدعوهم إلى الله أبكاهم من الحب والخشوع.. وأثر في قلوبهم بصدق الكلمات وكونها قريبة العهد من الله وعلى عهد الله..
وجاء صباح خرج فيه يحيي على الناس.. امتلأ المسجد بالناس، ووقف يحيي بن زكريا وبدأ يتحدث.. قال: " إن الله - عز وجل - أمرني بكلمات أعمل بها، وآمركم أن تعملوا بها.. أن تعبدوا الله وحده بلا شريك.. فمن أشرك بالله وعبد غيره فهو مثل عبد اشتراه سيده فراح يعمل ويؤدي ثمن عمله لسيد غير سيده.. أيكم يحب أن يكون عبده كذلك.. ؟ وآمركم بالصلاة لأن الله ينظر إلى عبده وهو يصلي، ما لم يلتفت عن صلاته.. فإذا صليتم فاخشعوا.. وآمركم بالصيام.. فان مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك جميل الرائحة، كلما سار هذا الرجل فاحت منه رائحة المسك المعطر.
وآمركم بذكر الله - عز وجل - كثيرا، فان مثل ذلك كمثل رجل طلبه أعداؤه فأسرع لحصن حصين فأغلقه عليه.. وأعظم الحصون ذكر الله.. ولا نجاة بغير هذا الحصن. ) (20)
أما الفتيات فنحكي لهن-على قدر فهمهن- قصة السيدة "مريم" وكيف كانت ناسكة عابدة لله - تعالى -وكيف نجحت في اختبار بالغ الصعوبة، وكيف أنقذها الله - جل وعلا - بقدرته.
سابعاً: مرحلة العاشرة وما بعدها:
في هذه المرحلة يظهر بوضوح على الطفل مظاهر الاستقلال، والاعتداد بالنفس، والتشبث بالرأي، والتمرد على نصائح الوالدين وتعليماتهما- لأنهما يمثلان السلطة والقيود بالنسبة له - وهو في هذه المرحلة يود التحرر مما يظن أنه قيود، فيميل أكثر إلى أصدقاءه، ويفتح لهم صدره، ويتقبل منهم ما لا يتقبله من والديه، لذا يمكننا أن نوضح له - عن طريق رواية بعض القصص التي حدثت معنا أو مع من نعرفهم - ما يفيد أن الله - سبحانه - هو خير صديق، بل هو أكثر الأصدقاء حفاظاً على الأمانة، وهو خير عماد وسند، وأن صداقة الطفل معه لا تتعارض مع صداقته لأقرانه.
كما ينبغي أن نوضح لأطفالنا أن الله أحياناً يبتلي الإنسان بمكروه أو مصيبة ليطهِّره ويرفع درجاته ويقربه منه أكثر، كما يؤلم الطبيب مريضه أحياناً كي يحافظ على صحته وينقذه من خطر محقق.
والحق أن هذه المرحلة خطيرة لأنها تعيد بناء الطفل العقلي والفكري من جديد و قد تؤدي إلى عواقب وخيمة إن أسيء التعامل مع الطفل فيها، ومما يساعد على نجاح الوالدين في الأخذ بيده إلى الصواب أن (يبدآ معه من الطفولة المبكرة، فعندئذٍ لن يجدا عناء كبيرا في هذه الفترة، لأنهما قاما بوضع الأساس الصحيح، ثم أكملا إرواء النبتة حتى تستوي على سوقها... وهما الآن يضيفان إلى جهديهما السابق جهدا آخر، وسوف تؤتي الجهود ثمارها إن شاء الله) (21)
ويمكننا أن نعرِّفهم بأسماء الله الحسنى ونشرح لهم معانيها، فالله رحمن، رحيم، ودود، عفو، غفور، رءوف، سلام، حنَّان، منَّان، كريم، رزاق، لطيف، عالم، عليم، حكم، عدل، مقسط، حق، تواب، مالك الملك، نور، رشيد، صبور... ولكنه أيضاً قوي، متين، مهيمن، جبار، منتقم، ذو بطش شديد، معز مذل، وقابض باسط، وقهار، ومانع، و خافض رافع، ونافع ضار، ومميت.
فلا يكفي أن نشرح لهم أسماء الجمال التي تبعث الود والألفة في نفوسهم نحو خالقهم، بل يجب أيضا ذكر أسماء الجلال التي تشعرهم بأن الله - تعالى -قادر على حمايتهم وقت الحاجة، فهو ملجأهم وملاذهم، لأنه حفيظ قوي قادر مقتدر.(/7)
ومما يجدي أيضاً مع أطفالنا في هذه المرحلة: الحوار الهادئ الهادف، وليس (الحوار السلطوي الذي يعني: " اسمع واستجِب "، ولا الحوار السطحي الذي يتجاهل الأمور الجوهرية، أو حوار الطريق المسدود الذي يقول لسان حاله: " لا داعي للحوار فلن نتفق "، أو الحوار التسفيهي الذي يُصِرُّ فيه الأب على ألا يرى شيئاً غير رأيه، بل ويسفِّه ويلغي الرأي الآخر، أو حوار البرج العاجي الذي يجعل المناقشة تدور حول قضايا فلسفية بعيداً عن واقع الحياة اليومي،... وإنما الحوار الصحي الإيجابي الموضوعي الذي يرى الحسنات والسلبيات في ذات الوقت، ويرى العقبات، وأيضا إمكانات التغلب عليها. وهو حوار متفائل - في غير مبالغة ساذجة- وهو حوار صادق عميق وواضح الكلمات ومدلولاتها وهو الحوار المتكافئ الذي يعطى لكلا الطرفين فرصة التعبير والإبداع الحقيقي، ويحترم الرأي الآخر ويعرف حتمية الخلاف في الرأي بين البشر، وآداب الخلاف وتقبله. وهو حوار واقعي يتصل إيجابيا بالحياة اليومية الواقعية واتصاله هذا ليس اتصال قبول ورضوخ للأمر الواقع، بل اتصال تفهم وتغيير وإصلاح؛ وهو حوار موافقة حين تكون الموافقة هي الصواب ومخالفة حين تكون المخالفة هي الصواب، فالهدف النهائي له هو إثبات الحقيقة حيث هي، لا حيث نراها بأهوائنا وهو فوق كل هذا حوار تسوده المحبة والمسئولية والرعاية وإنكار الذات (22).
(ولنأخذ مثلاً للحوار الإيجابي من التاريخ الإسلامي، وقد حدث هذا الحوار في غزوة بدر حين تجمع المسلمون للقاء الكفار وكانت آبار المياه أمامهم وهنا نهض الحبَّاب بن المنذر - رضي الله عنه - وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أهو منزِل أنزلَكَهُ الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فأجاب الرسول الكريم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة). فقال الحباب: يا رسول الله ما هذا بمنزل، وأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوقوف بحيث تكون آبار المياه خلف المسلمين فلا يستطيع المشركون الوصول إليها، وفعلاً أخذ الرسول بهذا الرأي الصائب فكان ذلك أحد عوامل النصر في تلك المعركة.
وإذا حاولنا تحليل هذا الموقف نجد أن الحبَّاب بن المنذر كان مسلماً إيجابياً على الرغم من أنه أحد عامة المسلمين وكان أمامه من الأعذار لكي يسكت أو يعطل تفكيره فهو جندي تحت لواء رسول الله الذي يتلقى الوحي من السماء وهناك كبار الصحابة أصحاب الرأي والمشورة ولكن كل هذه الأسباب لم تمنعه من إعمال فكره، ولم تمنعه من الجهر برأيه الصائب، ولكنه مع ذلك التزم الأدب الرفيع في الجهر بهذا الرأي فتساءل أولاً إن كان هذا الموقف وحي من عند الله أم أنه اجتهاد بشرى، فلما عرف أنه اجتهاد بشرى وجد ذلك مجالاً لطرح رؤيته الصائبة ولم يجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - غضاضة في الأخذ برأي واحد من عامة المسلمين. وهذا الموقف يعطينا انطباعا هاما عن الجو العام السائد في الجماعة المسلمة آنذاك، ذلك الجو المليء بالثقة والمحبة والإيجابية وإبداء النصيحة وتقبُّل النصيحة.
وإذا كانت النظم الديمقراطية الحديثة تسمح للمواطن أن يقول رأيه إذا أراد ذلك، فإن الإسلام يرتقى فوق ذلك حيث أنه يوجب على الإنسان أن يقول رأيه حتى ولو كان جنديا من عامة الناس تحت لواء رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وهو أعلى المستويات من حرية الرأي (23)
ومن خلال الحوار الهادئ مع أبنائنا... يمكن أن نوضح أن التائب حبيب الرحمن، وأن الكائنات تستأذن الله - تعالى -كل يوم لتُهلك ابن آدم الذي يأكل من خير الله - تعالى -، ثم لا يشكره، بل ويعبد غيره!! ولكنه - سبحانه - يظل يقول لهم: (ذروهم إنهم عبادي، لو خلقتموهم لرحمتموهم)، وهو الذي قال في حديث قدسي أن البشر إن لم يخطئوا لذهب الله بهم وأتى بخلق آخرين، يذنبون فيغفر لهم؛ وهو الذي يهرول نحو عبده الذي يمشي نحوه، وهو الذي يتجاوز عن العبد ويستره، ويحفظه، ويرزقه، مع إصراره على المعصية، ويظل يمهله حتى يتوب، وهو الذي كتب على نفسه الرحمة، وهو الذي سمى نفسه " أرحم الراحمين "، و" خير الغافرين "، و" خير الرازقين "، و" خير الناصرين " وهو الذي قال في كتابه الكريم: {إن اللهَ يغفرُ الذنوبَ جميعا}!!!
ويمكن في هذه المرحلة أن نحكي لهم كيف نصر الله أولياءه من الأنبياء والصالحين (24) ونخبرهم عن نماذج من الصحابة والصالحين الذين أحبوا الله - تعالى -فأحبهم وتولى أمرهم، وذلك برواية قصصهم التي نجد أمثلة لها في كتب السيرة المعروفة، وأيضا في النصف الأخير من محاضرة " حب العبد لله " للداعية الإسلامي « عمرو خالد » (25) كما يمكن أن نستمع معهم إلى محاضرتي: " محبة الله أصل الدين " للشيخ راتب النابلسي (26)، و" محبة الله " للأستاذ عمرو خالد (27)
وينبغي أن نراعي حالته النفسية والإيمانية عند الحديث بهذا الشأن، فإذا رأيناه يحتاج إلى أمل في رحمة الله، رغَّبناه، وإذا رأيناه يحتاج إلى من يوقفه عند حده، خوَّفناه من عقاب الله.(/8)
5- متى وكيف نتحدث إليهم؟
لكي نضمن التأثير فيهم علينا أن نقتدي بمعلم البشرية، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يعلِّم أصحابه والمسلمين، ويوجِّههم بطرق كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
التشويق بالسؤال ثم إجابته: كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (أتَدرون من المُفلس؟ )
إثارة الانتباه بالسؤال، باستخدام "ألا" الافتتاحية: كما كان يقول - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أخبركم بخير الناس؟ )، (ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ )، (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا؟ )... إلخ
رواية القصة، كما روى - صلى الله عليه وسلم - قصة الرجل الذي سقى الكلب في خُفِّه فدخل الجنة، وقصة المرأة التي دخلت النار في هِرَّة حبستها.
أثناء الذهاب معه إلى نزهة أو أثناء الركوب في الطريق لمكانٍ ما، كما حكى ابن عباس - رضي الله عنهما -: (كنت خلف رسول الله يوما فقال: ياغلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك... ) إلى آخر الحديث.
وهناك أيضاً حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حماراً وأردَفني خلفه، وقال: (يا أبا ذَر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: تعفف)
انتهاز فرصة حدوث موقف معين، كما رأينا في الحديث الذي رواه عمر بن أبي سلمة - رضي الله عنهما - قال: (كنت غلاما في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و كانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا غلام... سَمِّ الله وكُل بيمينك، وكُل ممَّا يليك).
رواية الأخبار، كما جاء في سنن الترمذي عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (جاءني جبريل، فقال: يا محمد إذا توضَّأت فانتضِح)
إخباره من حين لآخر أننا نحبه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل: (والله يا معاذ إني أحبك). و لسعد بن أبي وقَّاص: (ارم سعد فداك أبي وأمي).
وفيما يلي بعض ما ييسر تحقيق هذا الهدف:
* لا يجب التحدث معه في هذا الموضوع وهو غاضب أو بعد عقابه لأي سبب، أو وهو يبكي، أوفي جو يسوده الكآبة، أو الحزن.
** وإذا كنا لا نريد تنفيذ شيء يريده، فلا يجب نقول له " إن شاء الله "، حتى لا يتعلم من تكرار ذلك أن هذه العبارة تعني: " لن أفعل "، بل يمكن أن نقول: " سننظر، سأفكر، وفقاً للظروف "، أو ما شابه ذلك من تعبيرات.
*** كما أننا إذا أردنا عقابه فلا يصح أن نحلف بالله أننا سنعاقبه، ويكفي أن نقول: " سترى كيف أعاقبك، أو ما شابه ذلك " حتى لا يرتبط اسم الله - جل وعلا - في ذهنه بالعقاب.
**** ولا داعي أن نكرر على سمعه كلما أخطأ: " سوف يدخلك الله جهنَّم - أو النار- إن فعلت ذلك ثانيةً " حتى لا يرتبط الله - عز وجل - لديه بجهنم منذ صغره.
***** وإذا كنا نضربه مثلاً، أو أوشكنا على عقابه لأي سبب، فاستغاث بالله - تعالى -، فيجب أن نتوقف فوراً، وأن نكظِم غيظنا ما استطعنا.
6- ماذا أفعل إن لم أكن قد بدأت مع طفلي؟
ابدأ فوراً، ولكن بخطوات متدرجة تتناسب مع عمره، وظروفه؛ واستعن بالله ولا تيأس، فإنه {لا ييأس من رَوحِ اللهِ إلا القومُ الكافرون}
7- من تجارب الأمهات:
* تحدثت أم عن تجربة أبيها وأمها في توجيهها وإخوتها، فقد كان الأب يعود من صلاة الجمعة كل أسبوع، فيوجه حديثه للأم قائلاً: " هذا ما قاله لنا اليوم خطيب المسجد... "، فيقص عليها الكثير من القصص، ثم يخرج منها بالمواعظ والنصائح، متجاهلاً أولاده الذين يحملقون فيه وقد أصغوا باهتمام شديد لحديث (الكبار)، تقول الراوية: " فلما كبِِرتُ وتذكرت ما كان يقصه أبي، علمت أن بعض حديثه لا يمكن أن يكون قد قاله خطيب المسجد، وإنما كان موجهاً إلينا أنا وإخوتي، والعجيب أننا تأثرنا كثيراً بهذا الحديث غير المباشر، وكنا نحترم ربنا كثيراً، ونحبه، ونخاف من كل ما يمكن أن يقال عنه أنه " حرام " لأنه يغضب الله - عز وجل -، وأنا الآن أتبع نفس الأسلوب مع أولادي "
* وتحدثت أم أخرى عن طفلتها التي كانت أصغر إخوانها، وكانوا لا يكفون عن مضايقتها طوال الوقت، فكانت تصحبها معها - وهي ابنة ثلاث سنوات- للدروس بالمسجد حمايةً لها منهم، فشبت هذه البنت - دوناً عن إخوتها- وهي تحب الله - عز وجل - وتخافه في السر والعلن، وتحفظ المعلومات التي سمعتها بالمسجد، بل وتحرص على الصلاة والصيام والتصدق بطيب نفس!!!(/9)
* وقالت أم ثالثة: " كان أولادي يرفضون النوم في غرفتهم بمفردهم، فصرت أجلس معهم بعد ذهاب كل منهم إلى فراشه، وأحكي لهم قصة هادفة، ثم أطفئ نور الغرفة وأترك نورا خافتا يأتي من الردهة المجاورة، ثم أقوم بتشغيل شريط لجزء " عمَّ " يتلوه شيخ ذو صوت ندي، وأترك الغرفة، فكان الأطفال يستمتعون بصوته، وينامون قبل انتهاء الوجه الأول منه، ومع الوقت لم يعودوا يخافون من النوم بمفردهم، فبمجرد تشغيل الشريط كانوا يقولون لي: " اذهبي إلى غرفتك، فنحن لسنا بخائفين "، والأهم من ذلك أنهم أصبحوا يسألون عن الله - تعالى -، ويشتاقون لرؤيته، ويستفسرون عن معاني كلمات الآيات التي يستمعون إليها، بل و يحبون الحديث في الدين ويتقبلون النصح بنفوس راضية "
وختاماً:
فإن موضوع "حب الله - تعالى -" لا تسعه المجلدات…وما هذه العُجالة إلا محاولة على الطريق عسى الله أن يمن علينا وإياكم بتوفيقه لنعين أطفالنا على الشعور بحبه - تعالى -، فيترتب على ذلك فلاحهم في الدنيا والآخرة إن شاء الله.
--------------------------------------------------
المصادر
1- الأطفال ودائع الله: هداية ورعاية، ص 1، من مقالة منشورة على موقع: بينات.
2- فضيلة الشيخ " راتب النابلسي". محبة الله أصل الدين، محاضرة مسجلة، ومتاحة على الرابط:
www.alminbar.net/alkhutab
3- كيف نربي أبناءنا على الإيمان، ص 3، من مقالة منشورة على الرابط:
. www.almodarresi.com/moha/e91a2cd8. htm
4- فضيلة الشيخ راتب النابلسي، نفس المصدر السابق.
5- د. " خليل محسن ". أحبِب أولادك، ولكن.. ؟ الصفاة (الكويت): دار الكتاب الحديث، 1994، ص. 13
6-عبد التواب يوسف. دليل الآباء الأذكياء في تربية الأبناء. الطبعة الثالثة، القاهرة: دار المعارف، 1992، ص. 166.
7- د. "علاء الدين القبانجي". سايكولوجية الطفولة: مرحلة الأجنة، مقالة منشورة على الرابط:.
www.annabaa.org/nba49/saycologeyah.htm
8- فضيلة الشيخ" علي القرني": دعوة للتأمل. محاضرة مسجلة على شريط من إنتاج شركة"النور للإنتاج والتوزيع الإسلامي"، القاهرة: 2 الأميرمؤسك شارع عبد العزيز، أمام عمر أفندي- العتبة، وهي موجودة على هذا الموقع على الرابط: اضغط هنا
9- نفس المصدر السابق.
10- نفس المصدر السابق.
11- كيف نربي أبناءنا على الإيمان، ص1.
12- كيف يربي المسلم ولده - مرحلة الطفولة.، مقالة منشورة على الرابط:
www.dorah.com/tarbya/abnaa/6ofola.htm
13-المصدر السابق
14- المصدر السابق
15- المصدر السابق
16- الحقوق الأسرية.
17-" سميرة المصري". صغيرتي تسألني: أين الله؟ مقالة منشورة في باب: " معاً نربي أبناءنا "
18- كيف يربي المسلم ولده: مرحلة اليفاعة.
19- المصدر السابق
20- قصص الأنبياء: يحي - عليه السلام -، مقالة منشورة على الرابط:
www.alnoor-world.com/prophets/ya7ya1. htm
21- كيف يربي المسلم ولده: مرحلة المراهقة.
22- د. "محمد المهدي": أستاذ الطب النفسي بجامعة المنصورة. الحوار الإيجابي ودوره في الحد من العنف.
23- المصدر السابق.
24-الداعية الإسلامي الأستاذ "عمرو خالد". محاضرتي التوكل واليقين، الأولى ضمن سلسلة "إصلاح القلوب "، والثانية ضمن سلسلة " دروس أخرى"، وهما متاحتين على موقعه: http://www.forislam.com
25-الداعية الإسلامي الأستاذ "عمرو خالد". محاضرة حب الله للعبد: إحدى محاضرات سلسلة "إصلاح القلوب" المتاحة على موقعه: http://www.forislam.com
26-فضيلة الشيخ راتب النابلسي. محبة الله أصل الدين.
27- الداعية الإسلامي الأستاذ "عمرو خالد". محبة الله، محاضرة على موقع http://www.islamway.com
http://www.sst5. com(/10)
أطفالنا ومعاني الرجولة
محمد بن صالح المنجد
دار الوطن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
فإنّ مما يعاني منه كثير من الناس ظهور الميوعة وآثار التّرف في شخصيات أولادهم، ولمعرفة حلّ هذه المشكلة لابد من الإجابة على السّؤال التالي: كيف ننمي عوامل الرّجولة في شخصيات أطفالنا؟
إن موضوع هذا السؤال هو من المشكلات التّربوية الكبيرة في هذا العصر، وهناك عدّة حلول إسلامية وعوامل شرعية لتنمية الرّجولة في شخصية الطّفل، ومن ذلك ما يلي:
التكنية
مناداة الصغير بأبي فلان أو الصغيرة بأمّ فلان ينمّي الإحساس بالمسئولية، ويُشعر الطّفل بأنّه أكبر من سنّه فيزداد نضجه، ويرتقي بشعوره عن مستوى الطفولة المعتاد، ويحسّ بمشابهته للكبار، وقد كان النبي يكنّي الصّغار؛ فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: { كَانَ النَّبِيُّ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ – قَالَ: أَحسبُهُ فَطِيمًا – وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟! } (طائر صغير كان يلعب به) [رواه البخاري: 5735].
وعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قالت: { أُتِيَ النَّبِيُّ بثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ ( الخميصة ثوب من حرير ) فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، قَالَ: ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ. فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ ( وفيه إشارة إلى صغر سنّها ) فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ: أَبْلِي وَأَخْلِقِي، وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ فَقَالَ: يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَاه، وَسَنَاه بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ } [رواه البخاري: 5375].
وفي رواية للبخاري أيضاً: { فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ وَيَقُولُ: يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَا، وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشِيَّةِ الْحَسَنُ } [رواه البخاري: 5397].
أخذه للمجامع العامة وإجلاسه مع الكبار
وهذا مما يلقّح فهمه ويزيد في عقله، ويحمله على محاكاة الكبار، ويرفعه عن الاستغراق في اللهو واللعب، وكذا كان الصحابة يصحبون أولادهم إلى مجلس النبي ومن القصص في ذلك: ما جاء عن مُعَاوِيَةَ بن قُرَّة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: { كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.. الحديث } [رواه النسائي وصححه الألباني في أحكام الجنائز].
تحديثهم عن بطولات السابقين واللاحقين والمعارك ا لإسلامية وانتصار ات المسلمين
لتعظم الشجاعة في نفوسهم، وهي من أهم صفات الرجولة، وكان للزبير بن العوام طفلان أشهد أحدهما بعضَ المعارك، وكان الآخر يلعب بآثار الجروح القديمة في كتف أبيه كما جاءت الرواية عن عروة بن الزبير { أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا لِلزُّبَيْرِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ: أَلا تَشُدُّ فَنَشُدَّ مَعَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي إِنْ شَدَدْتُ كَذَبْتُمْ. فَقَالُوا: لا نَفْعَلُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ ( أي على الروم ) حَتَّى شَقَّ صُفُوفَهُمْ فَجَاوَزَهُمْ وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ رَجَعَ مُقْبِلاً فَأَخَذُوا ( أي الروم ) بِلِجَامِهِ ( أي لجام الفرس ) فَضَرَبُوهُ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ بَيْنَهُمَا ضَرْبَةٌ ضُرِبَهَا يَوْمَ بَدْر، قَالَ عُرْوَةُ: كُنْتُ أُدْخِلُ أَصَابِعِي فِي تِلْكَ الضَّرَبَاتِ أَلْعَبُ وَأَنَا صَغِيرٌ. قَالَ عُرْوَةُ: وَكَانَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلاً } [رواه البخاري: 3678].
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: وكأن الزبير آنس من ولده عبد الله شجاعة وفروسية فأركبه الفرس وخشي عليه أن يهجم بتلك الفرس على ما لا يطيقه، فجعل معه رجلاً ليأمن عليه من كيد العدو إذا اشتغل هو عنه بالقتال. وروى ابن المبارك في الجهاد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير "أنه كان مع أبيه يوم اليرموك , فلما انهزم المشركون حمل فجعل يجهز على جرحاهم" وقوله: " يُجهز " أي يُكمل قتل من وجده مجروحاً, وهذا مما يدل على قوة قلبه وشجاعته من صغره.
تعليمه الأدب مع الكبار
ومن جملة ذلك ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: { يُسلِّمُ الصَّغِيرُ على الكبِيرِ، والمارُّ على القاعِدِ، والقليلُ على الكثِيرِ } [رواه البخاري: 5736].
إعطاء الصغير قدره وقيمته في المجالس(/1)
ومما يوضّح ذلك الحديث التالي: عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: { أُتِيَ النَّبِيُّ بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ فَقَالَ: يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ } [رواه البخاري: 2180].
تعليمهم الرياضات الرجولية
كالرماية والسباحة وركوب الخيل وجاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: { كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ } [رواه الإمام أحمد في أول مسند عمر بن الخطاب].
تجنيبه أسباب الميوعة والتخنث
فيمنعه وليّه من رقص كرقص النساء، وتمايل كتمايلهن، ومشطة كمشطتهن، ويمنعه من لبس الحرير والذّهب. وقال مالك رحمه الله. "وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْغِلْمَانُ شَيْئًا مِنْ الذَّهَبِ لأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، فَأَنَا أَكْرَهُهُ لِلرِّجَالِ الْكَبِيرِ مِنْهُمْ وَالصَّغِيرِ" [موطأ مالك].
تجنب إهانته خاصة أمام الآخرين
عدم احتقار أفكاره وتشجيعه على المشاركة
إعطاؤه قدره وإشعاره بأهميته
وذلك يكون بأمور مثل:
(1) إلقاء السّلام عليه، وقد جاء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ } [رواه مسلم: 4031].
(2) استشارته وأخذ رأيه.
(3) توليته مسئوليات تناسب سنّه وقدراته.
(4) استكتامه الأسرار.
ويصلح مثالاً لهذا والذي قبله حديث أَنَسٍ قَالَ: { أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ لِحَاجَةٍ. قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ. قَالَتْ: لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ أَحَدًا } [رواه مسلم: 4533].
وفي رواية عن أَنَسٍ قال: { انْتَهَى إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا غُلامٌ فِي الْغِلْمَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَرْسَلَنِي بِرِسَالَةٍ وَقَعَدَ فِي ظِلِّ جِدَار- أَوْ قَالَ إِلَى جِدَار - حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ } [رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه، باب في السلام على الصبيان].
وعن ابْن عَبَّاسٍ قال: { كُنْتُ غُلامًا أَسْعَى مَعَ الْغِلْمَانِ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِنَبِيِّ اللَّهِ خَلْفِي مُقْبِلاً فَقُلْتُ: مَا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ إِلا إِلَيَّ، قَالَ: فَسَعَيْتُ حَتَّى أَخْتَبِئَ وَرَاءَ بَابِ دَار، قَالَ: فَلَمْ أَشْعُرْ حَتَّى تَنَاوَلَنِي فَأَخَذَ بِقَفَايَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً ( ضربه بكفّه ضربة ملاطفة ومداعبة ) فَقَالَ: اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ: وَكَانَ كَاتِبَهُ فَسَعَيْتُ فَأَتَيْتُ مُعَاوِيَةَ فَقُلْتُ: أَجِبْ نَبِيَّ اللَّهِ فَإِنَّهُ عَلَى حَاجَةٍ } [رواه الإمام أحمد في مسند بني هاشم].
وهناك وسائل أخرى لتنمية الرجولة لدى الأطفال منها:
(1) تعليمه الجرأة في مواضعها ويدخل في ذلك تدريبه على الخطابة.
(2) الاهتمام بالحشمة في ملابسه وتجنيبه الميوعة في الأزياء وقصّات الشّعر والحركات والمشي، وتجنيبه لبس الحرير الذي هو من طبائع النساء.
(3) إبعاده عن التّرف وحياة الدّعة والكسل والرّاحة والبطالة،وقد قال عمر: اخشوشنوا فإنّ النِّعَم لا تدوم.
(4) تجنيبه مجالس اللهو والباطل والغناء والموسيقى؛ فإنها منافية للرّجولة ومناقضة لصفة الجِدّ.
هذه طائفة من الوسائل والسّبل التي تزيد الرّجولة وتنميها في نفوس الأطفال، والله الموفّق للصواب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/2)
أطلُّ
للشاعر القروي
الأستاذ رشيد سليم الخوري
أطلُّ على وطني من بعيدْ
على أرضِ أجداديَ الطاهرةْ
مطالع أنوارها الباهرة
بساتين ليمونها الزاهرة
على مولد الحب في الناصرة
فأبدي سؤالي ثم أعيدْ
أبي كيف بتنا بهذا العراءِ؟
أبي من رمانا بهذا الشقاءِ؟
وشرَّدنا تحتَ كلَّ سماءِ؟
ألا راحة بعدَ هذا العناء؟
ألا عودة بعد هذا التنائي؟
بلى يا بنيَّ، بلى سنعودْ
غداً تطلع الشمسُ بعد المغيبْ
ويكحلُ عينيك مرأى الحبيب
غداً ينتهي دورُنا في النحيب
بفتح مبينٍ ونصرٍ قريب
بلى يا بنيَّ، بلى سنعودْ(/1)
أعاني من الجفوة بيني وبين إخوتي فما الحل؟
أجاب عليه أمين بن سليمان الدخيل
7/3/1427هـ
السؤال:
فضيلة الشيخ السلام عليكم و رحمة الله وبركاته وبعد:
أعمل في أحد الحلقات مشرفاً، ولكني أعاني من شيء من الجفوة بيني وبين أخوتي المشرفين (أي كأننا نعمل في دائرة حكومية، إذا انتهى أحدهم من عمله الموكل إيه انصرف)، وهذا مما يسبب ضعف في التربية للطلاب الذي بين أيدينا، فماذا ينصح فضيلتكم به من الجانب التربوي والشرعي.
سائلاً المولى أن يصلح بكم وينفع بجهودكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
الإجابة:
دعنا أخي الكريم نتكلم حول سؤالك الذي طرحته - والذي كثيراً ما يقع بين أصحاب العلاقة، سواء في القطاعات الخيرية، أو المحاضن التربوية، أو الدوائر الحكومية، أو الشركات الخاصة أو غيرها - ثم نضع بعض الحلول لهذه المشكلة.
حديث حول المشكلة:
أولاً: ذكرت في سؤالك أنك مشرف من ضمن مجموعة من المشرفين على حلقات لتحفيظ القرآن الكريم، وهذا بالتأكيد يوضح لنا أنه عند اتخاذ القرار سيكون القرار جماعياً، وأن صوتك سيمثل صوتاً واحداً مقابل مجموعة من الأصوات.
ثانياً: ذكرت أن هناك جفوة أخويةً (بينك) وبين إخوتك المشرفين.
ثالثاً: شبهت هذا الجفاف بموظفين يعملون في دائرة حكومية، فما أن تنتهي الأعمال الموكلة حتى ينصرف المشرف، وهذا يدل على أن لديك تصور واضح لأعراض المشكلة.
رابعاً: ذكرت أن هذه الجفوة سبب ضعفاً في التربية لطلابكم، وهذا أيضاً يدل على وجود تصور جيد للنتائج المترتبة على هذه المشكلة.
حلول عملية للمشكلة:
هناك حلول عملية تحتاج إلى مهارة وسرعة ودقة، وهي كمبضع الجراح تجرح لتعالج، والجراح الماهر لا يزيد الجرح اتساعاً، وهذه الحلول هي:
1- أحكم اتصالك بالمشرف على الحلقات، وارفع درجة ارتباطك به؛ لأنه هو الشخص الذي يتعامل مباشرة مع المحكّات، ويهمه بالدرجة الكبيرة تطوير العمل.
2- قم بعمل دراسة سريعة لأبرز المشكلات والأسباب المتوقعة، والتي سببت هذا الجفاف، والنتيجة، وقم بتدوينها في جدول، ثم قم بعرض هذه الأسباب على مختص متمكن لوضع حلول عملية لها، ثم اعرضها على مختص آخر لتتأكد من دقة الحلول المقترحة وهذا جدول توضيحي:
م ... المشكلة ... السبب ... النتيجة ... الحلول ... نتائج الحلول
1 ... عدم الرغبة في تعاون المشرف (س) مع (ص) ... سوء تفاهم بين المشرف (س) والمشرف (ص) ... ضعف التعاون بين المشرفين (س) و(ص) ... قيام بعض الأشخاص المحبوبين للطرفين من أهل الحكمة بعلاج المشكلة وإزالة سوء التفاهم ... عودة التعاون بين المشرفين
3 - إذا كنت طرفاً في المشكلة - وخاصة أنك ذكرت ذلك في سؤالك - فابحث عن الأسباب التي دعت لوقوع مثل هذا الجفاف، ويمكن استقصاء الأسباب من طرق متعددة مثلاً:
1- الطلب من أحد الأشخاص الموثوقين أن يبين لك أبرز ما فيك من جوانب نقص، وخاصة الجوانب الإنسانية، وجوانب الاتصال مع غيرك، فربما توجد لديك جوانب نقص لم تلحظها سببت هذا الجفاء.
2- ركز في كلماتك وفي وجوه إخوانك، فالكلمة غير المرغوبة ستجد أثرها في وجوه المقابلين لك، ولكن احذر أن تصل بك لمرحلة الوسوسة، وإنما استخدم هذه الطريقة خلال فترة وجيزة كأسبوع مثلاً.
3- حدد الأوقات والأماكن التي تشعر أن إخوانك المشرفين لا يجلسون معك فيها، والأوقات التي تشعر أنهم يطيلون الجلوس معك فيها، فمثلاً إذا خرجت مع إخوانك المشرفين إلى إحدى الاستراحات في برنامج طلابي هل تشعر أن المشرفين يبقون معك؟ وإذا خرجت مع إخوانك المشرفين في رحلة خاصة بالمشرفين هل تجدهم يستمتعون بالجلوس معك؟
إذا كانت الصورة كما عرضناها: فربما تكون أنت سبب في هذا الجفاف، فربما أنك تكثر من النقد لأعمالهم وبرامجهم، أو تكثر الحث وطلب زيادة الأعمال، فمن الممكن أخي أن يكون لديك حماس دافع للعمل سبب نفرة الآخرين منك.
http://www.almoslim.net:(/1)
أعجزت أن تكون كعجوز بني إسرائيل ؟
الحمد لله الذي يرفع بالهمة من شاء إلى بلوغ القمة ، والصلاة والسلام على أمضى الناس عزيمة ، وأقوى الخلق إرادة ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه ، أما بعد :
إن الهمم العالية كنوز غالية يمتن بها المنان على من يشاء من بني الإنسان ، فطوبى لمن أولاه مولاه تلك الهمة العالية والعزيمة الوثابة والإرادة الماضية ، فما آفة المحق إلا التردد والتذبذب ، والتخاذل والفتور ، والرضى بتوافه الأشياء ومحقرات الأمور !
والمتتبع لنصوص الوحي الشريف ، يرى كيف أن هذا الدين القويم يربى في قلوب أتباعة تلك الهمم لتصل بهم لعالي القمم ومعالي القيم ، فإذا سألتم الله الجنة ، فاسألوه الفردوس الأعلى ! فهل تأملت هذا الدرس ؟ وربيت به النفس ؟
فعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال : أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعرابياً فأكرمه ، فقال له : " ائتنا " ، فأتاه ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" سل حاجتك " . قال : ناقة نركبها ، وأعنز يحلبها أهلي ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل ؟! "
قالوا : يا رسول الله ! وما عجوز بني إسرائيل ؟ قال :" إنَّ موسى ـ عليه السلام ـ لما سارَ ببني إسرائيل من مصر ؛ ضَلّوا الطريق ، فقال : ما هذا ؟ فقال علماؤهم : إنَّ يوسفَ ـ عليه السلام ـ لمّا حضره الموتُ ؛ أخذ علينا موثقاً من الله ، أن لا نخرجَ من مصر حتّى ننقلَ عظامَه معنا ـ أي بدنه ، وهو من باب إطلاق الجزء ويراد به الكل ، فالأنبياء لا تأكل الأرض أجسادهم كما صح بذلك الخبر عن خير البشر ـ قال : فمن يعلمُ موضع قبره ؟ قال : عجوز من بني إسرائيل ، فبعث إليها ، فقال : دلَّيني على قبر يوسفَ ، قالت : حتى تعطيني حُكمي . قال : وما حكمكِ ؟ قالت : أكونُ معك في الجنة ، فكره أن يعطيها ذلك ، فأوحى اللهُ إليه أن أعطها حكمَها ، فانطلقت بهم إلى بحيرة موضع مستنقعِ ما ، فقالت : انضبوا هذا الماء ، فأنضبوه ، فقالت : احفروا ، فحفروا ، فاستخرجوا عظامَ يوسف ، فلما أقلّوه إلى الأرض ؛ فإذا الطريقُ مثل ضوء النهار "
السلسة الصحيحة ـ للألباني (313) وصحيح موارد الظمآن (2/452) (2064) . أرأيت الفرق الواسع والبون الشاسع بين من يريد أعنزاً يحلبها وناقة يركبها ، وبين من تريد مرافقة الرسول في الجنة ؟!
إنها الهمة العالية ، وفقط !
فإلى متى يرضى الكثير منا بضعف الهمة ، وفتور العزيمة ، ويرضى من الغياب بالإياب ، ومن الغنيمة بالسلامة ؟!
متى نرى في الأمة المسلمة الجم الغفير والعدد الكثير الذين يحملون الهم لضخامة الهمم ؟!
وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يقول :" إنما الناس كإبل مائة ، لا تكاد تجد فيها راحلة "
( صحيح البخاري ، من حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه )
وأخيراً : أجبني ، ولا تلتفت لغيرك ، فإنما أخاطبك أنت دون سواك ؛ ما هي أمانيك ؟ وأحلامك ؟ وطموحاتك ؟ إلى أين تريد الوصول ؟ هل همتك في الثرى أم أنها محلقة في السماء كالثريا ؟ هل تقنع من المعالي باليسير ؟ هل ترضى بالدون ؟
فالحقيقة الدقيقة هي ؛ أن تكون أو لا تكون !!!
شبكة الدعوة المعلوماتية
http://www.dawah.info/knoz_show.php?id=39(/1)
أعذار المتقاعسين
يتناول الدرس موضوعاً عملياً، كثيراً ما نلاحظه في حياة جمع من المسلمين على مختلف مستوياتهم، وقد يشكو منه البعض، ولا يحس به البعض الآخر، وقد يتصور فريقٌ آخرُ بأنه ظاهرةٌ صحيةٌ بسبب تدليسِ الشيطان وتزيينِه له؛ وهو سبرُ ومتابعةُ وملاحظة للذين يتساقطون في ثنايا الطريق عن متابعة أمر الدعوة والمشاركةِ فيها، في هذه الفترة التي نعيشها الآن فقط، ويبررون لأنفسهم، ويرون أن أعذارهم وجيهةٌ ومقبولة، ويعذرون بها .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد،،، لست هنا أريد أن أكتب بحثاً فأضعُ فصولاً وأبواباً، وأطراً وحدوداً للبحث، وإنما أريد أن أتناول موضوعاً عملياً، كثيراً ما نلاحظه في حياة جمع من المسلمين على مختلف مستوياتهم، وقد يشكو منه البعض، ولا يحس به البعض الآخر، وقد يتصور فريقٌ آخرُ بأنه ظاهرةٌ صحيةٌ بسبب تدليسِ الشيطان وتزيينِه له؛ وحديثي هو سبرُ ومتابعةُ وملاحظة للذين يتساقطون في ثنايا الطريق عن متابعة أمر الدعوة والمشاركةِ فيها، في هذه الفترة التي نعيشها الآن فقط، ويبررون لأنفسهم، ويرون أن أعذارهم وجيهةٌ ومقبولة، ويعذرون بها بين يدي الله عز وجل.
أعذار المتقاعسين أو القاعدين:
قال في 'تاج العروس':' يقال: تقاعس الرجل عن الأمر: تأخر ولم يقدم فيه'. وللقاعدين المتقاعسين عن طرق الخير أعذار كثيرة تختلف باختلاف الأفراد، والبلدان، والأحوال، ومن أبرزها:
التعلل بكبر السن : كأن يقول أحدهم: كبر سني، ورق عظمي، ويكفي ما قدمت، ويتصور هذا الأخ أن الدعوة يعتريها التقاعدُ والإحالةُ على المعاش! أما علم أن القافلةَ ساريةٌ ونهايتها الجنة، فإن تقاعد عنها فلا يلتفت إليه، وأنه ليس سنٌّ محددةٌ للعمل الصالح.. قال تعالى:} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[99] {'سورة الحجر' قال الحسن البصري: لم يجعل الله للعبد أجلاً في العمل الصالح دون الموت.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن ورقة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:' وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ' رواه البخاري ومسلم وأحمد . مع كبر سنه، وذهاب بصره، وقد تمنى أن يكون فيها جذعاً قوياً فيكون نفعُهُ أكبرَ وأثرُهُ أكثرَ.
وعن أنس: أن أبا طلحة الأنصاري قرأ سورةَ براءة، فلما أتى على هذه الآية:} انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ... [41] {'سورة التوبة' قال:' أرى ربَّنا عز وجل يستنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني أي بني' فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر رضي الله عنه، فنحن نغزو عنك، فأبى فجهزوه فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرةً يدفنونه فيها إلا بعد سبعةِ أيام فلم يتغير فدفنوه فيها' 'كتاب الزهد للإمام أحمد / 357' .
وقال الإمام الشافعي:' طلبُ الراحة في الدنيا لا يصلحُ لأهل المروءات، فإن أحدَهم لم يزلْ تعباناً في كل زمان'' الرقائق للراشد / 60'. وقيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال:' عند أول قدم يضعها في الجنة' 'طبقات الحنابلة 1/293'.
ونظرة في سير الأنبياء: نجد أنهم لم يبعثوا إلا بعد الأربعين، وما زالوا في دعوتهم حتى الموت، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه طعن ورأى الموت، ومع ذلك لم ينقطع عن العمل بل إنه ليواصلُ عملَهُ في صالح المسلمين وجرحُهُ يثعبُ دماً، فقد اختار مجلس الشورى ممن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وجاءه ذلك الشاب لزيارته فأنكر عليه ما رأى من الإسبال.
وقد: سئل حذيفة رضي الله عنه عن ميت الأحياء فقال:' الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه'.
والبعضُ ينشغلُ في طلب الرزق ويُذهِبُ جلَّ وقته فِيه ويتعللُ بقلة ذات اليد وحاجةِ الأولاد: ونسي أن رزقه مكفولٌ له، وأن طلبَ الرزق لم يمنع الصحابةَ والتابعين وسلفَ الأمة من الدعوة والمساهمة في طرق الخير والإصلاح.. قال صلى الله عليه وسلم:' إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَها، فِاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ اسْتِبْطَاءُ الْرِزْقِ أَنَ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإنَّ مَا عِنْدَ الله لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ' رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وأبو نعيم عن جابر، والبزار عن حذيفة، والحاكم عن ابن مسعود، وأبو نعيم عن أبي أمامة.
قد نادت الدنيا على نفسهالو كان في ذا الخلق من يسمع
كم واثق بالعيش أهلكتهوجامعٍ فرقت ما يجمع(/1)
قال تعالى:} فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ[36]رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ[37]{ 'سورة النور'.
الانشغال بالوظيفة: فيذهبُ زَهرةُ وقته فيها، ويعتذر بأنه لا يستطيع أن يشاركَ في خير ما دام عملُهُ هكذا، أو يجير وظيفتَهُ ويحسبُها في إطار الدعوة، ويخادع نفسه بذلك، وهو لا يقدم شيئاً من الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، ولاشك أن الوظيفة من وسائل الدعوة إن استغلها ووظفها في ذلك، قال سفيان بن عيينة:' من أصلح ما بينه وبين الله: أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه'. قلت لأحد الأطباء: ما ذا قدمت لدينك؟ هل قلت يوماً لمريض: هل تؤدي الصلاة؟ ذكرته بمعاصيه الظاهرة؟ هل تحافظ على الأوراد؟ من الشافي المعافي؟ إنه الله . كيف تطلب الشفاء ممن تبارزه بالمعاصي؟ فكأن هذا الأخ الطبيب انتبه من غفلة، وما تصور أنه بإمكانه أن يخدم دينه ويساهم في الخير بهذه البساطة.
يقول البعض: بأنه فاته القطارُ، وتجددت الوسائلُ وتغير الزمانُ، وأصبح لا يحسن العملَ في هذه الظروف!
وهذا لضعفِ الشعورِ بالمسئوليةِ، وتبلدِ الإحساس، وتجمدِ الحماس . عن مالك بن دينار قال:' إن صدور المؤمنين تغلي بأعمال البر، وإن صدور الفجار تغلي بأعمال الفجور، والله تعالى يرى همومكم فانظروا ما همومكم رحمكم الله'' كتاب الزهد للإمام أحمد / 451'. ولو كان قلب هذا يغلي، أو فيه هم للآخرة؛ لعرف كيف يخدم دينه.
إفساح المجال للآخرين: هذه يتعلل بها كثير من المتقاعسين، وكأن المجال فيه ازدحامٌ، حتى أصبح هو عقبةً في طرقِ الخير، وليت هذا الأخَ أفسحَ المجالَ للآخرين في طلب الرزق، والوظيفة، والتي عليها قطاراتٌ من الناس ينتظرون وظيفتَهُ تشغر! قال تعالى:} وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[26]{ 'سورة المطففون' وقال سبحانه:} وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[133]{ 'سورة آل عمران' وقال سبحانه في وصف المؤمنين:} أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[61]{ 'سورة المؤمنون'. وكان عمر رضي الله عنه يحاول جاهداً مسابقة أبي بكر رضي الله عنه في الخير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:' فمجموعُ أمتِه- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- تقومُ مقامَه في الدعوة إلى الله، ولهذا كان إجماعُهم حجةً قاطعةً، فأمتُه لا تجتمعُ على ضلالة، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى رسوله. وكلُّ واحدٍ من الأمةِ يجب عليه أن يقومَ من الدعوة بما يقدرُ عليه إذا لم يقم به غيرُه، فما قام به غيره؛ سقط عنه، وما عجز؛ لم يطالب به.
وأما ما لم يقم به غيرُه وهو قادرٌ عليه، فعليه أن يقومَ به، ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما لا يجب على ذاك، وقد تقسطتِ الدعوةُ على الأمة بحسب ذلك تارة، وبحسب غيره أخرى، فقد يدعو هذا إلى اعتقاد الواجب، وهذا إلى عمل ظاهر واجب، وهذا إلى عمل باطن واجب، فتنوعُ الدعوة يكون في الوجوب تارة، وفي الوقوع أخرى.
وقد تبين بهذا أن الدعوةَ إلى الله تجبُ على كل مسلم، لكنها فرضٌ على الكفاية، وإنما يجب على الرجل المعينِ من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، وهذا شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبليغِ ما جاء به الرسول، والجهادِ في سبيل الله، وتعليم الإيمان والقرآن. وقد تبين بذلك أن الدعوة نَفسَها أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، فإن الداعي طالبٌ مستدعٍ مقتضٍ لما دعا إليه، وذلك هو الأمر به، إذ الأمر هو طلب الفعل المأمورِ به، واستدعاءٌ له ودعاءٌ إليه، فالدعاء إلى الله: الدعاء إلى سبيله، فهو أمر بسبيله، وسبيلُه تصديقُه فيما أخبرَ، وطاعتُهُ فيما أمر'' الفتاوى 15/165-166'.
التعذر بعدم البرامج والخُطط، وإلقاءُ اللوم على العلماء والمشايخ في ذلك وينتظر منهم كل شيء: ولا يفكرُ أن يضعَ برنامجاً في محيطِهِ الصغيرِ الذي يعايشه في حيه، أو موقع وظيفته، فيجلس ينتظر البرنامج بزعمه، بينما لو أراد أن يبني بيتاً لعمل لذلك خططاً تجريبة لا تحصى، إن الذي لا يعيشُ همَّ الدعوة وينامُ ويستيقظُ عليها محال أن ترد عليه أفكارٌ في تطويرها والرفع من شأنها.(/2)
الانشغال بنقد الآخرين بأن هذا لا يحسن أن يلقي درساً، وذاك لا يعرف أن يكتب مقالاً، وفلان لا يصلح أن يشرف على عمل... الخ: قال الحسن البصري في وصف أناسٍ مثل هؤلاء لما وجدهم قدِ اجتمعوا في المسجد يتحدثون:' إن هؤلاء ملوا العبادة، ووجدوا الكلامَ أسهلَ عليهم، وقلَّ ورعُهم؛ فتحدثوا ' . وقال الوليد بن مزيد: سمعت الأوزاعي يقول:' إن المؤمنَ يقولُ قليلاً، ويعملُ كثيراً، وإن المنافقَ يتكلمُ كثيراً، ويعملُ قليلاً'' سير أعلام النبلاء [7/125]'.
قال النسابةُ البكريُّ لرؤبةَ بنِ العجاج:' ما أعداء المروءة؟ قال: تخبرني، قال: بنو عمِّ السوء: إن رأوا حسناً ستروه، وان رأوا سيئاً أذاعوه'' مفتاح دار السعادة لابن القيم 1 / 168'.
يمشون في الناس يبغون العيوبَ لمن لا عيب فيه، لكي يستشرفَ العطبُ
إن يعلموا الخيرَ يخفوه، وإن علموا شرا أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا
ومن أعراض هذا المرض أيضاً: التهويلُ والمبالغةُ، واستعمال العدسةِ المكبرةِ للتفتيش عن صغائرِ الغَير.
قال أبو هريرة رضي الله عنه:' يبصر أحدُكم القذاةَ في عين أخيه، وينسى الجذلَ أو الجذعَ في عين نفسه'.
إبرازُ الشخصياتِ المتقاعسةِ وتعليلُ النفس بهم، وأنه ليس الوحيدَ في هذا المجال: ونسي هذا الأخ بأنه يدفن وحدَه، ويبعثُ يوم القيامة وحده، وسيقفُ بين يدي الله وحده، فيومئذ:} يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ...[52]{ 'سورة غافر' نسي هذا أنه في مضمار مسابقة، وقد لام الله تعالى القاعدين فقال سبحانه:} رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ... [87] {'سورة التوبة'. قال إبراهيم الحربي عن الإمام أحمد:' ولقد صحبته عشرين سنةً صيفاً وشتاءً وحراً وبرداً وليلاً ونهاراً، فما لقيته في يوم إلا وهو زائدٌ عليه بالأمس'' مناقب أحمد لابن الجوزي ص140'. وذكر جرير بن عبد الحميد:' أن سليمان التيمي لم تمر ساعةٌ قطُّ عليه إلا تصدقَ بشيء، فإن لم يكن شيءٌ، صلى ركعتين'' سير أعلام النبلاء 6\199'.
الحساسيةُ المرهفةُ من النقدِ أو اللومِ: فالبعض لا يريدُ أن يلامَ أو يحاسبَ، أو ينتقدَ، فإذا واجه ذلك؛ تأثرَ وانقطعَ عن العمل، إما بالشعور بالإحباطِ بأنه لا يحسنُ، أو أنه وصل إلى مقامٍ لا ينبغي أن ينتقدَ، أو أن مثلَ فلان كيف يوجهُهُ وينتقدُهُ.. وأين هذا من عمر رضي الله عنه حيث قال: رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا!. وقال بلال بن سعد لصاحبه:' بلغني أن المؤمن مرآةُ أخيه، فهل تستريبُ من أمري شيئاً؟'' زهد ابن المبارك /485' . وقال بعض السلف:' من حق العاقلِ أن يضيفَ إلى رأيه آراءَ العلماء، ويجمعَ إلى عقلِهِ عقولَ الحكماء، فالرأي الفذُّ ربما زلَّ، والعقل الفردُ ربما ضل'.
قد يتساقط أناسٌ بسبب أنه لا يذكرُ عملُهم أو ينوهُ به أو يحمدون عليه: وكأن عملَهم للناس، كأن يقول: ليس هنا أحدٌ يقدرُ الجهودَ، أو ينظر في النتاج، أو يحترمُ العاملين، وما عندنا أحد ينزلُ الناسَ منازلَهم!! وصدق الربيع بن خيثم رحمه الله حيث قال:' كل ما لا يراد به وجهُ الله ؛ يضمحل'' طبقات ابن سعد 6/186'. وقال ابن الجوزي:' والصدقُ في الطلب منارٌ أين وجد يدلُّ على الجادة وإنما يتعثرُ من لم يخلص'' صيد الخاطر ص355'.. قال تعالى:} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[9]{ 'سورة الإنسان'.
تفريغُ الطاقة في التناجي: بأن يناجي شخصاً بأن شيخَه ليس مؤهلاً، أو ليس عندَه برامجُ تواكبُ التطور، أو لا جديدَ عنده، فإذا وافقه صاحبُهُ على ذلك انتقل إلى آخر، فيحدثه بمثل ذلك الحديث.
وليس عنده بدائل يطرحُها ولا برامجُ يقترحها، وإنما حمله الحسدُ، أو السآمةُ من العمل، أو حبُّ الرياسة والظهور، أو لا يريد أن ينقطعَ عن القافلة وحده .. قال السري: ما رأيت شيئاً أحبطَ للأعمال، ولا أفسدَ للقلوب، ولا أسرعَ في هلاك العبد، ولا أدومَ للأحزان، ولا أقربَ للمقت، ولا ألزمَ لمحبة الرياء والعجب والرياسة من قلة معرفة العبدِ لنفسه، ونظرِهِ في عيوب الناس'.
وتنافر القلوب لا يتعدى الأسباب التالية: فلتةُ لسان، أو هفوةٌ لم تغتفر، أو ظنٌّ متوهم.
قال ابن القيم رحمه الله: من قواعد الشرع، والحكمة أيضاً، أن من كثرت حسناتُه وعظمت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهرٌ، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، وعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماءِ القليل، فإنه لا يحتمل أدنى خبث.
ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:' وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ' رواه البخاري ومسلم.(/3)
وهذا هو المانع له صلى الله عليه وسلم من قتل من جَسَّ عليه، وعلى المسلمين، وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهد بدراً، فدل على أن مقتضى عقوبتِهِ قائمٌ، لكن منع من ترتبِ أثرِهِ عليه ما له من المشهد العظيمِ، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات، ولما حض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقةَ العظيمةَ قال:' مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ' رواه الترمذي وأحمد. وقال لطلحة لما تطأطأ للنبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد على ظهره إلى الصخرة:' أَوْجَبَ طَلْحَةُ' رواه الترمذي وأحمد ' 'مفتاح دار السعادة 1/176' .
من ذا الذي ترضا سجاياه كلُّها كفى المرءَ نبلاً أن تعد معايبُه
التنقلُ في الأعمال الخيرية على هيئة المذواق: كلُّ يوم في عمل، وله كل يوم منهجٌ وطريقةٌ، يمدح ذاك العملَ حيناً، ثم ينتقل إلى غيره مقدماً الجديدَ عليه حيناً آخر، وفي الأخيرِ يسقط؛ لأنه لا يرضيه شيءٌ وقد جرب كلَّ ميدان! ولو أخذ ما يناسبه والأفضلَ في حقه؛ لنال خيراً كثيراً، قال ابن القيم: وهاهنا أمرٌ ينبغي التفطنُ له: وهو أنه قد يكون العملَ المعيَّنُ أفضلَ منه في حق غيره، فالغني الذي بلغ له مالٌ كثيرٌ ونفسُه لا تسمحُ ببذل شيء منه فصدقتُه وإيثارُه أفضلُ له من قيام الليل وصيام النهار نافلة، والشجاع الشديد الذي يهاب العدوُّ سطوتَهُ: وقوفُهُ في الصف ساعة، وجهادُهُ أعداءَ الله أفضلُ من الحج والصوم والصدقة والتطوع. والعالمُ الذي قد عرف السنة، والحلال والحرام، وطرقَ الخير والشر: مخالطتُهُ للناس، وتعليمُهم ونصحهم في دينهم أفضلُ من اعتزاله، وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح . ووليُّ الأمر الذي قد نصبه الله للحكم بين عباده: جلوسُهُ ساعةً للنظر في المظالم، وإنصافِ المظلومِ من الظالم وإقامةِ الحدود ونصرِ المحقِّ وقمعِ المبطل أفضلُ من عبادة سنين من غيره، ومن غلبت عليه شهوةُ النساء فصومه له أنفعُ وأفضلُ من ذكر غيره وصدقته'' عدة الصابرين لابن القيم / 93'.
التنقل بين الشيوخ أو الجماعات أو الأفكار: قال عمر بن عبد العزيز: 'من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل' . فيملُّ فيتركُ الخيرَ كله، أو يصابُ بشكوك واضطراب في آرائه وأفكاره وتوجهاته، فيصبح يشك في كل من حوله.
فالثباتُ على منهج سليم فيما يعود على الإنسان من خيري الدنيا والآخرة؛ يقي الإنسانَ من التردد والتغيرِ؛ والتنقلِ والحيرة.
فإذا علمت أنك على الحقِّ، ومتمسكٌ بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومتبعٌ لمنهج السلف الصالح؛ فلا يضيرك مخالفةُ غيرك, ولا يضعفك عن مسيرك فتنةٌ، ولايوقفُك عنه ابتلاء.
الخوف والهلع من المخلوقين: فتتحول مراقبتُهُ وخوفُهُ ورجاؤه إلى الخلق، ويوسوس له الشيطان في كلِّ عمل أو حركةٍ بأنه مؤاخذٌ به ومؤدبٌ عليه، فيترك كثيراً من الأعمال الصالحة، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر؛ فتتطبعُ نفسُه ذلك، حتى لا يتمعر وجهُه في ذات الله أبداً!! قال تعالى:} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[175]{ 'سورة آل عمران' . 'إن من غفلتِكَ عن نفسك، وإعراضِك عن الله، أن ترى ما يسخطُ اللهَ فتتجاوزه، ولا تأمرَ فيه ولا تنهى عنه، خوفاً ممن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً''الجواب الكافي لابن القيم / 44'.
ضعفُ الصلة بالله تعالى: فيقلُّ نصيبُهُ من نوافل الصيام والصلاة والصدقة، فإذا قل زادُهُ، وانتهى وقوده؛ تعطل من العمل، ولهذا كان السلف الصالح من أحرص الناس على تربية أنفسهم على التزود من الطاعات.
الزواج: وكثيراً ما يقع لمن تأخر عن الزواج، أو من يعدد بعد زوجة تؤذيه، فينشغلُ بلذة الشهوةِ عن الدعوة.
عدم التوازنِ في جوانب العبادةِ وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه: كما قال صلى الله عليه وسلم:' فَقَالَ إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ' رواه البخاري والترمذي-واللفظ له- .
'فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ' فينشغل بجوانب الخير وطرقه، وينسى بعضَ الواجبات عليه، أو يغفلُ عنها، أو يهملها، أو لا يلقي لها بالًا. وفجأة يرى نفسه- مثلاً- مفرطاً في بر الوالدين وصلة الأرحام، أو في جانب ولده وأهله، وأنه لم يقم بتربيتهم على الوجه المطلوب، أو غير ذلك من الأمور؛ فيحمٍلُ ذلك على انشغالِهِ بالدعوة، فيفتر ويتركها.
ولو أن هذا الأخَ وازنَ بين الواجبات والمستحبات، وأعطى كل ذي حق حقه ونصيبَهُ؛ ما ترك شيئا من طرقِ الخير وأهملَهُ.(/4)
دخولُهُ في عمل لا يتلاءمُ مع شخصيته وتكوينه وطاقاته وقدراته: فيفشل، فيصاب بإحباط؛ فيدع العمل، ولا يحاول التغيير. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم ـ متباينين في الطاقات والقدرات، وكل أخذ بالعمل الذي يحسنه، وما رؤي أحد منهم عاطلاً عن العمل، فخالد سيف الله المسلول، وأقرؤكم أُبَي، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل. وهذا أبو ذر رضي الله عنه من أكبر المؤثرين في الدعوة، حتى أسلمت جلُّ غفار على يديه، ومع ذلك لا يصلح للإمارة كما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يريد عملاً يتوافق مع خواطره وتخيلاته: وهذا العمل غيرُ متمثل في واقعه، أو غيرُ ممكن تطبيقه؛ فتتحول نظراتُهُ وخواطرُهُ إلى خيالات مثالية، ويعتذر بها عند كل من يطلب منه أن يشارك في خير، أو إصلاح. . قال ابن مسعود:' إذا أراد الله بعبد خيراً سدده وجعل سؤاله عما يعينه وعلّمه فيما ينفعه'' الإبانة 1 / 419'.
استعجالُ الثمرة واستبطاءُ الطريق: ونسي أنه وقف لله تعالى، يذهب مع مرادات محبوبه أينما توجهت ركائبها، لا يبتغي لها أجراً، ولا ينتظر منها ذكراً، قالت فاطمة بنت عبد الملك تصف زوجَها عمرَ بن عبد العزيز:' كان قد فرغ للمسلمين نفسَهُ، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه وصل يومَهُ بليلته'.
الانفصالُ عن الأخيار العاملين: فيبقى يصارع الشيطان وحده، فيجتمع عليه الهوى، والنفسُ الأمارةُ بالسوء، والشيطانُ حتى يغلبوه، وهذا السر في قوله صلى الله عليه وسلم:' ...فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ' رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وقد كان السلف لا يراهنون على إخوانهم أبداً حتى وصل بهم الأمر أن يقرنوهم بالصلاة في أهميتها وعظمها:
? عن محمد بن واسع قال:' ما بقي في الدنيا شيءٌ ألذُّ به إلا الصلاةَ جماعة ولقيا الإخوان''الزهد للإمام أحمد / 440'.
? وقال الحسن البصري:' لم يبق من العيش إلا ثلاثٌ: أخٌ لك تصيب من عشرته خيراً، فإن زغت عن الطريق قومك، وكفافٌ من عيش ليس لأحد عليك فيه تبعة، وصلاةٌ في جمع تُكفى سهوَها، وتستوجب أجرَها' 'تاريخ بغداد 6/99'.
التفكير العقيم بأن مجالات الدعوة محدودةٌ برقم محدد وقد أغلقت كلُّها، أو أنه لا يحسنها: فيفتر، ولا يحاول التفكيرَ بأساليبَ جديدةٍ، أو يستصعبها فيتركها. ومن ظن أن أحداً من المخلوقين كائناً من كان يستطيع أن يغلق جميع منافذ وسبل الدعوة فقد ظن بالله ظن السوء وما قدر الله حق قدره، قال تعالى:} يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[8]{ 'سورة الصف' . قال ابن القيم:' ومن ظن إدالةَ أهلِ الكفر على أهل الإسلام إدالةً تامة؛ فقد ظن بالله ظن السوء'
عن هارون البربري قال: كتب ميمون بن مهران إلى عمر بن عبد العزيز:' إني شيخ كبير رقيق، كلفتني أن أقضي بين الناس - وكان على الخراج والقضاء بالجزيرة - فكتب إليه: إني لم أكلفك ما يُعنِّيك، اِجب الطيبَ من الخراج، واقض بما استبان لك، فإذا لبِّس عليك شيءٌ، فارفعه إلي، فإن الناس لو كان إذا كبر عليهم أمرٌ تركوه، لم يقم دين ولا دنيا'' سير أعلام النبلاء 5\ 74'.وقد تسيطر على تفكيره بعض مجالات وطرق الدعوة، ويتصور أن نشر هذا الدين والدعوة إليه لا تكون إلا بها! كمن يرى أن الدعوة هي في المحاضرات، والدروس، أو نشر شريط وكتاب، ونسي الطرق الأخرى مثل الدعوة بالقدوة الحسنة، والكلمة الطيبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الرحم وتوجيههم ونصحهم، والتلطف للناس وحسن معاملتهم الخ.
التنقل بين البلدان والاصطدام بواقع لا يعرفه: فلا يخطط للعمل في الموطن الجديد، ولا يعمل ذهنَهُ في الوسائل المناسبة، فيصطدمُ من أول يوم بوضع غير الذي يعرفُه بسبب تقصيرِه في فهم البلد وأنظمتِه، أو عاداتِ وتقاليدِ أهله، فيصاب بإحباط ويدعُ العمل. أو يتعلقُ ببلد معين ويستميت في الوصول إليه والسكن فيه بحجة أنه أفضل، أو أن البلد الذي فيه لا يستحقُّ جلوسَ أمثاله فيه. ونسي أنه عاملٌ وداعية، أرضُه وبلده التي يتمكن فيها من نشر دعوته بين الناس، وإخراجهم فيها من الظلمات إلى النور، فقد يكون بلدُ بنفسه فاضلاً على غيره، لكن المفضول أحياناً يكون أفضلَ منه للمسلم لهذه الحيثية.(/5)
قال أبو هريرة:' لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود' . وقال ابن تيمية:' ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرضٌ يكون فيها أطوعَ لله ورسوله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ولا تتعين أرض يكون مقامُ الإنسان فيها أفضلَ وإنما يكون الأفضلُ في حق كل إنسان بحسب التقوى والطاعة والخشوع والخضوع والحضور، وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة! فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس العبد عمله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان وأبي الدرداء، وكان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا'' مجموع فتاوي ابن تيمية 18/ 283'.
يقع في معصية فيستثمرها الشيطان، ويقول: كيف تدْعُو إلى الله تعالى وأنت وقعت في كذا وعملت كذا: فلا يزال به حتى يقعده عن العمل والطاعة، فيضيف إلى معصيته معصية أخرى ،وهي القعود عن أعمال الخير. ونسي أخونا الكريم أن الحسنات يذهبن السيئات.
المنافسة بين الأقران: فإذا رأى أن قرينه قد فاقه في علم أو عمل تعاظم ذلك في نفسه، وكره أن يمشي معه في سبيل واحد، واختار القعود على أن يقال: إنه أقل من فلان وفلان، ونسي:'لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ' رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وأحمد.
حب الرياسة والعلو: فحين يرى أنه لم يتبوأ مركزاً في الدعوة، يتعاظمُ أن يكون تابعاً لغيره أنفةً وترفعاً وكبراً، وفي الحديث :' مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ' رواه أحمد والترمذي والدارمي.
قال الفضيل بن عياض:' ما أحب أحد الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يذكرَ الناسُ أحداً عنده بخير، ومن عشق الرياسة فقد تُودِّع من صلاحه'. وقال عبيد الله بن الحسن العنبري:' لأن أكون ذَنَباً في الحق: أحبُّ إلي من أن أكون رأساً في الباطل'' تهذيب التهذيب 7/7'. قال ذلك حين رجع عن أقوال له خالفت السنة، فقيل له في ذلك وأنك لم تعد في مكانتك السابقة لما كنت على تلك الأقوال.
التفرغ لعمل علمي، أو بناء بيت أو غير ذلك لبضع سنوات: فيخمد حماسُه، ويضعف تجاوبُه مع الدعوة، وينسى كثيراً من الأساليب والأفكار، ويستجد أعمالٌ وأحوالٌ، فتعظم عليه الأمور، ويفضل أن يعيش في الظل بعيداً عن الأضواء، ويألف الوحدة والانزواء. عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ:' يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا:}وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ[195]{ 'سورة البقرة' فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلاحِهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ' فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ. رواه الترمذي وأبو داود .
ترك العمل بسبب ظروف طارئة، وأحوال عصيبة: ينتظر تجليتها، ويرقب الفرج، ويأمل كشف الغربة. وينسى أن تجلية الغربة لا تتأتى بالكسل والخمول، ولم يتفكر كيف كُشفت الغربة الأولى: هل جلس أبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة ينتظرون كشفها، أم قاموا على قدم وساق حتى كشفوها.(/6)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:' كثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام، جزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر، إن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار... وقوله صلى الله عليه وسلم:' ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ' أعظم ما تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال تعالى: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[54] {'سورة المائدة' فهؤلاء يقيمونه إذا ارتد عنه أولئك. وكذلك بدأ غريباً ولم يزل يقوى حتى انتشر، فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة، ثم يظهر حتى يقيمَه الله عز وجل كما كان عمر بن عبد العزيز لما وَلِيَ قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر، فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريباً'' مجموع فتاى ابن تيمية 18 / 295 –297'.
تمكن الشيطان من إلقاء الشبهات في قلبه وبخاصة في وقت الفتن : فيبدأ في مراجعة حساباته لا لتقويمها وسد الثغرات، ويقظة الحراسة، وإنما لتبدل القناعات لديه من غير دليل صحيح صريح. وهذا هو الذي خشيه خبير الفتن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حينما قال له أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه:' أوصني، قال:' إن الضلالةَ حقَّ الضلالةِ أن تعرفَ ما كنت تنكر وتنكرَ ما كنت تعرف، وإياك والتلونَ في الدين فإن دينَ الله واحد'' الإبانة 1 / 189 - 190'. وعن محمد بن سيرين قال: قال عدي بن حاتم رضي الله عنه:' إنكم لن تزالوا بخير ما لم تعرفوا ما كنتم تنكرون، وتنكروا ما كنتم تعرفون، وما دام عالمكم يتكلم بينكم غيرَ خائف'' الإبانة 1 / 190 - 191'. وعن إبراهيم النخعي:' كانوا يرون التلون في الدين من شك القلوب في الله'' الإبانة 2 /505'.
وقال مالك:' الداء العضال التنقل في الدين'' الإبانة 2 / 605'.
كابد وجاهد نفسه فتعب ومل وترك العمل: ولا ندري كم من العقود جاهد وكابد فيها هذا الأخ الكريم!
ألم يقرأ سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى:}وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ[14] { 'سورة العنكبوت'. قال ابن المنكدر:' كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت'. وقال الإمام ربيعة بن يزيد:' ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضاً أو مسافراً '.
كان المحدث الثقة بشر بن الحسن يقال له:' الصفي' لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة'.
قال ابن القيم:' يا مخنث العزم أين أنت والطريق، طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، واضطجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم، تزهى أنت باللهو واللعب' 'الفوائد ص56'.
قد يقول: الحمد لله أنا من الأخيار، وليس عندي معاص، وليس كل الناس دعاة!! ولا أدري مما أعجب: هل من تزكية هذا الأخِ الكريمِ لنفسه، أم من جهله بأن التقصير في الدعوة ليس من المعاصي!
قال ابن القيم:' ليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله، وأكثرُ الديّانينَ لا يعبأون منها إلا بما شاركهم فيه عمومُ الناس، وأما الجهادُ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه، فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وفضلاً عن أن يفعلوها، وأقل الناس ديناً، وأمقتهم إلى الله: من ترك هذه الواجباتِ، وإن زهد في الدنيا جميعِها، وقلَّ أن ترى منهم من يُحمرُ وجهُه ويمعره لله ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه، وأصحابُ الكبائر أحسن حالا عند الله من هؤلاء'' عدة الصابرين / 121'.
قال تعالى:}عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ[105]{ 'سورة المائدة' قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله، وأدي الواجب من الأمر والنهي وغيرهما، ولكن في الآية فوائد عظيمة:
أحدها: أن لا يخافَ المؤمنُ من الكفار والمنافقين، فإنهم لن يضروه إذا كان مهتدياً.(/7)
الثاني: أن لا يحزنَ عليهم ولا يجزعَ عليهم، فإن معاصيَهم لا تضره إذا اهتدى، والحزنُ على ما لا يضر عبث، وهذان المعنيان مذكوران في قوله:}وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ[127]{ 'سورة النحل'.
الثالث: أن لا يركن إليهم، ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات، كقوله:} لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ[88]{ 'سورة الحجر' فنهاه عن الحزن عليهم، والرغبة فيما عندهم في آية، ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية، فإن الإنسان قد يتألمُ عليهم ومنهم، إما راغباً وإما راهباً.
الرابع: أن لا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم، أو نهيهم أو هجرهم، أو عقوبتهم، بل يقال لمن اعتدى عليهم: عليك نفسك لا يضرُّك من ضل إذا اهتديت، كما قال:} وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [8]{ 'سورة المائدة' وقال:} وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ[190]{ 'سورة البقرة' . وقال:} فَإِنِ انْتهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ[193]{ 'سورة البقرة' فإن كثيراً من الآمرين الناهين قد يعتدون حدود الله: إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكارُ على الكفار والمنافقين الفاسقين والعاصين.
الخامس: أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع، من العلم والرفق، والصبر، وحسن القصد، وسلوك السبيل القصد، فإن ذلك داخلٌ في قوله:}عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ{ وفي قوله:}إِذَا اهْتَدَيْتُمْ{. فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها المعنى الآخر، وهو:
السادس: إقبال المرء على مصلحة نفسه علماً وعملاً، وإعراضه عما لا يعنيه، كما قال صاحب الشريعة:' مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ' رواه الترمذي وابن ماجة ومالك وأحمد . ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه، ولاسيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة. وكذلك العمل فصاحبه إما معتدٍ ظالمٌ، وإما سفيهٌ عابثٌ، وما أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ويكون من باب الظلم والعدوان.
فتأملُ الآية في هذه الأمور من أنفع الأشياء للمرء... والله يهدينا الصراط المستقيم ولا حول ولا قوة إلا بالله'' مجموع فتاوي ابن تيمية 14 / 480-483'.
قد يركز على شريحة من المجتمع وأنها مجال العمل: فيفشل في التعاون معها، ويصاب بإحباط ويأس، وينسى أن ديننا ليس لمجموعة دون غيرها ولا لطبقة بعينها. إن أي دعوة تهمل شريحة من المجتمع تعتبر ناقصة، ومآلها إلى الانحسار، وقد تميزت الدعوة الإسلامية باحتوائها جميع طبقات المجتمع، وتوظيفِ جميع طاقات، فليس في المجتمع المسلم عنصرٌ مهملٌ، أو مبعد، أو مركون مهما كان.
رأى كثرة الفساد وانتشاره، واستحكام كثير من الشر فرأى أن الأفضلَ اعتزالُ الناس وتركُهم : ما أسهل العزلة عن الخلق وترك التبعة: يروي لنا التابعي الكوفي، الفقيه النبيل عامر الشعبي: أن رجالاً خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريباً يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم:' ما حملكم على ما صنعتم؟' قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد. فقال عبد الله:' لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا ''الزهد لعبد الله بن المبارك / 390'.
الخاتمة
لعل الجميع يدرك أهمية الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتساب على عامة المجتمع على مختلف أصنافه وطبقاته، وعلى جميع أجهزته وإداراته.. وأن العمل للدين مسئولية الجميع كل بحسبه، وأن على المسلم بوجه عام والداعية وطالب العلم على وجه الخصوص المساهمة الفعلية في خدمة الإسلام والدعوة إليه والذب عن حياضه.
وليعلم كل مسلم أنه في هذه الحياة إما يتقدم إلى الخير والإيمان، أو يتأخر نحو المعصية والنقصان، فليس هناك وقوف واستراحة، فليراقب كل إنسان نفسه ويحاسبها، وليكن يقظاً من أن ينحدر إلى دركات النقص وهو لا يشعر.
فالله ألله يا أهل العلم والدعوة لا يغلبنكم أهل الباطل ومروجوا الفساد، فإنكم إن تخاذلتم وتكاسلتم غلبوكم حتى على أهليكم وأولادكم } إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[104] {'سورة النساء' .(/8)
أخي وفقك الله: إن الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ واجب الجميع، وفريضة الكل، من عرف آية من كتاب الله حق عليه أن يعلمها، من تعلم حديثاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب عليه إبلاغه، من فقه مسألة فعليه إيصالها إلى من يستفيد منها.
لقد تعددت وسائل الدعوة وطرقها فأين وقع سهمك؟ لماذا تبكي كثير من المساجد من قلة الرواد! لماذا خلا كثير منها من الوعظ والإرشاد؟ القرى والهجر تشكو الجهل وتحن إلى معلم الناس الخير! الصحف والمجلات تخلو كثير منها من قائم لله بحجة!
إن الدعوة إلى الله تعالى أعظم من أن يحتكرها أناس، وأكبر من أن تحد بمواسم خاصة ومناسبات محدودة، الدعوة آية تتلى وحديث يروى، ودرس يلقى، وكتاب يصنف، وخطبة تحرر، وموعظة تؤثر، ومجلة تنشر، وشريط يوزع، ونصيحة تهدى، وأذكار تحفظ، ومال من حلال ينفق، وعلم نافع ينشر، وأمر ونهي، وصلة وبر، وإحسان للجيران، وتفقد للفقراء والمعوزين.
فالبدار البدار.. والتنافس التنافس في طرق الخير وسبل الحق.. روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ 'بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا'. أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا: أن ينصر دينه، وأن يجعلنا من أنصاره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من رسالة:'أعذار المتقاعسين' للدكتور/ يحيى بن إبراهيم اليحيى(/9)
أعرابي في حمام
صحبنا في رحلتنا إلى الحجاز، دليل شيخ من أعراب نجد يقال له صلَبى ما رأيت أعرابياً مثله قوةَ جَنَان، وفصاحة لسان، وشدة بيان ولولا مكان النبرة البدوية لحسبته قد انصرف الساعة من سوق عكاظ، لبيان لهجته، وقوة عارضته، وكثرة ما يدور على لسانه من فصيح الكلام. وكان أبيّ النفس، أشمّ المعطس، كريم الطباع، لكن فيه لوثة وجفاء من جفاء الأعراب، رافقنا أيام طويلة، فما شئنا خلة من خلال الخير إلا وجدناها فيه، فكان يواسينا إذا أصبنا، ويؤثرنا إذا أَضَقنا، ويدفع عنا إذا هوجمنا، ويفديّنا إذا تألمنا، على شجاعة نادرة، ونكتة حاضرة، وخفة روح، وسرعة جواب، قلنا له مرة:
- إن (صْلَبة) في عرب اليوم، كباهلة في عرب الأمس، قبيلة لئيمة يأنف الكرام من الانتساب إليها، وأنت فيما علمنا سيّد كريم من سادة كرام، وليس لك في هذه القبيلة نسب؟ فما لك تدعى صلبى. فضحك وقال:
- صدقتم والله، ما أنا من صلبة، ولا صلبة مني، وإني لكريم العم والخال ولكنّ هذا الاسم نكتة أنا مخبركم بها.
قلنا: هات. قال:
- كان أبواي لا يعيش لهما ولد، فلما ولدت خشيا عليّ فسمياني صْلَبى. قلنا: ائن سمياك صْلَبى عشت؟ قال:
إن عزرائيل أكرم من أن يقبض روح صْلَبى.
وسألناه مرة: هل أنت متزوج يا صْلَبى؟ قال:
- لقد كنت متزوجاً بشرّ امرأة تزوجها رجل، فما زلت أحسن إليها وتسيء إليّ، حتى ضقت باحتمالها ذرعاً فطلقتها ثلاثاً وثلاثين.
قلنا: إنها تبين منك بثلاث، فعلام الثلاثون؟
فقال على الفور: صدقة مني على الأزواج المساكين!
وطال بنا الطريق إلى تبوك، وملّ القوم، فجعلوا يسألونه عن تبوك، ويكثرون عليه، يتذمرون من بعدها، حتى إذا كثروا قال لهم:
ما لكم تلومونني على بعدها؟ والله لم أكن أنا الذي وضعها هناك. ولم يكن صْلَبي يعرف المدن، ولم يفارق الصحراء قط إلا إلى حاضرته تبوك (وتبوك لا تزيد عن خمسين بيتاً...) فلما بلغنا مشارف الشام أغريناه بالإبلاد ودخول المدينة، وجعلنا نصف إليه الشام، ونشوّقه فيأبى، وكنت صفّيه من القوم وخليله ونجيّه فجعلت أحاولره وأداوره، وبذلت في ذلك الجهد فلم أصنع معه شيئاً لما استقر في نفسه من كراهية المدن وإساءة الظن بأهلها، وكان عربياً حراً، ومسلماً موحداً، لا يطيق أن يعيش يوماً تحت حكم (الروم) أو يرى مرة مظاهر الشرك...
فودعناه وتركناه...
* * *
وعدت إلى دمشق، فانغمست في الحياة، وغصت في حمايتها أكدّ للعيش، وأسعى للكسب، فنسيت صلَبى وصُحبته، وكدت أنسى الصحراء وأيامها، ومرّت على ذلك شهور... وكان أمس فإذا بي ألمح في باب الجابية وسط الزحمة الهائلة، وجهاً أعرفه فلحقت به أتبيّنه فإذا هو وجه صْلَبى، فصحت به:
- صْلَبى! قال: - لا صْلَبى ولا مْلَبى.
قلت: ولم ويحك؟ قال: أنا في طلبك منذ ثلاث ثم لا تأتي إليّ ولا تلقاني؟
فقلت له ضاحكاً: - وأي ثلاث وأي أربع؟ أتحسبها تبوك فيها أربعمائة نسمة؟ إنها دمشق يا صْلَبي، فيها أربعمائة ألف إنسان، فأين تلقاني بين أربعمائة ألف؟
قال: - صدقت والله.
قلت: هلم معي. فاستخرجته من هذه الزحمة الهائلة، وملت به إلى قهوة خالية، فجلسنا بها ودعوت له بالقهوة المرة والشاهي، فسرّ، وانطلق يحدثني قال:
- لمّا فارقتكم ورجعت وحيداً، أسير بجملي في هذه البادية الواسعة، جعلت نفسي تحدثني أن لو أجبت القوم ورأيت المدينة... فلما كان رمضان مرّ بنا بعض الحضريين فدعوني إلى صحبتهم لأرشدهم الطريق، ثم أغروني كما أغريتموني، وحاوروني كما حاورتموني حتى غلبوني على أمري ودخلوا بي دمشق، فما راعني والله يا ابن أخي إلا سيارة كبيرة كسيارتكم هذه، لكنها أهول وأضخم، لها نوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد فهي تمشي عليهما، فأدخلوني إليها، فخشيت والله وأبيت، فأقسموا لي وطمأنوني، فدخلت ويدي على خنجري إن رأيت من أحد شيئا أكره وجأته به، وعيني على النافذة إن رابني من السيارة أمر قفزت إلى الطريق، وجلست، فما راعنا إلا رجل بثياب عجيبة قد انشق إزاره شقاً منكراً، ثم التف على فخذيه فبدا كأنما هو بسراويل من غير إزار، وعمد إلى ردائه فصف في صدره مرايا صغيره من النحاس، ما رأيت أعجب منها، فعلمت أنه مجنون وخفت أن يؤذينا، فوضعت كفي على قبضة الخنجر، فابتسم صاحبي وقال: هو الجابي. قلت: جابي ماذا، جبّ الله (...)!
قال: اسكت، إنه جابي (الترام) أعني هذه السيارة.
ثم مدّ يده بقرشين اثنين، أعطاه بها فتاتة ورق، فما رأيت والله صفقة أخسر منها، وعجبت من بلاهة هذا الرجل إذ يشتري بقرشين ورقتين لا تنفعان وجلست لا أنبس، فلم تكن إلا هنَيّة حتى جاء رجل كالأول له هيئة قِزْدية ألا أنه أجمل ثياباً، وأحسن بزّة، فأخذ هذه الأوراق فمزقها، فثارت ثائرتي، قلت: هذا والله الذل، فقّبح الله من يقيم على الذل والخسيفة، وقمت إليه فلبّبته وقلت له:
- يا اين الصانعة، أتعمد إلى شيء اشتريناه بأموالنا، ودفعنا به قروشنا فتمزقه، لأمزّقن عمرك.(/1)