القرى والهجر بأمس الحاجة للشباب وطلاب العلم بل لصغار طلاب العلم : فالجهل فيهم منتشر، ونحن المسئولون، فلقد وجد في بعض القرى القريبة من المدن قوم لا يحسنون الفاتحة، ولا يعرفون صلاة، ولا زكاة.. بل إن بعض القرى تفشى فيها الشرك، والسحر، والتعلق بالمشعوذين، والعرافين، والمكلف بهؤلاء والمسئول عنهم طلاب العلم، فعلى كل من تعلم العلم واستفاد أن يدعو فيها. وبعض المدن تكتظ بالشباب المتعلمين، فلو تفرقوا في الإجازات في القرى والهِجَر لكان حسناً. والذي يضبط الأمر توزيع المناطق على الشباب المتعلمين، فكل مجموعة تهتم بمنطقة بحيث تقيم لهم الدروس، والدورات، ولو أقام بعض الشباب في مثل هذه القرى والهجر لمدة أسبوع، أو أكثر؛ لنفع الله بهم نفعاً عظيماً.
وسائل وتوجيهات للمراكز الصيفية:
الحرص الأكيد على استغلال طاقات الشباب ومواهبهم : ومن ذلك: الحرص على طلاب العلم الراغبين الجادين، وتوجيههم إلى حلقات العلماء، بل ووضع برامج لهم في القيام بمتابعة الدروس الصباحية للمشائخ، وجمع الراغبين من طلاب المركز في طلب العلم وإيصالهم إلى الدرس بسيارة خاصة، ففي هذا تشجيع، وتنمية لموهبة الطلب عند الشباب.
تحية إجلال للمسئولين عن الطلاب والشباب في المراكز الصيفية: ونقول لهم الله الله في هذه الأمانة، ومزيداً من الجدية في تربية الشباب، والاستفادة من تجارب الآخرين، وذلك بعقد اللقاءات للأساتذة والمشرفين من كل مدينة، والعاقل من أضاف إلى عقله عقول الآخرين.
يقوم المركز الصيفي بدعوة عدد من تجار المدينة، وإقامة حفل لهم: وتعريفهم بالمركز، ودوره مع أبنائهم، وتقديم الهدايا لهم، وفتاوى مهمة، وذكر بعض الأخطاء كجلب العمالة الكافرة وغيرها، وصفة التاجر المسلم.. وغير ذلك من المواضيع.
عمل برنامج اليوم الدَّعَوِي: بأن يقوم مجموعة من طلاب المركز المبرزين بزيارة ميدانية لشباب الأرصفة، والجلوس معهم، والتحدث إليهم، وتقديم الهدايا لهم، وتعريفهم بالمراكز وأنشطتها، ولا بأس من دعوتهم لزيارة المركز، وتقديم وجبة عشاء خفيفة لهم، يتخللها بعض الكلمات والتوجيهات، ويكون ذلك كله تحت إشراف أساتذة المراكز. وفي هذا لاشك خدمة عظيمة للمجتمع، وقيام المركز برسالته التربوية، ومد الجسور الأخوية مع هؤلاء الشباب، بدلًا من الانعزال عنهم، وضياع أوقاتهم، وأعمارهم، وسيكون لذلك أثر طيب، وجميل في نفوس هؤلاء الشباب . ومثل هذا لو عمل مهرجانات ثقافية بأماكن تجمعات هؤلاء الشباب، وإقامة المسابقات الخفيفة، والطريفة، وبعض الألعاب، ولو لمدة يوم واحد.
تكوين مجلس للآباء في داخل المركز الصيفي: يلتقي بهم في كل منتصف شهر، وفي ذلك منافع منها: تعريف الآباء بأنشطة المركز، وخدمته لأبنائهم ، والربط بين المجتمع الممثل بالآباء وبين المراكز الصيفية ودورها الحقيقي، ومشاركة الآباء في الاقتراحات والتوجيهات، بل ودعم المركز معنوياً ومادياً، وكسب ثقة الآباء، وتوجيه بعض الإرشادات التربوية الخاصة بأبنائهم.
وسائل وتوجيهات للأطباء:
أيها الطبيب الفاضل إنك على ثغر من ثغور الإسلام: وكم من مريض كنت السبب في شفائه بإذن الله، وكم من بسمة كنت السبب في إشراقها، إنك صاحب قلب كبير، ولمسة حانية مباركة، قدمت وتقدم الكثير، وأنت على خير- إن شاء الله- فإليك هذا الاقتراح: هل فكرت أنه هناك مرضى لا يستطيعون الوصول إليك مع شدة حاجتهم لك، ويتمنون لقياك، ولمسة حانية منك؟ يتكرر أمام عيني ذلك الطبيب من أحد المنظمات التنصيرية، وهو يحمل بين يديه ذلك الطفل الصومالي، وهو ينظف الأوساخ عن جلده، ويمسحها بيده!! كم كنت أتمنى أن تكون أنت ذلك الطبيب، خاصة وأنا أرى أمه ساقطة على الأرض من شدة الجوع، وتنظر إلى ذلك الطبيب بعينيها نظرة شكر وامتنان.. كم كنت أتمنى أن تنال أنت تلك الدعوات من قلب تلك الأم المجروح.. كم كنت أتمنى أن يفرح بك المسلمون، وأنت بينهم تتكلم العربية، ويسمع اسم الله على لسانك.. تحمل هذا، وتمسح على رأس ذاك.. كم كنت أتمنى أن يبصر ذلك الأعمى على يديك، وأول ما يقع بصره على وجهك ذى الملامح الإسلامية! فلماذا تحرم نفسك هذا الأجر العظيم؛ بأن تهب لله من نفسك أياماً للسفر لأمثال هؤلاء؟! وأنا على يقين أن المكاسب كثيرة جداً، كما أني على يقين أن مثل هذا الطرح سيجد طريقه لقلبك إن شاء الله .
وسائل وتوجيهات للتجار:
إن من العدل أن نقول للمحسن أحسنت كما نقول للمسيء أسأت: ومن هذا الأصل لو أن الهيئات، والبلديات، ومكاتب الدعوة تم التنسيق بينهما؛ لجمع أسماء المحلات التجارية الخالية من المحاذير الشرعية: كبيع المجلات الماجنة، والدخان، وغيره، وتم تكريم أصحاب هذه المحلات، وتقديم شهادات التقدير لهم عبر حفل أو مناسبة تقام لهم؛ فإن هذا من أقل حقوقهم علينا .
لأصحاب المحلات، والمعارض حفظهم الله من كل سوء: هذه التوجيهات، وهي لكل وقت، وبخاصة في الإجازة الصيفية؛ لكثرة المتسوقين:(211/2)
تخصيص هدايا وأشرطة لكل مشتري.. وضع بعض التوجيهات والعبارات الإرشادية على الأكياس التي توضع بها الحاجات.. تخصيص لقاءات دورية مفتوحة بين أصحاب المحلات التجارية، ورجال الحسبة.
أخي صاحب المؤسسة، أو صاحب المحل التجاري: هل تعلم أن العاملين لديك هم أمانة في عنقك؟! فحبذا لو حرصت على صلاح عمالتك، ودعوتهم للخير.. هل فكرت أن تحضر لهم شريطاً أو كتيباً مناسباً لهم؟ هل حرصت على حضورهم للدروس المنعقدة في مكاتب الجاليات لأمثالهم؟ إن صلاح العامل لديك يجعله أميناً، حسن الأخلاق؛ فأقترح عليك أخي التاجر: تفريغه لبعض الوقت، وحسن العناية به، وتعليمه فرائض دينه، بل ربما وجد في المؤسسة الواحدة أكثر من عشرين عاملًا، فلماذا لا يحرص على أن يقول لهم درس واحد في الأسبوع؟! اتصل بمكاتب الجاليات؛ ستجد خيراً كثيراً، وأنت المستفيد دنيا وآخرة، فلا تحرم نفسك الخير، فهذه الإجازة فرصة للانطلاق بمثل هذا المشروع .
وسائل وتوجيهات للبلديات:
عمل مساجد مع دورات المياه في المنتزهات والحدائق العامة .
تنظيم برامج، ومسابقات، وألعاب خاصة للصغار.
تنظيم برامج، ومسابقات، وألعاب خاصة بالعزاب، وبالشباب في الحدائق الخاصة بهم: وذلك بالتعاون مع مكاتب الدعوة، فإن في ذلك استغلالًا، وشاغلًا كبيرا لأوقات شبابنا خاصة في مثل هذه الإجازات.
وسائل وتوجيهات لأئمة المساجد:
ماذا أعددتم لجماعة مساجدكم في هذه الإجازة الصيفية؟ ماذا أعددت أيها الإمام: للرجال الذين يلتقون خمس مرات في اليوم والليلة؟ ولنساء الحي اللاتي يقضين وقت فراغ طويل في مثل هذه الأيام؟ ولصغار الحي وأنت تراهم في كل وقت يجلسون في الشوارع، وعلى الأبواب؟ وللعمالة المسلمة التي تصلي معك في كل وقت؟ هؤلاء وغيرهم من أهل الحي أمانة في عنقك. إنك مطالب بالاتصال بمراكز الدعوة، وبهيئات الأمر بالمعروف، وبطلاب العلم، وبالمشايخ؛ للتنسيق والترتيب لكل خير فيه صلاح لأهل الحي.. إنك مطالب بالتوجيه، والإرشاد، ومواساة الأرامل، والفقراء في حيك.. إنك مطالب بأن تجعل مسجدك خلية نحل للبرامج، والأنشطة، يشارك فيها الجميع . إننا نطالب أئمة، ومؤذني مساجد الحي الواحد بعقد اللقاءات الدورية للتشاور والتنسيق، إن عليك مسئوليات عظيمة، ومهام كبيرة فإما أن تقوم بذلك، أو أن تعطي الفرصة لغيرك، واحذر من الحيل النفسية، ومداخل الشيطان؛ فأنت أعرف بنفسك، وستقف أمام الله .
توجيه واقتراح لهيئات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
إقامة دورات صيفية لاستغلال فراغ الناس في هذه الإجازة: وذلك كإقامة دورة في الحسبة، وصفات المحتسب، وكيف يتعامل مع المنكرات؟ والرفق واللين في الإنكار، ودور المسلم مع الهيئات الرسمية.. إلى غير ذلك. وكإقامة دورة لمديري المدارس لدراسة مشاكل الطلاب الأخلاقية، وتفشي بعض المنكرات الخطيرة بينهم، والبحث عن الأسباب، وطرق العلاج، والخروج بتوصيات، ونتائج للدورة يُسْعَى بتنفيذها والإفادة منها. وكإقامة لقاء للآباء، والتحدث معهم عن الأخطاء التي تواجه أولادهم، وطرح الأفكار، والآراء، والخروج أيضاً بنتائج ومكاسب من هذه اللقاءات.. وغيرها من الدورات، واللقاءات المثمرة، وفي هذا إبراز لدور الهيئات الكبير، وواجبها تجاه المجتمع.
وسائل وتوجيهات للمرأة:
الحرص على المشاركة في الدورات العلمية المقامة بمدينتك ومتابعة هذه الدروس: وتقييدها والاستفادة منها، وإن لم تستطيعي المشاركة كُلِّيَةً فإنك على الأقل تختارين من الدروس ما يناسبك، وتحرصين على متابعته، والاستفادة منه.
احرصي على مشاركة بعض أخواتك، وتشجيعهن: وحثهن بالاتصال المتكرر عليهن، وكم نرى وقت المرأة الذي تقضيه في المكالمات الهاتفية، فلماذا لا تستغل هذه المكالمات في الدلالة على الخير في كل مكان، والتذكير بدرس أو محاضرة، والحرص والحث على المشاركة في الدورات العلمية المقامة في مثل هذه الإجازة، فكوني مشجعة، حاثة أخواتك على المشاركة إن لم تتمكني أنت من المشاركة لظروف خاصة، فإنك تنالين الأجر، وإن لم تحضري، والدال على الخير كفاعله .
استغلال المناسبات: تكثر مناسبات الزواج والأفراح، والاجتماعات في الإجازة الصيفية، وتجتمع أعداد كبيرة من النساء ،ولو حُسِبَت هذه الساعات التي تقضيها المرأة في مثل هذه المناسبات؛ لربما وصلت إلى نصف الإجازة بدون مبالغة، فلماذا لا تستغل هذه المناسبات، وهذه الاجتماعات من قِبَل بعض الصالحات لإلقاء بعض الكلمات، والتوجيهات؟ وإن لم تكوني أنت المتحدثة، فلماذا لا تكوني أنت مفتاح خير للناس، فتكوني أنت الداعية لإحدى الأخوات القادرات، وإن لم تجدي فاتصلي بمكتب الدعوة بمدينتك لعله أن يوفر لك مثل هذه المتحدثة . لماذا تتصور بعض النساء أن مثل هذه الأنشطة الدعوية خاصة بالرجال، أو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص بالرجال؟!(211/3)
كذلك: ربما رأت المرأة في مثل هذه المناسبات عشرات المنكرات: من غناء ماجن، أو لباس فاضح، أو تصوير، أو غير ذلك من المنكرات، فلا تحرك ساكناً ولا تتفوه بكلمة.. إن كلمة سر بينك وبين إحدى المخالفات؛ لترفعك عند الله مقاماً عظيماً، فلماذا تحرم المرأة نفسها هذا الخير العظيم ثم إن السكوت والمجاملة مفتاح لنشر الشر ،وانتشاره، اقرئي حتى تعلمي أن الأمر واجب عليك كما هو واجب على الرجال على حد سواء، قال الحق عز وجل:} وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[71]{ [سورة التوبة] إني أسألك أنت بالذات أيتها المسلمة: كيف نريد للخير أن ينتشر بين النساء، ونحن لم نعمل الأسباب؟! بل كيف نريد للخير أن ينتشر بين النساء، ونحن نرى ونسمع أن هناك من الفتيات من تحرص على إيصال الأفلام، والروايات، والمجلات الهابطة إلى زميلاتها في كل مناسبة، وفي المقابل: الصالحة تستحي أو لم يخطر على بالها أن تحضر معها في مثل هذه المناسبات مجموعة أشرطة أو كتيبات؛ لتوزيعها، فهذه المناسبات فرصة عظيمة لاستغلال الأوقات .
تخصيص دورات خاصة للمرأة: نتمنى أن تحرص مكاتب الدعوة، والدورات الصيفية لتحفيظ القرآن، ومساجد الأحياء أيضًا على تخصيص دورات خاصة للنساء في الموضوعات التي تهم المرأة، وذلك مثل: أحكام الحيض والنفاس، والطلاق، ومعاملة الزوج، وتربية الأبناء، وواجب المرأة نحو قضايا المسلمين يتخلل هذه الدورات إقامة مسابقات خاصة بهن، وتلخيص بعض الكتب والبحوث الهامة ، وغير هذا مما يخص المرأة؛ فإن في ذلك استغلالًا لوقت المرأة في مثل هذه الإجازة.
وسائل وتوجيهات للصغار:
حث الصغار على حفظ بعض أجزاء القرآن في الإجازة: فليعلن الأب والأم بيانًا مشتركاً لأولادهم أن كل جزء يحفظ من القرآن في هذه الإجازة، فله جائزة مقدارها ألف ريال، أو يزيد، ولكل من حفظ حديثاً من السنة النبوية عشرة ريالات، وإن مقدار الجائزة، وحجمها؛ له أثر كبير على نفوس الصغار، فلنجرب هذا من بداية أيام الإجازة الصيفية وسنجد في ختامها نتائج عظيمة.
الوسائل والتوجيهات العامة:
صلة وبر ودعوة وإصلاح: لماذا لا يفكر الشاب، أو الفتاة في جمع شباب، أو فتيات أسرته، أو أسرتها، وأقربائه في مخيم صيفي في أي مكان، أو في استراحة، أو في رحلة قصيرة بعض الليالي، أو حتى في ليلة واحدة، وإن كان ذلك في المنزل، وينظم برنامجاً ومسابقات، وألعاباً، يتخللها بعض التوجيهات، والكلمات، وتوزيع الأشرطة والرسائل، وفي ذلك منافع شتى، وقد جُرِّبَ هذا فأعطى ثماراً يانعة.
على كل شاب أن يحرص على الخير الذي يحسنه ويتقنه: ويتخصص في المجال الذي يبدع فيه مستغلًا أيام إجازته، فإن كان يحسن توزيع الكتاب والشريط؛ اهتم لهما وعمل ما استطاع لأجل إيصالهما للناس: من جمع مبالغ لهما، وحسن اختيار، وحسن توزيع، وحسن إبداع، وتنظيم، فيقسم عمله إلى فترات، وكل فترة في وجهة ما، ولا يغفل عن الجميع، فللشباب، وللمرأة، وللعامة، وللتجار، وللطبيب، ولغيرهم، فيعطي كل ذي حق حقه، وإن كان يحسن فن الكلمة الطيبة؛ اهتم لها؛ وعمل ما استطاع لإيصالها للناس: من حسن إعداد، وإبداع في الأسلوب، وكسب لقلوب الناس خمس كلمات أو عشر يلقيها مرة في الشرق، ومرة في الغرب، يحرص فيها على ما يحتاجه الناس، وينفعهم لا يمل ولا يكل، فإنها صدقة منه على نفسه كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ...] رواه البخاري ومسلم وأحمد . وإن كان يحسن فن الدراسات، والتنظيم، وجمع المعلومات، اهتم لذلك، وما أكثر المواضيع التي تحتاج إلى دراسات ميدانية، ومتابعات، وجمع الاقتراحات من المعنيين والمتخصصين فيها، ومنها على سبيل المثال:
المرأة ودورها في الدعوة إلى الله عز وجل، الواقع والمطلوب .
المراكز الصيفية، واستغلال الطاقات، ورفع المهارات ودورها في ذلك .
محاضن لتربية الشباب بين الأمل المنشود، والواقع المفقود .(211/4)
وإن كان يحسن القيام على اليتامى، والأرامل، والمساكين، ورعاية شئونهم وجمع المساعدات لهم؛ يحرص على ذلك، ويتوجه إليه خلال هذه الأيام. وإن كان يحسن فن البيع، والشراء، وحسن التعامل مع الناس؛ فميدان التجارة مفتوح، وبابه واسع، وكم نحن بحاجة للشباب المسلم، وللتاجر المسلم الأمين الداعية إلى الله من خلال تجارته وبيعه وشرائه . وإن كان يحسن فن التعامل مع شباب الأرصفة، والجلوس معهم، والتحدث إليهم، وإهدائهم بعض الهدايا، والتودد لهم، وكسر الحاجز بينهم وبين الاستقامة وحب الصالحين، فليحرص على هذا، فإني أؤكد على هذه الوسيلة في الإجازة الصيفية . وإن كان يحسن جمع الأشرطة القديمة، والكتيبات، والمجلات القديمة، وتنظيمها، وتوزيعها على المستوصفات، ومحلات الحلاقة، وأماكن الانتظار في بعض الأماكن العامة، وهذا في الداخل.. وأما في الخارج، فيحرص على عناوين بعض المراكز، والمؤسسات الإسلامية، وإرسال بعض المجلات، والكتيبات، وغيرها إليهم فهم بأمس الحاجة لها. الدعوة بالمراسلة: وقد وقام بذلك بعض الإخوة، والأخوات؛ فنجح نجاحاً باهراً، وقد قرأت بنفسي كثيراً من هذه الرسائل، التي يعلن أصحابها أنهم تابوا إلى الله، وتعلن بعض الأخوات من خارج هذه البلاد أنهن التزمن بالحجاب لمجرد رسالة، أو كتاب، أو شريط أرسله أو أرسلته بعض الأخوة والأخوات . وأؤكد على المرأة، بل وأؤكد عليك أنت أيها الأخ أن تحاول- إن لم تعمل أنت- أن تعمل أختك، أو زوجتك، أو بنتك في مثل هذا المشروع ، وفّر لها الأشرطة، والكتيبات، والرسائل الصغيرة، والعناوين من خلال صفحات هواية المراسلة في المجلات، وتابعها في مثل هذا المشروع؛ لعلها أن ترسل مائة رسالة على الأقل؛ تنفع ويفتح الله عز وجل على قلوب أصحابها، فتصبح داعية في الخارج، وأنت في الداخل، فهل من مستجيب لهذا النداء ؟!
وسيلة جميلة مبتكرة: أحد الإخوة ذكر لي موقفاً جميلاً، قال فيه: إن أحد إخوانه كان راكبًا مع صاحب له سيارة وكان واقفًا عند إحدى الإشارات بمدينة الرياض، وكان أمامهم سيارة صغيرة قديمة، كتب على زجاجها الخلفي جملة بعدد من اللغات، فضحك صاحبه، فسألته عن سبب ضحكه، فقال: أتدري ما ترجمة هذه الجملة المكتوبة على هذه السيارة؟ قال؟ لا، قال: إنها تقول:' إذا أردت أن تعرف شيئا عن الإسلام ما عليك إلا أن توقفني' يقول: فاندهشت متعجباً، فقلت: لابد من إيقافه، فأوقفناه، فسألناه، فتبسم، وقال: ربما ظننتم أني أتحدث عدداً من اللغات، ويعلم الله أنني لا أتقن حتى العربية، فأنا رجل عامي غير أني فكرت كيف أنفع هذه الدعوة مع معرفتي بنفسي وقدراتها حتى اهتديت لهذه الفكرة. ويقول: ففتح لنا مؤخرة السيارة، فإذا هو قد قسمها إلى مربعات، وفي كل مربع مجموعة من الأشرطة، والكتيبات، وقد كتب على كل مربع لغة تلك الأشرطة والرسائل، فيقول: أذهب لمكتب دعوة الجاليات وأحمل هذه الأشرطة والرسائل، ثم أذهب في طريقي، فمن أوقفني سألته عن لغته وأعطيته شريطاً وكتاباً، وهو يذكر أنه يحرج كثيراً من كثرة إيقافه بعض الأحيان. هذا موقف ! ولك أن تتصور أجر هذا الرجل ومنزلته عند الله، لم يحتقر نفسه، لم يقل: ماذا أقدم، فكر؛ فوجد.. ومن يحمل هم الإسلام كما يحمله هذا الرجل ؟!
استغلال وسائل النقل: في الإجازة الصيفية تتحرك جميع وسائل النقل من بلد، ومن مكان إلى مكان، بل ومن دولة إلى دولة، ولك أن تتصور: ماذا يعرض، وماذا يسمع من قبل الراكبين في مثل هذه الحافلات؟ فلو قدم لسائق سيارات النقل الجماعي، والأجرة، وغيرها عدد من الأشرطة سواء المسموعة أو المرئية، والكتيبات، والمجلات النافعة؛ لكانت من أفضل وسائل الدعوة، لوقت هو ضائع لاشك على مثل هؤلاء المسافرين. ولو أنا أعطينا كل سيارة نقل شريطاً لاستمع له نفر كثير، والنية الطيبة تخرج ثمراً طيباً.
تنظيم دورات متنوعة: دورة في تخريج الأحاديث، ودورة في تغسيل الموتى وكيفية دفنهم، ودورة في الحاسب الآلي، ودورة في الإلقاء والخطابة، ودورة في اللغة الإنجليزية، ودورة في السباحة والرماية وركوب الخيل، ودورة في الجودو والكاراتيه والدفاع عن النفس..كل هذه الفنون، وغيرها من الوسائل مثمرة نافعة لقضاء الإجازة الصيفية .
إذا كنت من هواة السفر للخارج: ممن يملك رصيداً من الإيمان والتقوى، ويملك شيئاً من العلم الشرعي؛ فاتصل بإحدى المؤسسات الخيرية للتنسيق معها، لعل الله أن ينفع بك هناك، ولتعلم أن المسلمين بكل مكان يحتاجون إليك وإلى أمثالك، ولتر بعينيك الصراع بين الكفر والإسلام، ولتشعر فعلاً بحقيقة التحدي بين الحق والباطل.(211/5)
القراءة من أفضل الوسائل لقضاء الإجازة الصيفية: القراءة المركزة، التي يتبعها تقييد للفوائد والشوارد، فاجعل لنفسك من الآن وقتاً مخصصاً للقراءة، واجعلي لنفسك أيتها الأخت وقتاً مخصصاً للقراءة، كما أنه لابد لحفظ المتون، والقصائد، ومحاولة الكتابة، والتأليف، وقرض الشعر، وكتابة المقال، وغيرها من الهوايات، وتنمية المهارات الفردية؛ من تخصيص وقت مناسب في هذه الإجازة.
الذ هاب إلى المكتبات العامة: فيتفق الشاب مع بعض أصحابه، ليقرءوا، ويلخصوا، ويقيدوا بعض الفوائد، كل بحسب ميوله، وفي هذا الاتفاق تشجيع لبعضهم للمواصلة، وعدم الانقطاع، وفيه: إحياء للمكتبات، والجلوس للقراءة والإطلاع .
رحلة مفيدة: رحلة لأداء العمرة.. رحلة لزيارة المدينة النبوية..رحلة لزيارة الأهل والأقارب في إحدى المدن.. إلى آخره. وهذه الرحلات مما تُقْضَى به الإجازة الصيفية، وفيها خير كثير إن شاء الله. ولكنها تصبح مملة إن لم يخطط لها وينظم، ففي الطريق مثلاً: ألعاب خفيفة، ومسابقات ثقافية، واستماع لشريط، ورواية لقصة. وعند الوصول: تنظيم برنامج لزيارة الأماكن المناسبة، والأشخاص والتسوق.
كل ذلك بالضوابط الشرعية، والمحافظة على الأخلاق الإسلامية، وجميل جداً حمل همّ الدعوة إلى الله في هذا السفر، وذلك بإعداد مجموعة من الأشرطة والرسائل، وتوزيعها في الطريق، والمحطات فإن الله يبارك لكم في رحلتكم ويتكفل بحفظكم ورعايتكم كما قال صلى الله عليه وسلم: [احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ] رواه أحمد والترمذي .
وأخيرا:
إن الإجازة الصيفية فرصة لا تعوض، وهي أيام من العمر، فاحرص على اغتنام الفرص واللحظات فيها، وحاول جاهداً أن تخرج من إجازة هذه السنة بمكاسب كثيرة ونتائج طيبة، وشتان بين شاب أو فتاة ذي مواهب متعددة: يعرف ويتقن الكثير، فهو ذو علم وثقافة واسعة، يعرف الحاسب الآلي، ويتكلم الإنجليزية، وهو يحفظ الكثير من القرآن والأحاديث، وهو مفتاح خير في كل شيء، وبين شاب، أو فتاة لا يتقن صنع شيء، ولا يعلم شيئًا إلا التسكع في الشوارع، والجلوس على مشاهدة وسائل الإعلام وغيرها .
فإن لم تكن مفتاحاً لأبواب الخير التي ذكرنا بعضاً منها، فما أقل من دعوات تخرج من قلبك لإخوانك بالتوفيق، والتيسير؛ فإن الدعاء سلاح المؤمن، فانصر إخوانك، وكن معينًا لهم، ولو بدعوات صادقة، أو بكلمات طيبة، فإن هذا تشجيع منك لإخوانك الناشطين العاملين، فإن لم تستطع الدعاء، أو الكلمة الطيبة؛ فكف عنهم لسانك، فإنها صدقة منك على نفسك، نسأل الله عز وجل أن يبارك في أعمالنا، وأوقاتنا، وأن يوقفنا للعمل الصالح فيها، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ] رواه الترمذي والدارمي. فهل أعددت للسؤال جواباً؟ وهل أعددت للجواب صواباً؟
من محاضرة:أربعون وسيلة لاستغلال الإجازة للشيخ/ إبراهيم الدويش(211/6)
أربعون وسيلة لاستغلال شهر رمضان
تناول الدرس أربعين وسيلة للاستغلال الأمثل لرمضان ومنها وسائل عامة لمضاعفة أجر الصوم واستغلال الوقت ، ووسائل وتوجيهات في الاهتمام بالقرآن، ثم وسائل للجادين خاصة، ثم وسائل خاصة بالمرأة، وأخيرا وللصغار نصيب من هذا الفضل ولهم وسائل أيضا.
وسائل عامة :
الوسيلة الأولى : هل تحب أن تصوم رمضان مرتين؟ كيف؟
الإجابة: تكون فى حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا] رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد
وهناك صور متعددة يمكنك منها الحصول على هذا الأجر العظيم من تفطير الصائمين، ومن هذه الصور:
تفطير الصائمين فى الخارج: هل تصدق أن عشرة ريالات تفطر صائماً فى اليوم الواحد ! فإذا أردت أن تحصل على أجر صيام رمضان مرتين؛ فعليك أن تدفع ثلاثمائة ريال، وتنال أجر تفطير صائم شهراً كاملاً إن شاء الله تعالى .
تفطير الجاليات المسلمة الموجودة فى البلد من خلال مساجد الأحياء: ولو رافق هذا: التخطيط والتوجيه والإرشاد، وعقد الدروس قبل الإفطار على الأقل بساعة؛ لكان هذا شيئاً جيداً، وأيضاً:توفير المدرسين باللغات المختلفة أو الترجمة، ويصاحب هذا توزيع الأشرطة والرسائل والكتيبات التى تناسب لغة أولئك القوم، ولا شك أن هذا متوفر فى هذا الزمن ولله الحمد بجميع اللغات .
تفطير الأقارب والجيران: وفى هذا: صيام فى رمضان مرتين، وفيه صلة رحم وبر وحسن جوار.
الوسيلة الثانية:حث المحسنين وأهل الخير على الإنفاق فى هذا الشهر الذى تضاعف فيه الحسنات:
فالقلوب مهيئة لجميع أعمال الخير ، وفى رمضان تكثر المناسبات خاصة في الإفطار لكثير من الأسر. وهذه المناسبات تجمع أعداداً كبيرة من الرجال والنساء، فلم لا يستغل هذا الجمع بالتذكير بفضل الصدقة، وأحوال إخواننا المحتاجين في كل مكان، فتجمع الصدقات من خلال صناديق صغيرة توضع عند الرجال وعند النساء، ولا شك أن هذا باب عظيم من أبواب الخير .
ووقفة صادقة لنكون كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الله بذلك المثل: [ مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى] رواه البخاري ومسلم وأحمد.
الوسيلة الثالثة:التوجه إلى القرى والهجر:
نريد من الشباب في نهاية كل أسبوع من أسابيع رمضان أن يتوجهوا للقرى لتوزيع الإعانات، وإطعام الطعام للمساكين، وتوعية أهلها عبر الكلمات، وخطب الجمع، وتوزيع الأشرطة والرسائل، نتمنى أن نجد من أصحاب الهمم، ومن تعلق قلبه بالجنان ألا يترك أسبوعاً في هذا الشهر إلا وتنطلق فئات من الشباب محملون بكل خير. فلا نريد الخمول والكسل، والجلوس بين الأولاد والأزواج، ونترك المسلمين من أهل القرى والبوادي في جهل عظيم .
الوسيلة الرابعة: زيارة تجمعات الشباب:
الزيارة من قبل الدعاة، وطلبة العلم والصالحين، ومحبي الخير من شباب الصحوة للأرصفة وتجمعات الشباب والجلوس معهم، وتقديم الهدايا والأشرطة والكتيبات لهم . فإن هؤلاء الشباب يشكون هجركم، بل ويتهمونكم بالتقصير، وأنكم سبب كبير في غفلتهم وبعدهم عن الله، ويعتذرون بالخجل والحياء منكم، وإلا لجاءوا بأنفسهم إليكم كما قال بعضهم .
الوسيلة الخامسة:هدنة مع وسائل الإعلام:
إذ كنت ممن ابتلي ببعض وسائل الإعلام فى بيتك، فلماذا لا تفكر يا أخي الحبيب ويا ولى الأمر بعقد هدنة مع أهلك وأولادك خلال هذا الشهر المبارك بهجرها والابتعاد عنها وعزلها؟ وذلك بالترغيب والكلمة الطيبة، وبالتذكير بعظمة هذه الأيام. فرمضان من أعظم المناسبات لتربية النفوس، خاصة وأن النفوس مهيئة، والشياطين مصفدة .
فحاول، واستعن بالله، وكن صادقاً من قلبك؛ فستجد إن شاء الله العون والإجابة من الأهل والأولاد .
وأيضاً أتمنى: أن تتوقف خلال هذا الشهر المبارك عن قراءة المجلات والجرائد- حتى ولو كانت مباحة- فإن السلف الصالح، ومن سار على نهجهم يهجرون مجالس التحديث، وطلب العلم؛ ليتفرغوا في رمضان لقراءة القرآن والنظر فيه، والعبادة وقيام الليل .
الوسيلة السادسة:الدعاء قبل الإفطار:
فأوقات الإفطار، وقبل الآذان بدقائق لحظات ثمينة، ودقائق غالية، هي من أفضل الأوقات للدعاء وسؤال الله، وهي من أوقات الاستجابة كما جاء فى الحديث: [ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ : دَعْوَةُ الْصَائِمِ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ] رواه العقيلي في الضعفاء والبيهقي في شعب الإيمان. ومع ذلك يغفل كثير من الناس عن هذه اللحظات، فلماذا لا نتذاكر بفضل واستغلال هذه اللحظات، والحرص عليها برفع الأيدي والأكف إلى الله .(212/1)
راقب هذه اللحظات وستجد الغفلة العجيبة عند كثير من الناس . وكلنا بحاجة إلى الدعاء، وسؤال الله سبحانه وتعالى، والموفق من وفقه الله .
الوسيلة السابعة:بر الوالدين:
والقرب منهما، وقضاء حوائجهما وطاعتهما، ومحاولة الإفطار معهما. فبعض الشباب تجده كثير الإفطار في بيته، أو عند أصحابه، ولا يجلس مع والديه، ولا يفطر معهما إلا قليلاً، ولا شك أن برهما من أعظم القربات إلى الله، كيف لا وقد قرن حقهما بتوحيده، وعبادته وحده جل وعلا .
ومن صور التقصير أيضاً فى حق الوالدين خلال هذا الشهر المبارك: أن بعض الفتيات تكثر من النوم في النهار، والسهر في الليل، أو حتى في الخروج، أو حتى في قراءة القرآن، والأم وحدها في المطبخ لإعداد وجبات الإفطار والسحور، وربما لو أمرت الأم أو نهت تلك الفتاة بأمرٍ ما؛ لصاحت وانهالت على أمها بالكلام !! إنها غافلة عن هذه العبادة العظيمة التي يجب أن نحرص عليها لاستغلال هذا الشهر المبارك، ولا شك أن الأجر مضاعف في هذا الشهر.
الوسيلة الثامنة:الجلوس فى المسجد بعد صلاة الفجر:
ونحن نرى المساجد بعد صلاة الفجر بدأت تهجر بعد أن كانت في رمضانات مضت تمتليء بالتالين والذاكرين مما يشجع الكثير من الناس على المكوث بعد صلاة الفجر في المسجد. ولو أن الإنسان نام شيئاً من الوقت في ليل رمضان؛ لكسب الكثير من الأوقات، ولإحياء هذه السنة المباركة في الجلوس بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس، ثم يصلى ركعتين؛ فيحصل على أجر حجة وعمرة تامة كما في الحديث: [ مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ] رواه الترمذي .
الوسيلة التاسعة:تدريب النفس على هجر المعاصى:
إذا كنت ممن ابتلي بمعصية، أو فتنة، أو اعتادت عليها النفس وألفتها وأصبح الفراق عليها صعباً وثقيلاً؛ فإن رمضان فرصة عظيمة للصبر والمثابرة ومجاهدة النفس عن تلك الفتنة، فالشياطين مصفدة، والنفس منكسرة، والروح متأثرة، والناس من حولك صيام قيام. إذاً فالأجواء والظروف كلها مهيئة للابتعاد عن الفتنة وهذه المعصية فمثلاً : رمضان فرصة عظيمة للمدخنين لهجر وترك التدخين، وكذلك ترك مشاهدة الحرام، أو الغيبة، والنميمة، أو استماع الغناء، أو بذاءة اللسان، أو غيرها من السيئات.
فاستعن بالله، وكن صاحب عزيمة وهمة عالية، فلا تغلبك تلك الشهوة، أيجوز أن تكون مسلماً موحداً مصلياً وتغلبك سيجارة، والله إن هذه هي دناءة الهمة، والخور والضعف.
الوسيلة العاشرة:السواك فى رمضان:
وهو سنة مؤكدة في كل وقت؛ لعموم الأدلة، لكنها كغيرها من العبادات في مضاعفة الأجر وطلب الثواب لمناسبة الزمان وهذا من أهم أبواب الخير التي يُغفل عنها في رمضان . ومنافع السواك كثيرة، وفيه من الأجر والثواب العظيم والكثير. ولكن يغفل عنه الكثير، خاصة النساء فإنك لا تكاد ترى أو تسمع عن هذه السنة بين النساء.
ولو قام أهل الخير والمحسنين بتوفير أعداد كبيرة من السواك في هذا الشهر المبارك، وتوزيعها بين المسلمين في المساجد خلال هذا الشهر؛ لكان ذلك إحياء لهذه السنة التي غفل عنها كثير من الناس .
الوسيلة الحادية عشر:العمرة فى رمضان:
وهى تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثوابها، ولم يقيدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعشر الأواخر .
الوسيلة الثانية عشر:نشر العلم فى القرى والهجر:
وهذه تختلف عن الوسيلة الأولى؛ لأن الوسيلة الأولى في نهاية الأسبوع، ولتوزيع الطعام . ولكن هذه الفكرة هي أن يتوجه عدد كبير من الشباب إلى القرى والهجر خلال هذا الشهر؛ ليؤموا الناس هناك، ولإلقاء الدروس، وتوجيه الناس، وإرشادهم؛ فإن الجهل هناك عظيم، وكم من المسلمين في هذه الأماكن لا يجدون حتى من يصلى بهم، وإن وجدوا، فخذ: اللحن والأخطاء الجلية في كتاب الله . وإن وجدوا أيضاً من يصلى بهم لا يجدون الموجه، الذي يبين لهم كثيراً من الأحكام الفقهية التي يحتاجون إليها.
ولو نظرنا لسيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل مكثوا فى المدينة؟ لا ولكن تفرقوا في البلاد لنشر هذا الدين، ولم يبق منهم في المدينة إلا العدد القليل . وقد يتثاقل بعض الشباب عن مثل هذا الأمر! فأقول: لا بأس من التعاون في التناوب بين بعض الشباب في هذه الأماكن، حتى ولو تناوب في القرية الواحدة ثلاثة، أو أقل، أو أكثر .
الوسيلة الثالثة عشر:عصر يوم الخميس:
وهو اقتراح موجه لمكاتب الدعوة أيضاً، راجياً أن ينتفع من هذه الوسائل الناس عموماً في هذه البلاد، أو في غيرها. وهذه الفكرة هي استغلال عصر الخميس في كل أسبوع من رمضان في إقامة المحاضرات العامة، أو الندوات، أو المسابقات الثقافية الكبيرة.
أفكار وتوجيهات لأئمة المساجد:
الوسيلة الرابعة عشر:تنويع الحديث بعد صلاة العصر:(212/2)
والتجديد فيه، فتارة: في أحكام الصيام، وتارة: في الرقائق، وتارة: في أخطاء يقع فيها الناس، وتارة: بفتح الحوارات مع المصلين. وليس من اللازم أن يكون الحديث دائماً من الإمام بل ينبغي التنويع باستضافة بعض طلبة العلم، أو الدعاة في بعض الأيام.
يا أيها الإمام: لماذا لا تضع خطة لشهر رمضان، في المواضيع والمشاريع التي ستنفذها خلال الشهر، بدلاً من اللامبالاة والتخبط في المواضيع التي يقرأها بعض الأئمة على جماعتهم، أو القراءة من أي كتاب لديه بدون إعداد ولا تعليق. بل تعال واسمع كثرة الأخطاء واللحن في كثير من النصوص. ولا تجزع إذا لم تُعط طاعة أيها الإمام مادمت لا تبالي، ولا تهتم بهؤلاء الناس، الذين أمامك. لكن اهتم وستجد التكريم والتقدير من جماعة المسجد، والاحترام الذي فرضه عليهم إخلاصك لله، ونشر هذا الدين، فضلاً عن التحلي بالأخلاق، وما يرونه من نشاط تقوم به .
الوسيلة الخامسة عشر: قراءة كتاب الصيام من أمهات الكتب:
لماذا لا يقرأ الإمام على جماعته كتاب الصيام من أحد كتب الفقه المعتمدة كالزاد،أو المغني، أو العدة، أو غيرها من كتب الفقه المعتمدة، ولا بأس من إضافة بعض التوجيهات، أو الشروح عليه من خلال بعض الشروح الموجودة. وليس شرطاً أن يكون بعد صلاة العصر، فاجعل: ما بعد صلاة العصر للمواضيع العامة .
وما بعد صلاة الفجر للدرس الخاص، فمن أراد أن يجلس يجلس، ومن أراد أن يذهب يذهب، ولو لم يبق بعد صلاة الفجر إلا واحد أو اثنين فقط لكفى؛ تفقيه للنفس، وجلوس في المسجد إلى شروق الشمس، وعلم ينتفع به.
الوسيلة السادسة عشر:صندوق للفتاوى:
وضع صندوق للفتاوى عند الرجال والنساء خاصة في هذا الشهر، ثم جمعها، وإعداد الإجابات عليها كل فترة، فإن لدى الناس كثيراً من الأسئلة – خاصة في رمضان – يحتاجون إليها في أمور دينهم، لكنهم لا يجدون من يسألون، فيتهاونون ويتكاسلون في ذلك .ومثل هذه الصناديق لا شك أنها ستكون عوناً وميسراً لهم لمعرفة كثير من المسائل والاستفسارات، وجرب هذا وستجد أثر ذلك على نفسك وعلى جماعة مسجدك .
الوسيلة السابعة عشر: لوحة الإعلانات:
الاهتمام بلوحة الإعلانات والتوجيهات في المسجد، والتجديد فيها، والإثارة في عرض المواضيع والدعاية والإعلان الملون وغيره؛ فإنها من وسائل التوجيه والإرشاد والدعوة .
الوسيلة الثامنة عشر:هدية رمضان:
توزيع الأشرطة والكتيبات ولو ليوم واحد في الأسبوع، واستغلال المناسبات التي يكثر فيها المصلون . وإن لم يكن هذا دائما في كل أسبوع، فلا أقل من أن تقدم هدية تسمى:'هدية رمضان لأهل الحي' مكونة من شريط ورسالة، أو كتيب وبعض الأحكام، أو النشرات للعلماء الموثوق بهم، ترسل إلى بيوت الأحياء معنوناً لها بهدية رمضان .
الوسيلة التاسعة عشر: إقامة مسابقة الأسرة المسلمة:
ويعلن عنها في بداية شهر رمضان، وتوزع على أهل الحي، ويشارك فيها الجميع كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً، ثم تعلن النتائج في آخر ليلة من رمضان، ولا بأس أن يشارك الأئمة والمأمومون في الحي أو في المسجد كلٌ بما يستطيع . هذا يساعد في إعداد الأسئلة، وهذا بتوزيعها، وبعض التجار من المحسنين يرصد مبالغ للجوائز في ليلة العيد .. وهكذا يتكاتف المسلمون بإحياء رمضان بالدعوة ونشر الفقه في الدين، وإشغال الأوقات بما يعود بالنفع على الجميع، فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة؛ شغلتك بالمعصية .
الوسيلة العشرون:كلمة يسيرة من الدعاة:
استضافت بعض الدعاة وطلبة العلم في بعض الأحياء؛ لتوجيه كلمات يسيرة لبضع دقائق بعد صلاة التروايح، أو بعد صلاة العصر، أو غيرها من الأوقات .
الوسيلة الحادية والعشرون: إحياء سنة الاعتكاف:
دعوة أهل الحي للاعتكاف، ولو ليوم واحد لإحياء هذه السنة، ونشر الألفة والترابط بين جماعة المسجد الواحد. فيحدد يوم في بداية العشر، ويقال في المسجد: من أراد أن يشارك في الاعتكاف فإننا ننوي الاعتكاف في مسجدنا ليلة كذا، فإن هذا فيه خير عظيم، وهو من باب التعاون على البر والتقوى .
الوسيلة الثانية والعشرون:إفطار جماعي:
دعوة أهل الحي، أو الجماعة للإفطار في المسجد، ولو ليوم واحد خلال الشهر، فإن هذا يزيد الألفة والترابط والمحبة بين جماعة المسجد .
الوسيلة الثالثة والعشرون:التودد للذين لا يشهدون الصلاة إلا في رمضان:
اغتنام فرصة حضور المتخلفين عن صلاة الجماعة في غير رمضان؛ فيجب اغتنام فرصة وجود هؤلاء، والذين لا تراهم إلا في رمضان وذلك بتنبيههم إلى خطورة هذا العمل، وفداحة أمر التهاون بالصلاة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: [ الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ ]رواه الترمذي وابن ماجه والنسائي وأحمد . وذلك بعد كسب قلوبهم بحسن التخلق معهم، والسلام عليهم، وأيضاً بالتودد لهم بزيارتهم، وإهدائهم بعض الهدايا؛ وذلك لإبعاد الوحشة والنفرة التي يوقعها الشيطان في قلوبهم .(212/3)
الوسيلة الرابعة والعشرون:حفل لتوزيع جوائز المسابقة:
إقامة حفل مصغر بمناسبة العيد لأهل الحي، ليكن مثلاً: في ليلة العيد، أو في أي ليلة يراها جماعة المسجد . وفي هذا الحفل توزع جوائز المسابقة التي تكلمنا عنها، ويوزع فيها أيضاً شيء من الهدايا على الصغار والكبار، ولا شك أن إقامة مثل هذا الأمر فيه إحياء لأهل الحي، وترابط عجيب، وألفة ومحبة بين جماعة المسجد الواحد
وسائل وأفكار وتوجيهات في الاهتمام بالقرآن:
الوسيلة الخامسة والعشرون :حلقات للكبار لتحسين التلاوة:
نسمع كثيراً ممن يقرءون القرآن في المساجد من العامة بل ومن الموظفين وغيرهم وهم كحاطب ليل في القراءة، وقد يسمعهم من بجوارهم يخطئون ويلحنون ومع ذلك يخجل من تقويمهم والرد عليهم؛ فيظل كثير من الناس على حالهم مع كتاب الله بلحنهم وأخطائهم .
فلماذا لا تقوم جماعات المساجد وأئمة المساجد بإقامة حلقات للكبار لا نقول للحفظ، وإنما لتحسين التلاوة. ويكون ذلك أيضاً بعد صلاة الفجر أو الظهر أو العصر، أو الأوقات المناسبة التي يتفقون عليها ويُعلن عن ذلك من قبل جماعة المسجد، مع حث الجميع على المشاركة خلال شهر رمضان، وتذكيرهم بفضل تلاوة القرآن، وفضل الماهر بالقرآن.. ولا شك أننا سنجد خيراً كثيراً؛ لو وجدنا مثل هذه الأمور منتشرة في مساجد أحيائنا .
الوسيلة السادسة والعشرون: عقد حلقة في البيت لتلاوة القرآن:
لم لا يتوجه الأب بعد صلاة العصر مباشرة إلى بيته، فيعقد حلقة لتلاوة القرآن مع أولاده وبناته، ويرصد لهم ولمن يرى فيهم الحرص على الاستمرار جوائز وهدايا تشجيعية . وبهذا العمل تحصل مكاسب عظيمة ومن هذه المكاسب :
أولاً: حفظ الأولاد من البرامج المسمومة الموجهة لهم وقتل أعظم أيامهم وأفضلها .
ثانياً: مشاركة البنات اللاتي يذهبن ضحية الغفلة عن تربيتهن والمحافظة على أوقاتهن . ثالثاً: إحياء البيت بذكر الله، وملئه بالجو الإيماني بدل إماتته وملئه بالأغاني وبرامج التلفاز ومسلسلاته خاصة في شهر رمضان . رابعاً: تقوية الارتباط الأسرى الوثيق بين الأب وأولاده وبناته . خامساً: محاولة ختم القرآن لأهل البيت جميعاً واستغلال رمضان من جميع أهل البيت .
الوسيلة السابعة والعشرون: تدبُر القرآن:
يمر علينا رمضان وربما ختمنا القرآن كثيراً، وربما كان هَمُّ أحدنا متى يصل إلى نهاية السورة؟ ومتى يصل نهاية القرآن؟ ولا شك أن في ذلك أجراً عظيماً، فقد كان السلف يكثرون من ختم القرآن في رمضان, ولكن لماذا لا نضع خطة خلال هذا الشهر أن نقرأ القرآن بتدبر، ونقف مع آياته بالرجوع إلى كتب التفسير وتقييد الفوائد منها .
كان ابن تيميه رحمه الله يقول:' ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير ! ثم أسأل الله الفهم وأقول يا مُعلم آدم علمني '.
فنتمنى أن نرى شبابنا في المساجد يقرءون القرآن وبجوارهم كتب التفاسير ينظر في هذا تارة وفي هذا تارة.. ونغفل أيضاً عن الأحاديث الرمضانية والنظر فيها وفي شروحها، وتقييد الشوارد والفوائد منها، فإنه يُفتح على الإنسان في هذا الشهر لمناسبة الزمان ما لا يُفتح عليه في غيره .
الوسيلة الثامنة والعشرون: درس على الرصيف:
وهى موجهة للتجماعات والشلل الشبابية سواء على الأرصفة، أو في الاستراحات، أو في الخيام، أو في غيرها، والتي تقضى ساعات الليل في لعب الورق تارة، وفي الاسترخاء ومشاهدة التلفاز تارة أخرى، وفي الأحاديث والثرثرة تارة وهكذا تقتل ليالي رمضان دون أي استشعار لعظمة هذه الأيام وفضلها، فأقول لهؤلاء الشباب: لماذا لا يفكرون ولو في ليالي رمضان من إدخال بعض البرامج النافعة- نتمنى أن يغير البرنامج كاملاً ويستبدل بما فيه نفع لهم ولأمتهم بدلاً من تضييع الأوقات فيما لا فائدة فيه- فإن كان لابد من هذه الجلسات فلنحاول الإصلاح قدر الاستطاعة وذلك بإدخال بعض البرامج النافعة وذلك مثل: الاجتماع على تلاوة القرآن ولو لمدة نصف ساعة .
فالقرآن ليس حكراً على الصالحين فهو كلام الله جلا وعلا، وكتاب الله سبحانه وتعالى وهو لنا جميعاً، وإن عصينا أو وقعنا في كبائر الذنوب؛ فالباب مفتوح للجميع وقراءة القرآن من الحسنات، وقد قال الله سبحانه:}إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ[114]{ 'سورة هود' وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:' وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا...' رواه الترمذي وأحمد والدارمي. فلماذا لا نقترح على هؤلاء الشباب، أو يقترح بعضهم على بعض أن يكون من البرنامج: قراءة القرآن ولو لنصف ساعة أو استماع شريط أو غيرها من البرامج الجادة النافعة.
توجيهات ووسائل للجادين خاصة:
الوسيلة التاسعة والعشرون: الحرص على تكبيرة الإحرام:(212/4)
لو نظرنا لأنفسنا وحِرْصِنَا على الصلاة والتبكير إليها؛ لوجدنا التقصير الواضح خاصة ممن يوُسم بالخيرية والالتزام، فلم لا يكون رمضان فرصة عظيمة لمحاولة تصحيح هذا الخطأ، وذلك بمعاهدة النفس ألا تفوت تكبيرة الإحرام أبداً خلال هذا الشهر، فإذا نجحت فحاول أن تستمر على ذلك لمدة عشرة أيام بعد رمضان ليكون العدد أربعين يوماً، فتحصل على براءتين: من النار وبراءة من النفاق كما جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:' مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ'رواه الترمذي.
ثم حاول أن تحسب: كم من المرات فاتتك تكبيرة الإحرام في شهر رمضان؟ ولعلك أن تنجح إن شاء الله في تصحيح هذا الخطأ. ثم لماذا لا تحرص على تطبيق اليوم الإسلامي بالكامل خلال رمضان، وذلك بالحرص على النوافل والطاعات وإحياء السنن، فلا تفوت عليك السنن والرواتب خلال هذه الثلاثين يوماً، ولا تغفل عن لسانك وحبسه عن الغيبة والنميمة وغيرهما، وأيضاً لا تغفل عن صلاة الليل والقيام، ولا عن قراءة جزء واحد من القرآن على الأقل، والحرص على الصدقة وصلة الرحم، وقضاء حاجات الناس من الفقراء والمساكين، وزيارة المرضى والمقابر والاستغفار والدعاء وكثرة ذكر الله في كل لحظة فإن هذه غنيمة باردة .
الوسيلة الثلاثون :تذكير الغافلين:
لماذا لا يُستغل تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النيران، و انكسار النفوس ورقة القلوب في هذه الشهر من الجادين في توجيه طلابنا وزملائنا في الفصول والقاعات الدراسية، وذلك بعد صلاة الظهر مثلاً أو في أماكن العمل والدراسة، فأين الكلمة الصادقة الناصحة في نهار رمضان من المدرس لطلابه أو من الطالب أو الموظف لزملائه ؟ أين الجلسات الانفرادية بالزملاء الغافلين والتحدث معهم ونصحهم لاستغلال شهر رمضان، وإهدائهم الشريط والكتاب، أو غير ذلك من الهدايا النافعة؛ فإن النفوس كما ذكرنا مهيئة ' وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَانْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ'رواه الترمذي وأحمد .
الوسيلة الحادية والثلاثون: للجادين خاصة وللمسلمين عامة الصدقة في السر:
الصدقة في رمضان لها منزلة خاصة، وهى من دواعي قبول الأعمال، وأنت يا أخي بحاجة ماسة شديدة لنفعها وأجرها وظلها يوم القيامة، فلم لا تجعل لك مقداراً من الصدقة تعاهد نفسك على أن تخرجها كل ليلة وتداوم عليها، ثم أيضاً تنوعها، فتارة مالاً وتارة طعاماً وليلة ثالثة لباساً وليلة رابعة فاكهة أو حلوى وتتحسس بيوت المساكين والفقراء بنفسك لتوصلها إليهم، وأنصحك أيضاً بألا يعلم عن هذا العمل أحد غيرك؛ فإنك بحاجة إلى عمل السر بينك وبين الله، فكم من الأجر العظيم ينالك بهذا الفعل، ولا يخفي عليك أن من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله:' رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ'رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك وأحمد .
وقد ورد مثل هذا عن عدد كبير من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم كعمر بن الخطاب وعلى بن الحسين زين العابدين وغيرهم ممن حرصوا على التسلل في ظلم الليالي للقيام على الأرامل والمساكين :'السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ'رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد . فهل تفعل ذلك وتحرص على هذه العبادة العظيمة في السر بينك وبين الله؟
الوسيلة الثانية والثلاون: السحر من أجمل الاوقات ومناجاة المولى جلا وعلا:
وفي رمضان لا شك نستيقظ للسحور، فأين أنت من ركعتين تركعهما في ظلمة الليل تناجى فيهما ربك، فبعض الناس يتصور أنه إذا صلى التروايح مع الناس وأوتر في أول الليل؛ انتهت صلاة الليل واكتفى بذلك، وحرم نفسه من هذه الأوقات الثمينة والدقائق الغالية، فالله الله في استغلال السحر ما دمت فيه يقظان، فإن من صفات أهل الجنة التي ذكرها الله تعالى:}الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ[17]{'سورة آل عمران' . و ذكر سبحانه في صفات المتقين، أصحاب الجنات والعيون أنهم:}وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[18]{ 'سورة الذاريات'.(212/5)
هذه من صفات المتقين فهل تستغل هذه الأوقات في الاستغفار ؟ فإن قلت نعم فأقول عليك بسيد الاستغفار، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ'رواه البخاري والترمذي والنسائي وأحمد.
وعليك أيضاً بكثرة تكرار الاستغفار مائة أو سبعين مرة كما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم في كل ليلة، وفي كل وقت من أوقات السحر، ولا تنس أن من السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله :'...وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ' رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك وأحمد . فاحرص يا أخي على هذا الوقت الثمين، واحرصي يا أختي على هذا الوقت العظيم ألا يفوت علينا خاصة وأننا في شهر رمضان، وأننا ممن قام للسحور فجميعنا يقظان، فلنستغل هذه الدقائق في هذه العبادة العظيمة .
توجيهات وأفكار موجهة للمرأة في رمضان :
الوسيلة الثالثة والثلاثون: استحضار النية وكثرة الذكر أثناء عمل البيت:
فالمرأة في رمضان يذهب الكثير من وقتها في مطبخها، خاصة في الساعات المباركة مثل ساعات الغروب وأوقات الاستجابة، وكذلك ساعات السحر في وقت السحور، ولكن حتى لا تعتبر هذه الساعات الطويلة ضياعاً فعليها أن تنتبه لهذه الأمور، وعلينا نحن أن ننبه زوجاتنا وبناتنا ونساءنا إلى مثل هذه الأمور حتى يكتب لها وقتها ولا يضيع عليها ومنها:
1- استحضار النية والإخلاص في إعداد الفطور والسحور واحتساب التعب والإرهاق في إعدادها فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ قَالَ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ أَكْثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الْكِسَاءِ وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ قَالَ فَسَقَطَ الصُّوَّامُ وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةِ وَسَقَوْا الرِّكَابَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ'رواه البخاري ومسلم والنسائي .
إذاً: أيتها المسلمة إن عملك لا يضيع أبداً بل هل تصدقين إن قلت لك إن هذا العمل حرم منه كثير من الرجال ؟ لأن القائم على الصائم له أجر عظيم فما بالك وأنت صائمة، ثم أنت أيضاً تعدين هذا الطعام، وتقضين كثيراً من وقتك في إعداده، فلا شك أنك على خير، والمهم استحضار هذه النية: من طاعة للزوج، ورعاية للأولاد.. وغير ذلك، ولن يضيع الله عملك إن شاء الله .
2- يمكن للمرأة استغلال هذه الساعات في الغنيمة الباردة وهى كثرة الذكر والتسبيح والاستغفار والدعاء وهى تعمل، فبدلاً من أن يضيع عليها وقتها في رمضان بدون فائدة؛ فإنها تجمع بين الحسنيين: استحضار النية وكثرة الذكر والدعاء وهى تعمل وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
3- الاستماع للقرآن والمحاضرات عبر جهاز التسجيل الخاص بالمطبخ، وأقول 'الخاص بالمطبخ' لأحث الرجال والإخوان على الحرص على توفير جهاز تسجيل خاص بالمطبخ .. لماذا ؟ لأن المرأة تقضى كثيراً من وقتها في المطبخ، فلعلها أن تستغل هذا الوقت في مثل هذه الأمور تارة: باستماع شريط، وتارة: بالتسبيح والتهليل والتحميد، وأيضاً بالاحتساب واستحضار النية الخالصة في إطعامها وعملها وتعبها لها ولأولادها وزوجها .
الوسيلة الرابعة والثلاثون: شراء ملابس وحاجيات العيد في بداية رمضان:
وفي ذلك مكاسب منها: استغلال أيام وليالي رمضان- وخاصة العشر الأواخر- فما الذي يحدث ؟ يضيع وقت كثير من النساء وكذلك أولياء أمورهن في الذهاب للخياطة، أو الذهاب للمعارض أو الأسواق، وهكذا تضيع الأوقات الثمينة في أمور يمكن قضاؤها والانتهاء منها قبل دخول الشهر أو في أوله حيث تكون الأسواق شبه فارغة، والأسعار رخيصة، فلماذا ننتظر إلى وقت الزحام وغلاء لأسعار ؟!
أمر آخر: وهو تفريغ الزوج وعدم إشغاله في أعظم الأيام وهى العشر الأواخر.. لماذا أفتن ولدي، أو زوجي، أو غيره بمخالطة النساء المتبرجات في مثل هذه الأيام الفاضلة ؟!
الوسيلة الخامسة والثلاثون: صلاة التراويح في المساجد:(212/6)
روحانية متميزة فتجد صفوف المسلمين والمصلين متراصة وتسمع التسبيح والبكاء، إلا أن هذا الخير قد تحرمه بعض نسائنا لا إهمالاً منها وإنما انشغالا بالأولاد والجلوس معهم وهى بهذا بين أمرين: أولاً : إما الذهاب إلى المسجد وأخذ صغارها وقد يؤذون المصلين فتنشغل بهم، أو الجلوس في البيت وحرمان النفس من المشاركة مع المسلمين، وربما حاولت الصلاة في بيتها ولكنها تشكو من ضعف النفس وقلة الخشوع وكثرة الأفكار والهواجس فماذا تفعل إذن ؟
أسوق هذا الاقتراح: لم لا تتفق مع بعض أخواتها بالاجتماع في أحد البيوت للصلاة جماعة مع اهتمام إحداهن بالصغار، أو تجلس إحداهن مع الصغار والأخريات يذهبن للصلاة في المسجد، وهكذا إذا اتفقت الأخوات على أن تقوم واحدة منهن كل ليلة بالاهتمام بالصغار؛ فإنها على الأقل ستكسب كثيراً من أيام وليالي رمضان مع المسلمين أما أن تخسرها بهذه السهولة فلا .
وعلى الأزواج والآباء الحرص على حث أزواجهم وأخواتهم وبناتهم على الذهاب معهم إلى المساجد فإن في ذهابها خيراً كثيراً، إذا خرجت بصفة شرعية: غير متعطرة ولا متجملة أو متبرجة كذلك ينبغي عليها ألا تخضع بالقول، وألا ترفع صوتها في المسجد؛ فتؤذى المصلين، وعليها أن تتجنب الحديث في المسجد لغير حاجة خشية أن تقع في المحرم من غيبة أو نميمة.
وخلاصة القول: أنه ينبغي أن يعلم أن صلاة المرأة في بيتها أفضل، وخروجها للمسجد لتحصيل منافع لا يمكن تحصيلها في البيت، وإلا فبيوتهن خير لهن .
وفي صلاح المرأة صلاح المجتمع؛ فلذلك نحث الآباء والإخوة على الحرص على أخذ أزواجهم وبناتهم إلى المساجد، وألا يُتركن في البيت بلا عون ولا توجيه، عرضة للغفلة: ' فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ 'رواه أبوداود والنسائي وأحمد .
الوسيلة السادسة والثلاثون: وضع جدول غذائى منتظم:
لماذا لا تجعلي لك جدولاً غذائياً منتظماً لتقسيم الأصناف على أيام الأسبوع، ولا شك أننا بهذا التنظيم نكسب أموراً كثيرة منها:
أولاً:عدم الإسراف في الطعام والشراب، وقد نهينا عن ذلك .
ثانياً:قلة المصاريف المالية، وترشيد الاستهلاك .
ثالثاً:التجديد في أصناف المأكولات والمشروبات وإبعاد الروتين والملل بوجود هذه الأصناف يومياً.
رابعاً:حفظ وقت المرأة، وطلب راحتها، واستغلاله بما ينفع خاصة في هذا الشهر المبارك. ويا ليت أن بعض الأخوات يفعلن مثل هذه الجدول، وأن ينفعن غيرهن من أخواتهن في توزيعه في مدراسهن وأماكن اجتماعهن؛ فإن فعل ذلك- كما ذكرنا- فيه فوائد جمة .
ثم أختم الاقتراح الخاص بالمرأة بتحميلها المسؤلية أمام الله عن الإسراف في بيتها، فهي المسؤلة الأولى عن الإسراف في الطعام والشراب وتعدد الأنواع .وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: 'كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ' ثم قال 'وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا'رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وأحمد .
الوسيلة السابعة والثلاثون:استغلال وقت الحيض والنفاس في الذكر وأعمال البر:
الصلاة في أول وقتها من أعظم الوسائل لاستغلال رمضان، والملاحظ عند المرأة تأخير الصلاة عن وقتها، والتكاسل عنها، ثم نقرها كنقر الغراب وذلك بحجة إما العمل في المطبخ أو التعب في الدراسة أو التعب من الصوم أو غيرها من الأعذار، فعلى المرأة أن تحرص على المحافظة على الفرائض الخمس في وقتها بخشوع وخاصة في هذا الشهر المبارك، والذي كما ذكرت تتضاعف فيه الحسنات وتتنوع فيه العبادات.
وأيضاً: فبعض النساء إذا حاضت أو نفست؛ تركت الأعمال الصالحة، وأصابها الفتور مما يجعلها تحرم نفسها من فضائل هذا الشهر وخيراته، فنقول لهذه الأخت: وإن تركت الصلاة والصيام فهناك عبادات أخرى مثل: الدعاء والتسبيح والاستغفار والصدقة والقيام على الصائمين وتفطيرهم وغيرها من الأعمال الصالحة الكثيرة، ثم أبشرك أنه يكتب لك من الأجر مثل ما كنت تعملين وأنت صحيحة قوية .
كيف ذلك ؟ لحديث رسول صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم الذي قال فيه:'إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا' رواه البخاري وأبوداود وأحمد .
إذاً: فلتبشري، والمهم استحضار النية الصالحة، والحرص على كثير من الخيرات، والعبادات التي تستطيعينها.
وقراءة القرآن للحائض والنفساء: فيها خلاف مشهور بين العلماء لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى رأى جواز قراءة القرآن للحائض والنفساء بدون شرط أو قيد
أخيراً من الوسائل والأفكار للصغار في رمضان:
الوسيلة الثامنة والثلاثون:تشجيع الصغار على المحافظة على الصلاة:(212/7)
اقتراح لأئمة المساجد للاهتمام بالصغار وتشجيعهم على المحافظة على الصلوات والتبكير للمسجد وتعويدهم على صلاة التروايح، وذلك بأن يعلن إمام المسجد لأهل الحي أول يوم في رمضان عن رصد عشر جوائز لأحسن عشرة صغار يحافظون على صلاة الجماعة، ويبكروا لها، ويحافظوا على صلاة التروايح . ومن الجميل: مشاركة بعض جماعة المسجد بالتشجيع كبعض التجار بالجوائز القيمة، و بعض الآباء بطرح بعض المبالغ لشراء جوائز قيمة لتشجيع هؤلاء، ولا بأس من تعاون الشباب مع إمام المسجد بمتابعة هؤلاء الصغار، ثم في نهاية الشهر أي في ليلة العيد توزع الجوائز على هؤلاء الصغار، ولك أن ترى أثر ذلك على الصغار، بل والكبار، بل والحي كله، ولو كان في المسجد لوحة للمثاليين كل شهر لرأيت عجباً من الأبناء والأباء .
الوسيلة التاسعة والثلاثون:مسابقات في حفظ القرآن والسنة:
وهى خاصة أيضاً بالصغار، وذلك بطرح مسابقات رمضانية لهم: إما بحفظ بعض الأجزاء من القرآن الكريم، أو الأحاديث النبوية، أو بمعرفة سيرة الصحابة معرفة شاملة، أو غيرها من المسابقات النافعة، وتوزيع الجوائز في الليلة الأخيرة من رمضان، ولك أيضاً أن ترى أثر ذلك على الصغار، واستغلال أوقاتهم وحفظهم من الشوارع ووسائل الإعلام، وانشغالهم بالبحث والقراءة والنظر والحفظ من خلال هذه المسابقات.
الوسيلة الأربعون والأخيرة :تعويد الصغار على الصيام وفعل الخيرات:
وتشجيع الأب بصحبتهم للمسجد تارة، وبالثناء تارة، وبالكلمة الطيبة وبالجوائز، بل وتعويدهم على الصدقة وبذل الطعام، وتوزيعه على الفقراء والمساكين المجاورين . وعندما تعطى الطفل الصغير ليوزعه بنفسه للجيران وللفقراء والمساكين وتذكره بالأجر وبفضل هذه الأعمال؛ فإن ذلك يُنشأه نشأة صالحة
وتقول الربيع بنت معوذ عن صيام عاشوراء: 'فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ' رواه البخاري ومسلم وأحمد.
أي: حتى يُتم صومه ذلك اليوم تُشغله بهذه اللعبة، وفي ذلك تمرين لهم، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الفعل؛ لأنه فُعل بحضرته، فهو أيضاً من السنن التقريرية عنه صلى الله عليه وسلم .
خاتمة
هذه أربعون وسيلة لاستغلال شهر رمضان، وما بقى أيها الأحبة إلا أن نحرص على هذه الوسائل وننشرها بين الناس كافة، ومحاولة الوقوف مع أئمة المساجد لإحياء مساجدنا وأحيائنا بمثل هذه الأفكار والاقتراحات وغيرها مما يفتح الله به على بعض المهتمين، جعلنا الله وإياكم من مفاتيح الخير في كل مكان .. اللهم بلغنا شهر رمضان، واجعلنا من الصائمين القائمين فيه يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من محاضرة:'أربعون وسيلة لاستغلال شهر رمضان' للشيخ/ إبراهيم الدويش
الفهرس العام :
وسائل عامة : ... 1
الوسيلة الأولى : هل تحب أن تصوم رمضان مرتين؟ كيف؟ ... 1
الوسيلة الثانية:حث المحسنين وأهل الخير على الإنفاق فى هذا الشهر الذى تضاعف فيه الحسنات: ... 1
الوسيلة الثالثة:التوجه إلى القرى والهجر: ... 2
الوسيلة الرابعة: زيارة تجمعات الشباب: ... 2
الوسيلة الخامسة:هدنة مع وسائل الإعلام: ... 2
الوسيلة السادسة:الدعاء قبل الإفطار: ... 3
الوسيلة السابعة:بر الوالدين: ... 3
الوسيلة الثامنة:الجلوس فى المسجد بعد صلاة الفجر: ... 3
الوسيلة التاسعة:تدريب النفس على هجر المعاصى: ... 4
الوسيلة العاشرة:السواك فى رمضان: ... 4
الوسيلة الحادية عشر:العمرة فى رمضان: ... 4
الوسيلة الثانية عشر:نشر العلم فى القرى والهجر: ... 4
الوسيلة الثالثة عشر:عصر يوم الخميس: ... 5
أفكار وتوجيهات لأئمة المساجد: ... 5
الوسيلة الرابعة عشر:تنويع الحديث بعد صلاة العصر: ... 5
الوسيلة الخامسة عشر: قراءة كتاب الصيام من أمهات الكتب: ... 6
الوسيلة السادسة عشر:صندوق للفتاوى: ... 6
الوسيلة السابعة عشر: لوحة الإعلانات: ... 6
الوسيلة الثامنة عشر:هدية رمضان: ... 6
الوسيلة التاسعة عشر: إقامة مسابقة الأسرة المسلمة: ... 6
الوسيلة العشرون:كلمة يسيرة من الدعاة: ... 7
الوسيلة الحادية والعشرون: إحياء سنة الاعتكاف: ... 7
الوسيلة الثانية والعشرون:إفطار جماعي: ... 7
الوسيلة الثالثة والعشرون:التودد للذين لا يشهدون الصلاة إلا في رمضان: ... 7
الوسيلة الرابعة والعشرون:حفل لتوزيع جوائز المسابقة: ... 7
وسائل وأفكار وتوجيهات في الاهتمام بالقرآن: ... 8
الوسيلة الخامسة والعشرون :حلقات للكبار لتحسين التلاوة: ... 8
الوسيلة السادسة والعشرون: عقد حلقة في البيت لتلاوة القرآن: ... 8
الوسيلة السابعة والعشرون: تدبُر القرآن: ... 8
الوسيلة الثامنة والعشرون: درس على الرصيف: ... 9
توجيهات ووسائل للجادين خاصة: ... 10(212/8)
الوسيلة التاسعة والعشرون: الحرص على تكبيرة الإحرام: ... 10
الوسيلة الثلاثون :تذكير الغافلين: ... 10
الوسيلة الحادية والثلاثون: للجادين خاصة وللمسلمين عامة الصدقة في السر: ... 10
الوسيلة الثانية والثلاون: السحر من أجمل الاوقات ومناجاة المولى جلا وعلا: ... 11
توجيهات وأفكار موجهة للمرأة في رمضان : ... 12
الوسيلة الثالثة والثلاثون: استحضار النية وكثرة الذكر أثناء عمل البيت: ... 12
الوسيلة الرابعة والثلاثون: شراء ملابس وحاجيات العيد في بداية رمضان: ... 13
الوسيلة الخامسة والثلاثون: صلاة التراويح في المساجد: ... 13
الوسيلة السادسة والثلاثون: وضع جدول غذائى منتظم: ... 14
الوسيلة السابعة والثلاثون:استغلال وقت الحيض والنفاس في الذكر وأعمال البر: ... 15
أخيراً من الوسائل والأفكار للصغار في رمضان: ... 15
الوسيلة الثامنة والثلاثون:تشجيع الصغار على المحافظة على الصلاة: ... 15
الوسيلة التاسعة والثلاثون:مسابقات في حفظ القرآن والسنة: ... 16
الوسيلة الأربعون والأخيرة :تعويد الصغار على الصيام وفعل الخيرات: ... 16(212/9)
أرحم الخلق بالخلق
المحتويات
مقدمة
النبيً وهذا الخلق
وصف الله لنبيهً بالرحمة
رحمتهً بأمته
رحمته ً بالأطفال
رحمته ً بالبهائم والدواب
رحمته ً تتجاوز حدود عصره:
أمره ً بالرحمة وحثه عليها
أهل السنة على منهاجهً
مجالات الرحمة وصورها لدى أهل السنة
كيف نتعامل مع المخالف؟
الرحمة للخلق لاتكون على حساب المنهج
مقدمة
االحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد :
في وسط هذا العالم الذي يموج بالبعد عن الله سبحانه وتعالى وعن شرعه، العالم الذي يموج بالبدعة والإعراض عن الله سبحانه وتعالى، تتعالى صيحات الإنقاذ ودعوات النهوض بهذه الأمة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولن يقوم بهذا الدين إلا تلك الطائفة التي أخبر النبيً أنه لها الناجية، حيث هلكت سائر الفرق والطوائف، وكتب الله النصرة لهذه الطائفة "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم". لذا كان لزاماً علينا الحديث والمناداة بإحياء منهج خير القرون: منهج أهل السنة والجماعة وسلف الأمة.
ولا شك أن منهج أهل السنة ومنهج خير القرون منهج أوسع دلالة وأعمق دائرة من أن يكون مجرد مقررات معرفية دون أن يكون لها رصيد من العمل والسلوك، إنه منهج أشمل من ذلك بكثير، فهو ليس المنهج الذي لا يعرف إلا جانباً واحداً من جوانب التوحيد لله سبحانه وتعالى، أو لا يتحدث إلا في إطار المعرفة والجدل النظري والإثبات النظري والنفي وحده فقط، بل هو أشمل من ذلك كله.
ومن الجوانب المهمة عند أهل السنة الجانب الخلقي والسلوكي وما فتىء من صنف في معتقدهم مختصراً أو مفصلاً أن يشير إلى هذا البعد، البعد الأخلاقي والسلوكي في عقيدة أهل السنة، ويصفهم بما هم أهل له من جوانب في الرقائق والسلوك أو الأخلاق أو المعتقد، ومن ذلك أن أهل السنة كما وُصفوا أرحم الخلق بالخلق، هذه محاولة متواضعة للحديث حول هذا الجانب.
النبي ً وهذا الخلق:
إن العَلَم الأول والقائد الأوحد لأهل السنة هو محمدً ،ومن ثم فإن أولئك الذين يرغبون سلوك هذا المنهج ويدعون إليه لابدأن يكون لهم نسب وثيق بالنبي ًمن المحبة والتوقير له وإنزاله المنزلة التي أنزله الله إياها.
ومن الاتباع لهً البحث عن هديه وعن سنته وسلوكه لتقتفى آثارها، ولا يسوغ أبداً أن يطغى اهتمامنا بعَلَم من أعلام أهل السنة - على جلالته وقدره- على اهتمامنا واعتنائنا بالنبي ً، ولا أن تحتكم إلى قول إمام أكثر مما تحتكم إلى قوله ً وهديه.
وجدير بنا بكل حال أن نعود إلى هديه ً بقراءة دقيقة متأنية فاحصة؛ لنلتمس من هديه وسنته معالم طريق النجاة الذي أخبر ً أنه لن ينجو إلا من كان على ما كان عليه ً وأصحابه.
وصف الله لنبيه ً بالرحمة :
من الصفات التي اتصف بها نبينا محمد ً هذه الصفة وهي صفة (الرحمة) وهو بها أهل، فلقد وصفه الله سبحانه وتعالى بذلك؛ فوصفه بالرحمة على الخلق والعطف عليهم ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فضاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ) ويمتن الله سبحانه على المسلمين أن بعث لهم هذا الرسول صاحب القلب الكبير الرحيم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ). و أخبر سبحانه وتعالى أن رسالته ً رحمة للعالمين أجمع (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
رحمته ً بأمته:
وتلمس رحمته ً بالخلق في كل أحواله وأموره، فهو كثيراً ما يترك بعض الأعمال شفقاً على أمته حتى لا تفرض هذه الأعمال عليهم فيعجزوا عن القيام بها وعن الوفاء بها، ألم تقرؤوا كثيراً في سنته ً قوله :"لولا أن أشق على أمتي"؟ إن هذا مصداق هذا الوصف الذي وصفه به ربه سبحانه وتعالى، وهو عز وجل أعلم به، فهو ً يقول :"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " و "لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل" ويصلي ً فيصلي الناس بصلاة ثم يعتذر لهم ً ولا يخرج لهم خشية أن تفرض هذه الصلاة على أمته فلا يطيقوها، ويفرض الله عليه خمسين صلاة فما يزال حتى تخفف هذه الصلاة إلى خمس رحمة بأمته، ويأمره جبريل أن يقرئ أمته على حرف فيقول : إن أمتي لا تطيق ذلك، فيقول : أقرئهم على حرفين حتى أوصله على سبعة أحرف.
وما يزال ً في تلقيه للوحي وفي كلامه وفي أفعاله وعبادته يخشى أن يشق على أمته، ويخشى أن تكلف ما لا طاقة لها به، وأن تؤمر بما لا تطيق، ولهذا كان كما وصفه سبحانه وتعالى :( ونيسرك لليسرى ) لقد يسر ً لليسر في كل أموره وحياته.(213/1)
والشواهد على رحمته ً لاتقف عند هذا الحد؛ فنعيش مع جانب آخر من سيرته ، سيرته مع أزواجه: ففي حجة الوداع أصاب عائشة رضي الله عنها الحيض مما منعها أن تعتمر كما اعتمر الناس، فتقول للنبي ً : يذهب الناس بحج وعمرة وأذهب بعمرة؟ فيقول الراوي : وكان ً هيناً ليناً إذا هوت أمراً تابعها عليه. ومن تأمل سيرته وهديه في تعامله مع زوجاته يلمس ذلك واضحاً من رحمته ً وشفقته بهن
رحمتة ً بالأطفال:
جاء أعرابي -كما تروي عائشة رضي الله عنها- إلى النبي ً فرأى أمراً لم يعهده رآه يقبل الصبيان فقال : تقبلون الصبيان؟ قال ً : نعم، قال الأعرابي: إنا لا نقبلهم فقال ً: "أوأملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟". إذاً فهذا الأعرابي الذي ما اعتاد أن يقبل الصبيان وأن يداعبهم، جاء إلى النبي ذاك الرجل الذي يهابه الناس ويتحدثون عنه، ويغذ الناس سيرهم إليه ً لتكتحل أعينهم برؤيته، وحُق لهم كذلك فمن رآه وآمن به فقد ثبت له فضل لا يثبت لأحد من البشر، ثبت له فضل الصحبة؛ فيستغرب هذا الأعرابي أن يرى مثل هذا الرجل العظيم في مكانته ومنزلته يتعامل مع الصبيان هذه المعاملة.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه ً قبل الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس رضي الله عنه فاستنكر هذا السلوك ولم يألفه، قال : إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم، فنظر إليه النبي وقال : "من لا يَرحم لا يُرحم" .
ويصلي ً بأصحابه كما روى ذلك عبد الله بن شداد رضي الله عنه -وهو عند الإمام النسائي- فيسجد فيأتي الحسن أو الحسين فيرقى على ظهره ؛ فيطيل السجود حتى ظنوا أنه نسيً ، فلما فرغ من صلاته قال :"إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم قبل أن يقضي حاجته".
إن هذا القلب الرحيم العظيم ليأبى أن يزعج هذا الطفل الصغير ويقلقه؛ فيطيل ً سجوده والناس وراءه ينتظر أن يقضي هذا الصبي حاجته فيقوم من نفسه.
ويسمع ً بكاء الصبي وهو يصلي وقد نوى أن يطيل الصلاة فيوجز فيها حتى لا تفتن أمه.
رحمته ً بالبهائم والدواب:
وتتجاوز رحمته ً ذلك كله إلى الحيوان والبهيمة؛ فيروي عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن النبي دخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل فلما رأى النبي حنّ وذرفت عيناه فأتاه ً فمسح ظفراه فسكت، فقال ً :"من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟" فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال له : "أفلا تتق الله في هذه البهيمة ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه" . رواه أبو داود.
الله أكبر لهذا القلب الرحيم العظيم ، مع ما يحمل ً من عبء الرسالة لا لأصحابه بل للبشرية أجمع، للثقلين الإنس والجن ومع ما يحمله من هم وجهد يجد هذا الحيوان البهيم مكاناً رحباً واسعاً في قلب هذا الرجل العظيم ؛ فيأتي إلى النبي ً وقد عرف عنه الرحمة؛ فيشتكي إليه، فيجيب الشكوى ً ، ويسأل عنه صاحبه ليخبره بشكوى هذه البهيمة.
ويروي الإمام أبو داود في سننه من حديث سهل بن الحنضلية رضي الله عنه أنه ً مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة وفي صحيح الإمام مسلم أن عائشة رضي الله عنها ركبت بعيرا وكانت فيه صعوبة فجعلت تردده فقال لها رسول الله عليك بالرفق وكان ً في سفر كما روى ذلك أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال كنا مع النبي ً في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرش فلما جاء رسول الله قال : من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها" .
والحديث معشر الأخوة الكرام ليس حديثا عن رحمته ً بالبهائم المعجمة والدواب والحيوان إنما هي إشارة إلى أن ذلك القلب العظيم الرحيم الذي وسعت رحمته هذه الدواب لابد أن يكون أرحم وأرفق بأولئك الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى، وخلق كل ما في هذه الأرض لهم (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا).
أفلا يتقي الله أولئك الذين حملهم الله أمانة المسلمين وأمانة الجيل فلئن كان من يتولى هذه البهيمية عرضة للمسألة والإنكار من محمد ً ، فكيف بأولئك الذين دعا عليهم ً ؟
رحمتهً تتجاوز حدود عصره:
تتجاوز رحمة النبي ورأفته بأمته عليه أفضل الصلاة وأتم والسلام ذلك العصر الذي عاشه ً ، وذاك الجيل الذي عاشره ليضع هذه الضمانة لمن بعده فيدعو ربه تبارك وتعالى "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليه فاشقق عليه" فيضع هذا نبراساً وهدياً لكل من يتحمل أمانة ومسؤولية في أمة محمدأجمع إلى أن تقوم الساعة، ويدعو ربه تبارك وتعالى وتقدس أن يرفق بمن يرفق بأمته، وأن يرحم من يرحم أمته، وأن يشق على من يشق عليها
أمره بالرحمة وحثه عليها:(213/2)
هذه معشر الأخوة الكرام بعض المعالم من هدي أرحم البشر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وهو مع ذلك ، لم يحلنا على هذا الهدي –وإن كان وحده كافياً- بل أمرنا بالرحمة وحثنا عليه، وأعلى لنا شأنها؛ فأخبرأن الراحمين هم أولى الناس برحمة الله ففي الترمذي وأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنهً قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله".
والراحمون يستحقون مغفرة الله سبحانه وتعالى، والمغفرة أخص من الرحمة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن رجلاً كان يمشي في الطريق فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب، فلما خرج رأى كلباً يتلوى من العطش؛ فنزل البئر وسقاه، فلما سقاه غفر الله عز وجل له. وفي رواية أنها بغي من بغايا بني إسرائيل.
أرأيتم أولئك الذين رحمهم الله وغفر لهم وقد رحموا دابة من الدواب؟ فما بالكم بمن يرحم عباد الله سبحانه وتعالى الصالحين الأتقياء؟
وكما أعلى النبي منزلة الراحمين وأخبر أنهم أولى الناس برحمة الله عز وجل ومغفرته ، توعد أولئك الذين لا يرحمون؛ فأخبرأنهم أبعد الناس عن رحمة الله سبحانه وتعالى كما في حديث جرير بن عبد الله في الصحيحين أنه قال:" لا يرحم الله من لا يرحم الناس". ومضى معنا في حديث الأقرع بن حابس أنه قال :"من لا يرحم لا يُرحم".
وأخبر أن أولئك الذين لا يرحمون أشقياء قد كتبت عليهم الشقاوة؛ ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داو ود أنه قال سمعت أبا القاسم يقول:"لا تنزع الرحمة إلا من شقي".
إذا فالراحمون يرحمهم الله سبحانه وتعالى ويغفر لهم، وألئك الذين نزعت الرحمة من قلوبهم أشقياء قد عوقبوا بنزع هذه الرحمة، وهم أبعد الناس عن رحمة الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل لا يرحم من لا يرحم عباده؛ فالجزاء من جنس العمل.
هذه وقفة سريعة مع إمام أهل السنة وقائدهم وفرطهم على الحوض هذه وقفة مع هديه العملي وهديه القولي وكيف أنه كان أرحم الناس :
وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان هما في الدنيا هما الرحماء
أهل السنة على منهاجه:
ولما كانت هذه صفة النبي، كان أهل السنة هم أهل الرحمة بالخلق، فكانوا خير الناس للناس، يعرفون الحق ويرحمون الخلق، كما نص على ذلك جمع من صنف في معتقدهم.
وأذكر بما قلته أول حديثي من أن منهج أهل السنة لا يقف عند مجرد المقررات المعرفية وحدها، ولا عند باب من أبواب العلم والاعتقاد، بل هو منهج وسلوك يطبع حياة المسلم كلها في اعتقاده في ذات الله سبحانه وتعالى وفي أسمائه وصفاته وفيما يجب له سبحانه وتعالى وما يستحقه من العبادة والتأله والخضوع والاحتكام إلى شرعه تعالى وتقدس، وفي التلقي من الوحيين دون غير هما، وفي تعظيم أمر الله سبحانه وتعالى وشرعه، وفي عبادته تبارك وتعالى والاجتهاد في ذلك، وفي باب الخلق والسلوك والتعامل مع الناس.
ولهذا كان أهل السنة كما قلنا ينصون على هذا الجانب ويؤكدون به فيما قالوه، هذا هو الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله يقول عن أهل السنة: ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه.." أهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله؛ فيتبعون الحق ويرحمون الخلق".
ويقول أيضا في موضع آخر:"وأهل السنة فيهم العلم والعدل والرحمة؛ فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى :( كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنأن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى )، ويرحمون الخلق، ويريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق".
والنقول عن سلف الأمة تطول في ذلك، وانظر في أي كتاب صنفه إمام من أئمة أهل السنة من المتقدمين أوالمتأخرين لتراه ينص على أن أهل السنة والسلف يرحمون الخلق، وأنهم يأمرون بإطعام الطعام وإفشاء السلام، ويتحدث عن الجوانب الأخلاقية والسلوكية.
فجدير بنا أن لا نهمل هذا الجانب؛ فالذي يتصدر دعوة الناس ويعلن لهم أنه يسير وفق ما كان عليه النبي وأصحابه، وأنه من الطائفة الناجية المنصورة، وأنه يحمل الحق الواضح للناس ينبغي أن يكون سلوكه وهديه وسمته خير دليل للناس على صدق مقالته، وعلى صدق ما يدعوهم إليه؛ فيتمثل هذا السلوك وهذا الجانب في حياته كلها وفي سلوكه.
مجالات الرحمة وصورها لدى أهل السنة:
تتمثل مجالات وصور الرحمة بالخلق عند أهل السنة في جوانب كثيرة منها :(213/3)
الأول: الرحمة بالفقراء والمساكين وأهل الحاجة وقضاء حوائج الناس، ولهم في ذلك أسوة في نبيهم الذي كان يعطف على الأرملة والمسكين، وكان قبل النبوة والرسالة يطعم الطعام، وكان يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، كما وصفته بذلك من هي من أعلم الناس به زوجه خديجة رضي الله عنها، فكيف يكون الأمر بعد النبوة وبعد الرسالة؟
إذا ينبغي أن يشعر أهل الحاجات ومن ضاقت بهم السبل أن أهل السنة والدعاة إلى الله عز وجل و إلى منهج أهل السنة هم أقرب الناس إليه؛ فيمسحون دمعة المسكين، ويسدون خلة المحتاج ويحسنون إلى من يحتاج أن يحسن إليه.
الثاني: الحرص على هداية الناس وإصلاحهم، وهذا من أعظم مجالات الرحمة وأجلها، فإن كان أحدهم يسعى إلى أن ينقذ فقيراً من جوع ومسغبة، أو ينقذ يتيماً من بؤس اليتم، فإنه أولى أن ينقذه من نار وقودها الناس والحجارة، وأولى أن ينقذه من نار ومن عذاب تنسيه غمسة واحدة فيه كل نعيم الدنيا، وأن يدله على جنة عرضها السماوات والأرض، جنة ينسى حين يدخلها ويغمس فيها غمسة واحدة كل شقاء الدنيا وبؤسها.
ولهذا يخبر الله عز وجل عنه أنه أرسل النبي رحمة للعالمين، وأعظم رحمة للناس أن أنقذهم الله به من الضلال ومن الشرك والكفر به سبحانه وتعالى، وأنقذهم من نار تلظى وقودها الناس والحجارة حمانا الله وإياكم منها ووالدينا وجميع المسلمين، لهذا كان هو الرحمة المهداة، وكانت حاله كما قال عن نفسه: " وأنا آخذ بحجزكم عن النار ".
ويشبه نفسه برجل أوقد ناراً فجعل الفراش يتهافت فيها، وهو يذبها عنها، ويأخذ بحجز أمته عن النار.
الثالث: الرفق بهم في من ولاه الله مسؤولية أوأمرا من أمور المسلمين، وقد دعافقال:"اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه " فكل من ولاه الله أمانة أومسؤولية، من أب أو زوج أو أستاذ أو مدير أو مسؤول صغيراً أو كبيراً، فينبغي له أن يرفق بالمسلمين ويرحمهم.
ومن رفق الراعي برعيته أن يرفق بهم في نصحهم وفي تصحيح أخطائهم ؛ ولهذا كان كما وصفه معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وقصته مشهورة معروفة، حين عطس رجل في الصلاة فقال يرحمك الله ثم رمقه الناس بأبصارهم فقال: ويل أمي ما بالكم ترمقوني بأبصاركم؟ فيقول رضي الله عنه :فبأبي و أمي رسول الله ما رأيت معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً منه، فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، وإنما دعاني وقال :"إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الذكر والتسبيح والدعاء وقراءة القرآن".
وحين جاء الأعرابي وبال في طائفة المسجد وانتهره الناس، أدركه بقلبه الرحيم وأعلمه بحق وواجب هذه الأماكن وصيانتها، فقال هذا الرجل :اللهم ارحمني وارحم محمداً، ولا ترحم أحد غيرنا، وذلك أنه رأى وعرف الرحمة في قلب النبي وهذا يفسر لنا قوله : " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ".
إذا فمن رحمة أهل السنة بالخلق أن يرفقوا بمن يقع في الخطأ ويقع في المنكر، خاصة الذي يقع فيه عن جهل ولم يجد من يذكره ويعلمه؛ فينبغي أن نحسن إليه، وأن نرفق به، وأن ندعوه بعملنا وسلوكنا ورحمتنا قبل أن ندعوه بقولنا وإنكارنا؛ فيرى في سلوكنا مما يشعره بصدق مقالتنا ودعوتنا، ويدعوه إلى أن يستجيب لما نرجوه ونطلبه منه.
الرابع: أن لا يسعى الإنسان إلى الحكم على الناس ويكون هذا همه. إن البعض من الناس يؤتى من غيرته وحرصه على حماية العقيدة فيتصور أنه بقدر ما يخرج الناس من العقيدة ومن دائرة أهل السنة والتوحيد يكون أكثر غيرة على عقيدة أهل السنة وأكثر حماية لها، ويتوهم بعض الناس أن الذين تطول قائمة من يجرحونهم ويخرجونهم من دائرة أهل السنة هم أكثر الناس غيرة على منهج أهل السنة، وأنهم أصدق الناس توحيداً، فهم أولئك الذين لم ينج منهم أحد، ولن يستطيع أحد أن يفلتهم.
إن المنتمي إلى هذه العقيدة العظيمة يعز عليه أن تخالف هذه العقيدة، ويدعوه حبه لهذه العقيدة وتمكنها في قلبه إلى أن يتجاوز مجاملة الخلق ومداهنتهم على حساب الخلل بها، لكن هذا أيضا لا يدعو الإنسان إلى أن يكون همه البحث عن أخطاء الناس والتفتيش عنها والتنقيب ويرى أن هذا من تمام الغيرة على العقيدة أليس النبي يقول لأصحابه:"ما أحب أن يبلغني أحد عن أحد شيئاً"؟(213/4)
والأمر لايقف عن أبواب السلوك؛ فحين قتل أسامة رضي الله عنه رجلاً قال لاإله إلاالله -والموقف يوحي ويشعر لكل من يقرأه أن هذا الرجل كما قال أسامة- هذا رجل يقتل المسلمين فما ترك أحداً إلا قتله، فحين أدركه أسامة – رضي الله عنه – ورفع عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله. أي إنسان يسمع هذه القصة سيظن كما ظن أسامة – رضي الله عنه – أن هذا الرجل إنما قال هذه الكلمة فرارا من القتل، وإلا أين تصديقه بهذه الشهادة وأين إقراره بها قبل ذلك؟ ومع ذلك لما أنكر عليه النبي قال أسامة إنما قالها فرارا من القتل قال له :"أفلا شققت عن قلبه"؟
إن هذا الخطاب ليس لأسامة وحده رضي الله عنه، بل الخطاب للأمة أجمع، فما كلفنا بالتفتيش عن قلوب الناس.
هذا إنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدرسول الله، بل يقول لك أنا على عقيدة التوحيد، وأنا على هذا المنهج ومن أتباعه، وتقول له: لا إنك لست على ذلك، وتنكر عليه ادعائه وتذهب تفتش عما يقول وتبحث عن كلمة تحتمل تأويلا حتى تخرجه من هذه الدائرة ! هل مقتضى الغيرة على عقيدة أهل السنة يقتضي منا هذا المسلك؟ أم يقتضي منا أن نأخذ الناس على ظاهرهم؛ فمن أظهر خيرا وصدقا ونصيحة واتباعا للسنة قبلنا منه وحسابه على الله عز وجل، ومن أظهر خلاف ذلك عاملناه بما يظهر منه.
أما أن يكون الأصل عندنا أن نشك في عقائد الناس حتى يثبت خلاف ذلك، فليس هذا من الغيرة على عقيدة أهل السنة، ولا على عقيدة التوحيد، وليس من النصرة لمنهجك أن تسعى إلى إخراج الناس منه، وإبعادهم عنه.
كيف نتعامل مع المخالف؟
لاشك أن الرحمة بالناس والخلق لا يمكن أن تدعونا إلى أن نتستر على الأخطاء والأمور الظاهرة، وقد شرع الله لنا التعامل مع ما يظهر من الناس ويبدو منهم، وسرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى.
والمخالفون أصناف منهم :
المجتهد المخطئ: فقد يجتهد الإنسان ويبذل وسعه في تحري الحق والبحث عن الدليل ثم يقع في خطأ، فيتأول نصاً من كتاب الله أو سنة النبي على خلاف تأويله، أو تبدو له شبهة أو عارض من العوارض فيصل إلى نتيجة خاطئة، فهذا قد قال عنه: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ".
والمجتهد الذي بذل وسعه معذور سواء في الأمور العملية أو الأمور الخبرية، وغالب هؤلاء إنما يقع خطؤه في أمور ليست معلومة من الدين بالضرورة. وقد يكون له من الخير والفضل والحسنات ما يمحو ذلك والماء إذا بلغ قلتين لن يحمل الخبث.
ومنهم الجاهل المعذور: الذي قلد من وثق في عمله وورعه ودينه أو وقع في أمر عن حسن نية.
ومنهم متعد ظالم ومبتدع آثم.
ومنهم منافق زنديق.
ومنهم مشرك ظالم.
فالمخالفون والمخطئون لنا ليسوا طائفة واحدة، وليسوا على درجة واحدة، ولا يجوز أن نحشرهم كلهم في واد واحد.
وقد تحدث أئمة أهل السنة حديثا طويلا مستفيضا عن الموقف من هؤلاء والتعامل معهم، كل على حسب منزلته فمنهم من يعذر ويحسن إليه، ومنهم من يغلظ عليه، ومنهم من يهجر، ومنهم من يؤدب ويعزر.
المقصود أيضا أن أهل السنة لا يبغون على المخالف كما قال شيخ الإسلام رحمه الله ويرفقون بمن خالفهم.
الرحمة للخلق لاتكون على حساب المنهج:
لقد سبق أن أهل السنة يعرفون الحق ويرحمون الخلق، وهذا يعني أن الرحمة بالخلق ليست على حساب المنهج، ولا تؤدي هذه الرحمة إلى المساومة عليه، وإلى الإغضاء عن الابتداع والضلال والخطأ.
ومواقف شيخ الإسلام العملية أيضا تؤيد هذا المعنى الذي قاله، منها مواقفه مع أعدائه الذين امتحن رحمه الله بسببهم وأدخل السجن وأوذي وصار له ما صار بسببهم، يقل ابن القيم رحمه الله جئت يوما مبشرا له بموت أكثر أعدائه وأشدهم عداوة وإيذاءً له؛ فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم ثم قال إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له.
ولما مرض مرض الوفاة رحمه الله دخل عليه أحد الذين عادوه وآذوه واعتذر له، فقال: إني قد عذرت وحللت كل أولئك الذين آذوني وخالفوني، ولهذا قال عنه خصومه وهو ابن مخلوف:ما رأينا مثل ابن تيميه .. قدر علينا وصفح عنا وحاج عنا.
والمقصود من ذلك كله أيها الأخوة الكرام أننا ينبغي أن نقتدي بإمام أهل السنة وفرطهم في هذا الخلق العظيم وهو الرحمة، وأن نرى أنه من تمام انتسابنا إلى منهج أهل السنة أيضا أن ننظر إلى سلوكهم وهديهم وورعهم وسمتهم، وأن نقتفي أثرهم عليهم رحمة الله ورضوانه أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من نجاه الله سبحانه وتعالى فكان على مثل ما كان عليه وأصحابه إنه سميع قريب مجيب وصلى الله على نبينا محمد. لقد سبق أن أهل السنة يعرفون الحق ويرحمون الخلق، وهذا يعني أن الرحمة بالخلق ليست على حساب المنهج، ولا تؤدي هذه الرحمة إلى المساومة عليه، وإلى الإغضاء عن الابتداع والضلال والخطأ.(213/5)
ومواقف شيخ الإسلام العملية أيضا تؤيد هذا المعنى الذي قاله، منها مواقفه مع أعدائه الذين امتحن رحمه الله بسببهم وأدخل السجن وأوذي وصار له ما صار بسببهم، يقل ابن القيم رحمه الله جئت يوما مبشرا له بموت أكثر أعدائه وأشدهم عداوة وإيذاءً له؛ فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم ثم قال إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له.
ولما مرض مرض الوفاة رحمه الله دخل عليه أحد الذين عادوه وآذوه واعتذر له، فقال: إني قد عذرت وحللت كل أولئك الذين آذوني وخالفوني، ولهذا قال عنه خصومه وهو ابن مخلوف:ما رأينا مثل ابن تيميه .. قدر علينا وصفح عنا وحاج عنا.
والمقصود من ذلك كله أيها الأخوة الكرام أننا ينبغي أن نقتدي بإمام أهل السنة وفرطهم في هذا الخلق العظيم وهو الرحمة، وأن نرى أنه من تمام انتسابنا إلى منهج أهل السنة أيضا أن ننظر إلى سلوكهم وهديهم وورعهم وسمتهم، وأن نقتفي أثرهم عليهم رحمة الله ورضوانه أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من نجاه الله سبحانه وتعالى فكان على مثل ما كان عليه وأصحابه إنه سميع قريب مجيب وصلى الله على نبينا محمد.(213/6)
أرضية العنف فرنسا وروسيا
الحرب العالمية الثانية
الحلقة (21) الجمعة 26 ربيع الأول 1396هـ- 26 آذار 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
تحدثنا عنه في الجمعة الماضية هو بعض من الدروس المستفادة من تاريخ النبوات السابقة على نبوة سيدنا محمد صلوات الله عليه وآله وسلم وكما ذكرنا فإن الله تبارك وتعالى قص علينا في القرآن الكريم من نبأ المرسلين ومن نبأ أقوامهم؛ ما يثبت الأفئدة ويفيد العبرة كيلا نرتكب مثل الذي ارتكبوا وكيلا نسقط في مثل ما سقطوا فيه، وليس عندي في الحق ما أضيفه في هذا المجال إلى الذي قلته في الجمعة الماضية، وإن كان مجال القول في هذه الناحية متراحباً شديد التشعب عظيم الارتباط ثم هو يتمتع بضرورة حاسمة في أيامنا ، ولكن المنابر لها أسلوبها وحق مثل هذه الموضوعات أن تكتب لا أن يتحدث بها على المنابر؛ إلا أن بعضاً من الإخوة حفظهم الله تعالى نبهوني إلى التباس وقع فيما يختص بنحلة آريوس الذي كان يدعو إلى الوحدانية في القرن الثالث الميلادي، والذي حاربته المسيحية وطاردته وتغلبت عليه في مجمع نيقيا عام 325 للميلاد ومعهم الحق في هذا الالتباس، إن كان الأمر على النحو الذي قالوه... لقد دعوت بالشريط المسجل وإلى غاية الأمس وصباح اليوم، أردت أن أستمع إليه لأكتشف هذا الالتباس فلم تسمح لي كثرة الشواغل لشيء من هذا؛ فأنا مضطر إلى أن أصحح المسألة لأنها خطأ علمي إن كان الأمر على النحو الذي أخبرني به الإخوة مشكورين يجب أن يصحح، لأن هذه معلومات أصبحت في ذمة التاريخ وواجب الإنسان حيالها نقلها بدقة وأمانة.
في هذه الناحية كنت أتحدث عن مدرسة الإسكندرية المعروفة في تاريخ الفلسفة باسم الأفلاطونية الحديثة، وطلبت إليكم أن تتذكروا الإسكندرية وفي الحقيقة فإن آريوس كان أسقف الإسكندرية، ولكنه رجل لم يلوث بأدران الوثنية ولهذا فهو لم يتورط بالقول بألوهية عيسى وبالثالوت الذي انتهى إليه مجمع نيقيا بتأثير من الإمبراطور الروماني الوثني قسطنطين الذي تظاهر بالدخول في الكنيسة وبالدخول في النصرانية ورفض أن يعمد مسيحياً إلا بعد أن أصبح على فراش الموت؛ وكان طيلة عمره رجلاً من رجال السياسة يهتم باستقرار المملكة واستتباب الأمن في ربوعها وعدم ظهور بوادر التفرق والخلاف والنقود التي ضربت في عهد قسطنطين الإمبراطور الروماني والمحفوظة الآن في المتاحف تشير إلى هذا. فالنقود ضرب على أحد وجهيها شعار الصليب الذي هو شعار النصرانية وضرب على الوجه الآخر تمثال جوبيتر الذي هو كبير آلهة الوثنية اليونانية القديمة. فالرجل لا يطمئن كبار الثقات من المؤرخين لصحة مسيحيّته، ويكفي أن نرجع إلى مؤرخ ثقة كالأستاذ فيشر في تاريخه: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى لندرس عظم الريبة التي تنتاب المؤرخين في صحة دخول قسطنطين في النصرانية فآريوس رجل من الموحدين الذين كانوا حقيقة على دين عيسى كما أنزله الله تعالى؛ يقول إن عيسى عبد أنعم الله عليه لا أكثر ولا أقل، اختصه بالرسالة وكلفه بإبلاغها إلى الناس ولا زيادة؛ وأما مدعيات بعض رجال الكنيسة من إضفاء طابع الوثنية على العقيدة المسيحية فشيء رفضه آريوس، وسبق قبل مجمع نيقيا عام 325 أن دُعي إلى مجمع اجتمع فيه رهبان مصر وليبيا، وحرموا بدعة آريوس وقرروا طرده من الكنيسة وإحراق كتبه ومطاردة تعاليمه؛ المأساة عند هذا الحد لم تشكل نقطة الانفراج بالنسبة للمسيحية لكن نقطة الانفراج في الحقيقة تشكلت مع مجمع نيقيا ففي ذلك المجمع قررت بصورة نهائية ألوهية عيسى صلوات الله عليه وتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً؛ من الذي حمل هذه الراية؟ حملها راهب كان في معية آريوس من تلاميذ المدرسة الأفلاطونية الحديثة اسمه الاكسندر فهو الذي أثار المسألة وحرض قسطنطين بمساعدة عدد من الرهبان، تمت الدعوة إلى مجمع نيقيا فاجتمع فيه ألفان وثمانية وأربعون راهباً اختلفوا في هذا الموضوع وعلت أصواتهم ورمى بعضهم بعضاً بالكفر والإلحاد والمروق والوثنية فاختار قسطنطين منهم ثلاثمائة وثمانية عشر سلمهم كل إمكانيات السلطة ليقرروا العقيدة التي يرونها تحت رياسته، ورياسته رياسة وثنية في الأصل متأثرة بالفلسفة التي كانت سائدة في العصر الروماني في ذلك الحين والتي تقول باختصار إن الله الواحد يستحيل أن يصدر عنه العالم المتكثر لأن صدور العالم المتكثر يقتضي الحركة، والحركة تقتضي التغير، والتغير يقتضي الحدوث فراراً من هذه الأشكال؛ قالوا إن الواحد الأول صدر عنه العقل الفعال، والعقل الفعال صدرت عنه النفس الكلية، والنفس الكلية صدرت عنها الأكوان المتكثرة، وفاضت عنها؛ وهذا هو ملخص نظرية الفيض المعروفة في تاريخ الفلسفة الأفلاطونية.
نلحظ أن الأفلاطونية فيها ثلاثة مبادئ أساسية، ونلحظ أن النصرانية قررت ثلاثة أقانيم متأثرة بهذا الجو الإسكندري المحض الذي كانت مدرسنه تحمل لواء الفلسفة الأفلاطونية.(214/1)
استنتجنا من هذا أن الإسلام لا يستطيع من البدء أن يضع رسالته تحت سيطرة سلطة زمنية لأن السلطة الزمنية؛ إما أن تحذف نفسها وإما أن تحذف الرسالة، ومعلوم أن الإسلام يقوم على أساس حذف كل سلطة لا تتواءم ولا تتناسب مع سلطة الإسلام؛ وهذا درس من الدروس المستفادة من النبوات السابقة التي نشأت في الزمن القديم تحت ظل سلطات زمنية؛ فتأثرت بها فدخلها التحريف والتغيير والتبديل. والفرق بين الإسلام الذي نشأ في جوه الحر المتحرر الذي أنشأ سلطته الخاصة مؤسسة على عقيدته الخاصة منبثقة عن هذه العقيدة وفق تصور مسبق وتصميم مرسوم هذا ما أردت أن أصحح به ما ربما وقع من التباس في الجمعة الماضية وموعدنا اليوم حديث غيره.(214/2)
نحن اليوم نريد أن نواجه القضية التي تشكل عندنا أهمية حاسمة ولماذا تشكل هذه الأهمية؟ تشكل هذه الأهمية لأن الجو العام في العالم كله خضع لانطباعات ومؤثرات هي -وفاقاً لموازين الإسلام ومقاييسه الاعتقادية والعملية- تحمل نذر خطر ساحق، ليس على الإسلام وحسب وإنما على البشرية ككل، القضية هي قضية العنف في الدعوة وعدم العنف في الدعوة أي السلوكين أجدى..! وأي السلوكين أقوم..! وأيهما أدعى إلى أن تصحح الأوضاع باتجاه الإسلام تصحيحاً مبرءاً من العقد والانتكاسات..! هذا الموضوع في الواقع كنت أثرته بصورة مبدئية في أوائل الصيف الماضي يوم كنا نخطب في الجامع الوسط، وأثرته في ظروف شاء الله أن تثار فيها. وكنت أرى أن العنف لا يجدي وأن العنف يخرب الشخصية الإنسانية وأن العنف يولد في المجتمعات ردود أفعال غير مأمونة العواقب ثم كان بعد أيام، فتلقيت من أخ كريم رسالة بعد الخطبة الأولى يتساءل فيها برفق وباحترام كيف يمكن لنا أن لا ندعو إلى العنف مع حاكم أو سلطة استنزفت دم الشعب وجلدت الأحرار وأراقت الدماء وضيقت على الحريات ووضعت الناس في سجن كبير، وأخذت الكتاب قرأته وطويته ووضعته في جيبي وقلت لصاحبه سأجيبك إن شاء الله وإلى تاريخه لم أجب الرجل على أسفٍ مني أحسه حتى الآن. شاء الله أن نبدأ موضوعاتنا الأخيرة وأن يكون للعنف والحديث عنه مكانه الخاص في هذه الأحاديث نحن اليوم نواجه؛ لكني أريد أن أقول للأمانة إنني أشعر بأن هذا الأخ وبقية الإخوة الذين يشعرون بهذه المشاعر ويحسون هذه الأحاسيس ويفكرون على هذا النحو؛ معهم بعض العذر.. لا كل العذر، ظواهر الأمور توحي بأن الذي يضغط ويكبت ويعتدي ويظلم إنسان عدو للشعب يجب أن لا يتفاهم معه الشعب إلا بكفة الحديد والنار والدماء والدموع لكني أريد أتساءل وأن تتساءلوا معي: أترى ظواهر الحياة الاجتماعية الإنسانية شيء ينزل من السماء أو ينجم من الأرض مبتوت الصلة بما قبله مبتوت الصلة بما حوله أم الظواهر الاجتماعية حصيلة تفاعلات طويلة وعديدة ومعقدة تربط بينها عوامل شديدة التعقيد لا شك أن الظاهرة الاجتماعية هي حصيلة عوامل تمتد في الزمان والمكان طولاً وعرضاً. وحين نأتي إلى الظاهرة كظاهرة لنبني آراءنا على أساسها فهذا موقف سليم في ظاهر الأمر، هروبي في التحليل الأخير وفي محصلة الحساب هروبي، لأنه يشكل نوعاً من الإسقاط، فنحن سمحنا بالتغاضي بالتهاون بالتخلي عن الواجبات بالكف عن الرقابة، بإسقاط واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أكتافنا سمحنا لبروز الظاهرات المَرَضيّة، والظاهرات المرضية كنقط المطر التي تنزل واحدة واحدة ولكنها من حيث المآل تشكل سيلاً عارماً يجرف كل ما أمامه، من المسؤول عن بروز الظاهرات الاجتماعية الشاذة سواء في الحياة الاجتماعية أو في الحياة السياسية أو في الحياة الاقتصادية؟ المسؤول ليس الحاكم الذي هو المحصلة النهائية لهذا العدد الذي لا يتناهى من الأسباب لا؛ هو طرف من جملة أطراف ولعله أن يكون الطرف الذي يستدعي الشفقة والرثاء أما الطرف الذي يستوجب المحاسبة ويستوجب التدقيق ويستوجب طول الوقوف في الأخذ والرد معها فجمهور الشعب الذي سمح باللامبالاة، بالتخفف من المسؤوليات، بالجبن بالانهزامية والهروب أن تبرز ظواهر سلبية وخطرة من هذا النوع أنا في الحقيقة كما قلت أعطي تساؤل الأخ وكل الذين يشاركونه الرأي والأحاسيس جانباً من المشروعية ولكني وفاقاً لما أخذت به نفسي من نهج علمي لا أستطيع أن أسقط من المسؤولية أطرافها التي تشترك فيها؛ المسؤولية واضحة وأطرافها قسم بارز على السطح يطفو، والقسم الآخر يضع رأسه تحت الماء لا يكاد يرى ولكنك لو غمست يدك قليلاً لعثرت على الرؤوس التي أفرزت هذه الظواهر المرضية. وبعد فالحديث عن هذه الظاهرة -وهي ظاهرة مزعجة- حديث يقتضي شيئين واسمحوا لي إذا قلت لكم إنني اليوم سأقدم لكم وجبة عسيرة الهضم لا تكادون تسمعون فيها آية من كتاب الله ولا حديثاً من أحاديث رسول الله ولا واقعة من وقائع السيرة وإنما هو المحاكمة؛ والمحاكمة العقلية الجافة فقط تقتضي منا أولاً أن نتعرف على التربة التي ولدت ظاهرة العنف تلك الظاهرة التي تطبع عصرنا الحديث بطابعها الظاهر البارز والشيء الثاني الذي تقتضيه شعور بأقصى درجة ممكنة من الأمانة في مواجهة الوقائع؛ منذ زمن وأنا أريد أن أقطع من التاريخ منظوراً خاصاً، طبعاً لا أتكلم عن القضية من وجهة نظر الإسلام، فذلك حديث يأتي في الجمعة القادمة وما يليها. إنما أريد أن أتتبع الظاهرة الموجودة اليوم منذ زمن بعيد، منذ أكثر من قرنين كان الناس يعيشون حالة لا عقلانية لا شعورية ثمة ملك أو أمير حوله حاشية من الإقطاعيين والفرسان وحولهم يدور عدد من المثقفين هؤلاء هم الذي يفكرون ويقررون ويقدرون وينفذون؛ وأما جماهير الناس السواد الأعظم الذي تنعكس عليه آثار هذه التصرفات والذي سيعاني من هذه النتائج معاناة حقيقية فهو غائب عن(214/3)
المنظور التاريخي تماماً؛ لم يبدأ في الواقع ترشيد الحياة الإنسانية وإخضاعها لنوع من العقلانية والتوجيه إلا مع ظهور الثورة الفرنسية عام 1789. في ذلك الوقت تبين أن بقاء الحياة تسير في مجراها مدفوعة بعوامل غير منظور إليها في ضوء العقل؛ شيء يوصل إلى مثل هذه الفورات التي لم يكن لها في الحسبان وجود والتي تحمل في طياتها نذراً وأخطاراً قد تلحق بالبشرية دماراً وتخريباً واسع النطاق هنا بدأ التفكير في ضرورة إخضاع الحياة الإنسانية لشيء من العقلانية تفادياً لماذا تفادياً للظاهرة البشعة التي رافقت ظهور الثورة الفرنسية مهما يكن تقدير المؤرخين والدارسين الاجتماعيين، ومهما يكن من تقدير الساسة لقيمة الثورة الفرنسية وأثرها في تطوير الفكر المعاصر، وأثرها في تعريف جماهير الشعوب إلى حقوقها المهضومة المسروقة المغتصبة؛ فلا بد لنا من أن نلقي نظرة عجلى على الحالة العجيبة التي رافقت الثورة الفرنسية. الثورة الفرنسية على صعيد الفكر؛ حصيلة عالم الأنوار الذي وجد في أواخر القرن السادس عشر وخلال القرن السابع عشر وجد مفكرون يتحدثون عن الطبيعة الإنسانية يتحدثون عن حقوق الإنسان يتحدثون عن الحرية يتحدثون عن الأنظمة الحاكمة الدستورية، يقرون حقوقاً معينة للشعوب يقرون واجبات معينة على الحاكمين؛ هذا الاختمار الفكري وَلَّدَ حالة من التهيب في فرنسا وفي أوروبا عموماً لتغيير الأوضاع. هنا نضع أيدينا على مفرق من المفارق التي تفرق بين الإسلام وبين غيره من كل الحركات الأرضية؛ الإسلام لا ينتظر الحادثة حتى تقع لكي يطب لها، إنما يخطط ويدقق وفقاً لمنهج علمي صارم -غاية في الصرامة- قلت قبل قليل وللمثل والتوضيح أن الظاهرة الاجتماعية ليست شيئاً مقطوع الصلة بما قبله وبما حوله وإنما هي شيء له ارتباطات واسعة في عمق المكان وفي عمق الزمان على حد سواء لكن هذه الظاهرات لها أسباب هذه الأسباب أيضاً هي كل شيء في الظاهرات نقول أيضاً لا فجملة الظاهرات التي لها أسبابها، نجد وراءها عللاً تربط بين هذه الأسباب، مجموعة هذه العلل ترتبط في حركتها بمنطق خاص هو الذي يوجه سير الظاهرة حينما نتعرف على المنطق نكون قادرين على إدخال التعديل المطلوب لإحداث التغيير في سير الظاهرة الاجتماعية، الإسلام يفكر بهذا الشكل، ولهذا لا يترك الأمور للمصادفات وإنما يقيسها ويخطط لها وفقاً لقواعده العامة الموحى بها من قبل الله تبارك وتعالى لكن الثورات الأرضية كانت تكون على غير هذا الشكل ولا عجب، فالثورات الأرضية حصيلة جهد إنساني محكوم بزمانه محكوم بمكانه ومحكوم بما هو أخطر بالحالة العقلية وبالحالة العاطفية والنفسية للإنسان المفكر لأن هؤلاء جميعاً تُلِّونُ تفكير الإنسان، وتجعله يسير باتجاه معين الثورة الفرنسية في الواقع كانت حصيلة اختمار ذهني وعقلي في المجتمع الغربي عموماً لكنها حين انفجرت أين ذهب الذين فكروا وأين ذهب الذي قدروا وأين ذهب الذي كتبوا أذكر لكم مثلاً الثورة بدأت عام 1789 واستمر الإرهاب واستمرت المجازر إلى عام 1794 خمس سنوات الكاتب المفكر الغربي الشهير (فوندورسيه) قدم مشروع دستور لتحكم بموجبه الدولة في فرنسا لكن هذا المشروع لم ير النور لسببين الأول أنه جاء متأخراً فبعد أن قضي على دانتون عميل الإرهاب وروبسبير خليفة دانتون وأصبحت البشائر واضحة بقرب دكتاتورية نابليون أصبح هذا الدستور بلا معنى، لأن السلطة ترسخت وهي التي ستعرف ما تريد وتخطط لهذا وتضعه؛ هذا واحد والشيء الثاني أن دستور (فوندورسيه) كان مجهوداً عقلياً لإنسان معتزل في صومعة، فكر بأن الحياة يمكن أن نضع لها خطوطاً مواصفاتها كذا كذا وكذا وانتهى كل شيء، غافلاً عن أن وقائع الحياة لها منطق غير منطق الفكر المجرد، وأن الحياة الاجتماعية المتحركة لها احتياجاتها التي لن يدركها الإنسان الذي لا يعايش الحياة الواقعة، ولا يحترق بلظاها ويتقلب على جمرها فالمفكرون كانوا غائبين، قام بالثورة الرعاع من الجهلة الأوباش الذين لا يملكون القدرة على التفكير، مع علمي بأن كارل ماركس يمجد هذه الكومونة، -التي تسمى كومونة باريس- ويعتبرها أول محاولة رشيدة في التفكير الإنساني تهدف إلى إلغاء الطبقية وإزالة الظلم من عالم الحياة -لكن هذا خطأ- فالحقيقة أن الذين عاصروا الثورة الفرنسية، وأن السلطة التي قطعت رأس الملك وقطعت رأس الملكة، وألغت النظام الملكي، وأقامت الجمهورية وقضت على الجيرونديين وقضت على اليعاقبة أيضاً، ونكلت بخصومها جميعاً. هذه الثورة أقامت المجلس الوطني الفرنسي الذي وصفه المفكر الفرنسي دومورير بأنه مكون من ثلاثمائة وغد، وأربعمئة معتوه، هذا هو قوام المجلس الوطني الذي أقام عهد الإرهاب الدموي والذي أصبحت فيه الرؤوس تتساقط حتى أصبحت التسمية لهؤلاء الناس في الأدبيات السائدة إبان الثورة الفرنسية أصبحت التسمية اللطيفة أن هؤلاء الذين يعدمون على المقصلة كانوا يسمون العاطسين في الزكائب؛(214/4)
تعرفون ما معنى العاطسين في الزكائب؟ الزكيبة حقيبة من جلد توضع في أسفل المقصلة حتى إذا نزلت السكين على الرأس ففصلته عن الجسد سقط الرأس في الحقيبة، والرأس حين يسقط أثناء القطع يتحرك الفم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. فمن باب النكتة سماهم الفرنسيون؛ العاطسين في الزكائب. لو تتبعنا هذه السلسلة المخيفة من العاطسين في الزكائب أثناء الثورة الفرنسية لوقفت شعور رؤوسنا لفظاعة الإرهاب ولفداحة العنف الذي أصبح يسود المجتمع الفرنسي. هذا الإرهاب لم يكن له نظير في كل التاريخ الحديث إلا في الثورة الروسية التي قامت عام 1917 وولدت النظام الشيوعي.(214/5)
في الواقع أيضاً قامت هذه الثورة على أكتاف الرعاع؛ وإن كان لينين وتروتسكي وزينوفيه وكثير آخرون من المفكرين من رواد الثورة، ولكن الأداة المنفذة كانت من الرعاع ومنذ نشبت الثورة وإلى أن استتبت خسرت روسيا سبعة ملايين نسمة قتلوا في أثناء هذه الثورة، هذا شيء يجب أن يعرف عن أرضية العنف عن التربة التي نشأ فيها العنف، نفحص الآن العنف من الذي يقوم به وفقاً للإحصاءات فإن الثورة الفرنسية قام بها نفر قليل والذين صوتوا في فرنسا على الجمعية الوطنية يشكلون ستة بالمئة من مجموع سكان فرنسا اذهب إلى الثورة الروسية فسوف تجد أن الثورة الروسية حينما قامت كان قوام الحزب الشيوعي مئتي ألف مواطن من أصل مئتي مليون أي أن الذي قام بالثورة الروسية نسبته إلى مجموع الأمة نسبة واحد إلى ألف. فالحديث عن الثورات الشعبية من قبل حركات من هذا اللون حديث تكذبه الوقائع الراهنة بل يدل على أن عصبة منظمة استطاعت أن تهتبل فرصة مناسبة فتثبت على الحكم وبضربة خاطفة وعنيفة نكلت بخصومها فأوقعتهم في شلل حرمهم التفكير في المقاومة واستتبوا على هذه الأرضية التي ترون.. هذا واحد.. السمة الثانية وهي سمة مهمة كما يجب أن لا تغيب عن الأذهان للتربة التي ينشأ فيها العنف. أن العنف الذي رافق الثورة الفرنسية وَلَّدَ شرهاً وطمعاً كما أن العنف الذي رافق الثورة الروسية ولد شرها وطمعاً ففرنسا بعد ثورتها شكلت إمبراطورية جاست خلال الديار في أوربا وكان نابليون يركل التيجان بين قديمه وكان يثلّ العروش حيثما حل وكان يغزو مصر وحاول أن يغزو سوريا لولا أنه وقف عند أبواب عكا. فالأمة التي تمارس العنف لا بد لها من أن تتوسع في العنف لأن العنف طريق أوله صغير ونهايته بغير نهاية ودائماً قانونه الذي يحكمه أن أوله يطلب آخره باستمرار العنف بداية لا نهاية لها تعود الشعب الفرنسي على استعمال أساليب العنف وقضى على كل خصومه في الداخل فالتفت إلى الأمم المجاورة يمارس عليها أساليب العنف ويقيم عليها هذه القواعد العنيفة. فحطم العروش وأزال الممالك وفتح البلدان كذلك الشأن بالنسبة للثورة الروسية نجحت الثورة الروسية عام 1917 بعد أن أكلت من بنيها سبعة ملايين نسمع ومضت المدة الواقعة بين عام 1917 وعام 1924 وهي حياة لينين في تدعيم الأمر في الداخل، ورد خطر التحالف الأوربي الذي حاول أن يدمر الثورة الروسية وجاء ستالين إلى الحكم من بعد لينين، فلم يجد أثناء الصراعات الداخلية العنيفة فرصة تسمح له بتوجيه قوى الثورة خارج نطاق البلاد الروسية ثم قامت الحرب العالمية الثانية وانتهت الحرب العالمية الثانية، ومن عجيب المصادفات أو من التدبير المحكم؛ أن أركان الحلفاء أمريكا إنكلترا الاتحاد السوفياتي كل الأركان خرجوا من الحرب كما دخلوها بغير إضافة في الأرض، بغير مرابح على الأرض، إلا روسيا فالواقع أن أمريكا لم تحتل أرض الغير في الحرب العالمية الثانية، وكذلك فرنسا كذلك إنكلترا؛ بل نقول إن دول الحلفاء الثلاثة هذه، خسرت بعد الحرب العالمية الثانية ممتلكاتها خارج حدودها ما عدا روسيا فالواقع أن روسيا هي الدولة الوحيدة التي وجهت جيشها الأحمر بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة لكي يحتل أقساماً من أوروبا الشرقية يُكَّوِنُ سكانُها ما لا يقل عن ستين مليوناً من البشر؛ على أية ذريعة على ذريعة تأمين سلامة الثورة وعلى ذريعة الحفاظ على مكاسب الثورة -هذا شيء ثانٍ- شيء ثالث ونحن نفحص الثورات نجد أن الثورات عموماً كالهرة تأكل أبناءها؛ فالذي يقوم بالثورة اليوم يمارس العنف على خصومه ولكن يجب أن لا يغيب عن البال أن كل فعل يتطلب رد فعل يوازيه ويكافئه وهذا القانون صادق في الإنسانيات كما هو صادق في الطبيعة فحين يمارس المنتصر العنف على خصومه ينتظر بالمقابل رداً لهذا الفعل موازياً لمقدار العنف الذي مارسه على الخصوم ومن هنا كان قانون الثورات الذي يحكمها باستمرار التصفيات المستمرة أعطوني ثورة واحدة قامت في الدنيا وبقي القائمون بها يحكمونها حتى النهاية.. لا يوجد.. بحجة التصفيات والتخلف عن متطلبات العصر وعدم التجاوب مع رغبات الشعب و. و.و. إلى آخر هذه الذرائع يأتي المنتصرون ليأكل بعضهم بعضاً. وأقول إن الذين قاموا بالثورة الفرنسية لم يبق منهم في -عهد حكومة الديركتوا- ولا أي مخلوق.(214/6)
وأن الذين قاموا بالثورة الروسية والذين شكلوا المكتب الأعلى للجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي لم يأت عام 1936 إلا كان جميع أعضاء هذا المكتب -ما عدا ستالين- إما مقتولاً وإما منفياً إلى مجاهل سيبريا يتجمد في البرد والثلج، هذا القانون تلحظونه الآن في دول العالم الثالث لا يتخلف ولا يمكن أن يتخلف؛ من المسؤول عنه المسؤول عنه هو العنف لأن العنف دائماً يتطلب آثاره؛ وآثاره هي هذه لا غير، هذه هي التربة. لكن هذه التربة أو بالأحرى لكن تقديرنا لهذه التربة يبقى ناقصاً إذا نحن أغضينا النظر عن عدد من الأمور، مع الحرب العالمية الأولى -خضوعاً لضرورات الحرب- أصبح تدخل الدولة في الشؤون العامة شيئاً ضرورياً لتامين المرافق، تأمين السوقية، تأمين التموين، تأمين إلى آخره؛ ضرورة الحرب تقتضي وجود نوع من إشراف الدولة على جمهور شعبها، ولكن هذا الإشراف كان في الحرب العالمية الأولى ليس بارزاً إلى الحد الذي نراه؛ أما مع الحرب العالمية الثانية فقد اختلف الأمر أصبح تدخل العنف أي تدخل جهاز الدولة الذي يمثل قمة العنف السمة التي تطبع العصر بكامله سواء كان الذين كانوا يمارسونه دولاً رأسمالية أو دولاً اشتراكية لماذا هنا يجب نتبصر – يا إخوتي ويا أحبائي، أنتم في معظمكم شباب تحملون على أكتافكم مسؤولية هائلة عظيمة، نحن في الواقع بدأنا نسلم الأمانة دخلنا الكهولة وجاء الزمن الذي يتطلب منا أن نسلم الأمانة لكم أريد أن أقول لكم كلمة؛ الوقوف عند ظواهر الأمور شيء خطر ومضيعة للوقت في غير طائل ومشي في الظلام، اعرفوا كل شيء وفكروا في كل شيء وقبل أي شيء؛ اعرفوا في أي عصر تعيشون واعرفوا المواصفات الحقيقية للعصر الذي تعيشون فيه، و اعرفوا الإمكانات التي يمكن أن يقدمها هذا العصر سلباً أو إيجاباً قلت إنه مع الحرب العالمية الثانية أصبح تدخل الدولة أي جهاز العنف السمة التي تطبع العصر برمته فما قدمت لنا الحرب العالمية الثانية أبرزت إلى الساحة ثلاثة شياطين، الإدارة الحكومية، والعلم، والتكنولوجيا.
الإدارة الحكومية أصبحت تتدخل في الصغيرة والكبيرة، وتعطي نفسها حق الإشراف والتوجيه والتقرير والتنفيذ أي حق قولبة المجتمع البشري بل قولبة العقل البشري وصياغته على النحو الذي تريد، والتكنولوجيا سهلت على الإنسان ما كان يبذله من جهد يشعره بشخصيته ووضعت في يد الدولة. كل مقادير هذه الشخصية؛ ماذا كان من نتائج هذا؟ كان من نتائج هذا أن تضخم جهاز العنف وأن تضخم موضوع تدخل الدولة في شؤون الأفراد وأن تضخم الوضع الأبوي الذي تأخذه الدولة وأن تجسم هذا الدور حتى أصبحت الأجهزة الحاكمة في أي مكان من الأماكن تشعر بأنها وصية على الناس وبأنه لا يجوز للمواطنين أن يروا رأياً يخالف ما يراه الزعيم، ولا ينبغي لنا أن نسقط من حسابنا أن ثمة ظاهرة معروفة في التاريخ السياسي وهي أن الأجهزة الحاكمة دائماً حتى أفضلها وأمتنها تصاب بما يسمى بالتسمم بالحكم لمجرد أن تصل إلى الحكم تصاب بهذا التسمم، فترى أن الجهاز الذي تهيمن عليه أفضل جهاز، وأن أي إصلاح لا يمكن أن يتأتى إلا من هذا الجهاز.(214/7)
ومن هنا كان دورها العنيف ودورها الخطر ودورها المخرب، هل استطاع المردة الثلاثة الأبالسة الثلاثة أن يضيئوا أمامنا الطريق لنرى هل تراجع العنف في الحياة الإنسانية أم تقدم؟ نرجع إلى الأرقام في التاسع من أيار عام 1945 شنت على مدينة طوكيو عاصمة اليابان غارة جوية دامت ست ساعات، كانت الغارة مكونة من 286 طائرة قاذفة ألقت على مدينة طوكيو 1670 طن من القنابل الحارقة فأحرقت 40 كيلو متر مربع من المدينة وتكشف الموقف عن قتل 84 ألف نسمة من أصل 67000 ألف نسمة هم قوام سكان مدينة طوكيو، 286 طائرة ألف وست مئة وسبعين طن من القنابل المتفجرة، في السادس من آب ألقت طائرة قاذفة واحدة على هيروشيما من ارتفاع 400 متر قنبلة واحدة بحجم البيضة أحرقت 11 كيلو متر مربع بواسطة النار والريح الحارقة من المدينة. وأسفرت هذه القنبلة عن قتل 160 ألف نسمة من أصل 240 ألف نسمة أين أصبحت النسب طارت مع الريح، الحروب الكلاسيكية أصبحت لعبة أطفال وأصبح العلم والتكنولوجيا والإدارة الحكومية يشكلان خطراً يهدد المجتمع البشري كله بالدمار والفناء فإذا أضفنا إلى هذا أنه بحلول عام 1957 وهو تاريخ قريب بالنسبة إلينا زادت القوة التدميرية باكتشاف القنابل الهيدروجينية عشر مرات نكتشف أن الخطر تجسم وأن العنف بلغ مراحل تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور، فإذا نظرنا أيضاً إلى أن العلم يقول لنا اليوم: إن الكيلو غرام الواحد من مادة اليورانيوم المشعة التي تستخدم في التفجيرات النووية تحوي ست مئة ألف كيلو قوة طاقية للانفجار، وعرفنا أن الذي أمكن استخلاصه من القوة التدميرية والتفجيرية هو واحد إلى ألف أدركنا أن القوة الرهيبة المتحصلة اليوم التي رفعت الأقمار الصناعية إلى القمر وإلى المريخ وإلى كوكب الزهرة تساوي واحد من ستين من القوة التي يمكن للعلم أن يستخلصها من المواد المشعة؛ إذا عرفنا هذا يقف شعر رأس الإنسان، أية طريق تسير فيها هذه البشرية من هنا نجد أن العملاقين الكبيرين اللذين هما روسيا وأمريكا اتفقا على أن لا يكون بينهما صدام نووي لأن الصدام النووي، يشكل دماراً كاملاً للبشرية وذلك ذروة العنف وهو النتيجة الطبيعية لغياب المراقبة الشعبية من الساحة لكنهما اتفقا على ماذا على السماح بالحروب الموضعية سأضرب لكم من الحروب الموضعية مثلين لتروا أنه حتى مع استعمال الأساليب الكلاسيكية التقليدية بأن الحروب الموضعية تشكل تهديداً خطيراً بما تملكه من آلة عنيفة جبارة في حرب كوريا التي استمرت ثلاث سنوات ثم ختمت بالهدنة استخدم ما يقرب من خمسة ملايين رجل في الحرب ومات في هذه الحرب مليون ومئتا ألف رجل ودمر أربعون بالمئة من القوة الزراعية في البلاد ودمرت سبعون بالمئة من الثورة الصناعية في البلاد في الجزائر وهي حرب موضعية قتل مليون قتيل في الجزائر باستخدام فرنسا لقوات حلف الأطلسي التقليدية الكلاسيكية سياسة الأرض المحروقة، تسمعونها أكثر من سبعين بالمئة من الأراضي القابلة للزراعة جرى إحراقها من قبل القوات الاستعمارية الغازية فأي دمار وأية قابلية للدمار تحملها هذه التطورات الرهيبة؛ نسأل أنفسنا هل تراجع العنف؟ لا.. نسأل أنفسنا أيضاً: ما مصير هذا البؤس والشقاء؟ سأذكر لكم يا أحباب عام 1945 وصلت ألمانيا إلى القاع حتى إن وزيراً من كبار الوزراء الحلفاء قال بكل مرارة وألم إنه وخلال قرون طويلة لم يسبق أن عانى شعب أوروبي هذه الحالة من الدمار والضياع والبؤس والشقاء شاعت على ألسنة الألمان مقطوعة شعرية يغنونها في الطرقات بعد أن فقدت ألمانيا عشرين بالمئة من سكانها وبعد أن دمرت فيها ثلاث مئة ألف مسكن، وبعد أن فقدت تسعين بالمئة من الرأسمال غير المنقول الذي تملكه كان الرجل منهم يمشي ويغني ويدندن بمقطوعة يقول: سقط الرجل في قبر جندي وسقطت المرأة في سرير زنجي، الرجل سقط في سبيل الوطن والمرأة سقطت في سبيل سيجارة، عرض المرأة كان يباع ويشترى بسيجارة أمريكية هذا الشقاء الرهيب من المسئول عنه يا إخوة، هل المسئول عنه الأبالسة الذين يسيطرون على العالم اليوم؟ أم المسئول عنه جماهير الشعب. الأبالسة باستمرار يحضرون طائراتهم التي تنقلهم وما سرقوا من أموال الأمة خارج مناطق الخطر -عند اللزوم- والشقاء والبلاء ينزل على الأمم، هل لم يكن في الإمكان أن نتصور طريقة أخرى لحل المشاكل نتفادى بها كل هذه المآسي نقول نعم وفرق المسألة كله أن الإسلام يرى أن حل المشاكل بإماتة نوازع العنف في ذات الإنسان الفرد، بينما لا يصحو الناس على العنف إلا بعد أن يستشري وبعد أن يصبح شيئاً لا سبيل إلى علاجه بحال من الأحوال.(214/8)
نحن في الإسلام بدايتنا معروفة نبدأ النضال على مستويين، المستوى الأول: في داخل الضمير الإنساني حتى نذلل هذا الضمير ويكون قادراً على رفض العنف كوسيلة لحل المشكلات وهذا الميدان الإنساني الفردي له الأولوية المطلقة على كل نضال والنضال الآخر مع الظاهرات الاجتماعية لا مع الناس مع الظاهرات الاجتماعية كيلا ينصب حقدنا وكيلا تنصب نقمتنا على الإنسان من حيث هو إنسان بل على الظاهرة التي تطبع هذا الإنسان بطابع معين نحن نعطي الأولوية المطلقة للنضال الأول لماذا لكي ندفع إلى الوراء وبعيداً جداً سائر النزعات الشريرة التي تجعل الإنسان المسلم قابلاً لأن يستجيب للعنف ولكي نحمي الإنسان المسلم من أن يتلوث بشرور المجتمع الذي يعيش فيه ثم نعطي المستوى التالي الأهمية الأخرى وهو النضال ضد الظاهرات مع كل الذين يشاركوننا في آرائنا مع تقدير كامل لقيمة الحياة الإنسانية وقيمة النفس البشرية. أظن أنني إلى الآن استطعت أن أرسم صورة مقاربة إلى حد ما للأرضية التي نشأ عليها العنف والأخطار التي تهدد البشرية نتيجة الأخذ بأسباب العنف وأظن أنه آن لنا بعد أن انفتح الباب كله أن ندخل رحاب الإسلام لنرى أية إنسانية وأية رحمة وأية شفقة وأي شعور عظيم للمسئولية الضخمة عن المصير البشري كله يحسه الإنسان المسلم، فإلى الأسبوع القادم أرجو أن أقف معكم في رحاب الإسلام وأرجو في الختام أن تتحملوا مثل هذه الوجبات العسيرة الهضم بقي لي معكم حديثان وبعدها سأخلد إلى الراحة وأترككم للتفكير في كل هذا الذي قلناه، وهو تفكير سوف يشقي كثيرين جداً لأنه تفكير إن أراده الإنسان بأمانة فسوف يؤرق ليله وسوف يشغل نهاره ونسأل الله تبارك وتعالى أن تكون أيامنا وليالينا خالصة لوجهه الكريم في خدمة دينه العظيم ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.(214/9)
أركان الإيمان مقدمة
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، قبل التحدث عن أركان الإيمان نقدم ما يلي:
1-الفرق بين الإسلام والإيمان:
في الإسلام والإيمان يجتمع الدين كله، فإذا ذكرا جميعاً فسر الإسلام بالأمور الظاهرة من الأعمال، وفسر الإيمان بالأمور الباطنة من الاعتقاد كما في قوله تعالى: (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) [الحجرات: 14].
وفي حديث جبريل عليه السلام كما عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: بينما نحن عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه. وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )) قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فاخبرني عن الإيمان قال: (( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) قال: فأخبرني عن الساعة: قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) قال: فأخبرني عن أماراتها قال: ((أن تلد الأمة ربتها وان ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان)) قال: ثم انطلق فلبثت ملياً ثم قال لي: ((يا عمر! أتدري من السائل)) قلت: الله ورسوله اعلم، قال: ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) [صحيح الإمام مسلم].
وإذا افترقا، فسر أحدهما بما يفسر به الآخر كما في قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) [آل عمران:19]، فجعل الإسلام هو الدين بشرائعه الظاهرة والباطنة، وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان لوفد عبدالقيس بما فسر به الإسلام في حديث جبريل عليه السلام كما أخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله وحده، ثم قال: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله اعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان ..... الحديث)) وكما في حديث شعب الإيمان وقوله: ((أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق )) مع ما بينهما من أعمال ظاهرة وباطنة. وينبغي التنبه إلى أن الأعمال الظاهرة لا تسمى إسلاماً إلا بوجود أصل التصديق والإيمان، أما مع عدم وجود أصل الإيمان الذي يصحح، به أعماله فيكون منافقاً.
وهما واجبان فلا ينال أحدٌ رضوان الله – تعالى – ولا ينجو من عقابه إلا بالانقياد الظاهر مع يقين القلب فلا يصح التفريق بينهما.
ولا يستكمل الإنسان الإيمان والإسلام الواجبين عليه إلا بامتثال الأوامر والابتعاد عن النواهي كما يلزم من الكمال بلوغ الغاية لاختلاف الدرجات في زيادة الأعمال من النوافل وزيادة التصديق. والله اعلم.
2-تعريف الإيمان:
ومعنى الإيمان في اللغة: التصديق المستلزم للقبول، والإذعان.
وشرعا: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
دخول الأعمال في مسمى الإيمان:
الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف.
قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) [البقرة : 143]، أي صلاتكم وانتم متجهون لبيت المقدس قبل أن تؤمروا بالتوجه إلى الكعبة.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان))[ صحيح الإمام مسلم].
وحكى الإمام الشافعي – رحمه الله – إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم على ذلك.
3-زيادة الإيمان ونقصانه:
الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويدل على ذلك أدلة كثيرة منها:
1)قول الله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً) [المدّثر : 31].
2)قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2 ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( 3 ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 4 ) [الأنفال](215/1)
3)ما روى مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
ففي هذا الحديث بيان مراتب تغيير المنكر وكونها من الإيمان، وأن أدنى مرتبة من مراتب التغيير مرتبة تغيير المنكر بالقلب وهي اضعف الإيمان؛ فما سبقها من المراتب أقوى إيماناً، والله أعلم.
4)وحديث الشعب الذي سبق ففيه أن الإيمان شعب متعددة ومتفاوتة في الفضل، فمنها ما يزول الإيمان بزوالها إجماعاً كالشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعاً كترك إماطة الأذى عن الطريق. وبحسب أنواع هذه الشعب وكثرة ما يتحلى به المؤمن منها وقوة تمثله بها يكون زيادة إيمانه، وبنقص ذلك يكون نقصه. وهذا وجه الاستشهاد من الحديث.
- وإذا ثبت زيادة الإيمان ونقصه فإن أهل الإيمان يتفاضلون، فمنهم كامل الإيمان، ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم من هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته (ناقص الإيمان لأجل معصيته).
أما من أخرج الأعمال عن مسمى الإيمان فإنه يعتقد أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأن الناس متساوون في إيمانهم، فإيمان أفسق الناس كإيمان الصحابة رضي الله عنهم وهذا من أبطل الباطل لمخالفة الكتاب والسنة والعقل الصحيح. وفيه دليل على بطلان إخراج الأعمال من مسمى الإيمان لأنه يترتب على ذلك هذه اللوازم الباطلة.
وأما الإيمان بالله تعالى فإنه يعني: الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق المدبر للكون كله وأنه هو المستحق العبادة وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه باطل، وعبادته باطلة وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال منزه عن كل عيب ونقص.
4-أثر المعصية على الإيمان:
المعصية: هي خلاف الطاعة سواء كان تركاً لأمر، أو ارتكاباً لنهي.
والإيمان كما سبق معرفة ذلك، بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. فليست شعبه على حد سواء عظماً وقدراً، وعلى هذا تختلف المعصية التي هي الخروج عن الطاعة.
فقد تكون ناقضة للإيمان كما أخبر الله تعالى عن فرعون بقوله: {فَكَذَّبَ وَعَصَى }[النازعات21].
وقد تكون فيما دون ذلك فلا يحصل بها خروج من الإيمان ولكنها تقدح في ذلك بالنقص والتشويه، فمن أتى الكبائر كالزنا والسرقة وشرب الخمر ونحو ذلك غير معتقد حلها ذهب ما في قلبه من الخشية والخشوع والنور، وإن بقي أصل التصديق في قلبه فإن أناب إلى الله – تعالى – وعمل الصالحات رجع إلى قلبه نوره وخشيته، وإن تمادى في المعاصي زاد الرين على قلبه إلى أن يختم عليه – والعياذ بالله – فيصبح لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
روى الإمام أحمد – رحمه الله – وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ذاك الرين الذي ذكر الله – عز وجل – في القرآن: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين14].))
5-نواقض الإيمان والإسلام:
يُقصد بنو اقض الإيمان ما يذهبه بعد الدخول فيه:
ومنها:
1-إنكار الربوبية أو شيء من خصائصها ، أو دعاء شيء منها أو تصديق المدعي لذلك يقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ }[الجاثية24].
2-الاستنكاف، والاستكبار عن عبادة الله – تعالى – قال الله تعالى: { لن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً{172} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً{173}[النساء].
3-الشرك في عبادة الله، بأن يصرف شيئاً من العبادة لغير الله، أو يتخذ وسائط وشفعاء يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم. يقول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }[يونس18].(215/2)
ويقول الله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ }[الرعد14].
4-جحد شيء مما أثبته الله – تعالى لنفسه – أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك من يجعل لمخلوق شيئاً من الصفات الخاصة بالله كعلم الغيب وأيضاً إثبات شيء نفاه الله – تعالى – عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله – تعالى - : مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم:( فلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( 1 ) اللَّهُ الصَّمَدُ ( 2 ) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ( 3 ) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( 4 )[الإخلاص].
ويقول تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأعراف : 180].
ويقول الله – تعالى: (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ له سَمِيّاً)[مريم : 65].
5-تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء مما جاء به يقول تعالى:(و َإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ( 25 ) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِير(26)[فاطر].
6-اعتقاد عدم كمال هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أو جحود شيء من ما أنزل الله من الحكم الشرعي عليه، أو اعتقاد أن حكم غيره أحسن منه أو أتم أو اشمل لحاجة البشر، أو اعتقاد مساواة حكم غير الله – تعالى ورسوله، أو اعتقاد جواز الحكم بغير ما أنزل الله – تعالى – وإن اعتقد أن حكم الله أفضل يقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً) [النساء : 60].
ويقول الله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) [النساء : 65].
ويقول الله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44].
7-عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، لأن هذا شك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [إبراهيم: 9].
8-الاستهزاء بالله تعالى، أو بالقرآن الكريم، أو بالدين، أو بالثواب والعقاب أو نحو ذلك، أو الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بأحد من الأنبياء، سواء أكان ذلك مزحاً أم جداً، يقول تعالى:(وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ( 65 ) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ( 66 )[التوبة].
9-مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، يقول الله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة: 51].
10-اعتقاد أنه يسع أحد الخروج عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم ولا يجب عليه اتباعه، يقول تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران : 85].
11-الإعراض الكلي عن دين الله – تعالى – أو عما لا يصح الإسلام إلا به لا يتعلمه ولا يعمل به، يقول الله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) [السجدة : 22].
12-من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو عمل به، قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 9].
13-فعل السحر – ومنه الصرف والعطف – أو الرضى به ، والدليل قول الله تعالى: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ) [البقرة : 102].(215/3)
هذه من أبرز النواقض، وهناك نواقض كثيرة ترجع في جملتها إلى بعض ما ذكر من ذلك جحود القرآن أو شيء منه، أو الشك في إعجازه، أو امتهان المصحف أو جزء منه، أو تحليل شيء مجمع على تحريمه كالزنا وشرب الخمر، أو الطعن في الدين أو سبه أو ترك الصلاة. نعوذ بالله من الضلال. والله أعلم.
أركان الإيمان وشعبه
أركان الإيمان:
الأركان: جمع ركن، وركن الشيء جانبه الأقوى.
وأركان الإيمان ستة هي:
1- الإيمان بالله تعالى
2- الإيمان بالملائكة
3- الإيمان بالكتب
4- الإيمان بالرسل
5- الإيمان باليوم الآخر
6- الإيمان بالقدر خيره وشره
والدليل على هذا جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) [صحيح الإمام مسلم].
شعب الإيمان
الشعب: جمع شعبة، والشعبة الخصلة والجزء. وشعب الإيمان خصاله المتعددة، وهي كثيرة، فقد جاء في الحديث أنها بضع وسبعون شعبة.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق))[صحيح الإمام مسلم].
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أفضل هذه الخصال التوحيد المتعين على كل أحد، والذي لا يصح شيء من الشعب إلا بعد صحته، وأدناه إزالة ما يتوقع ضرره بالمسلمين، من إماطة الأذى عن طريقهم، وبين هذين الطرفين أعداد من الشعب. كحب الرسول صلى الله عليه وسلم وحب المرء لأخيه كما يحب لنفسه، والجهاد وغير ذلك كثير، ولم يرد التصريح بخصال الإيمان كلها. فاجتهد العلماء في عدها كما فعل البيهقي في الجامع لشعب الإيمان وغيره.
وشعب الإيمان المتعددة بعضها دعائم وأصول يزول الإيمان بزوالها مثل إنكار الإيمان باليوم الآخر، قال الله تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [التغابن : 7].
وبعضها فروع قد لا يزول الإيمان بزوالها، وإن كان يوجب تركها نقصاً في الإيمان أو فسقاً، مثل: عدم إكرام الجار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ))[رواه البخاري]. وقد يجتمع في الإنسان شعب إيمان، وشعب نفاق، فيستحق بشعب النفاق العذاب ولا يخلد في النار لما في قلبه من الإيمان. والله أعلم(215/4)
أركان الإيمان
أركان الإيمان:
أركان الإيمان هي: الإيمان بالله و ملائكته وكتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر خيره و شره, و لا يتم إيمان أحد إلا إذا آمن بها جميعا على الوجه الذي دل عليه كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم. و أما من جحد شيئا منها فقد خرج عن دائرة الإيمان و صار من الكافرين. و قد جاء ذكر هذه الأركان في الكتاب و السنة, و نذكر من ذلك الأمثلة التالية:
قوله عز و جل: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله, لا نفرق بين أحد من رسله, و قالوا سمعنا و أطعنا, غفرانك ربنا و إليك المصير" (البقرة, الآية 285).
و قوله صلى الله عليه و سلم عندما سئل عن الإيمان: "أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر, و تؤمن بالقدر خيره و شره" (رواه الإمام مسلم في صحيحه).
الإيمان بالله عز و جل:
يتضمن الإيمان بالله عز و جل توحيده في ربوبيته, و في ألوهيته, و في أسمائه و صفاته. و فيما يلي تلخيص لكل من أنواع التوحيد هذه:
1) توحيد الربوبية: معنى توحيد الربويية هو الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء و لا رب غيره. و الرب في اللغة هو المالك المدبر, و على هذا فإن ربوبية الله على جميع مخلوقاته تعني تفرده سبحانه و تعالى في خلقهم و ملكهم و تدبير أمورهم. فإن توحيد الربوبية معناه الإقرار بأن الله عز و جل هو الفاعل المطلق في الكون, لا يشاركه أحد في فعله سبحانه و تعالى. و على هذا فإن الله سبحانه و تعالى, خالق السماوات والأرض و ما فيهن, هو الوحيد المستحق للعبادة, و هو وحده الجدير بصفات الجلال و الكمال لأن هذه الصفات لا تكون إلا لرب العالمين.
و أما الذين يقرون بأن الله رب كل شيء, و لا يوحدونه في ألوهيته فيشركون معه غيره في العبادة, و لا يوحدونه في أسمائه و صفاته, فيعطلونها أو يشبهونها بصفات المخلوق أو يؤولونها تأويلات فاسدة لا وجه لها, فإن توحيد الربوبية لا ينفعهم. فإن المشركين كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء, و لكنهم ظلوا مشركين مع إقرارهم هذا, و عبدوا غيره سبحانه. و ذكر هذا المعنى في القرآن الكريم في قوله تعالى: "قل من يرزقكم من السماء و الأرض, أمن يملك السمع و الأبصار و من يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي و من يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون" (يونس, الآية 31). فإن أكثر العباد لا ينكرون الخالق و ربوبيته على الخلق, و لكن معظم كفرهم من عبادتهم غير الله عز و جل.
2) توحيد الألوهية: معنى توحيد الألوهية هو الاعتقاد الجازم بأن الله سبحانه و تعالى هو الإله الحق, و لا إله غيره, و إفراده سبحانه بالعبادة. و الإله هو المألوه, أي المعبود, و العبادة في اللغة هي الانقياد و التذلل و الخضوع. فلا يتحقق توحيد الألوهية إلا بإخلاص العبادة لله وحده في باطنها و ظاهرها, بحيث لا يكون شيء منها لغير الله سبحانه. و يقول ابن تيمية في توحيد الألوهية: "و هذا التوحيد هو الفارق بين الموحدين و المشركين, و عليه يقع الجزاء و الثواب في الأولى و الآخرة, فمن لم يأت به كان من المشركين" (رسالة الحسنة و السيئة لابن تيمية). و بهذا فإن توحيد الألوهية يستلزم أن نتوجه إلى الله وحده بجميع أنواع العبادة و أشكالها, و منها الأمور التالية:
1) إخلاص المحبة لله عز و جل, فلا يتخذ العبد من درن الله ندا يحبه كما يحب الله عز و جل.
2) إفراد الله عز و جل في الدعاء و التوكل و الرجاء فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه و تعالى.
3) إفراد الله عز و جل بالخوف منه, فلا يعتقد المؤمن أن بعض المخلوقات تضره بمشيئتها و قدرتها فيخاف منها فإن ذلك شرك بالله.
4) إفراد الله سبحانه بجميع أنواع العبادات البدنية مثل الصلاة و السجود و الصوم, و جميع العبادات القولية مثل النذر و الاستغفار.
3) توحيد الأسماء و الصفات: معنى توحيد الأسماء و الصفات هو الاعتقاد الجازم بأن الله عز و جل متصف بجميع صفات الكمال, و منزه عن جميع صفات النقص, و أنه متفرد عن جميع الكائنات. و يكون هذا بإثبات ما أثبته الله سبحانه لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه و سلم من الأسماء و الصفات الواردة في الكتاب و السنة من غير تحريف ألفاظها أو معانيها, و لا تعطيلها بنفيها أو نفي بعضها عن الله عز و جل, و لا تكييفها بتحديد كنهها و إثبات كيفية معينة لها, و لا تشبيهها بصفات المخلوقين. فيجب على المسلم أن لا يقع في التشبيه, أو التحريف و التغيير و التبديل, أو التعطيل, أو التكييف.
الإيمان بالملائكة:(216/1)
الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان. و المقصود من الإيمان بالملائكة هو الاعتقاد الجازم بأن لله ملائكة موجودين مخلوقين من نور, و أنهم لا يعصون الله ما أمرهم, و أنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله القيام بها. فلا يصح الإيمان إلا بالإيمان بوجود الملائكة و بما ورد في حقهم من صفات و أعمال في كتاب الله سبحانه و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم من غير زيادة و لا نقصان و لا تحريف.
قال الله تعالى: "و من يكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا" (النساء, الآية 136). و بهذا فإن وجود الملائكة ثابت بالدليل القطعي, فقد ورد ذكرها في الكثير من الآيات في القرآن الكريم, و لذلك فإن إنكار وجود الملائكة كفر بإجماع المسلمين و بنص القرآن الكريم كما جاء في الآية المذكورة سابقا.
و لقد عرفنا الله سبحانه و تعالى بالملائكة, و أوصافهم, و أعمالهم, و أحوالهم, بالقدر الذي ينفعنا في تطهير عقيدتنا و تصحيح أعمالنا. و أما حقيقة الملائكة, و كيف خلقهم و تفصيلات أحوالهم فقد استأثر الله سبحانه بهذا العلم. و المؤمن الصادق يقر بكل ما أخبر به الله سبحانه و تعالى, لا يزيد على ذلك و لا ينقص منه, و لا يتكلف البحث فيما لم يطلعنا عليه الله سبحانه و تعالى, و لا يخوض فيه.
صفات الملائكة الخِلقية:
أخبرنا الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم بعض صفات الملائكة الخلقية, و منها:
1) أنهم خلقوا قبل آدم, و ذلك في قوله تعالى: "و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني إعلم ما لا تعلمون" (البقرة, الآية 30).
2) و أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الملائكة خلقوا من نور, و ذلك في قوله عليه السلام: "خلقت الملائكة من نور, و خلق الجان من مارج من نار, و خلق آدم مما وصف لكم" (أخرجه مسلم و أحمد في المسند).
3) و الملائكة لهم القدرة على أن يتمثلوا بصور البشر بإذن الله تعالى, و قد ذكر هذا في القرآن الكريم عن جبريل عليه السلام عندما جاء مريم في صورة بشرية, و أيضا في حديث جبريل المشهور عندما جاء يعلم الصحابة معنى الإسلام و الإيمان و الإحسان و أشراط الساعة.
4) و قد أخبرنا الله أن للملائكة أجنحة في قوله عز و جل: "الحمد لله فاطر السماوات والأرض, جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى و ثلاث و رباع, يزيد في الخلق ما يشاء, إن الله على كل شيء قدير" (فاطر, الآية 1).
عباد مكرومون:
و علاقة الملائكة بالله سبحانه و تعالى هي علاقة العبودية الخالصة, و الطاعة و الخضوع المطلق لأوامر الله سبحانه, فقد قال الله سبحانه و تعالى: "لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون" (التحريم, الآية 6). و بهذا فإنه من الشرك بالله أن يعبدوا أو يستعان بهم أو يعتقد أن لهم من الأمر شيئا.
علاقة الملائكة بالكون و الإنسان:
إن عبادة الملائكة لله سبحانه و تعالى لا تقتصر على تسبيحهم بحمد الله و تمجيدهم له, و إنما تشمل أيضا تنفيذ إرادته جل و علا بتدبير أمور الكون و رعايته بكل ما فيه من مخلوقات, و ما فيه من قوانين, و إنفاذ قدره وفق قضائه في هذه المخلوقات كلها, و تنفيذ إرادته سبحانه في مراقبة و تسجيل كا ما يحدث في الكون من حركات إرادية و غير إرادية. و للملائكة أعمالا أخرى في حياة الإنسان هدفها هداية البشر و إسعادهم و مساعدتهم على عبادة الله و اجتناب الشر و الفساد و الضلال. فإن الله اختار الملائكة لإنزال الوحي على الرسل, و الملك المختار هو جبريل, و ذلك لهداية الناس. و الملائكة يلازمون الإنسان في حياته كلها لإسعاده و هدايته و حثه على الحق و الخير. و قد أخبرنا الله سبحانه و تعالى أنه سخر الملائكة للدعاء للمؤمنين و الاستغفار لهم, في قوله تعالى: "الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به و يستغفرون للذين آمنوا, ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما, فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك, و قهم عذاب الجحيم, ربنا و أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم, إنك أنت العزيز الحكيم, و قهم السيئات, و من تق السيئات يومئذ فقد رحمته و ذلك هو الفوز العظيم" (غافر, الآيات 7-9).
و الملائكة يثبتون العبد على العمل الصالح, و خاصة الجهاد في سبيل الله, كما قال تعالى: "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا, سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق و اضربوا منهم كل بنان" (الأنفال, الآية 12).
عدد الملائكة:(216/2)
لا يحصي عدد الملائكة إلا الله عز و جل, قال تعالى: "و ما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة و ما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا, ليستيقن الذين أتوا الكتاب و يزداد الذين آمنوا إيمانا, و لا يرتاب الذين أوتوا الكتاب و المؤمنون, و ليقول الذين في قلوبهم مرض و الكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا, كذلك يضل الله من يشاء و يهدي من يشاء, و ما يعلم جنود ربك إلا هو, و ما هي إلا ذكرى للبشر" (المدثر, الآية 31).
الإيمان بالملائكة تفصيلي و إجمالي:
يجب الإيمان بالملائكة التي وردت أسماؤهم في الكتاب أو في السنة بالتفصيل, و من هؤلاء ما يلي:
1) جبريل: و هو الملك الموكل بالوحي.
2) ميكائيل: و هو الملك الموكل بالقطر الذي به حياة الأرض و النبات و الحيوان.
3) إسرافيل: و هو الملك الموكل بالنفخ في الصور.
4) مالك: و هو خازن النار.
و أما الملائكة الذين لم يرد ذكرهم فيجب أن نؤمن بهم بصورة إجمالية, فمثلا نؤمن بالكرام الكاتبين الذين جعلهم الله علينا حافظين, و نؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين, و نؤمن بحملة العرش, و بالملائكة الموكلون بالنار, و الملائكة الموكلون بالجنان و غيرهم.
أثر الإيمان بالملائكة في حياة الإنسان:
من الآثار العظيمة للإيمان بالملائكة في حياة المؤمن:
1) أن الله جنبنا بما علمنا من أمر الملائكة الوقوع في الخرافات و الأوهام التي وقع فيها من لا يؤمنون بالغيب.
2) الإستقامة على أمر الله عز و جل, فإن من يؤمن برقابة الملائكة لأعماله و أقواله, و شهادتهم على كل ما يصدر منه, فإنه يتجنب مخالفة الله و معصيته في السر و في العلانية.
3) الصبر, و مواصلة الجهاد في سبيل الله, و عدم اليأس, و ذلك بمعرفة أن الملائكة جنود الله معه و أنه ليس وحده في الطريق.
الإيمان بالأنياء و المرسلين:
و من أركان الإيمان أيضا الإيمان بأنبياء الله و رسله, و هو الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله و أنبيائه, و الإيمان بأن الله عز و جل أرسل رسلا سواهم, و أنبياء لا يعلم عددهم و أسماءهم إلا الله تعالى. و قد ذكر هذا المعنى في القرآن الكريم في قوله تعالى: "و لقد أرسلنا رسلا من قبلك, منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك" ( غافر, الآية 78).
لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم خمسة و عشرون من الأنبياء و الرسل و هم: آدم, نوح, ادريس, صالح, ابراهيم, هود, لوط, يونس, اسماعيل, اسحاق, يعقوب, يوسف, أيوب, شعيب, موسى, هارون, اليسع, ذو الكفل, داوود, زكريا, سليمان, إلياس, يحيى, عيسى, محمد صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين. فهؤلاء الرسل و الأنبياء يجب الإيمان برسالتهم و نبوتهم تفصيلا, فمن أنكر نبوة واحد منهم أو أنكر رسالة من بعث منهم برسالة, كفر. و أما الأنبياء و الرسل الذين لم يقصصهم القرآن علينا, فقد أمرنا أن نؤمن بهم إجمالا. و ليس لنا أن نقول برسالة أحد من البشر أو نبوته مادام أن ذكره لم يأتي في القرآن أو من الرسول صلى الله عليه و سلم.
موضوع الرسالة:
قال تعالى: "و ما نرسل المرسلين إلا مبشرين و منذرين, فمن آمن و أصلح فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون, و الذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون" (الأنعام, الآية 48-49). و على هذا فإنه يجب علينا أن نؤمن بأن الله بعث رسله إلى الخلق لتبشيرهم و إنذارهم, و أن الله سبحانه بعث هؤلاء الرسل جميعا لتحقيق غرض واحد هو عبادة الله عز و جل و إقامة دينه و توحيده. قال تعالى: "و لقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت" (النحل, من الآية 36).
الواجب علينا نحو الرسل:
بعد الإيمان بأنبياء الله و رسله, يجب علينا تصديق رسل الله جميعا, و أن لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض و نكفر ببعض, فقد قال سبحانه و تعالى: "إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض و يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا ..." (النساء, الآيات 150-151). و يجب علينا أيضا أن نؤمن بأن كل رسول أرسله الله تعالى قد بلغ رسالته على الوجه الأكمل. و يجب علينا أن نطيع الرسل و لا نخالفهم لأن ذلك من طاعة الله, فقد قال الله عز و جل: "و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله" (النساء, الآية 64).(216/3)
و مما يجب علينا أيضا في حق الأنبياء و الرسل أن نعتقد بأنهم أكمل الخلق علما و عملا, و أنهم كانوا جميعا رجالا من البشر كما جاء في قوله عز و جل: "و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم" (الأنبياء, الآية 7). و يجب علينا أيضا أن نؤمن بأنهم لا يملكون شيئا من خصائص الألوهية, و لا يملكون النفع أو الضرر, و لا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه. و يجب علينا أيضا أن نؤمن بأن الله سبحانه و تعالى أيدهم بالمعجزات الدالة في صدقهم. و أخيرا يجب أن نؤمن بأن الله فضل بعض الرسل على بعض, لقوله عز و جل: "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم كلم الله و رفع بعضهم درجات و آتينا عيسى ابن مريم البينات و أيدناه بروح القدس" (البقرة, الآية 253).
الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم:
من الإيمان بالأنبياء و الرسل الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم, و أنه لم يعبد صنما و لم يشرك بالله طرفة عين قط. و نؤمن بأنه خاتم الأنبياء, لقوله تعالى: "و لكن رسول الله و خاتم النبيين" (الأحزاب, من الآية 40) فلا نبوة بعده صلى الله عليه و سلم, و كل من ادعاها بعده فهو كذاب. و يجب علينا أن نؤمن بأنه صلى الله عليه و سلم إمام المتقين, و أنه وحده الجدير بالاقتداء و التأسي, و أنه حبيب الرحمن, و أنه مبعوث إلى عامة الجن و كافة الورى بالحق و الهدى, و إلى الناس جميعا كما قال الله سبحانه و تعالى: "و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا" (سبأ, الآية 28). و يجب علينا أن نقدم محبته على الوالد و الولد و النفس, كما جاء في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده و ولده و الناس أجمعين" (متفق عليه).
و أيضا فإن علينا أن نؤمن بأن الله جل و علا قد أيد محمد صلى الله عليه و سلم بالمعجزات الدالة على صدقه صلى الله عليه و سلم, و أن القرآن العظيم معجزته الباهرة, و أن الله أيده بالمعجزات الحسية المذكورة في الأحاديث مثل انشقاق القمر و غيرها. و نؤمن بأن الله تعالى حباه أخلاق القرآن كلها.
و كلمة أخيرة يجب علينا ذكرها أن الإيمان الصادق برسول الله يتضمن التصديق و الانقياد, التصديق بأنه رسول الله و الانقياد للشريعة التي أرسل لتبليغها, فلا يصح الإيمان بالتصديق فقط دون طاعة رسول الله و الامتثال لأوامره.
الإيمان بكتب الله عز و جل:
من أركان الإيمان أيضا الإيمان بكتب الله عز و جل. و معنى هذا أن نؤمن بالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه و رسله. و من هذه الكتب ما سماه الله تعالى في القرآن الكريم, و منها ما لم يسم, و نذكر فيما يلي الكتب التي سماها الله عز و جل في كتابه العزيز:
1) التوراة: و قد أنزلت على موسى عليه السلام.
2) الإنجيل: و قد أنزل على عيسى عليه السلام.
3) الزبور: الذي أنزل على إبراهيم و موسى.
و أما الكتب الأخرى التي نزلت على سائر الرسل, فلم يخبرنا الله تعالى عن أسمائها. و يجب علينا أن نؤمن بهذه الكتب إجمالا, و لا يجوز لنا أن ننسب كتابا إلى الله تعالى سوى ما نسبه إلى نفسه مما أخبرنا عنه في القرآن الكريم. كما يجب أن نؤمن بأن هذه الكتب جميعا نزلت بالحق و النور و الهدى, و توحيد الله عز و جل, و أن ما نسب إليها مما يخالف ذلك إنما هو تحريف البشر و صنعهم. و يجب علينا أيضا أن نؤمن بأن القرآن الكريم هو آخر كتاب نزل من عند الله تعالى, و أن الله اختصه بمزايا من أهمها:
1) أنه تضمن خلاصة التعاليم الإلهية, و جاء مؤيدا و مصدقا لما جاء في الكتب السابقة من التوحيد و وجوب عبادة الله و طاعته. و جمع كل ما كان متفرقا في تلك الكتب من الحسنات و الفضائل, و جاء مهيمنا و رقيبا, يقر ما فيها من حق, و يبين ما دخل عليها من تحريف و تغيير. و أن القرآن جاء بشريعة عامة للبشر فيها كل ما يلزمهم لسعادتهم في الدارين, و أنه نسخ جميع الشرائع الخاصة بالأقوام السابقة.
2) أن القرآن الكريم هو الكتاب الرباني الوحيد الذي تعهد الله بحفظه, فقد قال الله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون" (الحجر, الآية 9).
3) أن القرآن الكريم أنزله الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه و سلم للناس كافة و ليس خاصا بقوم معينين.
و قد أخبرنا الله عز و جل عن التحريف الذي أدخله اليهود و النصارى على الكتب التي أرسلت إليهم, و نذكر في هذا الشأن الآيات التالية:
- "و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله, ذلك قولهم بأفواههم, يضاهئون قول الذين كفروا من قبل, قاتلهم الله أنى يؤفكون" (التوبة, الآية 30).
- "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم" (المائدة, الآية 72).
- "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة, و ما من إله إلا إله واحد" (المائدة, الآية 73).(216/4)
- "و ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل و أمه صديقة كانا يأكلان الطعام, انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون" (المائدة, الآية 75).
و لهذا, فإنه لا يوجد اليوم كتاب علي ظهر الأرض تصلح نسبته إلى الله تبارك و تعالى سوى القرآن الكريم, و من الأدلة على ذلك ما يلي:
1) أن الكتب التي نزلت قبل القرآن, قد ضاعت نسخها الأصلية و لم يبق في أيدي الناس إلا تراجمها.
2) أن هذه الكتب قد اختلط فيها كلام الله بكلام الناس, من تفسير و سير الأنبياء و تلاميذهم, و استنباطات الفقهاء, فلا يعرف فيها كلام الله من كلام البشر.
3) أنه ليس لأي من تلك الكتب سند تاريخي موثوق لكي نستطيع أن ننسبها إلى الرسول الذي أرسلت إليه.
4) و من الأدلة على التحريف تعدد نسخ تلك الكتب و اختلافها فيما نقلته من الأقوال و الآراء.
5) ما تضمته تلك الكتب من العقائد الفاسدة و التصورات الباطلة عن الخالق سبحانه و عن رسله الكرام.
الإيمان باليوم الآخر:
و معناه الإيمان بكل ما أخبرنا به الله عز و جل و رسوله صلى الله عليه و سلم مما يكون بعد الموت من فتنة القبر و عذابه و نعيمه, و البعث و الحشر و الصحف و الحساب و الميزان و الحوض و الصراط و الشفاعة و الجنة و النار, و ما أعد الله لأهلما جميعا.
و للإيمان باليوم الآخر أثر عظيم في حياة الإنسان, و له أثر كبير في توجيه الإنسان و انضباطه و التزامه بالعمل الصالح و تقوى الله عز و جل. و ذلك لأن من يعتقد أنه سيحاسب على كل ما يفعله, و من آمن بأنه سيفوز بالجنة إذا أصلح العمل و سيعاقب بالنار إذا أساء, لا بد أن يحمله هذا الاعتقاد على أن يحسن العمل و يبتعد عن كل ما نهى عنه الله عز و جل و رسوله صلى الله عليه و سلم. و أما من لا يعتقد بأن هناك حساب و لا عقاب و لا ثواب, فإنه سيكون منفلتا من أي ضابط سوى هواه و شهوته. و قد بين الله لنا هذا في العديد من الآيات في القرآن الكريم بالربط بين الإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح, كما قال عز و جل: "أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم و لا يحض على طعام المسكين" (الماعون, الآيات 1-3), و قال: "لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله" (المجادلة, الآية 22).
و لقد دل على الإيمان باليوم الآخر كتاب الله, و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم, و العقل و الفطرة السليمة. و المنكرون للبعث ليس لهم دليل على إنكارهم, و ذلك لأنه أمر من أمور الغيب الذي لا يعلمه إلا الله, فلا سبيل لأحد في إثباتها أو إنكارها إلا سبيل واحد و هو إعلام الله عز و جل. و لقد أثار المنكرون بعض الشبهات و الشكوك حول البعث, كاستبعادهم العودة إلى الحياة بعد تحولهم إلى رفات و تراب. و لكن الله سبحانه و تعالى رد على شبهة هؤلاء, و من ذلك قوله تعالى: "و قالوا أءذا كنا عظاما و رفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة, فسينغضون إليك رؤوسهم و يقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده و تظنون إن لبثتم إلا قليلا" (الإسراء, الآية 49-52).
1) فتنة القبر و سؤال الملكين:
لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأحاديث الصحيحة أن الناس يمتحنون في قبورهم, فيقال للعبد: من ربك و ما دينك و من نبيك؟ فيقول المؤمن: ربي الله, و الإسلام ديني, و محمد صلى الله عليه و سلم نبيي, و أما المرتاب فيقول: لا أدري, سمعت الناس يقولون شيئا فقلته, فيضرب و يعذب.
2) عذاب القبر و نعيمه:
من الدلائل على عذاب القبر و نعيمه قوله سبحانه و تعالى: "و حاق بآل فرعون سوء العذاب, النار يعرضون عليها غدوا و عشيا, و يوم تقوم الساعة, أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" (غافر, الآية 45-46). ففي هذه الآية توعد الله سبحانه و تعالى آل فرعون بنوعين من العذاب, فإذا كان الثاني بعد قيام الساعة فلا بد أن يكون الأول واقعا بهم ما بين الموت و النشور, و هو عذاب القبر. الأحاديث الصحيحة المثبتة لعذاب القبر كثيرة جدا, تبلغ حد التواتر. و أما كيفية عذاب القبر و نعيمه, و كيفية عودة الروح إلى الميت, فلا يجوز فيه الزيادة على ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم.
3) أشراط الساعة:
يجب علينا أيضا أن نؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها, و أن موعدها لا يعلمه إلا الله سبحانه و تعالى. و يجب علينا أن نؤمن بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من علامات و أشراط الساعة. و من علامات الساعة علامات صغرى, يدور معظمها حول فساد الناس في آخر الزمان و ظهور الفتن بينهم, و بعدهم عن هدى الله و طريق الرسل. و من علامات الساعة علامات كبرى, نذكرها مع شرح مختصر لكل منها فيما يلي:(216/5)
أ – طلوع الشمس من المغرب: لقد ورد في بعض الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن هذه الآية تكون أول العلامات الكبرى ظهورا. و قد ورد في الحديث أيضا أن هذه الآية إذا ظهرت, و رآها الناس آمنوا أجمعون, و ذلك حين لا ينفع نفس إيمانها إذا لم تكن قد آمنت من قبل.
ب – خروج الدابة: و قد أشار الله سبحانه و تعالى إلى هذه الآية في قوله: "و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون" (النمل, الآية 82). و قد ورد ذكر خروج الدابة في أحاديث كثيرة.
ج – ظهور الدجال: و الدجال هو الكذاب شديد الدجل, و الدجل في اللغة التغطية, و سمي الكذاب دجالا لأنه يغطي الحق بباطله. و من أمارات الساعة الكبرى ظهور شخص سماه الرسول صلى الله عليه و سلم بالدجال لكثرة تدجيله و كذبه, يدعي الألوهية, و يحاول أن يفتن الناس عن دينهم بما يحدثه من خوارق العادات و عجائب الأمور بإذن الله سبحانه و تعالى, فيفتن بعض الناس, و يثبت الله الذين آمنوا, فلا ينخدعون بدجله و ضلاله, ثم يأذن الله بالقضاء على فتنته, فينزل عيسى عليه السلام فيقتله.
د – نزول عيسى عليه السلام: فقد دلت السنة و أجمعت الأمة على أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان قرب الساعة أثناء وجود الدجال فيقتله, و يحكم بشريعة الإسلام, ثم يمكث في الأرض ما شاء الله أن يمكث, ثم يموت, و يصلي عليه المسلمون و يدفن.
هـ - ظهور يأجوج و مأجوج: ورد ذكر هذه العلامة في القرآن, في قوله تعالى: "ثم أتبع سببا, حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا. قالوا: يا ذا القرنين إن يأجوج و مأجوج مفسدون في الأرض, فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا و بينهم سدا؟ ... " (الكهف, الآيات 92-98).
4) بداية اليوم الآخر:
و يبدأ اليوم الآخر بإحداث تغيير عام في هذا الكون, فتنشق السماء, و تتناثر النجوم, و تتصادم الكواكب, و تتفتت الأرض, و تغدو صعيدا جرزا, و تصبح الجبال كثيبا مهيلا, و يخرب كل شيء, و يدمر كل ما عرفه الناس في هذا الوجود, و يكون هذا على إثر الفخة الأولى, ينفخها إسرافيل بأمر ربه, فيصعق كل من في السموات و من في الأرض إلا ما شاء الله تعالى.
5) البعث:
و نؤمن بعدها أن الله سبحانه و تعالى يأمر بالنفخة الثانية, فتعود الحياة على أثرها إلى الأموات, و هذا هو يوم البعث و هو إعادة الإنسان روحا و جسدا كما كان في الدنيا, و قد ورد في الأحاديث الصحيحة أن محمد صلى الله عليه و سلم هو أول من يخرج من قبره.
6) الحشر:
و نؤمن أنه يكون الحشر بعد بعث الخلائق و إخراجهم من قبورهم. و الحشر هو سوقهم جميعا إلى الموقف, و هو المكان الذي يقفون فيه انتظارا لفصل القضاء بينهم, و يكونون في هذا الموقف كما خلقوا أول مرة, حفاة عراة غرلا. فإذا اشتد الأمر بالناس, و عظم الكرب في هذا الموقف العظيم, استشفعوا إلى الله عز و جل بالرسل و الأنبياء أن ينقذهم مما هم فيه, و يجعل لهم فصل القضاء و كل رسول يحيلهم على من بعده, حتى يأتون محمد صلى الله عليه و سلم فيشفع فيهم و يقبل الباري شفاعته, فينصرف الناس إلى فصل القضاء.
7) جزاء الأعمال:
و نؤمن بجزاء الأعمال يوم القيامة, فيجزى العباد على كل ما كسبوه في الحياة الدنيا من خير أو شر, قال تعالى: "يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق, و يعلمون أن الله هو الحق المبين" (النور, الآية 25).
8) العرض و الحساب:
و نؤمن بأن الجزاء يكون بعد محاكمة عادلة, يعرض فيها الناس على ربهم و تقام فيها الحجج عليهم و لهم, و يطلعون على أعمالهم, و يقرؤون صحفهم.
9) الحوض:
و يجب علينا أن نؤمن بما أخبر به المصطفى صلى الله عليه و سلم عن الحوض الذي تفضل الله يه عليه و على أمته, فإن الأحاديث الواردة في ذلك تبلغ حد التواتر. و يكون أول من يرده نبينا محمد صلى الله عليه و سلم, ثم ترده بعده أمته, و يطرد عنها الكفار, و طائفة من العصاة و أهل الكبائر. و ذلك بعد الإنتهاء من الموقف.
10) الميزان:
و يجب علينا أن نؤمن بما أخبر به الله عز و جل و رسوله صلى الله عليه و سلم ما أن أعمال العباد خيرها و شرها توزن يوم القيامة بميزان. و تدل الأخبار على أنه ميزان حقيقي, له كفتان, و أن الله سبحانه و تعالى يحول أعمال العباد إلى أجسام لها ثقل, فتوضع الحسنات في كفة و السيئات في كفة.
11) الصراط:
و نؤمن أنه يكون بعد الحساب و الميزان انصراف الناس من الموقف, ليمروا فوق الجسر المنصوب على جهنم, و هو الصراط. و المرور على الصراط عام لجميع الناس, و تكون سهولة مرورهم ذلك عليهم بقدر أعمالهم في الحياة الدنيا.
12) الجنة و النار:(216/6)
و بعد ذلك كله نؤمن بوجود الجنة و النار, و أنهما مخلوقتان من مخلوقات الله عز و جل أعدهما الله للثواب و العقاب, و أنه سبحانه و تعالى خلقهما قبل الخلق, و أنهما موجودتان الآن, و أنهما باقيتان و لا تبيدان. و قد تكرر ذكر خلود المؤمنين في الجنة و الكافرين في النار في معظم المواقع التي ذكرت فيها الجنة و النار في القرآن الكريم.
الإيمان بقضاء الله و قدره:
و الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان, فمن كفر بقدر الله خرج من دين الله عز و جل.
تعريف القدر: علم الله تعالى بما تكون عليه المخلوقات في المستقبل.
تعريف القضاء: إيجاد الله تعالى الأشياء حسب علمه و إرادته.
الإيمان بالقدر يشتمل على أربعة مراتب و هي:
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله القديم و أنه علم أعمال العباد قبل أن يعملوها, و الدليل على هذا قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" (الحديد, الآية 22).
المرتبة الثانية: كتابة ذلك في اللوح المحفوظ, و الدليل قوله تعالى: "ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء و الأرض, إن ذلك لفي كتاب, إن ذلك على الله يسير" (الحج, الآية 70). و الكتاب المذكور في الآية هو اللوح المحفوظ.
المرتبة الثالثة: مشيئة الله النافذة و قدرته الشاملة. قال تعالى: " قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدِير" (آل عمران, الآية 29).
المرتبة الرابعة: إيجاد الله لكل المخلوقات, و أنه الخالق و كل ما سواه مخلوق. قال تعالى: " ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل" (الأنعام, الآية 102).
و أهل السنة في الإيمان بالقدر بين طائفتين غاليتين هما: (1) المكذبين بالقدر (2) التاركين للعمل اتكالا على القدر.
1) فأما المكذبين بالقدر, المسمون بالقدرية: يزعمون أن الله يعلم بالموجودات بعد خلقها و ايجادها, و قد سماهم رسول الله صلى الله عليه و سلم مجوس الأمة. و منهم القدرية المتأخرة الذين يقرون بعلم الله أفعال العباد قبل وقوعها لكنهم زعموا بأن أفعال العباد واقعة منهم على وجه الاستقلال, و هذا مذهب باطل و لو أنه أخف من مذهب القدرية الأولى في بطلانه. و قد أراد القدرية بزعمهم تنزيه الله سبحانه و تعالى, فقالوا أن الله شاء الإيمان للكافر و لكن الكافر هو الذي شاء الكفر, و لكنهم وقعوا فيما هو أشد من ذلك بأنهم جعلوا مشيئة الكافر تتغلب على مشيئة الله سبحانه و تعالى.
2) و أما التاركين العمل اتكالا على القدر فهم بقولون: بما أن الله قدر كل شيء و علمه قبل وقوعه, فلماذا نعمل فلنترك الأمر للأقدار التي ستحصل شئنا أم أبينا. و أخذ هذا المذهب طوائف كثيرة كالمتصوفة, و أبطلوا به الأمر و النهي و أحدثوا في الأمة فسادا عظيما. و هم بذلك يزعمون أن العباد مجبرون على أعمالهم, و هم يسمون بالجبرية.
و أما أهل السنة فهم وسط بين هاتين الطائفتين الغاليتين. فما عليه أهل الحق هو أنه يجب الإيمان بالقدر, و لكن لا يجوز أن يحتج به في ترك العمل و لا أن يحتج به في مخالفة الشرع. فالقدر عندهم يتعزى به بعد وقوع المصائب, و لا يحتج به لتبرير الذنوب و المعاصي.
مذهب أهل السنة في الأسباب و علاقته بالتوكل: إن الإيمان بالقدر لا ينافي الأخذ بالأسباب, فإننا مأمورون بالأخذ بالأسباب مع التوكل على الله عز و جل, و الإيمان بأن الأسباب لا تعطي النتائج إلا بإذن الله سبحانه و تعالى. و يحرم على المسلم ترك الأخذ بالأسباب. و لذلك فإن مذهب أهل السنة هو وجوب الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله, فلا نترك الأخذ بالأسباب, و لا نترك التوكل على الله و الإيمان بأن كل شيء إنما يحصل بمشيئة الله سبحانه و تعالى.(216/7)
أرواح الشهداء
د.خالد الأحمد *
كتب الله لي أن أعيش خمس سنوات من زهرة عمري في الجزائر الحبيبة ، في السبعينات من القرن الماضي ، كانت غنية بالمعرفة ، والخبرة ، والدعوة ، ولله الفضل والمنة ...
وكنت ألاحظ أمراً غريباً ، وهو توجه الجزائريين نحو الإسلام ، وشوقهم ورغبتهم الجامحة نحو التمسك بالاسلام والشريعة الاسلامية ، وقد عبر الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي عن هذه الملاحظة ـ وكان يحضر سنوياً في الملتقى الفكري الاسلامي الجزائري ـ قال الشيخ البوطي معبراً عن الرغبة الجامحة عند الجزائريين للاندفاع نحو الاسلام : [ أرى في الجزائر دعوة قوية ولا أرى دعاة ] ، وليسمح لي الشيخ أن أعدل هذه العبارة لتكون أكثر دقة فأقول : أرى في الجزائر دعوة قوية ، أكبر بكثير مما يبذل من دعوة في الجزائر ، التي مازال دعاتها شباباً ،قليلي الزاد ( يومذاك )، ولا نجد تناسباً بين قوة الدعوة ، ومايبذل من أسباب فيها ... [ كان الشيخ محفوظ يرحمه الله في السجن طوال السنوات الخمس التي عشتها هناك ، وكان إخوانه في البليدة ، لهم نشاط يمتد حتى الجامعة المركزية في العاصمة ، وكان الأخ عبدالله جاب الله طالباً في كلية الحقوق ، جامعة قسنطينة ، ولكنه كان قمة في النشاط والحركة ، وخاصة في الشرق الجزائري ] ....
وهذه القصة الواقعية التالية تبين لك أخي القارئ ، شدة اندفاع الجزائريين نحو الإسلام ....
لباس المرأة في الإسلام :
كنت مدرساً للفلسفة ، وعندهم تدرس الفلسفة لطلاب الثالث الثانوي فقط ، وفي ثانويتنا أكثر من ألف طالب وطالبة ، ومعظم الطالبات يلبسن الزي الأوربي تماماً ، وقانون المدرسة الجزائرية يسمح للطالب وللطالبة أن يلبس كل منهما مايشاء ...
كنت أقطع فناء الثانوية ، ومررت بقرب ثلاث طالبات من الأول ثانوي ، متبرجات جداً ، وبعد أن تجاوزتهن سمعت نداء يقول : أستاذ ... أستاذ ... أستاذ الفلسفة ...أستاذ خالد ... وترددت في الوقوف ، ودعاة الماركسية المعادين لي ولدعوتي ينتظرون موقفاً من هذا النوع ليصوروه وينشرونه في الولاية كلها ... ولكن إلحاح النداء ، وركضهن حتى لحقنني اضطرني إلى الوقوف ، وأنا أتصبب عرقاً من الخجل ، مطرقاً إلى الأرض :
قالت إحداهن :: يا أستاذ كيف تلبس المرأة في الإسلام ؟
اعتبرت للوهلة الأولى أن هذا من باب السخرية ، ولكن الله عزوجل ألهمني أن أجاوب باقتضاب وأقول الكلمات التالية فقط :
أي ثوب واسع ، فضفاض ، يستر جسدها كله ، لونه غير زاه ...
وتابعت المشي ، وتنفست الصعداء ، فقد هربت من هذا الموقف الذي أخافني كثيراً ، وسألت الله عزوجل أن يجعل العواقب سليمة ....
وبعد بضعة أيام ( ثلاثة أو أربعة ) كدت أسجد لله شكراً في فناء المدرسة عندما رأيت ولأول مرة هذه الفتيات الثلاث يلبسن الحجاب الذي وصفته لهن .... واعترض الماركسيون و الشهوانيون عليّ بأنني حرمتهم من مناظر كانوا يتلصصون عليها كل يوم ...
سوف لا أنسى هذه التجربة التي عشتها قبل ثلاثين سنة ، ومازالت حاضرة في شعوري ، لأنها تفسر شدة إقبال الشعب الجزائري على التمسك بالاسلام الذي يحبونه حباً جماً ، مع أنهم يجهلون مساحات واسعة منه يومذاك ، هذه الحادثة تفسرالإقبال الشديد على الإسلام في الجزائر ، وهذا الإقبال أكبر من جهود الدعاة بمئات المرات ....
وكان التفسير الوحيد عندي هو بركة أرواح الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الله عزوجل ليحفظ لهم الجزائر المسلمة ، وللعلم فالثورة الجزائرية بدأت ثورة إسلامية ، جهاد مقدس ضد الحقد الصليبي والاستعمار الفرنسي ، والحلف الأطلسي الذي حاول خلال قرن ونصف نزع الجزائر من الإسلام ... وحيث كنت أعمل في الواحات ، لايوجد مسيحي واحد ، وتوجد خمس كنائس بنيت خلال عهد الاستعمار الفرنسي ... واستمرت الثورة الجزائرية إسلامية ، ومعظم قادتها كانوا من حفظة القرآن الكريم ، والأب الروحي لها كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يرحمه الله ... وكان الثوار يرددون ماقاله ابن باديس :
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
واستمرت الثورة الجزائرية إسلامية حتى عام (1954 ) حيث خطفها الماركسيون الدهاة من أيدي المشايخ بعد مؤتمر وادي الصومام ... وبعد أن استشهد قرابة مليون ونصف جزائري ، معظمهم نحسبهم شهداء ولانزكيهم على الله ، وهؤلاء الشهداء لهم مكانة عظيمة عند ربهم ، ولهم حظوة ، ومن أجلهم ، رعى الله الجزائر وحفظها ، وربطها بالاسلام الذي مات من أجله مليون ونصف جزائري ...
والجزائر ـ اليوم ـ على الرغم من كل مصائبها ، والويلات التي جرها عليها المتطرفون ودعاة التكفير ، أفضل من كثير من الدول العربية والمسلمة ، مع أنها رضخت قرناً ونصف القرن تحت استعمار صليبي سافر يقوده الحلف الأطلسي ...
وفي سوريا شهداء أيضاً :(217/1)
وفي سوريا قدم عشرات الألوف من الشباب المسلم روحه رخيصة في سبيل الله عزوجل ، ليخلص سوريا من الطاغوت الذي أراد أن يقضي على الحركة الاسلامية في بلاد الشام كافة ، أراد أن يكمل المخطط الذي بدأه طاغوت عربي قبله ومات قبل أن يكمل مهمته كلها ، أراد الطاغوت السوري أن يقضي على رغبة المسلمين في بلاد الشام في الالتزام بالاسلام عقيدة وشريعة وعبادة ونظام حياة كما أراده الله عزوجل ... وقرر الطاغوت أن هؤلاء الاسلاميين لاتجدي معهم إلا التصفية الجسدية ، وقدصرح بذلك في المؤتمر السادس لحزب البعث العربي الاشتراكي ، وقال : أما الإخوان المسلمون فلاتنفع معهم إلا التصفية الجسدية ... وبدأ مشروعه في التصفية الجسدية ...
وكانت المذبحة الجماعية الأولى التي نفذها كبير المجرمين رفعت الأسد في سجن تدمر في أوائل صيف (1980) ، كانت هذه القافلة الأولى من قوافل الشهداء السوريين ، يرحمهم الله تعالى ، ونسأله أن يتقبلهم مع الشهداء والصديقين والأنبياء وحسن أولئك رفيقاً ... ألف أو يزيد من خيرة أبناء الشعب السوري ، قتلوا رشاً بالرصاص في زنزاناتهم ، وفي مهاجع سجن تدمر ، ثم حملوا بالشاحنات ـ وبعضهم مازال حياً ـ ودفنوا في إخدود جماعي قرب جبل عويمر عند تدمر .. .. قتلوا ودفنوا كما قتل ودفن أهل الأخدود الذين خلد الله عزوجل ذكرهم : [ والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ، قتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على مايفعلون بالمؤمنين شهود ، ومانقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ] ، ومن هؤلاء أصحاب الأخدود ، امرأة تحمل رضيعاً لها ، هابت النار ، وخافت على وليدها الرضيع ، عندما ساقها جلاوزة الأمن يومذاك ( والمخابرات العسكرية ) ، كي تقتحم النار ، وترمى نفسها في الأخدود ، هابت وتراجعت ، ولكن الرضيع نطق وقال : يا أماه لاتخافي إنك على حق ...
قوافل الشهداء :
وتتالت قوافل الشهداء في سوريا ، في حماة ( 1981) ، و(1982) وفي جسر الشغور ، وادلب ، وحلب ، وكانت أكبر هذه القوافل مجزرة تدمر المستمرة ، حيث نفذ حكم الإعدام بقرابة ( 23 ) ألفاً من خيرة أبناء الشعب السوري ، يرحمهم الله تعالى ، ونحسبهم شهداء ولانزكيهم على الله ، ولنستمع للأخ محمد سليم حماد يصف لنا إقبالهم على الموت في سبيل الله : يقول محمد سليم حماد في كتابه ( تدمر شاهد ومشهود ) :
( وما لا ينسى من أيام عام 1984 المريرة أننا شهدنا فيها أحد أكبر عمليات الإعدام الجماعي إن لم تكن أكبرها على الإطلاق . فبعد انقطاع تنفيذ الأحكام عدة أشهر في تلك الفترة فوجئنا بالمشانق تنصب ذات يوم في الساحة السادسة بأعداد كبيرة ،وراح الزبانية يخرجون من الإخوة المعتقلين فوجاً إثر فوج إلى حتفهم . يومها قدّر الإخوة الذين تمكنوا من مشاهدة جانب مما يجري من خلال شق في الباب عدد الذين أعدموا بمائتين من غير مبالغة ، كان من بينهم كما بلغنا الأخ يوسف عبيد من دمشق .
وفي مهجع السل 23 بالباحة الرابعة حيث كان قد اجتمع على إخواننا هناك كَرْبُ السجن وكَرْبُ المرض أخرج الشرطة يومها أخاً مسلولاً من حلب اسمه يوسف عبارة للإعدام . فلقد نادوا الأخ رحمه الله إلى لقاء ربه قبيل صلاة الفجر . فهرع وصلى مع الإخوة الفريضة ثم ودعهم ومضى إلى منيته مقبلاً على الله . وكان من نزلاء المهجع نفسه أخ شاعر موهوب تفجرت مشاعره عندما أبصر الإخوة يساقون رتلاً طويلاً إلى المشانق ، وانسابت مع دموعه ودموع إخوانه قصيدة رقيقة له حفظناها جميعاً وأخذنا ننشدها منذ ذاك يقول فيها :
وسار موكب الجناز في الصباح * مخلفاً وراءه الجراح * و راسماً مسيرة الكفاح
فلا حياة دونما سلاح * من قبلها نادى المنادي هاتفاً مجلجلاً * حي على الفلاح .. حي على الفلاح .
وسار موكب الشباب في خشوع * لم يعرفوا لغير ربهم خضوع * عيونهم تضيىء كالشموع * تقول للأجيال لا خضوع * من قبلها نادى المنادي هاتفاً مجلجلاً
حي على الفلاح .. حي على الفلاح .
وداع الأشقاء
وتتابع نصب المشانق وتكرر مشهد الزهرات تساق إلى حتفها على أيدي الزبانية الطغاة . وكان من أشد المشاهد إيلاماً كما بلغني يوم أن سمع أخ من بيت العابدي من دمشق اسم أبيه يطلب للإعدام من مهجع مجاور . ورآه يساق أمام عينيه من خلال ثقوب الباب فتزهق روحه على حبل المشنقة . وكان الولد قد اعتقل مع أبيه وهو ابن خمسة عشر عاماً في مرحلة دراسته الإعدادية !
ولم يكن أقل إيلاماً يوم أن طلبوا فيما بعد اثنين من الشباب المعتقلين معنا للإعدام هما طريف حداد وملهم الأتاسي وكلاهما من حمص . وكان معهما في نفس المهجع شقيقاهما بشار حداد ومطاع أتاسي . وعندما تقدم بشار ليودع أخاه طريف ثابت الجنان قال له : اثبت واصبر .. واللقاء في الجنة . والحمد لله أن رزقك الشهادة . ولا تنسانا من الشفاعة .(217/2)
كذلك خرج من بيننا أخ آخر للقاء الله في تلك الأيام العصيبة هو عبد الغني دباغ من حمص . ثم لم نلبث أن سمعنا بأن أخوين اثنين له في مهجع آخر أعدما بعد مدة وجيزة من الزمان .
وفوجئنا ذات صباح بالمشانق تنصب من بعد الفجر بقليل ، وبالشرطة يجوبون المهاجع ويسألون عن أسماء بعينها . ولم تلبث أصوات التكبيرات أن علت من جديد .. فأسقط بأيدينا .. وانهارت آمالنا الواهية .. وعدنا يلفنا الوجوم والترقب . حتى إذا فتح الشرطي باب المهجع 26 علينا انتفضنا كلنا وقد بلغت القلوب الحناجر واحتبست أنفاسنا .. وكل منا يتوقع أن يتلو الشرطي اسمه ويناديه للردى . لكن جلادنا لم يناد إلا اسم أخ واحد من بلدة سراقب اسمه عبد الحكيم العمر كما أعتقد . كان مدرس لغة عربية وملازماً مكلفاً حين اعتقل . وكان صاحب فضل علينا في المهجع بدماثة خلقه وحسن معشره ، وبحلقات البلاغة والنحو التي واظبنا عليها حتى تعلمنا منه الكثير . وقال له أن يضب أغراضه لأنه سينقل إلى مدرسة المدفعية بحلب حيث كان يقضي خدمته الإلزامية . ورغم استغرابنا من هذا الأسلوب الجديد إلا أننا قدرنا أنهم إنما أخروا إعدامه لأنه عسكري وحسب ، وأن دوره الآن قد دنا .
وأدرك عبد الحكيم أنها منيته ، وجعل رحمه الله يطوف علينا ويتفرس في وجه كل منا ويردد آخر كلمات له في هذه الدنيا سمعناها :
سامحوني يا شباب .. واللقاء إن شاء الله في الجنة .
فلما وصل بتطوافه إلى مجموعة من أهل بلده كانوا شركاء في مجموعة الطعام في المهجع أوصاهم بأهله وأولاده . ومضى إلى الإعدام ونفسه رحمه الله تفيض بالرضا والإطمئنان ، وكأنه ذاهب لملاقاة أحب الناس إليه ! ) . انتهى النقل من كتاب شاهد ومشهود .
هكذا كان الشباب المسلم يقبلون على الله عزوجل ، يضحون بأرواحهم من أجل حماية إسلامهم في بلدهم سوريا من بطش الطغاة ، ومن مخططاتهم الهادفة إلى القضاء على الصحوة الاسلامية ، والحركة الاسلامية ، التي تطالب بالعودة إلى الاسلام والالتزام به عقيدة وشريعة ونظام حياة ... فهل استطاع الطاغية تنفيذ مهمته !!!؟
لقد قتل عشرات الألوف من الشباب المسلم في سوريا ، وقل أن تجد بيتاً في مدينة حماة إلا وفيه شهيد ، أو سجين ، أو مفقود ، أو منفي ... ومثل ذلك في جسر الشغور وادلب وقرى ادلب ، وفي حلب كذلك ... فهل قضى الطاغية على الحركة الاسلامية !!؟ قال تعالى [ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ] ...
إقبال الشباب على المساجد في سوريا :
من اللافت للنظر أن الطاغية قبل موته صار يبني مدارس لتحفيظ القرآن ، سميت باسمه ، وصار يحاول الظهور بأنه مهتم بالاسلام ، وهذه يفهمها دارسو الفلسفة ، الذين درسوا الجدل عند ( هيجل ) ، الفكرة ونقيضها والتركيب منهما ، بل صار يتقرب لجميع الحركات الاسلامية العربية ، وخاصة الاخوان المسلمون في فلسطين وأقصد ( حماس ) ،كما تقرب للأخ محفظ النحناح يرحمه الله ، وللأخوة في لبنان ، وفي الأردن ، كل ذلك لينفي عن نفسه أنه حاول القضاء على الحركة الاسلامية في بلاد الشام ...
واليوم يؤكد القادمون من سوريا أن المساجد تمتلأ بالشباب ، وأن الحجاب ينتشر بسرعة بين الفتيات ، وأن إقبال السوريين على الالتزام بالاسلام يزداد ، وقد اعترف النظام بذلك ، فصار يحاول استيعاب هؤلاء الشباب ، كي لايستوعبهم الاخوان المسلمون ـ مع أنهم خارج البلد ـ
فما الذي يدفع هؤلاء الشباب إلى الاسلام !!؟ وبداية لاننكر جهود كثير من العلماء والدعاة الموجودين داخل سوريا اليوم ، ولكن كما رأينا في الجزائر ، النتائج ( الالتزام بالاسلام ) أكبر بكثير من الجهود الدعوية المبذولة ...
وحسب تفسيري للواقع ... إنها أرواح الشهداء ... أرواح عشرات الألوف من الشهداء السوريين الذين قدموا أرواحهم حفاظاً على الاسلام في سوريا ، كما فعل إخوانهم الجزائريون قبل نصف قرن ، عندما قدموا أرواحهم ليحفظوا الاسلام في الجزائر ... والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين ...(217/3)
وأنعم الله علي أن قابلت عدة شباب سوريين يعيشون داخل سوريا ، ولدوا في عقد الثمانينات ، وكتب الله لهم الحياة ... وعجبت أن هؤلاء الشباب يملكون فهماً اسلامياً صافياً للاسلام دين ودولة ، عقيدة وشريعة ، وينظرون إلى جماعة الاخوان المسلمين عبر الفضائيات ومواقع الانترنت على أنها سوف تخلص سوريا من الطاغوت ، وتحقق لهم مايحلمون به من الاسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة ... ويعتبرون أنفسهم جنوداً من جنودها ... ولو أن المقام يسمح بالكلام لقلت أني وجدت لدى الشباب داخل سوريا ؛ مالايصدقه العقل ، إلا باللجوء إلى التفسير الرباني ، العناية الربانية ، وهذه واحدة ... سجين في عام (1995) عندما أفرج الطاغية عن دفعة كبيرة ، وطلب منهم التوقيع على تعهد منهم أن لايعودوا لمثل ذلك ، أبى أحد السجناء أن يوقع ذلك التعهد وقال لمدير السجن : هل تريدني أن أتعهد على أن لاأعود للدراسة في كلية الشريعة ، وأن أتعهد أن لا أصلي إمام جمعة إذا غاب الخطيب ، هذه جرائمي عندكم ، فأنا عندكم في السجن منذ ثلاثة عشر عاماً ، وهذه جريمتي : طالب في كلية الشريعة ، أخطب الجمعة إذا تغيب الإمام ... هل أتعهد أن لا أعود لمثل ذلك !!!؟ وصار مدير السجن يترضاه ويقول له هذا أمر روتيني ، لابد منه ، وأرجو أن توقع ولاتحرم أهلك من الفرحة بخروجك من السجن ، ولكنه أصر ، وبقي عشر سنوات أخرى ، حتى خرج بدون تعهد ، وعرفت بعد خروجه أنه مصر على الالتزام بدراسة الشريعة ، ومصر على أن الاسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة ..
حزب العدالة والتنمية التركي :
وقبل مدة قليلة قابلت عضوين في البرلمان التركي من حزب العدالة والتنمية ، ودار الحوار بيننا بضع ساعات عبر مترجم معهم ، ومما استخلصته أن فساد الحكومة التي سبقتهم ( وكانت ائتلاف من ثلاثة أحزاب يرأسها أجاويد ) ، فساد هذه الحكومة السابقة ، كان السبب الأقوى في توجه الناخبين الأتراك إلى بذل أصواتهم لحزب العدالة والتنمية الاسلامي ...
وقل مثل ذلك في انتخابات مصر التي قال المحللون أنها لوكانت نزيهة لفاز الاخوان المسلمون بالأكثرية الساحقة فيها ، لسبب هام وهو فساد المنافس ، وتأكد الشعب المصري من فساد الحزب الوطني الذي يحكم مصر ، وقل مثل ذلك في نجاح حماس الفلسطينية .
وفساد الخصم ، وتوجه الناس نحو الدعاة المسلمين ، هذا إعداد رباني وتهيئة لحفظ الاسلام وقوته في هذه البلاد ، واستجابة لأرواح الشهداء الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله عزوجل ؛ ليحفظوا بلادهم مسلمة ، [ والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لايعلمون ] .
ويتضح ذلك أيضاً عندما ننظر إلى بلدان عربية غير الجزائر وسوريا ، تبذل في هذه البلدان جهود وافرة من الدعوة الاسلامية ، كي تعد جيلاً من الشباب المسلم يؤمن أن الاسلام عقيدة وشريعة ، دين ودولة ، ونظام حياة شامل ... هذه البلدان لم تمر بالمحن التي مرت فيها الجزائر ، وسوريا ، نجد بشكل واضح أن النتائج المحصودة أقل بكثير من الجهود الدعوية المبذولة ... فالدعاة متوفرون بكثرة ، والنظام لايحارب الاسلام ، ومع ذلك تجد إقبال الشباب على الالتزام والتمسك بالاسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة ، أقل من تلك البلدان ... على الرغم من جهود الدعاة الكثيرة المقدمة لهم ...
في الجزائر وجدنا النتائج المحصودة أكبر بكثير من الجهود المبذولة ، وفي سوريا اليوم كذلك توجه الشباب نحو الاسلام الشامل ، الاسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة أكبر بكثير من الجهود الدعوية المبذولة ...
وفي غير الجزائر وسوريا نجد الصورة معكوسة ، فالجهود الدعوية المبذولة أكبر بكثير من النتائج المحصودة .... ولاتفسير عندي سوى بركة أرواح الشهداء ، أو قل العناية الربانية بأولاد الشهداء وأحفادهم .....
قال تعالى : [ ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ، بل أحياء عند ربهم يرزقون ] وقال تعالى أيضاً : [ ولاتقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لاتشعرون ]
فهؤلاء الشهداء أحياء ، ومازالوا دعاة ، يدعون الشباب إلى الاسلام ، والالتزام به ، ولكننا لانشعر بذلك ، سوى أننا نتأكد من وجود أيدي خفية غير ظاهرة دفعت الشباب والشابات في الجزائر نحو الالتزام بالاسلام ، كما تدفع اليوم الشباب والشابات في سوريا إلى الالتزام بالاسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة ...
[ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون ]
والحمد لله رب العالمين ...
* كاتب سوري في المنفى(217/4)
أرى عينيه ما لم تريا !
السؤال :
ما حكم الإسلام ممن يزعم أنه رأى في منامه أموراً لم يرها ، مع العلم بأنة يلجأ إلى زعمه هذا للترغيب و الترهيب في الدعوة ، أو إلى الإصلاح بين الناس ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
من المقرر شرعاً أن الكذب من الكبائر ، و لا شك أن الذنوب تتفاوت ؛ فبعضها أشنع من بعض ، و من أشنع الكذب ما تعلّق بالغيبيات كالكذب في ادّعاء الرؤى الصالحة ، و لذلك استحق من وقع في ذلك الوعيد الشديد بالعذاب يوم القيامة .
فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَ لَنْ يَفْعَلَ ) .
قال الإمام المناوي رحمه الله شارحاً هذا الحديث في فيض القدير : ( من تحلَّم ) بالتشديد أي تكلف الحلم بأن زعم أنه حلم حُلماً ؛ أي : رأى رؤيا في حال كونه ( كاذباً ) في دعواه أنه رأى ذلك في منامه ، ( كُلِّف ) بضم الكاف و شد اللام المكسورة ( يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ) بكسر العين تثنية شعيرة ( و لن ) يقدر أن ( يعقد بينهما ) لأن اتصال إحداهما بالأخرى غير ممكن عادةً فهو يعذب حتى يفعل ذلك ، و لا يمكنه فعله ، فكأنه يقول : يكلف ما لا يستطيعه فيعذب عليه ؛ فهو كناية عن تعذيبه على الدوام . اهـ .
و قد يرد هنا تساؤل عن الحكمة من المبالغة في النكير على الكذب في الرؤى أكثر من النكير على من يكذب في الحقيقة ، و يكشف هذا الالتباس ما ذكره ابن حجر في الفتح ، و عزا أصله إلى الطبري رحمهما الله ، فقال : إنما اشتد في الكذب على المنام الوعيد مع أن الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه إذ قد تكون شهادة في قتل أو حد أو أخذ مال ، لأن الكذب في المنام كذبٌ على الله أنه أراه ما لم يره ، و الكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين ، لقوله تعالى : ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) [ هود : 18 ] ، و إنما كان الكذب في المنام كذبا على الله لحديث ( الرؤيا جزء من النبوة ) و ما كان من أجزاء النبوة فهو من قبل الله تعالى .اهـ .
قلتُ : و كفى بهذا الوعيد زاجراً لمن تسوّل له نفسه أن يدعي رؤيا ما لم يُرَ في منامه ، و رادعاً لأمثاله من التذرّع بالذرائع لاستحلال الكذب و استمرائه أو إشاعته و ترويجه .
أما ما يُزعم من أنه كذب لترقيق القلوب ، و ترغيبها في الخير ، أو تنفيرها عن الشر ؛ فهو من تلبيس إبليس على العباد ليجرّئهم على محارم الله ، و يزين لهم الوقوع في الموبقات المهلكات ، و العياذ بالله .
و ثمّة شِبَهٌ بين من يزعم تدعيم دعوته إلى الله باختلاق الدعاوى ، و التصنّع بالرؤى الكاذبة و بين وُضَّاع الحديث من المبتدعة المتدروشين القائلين : ( نحن لا نكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم و لكننا نكذب له ) أي لنشر سنتة باختلاق الأخبار و وضع الأحاديث في فضائل الأعمال ، و هذا شر مستطير ، و خطر عظيم على من بدأه و من روّجه أو وافقه .
فليتق الله امرؤٌ في كلامه ، و ليراقب ربّه في جميع أحواله ، و ليعلم أنّه ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) [ ق : 18 ] .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .(218/1)
أريد أن أتوب ولكن
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فإن الله أمر المؤمنين جميعاً بالتوبة : ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) النور /31 .
وقسم العباد إلى تائب وظالم ، وليس ثم قسم ثالث البتة ، فقال عز وجل : ( ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) الحجرات /11 وهذا أوان بعد فيه كثير من الناس عن دين الله فعمت المعاصي وانتشر الفساد، حتى ما بقي أحد لم يتلوث بشيء من الخبائث إلا من عصم الله .
ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره فانبعث الكثيرون من غفلتهم ورقادهم، وأحسوا بالتقصير في حق الله ، وندموا على التفريط والعصيان ، فتوجهت ركائبهم ميممة شطر منار التوبة ، وآخرون سئموا حياة الشقاء وضنك العيش ، وهاهم يتلمسون طريقهم للخروج من الظلمات إلى النور .
لكن تعترض طريق ثلة من هذا الموكب عوائق يظنونها تحول بينهم وبين التوبة ، منها ما هو في النفس ، ومنها ما هو في الواقع المحيط .
ولأجل ذلك كتبت هذه الرسالة آملاً أن يكون فيها توضيح للبس وكشف لشبهة أو بيان لحكم ودحر للشيطان .
وتحتوي هذه الرسالة على مقدمة عن خطورة الاستهانة بالذنوب فشرحاً لشروط التوبة ، ثم علاجات نفسية ، وفتاوى للتائبين مدعمة بالأدلة من القرآن الكريم والسنة ، وكلام أهل العلم وخاتمة .
والله أسأل أن ينفعني وأخواني المسلمين بهذه الكلمات ، وحسبي منهم دعوة صالحة أو نصيحة صادقة ، والله يتوب علينا أجمعين .
مقدمة في خطر الاستهانة بالذنوب
اعلم رحمني الله وإياك أن الله عز وجل أمر العباد بإخلاص التوبة وجوباً فقال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً ) التحريم /8
ومنحنا مهلة للتوبة قبل أن يقوم الكرام الكاتبون بالتدوين فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات - محتمل أن تكون الساعة الفلكية المعروفة ، أو هي المدة اليسيرة من الليل أو النهار ، من لسان العرب - عن العبد المسلم المخطئ ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها ، وإلا كتبت واحدة ) رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1209 . ومهلة أخرى بعد الكتابة وقبل حضور الأجل .
ومصيبة كثير من الناس اليوم أنهم لا يرجون لله وقاراً ، فيعصونه بأنواع الذنوب ليلاً ونهاراً ، ومنهم طائفة ابتلوا باستصغار الذنوب ، فترى أحدهم يحتقر في نفسه بعض الصغائر ، فيقول مثلاً : وماذا تضر نظرة أو مصافحة أجنبية . الأجانب هم ما سوى المحارم .
ويتسلون بالنظر إلى المحرمات في المجلات والمسلسلات ، حتى أن بعضهم يسأل باستخفاف إذا علم بحرمة مسألة كم سيئة فيها ؟ أهي كبيرة أم صغيرة ؟ فإذا علمت هذا الواقع الحاصل فقارن بينه وبين الأثرين التاليين من صحيح الإمام البخاري رحمه الله :
- عن أنس رضي الله عنه قال : ( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر ، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات ) والموبقات هي المهلكات .
- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا – أي بيده – فذبه عنه "
وهل يقدر هؤلاء الآن خطورة الأمر إذا قرأوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد ، فجاء ذا بعود ، وجاء ذا بعود ، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم ، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه ( وفي رواية ) إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ) رواه أحمد ، صحيح الجامع 2686-2687 .
وقد ذكر أهل العلم أن الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف من الله مع الاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في رتبتها ، ولأجل ذلك لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار .
ونقول لمن هذه حاله : لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت .
وهذه كلمات سينتفع بها إن شاء الله الصادقون ، الذين أحسوا بالذنب والتقصير وليس السادرون في غيهم ولا المصرون على باطلهم .
إنها لمن يؤمن بقوله تعالى : ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) الحجر /49 ، كما يؤمن بقوله : ( وأن عذابي هو العذاب الأليم ) الحجر /50 .
شروط التوبة ومكملاتها
كلمة التوبة كلمة عظيمة ، لها مدلولات عميقة ، لا كما يظنها الكثيرون ، ألفاظ باللسان ثم الاستمرار على الذنب ، وتأمل قوله تعالى : ( وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) هود /3 تجد أن التوبة هي أمر زائد على الاستغفار .
ولأن الأمر العظيم لابد له من شروط ، فقد ذكر العلماء شروطاً للتوبة مأخوذة من الآيات والأحاديث ، وهذا ذكر بعضها :
الأول : الإقلاع عن الذنب فوراً .(219/1)
الثاني : الندم على ما فات .
الثالث : العزم على عدم العودة .
الرابع : إرجاع حقوق من ظلمهم ، أو طلب البراءة منهم .
وذكر بعض أهل العلم تفصيلات أخرى لشروط التوبة النصوح ، نسوقها مع بعض الأمثلة :
الأول : أن يكون ترك الذنب لله لا لشيء آخر ، كعدم القدرة عليه أو على معاودته ، أو خوف كلام الناس مثلاً .
فلا يسمى تائباً من ترك الذنوب لأنها تؤثر على جاهه وسمعته بين الناس ، أو ربما طرد من وظيفته .
ولا يسمى تائباً من ترك الذنوب لحفظ صحته وقوته ، كمن ترك الزنا أو الفاحشة خشية الأمراض الفتاكة المعدية ، أو أنها تضعف جسمه وذاكرته .
ولا يسمى تائباً من ترك أخذ الرشوة لأنه خشي أن يكون معطيها من هيئة مكافحة الرشوة مثلاً .
ولا يسمى تائباً من ترك شرب الخمر وتعاطي المخدرات لإفلاسه .
وكذلك لا يسمى تائباً من عجز عن فعل معصية لأمر خارج عن إرادته ، كالكاذب إذا أصيب بشلل أفقده النطق ، أو الزاني إذا فقد القدرة على الوقاع ، أو السارق إذا أصيب بحادث أفقده أطرافه ، بل لابد لمثل هذا من الندم والإقلاع عن تمني المعصية أو التأسف على فواتها ولمثل هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الندم توبة ) رواه أحمد وابن ماجه ، صحيح الجامع 6802 .
والله نزّل العاجز المتمني بالقول منزلة الفاعل ، ألا تراه صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الدنيا لأربعة نفر ، عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه ، ويصل فيه رحمه ، ويعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه الله علماً ، ولم يرزقه مالاً ، فهو صادق النية ، يقول : لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان ، فهو بنيته ، فأجرهما سواء ، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول : لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته ، فوزرهما سواء ) رواه أحمد والترمذي وصححه صحيح الترغيب والترهيب 1/9 .
الثاني : أن يستشعر قبح الذنب وضرره .
وهذا يعني أن التوبة الصحيحة لا يمكن معها الشعور باللذة والسرور حين يتذكر الذنوب الماضية ، أو أن يتمنى العودة لذلك في المستقبل .
وقد ساق ابن القيم رحمه الله في كتابه الداء والدواء والفوائد أضراراً كثيرة للذنوب منها :
حرمان العلم – والوحشة في القلب – وتعسير الأمور – ووهن البدن – وحرمان الطاعة – ومحق البركة – وقلة التوفيق – وضيق الصدر – وتولد السيئات – واعتياد الذنوب – وهوان المذنب على الله – وهوانه على الناس – ولعنة البهائم له – ولباس الذل – والطبع على القلب والدخول تحت اللعنة – ومنع إجابة الدعاء – والفساد في البر والبحر- وانعدام الغيرة – وذهاب الحياء – وزوال النعم – ونزول النقم – والرعب في قلب العاصي – والوقوع في أسر الشيطان – وسوء الخاتمة – وعذاب الآخرة .
وهذه المعرفة لأضرار الذنوب تجعله يبتعد عن الذنوب بالكلية ، فإن بعض الناس قد يعدل عن معصية إلى معصية أخرى لأسباب منها :
أن يعتقد أن وزنها أخف .
لأن النفس تميل إليها أكثر ، والشهوة فيها أقوى .
لأن ظروف هذه المعصية متيسرة أكثر من غيرها ، بخلاف المعصية التي تحتاج إلى إعداد وتجهيز ، أسبابها حاضرة متوافرة .
لأن قرناءه وخلطاؤه مقيمون على هذه المعصية ويصعب عليه أن يفارقهم .
لأن الشخص قد تجعل له المعصية المعينة جاهاً ومكانة بين أصحابه فيعز عليه أن يفقد هذه المكانة فيستمر في المعصية ، كما يقع لبعض رؤساء عصابات الشر والفساد ، وكذلك ما وقع لأبي نواس الشاعر الماجن لما نصحه أبو العتاهية الشاعر الواعظ ولامه على تهتكه في المعاصي ، فأنشد أبو نواس :
أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي
أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهي
الثالث : أن يبادر العبد إلى التوبة ، ولذلك فإن تأخير التوبة هو في حد ذاته ذنب يحتاج إلى توبة .
الرابع : أن يخشى على توبته من النقص ، ولا يجزم بأنها قد قبلت، فيركن إلى نفسه ويأمن مكر الله .
الخامس : استدراك ما فات من حق الله إن كان ممكناً ، كإخراج الزكاة التي منعت في الماضي ولما فيها من حق الفقير كذلك .
السادس : أن يفارق موضع المعصية إذا كان وجوده فيه قد يوقعه في المعصية مرة أخرى .
السابع : أن يفارق من أعانه على المعصية وهذا والذي قبله من فوائد حديث قاتل المائة وسيأتي سياقه .
والله يقول : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) الزخرف /67 . وقرناء السوء سيلعن بعضهم بعضاً يوم القيامة ، ولذلك عليك أيها التائب بمفارقتهم ونبذهم ومقاطعتهم والتحذير منهم إن عجزت عن دعوتهم ولا يستجرينك الشيطان فيزين لك العودة إليهم من باب دعوتهم وأنت تعلم أنك ضعيف لا تقاوم .
وهناك حالات كثيرة رجع فيها أشخاص إلى المعصية بإعادة العلاقات مع قرناء الماضي .(219/2)
الثامن : إتلاف المحرمات الموجودة عنده مثل المسكرات وآلات اللهو كالعود والمزمار ، أو الصور والأفلام المحرمة والقصص الماجنة والتماثيل ، وهكذا فينبغي تكسيرها وإتلافها أو إحراقها .
ومسألة خلع التائب على عتبة الاستقامة جميع ملابس الجاهلية لابد من حصولها ، وكم من قصة كان فيها إبقاء هذه المحرمات عند التائبين سبباً في نكوصهم ورجوعهم عن التوبة وضلالهم بعد الهدى، نسأل الله الثبات .
التاسع : أن يختار من الرفقاء الصالحين من يعينه على نفسه ويكون بديلاً عن رفقاء السوء وأن يحرص على حلق الذكر ومجالس العلم ويملأ وقته بما يفيد حتى لا يجد الشيطان لديه فراغاً ليذكره بالماضي .
العاشر : أن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيصرف طاقته في طاعة الله ويتحرى الحلال حتى ينبت له لحم طيب .
الحادي عشر : أن تكون التوبة قبل الغرغرة ، وقبل طلوع الشمس من مغربها : والغرغرة الصوت الذي يخرج من الحلق عند سحب الروح والمقصود أن تكون التوبة قبل القيامة الصغرى والكبرى لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه ) رواه أحمد والترمذي ، صحيح الجامع 6132 . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه ) رواه مسلم .
توبة عظيمة
ونذكر هنا نموذجاً لتوبة الرعيل الأول من هذه الأمة ، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
عن بريدة رضي الله عنه : أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا رسول الله إني ظلمت نفسي وزنيت ، وإني أريد أن تطهرني فرده ، فلما كان من الغد أتاه ، فقال : يا رسول الله إني زنيت فرده الثانية ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه ، فقال : ( أتعلمون بعقله بأساً ؟ أتنكرون منه شيئاً ؟ ) قالوا : ما نعلمه إلا وفيّ العقل ، من صالحينا فيما نرى ، فأتاه الثالثة ، فأرسل إليهم أيضاً ، فسأل عنه فأخبره أنه لا بأس به ولا بعقله ، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ، ثم أمر به فرجم ، قال : فجاءت الغامدية ، فقالت : يا رسول الله إني زنيت فطهرني ، وإنه ردها ، فلما كان الغد ، قالت : يا رسول الله لم تردني ؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً ، فوالله إني لحبلى ، قال : ( أما لا ، فاذهبي حتى تلدي ) ، قال : فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، قالت : هذا قد ولدته ، قال : ( اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ) ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا رسول الله قد فطمته ، وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها ، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضخ الدم على وجه خالد فسبها ، فسمع نبي الله سبه إياها ، فقال: ( مهلاً يا خالد ! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس {وهو الذي يأخذ الضرائب } لغفر له ) رواه مسلم . ثم أمر بها فصلى عليها ، ودفنت .
وفي رواية فقال عمر يا رسول الله رجمتها ثم تصلي عليها ! فقال : ) لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة وسعتهم ، وهل وجدت شيئاً أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل . رواه عبد الرزاق في مصنفه 7/325 .
التوبة تمحو ما قبلها
وقد يقول قائل : أريد أن أتوب ولكن من يضمن لي مغفرة الله إذا تبت وأنا راغب في سلوك طريق الاستقامة ولكن يداخلني شعور بالتردد ولو أني أعلم أن الله يغفر لي لتبت ؟
فأقول له ما داخلك من المشاعر داخل نفوس أناس قبلك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولو تأملت في هاتين الروايتين بيقين لزال ما في نفسك إن شاء الله .
الأولى : روى الإمام مسلم رحمه الله قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه وفيها : " فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه فقبضت يديّ قال : مالك يا عمرو ؟ قال : قلت أردت أن أشترط ، قال ( تشترط بماذا؟) قلت : أن يغفر لي . قال : ( أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ ) .
والثانية : وروى الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن أناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : " إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن ، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزل قول الله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ) الفرقان /68 . ونزل : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) .
هل يغفر الله لي
وقد تقول أريد أن أتوب ولكن ذنوبي كثيرة جداً ولم أترك نوعاً من الفواحش إلا واقترفته ، ولا ذنباً تتخيله أو لا تتخيله إلا ارتكبته لدرجة أني لا أدري هل يمكن أن يغفر الله لي ما فعلته في تلك السنوات الطويلة .(219/3)
وأقول لك أيها الأخ الكريم : هذه ليست مشكلة خاصة بل هي مشكلة كثير ممن يريدون التوبة وأذكر مثالاً عن شاب وجه سؤالاً مرة بأنه قد بدأ في عمل المعاصي من سن مبكرة وبلغ السابعة عشرة من عمره فقط وله سجل طويل من الفواحش كبيرها وصغيرها بأنواعها المختلفة مارسها مع أشخاص مختلفين صغاراً وكباراً حتى اعتدى على بنت صغيرة ، وسرق عدة سرقات ثم يقول : تبت إلى الله عز وجل ، أقوم وأتهجد بعض الليالي وأصوم الاثنين والخميس ، وأقرأ القرآن الكريم بعد صلاة الفجر فهل لي من توبة ؟
والمبدأ عندنا أهل الإسلام أن نرجع إلى الكتاب والسنة في طلب الأحكام والحلول والعلاجات ، فلما عدنا إلى الكتاب وجدنا قول الله عز وجل : ( قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً أنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ) الزمر الآيتان 53،54
فهذا الجواب الدقيق للمشكلة المذكورة وهو واضح لا يحتاج إلى بيان .
أما الإحساس بأن الذنوب أكثر من أن يغفرها الله فهو ناشيء عن عدم يقين العبد بسعة رحمة ربه أولاً .
ونقص في الإيمان بقدرة الله على مغفرة جميع الذنوب ثانياً .
وضعف عمل مهم من أعمال القلوب هو الرجاء ثالثاً .
وعدم تقدير مفعول التوبة في محو الذنوب رابعاً .
ونجيب عن كل منها .
فأما الأول : فيكفي في تبيانه قول الله تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) الأعراف /56 .
وأما الثاني : فيكفي فيه الحديث القدسي الصحيح : ( قال تعالى من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ، ما لم يشرك بي شيئاً ) رواه الطبراني في الكبير والحاكم ، صحيح الجامع 4330 . وذلك إذا لقي العبد ربه في الآخرة .
وأما الثالث : فيعالجه هذا الحديث القدسي العظيم : ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ) رواه الترمذي ، صحيح الجامع 4338 .
وأما الرابع : فيكفي فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) رواه ابن ماجه ، صحيح الجامع 3008 .
وإلى كل من يستصعب أن يغفر الله له فواحشه المتكاثرة نسوق هذا الحديث :
توبة قاتل المائة
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب ، فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمّل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدّل على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط , فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم – أي حكماً - فقال : قيسوا ما بين الأرضيين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة ) متفق عليه . وفي رواية في الصحيح ( فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها ) وفي رواية في الصحيح ( فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له ) .
نعم ومن يحول بينه وبين التوبة ! فهل ترى الآن يا من تريد التوبة أن ذنوبك أعظم من هذا الرجل الذي تاب الله عليه ، فلم اليأس ؟
بل إن الأمر أيها الأخ المسلم أعظم من ذلك ، تأمل قول الله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً ، إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ) الفرقان /68 – 70 .
ووقفة عند قوله : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) الفرقان /70 تبين لك فضل الله العظيم ، قال العلماء التبديل هنا نوعان :
الأول : تبديل الصفات السيئة بصفات حسنة كإبدالهم بالشرك إيماناً وبالزنا عفة وإحصاناً وبالكذب صدقاً وبالخيانة أمانة وهكذا .(219/4)
والثاني : تبديل السيئات التي عملوها بحسنات يوم القيامة ، وتأمل قوله تعالى : ( يبدل الله سيئاتهم حسنات ) ولم يقل مكان كل سيئة حسنة فقد يكون أقل أو مساوياً أو أكثر في العدد أو الكيفية ، وذلك بحسب صدق التائب وكمال توبته ، فهل ترى فضلاً أعظم من هذا الفضل ؟ وانظر إلى شرح هذا الكرم الإلهي في الحديث الجميل :
عن عبد الرحمن بين جبير عن أبي طويل شطب الممدود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم - وفي طرق أخرى – " جاء شيخ هرم قد سقط حاجباه على عينيه وهو يدّعم على عصا حتى قام بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئاً وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة أي صغيرة ولا كبيرة إلا أتاها ، وفي رواية ، إلا اقتطعها بيمينه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم أي أهلكتهم فهل لذلك من توبة ؟ قال : ( فهل أسلمت ) قال : أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . قال : ( تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ) قال : وغدراتي وفجراتني ، قال : ( نعم ) قال : الله أكبر فما زال يكبر حتى توارى. قال الهيثمي رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجال البزار رجال الصحيح غير محمد بن هارون أبي نشيطة وهو ثقة ، المجمع 1/36 وقال المنذري في الترغيب إسناده جيد قوي 4/113 وقال ابن حجر في الإصابة هو على شرط الصحيح 4/149.
وهنا قد يسأل تائب ، فيقول : إني لما كنت ضالاً لا أصلي خارجاً عن ملة الإسلام قمت ببعض الأعمال الصالحة فهل تحسب لي بعد التوبة أو تكون ذهبت أدراج الرياح .
وإليك الجواب : عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتِاقة أو صلة رحم أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) رواه البخاري .
فهذه الذنوب تغفر ، وهذه السيئات تبدل حسنات ، وهذه الحسنات أيام الجاهلية تثبت لصاحبها بعد التوبة ، فماذا بقي !
كيف أفعل إذا أذنبت
وقد تقول إذا وقعت في ذنب فكيف أتوب منه مباشرة وهل هناك فعل أقوم به بعد الذنب فوراً ؟ .
فالجواب : ما ينبغي أن يحصل بعد الإقلاع عملان .
الأول : عمل القلب بالندم والعزم على عدم العودة ، وهذه تكون نتيجة الخوف من الله .
الثاني : عمل الجوارح بفعل الحسنات المختلفة ومنها صلاة التوبة وهذا نصها :
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ) رواه أصحاب السنن ، صحيح الترغيب والترهيب 1/284 . ثم قرأ هذه الآية : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) آل عمران /135 .
وقد ورد في روايات أخرى صحيحة صفات أخرى لركعتين تكفران الذنوب وهذا ملخصها :
- ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ( لأن الخطايا تخرج من الأعضاء المغسولة مع الماء أو مع آخر قطر الماء )
ومن إحسان الوضوء قول بسم الله قبله والأذكار بعده وهي : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين – سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك . وهذه أذكار ما بعد الوضوء لكل منها أجر عظيم .
- يقوم فيصلي ركعتين .
- لا يسهو فيهما .
- لا يحدث فيهما نفسه .
- يحسن فيهن الذكر والخشوع .
- ثم استغفر الله .
والنتيجة :
غفر له ما تقدم من ذنبه .
إلا وجبت له الجنة . صحيح الترغيب 1/ 94 ، 95
ثم الإكثار من الحسنات والطاعات ، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه لما أحس بخطئه في المناقشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية ، قال بعدها فعلمت لذلك أعمالاً أي صالحات لتكفير الذنب.
وتأمل في المثل الوارد في هذا الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم : ( إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع أي لباس من حديد يرتديه المقاتل ضيقة ، قد خنقته ، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ، ثم عمل أخرى فانفكت الأخرى حتى يخرج إلى الأرض ) رواه الطبراني في الكبير ، صحيح الجامع 2192 . فالحسنات تحرر المذنب من سجن المعصية ، وتخرجه إلى عالم الطاعة الفسيح ، ويلخص لك يا أخي ما تقدم هذه القصة المعبرة .(219/5)
عن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها ، ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت ، فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فذهب الرجل ، فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه ، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره ، ثم قال : ( ردوه علي ) ، فردوه عليه فقرأ عليه : ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) .
فقال معاذ – وفي رواية عمر – يا رسول الله أله وحده ، أم للناس كافة ؟ فقال : ( بل للناس كافة ) رواه مسلم .
أهل السوء يطاردونني
وقد تقول أريد أن أتوب ولكن أهل السوء من أصحابي يطاردونني في كل مكان وما أن علموا بشيء من التغير عندي حتى شنوا عليّ حملة شعواء وأنا أشعر بالضعف فماذا أفعل ؟!
ونقول لك اصبر فهذه سنة الله في ابتلاء المخلصين من عباده ليعلم الصادقين من الكاذبين وليميز الله الخبيث من الطيب .
وما دمت وضعت قدميك على بداية الطريق فاثبت ، وهؤلاء شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض لكي يردوك على عقبيك فلا تطعهم ، إنهم سيقولون لك في البداية هذا هوس لا يلبث أن يزول عنك ، وهذه أزمة عارضة ، والعجب أن بعضهم قال لصاحب له في بداية توبته عسى ما شر !!
والعجب أن إحداهن لما أغلق صاحبها الهاتف في وجهها لأنه تاب ولا يريد مزيداً من الآثام اتصلت به بعد فترة وقالت عسى أن يكون زال عنك الوسواس ؟
والله يقول : ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس ، من شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ، من الجنة والناس ) الناس /1-6 .
فهل ربك أولى بالطاعة أم ندماء السوء ؟!
وعليك أن تعلم أنهم سيطاردونك في كل مكان وسيسعون لردك إلى طريق الغواية بكل وسيلة ولقد حدثني بعضهم بعد توبته أنه كانت له قرينة سوء تأمر سائق سيارتها أن يمشي وراءه وهو في طريقه إلى المسجد وتخاطبه من النافذة .
هنالك : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) إبراهيم /27 .
سيسعون إلى تذكيرك بالماضي وتزيين المعاصي السابقة لك بكل طريقة ، ذكريات .. توسلات .. صور .. ورسائل .. فلا تطعهم واحذرهم أن يفتنوك وتذكر هنا قصة كعب بن مالك الصحابي الجليل ، لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة جميعاً بمقاطعته لتخلفه عن غزوة تبوك حتى يأذن الله ، أرسل إليه ملك غسان الكافر رسالة يقول فيها : " أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك " يريد الكافر استمالة المسلم حتى يخرج من المدينة ويضيع هناك في ديار الكفر .
ما هو موقف الصحابي الجليل قال كعب : " فقلت حين قرأتها وهذه أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور أي الفرن فسجرتها أي أحرقتها .
وهكذا اعمد أنت أيها المسلم من ذكر أو أنثى إلى كل ما يرسل إليك من أهل السوء فاحرقه حتى يصير رماداً وتذكر وأنت تحرقه نار الآخرة . ( فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذي لا يوقنون )
إنهم يهددونني
أريد أن أتوب ولكن أصدقائي القدامى يهددونني بإعلان فضائحي بين الناس ، ونشر أسراري على الملأ ، إن عندهم صوراً ووثائق ، وأنا أخشى على سمعتي ، إني خائف !!
ونقول : جاهد أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ، فهذه ضغوط أعوان إبليس تجتمع عليك كلها ، ثم لا تلبث أن تتفرق وتتهاوى أمام صبر المؤمن وثباته .
واعلم أنك إن سايرتهم ورضخت لهم فسيأخذون عليك مزيداً من الإثباتات ، فأنت الخاسر أولاً وأخيراً ، لكن لا تطعهم واستعن بالله عليهم ، وقل حسبي الله ونعم الوكيل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خاف قوماً قال : ( اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ) رواه أحمد وأبو داود ، صحيح الجامع 4582 .
صحيح أن الموقف صعب وأن تلك المسكينة التائبة التي اتصل بها قرين السوء يقول مهدداً : لقد سجلت مكالمتك ولديّ صورتك ولو رفضت الخروج معي لأفضحنك عند أهلك !! صحيح أنها في موقف لا تحسد عليه .
وانظر إلى حرب أولياء الشياطين لمن تاب من المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات فإنهم يطرحون أسوأ إنتاجهم السابق في الأسواق للضغط والحرب النفسية ، ولكن الله مع المتقين ، ومع التائبين ، وهو ولي المؤمنين ، لا يخذلهم ولا يتخلى عنهم ، وما لجأ عبد إليه فخاب أبداً ، واعلم أن مع العسر يسراً ، وأن بعد الضيق فرجاً .
وإليك أيها الأخ التائب هذه القصة المؤثرة شاهداً واضحاً على ما نقول .(219/6)
إنها قصة الصحابي الجليل مرثد بن أبي مرثد الغنويّ الفدائي الذي كان يهرب المستضعفين من المسلمين من مكة إلى المدينة سراً . " كان رجل يقال له : مرثد بن أبي مرثد ، وكان رجلاً يحمل الأسرى من مكة ، حتى يأتي بهم المدينة ، قال : وكانت امرأة بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقة له ، وأنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة يحتمله ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجانب الحائط ، فلما انتهت إليّ عرفت ، فقالت : مرثد ؟ فقلت: مرثد ، قالت : مرحباً وأهلاً ، هلم فبت عندنا الليلة ، قلت : يا عناق حرم الله الزنا ، قالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم قال فتبعني ثمانية ، وسلكت الخندمة ( وهو جبل معروف عند أحد مداخل مكة ) فانتهيت إلى غار أو كهف ، فدخلت فجاءوا حتى قاموا على رأسي وعماهم الله عني قال : ثم رجعوا ، ورجعت إلى صاحبي فحملته ، وكان رجلاً ثقيلاً ، حتى انتهيت إلى الأذخر ففككت عنه أكبله ( أي قيوده ) فجعلت أحمله ويُعييني ( أي يرهقني) حتى قدمت المدينة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناقاً ؟ مرتين ، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليّ شيئاً ، حتى نزلت ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) النور /3 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فلا تنكحها ) صحيح سنن الترمذي 3/80 .
هل رأيت كيف يدافع الله عن الذين آمنوا وكيف يكون مع المحسنين؟.
وعلى أسوأ الحالات لو حصل ما تخشاه أو انكشفت بعض الأشياء واحتاج الأمر إلى بيان فوضح موقفك للآخرين وصارحهم ، وقل نعم كنت مذنباً فتبت إلى الله فماذا تريدون ؟
ولنتذكر جميعاً أن الفضيحة الحقيقة هي التي تكون بين يدي الله يوم القيامة ، يوم الخزي الأكبر ، ليست أمام مائة أو مائتين ولا ألف أو ألفين ، ولكنها على رؤوس الأشهاد ، أما الخلق كلهم من الملائكة والجن والإنس ، من آدم وحتى آخر رجل .
فهلم إلى دعاء إبراهيم :
( ولا تخزني يوم يبعثون ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء /87-89
وتحصن في اللحظات الحرجة بالأدعية النبوية : اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ، اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من بغى علينا ، اللهم لا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين .
ذنوبي تنغص معيشتي
وقد تقول : إني ارتكبت من الذنوب الكثير وتبت إلى الله ، ولكن ذنوبي تطاردني ، وتذكري لما عملته ينغص عليّ حياتي ، ويقض مضجعي ، ويؤرق ليلي ويقلق راحتي ، فما السبيل إلى إراحتي .
فأقول لك أيها الأخ المسلم ، إن هذه المشاعر هي دلائل التوبة الصادقة ، وهذا هو الندم بعينه ، والندم توبة فالتفت إلى ما سبق بعين الرجاء ، رجاء أن يغفر الله لك ، ولا تيأس من روح الله ، ولا تقنط من رحمة الله ، والله يقول : ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) الحجر /56 .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( أكبر الكبائر الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله) رواه عبد الرزاق وصححه الهيثمي وابن كثير .
والمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء ، وقد يُغلِّب أحدهما في بعض الأوقات لحاجة ، فإذا عصى غلَّب جانب الخوف ليتوب ، وإذا تاب غلَّب جانب الرجاء يطلب عفو الله .
هل اعترف ؟
وسأل سائل بصوت حزين يقول : أريد أن أتوب ولكن هل يجب عليّ أن أذهب وأعترف بما فعلت من ذنوب ؟
وهل من شروط توبتي أن أقر أمام القاضي في المحكمة بكل ما اقترفت وأطلب إقامة الحد عليّ ؟
وماذا تعني تلك القصة التي قرأتها قبل قليل عن توبة ماعز ، والمرأة ، والرجل الذي قبّل امرأة في بستان .
فأقول لك أيها الأخ المسلم : اتصال العبد بربه دون وسائط من مزايا هذا التوحيد العظيم ، الذي ارتضاه الله ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) البقرة /186 . وإذا آمنا أن التوبة لله فإن الاعتراف هو لله أيضاً ، وفي دعاء سيد الاستغفار: ( أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي ) أي أعترف لك يا الله .
ولسنا ولله الحمد مثل النصارى ، قسيس وكرسي اعتراف وصك غفران .. إلى آخر أركان المهزلة .
بل إن الله يقول : ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ) التوبة /104 أي عن عباده دون وسيط .(219/7)
أما بالنسبة لإقامة الحدود فإن الحد إذا لم يصل إلى الإمام أو الحاكم أو القاضي فإنه لا يلزم الإنسان أن يأتي ويعترف ، ومن ستر الله عليه لا بأس أن يستر نفسه ، وتكفيه توبته فيما بينه وبين الله ، ومن أسمائه سبحانه الستِّير وهو يحب الستر على عباده ، أما أولئك الصحابة مثل ماعز والمرأة اللذان زنيا والرجل الذي قبل امرأة في بستان فإنهم رضي الله عنهم فعلوا أمراً لا يجب عليهم وذلك من شدة حرصهم على تطهير أنفسهم بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه ماعز أعرض عنه وعن المرأة في البداية وكذلك قول عمر للرجل الذي قبّل امرأة في بستان لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه ، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إقراراً .
وعلى هذا فلا يلزم الذهاب للمحكمة لتسجيل الاعترافات رسمياً إذا أصبح العبد وقد ستره ربه ، ولا يلزم كذلك الذهاب إلى إمام المسجد وطلب إقامة الحد ، ولا الاستعانة بصديق في الجلد داخل البيت ، كما يخطر في أذهان البعض .
وعند ذلك تُعلم بشاعة موقف بعض الجهال من بعض التائبين في مثل القصة الآتي ملخصها :
ذهب مذنب إلى إمام مسجد جاهل ، واعترف لديه بما ارتكب من ذنوب وطلب منه الحل ، فقال هذا الإمام لابد أولاً أن تذهب إلى المحكمة وتصدق اعترافاتك شرعاً ، وتقام عليك الحدود ، ثم ينظر في أمرك ، فلما رأى المسكين أنه لا يطيق تطبيق هذا الكلام ، عدل عن التوبة ورجع إلى ما كان فيه .
وأنتهز هذه الفرصة لتعليق مهم فأقول : أيها المسلمون إن معرفة أحكام الدين أمانة ، وطلبها من مصادرها الصحيحة أمانة ، والله يقول : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) النحل /43 وقال : ( الرحمن فاسأل به خبيراً ) الفرقان /59 .
فليس كل واعظ يصلح أن يُفتي ، ولا كل إمام مسجد أو مؤذن يصلح أن يُخبر بالأحكام الشرعية في قضايا الناس ، ولا كل أديب أو قاصّ يصلح ناقلاً للفتاوى ، والمسلم مسئول عمن يأخذ الفتوى ، وهذه مسألة تعبدية ، وقد خشي صلى الله عليه وسلم على الأمة من الأئمة المضلين، قال أحد السلف : إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم ، فاحذروا عباد الله من هذه المزالق والتمسوا أهل العلم فيما أشكل عليكم . والله المستعان .
فتاوى مهمة للتائبين
وقد تقول : أريد أن أتوب ولكني أجهل أحكام التوبة ، وتدور في ذهني أسئلة كثيرة عن صحة التوبة من بعض الذنوب ، وكيفية قضاء حقوق الله التي فرطت فيها ، وطريقة إرجاع حقوق العباد التي أخذتها ، فهل من إجابات على هذه التساؤلات ؟
وإليك أيها العائد إلى الله ما علّه يشفي الغليل .
س1 : إنني أقع في الذنب فأتوب منه ، ثم تغلبني نفسي الأمارة بالسوء فأعود إليه ! فهل تبطل توبتي الأولى ويبقى عليّ إثم الذنب الأول وما بعده ؟
جـ1 : ذكر أكثر العلماء على أنه لا يشترط في صحة التوبة ألا يعود إلى الذنب ، وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب، والندم عليه ، والعزم الجازم على ترك معاودته ، فإن عاوده يصبح حينئذ كمن عمل معصية جديدة تلزمه توبة جديدة منها وتوبته الأولى صحيحة .
س2 : هل تصح التوبة من ذنب وأنا مصر على ذنب آخر ؟
جـ2 : تصح التوبة من ذنب ولو أصر على ذنب آخر ، إذا لم يكن من النوع نفسه ، ولا يتعلق بالذنب الأول ، فمثلاً لو تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر فتوبته من الربا صحيحة ، والعكس صحيح ، أما إذا تاب من ربا الفضل وأصر على ربا النسيئة فلا تقبل توبته حينئذ ، وكذلك من تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر أو العكس ، وكذلك من تاب عن الزنا بامرأة وهو مصر على الزنا بغيرها فهؤلاء توبتهم غير صحيحة ، وغاية ما فعلوه أنهم عدلوا عن نوع من الذنب إلى نوع آخر منه . راجع المدارج.
س3 : تركت حقوقاً لله في الماضي من صلوات لم أؤدها وصيام تركته وزكاة منعتها ، فماذا أفعل الآن ؟
جـ3 : أما تارك الصلاة فالراجح أنه لا يلزمه القضاء لأنه قد فات وقتها ، ولا يمكن استدراكه ويعوضه بكثرة التوبة والاستغفار ، والإكثار من النوافل لعل الله أن يتجاوز عنه .
وأما تارك الصيام فإن كان مسلماً وقت تركه للصيام ، فإنه يجب عليه القضاء مع إطعام مسكين عن كل يوم أخره من رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده ، من غير عذر وهذه كفارة التأخير ، وهي واحدة لا تتضاعف ولو توالت أشهر رمضان .
مثال : رجل ترك 3 أيام من رمضان سنة 1400 هـ و 5 أيام من رمضان سنة 1401 هـ تهاوناً ، وبعد سنين تاب إلى الله ، فإنه يلزمه قضاء الصيام ثمانية أيام ، وإطعام مسكين عن كل يوم من الأيام الثمانية .
مثال آخر : امرأة بلغت عام 1400 هـ وخجلت من إخبار أهلها ، فصامت أيام عادتها الثمانية مثلاً ولم تقضها ، ثم تابت إلى الله الآن فعليها الحكم السابق نفسه ، وينبغي أن يعلم أن هناك فروقاً بين ترك الصلاة وترك الصيام ، ذكره أهل العلم على أن هناك في العلماء من يرى عدم القضاء على من ترك الصيام متعمداً دون عذر .(219/8)
وأما تارك الزكاة فيجب عليه إخراجها وهي حق لله من جهة ، وحق للفقير من جهة أخرى . للمزيد راجع مدارج السالكين 1/383 .
س4 : إذا كانت السيئة في حق آدميّ فكيف تكون التوبة ؟
جـ4 : الأصل في هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كانت لأخيه عنده مظلمة ، من عرض أو مال ، فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم ، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه) رواه البخاري فيخرج التائب من هذه المظالم إما بأدائها إلى أصحابها وإما باستحلالها منهم وطلب مسامحتهم ، فإن سامحوه وإلا ردها .
س5 : وقعت في غيبة شخص أو أشخاص ، وقذفت آخرين بأمورٍ هم بريئون منها فهل يشترط إخبارهم بذلك مع طلب المسامحة وإذا كان لا يشترط فكيف أتوب ؟!
جـ5 : المسألة هنا تعتمد على تقدير المصالح والمفاسد .
فإن كان إذا أخبرهم بم اغتابهم أو قذفهم لا يغضبون منه ولا يزدادون عليه حنقاً وغماً صارحهم وطلب منهم المسامحة ولو بعبارات عامة ، كأن يقول إني أخطأت في حقك في الماضي ، أو ظلمتك بكلام ، وإني تبت إلى الله فسامحني ، دون أن يفصل فلا بأس بهذا .
وإن كان إذا أخبرهم بما اغتابهم أو قذفهم حنقوا عليه وازدادوا غماً وغيظاً – وربما يكون هذا هو الغالب – أو أنه إذا أخبرهم بعبارات عامة لم يرضوا إلا بالتفاصيل التي إذا سمعوها زادوا كراهية له ، فإنه حينئذ لا يجب عليه إخبارهم أصلاً لأن الشريعة لا تأمر بزيادة المفاسد ، وإخبار شخص بأمور كان مستريحاً قبل سماعها على وجه يسبب البغضاء وينافي مقصد الشريعة في تأليف القلوب والتحاب بين المسلمين ، وربما يكون الإخبار سبباً لعداوة لا يصفو بعدها قلب المغتاب أبداً لمن اغتابه ، وفي هذه الحالة يكفي التوبة أمور منها :
1- الندم وطلب المغفرة من الله والتأمل في شناعة هذه الجريمة واعتقاد تحريمها .
2- أن يكذب نفسه عند من سمع الغيبة ، أو القذف ويبرئ المقذوف.
3- أن يثني بالخير على من اغتابه في المجالس التي ظلمته فيها ، ويذكر محاسنه .
4- أن يدافع عمن اغتابه ، ويرد عنه إذا أراد أحد أن يسيء إليه .
5- أن يستغفر له بظهر الغيب المدارج 1/291 ، والمغني مع الشرح 12/78
ولاحظ أيها الأخ المسلم الفرق بين الحقوق المالية وجنايات الأبدان ، وبين الغيبة والنميمة ، فالحقوق المالية يستفيد أهلها إذا أخبروا بها ، وردت إليهم ، ويسرون بذلك ، ولذلك لا يجوز كتمها بخلاف الحقوق التي في جانب العِرض ، والتي لا تزيد من يُخبر بها إلا ضرراً وتهييجاً .
س6 : كيف يتوب القاتل المتعمد ؟
جـ6 : القاتل المتعمد عليه ثلاثة حقوق :
حق الله ، وحق القتيل ، وحق الورثة .
فحق الله لا يُقضى إلا بالتوبة .
حق الورثة أن يسلم نفسه إليهم ليأخذوا حقهم ، إما بالقصاص أو بالدية أو العفو .
ويبقى حق القتيل الذي لا يمكن الوفاء به في الدنيا ، وهنا قال أهل العم إذا حسنت توبة القاتل ، فإن الله يرفع عنه حق القتيل ويعوض القتيل يوم القيامة خيراً من عنده عز وجل ، وهذا أحسن الأقوال . المدارج 1/299 .
س7 : كيف يتوب السارق ؟
جـ7 : إذا كان الشيء عنده الآن رده إلى أصحابه .
وإن تلف أو نقصت قيمته بالاستعمال أو الزمن وجب عليه أن يعوضهم عن ذلك ، إلا إذا سامحوه فالحمد لله .
س8 : أشعر بالحرج الشديد إذا واجهت من سرقت منهم ، ولا أستطيع أن أصارحهم ، ولا أن أطلب منهم المسامحة فكيف أفعل ؟
جـ8 : لا حرج عليك في البحث عن طريق تتفادى فيه هذا الإحراج الذي لا تستطيع مواجهته ، كأن ترسل حقوقهم مع شخص آخر ، وتطلب عدم ذكر اسمك ، أو بالبريد ، أو تضعها خفية عندهم، أو تستخدم التورية وتقول هذه حقوق لكم عند شخص ، وهو لا يريد ذكر اسمه ، والمهم رجوع الحق إلى أصحابه .
س9 : كنت أسرق من جيب أبي خفية ، وأريد الآن أن أتوب ولا أعلم كم سرقت بالضبط ، وأنا محرج من مواجهته ؟
جـ9 : عليك أن تقدر ما سرقته بما يغلب على ظنك أنه هو أو أكثر منه ، ولا بأس أن تعيده إلى أبيك خفية كما أخذته خفية .
س10 : سرقت أموالاً من أناس وتبت إلى الله ، ولا أعرف عناوينهم ؟
وآخر يقول أخذت من شركة أموالاً خلسة ، وقد أنهت عملها وغادرت البلد ؟
وثالث يقول سرقت من محل تجاري سلعاً ، وتغير مكانه ولا أعرف صاحبه ؟
جـ10 : عليك بالبحث عنهم على قدر طاقتك ووسعك ، فإذا وجدتهم فادفعها إليهم والحمد لله ، وإذا مات صاحب المال فتعطى لورثته ، وإن لم تجدهم على الرغم من البحث الجاد فتصدق بهذه الأموال بالنيابة عنهم ، وانوها لهم ولو كانوا كفاراً لأن الله يعطيهم في الدنيا ولا يعطيهم في الآخرة .(219/9)
ويشبه هذه المسألة ما ذكره ابن القيم رحمه الله في المدراج 1/388 أن رجلاً في جيش المسلمين غل ( أي سرق ) من الغنيمة ، ثم تاب بعد زمن ، فجاء بما غله إلى أمير الجيش فأبى أن يقبله منه ، وقال كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا ؟ فأتى هذا التائب حجاج بن الشاعر يستفتيه فقال له حجاج : يا هذا إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم ، فإن الله يوصل ذلك إليهم ففعل فلما أخبر معاوية قال لأن أكون أفتيتك بذلك أحب إليّ من نصف ملكي ، وهناك فتوى مشابهة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قريبة من هذه قصة مذكورة في المدارج .
س11 : غصبت مالاً لأيتام وتاجرت به وربحت ، ونما المال أضعافاً وخفت من الله فكيف أتوب ؟
جـ11 : للعلماء في هذه المسألة أقوال أوسطها وأعدلها أنك ترد رأس المال الأصلي للأيتام ، زائداً نصف الأرباح ، فتكون كأنك وإياهم شركاء في الربح مع إعادة الأصل إليهم .
وهذه رواية عن الإمام أحمد ، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وترجيح تلميذه ابن القيم رحمه الله ( المدراج 1/392 )
وكذلك لو غصب سائمة من إبل أو غنم فنتجت أولاداً فهي ونصف أولادها للمالك الأصلي ، فإن ماتت أعطى قيمتها مع نصف النتاج إلى مالكها .
س12 : رجل يعمل في الشحن الجوي وتتخلف عندهم بضائع أخذ منها مسجلاً خلسة وبعد سنوات تاب فهل يُرجع المسجل نفسه أو قيمته أو شبيهاً به ، علماً بأن هذا النوع قد انتهى من السوق ؟
جـ12 : يرجع المسجل نفسه زائداً عليه ما نقص من قيمته لقاء الاستعمال أو تقادم الزمن ، وذلك بطريقة مناسبة دون أن يؤذي نفسه ، فإن تعذر ، تصدق بقيمته نيابة عن صاحبه الأصلي .
س13 : كان عندي أموال من الربا ولكني أنفقتها كلها ، ولم يبق عندي منها شيء ، وأنا الآن تائب فماذا يلزمني ؟
جـ13 : لا يلزمك إلا التوبة إلى الله عز وجل توبة نصوحاً والربا خطير ، ولم يؤذن بحرب أحد في القرآن الكريم إلا أهل الربا وما دامت الأموال الربوية قد ذهبت كلها ، فليس عليك من جهتها شيء الآن .
س14 : اشتريت سيارة بمال بعضه حلال وبعضه حرام ، وهي موجودة عندي الآن فكيف أفعل ؟
جـ14 : من اشترى شيئاً لا يتجزأ كالبيت أو السيارة بمال بعضه حلال وبعضه حرام فيكفيه أن يخرج ما يقابل الحرام من ماله الآخر ويتصدق به تطييباً لتلك الممتلكات ، فإن كان هذا الجزء من المال الحرام هو حق للآخرين وجب ردّ مثله إليهم على التفصيل السابق .
س15 : ماذا يفعل بالمال الذي ربحه من تجارة الدخان ، وكذلك إذا احتفظ بأمواله الأخرى الحلال ؟
جـ15 : من تاجر بالمحرمات كبيع آلات اللهو والأشرطة المحرمة والدخان وهو يعلم حكمها ثم تاب يصرف أرباح هذه التجارة المحرمة في وجوه الخير تخلصاً لا صدقة ، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً .
وإذا اختلط هذا المال الحرام بأموال أخرى حلال كصاحب البقالة الذي يبيع الدخان مع السلع المباحة ، فإنه يقدر هذا المال الحرام تقديراً باجتهاده ، ويخرجه بحيث يغلب على ظنه أنه نقى أمواله من الكسب الحرام ، والله يعوضه خيراً وهو الواسع الكريم .
وعلى وجه العموم فإن من لديه أموالاً من كسب حرام ، وأراد أن يتوب فإن كان :
1- كافراً عند كسبها فلا يُلزم عند التوبة بإخراجها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُلزم الصحابة بإخراج ما لديهم من الأموال المحرمة لما أسلموا .
2- وأما إن كان عند كسبه للحرام مسلماً عالماً بالتحريم فإنه يُخرج ما لديه من الحرام إذا تاب .
س16 : شخص يأخذ الرشاوي ، ثم هداه الله إلى الاستقامة ، فماذا يفعل بالأموال التي أخذها من الرشوة ؟
جـ16 : هذا الشخص لا يخلو من حالتين :
1- إما أن يكون أخذ الرشوة من صاحب حق مظلوم اضطر أن يدفع الرشوة ليحصل على حقه لأنه لم يكن له سبيل للوصول إلى حقه إلا بالرشوة ، فهنا يجب على هذا التائب أن يرد المال إلى الراشي صاحب الحق لأنه في حكم المال المغصوب ولأنه ألجأه إلى دفعه بالإكراه .
2- أن يكون أخذ الرشوة من راش ظالم مثله تحصل عن طريق الرشوة على أشياء ليست من حقه ، فهذا لا يُرجع إليه ما أخذه منه ، وإنما يتخلص التائب من هذا المال الحرام في وجوه الخير كإعطائه للفقراء مثلاً ، كما يتوب مما تسبب فيه من صرف الحق عن أهله .
س17 : عملت أعمالاً محرمة وأخذت مقابلها أموالاً فهل يجب عليّ وقد تبت إرجاع هذه الأموال لمن دفعها إليّ ؟
جـ17 : الشخص الذي يعمل في أعمال محرمة ، أو يقدم خدمات محرمة ، ويأخذ مقابلاً أو أجرة على ذلك إذا تاب إلى الله وعنده هذا المال الحرام فإنه يتخلص منه ولا يعيده إلى من أخذه منه .(219/10)
فالزانية التي أخذت مالاً على الزنا لا تعيده إلى الزاني إذا تابت ، والمغني الذي أخذ أموالاً على الغناء المحرم لا يعيده إلى أصحاب الحفلة إذا تاب ، وبائع الخمر أو المخدارت لا يعيدها إلى من اشتروها منه إذا تاب ، وشاهد الزور الذي أخذ مقابلاً لا يعيد المال من استخدمه لشهادة الزور وهكذا ، والسبب أنه إذا أرجع المال للعاصي الذي دفعه فإنه يكون قد جمع له بين العِوض الحرام والمُعوَّض بالتخلص منه ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وترجيح تلميذه ابن القيم . كما في المدارج 1/390 .
س18 : هناك أمر يقلقني ويسبب لي إرهاقاً وأرقاً ، وهو أني وقعت في الفاحشة مع امرأة فكيف أتوب ، وهل يجوز لي أن الزواج منها لستر القضية ؟
وآخر يسأل أنه وقع في الفاحشة في الخارج ، وأن المرأة حملت منه فهل يكون هذا ولده ، وهل يجب عليه إرسال نفقة الولد .
جـ18 : لقد كثرت الأسئلة عن الموضوعات المتعلقة بالفواحش كثرة تجعل من الواجب على المسلمين جميعاً إعادة النظر في أوضاعهم وإصلاحها على هدي الكتاب والسنة وخصوصاً في مسائل غض البصر وتحريم الخلوة ، وعدم مصافحة المرأة الأجنبية والالتزام بالحجاب الشرعي الكامل وخطورة الاختلاط ، وعدم السفر إلى بلاد الكفار والاعتناء بالبيت المسلم والأسرة المسلمة والزواج المبكر وتذليل صعوباته .
أما بالنسبة إلى السؤال فمن فعل الفاحشة فلا يخلو من حالتين :
1- إما أنه زنى بالمرأة اغتصاباً وإكراهاً فهذا عليه أن يدفع لها مهر مثلها ، عوضاً عما ألحق بها من الضرر ، مع توبته إلى الله توبة نصوحاً ، وإقامة الحد عليه إذا وصل أمره إلى الإمام ، أو من ينوب عنه كالقاضي ونحوه . انظر المدارج 1/366
2- أن يكون قد زنى بها برضاها ، فهذا لا يجب عليه إلا التوبة ، ولا يُلحق به الولد مطلقاً ولا تجب عليه النفقة لأن الولد جاء من سفاح ومثل هذا ينسب لأمه ، ولا يجوز إلحاقه بنسب الزاني .
ولا يجوز للتائب الزواج منها لستر القضية والله يقول : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) التوبة /3 .
ولا يجوز العقد على امرأة في بطنها جنين من الزنا ، ولو كان منه، كما لا يجوز العقد على امرأة لا يدرى أهي حامل أم لا .
أما إذا تاب هو وتابت المرأة توبة صادقة وتبين براءة رحمها ، فإنه يجوز له حينئذ أن يتزوج منها ، ويبدأ معها حياة جديدة يحبها الله .
س19 : لقد حصل والعياذ بالله أني ارتكبت الفاحشة وعقدت على المرأة الزانية ، وقد صار لنا سنوات وقد تبنا أنا وهي إلى الله توبة صادقة فماذا يجب عليّ ؟
جـ19 : ما دامت التوبة قد صحت من الطرفين فعليكما إعادة العقد بشروطه الشرعية من الولي والشاهدين ، ولا يلزم أن يكون ذلك في المحكمة بل لو حصل في البيت لكان كافياً .
س20 : امرأة تقول إنها تزوجت من رجل صالح وقد فعلت أموراً لا ترضي الله قبل زواجها ، وضميرها يؤنبها الآن ، وتسأل هل يجب عليها إخبار زوجها بما حصل منها في الماضي ؟
جـ20 : لا يجب على أيٍّ من الزوجين إخبار الآخر بما فعل في الماضي من المنكرات ، ومن ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله وتكفيه التوبة النصوح .
وأما من تزوج بكراً ثم تبين له عند الدخول بها أنها ليست كذلك لفاحشة ارتكبتها في الماضي ، فإنه يحق له أخذ المهر الذي أعطاها ويفارقها ، وإن رأى أنها تابت فستر الله عليها وأبقاها فله الأجر والمثوبة من الله .
س21 : ماذا يجب على التائب من فاحشة اللواط ؟
جـ21 : الواجب على الفاعل والمفعول به التوبة إلى الله توبة عظيمة ، فإنه لا يُعلم أن الله أنزل أنواعاً من العذاب بأمة كما أنزله بقوم لوط لشناعة جريمتهم فإنه :
1- أخذ أبصارهم فصاروا عمياناً ، يتخبطون كما قال تعالى : ( فطمسنا أعينهم )
2- أرسل عليهم الصيحة .
3- قلب ديارهم ، فجعل عاليها سافلها .
4- أمطرهم بحجارة من سجيل منضود ، فأهلكهم عن بكرة أبيهم .
ولذلك كان الحد الذي يقام على مرتكب هذه الفاحشة القتل محصناً أو غير محصن ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني في إرواء الغليل .
س22 : تبت إلى الله ولديّ أشياء محرمة كأدوات موسيقية وأشرطة وأفلام ، فهل يجوز لي بيعها خصوصاً وأنها تساوي مبلغاً كبيراً ؟
جـ22 : لا يجوز بيع المحرمات وثمن بيعها حرام ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا حرم شيئاً حرك ثمنه ) رواه أبو داود وهو حديث صحيح . وكل ما تعلم أن غيرك سيستخدمه في الحرام فلا يجوز لك بيعه إياه، لأن الله نهى عن ذلك فقال : ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) ومهما خسرت من مال الدنيا فما عند الله خير وأبقى ، وهو يعوضك بمنه وفضله وكرمه .(219/11)
س23 : كنت إنساناً ضالاً أنشر الأفكار العلمانية ، وأكتب القصص والمقالات الإلحادية ، وأستخدم شعري في نشر الإباحية والفسوق ، وقد تداركني الله برحمته ، فأخرجني من الظلمات إلى النور وهداني فكيف أتوب ؟
جـ23 : هذه والله النعمة الكبرى والمنة العظمى ، وهي الهداية فاحمد الله عليها ، واسأل الله الثبات والمزيد من فضله .
أما من كان يستخدم لسانه وقلمه في حرب الإسلام ونشر العقائد المنحرفة أو البدع المضلة والفجور والفسق فإنه يجب عليه الآتي :
أولاً : أن يعلن توبته منها جميعاً ، ويُظهر تراجعه على الملأ بكل وسيلة وسبيل يستطيعه حتى يُعذر فيمن أضلهم ، ويبين الباطل الذي كان لئلا يغتر من تأثر به من قبل ، ويتتبع الشبهات التي أثارها والأخطاء التي وقع فيها فيرد عليها ، ويتبرأ مما قال وهذا التبيين واجب من واجبات التوبة ، قال تعالى : ( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم ، وأنا التواب الرحيم ) البقرة /160 .
ثانياً : أن يسخر قلمه ولسانه في نشر الإسلام ، ويوظف طاقته وقدراته في نصر دين الله ، وتعليم الناس الحق والدعوة إليه .
ثالثاً : أن يستخدم هذه الطاقات في الرد على أعداء وفضحهم وفضح مخططاتهم ، كما كان يناصرهم من قبل ويفند مزاعم أعداء الإسلام، ويكون سيفاً لأهل الحق على أهل الباطل ، وكذلك كل من اقنع شخصاً ولو في مجلس خاص بأمر محرم كجواز الربا ، وأنه فوائد مباحة ، فإنه ينبغي عليه أن يعود ويبين له كما أضله حتى يكفّر عن خطيئته والله الهادي .
وختاماً :
يا عبد الله فتح الله باب التوبة فهلا ولجت ( إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب ، وفي رواية عرضه مسيرة سبعين عاماً ، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها ) . رواه الطبراني في الكبير ، صحيح الجامع 2177 .
ونادى الله ( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ) رواه مسلم . فهلا استغفرت .
والله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، والله يحب الإعتذار فهلا أقبلت .
فلله ما أحلى قول التائب ، أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني .
أسألك بقوتك وضعفي ، وبغناك وفقري إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك ، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، أسألك مسألة المسكين وابتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه وذل لك قلبه .
وتأمل هذه القصة ودلالتها في موضع التوبة :
روي أن أحد الصالحين كان يسير في بعض الطرقات فرأى باباً قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ، ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يؤويه غير والدته ، فرجع مكسور القلب حزيناً فوجد الباب مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ، ونام ودموعه على خديه ، فخرجت أمه بعد حين ، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي ، وتقول : يا ولدي أين ذهبت عني ومن يؤويك سواي ، ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني على عقوبتك بخلاف ما جبلني الله عليه من الرحمة بك والشفقة عليك ثم أخذته ودخلت !!
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الله أرحم بعباده من هذه بولدها ) رواه مسلم.
وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟
والله يفرح إذا تاب العبد إليه ، ولن نعدم خيراً من رب يفرح ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من رجل كان في سفر في فلاة من الأرض ، نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه ، فأوى إلى ظل شجرة ، فوضع رأسه فنام نومة تحتها ، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها ، فأتى شرفاً فصعد عليه فلم ير شيئاً ، ثم أتى آخر فأشرف فلم ير شيئاً ، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فينما هو كذلك ، رفع رأسه فإذا راحلته قائمة عنده ، تجر خطامها ، عليها زاده طعامه وشرابه ، فأخذ بخطامها ، فالله أشد فرحاً بتوبة المؤمن من هذا براحلته وزاده ) السياق مجموع من روايات صحيحة ، انظر ترتيب صحيح الجامع 4/368 .
واعلم يا أخي ، أن الذنب يُحدث للتائب الصادق انكساراً وذلة بين يدي الله ، وأنين التائبين محبوب عند رب العالمين .
ولا يزال العبد المؤمن واضعاً ذنوبه نُصب عينيه فتُحدث له انكساراً وندماً ، فيعقب الذنب طاعات وحسنات كثيرة حتى أن الشيطان ربما يقول : يا ليتني لم أوقعه في هذا الذنب ، ولذلك فإن بعض التائبين قد يرجع بعد الذنب أحس مما كان قبله بحسب توبته .
والله لا يتخلى عن عبده أبداً إذا جاء مقبلاً عليه تائباً إليه .(219/12)
أرأيت لو أن ولداً كان يعيش في كنف أبيه يغذيه بأطيب الطعام والشراب ، ويلبسه أحسن الثياب ، ويربيه أحسن التربية ، ويعطيه النفقة ، وهو القائم بمصالحه كلها ، فبعثه أبوه يوماً في حاجة ، فخرج عليه عدو في الطريق فأسره وكتفه وشد وثاقه ، ثم ذهب إلى بلاد الأعداء ، وصار يعامله بعكس ما كان يعامله به أبوه ، فكان كلما تذكر تربية أبيه وإحسانه إليه المرة بعد المرة تهيجت من قلبه لواعج الحسرات ، وتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه من النعيم .
فينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ، ويريد ذبحه في نهاية المطاف ، إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه فرأى أباه منه قريباً ، فسعى إليه وألقى بنفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه ، أنظر إلى ولدك وما هو فيه والدموع تسيل على خديه، وهو قد اعتنق أباه والتزمه وعدوه يشتد في طلبه حتى وقف على رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك به .
فهل تقول إن والده سيسلمه في هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها . إذا فر عبد إليه وهرب من عدوه إليه ، وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه ، يقول : يا رب ارحم من لا راحم له سواك ، ولا ناصر له سواك ، ولا مؤوي له سواك ، ولا معين له سواك ، مسكينك وفقيرك وسائلك ، أنت معاذه، وبك ملاذه ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، فهيا إلى فعل الخيرات ، وكسب الحسنات ، ورفقة الصالحين ، وحذار من الزيغ بعد الرشاد ، والضلالة بعد الهداية والله معك .(219/13)
أزمة أخلاق
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
نحن معشر المسلمين – في الغالب والحمد لله – يحب بعضنا لبعضنا الخير ويتمنى له حياة طيبة وصحة ممتازة وعمُراً مديداً. ويمد أحدنا لجاره أو صديقه أو قريبه يد العون ما استطاع إلى ذلك سبيلاً . هكذا علمتنا الحياة ، وهكذا طلب منا ديننا الحنيف .
زرت من دول أوربا وأمريكا وأفريقيا وآسيا الكثير ، واطلعت على بعض أخلاقهم فوجدت الحلو والحامض ، والمالح والمر ، وخبرت الغث والسمين . وجدت فيهم ما أريده وما لا أطيقه . هم بشر ، والبشر خلقوا من عجل – بفتح العين لا كسرها وفتح الجيم لا تسكينها - . وسررت لبعض ما رأيت ، وتأففت استنكاراً لأشياء أخرى ، أعجبت ببعض التصرفات ، واغتممت لغيرها . وعدت لأصل إلى قناعة لم تتأثر بالقول المشهور :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكنّ عين البغض تُبدي المساويا
وبصيغة أخرى كانت قناعتي أن المسلمين عامّة والعرب منهم خاصّة أسلم صدوراً ، وأقرب إلى الفطرة ، وأكثر تحملاً للمآسي من كثير من البشر . قد يخالفني أحدهم وقد يوافقني فيما ارتأيت ، والموافقة قد تعزز رؤيتي ، والمخالفة أقبلها – ديموقراطياً ، فالديموقراطية على كل الألسن هذه الأيام – ولا تفت في عضُدي ، فأنا لا أعتقد شيئاً إلا بعد تمحيص وقناعة . وتركه – على هذا الأساس – قليل الإمكان . لكننى أفيء إلى الحق سريعاً لأن الحق هدفي ، ولأن العمل به والتزامه بغيتي وقرة عيني . ولا أعتبر هذا مديحاً للنفس إنما أراه صفة ينبغي التحلي بها ، وشيمة لا فكاك عنها للمسلم ونصب عيني القول المأثور " لا خير فيمن يمدح نفسه . ولا أنسى ما حييت قول عمر رضي الله عنه " رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي " .
وعلى الرغم أنني أفضّل العربَ المسلمين في صفاتهم العامة ، وأرغب العيش في البلاد العربية ، وحين أقول : البلاد العربية أنأى عن لفظ " الشرق الأوسط " فهذا تعبير فرضه اليهود والأوربيون ليبرروا وجود إسرائيل بيننا ، أما " البلاد العربية " فتظهر اليهود طارئين ، وجسماً غريباً عن أهل البلاد ديناً وعاداتٍ ومفاهيم .... أقول : فينا – معشر المسلمين العرب – مفاهيم لا يقبلها الإسلام ، وتصرفات لا يُقِرّ بها ، وعادات غير حضارية تؤذي الجميع وتظهرنا متخلفين عن غيرنا من الأمم .
ففي الولايات المتحدة – مثلاً- تجد كل جالية تتجمع في أحياء أو كانتونات بعضها إلى بعض فتدخل أحياءهم لتجد الناس – مع أنهم في أمريكا – يواصل بعضهم بعضاً ويعيشون حياتهم بعاداتهم التي تشرّبوها في بلادهم ، ويتكلمون مع بعضهم لغتهم الوطنية ، ولهم أسواقهم التي يتسوّقون منها ، ويساعد بعضهم بعضاً ماديّاً واجتماعيّاً وفكريّاً ، وبهذا تراهم محافظين على كيانهم ، فلا يذوبون في المجتمعات .. هذا واضح في كل مدينة زرتها من بوسطن في الشمال الشرقي إلى المكسيك جنوباً . حتى إن بعض المواطنين من أصل أسباني أباً عن جد ممن ولدوا في الولايات المتحدة على التحديد لايعرفون الإنجليزية ..
أما العرب المسلمون - ناهيك عن النصارى - فهم ينصهرون في سنوات عدّة في المجتمع الأمريكي ، وينسى الفتى لغته العربية التي تعلمها في بلده أو يكاد ، أما الأطفال الذين ولدوا هناك فيسمعون العربية من آبائهم دون ممارستها غالباً . وليس لهم مجتمعات خاصة بهم كغيرهم . ومما آلمني أن عدداً لا بأس به من الأبناء ينسلخ عن دينه فيكون علمانياً – لانقطاعه وأسرته عن المسجد – أو يدرس النصرانية فلا يعرف غيرها ديناً . وعلى هذا فقل : على الحجاب والمظاهر الإسلامية السلامُ ... وقد سئل بعض المسؤولين في الغرب عن سبب قبول المسلمين الملتزمين مقيمين أو لاجئين فكان الجواب : إننا نتقبلهم لأن أولادهم أو أحفادهم على أبعد تقدير سيكونون مثلنا بل منّا بمفاهيمهم وأخلاقهم ، ومبادئهم ، ونحن بحاجة إلى دماء جديدة ، فنتحمل الكبار لكسب الجيل الجديد الذي سيذوب في مجتمعنا . ومن هنا خطورة البقاء في المجتمعات الغربية على الجيل الجديد من أبناء المسلمين . وقد يدلل أحدهم على النظرة التشاؤمية فيما أقول حين يعرض صوراً لبعض الأسر المحافظة على تدينها وإسلامها في الغرب وتأثيرها في مفاهيمه ، فأكرر : إن هذا أمر إيجابي ملموس ، لا ننكره ، إنما هو شمعة في ظلام ، وبضّة من ماء زلال في بركة مالحة . ومن هنا نفهم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البقاء في بلاد الكفر دون ضرورة فالمآسي أكبر من الفائدة بما لا يُقاس . والأمثلة أكثر من أن تُحصى . وإنك لتجد من العادات والمفاهيم المتولدة عند المسلمين في الغرب ما تبتعد عن الإسلام أشواطاً من حيث يدرون أو لا يدرون . وتربية الأولاد هناك تحتاج إلى أضعاف ما تحتاجه من جهد في بلد مسلم .
وهذا لا يعني أن المسلمين في بلادهم يحيَون حياة إسلامية !! ويعيشون في بحبوحة من الرغد المادي أو الأخلاق الفاضلة . لكن الرمد أقل سوءاً من العمى ، ولربما يشفى المرء من رمد ، لكنّ بصره لا يعود إليه من عمىً .(220/1)
ولن أكون متشائماً إن قلت الحقيقة التي قد تنبه الإنسان إلى السلبيات الشنيعة التي تطرأ على مجتمعاتنا لتكون بعد فترة جزءاً منها – مع الأسف – فالفساد الأخلاقي في بلاد المسلمين ينشر أجنحته بدفع وعون من أولي الأمر الذين خرجوا عن دينهم أو ابتعدوا عنه ، وهؤلاء ظهروا بشكل واضح لا لبس فيه . وقد أخبرنا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم حين قال :
" دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها " . .. قالوا صفهم لنا يا رسول الله . قال : " هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " ... هؤلاء الذين ما فتئوا يؤصلون الفساد في عادات المجتمع ومفاهيمه عن طريق القنوات الفضائية التي لا همّ لها سوى تغيير المفاهيم والعادات الإسلامية بمفاهيم الخنا والفجور والدعوة إلى نبذ كل ما هو أصيل وشريف ، ، فالزنا حاجة طبيعية ، والخمر مشروبات روحية منعشة ، والعُري حرية في التصرف، وأكثر من ذلك أن كل الدعايات تعتمد على الجنس ، حتى غدت الأمور مألوفة بين الناس ، وما عادوا يخجلون منها أو يستنكرونها ، ولن تجد في أي بلد عربي أو مسلم من الإسلام سوى صور ميتة لا تنبئ عن دين ولا أخلاق ، وقد قنّنَت القوانين لإباحة ما يقتل الحياء والخفر والشرف ، أو يئد القوانين الشرعية من بنوك ربوية ومعاملات مخالفة لصريح الدين وإحلال للقوانين الأوربية مكان الشريعة الإسلامية في أطهر بلاد الله وأكرمها عليه سبحانه .
ناهيك عن تأصيل الحرية الشخصية على حساب الحريات العامة . وبهذا تُزرع الأنانية محل الأثرة ، والشخصانية محل الغيْريّة ، والفردية مكان الجماعية . .. أي مجتمع يكون هذا المجتمع ، وأي راحة يمكن أن يتمتع بها الإنسان في مثل هذه الغابات ؟! .
في بلاد الغرب سوق أوربية مشتركة ، فما عادت الحدود موجودة ، وصار الأوربي يتنقل من بلد إلى آخر ، ومن مدينة إلى غيرها كأنه يتحرك في بلده وموطنه ، وفي البلاد العربية والإسلامية تضييق على الإنسان ، فلا يستطيع زيارة بلد " مسلم " آخر إلا بشق الأنفس . وليست له في ذلك البلد من حقوق سوى الأقل الأقل ولو ولد أبناؤه فيها أو عاش شطر شبابه في خدمتها ، بل إنه يعتبر " أجنبياً " نعم ..أجنبياً .. يرى هذه الكلمة تجابهه أول ما يصل إلى حدودها البرية أو الجوية ، وقد يراها أخف اسميا في بلد آخر حيث يسمى " وافداً " لكن النتيجة واحدة تشعرك بالغربة ولو كانت لغتك هي لغتهم، ودينك دينهم ، وسحنتك سحنتهم !!. ومما ينتج عن ذلك أن راتبك يمكن أن يكون ثلث راتب أحدهم وهو أقل منك إنتاجاً ، وأضعف منك فهماً وأقل منك دراية !. ولكنها الإقليمية والبعد عن الحضارة - وهذا لا تجده على الأغلب في بلاد " الكفر والزندقة " - ومن ثم الشعور كذباً وزوراً بالفوقية المصطنعة التي تقصم ظهر الأخوّة ، وتعصف بالحقوق ، وتؤصل التباعد والتنافر بين المسلمين ... فالجهل رائدهم ، والأنانية حاكمتهم .
فضلاً عن أنظمة الحكم المستبدة التي سيطرت ملكيّة كانت أم جمهورية أم جمهوكية . لا فرق ، فالثروة بيد المتنفذين يستأثرون بها كاملة في بنوك أوربة ، وقد يوزع بعضهم الفتات – إن كان كريماً – على شعبه المقهور ، أو يفرض بعضهم الآخر ضرائب باهظة ، فلا يكفيه ما سرقه واستأثر به . ولا بأس أن تزهق أرواح عشرات الآلاف ليبقى هؤلاء جاثمين على صدور الأمة المسكينة ! .
قد يقول بعضهم : هذه ليست أزمة أخلاق – كما ذكرت في عنوان المقال – إنما هي انعدام الأخلاق وغيابها . .. أقول : لعلي أظل بعد هذا كله متفائلاً أن يؤوب المسلمون إلى أصالتهم ، وأن يتجاوزوا محنتهم ، وأن ينشطوا من سباتهم ، ليأخذوا مكانهم الذي ينتظرهم في قيادة العالم كما فعل أسلافهم حين ترجم الخليفة الفاروق الحقيقة الصادقة : " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله "(220/2)
أزمة التثبّت
الكاتب: الشيخ د.سلمان بن فهد العودة
لعل أكثر أعضاء الإنسان شغلاً هو اللسان؛ فهو لا يكف عن الكلام حتى لو كان صاحبه مريضاً لسنين طويلة ومن هنا جاءت أهمية آداب اللسان والعناية بها، والتي من بينها التثبّت فيما يُقال أو يُنقل.
وواقع الناس اليوم يشهد تساهلاً مُفرِطاً في نقل ما يسمعون من أحكام وفتاوى وأخبار وأحداث سواء تعلّقت بعلماء أو زعماء ومشاهير أو عامة وكلما كثر جهل المتحدث، وقل ورعه كان أشدّ وأجرأ في هذا المضمار.
يقول تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً). [سورة الإسراء:36].
ويندرج تحت الآية كل معنى يدل على قول ما لا علم للإنسان به.
فلا يَرْم الإنسان غيره بما ليس له به علم ولا يقول: رأيت ولم ير ولا سمعت ولم يسمع ولا يشهد الزور. وكل هذا مرويّ عن السلف.
ومنهج القرآن في التثبّت أعظم منهج وأحكم طريق؛ قال تعالى:( قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). [سورة البقرة:118].
وخصّ الله بذلك القوم الذين يوقنون؛ لأنهم أهل التثبّت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحّة، فهؤلاء المنتفعون بالبيان الذين لا يجرون وراء الشكوك، ولا يأخذون بالتقولات وإنما يبحثون عن اليقين.
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ). [الحجرات:6].
قرأ الجمهور (فتبيّنوا) من التبيين وقرأ حمزة والكسائي وخلف فتثبّتوا من التثبّت.
والتبيين: تطلّب البيان وهو ظهور الأمر. والتثبّت التحري وتطلّب الثبات، وهو الصدق.
ومآل القراءتين واحد وإن اختلف معناهما.
والآية أصل في الشهادة والرواية والنقل ورعاية حال الناقل وعدم الاسترسال وراء الشائعات والظنون والأوهام.
وهي أصل في وجوب التثبّت وألاّ يتتبّع السامع القيل والقال ولا ينصاع إلى الوقوع في المزالق بسبب التسرّع أو تصديق ما لا حقيقة له.
فخبر الفاسق يكون داعياّ إلى التتبّع والتثبّت، ولا يصلح لأن يكون مستنداً للحكم بحال من الأحوال وإنما كان الفاسق معرّضاً خبره للريبة والاختلاق؛ لأن الفاسق ضعيف الوازع الديني في نفسه وضعف الوازع يجرّئه على الاستخفاف بالمحظور وبما يخبر به مما يترتب عليه إضرار بالغير أو بالصالح العام.
وعلّة التثبّت هي: (أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) فربما سمع السامع كلمة ونشرها في المجالس والمحافل والمنتديات وصفحات الإنترنت، ثم تبيّن له بعدُ أن صاحبها بريء؛ فيندم على وقوعه في عرضه وما لا يمكن تداركه ولذلك كانت الكلمة كالرصاصة إذا انطلقت لم يمكن إرجاعها.
قال الشاعر:
يَموتُ الفَتى مِن عَثرَةٍ بِلسانِهِ***وَلَيسَ يَموتُ المَرءُ مِن عَثرَةِ الرِّجلِ
فَعثرَتُهُ من فيهِ تَرمي بِرَأسِهِ***وَعَثرَتُهُ بِالرِّجلِ تَبَرا عَلى مَهلِ
والآية نزلت في الوليد بن عقبة لما ذهب لأخذ الزكاة من الحارث بن ضرار الخزاعي، فخشيهم لشيء كان بينه وبينهم في الجاهلية، فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبره بامتناعهم عن دفع الزكاة. والقصة ذكرها أهل السير والتفسير ورواها الطبراني، والإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وغيرهم- بسند لا بأس به وتوارد أهل التفسير كافة على حكاية هذه القصة على أنها سبب النزول.
وقد حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من القول بغير علم والكذب عليه في حديث بلغ مبلغ التواتر. ففي الصحيحين عَنِ الْمُغِيرَةِ - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: ( إِنَّ كَذِبًا عَلَيّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) .
وعند البخاري في قصة خالد بن الوليد مع بَنِي جَذِيمَةَ، لما دَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا، صَبَأْنَا. فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ ...، قَالَ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ). مَرَّتَيْنِ.
قال الخطابي: أنكر عليه العجلة وترك التثبّت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا فاللفظ المحتمل يجب الأناة فيه حتى تفهم حقيقته وقد تختلف لغات الناس ومصطلحاتهم وأعرافهم.
وفي الأثر عند الترمذي وغيره بسند لا بأس به ( الأَنَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ).(221/1)
وفي حادثة الإفك ربّى الله المؤمنين فيها تربية سامية رفيعة على التثبّت والأناة والتحرّي: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ * لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ). [النور:12-13]
ومن أثر هذا التوجه الرباني سألت أم الدرداء زوجها أبا الدرداء: " أسمعت ما قيل عن عائشة؟" قال: "نعم يا أم الدرداء، وذلك الكذب" ثم قال لها: يا أم الدرداء، أرأيت لو كنت مكان عائشة؛ أكنت تفعلين؟" قالت: "لا" قال: "لو كان أبو الدرداء مكان صفوان؛ هل كان يفعل؟" قالت: "لا" قال: "فصفوان خير مني، وعائشة خير منكِ".
وللتثبّت أنواع وضروب كثيرة منها:
1- التثبّت في القول على الله عز وجل.
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف:33]
فجعل القول على الله بغير علم قريناً للشرك بالله؛ لأن من يتكلم في الحرام والحلال والتشريع هو موقّع عن رب العالمين.
2 ـ التثبّت في النقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن كذباً على رسول الله ليس ككذب على أحد.
وهذا عمر -رضي الله عنه- لا يقبل من أبي موسى حديث الاستئذان إلا ببيّنة ولما قال له أُبيّ بن كعب: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَلاَ تَكُونَنَّ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ.
وقال عليّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - : كُنْتُ رَجُلاً إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي، وَإِذَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، قَالَ وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه – ..
وفي مقدمة مسلم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ.
ومن هنا نشأ علم الجرح والتعديل والذي وُضعت له ضوابط وشروط في النقل والرواية قال عنها المستشرقون: إن السنة النبوية توفّر لها من التثبّت في النقل واتصال السند ما لم يتوفر للإنجيل والتوراة.
وصنف السلف الدواوين الكبيرة في الصحيح والحسن والضعيف والموضوع حياطة منهم، وتثبّتاً في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الضرورة التحرّي في تصحيح الأحاديث المرويّة وألاّ يُتساهل في قبولها ونسبتها للرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الأصل عدم النسبة حتى تثبت والأصل براءة ذمة المكلف وعدم الالتزام بهذا النص حتى يصحّ ولا تجوز رواية الضعيف إلا مع بيان ضعفه أو حاله.
3 ـ التثبّت في أقوال أهل العلم فعدم التثبّت في نقل أقوالهم يحدث أخطاء كبيرة وفسادًا عريضًا.
4 ـ التثبّت في نقل أقوال الناس.
وهذا النوع ينبغي ألاّ يُنقل إلا لحاجة قاضية أو ضرورة ملحّة لكن الفراغ وضعف التربية قد يحمل المرء على القيل والقال تبرّعاً من غير سؤال ولا مصلحة، وقد جاء في الصحيحين عَنْ هَمَّامٍ، قَالَ كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَجُلاً يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ)، وفي رواية (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ).
وفي مقدمة صحيح مسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ). وفيه عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما: (بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ).
ولن يعدم الإنسان المتحري لنفسه من وسائل التثبّت ما يجعله يقطع شكاً بيقين فمن ذلك.
1 ـ الوقوف على ما نُقل إليه بنفسه إن كان ثمة حاجة لذلك أو تجاوز الموضوع ونسيانه إذا لم يكن ثمة حاجة.
2 ـ الاعتماد على الرواة الثقات عندما لا يستطع أن يقف على الأمر بنفسه.
وليس الثقة هنا هو فقط من دلّ مظهره على أنه من الصالحين، بل يعتمد ذلك على أمور أخرى؛ من الفطنة والتعقل والتأني والتجربة والسلامة من الهوى واعتلال المزاج والغرض الشخصي باستهداف شخص أو جماعة من الناس.
وقد قال مالك: أدركت بالمدينة سبعين يُستسقى بهم المطر من السماء لا آخذ عن واحد منهم حديثاً.
وعَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَدْرَكْتُ بِالْمَدِينَةِ مِائَةً كُلُّهُمْ مَأْمُونٌ. مَا يُؤْخَذُ عَنْهُمُ الْحَدِيثُ، يُقَالُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.(221/2)
وليس ذلك عن قدح فيهم إنما لغفلة منهم لقبولهم رواية كل من يسمعون منه.
ومن الناس من هو متسرع في الكلام يختلق الروايات اختلاقاً، فهذا واضح وظاهر.
لي حِيلَةٌ في مَن يَنُم وَلَيسَ في الكذّابِ حيلَه***مَن كانَ يَخلق ما يَقولُ فَحيلَتي فيهِ قَليلَه
ومنهم من فيه نوع تغفيل يصدّق كل ما قيل له فكل من حدّثه حديثاً فهو عنده ثقة ثبْت خاصة إن كان ظاهره يوحي بذلك ومثل هذا يسهل خداعه.
ومنهم من هو متعجّل لا يكذب لكنه يرى الأمور على غير ما هي عليه كمن يرى زحاماً للناس فيراه حادثاً، وهو ليس كذلك، فيعطي خياله أو عاطفته مجالاً للتأثير على الرواية وإضافة بعض "البهارات" عليها ولعل أهم ما يوقع الناس في أزمة النقل أمور منها:
أولاً: الفراغ الذي يعيشه الكثير خاصة الشباب فيتعاطَوْن الأحاديث، ويتناولون الموضوعات دون اكتمال المعرفة وقد ينسى بعضهم الأدب الشرعيّ ويفوته أننا في عصر المعلوماتية وثورة الاتصال التي لا تعفينا من البحث عن اليقين أو على الأقل التأكّد من حقائق الأشياء!
ثانياً: التربية: إذ قلّ المربّون والموجّهون والناصحون، وأصبح الكثيرون يعتمدون على أنفسهم في التربية دون نصيحة من أحد أو توجيه من مربٍّ.
ثالثاً: أجهزة الإعلام التي حركت في الناس نوازع المعرفة والاطلاع ولم تمنحهم أدوات التثبّت وآليات التحصيل.
وينبغي إشاعة منهج التثبّت عند أي حكم؛ فكثيراً ما نخفق عند التطبيق خاصة عندما تكثر الإشاعات أو تطلّ الأزمات، ويعزّ المصدر الموثوق.
والمسلم يأوي إلى جبل من اليقين والأصل البراءة، والسلامة.
يقولون أقوالاً ولا يعلمونها***ولو قيل: هاتوا حقّقوا لم يحقّقوا
إن الانسياق وراء الظنون والشكوك له آثار مدمرة على العمل الإسلامي والحياة الإسلامية، ومنها توهين الصف المسلم، بنشر الإشاعات، وتداول الأقوال وإعمال الظنون والكثيرون حين يتعلق الأمر بهم ينزعجون ويطالبون الآخرين بالتثبّت ويستغربون كيف يجرؤ مؤمن على نقل هذا القول أو حكايته لكن حين يتعلق الأمر بالآخرين ينسون هذا المعنى ويستجيزون لأنفسهم التساهل في النقل والرواية وقصارى ما يعتذر به المرء منهم أن يقول: أنا ناقل وأبرأ من عهدة الكلام والحق أنه روّجه وأشاعه ونشره وقد يكون استحسنه بصفة مباشرة أو بفحوى السّياق أو بقسماته وملامحه.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ).
إن إطلاق القول في الآخرين ليس محمدة ولا صفة خير ورحم الله الشافعي إذ يقول:
لسانَك لا تذكرْ به عورةَ امرئ***فكلُّكَ عوراتٌ وللناس ألسُنُ
وما شيء أحقّ بطول سجن من لسان, وإذا غلبت على المرء شهوة الحديث أو القول فليكن في خير أو برّ, أو على الأقل في مباح لا يُؤاخذ به في الآخرة ولا يُذمّ به في الد(221/3)
أزمة الرسوم المسيئة كشفت عن أن الأمة مازالت حية
الدوحة – موقع القرضاوي 19-2-2006
• ... الدين هو المحرك
• ... لا تكفي المسيرات
• ... النفاق هو إعراضك عن بعض ما أنزل اللَّه
• ... العمل أولاً
• ... إصلاح ثم دعوة
• ... السيرة ضرورة للمسلم
نفي فضيلة د. يوسف القرضاوي ما نشرته بعض الصحف ومواقع الانترنت من انه رفض التوقيع علي بيان لعدد من العلماء بشأن الرسوم الدنماركية وقال أن هذا لا أساس له من الصحة، وفند حجة هؤلاء من أن فضيلته يريد التصعيد في تلك الأزمة فقال أن التصعيد كان لإيصال غضب الأمة ،وكان الغضب العاقل الحكيم لا المتهور ولا المتجاوز للحدود، كما قال فضيلته في خطبة الجمعة أمس بجامع عمر بن الخطاب أن كل ما جاء في البيان ذكره فضيلته من قبل حين دعا ليوم الغضب منذ عدة أسابيع وما أصدره من بيانات للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
لكن جوعي القرن الأفريقي كانوا محورا ثانيا لخطبته الثانية إذ تأسف كثيرا لما يعانون منه ولما رأي علي شاشات التلفزيون من لهفتهم للإغاثة، وهو إذ طالب جمعية قطر الخيرية ومؤسسة الشيخ عيد والهيئة المشتركة للإغاثة وأهل الخير بإغاثة هؤلاء، فانه تعجب من دفع بعض الدول مئات الملايين لإنقاذ أمريكا من إعصار ضربها في حين صمتت هذه الدول عن إنقاذ جوعي القرن الأفريقي، والذين طالب احد زعماء الصومال لهم بستين مليون ولم يدفعها أحد، وقارن فضيلته بين إمكانية أحد الأغنياء في أن يدفع ذلك المبلغ أو دولة من الدول، وما يرمي في القمامة من المأكولات في وقت يهلك فيه الناس جوعي وعطشي ويموتون دقيقة بعد دقيقة.. وناشد الجامعة العربية ومنظمات الأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي لبذل الجهد لإغاثة هؤلاء الملهوفين وإطعام هؤلاء الجائعين وستر العراة، محببا للناس هذه الإغاثة حين قال: أن الله تعالي يحب إغاثة اللهفان وأي لهفة عند هؤلاء الذين يموتون أمامنا جوعا؟!.
لكن الخطبة الأولي لفضيلته كانت دعوة للمسلمين لتعلم السيرة النبوية وتحويل الحب العاطفي لرسول الله (صلي الله عليه وسلم) كما بدا في أزمة الرسول إلي عمل جاد نوصل فيه سيرة الرسول (صلي الله عليه وسلم) للآخرين وندعو البشرية للإسلام واعتبر الحدث المؤسف الذي جري في الدنمارك نافعا حين قال: رب ضارة نافعة، وكم من منحة في طي محنة كما يقول الصوفية وقبل ذلك يقول الله تبارك وتعالي (فعسي أن تكرهوا شيئا، ويجعل الله فيه خيراً كثيراً).
فهذه الرسوم كان من ورائها خير كثير، وإن أساءت إلي رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وأساءت إلي أمة الإسلام كلها، وأوضح الخير والنفع الذي يراه في هذا المقام.. قال:
أثبتت الأزمة أن هناك أمة إسلامية، لم تزل حية، ولم تمت، وأنها حقيقة لا وهم، وان هذه الأمة غضبت لرسولها ولمحمدها (صلي الله عليه وسلم) من المحيط إلي المحيط، وقامت للدفاع عن رسولها وبذل النفس والنفيس في سبيل هذا الرسول عليه الصلاة والسلام..
فقد كان كثيرا من الناس يشككون في هذه الأمة الإسلامية، فهناك امة عربية، وأمة تركية، لكن لا توجد امة إسلامية، فهذا الحادث اثبت أن هناك أمة إسلامية، فهذا كسب كبير.. وأضاف: أثبتت الحادثة أن هذه الأمة لا تزال توحدها أشياء كثيرة: صحيح أن السياسة فرقتها، مزقتها كل ممزق، ذهبت بها يمنة ويسرة عن طريق المناهج الوضعية والمذاهب المستوردة من الشرق والغرب، ومن اليمين ومن اليسار.. الاشتراكية والليبرالية فهذا قبلته إلي واشنطن، وهذا قبلته إلي باريس.. لكن الحوادث أثبتت أن هذه الأمة التي مزقتها الأيدلوجيات والسياسات والعصبيات المختلفة: العرقية، واللونية، واللغوية، والأيديولوجية، هذه الأمة لا تزال امة واحدة وتحتاج إلي محرك يحركها، والي قيادة تقودها، مازالت لا إله إلا الله، محمد رسول الله هي التي تجمع هذه الأمة، وهذا مكسب كبير أيضا.
الدين هو المحرك(222/1)
وتحدث عن أمر ثالث قال أن هذه الأمة مازال الدين هو المحرك الأول لها قال: الدين هو الذي يوجه مسيرتها، ويحرك مشاعرها، وهذا ما رأيناه حينما مُس قدس الأقداس عند المسلمين، وهو يتمثل في أمرين: القرآن الكريم والرسول (صلي الله عليه وسلم) الذي أنزل عليه القرآن.. وربما غضب الناس للرسول أكثر مما يغضبون للقرآن، لأن القرآن شيء تجريدي أزلي، إنما الرسول شخصية، الناس تغضب للمجسد والمحس أكثر من المعنوي، وخصوصا أن هذه الإساءة ليست كلمات، بل رسوما وصورا يعرفها الأمي والقاري وكل أحد، وهي صور مسيئة غاية الإساءة، مسفة غاية الإسفاف ولذلك حركت سواكن الأمة، فجرت مكنوناتها، أثارت الأمة من أعماقها، فغضبت الأمة لرسولها.. أثبتت أن الدين ليس شيئاً تافهاً، عارضا، ليس طارئا علي الحياة فهو جوهر الحياة، وسر الوجود، وربما لا يعرف ذلك الغربيون، لان الدين عندهم علي الهامش وربما ليس له وجود، أما الدين عندنا فهو مسرحياتنا، الدين عندنا أساس وجودنا الدين عندنا جوهر بقائنا، ومن هنا يجب أن نستفيد من هذه المناسبة لنعلم الأمة من جديد، ونؤديها ونقودها من جديد، قيادة حكيمة بصيرة، حتى تسير علي نور وعلي بصيرة، وعلي بينة من أمرها.
لا تكفي المسيرات
إننا لا ينبغي أن نكتفي بمسيرات الغضب التي غضبت من أجل النبي صلي اللَّه عليه وسلم ، فداه أبي وأمي، فقد دلت هذه المسيرات أن الأمة تحب رسولها، وحب رسول اللَّه جزء من الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين ، حب اللَّه وحب رسول اللَّه صلي اللَّه عليه وسلم هما من أصول الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولكن الحب وحده لا يكفي الله ورسوله معني هذا أن تتبع رسول اللَّه صلي اللَّه عليه وسلم ، أن تؤمن برسالته وبما جاء به، أن يكون هواك تبعا لما جاء به محمد صلي اللَّه عليه وسلم، أن تجعل حياتك ومسيرتك كلها مقيدة بتعاليم رسول الله، ألا تسير وحبلك علي غاريك، تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد، ليس هذا من الإيمان في شيء فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً..
وقال: ليس لك خيار أمام حكم الله ورسوله، لا تكن كالمنافقين الذين يقبلون من الأحكام ما وافق هواهم ويرفضون ما لا يوافق أهواءهم.. قيل لهم تعالوا إلي ما أنزل الله وإلي الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا يعرضون إعراضاً ولا يقبلون ما جاء به الله والرسول.. وليس هذا شأن المؤمنين، بل شأنهم هو إتباع كل ما جاء به الله ورسوله، لا يتخير، فهذا شأن بني إسرائيل مع كتابهم،وقد قرَّعهم الله أشد تقريع وأقساه في كتابه حينما قال: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلي أشد العذاب وما اللَّه بغافل عما تعملون.
النفاق هو إعراضك عن بعض ما أنزل اللَّه
وقال إن قبول البعض ورفض بعض هو النفاق، بل يجب أن يقبل المسلم كل ما جاء به الله ورسوله، ولذلك قال الله تعالي لرسوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، لأنك إذا أعرضت عن بعض ما أنزل الله إليك فكأنك أعرضت عن الكل، لا يجوز أن تقبل بعضا من هذا الدين وتترك بعضا، القرآن به (114) سورة هل يجوز أن تقبل القرآن كله وتقول: لكني لا أقبل سورة قل هو الله أحد؟ لا يجوز: لابد أن تقبل القرآن كله هذا هو الدين، لابد أن تأخذ الإسلام كله، ولذلك إذا كنا نحب الله ورسوله فلابد أن نؤمن بكل ما جاء به القرآن، ولابد أن نعمل بكل ما جاء به القرآن، وبكل ما جاء به رسول اللَّه صلي اللَّه عليه وسلم مبينا للقرآن، فقد كانت مهمته أن يبين للناس ما نزل إليهم، كما ذكر الله تعالي في كتابه، علينا أن نتبع ما جاء به رسول اللَّه، وهو لم يجئ إلا بما فيه الخير، والنور والهداية والرحمة والمصلحة للناس جميعاً.. ولم يكن يريد لنفسه شيئاً إن أجري إلا علي رب العالمين، إنما كان يريد أن يهدي الناس للتي هي أقوم، أن يخرجهم من الظلمات إلي النور أن يهديهم لصراط ربهم العزيز الحميد، أن يصلح من أحوالهم، أن ينتقل بهم من الجهل إلي العلم، من الضلالة إلي الهدي، من الفوضى، إلي النظام، من الشر إلي الخير من الفساد إلي الصلاح، من الرذيلة إلي الفضيلة.. إلي كل خير كما قال تعالي: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء، وهدي ورحمة وبشري للمسلمين.
العمل أولاً(222/2)
وتحدث عن عواطفنا فقال: علينا نحن المسلمين وقد ظهرت منا هذه العواطف الجياشة الصادقة نحو رسول اللَّه صلي اللَّه عليه وسلم أن نحققها في حياتنا، ونجعل منها واقعاً معايشاً ملموسا ولا تكون مجرد عواطف طائرة في الهواء، نريد أن نثبتها، وأن نجعل لها كياناً في حياتنا نحول حبنا للرسول إلي إيمان صادق بكل ما جاء به من الهدي ودين الحق والبينات والعقائد الصادقة، وما جاء به من العبادات الخالصة، وما جاء به من الأخلاق الفاضلة، والقيم الراقية، والتشريعات العادلة التي تنظم أمر الحياة وعلاقات الناس بعضهم ببعض علي أقوم وأعدل وأمتن ما يكون..
وأضاف علينا بعد ذلك أن نعمل ونتبع كل ما جاء به محمد صلي اللَّه عليه وسلم ، نجعله واقعا في حياتنا الفردية، حياة كل إنسان، في سلوكه الشخصي يُحل ما أحل الله ويحرم ما حرَّم الله، في حياتنا الأسرية، في علاقاتنا الأسرية، في علاقة الرجل بزوجته، علاقة المرأة بزوجها، وعلاقة كل منهما بأولاده بنين وبنات، وعلاقة الأولاد بآبائهم وأمهاتهم، وعلاقاتهم بأصولهم وفروعهم، وعلاقاتهم بأرحامهم، بأخوالهم وخالاتهم، بأعمامهم وعماتهم، بأجدادهم وجداتهم، فالإسلام جاء بالأسرة الواسعة، الموسعة، الممتدة وأولو الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب اللَّه.
وقال إن علينا أن نعمل للإسلام في مجتمعنا: نقيم المجتمع المسلم الذي يرتبط بعضه ببعض، علي أساس من التعاطف والتعارف والتراحم، والتعاون علي البر والتقوى، وليس التعاون علي الإثم والعدوان وأن نكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، كالجسد الواحد، هناك علاقات وأحكام تضبط هذا المجتمع وتنظمها بالتشريعات المحكمة وبالتوجهات والوصايا الأخلاقية، التي تجبر نقص التشريعات علينا أن نقيم أمة من هذه المجتمعات المحلية المختلفة، نقيم منها كلها أمة واحدة، أمة وسطا، وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا ..
وذكر انه ينبغي أن نقيم الإسلام في حياتنا، ولا يكون مجرد شيء نظري نتحدث عنه، ونخطب فيه، فإذا نظرنا إلي الواقع نجد الإسلام غريبا، نريد الإسلام حيا واقعا مشاهدا في حياتنا، في حياة كل منا: أفرادا وأسرا ومجتمعات وأمة ودولة، نريد دولة إسلامية تحكم بما انزل الله، تقيم العدل بين الناس، تقيم عدل الله في أرض الله الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور .
إصلاح ثم دعوة
وقال زيد بن المسلم في هذه المناسبة، لكي يحب رسول الله حقا، ولكي يؤمن به حقا ولكي يؤمن برسالته حقا، ولكي يتحمس للعمل بها ويدعو غيره إليها، لأن المسلم كما هو مطالب بالعمل بالإسلام مطالب بدعوة غيره لرسالة الإسلام، كل مسلم مطالب بدعوة غيره لما يؤمن به، فالإسلام لا يكتفي منك بأن تكون صالحا في نفسك، وتقول أنا مالي ومال الناس)، لا، الله تعالي يلزمك علي إصلاح غيرك كما أصلحت نفسك: أصلح نفسك وادع غيرك انظر إلي صورة العصر والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر لم يكتف من الإنسان أن يؤمن ويعمل الصالحات ويعيش وحده، لا، لابد أن توصي غيرك بالحق، وتقبل الوصية من غيرك بالحق، لابد أن تتفاعل مع غيرك حتى يقوم المجتمع الصالح ولا تكتفي بهذا، لأن الحق طريقه طويل، وأعباؤه شاقة فلابد أن توصي غيرك بالصبر وتقبل من غيرك الوصية بالصبر..
وانتقل متحدثاً عن محور هام قال: إذا كنت ممن اتبع محمدا صلي الله عليه وسلم فيجب أن تدعو إلي الله وداعيا علي بصيرة، وبيئة، وهذا يقتضي منك أن تعرف الإسلام الذي تدعو إليه.. فكيف تدعو الناس إلي شيء وأنت لا تعرفه؟ بل كيف تعمل بهذا الإسلام وأنت لا تعرفه؟ ولذلك كان العلم بالإسلام مقدما علي العمل بالإسلام، العلم إمام والعمل تابعه الإمام البخاري يقول في باب: العلم قبل العمل واستدل بقول الله تعالي في سورة محمد فاعلم انه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات اعلم ثم استغفر والاستغفار عمل، فالعلم قبل العمل.. لذلك كان طلب العلم فريضة علي كل مسلم ومسلمة.(222/3)
وقال أن هناك قدراً من العلم لابد أن يعرفه كل مسلم قال لابد أن تعرف من أمور عقيدتك ما تصحح به عقيدتك: لا تدخل في الخرافات ولا الأضاليل ولا الشرك هذا فرض علي كل مسلم وما يؤدي به العبادة سليمة خالصة لله تعالي بعيدة عن النقص والقصور، بعيدة عن الرياء، عما ينقص هذه العبادة ويجعلها تقصر عن القبول عند الله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء وتعرف الحلال من الحرام، لابد أن تعرف نذرا من سيرة رسولك صلي الله عليه وسلم يجعلك تؤمن بهذا الرسول عليه الصلاة والسلام، فلكي تقول إن محمد رسول الله لابد أن تكون مطمئنا إلي رسالة محمد، وهذا ما يدعوك لقراءة سيرته أو تسمع من العلماء.. فكثير منا لا يعرف من سيرة النبي إلا قشوراً، ربما بعضها من الأشياء التي لا تثبت عن الرسول، أتتها أحاديث موضوعة أو حكايات أو إشاعات يتناقلها الناس بعضهم عن بعض، ليس هذا هو المقصود بالسيرة، نريد السيرة الحية العطرة التي تمثل هذا النبي العظيم منذ ولادته إلي أن توفاه الله عز وجل وهي سيرة كلها نور علي نور، وكلها طيب من طيب، وخيار من خيار، منذ ولادته عليه الصلاة والسلام.. نقية من الخرافات وهو ما نسلكه في هذه الخطب، وقام به موقع إسلام اون لاين بلغات شتي تبدأ عن قريب بالانجليزية.
السيرة ضرورة للمسلم
قال روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كنا نروي أبناءنا مغازي رسول الله صلي الله عليه وسلم كما نحفظهم السور من القرآن قال: بدلاً من الخرافات والروايات المستوردة وفيها ما فيها من الفواحش والأباطيل يتعلمون سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم، يعرفون هذه البطولات وهذا النداء، وأن هذا الإسلام الذي وصل إليه لم يصل عفوا، إنما وصل بعد تضحيات تضحيات هائلة، بعد دماء أريقت وأرواح أزهقت وأموال بذلت ورجال ضحوا بأنفسهم ونفائسهم في سبيل الله.. ينبغي أن نتعلم سيرة الرسول من الثقاة، من العلماء في كتب موثقة، ومن أعظم ما كتب في عصرنا كتاب فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله كتبه وكان منتدباً في المدينة بجوار مسجد وقبر رسول الله فكان يقرأه وعواطفه مشبوبة: (كانت دموعي تختلط بمدادي وأنا أكتب هذا الكتاب عن رسول الله صلي الله عليه وسلم) وهناك كتب كثيرة..
وقال فضيلته: علينا أن نقرأ من جديد عن الرسول صلي الله عليه وسلم بلغات العالم ونستخدم الأدوات الحديثة وآليات العصر: الفضائيات، الإنترنت نستغلها لنعرف الناس بهذه الشخصية العظيمة محمد صلي الله عليه وسلم، التي وصفها وأثني عليها الله في كتابه هذا الثناء العظيم حينما قال وإنك لعلي خلق عظيم ، ولم يثن عليه بأنه صائم النهار، صائم الليل، كثير التسبيح والتحميد والتهليل وهو كذلك لأنه أثني عليه بهذا التأكيد، الجملة الاسمية وهي أوكد من الجملة الفعلية.
وفرّق بين الخلق الحسن والخلق العظيم: فكثير من الناس أخلاقهم حسنة، أما أن يكون الإنسان خلقه عظيما، فهذا شيء قلما يوجد، ومن الذي قال له هذا؟ إنه الله ولم يقل له بشر مثله.. الله الذي أدّبه فأحسن تأديبه، الذي أنزل عليه القرآن. ورأي في نهاية خطبته الأولي أن علينا أن نتعلم سيرة رسول الله، وأن نعلم الناس بعد ذلك هذه السيرة وهذه واجباتنا نحو هذا الرسول العظيم علمتها إيانا هذه الأحداث المؤسفة لكن رُبَّ ضارة نافعة، علي أمتنا الكبرى أن تحب رسولها كما أثبتت ذلك هذه الأحداث، وأن تحول هذا الحب إلي واقع والي إيمان ملموس بما جاء به محمد صلي الله عليه وسلم، وأن تحول هذا الإيمان إلي عمل وسلوك في حياتها كلها الفردية والأسرية والاجتماعية والأممية وأن تدعو الناس إلي هذا كله، الأمة الإسلامية أمة دعوة، ليست أمة منكمشة علي ذاتها، مكلفة بأن تنشر دينها في العالم.. وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وكل ضلال ضلته الأمم المختلفة، الأمة الإسلامية مسئولة عنه.. ثم عليها بعد ذلك أن تتعلم سيرة هذا الرسول الكريم، وتتعلم سنته، وتتعلم رسالته(222/4)
أزمة العقل المبدع
محمد خيرى بن عبد المجيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله - تعالى- من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وبعد:
قال -تعالى-: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))(آل عمران: 102)، وقال – تعالى-: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً))(النساء:1)، وقال – تعالى-: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً))(الأحزاب: 70-71)، وبعد:-
فمما لاشك فيه أنه ينبغي على أفراد الفئة المسلمة أن تراجع نفسها مراجعة دقيقة حتى تستكشف جوانب الخلل فيها، ولماذا هذا التراجع المرير لهذه الفئة في التأثير على (الآخر)، وستكشف لنا هذه المراجعة عن أخطاء تتراوح بين القلة والكثرة، وفى هذا المبحث سنتناول أحد هذه الأخطاء وهى أزمة فقدان العقل المبدع أو العقل المفكر، وهى أزمة تربوية في الأساس، تنتج نتيجة ممارسات تربوية خاطئة ينتج عنها تفرد آحاد بالتفكير، والباقي أو البقية تجلس في مقاعد المتفرجين أو المستمعين، وفى أغلب الأحيان المصفقين!!، وتنبع أهمية الموضوع من عدّة نقاط:
1- أن آيات القرآن تدعو إلى التفكر في الآيات الكونية، وفي الأنفس، ومن آيات الله في الكون قوله – تعالى-: ((هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون(11) وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)) (النحل:12) يقول ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله - تعالى-: ((إن في ذلك لآية)) يقول جل ثناؤه: إن في إخراج الله بما ينزل من السماء من ماء ما وصف لكم لآية: يقول: لدلالة واضحة وعلامة بينة {لقوم يتفكرون} يقول: لقوم يعتبرون مواعظ الله، ويتفكرون في حججه فيتذكرون وينيبون، ويقول في تفسير قوله – تعالى-: ((إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)) يقول - تعالى- ذكره: إن في تسخير الله ذلك على ما سخره لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج الله ويفهمون عنه تنبيهه إياهم"(1) فالقرآن ليس كتاب تاريخ أو جغرافيا، أو علوم طبيعة، ولكنه رسم للعقول دروباً تسدد الفكر، وأوجد المناخ العلمي كي ينتفع الناس بما سخر الله لهم مما في الأرض، ويستنبطوا في العلوم ما ينفعهم ولا يضرهم.
أوجد القرآن المناخ العلمي لينتفع الناس من التاريخ والجغرافيا، فذكر أسباب التقدم وأسباب الانهيار عند الأمم ((قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين))(الإنعام: 11)، فالمناخ العلمي هو الذي يسمح بالإبداع، وطرح الأسئلة، ولذلك شنع القرآن على الجمود، وعلى الذين يقولون: ((إنا وجدنا آباءنا))(الزخرف:23).
إن الله - سبحانه - عندما أعطى الإنسان قوى العقل ليفكر أراد منه أن يكون التفكير طريقاً لما هو أنجح وأقوى وأحكم، ولم يعطها للإنسان ليجعلها خيالات وخرافات يقول الشيخ ابن عاشور: "إن إصلاح التفكير من أهم ما قصدته الشريعة الإسلامية في إقامة نظام الاجتماع، وبهذا نفهم وجه اهتمام القرآن باستدعاء العقول للنظر والعلم والاعتبار".(3).
كما يدعو القرآن إلى التفكير بشكل عام، والتخلص من إرث الآباء والأجداد كما في قوله – تعالى-: ((قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد))(سبأ: 46).(223/1)
وبين القرآن أن سبيل الدعوة الصحيحة وهو سبيل المرسلين الدعوة على بصيرة يقول – تعالى- في سورة يوسف ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين))(108) قال أبو جعفر: يقول – تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته {سبيلي} وطريقتي ودعوتي أدعو إلى الله وحده لا شريك له {على بصيرة} بذلك، ويقين علم مني به أنا، ويدعو إليه على بصيرة أيضاً من اتبعني وصدقني وآمن بي {وسبحان الله} يقول له – تعالى- ذكره: وقل تنزيهاً لله وتعظيماً له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه: {وما أنا من المشركين} يقول: وأنا بريء من أهل الشرك به لست منهم، ولا هم مني، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال أخبرنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بن أنس في قوله: ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة)) يقول: هذه دعوتي حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة)) قال: {هذه سبيلي} هذا أمري وسنتي ومنهاجي {أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} قال: وحق والله على من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله"، حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن أبي جعفر عن الربيع بن أنس قوله: {قل هذه سبيلي} هذه دعوتي حدثنا ابن حميد قال حدثنا حكام عن أبي جعفر عن الربيع: {قل هذه سبيلي} قال: هذه دعوتي.(4) يقول الهروى - رحمه الله - في المنازل في الكلام على نفس الآية: "يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهى البصيرة التي تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة، وهى أعلى درجات العلماء، قال – تعالى-: ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)) أي أنا واتباعى على بصيرة، ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله على بصيرة، وعلى القولين فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر الداعون إلى الله - تعالى-، ومن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة، وإن كان أتباعه على الانتساب والدعوى)(5).
فنرى من تفسير السلف لهذه الآية أن" البصيرة " يجب أن تكون من سمات القائد والأتباع أيضاً لا ينفرد بها أحد دون الآخر، ونرى كذلك أن القرآن قد أخبرنا عن قوم ضلوا بسبب عدم تفعيل عقلهم وتفّكرهم، واتّبعوا ما عليه الآباء وهم أصحاب "العقلية الآبائية"، وهم الذين قالوا: ((إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون))(الزخرف23) فحين عطلوا تفكيرهم عن إبصار الحق ارتكسوا هم وآباءهم في الضلال المبين.
2- ومن أسباب طرح الموضوع ما تقوم به قوى الضلال بتطبيق ما يسمى بسياسة "تجفيف المنابع" أي تجفيف رموز الفكر والدعوة الإسلامية من الالتقاء والدعوة إلى الجماهير، وبذلك تبقى الجماهير بعيدة عمن يرشدها ويوجهها إلى طريق الحق، فتصبح هذه الجماهير وحيدة بدون توجيه أو إرشاد، وتصبح بقدر فريسة سهلة لدهاقنة الباطل لتلبّس عليهم دينهم، وطبعاً قلَّ أن يظهر من بين هؤلاء الجماهير من يقول "أنا لها"، وذلك لعدم وجود من يربى على إيجاد عقول إبداعية، أو ما يطلق عليه بالصف الثاني من الكوادر الدعوية إلا ما رحم ربك، وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
* المقالة جزء من مبحث للباحث بعنوان "أزمة العقل المبدع".
ثبت المراجع:
1- تفسير الطبري تفسير سورة النحل.
2- د. محمد العبدة"بعض أسس التفكير كما جاءت في القرآن الكريم"ص3 من سلسلة دروب النهضة طباعة دار الصفوة بمصر.
3- الطاهر بن عاشور"النظام الاجتماعي في الإسلام" نقلا عن المصدر السابق ص4.
4- تفسير الطبري تفسير سورة يوسف.
5- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد طبعة دار الفتح ص77. 5.
http://www.islamselect.co(223/2)
أزمة القيادات في العالم الإسلامي
د. عبد العزيز القارئ 20/1/1424
23/03/2003
المُتأمِّل في واقع المسلمين اليوم يجدْ ظاهرةً هامةً تلفت نظرَ المفكرين، هي أن الصحوة الإسلامية في الأمة تنتشر ويتزايد حجمها على مستوى الشعوب، بينما هناك فقر مدقع على مستوى القيادات ؛ أي أن هناك اتساعاً على مستوى القاعدة وانكماشاً على مستوى القمة..
هناك قيادات محلية في كل قطرٍ فيها خير وبركة، وكثيرٌ منها لا خيرَ فيها ولا بركةَ ؛ ولكنَّ المسلمين اليوم محرومون من القيادة على مستوى الأمة، قيادةٍ مؤهلةٍ لإنقاذ الأمة كلها من وهدتها.
أما القيادات السياسية ؛ أي حكام العرب ؛ وحكام العالم الإسلامي، فقد أعلنوا إفلاسهم بلسانِ الحالِ ولسانِ المقال..
وثبت أنهم على صنفين لا ثالثَ لهما: صنفٌ هو صنيعةُ الاستعمار، صَنَعَه على عينه وهيَّأَه، وأوصله إلى الكرسي، ووضعه كابوساً على صدر الشعب يكتم أنفاسه، ويكبت أيَّ بوادر لنهضته أو أيَّ تحركٍ لتحرُّرِهِ، ويتولى حراسة مصالح سادته الذين أوصلوه إلى الكرسي، ويتولون حمايته، وعندما ينتهي مفعوله وتنفد صلاحيته يُلْقون به في المزبلة، وربما تركوه لمصيره وتخلوا عنه لشعبه ليتولى القضاء عليه، وهذا له أمثلة كثيرة في الواقع المُشَاهَد، وليس من موضوعنا الانشغال بتفاصيل ذلك.
وصنفٌ آخر ليس كذلك، فيه دَخَنٌ، أي فيه خيرٌ وشَرٌ، لكنه مصابٌ بالعجز التام أمام قوة المُسْتَعْمِرِ الجديد وضخامة حجمه وشراسته.
المهم أن كلا الصنفين أثبتوا أنهم مُجَرَّدَ واجهاتٍ ضعيفةٍ، لا تستطيع الدفاع عن الأمة، ولا حراسةَ مصالحها العليا، ولا قدرةَ لها على مكافحة العدو، والذبِّ عن مصالح الأمة، ولا نيةَ ولا إرادةَ لذلك..
وحتى تكتمل الصورة المثيرة للسخرية والمرارة انظر إلى تلك النِّقَابتين الشهيرتين: نِقَابَةُ حُكَّامِ العرب " الجامعة العربية " ونِقَابَةُ حكامِ العالم الإسلامي " المؤتمر الإسلامي "، إنهما في وضعٍ من الشلل والإعاقة والعجز التام لا تحسدان عليه.
ويا أسفاً على أمةٍ عظيمةٍ تمثلها هاتان النقابتان المشلولتان!!
المقصود أن نقول: إن الأمة الآن بلا قياداتٍ سياسيةٍ ؛ لقد تخلت القيادات السياسية عن واجباتها، وربما انقلب بعضها مخلباً للعدو المُهَاجِمِ ضدَّ شعبه، وضدَّ أمته.
أما قيادات الحركات الإسلامية فكثير منها ضعيف، والحركات التي يقودها أناس ليسوا من العلماء، ولا فقه لهم بالشريعة، ولا يشاورون العلماء، لا تحتاج إلى تفصيلٍ لحالها وحالِ قياداتها، لا نجرح فيهم من جهة الصدق والعدالة، فلربما كانوا أفضل صدقاً وإخلاصاً، ولا نستخف بشخصياتٍ معينة، ولا نريد التنقص من أحد، معاذ الله، إنما هدفنا مناقشة الحالة..
الفقهُ في الدين والعلمُ هو الشرط الثاني بعد العدالة للولاية عند الفقهاء ثم يليه شرط الكفاية، بمعنى العقلية الإدارية السياسية، كلُّ ولايةٍ عامةٍ تحتاج إلى هذه الشروط الثلاثة وليست الولاية الكبرى فحسب.
تأمَّل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحبُّ لك ما أحبُّ لنفسي لا تَأْمَّرَنَّ على اثنين، ولا تولَّيَنَّ مالَ يتيم)(1).
أبو ذر رضي الله عنه لا ينقصه الشرط الأول ولا الثاني، فقد ورد أنه أصدق الناس
لهجة (2) ولم يكن ضعيفاً بمعنى الجبن والخور، كيف ومواقفه القوية في مسألة الأموال معروفة، أولاً في مواجهة أمير الشام معاوية رضي الله عنه وذلك عندما كان بالشام، وثانياً في حضرة الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وذلك عندما رجع أبو ذر إلى المدينة..
إذن المقصود بالضعف هنا: الضعف في القيام بوظائف الولاية، لافتقاده الحننْكَةَ الإداريةَ والسياسيةَ، ولذلك نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن سائر الولايات العامة والخاصة..
أبو ذر رضي الله عنه، صحابي جليل، من علماء الصحابة، وأَصْدَقُهُم لهجةً، وهو مَنْ هو في قوته في الحق، ومع كل ذلك لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم مناسباً لتولي الإمارة..
وقارن ببعض قيادات الحركات الإسلامية تجد أمراً عجباً، ولا نحتاج إلى التشهير بأحدٍ، ولكن تتحدث عنهم أعمالهم وإنجازاتهم، وطريقتهم في التفكير، وطريقتهم في العمل.
أحَدُ أحسن هذه القيادات حالاً، وقف أمام الجموع المتحمسة للإسلام في بلده يقول: ماذا يضير الشعبَ إذا لم يعرفْ هل استوى الله على العرش أم لا ؟!
من الواضح أن هذا القيادي نفسَهُ لا يعرف هل استوى الرحمن على العرش أم لا !! ولذلك هو يُلْغِي هذه المسألةَ وأمْثَالَها من برنامجه..
وبصرف النظر عن السبب الذي أدَّى إلى ضيقِ صدر هذا القيادي بهذه المسألة وأمثالِهَا فإننا نقول: إذا لم تكن معرفةُ اللهِ في مُقدِّمةِ الأولويات في برنامج أيِّ حركةٍ إسلاميةٍ فإن لنا أن نتساءل: إلى أيِّ شيءٍ يدعون الناس إِذَنْ، لأن كلَّ هدفٍ آخر هو مُتفرِّعٌ من هذا الهدف.(224/1)
وفي حركة أخرى من الحركات الإسلامية الرئيسية الكبرى في الساحة هي حركة الإخوان المسلمين قارن في مجال القيادات بين حسن البنا وسيد قطب رحمهما الله وبين قيادتها الآن حتى تعرف أن الخط البياني في هبوط..
هذه الأزمة في القيادات تجعلنا نتساءل: لماذا عَقِمَتْ أرحامُ هذه الحركات الإسلامية من بعد مُؤَسِّسِيهَا عن أن تقدم للأمة قادةً مُؤَهَّلِين سواءً من الصف الأول، أو حتى من الصف الثاني، هل انشغل المؤسِّسُون بتربية الأمة عن تربية القادة ؟!
إن أمثال حسن البنا، وعبد الحميد بن باديس، ومحمد بن عبد الوهاب، وأبي الأعلى المودودي وغيرهم من القادة الأفذاذ لا تنجب الأمة أمثالهم دائماً، فلماذا لم يعتنوا بتربية جيل من القادة يتسلمون الراية من بعدهم ؟!
انظر إلى القادة من الرعيل الأول الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم ماذا فعلوا من بعده، وكيف أكملوا مسيرته حتى وصل نور رسالته إلى مشارق الأرض ومغاربها..
إن إهمال هذا الجانب وهو إعداد القادة يؤدي دائماً إلى ضعف الحركة وانحطاطها، لأنه يقفز إلى القيادة حينئذٍ من ليس أهْلاً لها..
عندما تكون القيادة لغير العلماء فلا أملَ يُرْتَجَى ولا خيرَ يُنْتَظَر، يكون الحال عندئذٍ تطبيقاً مبكراً لقوله صلى الله عليه وسلم: (... حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضَلُّوا وأَضَلُّوا)(3).
إنها مهمة الأنبياء، سواء كانت دعوةً أو جهاداً، والأنبياء استخلفوا عليها العلماءَ، قال صلى الله عليه وسلم : (إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء)(4).
نقول: إذا كانت القيادات الحركية بهذه الحالة، والقيادات السياسية مفلسة، فإن مسؤولية القيادة يجب أن تنتقل إلى العلماء..
أعني العلماءَ الربانيين، وإني لَمُوقِنٌ بوجودهم فإنهم القيادة الحقيقية للأمة، والله تعالى لا يترك هذه الأمة بلا قيادةٍ صحيحةٍ وإلا فستكون نهايتها.
العلماء هم أولو الأمر في هذه الأمة، وهم أهل الحل والعقد، ويجب على الأمة طاعتهم والرجوع إليهم، خاصة عند الملمات والأزمات، أزمات السِّلْم أو أزمات الخوف، تأمل القرآن :
( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) [ 83/النساء ].
قوله ( يستنبطونه ) دل على أن أولي الأمر الذين هم مرجع الأمة هم العلماء، وإلا فقل بربِّكَ: مَنْ مِنَ القيادات السياسية الآن ونحن في خوفٍ يفهم القرآن أصلاً حتى يستنبط منه.
العلماءُ الربانيون موجودون، ولكنهم مشتتون في ثنايا الأمة، ليس بينهم تواصلٌ ولا ترابطٌ ولا تنسيقٌ ؛ ولو سراً، وهم محارَبون، وهناك حرصٌ على إبعادهم عن مراكز التأثير، ومن باب أولى عن مراكز القيادة، بل في بعض بلدان العالم الإسلامي التي ابتليت بحكومات ظالمةٍ قمعية شرسة هناك محاولات للقضاء عليهم وإبادتهم..
لا بد من تحرك هؤلاء العلماء ليأخذوا زمام المبادرة، فالأمة الآن أصبحت مكشوفة وبلا قيادة..
كيف يتحركون ؟ وماذا يصنعون ؟ لستُ هنا بصدد وضع برامج مسبَّقة ولا خطط معلَّبة، يكفي أن أقول : إن الواجب عليهم الآن أن يتحركوا، وأول خطوةٍ هو محاولة التواصل، والترابط، والتشاور، لعل ذلك يُفضِي بهم إلى التنسيق فيما بينهم، وتكوين جبهةٍ واحدةٍ سرية أو علنية، أو كلتاهما معاً.
لقد مرت في تاريخ أمتنا أزمات أشدُّ مما تواجهه اليوم، وحلّت بها كوارث ومصائب كبيرة هددت وجودها وبيضتها، لكنها نجت من كل تلك المحن، وكان الفضل بعد الله يرجع لجهود العلماء..
كان من أهم أسباب الضعف أن الفتن التي هجمت على الأمة بدأت من الداخل، متمثلة في الروافض، البويهيين، والفاطميين، وفرق الباطنية من إسماعيليين وحشاشين، كل هؤلاء كانوا عوامل فساد نخرت في كيان الأمة، ولولا وقفة العلماء ضدهم، ووقفةُ بعضِ ملوك المسلمين وسلاطينهم : من السلاجقة، والأيوبيين، لكان أثر هؤلاء الروافض مدمراً..
ثم جاء الهجوم الصليبي، الذي بدأت أولى موجاته في أوائل القرن الخامس الهجري، وكان لمراسلات خلفاء الدولة الفاطمية الرافضية مع نصارى أوربا يحثونهم على مهاجمة الشام أبلغ الأثر في غزو الصليبيين للعالم الإسلامي(5). بل وكان لمراسلات " ابن العلقمي " الوزير الرافضي لآخر الخلفاء العباسيين أبلغ الأثر في هجوم المغول على بغداد سنة (656) هـ وانهيار الخلافة العباسية على يدهم..(224/2)
منذ هجوم الصليبيين على الجناح الغربي في أوائل القرن الخامس، حتى سقوط الخلافة العباسية على يد المغول في منتصف القرن السابع كانت هذه فترات عصيبة مرت بالأمة الإسلامية، كادت فيها هذه العواصف الهائلة المدمرة تتسبب بفنائها، لكن يلحظ المفكر أن الجانب السياسي في الأمة وإن كان مهترئاً فاسداً في الغالب – سوى ومضات قليلة لم تدم طويلاً – وتعدى نحس هذا الفساد السياسي إلى المجتمع، فكثرت فيه مظاهر الفساد، وأسباب الدمار، لكنّ الجانب العلمي كان قوياً، والمدارس مزدهرة والعلماء قائمين بواجبهم في محاولة إصلاح الأمة، والعجيب أنه في هذه الفترات العصيبة ظهر مشاهير من العلماء : كابن الجوزي، وأبي حامد الغزالي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم ومن يراجع كتب التاريخ والتراجم يجد عجباً..
ومع انهيار النظام السياسي ؛ بانهيار الخلافة العباسية ببغداد واستسلام سلاطين الشام وأمرائه للصليبيين ؛ فإن كيان الأمة ظل صامداً أمام تلك العواصف الهائلة، بل ونهضت الأمة من بين الركام قويةً ثابتةً، وداوت جراحها، ورممت ما انهدم من بنائها، بل وأنجبت قيادات سياسية جديدة، سليمة صحيحة، تولت مهام ترميم الكيان السياسي وإنقاذه، كعماد الدين زنكي، ونور الدين زنكي الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، وسيف الدين قطز، وقبلهم ملوك السلاجقة: طغرل بك، وملكشاه، ووزيره نظام الملك الذي اشتهر بإنشاء المدارس ورعاية العلماء، والسلطان ألب أرسلان صاحب غزوة " ملاذكرد " التي كانت البوابة الهامة لفتح بلاد الروم بعد ذلك " آسيا الصغرى " أو " تركيا " وتأسيس خلافة " آل عثمان " فكيف أمكن ذلك لأمةٍ تلَقَّتْ تلك الضربات الهائلةً ومُنِيَتْ بتلك الكوارث الكبرى ؟!
الفضل بعد الله يرجع إلى العلماء، الذين بنشر العلم حافظوا على روح الأمة وشكَّلُوا خطَّ الدفاع الأخير القوي الذي لم يمكن لأحدٍ اختراقه، وشكَّلوا فريق الأطباء الذين داووا جراح النفوس، وثَبَّتوا إيمان الأمة.
وعندما تقرأ سيرة أولئك القادةِ المنقِذِين والملوك المجاهدين تجد قاسماً مشتركاًَ بينهم: حبهم للعلم والعلماء، واعتناءهم بالمدارس، وصلاحَ سيرتهم وقوةَ إيمانهم، ثم عنايتَهم مع ذلك بالأسباب المادية بتقوية الجبهة الداخلية، والقضاء على الروافض، والعناية بالتسليح وإنشاء مصانع السلاح.
وهكذا في العصر الحديث، عندما واجه العالم الإسلامي الهجمةَ الصليبيةَ الثانيةَ المتمثلةَ في الاستعمار الأوربي الذي مزَّقَ أوصالهُ وتقاسَمَهُ غنائمَ للدول الأوربية، بدأت نهضتُهُ حتى تحرَّرَ من هذا الاستعمار على يد العلماء أمثال: الشيخ عبد الحميد بن باديس في الجزائر، والسنوسي في ليبيا، والمهدي في السودان، والشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، وعلماء المسلمين بالهند وغيرهم.
واليوم هاهو التاريخ يعيد نفسه، وهاهو العالم الإسلامي يواجه الهجمة الصليبية الثالثة، وهي هذه المرة أمريكية، فلا بد أن يتحرك العلماء، ويقوموا بواجبهم في تثبيت الأمة والحفاظ على روحها وإيمانها، ووحدتها، وثباتها، ويهيؤوا للأمة قيادات جديدةً، أو يهيؤوا الأمةَ للقيادة "الأخيرة"!!
المقالة التالية
(الحرب الصليبية الثالثة أمريكية)
(1) مسلم في الإمارة [ انظر النووي 12/ 210 ].
(2) الترمذي في السنن [5 / 669 / الحلبي ].
(3) البخاري في العلم [ 1/36/ الحلبي ].
(4) أبو داود في العلم [ انظر مختصر المنذري 5/ 243 ] وذكره البخاري في الترجمة [ 1/26/ الحلبي ].
(5) الحروب الصليبية / لمحمد العمروسي المطوي / طبع دار الغرب الإسلامي 1982م / ص35.(224/3)
أزمة الهوية عند الشباب المسلم..
(نظرة تشخيصية)
تنتمي أزمة الهوية الإسلامية المعاصرة للشباب المسلم لذلك النوع من الأزمات المزمنة الذي تتشعب أسبابه وتتفرع متعلقاته، فالنظرة لها يجب أن تكون نظرة شاملة متعمقة دارسة للواقع الفعلي لذلك الشباب المسلم وتيارات التأثير التي تؤثر فيه ومنابع المد التي تمده وتغذيه، فهي أزمة تجتمع فيها مسارات سياسية وعقائدية وفكرية ثقافية وتنموية اجتماعية تجتمع كلها لتشكل أزمة التكوين الثقافي والسلوكي والعقائدي والفكري لذلك الشباب المسلم الذي ينتشر في ربوع الأرض، بعضه يعيش في موطنه والبعض الآخر خارج وطنه، والغريب الداعي للبحث أن كليهما يعاني من أزمة الهوية!!
إن المسار التاريخي قد أفرز فسحة في البناء الحضاري اسمها (القابلية للاستعمار)، وهذه الفسحة تعكس تنامي عوامل التفكك في الأبعاد الفكرية و السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما تعكس تراجعاً كبيراً في الانتماء العقائدي للشباب في تلك المساحة الاستعمارية التاريخية، فهنا إذن مساحة تسمح للبؤر الناشئة في عصر التفكك والضعف بالارتباط بمركز آخر للتلقي والتوجيه ونفس الشيء يحدث بالنسبة للوعي عندما يبدأ بالتواصل مع مرجعيات مغايرة وليس المهم أنها تابعة للمركز الاستعماري بقدر ما هي مبتعدة عن المركز الحضاري الأصلي وهو في قضيتنا هنا الحضارة الإسلامية، وبالتالي فإن الوعي سيبدأ بالتغير وستفقد المقولات الأصلية التي تكون الهوية هيمنتها عليه فيغدو القبول بمقولات الآخر شيئاً مألوفاً،وبسلوكيات الآخر وطريقة تفكيره وربما يتنامى ذلك أيضاً للاعتقاد!!
وهذا يعني إلغاء التجانس (الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي، الثقافي، الفكري، الاعتقادي) ذلك الذي يعد أهم مظهر من مظاهر وحدة الحضارة وتحديد الهوية، ولذا يمكن أن نعرف ذاك التجانس بأنه (العناصر المشتركة التي تصلح كمقومات لبناء هوية مجتمع واحد للأمة)، وعليه فإن مقابلة أي تعدد سيعني زوال ذلك التجانس الذي يفرز الحضارة ويبني الهوية، فكما أن قضية الهوية الشخصية يعد أزمة موجبة للعلاج فإنه لابد للنظر إليها من خلال أزمة أخرى أكثر إيجابا للعلاج هي أزمة الهوية المجتمعية التي تسبب الضياع الفردي والذوبان في المغاير...
وتستعمل كلمة(هوية) في الأدبيات المعاصرة لأداء معنى كلمة Identity التي تعبر عن خاصية المطابقة: مطابقة الشيء لنفسه، أو مطابقة لمثيله، وفى المعاجم الحديثة فإنها لا تخرج عن هذا المضمون، فالهوية هي: حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة، المشتملة على صفاته الجوهرية، والتي تميز عن غيره، وتسمى أيضاً وحدة الذات.
ولذلك فإذا اعتمدنا المفهوم اللغوي لكلمة هوية أو استندنا إلى المفهوم الفلسفي الحديث فإن المعنى العام للكلمة لا يتغير، وهو يشمل الامتياز عن الغير، والمطابقة للنفس، أي خصوصية الذات، وما يتميز الفرد أو المجتمع عن الأغيار من خصائص ومميزات ومن قيم ومقومات.
وخلاصة الأقوال: إن الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت، والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية طابعاً تتميز به عن الشخصيات الأخرى.
وسوف نحاول من خلال استقراء وجهات نظر الخبراء والمربين والدعاة البحث في قضية الهوية الإسلامية لشبابنا هادفين للخروج بمنظور علاجي نافع يعد انطلاقة مقبولة للعودة إلى الانتماء والتطبيق للمعنى الإسلامي الأصيل..
أولاً: مظاهر ضعف الهوية الإسلامية لدى الشباب المسلم..
تتكاثر المظاهر التي قد يراها البعض انفتاحاً وتقدماً ورقياً في حين يراها الآخرون إذلالاً وتبعية وذوباناً للهوية..
يقول الدكتور محمد إسماعيل المقدم: يمكنك أن ترى أزمة الهوية الإسلامية في الشباب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه وفي سيارته، وفي الشباب الذي يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم ومخبرهم، وفي المسلمين الذين يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية بغير عذر ملجئ ثم يفتخرون بالفوز بجنسية البلاد الكافرة وفي المذيع المسلم الذي يعمل بوقاً لإذاعة معادية لدينه من أجل حفنة دولارات،...... وفي أستاذ الجامعة الذي يسبح بحمد الغرب صباح مساء... وفي كل ببغاء مقلد يلغي شخصيته ويرى بعيون الآخرين ويسمع بآذانهم وباختصار: يسحق ذاته ليكون جزءاً من هؤلاء الآخرين " أيبتغون عندهم العزة "؟!(225/1)
ويقول الدكتور عصام هاشم: يوم أن ضيَّع أفراد الأمة هويتهم، وذهبوا يتخبطون في دياجير ظلمة الحضارة المعاصرة بحثاً عن هوية، ظهرت نسخة مشوهة من الحضارة الغربية بين شباب بلاد الإسلام، حيث ظهر من يقلدهم في لباسهم وأكلهم وشربهم وقصات شعورهم، بل وحتى في سعيهم البهيمي في إشباع شهواتهم، وظهر من فتيات الإسلام كذلك من تعرت وتفسخت وتركت حجابها وظهرت على شاشات الفضائيات والقنوات مغنية أو راقصة أو مقدمة، والأدهى من ذلك والأمر أن هناك من بني جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا يسعون باسم الثقافة والتقدم إلى مزيد من طمس الهوية الإسلامية؛ فيسعون لكشف المحجبة، وإفساد المؤدبة، وإخراج المكنونة المستترة..
ويقول الدكتور جمال عبد الهادي: إن الأزمة بلغت إلى حد أن الأمة صارت تستورد قيمها من غيرها لتبني حضارتها ولاشك أن هذه أعظم مخادعة للذات ؛ لأنها تبني بيتها على جرف هار، إن من يتصور أن في اتباع قيم الآخرين ومناهج حياتهم الوجاية والوقاية من بطش أمم شاء الله لها العلو في الأرض زمناً والإفساد فيها إلى حين لهو واهم؛ لأن صدام الحضارات والأديان والثقافات أصبح حقيقة واقعة ومعلوم من التاريخ والواقع بالضرورة..
ويقول الدكتور عبد العزيز التويجري: إن الخطر الأكبر الذي يتهدد الأمم والشعوب في هذا العصر، هو ذلك الخطر الذي يمسّ الهوية الثقافية والذاتية الحضارية والشخصية التاريخية للمجتمعات الإنسانية في الصميم، والذي قد يؤدي إذا استفحل، إلى ذوبان الخصوصيات الثقافية التي تجمع بين هذه الأمم والشعوب، والتي تجعل من كل واحدة منها، شعباً متميزاً بمقومات يقوم عليه كيانه، وأمة متفردة ً بالقيم التي تؤمن بها وبالمبادئ التي تقيم عليها حياتها.
ومهما تكن الألفاظ الجامعة التي يوصف بها هذا الخطر الذي بات اليوم ظاهرةً تكتسح مناطق شتى من العالم، بما فيها المناطق الأكثر نموّاً والأوفر تقدّماً في المجالات كافة، وأياً كانت طبيعة هذه الظاهرة وحجمها والأدوات التي تستخدم في تحريكها، فإن مما لاشك فيه أن لهوية والثقافة بخصوصياتهما ومكوّناتهما ومقوماتهما، هما المستهدف في المقام الأول، وأن الغاية التي يسعى إليها الماسكون بأزّمة السياسة الدولية في هذه المرحلة، هي محو الهويات ومحاربة التنوع الثقافي، والعمل على انسلاخ الأمم والشعوب عن مقوماتها، لتندمج جميعاً في إطار النموذج الأمريكي الأقوى إبهاراً، والأشدّ افتتاناّ في العصر.
ونحن نستطيع استقراء أهم المظاهر التي تدل على أزمة الهوية لدى الشباب المسلم في عدة نقاط هامة وأساسية:
1- الانبهار الشديد بالتقدم الغربي على مستوى التكنولوجيا والحضارة المادية.
2- التطلع لمشابهة الغربيين والأمريكيين وغيرهم من الشعوب المتقدمة مع الشعور بالدونية والانكسار تجاه تلك الشعوب.
3- التحرر من القيم المقيدة للسلوك الإباحي تشبها بالتحرر الغربي الجنسي والسلوكي.
4- ضعف الولاء والانتماء للتشكيل الإسلامي القيمي والمبادئي والمعيشي.
ثانياً: ما هي طبيعة النزاع والتحدي بين الهوية الإسلامية والثقافات الأخرى؟ وما سبب الانكسار لدى الشباب المسلم أمام الثقافات الغربية؟!
يقول الأستاذ الدكتور أحمد زايد: إن ثقافة العولمة التي تتحدى وتتصارع مع الهوية الإسلامية هي ذات خصائص معينة تجعلها تتميز بالقوة والدعم الذين تفتقدهما الثقافة الإسلامية في هذا العصر، فهي ثقافة يصاحبها في الغالب خطاب تقني وعملي، فهي تنقل عبر الوسائل الاتصالية الحديثة، وهي بذلك مصنوعة بحساب.
وهي نخبوية تُفرض من أعلى من دون أن تكون لها قاعدة شعبية، أو تعبر عن حاجات محلية، أو تلتزم بأشكال ومضمون التراث الثقافي التي تنتقي منه.
وإذا كانت ثقافة العولمة ثقافة نخبوية، فإنها تساعد على تركّز القوة. والقوة هنا ليست قوة سياسية فحسب، بل قوة التكنولوجيا المرتبطة بالمشروعات الصناعية ذات الصبغة الكونية كشبكات الحاسوب والإنترنت، وهي ما يطلق عليها تقنيات العولمة ، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بثقافة الاستهلاك، فالعمليات المرتبطة بنشر الحداثة تساعد على نشر القيم والرموز وأساليب السلوك المرتبطة بالاستهلاك.
وهي ثقافة تعمل على خلق نماذج وصيغة موحدة عبر العالم، كما تدعم نظاماً للصور الذهنية حول موضوعات خاصة لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالسوق الرأسمالي.
وتنطوي ثقافة العولمة التي تنبثق من الحداثة المادية بخصائصها تلك، على مخاطر عديدة تتهدّد الهوية والثقافة في آن واحد، مما يؤكد قوة الترابط والتلازم بين الهوية والثقافة أياً كانتا وهو الأمر الذي يستدعى تقوية العلاقة بين العنصرين الرئيسيْن من عناصر الكيان الأممي: الهوية والثقافة؛ لأن في الحفاظ على الهوية والثقافة وقايةً من السقوط الحضاري، وصيانة ً للذات، وتعزيزاً للقدرات التي يمكن التصدّيّ بها لضغوط التحدّيات مهما تكن.(225/2)
ويقول الأستاذ الدكتور شفيق عياش (عميد كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة القدس): يمثل المحور الثقافي الامتداد الأوسع لحركة العولمة الثقافية، ولعلي هنا أبرز بعض التحديات التي تأتي بها العولمة، وتطال في هذا المحور كافة العناصر المكونة للوجود الديني أو الانتمائي للدول المستهدفة عبر وسائل متبعة لنشر ثقافة التغريب والعولمة، ومن ذلك:
1- تحريف المفاهيم الدينية، كي تتفق مع الأفكار الفكرية التي تروجها العولمة المعاصرة، وذلك باستبعاد الإيمان بالغيبيات واعتباره مضادا للعقلانية العلمانية.
2- إيجاد فئات وشرائح ومؤسسات في المجتمعين العربي والإسلامي تعمل كوكيل للثقافة الغربية، وذلك بتقديم المساعدات المالية لمشاريع أبحاثها وعقد الندوات واللقاءات التي تدعم توجهاتها الثقافية للهيمنة على الثقافتين العربية والإسلامية.
3- إنشاء مجموعة من المراكز والمؤسسات التي تؤثر مباشرة على الثقافة العربية، مثل: الجامعات التبشيرية ومراكز اللغات والترجمة ومؤسسات خيرية ومدارس أجنبية يتمثل دورها جميعاً في التأثير الفكري والتربوي واللغوي على طلبة العلم والمعرفة، وفرض مناهجها وأفكارها مع التقليل من مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية، ثم القيام بالتبشير والتنصير ( والخطورة كل الخطورة تكمن في تخريج هذه الأجيال على النهج المريب من التغريب) وهي أجيال لن تعود لها صلة بماضيها وتراثها وثقافتها ولن يكون لها ولاء ولا انتماء لآبائها وأقرانها ممن يتخرجون من المدارس العربية، وكأننا بذلك نعمل على إيجاد حالة من الانفصام في شخصية المجتمع وبنيته الأساسية تبدو آثاره في ظاهرة استعلاء لغوي ومباهاة بلغة الغرب وثقافاتهم وإعلامهم.
4- يعد الإعلام مرتعاً خصباً وميزاناً فسيحاً يتم من خلاله الغزو الثقافي لإشاعة الفواحش والمنكرات من أجل تحطيم القيم والثوابت الأخلاقية، ولقد تحولت وسائل الإعلام إلى قنوات لبن مسموم ونشر للرذيلة والانحطاط بالغريزة البشرية وانهيار السلوك الإنساني والتباس الحق بالباطل والهدى بالضلال والخير بالشر
5 - إن قنوات التلفزة تشكل تهديداً خطيراً ومعول هدم للهوية الإسلامية الحضارية والثقافية من خلال بث البرامج والأفلام والمسلسلات الخليعة والمسرحيات الهابطة، ولقد كشفت دراسة قام بها تسعة من أطباء علم النفس على مدى خمس سنوات في جريدة الرأي الكويتية عام 1992م، أظهرت أن البرامج المتلفزة تؤثر على الأطفال المراهقين وتدفعهم إلى الصراعات وتجعلهم أكثر تقبلاً للعنف الجنسي، وكشفت هذه الدراسة أيضاً أن أفلام الرسوم المتحركة التي تعرض صباح العطلة الأسبوعية تتضمن مشاهد عنف تزيد بمعدل أربع أو خمس مرات عما يشاهد في الأفلام التي تعرض بعد ذهاب الأطفال للفراش، فعلى الرغم من كل هذه المظاهر التي وضحتها كل هذه الدراسات نرى تكالب أجهزة الإعلام على هذه المنتجات الإعلامية.
ويقول الباحث الدكتور إبراهيم متولي: إن التحدي الملح تجاه العودة بالهوية الإسلامية هو التحدي التربوي، وباستقراء الدراسات التربوية السابقة والخاصة بهذا الاتجاه يتضح لي ما يلي: من استعراض الدراسات السابقة يتضح أن ثمة أمور لا بد من التأكيد عليها لعل من أهما ما يلي:-
1- أن العالم الإسلامي يتعرض لمجموعة من التحديات والمخاطر لا بد للأنظمة التعليمية والتربوية من مواجهتها بصورة حاسمة.
2- حاجة المجتمعات العربية والإسلامية إلى صياغة حديثة لنظرية تربوية إسلامية تكون في مواجهة التحديات والمخاطر التي تحدق بالأمة العربية الإسلامية.
3- أن التعليم في القرن الجديد - الحادي والعشرين - يرتكز على مجموعة من المبادئ، هي: بيئة تعليمية جديدة - التعليم الشخصي - تعليم مبتكر للمعرفة - التعليم مدى الحياة، وكلها أساسيات مبادئية للتعليم الحديث يجب ألا تهملها النظرية الإسلامية الحديثة في مواجهة التغريب والعلمنة.
4- أن المجتمعات العربية الإسلامية تتعرض الآن - وفي المستقبل - لمجموعة من الأخطار والتحديات بعضها داخلي كالتغير في التركيب السكاني، والتغيرات الثقافية والقيمية، والتغيرات المجتمعية المختلفة، وبعضها خارجي: كالثورة العملية والتكنولوجية، والتوتر بين العولمة والمحلية، والتغيرات الاقتصادية والسياسية التي يشهدها العالم ، والطريقة الوحيدة لمواجهة ذلك هي التنشئة العلمية التربوية القوية والمنهجية لأبناء تلك المجتمعات والشعوب.
5- المدرسة الإسلامية المستقبلية هي إحدى الأطروحات التربوية التي ينشدها التربويون العرب والمسلمون لمجابهة تلك الأخطار والتحديات، حيث إن المطلوب منها شيئان؛ الأول: يتعلق بالكيفية التي يتم من خلالها التعامل مع تلك الأخطار والتحديات والأمر الآخر مراعاة الخصوصية والذاتية العربية الإسلامية
التي تتميز بها الهوية الإسلامية .
ونحن نستطيع أن نحدد سبب الانكسار لدى الشباب المسلم أمام تلك الثقافات بعدة أمور هامة:(225/3)
1- الفراغ النفسي والمعنوي والطموحي لدى هذا الشباب المسلم، وعدم وجود الشخصية النموذجية التي يأمل دائماً أن يتشبه بها في ظل رؤياه لشخصيات دنيوية مادية قد أثبتت نجاحات متتالية على المستوى المادي والتكنولوجي ( والشباب المسلم هنا بحاجة ماسة لبناء الطموح عنده عن طريق توجيهه للاقتداء بكبار وعظماء الأمة الإسلامية في تاريخها الزاهر وبأبطالها أصحاب الإنجازات المشاهدة في عصرها الحديث.
2- الهجمة الإعلامية التي تصور المسلمين بصورة دونية مستذلة مع ضعف العزة النابتة في داخلية أولئك الشباب تجاه الإسلام والاعتزاز به أدى إلى هروب ذلك الشباب من التشبه بتلك الصورة المنكرة إعلاميا إلى الصورة المحبوبة إعلامياً..
3- الارتباط بالهوية الإسلامية والثقافة الإسلامية الضعيف، والذي يحتاج إلى جزء كبير من اليقين والإيمان باليوم الآخر وبقدرة الرب _سبحانه_ وبالقضاء والقدر، والشباب مع ضعف إيمانهم بتلك الأسس، وعدم تربيتهم عليها يخرجون مستنكرين للهوية الإسلامية التي يرونها مقيدة لحريتهم اللا محدودة والتي تقدمها لهم الثقافات الغربية التي تقدم الحاجات المادية والشهوات كمادة أساسية مباحة دائما بغرض التفرغ للعمل!!
ثالثاً: التوصيف الخاص للمشكلة والتشخيص الدقيق للمرض لإمكانية الانطلاق للعلاج:
يقول الدكتور مصطفى حلمي: القضية ليست في الهوية بل القضية في الأمة الإسلامية فالإسلام هو المستهدف لأن الغرب عامة يعلم أن الإسلام هو البديل الحضاري الأوحد لثقافتهم وحضارتهم وهو البديل القوي الذي يمكنه أن يملأ الفراغ الذي تعانية الحضارة الغربية اليوم بخلاف الأطروحات الصينية أو اليابانية التي لا تقدم جديداً يغني، والغرب يخشى مما يسميه الحركات الأصولية التي تمثل بعثاً جديداً للهوية الإسلامية إذ إنها في حالة صعود مقلق بالنسبة لهم، فالجماهير التي تؤيد الحركات الإسلامية اليوم هي نفسها التي كانت تؤيد الناصرية والبعثية منذ عشرين عاماً.
ويقول الدكتور جمال عبد الهادي: الواقع أن الذي أصبح يواجه الحل الإسلامي ليس هم وحدهم وإنما أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!! سواء في تركيا أو في الجزائر أو في غيرها من دول الإسلام
ويقول الدكتور شفيق عياش: إن المخاطر المحدقة بالثقافة الإسلامية من جانب العولمة المعاصرة، وبخاصة مع ظهور وسائل الإعلام الحديثة كالإنترنت والقنوات الفضائية وغيرها التي تعمل على نشر ثقافة العولمة، وتهدف إلى تعريض المقومات الحضارية للأمة كالدين واللغة والثقافة يتطلب من جميع فعاليات الأمة السياسية والتعليمية والثقافية والاقتصادية وغيرها التعاون من أجل وضع خطة استراتيجية محكمة كفيلة بالتغلب على مخاطر العولمة الثقافية من أجل إنقاذ شباب الأمة وحمايتهم من الانحراف الأخلاقي والسلوكي.
وهذه بعض النقاط نبين من خلالها أهم الحلول الكفيلة بالحد من خطر الثقافة الغربية الغازية لبلاد العرب والمسلمين على النحو الآتي:
1- بناء الإنسان البناء المتكامل ليكون في حجم التحدي وتربيته على أخلاقيات عقائدية تمنحه المناعة الحضارية المطلوبة، ولعل أهم مرحلة في هذه التربية العمل على إشاعة وترسيخ القيم العقائدية والإيمانية؛ لأن بها وقف الجيل الأول من الأمة في وجه كل اختراق بل واستطاعوا من خلال ترسيخ المبادئ العامة الإبداع الحضاري الذي يكرم الإنسان كيفما كان نوعه ولونه وجنسه فبدون هذه الخطوة الأساسية ومع تفشي آفة القطيعة بين العقيدة والسلوك في حياة المسلم المعاصر لن يكون بإمكاننا الوقوف طويلاً في وجه الزيف الحضاري القادم، إنها التربية التي تمنحنا كذلك إمكانية الرؤية المستقبلية الحقة كما تمدنا بكل الشواهد لفهم طبيعة وحقيقة الصراع الغربي خاصة مع الصهيونية التي استفادت من الوطن العربي والنظام العالمي الجديد لتفرض نفسها على الأمة.
2- تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التي أصابت ثقافتنا، مما أدى إلى انحراف الفرد والمجتمع، فالتوكل أصبح تواكلاً، والإيمان بالقدر أصبح عجزاً وقعوداً عن العمل، والزهد أصبح خمولاً وقعوداً عن العمل، والعبادة رهبنة وانقطاع عن الحياة، وذكر الله _سبحانه وتعالى_ أصبح تمتمات وهمهمات وأقوال بلا أفعال، كما يجب أن نوضح ونبرز المقاييس الثقافية الإسلامية الصحيحة وتفعيلها في الإنتاج الثقافي الذي يحمل مفاهيمها الحقيقية.(225/4)
3- يجب على الأمة الإسلامية أن تسارع في الاستفادة من مكتسبات التكنولوجيا في وسائلها الإعلامية، خاصة الأقمار الصناعية والقنوات التلفزيونية واستعمالها في توعية وتثقيف الأطفال والشباب وحمايتهم من الوقوع في فلك الانحراف والضلال وحماية وجود الأمة الإسلامية وغيرها من خطر الغزو العلمي والتكنولوجي الجديد، وبخاصة أن الثقافة الإسلامية ثقافة عالمية، ورسالة الإسلام جاءت للبشرية جمعاء، كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات:13).
4- تجديد الخطاب الثقافي الإسلامي وتطويره، بحيث يلائم روح العصر مع ضرورة الحفاظ على أصالة الثقافة الإسلامية ومضمونها من أجل خدمة الهوية الإسلامية، ودعوة الناس إلى التعرف على حقيقة الدين الإسلامي من خلال القنوات الفضائية وشبكات الاتصال العالمية "الإنترنت"، وتيسير العمل الصحفي وسهولة الترجمة، حيث إن العالم اليوم يتغير بسرعة فائقة، وعلينا أن نطور أدواتنا ووسائلنا، وطريق تصدير ثقافتنا، إن التبليغ اليوم عبر تقنية الشبكات الإلكترونية والفضائيات يمثل أفضل وأسرع الطرق للتأثير قي عقول أجيالنا، وكذلك في عقول الآخرين، لا أن نكون مجرد مستهلكين لثقافة الغير ومعلوماته؛ لأن الاستهلاك الثقافي بدون أن نكون منتجين ثقافياً يجعلنا نذوب في ثقافة الآخر ونفقد بالتالي الثقة في ثقافتنا ومبادئنا، وهذا ما يهدف إليه الآخر الغربي بكل تأكيد.
5- ضرورة وضع ضوابط وقيود وإشراف من قبل مختصين عند استخدام شبكة الإنترنت، وبخاصة فيما يتعلق بالبرامج الإباحية والمنافية لقيم وثقافة المجتمعات الإسلامية.
6- ينبغي إنشاء مراكز ثقافية إسلامية موحدة تهتم بدراسة قضايا العصر، سواء كانت ثقافية أم اجتماعية أم حضارية فور ظهورها ومن ثم متابعة تطورها ووضع التصور السليم للموقف الإسلامي إزاءها، وهذا يتطلب عقد الندوات العلمية والمؤتمرات الثقافية وإيجاد مراكز ثقافية موحدة، لا يعني إطلاقاً إلغاء التنوع والتعدد الثقافي، وإنما يعني السعي نحو تأسيس رؤية ثقافية كونية ناتجة عن التفاعل الإيجابي والحر بين مختلف مراكز الفكر والثقافة، فالتوحد ضمن حقيقة التعدد والاتفاق ضمن حقيقة التنوع .
7- الانفتاح على الثقافة الغربية والاستفادة من تطورها العلمي والتكنولوجي ينبغي أن يكون من خلال استراتيجية تضمن إيجابية هذا الانفتاح؛ لأن الانفتاح المذموم هو الذي أدى إلى ذوبان الشخصية الثقافية بسبب الانهيار والاغتراب عبر منافذ الاختراق والتغريب، والإسلام لا يمنع الانفتاح المحكم الرامي نحو الاستفادة من علوم الآخرين النافعة، قال _سبحانه وتعالى_:" قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا".
8- المشروع الحضاري الإسلامي لا يمكن أن يحقق تميزه الإسلامي، ومن ثم أداء دوره العالمي وفق منهج الله إلا إذا ركن إلى العلم الشرعي بمعناه الواسع وتم تأهيل العالم المسلم بحيث تكون دراسته لعلم الشريعة دراسة تأصيلية مرتبطة بالوقائع الحية التي تعيشها الأمة والعالم في هذا العصر.(225/5)
أزمة الوعي الحضاري
د. مسفر بن علي القحطاني * 24/6/1425
10/08/2004
كرّم الله -عزّ وجلّ- الإنسان على سائر خلقه بالعقل المدرك والروح الواعية، وجعله محور الرسالات السماوية، وميزّه في الخلق والخُلق , قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (1). وانطلاقاً من هذا التشريف جاء التكليف الرباني للإنسان بمهمة العبادة لله -عزّ وجلّ- والعمارة للأرض، وأي خلل في أداء الإنسان لهذين الأمرين تصبح حياته مضطربة قلقة، وعيشه في ضيق وضنك.
وبناءً على ما سبق ذكره من تمهيدٍ نُسلِّم بحقائقه ونشهد بوقائعه.. فإننا نجد أن المجتمعات في مسيرتها التاريخية إنما تتطور وتنمو وتقوى بفعل الإنسان ونضجه وتمام وعيه بهدفه الحقيقي في الحياة، وبإعماله سنن القوة والنصر والتمكين في الأرض.. ولا تنهار الأمم والمجتمعات وتضعف وتتلاشى إلى العدم أحياناً إلا بسبب غياب أو انحراف معنى ذلك الوجود الإنساني، وهذا هو سرُّ الحضارة عند قيامها أو انهيارها.
ومن أجل تكييف هذا القصد وبيان أهمية هذا الوعي الحضاري يجدر بنا أن نسقطه على واقع أزمتنا الراهنة التي تعيشها البلاد من جرّاء تلك الحوادث الإرهابية، وذلك التطرف الفكري المأزوم لنشخّص حقيقة الخلل الواقع ولا نتشاغل بالعرض عن توصيف المرض.. إن الفترات الماضية بحوادثها الخالية التي مرّت بالأمة ألقت في روعنا نمطاً من التفكير جعلت آخر ما نفكر فيه -عند حدوث أزمة ما- أن نلوم ذواتنا, وعادة ما نهمّش تأثير أنفسنا فيما يحدث بنا من مشكلات؛ مع أننا نؤمن (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )(2) ونقرأ قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(3) . إن أزمتنا الراهنة في جميع المجالات الحياتية سواء كانت أمنيّة أو غيرها هي (أزمة وعي) في فهم الدين وفقه التدين، وخلل في معرفة الفرد بواجبات وحقوق الانتماء للمجتمع، بالإضافة إلى تلك الغشاوة المزمنة التي أفقدتنا رؤية المدخل الحضاري بالولوج في أزقة الوهن والولوغ في حضارات الوهم والعيش في وهد الماديات.
إن الوعي الحضاري الشامل لحاجات الإنسان والمجتمع هو رهان المستقبل للأمة المسلمة مهما بلغت من ذبول مادامت الأمة تملك نبع الحياة وإكسير النصر..
ومع هذه الأهمية القصوى للوعي الحضاري لا بد من تحرير هذا المصطلح وبيان مفهومه وحقيقته؛ ليتضح المقصود منه ويتمهد فهمه للتطبيق والعمل ..
فـ(الوعي) من المصطلحات التي شاع استعمالها نتيجة للتطور الواسع في استخدامها، كما يظهر في مجالات شتّى، خصوصاً في القضايا الفكرية والثقافية.
وبالرجوع إلى أهل اللغة في بيان معنى الوعي.. يقول ابن فارس:"الواو والعين والياء: كلمة تدل على ضمَّ الشيء. ووعيتُ العلمَ أعيه وعياً. وأوعيت المتاع في الوعاء أُعيه.." ، وهذا ما نجده أيضاً في قوله تعالى: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)(4) وقوله: (وَجَمَعَ فَأَوْعَى) (5)، وهي هنا بمعنى الجمع والحفظ .
وفي مرحلة لاحقه صارت الكلمة تستخدم بمعنى الفهم وسلامة الإدراك وكان علماء النفس في الماضي يعرّفون الوعي بأنه :" شعور الكائن بما في نفسه، وما يحيط به"(6) ومع تقدم العلم وتعقدّ المصطلحات والمفاهيم أخذ مدلول ( الوعي) ينحو نحو العمق والتفرع والتوسع، ليدخل العديد من المجالات النفسية والاجتماعية والفكرية. ويمكن ضبط معناه بأنه "الإدراك العقلي الواضح بمتطلبات العمل الناجح "؛ وبالتالي فإن أي مشروع إنساني لابد أن يُسبق بتفكير موضوعي يضمن سلامته وتوافقه مع سنن الحياة. و الوعي المجرد من العمل –في وجهة نظري- سفسطة وخيال.
أما مصطلح (الحضارة)؛ فهو من المصطلحات التي تختلف مدلولاتها من ثقافة إلى أخرى ومن تداولات تحكمها البيئات المختلفة.
فالحضارة في اللغة العربية مأخوذة من الحاضرة وهي ضد البادية وفي الإنجليزية (civilization) تعود إلى الجذر اللاتيني (civites) وتعني المدنية، فالمعنيان متقاربان في اللغتين من حيث الجذر (7)؛ إلا أن ابن خلدون وهو من أوائل من استخدم هذا المصطلح جعل الحضارة هي: " غاية العمران ونهاية لعمره، وأنها مؤذنة بفساده"(8) .. فالحضارة عند ابن خلدون تعني غاية المبالغة في التحضر ونهاية عمر الترف المادي المؤذن بعدها بالانحطاط، وهذا المعنى يختلف مع المعنى الذي يقصده المعاصرون.
يقول ديورانت: "الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وتتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية ومتابعة العلوم والفنون. وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق".(226/1)
فمعنى الحضارة عند ديورانت هو كونها حضارة حادثة على الإنتاجية بصرف النظر عن مستواها. أما تايلور فنجده لا يحدّ مستوى الحضارة بحدٍّ سوى التقدم اللامتناهي. حيث يقول في تعريفها :"هي درجه من التقدم الثقافي تكون فيها الفنون والعلوم والحياة السياسية في درجة متقدمة".
إلى غير ذلك من التعريفات التي تتفاوت حسب الخلفيات المعرفية والتاريخية والعقائدية في النظر إلى الحضارة, وبشكل عام هناك من وسع مفهوم الحضارة ليشمل كل أبعاد التقدم وهو اتجاه بعض المفكرين الفرنسيين وهناك من جعله قاصر على نواحي التقدم المادي مثل أصحاب الفكر الألماني وهناك من جعله مرادفاً لمفهوم الثقافة.
أما المفكر الإسلامي مالك بن نبي فقد استطاع أن يعطي مفهوماً ديناميكيًّا للحضارة يتحدد في ضرورة " توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه " (9) .
فحقيقة الحضارة عند مالك بن نبي وكثير من المفكرين هي أعمّ من العمران المادي؛ وهذا ما دعا البعض للتميز بين مصطلح (الحضارة) ومصطلح (المدنية) باعتبار الاشتباه اللغوي بينها؛ فالمتحضر هو الذي يسكن الحواضر، والمتمدن هو الذي يسكن المدن، لكن حين وجد كثير من المفكرين والباحثين أن ارتقاء حياة الإنسان ذو بعدين أساسين: بُعد شكلي، وبعُد داخلي؛ رأوا أن يطلقوا مصطلح (المدينة) على ما يتم من ارتقاء في مضامين الحياة الحضرية، ومصطلح (الحاضرة) على الارتقاء الشكلي الذي يتمحور حول وسائل العيش وأدوات الإنتاج وطريقة تنظيم البيئة – وليس هذا بمطرد عند الكل -.
وفي المذهبية الإسلامية التي ننظر من خلالها للكون والحياة اهتمام شديد بمسألة التفريق بين المدنية والحضارة.
فقد ذمّ الله -عز وجل- أممًا وأقوامًا قطعوا أشواطًا في العمران، واستخدام الموارد، وتصنيع الأدوات، لكن عتوّهم عن أمر الله -تعالى- وفساد مضامين نظمهم العمرانية؛ تسبب في هلاكهم وإبادتهم. وفي هذا يقول الله -عزّ وجلّ: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (10). وقصّ علينا ما بلغه قوم ثمود من الارتقاء والقوة: )وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(11) ، ولكن القوم كفروا وأعرضوا عما قاله لهم أخوهم صالح؛ فكانت النتيجة أن أخذتهم الرجفة: "فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين"
وفي المقابل؛ فإن المدينة المنورة التي شهدت أول مجتمع إسلامي، لم تكن في أوضاعها المدنية تتجاوز ما عليه قرية صغيرة في أي بلد من بلدان العالم الثالث اليوم. لكن ذلك المجتمع كان حسب المقاييس المدنية –وهي شبه عامة– يشكّل قمة التمدن والرقي الخلقي والسلوكي والعلائقي. ففي المجتمع المدني كانت الأهداف الكبرى واضحة، والغايات مشرقة، وقد بلغ من وضوحها وسيطرتها على النفوس أن كان المسلمون –حتى الأطفال – يتسابقون إلى نيل شرف الشهادة على نحو لم يسبق له مثيل في التاريخ، وكان من المسلمين من يعمل ويجتهد ليتصدق ببعض أجره في المساء, وبلغ الناس من النقاء وحب التطهر أن اعترف أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض الرجال والنساء بارتكاب جرائمهم مطالبين بكل إصرار أن ينزل عليهم عقوبة الدنيا ولو كانت الرجم بالحجارة حتى الموت حتى يلقوا الله تعالى وهو عنهم راض.. وبلغت شفافية الحكم والدولة أن كان مرتّب الخليفة لا يزيد على نفقة الطعام مع كسوة قليلة.. وخلا ذلك المجتمع من مظاهر تسلط الدولة فالقضاء والسجون ورجال الشرطة.. أمور هامشية إن لم تكن معدومة.. ومهما بيّنا درجة المدنية التي بلغها المجتمع الإسلامي آنذاك؛ فإن الحقائق تظل أكبر من الكلمات(12).
وخلاصة القول: إن مقصودنا من استخدام كلمة (الوعي) في سياق المفهوم الحضاري الشامل للمدنية؛ يمكن تحديده بأنه: "أدراك الفرد ومؤسسات المجتمع المختلفة بمسؤولياتهم الكبرى في بناء الشخصية الإنسانية المتكاملة والسعي في دفع عملية النهضة والتقدم المعنوي والمادي من خلال إصلاح الفكر والسلوك والواقع".
بقي أن نتحدث عن مشكلات الوعي الحضاري ومقوماته التي تنهض به، ولعل ذلك يكون في مقالنا القادم -بإذن الله- والله الموفق للحق والصواب..* رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
1 - سورة الإسراء 70.
2 - سورة الرعد 11.(226/2)
3 - سورة آل عمران165 .
4 - معجم مقاييس اللغة 6/124
5 - سورة الحافة 12
6 - سورة المعارج 18
7 - انظر : تجديد الوعي لبكار ص6
8 - انظر : المعجم الوجيز ص 157 إعداد مجمع اللغة العربية في القاهرة .
9 - مقدمة ابن خلدون 2/36.
10 - مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي لمالك بن نبي ص 50 .
11 - سورة الروم9.
12 - سورة الأعراف 74.
13 - انظر: تجديد الوعي لبكار ص 120-126, مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي لبكار ص353.(226/3)
أزمة فهم
د. سلمان العودة ـ الإسلام اليوم
ثمة أزمة يعانيها فئام من الناس تستعصي إفرازاتها أحياناً على الحل أو حتى التدارك تلك هي أزمة الفهم.
الفهم من أجلّ نعم الله -عز وجل- على عبادة فإن شاركه حسن القصد كان هو الغاية فبه يأمن الإنسان بنيات الطريق ويهتدي إلى أصحاب الصراط المستقيم (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ).
الفهم هو من توفيق الله عز وجل لعبده وهو نور يميّز به الفاسد من الصحيح والحق من الباطل والغي من الرشاد.
والناس متفاوتون في درجات الفهم ومراتبهم في ذلك بعدد أنفاسهم وبما لا يحصيه إلا الله -عز وجل- إذ لو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء والفقهاء في العلم وما كان للفهم خِصّيصة يمدح بها صاحبها أو تذكر في موضع الثناء.
وفي عهد داود وسليمان عليهما السلام « خَرَجَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا صَبِيَّانِ لَهُمَا فَعَدَا الذِّئْبُ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ وَلَدَهَا فَأَصْبَحَتَا تَخْتَصِمَانِ فِي الصَّبِي الْبَاقِي إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى مِنْهُمَا فَمَرَّتَا عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ كَيْفَ أَمْرُكُمَا فَقَصَّتَا عَلَيْهِ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّ الْغُلاَمَ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى أَتَشُقُّهُ قَالَ نَعَمْ. فَقَالَتْ لاَ تَفْعَلْ حَظِّي مِنْهُ لَهَا. قَالَ. هُوَ ابْنُكِ. فَقَضَى بِهِ لَهَا ».
قال تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) فخصّه الله -عز وجل- بفهم هذه القضية وأثنى عليه وعلى داود عليه السلام بالعلم والحكمة ( وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) وقد كان داود معروفاً بدقته في تحري الصواب والفطنة إليه.
وإذا كان الفهم هو معرفة الشيء وتصوره من اللفظ والعلم به أو هو هيئة للنفس تتحقق بها معاني ما يُحسّ؛ فإن الفقه هو الفهم بمعنى خاص يدخل فيه العقل والقلب والجوارح.
وقد جاءت لفظة الفقه في القرآن في نحو من عشرين موضعاً من تأملها وجد أنها لا تقتصر على مجرد الفهم فمن سمع كلاماً أو قلده صوتياً أو حفظه لا يقال له فَقُِه ذلك إذا كان خاليا من فقدانه للشعور بمعنى ما سمع وتأثره به وإدراك مراميه .
قال تعالى:( فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا).
(قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ ).
( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ).
فهم قطعاً عرفوا الألفاظ وربما حفظوا الكلام لكن المعنى والأثر واللازم لم يخالط شغاف قلوبهم ولم تلن له أفئدتهم وتتقبله أنفسهم.
يقول الشاعر:
ربَّ «وامعتصماهُ» انطلقتْ ** ملءَ أفواه البنات اليُتَّم
لامست أسماعَهم لكنَّها ** لم تلامسْ نخوةَ المعتصم
فالفقه عملية نامية متطورة ترتكز على جانب فطري وجانب مكتسب وفقيه النفس هو من كان عنده ملكة فطرية طبيعيه للفهم ثم طور ذلك بالعلم وزكّاه.
وفي الصحيح « خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ ؛ إِذَا فَقِهُوا ».
ولعل معنى الحديث أن الكمال الفطري والشرعي هو الغاية وأن من حباهم الله بذلك فهم خيار الناس.
والفهم الذي هو غاية الفقه لا بد أن يشتمل على:
أولاً: فهم الواقع والفقه فيه ومعرفة مداخله ومخارجه وحقيقة ما تجري عليه الأمور زماناً ومكاناً ومرحلة وسياقات للأحداث؛ فيُستنبط منه علمٌ تحفّه القرائن وتفسره العلامات ويشهد له العقل السليم.
ثانياً: فهم الواجب الذي ينبغي تجاه هذا الواقع وهو فهم حكمه الذي حكم الله به في كتابه أو على لسان رسوله ويطبق أحدها على الآخر ويرى ملاءمته وهنا يدور الأمر بعد استفراغ الوسع والجهد بين الأجر والأجرين وهذا عين ما أراده أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب في رسالته التي تلقتها الأمة بالقول إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:
" ثُمَّ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أُدْلِي إِلَيْكَ مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآنٍ وَلاَ سُنَّةٍ ثُمَّ قَايِسِ الأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاعْرِفِ الأَمْثَالَ وَالأَشْبَاهَ ثُمَّ اعْمِدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ فِيمَا تَرَى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ..."
وهو ما توصل به شاهد يوسف لمعرفة الجاني في قوله: ( إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ). وتوصل به سليمان عليه السلام إلى معرفة عين الأم « ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّ الْغُلاَمَ بَيْنَهُمَا. ».
واستخرج به علي رضي الله عنه كتاب حاطب من المرأة بقوله:" وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لأُجَرِّدَنَّكِ" .
وهو أيضاً الذي فطن له الزبير بن العوام واستطاع إخراج كنز حيي بن أخطب عندما ظهر له الكذب بدعوى ذهابه بالإنفاق بقوله:" الْمَالُ كَثِيرٌ وَالْعَهْدُ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا ".
وتنشأ مشكلات الفهم من أربعة أمور:(227/1)
الأول: الخلط بين الحادثة المفردة والحكم العام
وفي الصحيح - قصة حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- المشهورة وكتابه لزعماء قريش؛ يخبرهم بمسير النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم - فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، فَدَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ .
قَالَ :فَقَالَ « يَا عُمَرُ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ » .
قَالَ : فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
فهذه حادثة فردية في حياة حاطب فعلها لحاجة في نفسه فعامله الصحابة على تعميم المفرد لكن أحكم الخلق -صلى الله عليه وسلم- وأعلمهم بالنفوس ومداواتها لم يعمم ولم يؤاخذه على أنه جاسوس خائن وأنه وهب حياته لذلك بل كمفردة في حياته سرعان ما تخلص منها وحفظ له سابقته في الإسلام ومقامه وجهاده .
-وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال لأبي ذر لما سابب رجلا وعيره بأمه:
« إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ » . قال أبو ذر: عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ قَالَ: « نَعَمْ .. » .
فلم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم- أنت امرؤ جاهلي فهذه فعلة مفردة لا تعمم على حياة الشخص ولا تسقط مقامه وسابقته. وأبو ذر لم يفعل هذا لثورة شبابه أو لأنه حديث عهد بإسلام بل وهو كبير السن صاحب مقام كبير وشأو واسع.
ولهذا قال شيخ الإسلام بن تيمية- في اقتضاء الصراط- معقباً على هذا الحديث:
"وفيه أن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه" فحمل المفرد على العام بإطلاق ليس من الصواب ويجب الحذر منه فهو من آفات الفهم وأسبابه.
وينبغي لطلبة العلم ألا ينساقوا وراء الأحكام العامة وسحبها على الأشخاص والجماعات والقبائل بل حتى أحيانا على الشعوب.
وكم عانينا ممن اتهم أئمة كباراً كأمثال ابن حجر والنووي رحمهما الله بقوله: "جهمي.. جلد... معطل... تحرق كتبهم كالفتح وشرح مسلم..."
وما ذاك إلا أنه وقع في بعض المواضع على بعض التأويلات التي اجتهدوا فيها والذين هم فيها بين أجر وأجرين فحشرهم مع الجهمية والمعتزلة وغيرهم ولم يفرق بين من انطلق في كلامه من أصول منحرفة وبين مَن هو على السنة ووافق بعض الفرق بمحض اجتهاد في بعض الآراء فجاءت المشكلة من سحب المفرد على العام فخسرنا كثيراً.
الثاني: الخلط بين الفكرة المحددة والانطباع
والفكرة لها نماذج وشروط وسياقات أما الانطباع فهو الأثر النفسي الذي يحدثه الكلام في السامع .
وفي قصة أسيد بن حضير وعباد بن بشر -كما في مسلم-:
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اصْنَعُوا كُلَّ شَىْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ ». فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَقَالُوا مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلاَّ خَالَفَنَا فِيهِ فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالاَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. أفَلاَ نُجَامِعُهُنَّ !!
فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلَهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا.
فقولهم: أفَلاَ نُجَامِعُهُنَّ . هو نتيجة الانطباع. وكثيراً ما نخلط بين الفكرة وبين انطباعاتنا ونتصرف بإملاء الأخير فينشأ سوء الفهم ومعضلاته.
الثالث: عدم القدرة على الاستيعاب.
وقديماً قيل:
إِذا لَم تَستَطِع شَيئاً فَدَعهُ
وَجاوِزْهُ إِلى ما تَستَطيعُ
وقيل :
وَكَم مِن عائِبٍ قَولاً صَحيحاً
وَآفَتُهُ مِنَ الفَهمِ السَقيمِ
وهذا يتوقف على المرسل والمستقبل والموضوع, والناس عقولهم كالأوعية تتفاوت تفاوتاً عجيباً في التلقي والاستقبال.
تجد من يملك قدرة على فهم دقائق المسائل وشواردها علمية كانت أو فلسفية أو غيرها من أول مرة؛ بينما تجد آخر لا يستطيع أن يفهم إلا الأمور العملية البدهية. وليس عدلا أن يكون نقص الفهم سبباً في رفض الأشياء وتفنيدها؛ فالسذاجة والبساطة ليست أبداً عنوان الحقيقة.(227/2)
ومن رحمة الله عز وجل بالأمة أن مهمات الإسلام وكلياته وأصوله الكبار في غاية السهولة في الفهم والتطبيق, ولا تحتاج إلى جهابذة أو أفذاذ وأنماط معينة من العقول, كالشهادتين والصلاة والزكاة والحج ...
وينبغي العناية بمثل هذا لأنه محل اجتماع مع شدة الحاجة والضرورة الملحة إليها؛ ففيه السلامة في الدنيا والنجاة في الآخرة.
أما المرسل أو المتحدث فقد يكون لا يُبِين, أو لا يُفهِم, غامضاً في طرحه وعبارته, خطابياً مسترسلاً مما يولد انطباعاً غير ما يريد هو. وبعض الناس إذا لم يرق له الكلام أو لم يوافق ما يريد قال: فيه عموم, أو إجمال, أو غموض, وهو يقصد أنه لم يأت على ما في نفسه أو لم يوافق رأيه, وكثيراً ما يعامل الطلاب أو المريدون أقوال ونصوص إمامهم كأنها وحي, ولعل المتتبع لمقلدي الأئمة السابقين واللاحقين يرى غرائب من ذلك...
ثم يأتي دور طبيعة الموضوع فمن تكلم عن مسألة عامة ليس كمن في معضلة كلامية, والحديث الديني غير السياسي.
ومن هنا جاء اهتمام العلماء بالفروق, بل ألفوا فيها كتبا, ككتاب "الفروق" للقرافي. فقد تسمع الكلمة فيتبادر إليك معنى هي أبعد ما تكون عنه.
الرابع : التحيّز
والمقصود به الهوى: ( إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ )، ويفترض أن يخلو القلب من المسبقات لكي يفهم فهماً صحيحاً.
فمن قرأ القرآن وفي قلبه هوى؛ ربما يحوز معاني القرآن بهواه.
فالخارجي الذي يقرأ قوله تعالى: (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى) يقول: النار لا يدخلها إلا الكافرون, فكل من دخل النار فهو كافر, فيكفر عصاة المسلمين!
ولذلك قال تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ).
فالتحيز والهوى والزيغ يحرم الإنسان من خير كثير, وهو من مشكلات الفهم. والله أعلم.(227/3)
أزمة منهج أم أزمة رجال ؟
محمد جلال القصاص
</TD
كثرت على الساحة الفكرية الإسلامية الدعوة إلى (التعقل) و(التفكر)، و(مد الجسور مع الآخر) ذي المناهج العلمانية، و(الإفادة من القوى الوطنية الأخرى)، و(فهم طبيعة المتغيرات)، و(انتهاز الفرصة السانحة)، و(أن رأس الأوليات هو الإصلاح الديني) رغبةً في التقدم المادي والارتقاء بمستوى الأمة خاصة والإنسانية عامة.
ودون ذلك دعوات أخرى تنادي بـ (الانفتاح على الآخر)، وإعادة قراءة الشريعة من جديد تحت ضوء المصالح والمفاسد - بمفهوم أصحاب هذا الطرح -، ودفع أعلى الضررين بتحمل أدناهما، واعتبار المقاصد في التشريع، وأن الفتوى تتغير بتغير الحال والزمان والمكان.
أتفهم هذا كله، وأجاهد نفسي على قبوله ولا أستطيع.
أعرف جيداً أن للنص سبب نزول، وأن الأصل في الأحكام التعليل، وأن للسياق دِلالة لا تُهمل، وأن معرفة الحكم لا تعني أبدا إصداره، إذْ لا بد من تنقيح المناط.
وأعرف أن هناك (روح للشريعة)، ومقاصد للتشريع تعطينا الرخصة - أحياناً - لتجاوز الدلالة الظاهرة للنص وإعمال التأويل المصاغ.
ولكن ما يطرحه القوم، لا يتماشى - عندي - مع هذا كله، بل تصطدم - عندي - أطروحتهم بأشياء:
منها أن المقاصد متأخرة على الأحكام لا أنها سابقة عليها، وهذا ينسف كثيرا من هذه الأطروحات.
فالعقل يستنبط المقاصد من الأحكام الشرعية لا أنه يضع مقاصد يصيغ من أجلها الأحكام.
والعقل لا شأن له بالحكم الشرعي، وإنما بالمناط الذي ينطبق عليه هذا الحكم.
فمثلاً لا مجال لإعمال العقل في كون " كل مسكر خمر وكل خمر حرام "، وإنما في كون ما شُرب خمراً أم لا؟
ولا مجال لإعمال العقل في أن الحركة الكثيرة تبطل الصلاة، وإنما في كون المصلي تحرك كثيرا أم لا؟
وإن راح العقل ناحية الدليل فكي يستبين صحته... من صحة طرق إثباته، أو طريقة استنباطه، والبحث عن العلة إن كانت بادية ليُعمل القياس وينقح المناط.
أما إن خَفيت العلة فلا سبيل للعقل على الحكم الشرعي. ولا مناص له من الانقياد، والتسليم إن كان مسلما.
أما ما يحدث اليوم من قبل أصحاب هذه الأطروحات هو شيء آخر.
فحين تنظر في خلفيات الكلام، وتتعدد قراءتك لأصحاب هذا الطرح، تجد أن من يتكلمون بهذه الأفكار، يحاولون - في الجملة - تعديل الشريعة الإسلامية، أو قل: إعادة قراءة الشريعة الإسلامية من جديد، أو بعبارة أوضح هي حالة عجز أصابت رجال اليوم وهم يتعاملون مع الواقع المرير الذي آلت إليه الأمة، فراحوا يُلقون بالتبعة على الشريعة الإسلامية ذاتها لا على الإنسان المعاصر، خروجا من هذا المأزق التاريخي. هذا ما أفهمه.
وتصطدم عندي هذه الأطروحات بأن هدف البعثة المحمدية - وكل بعثة كانت، من آدم _عليه السلام_ إلى محمد _صلى الله عليه وسلم_ هي تعبيد الناس لله وليس ما يسمى الرقي المادي بالإنسانية، "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء:25). بل إن الرقي المادي لازم من لوازم الانضباط على شرع الله، قال الله _تعالى_: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (الأعراف:96).
"وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ" (المائدة:66).
فمن هنا الطريق وليس من هناك، وكثيرا ما أردد قول حسان بن ثابت حين أقرأ هذه الأطروحات:
إذا زحفت للغور من بطن عالج *** فقولا لها ليس الطريق من هنالك
وتصطدم هذه الأطروحات عندي بأن المشكلة مشكلة رجال يحملون المنهج وليس مشكلة المنهج نفسه، فلا أرى أن أحداً يخالفني في القول بأن الواقع تُشكله الفِكرة وليس الفكرة هي التي تشكل الواقع. هذه بديهة.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بُعث في وسط ركام هائل من التصورات المغلوطة، وفي وسط أمواج متلاطمة من الكفر والفسوق والظلم. وبالعبيد والضعفاء كان ما كان... وصاغ المنهج الإسلامي الحفاة العراة الأميون صياغة أخرى لم يعرف التاريخ مثلها...أخرج منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. وكتب الله لهم الغلبة على كل قوى الأرض يومها، وانتشر العدل والأمان بين الناس... ومنهم كان النور الذي اقتبس منه كل الناس، صار بأيديهم كل شيء، ثم حين غيرنا غيَّر الله علينا.(228/1)
وفي القرآن تشخيص دقيق للداء "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ" (الشورى:30)، "قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" (آل عمران: من الآية165)، "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد: من الآية11).
فكان الطريق الصحيح هو أن نعود إلى ما كان عليه سلفنا الصالح _رضوان الله عليهم_ لنتقدم ونرتقي مادياً ومعنوياً وسياسياً وعسكرياً كما تقدموا _رضوان الله عليهم_. نُرضي ربنا فيرضينا ويسبغ علينا نعمه الظاهرة والباطنة، والقرآن بين أيدينا يرشدنا "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (الأعراف: من الآية96).
وندعو أوروبا - ومن سار خلفها - وقد جربت الدين المنحرف وكيف فعل بها، أن تنبذه وراء ظهرها، وتأخذ بالإسلام إن كانت تريد الخير في الدنيا والآخر، ونقول لهم ما امرنا الله بتبليغه "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً" (النساء:174)، "...تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً..." (آل عمران: من الآية64).
الأسوار التي تحيط بنا عالية، وعلى من لا يستطيع أن يهدمها أو يقذفها أو يتسلق عليها... عليه أن لا يزين للباقين الجلوس خلفها.(228/2)
أزمة وسائل أم أزمة أهداف
د. عبد الكريم بكار 28/1/1424
31/03/2003
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فإنه ما اجتمع لفيف من المهتمين بالدعوة، والغيورين على صلاح الناس إلا دارت بينهم أحاديث ومجادلات وشكايات حول عجز الدعاة عن امتلاك الوسائل الدعوية التي يتمكنون من خلالها من نشر أفكارهم وتعميم مبادئهم ومقولاتهم. ونحن لا نملّ من المقارنة بين تخلف وسائلنا وتقدم وسائل الآخرين من منافسين ومعادين، ولسنا في ذلك – في كثير من الأحيان- مخطئين أو مبالغين؛ إذ مما لا شك فيه أن العمل الدعوي يعاني من نقص ظاهر في الوسائل التي يمكن أن تستخدم في تبليغ رسالة الإسلام، حيث إنك لا تكاد تجد فضائية إسلامية ذات تميز واضح وجاذبية عالية، كما أنك لا تجد شيئاً من ذلك في مجال البث الإذاعي أو في مجال الإعلام المقروء، فالمجلات والجرائد الإسلامية قليلة العدد نسبياً، ومستوى معظمها على المستوى المهني يتردد بين المتوسط والضعيف، ولا يختلف الشأن في (خطبة الجمعة) حيث إن الخطباء القادرين على تشخيص الحالة الإسلامية ووصف العلاج لها قليلون جداً، لكن مع هذا فالمهم دائماً أن ندرك الأسباب الجوهرية لما نرى من ظواهر ووقائع ومشكلات، ولما نشكو منه من قصور ومنغصَّات وأزمات. ومع أن تخلف المسلمين وضعف مؤسساتهم المختلفة سينعكس ولا ريب على كل الوسائل التي بين أيديهم في كل شؤون الحياة، إلا
أن ذلك ليس هو السبب الجوهري في تخلف الوسائل الدعوية، وإنما يكمن السبب الأساس في أن معظم الدعاة لا يملكون الأهداف الواضحة لحركتهم الدائبة. الهدف الجيد الواضح والمدروس يجعل من نفسه أداة لتحريض الذين بلوروه على إيجاد الأساليب والوسائل التي تبلَّغهم إياه، وإن كثيراً من الأهداف الدعوية لا يفعل ذلك لأنه لا تتوفر فيه سمات الهدف الجيد، ومن ثم فإنه يُدرَك بطريقة مبتذلة أو بطريقة غامضة، مما يفقده سمة التحريض التي أشرنا إليها.
أزمتنا الأساسية إذن في فقد الهدف الجيد، وليست في الافتقار إلى الوسيلة الناجحة، وأزمة الهدف الجيد هي نتيجة قصور بنيوي يعاني منه العمل الدعوي منذ مدة ليست بالقصيرة، وذلك القصور يتمثل في ضعف فهم نوعية الحركة المطلوبة لهواية الناس وإصلاح شؤونهم ونوعية الخطاب الذي تجب صياغته في كل ذلك، وهذا يترتب عليه عدم القدرة على تحديد الأولويات التي يجب أن توجَّه إليها معظم الجهود والإمكانات، مما يدفع الناس إلى أن يعلوا في كل اتجاه، وأن يهتموا بكل شيء ولكن دون تحقيق اختراقات جيدة في أي مجال من المجالات.
إننا إذا امتلكنا الهدف الجيد فقد نتمكن من امتلاك الوسيلة المناسبة، وقد لا نتمكن، لكن إذا لم نمتلكه فإننا قطعاً لن نعرف الوسيلة المطلوبة ولن نصل بالتالي إليها.
لو تأملنا في سير المصلحين العظام الذين عدَّلوا في اتجاه التاريخ الإسلامي لوجدنا أن أكثرهم – إن لم نقل جميعهم- لم يكونوا يملكون أي إمكانية جيدة أو وسيلة فعالة لنشر أفكارهم وإصلاح الأوضاع العامة عند انطلاقتهم الأولى، لكن نجد أنهم كانوا – على مستويات مختلفة- يعرفون ماذا يريدون، وكانت الأشياء التي يعملون من أجل الوصول إليها تلوح أمامهم في الأفق، ولا يختلف وضع مصلحي الأمم الأخرى عن وضع مصلحينا، فاليهود الذين اجتمعوا في سويسرا في أواخر
القرن التاسع عشر – كانوا يعانون من عزلة عالمية ومن شيء من الاضطهاد في بعض البلدان؛ وفي ذلك الوقت توصلوا إلى أنهم يستهدفون إقامة دولة لهم على أرض فلسطين بعد خمسين سنة، والذي ينظر إلى ضآلة ما بين أيديهم من إمكانات وإلى تحقيق ذلك الهدف في ظل الحكومة العثمانية، يستغرب من ذلك الطموح، لكن العمل الشاق والمثابر نحو الهدف المحدد يوجد طبيعة الكثير من الظروف الملائمة، ويوفر الكثير من الإمكانات المطلوبة وهذا ما حدث.
بعض الذين يشتغلون بالدعوة إلى الله – تعالى- يغلب عليهم قصر النظر، فهم لا ينظرون إلى بعيد، ولا يستطيعون التأمل في مآلات الأشياء، وهذا يحرمهم من رؤية ما هو كامن من إمكانات ومعطيات وعقبات، وهم لهذا مشغولون بما هو ناجز ظانين دوامه واستمراره، مع أن التقدم العلمي والتقني الذي يحدث الآن يجعل ناموس الحياة الأساس في التغير والتبدل، وليس في الثبات والاستمرار.
وهناك ممن يشتغل بالدعوة من يغلب عليه الحسّ العملي، وينظر إلى التخطيط وبناء الاستراتيجيات وبلورة الأهداف على أنه مضيعة للوقت، وليس هناك ما يدعو إليه، وهو في نظره قد يكون مظهراً من مظاهر الفرار من العمل وتحمل المسؤوليات الكبيرة، وهذه الشريحة واسعة جداً وإلى حد لا يُصدَّق!(229/1)
ومن المؤسف أن فيمن يشنَّع على التخطيط الدعوي من لا يخطط وينظر، كما أنه في الوقت نفسه لا يعمل ولا ينتج، فهو في الحقيقة يعاني من عطالة شاملة، ولو سئل عما قدّمه للأمة خلال أسبوع أو شهر مضى لم يجد شيئاً يتحدث عنه! وهناك من يعمل من غير رؤية راشدة ولا أهداف واضحة ولا فقه للأولويات، وهؤلاء أسوأ حالاً من أولئك؛ لأن حركتهم قد تفضي إلى حدوث كوارث!
الهدف الجيد يحتاج إلى أن نرسم خطة لتنفيذه، وتلك الخطة يجب أن تشتمل على الإمكانات والأوقات المطلوبة، بالإضافة إلى العقبات المتوقعة، وبذلك وحده نجد أنفسنا مضطرين إلى البحث عن الوسيلة الفعالة والملائمة.
لست ممن تتملكه الرغبة بإغراء الآخرين بالبحث عن المستحيل وسلوك الطرق الوعرة لبلوغ الرغائب؛ لأن مشكلتنا الأساسية ليست مع المستحيل الذي نتمناه، ولكن مع الممكن الذي ضيعناه!.
فيا أيها الذين خنقهم الواقع بمعطياته الصعبة، فحرموا من رؤية الآفاق الممتدة التي تنتظرهم، ويا من أدمنوا الشكوى من ضعف الحيلة وانعدام الوسيلة، امنحوا أنفسكم الوقت الكافي للعثور على أفضل تحديد ممكن لما ترغبون في تحقيقه، وسوف تجدون أن ذلك سيجعل وسائلكم أكثر تقدماً وفاعلية، كما أنه سيجعلكم أكثر واقعية، وسيكون لكم من وراء هذا وذاك إدارة أجود للإمكانات المحدودة التي بين أيديكم. والله الهادي(229/2)
أزمتنا التربويّة
د. محمد بن عبد العزيز الشريم * 14/10/1426
16/11/2005
من المؤكد أن التصدي لموضوع بالغ الأهمية كالتربية المعاصرة في مقالة واحدة يُعدّ ضرباً من التبسيط الموغل في الخيال، ولكن مما لا شك فيه أن لأزمة التربية نقطة بداية محددة، ثم تتشعب لتشمل جوانب متعددة ربما تكون الإحاطة بها من الأمور بالغة الصعوبة، فضلاً عن علاجها.
لا أحسب أن هناك موضوعاً يشغل لبّ الجميع مثل التربية في هذا الزمن الذي رُزئت فيه الأمة بأبشع إفرازات الحضارة الغربية، التي نحتاجها ونعتمد عليها، ولكننا في الوقت نفسه نصطلي بنيرانها. ولذلك فليس في تقديري أنه من التهويل والمبالغة أن نصف حالنا مع التربية بأنه أزمة.
من المسؤول؟
ليس هناك شك في أن المجتمع بكافة شرائحه وطبقاته مسؤول عن تربية أبنائه، وأنه يتحمل تبعات تلك التربية، وأنه كذلك المستفيد الأول من نجاحه في تربيتهم وأنه -في الوقت نفسه- الخاسر الأكبر من إخفاقهم. ولكن السؤال المحوري الذي يجدر بنا طرحه: من هو المجتمع؟ وكيف نمسك بزمام المسؤولية المهملة في تبعات المجتمع المعاصر لنلقي باللائمة على من قصّر في دوره تجاه التربية؟
البحث عن إجابة لمثل هذا السؤال سيقودنا حتما إلى الدخول في حلقة مفرغة؛ حيث إن البيت والشارع والمسجد والمدرسة، بل والدولة بكافة قطاعاتها تشترك في المسؤولية، وتتحمل التقصير الناتج عن ضعف القيام بمهامها، ولكن كل طرف يلقي بالمسؤولية الكبرى عن الإخفاق أو التقصير على الأطراف الأخرى. وهذا في تقديري هو جوهر أزمتنا التربوية!
ملامح الأزمة
نعاني في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من إشكالية متجذرة ساهمت المتغيرات الحديثة -ومن أبرزها الطفرات الاقتصادية والانفتاح العالمي- في جعلها سمة لبعض المجتمعات التي صاغت -ربما دون وعي منها- منظومتها الاجتماعية وفقاً لتك المتغيرات، ونتج عن ذلك مزيج متهالك أنتج بناء ثقافياً وفكرياً وأخلاقياً هزيلاً لا يستطيع الصمود أمام تحدّياته المحلية، فضلاً عن التحديات العالمية الكبرى.
أبرز ملامح الأزمة التربوية تكمن في ضعف القدرة على استشعار المسؤوليات الملقاة على عواتقنا، بل وانعدام الرغبة في ذلك. وبهذا أصبح كثير من أفراد مجتمعاتنا يجيدون فناً قلّما يتقنه غيرهم، ألا وهو تبرير التقصير وإلقاء اللوم في ذلك على الآخرين. هذه الحالة النفسية التي تكوّنت في العقل الجمعي ثم تجذّرت بعد بضعة عقود من الإهمال التربوي تتزايد حدتها حتى إن الشخص ربما يسمع -على سبيل المثال- من يسوّغ للمجرم جريمته؛ لأن المجتمع لم يوفر له وظيفة محترمة! قد يكون المجتمع وفّر له وظيفة مقبولة أو حتى متواضعة، ولكن كونها ليست محترمة أعطاه مسوغاً نفسياً ليرتكب جريمته، بل ويمتد التسويغ ليجد من يسوّغ له ارتكابها!
كيف نواجهها؟
هذه الحالة النفسية الناتجة عن ظروف مختلفة ومتجدّدة لم تحظ باهتمام تربوي كافٍ على المستوى التطبيقي. ربما يكون الجانب التنظيري لهذه القضية شغل كثيرين عن نقل تلك المهمة إلى حيز التنفيذ ابتداء من الأسرة وانتهاء بالمؤسسات التعليمية العليا. ولكوني لست متفائلاً بأن توكل مثل هذه المهمات الحيوية إلى مؤسسات ضعيفة الصلة بأبنائنا وبناتنا في هذا الزمن المتأزم بالمتغيرات لتتولى المسؤولية وحدها، فإني أرى أن نستثمر بجدية في برامج التربية المنزلية التي يقوم عليها الآباء والأمهات، وربما الأقارب حتى نحقق أهدافنا.
نتائج التربية المنزلية التي نباشرها بأنفسنا كآباء وأمهات سوف تكون -بإذن الله- اللبنة الأولى وحجر الأساس لتفعيل بقية قطاعات المجتمع لتبني عليها ما يمكن أن يكون برنامجاً تربوياً متكاملاً، لاسيما في ظل تزايد المسؤوليات التربوية التي تضطلع بها القطاعات التربوية خارج نطاق المنزل والأسرة. وضعف القيام بهذه المسؤولية -في تقديري- هو مكمن الخلل الذي نشأت عنه أزمتنا التربوية المعاصرة التي جعلت بعض المؤثرات التي يتعرض لها أبناؤنا لفترة قصيرة تجرّهم إلى الهاوية بشكل يشابه فعل السحر فيهم.
لا يكفي أن تكون الرغبة صادقة في تربية أبناء صالحين ما لم يكن الآباء والأمهات على وعي بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم وأهمية استجابتهم لمتغيرات التربية المعاصرة؛ إذ إن كثيراً منهم يربي أبناءه بالطريقة نفسها التي ربّاه بها والداه. فبعضهم تربّى على الضرب والقسوة وربما التهديد بالطرد من المنزل، وكان هذا الأسلوب مجدياً معه في زمن لم يكن أصحاب السوء مستعدين لتلقّفه وجره معهم إلى مهالك أعظم وأطم، كما هو الحال الآن.(230/1)
ولذلك فإن الخطوة الأولى التي ينبغي أن نتجرأ على القيام بها هي الثورة على الأنماط التربوية الشائعة التي لا تكرس إلا التمرد والعصيان، أو تكرس -ربما كردة فعل على الأولى- الكسل والاتكالية، ونستبدل بها أنماطاً تشجع على التعاون والطاعة والثقة بالنفس والمبادرة. وهذه الثورة ليس لها مكان إلا دواخل أنفسنا، حيث ننظر في أخطائنا بمنظار صاف وصادق يرتجي الناظر من خلاله تشخيص الخطأ، ثم الاعتراف به، ثم البحث عن علاج له.
برامج التربية المنزلية ينبغي أن تنبع القناعة بها قبل أن تطبق، وهذه القضية بحاجة إلى أن تكون من هموم السياسيين والخطباء والدعاة والصحفيين والوجهاء التي لا يغفلون عنها حتى نستطيع الخروج من النفق المظلم الذي دخلناه ثم اعتقدنا أنه العالم الذي لا يمكن تغييره.
إن كثرة الحديث عن هذا الأمر ربما أحدثت ثورة اجتماعية ضد القناعات والرؤى الخاطئة السائدة تشابه ثورة "الرأي الآخر" التي غزت -كممارسة اجتماعية- كافة المستويات، بدرجة أصبح من يخالفها متخلفاً.
ولعل الله تعالى أن ييسر من أهل العلم والتجربة والحماس من يساهم في وضع لبنات عملية أصيلة تساهم في تأسيس برامج التربية المنزلية التي نؤمل عليها توجيه الأمة نحو المستوى الذي تطمح في الوصول إليه في وقت هي بأمس الحاجة إلى مقاومة المؤثرات التي تكتسحها دون هوادة؛ فهذه المهمة أكبر من أن يتناولها فرد أو مؤسسة بمفردها؛ إذ لا بد من تكاتف الجهود وتصحيح بعضها بعضاً عند وقوع بعض الأخطاء التي لابد من وجودها في مشروع ضخم بهذا الحجم.
* رئيس تحرير مجلة الأسر(230/2)
أزواج يضربون زوجاتهم!!!
فوزية الخليوي 5/2/1427
05/03/2006
باختلاف النفوس وطبائعها تختلف ردة الفعل عند الغضب، وأثناء النقاش الحاد عند الأزواج، فمنهم من يستطيع أن يملك زمام أعصابه، وأن التحدث بهدوء وروية عند أي مشكلة أو تقصير !! بينما صنف آخر يستعمل يديه قبل لسانه، فما تشعر المرأة إلا ويداه تهوي عليها بالضرب!.
وليس مدار حديثي عن الضرب الشرعي الذي نص الشارع الحكيم عليه في حال النشوز كما قال الله تعالى(واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) والنشوز هو العصيان والتعالي، وفسر المحدثون الضرب في هذه الحالة أن يكون خفيفًا كالسواك ونحوه!.
إن هذا الصدام بين المرأة والرجل، ليس صدامًا ذا هوية، أو مختصًا بشعب أو طبقة معينة من الرجال، أو محكومًا بعادات أو تقاليد، أو حتى ديانة.. إنه صدام بين الرجولة والأنوثة، حيث الرجل والمرأة في كل زمان ومكان.
أنه نابع من إحساس الرجل برجولته، فيظنه أن هذا لا يزيده إلا قوة وشرفًا. ولا يزيد المرأة إلا استكانة وخضوعًا.
أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامةٌ ربواء تجفلُ من صَفِير الصافرِ
حيث ردة الفعل من المرأة باختلاف أجناسهن واحدة. حيث المرأة خالصة الإنسانية لها إحساس بقيمة ذاتها ومعنى وجودها ورفضها الساحق لهذا الأمر.. لماذا؟!!
لأن فيه إهدارًا لكرامتها!!
وسحقًا لآدميتها!!
وجرحًا لكبريائها!!
فقد روى أبو داود في الحديث الصحيح ( أن -النبي صلى الله عليه وسلم- قال: لقد طاف بآل محمد سبعون امرأة كل امرأة تشتكي زوجها، فلا تجدون أولئك خياركم). ومرورًا بوقتنا الحالي فقد ذكر الكاتب (عبد الرحمن السماري) في جريدة "الجزيرة" عن الرسائل الكثيرة التي تصله من الزوجات أو آبائهن أو أمهاتهن والتي تشتكي عنف بعض الأزواج مع زوجاتهم والذي يمتد إلى الضرب الشديد، كاستخدام العصا، أو الحذاء أو توجيه اللكمات على سائر الجسد.
وانتهاءً بإحصائية تتعلق بالولايات المتحدة أن هناك 6 ملايين زوجة يتعرضن لحوادث الضرب من جانب الزوج كل عام وأن عددًا يتراوح بين 2000-4000 زوجة يتعرض للضرب الذي يفضي إلى الموت كل عام، ويضيع ثلث وقت رجال الشرطة في الرد على مكالمات هاتفية للإبلاغ عن حوادث العنف المنزلي.
قد لا يدرك!!
قد لا يدرك الرجل عندما ترتفع يده عاليًا ثم تهوي على وجه المرأة أنه يهوي أيضًا بالمواقف الجميلة السابقة في حقها!!
قد لا يدرك الرجل أن بصمات أصابعه هذه لم تطبع على الوجه إنما طبعت على صفحة إسمنتية رطبة فبقيت شاهدة عليه على مر السنين!!
حقيقة الأنوثة
أن تمييز الرجل لامرأة دون أخرى غلط فاحش فكما تساوت تركيباتهن الجسدية فكذلك النفسية بكون المرأة لها إحساس بقيمة ذاتها ووجودها واعتزازها بإنسانيتها، وأخيرًا في رغبتها في التقدير.
ومن ألطف الدلائل هذه اللفتة من إحدى النساء في هذه القصة؛ فتدبر!
في عهد يوسف بن ناشفين -ملك المغرب والأندلس- تمنى ثلاثة نفر: فالأول تمنى ألف دينار، والثاني تمنى عملاً يعمل به للأمير، وتمنى الثالث زوجته وكانت من أحسن النساء، ولها الحكم في بلاده، فبلغه الخبر فأعطى الأول والثاني ما تمنيا، وقال للثالث: يا جاهل ما حملك على هذا الذي لا تصل إليه! ثم أرسله إليها؛ فتركته في خيمة ثلاثة أيام تحمل إليه في كل يوم طعامًا واحدًا، ثم أحضرته، وقالت له: ما أكلت في هذه الأيام؟ فقال: طعامًا واحدًا، فقالت له: كل النساء شيء واحد، وأمرت له بكسوة ومال وأطلقته!.
أقسام الرجال في هذا الباب:
(1) القابضون على الجمر!!
رأيتُ رجالاً يضربون نساءَهم ... ...
فشلّت يميني يوم أضربُ زينبا
أدرك هذا الصنف أن الرجولة ليست بالسلطة وممارسة القوة! بل هي مصدر للأمان وملاذ للحنان.. تعامل مع المرأة على أنها خالصة الإنسانية، مكتملة الأنوثة، نظر إليها من خلال منظارها هي (على أنه الواحة الخضراء التي تتفيؤ من ظلها وتنهل من معينها، ترتوي به، وتستقر معه) هذا المعنى توّجه عمرو بن العاص فقال: لا أمِلُّ ثوبي، ما وسعني، ولا أملُّ زوجتي ما أحسنت عشرتي، وإن المُلال من سيئ الأخلاق.
وانظر إلى أفعالهم حيث جعلوها خبيئة لهم يحتسبونها عند الله وقد تجاوزوا بذلك حظوظ نفوسهم.
قال قبيضية بن عبد الرحمن : تزوجت بأم أولادي هؤلاء؛ فلما كان بعد الأملاك بأيام قصدتهم للسلام، فاطَّلعت من شق الباب فرأيتها فأبغضتها وهي معي منذ ستين سنة.(231/1)
أماأبو عثمان الحيري لما سئل عن أرجى عمل عمله فقال: لما ترعرعت ولم أتزوج بعد، جاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان، قد أحببتك حبًّا ذهب بنومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب أن تتزوج بي، فقلت: ألك والد؟ فقالت: فلان الخياط، فراسلته فأجاب فتزوجت بها فلما دخلت وجدتها عوراء، سيئة الخلق؛ فقلت: اللهم لك الحمد على ما قدرته علي، وكان أهل بيتي يلومونني على ذلك، فأزيدها برًّا وكرمًا إلى أن صارت لا تدعني أخرج من عندها، فتركت حضور المجلس إيثارًا لرضاها وحفظًَا لقلبها، وبقيت معها على هذه الحالة خمس عشرة سنة، وكنت في بعض أحوالي كأني قابض على الجمر، ولا أبدي لها شيئًا من ذلك إلى أن ماتت، فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبي من جهتها!!
(2) أسود في عرين المرأة
أعرفنّك بعد الموتِ تندبُني ... ...
وفي حياتِي ما زوّدتني زادا
نعم لا أنكر أن عدم ارتياح الرجل لشكل المرأة وهيئتها أو تركيبتها النفسية هي من أهم الضغوط التي يواجهها الرجل في حياته الزوجية، مما تجعله يثور لأتفه الأسباب ويلجأ إلى الضرب والسباب أو يجعلها مثارًا للتندر والسخرية، وليس لها أن تنبس ببنت شفه.
ليس معنى هذا ألا يرى للمرأة أي حق في التقدير والتعزيز لصفاتها الإيجابية؛ فكل امرأة تحمل كمًّا هائلاً من العاطفة، فما أن تطأ قدماها بيت الزوجية إلا وهي تحمل أمنياتها وأحلامها وإن اختلف عمق هذه الأحلام من فتاة لأخرى. فمن الخطأ تجاهل جميع ذلك ووأده، وإلغاء مكنونات نفسها بالشتيمة والسخرية، مما يقود إلى اتساع الهوة بينهما.. فما تزيدهما العشرة إلا غربة وكربة، ولا يزيدهما الزواج إلا قهرًا وكبتًا.
ومن أخبارهم أن أحدهم طلق امرأته فقالت بعد عِشرة خمسين سنة، قال: مالك عندي ذنب غيره.
وقيل لأعرابي: كيف حبك لزوجتك؟ قال:ربما مدت يدها إلى صدري فوددت والله أن آجرة خرّت من السقف فقدت يدها وضلعين من أضلاع صدري.
وإلى هؤلاء ما قاله الرافعي رحمه الله:إن زوجة الرجل إنما هي إنسانيته ومروءته؛ فإن احتملها أعلن أنه رجل كريم، وإن نبذها أعلن أنه رجل ليس فيه كرامة.
الآثار السلبية للضرب:
1-النفور بين الزوجين:
عندما يجعل الزوج الضرب متنفسًا للمشاعر السلبية، يجمع بذلك بين الألم النفسي والجسدي، وهو الذي نهى عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: "لا يجلد أحدكم زوجته جلد البعير، ثم يجامعها آخر اليوم" [رواه البخاري].
وهنا تحدث الجفوة النفسية بينهما، والتي تكون سببًا مباشرًا للتباعد بين الزوجين، وإن جمعهما سقف واحد، وأدى كل منهما حقوقه وواجباته.
2-أثر المشاجرات على نفسية الطفل:
إن الشجار وضرب الأم أمام أعين الأبناء يفقدهم الشعور بالأمن، ويجعلهم حائرين بين الولاء لأبيهم أو لأمهم. وقد يستغل الطفل أحدهما ضد الآخر، إضافة إلى أنه يعطيه فكرة سيئة عن الحياة الزوجية، والطمأنينة في البيت.
3-حدوث الطلاق:
لا عجب أنه عند تفاقم العنف ضد المرأة، تلجأ إلى الطلاق كحل سلمي، كما فعلت حبية زوجة ثابت بن قيس، عندما ضربها فكسر بعضها، فجاءت إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فقالت: لا أنا ولا ثابت، فقال: أتردين عليه حديقته، فقالت: نعم، فطلقها.
ولعل ارتفاع نسبة الطلاق يؤيد بعضًا من ذلك؛ ففي إحصائية نشرتها جريدة "اليوم" السعودية (11128) أن المحاكم السعودية تسجل يوميًّا ما بين 25-35 حالة طلاق، أي معدل 16 ألف حالة سنويًّا مقابل 66 ألف حالة زواج.(231/2)
أسئلة القرآن
الحمد لله علي الشأن ، عظيم السلطان ، يسأله من في السموات والأرض ، كل يوم هو في شأن .
أحمده سبحانه ، حمد الشاكرين ، وأستغفره استغفار المذنبين التائبين ، وأسأله سؤال العابدين القانتين . وأثني عليه ثناء الأنبياء والمرسلين .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، رب العالمين ، وإله الأولين والآخرين ، يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ومصطفاه وخليله ، سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ، ومن سار على نهجهم ، واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما .
أما بعد ، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فهي وصية الله تعالى للأولين والآخرين ، كما قال سبحانه : ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله . كما أن تقوى الله تعالى وصية النبي الكريم ، والحبيب الرحيم ، صلى الله عليه وسلم لنا جميعا ، كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع فأوصنا ، قال : أوصيكم بتقوى الله .
عباد الله : أسئلة ،،، يوجهها القرآن الكريم للعقلاء ، يبحثون عن ما ينفع ويفيد .
أسئلة ،،، يوجهها القرآن للحكماء ، يبحثون عن الحرية من أغلال العادات والتقاليد .
أسئلة يوجهها القرآن لأولي الألباب ، يتفكرون في خلق السموات والأرض ، فيرون السماء ليس بها فطور ، ويرون الأرض مستقرة بهم لا تميد .
أسئلة يوجهها القرآن للناس كافة ، فلا يفقهها إلا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
أسئلة ،،، تقشع سحب الدخان الذي يغشى أعين أهلِ الغواية ، وتزيل الران من قلوب الغافلين عن سبل الهداية ، فتنير الطريق لمن أراد أن يسلك سبيل النجاة ، وتقيم الحجة عليه بينة دراية ورواية . فتهز عقله ليفكر ، وتروي له قصص الأولين ليكون له بهم عبرة وآية ، تشرح له ببيان تام الوضوح قصة البداية والنهاية ، وما بين ذلك من أحداث يتصرف فيها بوحدانية وتفرد ، وحكمة بالغة ، الذي له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء شهيد .
عباد الله : القرآن يسأل ، وهو نفسه يجيب ، ويتعجب من حال من يفقه ويعلم ، ثم لا يستجيب ! وحق لنا أن نعجب ممن يرى ويبصر الآيات والنذر ، ثم لا يقلع عن غيه ولا ينيب ! فهم بربهم يشركون ، ومن عذابه لا يشفقون ، ويغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولا يزالون في شك مريب ! أفي الله شك ؟ أفي الله شك ؟ أفي الله شك فاطر السموات والأرض ؟
فاستمع يا رعاك الله إلى هذا السؤال وكرره على نفسك ، وانظر إجابته فيمن حولك ، وأتبعه بأسئلة متتالية ، تقرع الأسماع ، وتقطع الأطماع ، إلا فيما عند الواحد القهار ، المانع الضار ، العزيز الحميد .
ألا فأجيبوا أيها العقلاء ، أيها الأحرار من أغلال التقليد ، وسلاسل الشيطان المريد . أجيبونا فأخبرونا : لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ؟ لقد أجابوا قديما ، وهو نفس الجواب حديثا : فسيقولون لله ! قل أفلا تذكرون ؟ قل : من رب السموات السبع ورب العرش العظيم ؟ سيقولون : لله ! قل : أفلا تتقون ؟ قل : من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، إن كنتم تعلمون ؟ سيقولون : لله ! قل : فأنى تسحرون ؟ ما الذي سحر عقولكم ؟ ما الذي أذهب ألبابكم ، ما الذي شتت أذهانكم ؟ وأنتم ترون الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء ، ولا تملكون من التصرف فيه شيئا ، فأين تذهبون ؟ ما لكم كيف تحكمون ؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون ، إن لكم فيه لما تخيرون . بل أتيناهم بالحق ، وإنهم لكاذبون ، ما اتخذ الله من ولد ، وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ، ولعلا بعضهم على بعض ، سبحان الله عما يصفون ، عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون . بل هو الله العزيز الحكيم .
هذه الأسئلة لن يكون الجواب عنها إلا كلمة واحدة ، وجواب واحد ، هو التوحيد ، لا إله إلا الله ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون .
أيها الحبيب: استمع إلى سؤال القرآن ، وتأمل إجابته ، وقف مجلا مكبرا لمن بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون . واسألهم : أمن خلق السموات والأرض ، وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ، أأله مع الله ؟ بل هو قوم يعدلون . أمن جعل الأرض قرارا ، وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي ، وجعل بين البحرين حاجزا ، أأله مع الله ؟ بل أكثرهم لا يعلمون . نعم والله إن أكثرهم لا يعلمون الحق ، فهم معرضون .(232/1)
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء ، ويجعلكم خلفاء الأرض ، أأله مع الله ؟ قليلا ما تذكرون . أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ، ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ، أأله مع الله ؟ تعالى الله ، تعالى الله عما يشركون . أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ؟ ومن يرزقكم من السماء والأرض ؟ أأله مع الله ؟ قل هاتوا برهانكم ، هاتوا برهانكم ، إن كنتم صادقين .
بكل وضوح ، وبكل عقلانية ، بكل منطقية ، نستدل على الرزاق ذي القوة المتين ، ولكن القوم في خوض يلعبون ، وعن الوقوف بين يديه غافلون ، وعما يريد منهم معرضون ، ولما ينهاهم عنه فاعلون . فيأتي السؤال ، ويعقبه الجواب ، ثم يتلو ذلك التعجب من الأفعال ، والأقوال .
واستمع يا رعاك الله لهذا السؤال القرآني أيضا
: قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله! فقل أفلا تتقون ؟ فذلكم الله ربكم الحق ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ فأنى تصرفون ؟ كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون . نعم ، لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم . ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . فهم في ريبهم يترددون .
إذ إنه لا يشك في الخالق البارىء المصور إلا من غيب عقله في سراديب الضلال ، فهو يجادل بالباطل ليدحض به الحق ، ويحاول أن يغطي أشعة الشمس البازغة بغربال !
أيها المسلم : وأنت ترقب شاشة التلفاز ، وترى أثار الدمار ، وترى الدنيا عائمة ، والمصيبة قائمة ، عشراتِ الآلاف من القتلى ، ومئاتِ الآلاف من المصابين ، وملايين من المشردين ، في عدة ثوان ، لم تكمل دقيقة واحدة ، إلا وقد اجتمع الجوع والمرض ، والخوف والمصيبة ، بفقد الأحبة من الآباء والأبناء ، والإخوة والأصدقاء . فاقرع آذانهم بسؤال القرآن واضحا ومتجليا : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة ، أغير الله تدعون إن كنتم صادقين . فأين الآلهة من دون الله توقف هذا الطوفان ؟ أين الآلهة من دون الله تكشف البلاء ، وهي غرقى مثل عابديها ، متناثرة أضعف من عابديها . فاسألهم ، أيها العاقلون : أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره ؟ أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ، قل حسبي الله ، عليه يتوكل المتوكلون .
إن ما رأيناه من هيجان البحار ، وتلاطم الأمواج ، وهدير الرياح ، وزلزلة الأرض ، إشارة ، مجرد إشارة لعظمة من سيوقف العباد كلهم بين يديه ، بعد أن تزلزل الأرض زلزالها ، وتخرج الأرض أثقالها ، ويبعث الناس حفاة عراة غرلا بين يدي الملك الحق المبين ، وقد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، فأين المفر ؟ كلا لا وزر .
لقد كادت الأرض تهلك في ثوان ، وهو نذير غضب الرحمن ، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ؟ يوم يقوم الناس لرب العالمين .
إذا عرفت إجابة تلك الأسئلة أيها الحبيب ، فلن تستطيع تخيل عظمة السائل ، ولا يمكنك أن تتصور ذلتك وأنت بين يديه ، مكبلا بالذنوب ، ليس بينك وبينه ترجمان ، ولا معاذير تنفع ، ولا سلطان لك ينصرك أو يرحمك ، أو يمكنه أن يجادل عنك أو أن يدفع .
عباد الله : يوم الدين والله أشد أهوالا مما رأيتم ، وأشد رعبا مما شاهدتم ، وأكثر خرابا ودمارا مما تصورتم ، ففروا إلى الله ، فلا ملجأ منه إلا إليه . وارفعوا أيديكم بالتضرع بين يديه ، وأرغموا أنوفكم بالسجود لعظمته ، ورطبوا ألسنتكم بالتسبيح بحمده والتقديس له .(232/2)
معاشر المسلمين : حين يسأل القرآن سؤالا يوجهه لمن يبحث عن الحق ويسعى إليه ؛ لأن المجادل ، ومن طبع الله على قلبه فلا تقنعه حجج ولا آيات ، ولا تنفعه ذكرى ، ولا يقتنع بالبينات ، فلا يستفيد من الآيات إلا المؤمنون ، ولا يعقل الأمثال إلا العالمون ، وإلا فإن من رأى هيجان البحار لا بد أن يسأل نفسه : ما الذي أهاجها ؟ وهي هي التي كنا نستخرج منها اللحم الطري والحلية التي نلبسها ، لؤلؤا ومرجانا ، وطعاما لذيذا ، فغشيت أمواجها البر وتعدت على البلدان !! أفلم يتلى علينا قوله جل وعلا : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . فالذي سخره هو الذي أهاجه ، والذي أمسكه هو الذي أطلقه ، فلا والله لا ممسك له غيره ، ولا مسخر له سواه . فتأمل يا رعاك الله قوله جل وعلا : ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله ، إنه كان بكم رحيما ، وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم ، وكان الإنسان كفورا . أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا ؟ أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغركم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا . أما ترون هذه الآيات ممثلة أمام أعينكم فتبصرون ؟ ولكن صدق الله إذ يقول : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ، وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ، ونخوفهم ، فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا . فهذا يقول غضب الأرض ، وذاك يقول كوارث الطبيعة ، وآخر من دونه أزواج . مع إقرارهم بأن الذي حدث لا يمكنهم رده ، ولا يملكون له كشفا ولا تحويلا . والعجب مع وضوح الأدلة ، وبيان المحجة ، ونصاعة الحجة وثبوت قوله جل وعلا واصفا نفسه ، تقدست نفسه : الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا . مع كل هذا الوصف ، انظر ماذا كان ردهم على هذه الصفات ، وما هو موقفهم من هذه الآيات : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا . فشتان بين الخالق ، والمخلوق ، سبحانه وتعالى عما يصفون ، بديع السموات والأرض ، كل له قانتون ، فسل أيها العاقل ، سل الملحدين ، والكافرين ، سل المعرضين ، سل الغافلين ، سل المنكوبين : أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن ؟ إن الكافرون إلا في غرور . أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ؟ بل لجو في عتو ونفور ! قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به ؟ انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ! قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة ، هل يهلك إلا القوم الظالمون ؟ ثم سلهم : أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة ، من إله غير الله يأتيكم بضياء ؟ أفلا تسمعون !؟ قل : أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة ! من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه ؟ أفلا تبصرون !؟
فيا لهول الموقف يوم القيامة ، حين يناديهم أين شركائي الذين كنتم تزعمون ؟ أين ما كنتم تدعون من دون الله ؟ هل ينصرونكم أو ينتصرون ؟ أو ينفعونكم أو يضرون ؟ إذا لم يدفعوا عنكم البلاء في الدنيا فهم والله أعجز من أن يدفعوه في الأخرى !!! قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا . وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل ، لكل نبأ مستقر ، وسوف تعلمون .
عباد الله : إن مراد القرآن الكريم من طرح الأسئلة ، وبيان إجابتها على ألسنة الملحدين ، والكافرين ، والمتشككين ، إن مراد القرآن من ذلك بيان أن الحق واضح أبلج ، وأن من عاند الحق ، أو جادل فيه إنما يجادل عن هوى ، وإنما يتبع السراب ، مع جريان النهر أمام عينيه ، تعلقا بالزيف ، واتباعا للشيطان ، وخداعا للنفس .
ومن فوائد طرح الأسئلة القرآنية ، تبيان أن الحق مع وضوحه وتجليه إلا أن في الناس من يعاند ، وتستيقن نفسه الحق ، فيتكبر عنه ، ويظلم نفسه ومن اتبعه من السفهاء . أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ! إن هم إلا كالأنعام ، بل هم أضل سبيلا .
فاللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، اللهم لا تعذبنا بذنوبنا ، اللهم بك نستغيث من سخطك وعذابك ، ونقر لك بأنا مذنبون ، وعاصون ، ولكنا بك مؤمنون ، ولك موحدون ، فادفع عنا وبلادنا كل سوء ، ومتعنا بنعمك ، واجعلها لنا عونا على طاعتك ، وذلولا إلى جنتك ، ومهرا لرضوانك ، وسببا لعافيتك . يا أرحم الراحمين .
ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود .(232/3)
الخطبة الثانية :
الحمد لله ذي البطش الشديد ، الفعال لما يريد .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ذو العرش المجيد .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أشرف الخلق وسيد العبيد . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، ومن ترسم خطاهم ، لم يزغ عنه ، ولا يحيد ، وسلم تسليما .
أما بعد ، فاتقوا الله تعالى ، وراقبوه في سركم وعلانيتكم . وإياكم أن تستهينوا برقابته ، أو أن تأتوه يوم القيامة مفلسين ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار . رواه مسلم .
أيها العقلاء : يا من أقررتم بجواب أسئلة الله لكم بأن لا إله إلا هو ، يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ، أجب سؤاله حين توقف بين يديه وقد شتمت هذا ، وقذفت هذا ، وأكلت مال هذا ، وسفكت دم هذا ، وضربت هذا ، وروعت أم هذا ، أو طفل هذا ، وهذا نكرة ، يدخل فيه كل مظلوم ظلمته ، وكل شخص غششته ، أو دم سفكته ، قتلته بغير ذنب اقترفه ، أو جرم أحدثه ، فسفكت دمه ، وأحرقت فؤاد أهله ، وربما كان له طفل يتمته ، أو أم فجعتها ، أو زوج رملتها ، أو أب بفقده لابنه قهرته ، فكلهم يوم القيامة خصماؤك ، حتى لو كنت من المصلين ، حتى لو كنت من المزكين ، ولو كنت من الصائمين ، سيسألك بين يدي من بانت لك عظمته في كل شيء أمام ناظريك ، يا رب سل هذا : لم قتلني ؟ أما كنت أرسلت له رسولا رؤوفا رحيما يخبره أنك لا ترضى هذا الفعل أبدا ؟ وأنك قلت وقولك الحق : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما . أما سمع رسولك صلى الله عليه وسلم يقول : المسلم أخو المسلم ، لا يخونه ، ولا يكذبه ، ولا يخذله ، كل المسلم على المسلم حرام ، عرضه ، وماله ، ودمه ، التقوى ها هنا ، بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم . رواه الترمذي . وفي رواية عند مسلم : لا يظلمه ولا يخذله ، ولا يحقره .
أيها المسلمون : تخففوا من الذنوب ، واتركوا المعاصي ، قبل أن توقفوا بين يدي الواحد القهار ، ثم اعلموا أن أول ما يقضى بين العباد فيه الدماء ، فاتقوها بكل ما تستطيعون ، فإن سفك الدمِ الحرام بغير حق قرين للشرك ، قرين للفاحشة ، كما قال جل وعلا واصفا عباده المخلصين : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا . وقال جل من قائل : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ، وبالوالدين إحسانا ، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون .
ألا فاعلموا عباد الله أن من فجع المسلمين في بيوتهم وطرقاتهم بأصوات الرصاص ، وأزيز القنابل ، وصوت المتفجرات ، ناهيك عن ما نتج عنها من خراب ودمار وإصابات ، وسفك للدم الحرام ، من فعل هذا والله لم يقدر الله حق قدره ، ولم يعرفه حق معرفته ، وإلا لما فعل ما فعل . ففكر أيها العاقل ، إذا نهي المرء أن يمر بين يدي المصلي ، كيف يباح له أن يقتله ؟ بغير ذنب جناه !!! هل أعد القاتل جوابه حين يسأله الرب تبارك وتعالى لم قتلت عبدي هذا ؟ هل سيحيله إلى أسامه ؟ وما يغني عنك أسامة ، وأنت تشكك في العالم الرباني وتزدريه ، وتخلع بيعة الإمام من عنقك وتستمع لنعيق الفقيه ؟ هذا والله قياس عجيب ، فقتل المسلمين بزعم اتباع السنة ، وإقامة علم الجهاد من أبطل الباطل ، وهو من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض ، وإلا فإن الذي أمر بالجهاد هو نفسه الذي نهى عن قتل النفس إلا بالحق ، وهو نفسه الذي أمر بطاعة الولاة ، وهو نفسه الذي حكم في من خلع البيعة من الرعية ، ونازع الولاة أن يضرب عنقه بالسيف كائنا من كان .(232/4)
فهل توافقوننا أيها المجاهدون – زعمتم - إذا قلنا سنطبق هذا الحديث على ابن لادن ، أو سعد الفقيه ، فنقتله به ؟ أو ستتأولون الحديث وتصرفونه ؟ لم أخذتم بأجر الجهاد ومنزلته وتركتم الأمر بعصمة الدماء ، وتكاتف المسلمين ، واجتماع كلمتهم ؟ ولكن لكل قوم وارث ، وقد ورث ما يسمى بتنظيم القاعدة ورث الخوارج في فكرهم ، وحججهم ، وأفعالهم ، وقتلهم للمسلمين ، وقتالهم ، فلا تعجب ممن طوعت له نفسه قتل أخيه ، ومن طوعت له نفسه قتل عثمان ، ومن سوغت له نفسه قتل علي ، تقربا إلى الله ، وطمعا فيما عنده ، لا تعجب ممن ورث أولئك أن تطوع له نفسه قتل أي كان ، فمهما قيل في عصمة نفس ذلك المسلم فلن تكون أكثر عصمة من نفس عثمان ونفس علي رضي الله عنهما ، وصدق الله حين يقول : وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ، كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ، تشابهت قلوبهم ، قد بينا الآيات لقوم يوقنون . إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، ولا تسأل عن أصحاب الجحيم .
وإني داع فأمنوا : يا من تنزه عن الشبيه والنظير ، وتعالى عن المعين والوزير ، وتقدس عن المساعد والمشير . يا ذا العز المنيع ، ويا ذا الجاه الرفيع .
اللهم احفظ مملكتنا بحفظك ، واكلأها برعايتك ، وجد عليها من واسع فضلك ، واحرسها بعينك التي لا تنام ، واكنفها بركنك الذي لا يضام ، واحفظ أمنها من كيد الكفرة اللئام ، وإفساد الخارجين على الإمام ، اللهم من سعى فيها بشر أو فتنة فرده على عقبيه ذليلا حقيرا ، وسلط عليه من جنود الأمن سيفا شهيرا ، وأوقعه في أيديهم قتيلا أو أسيرا . يا كافي من كل شيء ، ولا يكفي منه شيء . يا من يحول بين المرء وقلبه ، حل بيننا وبين من يؤذينا . سلط عليه جندا من جندك ، واجعلهم عبرة للمعتبرين ، وردهم على أدبارهم خائبين ، اللهم لا ترفع لهم راية ، ولا تحقق لهم غاية .
اللهم احفظ إمامنا بحفظك ، وأيده بنصرك ، وأسبغ عليه نعمة من عندك .
وصلوا على الحبيب المصطفى ، إن الله وملائكته ...
قاله فضيلة الشيخ / عادل بن سالم اكلباني الجمعة 19 ذي القعدة 1425(232/5)
أسئلة
عن صحة بعض الأحاديث
لفضيلة الشيخ
سليمان بن ناصر العلوان
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان أيده الله ورفع ذكره آمين .
نسمع من العامة أحاديث ولا نعرف صحتها فرأينا الكتابة لجنا بكم لتوافونا بدرجتها .
وهي
1- يس لما قرأت له
2- تكبيرة الإحرام خير من الدنيا وما فيها
3- إنّ الله لا ينظر إلى الصف الأعوج
4- (( جنبوا مساجدكم صبيانكم ))
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه الأخبار ماعدا الأخير ليس لها أصل والجزم بنسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قول بلا علم وأهل العلم متفقون على تحريم رواية الأحاديث المنكرة والباطلة ومتفقون على تحريم القول على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بلا علم مثلُ أن يروي عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحاديث منكرة ويجزم بصحتها وهو لا يعلم وقد روى البخاري في صحيحه ( 3509 ) عن علي بن عياش حدثنا حَريز قال حدثني عبد الواحد بن عبد الله النصري قال سمعتُ واثلة بن الأسقع يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن من أعظم الفِرى أن يدَّعي الرجل إلى غير أبيه أو يُري عينه مالم تر أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم مالم يقل )) .
وحديث ( جنبوا مساجدكم صبيانكم و مجانينكم ... ) رواه ابن ماجه في سننه ( 750 ) من طريق الحارث بن نبهان حدثنا عتبة بن يقظان عن أبي سعيد عن مكحول عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم به وهذا الحديث منكر .
الحارث بن نبهان متروك الحديث قاله أبو حاتم والنسائي .
وقال البخاري منكر الحديث .
وقد روى له الترمذي ( 1775 ) حديث أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل وهو قائم )) . وقال لا يصح عند أهل الحديث والحارث بن نبهان ليس عندهم بالحافظ .
ورُوي الحديث من طريق أبي نُعيم النخعي ثنا العلاء بن كثير عن مكحول عن أبي الدرداء وعن واثلة وعن أبي أمامة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( جنبوا مساجدكم ... )) رواه البيهقي في السنن ( 10 / 103 ) وقال – العلاء بن كثير هذا شامي منكر الحديث .. )
وقال الإمام العقيلي في الضعفاء [ 3 / 347 ] حدثني آدم بن موسى قال سمعت البخاري قال : العلاء بن كثير عن مكحول : منكر الحديث .
وأسند العقيلي حديثه هذا وقال عَقِبه [ الرواية فيها لين ] .
ورواه ابن عدي في الكامل ( 4 / 1435 ) من طريق عبد الله بن مُحَرَّر عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جنبوا مساجدكم .... الحديث وفيه نكارة .
عبد الله بن محرر متروك الحديث قاله النسائي وغيره وقال ابن عدي رواياته غير محفوظة .
وتفرده عن أقرانه بالرواية عن يزيد غير محتمل فالحديث منكر ولا يصح في الباب شيء .
وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان بدخول المساجد وفعل ذلك بنفسه حين صلى بالمسلمين وهو حامل أُمامة بنت زينب . رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة ... غير أنه يُتقى أذاهم للمصلين وكثرة اللغط والعبث الباعث على التشويش على الراكعين الساجدين والله أعلم .
قاله
سليمان بن ناصر العلوان
6 / 3 / 1421 هـ
صحة حديث لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس وسط الحلقة
فضيلة الشيخ المحدث سليمان بن ناصر العلوان أمدّ الله في عمره على عمل صالح .
قرأت في أحد الكتب حديث حذيفة (( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس وسط الحلقة )) .
فتعاظمت هذا الوعيد في مثل هذا العمل اليسير فقلت أكتب لفضيلتكم تبينون درجته فإن صح عندكم فما معناه ؟ .
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الحديث رواه أبو داود في سننه ( 4826 ) حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا قتادة حدثني أبو مجلز عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة )) .
ورواه أحمد ( 5 / 384) والترمذي ( 2753) والحاكم ( 4 / 281) من طريق شعبة عن قتادة نحوه .
وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وصححه الحاكم وفيه نظر .
فالحديث رواته ثقات غير أنَّ أبا مجلز لا حق بن حميد لم يسمع من حذيفة قاله يحيى بن معين.
وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا حجاج بن محمد قال قال شعبة لم يدرك أبو مجلز حذيفة ( العلل رقم 788 ) .
فأصبح الحديث ضعيفاً وهو ليس على ظاهره اتفاقاً .
وقد تأوله قوم على الرجل السفيه الذي يقيم نفسه مقام السخرية ليكون ضحكة بين الناس .
وتأوله آخرون على من يأتي حلقة قوم فيتخطى رقابهم ويقعد وسطها ولا يقعد حيث انتهى به المجلس فلعن للأذى .
وتأولته طائفة ثالثة بتأويل آخر .
ولا يصح من هذه التأويلات شيء وقد علمتَ أن الحديث معلول فلا يؤخذ منه حكم .
*************
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله
قرأت في أحد كتب الشيخ الألباني رحمه الله أنه صحح حديث عائشة ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب ولا يمس ماء ) .(233/1)
وقد سمعت من بعض العلماء أن هذا الحديث لا يصح فأحببت أن أرفع هذا السؤال لفضيلتكم لمعرفة الصحيح من ذلك والله أسأل أن يسدّد خطاكم وينفع فيكم القاصي والداني .
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي ( 1397 ) وأحمد في مسنده (6 / 43 ) وأبو داود ( 228 ) والترمذي ( 118 ) وابن ماجة ( 581 ) وغيرهم من طريق أبي إسحاق السبيعي عن الأسود عن عائشة قالت . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب ولا يمس ماء ) .
وهو معلول أخطأ فيه أبو إسحاق واضطرب فيه ولم يأت به على وجهه الصحيح وقد رواه غير واحد عن الأسود عن عائشة بلفظ آخر فقد خرّج مسلم في صحيحه من طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً أراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءَه للصلاة )) وهذا هو المحفوظ .
وقد ذكر أبو داود في سننه ( 228 ) عن يزيد بن هارون أنه قال هذا الحديث وهم يعني حديث أبي إسحاق . وقال الإمام أحمد ( ليس صحيحاً ) وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه ( وقد روى عن أبي إسحاق هذا الحديث شعبة والثوري وغير واحد ويرون أن هذا غلط من أبي إسحاق ) .
وهذا لا خلاف فيه بين أئمة الحديث حكى اتفاقهم غير واحد .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في الفتح ( 1 / 362 ) وهذا الحديث مما اتفق أئمة الحديث من السلف على إنكاره على أبي إسحاق منهم إسماعيل بن أبي خالد وشعبة ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة ومسلم بن الحجاج وأبو بكر الأثرم والجوزجاني والترمذي والدارقطني .
وقال أحمد بن صالح المصري الحافظ : لا يحل أن يُروى هذا الحديث – يعني أنه خطأ مقطوع به فلا تحل روايته دون بيان علته .
وأما الفقهاء المتأخرون : فكثير منهم نظر إلى ثقة رجاله فظن صحته .
وهؤلاء يظنون أن كل حديث رواه ثقة فهو صحيح ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث . ووافقهم طائفة من المحدثين كالطحاوي والحاكم والبيهقي ... ) .
وتبعهم على ذلك بعض أهل عصرنا وجزموا بصحة الخبر معتمدين على ظاهر إسناده وثقة رواته وهذه غفلة عن دقائق علم العلل ومخالفة لصنيع أئمة هذا الشأن الذين أطبقوا على خطأ أبي إسحاق واضطرابه في ذلك وتفرده عن الثقات والله أعلم .
*************
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله
ما صحة الحديث الوارد ( صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك ؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب : هذا الحديث لا يصح ولا يثبت له إسناد وقد رواه أحمد في مسنده ( 6 / 272 ) من طريق محمد بن إسحاق قال وذكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( فضل الصلاة بسواك على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفاً ) .
ورواه ابن خزيمة في صحيحه ( 137 ) غير أنه قال إن صحّ الخبر وقال ( أنا استثنيت صحة هذا الخبر لأني خائف أن يكون محمد بن إسحاق لم يسمع من محمد بن مسلم وإنما دلسه عنه .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد قال أبي إذا قال ابن إسحاق وذكر فلان فلم يسمعه .
وقال الإمام يحيى بن معين : لا يصح هذا الحديث وهو باطل .
وقال البيهقي رحمه الله في السنن ( 1 / 38 ) وهذا الحديث أحد ما يخاف أن يكون من تدليسات محمد بن إسحاق وأنه لم يسمعه من الزهري وقد رواه معاوية بن يحيى الصدفي عن الزهري وليس بالقوي . ورُوي من وجه آخر عن عروة عن عائشة ومن وجه آخر عن عمرة عن عائشة فكلاهما ضعيف ) .
وقد جاء للحديث شواهد من حديث ابن عباس رواه أبو نعيم .
ومن حديث جابر رواه أبو نعيم أيضاً .
ومن حديث ابن عمر رواه أبو نعيم .
ولا يصح من هذه الأحاديث شيء ولا ترتقي إلى درجة الحسن لغيره .
فإن هذا الثواب الكبير لا يمكن قبوله بمثل هذه الأسانيد الضعيفة .
ولعل هذا من أسرار حكم الأئمة على هذا الخبر بالضعف تارة وبالبطلان تارة أخرى والله أعلم .
قاله
سليمان بن ناصر العلوان
13 / 9 / 1421 هـ
صحة الحديث: أقامها الله وأدامها
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان
أنا أقرأ في كتب الفقهاء فأرى كثيراً منهم يستحب أن يُقال في لفظ الإقامة أقامها الله وأدامها . ويذكرون في ذلك حديثاً وهو معروف لدى فضيلتكم فما صحته ؟
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي السائل اعلم أن الاستحباب حكم شرعي ، والأحكام الشرعية من واجبات ومندوبات ومحرمات ومكروهات لا تقوم إلا على أدلة صحيحة فلا يمكن اثبات حكم بدون دليل محفوظ .
وقد اعتاد الفقهاء التساهل في ذلك فيثبتون الاستحباب بحديث ضعيف والكراهية بمثل ذلك وأشد .
وقد تفاقم الأمر في العصور المتأخرة فترى الأحاديث الضعيفة والمنكرة والأخبار الواهية في كتب العقائد والتفاسير وأحكام الحلال والحرام . وأعظمُ من ذلك الجزم بنسبة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا خطر عظيم وذنب كبير .(233/2)
وقولكم [ ويذكرون في ذلك حديثاً ] هذا الحديث ضعيف رواه أبو داود ( 528 ) من طريق محمد بن ثابت العبدي حدثني رجل من أهل الشام عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بلالاً أخذ في الإقامة فلما أن قال : قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم (( أقامها الله وأدامها )) وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر رضي الله عنه في الأذان .
وفي هذا الحديث ثلاثُ علل .
أولاها : محمد بن ثابت العبدي قال عنه النسائي ليس بالقوي وقال أبو داود ليس بشيء .
الثانية : الإبهام فلم يسم العبدي شيخه في الإسناد
الثالثة : شهر بن حوشب مختلف فيه وقد قال ابن عون (( إن شهراً نزكوه . أي طعنوا فيه وقال النسائي ليس بالقوي .
وقال الترمذي عن البخاري . شهر حسن الحديث وقال الإمام أحمد . لا بأس بحديث عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب .
وقال الدار قطني . يخرّج من حديثه ما روى عنه عبد الحميد بن بهرام .
والناظر في أحاديث شهر لا يشك أنه سيء الحفظ يضطرب في الأحاديث والله أعلم .
والحديث ضعفه النووي في المجموع ( 3 / 122 ) وابن حجر في التلخيص ( 1 / 211 ) .
بيد أن النووي رحمه الله قال ( لكن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال باتفاق العلماء ... ) .
وهذا غير صحيح وليس في المسألة اتفاق . فظاهر كلام الإمام مسلم في مقدمة صحيحه أنّ أحاديث الفضائل لا تُروى إلا عمّن تُروى عنه أحاديث الأحكام .
وهذا ظاهر كلام ابن حبان في مقدمة كتابه المجروحين ورجحه الإمام بن حزم رحمه الله .
وقال شيخ الإسلام في الفتاوى ( 1 / 250 ) ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليس صحيحة ولا حسنة لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوّزوا أن يُروى في فضائل الأعمال مالم يعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي ورُوي حديث لا يعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقاً ولم يقل أحد من الأئمة إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف ومن قال هذا فقد خالف الإجماع وهذا كما أنه لا يجوز أن يحرم شيء إلا بدليل شرعي ولكن إذا عُلم تحريمه ورُوي حديث في وعيد الفاعل له ولم يعلم أنه كذب جاز أن يرويه ، فيجوز أن يروي في الترغيب والترهيب ما لم يعلم أن كذب ولكن فيما علم أن الله رغب فيه أو رهب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله .
وهذا كالإسرائيليات يجوز أن يُروى منها ما لم يعلم أنه كذب للترغيب والترهيب فيما علم أن الله تعالى أمر به في شرعنا ونهى عنه في شرعنا فأما أن يثبت شرعاً لنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تثبت فهذا لا يقوله عالم ولا كان أحمد بن حنبل ولا أمثاله من الإئمة يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة . ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه ....) .
والمنقول عن أهل العلم من الخلاف في هذه المسألة أكثر من ذلك .
ودعوى النووي رحمه الله من الاتفاق على العمل بالأحاديث الضعيفة في الفضائل غير صحيحة والخلاف محفوظ .
والمنقول عن الصحابة والتابعين عدم التفريق فالكل شرع من الله فلا تصح المغايرة بدون دليل ولا أعلم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه تساهل في المرويات بالفضائل أو الترهيب دون ماعداها .
وقد روى البخاري ( 2062 ) ومسلم ( 14 / 130 – شرح النووي ) من طريق عبيد بن عمير (( أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يؤذن له ، وكأنه كان مشغولاً فرجع أبو موسى ففرغ عمر فقال : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ؟ ائذنواله . قيل قد رجع فدعاه ، فقال : كنا نؤمر بذلك فقال : تأتيني على ذلك بالبينة . فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم ، فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبو سعيد الخدري .
فذهب بأبي سعيد الخدري فقال عمر : أخفي عليَّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم ألهاني الصفق بالأسواق ( يعني الخروج للتجارة ) .
وقد كان قصد عمر رضي الله عنه بطلب البينة التثبت لئلا يتسارع الناس إلى رواية الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون ضبط ولا تحري وفي بعض رواياته في صحيح مسلم ( إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثَبت ) .
قاله
سليمان بن ناصر العلوان
6 / 5 / 1421 هـ
صحة ما يروى - الغناء ينبت النفاق في القلب
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله
هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الغناء ينبت النفاق بالقلب كما يُنبتُ الماءُ البقل )) ؟
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان ( 4 / 279 ) من طريق محمد بن صالح الأشج أنا عبد الله بن عبد العزيز بن أبي روّاد حدثنا إبراهيم من طهمان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .
وهذا إسناده منكر تفرد به عبد الله بن عبد العزيز وأحاديثه منكرة قاله أبو حاتم وغيره .(233/3)
وقال ابن الجنيد . لا يُساوي شيئاً يحدّث بأحاديث كذب .
ورواه ابن عدي في الكامل ( 1590 ) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر العمري عن أبيه سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
وهذا إسناده ضعيف جداً . وقد اتفق الحفاظ على تضعيف عبد الرحمن بن عبد الله العُمري .
قال الإمام أحمد رحمه الله . ليس بشيء .
وقال النسائي متروك الحديث .
ورواه أبو داود في سننه ( 4927 ) من طريق سلاّم بن مسكين عن شيخ شهد أبا وائل في وليمة فجعلوا يلعبون . يتلعبون يغنون فحلَّ أبو وائل حُبْوته وقال سمعت عبد الله يقول . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول ( إن الغناء ينبت النفاق في القلب ) .
وهذا إسناده ضعيف مداره على الشيخ المجهول ولا يحتج به .
وقد ورد موقوفاً على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رواه البيهقي في السنن الكبرى ( 10 / 223 ) من طريق غندر عن شعبة عن الحكم عن حماد عن إبراهيم قال قال عبد الله بن مسعود فذكره .
ورواته ثقات ولا يضر الانقطاع بين إبراهيم وعبد الله فقد صح عن الأعمش أنه قال قلت لإبراهيم أسند لي عن ابن مسعود ؟
فقال إبراهيم . إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت وإذا قلت : قال عبد الله فهو عن غير واحد عن عبد الله ) رواه أبو زرعة في تاريخ دمشق وابن سعد في الطبقات .
قال ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان ( 1 / 248 ) هو صحيح عن ابن مسعود من قوله ) .
وهذا الأثر ليس هو الدليل الوحيد على تحريم الأغاني والموسيقى .
فهناك أدلة كثيرة من المرفوع والموقوف تفيد تحريم الغناء المقرون بالمعازف والمزامير وقد اتفق أكثر أهل العلم على ذلك .
وبالغ القاضي عياض فزعم الإجماع على كفر مستحله وفيه نظر. بيد أن فتاوى الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة على التحريم وقد عدّه غير واحد من أهل العلم كبيرة من الكبائر .
وقال الإمام مالك رحمه الله ( إنما يفعله عندنا الفساق ..) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في الإغاثة ( 1 / 228 ) ولا ينبغي لمن شمَّ رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك . فأقل ما فيه أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور ... ) .
وفي هذه الأزمنة امتد أمر الغناء وأدخلت عليه محسنات كثيرة فغمر المجالس والمحافل وازداد عشاقه فصار تجارة الفساق وأصبح ظاهرة في كثير من البلاد يشترك فيه الرجال والنساء فيقفون أمام الملأ في المسارح والأندية الرياضية والصالات المغلقة يغنون بالفحش والخنا ويدعون للفسوق والانحراف والرذيلة والخلاعة وأمثال ذلك من العظائم المعلوم قبحها بالفطر السليمة والعقول الصحيحة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (( ليكوننّ من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف . ولينزلنَّ أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم – يعني الفقير- لحاجة فيقولون ارجع إلينا غداً فيبيتُهُمُ الله ويضع العلمَ ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة )) .
ذكره البخاري في صحيحه ( 5590 ) عن هشام بن عمّار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثنا عبد الرحمن بن عَنْم الأشعري قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول .
ورواه ابن حبان في صحيحه ( 6754 ) عن الحسين بن عبد الله القطان قال حدثنا هشام بن عمار فذكره دون آخره .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في تغليق التعليق ( 5 / 22 ) وهذا حديث صحيح لا علة له ولا مطعن له وقد أعله أبو محمد بن حزم بالانقطاع بين البخاري وصدقة بن خالد ، وبالاختلاف في اسم أبي مالك وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً فيهم مثل الحسن بن سفيان وعبدان وجعفر الفريابي وهؤلاء حفاظ أثبات وأما الاختلاف في كنية الصحابي فالصحابة كلهم عدول ... ) .
وقال الحافظ ابن رجب في نزهة الأسماع ص ( 45 ) فالحديث صحيح محفوظ عن هشام بن عمار .. ) .
وفي الباب غير ذلك .
والمعازف هي آلات اللهو من عود وغيره والله أعلم .
قاله
سليمان بن ناصر العلوان
21 / 5 / 1421 هـ
شيخنا الفاضل سليمان العلوان سلمه الله وجعل الجنة مأواه
نود من فضيلتكم التعريف بدرجة حديث (( لا يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة )) .
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن وهب بن جرير ( 1 / 294 ) وأبو داود ( 2611 ) والترمذي ( 1555 ) وابن خزيمة ( 2538 ) وابن حبان ( 4717 ) وغيرهم من طرق عن وهب بن جرير عن أبيه عن يونس بن يزيد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خير الصحابة أربعة وخير السرايا أربعة مئة وخير الجيوش أربعة آلاف ولا يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة )
ورواه أحمد ( 1 / 299 ) عن يونس ثنا حبان بن علي حدثنا عقيل بن خالد عن الزهري بذلك .(233/4)
وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين والضياء المقدسي وابن القطان وغيرهم .... وفيه نظر .
قال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله لا يسنده كبير أحد غيرُ جرير بن حازم وإنما رُوي هذا الحديث عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا .. )
وقال أبو داود في سننه ( الصحيح أنه مرسل ) .
وقد رواه في المراسيل ( 313 ) عن سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن المبارك عن حيوة عن عقيل عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ورواه ( 314 ) عن مخلد بن خالد حدثنا عثمان يعني ابن عمر أخبرنا يونس عن عقيل عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه )) .
قال أبو داود قد أُسند هذا ولا يصح أسنده جرير بن حازم وهو خطأ )) .
وأخطأ فيه حبان بن علي فرواه عن عقيل موصولاً والصحيح عن عقيل مرسلا رواه حيوة ويونس والليث ابن سعد .
ورواه عبد الرزاق في المصنف ( 9699 ) عن معمر عن الزهري مرسلاً .
قال الإمام أبو حاتم في العلل ( 1 / 347 ) المرسل أشبه لا يحتمل هذا الكلام أن يكون كلام النبي صلى الله عليه وسلم .. ) .
وقد جزم بعض المتأخرين بخطأ هذا القول وصوّب رفعه وقال ( جرير بن حازم ثقة محتج به في الصحيحين وقد وصله والوصل زيادة واجب قبولها من ثقة .. ) .
وهذا ليس بشيء فجرير لا يمكن مقارنته أو مساواته بمن أرسله فهم أجل وأحفظ وأضبط منه .
وقد ذكر الإمام ابن حبان جرير بن حازم وقال كان يخطئ لأنه أكثر ما كان يحدث من حفظه )) .
وقال زكريا الساجي (( صدوق حدّث بأحاديث وهم فيها ... ) .
وقد وثقه أكثر الحفاظ وانتقدوا عليه أحاديث يرويها عن قتادة وتفردات يخالف فيها غيره والله أعلم .
وقوله ( والوصل زيادة واجب قبولها من الثقة ) .
وهذا قول الخطيب وتبعه على ذلك كثير من الفقهاء والأصوليين وجماعة من المتأخرين .
وفيه نظر كثير .
فأئمة هذا الشأن العارفون بعلل الأحاديث المتخصصون بذلك أمثال ابن مهدي والقطان وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي لا يقولون بذلك .
ولا يحكمون على هذه المسألة بحكم مستقل . بل يعتبرون القرائن ويحكمون على كل حديث بما يترجح عندهم .
وتأمل في صنيعهم والمنقول عنهم ترى وضوح هذا المنهج .
قال الحافظ ابن حجر في النكت ( 2 / 687 ) والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والرد بل يرجحون بالقرائن كما قدّمناه في مسألة تعارض الوصل والإرسال ..) .
ونحو هذا قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح علل الترمذي ( 2 / 630- 643 ) .
وقال الحافظ العلائي في نظم الفرائد ص ( 376 ) وأما أئمة الحديث فالمتقدمون منهم كيحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومن بعدهما كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وهذه الطبقة وكذلك من بعدهم كالبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة الرازي ومسلم والنسائي والترمذي وأمثالهم ثم الدارقطني والخليلي كل هؤلاء يقتضي تصرفهم من الزيادة قبولاً ورداً الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند الواحد منهم في كل حديث ولا يحكمون في المسألة بحكم كلي يعم جميع الأحاديث وهذا هو الحق الصواب ... ) .
وكلام الأئمة في مثل هذا كثير ، وحاصل كلامهم أن وصل الثقة وزيادته تقبل في موضع وترد في موضع آخر على حسب القرائن المحتفة بذلك .
فإذا تفرد الثقة بوصل حديث أو زيادة لفظة فيه وخالف غيره فيحكم للثقة الضابط ، وإذا اختلف ثقاة حفاظ متقاربون في ذلك قدم الأكثر .
فإذا كان لأحدهم اختصاص بمرويات شيخه قدم على غيره .
ومن القرائن المرجحة اتفاق الحفاظ الناقدين على تصحيح وصل أو ترجيح إرسال .
مثال ذلك روى أحمد في مسنده ( 2 / 8- ) وأبو داود ( 3179 ) والترمذي ( 1007 ) والنسائي ( 4 / 56 ) وغيرهم من طرق عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال (( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يمشون أمام الجنازة )) ورفعه خطأ والصواب أنه مرسل قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله ( حديث ابن عمر هكذا رواه ابن جريج وزياد بن سعد وغير واحد عن الزهري عن سالم عن أبيه نحو حديث ابن عيينة .
وروى معمر ويونس بن يزيد ومالك وغيرهم من الحفاظ عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي أمام الجنازة .
وأهل الحديث كلهم يَرَوْن أن الحديث المرسل في ذلك أصح .
وسمعت يحيى بن موسى يقول : سمعت عبد الرزاق يقول : قال ابن المبارك : حديث الزهري في هذا مرسل ، أصح من حديث ابن عيينة .. ) .
وقال الإمام النسائي والصواب مرسل .
فأنت ترى اتفاق المحدثين على تصحيح إرساله وقد خالف في ذلك بعض أهل العلم فصحح رفعه وهذا غلط .
ولا أرى لتصحيحه وجهاً معتبراً فأوثق الناس في الزهري ماعدا ابن عيينة يروونه مرسلاًَ واتفاق أكابر الحفاظ على تصحيح إرساله قرينة مرجحة لذلك والله أعلم .
كتبه
سليمان بن ناصر العلوان
6 / 3 / 1421 هـ
من تعلم لغة قوم أمن مكرهم
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله(233/5)
سمعتٌ في الإذاعة حديث (( من تعلم لغة قوم أمن مكرهم ] فبحثت عنه فلم أجده !! أين مصدره ؟
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أعلم هذا حديثاً ولا أظن له أصلاً وقد كره أهل العلم تعلم رطانة الأعاجم والمخاطبة بها بدون حاجة وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال ( لا تعلموا رطانة الأعاجم )) رواه عبد الرزاق في المصنف ( 1609 ) والبيهقي في السنن ( 9 / 234 ] .
وقد بُلي المسلمون في هذا العصر بالرطانة الأعجمية وأصبح تعلمُ بعض اللغات الأجنبية ضرورة ملحة في كثير من المهن والأعمال وهذا جائز لأهل الحاجات والمصالح ولا سيما مصالح المسلمين العامة .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم اللغة السُّرْيانية )) رواه أحمد ( 5 / 182 ) من طريق الأعمش عن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت ورواه الترمذي ( 2715 ) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلَّم له كلمات من كتاب يهود قال ( إني والله ما آمن يهود على كتاب )) قال : فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلمته له قال : فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم )) . ورواه أحمد و أبو داود والحاكم وغيرهم وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وخالفه غيره فتكلم في ابن أبي الزناد فقد ضعفه يحي بن معين وأحمد وجماعة ووثقه مالك وغيره ولا بأس به إذا لم يتفرد بالحديث وقد اعتبر بحديثه غير واحد والخبر محفوظ وقد علقه البخاري في صحيحه ( 95 / 7 ) جازماً بصحته .
وهو دليل على جواز تعلم اللغة الأجنبية للمصلحة والحاجة وهذا لا ينازع فيه أهل العلم .
وأما تعلم هذه اللغة لغير حاجة وجعلها فرضاً في مناهج التعليم في أكثر المستويات فهذا دليل على الإعجاب بالغرب والتأثر بهم وهو مذموم شرعاً وأقبح منه إقرار مزاحمة اللغات الأجنبية للغة القرآن ولغة الإسلام .
ومثل هذا لابدّ أن وراءَه أيد أثيمة ومؤامرات مدروسة لعزل المسلمين عن فهم القرآن وفقه السنة فإن فهم القرآن والسنة واجب ولا يمكن ذلك إلا بفهم اللغة العربية .
فإذا اعتاد الناس في بيوتهم وبلادهم التخاطب باللغة الأجنبية صارت اللغة العربية مهجورة لدى الكثير وعزّ عليهم فهم القرآن والإسلام وحينها ترقَّب الفساد والميل إلى علوم الغربيين واعتناق سبيل المجرمين وهذا ما صنعته بلاد الاستعمار في الدول العربية فالله المستعان .
قاله
سليمان بن ناصر العلوان
29 / 4 / 1421
الحديث الوارد في سورة الدخان
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العوان حفظه الله
سمعت في الإذاعة حديثاً منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك !!! فماهي درجة هذا الحديث ؟
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الحديث منكر ولا يصح في الباب شيء وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات ( 1 / 248 ) وقال تفرد به عمر بن راشد وهو وهم صوابه عمر بن عبد الله .
والخبر رواه الترمذي في جامعه ( 2888 ) وابن عدي في الكامل ( 5 / 1720 ) من طريق زيد بن الحباب عن عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الترمذي رحمه الله . هذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . وعمر بن أبي خثعم يضعف ، قال محمد : هو منكر الحديث )) .
وقال أبو زرعة : واهي الحديث حدّث عن يحيى بن أبي كثير ثلاثة أحاديث لو كانت في خمس مئة حديث لأفسدتها .
وروى الترمذي ( 2889 ) وأبو يعلى في مسنده ( 6224 ) من طريق هشام أبي المقدام عن الحسن البصري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم ( من قرأ حم الدّخان في ليلة الجمعة غفر له ) .
وهذا الإسناد معلول بعلتين :
الأولى : هشام بن زياد أبو المقدام . ليس بشيء قاله النسائي وغيره .
وقال ابن حبان في كتابه المجروحين ( 3 / 88 ) هشام بن زياد كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات والمقلوبات عن الأثبات حتى يسبق إلى قلب المستمع أنه كان المتعمد لها . لا يجوز الاحتجاج به .
الثانية : الانقطاع فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد قال الإمام أبو زرعة رحمه الله . لم يسمع الحسن من أبي هريرة ولم يره فقيل : فمنْ قال حدّثنا ؟ قال يخطىء .
وقال الترمذي رحمه الله عقيب هذا الحديث . لم يسمع الحسن من أبي هريرة هكذا قال أيّوب ويونس بن عُبيد وعليّ بن زيد .
والخبر أورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 247) وقال هذا الحديث من جميع طرقه باطل لا أصل له .
قاله
سليمان بن ناصر العلوان
14 / 2 / 1422 هـ(233/6)
أسئلة مهمة في حياة المسلم ( 1- 2 )
س1: كم مراتب دين الإسلام؟
مراتب الدين ثلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان.
س2: ما الإسلام، وكم أركانه؟
الإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، وأركانه خمسة ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) متفق عليه.
س3: ما الإيمان وكم أركانه؟ الإيمان هو: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِن الإيمَانِ) رواه مسلم، ولعلك تلحظ في نفسك نشاطاً في الطاعة بعد انقضاء مواسم الخيرات، وفتورا فيها بعد المعاصي، وما ذاك إلا بسبب زيادة الإيمان ونقصانه، قال - عز وجل -: "وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ "، وأركانه ستة، وهي في قوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكِتَابِهِ، وَلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ) [متفق عليه].
س4: ما معنى لا إله إلا الله؟
نفي استحقاق العبادة لغير الله، وإثباتها لله وحده - عز وجل -.
س5: أين الله؟
سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جارية فقال لها: أين الله؟ فقالت: في السماء (أي: في العلو) فقال النبي النبي - صلى الله عليه وسلم - لسيدها: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) رواه مسلم، فالله - عز وجل - في جهة العلو، وهو مستو على عرشه، ومعنى استوى: عَلا، وارتفع، قال - عز وجل -: ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?.
س6: هل الله معنا؟
نعم الله - عز وجل - معنا بعلمه وحفظه وإحاطته، ولكنه - عز وجل - في السماء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات، فهو عَلِيٌّ في دُنُوِهِ، وقريب في عُلُوهِ.
س7: هل يُرى الله بالعين؟
اتفقت الأمة على أن الله لا يُرى في الدنيا، وأن المؤمنين يَرون الله في المَحْشَر وفي الجنة، قال" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ".
س8: ما الفرق بين الأسماء والصفات لله - عز وجل -؟
هناك فروق أهمها: أولاً: أن الأسماء يشتق منها صفات: كـ(الرحمن) يشتق منها (الرحمة)، أما الصفات فلا يشتق منها أسماء: مثل صفة (الاستواء) فلا يقال من أسماء الله (المستوي)، ثانياً: أن أسماء الله لا تشتق من أفعاله، فمن أفعاله - عز وجل - (الغضب) فلا يقال من أسماء الله (الغاضب)، أما صفاته فإنها تشتق من أفعاله: فتثبت صفة (الغضب)؛ لأن من أفعال الله أنه يغضب، ثالثا: أن أسماء الله وصفاته تشترك في جواز(الاستعاذة)و(الحلف) بها، لكن تختلف في(التعبيد) وفي (الدعاء)، فيتعبد الله بأسمائه ولا يتعبد بصفاته، مثل: (عبد الكريم)، ولا يجوز (عبد الكرم)، كما أنه يُدعى الله - عز وجل - بأسمائه مثل: (يا كريم)، ولا يجوز (يا كرم الله).
س9: ما معنى الإيمان بالملائكة؟
هو الإقرار الجازم بوجودهم، وأنهم نوع من مخلوقات الله - عز وجل -: " بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ "، والإيمان بهم يتضمن أربعة أمور: (1) الإيمان بوجودهم. (2) الإيمان بمن علمنا اسمه منهم كجبريل. (3) الإيمان بما علمنا من صفاتهم. (4) الإيمان بما علمنا من وظائفهم التي اختصوا بها كمَلَك الموت.
س10: ما القرآن؟
القرآن هو كلام الله - عز وجل -، منه بدأ وإليه يعود، تَكَلَّمَ به الله - عز وجل - حقيقة بحرف وصوت، سمعه منه جبريل، ثم بَلَّغَه للنبي النبي - صلى الله عليه وسلم -، والكتب السماوية كلها كذلك.
س11: هل نستغني بالقرآن عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
لا يجوز الاستغناء بأحدهما عن الآخر بل السنة مفسرة للقرآن وزيادة عليه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ) رواه أحمد وأبو داود.
س12: ما معنى الإيمان بالرُّسُل؟
هو التصديق الجازم بأن الله بعث في كل أمة رسولاً منهم، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، والكفر بما يُعْبَد من دونه، وأن جميعهم صادقون مصدَّقُون راشدون كرام بررة أتقياء أمناء هداة مهتدون، وأنهم بلّغوا ما أرسلهم الله به.
س13: ما معنى الإيمان باليوم الآخر؟(234/1)
هو التصديق الجازم بإتيانه، ويدخل في ذلك الإيمان بالموت وما بعده من فتنة القبر وعذابه أو نعيمه، وبالنفخ في الصور، وقيام الناس لربهم، ونشر الصحف، ووضع الميزان، والصراط، والحوض، والشفاعة، ومن ثَمَّ إلى الجنة أو إلى النار.
س14: ما أنواع الشفاعة يوم القيامة؟
أعظمها الشفاعة العظمى: وهي في موقف القيامة بعدما يقف الناس خمسين ألف سنة ينتظرون أن يُقْضَي بينهم، فيشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يأتي الله - عز وجل - للفصل بين الناس، وهي خاصة بنبينا محمد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي المقام المحمود الذي وُعِدَ إياه. النوع الثاني: الشفاعة في استفتاح باب الجنة، وأول من يستفتح بابها نبينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأول من يدخلها من الأمم أمته. الثالث: الشفاعة في أقوام قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها. الرابع: الشفاعة فيمن دخل النار من عُصَاة الموحدين أن يُخْرَجوا منها. الخامس: الشفاعة في رفع درجات أقوام من أهل الجنة. وهذه الثلاث الأخيرة ليست خاصة بنبينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه هو المقدم فيها، ثم بعده الأنبياء والملائكة والأولياء والشهداء. السادس: الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ثم يخرج الله - عز وجل - برحمته من النار أقواماً بدون شفاعة لا يحصيهم إلا الله فيدخلهم الجنة. السابع: الشفاعة في تخفيف عذاب بعض الكفار، وهي خاصة لنبينا النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمه أبي طالب.
س15: هل نطلب الشفاعة من الأحياء؟
نعم، لكن فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا شريطة أن يكونوا حاضرين، قال - عز وجل -: " مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا) رواه البخاري.
س16: هل الجنة والنار موجودتان؟
لقد خلق الله الجنة والنار قبل خلق الناس، وهما لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، وخلق للجنة أهْلا بِفَضْلِه، وللنار أهْلاً بِعَدْلِه، وكل مُيَسَّر لما خلق له.
س17: ما معنى الإيمان بالقدر؟
هو التصديق الجازم أن كل خير أو شر إنما هو بقضاء الله وقدره، وأنه الفعال لما يريد، قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ، حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ). رواه أحمد وأبو داود.
الإيمان بالقدر يتضمن أموراً ثلاثة: الأول: الإيمان بأن الله عَلِمَ كل شيء جملة وتفصيلاً. الثاني: الإيمان بأن الله قد كتب ذلك في اللوح المحفوظ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) رواه مسلم. الثالث: الإيمان بمشيئة الله النافذة التي لا يردها شيء، وقدرته التي لا يعجزها شيء، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وبأن الله هو الموجد للأشياء كلها، وأن كل ما سواه مخلوق له.
س18: ما الإحسان؟
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إجابة لمن سأله عن الإحسان: (أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لا تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) متفق عليه، واللفظ لمسلم.
س19: ما شروط قبول العمل الصالح؟
له شروط: منها: (1) الإيمان بالله وتوحيده: فلا يقبل العمل من مشرك. (2) الإخلاص: بأن يُبْتَغَى بهذا العمل وجه الله - عز وجل -. (3) متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بأن يكون وفق ما جاء به: فلا يعبد الله إلا بما شرع، وإذا اختل شرط منها فالعمل مردود على صاحبه، قال - عز وجل -: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً " .
س20: إذا اختلفنا فإلى أي شيء نرجع؟
نرجع إلى الشرع الحنيف، والحكم في ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال الله - عز وجل -: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ) رواه أحمد.
س21: ما أقسام التوحيد؟(234/2)
هو أقسام ثلاثة: (1) توحيد الربوبية: وهو إفراد الله بأفعاله كالخلق والرزق..إلخ، وقد كان الكفار يقرون بهذا القسم قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم )2) توحيد الألوهية: وهو إفراد الله بأفعال العباد، كالصلاة والنذر.. إلخ، ومن أجل إفراد الله بالعبادة بعثت الرسل وأنزلت الكتب. (3) توحيد الأسماء والصفات: وهو إثبات ما أثبته الله ورسوله من الأسماء الحسنى والصفات العلى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
س22: من هو الوليُّ؟
هو المؤمن الصالح التَّقِيُّ، قال - عز وجل -: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) متفق عليه.
س23: ما الواجب علينا نحو أصحاب النبي؟
الواجب لهم علينا محبتهم والترضي عليهم، وسلامة قلوبنا وألسنتنا لهم، ونشر فضائلهم، والكف عن مساوئهم وما شجر بينهم، وهم غير معصومين من الخطأ، لكنهم مجتهدون؛ للمصيب منهم أجران، وللمخطئ أجر واحد على اجتهاده، وخطؤه مغفور، ولهم من الفضائل ما يذهب سيئ ما وقع منهم إن وقع، وهل يغير يسير النجاسة البحر إذا وقعت فيه؟! قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي)متفق عليه، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
س24: ما أقسام التوسل؟
التوسل قسمان: الأول: التوسل الجائز: وهو ثلاثة أنواع: (1) التوسل بأسماء الله وصفاته. (2) أن يتضرع إلى الله ببعض الأعمال الصالحة، كحبه للنبي النبي - صلى الله عليه وسلم - واتِّباعه له. (3) أن يَطْلب الإنسان من المسلم الحي الحاضر أن يدعو الله - عز وجل - له. القسم الثاني: التوسل المحرم: وهو على نوعين: (1) أن يسأل الله - عز وجل -بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الولي، كأن يقول: (اللهم إني أسألك بجاه نبيك، أو بجاه الحسين مثلاً)، صحيح أن جاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عظيم، وكذلك جاه الصالحين من عباد الله، ولكن الصحابة وهم أحرص الناس على الخير لما أجدبت الأرض لم يتوسلوا بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وجود قبره بينهم، وإنما توسلوا بدعاء عمه العباس.(2) أن يسأل العبد ربه حاجته مُقْسِماً بنبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بِوَليِّه، كأن يقول: (اللهم إني أسألك كذا بوَلَيِّك فلان، أو بحق نبيك فلان)؛ لأن القسم بالمخلوق على المخلوق ممنوع، وهو على الله أشد منعاً، ثم إنه لا حَقَّ للعبد على الله بمجرد طاعته له - عز وجل - حتى يُقْسِم به على الله.
س25: هل نبالغ في مدح الرسول عن القدر الذي أعطاه الله إياه؟
لاشك أن سيدنا محمداً النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف الخلق وأفضلهم، ولكن لا نزيد في مدحه، كما زاد النصارى في مدح عيسى ابن مريم، لأنه نهانا عن ذلك بقوله: (لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) رواه البخاري، والإطراء: هو المبالغة والزيادة في المدح.
س26: ما أنواع المحبة؟
هي أربعة أنواع: (1) محبة الله: وهي أصل الإيمان. (2) المحبة في الله: وهي موالاة المؤمنين وحبهم جُمْلة، وأما آحاد المسلمين فكلٌ يحب على قدر قربه من الله - عز وجل -. (3) محبة مع الله: وهي إشراك غير الله في المحبة الواجبة، كمحبة المشركين لآلهتهم وهي أصل الشرك. (4) محبة طبيعية: وهي على أقسام: (أ) محبة إجلال: كمحبة الوالدين. (ب) محبة شفقة: كمحبة الولد. (ج) محبة مشاكلة: كمحبة سائر الناس. (د) محبة فطرية: كمحبة الطعام.
س27: ما أنواع الخوف؟
هو أنواع أربعة: (1) خوف تأله وتعبد: وهو الركن الثاني الذي يقوم عليه الإيمان، حيث إن الإيمان يقوم على ركنين: كمال المحبة، وكمال الخوف. (2) خوف السر: وهو الخوف من غير الله؛ كالخوف من آلهة المشركين أن تصيبه بمكروه، وهو شرك أكبر. (3) ترك بعض الواجبات خوفاً من الناس: وهو محرم. (4) الخوف الطبيعي: كالخوف من السبع وغيره، وهو جائز.
س28: ما أنواع التوكل؟
هو ثلاثة أنواع: (1) التوكل على الله في جميع الأمور: من جلب المنافع ودفع المضار، وهو واجب. (2) التوكل على المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله: كالتُّوكل على الأموات، وهو شرك أكبر. (3) توكيل الإنسان غيره في فعل ما يقدر عليه: كالبيع والشراء، وهو جائز.
س29: ما أقسام الناس في الولاء والبراء؟
الناس في الولاء والبراء أقسام ثلاثة:(234/3)
(1) من يحب محبة خالصة لا معاداة معها: وهم المؤمنون الخُلَّص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وعلى رأسهم سيدنا محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجاته وأصحابه. (2) من يبغض بغضاً خالصاً لا محبة ولا موالاة معها: وهم الكفار كأهل الكتاب والمشركين، لكن لا ينافي ذلك العدل معهم. (3) من يحب من وجه ويبغض من وجه آخر: وهم عصاة المؤمنين؛ فيحب لما عنده من إيمان، ويبغض لما عنده من معاص، وعلى قدر زيادة أحدهما على الآخر يزيد الولاء والبراء، ومن علامات موالاة الكفار: مناصرتهم ومعاونتهم على المسلمين، ومشاركتهم في أعيادهم أو تهنئتهم بها، أو مدح ما هم عليه، وأما علامات موالاة المؤمنين: فمنها الهجرة إلى بلاد الإسلام عند الاستطاعة، ومعاونة المسلمين ومناصرتهم بالنفس والمال، والتألم والسرور لما يقع بهم، ومحبة الخير لهم.
س30:ما أول شيء خلقه الله؟
لا يقال أول ما خلق الله هو كذا مطلقاً، لأن معناها أن الله قبل أن يخلق هذا الشيء كان معطلاً عن صفة الخلق ثم اتصف بها بعد ذلك، وهذا غير صحيح، بل صفة الخلق صفة فعلية قديمة وأزلية بقدم الله ، والعرش سابق للقلم في الخلق.
http://islamroad.jeeran.com المصدر:(234/4)
أسئلة وأجوبة
إحسان بن محمد العتيبي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
السؤال الأول:
هل يجب عند تفسير ما لم يرد في تفسيره نص التزام ما ورد عن السلف وعدم الزيادة عليه أو الإتيان بأمرٍ جديد، خاصةً على ضوء المكتشفات الجديدة وهل يصح أن نقول خواطر في التفسير؟
الجواب:
أ.يحسنُ أن يكون الجواب عن هذا السؤال عامّاً، فيكون عنه وعن غيره مما قد يرد في ذهن القارئ، فأقول: يجب أن نعرف أن أحسن ما يفسَّر به القرآن أولاً -: القرآن نفسه، فما يكون قد جاء مجملاً في آية فبينته آية أخرى، وما يكون عامّاً في آية فخصصته آية أخرى، … - وهكذا -: فإنه لا أحسن من تفسير هذا بهذا. ومن لم يجد تفسير ما أراد في القرآن ووجده في السنة: فلا ينبغي أن يقدِّم عليها شيئاً. فإن لم يجد في الكتاب والسنة بغيته في تفسير الآية: فعليه بآثار السلف وعلى رأسهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومما لا شكَّ فيه أن أقوال الصحابة أقرب إلى الصواب من أقوال من بعدهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن؛ فما أُجمل في مكانٍ فإنه قد فُسر في موضع آخر وما اختصر من مكان فقد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنَّة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له؛ بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن قال الله - تعالى -: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً} وقال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} وقال - تعالى -: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " يعني: السنَّة. والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن؛ لا أنها تتلى كما يتلى وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك. والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه فإن لم تجده فمن السنة … وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها؛ ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح؛ لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، مثل عبد الله بن مسعود … ومنهم الحبر البحر " عبد الله بن عباس " ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له حيث قال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "....
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين " كمجاهد بن جبر " فإنه كان آية في التفسير كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها …
وكسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن المسيب وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافا فيحكيها أقوالا وليس كذلك فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره ومنهم من ينص على الشيء بعينه والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي.
وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم وهذا صحيح أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك. " مجموع الفتاوى " (13 / 364 371) بتصرف.
ب. وأما بالنسبة لأقوال السلف في تفسير الآية: فما اتفق عليه السلف: فلا ينبغي الخروج عنه، وما اختلفوا فيه: فليس قول واحد حجة دون الآخر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: فما ثبت عنه من السنة فعلينا اتباعه؛ سواء قيل إنه في القرآن؛ ولم نفهمه نحن أو قيل ليس في القرآن؛ كما أن ما اتفق عليه السابقون الأولون والذين اتبعوهم بإحسان؛ فعلينا أن نتبعهم فيه؛ سواء قيل إنه كان منصوصا في السنة ولم يبلغنا ذلك أو قيل إنه مما استنبطوه واستخرجوه باجتهادهم من الكتاب والسنة. " مجموع الفتاوى " (5 / 164).(235/1)
ج. و أما بالنسبة للمكتشفات الجديدة: فإني أقول: لا يمكن لأحدٍ أن يدَّعي أن تفسير آية من كتاب الله ظل غائباً عن القرون السابقة ولم يُعرف إلا هذه الأيام! لأن في ذلك اتهاماً للرب - تعالى- أنه يبيِّن للناس ما قاله لهم خبراً أو أمراً أو نهياً، واتهاماً للقرآن أنه ليس كتاب هداية ولا بياناً للناس! والصواب في هذا: أن ما يُكتشف من المحدثات مما لا يخالف ظاهر الكتاب - لا يعدو أن يكون توضيحا لما قاله سلف الأمة أو يكون توكيداً لما سبق بيانه ولكنه على ضوء المخترعات الحديثة وبتفصيل علمي يتناسب مع هذا الزمان.
ومن قطع النظر عن تفسير السلف واخترع قولاً له في تفسير الآية فإنه حتماً سيقع في الخطأ، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما قاله بعض المعاصرين على قوله - تعالى -: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس / 92]، فقد نشر بعض الكتَّاب قريباً في " الساحات " صورة " فرعون " واستدلَّ بالآية على ذلك! و{ننجيك} من " النجو " وهو الارتفاع، وفرعون جعله الله - تعالى -آية في طفوه على سطح البحر بعد موته وهي الآية لقيام الساعة في كل ميت يموت، ولو كان المقصود بقاء جثة فرعون فليس هناك ما يدل على أنها ستبقى إلى قيام الساعة، بل من الممكن أن تيقى حتى يراها بنو إسرائيل ليتأكدوا من موته. ولو كانت جثة فرعون هي المقصودة وأنها ستبقى إلى قيام الساعة: لسهل على المشركين المطالبة بهذه الآية!! والحال نفسه في سفينة نوح حيث جعلها الله آية في طفوها على سطح البحر. قال - تعالى -: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر / 15] وليس المقصود بترك الآية هنا أنها موجودة بنفسها كما يزعم الرافضة أنها موجودة في روسيا! وأنهم وجدوا عليها " علي " " فاطمة " " الحسن " " الحسين "!! - بل المقصود بالآية هنا: كونها تطفو بضخامتها وعظمها على سطح البحر، كما قال - تعالى -: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس / 41، 42].
هذا بالنسبة للمكتشفات التي لا تخالف الشرع، أما تلك التي تخالف الشرع ويلوي أصحابها أعناق النصوص لتتوافق مع النظريات والوهميات ويسمونها هم قطعيات فهذا لا يجوز التعويل عليه ولا الأخذ به، بل يجب التحذير منه.
سئلت اللجنة الدائمة: ما حكم الشرع في التفاسير التي تسمى بـ " التفاسير العلمية "؟ وما مدى مشروعية ربط آيات القرآن ببعض الأمور العلميَّة التجريبيَّة؟ فقد كثر الجدل حول هذه المسائل؟
فأجابت: إذا كانت من جنس التفاسير التي تفسِّر قوله - تعالى -{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء / 30]، بأن الأرض كانت متصلة بالشمس وجزءًا منها، ومن شدة دوران الشمس انفصلت عنها الأرض، ثم برد سطحها وبقي جوفها حارّاً، وصارت من الكواكب التي تدور حول الشمس. إذا كانت التفاسير التي يستدل مؤلفوها بقوله - تعالى -{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل / 88] على دوران الأرض، وذلك أن هذه التفاسير تحرِّف الكلِم عن مواضعه، وتُخضع القرآن الكريم لما يسمونه نظريات علميَّة، وإنما هي ظنيَّات أو وهميَّات وخيالات. وهكذا جميع التفاسير التي تعتمد على آراء جديدة ليس لها أصل في الكتاب والسنَّة ولا في كلام سلف الأمَّة؛ لما فيها من القول على الله بغير علم. الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود " فتاوى اللجنة الدائمة " (4 / 180، 181).(235/2)
د. وأما بالنسبة للخواطر والفوائد المستنبطة من الآيات فهي من فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد يستنبط طالب العلم ما لا يستنبطه العالم من الفوائد، وقد يستنبط العالم ما لا يستنبطه عالِم آخر، وهذا بحسب توفيق الله لكل واحد منهما وما وهبه الله لكل واحد منهما من الأدوات، لكنهم في كل الأحوال لا يخرجون عن المعنى الصحيح للآية ولا يقولون بما لم يقله الأوائل من معنى الآية، كما يفعله الباطنية الذين الباطنية يفسرون: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} أنه علي، ويفسرون قوله - تعالى -: {تبت يدا أبي لهب وتب} بأنهما أبو بكر وعمر، وقوله: {فقاتلوا أئمة الكفر} أنهم طلحة والزبير، و {والشجرة الملعونة في القرآن} بأنها بنو أمية. وأما باطنية الصوفية فيقولون في قوله - تعالى -: {اذهب إلى فرعون} إنه القلب، و {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} إنها النفس، ويقول أولئك: هي عائشة ويفسرون هم والفلاسفة تكليم موسى بما يفيض عليه من العقل الفعال أو غيره، ويجعلون (خلع النعلين): ترك الدنيا والآخرة، ويفسرون (الشجرة التي كلم منها موسى) و (الوادي المقدس) ونحو ذلك بأحوال تعرض للقلب عند حصول المعارف له.
قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر الأمثلة السابقة -: وهؤلاء المتأخرون - مع ضلالهم وجهلهم - يدعون أنهم أعلم وأعرف من سلف الأمة ومتقدميها. " مجموع الفتاوى " (13 / 240).
وقال: وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام. " مجموع الفتاوى " (13 / 244).
وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - أقسام مثل هذه الفوائد والإشارات في الآيات، فقال:
وجماع القول في ذلك أن هذا الباب نوعان:
أحدهما: أن يكون المعنى المذكور باطلا؛ لكونه مخالفاً لما علم، فهذا هو في نفسه باطل فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا؛ لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي أنه حق.
والثاني: ما كان في نفسه حقّاً لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك، فهذا الذي يسمونه " إشارات " و " حقائق التفسير " لأبي عبد الرحمن أي: السلمي - فيه من هذا الباب شيء كثير.
وأما النوع الأول: فيوجد كثيراً في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم فإن من علم أن السابقين الأولين قد - رضي الله عنهم - ورضوا عنه علم أن كل ما يذكرونه على خلاف ذلك فهو باطل، ومن أقر بوجوب الصلوات الخمس على كل أحد ما دام عقله حاضراً علم أن من تأول نصّاً على سقوط ذلك من بعضهم فقد افترى، ومن علم أن الخمر والفواحش محرمة على كل أحد ما دام عقله حاضراً علم أن من تأول نصا يقتضي تحليل ذلك لبعض الناس أنه مفتر.
وأما النوع الثاني: فهو الذي يشتبه كثيراً على بعض الناس فإن المعنى يكون صحيحاً لدلالة الكتاب والسنة عليه، ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دل عليه، وهذان قسمان:
أحدهما: أن يقال: إن ذلك المعنى مراد باللفظ، فهذا افتراء على الله، فمن قال المراد بقوله: {تذبحوا بقرة} هي النفس، وبقوله {اذهب إلى فرعون} هو القلب، {والذين معه} أبو بكر، {أشداء على الكفار} عمر، {رحماء بينهم} عثمان، {تراهم ركَّعاً سجَّداً} علي: فقد كذب على الله إما متعمِّداً وإما مخطئاً.
والقسم الثاني: أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس، لا من باب دلالة اللفظ: فهذا من نوع القياس، فالذي تسمِّيه الفقهاء قياساً هو الذي تسمِّيه الصوفية إشارة، وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل كانقسام القياس إلى ذلك:
فمن سمع قول الله - تعالى -: {لا يمسه إلا المطهرون} وقال: إنه اللوح المحفوظ أو المصحف فقال: كما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة وهي قلوب المتقين كان هذا معنى صحيحاً واعتباراً صحيحاً، ولهذا يروى هذا عن طائفة من السلف. قال - تعالى -: {الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} وقال: {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} وقال: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} وأمثال ذلك.
وكذلك من قال: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا جنب " فاعتبر بذلك أن القلب لا يدخله حقائق الإيمان إذا كان فيه ما ينجسه من الكبر والحسد فقد أصاب قال - تعالى -: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم}، وقال - تعالى -: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا} وأمثال ذلك. " مجموع الفتاوى " (13 / 241 243).
والله أعلم
السؤال الثاني:
هل ما يحكيه الله في قصص القرآن على لسان أحد المذكورين فيها هو باللفظ أو بالمعنى؟
الجواب:(235/3)
ما يحكيه الله - تعالى -على لسان أحد المذكورين من الأمم السابقة إنما هو بمعناه لا بلفظه، وذلك لأسباب كثيرة، منها:
أ. أن لغات الأمم السابقة لم يكن أكثرها عربية، والقرآن تكلم الله - تعالى -به بالعربية وهكذا أُنزل، ومن المستحيل أن يكون نقل الكلام - لمن لا يتكلم بالعربية باللفظ العربي.
ب. تعدد الألفاظ في القصة الواحدة، فمرة مثلاً يقول: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف / 111]، ومرة أخرى في القصة نفسها - يقول: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء / 36].
ت. لو كان ما ذكره الله - تعالى -هو لفظهم لما كان الإعجاز في كلام الله بل في لفظهم، ويتجلى الإعجاز في مثل ما ذكره الله - تعالى -باللفظ المعجز من كلامه هو - سبحانه -، مع ملاحظة أن القرآن هو كلام الله، ولو كان المنقول هو كلامهم لفظاً وعنى لما صحَّ أن يقال إنه " كلام الله "!
قالت اللجنة الدائمة: الكلام يطلق على اللفظ والمعنى، ويطلق على كل واحد منهما وحده بقرينة، وناقله عمن تكلم به من غير تحريف لمعناه ولا تغيير لحروفه ونظمه مخبر مبلغ فقط، والكلام إنما هو لمن بدأه، أما إن غيَّر حروفه ونظمه مع المحافظة على معناه: فينسب إليه اللفظ حروفه ومعناه، وينسب من جهة معناه إلى من تكلم به ابتداءً، ومن ذلك ما أخبر الله به عن الأمم الماضية، كقوله - تعالى -: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر / 27]، وقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} [غافر / 36]، فهاتان تسميان قرآناً، وتنسبان إلى الله كلاماً له باعتبار حروفهما ونظمهما؛ لأنهما من الله لا من كلام موسى وفرعون؛ لأن النظم والحروف ليس منهما، وتنسبان إلى موسى وفرعون باعتبار المعنى، فإنه كان واقعاً منهما، وهذا وذاك قد علمهما الله في الأزل وأمر بكتابتهما في اللوح المحفوظ، ثم وقع القول من موسى وفرعون بلغتهما طبق ما كان في اللوح المحفوظ، ثم تكلم الله بذلك بحروف أخرى ونظم آخر في زمن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فنسب إلى كلٍّ منهما باعتبار. الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن قعود " فتاوى اللجنة الدائمة " (4 / 6، 7).
والله أعلم
السؤال الثالث:
هل قوله - تعالى -{ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة} قد تحقق فيما مضى أو لا؟
الجواب:
لا يمكن لمفسِّر أن يبيِّن ما أجمله الله - تعالى -إلا بنص من القرآن أو بنص من السنَّة، وهذا ما ليس موجوداً هنا، إذ يستحيل الجزم بمعرفة الإفساد الأول والثاني وأهلهما دون أن يكون ذلك عن طريق الوحي؛ لأن هذا من الغيب، وهو ما لم يبينه لنا نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وليس في بيانه أي فائدة تذكر، فالاشتغال فيه نوع من تضييع الأوقات والبعد عن معاني القرآن وخاصة هنا وهو أن سبب الهلاك إنما هو الفساد والإفساد!
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: واختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المسلطين، إلا أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار، إما من أهل العراق أو الجزيرة أو غيرها: سلَّطهم الله على بني إسرائيل لما كثرت فيهم المعاصي وتركوا كثيراً من شريعتهم وطغوا في البلاد. " تفسير السعدي " (ص 405).
قال ابن كثير: وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلَّطين عليهم من هم؟ فعن ابن عباس وقتادة: أنه جالوت الجزري وجنوده … وعن سعيد بن جبير: أنه ملك الموصل سنْحاريب وجنوده، وعنه أيضاً وعن غيره: أنه بختنصر ملك بابل.
وقال: وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ونحن في غنية عنها ولله الحمد وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء. " تفسير ابن كثير " (3 / 26).
وقد سئلت اللجنة الدائمة عن قوله - تعالى -{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء / 5] هل هي خاصة بالمؤمنين أم هي عامة؟ وهل وقعت أم لم تقع؟ فأجابوا بظاهر الآية ولم يجزموا بمعنى لم تنص عليه الآية، وأحالوا على " تفسير ابن كثير ". انظر " فتاوى اللجنة الدائمة " (4 / 246، 247). وما قاله علماء اللجنة خير من كثير من كلام بعض المعاصرين الذين تكلفوا القول في تأويل الآية وحملها جزماً! على معانٍ يحتاج معها صاحبها لوحي!
والله أعلم
السؤال الرابع:(235/4)
هل ورد في الحديث أن الطائفة المنصورة بأكناف بيت المقدس، وما صحة الحديث بشأن المهدي وفيه: " لا خير في الحياة بعده "؟
الجواب:
أ. الحديث رواه الإمام أحمد (21816) من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -. ولفظه: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ".
قال الشيخ الألباني: هذا سند ضعيف لجهالة عمرو بن عبد الله الحضرمي … ولحديث أبي أمامة شاهد بنحوه رواه الطبراني (20 / 317 / 754) عن مرة البهزي … " السلسلة الصحيحة " (4 / ص 599، 600).
قلت: ونص الحديث عند الطبراني: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم وهم كالإناء بين الأكلة حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، قلنا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: بأكناف بيت المقدس ".
قلت: والصواب أن حديث الطبراني لا يصلح شاهداً لحديث أبي أمامة؛ وذلك لأن في الحديث مجاهيل لا يعرف حالهم، ومثل هذا السند لا يصلح في الشواهد؛ فقد يكون أحدهم متروكاً أو وضَّاعاً. قال الهيثمي عن حديث مرة البهزي -: وفيه جماعة لم أعرفهم. " مجمع الزوائد " (7 / 289). وتعقبُّ شيخنا الألباني على الهيثمي متعقَّب في الجملة. والله أعلم
قلت: لكن ورد أن الطائفة المنصورة في الشام، وبيت المقدس جزء من الشام، وهو يغني عن الحديث الضعيف الذي يخصصها في " بيت المقدس ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإذا كان كذلك: فدين الإسلام بالشام في هذه الأوقات وشرائعه أظهر منه بغيره، هذا أمر معلوم بالحس والعقل وهو كالمتفق عليه بين المسلمين العقلاء الذين أوتوا العلم والإيمان وقد دلت النصوص على ذلك: مثل ما روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم " وفي سننه أيضا عن عبد الله بن خولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنكم ستجندون أجنادا: جندا بالشام وجندا باليمن وجندا بالعراق فقال ابن خولة: يا رسول الله اختر لي فقال: عليك بالشام؛ فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من خلقه فمن أبى فليلحق بيمنه وليتق من غدره فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله "، وكان الخوالي يقول: من تكفل الله به فلا ضيعة عليه، وهذان نصان في تفضيل الشام، وفي مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة " قال الإمام أحمد: أهل المغرب هم أهل الشام وهو كما قال؛ فإن هذه لغة أهل المدينة النبوية في ذاك الزمان كانوا يسمون أهل نجد والعراق أهل المشرق ويسمون أهل الشام أهل المغرب؛ لأن التغريب والتشريق من الأمور النسبية فكل مكان له غرب وشرق؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بذلك في المدينة النبوية فما تغرب عنها فهو غربة وما تشرق عنها فهو شرقة، ومن علم حساب البلاد - أطوالها وعروضها - علم أن المعاقل التي بشاطئ الفرات - كالبيرة ونحوها - هي محاذية للمدينة النبوية كما أن ما شرق عنها بنحو من مسافة القصر كحران وما سامتها مثل الرقة وسميساط فإنه محاذ أم القرى مكة - شرفها الله - ولهذا كانت قبلته هو أعدل القبل فما شرق عما حاذى المدينة النبوية فهو شرقها وما يغرب ذلك فهو غربها، وفي الكتب المعتمد عليها مثل " مسند أحمد " وغيره عدة آثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأصل: مثل وصفه أهل الشام " بأنه لا يغلب منافقوهم مؤمنيهم "، وقوله " رأيت كأن عمود الكتاب - وفي رواية - عمود الإسلام أخذ من تحت رأسي فأتبعته نظري فذهب به إلى الشام " وعمود الكتاب والإسلام ما يعتمد عليه وهم حملته القائمون به، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " عقر دار المؤمنين الشام " ومثل ما في الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة "، وفيهما أيضا عن معاذ بن جبل قال: " وهم بالشام " وفي تاريخ البخاري قال: " وهم بدمشق " وروي: " وهم بأكناف بيت المقدس " وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أنه أخبر أن ملائكة الرحمن مظلة أجنحتها بالشام " والآثار في هذا المعنى متعاضدة ولكن الجواب - ليس على البديهة - على عجل. " مجموع الفتاوى " (27 / 42 44).
ونلاحظ استعمال شيخ الإسلام للفظة " روي " عند ذكر الحديث وهو مما يدل على ضعفها عنده أو على عدم الجزم بصحتها على الأقل، وإن كان لم يستعمل مثل هذه اللفظة في موضع آخر وهو " مجموع الفتاوى " (28 / 533). والله أعلم(235/5)
ب. أما حديث " لا خير في الحياة بعده " الوارد في المهدي: فقد رواه الإمام أحمد (10933) و (11092) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بلفظ: " أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم المال صحاحا، فقال له رجل: ما صحاحا؟ قال: بالسوية بين الناس، قال: ويملأ الله قلوب أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - غنى ويسعهم عدله حتى يأمر مناديا فينادي فيقول: من له في مال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل فيقول: ائت السدان يعني: الخازن فقل له: إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالا، فيقول له: احث، حتى إذا جعله في حجره وأبرزه ندم فيقول: كنت أجشع أمة محمد نفساً أو عجز عني ما وسعهم، قال: فيرده فلا يقبل منه، فيقال له: إنا لا نأخذ شيئا أعطيناه فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين، ثم لا خير في العيش بعده أو قال: ثم لا خير في الحياة بعده -. وفيه العلاء بن بشير المزني، قال علي بن المديني: مجهول، كما في " ميزان الاعتدال " (5 / 120). وضعفه شعيب الأرناؤط في " مسند أحمد " (17 / 427).
والله أعلم
السؤال الخامس:
هل وسائل الدعوة وطرقها توقيفية، وهل حديث " من كان على ما أنا عليه وأصحابي " شامل لجميع الأمور، وما المراد بسنة الخلفاء الراشدين؟
الجواب:
أ. أمر الله - تعالى -بالدعوة إليه، والدعوة إلى الله عبادة شرفٌ شرَّف الله بها هذه الأمة، قال - تعالى -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران / 110]. والأصل في الوسائل التي تُسلك في الدعوة إلى الله الإباحة وليس التحريم والمنع؛ والمهم في هذه الوسائل أن لا يقع صاحبها في بدعة أو أمرٍ محرَّم. ونحن نرى علماءنا في هذا الزمان يستعملون الوسائل المتاحة لتبليغ دين الله - تعالى -للناس، فهم يدعمون الجمعيات التي ترعى الأيتام وتوزع الكتيبات وتدعو إلى الله، ونراهم يفرِّغون الدعاة، ولأكثرهم مواقع في الإنترنت، هذا عدا عن تأليف الكتب وتوزيع الأشرطة سواء كانت منهم مباشرة أو بإقرارهم وكل هذه الوسائل لم تكن موجودةً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يمكن أن تكون بدعة. وفي ظني أنه إذا أراد الذي يقول بأنها توقيفية أنه ينبغي أن تكون شرعية ولا يكون فيها بدعة أو حرام، ومن يقول إنها اجتهادية أراد أنه يجوز أن يَسلك طرقاً لم تكن موجودة في زمان النبي صلى الله عليه لكنها لا توقع صاحبها في الحرام: لكان هذا قاطعاً للخلاف الذي نسمعه ونراه.
وهذه نخبة من فتاوى الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في هذه المسألة:
السؤال:
هل تعتبر وسائل الدعوة إلى الله - عز وجل - وسائل توقيفية؟ بمعنى أنه لا يجوز الاستفادة من الوسائل الحديثة في الدعوة، كوسائل الإعلام وغيرها، وإنما ينبغي الاقتصار على الوسائل التي استخدمت في عهد الرسول، - صلى الله عليه وسلم -؟
الجواب:
يجب أن نعرف قاعدة وهي أن الوسائل بحسب المقاصد كما هو مقرر عند أهل العلم أن الوسيلة لها أحكام المقصد ما لم تكن هذه الوسيلة محرمة، فإن كانت محرمة فلا خير فيها. وأما إذا كانت مباحة وكانت توصِل إلى ثمرة مقصودة شرعا، فإنه لا بأس بها، ولكن لا يعني ذلك أن نعدل عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما فيهما من مواعظ، إلى ما نرى أنه وسيلة في الدعوة إلى الله، وقد نرى أن هذا وسيلة، ويرى غيرنا أنه ليس بوسيلة، ولهذا ينبغي للإنسان في الدعوة إلى الله أن يستعمل الوسيلة التي يتفق الناس عليها حتى لا تخدش دعوته إلى الله بما فيه الخلاف بين الناس. ولكن يجب أن نعلم الفرق بين التأليف وبين الدعوة.. فقد يكون من المصلحة أن نؤلف الشباب الذين ينضمون إلى الدعوة بعد دعوتهم إلى الكتاب والسنة بأشياء من الأمور المباحة التي لا تضرنا في الدين ولا تضر الدعوة تأليفا لهم ولئلا ينفروا لو رأوا الأمر كله جدّاً. " فتاوى إسلاميَّة " (4 / 295، 296).
السؤال:
إن مما وقع فيه الخلاف بين الدعاة إلى الله - عز وجل - أمر وسائل الدعوة، فمنهم من يجعلها عبادة توقيفية، وبالتالي ينكر على من يقيمون الأنشطة المتنوعة الثقافيَّة أو الرياضيَّة أو المسرحيَّة كوسائل لجذب الشباب ودعوتهم..، ومنهم من يرى أن الوسائل تتجدد بتجدد الزمان، وللدعاة أن يستخدموا كل وسيلة مباحة في الدعوة إلى الله - عز وجل -، نرجو من فضيلتكم بيان الصواب في ذلك؟.
الجواب:(235/6)
الحمد لله رب العالمين، لا شك أن الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى - عبادة، كما أمر الله بها في قوله {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل / 125]، والإنسان الداعي إلى الله يَشعر وهو ويدعو إلى الله - عز وجل - أنه ممتثل لأمر الله متقرب إليه به. ولا شك أيضاً أن أحسن ما يدعى به كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كتاب الله - سبحانه - هو أعظم واعظ للبشرية، {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} [يونس / 57]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك يقول أبلغ الأقوال موعظة، فقد كان يعظ أصحابه أحيانا موعظة يصفونها بأنها وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون. فإذا تمكن الإنسان من أن تكون موعظته بهذه الوسيلة: فلا شك أن هذا خير وسيلة، وإذا رأى أن يضيف إلى ذلك أحياناً - وسائل مما أباحه الله: فلا بأس بهذا، ولكن بشرط أن لا تشتمل هذه الوسائل على شيء محرم كالكذب أو تمثيل دور الكافر مثلاً - في التمثيليات، أو تمثيل الصحابة - رضي الله عنهم - أو الأئمة.. أئمة المسلمين من بعد الصحابة، أو ما أشبه ذلك مما يخشى منه أن يزدري أحدٌ من الناس هؤلاء الأئمة الفضلاء. ومنها أيضاً: ألا تشتمل التمثيلية على تشبه رجل بامرأة أو العكس؛ لأن هذا مما ثبت فيه اللعن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء. المهم أنه إذا أخذ بشيءٍ من هذه الوسائل أحياناً من أجل التأليف، ولم يشتمل هذا على شيءٍ محرم: فلا أرى به بأسا، أما الإكثار منها وجعلها هي الوسيلة للدعوة إلى الله، والإعراض عن الدعوة بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بحيث لا يتأثر المدعو إلا بهذه الوسائل: فلا أرى ذلك، بل أرى أنه محرم؛ لأن توجيه الناس إلى غير الكتاب والسنة فيما يتعلق بالدعوة إلى الله أمر منكر، لكن فعل ذلك أحياناً لا أرى فيه بأساً إذا لم يشتمل على شيءٍ محرَّم. " فتاوى إسلاميَّة " (4 / 292، 293).
وقال الشيخ ابن عثيمين: والوسائل ليس لها حد شرعي، فكل ما أدى إلى المقصود فهو مقصود، ما لم بكن منهيا عنه بعينه، فإن كان منهيا عنه بعينه فلا نقربه، فلو قال: أنا أريد أن أدعو شخصا بالغناء والموسيقى لأنه يطرب لها ويستأنس بها وربما يكون هذا جذبا له فأدعوه بالموسيقى والغناء هل نبيح له ذلك؟ لا، لا يجوز أبدا، لكن إذا كانت وسيلة لم ينه عنها ولها أثر فهذه لا بأس بها، فالوسائل غير المقاصد وليس من اللازم أن ينص الشرع على كل وسيلة بعينها يقول هذه جائزة وهذه غير جائزة، لأن الوسائل لا حصر لها، ولا حدَّ لها، فكل ما كان وسيلة لخير فهو خير. " لقاء الباب المفتوح " (رقم 15 ص 49).
ب. أما حديث " من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي ": فالمراد به ابتداءً اعتقادهم؛ وذلك لأنها جملة بيان تعصم صاحبها والعامل بها من الوقوع في التفرق العقيدي الذي يحصل لهذه الأمة وهو الذي جاء ذكره صريحاً في أول الحديث وفيه بيان افتراق هذه الأمة إلى (73) فرقة كلها في النار إلا واحدة. لكن لا يمكن أن يكون المسلم على اعتقاد الصحابة إلا بأن يسلك سبيلهم في الاستدلال وتعظيم السنة وعدم تقديم شيء عليها. ومن معاني هذه الكلمة - أيضاً -: الاجتماع على الكتاب والسنة ولذا جاء الجملة في رواية أخرى بلفظ " هي الجماعة ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ذاكراً الحديث تامّاً، وشارحاً له -: الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند؛ كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم ولفظه " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة " وفي لفظ " على ثلاث وسبعين ملَّة "، وفي رواية " قالوا: يا رسول الله من الفرقة الناجية؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " وفي رواية قال " هي الجماعة، يد الله على الجماعة "، ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنَّها أهل السنَّة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم، وأما الفرق الباقية فإنَّهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، ولا تبلغ الفِرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفِرقة الناجية فضلا عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة، وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنَّة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة. " مجموع الفتاوى " (3 / 346، 347).
ومن نظر إلى الفرق الضالة والمنحرفة فإنه لا يجرؤ أن يقول إن الصحابة كان واحد منهم على قوله، ولك أن تنظر في اعتقاد الخوارج والمرجئة والقدريَّة والأشعريَّة فضلاً عن الفِرق الخارجة عن الإسلام كالجهميَّة والرافضة!(235/7)
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: … فتبيَّن بهذه الأحاديث أن الفِرقة الناجية من الثلاث والسبعين هي التي تمسكت بكتاب الله، وأخلصوا العبادة، واتبعوا رسوله، فإن أصل دين الإسلام أن لا يعبدوا إلا الله، وأن لا يُعبد إلا بما شرع. " مجموعة الرسائل والمسائل " (2 / 74) بواسطة كتاب " حديث افتراق الأمة " للصنعاني.
وإن كان الأصل والأكمل أن يكون المسلم على ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى في عبادتهم وعلاقتهم مع ربهم - تعالى -وكذا أخلاقهم، ولهذا لا نعجب أن يذكر مثل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في آخر " العقيدة الواسطية " أخلاق أهل السنة والجماعة!
ت. وأما المراد بـ " سنَّة الخلفاء الراشدين " فهو: ما وافق كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أقوالهم وأفعالهم، دون ما كان من اجتهادات بعضهم وخالفه فيه غيره، ودون ما دلَّ الشرع على خطئه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقول الصحابي، وفعله إذا خالفه نظيره: ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟. " اقتضاء الصراط المستقيم " (ص 390).
ومما يدل على ذلك أي: أنَّها سنَّة واحدة هو قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث " عضوا عليها بالنواجذ " ولم يقل " عليهما " وهذا يدل على أنها " سنَّة واحدة "، وكذا قوله " الخلفاء الراشدين " وهو يوحي باتفاقهم، وهو الذي يسمى " إجماعاً " سواء أكان على فهم آية أو حديث أو على فعلٍ من أحدهم ووافقه عليه جميعهم كقتال المرتدين ومانعي الزكاة، وجمع المصحف وما أشبههما.
والله أعلم .
http://saaid.net المصدر :(235/8)
________________________________________
أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة
رئيسي :أحوال العالم الإسلامي :الخميس21 ربيع الآخر 1425هـ - 10يونيو 2004 م
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، أما بعد،،،
فقد أرشد الله إلى تتبع المجرمين، والنظر في طرقهم في هدم هذا الدين، فقال سبحانه:{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ[55]}[سورة الأنعام]. وأمر الله نبيه أن يجاهد المنافقين، فقال:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ...[73]}[سورة التوبة]. وقد فضح الله المنافقين في سور كثيرة: في سورة البقرة، وسورة النساء، وفي سورة التوبة التي سميت بالفاضحة، حتى قال بعض الصحابة:'ما زالت سورة التوبة تنزل: {وَمِنْهُمْ...}[سورة التوبة:الآيات:49،58،61،75] حتى ظننا أنها لا تبقي أحداً' .
وفي سورة الأحزاب بيان عن مواقفهم وقت الشدائد، وسمّى الله سورة في كتابه الكريم عن هذه الفئة، وهذه الفئة مهما تخفت فإن الله يظهر ما تضغنه صدورهم، وما تبطنه قلوبهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ[29]وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ[30]}[سورة محمد]. فهي فئة مفضوحة، يفضحها الله، ويظهر خباياها ليعرفها الناس، ولا ينخدعوا بها، وكل إناء بما فيه ينضح .
والتعرف على هذه الفئة، وعلى أساليبها وطرقها في محاربة الأمة، ومحاولتها تقويض دعائم الإسلام يعد من الأهمية بمكان، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:' إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية' . فيظهر أهل الجاهلية من أجل تقويض عرى الإسلام، فلا يقبل منهم أهل الإسلام ذلك؛ لمعرفتهم بهم وبجاهليتهم .
من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كل بدعي أتى بالعجائب
ولو رجال مؤمنون لهدمت صوامع دين الله من كل جانب
ولهذا كان لابد من دراسة أساليب الفئة العلمانية في تغريب الأمة كلها، والمرأة بوجه خاص؛ لنبتعد عن هذا الشر الذي ينذر كارثة عظيمة على الأمة المحمدية، ولابد أيضاً أن يعلم كل مسلم أن الفئة العلمانية هي الخطر الأكبر المحدق بهذه الأمة، وهو يعمل على تغريب هذه الأمة، وإبعادها عن دينها .
لماذا التركيز على المرأة من قبل الغرب، وأتباعه المستغربين، العلمانيين؟
ذلك لأنهم فطنوا لمكانة المرأة ودورها في صنع الأمة، وتأثيرها على المجتمع؛ ولذلك أيقنوا أنهم متى ما أفسدوا المرأة، ونجحوا في تغريبها وتضليلها، فحينئذ تهون عليهم حصون الإسلام، بل يدخلونها مستسلمة بدون أدنى مقاومة. يقول شياطين اليهود في 'بروتوكولاتهم':'علينا أن نكسب المرأة، ففي أي يوم مدت إلينا يدها ربحنا القضية'.
وقال آخر من ألد أعداء الإسلام:' كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات' .وهذا صحيح؛ فإن الرجل الواحد إذا نزل في خندق وأخذ يقاوم بسلاحه يصعب اقتحام الخندق عليه حتى يموت، فما بالك بأمة تدافع عن نفسها، فإذا هي غرقت في الشهوات، ومالت عن دينها، وعن طريق عزها؛ استسلمت للعدو بدون أي مقاومة بل بترحيب وتصفيق حار .
ويقول صاحب كتاب تربية المرأة والحجاب:' إنه لم يبق حائل يحول دون هدم المجتمع الإسلامي في المشرق – لا في مصر وحدها – إلا أن يطرأ على المرأة المسلمة التحويل، بل الفساد الذي عم الرجال في المشرق'.
ما هي العلمانية؟ وما حكم هذه العلمانية ؟
العلمانية في الأصل يراد بها: فصل الدين عن التدخل في تنظيم شئون الحياة، فلا تتدخل الشرائع السماوية في تنظيم المعاملات، ولا في مسائل الاقتصاد، والسياسة، ومسائل الحرب والسلم، ومسائل التربية والتعليم، وهكذا، هذا هو أصل كلمة علمانية عند الغرب، فهي اللادينية، والاعتراف والتعامل مع الشيء المشاهد، ونفى الظواهر الغيبية وتدخلها في صياغة الحياة، ولذا يسمحون بتدين الإنسان الشخصي، أما أن يكون للدين تأثير في تدبير شئون الأمة فلا، ثم انتقل هذا الوباء إلى الأمة المحمدية .
والعلمانية بالمفهوم الإسلامي أعم من ذلك المفهوم الغربي، فلو وجد شخص ينادي بتطبيق شريعة الإسلام كلها إلا مسألة واحدة يرفضها مما أجمع عليه المسلمون، وعلم من الدين بالضرورة، فإنه يكون كافراً مرتداً، فعلى سبيل المثال: لو وجد شخص ينادي بتطبيق الشريعة في كل شيء إلا أنه يقول: يجب في الميراث أن نساوى بين الرجل والمرأة، فإنه بهذا يكون علمانياً في الحكم الشرعي، لأنه رد حكمًا معلومًا من دين الإسلام بالضرورة .
إذاً هذه هي العلمانية في اصطلاحنا حين نتحدث.(236/1)
وحكمها بهذا الاصطلاح: كفر أكبر مخرج من الإسلام؛ لأنها تكذيب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهي إشراك بالله ما لم ينزل به سلطاناً، إذ أنها تجعل الحكم في بعض المسائل لغير الله، وفي بعضها لله .
التغريب
أما التغريب: فقد نشأت عند ساسة الغرب بعد فشل بعض الحملات العسكرية فكرة شيطانية، وهي أنه ينبغي أن تكون الجيوش بعيدة عن المواجهات؛ لأنها تثير ردود فعل عنيفة، وأنه ينبغي عليهم أن يبذلوا الأسباب لتستسلم الأمم المسلمة للثقافة والحضارة الغربية بنفسها طواعية، وبذلك نشأت فكرة التغريب، وأساسها تذويب الشخصية المسلمة في الشخصية الغربية بحيث لا ترى إلا بالمنظور الغربي، ولا تعجب إلا بما يعجب به الغرب، وتبتعد عن قيمها وعقائدها وأخلاقها المستمدة من شريعة الإسلام، وتعتنق هذه الديانة الجديدة التغريبية، وتدخل في عجلة الاستهلاك الاقتصادي التي يروج لها الغرب.
فبرامج التغريب تحاول أن تخدم هدفاً مزدوجاً، فهي تحرس مصالح الاستعمار بتقريب الهوة التي تفصل بينه وبين المسلمين نتيجة لاختلاف القيم، ونتيجة للمرارة التي يحسها المسلم إزاء المحتلين لبلاده ممن يفرض عليه دينه جهادهم، وهي في الوقت نفسه تضعف الرابطة الدينية التي تجمع المسلمين وتفرق جماعتهم التي كانت تلتقي على وحدة القيم الفكرية والثقافية، أو بتعبير أشمل وحدة القيم الحضارية.
فهذا هو التغريب: أي تذويب الأمة المحمدية بحيث تصبح أمة ممسوخة: نسخة أخرى مكررة من الأمة الغربية الكافرة، غير أن هناك فرق فالأمة الغربية هي الأمة القائدة الحاكمة المتصرفة، والأمم الأخرى هي الأمم التابعة الذليلة المنقادة لما يملى عليها، فهذا هو التغريب . وتغريب المرأة المسلمة جزء من مخطط شامل لتغريب الأمة في كل أمورها .
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله:' وكانت برامج التغريب تقوم على قاعدتين أساسيتين – يعني عند المستعمرين الأولين:
الأولى: اتخاذ الأولياء والأصدقاء من المسلمين، وتمكينهم من السلطة، واستبعاد الخصوم الذين يعارضون مشاريعهم، ووضع العراقيل في طريقهم، وصد الناس عنهم بمختلف السبل .
القاعدة الثانية: التسلط على برامج التعليم، وأجهزة الإعلام والثقافة عن طريق من نصبوه من الأولياء، وتوجيه هذه البرامج بما يخدم أهدافهم، ويدعم صداقتهم' .
مظاهر تغريب المرأة المسلمة:
وهي كثيرة يصعب استقصاؤها، ولكن نذكر من أهمها:
1- الاختلاط في الدراسة وفي العمل: ففي معظم البلدان الدراسة فيها دراسة مختلطة، والأعمال أعمال مختلطة، ولا يكاد يسلم من ذلك إلا من رحم الله، وهذا هو الذي يريده التغريبيون، فإنه كلما تلاقى الرجل والمرأة كلما ثارت الغرائز، وكلما انبعثت الشهوات الكامنة في خفايا النفوس، وكلما وقعت الفواحش، لاسيما مع التبرج، وكثرة المثيرات، وصعوبة الزواج، وضعف الدين، وحين يحصل ما يريده الغرب من تحلل المرأة، تفسد الأسرة وتتحلل، ومن ثم يقضى على المجتمع ويخرب من الداخل، فيكون لقمة سائغة .
وإذا بدأ الاختلاط فلن ينتهي إلا بارتياد المرأة لأماكن الفسق والفجور مع تبرج وعدم حياء، وهذا حصل ولا يزال فأين هذا من قوله صلى الله عليه وسلم حين خرج مِنْ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: [اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ] فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ[. رواه أبو داود، وحسنه الألباني في الصحيحة 854 .
2- التبرج والسفور:
والتبرج: أن تظهر المرأة زينتها لمن لا يحل لها أن تظهرها له. والسفور: أن تكشف عن أجزاء من جسمها مما يحرم عليها كشفه لغير محارمها . وهذا التبرج والسفور لا يكاد يخلو منهما بلد من البلدان الإسلامية إلا ما قل وندر، وهذا مظهر خطير جداً على الأمة المسلمة، فبالأمس القريب كانت النساء محتشمات يصدق عليهن لقب: ذوات الخدود. ولم يكن هذا تقليداً اجتماعياً، بل نبع من عبودية الله وطاعته، ولا يخفى أن الحجاب الشرعي هو شعار أصيل للإسلام، ولهذا تقول عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:'يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {...وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ...[31]}[سورة النور]. شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا'رواه البخاري. ولهذا كان انتشار الحجاب أو انحساره مقياساً للصحوة الإسلامية في المجتمع ودينونة الناس لله، وكان انتشاره مغيظاً لأولئك المنافقين المبطلين .(236/2)
3- متابعة صرعات الغرب المسماة بالموضة والأزياء: فتجد أن النساء المسلمات قد أصبحن يقلدن النساء الغربيات وبكل تقبل وتفاخر، ولم يسلم لباس البنات الصغيرات، إذ تجد أن البنت قد تصل إلى سن الخامسة عشر وهي لا تزال تلبس لباساً قصيراً، وهذه مرحلة أولى من مراحل تغريب ملبسها، فإذا نزع الحياء من البنت سهل استجابتها لما يجدّ، واللباس مظهر مهم من مظاهر تميز المرأة المسلمة، ولهذا حرم التشبه بالكفار لما فيه من قبول لحالهم، وإزالة للحواجز، وتنمية للمودة، وليس مجهولا أن تشابه اللباس يقلل تمييز الخبيث من الطيب، والكفر من الإسلام، فيسهل انتشار الباطل وخفاء أهله .
والموضة مرفوضة من عدة نواحي منها:
أ- التشبه بالكافرات: والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ]رواه أبو داود وأحمد وهو صحيح. قال ابن تيمية رحمه الله:' والصراط المستقيم: هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال، قد تكون عبادات، وقد تكون عادات في الطعام واللباس والنكاح... وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولابد ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً' اهـ فعلم من هذا خطورة هذا التشبه وتحريمه .
ب – الضرر الاقتصادي للتعلق بالموضة: ومعلوم كم تكلف هذه الموضة من أموال تنقل إلى بلاد الغرب الكافرة .
ج – كثرة التحاسد بين النساء: لأنهن يجذبهن الشكل الجميل، فيتفاخرن ويتحاسدن، ويكذبن، ومن ثم قد تكلف زوجة الرجل قليل المال زوجها ما لا يطيق حتى تساوي مجنونات الموضة.
د- خلوة المرأة بالرجل الأجنبي الذي ليس لها بمحرم: وقد تساهل الناس فيها حتى عدها بعضهم أمراً طبيعياً، فالخلوة المحرمة مظهر من مظاهر التغريب التي وقعت فيها الأمة المسلمة حيث هي من أفعال الكافرين الذين ليس لهم دين يحرم عليهم ذلك، وأما احترام حدود الله فهو من مميزات الأمة المسلمة . والجرأة على الخلوة تجاوز لحد من حدود الله، وخطر عظيم، وقد حرمه الشارع بقوله صلى الله عليه وسلم: [لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ] رواه البخاري ومسلم .
قاعدة مهمة: كل مبطل لابد أن يُلبس باطله بثوب الإصلاح وزخرف القول؛ حتى يروج بين الناس:
لأن الباطل قبيح ومكروه، فحينما يظهر الباطل على حقيقته، ويعرى على صورته، لا تقبله النفوس، ولا ترضى به الفطر السليمة؛ ولذلك يلجأ العلمانيون التغريبيون إلى إلباس طرقهم وأهدافهم وأفكارهم لبوس الإصلاح والحرص على المصلحة وغير ذلك، فالتوظيف المختلط، والتعليم المختلط، كل ذلك بدعوى مصلحة الأمة، وبدعوى تشغيل نصف المجتمع، ولأن فيها مردوداً اقتصادياً، وهذه هي زخارف القول التي يوحيها شياطين الإنس والجن، ويقول الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ[112]وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ[113]}[سورة الأنعام]. فيخدع به ضعفاء الإيمان، وناقصوا العقول .
ثم إن العلمانيين قد وجدوا عادات في مجتمعات المسلمين ليست من الإسلام، فاستغلوها ووظفوها لينفثوا من خلالها سمومهم، وينفذوا مخططاتهم، ثم أسقطوها على الإسلام، بمعنى أنهم قالوا: إنها من الإسلام فهاجموا الإسلام من خلالها، مثال ذلك: قد تجد بعض المجتمعات المسلمة تظلم المرأة في الميراث، قد تعطي المرأة ميراثها من المنقول من الأموال والمواشي لكنها لا تعطيها حقها من العقار كفعل الجاهلية، قد تجد زوجاً لا يعدل بين زوجاته مخالفاً بذلك أمر الله، فهذه الثغرات يتعلق بها العلمانيون مع أنها ليست من الإسلام في شيء، ولم ينزل الله بها سلطانًا، بل هي في نظر الإسلام: ظلم محرم.
أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة:
أساليبهم كثيرة، والمقصود التذكير بأخطرها، ليحذرها المسلمون، وينكروها، ويعلموا على إفشالها، ولتكون منبهة على غيرها، فمن هذه الأساليب:(236/3)
1- وسائل الإعلام بمختلف أنواعها: من صحافة، وإذاعة، وتلفاز، وفيلم، ومجلات متخصصة في الأزياء والموضة، ومن مجلات نسائية، وملحقات نسائية، وغير ذلك، فالإعلام يصنع الآراء، ويكيف العقول، ويوجه الرأي العام، خاصة إذا كانت هذه العقول فارغة لم تحصن بما أنزل الله . أما الصحافة والمجلات، فتجد فيها أمورًا فظيعة منكرة منها فتاة الغلاف، فتاة جميلة عليها أنواع الزينة والأصباغ ثم تسأل في المقابلة معها أسئلة تافهة: هل حدث وأن أحببتي يوماً من الأيام؟ ما هواياتك المفضلة؟ وهل صادقتي شاباً؟ وغير هذا من الكلام الساقط الذي يراد منه إفساد المحصنات العفيفات اللاتي قررن في البيوت، ويملكهن الحياء الذي ربين عليه، فتزيل هذه المجلات الحواجز، والضوابط شيئاً فشيئاً . كما تجد في هذه المجلات الصور الماجنة الخليعة إما بحجة الجمال والرشاقة، أو بحجة تخفيف الوزن والرجيم، أو بحجة ملكات الجمال، أو بحجة أخري مما يمليه الشياطين . ثم تجد فيها من مواضيع الحب والغرام الشيء المهول، وهذا يهدف إلى تهوين أمر الفواحش، وقلب المفاهيم الراسخة، وإحلال مفاهيم جديدة مستغربة بعيدة عما تعرفه هذه الأمة المحمدية، فمن هذه العبارات:
في مجلة سيدتي في عدد 510: قالت من عيوب الزوج العربي [ الغيرة ] !!! .
في مجلة كل الناس عدد 58: قالت إحدى الكاتبات: ماذا لو قالت امرأة: [ هذا الرجل صديقي ] !!!.
في مجلة الحسناء عدد 81: الفضيلة والكرامة تعترضان مسيرة النجاح . أ هـ . فعلى هذا مسيرة النجاح لابد فيها من الفحش والدعارة حسب مفهومهم المريض .
مجلة سلوى عدد 1532 [ لقاء مع راقصة شابة ]، تقول هذه الراقصة: في حياتنا اهتمامات لا داعي لها، ويمكن أن يستغنى عنها، ثم تقول- هذه العبقرية التي جاءت بما عجز عنه الأوائل والأواخر-: كمعامل الأبحاث الذرية لأننا لم نستفد منها شيئاً، يعنى حتى يبقى الأعداء يهددون المسلمين بالأسلحة الذرية . اليهود والهندوس والنصارى والبوذيون – كما تقول - ! سوف نستفيد كثيراً لو أنشأنا مدرسة للرقص الشرقي تتخرج منها راقصة مثقفة لجلب السياح .أهـ . وهكذا تستمر المسيرة لنحارب أعداءنا بالرقص، كما حاربهم جمال عبد الناصر بأغاني أم كلثوم .
في مجلة فرح عدد 43، تقول: الزواج المبكر إرهاق للمرأة، وصداع للرجل .
ولا ننسى مجلة روز اليوسف وهي من أخبث المجلات، ومن أوائل مصادر التغريب النسائي في العالم العربي، في هذه المجلة تجد الخبث والخبائث، وبمجرد أن تأخذ أحد الأعداد سوف تجد العجب . وكذلك مجلات: [ اليقظة، والنهضة، صباح الخير، هي، الرجل، فرح ..... الخ تلك القائمة الطويلة، كما تجد أيضاً داخل هذه المجلات مقالات طبية ونفسية واجتماعية: كأنها تحل مشاكل الفتيات، فتراسلها الفتيات من أنحاء العالم العربي، ثم بعد ذلك يدلها ذلك المتخصص – لكنه ليس متخصصاً في حل المشاكل حقيقة إنما متخصص في التغريب – يدلها على الطرق التي تجعلها تسلك مسالك المستغربات السابقات، كما تجد مقابلات مع الفنانات والممثلات، ومع الغربيات، ومع الداعيات لتحلل المرأة واللاتي يسمين بالداعيات لتحرير المرأة، وتجد فيها الغثاء الذي لا ينتهي، ترهق به المسلمة، ويصدع به المسلم . ثم تجد في هذه المجلات بريد المجلة، أو ركن التعارف من أجل التقريب بين الجنسين، وتلك خطوة لإفساد المجتمعات الإسلامية، وهكذا دواليك .
يقول العلامة محمد بن عثيمين في خطبة قيمة له عن هذه المجلات:' فاقتناء مثل هذه المجلات حرام، وشراؤها حرام، وبيعها حرام، ومكسبها حرام، واهداؤها حرام، وقبولها هدية حرام، وكل ما يعين على نشرها بين المسلمين حرام؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان'أهـ .(236/4)
2- ومن وسائل العلمانيين الخطيرة التي يسعون من خلالها إلى تغريب المرأة المسلمة التغلغل في الجانب التعليمي ومحاولة إفساد التعليم: إما بفتح تخصصات لا تناسب المرأة وبالتالي إيجاد سيل هائل من الخريجات لا يكون لهن مجال للعمل، فيحتاج إلى فتح مجالات تتناسب مع هذه التخصصات الجديدة التي هي مملوءة بالرجال، أو بإقرار مناهج بعيدة كل البعد عمّا ينبغي أن يكون عليه تدريس المرأة المسلمة . وفي البلاد العربية من المناهج ما تقشعر له الأبدان، وقد نجد في التعليم المناداة بالمساواة بينها، وبين الرجل في كل شيء، ودفع المرأة إلى المناداة بقضايا تحرير المرأة- كما يسمونها-، وفيها:الاختلاط فمعظم البلاد العربية التعليم فيها مختلط إلا ما قل فالشاب بجانبه فتاة، هذا التعليم المختلط سبب كبير من أسباب تحلل المرأة، ومن ثم من أسباب تغريب المرأة . ولذا فإن أحسن الحلول أن تقوم البلاد الإسلامية بإنشاء جامعات متخصصة للنساء، وقد نادي بذلك بعض الباحثين الباكستانيين في دراسة جميلة جيدة بين فيها أن ذلك أفضل سواء في نسب النجاح، أو في التفوق في التخصص، أو في إتقان العمل سواء للشباب، أو للشابات في جميع أنواع الدراسة، وقد لا نوافقه في بعض التخصصات التي نرى أن المرأة لا تحتاجها .
3- ومن أساليبهم: التأليف في موضوع المرأة، وإجراء الأبحاث والدراسات التي تُمْلاُ بالتوصيات والمقترحات والحلول في زعمهم لقضايا المرأة ومشاكلها: إحداهن في رسالتها للدكتوراه والتي عنوانها:'التنمية الاقتصادية وأثرها في وضع المرأة في السعودية' تقول- وهي تعد المبادئ الإسلامية التي هي ضد مصلحة المرأة كما تزعم-: إن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، وقوامة الرجل على المرأة، ثم تعد الحجاب من المشاكل التي هي ضد مصلحة المرأة، ثم تشن هجوماً على هيئات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ثم بعد ذلك تنتهي في دراستها أو في رسالتها للدكتوراه إلى التوصيات، ومن توصياتها:
الإقلاع من عمليات الفصل بين الجنسين – يعنى التعليم المختلط الذي ذكرناه سابقاً - .
إنشاء أقسام للنساء في كل مؤسسة حكومية، وإنشاء مصانع للصناعات الخفيفة، وهذه نادي بها آخرون، ونادوا بفتح مجالات دراسة مهنية للمرأة .
ونشرت اليونسكو سبع دراسات مما قدم بعنوان:'الدراسات الاجتماعية عن المرأة في العالم العربي' والذي يقرأ هذا الكتاب يدرك خطورة الأمر، وضخامة كيد الأعداء للمرأة المسلمة .
4- ومن أساليبهم: عقد المؤتمرات النسائية، أو المؤتمرات التي تعالج موضوع المرأة، أو إقامة لقاءات تعالج موضوعاً من المواضيع التي تهم المرأة سواء كان موضوعاً تعليمياً، أو تربوياً، أو غير ذلك: وفي هذه المؤتمرات واللقاءات تطرح دراسات وأفكاراً ومقترحات تغريبية.
وقد عقد المؤتمر الإقليمي الرابع للمرأة في الخليج، والجزيرة العربية في 15/2/1976 م، في إحدى دول الخليج وكان التركيز على ما يسمى بقضية تحرير المرأة وأصدر قرارات منها:
التأكيد على أهمية وضرورة النظر في الكتب والمناهج التربوية عند تناولها لقضية المرأة بما يضمن تغيير النظرة المتخلفة لدورها في الأسرة والعمل، ثم تتابع هذه الدراسة، فتقول: إن القوانين والأنظمة التي كانت تخضع لها الأسرة قبل ألف عام ما تزال تطبق على العلاقات الأسرية في عصرنا الحاضر دون النظر إلى مدى ملائمتها لنا.
ما هي القوانين التي من ألف عام؟ إنها شريعة الإسلام .. فهؤلاء النسوة من نساء الخليج يردن تغيير الشريعة الإسلامية التي تطبق على المرأة من ألف عام .
5- ومن وسائلهم في تغريب المرأة المسلمة: إبتعاثها للخارج: وهذا حصل كثيراً في كثير من بلدان المسلمين، وحينما تذهب امرأة مسلمة إما لم تدرس شيئاً عن الدين كما في بعض البلدان العربية والإسلامية، أو ليس معها محرم، ثم ترمى في ذلك المجتمع المتحلل، فإذا رجعت هذه الفتاة المبتعثة كانت رسول شر للعالم الغربي من أجل تغريب المسلمات، ونقلهن من التمسك بالشرع والخلق الإسلامي إلى التمسك بالمناهج والأفكار والآراء الغربية، كما فعل أسلافها في مصر والكويت.
6-ومن أساليب العلمانيين: التعسف في استخدام المنصب: فقد تجد أحدهم في منصب ما، ثم بعد ذلك يبدأ يصدر قرارات يمنع فيها الحجاب كما حصل في مصر، وفي الكويت، أو يفرض فيها الاختلاط، أو يمنع عقد ندوات ونشاطات إسلامية، أو يفرض فيها اختلاطًا في مجالات معينة، وبالتالي يحصل احتكاك الفتاة بالشاب، ومن ثم يسهل هذا الأمر، وكلما كثر الإمساس قلّ الإحساس، ثم بعد ذلك تتجاوز الحواجز الشرعية، وتبتعد عن حياتها تذوب كما ذاب غيرها .
7- ومن أساليبهم أيضاً: العمل والتوظيف غير المنضبط: إما باختلاط بتوظيف الرجال والنساء سواسية، أو بتوظيف المرأة في غير مجالها، ويكون هذا على طريقة التدرج: بطيء ولكنه أكيد المفعول . وعلى طريقة فرض الأمر الواقع.(236/5)
8- المشاركة والاختلاط في الأندية التي تكون في المستشفيات أندية ترفيه، أو أندية اجتماعية، أو غير ذلك: بل لقد وصل الفساد ببعضهن إلى المجاهرة بالتدخين أمام الآخرين من الزملاء، وليس ذلك في غرف القهوة والمطاعم فحسب، بل على المكاتب الرسمية .
9- الدعوة إلى إتباع الموضة والأزياء، وإغراق بلاد المسلمين بالألبسة الفاضحة: ومن خططهم إغراق بلاد المسلمين بالألبسة الفاضحة والقصيرة، فأحدنا لا يستطيع أن يجد لابنته الصغيرة لباسًا ساترًا فضفاضًا إلا بشق الأنفس، فعلى التجار المسلمين أن يفرضوا ويشترطوا اللباس المقبول عند المسلمين الذي لا يحمل صوراً، ولا كتابات، وليس بلباس فاضح، ولا بضيق، ولا بكاشف، والشركات الصانعة إنما تريد المال، ولأجله تصنع لك أي شيء تريد، فإذا ترك لها الحبل على الغارب صنعت ما يضر بأخلاق المسلمين .
10- ومن أساليبهم القديمة والتي وجدت في مصر وفي غيرها:إنشاء التنظيمات والجمعيات والاتحادات النسائية: فقد أنشأ الاتحاد النسائي في مصر قديماً جداً على يد هدى شعراوي وذلك بدعم غربي سافر، ثم تبعتها البلاد العربية الأخرى، هذه الاتحادات النسائية والتنظيمات والجمعيات ظاهرها نشر الوعي الثقافي والإصلاح، وتعليم المرأة المهن كالتطريز والخياطة، وغير ذلك، ولكن قد يكون باطنها سمًا زعافًا فتعلم المرأة الأفكار والقيم الغربية الخبيثة التي تنقلها من الفكر الإسلامي النير إلى الفكر المظلم من الغرب الكافر.
11- ومن أخبث أساليبهم وهي التي يثيرونها دائماً على صفحات الجرائد والمجلات وغيرها: التظاهر بالدفاع عن حقوق المرأة، وإثارة قضايا تحرر المرأة خاصة في الأوقات الحساسة التي تواجهها الأمة، وإلقاء الشبهات: فمرة يلقون قضية تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، ومرة يبحثون في موضوع التعليم المختلط وتوسيع مجال المشاركة في العمل المختلط وغير ذلك، قد يتم ذلك باسم الدين، وقد يتم ذلك باسم المصلحة، وقد يتم ذلك بعبارات غامضة، وطريقة المنافقين التخفي خلف العبارات الغامضة الموهمة في كثير من الأحيان .
12- ومن أخبث طرقهم ووسائلهم: شن هجوم عنيف على الحجاب والمتحجبات وتمجيد الرذيلة في وسائل الإعلام بأنواعها وفي غيرها أيضاً، سواء كان في المنتديات والأندية الثقافية والأدبية، أو كان في الجلسات الخاصة وفي غيرها.
13- ومن أساليبهم: أيضاً تمجيد الفاجرات من الممثلات، والراقصات، والمغنيات، وغيرهن: فتذكر بأنها النجمة الفلانية، وأنها الشهيرة فلانة، وأنها الرائدة في مجال كذا، وأنها التي ينبغي أن تحتذي، وأنها القدوة في مجال كذا، وأنها حطمت الرقم القياسي في الألعاب الفلانية، أو الطريقة الفلانية، وهذه الصحف، وهذه الكتابات العلمانية توهم المرأة المسلمة بأن هذا هو الطريق الذي ينبغي أن تسلكه، فتتمنى أن تكون مثلها، وتحاول أن تتشبه بها، ولهذا ضاق صدر أولئك بتلك الفنانات التائبات؛ لأنهن سيمثلن قدوة مضادة لما يريدون .
14-ومن أساليبهم: الترويج للفن والمسرح والسينما.
15- ومن أخبث أساليبهم المنتشرة: استدراج الفتيات المسلمات – خاصة النابغات – للكتابة، أو للتمثيل، أو الإذاعة- لاسيما إذا كن متطلعات للشهرة، أو للمجد: فتدعى هذه الفتاة للكتابة في الصحيفة وتمجد كتاباتها، فتندفع بعض الفتيات المغرورات للكتابة والاتصال بهؤلاء من أجل أن ينشروا لهن ما يكتبن.
16- ومن أساليبهم أيضاً: تربية البنات الصغيرات على الرقص والموسيقى والغناء من خلال المدارس، والمراكز وغيرها، ثم إخراجهن في وسائل الإعلام: فتجد فتيات في عمر الزهور يخرجن للرقص والغناء، وهن يتمايلن وقد لبسن أجمل حلل الزينة، فكيف يا ترى سيكون حال هذه الفتاة إذا كبرت ! إلى أين ستتجه إن لم تتداركها عناية الله ورحمته ؟والتالي يكون ذلك سبباً من أسباب اجتذاب عدد آخر من الفتيات اللاتي يتمنين أن يفعلن مثل هذه التي ظهرت على أنها نجمة، ثم قد تكون في المستقبل مغنية، أو ممثلة شهيرة.
17- ومن وسائلهم إشاعة روح جديدة لدى المرأة المسلمة تمسخ شخصيتها من خلال إنشاء مراكز يسمونها مراكز العلاج الطبيعي للسيدات: وقد قامت مجلة الدعوة بكتابة تقرير عن هذه المراكز في عدد 1328 الصادر في 3/8/1412 هـ، إذ زارت إحدى الكاتبات بعضًا من هذه المراكز، وكتبت تقول: في ظل التغيرات والمستجدات التي تظهر بين وقت وآخر ظهر تغير سلبي وهو افتتاح مراكز تسمى مراكز العلاج الطبيعي للسيدات، والحقيقة أن هذا المركز يخفي ورائه كثيرًا من السلبيات، ثم تمضي الأخت، فتقول: ولمعرفة واقع تلك المراكز وما يدور فيها وما تقدمه لمرتادها قمت بزيارة بعضها، والاتصال بالبعض الآخر منها كأي امرأة أخرى تسأل عنها قبل الالتحاق بها وذلك في محاولة للوصول للحقائق الكاملة، ومعرفة ما يدور فيها، وخلاصة التقرير:
- انتشار اللباس غير الساتر في هذه المراكز، بل واشتراطه .
- قيام بعض المراكز بتعيين أطباء من الرجال لابد من مرور المتدربات عليهم .(236/6)
- انتشار الموسيقى في هذه المراكز، ومن شروط بعض المراكز عدم اعتراض المتدربة على ذلك .
- وضع حمامات جماعية للسونا تلبس فيها النساء ملابس داخلية فقط، ويكن مجتمعات داخله .
- انتشار هذه المراكز حتى في الفنادق، والكوافيرات، والمشاغل، وتقديمها كخدمة مشتركة .
وكل هذا نمط جديد لم نعرفه من قبل ولو قامت النساء بعملهن في بيوتهن لما احتجن لهذا.
18- أختم هذه الأساليب بهذا الأسلوب الخطير، وهو إشاعة الحدائق والمطاعم المختلطة للعائلات، والتي انتشرت مؤخراً:
فقد زار بعض الأخوة بعضًا من المطاعم، والحدائق العائلية، والتي فيها محاذير كثيرة، ومن هؤلاء فضيلة الشيخ محمد الفراج، ثم كتبوا تقريراً بينوا فيه ما تخفيه هذه المطاعم المختلطة، وذكروا أن هذه المطاعم يكون فيها اختلاط الشاب بالفتاة، وأنه قد تدخلها المرأة بدون محرم، وجواز المرور بالنسبة للرجل أن يكون معه امرأة سواء كانت خادمة، أو كانت طفلة، أو غير ذلك، وبذلك أصبحت مكاناً صالحاً للمواعيد الخبيثة، ولغير ذلك، ثم بعد ذلك كتب الشيخ عبد الله بن جبرين تأييداً لكلام هؤلاء الأخوة، يقول فيه:' الحمد لله وحده وبعد، رأيت أمثلة مما ذكر في هذا التقرير مما يسترعى الانتباه والمبادرة بالمنع والتحذير' ا.هـ . وقد تكون هذه الحدائق والمطاعم أوجدت بحسن نية، لكنها سبب مهم من أسباب تغريب المرأة؛ إذ أنها تشيع مظاهر التغريب: من اختلاط، أو خلوة بالرجل الأجنبي عن المرأة، ومن فتحها لباب الفواحش والدخول على النساء الشريفات، فيفتن في دينهن وعفتهن مع غلبة الداعي للفحش بسبب كثرة المثيرات والله المستعان .
من رسالة:' أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة' للشيخ /بشر بن فهد البشر(236/7)
أساليب المشركين في محاربة الإسلام
يتناول الدرس الأساليب التي اتبعتها قريش في محاربة رسالة الإسلام واضطهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن ذلك: الاتهامات الباطلة لصد الناس عنه،و السخرية والاستهزاء والضحك والغمز واللمز والتعالي على المؤمنين،و المساومات ...إلخ .
إن الحمد لله ، نحمده، ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً ... أما بعد .
اتخذت قريش أساليباً عدة لمحاربة النبي r ، ومن هذه الأساليب :
الأسلوب الاول: محاولة منع عمه أبي طالب من نصرته .
وذلك حتى يكفُّه عن الدعوة ، أو يجرده من جواره- أي حمايته- ، فقد ذهبت مجموعة من أشرافهم إلى عمه أبي طالب ، وقالوا له: إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فقال لهم أبوطالب قولاً رفيقاً، وردهم رداًّ جميلاً، فانصرفوا عنه.
الأسلوب الثاني: التهديد بمقاتلة الرسول وعمه أبي طالب.
مضى رسول الله يظهر دين الله ، ويدعو إليه، فغضبت منه قريش ، وحض بعضهم بعضاً ، ومشوا إلى عمه مرة أخرى، فقالوا له: يا أباطالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وأقسموا بأنهم لن يصبروا على أفعاله حتى يكفه عنهم أو ينازلوه وإياه في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين ، عند هذا عظُم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم ترض نفسه بتسليم رسول الله r لطالبيه ولا خذلانه ، ولذا أبلغ الرسول بالذي قالوه ، وطلب منه أن لا يحمله من الأمر مالا يطيق ، وبعد أن ظن الرسول أن عمه قد ضعف عن نصرته قال له: [ياعم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ماتركته ] ثم بكى رسول الله r وقام من عند عمه فلما ولى ناداه عمه فقال : ' أقبل يا ابن أخي ' فلما أقبل قال له : اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لاأسلمك لشيء أبداً، وظل أبو طالب طوال حياته ينهى الناس عن إيذاء الرسول ، ويحميه ويمتنع عن الدخول في الإسلام.
الأسلوب الثالث: الاتهامات الباطلة لصد الناس عنه.
حيت اتهموا رسول الله r باتهامات باطلة منها :
1-الجنون : وفي ذلك نزل قوله تعالى : ] وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ[6][ سورة الحجر .
2-السحر : قال الله تعالى ] وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ[4][ سورة ص . وقد تحير الوليد بن المغيرة فيما يصف به القرآن ، فعندما أوشك دخول موسم الحج جمع فريقه من عتاة المجرمين فقال لهم : ' يامعشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولاتختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ' ، واتفقوا على أن يصفوه بالسحر لأنه يفرق بين الأقارب ، ولكن شاء الله أن تصدر العرب من مكة على أمر رسول الله r فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها .
3-الكذب : قال الله تعالى : ] وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ[4][ سورة ص .
4-الإتيان بالأساطير : قال الله تعالى : ] وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[5] [ سورة الفرقان .
5-قالوا إن القرآن ليس من عند الله ، وإنما هو من عند البشر : قال الله تعالى : ] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ[103] [ سورة النحل .
6- اتهموا المؤمنين بالضلالة : قال الله تعالى : ] وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ[32] [ سورة المطففين .
الأسلوب الرابع: السخرية والاستهزاء والضحك والغمز واللمز والتعالي على المؤمنين.
قالت امرأة مشركة للرسول r ساخرة مستهزئة: 'إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً ' ؛ فأنزل الله تعالى: ] وَالضُّحَى[1]وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى[2]مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى[3] [ سورة الضحى .
الأسلوب الخامس: التشويش .
كان المشركون يتواصون بينهم بافتعال ضجة عالية وصياح منكر عندما يقرأ r القرآن ؛ حتى لا يُسمع فيفهم فيترك أثراً في عقل نقي وقلب طيب حسب زعمهم ، وفي ذلك قال المولى تبارك وتعالى :] وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ[26] [ سورة فصلت .
الأسلوب السادس: طلبهم أن تكون للرسول r معجزات أو مزايا ليست عند البشر العاديين .(237/1)
ومن ذلك قولهم ] وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا[90]أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا[91]أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا[92]أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ .....[93] [ سورة الإسراء ، ولذا قال لهم الرسول r كما جاء في الآية نفسها ] قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا[93] [.
الأسلوب السابع: المساومات .
ومن ذلك قولهم : أعبد آلهتنا يوماً ونعبد إلهك يوماً، فأنزل الله تعالى سورة الكافرون.
الأسلوب الثامن: سب القرآن ومنزله ومن جاء به.
كان رسول الله r مختف بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه محمد r : ] وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ [ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، ] وَلَا تُخَافِتْ بِهَا [ عن أصحابك فلا تسمعهم ، ]وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا[110] [ سورة الإسراء .
الأسلوب التاسع: الاتصال باليهود للإتيان منهم بأسئلة تعجيزية للرسول .
أوفدت قريش نفراً منهم إلى المدينة، وعلى رأسهم: النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ليأتوا من اليهود بأسئلة تعجيزية ، فيطرحونها على الرسول r ، فقالت لهم يهود: سلوه عن أهل الكهف وعن ذي القرنين والروح ، ولكن الله أبطل كيدهم عندما أنزل الله قرآناً في شأن الإجابة عن أسئلتهم.
الأسلوب العاشر: الترغيب .
أرادت قريش أن تجرب أسلوب الترغيب، فأرسلت عتبة بن ربيعة، فقال للرسول r : 'يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب ، وقد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم، فاسمع مني ، أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها: إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا ؛ حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا فلا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ' ، فلما فرغ من قوله تلا رسول r صدر سورة 'فصلت ' إلى قوله تعالى ] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ[13] [ ، وعندها وضع عتبة يده على جنبه ، وقام كأن الصواعق ستلاحقه، وعاد إلى قريش مخبراً إياهم بأن ما سمع ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة ، وقال : والله إن لِقَوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحْطِم ما تحته ، واقترح على قريش أن تدع محمداً وشأنه .
الأسلوب الحادي عشر: الترهيب .
كان أبو جهل إذا سمع عن رجل قد أسلم وله شرف ومنعة قال له : لنسفهن حلمك ، ولنضعفن رأيك ، ولنضعن شرفك ، وإن كان تاجراً قال له: لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك ، وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به .
الأسلوب الثاني عشر: الاعتداء الجسدي .
لم تثمر كل الأساليب السابقة في صد الرسول r وأصحابه عن دينهم ، فلجأت قريش إلى أسلوب الاعتداء الجسدي والتصفية الجسدية وخاصة بعدما أصبح رسول الله r يظهر شعائر دينه مثل الصلاة عند الكعبة، وقد حصلت من ذلك صور عديدة منها :
1- عن أبي هريرة t ،قال : قال أبوجهل: هل يُعَفِّر محمد وجهه بين أظهركم ؟ فقيل:نعم ، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأعفرن وجهه في التراب ، فأتى رسول الله r وهو يصلي ليطأ على رقبته ، قال: ورجع ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله r : [لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً ].
2- عن أنس، قال : لقد ضربوا رسول الله r مرة حتى غشي عليه ، فقام أبوبكر ، فجعل ينادي: ويلكم ، أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ فتركوه وأقبلوا على أبي بكر يضربونه.
3- ذات يوم قام أبوبكر خطيباً في المسجد الحرام، فضربه المشركون ضرباً شديداً، وممن ضربه عتبة بن ربيعة ، حيث جعل يضربه على وجهه بنعلين مخصوفتين ؛ حتى ما يعرف وجهه من أنفه ، وجاء بنو تيم يتعادون ، فأَجْلَت قريش عن أبي بكر، وحمله الناس في ثوب إلى منزله، ولا يشكون في موته.(237/2)
4- ممن أوذي عثمان بن مظعون، فقد جاء أنه عندما رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة دخل في جوار الوليد بن المغيرة ، فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن ، رد جوار الوليد ، وعندما قدم لبيد بن ربيعة إلى مكة ، وكان في مجلس لقريش ينشدهم شعره، قال لبيد : ألا كل شيء ماخلا الله باطل ، فقال عثمان بن مظعون : صدقت ، وعندما قال: وكل نعيم لا محالة زائل ، قال له عثمان: كذبت ، نعيم الجنة لا يزول ، قال لبيد: يامعشر قريش، والله ما كان يُؤذَى جليسكم، فمتى حَدَث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا أيضاً في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدنّ في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى تفاقم أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل، فلطم عينه فخضَّرها، والوليدبن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابت لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة، قال عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس ، فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي، إن شئت فعد إلى جوارك ، فقال: لا .
5-كان أمية بن خلف سيد بلال يخرجه إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت ، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى ، فيقول وهو تحت ذلك البلاء: أحد أحد ، وعن عمرو بن العاص، قال: مررت ببلال وهو يعذب في الرمضاء ، ولو أن بِضْعة لحم وُضعت عليه لنضجت ، وهو يقول: أنا كافر باللات والعزى، وأمية مغتاظ عليه فيزيده عذاباً ، فيقبل عليه، فيخنقه فيغشى عليه ثم يفيق ، وجعلوا في عنق بلال حبلاً ، وأمروا صبيانهم أن يشتدوا به بين جبلي مكة، ففعلوا ذلك وهو يقول : أحد أحد.
6- أظهر خباب بن الأرت إسلامه فلاقى صنوفاً شتى من العذاب ، فكانوا يأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذباً ، ويلوون عنقه بعنف ، واضجعوه مرات عديدة على صخور ملتهبة ، ثم وضعوا عليه حجراً حتى لا يستطيع أن يقوم وأوقدوا له ناراً ووضعوه عليها، فما أطفأها إلا ودك ظهره .
الأسلوب الثالث عشر: ملاحقة المسلمين خارج مكة والتحريض عليهم.
عندما هاجر بعض المسلمين إلى النجاشي أرسل قريشاً خلفهم من حاول اللحاق بهم قبل العبور إلى الحبشة، وعندما استقروا بالحبشة وكثر عددهم، أرسلوا في طلبهم، واستخدموا في ذلك الرشوة والحيلة للوقيعة بين المسلمين والنجاشي، ولكنهم فشلوا في ذلك.
الأسلوب الرابع عشر: المقاطعة العامة .
قررت قريش قتل رسول الله r ، فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبتي المطلب، فأدخلوا رسول الله r معهم في شعبهم ، ومنعوه ممن أراد قتله، فوافق على ذلك حتى كفارهم ، فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية .
ولما رأت قريش ذلك اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بتي هاشم وبني المطلب، على أن لا يعاملوهم ولا يناكحوهم ؛ حتى يسلِّموا إليهم رسول الله r ، ففعلوا ذلك ، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وكان كاتبها منصور بن عكرمة، الذي دعا عليه الرسول r فشلت بعض أصابعه، فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فكانوا معه كلهم إلا أبا لهب، فكان مع قريش ، فأقاموا على ذلك ثلاث سنين، حتى جهدوا، ولم يكن يأتيهم شيء من الأقوات إلا خُفْيَة، حتى كانت قريش تؤذي من اطلعت على أنه أرسل إلى بعض أقاربه من المحصورين شيئاً من الأعطيات، وبلغ الجوع بالمسلمين مبلغ حتى كانوا يأكلون الخبط وورق السمر، بل إن أحدهم ليضع كما تضع الشاة، وقال سعد بن أبي وقاص: لقد رأيتني مع رسول الله r بمكة فخرجت من الليل أبول، فإذا أنا أسمع قعقعة شيء تحت بولي فنظرت فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها، ثم أحرقتها، فرضضتها بين حجرين، ثم استففتها، فشربت عليها الماء، فقويت عليها ثلاثاً ، إلى أن قام في نقض الصحيفة نفر من أشدهم في ذلك ضيقاً، وهم: هشام بن عمرو بن الحارث وزهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هشام بن الحارث ، وكانت تربطهم ببني هاشم والمطلب صلات الأرحام ، وعلى الرغم من هذه المقاطعة وما جرى للمسلمين وراءها من معاناة إلا أن الرسول r لم يتوقف عن الدعوة، فقد كان يخرج في المواسم، ويلتقي القادمين على مكة، ويعرض عليهم الإسلام ، ولما أفسد الله الصحيفة، خرج رسول الله r وصحابته وخالطوا الناس .
كتاب السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية : مهدي رزق الله أحم(237/3)
أساليب عملية في حل الخلافات الزوجية
ينبغي أن ينظر الزوجان نظرة واقعية إلى الخلافات الزوجية إذا إنها من الممكن أن تكون عاملاً من عوامل الحوار والتفاهم إذا أحسن التعامل معها .
والأسلوب الذي يتبعه الزوجان في مواجهة الخلاف إما أن يقضي عليه وإما أن يضخمه ويوسع نطاقه ..
ضوابط لابد منها
لاشك أن الكلمات الحادة , والعبارات العنيفة , لها صدى يتردد باستمرار حتى بعد انتهاء الخلاف , علاوة على الصدمات والجروح العاطفية التي تتراكم على النفوس .
لزوم الصمت والسكوت على الخلاف حل سلبي مؤقت للخلاف , إذ سرعان ما يثور البركان عند دواعيه , وعند أدنى اصطدام ، فكبت المشكلة في الصدور بداية العقد النفسية وضيق الصدر المتأزم بالمشكلة ، فإما أن تتناسى وتترك , وإما تطرح للحل ولا بد أن تكون التسوية شاملة لجميع ما يختلج في النفس ، وأن تكون عن رضا وطيب خاطر .
البعد عن الأساليب التي قد تكسب الجولة فيها وينتصر أحد الطرفين على الآخر لكنها تعمق الخلاف و تجذره : مثل أساليب التهكم والسخرية , أو الإنكار والرفض ، أو التشبث بالكسب . روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، قال : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً , وكان يقول إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً " .
و روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن يهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم ، فقالت عائشة : عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم ، قال : " مهلاً يا عائشة عليك بالرفق , وإياك والعنف والفحش " قالت : أولم تسمع ما قالوا ؟ قال : أو لم تسمعي ما قلت ؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في .
و روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره " .
و روى الترمذي حدثنا محمد بن غيلان حدثنا ابن داود قال أنبأنا شعبة عن أبي إسحاق ، قال : سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت :" لم يكن فاحشاً , ولا متفحشاً , ولا صخباً في الأسواق , ولا يجزي بالسيئة السيئة , ولكن يعفو ويصفح " .
وقول أنس خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فما قال لي يوماً لشيء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشيء تركته لم تركته " .الوعي بأثر الخلاف وشدة وطأته على الطرفين : فلا شك أن اختلاف المرأة مع شخص تحبه وتقدره وتدلي عليه , يسبب لها كثيراً من الإرباك والقلق والانزعاج ، وبخاصة إذا كانت ذات طبيعة حساسة .
البعد عن التعالي بالنسب أو المال أو الجمال أو الثقافة , فإن هذا من أكبر أسباب فصم العلاقات بين الزوجين الكبر بطرد الحق و غمط الناس .
عدم اتخاذ القرار إلا بعد دراسته , فلا يصلح أن يقول الزوج في أمر من الأمور " لا " أو " نعم " ثم بعد الإلحاح يغير القرار، أو يعرف خطأ قراره فيلجأ إلى اللجاج والمخاصمة .
خطوات لابد منها :
1- تفهم الأمر هل هو خلاف أم أنه سوء فهم فقط , فالتعبير عن حقيقة مقصد كل واحد منهما وعما يضايقه بشكل واضح ومباشر يساعد على إزالة سوء الفهم , فلربما أنه لم يكن هناك خلاف حقيقي وإنما سوء في الفهم .
2- الرجوع إلى النفس ومحاسبتها ومعرفة تقصيرها مع ربها الذي هو أعظم وأجل.. وفي هذا تحتقر الخطأ الذي وقع عليك من صاحبك .
3- معرفة أنه لم ينزل بلاء إلا بذنب وأن من البلاء الخلاف مع من تحب . وقد قال محمد بن سيرين إني لأعرف معصيتي في خلق زوجتي ودابتي .
4- تطوير الخلاف وحصره من أن ينتشر بين الناس أو يخرج عن حدود أصحاب الشأن .
5- تحديد موضع النزاع والتركيز عليه , وعدم الخروج عنه بذكر أخطاء أو تجاوزات سابقة , أو فتح ملفات قديمة ففي هذا توسيع لنطاق الخلاف .
6- أن يتحدث كل واحد منهما عن المشكلة حسب فهمه لها , ولا يجعل فهمه صواباً غير قابل للخطأ أو أنه حقيقة مسلمة لا تقبل الحوار ولا النقاش , فإن هذا قاتل للحل في مهده .
7- في بدء الحوار يحسن ذكر نقاط الاتفاق فطرح الحسنات والإيجابيات والفضائل عند النقاش مما يرقق القلب ويبعد الشيطان ويقرب وجهات النظر وييسر التنازل عن كثير مما في النفوس , قال تعالى ولا( تنسوا الفضل بينكم ) , فإذا قال أحدهما للآخر أنا لا أنسى فضلك في كذا وكذا , ولم يغب عن بالى تلك الإيجابيات عندك , ولن أتنكر لنقاط الاتفاق فيما بيننا فإن هذا حري بالتنازل عن كثير مما يدور في نفس المتحاور .
8- لا تجعل الحقوق ماثلة دائماً أمام العين , وأخطر من ذلك تضخيم تلك الحقوق أو جعلك حقوقاً ليست واجبة تتأصل في النفس ويتم المطالبة بها .(238/1)
9- الاعتراف بالخطأ عند استبانته وعدم اللجاجة فيه , وأن يكون عند الجانبين من الشجاعة والثقة بالنفس ما يحمله على ذلك , وينبغي للطرف الآخر شكر ذلك وثناؤه عليه لاعترافه بالخطأ فالاعتراف( بالخطأ خير من التمادي في الباطل ) ، والاعتراف بالخطأ طريق الصواب , فلا يستعمل هذا الاعتراف أداة ضغط بل يعتبره من الجوانب المشرقة المضيئة في العلاقات الزوجية يوضع في سجل الحسنات والفضائل التي يجب ذكرها والتنويه بها .
10- الصبر على الطبائع المتأصلة في المرأة مثل الغيرة كما قال صلى الله عليه وسلم غارت( أمكم ) وليكن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في تقدير الظروف والأحوال ومعرفة طبائع النفوس وما لا يمكن التغلب عليه . روى النسائي وأبو داود و الترمذي عن عائشة قالت : ما رأيت صانعة طعام مثل صفية أهدت النبي صلى الله عليه وسلم إناء فيه طعام فما ملكت نفسي أن كسرته ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كفارته فقال : " إناء كإناء وطعام كطعام " .
11- الرضا بما قسم الله تعلى فإن رأت الزوجة خيراً حمدت , وإن رأت غير ذلك قالت كل الرجال هكذا , وأن يعلم الرجل أنه ليس الوحيد في مثل هذه المشكلات واختلاف وجهات النظر .
12- لا يبادر في حل الخلاف وقت الغضب , وإنما يتريث فيه حتى تهدأ النفوس ، وتبرد الأعصاب , فإن الحل في مثل هذه الحال كثيراً ما يكون متشنجاً بعيداً عن الصواب .
13- التنازل عن بعض الحقوق فإنه من الصعب جداً حل الخلاف إذا تشبث كل من الطرفين بجميع حقوقه .
14- التكيف مع جميع الظروف والأحوال , فيجب أن يكون كل واحد من الزوجين هادئاً غير متهور ولا متعجل , ولا متأفف ولا متضجر , فالهدوء وعدم التعجل والتهور
.من أفضل مناخات الرؤية الصحيحة والنظرة الصائبة للمشكلة .
15- يجب أن يعلم ويستقين الزوجان بأن المال ليس سبباً للسعادة ، وليس النجاح في الدور والقصور والسير أمام الخدم والحشم , وإنما النجاح في الحياة الهادئة السليمة من القلق البعيدة من الطمع .
16- غض الطرف عن الهفوة والزلة والخطأ الغير مقصود :
من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
المصدر مجلة الأسرة العدد 80(238/2)
أساليب ومضامين الخطاب الإسلامي 1/3 د. أحمد حسن محمد*
إنّ مصطلح الفكر من المصطلحات التي سادت في الدراسات في الآونة الأخيرة، يظل يعمل في كثير من مجالات النشاط الإنساني باعتباره الموجه والمسير للعديد من هذه المجالات.
والواقع أنّ مصطلح الفكر إنما يأتي من خلال التصورات الذاتية التي يتوصل إليها الباحث أو الدارس من حصيلة ما يقوم به من قراءات وبحوث ودراسات وتجارب بحثية توصله في النهاية إلى فكر معين تحقق له القناعة، بقطع النظر عن صحتها أو خطئها أو بطلانها طالما أنها من وجهة نظره مقنعة وصحيحة، فإذا جاز هذا الاتجاه والمنحى بالنسبة لفروع المعرفة بصفة عامة فإن الأمر يختلف عند تناول قضايا الإسلام وشريعته وأحكامه. وذلك لأنّ كثيراً ممن يتصدرون للحديث عن الإسلام إعجاباً وانبهاراً قد يعتمدون في ذلك على حصيلة أفكار وصلوا إليها بجهد ذاتي واطلاع ساقهم إلى تصور لمبادئ الإسلام وأحكامه في حدود ثقافاتهم الذاتية وفي المقابل أيضاً فإنّ كثيراً ممن يشككون فيه أو في أحكامه ينطلقون كذلك من أحكام تجمعت لديهم من هنا أو هناك فشكلت تصوراتهم وحددت قناعاتهم. وفي كلا الحالتين ـ الإعجاب أو الرفض ـ لم يكن الأمر ملتزماً بحقائق وضوابط علمية مما قد يسوق بعض المتحمسين للإسلام إلى خطر أشدّ ممن يقاومونه أو يعارضونه.
ومن هنا نشأ الصراع بين الأفكار المؤيدة للإسلام والأفكار المعارضة أو الناقدة له لأنّ كلا العضوين ينطلق من حصيلة فكر ذاتي ومقدرات شخصية وليس من الواقع العملي الثابت المستمد من المصادر الأصولية للإسلام والذي يظل متمثلاً في مصادر العلوم الإسلامية المعتمدة وما يتضمنه هذا الدين يقيناً ثابتاً من العقائد والأحكام القائمة من نصوص دالة عليه وفق قواعد علم الفقه([1]).
! الإيمان ضابط الفكر:
إنّ الفكر الإسلامي ينضبط بضابط الإيمان بحسبانه حجر الزاوية في مسار النشاط العقلي والسلوكي وعليه ـ أي على الإيمان ـ يقوم أي تفسير أو تبيين أي مصطلح حتى يتم إدراك الحقائق والمبادئ والأسس التي قام عليها هذا الدين، ويشمل ذلك الإيمان:
[1] الإيمان بالله تعالى، وما أنزل من كتب وما بعث بها من رسل.
[2] الثقة المستمدة من التجربة العلمية والممارسة الحية لشرائع الدين الإسلامي بما حقق من تغيير إيجابي وتقدّم ملموس.
[3] أنّ الإعلام عمل مكلف به الإنسان المخلوق وليس مجرد اجتهاد بشري تطوعي.
[4] قدرة الشريعة الإسلامية على تحقيق الربط الصحيح والمنطقي وتأكيد المعادلة الصحيحة بين طبيعة الحياة الدنيا وحقيقة العودة إلى الله أي فناء الدنيا وبقاء الآخرة.
ويظل الفكر الإسلامي المنطلق من هذه المسلمات خطاباً دائماً مستمراً للمجتمع البشري يسع الزمان والمكان، يخاطب الملل والنحل والمذاهب ويتعامل بإيجابية أمام الاتجاهات العاملة في حقل الحضارة المعاصرة كما تعامل معها في الماضي.
ومن هنا جاء الخطاب الإسلامي موجهاً للناس: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى…}([2])، {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ…} ([3])كما خاطب أهل الكتب السماوية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ…}([4]) وخاطب الأهل والعشيرة: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}([5])، {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ…}([6]).
! مراحل الخطاب الدعوي في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
:
وجاء الخطاب النبوي الشريف ليؤكد هذا المنحى فقد خاطب صلى الله عليه وسلم قومه وأهله في مكة بالأسلوب الذي يتناسب مع الوضع القائم في أول نزول الوحي فكان الخطاب عن طريق الدعوة السِّرية بما يصون مسيرة الداعية، ولذلك أمره تعالى بالصبر: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}([7]) فقد جاء في خبر إسلام عمر ابن عبسة رضي الله عنه حيث قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو بمكة وهو حيث مستخف"(2).
وكان تحركه وخطابه وسط الذين تربطهم به صلات مثل زوجته ومولاه وربيبه وصديقه وكل من يطمئن إلى أنهم يكتمون سره.
ولا شك أنّ طابع السرية كان أمراً لازماً حيث ساد الطغيان وسيطر أهل الشرك واستحالت الحجة بالحجة وقوبل الرأي بالتعذيب والإرهاب.
! مرحلة الجهر بالدعوة:
وكان الخطاب أولاً للأقربين امتثالاً لأمر الله سبحانه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ…} ([8])، فأخذ الخطاب جانب عاطفة القربى ووشيجة الصلة ـ صلة الرحم ـ فقال لهم: من يضمن عن ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي؟ وعرض ذلك على أهل بيته… وكان يخاطبهم (يا بني عبد المطلب).(239/1)
وفي مرحلة تالية كان الخطاب جامعاً لأهله وعشيرته ومواطنيه من أهل مكة حيث صعد الصفا وسألهم: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سطح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟".. قالوا: ما جربنا عليك كذباً..([9]) وبهذا التمهيد الذي استفاد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من انطباع أهل مكة ومعرفتهم بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته المميزة وهي التصديق كان الخطاب النبوي.. بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يختص كل قبيلة من قبائل مكة بالنداء الخطابي المباشر: "يا بني كعب بن لؤي …"، "يا بني هاشم …"، يا بني عبد المطلب …"، "يا فاطمة …".
ويأمرهم: (أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أني لكم رحيماً)([10])، وذأبت عقبة القرابة التي يقوم عليها العرب في حرارة هذا النداء النبوي.
وهكذا جاء الخطاب الدعوي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق مقتضيات المرحلة التي تعيشها الدعوة من جانب، ووفق طبيعة الجمهور المستهدف من جانب آخر.
فخطاب الأقربين من الأهل والأصدقاء تميز بالسرية والدعوة لحمل أمانة المسئولية بينما الخطاب الجماهيري للمجتمع المحلي جاء مقروناً بإثارة العاطفة نحو الأخذ بالدليل والبرهان الثابت استفادة من مفاهيم مسبقة يحملها المستَقْبِل للرسالة عن مُبلّغ الرسالة نفسِه.
وجاء الخطاب النبوي لغير العرب خارج الجزيرة العربية متسقاً مع طبيعة المخاطبين ، ففي أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية بدأ في مكاتبة الملوك يدعوهم للإسلام ، ويوم أنْ علم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأنّ أمثال هؤلاء الملوك لا يقبلون خطاباً ليس عليه خاتم، اتخذ ـ عليه الصلاة والسلام ـ خاتماً من فضّة نقشت عليه محمد رسول الله، واختار من أصحابه رسلاً لهم معرفة وخبرة وأرسلهم إلى هؤلاء الملوك وكان ذلك في السنة السابعة من الهجرة قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر كتب إلى النجاشي ملك الحبشة وإلى المقوقس ملك مصر، وإلى كسرى ملك فارس، وإلى قيصر ملك الروم.
وكانت معظم هذه الرسائل تبدأ بالتعريف بالرسالة وحاملها ومبلغها ثم تدعو المرسل إليه إلى إتباع هذا الدين بما يعود عليه بالسلامة في الدنيا والنجاة في الآخرة.
وقد فرّق الخطاب النبوي بين من هم أقرب للدين، وبين من هم على بعد ومعاداة للعبودية الصحيحة فتميز خطابه إلى النجاشي وحاشيته وقد كانوا نصارى فخاطبهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ..} كذلك كان خطابه للمقوقس فإنه يحمل نفس المضمون لأنهم أهل كتاب موضحاً اعتراف الإسلام بعيسى عليه السلام نبياً ورسولاً ليحدد نقطة الالتقاء بين الفكرتين: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}([11]).
أمّا بالنسبة لكل من كسرى ملك فارس وقيصر ملك الروم، فإنهم كانوا على طرف بعيد من العقيدة والعبودية الصحيحة لذا كان الخطاب يتضمن بجانب الدعوة للإسلام التحذير والتهديد فقال لكسرى: (فإن أبيت فإن عليك إثم..)، وقال لقيصر ملك الروم: (فإن أبيت فإن عليك إثم …)([12]).
ولعلنا من خلال هذه المؤشرات السريعة نلمس حرص الهادي الأمين على اتخاذ الأسلوب الأمثل الذي يحقق أمراً أساسياً من العملية الاتصالية لغيره ممن يهمه دعوتهم وتعريفهم بالرسالة الجديدة ويسعى إلى ضمهم حينئذٍ في سبيل الله أو على الأقل تحقيق علاقة سوية عادلة تسوق إلى موازنة لصالح مسيرة الدعوة الجديدة وتفسح مجالاً أرحب لنمو الدولة الوليدة.
! من الهدي النبوي إلى الواقع المعاصر:
وبعد هذه المراحل الطويلة والتعقيدات الهائلة التي طرأت على المجتمعات الإنسانية نجد أن الواقع المعاصر ما زال في حاجة إلى مضمون الخطاب النبوي على الرُغم من تباين الأنظمة والتشريعات فإنّ الرسالة الإسلامية، إنما تتعامل مع فطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها مما يؤكد صلاحية الخطاب الإسلامي للمجتمع المعاصر وفق مقاييس جديدة وأساليب مستحدثة لكنها لا تخرج عن ثوابت العقيدة وحقائق الشريعة القطعية المعروفة.
وتظهر أهمية هذا المضمون الإسلامي للخطاب الإعلامي عندما تدرك خطورة المواجهة بين الغرب العلماني والمجتمعات الإسلامية والتي أصبحت تحمل كل أساليب الدعاية والاتهام لكل ما هو منتسب للدين عامة والإسلام بصفة خاصة وساعد على ذلك عدة أسباب نذكر منها:
[1] عداء الحضارة الغربية للكنيسة في وقت ما مما أصل عناصرها ومظاهرها بعيداً عن قيم العنصرية ذاتها وانسحب ذلك أيضاً على الدين الإسلامي من وجهة نظر الغرب.(239/2)
[2] لم يستطع العالم الإسلامي أنْ يقدّم النموذج المطلوب لحضارة تقوم على أسس الدين والشريعة بما يقنع الغرب واقعياً بصلاحية الإسلام ليكون مكون نهضة وحضارة معاصرة، وكان ذلك لعجز المسلمين وليس مطلقاً لعجز الإسلام أو الدين.
[3] القصور الإعلامي في كثير من الدول الإسلامية أتاح للمشروع الغربي أنْ يدعم تصوراته وأفكاره على حساب الخطاب الإسلامي الصحيح والذي كان في شبه غيبوبة عن الساحة الإعلامية الدولية.
[4] اختلاف الرؤى الفكرية والإعلامية في كثير من بلاد المسلمين ودوله وخصوصاً حيال الأحداث العالمية والإقليمية بل والمحلية في وسائل إعلام هذه الدول. وافتقد الخطاب الإسلامي وجهته ووحدته المطلوبة وظهر وكأنه تضارب وتعارض أمام المتلقي الغربي والأجنبي… ولعل ما حدث في أزمة الخليج ـ حرب العراق ـ وأزمة أفغانستان ما يصلح دليلاً على هذا التناقض ويأتي اليوم ليكون شاهداً من خلال أزمة فلسطين… وهذه المواقف لعلها أفقدت العالم الإسلامي وحدة الطرح الإعلامي للأحداث مما كان له تأثيره السلبي على الرسالة الإعلامية الصادرة.
لهذه الظواهر وأسبابها كان الأمر يستدعي عودة إلى الأصول والاهتداء بالخطاب النبوي الذي كان يصدر عن قواعد وثوابت العقيدة وسلامة التصور ووحدة الفكر.
إنّ عالمنا الإسلامي لم يعدم مطلقاً هذه الثوابت بل هي ظاهرة ومتحركة في عقول وقلوب أبنائه ولكنه في حاجة ماسة إلى مشروع يرتكز على قاعدتين أساسيتين:
أولهما: قاعدة قوية أبناؤها مؤمنون، يحملون أمانة الدين وأمانة الدعوة تتنامى روح الإسلام والغيرة عليه في قلوبهم وأرواحهم يتربون على معاني الفضيلة والصدق والالتزام بقواعد الإسلام وشرائعه وأصوله اهتداءً بما قام به سيّد المرسلين في إعداد مثل هذا الصنف من الرجال: { صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}([13]). فكانوا بحق إسلاماً حياً وقرآناً يتحرك… فإذا ما توفر هذا العنصر الأساس فإن عليهم دراسة المجتمع القائم وطبيعة الفكر المعاصر وأساليبه والاطلاع والتحليل لثقافة الغرب. ومعرفة أصولها ودواعيها بما يمكنهم من قدرة الحديث بلغة يفهمها أهل الغرب ومن خلال الخطاب الإعلامي لمثل هذه العقول والثقافات يُقدِّم الإسلام السلوك والعمل حتى يقتنع الرأي العام بالرسالة الموجهة ويلمس أثرها.
ثانيهما: النص الإعلامي المحمول على وسائل وأنظمة تقنية حديثة بالأخذ بكل الإمكانات المتاحة التي تعين على توصيل الخطاب الإعلامي المسلم إلى الجمهور المستهدف.. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل الخلق إحساناً للكلمة وتصويراً لها. كذلك جاء الصحابة مع أخذهم بكل الوسائل المتاحة آنذاك في الإبلاغ والشرح وضرب الأمثلة وإيصال كلمة الله للناس.. والإعلامي المسلم اليوم مطالب بالأخذ بكل أسلحة العصر في مجال الإعلام، وإتقان صناعة الرسالة الإعلامية والمعلومة المفيدة والسبق بها في ميادين المعرفة بما يعطي للرسالة الإسلامية لغة العصر وسلطة العصر([14]).
! مضامين الخطاب الإسلامي:
لابد من تمايز المضمون الذي يحمله الخطاب الإسلامي بحيث تتميز عن المضمون الذي تحمله الرسائل الغربية وهذا أمر طبيعي لاختلاف منابع الثقافتين حيث أن الإسلام ينطلق من منابع الإيمان بالله رب العالمين، وبذلك فإن قضية الإيمان تعتبر إطارا أصيلاً لمضمون رسالي لأنّ الغرب قد فقد في معظمه هذا الشعور.. شعور الإحساس بوجود الله ونور السماء.. ففقد بذلك الإجابة الصحيحة عن حقيقة وجوده في الحياة ومعاشه في هذه الأرض فسخر وجوده لملذاته وشهواته ووضع قوته لإذلال الآخرين.
ولم يفكر يوماً بأنه سيموت ويُبعث ويحاسب. ويعني ذلك أنّ مخاطبة الرأي العام الغربي لا تكون مطلقاً بفكر مكتسب ونظام مقتبس بل لا بد وأنْ يحمل الخطاب الإسلامي بما فيه من أصالة وجذور وتعاليم ومفاهيم تجبر المتلقي الغربي على الالتفات إليها على اعتبار أنها شيء جديد لم يألفه من قبل.
فالغرب ليس إلا الفكر القومي والتكتلات الاقتصادية والأحلاف العسكرية سعياً وراء حضارة تسود وتعلو وتستمر وهنا دور المفكر ليقدم مفهوماً جديداً للوحدة الإنسانية من خلال قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ…}([15]). وهذا المفهوم يحقق نظاماً اجتماعياً له نسق متميز لا يقوم على الجنس أو اللون أو التراب بل يستمد مقوماته من قيم عقيدة ومثل عليا.
إنّ المتلقي عندما يدرك هذه الحقيقة من خلال رسالة ناضجة متميزة يؤمن بأنه فرد في مجموعة تتسم بصفة أخلاقية، ومعانٍ سماوية فلا يحقد على أحد ولا يعادي أحداً بل الجميع أمام الرّب الأعلى سبحانه سواء، وتقوم الوحدة في ظل الأخوة وليس في ظل الصراع أو الغلبة للأقوى… وهذا أمر يفضح الفكر اليهودي الذي يجعل من اليهود بشراً ومن الآخرين غير بشر، ويرفض الفكر النازي.. (ألمانيا فوق الجميع) .. ويبغض مفهوم العنصرية التي قطعت العالم والشعوب.(239/3)
إنّ مفهوم الوحدة الإنسانية تحت مظلة العبودية لله والإيمان به تنفي ثغرات الفرعونية والزنجية والتفرقة العنصرية وهذا ما تعانيه الحضارة المعاصرة اليوم.
! مفهوم آخر وهو مفهوم حقوق الإنسان:
وهو ما تقوم به وسائل الإعلام في الغرب وتعتبره إنجازاً حضارياً غير مسبوق. فإنّ الخطاب الإعلامي الإسلامي لا يستمد مادة هذه القضية من أصولها الغربية والتي نبعت أصلاً من مشاعر سالبة نتيجة للفوارق الاجتماعية والجنسية، فأصبحت تحمل مفاهيم تجرد الإنسان من دوره الاجتماعي في الحفاظ على القيم والمبادئ ومصالح الآخرين.
ولعل من مظلة هذا المفهوم الغربي استباحة الأعراض وتبرج المرأة وإشاعة الفواحش وحرية التصرف للصغير والكبير فدفعت المجتمع الأوربي في هذه الدوامة من المشكلات السلوكية والتمرد العائلي والتشرد والوقوع في مصيدة المخدرات حتى تبنت هذه الحضارة نفسها أي الحضارة الغربية بعضاً أو كثيراً من هذه الفواحش والسلوكيات لتكون حقوقاً تمنح للشعوب تحت مظلة ومعاهدات دولية كمؤتمرات المرأة… الخ.
والعرض الإسلامي للخطاب الإعلامي يحمل مفهوماً متمايزاً لهذه القضية حيث أن حقوق الإنسان إنما هي سبيل للحق والحياة الكريمة من خلال هدي القرآن في تكريم الإنسان وتفضيله على كثير من خلقه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}([16]). ومن ثم كانت الحقوق بالقدر الذي يصون للمجتمع أمنه وسلامته ورخاءه. فأعطى الإسلام حقوقاً لا تعرفها الحضارة الغربية اليوم كحق الوالدين على أولادهما وحق الزوجة على زوجها، وحق اليتيم على المجتمع، وحق السائل والمحروم، وحق المحكوم على الحاكم. إنها مفاهيم جديدة لم يألفها مجتمع الغرب، تصلح أنْ تكون رسائل إعلامية تحملها وسائل الإعلام ضمن برامج متعددة: تشمل المسرحية والكلمة المباشرة والمقالة المكتوبة واللوحة المرسومة والكتاب المطبوع.
وإذا كانت هاتان القضيتان: قضية الوحدة الإنسانية وقضية حقوق الإنسان من قضايا الإعلام المعاصر، فإن الكثير من قضايا العالم يحتاج إلى طرح إسلامي يلفت نظر الغرب إلى هذا الدين كقضية المرأة ومكانتها في الإسلام بعد أنْ أصبحت سلعة يتاجر بها في الغرب وفقدت أنوثتها وأصبحت لاهثة وراء لقمة عيشها. وقضية الحرب والسلم والصراع العالمي بالسلاح وما يصرف عليه من أموال وميزانيات وكيف أنّ الإسلام جعل السلم أساس الحياة والحرب والقتال إنما الأصل فيهما إقرار السلم والحياة الهانئة.
وكذا قضية المال والاقتصاد والصراع الربوي والذي أمكن للإسلام بفضل الله أنْ يعيد النظرة إلى المال باعتباره مال الله فحرم الربا ودعا إلى التكامل وغير ذلك من القضايا التي يجب أنْ يتبناها الخطاب الإعلامي الإسلامي وفق الشرطين الأساسيين السابق الإشارة إليهما وهما:
[1] تقديم النموذج العلمي.
[2] استخدام الوسائل المتاحة المقدمة.
! متطلبات الخطاب الإسلامي:
لا شك أنّ المفكر المسلم الصادق لا يفتقر إلى الجانب الإسلامي في قوة الطرح لفكره حيث إنه يعتمد على قوى يستمدها من السماء، ويتميز بسمات واضحة:
[1] فكر صادر وفق هدي عن خالق عالم بالنفس الإنسانية وطبيعتها قادر على كشف ما خفي وما ظهر من علم بالغيب في الحاضر والمستقبل.
[2] فكر يتلاءم ويتماشى مع الحياة العصرية ومستحدثاتها المتقدمة وفق ضوابط أصولية تحرص على الإيجابيات وتبتعد عن السلبيات وتخضع لمقاييس ثابتة وأصول واضحة في الوقت الذي يرفض فيه التخلف والانحطاط والرذائل.
[3] فكر يربط تعمير الأرض ونمو المجتمع وازدهار الحياة الاجتماعية والاقتصادية بتعمير القلوب وطهارة النفوس ونقاء الوسائل بل ويعتبر التقصير فيما تتطلبه الحياة البشرية والمجتمعات الإنسانية من نماء وعمارة يعتبر تخلفاً وإثماً يستحق عقاب الله، فالعمل عبادة وتقرُّب إلى الخالق سبحانه.
بمثل هذه العناصر الأساسية ينطلق حامل الرسالة الإعلامية ليخاطب المجتمع الأوربي في حالته التي يشعر فيها أنه قد تحضر وتمدن وأنّ الدين تخلف ورجعية ليعلن أنّ الإسلام هو دين يعرض بقوة فكرة تعمير الأرض والانتقال من مرحلة التخلف ولا يرفض أقصى مراحل التقدم دون أنْ يتجاهل الرابط القوي بين السماء والأرض وبين الخالق والمخلوق.
بهذه المنطلقات يمكن للخطاب الإسلامي أنْ يخرج للعالم بوضوح وقوة تحقق التفاف الجمهور المستهدف وتوجد رأياً عاماً جديداً تقنعه الفكرة ويعجبه السلوك العملي.
إنّ على الإعلامي المسلم صاحب الرسالة الإسلامية أنْ يدرك أنّ العالم اليوم لا يعيش أزمة مال ولا رجال، ولكنه يعيش أزمة قيم ومفاهيم رسالية هادفة تحملها أفكار سليمة من عقائد لها قدرة نقل الإنسان إلى شاطئ الأمان بعد أنْ دمرت الحضارة الحديثة معاني الأمن والأمان في نفوس الأفراد والأمم.
المراجع(239/4)
[1] إشكاليات العمل الإعلامي بين الثوابت والمعطيات {كتاب الأمة}، د. محي الدين عبد الحليم .
[2] الإعلام في ديار الإسلام، بداية ورسالة، د . يوسف محي الدين أبو هلالة.
[3] الجهاد في الإسلام، كيف نفهمه وكيف نمارسه؟ د. محمد سعيد البوطي.
[4] دعوة الجماهير، مكونات الخطاب ووسائل التسديد {كتاب الأمة}، د.عبدالله الزبير عبد الرحمن.
[5] السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله.
[6] قضايا الإعلام في المجتمع، د. عبد الله سعود البطريق.
[7] المسئولية الإعلامية في الإسلام، د. محمد سيد أحمد.
[8] من قضايا الفكر في وسائل الإعلام، حمد بكر عليان.
[9] المنهج الحركي للسيرة النبوية، د. منير محمد الغضبان.
------------------------------------------------------------
([1]) انظر: د. محمد سعيد البوطي، كتاب الجهاد في الإسلام، المقدمة، ص 12.
([2]) سورة الحجرات، الآية (13).
([3]) سورة الأعراف، الآية (31).
([4]) سورة آل عمران، الآية (64).
([5]) سورة الشعراء، الآية (214).
([6]) سورة قريش، الآيات (1 ـ 3).
([7]) سورة المدثر، الآية (7).
(2) صحيح مسلم برقم 836، 1/569.
([8]) سورة الشعراء، الآية (214).
([9]) فتح الباري، باب تفسير سورة الشعراء، الحديث رقم 4771.
([10]) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: د. مهدي رزق الله أحمد، مركز الملك فيصل للبحوث، الطبعة الأولى، 1993م، ص 16560.
([11]) سورة آل عمران، الآية (64).
([12]) انظر: المنهج الحركي للسيرة النبوية، د. منير محمد الغضبان، 2/48.
([13]) سورة الأحزاب، الآية (23).
([14]) حمد بكر العليان: من قضايا الفكر في وسائل الإعلام، رمضان 1406 هـ.
([15]) سورة الحجرات، الآية (13).
([16]) سورة الإسراء ، الآية (70) .
أساليب ومضامين الخطاب الإسلامي(2/3) د. أحمد حسن محمد*
مراحل الخطاب الدعوي في سيرة المصطفى
وجاء الخطاب النبوي الشريف ليؤكد هذا المنحى فقد خاطب صلى الله عليه وسلم قومه وأهله في مكة بالأسلوب الذي يتناسب مع الوضع القائم في أول نزول الوحي فكان الخطاب عن طريق الدعوة السِّرية بما يصون مسيرة الداعية، ولذلك أمره تعالى بالصبر: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)([1]) فقد جاء في خبر إسلام عمر ابن عبسة رضي الله عنه حيث قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو بمكة وهو حيث مستخف"(2).
وكان تحركه وخطابه وسط الذين تربطهم به صلات مثل زوجته ومولاه وربيبه وصديقه وكل من يطمئن إلى أنهم يكتمون سره.
ولا شك أنّ طابع السرية كان أمراً لازماً حيث ساد الطغيان وسيطر أهل الشرك واستحالت الحجة بالحجة وقوبل الرأي بالتعذيب والإرهاب.
! مرحلة الجهر بالدعوة:
وكان الخطاب أولاً للأقربين امتثالاً لأمر الله سبحانه: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ…) ([2])، فأخذ الخطاب جانب عاطفة القربى ووشيجة الصلة ـ صلة الرحم ـ فقال لهم: من يضمن عن ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي؟ وعرض ذلك على أهل بيته… وكان يخاطبهم (يا بني عبد المطلب).
وفي مرحلة تالية كان الخطاب جامعاً لأهله وعشيرته ومواطنيه من أهل مكة حيث صعد الصفا وسألهم: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سطح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟".. قالوا: ما جربنا عليك كذباً..([3]) وبهذا التمهيد الذي استفاد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من انطباع أهل مكة ومعرفتهم بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته المميزة وهي التصديق كان الخطاب النبوي.. بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يختص كل قبيلة من قبائل مكة بالنداء الخطابي المباشر: "يا بني كعب بن لؤي …"، "يا بني هاشم …"، يا بني عبد المطلب …"، "يا فاطمة …".
ويأمرهم: (أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أني لكم رحيماً)([4])، وذأبت عقبة القرابة التي يقوم عليها العرب في حرارة هذا النداء النبوي.
وهكذا جاء الخطاب الدعوي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق مقتضيات المرحلة التي تعيشها الدعوة من جانب، ووفق طبيعة الجمهور المستهدف من جانب آخر.
فخطاب الأقربين من الأهل والأصدقاء تميز بالسرية والدعوة لحمل أمانة المسئولية بينما الخطاب الجماهيري للمجتمع المحلي جاء مقروناً بإثارة العاطفة نحو الأخذ بالدليل والبرهان الثابت استفادة من مفاهيم مسبقة يحملها المستَقْبِل للرسالة عن مُبلّغ الرسالة نفسِه.(239/5)
وجاء الخطاب النبوي لغير العرب خارج الجزيرة العربية متسقاً مع طبيعة المخاطبين ، ففي أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية بدأ في مكاتبة الملوك يدعوهم للإسلام ، ويوم أنْ علم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأنّ أمثال هؤلاء الملوك لا يقبلون خطاباً ليس عليه خاتم، اتخذ ـ عليه الصلاة والسلام ـ خاتماً من فضّة نقشت عليه محمد رسول الله، واختار من أصحابه رسلاً لهم معرفة وخبرة وأرسلهم إلى هؤلاء الملوك وكان ذلك في السنة السابعة من الهجرة قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر كتب إلى النجاشي ملك الحبشة وإلى المقوقس ملك مصر، وإلى كسرى ملك فارس، وإلى قيصر ملك الروم.
وكانت معظم هذه الرسائل تبدأ بالتعريف بالرسالة وحاملها ومبلغها ثم تدعو المرسل إليه إلى إتباع هذا الدين بما يعود عليه بالسلامة في الدنيا والنجاة في الآخرة.
وقد فرّق الخطاب النبوي بين من هم أقرب للدين، وبين من هم على بعد ومعاداة للعبودية الصحيحة فتميز خطابه إلى النجاشي وحاشيته وقد كانوا نصارى فخاطبهم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ..) كذلك كان خطابه للمقوقس فإنه يحمل نفس المضمون لأنهم أهل كتاب موضحاً اعتراف الإسلام بعيسى صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ليحدد نقطة الالتقاء بين الفكرتين: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)([5]).
أمّا بالنسبة لكل من كسرى ملك فارس وقيصر ملك الروم، فإنهم كانوا على طرف بعيد من العقيدة والعبودية الصحيحة لذا كان الخطاب يتضمن بجانب الدعوة للإسلام التحذير والتهديد فقال لكسرى: (فإن أبيت فإن عليك إثم..)، وقال لقيصر ملك الروم: (فإن أبيت فإن عليك إثم …)([6]).
ولعلنا من خلال هذه المؤشرات السريعة نلمس حرص الهادي الأمين على اتخاذ الأسلوب الأمثل الذي يحقق أمراً أساسياً من العملية الاتصالية لغيره ممن يهمه دعوتهم وتعريفهم بالرسالة الجديدة ويسعى إلى ضمهم حينئذٍ في سبيل الله أو على الأقل تحقيق علاقة سوية عادلة تسوق إلى موازنة لصالح مسيرة الدعوة الجديدة وتفسح مجالاً أرحب لنمو الدولة الوليدة.
! من الهدي النبوي إلى الواقع المعاصر:
وبعد هذه المراحل الطويلة والتعقيدات الهائلة التي طرأت على المجتمعات الإنسانية نجد أن الواقع المعاصر ما زال في حاجة إلى مضمون الخطاب النبوي على الرُغم من تباين الأنظمة والتشريعات فإنّ الرسالة الإسلامية، إنما تتعامل مع فطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها مما يؤكد صلاحية الخطاب الإسلامي للمجتمع المعاصر وفق مقاييس جديدة وأساليب مستحدثة لكنها لا تخرج عن ثوابت العقيدة وحقائق الشريعة القطعية المعروفة.
وتظهر أهمية هذا المضمون الإسلامي للخطاب الإعلامي عندما تدرك خطورة المواجهة بين الغرب العلماني والمجتمعات الإسلامية والتي أصبحت تحمل كل أساليب الدعاية والاتهام لكل ما هو منتسب للدين عامة والإسلام بصفة خاصة وساعد على ذلك عدة أسباب نذكر منها:
[1] عداء الحضارة الغربية للكنيسة في وقت ما مما أصل عناصرها ومظاهرها بعيداً عن قيم العنصرية ذاتها وانسحب ذلك أيضاً على الدين الإسلامي من وجهة نظر الغرب.
[2] لم يستطع العالم الإسلامي أنْ يقدّم النموذج المطلوب لحضارة تقوم على أسس الدين والشريعة بما يقنع الغرب واقعياً بصلاحية الإسلام ليكون مكون نهضة وحضارة معاصرة، وكان ذلك لعجز المسلمين وليس مطلقاً لعجز الإسلام أو الدين.
[3] القصور الإعلامي في كثير من الدول الإسلامية أتاح للمشروع الغربي أنْ يدعم تصوراته وأفكاره على حساب الخطاب الإسلامي الصحيح والذي كان في شبه غيبوبة عن الساحة الإعلامية الدولية.
[4] اختلاف الرؤى الفكرية والإعلامية في كثير من بلاد المسلمين ودوله وخصوصاً حيال الأحداث العالمية والإقليمية بل والمحلية في وسائل إعلام هذه الدول. وافتقد الخطاب الإسلامي وجهته ووحدته المطلوبة وظهر وكأنه تضارب وتعارض أمام المتلقي الغربي والأجنبي… ولعل ما حدث في أزمة الخليج ـ حرب العراق ـ وأزمة أفغانستان ما يصلح دليلاً على هذا التناقض ويأتي اليوم ليكون شاهداً من خلال أزمة فلسطين… وهذه المواقف لعلها أفقدت العالم الإسلامي وحدة الطرح الإعلامي للأحداث مما كان له تأثيره السلبي على الرسالة الإعلامية الصادرة.
لهذه الظواهر وأسبابها كان الأمر يستدعي عودة إلى الأصول والاهتداء بالخطاب النبوي الذي كان يصدر عن قواعد وثوابت العقيدة وسلامة التصور ووحدة الفكر.
إنّ عالمنا الإسلامي لم يعدم مطلقاً هذه الثوابت بل هي ظاهرة ومتحركة في عقول وقلوب أبنائه ولكنه في حاجة ماسة إلى مشروع يرتكز على قاعدتين أساسيتين:(239/6)
أولهما: قاعدة قوية أبناؤها مؤمنون، يحملون أمانة الدين وأمانة الدعوة تتنامى روح الإسلام والغيرة عليه في قلوبهم وأرواحهم يتربون على معاني الفضيلة والصدق والالتزام بقواعد الإسلام وشرائعه وأصوله اهتداءً بما قام به سيّد المرسلين في إعداد مثل هذا الصنف من الرجال: ( صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)([7]). فكانوا بحق إسلاماً حياً وقرآناً يتحرك… فإذا ما توفر هذا العنصر الأساس فإن عليهم دراسة المجتمع القائم وطبيعة الفكر المعاصر وأساليبه والاطلاع والتحليل لثقافة الغرب. ومعرفة أصولها ودواعيها بما يمكنهم من قدرة الحديث بلغة يفهمها أهل الغرب ومن خلال الخطاب الإعلامي لمثل هذه العقول والثقافات يُقدِّم الإسلام السلوك والعمل حتى يقتنع الرأي العام بالرسالة الموجهة ويلمس أثرها.
ثانيهما: النص الإعلامي المحمول على وسائل وأنظمة تقنية حديثة بالأخذ بكل الإمكانات المتاحة التي تعين على توصيل الخطاب الإعلامي المسلم إلى الجمهور المستهدف.. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل الخلق إحساناً للكلمة وتصويراً لها. كذلك جاء الصحابة مع أخذهم بكل الوسائل المتاحة آنذاك في الإبلاغ والشرح وضرب الأمثلة وإيصال كلمة الله للناس.. والإعلامي المسلم اليوم مطالب بالأخذ بكل أسلحة العصر في مجال الإعلام، وإتقان صناعة الرسالة الإعلامية والمعلومة المفيدة والسبق بها في ميادين المعرفة بما يعطي للرسالة الإسلامية لغة العصر وسلطة العصر([8]).
([1]) سورة المدثر، الآية (7).
(2) صحيح مسلم برقم 836، 1/569.
([2]) سورة الشعراء، الآية (214).
([3]) فتح الباري، باب تفسير سورة الشعراء، الحديث رقم 4771.
([4]) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: د. مهدي رزق الله أحمد، مركز الملك فيصل للبحوث، الطبعة الأولى، 1993م، ص 16560.
([5]) سورة آل عمران، الآية (64).
([6]) انظر: المنهج الحركي للسيرة النبوية، د. منير محمد الغضبان، 2/48.
([7]) سورة الأحزاب، الآية (23).
([8]) حمد بكر العليان: من قضايا الفكر في وسائل الإعلام، رمضان 1406 هـ.
أساليب ومضامين الخطاب الإسلامي(3/3) د. أحمد حسن محمد*
مضامين الخطاب الإسلامي:
لابد من تمايز المضمون الذي يحمله الخطاب الإسلامي بحيث تتميز عن المضمون الذي تحمله الرسائل الغربية وهذا أمر طبيعي لاختلاف منابع الثقافتين حيث أن الإسلام ينطلق من منابع الإيمان بالله رب العالمين، وبذلك فإن قضية الإيمان تعتبر إطارا أصيلاً لمضمون رسالي لأنّ الغرب قد فقد في معظمه هذا الشعور.. شعور الإحساس بوجود الله ونور السماء.. ففقد بذلك الإجابة الصحيحة عن حقيقة وجوده في الحياة ومعاشه في هذه الأرض فسخر وجوده لملذاته وشهواته ووضع قوته لإذلال الآخرين.
ولم يفكر يوماً بأنه سيموت ويُبعث ويحاسب. ويعني ذلك أنّ مخاطبة الرأي العام الغربي لا تكون مطلقاً بفكر مكتسب ونظام مقتبس بل لا بد وأنْ يحمل الخطاب الإسلامي بما فيه من أصالة وجذور وتعاليم ومفاهيم تجبر المتلقي الغربي على الالتفات إليها على اعتبار أنها شيء جديد لم يألفه من قبل.
فالغرب ليس إلا الفكر القومي والتكتلات الاقتصادية والأحلاف العسكرية سعياً وراء حضارة تسود وتعلو وتستمر وهنا دور المفكر ليقدم مفهوماً جديداً للوحدة الإنسانية من خلال قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ…}([1]). وهذا المفهوم يحقق نظاماً اجتماعياً له نسق متميز لا يقوم على الجنس أو اللون أو التراب بل يستمد مقوماته من قيم عقيدة ومثل عليا.
إنّ المتلقي عندما يدرك هذه الحقيقة من خلال رسالة ناضجة متميزة يؤمن بأنه فرد في مجموعة تتسم بصفة أخلاقية، ومعانٍ سماوية فلا يحقد على أحد ولا يعادي أحداً بل الجميع أمام الرّب الأعلى سبحانه سواء، وتقوم الوحدة في ظل الأخوة وليس في ظل الصراع أو الغلبة للأقوى… وهذا أمر يفضح الفكر اليهودي الذي يجعل من اليهود بشراً ومن الآخرين غير بشر، ويرفض الفكر النازي.. (ألمانيا فوق الجميع) .. ويبغض مفهوم العنصرية التي قطعت العالم والشعوب.
إنّ مفهوم الوحدة الإنسانية تحت مظلة العبودية لله والإيمان به تنفي ثغرات الفرعونية والزنجية والتفرقة العنصرية وهذا ما تعانيه الحضارة المعاصرة اليوم.
مفهوم آخر وهو مفهوم حقوق الإنسان:
وهو ما تقوم به وسائل الإعلام في الغرب وتعتبره إنجازاً حضارياً غير مسبوق. فإنّ الخطاب الإعلامي الإسلامي لا يستمد مادة هذه القضية من أصولها الغربية والتي نبعت أصلاً من مشاعر سالبة نتيجة للفوارق الاجتماعية والجنسية، فأصبحت تحمل مفاهيم تجرد الإنسان من دوره الاجتماعي في الحفاظ على القيم والمبادئ ومصالح الآخرين.(239/7)
ولعل من مظلة هذا المفهوم الغربي استباحة الأعراض وتبرج المرأة وإشاعة الفواحش وحرية التصرف للصغير والكبير فدفعت المجتمع الأوربي في هذه الدوامة من المشكلات السلوكية والتمرد العائلي والتشرد والوقوع في مصيدة المخدرات حتى تبنت هذه الحضارة نفسها أي الحضارة الغربية بعضاً أو كثيراً من هذه الفواحش والسلوكيات لتكون حقوقاً تمنح للشعوب تحت مظلة ومعاهدات دولية كمؤتمرات المرأة… الخ.
والعرض الإسلامي للخطاب الإعلامي يحمل مفهوماً متمايزاً لهذه القضية حيث أن حقوق الإنسان إنما هي سبيل للحق والحياة الكريمة من خلال هدي القرآن في تكريم الإنسان وتفضيله على كثير من خلقه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}([2]). ومن ثم كانت الحقوق بالقدر الذي يصون للمجتمع أمنه وسلامته ورخاءه. فأعطى الإسلام حقوقاً لا تعرفها الحضارة الغربية اليوم كحق الوالدين على أولادهما وحق الزوجة على زوجها، وحق اليتيم على المجتمع، وحق السائل والمحروم، وحق المحكوم على الحاكم. إنها مفاهيم جديدة لم يألفها مجتمع الغرب، تصلح أنْ تكون رسائل إعلامية تحملها وسائل الإعلام ضمن برامج متعددة: تشمل المسرحية والكلمة المباشرة والمقالة المكتوبة واللوحة المرسومة والكتاب المطبوع.
وإذا كانت هاتان القضيتان: قضية الوحدة الإنسانية وقضية حقوق الإنسان من قضايا الإعلام المعاصر، فإن الكثير من قضايا العالم يحتاج إلى طرح إسلامي يلفت نظر الغرب إلى هذا الدين كقضية المرأة ومكانتها في الإسلام بعد أنْ أصبحت سلعة يتاجر بها في الغرب وفقدت أنوثتها وأصبحت لاهثة وراء لقمة عيشها. وقضية الحرب والسلم والصراع العالمي بالسلاح وما يصرف عليه من أموال وميزانيات وكيف أنّ الإسلام جعل السلم أساس الحياة والحرب والقتال إنما الأصل فيهما إقرار السلم والحياة الهانئة.
وكذا قضية المال والاقتصاد والصراع الربوي والذي أمكن للإسلام بفضل الله أنْ يعيد النظرة إلى المال باعتباره مال الله فحرم الربا ودعا إلى التكامل وغير ذلك من القضايا التي يجب أنْ يتبناها الخطاب الإعلامي الإسلامي وفق الشرطين الأساسيين السابق الإشارة إليهما وهما:
[1] تقديم النموذج العلمي.
[2] استخدام الوسائل المتاحة المقدمة.
! متطلبات الخطاب الإسلامي:
لا شك أنّ المفكر المسلم الصادق لا يفتقر إلى الجانب الإسلامي في قوة الطرح لفكره حيث إنه يعتمد على قوى يستمدها من السماء، ويتميز بسمات واضحة:
[1] فكر صادر وفق هدي عن خالق عالم بالنفس الإنسانية وطبيعتها قادر على كشف ما خفي وما ظهر من علم بالغيب في الحاضر والمستقبل.
[2] فكر يتلاءم ويتماشى مع الحياة العصرية ومستحدثاتها المتقدمة وفق ضوابط أصولية تحرص على الإيجابيات وتبتعد عن السلبيات وتخضع لمقاييس ثابتة وأصول واضحة في الوقت الذي يرفض فيه التخلف والانحطاط والرذائل.
[3] فكر يربط تعمير الأرض ونمو المجتمع وازدهار الحياة الاجتماعية والاقتصادية بتعمير القلوب وطهارة النفوس ونقاء الوسائل بل ويعتبر التقصير فيما تتطلبه الحياة البشرية والمجتمعات الإنسانية من نماء وعمارة يعتبر تخلفاً وإثماً يستحق عقاب الله، فالعمل عبادة وتقرُّب إلى الخالق سبحانه.
بمثل هذه العناصر الأساسية ينطلق حامل الرسالة الإعلامية ليخاطب المجتمع الأوربي في حالته التي يشعر فيها أنه قد تحضر وتمدن وأنّ الدين تخلف ورجعية ليعلن أنّ الإسلام هو دين يعرض بقوة فكرة تعمير الأرض والانتقال من مرحلة التخلف ولا يرفض أقصى مراحل التقدم دون أنْ يتجاهل الرابط القوي بين السماء والأرض وبين الخالق والمخلوق.
بهذه المنطلقات يمكن للخطاب الإسلامي أنْ يخرج للعالم بوضوح وقوة تحقق التفاف الجمهور المستهدف وتوجد رأياً عاماً جديداً تقنعه الفكرة ويعجبه السلوك العملي.
إنّ على الإعلامي المسلم صاحب الرسالة الإسلامية أنْ يدرك أنّ العالم اليوم لا يعيش أزمة مال ولا رجال، ولكنه يعيش أزمة قيم ومفاهيم رسالية هادفة تحملها أفكار سليمة من عقائد لها قدرة نقل الإنسان إلى شاطئ الأمان بعد أنْ دمرت الحضارة الحديثة معاني الأمن والأمان في نفوس الأفراد والأمم.
----------------------
([1]) سورة الحجرات، الآية (13).
([2]) سورة الإسراء ، الآية (70) .(239/8)
أساليبهم في حرب الإسلام
يتناول الدرس قواعد مهمة في الصراع بين الحق والباطل،وبيان أن كشف أساليب الأعداء؛ سنة قرآنية، وطريقة نبوية، وأوضح فوائد معرفة أساليب العدو بالنسبة للفرد والجماعة وذكر أن أساليبهم قديمة جديدة، ثم أوضح جملة من أساليب الحرب المعاصرة ضد الإسلام والدعاة إليه .
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى وآله، وأصحابه، وأزواجه، وذريته، وأتباعه إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً أما بعد،،،
أولاً: قواعد أربع لابد منها:
القاعدة الأولى: أن العداوة والصراع في هذه الحياة سنة قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: وليست هذه العداوة بالضرورة مبنية على خطأ ممن نُصبت له العداوة، ولا على ظلم، ولا على اعتداء، بل إن الله تعالى المتفضل على عباده بكل خير، ومع ذلك كان له من خلقه أعداء، كما قال الله عز وجل: }مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ[98]{[سورة البقرة] وهكذا الملائكة عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى}: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ[97] {[سورة البقرة]. والرسل عليهم الصلاة والسلام لهم أعداء وأيٌَ أعداء ! ولهذا قال الله عز وجل:}وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا[31]{ [سورة الفرقان].فانظر كلمة:} لِكُلِّ {فما من نبي إلا وله أعداء، مع أن النبي قد لا يكون له أتباع، كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ...] رواه البخاري ومسلم . فهناك من الأنبياء من لم يكن لهم تابع ولكن كان لهؤلاء أعداء يحاربونهم، قال الله تعالى: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ[112]{ [سورة الأنعام]. وهذا يُبين سبب خلق النار، وما فيها من السعير والعذاب؛ لأن النار أعدت لهؤلاء الذين فسدت فطرهم، وخربت عقولهم، وتحجرت قلوبهم ، قال الله تعالى:} وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[179]{ [سورة الأعراف].فهذه قاعدة لابد من فهمها وبيانها، فمهما حاولت، وجادلت، وتحريت، وتلطفت، واستخدمت من الأساليب والطرق؛ فلن تعدم عدواً، ولن يعدم المؤمن أحداً يؤذيه حتى ولو كان على قمة جبل:
ولستُ بناجٍ من مقالة شانئٍ ولو كنت في رأسٍ على جبل وعر
القاعدة الثانية:أن الأعداء مهما وجد بينهم من التباغض، والتناقض، والتباعد؛ فإنهم إذا واجهوا الإسلام؛ وحدوا صفوفهم في مواجهته : خاصةً إذا قويت شوكة الدين، وعزَّ جانبهم، قال تعالى:}يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ[51]{ [سورة المائدة]. إذا واجهوا دين الحق والإسلام، فينسون العداوات فيما بينهم؛ لمواجهة هذا العدو المشترك كما هو المشاهد اليوم، فإننا نجد تحالف القوى ضد الإسلام، اليهودية، والنصرانية، والعلمانية، وبقايا الشيوعية، كلها أصبحت جبهة واحدة ضد الإسلام، إنهم جميعاً يظهرون العداوة لهذا الدين:}قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [118]{ [سورة آل عمران].
القاعدة الثالثة:أن هذا الكيد الموجه ضد الإسلام وضد المسلمين لم يكن ليبلغ مبلغه، ويحقق أثره لولا أنه وجد آذاناً مصغية من المسلمين، ووجد تربة خصبة لزرعه في بلاد الإسلام : ولهذا قال الله تعالى:} شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [112]{ [سورة الأنعام]. ثم قال في الآية التي بعدها:}وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [113]{ [سورة الأنعام]، وقال سبحانه:}وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا[120]{ [سورة آل عمران].(240/1)
إن من السهل أن نلقي الملام على عدونا، ولكن هذا الكلام ليس دقيقاً، فالعدو إنما نفذ من خلالنا، وبحبل منّا؛ بلغ ما يريد حتى الشيطان نفسه - وهو أعظم الأعداء - يقول يوم القيامة في خطبته الشهيرة التي ذكرها الله تعالى في كتابه:}وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُم[22]{[سورة إبراهيم] . وإذا نظرنا اليوم إلى عدونا، وقد نفذ إلى مجتمعاتنا، وإلى بلاد الإسلام كلها؛ فعلينا أن نلوم أنفسنا، وأن نعود إلى ذواتنا، وأن ندرك أنه ما كان هناك شيء ليحدث لولا أننا تجاوبنا مع هذا الكيد.
القاعدة الرابعة:إن كيد العدو ضعيف، ومكره إلى تبار : قال الله تعالى:} وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[30]{[سورة الأنفال] ويقول الله تعالى:} فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[76]{[سورة النساء]ويقول:}وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ[25]{[سورة غافر] أي: في ذهاب وضياع، ولا قيمة له ولا بقاء له، فهذه الآيات تدل على ضعف كيد الشيطان، وأتباع الشيطان من الكافرين، وزواله، وذهابه، وضلاله، وأنه لا يبلغ أثره.
وفي المقابل هناك آيات أخرى تتحدث عن عظيم كيدهم ومكرهم، قال الله تعالى:}وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ[46]{[سورة إبراهيم] فسبحان الله، انظر إلى واقع الحياة المشهود اليوم؛ لترى مصداق ما أخبر به الله في كتابه الحكيم، الذي:} لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[42]{ [سورة فصلت] فأنت اليوم حين تقرأ عن خطط أعداء الإسلام، ودراساتهم، واحتياطاتهم؛ تحس بعمق الكيد، وخبثه، ودهائه، وأنهم يحسبون لكل شيء حساباً، ويدبرون أدق التدبير، وأعظمه، فلهم حيل وأساليب خفية لايدركها أكثر الناس، فهنا نتذكر قول الله تعالى:}وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ[46]{[سورة إبراهيم] ، يعني: هو مكر دقيق، لو بلغ أثره، وتحقق مقصده؛ لزالت الجبال لسببه، لكننا نجد أن الجبال باقية في مكانها، إذاً مكرهم دقيق، وبعيد، ولكن آثاره أقل مما يدبرون، ويمكرون، ويتصورون.
فإذا نظرت في المقابل إلى الآيات الأخرى التي تتكلم عن ضعف كيدهم:}إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[76]{[سورة النساء] وجدت مصداق ذلك اليوم في أعمال كثيرة، ظنوا أنها بأيديهم، فإذا بالأمر يكون خلاف ما يتوقعون، وتكتشف ضعف الكيد ووهنه، وكثرة ثغراته في أمور كثيرة منها مثلاً:
من الأوضاع والأحوال والأحزاب: لقد كان العالم الغربي يتعامل مع الشيوعية على أنها قوة باقية لعشرات السنين وصرحوا بذلك، نعم كان للعالم الغربي يد في سقوطها، لكن اليد الغربية كانت يداً واهيةً ضعيفة، وأما الذي أسقط الشيوعية، فهي السنن الإلهية العظيمة.
مثال آخر: ظنوا أنهم قد قضوا على جميع التحديات التي كانت من بقايا الشيوعية، فإذا بتحديات جديدة تبرز أمامهم في بلاد العالم الإسلامي، وفي البلقان، وفي الصين، وفي غيرها } وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[30]{[سورة الأنفال] .(240/2)
إن علينا أن نؤمن بالله عز وجل، وأن الله تعالى هو حده المتصرف بالأكوان؛ فهو الرب الذي لا يُقضى شئ إلا بإذنه،ولا يقع في الكون إلا ما يريد،}إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[82]{[سورة يس] .. إن النموذج الفرعوني ظاهر اليوم عياناً، فهذا فرعون كان يقول عن موسى عليه الصلاة والسلام، و أتباعه:}إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ[54]{[سورة الشعراء] قلة، حفنة }وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ[55] وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ[56]{ [سورة الشعراء]، فهم يقولون: إنهم أقلية، يحاولون أن يعرقلوا خطة الحضارة، وسير الأمور، ونظام الإدارة، ونحن حذرون، يقظون، وسوف نقاومهم بكل الوسائل، حتى قال فرعون عن موسى عليه الصلاة والسلام: }إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ[26]{ [سورة غافر] هذا يقوله فرعون.. في مواجهة من؟! في مواجهة موسى عليه صلوات الله وسلامه، وعلى رغم القوة والطغيان؛ فالنتيجة هي: فرعون!! جثة ملقاة على جانب البحر: }حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ[90]{[سورة يونس] فقال الله تعالى:}آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ[91]فَالْيَوْمَ نُنَجِّيك بِبَدَنِكَ...[92] {[سورة يونس] فقذف البحر جثته إلى الخارج:} لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً[92]{[سورة يونس]. وفي الحديث الصحيح: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ قَالَ:} آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [90]{[سورة يونس] فَقَالَ جِبْرِيلُ يَا مُحَمَّدُ فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ] رواه الترمذي وأحمد.
ثانياً: فائدة طرح الموضوع:
إن كشف أساليب الأعداء؛ سنة قرآنية، وطريقة نبوية:
فقد ذكر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم خطط المشركين:} وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ[73]{[سورة الأسراء]} وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا[76]{ “سورة الأسراء” إلى غير ذلك.
وذكر خطط اليهود: }سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا[41]{[سورة المائدة] .
وذكر خطط النصارى:}وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا[75]{ [سورة آل عمران].
وذكر خطط المنافقين: }هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ[4]{ [سورة المنافقون]} هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا[7]{ [سورة المنافقون] .
من فوائد كشف أساليب الأعداء:إذاً فذكر خطط الأعداء، وكشفها منهج قرآني، وسنة نبوية، ولها فوائد عظيمة منها:
الفائدة الأولى:تطعيم المؤمن ضد هذه الأساليب: بحيث تؤدي أساليب الأعداء إلى مردود عكسي، فتزيد الإيمان، وتوثقه، ولا يرتاب المؤمنون بسببها ولا يشكون، ومن أمثلة ذلك:
قال الله تعالى: }الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ...{ والنتيجة: }فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173]{ [سورة آل عمران] فأثمرت هذه الخطة نتيجة عكسية، وجعل الله النعمة في طي النقمة: ................. وربما صحت الأبدان بالعلل.
مثل آخر: قال تعالى: }وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[22]{[سورة الأحزاب].
الفائدة الثانية: مواجهة هذه الأساليب بالطرق المناسبة: فإن الحكم على الشيء ؛فرع عن تصوره، ولاشك أن الغفلة عن ألوان الخداع التي يمارسها اليوم عدو للإسلام، يملك الإعلام، والاقتصاد، ويملك التصنيع والإدارة، لاشك أن الغفلة عن خططه تؤدي إلى الوقوع في شراكه وحبائله، ولن يمكن للأمة أن تواجه هذه الحرب الضروس إلا إذا وصلت إلى درجة من الوعي والإيمان والتوكل على الله تعالى والإدراك الواضح لأساليب الخصوم.
الفائدة الثالثة: تقوية الإيمان عند المؤمنين: فإن الحرب لا تزيدهم إلا قوة .(240/3)
الفائدة الرابعة: رص الصفوف وجمع الكلمة: فإن الشعور الحقيقي بالخطر، وقوة العدو، وشدته، وشراستة؛ يؤدي إلى الوحدة والتقارب، وما أحوج المسلمين اليوم إلى توحيد صفوفهم، وإزالة العداوة، والشحناء بينهم.
ثالثاً: أساليب قديمة جديدة:
قال الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام:}مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ[43]{“سورة فصلت” قال جمهور المفسرين: قد قيل لمن أرسل من الرسل من قبلك: ساحر، وكاهن، ومجنون، وكذبوا كما كذبت، فلم يقل لك الناس من السبّ، والعيب، والأذى إلا ما قالوه للرسل من قبلك.. وقال الله تعالى: }وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ[23]{“سورة الزخرف”.
إن تنوعت وسائلهم فأصولهم ثابتة !!
إن طرائق الكفر في محاربة الإيمان هي هي، وإن تغيرت الأدوات، وتنوعت الوسائل إلا أن الأصول ثابتة، وإليك بعض الأمثلة:
تشويه نية الداعي، ومقصده، والحكم على ضميره، وعلى ما في داخله: }وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ[6]{“سورة ص” }وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ [78]{“سورة يونس”.
اتهام الإنسان في عقله: فقالوا لمن أرسله الله: }إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[60]{“سورة الأعراف” .
دعوة الجماهير إلى التمسك بموروثاتها، والوفاء لآبائها وأجدادها، وعاداتها وتقاليدها: وأن الرسل والأنبياء يريدون أن يغيروا هذه الأشياء، ويحكمون على الأمم السابقة بالضلال والانحراف؛ ولهذا ذكر الله تعالى ما قاله قوم نوح: }وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا[23] وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا... [24]ً{“سورة نوح”. فحرضوا الجماهير على التمسك بهذه الموروثات، والعادات، والتقاليد، والشخصيات، والآباء والأجداد، وأن الرسل يريدون صرفكم عن ذلك كله.
أسلوب التضييق على المؤمنين والحصار: كما قال المنافقون: } لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا[7]{ “سورة المنافقون” فالمنافقون يظنون أن الرزق بأيديهم ، فإذا حجبوا ما بأيديهم؛ ظنوا أن الإنسان يموت جوعاً وعطشاً وفقراً، أو يذهب ليسأل الناس ما يأكل أو ما يشرب، وما علموا أن الله تعالى بيده خزائن السموات والأرض}وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ[212]{“سورة البقرة”.(240/4)
وسيلة خاصة، وهي القتل والقمع: ويسمونها التصفية الجسدية}إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ...[20]{ “سورة الكهف” وكذلك قال فرعون، ومن معه:} فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ...[25]{ “سورة غافر” يعني اقتلوهم واقتلوا أبناءهم. ويجوز أيضاً: أن يكون المعنى التهديد بقتل الأولاد؛ إرغاماً للمؤمنين، واضطراراً لهم إلى التراجع عن دينهم، بحيث يقتل ولد الواحد منهم والأب يرى، ومما يصدق ذلك قصة ماشطة بنت فرعون: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ فَقَالَ هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا قَالَ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهَا قَالَ بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا فَقَالَتْ بِسْمِ اللَّهِ فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ أَبِي قَالَتْ لَا وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ قَالَتْ أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ قَالَتْ نَعَمْ فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا فَقَالَ يَا فُلَانَةُ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي قَالَتْ نَعَمْ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلَادُهَا فِيهَا قَالَتْ لَهُ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً قَالَ وَمَا حَاجَتُكِ قَالَتْ أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا قَالَ ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ قَالَ فَأَمَرَ بِأَوْلَادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ قَالَ يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَاقْتَحَمَتْ” رواه أحمد. إذاً:التصفية والقتل واردة عندهم، وقد يقتلون أولاد الواحد؛ إرغاماً له، ومضايقة، وتهديداً .
الحصار وفرض الإقامة الجبرية: كما فعلوا بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم:} وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ...[30]{ “سورة الأنفال” يعني: يمنعوك من الخروج، ومغادرة البلد.
النفي من الأوطان والإخراج: }...أَوْ يُخْرِجُوكَ {“سورة الأنفال” وكذلك في الآية الأخرى:} أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ...{ ما هو ذنبهم؟ ما عيبهم؟ }...إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ[82]{ “سورة الأعراف” وهذا باب يطول، وما ذكرته لايعدو أن يكون بعض الأمثلة التي تؤكد أن الأساليب القديمة هي ذاتها الأساليب الجديدة، التي يستخدمها طغاة العصر في مقاومة الإسلام .
رابعاً: الحرب المعاصرة:
إننا بحاجة إلى أن نلقي شيئاً من الضوء على الحرب التي تواجه الإسلام اليوم؛ لأننا نصطلي بنارها، ونواجهها، ونعايشها لحظة لحظة، وساعة ساعة، وهذه الحرب تتحدد فيما ظهر لي في هدف واحد كبير وهو: الفصل بين المسلمين وبين حقيقة دينهم ؛ بالفصل بينهم وبين القرآن، والفصل بينهم وبين المسجد، والفصل بينهم وبين العلماء والدعاة، فيسهل حينئد خداع العامة، وترويج الأقاويل الباطلة عليهم بعيداً عن أولي الأمر، وأولي الرأي، الذين يدركون، ويستنبطون، ويسهل صرف الناس عن دينهم والتلبيس عليهم، وطالماً وقفت الأمة في مرات كثيرة مع جلاديها ضد مثقفيها؛ بسب عدم تبين الأمور، أوغيبة الوعي، وضياع الهدف؛ فسهل القضاء على علماء الأمة، وعلى دعاتها بشتى الوسائل، والأمة تتفرج، وتشعر أن الأمر لا يعنيها.. إن الوئام والانسجام بين الدعاة وبين الأمة هو خير وقاية للطرفين، وقد قال قوم شعيب:} يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ[91]{ “سورة هود” لقد تعللوا برهطه وعشيرته، وامتنعوا عن رجمه وقتله؛ بمراقبة ورعاية رهطه، وعشيرته، وقبيلته، ومن حوله.
إذاً: التقاء الأمة بعلمائها، واجتماعها معهم، والوئام والانسجام بين هؤلاء و أولئك؛ هو وقاية للعلماء، والدعاة، والمخلصين، والمجددين، والمصلحين من أن تمتد إليهم يد الأذى، أو يد التشويه.(240/5)
وهو أيضاً: وقاية للأمة ذاتها من الانحراف في عقيدتها، أو سلوكها، أوعبادتها؛ وذلك لوجود الهداة الدعاة، الذين يبصرونها بدين الله تعالى، ويدعون إليه، ويحذرونها من سبل الضلال، ولن تجد الأمة قط أنصح لها من أهل الدعوة والعلم لا في دينها ولا فى دنياها؛ فإن العلماء والدعاة المخلصين هم المدافعون عن حقوق الأمة، وهم المحامون عن مصالحها دينية كانت أو دنيوية، وهكذا كانوا عبر التاريخ، ولازالوا إلى يوم الناس هذا.
لقد جرب العدو، وأدرك أن الشعوب قابلة لأن تتحرك، وتثور إذا مست عقيدتها مساً مباشراً، إن إحراق المصحف- مثلاً- أو هدم المساجد، أو شتم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو سب الله تعالى؛ يثير المشاعر، ويحرك حتى أكثر الناس بعداً عن الدين..حتى المشاعر الخاملة تتحرك..ولهذا فلا بأس من قدر من العناية بالمصحف، وقراءته في الإذاعة، حتى في إذاعة إسرائيل، ولندن، وصوت أمريكا يفتتحون بالقرآن الكريم، ولا بأس أيضاً من تحلية المصحف بالذهب، ولا بأس عند الضرورة من إنشاء معاهد تخصص للقرآن الكريم، شريطة أن تقتصر على مجرد اللفظ، وإتقان القراءة، والتجويد. وأما تفسير القرآن.. والدعوة إليه، فضلا عن المناداة بتحكيمه، والعمل بشرائعه، فهي جريمة عندهم وربما يصل عقابها إلى القتل، أو ما يسمونه: الإعدام؛ لأن الذي ينادي بذلك خارج عن القانون، ويريد تحطيم مكتسبات الوطن، ويريد العودة إلى عصور الحريم، وإلى عصور التخلف، والرجعية، وهو مرتبط بالقوى الأجنبية العميلة.. إلى غير ذلك.
ولا بأس أيضاً من تشييد المساجد، وتفخيمها، وصرف الأموال لذلك، لكن لا مانع أن يبنى بجوار المسجد كنيسة صغيرة، أو حتى مرقص للترفيه والتسلية.. وكم هدمت مساجد، وعطلت عن العبادة الحقيقية دون أن ينكر الناس ذلك؛ إذاً: الناس يغضبون إذا هدم المسجد علانية، أو أحرق المصحف، لكن إذا عطل في غرضه، وهدفه، وسبب وجوده؛ فإن الناس ربما يغفلون ولا يتحركون، خاصةً إذا أحكم الكيد ونظم المكر.
وخلاصة ذلك: إن هناك طريقة واضحة اليوم، وهي تهدئة المشاعر بالمحافظة الظاهرية على أماكن العبادة، والحماية الظاهرية لأشخاص الملة: أنبياء كانوا، أوعلماء، أو دعاة، وفي المقابل يكون العمل الجاد للحيلولة بين الأمة، وبين قرآنها، وبينها وبين مسجدها، وبينها وبين علمائها بشتى الوسائل.
وسائلهم في ذلك:
أولاً: الوسائل المتعلقة بالأمة: تربية الطلاب على أن الولاء الوطني الأجوف- للزعيم، أو الحزب، أو الطائفة، أو القبيلة- هو الولاء الحقيقي؛ ولذلك كان السعي إلى تجفيف منابع التدين، وتطبيع العلاقات بين الأديان -كما يسمونها- الإسلام مع اليهودية مع النصرانية، وبالتالي تغيير المناهج الدراسية، خاصة مناهج الدين، والتاريخ، ولم يسلم من هذا التغيير أي بلد.
ثانياً:سن القوانين الاجتماعية العلمانية: التي تبيح العلاقات المحرمة بين الجنسين، بل وتشجع ذلك باسم الحرية، وباسم ممارسة الحياة الاجتاعية السليمة من العُقَد، وفي معظم بلاد العالم الإسلامي تسن القوانين التي تحمي المجرمين باسم الحرية، وهذه القوانين التي تتيح للإنسان إقامة علاقات مع امرأة أجنبية، هذه القوانين نفسها لا تسمح للإنسان أن يتزوج امرأة أخرى على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: إغراق المجتمعات بالمؤسسات والمدارس والنوادي: سواءً النوادي الرياضية، أو الترفيهية، أو الاجتماعية؛ شريطة أن يكون هدف هذه النوادي تربية المجتمع العلماني، البعيد عن الدين. إن مثل هذه الأساليب السابقة، وغيرها تولد مجتمعاً لا مكان للدين فيه، حتى إنه في بعض هذه الدول تكون نسبة المسلمين تسعين بالمائة، ومع ذلك تكون العطلة يوم الأحد، ولا أحد يعترض على ذلك؛ لأنه أصبح قانوناً ملزماً، والجميع تربوا على النظرة العلمانية اللادينية. ولكن مهما خطط العدو لجعل المجتمعات الإسلامية مجتمعات علمانية؛ حتى يرفضها الدعاة، ويبتعدوا عنها، إلا أنه من الممكن أن يتغلب الدعاة، وأن تتغلب الأمة على هذه الحواجز؛ ولذلك يسعى العدو إلى لون آخر من الحواجز، وهو الحواجز التي يقيمها في الأمة ضد الدعاة، وها هنا يأتي الدور الكبير للحيلولة بين الأمة، وبين أهل الدعوة، والإصلاح بكافة الوسائل، ومن هذه الوسائل ما يلي:(240/6)
اتهام الدعاة بأنهم يريدون مقاصد دنيوية: مثل السعي لقلب نظام الحكم، وهي شبهة قديمة، ومع ذلك ما ملوا منها . نعم نحن وسائر دعاة الإسلام، بل وكل مسلم، ولو كان داعية معروفاً واجب عليه أن يسعى إلى العمل بشريعة الله تعالى، وتحكيمها في عباده سواء في دماء الناس، أو أعراضهم، أو أفكارهم، أو أموالهم:} وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[44]{ }وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[45]{ }وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[47] { “سورة المائدة” فهذا دين الله وقوله.. شاء من شاء، وأبى من أبى، لكن اتهام الناس بغير بينة، أمر غير مقبول، ويجب أن يرفضه الجميع، ويرفضوا كل ما نتج عنه.
ومن المقاصد الدنيوية التي يتهمون بها أيضاً: اتهامهم بأخذ الأموال، واختلاسها، والتشهير بذلك،
وترويجه في أجهزة الإعلام، مع عدم إعطائهم الفرصة حتى للدفاع عن أنفسهم، ولو في نطاق محدود.
اتهام الدعاة بالارتباط بدولة أجنبية: وهذا يعتبر طعناً في الولاء والوطنية، والعجيب أن تلك الدول أو الجهات التي تتهمهم بالولاء لدول أجنبية هي نفسها ذات ارتباطات صريحة بدول معادية، فهي على صلة بإسرائيل وتعاون وطيد معها، و لها علاقات خفية، و معلنة مع أمريكا، ومع مخابراتها، وتصل إلى حد الولاء والتبعية المطلقة لها، فالأمر كما يقول المثل:'رمتني بدائها وانسلت'.ويجب أن ندرك أن مثل هذه الدعايات، والأقوال المغرضة لاتعتمد على حق، ولا على صدق } قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[111] {“سورة البقرة” . فعلى المسلمين أن يكونوا على مستوى من الوعي بحيث يحبطون مثل هذه التهم. وبالله عليك ما هو الشيء الذي تريده من الداعية حتى يثبت براءته؟! هل تريد منه أن يقول لك: هذا كذب؟ فإنه يقول لك بملء فمه: أن هذا كله كذب في كذب. والذي يُطالب بالدليل هو ذلك الذي يلقي بهذه التهم على دعاة الإسلام !!
اتهام الدعاة بالتطرف والإرهاب والسعي إلى تحطيم المكتسبات الوطنية والسياسة والاقتصادية: وضرب اقتصاد البلاد، وضرب السياحة، وضرب المكاسب السياسية، وتصوير دعاة الإسلام، وشباب الجماعات الإسلامية، بل وشباب الدعوة- ولو لم يكونوا من الجماعات- على أنهم متوحشون، وليست لديهم قدرة على الحوار، ومتعصبون، وأصحاب انفعالات، وهياج عاطفي وعصبي، وأنهم يؤمنون بأن آرائهم حق لا يقبل الجدل، وأن آراء غيرهم باطل لا يستحق النظر أو المناقشة، وأن خصومهم كفار، أو فساق، وأنهم يكفرون الناس، وأنهم يمارسون أساليب العنف.. إلى غير ذلك.
إن مثل هذه الأساليب لا تعبر حقيقة عن دعاة الإسلام؛ فإن دعاة الإسلام يؤمنون بالحوار، وكيف لا يؤمنون بالحوار، والله تعالى يقول:} ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...[125] {“سورة النحل” وكيف لا يؤمنون بالحوار، والله تعالى يقول:} وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ...[46] {“سورة العنكبوت” ..فهل حاوروا هم شباب الإسلام، ورجال الدعوة؟!
اتهام الدعاة بخدمة أهداف خاصة: كأن يتهم الدعاة- مثلاً- بأنهم لا يسعون إلى مصلحة الأمة، ولايهمهم أمر الدين، وإنما هم يسعون إلى تحقيق أهداف جماعة بعينها.. وما ذلك إلا للحيلولة بينهم وبين بقية المسلمين. إنني أقول: إن مجرد الانتماء والانتساب للجماعات التي تكون على الكتاب والسنة، وعلى طريقة السلف الصالح ليس حراماً لذاته، وفتوى سماحة الوالد عبد العزيز بن باز بحروفها في هذا الجانب معروفة. والمسألة لا تعدو أن تكون تعاوناً على البر والتقوى، متى كان مجرد انتساب لا يشوبه تعصب، ولا بدعة، ولا هوى. ولكننا مع ذلك معاشر دعاة الإسلام نرى أن الأفق الأرحب، أفق الأمة؛ أوسع، وأنظف، وأحسن. وبناءً عليه فإن دعاة الإسلام ليسوا دعاة جماعة بعينها، ولا يدعون الناس إلى طائفة بذاتها، وإنما هم دعاة إلى دين الإسلام، ولا يقبلون هذه الحزبية الضيقة أن يحجّموا بها شخصياتهم، أو عقولهم، أو آرائهم، أو نفوسهم، وإن كانوا لا يحاربون هذه الجماعات، ولا يناصبونها العداء بل هم يصادقونها، ويوالونها على البر والتقوى، ويتعاونون معها بالمعروف، ويناصحونها إذا رأوا منها ما يوجب النصيحة، وهذا هو الذي أعلمه من هؤلاء الدعاة.(240/7)
العمل على تفريق الجماعات الإسلامية، والطوائف، وضرب بعضها ببعض: حتى يسلم العدو، ويقف متفرجاً على حين يتشابك هؤلاء كما يتشابك الصبيان فيما بينهم. إن الغريب قد لايستطيع ما يستطيعه القريب، فالقريب أبلغ في المحاربة. ولذلك يجب على دعاة الإسلام، ورجاله، وأهله، وحملته أن يكونوا فوق مستوى المسائل الشخصية، والمعارك القريبة، وألا يقبلوا أن تثار معركة إلا مع عدو الإسلام، أما المعركة مع إخوانهم، فيجب ألا يستجيبوا لها، وأن يكونوا فوق مستوى هذه المعارك التي هي للعدو وليست للصديق.
الحصار الإعلامي: ففي الوقت الذي يُجند الإعلام فيه لضرب الدعاة، والنيل منهم، وسبهم، والتشهير بهم؛ فإن دعاة الإسلام لا يمكنون من الدفاع عن أنفسهم..وكذلك حرب الشريط الإسلامي، والحيلولة بينه وبين الناس أن يستمعوه، أو يشتروه، أو يتبادلوه، على رغم أننا نجد ترويجاً للأشرطة الغنائية حتى في الصحف، وإعلاناً عنها، وجوائز لمن يشتريها، ونجد هناك إغراءً للمغنيين والمغنيات بالانتشار، وترويجاً للمسلسلات، وإظهاراً للفتيات على شاشة التلفاز.. إلى غير ذلك من الوسائل، التي تنصب في الحصار الإعلامي على صوت الحق، وصوت الوضوح، وصوت الصراحة، ومحاولة الترويج، والتشهير للأصوات الأخرى المغرضة.
من محاضرة: أساليبهم في حرب الإسلام للشيخ/سلمان العودة(240/8)
أسباب أدت لتشويه صورة الإسلام في الغرب (1/2)
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لا شك أن قول الله _تعالى_: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ..." [البقرة:120]. حق لا مرية فيه، ولعل تلك العداوة الدينية التي يكنها اليهود والنصارى للمسلمين من أهم العوامل التي تدفع لتشويه صورة الإسلام في الغرب، وإلاّ لو كان هناك عدل وإنصاف لم يؤاخذ الإسلام والمسلمين بأخطاء فردية وتجاوزات توجد في كل الأديان والشعوب مثلها بل أضعافها على مر التاريخ.
وأخطأ من ظن أن الإشكال مع الغرب جاء من جهة عدم تصورهم جميعاً للإسلام أو لنبيه _صلى الله عليه وسلم_، وقد شاعت في الحدث الأخير (الرسوم المتنقصة لنبينا _صلى الله عليه وسلم_) عبارة غير دقيقة اتخذت كشعار ونصها: (لو عرفوه لأحبوه)، والله _تعالى_ يقول: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [آل عمران:71]. ويقول _عز وجل_: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" [الأنعام:20]، فكثير منهم يعرفون الكتاب ويكتمونه حسداً وبغياً، وكثير منهم يعلمون أن محمداً هو رسول الله حقاً، ومع ذلك أبوا إلاّ أن يناصبوه العداء في الحاضر، كما ناصبه أسلافهم العداء في الماضي، وهم يعلمون، ولهذا أثنى الله على من خالف هواه منهم، وانصاع للحق الذي عرف، فقال _سبحانه_: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف:157].
وفي قصة إسلام عبدالله بن سلام الحبر البحر _رضي الله عنه_ في صحيح البخاري وغيره أن عبد الله بن سلام جاء رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم، وابن سيدهم، وأعلمهم، وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في.
فأرسل إليهم نبي الله _صلى الله عليه وسلم_، فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله! فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق فأسلموا".
قالوا: ما نعلمه.
قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ : "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام"؟
قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا.
قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟
قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم.
قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟
قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم.
قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟
قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم.
قال: "يا ابن سلام! اخرج عليهم".
فخرج، فقال: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق فقالوا: كذبت فأخرجهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.
وهكذا النصارى ليسوا بمنأى عن نهج هؤلاء.
وقد ثبت عند البخاري وغيره أيضاً حديث أبي سفيان في كتاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ لعظيم النصارى، هرقل الروم، وخبر أبي سفيان معه، وفيه قول: "فقال [يعني هرقل] للترجمان قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه. وهم أتباع الرسل .
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.(241/1)
وسألتك: بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه.
ثم دعا بكتاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّ عليك إثم الأريسيين، و"يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ").
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.
وكان ابن الناظور صاحب إيلياء وهرقل سقفا على نصارى الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قالوا ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فلما استخبره هرقل قال اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن وسأله عن العرب فقال هم يختتنون فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأنه نبي فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل.
والشاهد مما سبق بيان أنه قد أخطأ من ظن أن سبب العداوة من جميع اليهود والنصارى لنبينا _صلى الله عليه وسلم_ عدم علمهم به أو بصدق رسالته.
وكما أن هذا السبب لا ينبغي أن يغفل ويهمل، فإن من الواجب كذلك أن لا يغالى فيه ويزايد، فإن هذا من دواعي تفاقم الإشكال لا حله، وهذا مقتضى الإنصاف الذي علمناه إياه ديننا، كما في قول الحق _سبحانه_: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" [آل عمران:113].
ولعل في هؤلاء ومن قرب منهم الجاهل الذي لم يسمع عن الإسلام إلاّ الصورة المشوهة فمثل هذا لا يستوي مع المشوهين، ولعل للكلام على بقية أقسام أهل الكتاب وتتمة الكلام في الأسباب الأخرى له مقام آخر، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد
أسباب أدت لتشويه صورة الإسلام في الغرب (2/2)
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على رسوله المجتبى، وبعد:
مر معنا أن من أسباب تشويه صورة الإسلام الرئيسة في الغرب هو العداوة الدينية التي أخبر الله عنها في قوله _تعالى_: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" [البقرة:120]، وذكر أن هذا السبب كما لا ينبغي أن يغفل ويهمل، فإن من الواجب كذلك ألا يغالى فيه ويزايد، فإن هذا من دواعي تفاقم الإشكال لا حله، وهذا مقتضى الإنصاف الذي علمناه إياه ديننا.
وعدم المغالاة فيه تكون بمراعاة أمرين:(241/2)
أحدهما: استحضار أن هناك خمسة طوائف من الغربيين، فكما أن هناك طائفة أولى من المستكبرين باطري الحق وغامطي الإسلام، فإن هناك طائفة ثانية من الجهلة المغرر بهم، أما الطائفة الثانية فلا يعرف أهلها عن الإسلام إلاّ ما صورته الطائفة الأولى، فهؤلاء المساكين المشرفين على الهوة السحيقة بعيدة قرار يحب أن يستنقذوا من بني الإسلام، فيعرفوا بنبي الثقلين وبدين الحق فتعرض لهم صورته المشرقة في سكينة وهدوء، وتقصير المسلمين في حقهم من أفحش الظلم لهم.
أما الطائفة الثالثة فهي بين هؤلاء وهؤلاء وهم المعرضون الذين لا يريدون معرفة الحق وتمييزه من الباطل، يصمون آذانهم ويستغشون ثيابهم، إما لهوى أو ظلم أو جهل، وهؤلاء ينبغي أن يرغبوا في الإسلام وينبهوا إلى أهمية النظر فيه، قبل أن يُلحقوا بالفريق الأول.
وأما الطائفة الرابعة فهم المنصفون من الغربيين الذين عرفوا شيئاً من الإسلام فبانت لهم تعاليمه السمحة، وتشريعاته الحكيمة، وعرفوا شيئاً عن نبينا_صلى الله عليه وسلم_ فعظموه، فوقفوا موقف أبي طالب من محمد_صلى الله عليه وسلم_ ، وقاموا مقام غيره ممن حمى بعض أهل الإسلام وذب عنهم.
ومن هؤلاء على سبيل المثال: جوسلين سيزاري (الباحثة الفرنسية)، روبرت فيسك (الصحافي البريطاني)، ماركوس بورج (أستاذ علوم الدين في جامعة أوريغون الأمريكية)، فرانسوا بورجا (الباحث الفرنسي المرموق)، وكذلك كارين أرمسترونج (الكاتبة البريطانية، والراهبة الكاثوليكية سابقاً)، وصاحبة العديد من المؤلفات عن الإسلام والمسيحية واليهودية.
بل الأمير الإنجليزي تشارلز، وشهادته النادرة التي أسقط فيها صفة التطرف التي يحاول الإعلام الغربي أن يربطها بالإسلام إلى جانب دفاع تشارلز عن فضل الحضارة الإسلامية على القارة الأوروبية، وعلى الحضارة الغربية بصفة عامة.
وأمثال هؤلاء ينبغي أن يعرف لهم فضلهم، وأن يكافؤوا عليه، وأن يحرص على دعوتهم وهدايتهم، وحري بمثلهم أن يسلموا إذا تعرفوا على الإسلام أكثر.
وأما الطائفة الخامسة والأخيرة فهم مسلمو الغرب، فهؤلاء ينبغي أن نكون ردءاً لمحسنهم، حادبين على مسيئهم، حريصين على هدايته وتوجيه التوجيه الأمثل.
أما الأمر الثاني الذي تنبغي مراعاته:
فهو معرفة الأسباب الأخرى التي ساعدت على تشويه صورة الإسلام والمسلمين، على الرغم من توافر عوامل التعريف بالإسلام وأهله في عصر الفضائيات وثورة الاتصالات.
ولعل أهما ينحصر في اثنين:
الأول: تقصير بني الإسلام في عرض صورة الإسلام الواضحة النقية.
والثاني: عرض صورة لمسخ مشوه والتصريح بأنها صورة الإسلام، أو الإيهام بذلك، عمداً أو خطأ.
ولاشك أن هذين السبيين يتداخلان مع ما سبق ذكره، ولاسيما الثاني فإن أثر الغرب في هذا ظاهر، بيد أن الغرب ليس هو كل شيء فيه، كما أن حقد الغربيين له من يدعمه من الأطراف العميلة المؤثرة وليست كل شيء فيه.
أما تقصير بني الإسلام في عرض صورة الإسلام الواضحة النقية فيشمل أموراً منها:
- تقصيرهم في عرضه ابتداء.
- وتقصيرهم في تنقية الصورة المشوهة بالشبه الغربية أو المستغربة الناطقة بالعربية.
- تقصيرهم في بيان الأخطاء ومعالجتها، على المستوى الداخلي والخارجي، فعندما تزور ممارسات باسم الإسلام خطأ، ثم لا يوضح بجلاء أن الإسلام منها براء داخل الصف المسلم أو خارجه، فإما أن تبقى الصورة مشوهة عند إغفال الاعتراف بالخطأ وتصحيحه في الذهن الغربي، وإما أن تتكرر الأخطاء عند إغفال توعية الصف المسلم وحواره وتعريفه بالخطأ الذي وقع فيه.
وأما عرض صورة لمسخ مشوه والتصريح بأنها صورة الإسلام، أو الإيهام بذلك، عمداً أو خطأ، فذلك يشمل أموراً أيضاً:
- منها الممارسات التي يعتقد بعض الجهلة أو المتحمسين أو المنهزمين أنها من الإسلام والإسلام منها براء.
- ومنها ما يزوره العلمانيون وأضرابهم وأذنابهم من دعاة التنوير بإحراق الفضائل، الذين يزعمون جهلاً أو كذباً أن الإسلام لا يعارض ما يعرضون وأن معارضته تشدد أو تزمت.
- ومنهم ما يُعرض في وسائل الإعلام المسلمة، أو يعرض في واقعهم من تعاملات مشينة، أو ممارسات تخالف هدي الإسلام، بغير نكير في أحيان، وبنكير لا يلتفت إليه في أحايين أخرى، فكل هذا مما يوهم الغربيين بأن تلك الصورة المشوهة هي الإسلام.
فلعل ما سبق من أسباب داخلية وخارجية، هي أعظم الأسباب التي قادت إلى تشوه صورة الإسلام لدى الغرب.
ويحسن التنبيه إلى أن العلاج الذي نملكه يتعلق أولاً بعلاج المظاهر والأسباب التي للمسلمين فيها يد، كتصحيح واقعهم مثلاً، وإنكار المناكر التي ليست من الإسلام في شيء.
ثم ثانياً بمدافعة الباطل وأهله الناقمين على الإسلام ومجاهدتهم جهاداً كبيرا من أجل إيصال صورة الإسلام للناس بيضاء نقية كما جاءنا به محمد_صلى الله عليه وسلم_ .
وهذا يتطلب خطاباً إعلامياً عصرياً نقدياً وموضوعياً يغزو الأسواق الغربية ويبتعد عن رتابة الخطاب الإعلامي الغربي والإسلامي الموجود اليوم.(241/3)
كما أن الحاجة إلى الالتجاء إلى الله ماسة، والاعتماد عليه كبيرة، والدعاء لأهل الضلال من الكفار بمعرفة الحق وأتباعه، وفي صحيح البخاري ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
فكما أننا بحاجة إلى دعاء الله بأن يهلك الظالمين المستكبرين المعرضين من الكافرين المستهزئين، نحن أيضاً بحاجة إلى أن نسأله _سبحانه_ أن يهدي ضالهم ويدل حائرهم، ولاسيما أولئك النفر الذين لا يزالون ينافحون عن الإسلام ونبيه _عليه الصلاة والسلام_.
أسأل الله أن يبرم للإسلام وأهله إبرام رشد يعز فيه وليه، ويذل فيه عدوه، ويهدى به من أراد الحق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(241/4)
أسباب اختلاف القراء في القراءات القرآنية
تعدد القراءات القرآنية أمر واقع أجمعت عليه الأمة سلفاً وخلفًا، وليس ثمة دليل لمن ينكر ذلك أو يستنكره؛ وإذ كان هذا واقعاً لا يمكن نكرانه أو تجاهله فإن السؤال الوارد هنا: ما السبب الذي أوجب أن يختلف القراء في قراءة القرآن على قراءات عدة ومتعددة، وصل المتواتر منها إلى أكثر من سبع قراءات.
ومن المفيد والمهم هنا التذكير بداية، أن الاختلاف في القراءات القرآنية إنما كان فيما يحتمله خط المصحف ورسمه، سواء أكان الاختلاف في اللفظ دون المعنى، كقراءة قوله - تعالى -: {جَُِذوة} بضم الجيم وكسرها وفتحها، أم كان الاختلاف في اللفظ والمعنى، كقراءة قوله - تعالى -: {ننشرها} و {ننشزها} وقوله - تعالى -: {يسيركم} و {ينشركم} وعلى هذا ينبغي أن يُحمل الاختلاف في القراءات القرآنية ليس إلاَّ.
بعد هذا التوضيح الذي نرى أنه مهم، نقول: إن الصحابة - رضي الله عنهم - كان قد تعارف بينهم منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الإنكار على من خالفت قراءته قراءة الآخر، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقرهم على ذلك، ولو كان في الأمر شيء لبيَّن لهم ذلك، أَمَا وإنه لم يفعل فقد دلَّ ذلك على أن الاختلاف في القراءة أمر جائز ومشروع، وله ما يسوغه.
وقد صح في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شافٍٍ كافٍ) رواه النسائي، وفي "الصحيحين" عنه - صلى الله عليه وسلم - أيضًا، قوله: (أُنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر) رواه البخاري و مسلم.
وقد ذكرنا في مقال سابق لنا، أن القول المعتمد عند أهل العلم في معنى هذا الحديث، أن القرآن نزل على سبع لغات من لغات العرب، وذلك توسيعًا عليهم، ورحمة بهم، فكانوا يقرؤون مما تعلموا، دون أن يُنكر أحد على أحد؛ بل عندما حدث إنكار لهذا، كما كان من أمر عمر - رضي الله عنه - مع هشام بن حكيم بيَّن له - صلى الله عليه وسلم - أن ليس في ذلك ما يُستنكر، وأقر كل واحدٍ منهما على قراءته، والحديث في "صحيح البخاري ".
ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده - رضي الله عنهم - وجَّهوا الصحابة إلى البلدان ليعلِّموا الناس القرآن وأحكام دينهم، فعلَّم كل واحدٍ منهم أهل البلاد التي أُرسل إليها ما كان يقرأ به على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاختلفت قراءة أهل تلك البلاد باختلاف قراءات الصحابة - رضي الله عنهم -.
والذي دلت عليه الآثار أنَّ جَمْعَ عثمان - رضي الله عنه - للقرآن إنما كان نسخًا له على حرف واحد، هو حرف قريش (لغة قريش)، ووافقه على ذلك الصحابة - رضي الله عنهم -، فكان إجماعًا. وإنما لم يحتج الصحابة في أيام أبي بكر و عمر - رضي الله عنهما - إلى جمع القرآن على الوجه الذي جمعه عليه عثمان؛ لأنه لم يحدث في أيامهما ما حدث في أيامه، وإنما فعل عثمان ما فعل حسمًا للاختلاف بين المسلمين، وتوحيدًا لهم على كتاب الله.
والأمر الذي ينبغي الانتباه إليه في فعل عثمان - رضي الله عنه - أن هذا الحرف الذي جُمِع عليه القرآن - وهو حرف من الأحرف السبعة التي نص عليها الحديث - إنما كان على لغة قريش - كما ذكرنا - وأن هذا النسخ العثماني للقرآن لم يكن منقوطًا بالنقاط، ولا مضبوطًا بالشكل، فاحتمل الأمر قراءة ذلك الحرف على أكثر من وجه، وفق ما يحتمله اللفظ، كقراءة قوله - تعالى -: {فتبينوا} و {فتثبتوا} ونحو ذلك، ثم جاء القراء بعدُ، وكانوا قد تلقوا القرآن ممن سبقهم - فقرؤوا ما يحتمله اللفظ من قراءات، واختار كل واحد منهم قراءة حسب ما تلقاه ووصل إليه؛ وهكذا اختار بعضهم القراءة بالإمالة، واختار بعضهم إثبات الياءات، ورأى البعض الآخر حذفها، واختار البعض القراءة بتحقيق الهمزة، واختار الآخر القراءة بتسهيلها، وهذا يدل على أن كلاً اختار قراءته - ضمن ما يحتمله خط المصحف العثماني - وَفق ما وصله، دون أن ينكر أحد القراء على أحد، لأن تلك القراءات كلها ثبتت بطرق متواترة، ودون أن يعني ذلك أن عدم قراءة أحد من القراء على وفق قراءة غيره، أن قراءة الأخير غير صحيحة، بل جميع تلك القراءات التي قرأ بها القراء السبعة قراءات توقيفية، ثبتت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأجمع المسلمون على صحتها والقراءة بها. والمسألة في هذا أشبه ما يكون في نقل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري و مسلم في "صحيحهما" ما صح عندهما من حديث رسول الله، وقد انفرد كل منهما برواية بعض الأحاديث التي لم يروها الآخر، وأيضًا فقد صح من الأحاديث ما لم يروه البخاري و مسلم، وعلى هذا المحمل ينبغي أن يُفهم وجه اختلاف القراء في القراءات.
نسأل الله أن ينفعنا بالقرآن العظيم، ويجعله نورًا في قلوبنا، وجلاءً لهمومنا وغمومنا، ونسأله - سبحانه - أن يجعلنا من المتمسكين بما فيه، والحمد لله رب العالمين.
19/01/2004(242/1)
http://www.islamweb.net المصدر :(242/2)
أسباب الاتفاق والاختلاف في العمل الإسلامي بين الخلف والسلف
أ. د. عمر يوسف حمزة*
ملخص البحث
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله، وبعد..
فإن هذا البحث قد اشتمل على مقدمة بيّنت فيها أهمية الوحدة بين المسلمين، وإن الإسلام ثمّن روح التعاون، وحارب العزلة وكل ما يدعو إلى الفرقة والتمزق، وإن الاعتصام بحبل الله تعالى من الجميع هو أساس الوحدة والتجمع، كما بيّن البحث أن الاتحاد فريضة دينية وهو كذلك عصمة من الهلكة.
اشتمل البحث على بيان أسباب الاختلاف عند السلف من الصحابة والتابعين في الفروع، وهي أربعة أسباب بينتها بالتفصيل في مواضعها من البحث، وبيّن البحث أسباب الفرقة بين المسلمين في القرون الماضية، وأسباب الفرقة بين المسلمين في العصر الحاضر، وأهم مقومات الوحدة الإسلامية وهي:
(1) التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(2) التعارف الإنساني وقوة التآخي وقوة الشعور بأن المسلمين جسم واحد.
(3) التعاون في دفع الضر وجلب الخير.
كما اشتمل البحث على خاتمة تضمَّنت أهم نتائج البحث.
وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لخدمة الإسلام والمسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فإنه استجابة للدعوة الكريمة التي تلقيتها من قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم لحضور المؤتمر العلمي بعنوان: (العمل الإسلامي بين الاتفاق والافتراق)، وإسهاماً مني في هذا العمل المبارك كتبت هذه الورقة؛ والتي سوف أتناول فيها ــ بإذن الله ــ أسباب الاتفاق والاختلاف في العمل الإسلامي بين السلف والخلف رضي الله عنهم.
إن من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا أن جعلنا من أمة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهدانا إلى أن نكون في زمرة أهل السنة والجماعة، ورحمنا بالسلامة من أهل البدع والضلالة، ورزقنا محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم، ومما يجب علينا نحن المسلمين أن نتعرف على القواعد التي قام عليها المجتمع الإسلامي في العصور الفاضلة للإسلام، حيث كان مجتمعاً يسوده التعاون والتضامن والترابط، ويشيع الاستقرار في جوانبه، وقد سعد أفراده بظلال الأمن الوارفة، وبروح المحبة الصادقة، فكان كل فرد فيه يشعر بمحبة أخيه المسلم له، مما جعلهم مثالاً طيباً، وقدوة حسنة لمن أتى بعدهم، ونحن الآن إن أردنا العزة التي فقدناها والقوة التي ننشدها، فعلينا أن نعيد صياغة مجتمعاتنا الإسلامية على هذه العناصر وتلك القواعد التي أقام عليها الإسلام مجتمعه الأول.
نحن ــ كأفراد ــ مدينون في حياتنا للجماعة التي تعيش بين أظهرنا، فلولا رعاية الأبوين للطفل الوليد، ولولا عناية الأستاذ بالفتى التلميذ، ولولا وجود هذه المهن التي تقوم بكل ما يحتاج إليه الإنسان من شؤون معيشته، لولا هذا كله ما استطاع الإنسان أن يعيش آمناً على نفسه، مستفيداً من ثروته وجهوده، وبذلك كان كل فرد في المجتمع، مهما علا شأنه، مديناً للآخرين بجهودهم وصنعتهم وأعمالهم([1]).
ولذا كان من أبرز مظاهر الوعي والرقي في الأفراد شعورهم بحق الجماعة عليهم، وتصرفهم في حدود التعاون الاجتماعي؛ حتى يكون المجتمع متراصاً لا تجد فيه ثغرة ولا خللاً، وبهذا الميزان يقاس رقي الأمم وخلود الحضارات وعظمة الديانات.
فالدين الحق هو الذي ينمي في الفرد روح الجماعة والشعور بحقها في الحياة الكريمة، والحضارة الخالدة هي التي تحمل أبناءها على أن يشعروا بالجماعة، والأمم الراقية هي التي تُغلِّب الروح الجماعية على كل نزعة فردية وانعزالية في أبنائها.
ومن الحق أن الإسلام يحتل مكان الصدارة بين الديانات التي تدعو إلى التعاون، وتحارب العزلة وأسباب الاختلاف بين المسلمين، ومن الأمور الهامة التي ينبغي أن نركز عليها هو أن الترابط الاجتماعي في الإسلام يقوم على عناصر لها صلة قوية بأركان هذا الدين وقواعده، وهذا هو السر في بقاء الإسلام قوياً بذاته، وإن تخلى عنه كثير من أبنائه، فقد مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرناً ولا يزال جديداً يحمل للناس كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم، ومرَّت به أزمات لو نزلت بالجبال لفتتها، وواجه عقبات لو صادفها الفولاذ لأذابته، ونزلت به ضربات لو نزلت بغير الإسلام لأصبح ذكرى يتحدث عنها التاريخ.
ولكن هيهات.. فقد خرج من كل ذلك قوياً بذاته، ولا يزال صامداً في الميدان، وأننا لنلاحظ أنه كلما ابتعد المسلمون عن دينهم سخر الله من يحمل رايته، ويدفع عنه المعتدين، ويحبط كيد الكائدين تحقيقاً لقول الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [سورة الحجر: 9].
القرآن الكريم يدعو إلى الوحدة ونبذ الفرقة(243/1)
يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين * وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون * ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأمّا الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) [سورة آل عمران: 100ــ107]، هذه الآيات الكريمة دعوة قوية إلى توحيد الكلمة واجتماع الصف المسلم على الإسلام، وقد تضمنت الآتي:
(1) التحذير من دسائس غير المسلمين، ومن طاعتهم فيما يوسوسون به فليس وراءها إلا الارتداد على الأعقاب والكفر بعد الإيمان.
(2) التعبير عن الإتحاد بالإيمان، وعن التفرق بالكفر، فإنّ معنى (يردوكم بعد إيمانكم كافرين) أي بعد وحدتكم وأخوتكم متفرقين متعادين كما يدل على ذلك سبب النزول([2]).
(3) أن الاعتصام بحبل الله من الجميع هو أساس الوحدة والتجمع بين المسلمين، وحبل الله هو الإسلام، والقرآن الكريم.
(4) التذكير بنعمة الأخوة الإيمانية بعد عداوات الجاهلية وإحنها وحروبها، وهي أعظم النعم بعد الإيمان، قال تعالى: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) [سورة الأنفال: 63].
(5) لا يجمع الأمة أمر مثل أن يكون لها هدف كبير تعيش له، ورسالة عليا تعمل من أجلها، وليس هناك هدف أو رسالة للأمة الإسلامية أكبر ولا أرفع من الدعوة إلى الخير الذي جاء به الإسلام، وهذا سر قوله جلّ شأنه في هذا السياق: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)([3]).
(6) التاريخ سجل العبر، والواعظ الصامت للبشر، وقد سجل التاريخ أن من قبلنا تفرقوا واختلفوا في الدين فهلكوا، ولم يكن لهم عذر لأنهم اختلفوا بعد ما جاءهم العلم، وجاءتهم البينات من ربهم، ومن هنا كان التحذير الإلهي: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)، فالله تعالى يقول للمؤمنين: لا تكونوا كاليهود والنصارى الذين تفرقوا في الدين واختلفوا فيه بسبب اتباع الهوى من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحات: (وأولئك لهم عذاب عظيم) ([4]) أي: لهم بسبب الاختلاف عذاب شديد يوم القيامة.
هذا وقد أكد القرآن الكريم أن المسلمين ــ وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم وأوطانهم ولغاتهم وطبقاتهم ــ أمة واحدة، وهم الأمة الوسط الذين جعلهم الله شهداء على النّاس، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرسول عليكم شهيداً) [سورة البقرة: 143]، وأعلن القرآن أن الأخوة الواشجة هي الرباط المقدس بين جماعة المسلمين، وهي العنوان المعبر عن حقيقة الإيمان: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) [سورة الحجرات: 10]، وحذَّر القرآن من التفرق أيما تحذير، ومن ذلك قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) [سورة الأنعام: 65]، فجعل تفريق الأمة شيعاً ــ يذيق بعضها بأس بعض ــ من أنواع العقوبات القدرية التي ينزلها الله بالناس إذا انحرفوا عن طريقه، ولم يعتبروا بآياته، وقرنها القرآن بالرجم ينزل من فوقهم "كالذي نزل بقوم لوط أو بالخسف يقع من تحت أرجلهم كالذي وقع لقارون"([5]).
وقال تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) [سورة الأنعام: 159]. جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى الذين تفرقوا واختلفوا في دينهم، وجاء عن غيره أنّها نزلت في أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة.(243/2)
قال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له، فإنّ الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد، لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه (وكانوا شيعاً) أي فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء([6]) والضلالات، فإن الله تعالى قد برّأ رسول الله صلى الله علي وسلم مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ًوالذي أوحينا إليك * وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) [سورة الشورى: 13].
الاتحاد والترابط فريضة دينية
يجب أن يكون هدف الداعين إلى الإسلام والعاملين له الإتحاد والألفة، واجتماع القلوب، والتئام الصفوف، والبعد عن الاختلاف والفرقة، وكل ما يمزق الجماعة، أو يفرق الكلمة: من العداوة الظاهرة، أو البغضاء الباطنة، ويؤدي إلى فساد ذات البين، مما يوهن دين الأمة ودنياها جميعاً.
فلا يوجد دين دعا إلى الأخوة التي تتجسد في الاتحاد والتضامن والتساند والتعاون، مثل الإسلام في قرآنه وسنته، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إياكم والظنّ فإنّ الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، و لا تناجشوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً))([7]). هذا الحديث الشريف اشتمل على جملة من الآداب عظيمة فيها ما فيها من التخلي عن كثير من الرذائل، والتحلي بفضيلة من أجلِّ الفضائل وهي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في نهاية هذا الحديث العظيم بأن نكون ((إخواناً))([8]) بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، ومتعاونين على الحق متكاتفين ضد الباطل حتى نؤدي ما علينا لله عز وجل، وما علينا لهذا المجتمع الذي تعيش فيه، حتى يسير الكل على الجادة والصراط المستقيم، قوله صلى الله عليه وسلم: ((وكونوا عباد الله إخواناً)) في صحيح مسلم: زاد في آخر الحديث من رواية صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه بعد هذه الجملة: ((كما أمركم)) فتكون الجملة بأجمعها في صحيح مسلم من هذه الرواية: ((وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله)) أي بهذه المقدَّم ذكرُها، فإنها جامعة لمعاني الأخوة، ونسبتها إلى الله لأنّ الرسول مبلغ عن الله، قال جلّ شأنه: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) [سورة النساء: 80]، وهذه الجملة تؤيد القول بأنّ المراد بالعبودية هنا هي عبودية المؤمنين بالله وحده، والذين رضوا به رباً، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: (كما أمركم الله) يعني بقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) [سورة الحجرات: 10] ، فإنه خبر بمعنى الأمر كأنه قال: تعاملوا معاملة الإخوة أيها المؤمنون.
قال ابن حجر: "وهذه الجملة تشبه التعليل لما تقدم ــ يقصد ابن حجر جملة: ((وكونوا عباد الله إخواناً)) ــ كأنه قال: إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخواناً: أي اكتسبوا ما تصيرون به إخواناً مما سبق ذكره، وغير ذلك من الأمور المقتضية لذلك إثباتاً ونفياً، وقوله: ((عباد الله)) أي يا عباد الله بحذف حرف النداء، وفي ذلك إشارة إلى الرابطة التي تربط بينهم بأواصر الود والأخوة وهي العبودية لله، وقد قبلوها مختارين راضين بتبعاتها، ومتطلباتها، وفما أحقهم بأن يتآخون بها، ويتعاونوا على البر والتقوى تحت لوائها".
وقال القرطبي في معنى هذه الجملة: "كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة، والمحبة، والمساواة، والمعاونة،و النصيحة"([9]).
وقد أكدت السنة النبوية وفصَّلت ما جاء به القرآن الكريم من الدعوة إلى الاتحاد والائتلاف، والتحذير من التفرق والاختلاف، فقد دعت السنة إلى الجماعة والوحدة، ونفّرت من الشذوذ والفرقة، ودعت إلى الأخوة والمحبة، وزجرت عن العداوة والبغضاء. روى الترمذي عن ابن عمر قال خطبنا عمر بالجابية (اسم موضع) فقال: يا أيها الناس، إني قمت مقام رسول الله صلى الله عليه سلم فينا، فقال: ((أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة))([10]). وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يد الله مع الجماعة))([11]). وفي الصحيحين: أنّ: ((من فارق الجماعة شبراً فمات، فميتته جاهلية))([12]).(243/3)
ومن كراهية الإسلام للفرقة والاختلاف نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بالانصراف عن قراءة القرآن إذا خشي من ورائها أن تؤدي إلى الاختلاف، فقد روى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه))([13])، أي تفرَّقوا وانصرفوا لئلا يتمادى بكم الاختلاف إلى الشر. فرغم ما هو معلوم لكل مسلم من فضل قراءة القرآن، وأن لقارئه بكل حرف عشر حسنات، لم يأذن بقراءته إذا أدت إلى التنازع والاختلاف، سواء كان الاختلاف في القراءة أو كيفية الأداء، فأمروا أن يتفرقوا عند الاختلاف ويستمر كل منهم على قراءته، كما ثبت فيما وقع بين عمر وهشام، وبين ابن مسعود وبعض الصحابة وقال: كلاكما محسن.
إن كان الاختلاف في فهم معانيه، فالمعنى: اقرؤا القرآن والزموا الائتلاف على ما دلَّ عليه، وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف، أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق، فاتركوا القراءة وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة، وأعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة، وهو كقوله في الحديث الأخر: ((فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم))([14])، وفي هذه الأحاديث ــ كما قال الحافظ ابن حجر ــ الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف، والنهي عن المراء في القرآن بغير حق([15]).
لماذا حرص الإسلام على الوحدة والترابط؟
حرص الإسلام على الوحدة والترابط لأن في الاتحاد منافع كثيرة في حياة الأمة لا تخفى على عاقل:
(أ) فالاتحاد يقوي الضعفاء ويزيد الأقوياء قوة على قوتهم فاللبنة وحدها ضعيفة مهما تكن متانتها، وآلاف اللبنات المتفرقة والمتناثرة ضعيفة بتناثرها وإن بلغت الملايين، ولكنها في الجدار قوة لا يسهل تحطيمها لأنها؛ باتحادها مع اللبنات الأخرى في تماسك ونظام، أصبحت قوة أي قوة، وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف بقوله: [المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً] وشبَّك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.
(ب) والاتحاد كذلك عصمة من الهلكة، فالفرد وحده يمكن أن يضيع، ويمكن أن يسقط يفترسه شياطين الإنس والجن، ولكنه في الجماعة محميٌّ بها؛ كالشاة في وسط القطيع لا يجترئ الذئب على أن يهجم عليها؛ فهي محمية بالقطيع كله.
أسباب الاختلاف عند السلف من الصحابة والتابعين في الفروع
لم يكن الفقه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدوَّناً، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذ مثل بحث هؤلاء الفقهاء حيث يبيِّنون بأقصى جهدهم الأركان والشروط والآداب.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيرى أصحابه وضوءه؛ فيأخذون به من غير أن يبيِّن أن هذا ركن وذلك أدب. وكان يصلي فيرون صلاته فيصلون كما رأوه يصلي، وحج فرمق النّاس حجه([16])؛ ففعلوا كما فعل، وهذا كان غالب حاله صلى الله عليه وسلم، ولم يبيِّن لهم أن فروض الوضوء سبعة أو أربعة، ولم يفرض أن يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة حتى يحكم عليه بالصحة أو الفساد، و إلا ما شاء الله، و قلما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض كلهن في القرآن، منهن (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) [سورة البقرة: 217]، (يسألونك عن المحيض) [سورة البقرة: 222]، قال: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم"([17]).
قال ابن عمر رضي الله عنهما: "لا تسأل عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن".
قال أبو القاسم: "إنكم تسألون عن أشياء ما كنّا نسأل عنها، وتنقرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها، وتسألون عن أشياء ما أدري ما هي، لو علمناها ما حلَّ لنا أن نكتمها". وعن عمرو بن إسحاق قال: "لقد أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشديداً منهم"([18]). وعن عبادة بن نسي الكندي سئل عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي، فقال: "أدركت أقواماً ما كانوا يشددون تشديدكم و لا يسألون مسائلكم"([19]).
وكان صلى الله عليه وسلم يستفتيه الناس في الوقائع فيفتيهم، وترفع إليه القضايا فيقضي فيها، ويري الناس يفعلون معروفاً فيمدحه، أو منكراً فينكره عليهم، وما كل ما أفتى به مستقيماً عنه أو قضى به في قضية أو أنكره على فاعله كان في الاجتماعات.(243/4)
ولذلك كان الشيخان أبو بكر وعمر إذا لم يكن لهما علم في المسألة يسألان الناس عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بكر رضي الله عنه: "ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيها شيئاً ــ يعني الجدة ــ"، وسأل الناس، فلما صلى الظهر قال: "أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الجدة شيئاً؟"، فقال المغيرة بن شعبة: "أنا"، قال: "ماذا؟" قال: "أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدساً"، قال: "لم يعلم ذلك أحد غيرك؟"، فقال محمد بن مسلمة: "صدق". فأعطاها أبو بكر السدس([20]).
وبالجملة فهذه كانت عادته الكريمة صلى الله عليه وسلم فرأى كل صحابي ما يسره الله له، من عباداته وفتاواه وأقضيته فحفظها وعقلها وعرف لكل شئ وجهاً من قبل حفوف القرائن به([21]). فحمل بعضها على الإباحة وبعضها على الاستحباب، وبعضها على النسخ؛ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده، ولم يكن العمدة عندهم إلاّ وجدان الاطمئنان والثلج من غير التفات إلى طرق الاستدلال، كما ترى العرب بفهمون مقصود الكلام فيما بينهم، وتثلج صدورهم بالتصريح والتلويح والإيماء من حيث لا يشعرون.
فانقضى عصرهم الكريم وهم على ذلك، ثم إنهم تفرقوا في البلاد، وصار كل واحد منهم قدوة للنّاس، في بلد من البلاد فكثرت الوقائع، ودارت المسائل فاستفتوا فيها، فأجاب كل واحد حسب ما حفظه أو استنبطه، وإن لم يجد فيما حفظه واستنبطه ما يصلح للجواب اجتهد برأيه وعرف العلة التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم في منصوصاته، فطرد([22]) الحكم حيثما وجدها، لا يألو جهداً في موافقة غرضه عليه الصلاة والسلام فعند ذلك وقع الاختلاف بينهم على ضروب:
منها: أن صحابياً سمع حكماً في قضية أو فتوى ولم يسمعه الآخر فاجتهد برأيه في ذلك، وهذا على وجوه:
أحدها: أن يقع اجتهاده موافق الحديث، مثاله ما رواه النسائي وغيره أنّ ابن مسعود رضي الله عنه سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها([23])، لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي في ذلك، فاختلفوا عليه شهراً وألحوا، فاجتهد برأيه وقضى بأنّ لها مهر نسائها([24]) لا وكس ولا شطط([25]). وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك في امرأة منهم، ففرح بذلك ابن مسعود فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام.
ثانيها: أن يقع بينهما المناظرة ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن، فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع. مثاله: ما رواه الأئمة من أنّ أبا هريرة رضي الله عنه كان من مذهبه أنّه من أصبح جنباً فلا صوم له، حتى أخبرته بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف مذهبه فرجع.
ثالثها: أن يبلغه الحديث ولكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن، فلم يترك اجتهاده، بل طعن في الحديث. مثاله: ما رواه أصحاب الأصول من أن فاطمة بنت قيس شهدت عند عمر بن الخطاب بأنها كانت مطلقة الثلاث فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، فرد عمر شهادتها وقال: "لا نترك كتاب الله لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، لها النفقة والسكن"([26]). يقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة عليه رحمة الله معلقاً على هذا الحديث: قوله: "لا ندري أصدقت أم كذبت" ليس بهذا اللفظ في الأصول الخمسة، فالذي عند مسلم: "لا ندري حفظت أم نسيت"، ونحوه عند أبي داود والترمذي، ولم تذكر هذه الجملة عند النسائي وابن ماجة، وجاءت بلفظ مسلم في [المصنف لابن أبي شيبة 147:5] فعمر رضي الله عنه، عندما اتهم فاطمة بنت قيس رضي الله عنها بالكذب والافتعال للخبر، إنّما أراد أنّها قد تكون أخطأت، بلفظ "لا ندري".
قال الخطابي: "والعرب تضع الكذب موضع الخطأ في كلامها، فتقول: كذب سمعي، وكذب بصري، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي وصف له العسل: ((صدق الله، وكذب بطن أخيك))" ([27]).
رابعها: أن لا يصل إليه الحديث أصلاً، مثاله: ما أخرجه مسلم أن ابن عمر كان بأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فسمعت عائشة رضي الله عنها بذلك فقالت: "يا عجباً لابن عمر هذا، يأمر النساء أن ينقضن رؤوسهن([28]) أفلا بأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت اغتسل أنا وسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وما أزيد علي أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات". مثال آخر: ما ذكره الزهري من أنّ هنداً لم تبلغها رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه في المستحاضة([29]).(243/5)
وبالجملة اختلف مذاهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عنهم التابعون كل واحد ما تيسر له، فحفظ ما سمع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب الصحابة وعقلها وجمع المختلف على ما تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض، واضمحل في نظرهم بعض الأقوال وإن كان مأثوراً عن كبار الصحابة، كالمذهب المأثور عن عمر وابن مسعود في تيمم الجنب، اضمحل عندهم لما استفاض من الأحاديث عن عمار وعمران بن حصين وغيرهما، فعند ذلك صار لكل عالم من علماء التابعين مذهبُ على حياله، وانتصب في كل بلد إمامٌ مثل: سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله بن عمر في المدينة. وبعدهما الزهري، والقاضي يحيى بن سعيد، وربيعة بن عبد الرحمن، وعطاء بن رباح بمكة. وإبراهيم النخعي، والشعبي بالكوفة. والحسن البصري بالبصرة. وطاوس بن كيسان باليمن. ومكحول بالشام. فأظمأ الله أكباداً إلى علومهم، فرغبوا فيها وأخذوا عنهم الحديث وفتاوى الصحابة وأقاويلهم ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم من عند أنفسهم واستغنى منهم المستفتون، ودارت المسائل بينهم، ورفعت إليهم الأقضية.
أسباب الفرقة بين المسلمين في القرون الماضية
أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دعائم الوحدة بين المسلمين على أسس متينة، واستمرت في عهد الخلفاء الراشدين، وفي عهد ملوك بني أمية وملوك بني العباس، وكيف لم يؤثر فيها عصاة الملوك مادامت قلوب أهل الإيمان مطمئنة راضية بحكم الله، نافرة عن حكم الطاغوت.
الأسباب المعنوية:
إنّ الوحدة ائتلاف فكل ما ينافي الائتلاف، ويوجد النفور إنما هو سير في طريق الفرقة، والأسباب المعنوية كبيرة متضافرة، تكافت حتى اعتكرت بها النفس الإسلامية، فاستعدت للافتراق بعد الاجتماع، والأعمال التي قام بها الحكام في الفرقة فإنما حرثت أرضها الأمور المعنوية، وقد ظن الكثيرون أنّ السبب الأكبر هو قيام العصبية العربية من سباتها وانبعاثها من مرقدها، ولا شك أنّ ذلك جزأ من الأسباب، ولكنها جاءت في هذه المرة تنازعاً بين مضرية وربيعية، وإن ظهر شيء من ذلك في الفرق الإسلامية.
ويمكن الإشارة إلى أسباب الفرقة بإيجاز فيما يلي:
(1) شدة التعصب للعرب وكان ذلك من بعض الحكام والأمراء كما في الدولة الأموية.
(2) حقد المسلمين من غير العرب، ذكر ابن حزم أن من أسباب الفرقة حقد أهل فارس على الإسلام.
(3) الفرق الإسلامية وانقسامها كانت من ذرائع الفرقة وفكِّ الوحدة الإسلامية، وهي وغيرها من الأسباب المعنوية تصيب الجسم الجماعي، كما تصيب الأمراض جسماً تكمن فيه، وما دام الجسم قوياً، فإنّ حيويته تخفيها، فإذا كان الضعف، ووهن العظم فإنه حينئذ تظهر الأمراض، ويتضاعف الوهن، ويمتد التخاذل، وتنقطع الأوصال، وكذلك قد كان.
والفرق السياسية كانت تثير الفتن ابتداءً، ثم صارت من بعد ذلك جرحاً في جنب الدولة حتى تمزقت مزقاً وتفرقت دولاً، أو جزئيات من دول وأظهر الفرق السياسية التي ظهرت:
الشيعة والخوارج:
نبتت نابتة الفرقتين في وقت واحد وهو خلافة علي رضي الله عنه، في حربه مع البغاة عقب واقعة صفين، وإن هاتين الفرقتين وغيرهما من الفرق التي تجعل جزءاً من عملها سياسياً، فهي تدور حول محوره، فتبعد عن لب الدين، أو تقترب، ولكنها في حالي القرب والبعد تجعل الدين هو الأساس الذي تبني عليه قولها في السياسة.
تعددت فرق الشيعة على نحل مختلفة، منهم الغلاة، ومنهم أمة مقتصدة، ومنهم من خرجوا بتشيعهم عن الإسلام، لأنهم ألهَّوا علياً رضي الله عنه، واعتقدوا بحلول الألوهية فيه، وفي الأوصياء من بعده، ومنهم من قال: إن النبوة كانت لعلي ثم أخطأ جبريل، ونزل على محمد، لأنه بشبهه كما يشبه الغراب الغراب؟!
(4) ضعف اللغة العربية، لقد كانت اللغة العربية هي اللغة الجامعة بين الشعوب الإسلامية تجمعهم ديناً، لأنها وعاء الإسلام، إذ هي لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وبها نزل القرآن، ومن المفروض أن يعرف المسلم من اللغة العربية قدراً يصحِّح به دينه، وهي لغة التفاهم بين المسلمين، وبها يتعارفون، ويجتمعون.
(5) الشعوبية وإحياء اللغات القديمة: استيقظت الشعوبية قوية وهي التي تفضيل الأعاجم على العرب، وقويت في العصر العباسي الثاني الذي صار الحكم فيه لغير العرب، وإن كانت بذورها قد وجدت في العصر الأموي.
أسباب الفرقة بين المسلمين في العصر الحالي:
إننا الآن مفترقون، بل بيننا تناحر وتنازع في بعض نواحينا. وأنّ ذلك داء اعترانا بعد أن لم يكن، ورأينا مقدساتنا كيف تتهدم بأيدي أعداء الله وأعداء الحق وأعداء الإسلام، ووجدنا من لحن أقوالهم ومراميهم أنهم يرمون البيت الحرام وروضة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قائلهم بعد أن استولوا على إيلياء والمسجد الأقصى: لقد صار الطريق إلى مكة والمدينة مفتوحاً وهم متفقون على باطلهم ونحن متفرقون متنازعون على حقنا، وأهم أسباب التفرق ما يلي:(243/6)
أولها: وهو أعظمها أثراً، فساد الحكم عند الحكام، وصيرورته ملكية تتغالب مع غيرها، وتطبيق قانون الغابة على المسلمين بعضهم مع بعض، فلم يفرِّق الحكام بين حكم نبوي يستمد أصوله من الإسلام وحكم الغلب والقهر. وأن فساد الحكم نجم من ثلاثة عناصر مخالفة كل المخالفة لأحكام القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم:
(أ) إهمال الشورى عند تعيين الحاكم، وفي حكمه، فإنّ الله تعالى قال: (وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) [سورة الشورى: 38] ، وأنّ ذلك يقتضي ألاّ يختار الحاكم إلاّ بشورى المؤمنين، وأن تكون بعد الشورى حرية المبايعة، وأن يوفى الحاكم بحق البيعة، ويوفى المحكوم بحقها، وحقها من الحاكم العدل، وألا يهلك الحرث والنسل، وأن يعمل ما فيه خير المسلمين، وأن يستشير حتماً أهل الرأي والخبرة على حسب النظام الذي يناسب الزمان، وحقها على المحكوم الطاعة في غير معصية الله تعالى([30]).
(ب) من عناصر الفساد جعل الحكم وراثياً، يتلقاه الخلف عن السلف كأن الشعوب مادة تورث، ومن فساد الحكم إهمال الأحكام الإسلامية فتشيع المحاباة وتباح الدماء ويهمل القصاص، وتُضيَّع الحدود التي أمر الله تعالى بإقامتها، فريضة محكمة لا مناص من اتباعها والقيام بحقها.
(ج) وشر مظهر من مظاهر الفساد في الحكم الإسلامي، أن يستعان بغير المسلم على المسلم،كما استعان الفاطميون على الأيوبيين بالصليبيين، وكما استعان بعض حكام المسلمين في العصر الحديث بأمريكا على ضرب أفغانستان والعراق حيث نشاهد ما يعانيه إخواننا في العراق وأفغانستان وفلسطين، ومن هذا النوع سكوت الحاكم المسلم القوي عن معاونة من يستغيث ولا مغيث، وتركهم سليم الأول وسليمان القانوني حتى شُرِّدوا، ومزقوا كل ممزق، وذهبت دولة الأندلس.
ثانياً: الطائفية: وهي من الأسباب التي فرقت بين المسلمين، وكانت الطائفية أول طريق اتجه بالمسلمين إلى الفرقة والانقسام، ولكن المِعْوَل الأول رُدَّ على صاحبه، وذلك لأنّ الجدار الإسلامي كان قوياً، يحطم من يحاول أن يحطمه ولكن الأثر امتد بعده. فالطائفية ظهرت سبباً في الفتن والثورات المتوالية على بني أمية أولاً ثم بني العباس ثانياً.
ثالثاً: انقسام الناس في هذا العصر الحديث إلى فرق وطوائف متناحرة، كل فرقة تعتقد أنها هي الناجية وأن غيرها على خطر عظيم، وهذه الفرق انقسمت في داخلها إلى طوائف، وكل فرقة من هذه الفرق ترى أنها الطائفة الناجية المنصورة التي بشَّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله في كتاب (الفرقان بين الحق والباطل) أن المسلمين كانوا في خلافة أبي بكر وعمر وصدراً من خلافة عثمان في السنة الأولى من ولايته متفقين لا تنازع بينهم، ثم في أواخر خلافة عثمان حدثت أمور أوجبت نوعاً من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم، فقتلوا عثمان فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان، ولما اقتتل المسلمون بصفين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وفارقوه وفارقوا جماعة المسلمين، وحدث في أيامه الشيعة أيضاً، لكن كانوا مختفين بقولهم لا يظهرونه لعلي وشيعته، بل كانوا ثلاث طوائف:
(1) طائفة تقول أنه إله وهؤلاء لما ظهر عليهم أحرقهم بالنّار.
(2) والثانية السابّة وكان قد بلغه عن ابن السوداء أنه كان يسب أبا بكر وعمر، فطلبه فلم يجده.
(3) والثالثة المفضلة الذين يفضلونه علي الشيخين، وقد تواتر عنه أنّه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر"، وروى ذلك البخاري في صحيحه.
ثم في آخر عهد الصحابة حدثت القدرية، ثم حدثت المرجئة([31])، ويقول ابن تيمية في رسالته إلى جماعة الشيخ عدي بن مسافر ما نصه: "وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك لتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) [سورة المائدة: 14]، فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإنّ الجماعة ورحمة، والفرقة عذاب، وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) إلى قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)[ سورة آل عمران: 102ــ 104]، فمن الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف من شريعة الله تعالى.
مقومات الوحدة الإسلامية
الوحدة الإسلامية تحققت في الماضي، ويمكن أن تحقق في العصر الحاضر إذا رجع النّاس إلى دينهم، ويمكن تلخيص هذه المقومات في الآتي:(243/7)
أولاً: التمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن روح العصر توجب على المسلمين أن يتجمعوا حول هذا الأصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله تعالى يناديهم من وراء الخلود في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) تقدمت هذه الآيات ، إنه لا بد أن تجتمع بعد طول الافتراق، لأنّ الأمة الإسلامية تقوم فيها الروابط على وحدة الدين والعقيدة، ووحدة المبادئ الخلقية الفاضلة، والنظم الاجتماعية العادلة، والعبادات الجامعة.
ثانياً: التعارف الإنساني،وقوة التآخي، وقوة الشعور بأنّ المسلمين جسم واحد.
ثالثاً: التعاون في دفع الضر وجلب الخير والتعاون في الكسب والطيب، وأن نجتمع على ما اتفقنا عليه وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
خاتمة البحث
أحمد الله تعالى على توفيقه ورعايته وعنايته لكتابة هذا البحث الذي أرجو له القبول من الله تعالى، وأن يجعله مساهمة ذات قيمة في هذا المؤتمر العلمي الجامع، وأن يتقبل من القائمين عليه عملهم هذا وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم؛ إنه سميع مجيب الدعاء، وبعد..
فإنّ البحث قد توصل إلى النتائج التالية:
(1) الوحدة بين المسلمين واجبة وأنه لا ينبغي لأحد أن يزعزع هذه الوحدة.
(2) إن العمل على توحيد صف المسلمين وتنقية عقولهم مما علق بها ــ من أسباب الفرقة والتمزق ــ واجب على كل مسلم يرجو النجاة في الدنيا والآخرة.
(3) مقومات الوحدة بين المسلمين قائمة وراسخة، والعيب ليس في الإسلام وإنما العيب فينا.
(4) إن الأمة الإسلامية تواجه أخطاراً عظيمة داخلية وخارجية منظمة، تقوم على رعايتها دول عظمى سخرت كل مواردها من أجل حرب الإسلام والمسلمين، ونحن في سبات عميق نتناطح ونتنابذ من أجل أهواء شخصية وقضايا هامشية كانت سداً منيعاً في وجه وحدة العمل الإسلامي.
(5) حذَّر الله تعالى من الفرقة والاختلاف لأنها طريق الهلاك والدمار.
(6) جعل الله تعالى تفريق الأمة شيعاً ــ يذيق بعضنهم بأس بعض ــ من أنواع العقوبات القدرية التي ينزلها الله بالنّاس إذا انحرفوا عن طريقه ولم يعتبروا بآياته.
(7) يجب أن يكون هدف الداعين إلى الإسلام والعاملين له، الاتحاد والألفة واجتماع القلوب والتئام الصفوف والبعد عن الاختلاف والتفرق.
(8) يمكن للعمل الإسلامي أن يوحد بين المسلمين إذا قام على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما كان عليه المسلمون في عصور الإسلام الأولى، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها.
(9) الإخلاص في القول والعمل، والتجرد من الدنيا والأهواء والمصالح الذاتية.
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)
وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أهم مصادر البحث
(1) عناصر الترابط في المجتمع الإسلامي، أ.د. عمر يوسف حمزة، الطبعة الأولى، دار الثقافة، قطر، الدوحة، 1410هـ،1989م.
(2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام السيوطي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، عام 1412هـ.
(3) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، لأبي السعود العمادي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.
(4) تفسير الكشاف، للزمخشري.
(5) صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، الطبعة الأولى، دار القرآن الكريم، 1401هـ ــ 1981م.
(6) تفسير ابن كثير، طبعة الحلبي.
(7) تفسير القاسمي المسمى (محاسن التأويل)، محمد جمال الدين القاسمي، الطبعة الثانية، بيروت، دار الفكر، 1398هـ،1987م.
(8) قبس من مكارم الأخلاق والآداب، د. عاطف أمان، الطبعة الثانية، عام 1409هـ.
(9) لباب النقول في أسباب النزول للإمام السيوطي، الطبعة الثالثة، دار المعرفة، بيروت، 1421هـ .
(10) صحيح الإمام البخاري، طبعة دار ابن حزم، 1419هـ.
(11) صحيح الإمام مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الثانية، تونس، دار سحنون، 1413هـ.
(12) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام الحافظ ابن حجر، الطبعة الأولى، دار ابن حزم، 1419هـ.
(13) المسند، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، الطبعة الثانية، تونس، دار سحنون، 1413هـ.
(14) سنن الترمذي.
(15) مستدرك الحاكم على الشيخين.
(16) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، لمحمد فؤاد عبد الباقي.
(17) سنن الدارمي.
(18) مجمع الزوائد للإمام الهيثمي.
(19) أعلام الموقعين للإمام ابن القيم.
(20) المعجم الكبير للإمام الطبراني.
(21) موطأ الإمام مالك.
(22) سنن ابن ماجة.
(23) الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، ولي الدهلوي.
(24) عون المعبود شرح سنن أبي داود.
(25) روضة الناظر لابن قدامة الحنبلي.
(26) قواعد في علوم التحديث، للتهانوي.
(27) الوحدة الإسلامية، الشيخ محمد نور أبو زهرة، الطبعة الثانية، دار الفكر العربي، 1397هـ 1977م.(243/8)
([1]) انظر: عناصر الترابط في المجتمع الإسلامي، أ.د. عمر يوسف حمزة، ص7، وما بعدها ط1/1410هـ 1989م، دار الثقافة قطر الدوحة.
([2]) نقل السيوطي في الدر المنثور ج2 ص58،57 في سبب نزول هذه الآيات جملة آثار عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
([3]) انظر: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم لأبي السعود ج1 ص255 والكشاف ج1 ص2915 وصفوة التفاسير 1/221.
([4]) انظر صفوة التفاسير 1/221.
([5]) انظر البحث القيم للدكتور يوسف القرضاوي (أمتنا الإسلامية بين التفرق الممنوع والاختلاف المشروع) ص16 في مجلة مركز البحوث جامعة قطر العدد الرابع 1409هـ، 1989م.
([6]) انظر: تفسير ابن كثير ج2 ص196 طبعة الحلبي.
([7]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب ج8 ص23.
([8]) انظر قبس من مكارم الأخلاق والآداب ص77 للأخ الزميل الدكتور أحمد أمان ط2 عام 1409هـ الموافق 1988م دار التوفيق النموذجية بالقاهرة.
([9]) فتح الباري ج10 ص483 بتصرف.
([10]) رواه الترمذي في الفتن (2166) وقال: حسن غريب، ورواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي انظر المستدرك 1/114.
([11]) الترمذي (2167)... به، ورواه الحاكم 1/115، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير (8065) وشهد له ما قبله.
([12]) متفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
([13]) متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث (1706).
([14]) متفق عليه كما في المصدر السابق، حديث رقم (1705).
([15]) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري.
([16]) أي نظروا إليه ليأخذوا عنه أفعال الحج وأحكامه.
([17]) رواه الدارمي في سننه ج1 ص48، وذكره الحافظ الهيثمي في (مجمع الزوائد 1/158) عن الطبراني في الكبير، وهذا الحصر الذي جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنهم ما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلها في القرآن، حصر إضافي، وذلك بالنظر إلى ما ذكر من سؤالهم له في القرآن أما سؤالهم الذي جاء في السنة فأكثر من أن يحصى، وقد جمع الحافظ ابن القيم في آخر كتابه (أعلام الموقعين) جملة كبيرة من أسئلتهم له صلى الله عليه وسلم وفتاواه فيها، انظر الجزء الرابع ص266ــ 414.
([18]) يعني أنهم لم يكن عندهم تنطع وتشديد في عبادتهم وتدينهم لا أنهم متساهلون في أمور الدين.
([19]) أخرج هذه الآثار الدارمي في سننه ج1 ص47ــ48.
([20]) رواه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي، وصححه الترمذي.
([21]) أي إحاطة القرائن به.
([22]) طرد الحكم: جعله عاماً.
([23]) أي لم يسم لها مهراً.
([24]) أي مثيلاتها من النساء.
([25]) أي من غير زيادة أو نقصان.
([26]) انظر الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ص24: ولي الله الدهلوي.
([27]) عون المعبود ج1 ص163 وهدي الساري لابن حجر2/150 وجامع بيان العلم وفضله 2/154 وقواعد في علوم التحديث للتهانوي ص170ــ171 وروضة الناظر لابن قدامة الحنبلي ص45.
([28]) أي شعر رؤوسهن.
([29]) المستحاضة: هي المرأة التي يستمر خروج الدم منها بعد أيام الحيض المعتاد وقد رخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل مرة واحدة إذا انقضت أيام الحيض المعتادة وتتوضأ لكل صلاة.
([30]) الوحدة الإسلامية، الإمام محمد أبو زهرة ص234 طبعة دار الفكر العربي، ط2 1397هـ - 1977م.
([31]) محاسن التأويل للقاسمي ج4 ص186.(243/9)
أسباب الانتصار باختصار 7/8/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
لقد اختصر يوسف _عليه السلام_ بيان أسباب التمكين في قوله لإخوانه عندما دخلوا عليه، وقالوا: "أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ"؟ قال: "أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ".
وهذا إجمال تأتي آيات السورة ببيانه، فأما الأول فهو بوابة النصر ومن أعم مقوماته الانتصار على النفس وأهوائها، وأما المقوم الثاني للانتصار فهو الصبر الجميل، إنه من يتق ويصبر، وصبر يوسف _عليه السلام_ توضحه آيات السورة.
ومن تأملها وجد أن الصبر صبران، صبر اضطرار وصبر اختيار، وكلاهما صبره يوسف _عليه السلام_ صبر الاضطرار عندما وضع في البئر، وكذلك عندما وضع في السجن لم يكن لديه خيار فصبر.
أما صبر الاختيار فهو أعظم، وهو أكثر صبر يوسف، ومن ذلك عندما أراد منه الملك أن يخرج من السجن، فرفض حتى تظهر براءته، وعندما أساء إليه إخوانه "إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ" (يوسف: من الآية77)، لم يتكلم "فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ" (يوسف: من الآية77)، وعندما تولى الملك لم يبادر بإحضار أهله وأبيه، وصبر اختياراً عندما عفا عن إخوانه، "إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" (يوسف: من الآية90). يوسف _عليه السلام_، ضرب أروع الأمثلة في صبر الاضطرار وصبر الاختيار، فعلى الداعية إلى الله، والعالم إذا أراد أن يكتب الله به خيراً وتظهر دعوته فعليه أن يلتزم الصبر.
ومن دلائل أن عاقبة الصبر الجميل هي الظفر ما حدث ليعقوب _عليه السلام_، الذي قال: "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ"، وذلك في موضعين. والصبر الجميل هو الصبر الكامل الذي لا تشكي معه ولا تأسف. "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ".
ومن أعظم مقومات انتصار يوسف حسن التدبير وبعد النظر، وقد جاء هذا في مواضع في هذه القصة المتكاملة، وهو نوع من التخطيط، عندما جاءه رسول الملك يدعوه فرفض أن يخرج. هذا يدل على خطة كان يرسمها يوسف _عليه السلام_ "ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ" (يوسف: من الآية50). فهو يرمي إلى أمر آخر قد يحتاج إلى تخطيط ويحتاج إلى بعد نظر، وقبل توليه الملك أثبت براءته وبين بعمله أنه حفيظ عليم قبل أن ينطقها لسانه، فلما استدعاه الملك وجعله خالصاً لنفسه، قال: "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف: من الآية55). وهذا أيضا بعد نظر من يوسف _عليه السلام_؛ لأنه عرف أنه عن طريق رئاسته مصر، وأن يكون عزيز مصر، أنه سيحقق لدينه ولأمته مجداً عظيماً، وسيطبق شرع الله _جل وعلا_، ومن تخطيطه وبعد نظره. ترويه في إحضار والديه، وقد كان بإمكانه أنه أوّل ما تولى رئاسة مصر أن يصدر قراراً بإتيان أهله، فهو يعرف مكانهم، ولكنه يخطط لأمر بعيد، فجلس عدة سنوات.
فسياق الآيات يدل على أنه لم يأت بأبيه وإخوانه إلا بعد انتهاء سبع الرخاء ثم مجيء السبع الشداد، ففيها جاءت قصته مع إخوانه وعندها وضع أمتعتهم في رحالهم "اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ" (يوسف: من الآية62)، ثم بعد ذلك جاءت المرحلة الثانية، عندما جاؤوا بأخيهم، ثم حدث ما حدث مع أخيه وكل هذا كان بتخطيط دقيق وتنظيم بديع.
إن من أكثر ما تعانيه الأمة، الفوضى والارتجال، ثم يتساءل الدعاة، وتتساءل المؤسسات الإسلامية: لماذا لم ننتصر؟! أليس الحق معنا؟
نعم ولكن أين التخطيط؟ أين بعد النظر؟
ومن أسباب انتصار يوسف _عليه السلام_ إقدامه على المسؤولية بشجاعة نادرة بعيداً عن السلبية. "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف: من الآية55). لم يكن يوسف _عليه السلام_ يريد شيئاً لنفسه عندما قال للملك: اجعلني على خزائن الأرض، ولو كان يريد شيئاً لنفسه لطلب الأموال وطلب القصور، لكنه يريد أن يقدم على مسؤولية هو يعلم أنها شديدة وصعبة وشاقة، وأن زمان الرخاء فيها قد آذن برحيل وتحول نحو سبع شداد تحتاج إلى تعب وعناء، ومع ذلك أقبل على المسؤولية بشجاعة نادرة من أجل أمته، من أجل دينه، من أجل عقيدته، لا من أجل نفسه، وهذا مقوم من مقومات الانتصار.
إننا نرى السلبية عند بعض الناس فما أن يعرض عليه أمر فيه مشقة وتعب وعنت إلاّ اعتذر وتخلى عنه، ثم يتولاه من يحرص على مصلحته الشخصية ولا يضره في أي واد هلك غيره!(244/1)
ومن مقومات الانتصار الظاهرة في سورة يوسف: حسن السياسة للرعية، فقد ساس _عليه السلام_ الرعية سياسة عجيبة تضح من خلال سياق الآيات، قد يقول قائل: هذا حدث بعد أن تولى الملك، وأنت تقول مقومات النصر، فأقول: إن النصر له مفاهيم عدة، الوصول إلى الملك نصر، والاستمرار في الملك والنجاح في الملك نصر، كثير من الناس وصل إلى الملك لكنه فشل في سياسته لرعيته، فخلع قبل أن يتمكن...
وألذ من نيل الوزارة أن ترى
يوماً يريك مصارع الوزراء
كم سجل التاريخ من أسماء طغاة وظلمة فشلوا في سياسات رعيتهم، فمضوا وألسنة الأجيال تدعو عليهم فأي انتصار حققوه؟!
ومن مقومات النصر والتمكين، الدعوة إلى تحكيم شريعة الله ونبذ ما سواها كما قال في السجن: "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" (يوسف: من الآية40). فهذه أيضاً أن فلابد أن يكون الداعية صادقاً في دعوته لتحكيم شريعة الله وفي تحقيق العبودية "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" وربط الحكم والتحكيم بالعبادة.
ومن مقومات النصر: الاتصاف بالإحسان الشامل المتكامل كما اتصف يوسف _عليه السلام_ بالإحسان الشامل الكامل، وهذا أمر ظاهر وبارز، إحسانه إلى نفسه، إحسانه إلى قومه، إحسانه إلى أهله، وقد جاء في خمسة مواضع من السورة وصف يوسف _عليه السلام_ بالإحسان.
وليس إحسانه إحساناً قاصراً على صور قاصرة، بل نرى في سورة يوسف الإحسان بمعناه الشامل المتكامل.
ومن مقومات انتصار يوسف _عليه السلام_ قوة إيمانه بالله، وتوحيده، وحسن توكله على الله، وإعادته الفضل إلى صاحبه، "ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ" (يوسف: من الآية38).
ومنها أيضاً التخلي عن الحول والقوة والفضل وإعادة الأمر إلى الله _جل وعلا_، فهو صاحب الفضل، فيا أخا الإسلام! إذا أنعم الله عليك بنعمة فاحمده واشكره وأعد الفضل إليه، ولا تقل كما قال قارون: "إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي" (القصص: من الآية78)، أو كما قال إبليس" "أنا خير منه" من أين لك؟ من الذي أعطاك إياه، فإعادة الفضل إلى الله لفظاً واعتقاداً علماً وعملاً وسيرة في كل شؤون حياتك، كما فعل يوسف فهو من أسباب الانتصار.
هذه باقة من أسباب الانتصار اختصرتها اختصاراً، وأردفها بأخرى _إن شاء الله_، هذا ونسأل الله أن يظهر دينه وكتابه وسنة نبيه _صلى الله عليه وسلم_، وأن يرزق المسلمين الأخذ بأسباب النصر إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.(244/2)
...
أسباب الانهزامية
رئيسي :تربية :
يتناول الدرس مرضا نفسيا قد يعرض لبعض ضعفاء النفوس فيتراجعون عن الحق وتبهت صورته أمامهم وينهزمون نفسيا، فبين أسباب هذه الانهزامية مع مناقشتها والتوجيه للتغلب عليها .
1- ضفع الإيمان بالله تعالى : فهذا السبب سبب لكل بلية , وله مظاهر كثيرة جدًا؛ منها: عدم الغيرة والغضب إذا انتهكت محارم الله؛ لأن لهيب الغيرة في قلبه قد انطفأ , فتعطلت الجوارح عن الإنكار , والرسول صلى الله عليه وسلم يصف هذا القلب المصاب بالضعف بقوله في الحديث الصحيح عن حذيفة قال : [تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا [أي دخلت فيه دخولاً تامًا] نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ [أي نقط فيه نقطة] وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا [بياض يسير يخالطه السواد] كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا [مائلاً منكوسًا] لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ] أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد .
2- ضعف جانب العبادة عند الإنسان: فإذا كان الإنسان كذلك فإنه لا يكون لديه الدافع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ بل إن الضعف في جانب العبادة عن بعض الناس قد يتعدى الأمر فيه إلى ضعف في أداء بعض الواجبات فضلاً عن السنن , وفرض الكفايات.
3-عدم تصور أضرار المعاصي على الفرد والمجتمع : وبالتالي لا يتحرك قلب من رأي حدود الله تنتهك , فيقعده ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يظن أنه في مأمن من العقوبة إذا نزلت مع أن العذاب إذا نزل عم الصالح , ثم يبعث الناس على قدر نياتهم.
4-الانعزال وعدم مخالطة الناس بحجة عدم تحمل رؤية المنكرات.
5- الحياء المذموم: فكثير من الناس يخلط بين الحياء المحمود والحياء المذموم، فحينما يرى منكرًا,فيعرض عن الإنكار بحجة الحياء , فيرى أن ذمته قد برئت؛ بل ربما حمد نفس على ذلك.
6- التردد على أماكن اللهو والعبث بدون قصد الإنكار عند رؤية المنكر: وهذا يجعله ينتقل بين ثلاث مراحل هبوطًا :
المرحلة الأولى : يورث عند الإنسان قلة الإحساس.
المرحلة الثانية: تدب في النفس إلف المعصية.
المرحلة الثالثة : يزول قبحها من القلب.
7-مجالسة أهل الفسق : إن الانغماس في ملذات الدنيا وشهواتها يتطلب مجالسة أهل الفسق؛ فيرى عدم الإنكار عليهم ؛ حتى لا يتعطل في أمور تجارته كما يزعم، وربما تطلب الأمر سفرًا إلى بلاد الانحلال لغرض التجارة ؛ ثم ما يلبث إلا أن يرى أصنافًا من الملاهي والمنكرات فتطنطفئ نار الغيرة في قلبه.
8-التحجج بمعرفة الناس للحق واليأس في صلاحهم: وكم كنا نسمع تلك العبارة [فلان لا يجهل هذا]، [فلان لا أظنه يرجع للحق ؛ حتى ولو ولج الجمل في سم الخياط].
9-عدم تصور فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إن وجود هذا السبب راجع في المقام الأول للجهل حيال فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما يترتب عليه من المصالح الدنيوية والأخروية.
10-الخوف من الرياء: والقعود عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتجاجًا بذلك , إن من فعل هذا لم يسلم , ولم تبرأ ذمته ؛ لأنه وقع فيما فر منه كما قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: [ترك العمل من أجل الناس رياء , والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما].
11- المصائب التي تصيب الإنسان: كالمرض والحاجة، وغير ذلك، وكذا مشاغل الحياة و كم هم الذين يبدؤون مشوار الدعوة في شبابهم، ثم لا يلبث الصف إلا أن يتناقض شيئًا فشيئًا حتى يصبح الكثير منهم صرعى على جنبات الطريق ؛ منهم من توسع في تجارته أو تزوج و انشغل بزوجه وغير ذلك.
12- ترك الاحتساب على فئة معينة من الناس: لمنزلة دينية أو دنيوية أو قرابة أو صداقة بينهما , وهو في المقابل ينكر على من سواهم.
13- استعجال الثمرة: فنجد كثيراً من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يتعلّقون بتلك الحجة الواهية التي مفادها [إني لا أرى أثرًا لدعوتي]، وهذه العجلة لها صور في حياة الناس؛ منها:
أ- استعجال نزول العذاب بالمخالفين؛ قال تعالى: ] فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا[84][سورة مريم .
ب- ترك الدعاء ؛ فعن أبي هريرة قال :قال صلى الله عليه وسلم: [لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ قَالَ يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ] رواه السبعة ماعدا النسائي.
ج- استعجال النصر دون التمكن من أسبابه.(245/1)
14-ضغط الأهل: وإلحاحهم على الولد لترك مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فييتذرع ذلك الشخص أن طاعة الوالدين واجبة , وقيامه بهذا الأمر مستحب , والواجب مقدم على السنة , فيتذرع بذلك فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
15-عدم الشعور بالمسؤولية: واعتقاد أن هذا الأمر مقصور على جهة معينة , فتبدأ مرحلة اللوم حال رؤية المنكر , ويظن أن ذمته قد برئت بذلك، ولهذا السبب صور كثيرة جدًا منها:
الصورة الأولى: إلقاء اللوم على رجال الهيئة , وتحميلهم المسئولية عن المنكرات التي قد توجد في الأسواق والطرقات.
الصورة الثانية: تتجلى في تخلف بعض الناس عن صلاة الجماعة، فيظن بعض الناس أن هذه مسؤولية إمام المسجد فقط.
الصورة الثالثة: المنكرات التي توجد في بيوتنا التي نسكنها , فالبعض يعتقد أن إزالتها تقع على قيم البيت فقط.
16-وقوع الشخص وإلمامه ببعض المعاصي: حتى يشعر نفسه بعد ذلك ليس بترك مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فحسب؛ بل ربما رأى عدم جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
17-الفهم الخاطئ لبعض النصوص الشرعية : فهم بعض الناس فهماً خاطئاً لقوله تعالى: ] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[105][ سورة المائدة ، فكثير من الناس يتصور أنه ليس مسؤولاً عن المنكرات ما دام قد ألزم نفسه بلزام الشرع , وألجمها بلجام الحق.
18- استطالة الطريق وعدم تصور سنن الله في خلقه وأن العاقبة الحميدة للمتقين.
19- الحسد: إن من الشدائد في حياة الدعاة أن يكون الداعية دائرًا بين مؤمن يحسده , وبين منافق يبغضه , وبين كافر يقتله , وبين شيطان يضله , وبين نفسه تنازعه , ولكن مما يؤلم أن يكون الحسد من شخص يسير معه في نفس الطريق؛ طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن هذا الصنف أردت الحديث , أليس من العجب أننا نرى في بعض الأماكن أن الدعاة قبل عشر سنوات هم دعاة اليوم , وليس غيرهم ما السبب؟ قد يكون سوء تدبير وتصرف من أولئك الدعاة , ولكنا يجب أن لا نغفل جانب الحسد خاصة وإذا علمنا أن من أسباب الحسد الخوف من انفراد أحد الدعاة بمقصوده في الدعوة ونجاحه في ذلك.
20- عدم التربية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كثير من أولياء الأمور لا يربون أولادهم على هذا الجانب؛ بل ربما رُبي الولد على ترك مثل هذا.
21-تحقير الذات وقدراتها: [من أنا؟ هناك من هو أكفأ مني، هناك فلان وفلان] عبارة نسمعها دائمًا من بعض أهل خير؛ بل ربما كان من طلبة العلم، فيتقادم به الزمن وهو يتذرع بمثل هذه , وتعظم المصيبة إذا تبين من حاله للناس إنه من أهل الخير , فيفعل المنكر بحضرته ولا ينكر , فيعتقد أولئك القوم جواز مثل هذا..
22-الاعتقاد بأن أهل المعاصي راضون بوضعهم : اعتقد كثير من أهل الخير أن أهل المعاصي راضون بواقعهم، ولم يشعروا بأنهم يعيشون في ضنك من العيش , وودوا لو تخلصوا من ذلك.
23-الحدة في الطبع وعدم التحمل: وهذا في الغالب يؤدي بالإنسان إلى اعتزال تلك الأماكن؛ لأنه لا يستطيع الصبر، نعم اعتزاله أماكن المنكرات أمر مطلوب إذا كان لا يستطيع شرعًا إنكار المنكر، ولكن الخلل أن يستطيع لو حضر، لكن لحدة في طبعه لا يحضر , ومرة بعد أخرى يتربى بعد ذلك على عدم الإنكار.
24- الابتعاد عن الرفقة الصالحة: لا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريق شاق يحتاج معه الإنسان إلى الجليس الصالح الذي يؤنس له وحشة الطريق؛ يصبّره إذا ابتلي، ويقوِّمه إذا أخطأ، ويشجعه إذا أصاب، وإن لم يكن كذلك دب إليه داء الانهزامية عند أول عارض يعرض له.
25- القدوات الانهزامية: إن الناس ينظرون إلى القدوة.. ينظرون إلى أعماله وتصرفاته؛ بل وينظرون إلى أهل بيته، ويتأملون تصرفاتهم؛ فعلى القدوة أن ينتبه إلى مثل ذلك، ولذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صعد المنبر , فنهى الناس عن شيء جمع أهله فقال: [إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحدًا فيكم فعله إلا أضعفت فيه العقوبة].
26-القيام بأدنى درجات الإنكار مع القدرة على ما هو أعلى من ذلك: فيستخدم الإنسان أدنى درجات الإنكار بالقلب مع استطاعته الإنكار باليد أو باللسان، فكم من إنسان استخدم الإنكار بالقلب مع قدرته على غيره، وهكذا كان دأبه ؛ حتى أصبح بعد برهة من الزمن يتمنى أدنى درجات الإنكار , ولكن هيهات هيهات.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن الداعية قد يكون يستعمل هذه المراتب الثلاث حسب استطاعته وقدرته وحسب المصلحة، ولكن نتيجة لحسد حاسد أو أذية مؤذي يقتصر بعد ذلك على الإنكار بالقلب ليبدأ من هذه النقطة مسلسل الهزيمة.(245/2)
27- السخرية والاستهزاء: كم من الناس من يحمل في جنباته الخير يتمعر لرؤية المنكر، ولكن يقعده عن ذلك السخرية والاستهزاء؛ يتذوّق طعمها مرًا في أول الأمر، ثم لا يعود إلى ذلك مرة أخرى.
28- الانتقال إلى بعض الأماكن التي تكوّن أكثر انفتاحية: عهدنا به داعية إلى الله تعالى، يترك ما لا بأس به حذرًا مما بأس به، ثم ما يلبث إلا أن ينتقل إلى مكان أكثر انفتاحية فيوغل حينها في المباح إكثارًا منه ؛ ليستجيب بعد ذلك للمكروه ليقع في المحرم بعد ذلك.
29-ترك الاحتساب على البعض بحجة أنه لا يسمى عاصيًا بذلك: كالصغير مثلاً، وأحيانًا أخرى ترك الاحتساب على الخادمات، أما بالنسبة للشخص الداعية فقد ينكر ذلك من غير هذين الصنفين؛ لكنه مع كثرته ورؤيته في الواقع قد يصاب بتبلّد الإحساس.
وأما بالنسبة لذلك الطفل فترك الاحتساب عليه يورث عنده انهزامية في نفسه؛ لأنه تعوّد على مثل هذا الشيء , فكيف ينكره على غيره إذا شبّ وكبر.
ثم هناك فريق ثالث؛ وهم الكبار فهؤلاء مع كثرة ما يرون من هذه المخالفات في الصغار والخادمات وغيرهم يظنون مع ذلك لجهلهم ولسكوت الأخيار عن ذلك أن هذا لا بأس به.
اسم الكتاب : 29 سببًا للانهزامية …. إعداد/ خالد بن إبراهيم الصقعبي(245/3)
أسباب البركة في الرزق
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
إن الخلق إلا من رحم الله منهم يظنون أن حصول الرزق خاضع للذكاء والحيلة وسلوك الطرق المنحرفة ، لقد نسي الكثير ربهم ونسوا أنه تعالى الرزاق المفيض على عباده بالنعم التي لا تعد ولا تحصى، فما من طرفة عين إلا والعبد ينعم فيها بنعم الله ، لا يعلم قدرها إلا الله جل وعلا، أرزاق ونعم، نعم الخلائق كلها كما قال تعالى: ? وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ?[هود:6]. خلق الله الخلق فأحصاهم عدداً وقسم أرزاقهم وأقواتهم فلم ينس منهم أحداً، فما رفعت لقمة طعام إلى فمك إلا والله قد كتب لك هذا الطعام قبل أن يخلق السماوات والأرض، فسبحان من رزق الطير في الهواء والسمك في الماء والذر والدود في مجاهيل الأرض وفي الصخور الصماء خلق ورزق، فهو وحده المتكفل بالأرزاق، كتب الآجال والأرزاق وحكم بها ولا معقب لحكمه.
جاء في الحديث: "وإن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها فأجملوا في الطلب"()
ولقد جعل الله الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. وإذا أراد الله بالعبد خيراً بارك له في رزقه، وكتب له الخير فيما أولاه من النعم، البركة في الأموال، والبركة في العيال والبركة في الشؤون والأحوال، الله وحده منه البركة ومنه الخير والرحمة، فما فتح الله من أبوابها لا يغلقه أحد، وما أغلق لا يستطيع أحد أن يفتحه كما قال سبحانه:?مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ?[فاطر:2].
أيقنوا أيها الناس: أن الله إذا أراد بالعبد خيراً بارك له في رزقه وقوتِه ، البركة التي يصير بها القليل كثيراً، ويصير حال العبد إلى فضل ونعمة وزيادة وخير، فالعبرة كل العبرة بالبركة، فكم من قليل كثره الله تعالى، وكم من صغير كبره الله، وإذا أراد الله أن يبارك للعبد في ماله هيأ له الأسباب وفتح في وجهه الأبواب.
ومن أعظم الأسباب التي يفتح الله بها أبواب الرحمات والبركات تقوى الله جل وعلا تقوى الله سبب الرحمات والعطايا والخيرات، ? وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ...?[ الأعراف:96] الخير كل الخير ، وجماع الخير في تقوى الله جل وعلا، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب، فلن تضيق أرض الله على عبد يتقي الله، ولن يضيق العيش والرزق على من خاف الله واتقاه.
ومن أسباب البركات التي يفتح الله بها أبواب الخيرات على عباده الدعاء والالتجاء إلى الله تبارك وتعالى، فهو الملاذ وهو المعاذ، فإذا ضاق عليك رزقك وعظم عليك همك وغمك وكثر عليك دينك فاقرع باب الله الذي لا يخيب قارعه، واسأل الله جل جلاله فهو الكريم الجواد، ما وقف أحد ببابه فرده ونحاه، ولا رجاه عبد فخيبه في دعائه ورجاه.(246/1)
دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المسجد فنظر إلى أحد أصحابه جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة، فرأى عليه علامات الهم والغم فدنى منه صلى الله عليه وسلم وكان لأصحابه أبر وأكرم من الأب لأبنائه فهو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلوات الله وسلامه عليه فقال: "يا أبا أمامة ما الذي أجلسك في المسجد في هذه الساعة؟" قال: يا رسول الله هموم أصابتني وديون غلبتني أصابني الهم وغلبني الدين الذي هو هم بالليل وذل في النهار فقال صلى الله عليه وسلم "ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك" صلوات الله وسلامه عليه ما ترك باب خير إلا ودلنا عليه، ولا سبيل هدى ورشاد إلى أرشدنا إليه .. "ألا أدلك على كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك؟" قال: بلى يا رسول الله ، قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"() قال رضي الله عنه: فقلتهن فاذهب الله همي وقضى ديني"
الدعاء حبل متين وعصمة بالله رب العالمين وهو تحقيق لقوله تعالى: ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ?[الفاتحة:5] فإذا أراد الله أن يرحم المهموم والمغموم والمنكوب في ماله ودينه ألهمه الدعاء، وشرح صدره لسؤاله جل وعلا الذي بيده خزائن السماوات والأرض، يده سخاء الليل والنهار لا تفيضها نفقة.
ومن أسباب البركات التي يوسع الله فيها أرزاق العباد صلة الأرحام ، قال صلى الله عليه وسلم: "من أحب منكم أن يبسط له في رزقه ، وأن ينسأ له في أثره ، وأن يزاد له في عمره فليصل رحمه"()
صلوا الأرحام فإن صلتها نعمة من الله ورحمة يرحم الله بها عباده ، أدخلوا السرور على الأعمام والعمات، والأخوال والخالات ، وسائر الأرحام والقرابات ، فمن وصلهم وصله الله وبارك له في رزقه ووسع له في عيشه.
ومن أسباب البركات التي توجب على العباد الخيرات والرحمات الإكثار من النفقات والصدقات ، فمن يسر على معسر يسر الله له في الدنيا والآخرة، ومن فرج كربة مكروب فرج الله كربته في الدنيا والآخرة. فارحموا عباد الله من في الأرض من الضعفاء والمساكين والأيتام والأرامل يرحمكم من في السماء. وما من يوم يصبح فيه الناس إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الأخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً. يا ابن آدم أنفق ينفق عليك وارحم الضعفاء يرحمك من في السماء، فرِّجوا الكربات وأغدقوا على الأرامل والمحتاجين فإن الله يرحم برحمته عباده الراحمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: "يا أسماء أنفقي ينفق الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك"()
امرأة يقول لها النبي صلى الله عليه وسلم أنفقي ينفق الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك، فمن أنفق لوجه الله ضاعف الله له الأجر فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله، ولك الخلف من الله، فما نقصت صدقة من مال، لقد كان الناس إلى عهد قريب يعيشون حياة صعبة شديدة ومع ذلك فرج الله همومهم، ونفّس غمومهم بفضله وكرمه ثم بما كانوا عليه من التواصل والتعاون والتراحم والتعاطف يواسي الغني الفقير ويعين القوي الضعيف، فجعل الله القليل كثيراً والصغير كبيراً، ثم انظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واقرأ سيرتهم كيف كانوا رحماء بينهم فرحمهم الله من عنده وجعلهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
الخطبة الثانية:
من الأسباب التي يبارك الله بها في الأرزاق، ويبارك في الأعمار وأحوال الإنسان العمل والكسب الطيب والأخذ بأسباب الرزق، فإن الإسلام دين العمل ، دين الكسب الحلال، الذي يعف الإنسان به نفسه عن القيل والقال وسؤال الناس، "فمن سأل الناس تكثراً جاء يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم"() والعياذ بالله .
فعلى المسلم أن يأخذ بأسباب الرزق وأن يمشي في مناكب الأرض تحقيقاً لقوله تعالى: ?... فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ?[الملك:15] فقد بسط الله الأرض وأخرج منها الخيرات والبركات وجعل الخير في العمل، والشر في البطالة، والكسل، الإسلام دين الجهاد والعلم والعمل، فليست الأرزاق بأن يجلس الإنسان في مسجده، فلا رهبانية في الإسلام فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، فعلينا أن نأخذ بالأسباب وأن نطلب الرزق الحلال من أبوابه، ليفتح الله لنا من رحمته وينشر علينا من بركاته وخيراته ، الرجل المبارك هو الذي يسعى على نفسه وأهله وأولاده ، فيكتب الله له أجر السعي والعمل، وليس العمل بعيب ولا عار، فقد عمل أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم:
كان نبي الله داؤود عليه السلام يعمل صنعة لبوس، فكان يعمل في الحدادة وتلك منَّة من الله على عباده.(246/2)
ليس بعار أن تكون حداداً أو نجاراً، ولكن العار كل العار تكون في معصية الله تعالى وفي الخمول والبطالة والكسل، حين يعيش الإنسان عالة على الغير مع أنه صحيح البدن قوي في جسده، فهذا من محق البركة في الأجساد، فخذوا رحمكم الله بأسباب البركة بالعمل المباح والكسب الطيب ، فلن يضيق الرزق بإذن الله على من سعى واكتسب قال صلى الله عليه وسلم: "لو توكلت على الله حق توكله لرزقت كما يرزق الطير تغدوا خماصا و تروح بطانا"()
فأخبر أنها تغدوا وتروح، فمن بذل الأسباب وذهب في طلب الرزق يسر الله أمره. وبارك في رزقه. اللهم بارك لنا في أعمارنا وأرزاقنا وأهلنا وذرياتنا وأنزل علينا من فضلك وبركاتك ولا تمنع عنا بذنوبنا وسيآتنا فضلك وبركاتك فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة.
ومن الأشياء الحسنة والطيبة التي تكثر هذه الأيام بسبب العطلة الدراسية الزواج، والزواج نعمة عظيمة من نعم الله على الإنسان والزواج مسئولية عظيمة ، على الشباب وعلى الآباء والأمهات أن يدركوا ذلك وأن يأخذوا بأسباب الخير والسعادة في هذا الرباط العظيم ومن ذلك:
اختيار الرجل الصالح واختيار الزوجة الصالحة ممن يتقون الله ويخافونه، استشار رجل أحد الأئمة الصالحين قائلاً له: إن لي ابنة لمن أزوجها؟ قال: زوجها التقي، فإن أمسكها أكرمها وإن طلقها لم يظلمها.
فاتقوا الله في اختيار الأزواج والزوجات اختاروهم من ذوي الدين والخلق، فإن الدين هو الأساس المتين والحصن الحصين بإذن الله عز وجل، وعليكم بالسهولة واليسر والبعد عن المغالاة في المهور أو الإكثار من العادات المرهقة التي ما أنزل الله بها من سلطان، فخير النساء وأبركهن أيسرهن مئونة، فإياكم والإسراف والبذخ فإن الله لا يحب المسرفين، ولو كان التفاخر في المهور وتكاليف النكاح خيراً لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الخيرون من بعده.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
مسند الإمام الشافعي 1/233، حديث رقم: 1153.
سنن أبي داؤود1/484، حديث رقم: 1555، وضعفه الألباني.
صحيح البخاري: باب: من بسط له في الرزق بصلة الرحم:الحديث رقم: (5640) وصحيح مسلم: باب صلة الرحم، وتحريم قطيعتها:الحديث رقم: (2557) عن أنس ابن مالك رضي الله تعالى عنه .
صحيح البخاري: باب: هبة المرأة لغير زوجها وعتقها، إذا كان لها زوج فهو جائز، إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجز:الحديث رقم: 2450/2451 ، وأخرجه مسلم في الزكاة، باب: الحث في الإنفاق وكراهة الإحصاء، رقم: ( 1029) .
صحيح البخاري: كتاب الزكاة. باب: من سأل الناس تكثرا: في الحديث رقم: (1405) . أخرجه مسلم في الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس، رقم: (1040) .
شعب الإيمان 2/66، حديث رقم: 1182 .(246/3)
أسباب التفرق التشرذم والانغلاق وسوء الظن
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
من أشد الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغضاً للاختلاف، وكرهاً للتفرق والتشرذم، وتحذيراً من كل الأسباب والوسائل التي قد تؤدي إلى ذلك، الخليفة الملهم المحدَّث الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لإدراكه لخطورته ومغبة نتائجه، وفساد منقلبه، ولحدة فراسته لأنه كان ينظر بنور الله.
أخرج الإمام الطبري في تاريخه بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أن عمر رضي الله عنه قال لناس من قريش: "بلغني أنكم تتخذون مجالس، لا يجلس اثنان معاً، حتى لا يقال: مَنْ صَحَابة فلان؟ مَنْ جلساء فلان؟ حتى تحوميت المجالس، وأيم الله إن هذا لسريع في دينكم، سريع في شرفكم، سريع في ذات بينكم، ولكأني لمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلان، قد قسموا الإسلام أقساماً، أفيضوا مجالسكم، وتجالسوا معاً، فإنه أدوم لإلفتكم، وأهيب لكم في الناس".
ها نحن نرى عمر رضي الله عنه وقد فطن لسبب رئيس من أسباب تفرق الأمة، فحذر منه في الحال، ومنع من تعاطيه لما يخشى من نتائجه في المآل، ألا وهو التشرذم والانغلاق والتحزب المؤدي إلى تعدد الولاءات، وتفرق الأمة إلى طوائف وجماعات، وإعجاب كل فرقة بما تهواه من العقائد والمقالات، وسوء الظن بالمخالف، ولو في الوسائل والاجتهادات.
ينتج عن ذلك كله ما حذر منه رسول هذه الأمة، وهو الشح المطاع، والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، الذي هو من الطوام العظام، والفتن الجسام، حيث لا يجدي معه أمر ولا نهي، ولا نصح ولا رشد.
لقد خشي عمر رضي الله عنه أن تكون تلك المجالس والمنتديات نواة لتجمعات وتكتلات صغيرة، وبذرة للتفرق والتشتت المذموم، فمعظم النار من مستصغر الشرر، لذلك نهى عنها وحذر منها، من باب سد الذرائع، لأن التفرق في المجالس، والانغلاق عن المجتمع، ينتج عنه تفرق في الرؤى، فينتسب أهل كل مجلس إلى البارزين منهم، ويتعصبون لهم، ويعجبون بآرائهم، وأقوالهم، وتأخذهم حمية الإلفة والاجتماع.
لذات السبب عندما أراد الأنصار أن يتحزبوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: "منا أمير ومنكم أمير"؛ رد عليه أبو بكر وعمر في الحال، فقالا: "منا الأمراء ومنكم الوزراء"؛ حسماً لمادة التحزب والتشرذم، لأن هذه الأمة سر قوتها في اجتماع كلمتها، وتوحد صفها، فالإسلام لا يقوم إلا بالجماعة، ونبذ الفرقة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار"، أو كما قال.
"المتقون سادة والفقهاء قادة" كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، والقادة ينبغي عليهم أن يترفعوا عن الصغائر، ويدركوا المخاطر، ويسعوا لرأب الصدع، ولَمِّ الشمل، وتوحيد الكلمة، قبل فوات الأوان، وحلول الندامة والخسران، فما لا يدرك كله لا يترك جله، ويكون ذلك بالآتي:
(1) تحسين الظن بالآخرين، ونعني بذلك كل المسلمين، سيما أهل السنة، فكثير من أسباب الفرقة مردها إلى سوء الظن، وانعدام الثقة، فإذا حَسَّنَ أحدنا ظنه بأخيه المسلم، وحكم عليه بما ظهر منه، وسار فيهم بسيرة ابن عمر رضي الله عنهما: "من خدعنا في الله انخدعنا له"، زالت كثير من تلك الأسباب، وصفت القلوب، واطمأنت النفوس.
(2) إجابة الدعوات والإكثار من الزيارات في جميع المناسبات تذيب كثيراً من تلك الأوهام.
(3) اللقاءات الدورية والندوات المشتركة والاجتماعات تقرب من وجهات النظر.
(4) منع الأتباع من نقل الأخبار عن الغير، اللهم إلا من أهل البدع الكفرية، الداعين لبدعتهم، فكثير من الجفاء وتوغير الصدور مرده إلى تلك النقول، ولا تقل أخي الكريم: أخبرني الثقة! "فالثقة لا يبلِّغ" كما قال ابن عمر رضي الله عنهما، وإن كان لا بد من ذلك فالتثبت واجب.
(5) ما صح من المنقول إلينا علينا أن نحمله على أحسن وجه، عملاً بنصيحة عمر رضي الله عنه: "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير مدخلاً، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك".
(6) عدم الخوض في الجدل والمنازعات والخصومات، فعلينا بيان الحق وتجلية السنة، فمن قبل ذلك يُشكر ومن لم يقبله يترك.
(7) لا نقصر حقوق المسلم على أفراد جماعتنا، فهي حقوق عامة لكل المسلمين، عصاة كانوا أم طائعين.
(8) أن يشتغل كل منا بعيوبه وسلبيات جماعته، فما أكثر عيوبنا وما أخطر سلبياتنا!
(9) الصبر والمداراة لإخوة العقيدة ورفقاء الدرب.
(10) اعمل بالحكمة: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
(11) "أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون عدوك يوماً ما، وأبغض عدوك هوناً ما، عسى أن يكون صديقك يوماً ما"، كما أثر عن علي رضي الله عنه.
(12) عليك أن توالي أخاك المسلم بقدر ما فيه من خير وإيمان.(247/1)
(13) تبرَّأ من الأعمال والأقوال السيئة، ولا تتبرأ من فاعلها، فقد قال صلى الله عليه وسلم عندما قتل خالد رضي الله عنه متأولاً بني جذيمة: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، ولم يتبرأ من خالد.
(14) لا نحاسب على ما مضى، فالإسلام والتوبة تجبان ما قبلهما.
(15) احذر مسلك أهل الأهواء الذين يبغضون ويقتلون أهل الإسلام، ويتركون ويوالون أئمة الكفر وعباد الأوثان.
أو أن يكون بغضك وعداوتك لمن فارقك وانفصل عنك أشد من بغضك وعداوتك لمن هو أسوأ معتقداً وعملاً منه، ولله در ابن عمر عندما قال عن الخوارج بسبب تكفيرهم لبعض: "ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفر بعضهم بعضاً".
فالدخول في جماعة تكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب التعاون على البر والتقوى، والخروج منها لغيرها لا يقدح بمفرده في عدالة المرء.
(16) نعمل على أن لا تفترق صفوفنا وإن لم تتوحد آراؤنا.
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يجنبهم الفتن والآثام، وأن ينصرهم على أنفسهم وأعدائهم والشيطان، وصلى الله وسلم وبارك على محمد خير الأنام.(247/2)
أسباب الخيانة الزوجية ... زوجي يخونني [2]
مفكرة الإسلام:
يقول أحد الأزواج: تزوجتها في سن مبكرة وشعرت أني لم أحسن الاختيار.
ويقول آخر: زوجتي تفعل كل ما تستطيع لإرضائي، إلا أنني أشعر تجاهها أنها مربية أطفال جيدة ولكن ليست رفيقة الدرب كما كنتُ أحلم.
ويقول غيره: حياتي الزوجية حياة باردة جدًا ورتيبة ومملة، وليس لدي دافع للتحدث معها لأني أشعر أنها لا تفهمني.
ويقول آخر: زوجتي مهملة ولا تهتم بقضية هامة جدًا وهي 'ماذا يريد الآخر'، ومتصورة أنني أسير في سجن الزوجية ولن أنظر لغيرها مهما حدث.
ويقول آخر: ترى زوجتي النساء من حولها وهي كما هي لم تتغير، وزميلتي في العمل تشعرني أن الحياة جميلة حتى أنني أشعر معها أني مراهق في سن 18 سنة ـ وأنا في الأربعين ـ لذلك سأتزوجها. [مع تحفظنا على الأخطاء الشرعية كالاختلاط وعدم غض البصر].
وتقول هذه الزوجة: زوجي يطلب مني كلمات الحب والغرام وأنا لا أستطيع، ولا أتقن فن التعامل مع الرجل وخاصة في العلاقة الخاصة.
ويقول هذا الزوج: وجدتُ الحب فيها وافتقدته مع زوجتي، ووجدتُ عندها ما لم أجده عند زوجتي، أفكر بجدية في الزواج منها.
عزيزي القارئ ..... عزيزتي القارئة:
في بداية الزواج يعتقد كل زوج وزوجة بأنه هدية من الله تعالى للطرف الآخر، وعندما يستمعان إلى مشكلة زوجية حدثت بين اثنين يستغربان حدوث ذلك، وبعد مرور الأيام ومضي السنون إذا بهما يمران بمشاكل لم تكن متوقعة. وأكثر المتزوجين لا يدركون أن عمر الإنسان له أثر في تغيير نفسيته وطباعه، والمشاكل الزوجية تنشأ عندما لا يراعي الزوجان أحكام السن وتقدمه وتقدم العمر الزوجي، واختلاف حاجات الطرف الآخر بتغير المراحل العمرية ـ وخصوصًا المراحل العمرية الزوجية ـ.
يحتمل أن يطرأ على العلاقات الزوجية متغيرات؛ فقد تتغير سلوكيات الزوج وتصدر منه تصرفات غير مشروعة وقد تكون محرمة كالخيانة الزوجية، وهذه التصرفات لا شك أنها تعبر عن شخصية فاعلها أو مقدار تدينه وعلمه وفهمه كما هي تعبير واضح أيضًا عن نوعية العلاقات الزوجية ومقدار رسوخها وتعلق الطرفين بها.
وبالرغم من أن الخيانة الزوجية ليست أمرًا شائعًا في عالمنا العربي الإسلامي، إلا أننا لا ننكر حدوث مثل هذه الحالات التي ندرجها تحت المشاكل الزوجية السلوكية.
والسؤال الآن:
ما هي أسباب الخيانة الزوجية؟
هناك الكثير من الأسباب التي قد تدفع الأزواج إلى الخيانة الزوجية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1ـ عدم اهتمام الزوجة نفسها:
فقد تهمل الزوجة نفسها ومظهرها ونظافتها بعد فترة طويلة من الزواج، وتستهين بزينتها وجمالها متصورة أن زوجها لا يعنيه ذلك وأنه لن ينظر إلى غيرها أبدًا ولن يفكر بالزواج من أخرى بعد العشرة الطويلة والأولاد. وهذا خطأ في التصور لدى المرأة العربية عمومًا.
2ـ الملل في الحياة الزوجية:
الروتين والرتابة والملل من أعداء الحياة الزوجية، وهذا الملل يظهر عند الرجال أكثر منه عند النساء. فيبحث الرجل عن التجديد خارج المنزل.
3ـ زيادة الاهتمام بالأبناء:
المرأة العربية بعد زواجها وإنجابها الأبناء تتصور أن مهمتها هي المنزل والأولاد فيزداد اهتمامها الدائم بالأولاد وأعمال المنزل أكثر من الزوج وبالتالي يزداد إهمال الزوج بعد سنوات من الزواج، فيشعر الزوج بعدم أهميته لدى الزوجة وهامشيته في حياتها. وقد يسوء الوضع إذا كانت امرأة عاملة فيكون الترتيب الأولاد ثم البيت ثم العمل ثم الأهل والأقارب والصديقات ثم الزوج.
4ـ إغفال الزوجة لاحتياجات الزوج العاطفية:
قد تغفل الزوجة الحاجات العاطفية للزوج من حب وحنان واحتواء ورعاية لأي سبب من الأسباب وبالتالي يشعر الزوج أن زوجته راغبة عنه ولا تبدي له التعاطف أو الرغبة في تقبل عواطفه وهذا ما يسمى بفتور الحب.
5ـ عدم السعادة في الحياة الزوجية مع كثرة الخلافات.
6ـ ضعف المستوى الثقافي ووجود فارق تعليمي بين الزوجين:
فتكون الزوجة هنا كمربية أطفال فقط وليست رفيقة درب كما ذكرنا في الحالة أول المقال. ولا ننكر أن هذا سوء اختيار من البداية وعدم وضوح للرؤية.
7ـ عبوس الزوجة وشكواها المستمر من الأولاد والأعمال وهذا ما يسمى بالنكد الزوجي.
8ـ المشاكل الجنسية:
وهذه من أهم الأسباب فقد يكون هناك مشكلة بين الزوجين في التوافق الجنسي، وقد تتجاهل الزوجة رغبة زوجها ـ خاصة بعد مرور سنوات طويلة على الزواج ـ وقد يتميز الرجل بطاقة زائدة فتظهر هنا رغبة الزوج العارمة في الزواج بأخرى، ونحن نؤيد الزواج الشرعي والتعدد ولا نؤيد قطعًا الخيانة الزوجية.
9ـ الاختلاط غير الشرعي في العمل والمناسبات:
فيرى الرجل النساء المتبرجات مع عدم غض البصر وقلة الوازع الديني وعدم القناعة بما في يده، فالرجل الآن يواجه الفضائيات بما فيها [ أفلام ـ فتيات ـ مذيعات...] ويواجه الفيديو والنت بما فيه ، ويواجه الشارع، والبنات والنساء في مجال العمل إن كان مجال اختلاط.(248/1)
فالرجل أمام كل هذه الشهوات إما أن يحيد عن دينه [فتكون الخيانة]، أو يسلك المسلك الشرعي وهو تعدد الزوجات أو يرزقه الله تعالى بزوجة متفهمة قادرة على استيعاب خطورة الموقف والتوجه إلى حسن التعامل معه لتدارك الخطر.
والمرأة المتزوجة تغفل عن قول الله تعالى الذي خلقنا: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء} [14] سورة آل عمران
وقد تتصور الزوجة ـ خطأً ـ أنه من المستحيل أن يتزوج زوجها بأخرى أو أن ينظر لغيرها، وهذا عدم فهم لطبيعة الشريك الآخر.
وقد تستخف الزوجة ببعض الأمور التي يطلبها زوجها والتي تمثل عنده حيز كبير من الأهمية وليست لها قيمة عندها،وهذا خطأ في التصور ولابد أن تعرف الزوجة: ماذا يريد الآخر ؟ ماذا يحب زوجها وماذا يكره ؟.
10ـ تغيير المسار:
فقد يبدأ الزوج حياته الزوجية متدينًا ويختار زوجته على هذا الأساس، ثم ينقلب على عقبيه ويغير حياته ويتساهل في أمور الدين، من الصلاة وغض البصر وعدم الاختلاط بالنساء وغير ذلك.
11ـ المراهقة المتأخرة:
وتظهر المراهقة المتأخرة عند الرجل بعد مرور سنوات طويلة على الزواج ـ إلا من رحم ربي ـ وتظهر بالتالي روح المغامرة والتجربة وإعادة الشباب وتحقيق الرجولة والبحث عن الجديد فتظهر هذه المشكلة.
وقد تكون الصحبة السيئة دافعًا للزوج على الانحراف أو الخيانة.
كل هذه الأسباب عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة ليست مبررًا للخيانة الزوجية.وقد رأينا أن من هذه الأسباب ما يتعلق بالزوجة، ومنها ما يتعلق بالزوج, وفي المقال التالي سنتعرض للجانب الذي يتعلق بالزوجة في مقال بعنوان: [عفوًا... أنتِ المسئولة عن ابتعاد زوجك], فتابعوا معنا.وجزاكم الله خيرا
عفوًا... أنت المسئولة عن ابتعاد زوجك... زوجي يخونني [3]
الأول في الترتيب:
سأل أحد الأزواج زوجته بكتابة اهتماماتها ومسئولياتها بالأولوية والترتيب الرقمي 1، 2، 3 فكتبت الزوجة:
1ـ الأولاد
2ـ البيت
3ـ الزوج
4ـ العمل
5ـ الأهل والأقارب
6ـ الصديقات.
فقال لها الزوج: أرجو إعادة الترتيب بكتابة: 1ـ الزوج 2ـ الأولاد... وهكذا.
عزيزي القارئ عزيزتي القارئة:
لا ينبغي استغراب الموقف السابق فهذا حال الكثير من الزوجات ـ إلا من رحم ربي ـ وهناك أيضًا من يضع العمل قبل الزوج في الترتيب والأهمية، على اعتبار أن الوظيفة مركز قوة وأمان استراتيجي لها إذا غدر بها زوجها. فقد قالت لي إحدى المعلمات الفاضلات:
'أنا لستُ في حاجة إلى العمل عندي الذهب والرصيد في البنك و...و...و... ولكني أعمل لأن الرجل ليس له أمان'.
وفي رأينا الشخصي، أن المرأة إذا برمجت عقلها على هذه الأفكار فإنه يترتب على ذلك طريقة في الحياة والتعامل مع الزوج تخالف تماما الطريقة التي ارتضاها المولى جل وعلا لهذه العلاقة.
ونحن لا نعترض على العمل ولكن أن تعمل ليكون سلاحًا ضد زوجها، هذا غير مقبول طبعًا وعلى من تفكر بهذه الطريقة أن تصحح التصور فتقول أنا أعمل لأنني شريكة زوجي في الحياة، فنحن شركاء في المنزل وشركاء في تربية الأولاد، وهناك علاقة تكامل أدوار بيننا.
إعادة الترتيب:
تخيّل معي عزيزي القارئ أن هذه المرأة أعادت ترتيب أولوياتها فكان:
1ـ الزوج 2ـ الأولاد.................. وهكذا
فكيف تكون الحياة وأسلوب التعامل مع الزوج والاهتمام به والمشاعر تجاه هذا الشريك، بالطبع سيختلف الأمر كثيرًا.
لذلك أقول: إن الزوجة هي التي تقع عليها في المقام الأول مسؤولية ابتعاد الزوج، أو انبهاره بأي امرأة أخرى لأن هذه الزوجة لم تعرف كيف تحتفظ به.
إن ابتعاد الأزواج ـ أو انحرافهم ـ يرجع في معظم الأحيان إلى جهل الزوجات بالأسلوب الذي يجب أن يتعاملن به مع أزواجهن. وكذلك سوء معاملة الزوج وجفاف المشاعر تجاهه.
العصفور في القفص:
ومن أمثلة التصورات الخاطئة ما تعتقده بعض الزوجات أنها بزواجها قد ملكت زوجها، وقد تهمل نفسها وتهتم أكثر بأولادها وتتصور أنها مهما فعلت فلن يفلت من قبضتها هذا العصفور.
وتظن خطأً أن اهتمام زوجها بها أمر مفروغ منه؛ لأن ذلك يجعلها تتصرف بلا مبالاة فيما يتعلق بجلب اهتمام زوجها، الذي سرعان ما يمل وقد ينزلق إلى طريق آخر ملقيًا باللوم عليها.
محطات حرجة في عمر الزواج:
على الزوجة أن تفطن أن هناك مراحل حرجة في عمر الزواج تزيد فيها فرص ابتعاد الزوج مثل قدوم الأطفال، وتزايد أعباء الزوجة وإرهاقها ساعات الليل والنهار.
وهنا أقول لكل زوجة: لا تذوبي في خدمة الأطفال بشكل جائر على حق الزوج.
وعلى الزوج أيضًا تفهم الأوضاع الجديدة لدى الزوجة والمشاركة معها في رعاية الصغار ما أمكن ذلك. ولا نغفل رسولنا الحبيب صلي الله عليه وسلم وقدوتنا في هذا المقام فإنه كان يداعب الصغار ويحنو عليهم ويشارك في أعمال المنزل.(248/2)
وهناك مرحلة حرجة أخرى تأتي مع تقدم سنوات الزواج عندما يبلغ الأبناء سن المراهقة وتنغمس الأم في مشاكل أبنائها، وأيضًا قد يؤدي تقدمها في العمل ووصولها لمركز مرموق أن يشعر الزوج أنها ليست في حاجة إليه وأن هناك أشياء كثيرة تشغلها عنه وهذه الأشياء أهم عندها منه.
فهو يحتاج العطف والحنان في جميع المراحل:
يجب على كل زوجة أن تغدق على زوجها بكلمات المجاملة الرقيقة التي تشعره باهتمامها البالغ مهما بلغ عمره أو عمر زواجهما، فالمرأة بحكم طبيعتها أكثر قدرة على العطاء وهذا العطاء هو الباعث الحقيقي لعطاء الزوج أيضًا.
إن جلوسك مع زوجك لمدة ساعة على الأقل يوميًا تكونين خلالها متفرغة له تمامًا؛ تتجاذبين أطراف الحديث في الشؤون التي تهمه يُعد أنفع وأجدى من قيامك بأي عمل آخر مهما كلفك ذلك من تضحيات.
وأخيرًا نؤكد أن المرأة الذكية لا يمكنها فقط أن تحتفظ بزوجها بل يكون في استطاعتها أن تستعيده إليها حتى لو انزلق نحو امرأة أخرى.
والسؤال هنا كيف تستعيد الزوجة زوجها ؟
تابعي معنا للإجابة على هذا السؤال في المقال التالي: 'الأنوثة رأس جمال الزوجة'.(248/3)
أسباب الذل
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله : " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينتزعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم " .
فبين النبي ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أسبابا ثلاثة إذا وقعت فيها الأمة سلط الله عليها ذلاً لا ينتزع أبدًا حتى ترجع الأمة إلى دينها.
أما السبب الأول فهو التبايع بالعينة : ((إذا تبايعتم بالعينة)) وهو بيان بأن الأمة إذا وقعت في البيوع المحرمة ولم تراعي الحلال والحرام فإن هذا أول أسباب الذل والهوان من الله عز وجل.
"إذا تبايعتم بالعينة " فما معنى العينة معاشر المؤمنين؟ هي بيع من البيوع المحرمة، وصورتها أن يشتري الرجل سلعة بثمن مؤجّل ، ثم يبيعَها على نفس البائع بثمن حاضر، فهذا نوع حرَّمه النبي ، وهو منتشر في هذه الأيام في كل مكان وفي كل بقعة على وجه الأرض .
والسبب الثاني " وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع " ، وهذه كناية عن الركون إلى آلات الحرث ووسائلها، والرضا بالدنيا ووسائل التجارة، وما يعود منها على العبد من ربح ورزق، فيركَن العبدُ إلى ذلك ويرضى به، وليس في هذا ذم للكسب والعمل، بل هو ذم للركون المطلق إلى الدنيا وزينتها وإلى الحرث وزينته، هو ذم لمن يرضى بهذا عن غيره من الأعمال الصالحة، كالجهاد في سبيل الله مثلاً، كما سيأتي معنا.
والسبب الثالث " وتركتم الجهاد " و الجهاد ذروة سنام الإسلام، وقد عده بعض أهل العلم الركن السادس من أركان الإسلام.
الجهاد ليس عملاً كغيره من الأعمال الصالحة يثاب العبد على فعله ولا يعاقب على تركه، إنه واجبٌ فرضه الله على هذه الأمة،يأثم من يتخلى عنه. يقول جل وعلا: " كُتِبَ عَلَيْكُمُ لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ . وكلمة " كُتِبَ عَلَيْكُمُ معناها: فرض عليكم ونلمح هنا أن الله تعالى كتبه علينا ولم يكتبه على الأمم قبلنا ، فقد كان من سنة الله أنه يهلك الأمم التي تكذّب بالأنبياء والمرسلين، ويرسل عليها عذابًا يستأصلها ، و جعل هلاكهم ذلك بعد بعثة النبي المصطفى على يد أمته صلى الله عليه وسلم حين أمرها بالجهاد فقال: " قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ، ويُخْزِهم ، وينصُرْكم عليهم ، ويشفِ صدورَ قوم مؤمنين ويُذْهبْ غيظَ قلوبهمْ " فعذاب الكفار والمنافقين والمشركين لا يكون إلا على أيدي المجاهدين المؤمنين(249/1)
أسباب الشهادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [آل عمران : 102] ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا? [النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
يحرص المؤمن على أن يلقى الله وهو راض عنه وقد جعل الله تعالى أشرف ميتة القتل في سبيله كما قال تعالى: ? وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ? [آل عمران : 169-171]. وقد جعل الله أسباباً أخرى للشهادة في سبيله غير القتل تكريماً لهذه الأمة. منها:
الموت غازياً في سبيل الله لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "ما تعدون الشهيد فيكم ؟" قالوا يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: "إن شهداء أمتي إذاً قليل!" قالوا : فمن هم يا رسول الله؟ قال: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، والغريق شهيد" (1). وقال - صلى الله عليه وسلم - : من فصل ـ أي خرج ـ في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد، أو وقصته فرسه أو بعيره أو لدغته هامة، أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد، وإن له الجنة".
ومن أسباب الشهادة التي يحصل عليها المسلم المستقيم الموت بالطاعون، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الطاعون شهادة لكل مسلم"
وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون؟ فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد"
ومن أسباب الشهادة الموت بداء البطن ، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ومن مات في بطن فهو شهيد". ومن أسبابها من يموت بالغرق والهدم لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله"(6)
ومن أسباب الشهادة موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها، لما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - قال له: "أتدري ما شهداء أمتي؟" قالوا : قتل المسلم شهادة ، قال : "إن شهداء أمتي إذا لقليل! قتل المسلم شهادة، والطاعون شهادة والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة"(7)، وكذا من يموت بالحرق أو بذات الجنب لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله والمطعون شهيد والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة"(8)
والموت بداء السل لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "القتل في سبيل الله شهادة، والنفساء شهادة، والحرق شهادة ، والغرق شهادة، والسل شهادة، والبطن شهادة"(9)
ومن أسباب الشهادة: الموت في سبيل الدفاع عن المال ، المراد غصبه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "من قتل دون ماله فهو شهيد"(10)
وجاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك" قال أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله" قال أرأيت إن قتلني، قال: "فأنت شهيد" قال أرأيت إن قتلته، قال:"هو في النار(11)
وكذلك من قتل في الدفاع عن دينه ونفسه وعرضه لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد"(12)(250/1)
ومن أعظم أسباب الشهادة من قام إلى إمام جائر، فأمره بمعروف ونهاه عن منكر فقتله لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "سيد الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله"(13) ومن سأل الله الشهادة بصدق ومات على ذلك يؤته الله أجر الشهادة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "من طلب الشهادة صادقاً أعطيها ولو لم تصبه" .
وقال: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"(14)
ومن أسباب الشهادة الدعوة إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقت الأهواء والفتن والتمسك بها كما روى ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيداً منكم"
وكذا من يموت وهو مرابط اليوم والليلة لقوله r : "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن من مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزقه ، وأمن الفتان"
أيها الإخوة المؤمنون كل واحد منا يتمنى أن يموت على الإسلام ويختم حياته بخاتمة حسنة. وإن من أسباب حسن الخاتمة وعلامة التوفيق هو الصدق مع الله في الإيمان به وحبه وحب رسوله ونصرة دينه والجهاد في سبيله.
الصدق أساس بناء الدين . من لم يكن معه الصدق فهو في المنقطعين الخاسرين الهالكين. ومن كان معه الصدق أوصله إلى ذي الجلال والإكرام وكان سبباً في حسن خاتمته وطيب مآله. ولنذكر مثالين فقط من أمثلة الصدق في حياة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
عن أنس بن مالك t قال: عمي أنس بن النضر ـ سميت به ـ لم يشهد بدراً مع رسول الله r فكبر عليه، فقال: أول مشهد قد شهده رسول الله غبت عنه !! أما والله لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله ليرين الله ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله r يوم أحد من العام المقبل، فاستقبله، فقال يا أبا عمرو، إلى أين؟ قال: واهاً لريح الجنة!! أجدها دون أحد فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ، من بين ضربة وطعنة ورمية، قالت عمتي الرُّبَيِّع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه ونزلت هذه الآية الكريمة فيه وفي مثل أمثاله ? مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ? (18)[الأحزاب:23].
رجل من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك ، فأوصى به النبي بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم النبي سبياً فقسم وقسم له .. فلما جاء دفعوا إليه نصيبه فقال: ما هذا ؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي، فأخذه فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: ما هذا؟ قال: "قسمته لك" قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأدخل الجنة، فقال: (إن تصدق الله يصدقك). فلبثوا قليلاً ثم نهضوا لقتال العدو فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل قد أصابه السهم حيث أشار. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أهو هو، قالوا نعم، قال: (صدق الله فصدقه) ثم كفنه النبي في جبته ثم قدمه فصلى عليه فكان مما ظهر من صلاته قوله: "اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك".
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة واختم لنا بالحسنى واجعل خير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية:
يشتد القتل والحصار والتدمير على الشعب الفلسطيني من قبل اليهود وأعوانهم .. وليس غريباً أن يقوم الأعداء بهذه الحرب العدوانية ولكن العجيب في الأمر هو موقف العرب والمسلمين الذي يتسم بالتخاذل والجبن والخور. وللمنافقين والعلمانيين في بلاد العروبة والإسلام دور بارز في إشاعة الرعب والهلع في نفوس الساسة وصناع القرار.
إنهم يكرسون للهزيمة ويعملون مع الأعداء للحيلولة بين الأمة ومصادر قوتها وعزتها وانتصارها المتمثلة في التمسك بالإسلام والأخذ بوسائل النصر على الأعداء والأخذ بالقوة وتهيئة الأمة للجهاد والقتال في سبيل الله والعمل على اجتماعها على كلمة سواء في هذا الصدد، ولقد كان لبلادنا موقف مشرف باستضافتها للدورة البرلمانية العربية والتي خصصت للقضية الفلسطينية ودعم جهادها وانتفاضتها ، ونرجوا أن يعي الحكام وأن تعي الشعوب الخطر وأن يتوجه الجميع يداً واحدة لمقاومة هذا العدوان اليهودي الغاشم، وهذا التخاذل من العالم أجمع ، الذي يدين الضحية ويبارك العدوان .(250/2)
أيها المؤمنون إن للنصر ثمناً لا بد من أن تدفعه الأمة لتحرير مقدساتها وحماية دينها وثرواتها وليس من طريق سوى طريق الجهاد والحرص على الموت في سبيل الله عز وجل وما نستطيع أن نقوم به نحن في هذا الظرف وهو نوع من أنواع الجهاد ، هو الجهاد بالمال لدعم إخواننا والوقوف إلى جوارهم فهم في أشد الحاجة إلى المال لبناء المنازل المهدمة وإصلاح الأراضي والمزارع التي تحرق ، ومعالجة الجرحى وإيواء المشردين وإعالة أبناء الشهداء وأراملهم. إن الوضع مأساوي ويحتاج إلى وقفة جادة من المسلمين جميعاً. فيا أيها المؤمنون أنفقوا وابذلوا لله وادعو غيركم من أهل المال والثراء بأن ينفقوا من مال الله الذي آتاهم. فالمال مال الله ونحن عبيده ونحن مطالبون بنصرة إخواننا في فلسطين وإن المعركة ستطول ولكن نهايتها معلومة محسومة وهي أن الله عز وجل سينصر عباده ويعز جنده وسيهزم الأحزاب وحده. فما علينا إلا أن نبذل ما في وسعنا وأن تصدق مع الله وسيجعل الله بعد عسر يسراً.واعلموا أن الله يقول: ? لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ?[ آل عمران:92].
وآمنوا بقوله سبحانه: ? وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ?[سبأ:39]. ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.
ـ صحيح مسلم. الجزء الثالث. كتاب الإمارة. باب بيان الشهداء. الحديث رقم الحديث : (1915).
ـ ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود باب الجهاد والسفر والغزو ص 246 رقم الحديث: 538
ـ صحيح البخاري الجزء الثاني. كتاب الجهاد والسير. باب: الشهادة سبع سوى القتل. الحديث رقم: 2675. صحيح مسلم: الجزء الثالث. كتاب الإمارة. باب بيان الشهداء. الحديث رقم: (1916)
ـ صحيح البخاري ،ج4 باب: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} الحديث رقم: 6245.
ـ صحيح البخاري الجزء الثاني. كتاب الأنبياء.باب: ? أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ? الحديث رقم: 3287.
ـ صحيح البخاري ج1 كتاب الجماعة والإمامة. باب: فضل التهجير إلى الظهر. الحديث رقم: 624. و صحيح مسلم ج3 كتاب الإمارة. باب بيان الشهداء. الحديث رقم: 1914
ـ مسند أحمد،5/ 323 ، حديث رقم: 22808 ، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال الصحيح غير أبي المصبح، وهو المقرئي فمن رجال أبي داؤود وهو ثقة.
ـ فيض القدير، شرح الجامع الصغير للإمامِ المناوي ج4 الحديث رقم: 4952 . وحسنه الألباني في أحكام الجنائز ص54.
ـ الجامع الصغير.لجلال الدين السيوطي ج4 فصل: في المحلى بأل من حرف السين. الحديث رقم: 4823 - وفيض القدير، شرح الجامع الصغير للإمامِ المناوي ج4 فصل في المحلى بأل من هذا الحرف. [أي حرف السين]ـ. الحديث رقم: 4823 وصححه الألباني في صحيح الجامع ص 4439
ـ البخاري 2/ 877 ، حديث رقم: 2348 .
ـ صحيح مسلم ج1 ، كتاب الإيمان باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد. الحديث رقم: 140
ـ سنن أبي داؤود 2/ 660 ، حديث رقم: 4772، وصححه الألباني.
ـ المستدرك 3/215 ، حديث رقم: 4884، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ـ مسلم 3/1517، حديث رقم: 1908
ـ مسلم 3/1517، حديث رقم: 1909.
ـ المعجم الكبير 10/ 182 ، حديث رقم: 10394، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: 2234.
ـ صحيح مسلم ج3. كتاب الإمارة. باب فضل الرباط في سبيل الله عز وجل. الحديث رقم: 1913
ـ مسلم 3/ 1512 ، حديث رقم : 1903.
ـ سنن النسائي 4/ 60، حديث رقم : 1953، وصححه الألباني(250/3)
أسباب المشاكل الزوجية
* الزواج سكن ومودة لطرفي العلاقة الزوجية أو من شأن السكن والمودة أن يتصف بالديمومة والثبات والاستقرار، لكن مع فقدان الوعي، وارتفاع نسبة الضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية يبقى ذلك السكن أملاً منشودًا إذ من شأن تلك الضغوط أن تزعزع استقرار الأسرة، وتقتحم عليها ذلك الهدوء.
* وحينما نتكلم عن المشاكل الزوجية فلا نقصد بعض الاختلافات في وجهات النظر، أو اليوميات العادية أو حالات عارضة نتيجة ظرف مؤقت أو طارئ، ولكننا نتكلم عن تلك التي تنشأ عن أسباب حقيقية وجوهرية، حتى ولو لم يتم الإفصاح عنها، ومع كونها أصل المشاكل.
* وإننا حين نتكلم عن أصول وجذور المشاكل يمكن أن نرجعها إلى أربعة أسباب رئيسية وهي:
[سوء الاختيار ـ عدم التفاهم في القضايا الأساسية ـ اختلاف النشأة الأولى ـ عدم فهم الحاجات النفسية والعاطفية].
أولاً: سوء الاختيار:
1ـ لقد أكد الإسلام أول ما أكد على حسن اختيار شريك الحياة ورفيق العمر، واعتبر حسن الاختيار من عوامل تحقيق [إسلامية] الحياة الزوجية، ومن تباشير الوفاق والمودة بين الزوجين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك'. [متفق عليه].
وما ذلك إلا لأن الاختيار خطير، إذ كثيرًا ما تطيش بمن يقدم على الزواج الرغبات وتستبد بهم الشهوات فتجرفهم في تيارها بسبب جمال فاتن، أو كثرة مال، أو كبر مكانة لا يكون وراءها حصانة من دين أو خلق، فتكون الحياة الزوجية شرًا ونارًا مستطيرًا تنفذ جمراته في جوانح الزوجين ثم ينتقل أثره إلى الذرية إن كتب لهم ذرية، فتتصدع أواصر الزوجية وتتقطع روابط الأسرة، وتغرس العداوة، ثم يحصل أبغض الحلال، لأن الأساس الذي قام عليه الزواج كان خطأً.
إذًا فالاختيار الصحيح الذي سياجه الدين والخلق والأصل الكريم، عاصم من قواصم المشاكل الزوجية، لأن الدين وقواعده الربانية هي القاعدة السليمة لحل أي خلاف بعد نشوئه، واجتنابه قبل وقوعه، ولا أمان لمن لا إيمان له، ولا دين لمن لا يحمى دينًا، ويمكن أن نقول: إن ضعف الوازع الديني في شريك الحياة هو أس البلاء وأساس المشاكل.
2ـ عدم الكفاءة:
عدم تكافؤ الزوجين يتبلور من حيث الوعي والتعليم والإمكانيات والمفاهيم التي تعمق الفجوة، وتضاعف مسافات البعد في الرؤية والفهم، وذلك نتيجة للحصيلة الثقافية والتعليمية التي تخلق صورًا مختلفة لتفسير الأمر وفهمًا مما يضاعف من حجم المشكلة ووزنها وأبعادها، ويخلق من المسائل العادية مشاكل كبرى بسبب سوء الفهم أو عدم القدرة على التقييم السليم أو النضج في الاستيعاب والتعبير.
ـ [وإن عنصر الكفاءة ليس بابًا من أبواب الطبقية ولا نوعًا من أنواع التعالي والاستكبار، وإنما هو تنظيم أريد به حماية الأسرة من عدم الرضا بين أفرادها، ومن ضعف التلاحم بين أعضائها، كما أريد به مراعاة حق المرأة في الزواج تطمئن إليه وحق الولد في رب يعتمد عليه، وموجه يثق به، وحق المجتمع في أسرة تمده بالحب عن رضا، وبالتكافل عن قوة، ولا شيء وراء ذلك من طبقية أو عنصرية].
3ـ فارق السن:
وفارق السن المناسب يجعل الزواج أكثر استقرارًا وثباتًا، بحيث يجعل المرأة تقدر زوجها أكثر، نظرة احترام وتقدير، لأنه الأكبر والأكثر خبرة، وهكذا تسير السفينة بربان واحد وسط أمواج الحياة الهادرة، وينشأ الأطفال في جو طبيعي، ليس معنى ذلك أن الزواج الذي لا يراعي فارق السن محكوم عليه بالفشل, فكثير من الأسر تعيش سعيدة بالرغم من ذلك، ولكن الحديث هنا عن الوضع الأفضل والأمثل.
ـ إن صور الزواج التي لم يراع فيها فرق السن تتنافى مع الحكم التشريعية المرجوة منه، سواء من الإشباع والإحصان النفسي والجنسي، ولو كان في الزمن الماضي يمكن أن يستمر هذا النوع من الزواج وتتحقق منه بعض المصالح، فإن الوضع الآن اختلف وحاجات الرجل والمرأة من بعضهما البعض قد اختلفت فيجب أن يراعى ذلك.
4ـ عدم الفهم الصحيح لمعنى الزواج:
هناك فئة من الناس تفهم الزواج على أنه متعة وإنجاب فقط, وأما ما وراء ذلك من مسئوليات، وما تتطلبه الحياة الزوجية من كدح وتعاون، وما تستوجبه من إدراك سليم وحس صادق، ومعاملة حكيمة وتقديس للحق والواجب، والتزام بحدود الله ـ فلا نكاد نهتم به، بل ربما لا يخطر لبعضنا على بال.
وقد يحلو للبعض أن يسمي الزواج مؤسسة الزواج، وهي كذلك لأنها مؤسسة تحتاج إلى أنواع مختلفة من الإدارة، سواء كانت مالية أو تربوية، الخلافات عامة وغيرها، ولا بد لمن يريد الزواج أن يعد العدة لتحمل تلك المسئولية، ولذلك من يفهم الزواج على أنه متعة وإنجاب فقط، عندما يصطدم بالواقع المخالف لذلك، تبدأ من هنا الخلافات والمشاكل، لأنه لم يؤهل نفسه لتحمل تلك المسئوليات.
ثانيًا: عدم التفاهم بين الزوجين في القضايا الأساسية: وهي [المال ـ الأولاد ـ طريقة التعامل ـ العلاقة الجنسية].
1ـ المال:(251/1)
إن مسألة المال والحقوق المالية من المسائل الهامة التي إن لم يتم إلا تفاهم عليها بين الزوجين؟ دب الخلاف في تلك الأسرة، حيث إن المال هو عصب الحياة وعليه تقوم أمور الناس وتتحقق مطالبهم وغالبًا ما تنشأ المشاكل في هذا الموضوع من [النفقة وحدودها، وإسراف الزوجة، الذمة المالية للزوجة].
أـ النفقة والتقتير فيها:
إن نفقة الزوج على زوجته واجبة بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة: 233]. والمعروف المتعارف عليه بالشرع، من غير إفراط ولا تفريط, وإنما استحقت الزوجة هذه النفقة لتمكينها له من الاستمتاع بها، وطاعتها له، والقرار في بيته، وتدبير منزله، وحضانة أطفاله، وتربية أولاده.
وتبدأ المشاكل عندما تعلم المرأة أن زوجها ميسور الحال وله قدرة في التوسعة عليها وعلى أبنائها، ومع ذلك تراه يمسك عليها ويقتر على أبنائها فتبدأ المطالبة والامتناع وتظهر المشاكل.
ب ـ الإسراف وعدم القناعة من المرأة:
وهناك من النساء من لا تقنع أبدًا بأي حد، وهذا النوع من النساء دمار البيوت، لأنها تجعل الرجل في توتر دائم وبالتالي الأسرة، فهو إما أن يرفض فتبدأ المشاكل، أو يستجيب ويكون هذا فوق طاقته مما يضطره إلى الدين أو الطرق غير المشروعة.
ج ـ الذمة المالية للزوجة:
وهذا موضوع طويل وقد سبق طرحه بالتفصيل، ولكن المهم هنا أن عدم فهم الرجل والمرأة ما له ولها وعليه وعليها، يولد كثيرًا من الجدل والمشاكل، والتفاهم في هذا الأمر وفق قواعد الشرع والعرف العاصم من هذه القاصمة، والفضل وحسن العشرة وهو المنجي من هذا الصراع.
2ـ الأولاد:
إن تربية الأولاد والمسئولية عن ذلك، وكذلك متابعة المستوى الدراسي، هي من الأمور التي يكثر حولها الجدل، من المسئول عن ذلك الرجل أم المرأة، وهل هذا الأسلوب المتبع في التربية وطريقة الدراسة مرضٍ للطرفين أم غير مرضٍ. والحقيقة أن هذه المشكلة أعني الأولاد من الأمور الهامة التي يجب أن يحسن الأزواج إدارتها إذ إن التنازع فيها، يعرض الأسرة إلى الدمار، والتذبذب يؤدي إلى نشوء أجيال غير واضحة الهوية، مشتتة الوجدان والفكر.
3ـ طريقة التعامل:
طريقة التعامل بين الزوجين محور من محاور التفاهم بين الزوجين الأساسية، إذ إن الحياة الزوجية قائمة على التفاهم والحوار، والحوار جزء كبير من هذه الحياة، ولذلك نبه القرآن على ذلك بقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}, وهناك من الأزواج من يتفاهم مع زوجته من منطلق الدونية وإلغاء الهوية والكيان, فهي أشبه بأمة ليس لها من الأمر شيء، فالقوامة عنده قهر وإذلال، وهناك من النساء من تعامل زوجها أسوأ معاملة وتتسلط عليه وتلغي شخصيته وقوامته فيذوب الرجل، وتتذبذب الأسرة، وهناك أسر كأنها حلبة صراع ومعارك حربية، وخطط ومؤامرات، مع أن الصورة المثالية الإسلامية حددت وبوضوح الحقوق والواجبات وأيضًا طريقة العشرة.
4ـ العلاقة الجنسية:
[يعتبر وجود علاقات جنسية سليمة ومشبعة بين الزوجين أمرًا أساسيًا في كل زواج سعيد ناضج، ذلك أنه إذا كان السكن هدفًا من أهداف الزواج كما ورد في الآية القرآنية الكريمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}, فإن المشاكل الجنسية منغص كبير لهذا السكن على المستويين النفسي والجسدي.
وقد أثبتت الدراسات النفسية أن السكن والمودة والرحمة بين الزوجين، تزداد قوة بوجود توافق جنسي بينهما، وذلك لأن العلاقة الجنسية بحكم طبيعتها مصدر نشوة ولذة، فهي تشبع حاجة ملحة لدى الرجل والمرأة على السواء، واضطراب إشباع هذه الغريزة لمدة طويلة يسبب توترًا نفسيًا ونفورًا بين الزوجين، إلى الحد الذي جعل كثيرًا من المتخصصين ينصحون بالبحث وراء كل زواج فاشل أو متعثر، عن اضطراب من هذا النوع.
ثالثًا: النشأة الأولى، وأثرها في استقرار الزواج:
لقد نشأنا في أسر مختلفة، ومرت بنا ظروف متباينة، جعلت توقعاتنا مختلفة جدًا فنحن عادة نتأثر بما نلاحظه من تعامل أبوينا في محبتهما واختلافهما، وبما يقولان أو يفعلان، أو بما يصمتان عنه، ونكون تعلمنا ومن غير أن ندري أساليب مختلفة في معظم أمور الحياة، كيف ننفق المال، وكيف نرتب أمور المنزل والحياة الأسرية، وما يفعل الرجل داخل البيت، وما لا يفعل، ودور المرأة وعملها ومن يتخذ القرارات وكيف يربي الأولاد وكيف نحتفل بالأعياد، وكيف نحل الخلافات والنزاعات، وأهمية الترتيب أو عدم أهميته، وأهمية الوقت وكيفية قضائه، وكيفية استعمال التلفزيون، ودور الأصدقاء في حياتنا وكثير من غير هذه المواضع.
1ـ اختلافات شخصية:(251/2)
إن اختلاف الشخصيتين وعدم فهم هذا الأمر يؤدي إلى كثير من المشاكل، فالشخصيات كثيرة ومتنوعة ولها سماتها، فهناك العقلاني والعاطفي والاجتماعي، والانطوائي، وهذه الشخصيات آية من آيات الله في الكون، فإذا لم يتفهم كل صاحب شخصية صاحبه ومفاتيح تلك الشخصية وكيفية التعامل معها فستقع كثير من المشكلات، والشخصيات المتشابهة تتفاهم أكثر من غيرها، وكذلك الشخصيات المتكافلة، حيث يوجد من القوة في كل شخصية ما لا يوجد في غيرها، أما الشخصيات المتنافرة فهي بيت الداء في العلاقات الزوجية.
2ـ اختلاف تجارب الحياة:
وتجارب الحياة لها أثر كبير في صياغة الشخصية والنفسية، وحجم هذه التجارب ونوعيتها، والنتائج المستخلصة منها، فإذا كان الشخص مجربًا وناضجًا وفي بيئة تؤهله لذلك، أدى ذلك إلى واقعيته وقدرته على حل المشكلات، والتعامل معها، على العكس من الآخر قليل التجربة حيث يمكن أن ينزلق في بعض المشكلات كان يمكن البعد عنها.
وكذلك نوعية هذه التجارب هل هي ناجحة أو فاشلة، سعيدة أو تعيسة، فالإنسان دائمًا أسير تجاربه وقناعته التي تكون فكره، والسلوك دائمًا مرآة الفكر، أي نابع منه ونتيجة له.
3ـ النشوء في بيئة مختلفة وتأثير العوامل الوراثية:
تؤثر النشأة والعوامل الوراثية على كل من الزوجين وخاصة إذا كان ما يحمله أحدهما بعيدًا عن الآخر ومتعارضًا معه، فالتنشئة لها أثر كبير على لون السلوك وطبيعة التعامل، وللوراثة المساحة الأكبر من ذلك، وكلها تؤثر على التئام الحياة الزوجية، وخلق المناخ المناسب الذي تقل فيه المشاكل، وتزيد الفجوة الناتجة من اختلاف الطبائع والعقلية والمفاهيم، ومن هنا ندرك أن لطبيعة كل من الزوجين ما ينعكس على تعامله وحياته الزوجية.
4ـ الاختلاف في الموروثات الثقافية والاجتماعية:
ـ أي إنسان يعيش في أي مجتمع سواء كان رجلاً أو امرأة سوف يتأثر ويحمل الشيء الكثير من حضارة وثقافة ومفاهيم ذلك المجتمع الذي عاش فيه وحسب تكوينه، وكل هذه الموروثات والمفاهيم تنعكس على طريقة التفكير والتعامل بين الزوجين وعلى معالجة المشاكل والنظرة إلى الحياة.
ـ ولوسائل الإعلام الأثر الكبير في صياغة أفكارنا، فبعض وسائل الإعلام وما يتناقله الناس في أحاديثهم وأفكارهم تساهم في تكوين انطباعات وتوقعات الإنسان من علاقته الزوجية، وقد تكون هذه التوقعات من أبعد الأمور من الواقع العملي المعاش، ولذلك سيصاب هذا الإنسان بخيبة الأمل والإحباط عندما يصدم بعدم تحقق هذه الأمور التي حدثته عنها وسائل الإعلام.
رابعًا: عدم فهم الاحتياطات النفسية والعاطفية لكل طرف:
تشير بعض الأبحاث إلى أن أغلب الصراعات الزوجية إنما تنشأ بسبب أربعة عوامل هي: المال، والأولاد، طريقة التعامل، والعلاقة الجنسية، ولكن يبدو في الحقيقة أن هذه الأمور الأربعة إنما هي مجرد أعذار أو مبررات رغم أهميتها وأن سبب المشكلات حقيقة أعمق من ذلك، وإنما هو بسبب معان وقيم خفية أكثر عمقًا، كأن يشعر أحدهما بأن الآخر لا يحبني ولا يرعاني أو أنها تحاول السيطرة على، أو أنه لا يساعدني أبداً، ويمكن لهذه المعاني العميقة أن تظهر إلى السطح عند أقل مشكلة صغيرة، ويبدو أن الرجل بشكل عام يقدر مسألة الاستقلال، بينما المرأة جانب المود(251/3)
أسباب المغفرة ...
...
31-07-2004
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً] رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح. وقد تضمن هذا الحديث أسبابًا ثلاثة تحصل بها المغفرة:
السبب الأول:الدعاء مع الرجاء: وهو مأمور به وموعود عليه بالإجابة.
كما قال تعالى:{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ...[60]}[سورة غافر]. وعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ ثُمَّ قَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[60]}[سورة غافر]] رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة وأحمد.
- شروط إجابة الدعاء: الدعاء سببٌ مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه وانتقاء موانعه، وقد تتخلف الإجابة لانتقاء بعض شروطه، أو وجود بعض موانعه وآدابه. ومن أعظم شرائطه:
- حضور القلب ورجاء الإجابة من الله : كما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ]رواه الترمذي. ولهذا نهى العبد أن يقول في دعائه: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ]. رواه البخاري ومسلم.
-ترك الاستعجال مع الإلحاح في الدعاء : ونهى أن يستعجل ويترك الدعاء لاستبطاء الإجابة، وجعل ذلك من موانع الإجابة حتى لا يقطع العبد رجاءه من إجابة دعائه، ولو طالت المدة، فإنه سبحانه يحب الملحين فى الدعاء، قال تعالى:{ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[56]}[سورة الأعراف]. فما دام العبد يلح في الدعاء، ويطمع في الإجابة، غير قاطع الرجاء، فهو قريب من الإجابة، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له.
- من أهم ما يسأل العبد ربه مغفرة ذنوبه: وما يستلزم ذلك كالنجاة من النار ودخوله الجنة، وقد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ]رواه أبوداود وابن ماجة وأحمد. يعنى: حول سؤال الجنة والنجاة من النار. وقال أبو مسلم الخولانى: 'ما عرضت لي دعوة فذكرت النار إلا صرفتها إلى الاستعاذة منها'.
- سبب صرف الإجابة عن العبد: ومن رحمة الله تعالى بعبده أن العبد يدعوه بحاجة من الدنيا، فيصرفها عنه يعوضه خيرًا منها:
- إما أن يصرف عنه بذلك سوءًا.
- أو يدخرها له في الآخرة.
- أو يغفر له بها ذنبًا.
كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا] قَالُوا:' إِذًا نُكْثِرُ' قَالَ: [اللَّهُ أَكْثَرُ] رواه أحمد.
وبكل حال فالإلحاح بالدعاء بالمغفرة مع رجاء الله؛ موجب للمغفرة. والله تعالى يقول: [ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ] رواه أحمد والدارمي-وفي البخاري ومسلم شطره الأول- .
ذنوب العبد وإن عظمت عفو الله أعظم منها: وقوله: [إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي].
يعنى على كثرة ذنوبك، ولا يعاظمني ذلك، ولا استكثره، فعن النبى صلى الله عليه وسلم قال: [ إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ لْيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ] رواه مسلم. فذنوب العبد- وإن عظمت- فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها، وهى صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته. وفى هذا المعنى يقول بعضهم:
يَا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنُوبِى كَثرَةً فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِنٌ فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ
مَا لِى إِلَيكَ وَسِيلَةٌ إِلاَّ الرَّجَا وَجَمِيلُ عَفوِكَ ثُمَّ إِنِّى مُسلمُ(252/1)
السبب الثانى للمغفرة: الاستغفار ولو عظمت الذنوب: وبلغت العنان وهو السحاب، وقيل: ما انتهى إليه البصر منها.
وفى الرواية الأخرى: [لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَغَفَرَ لَكُمْ] رواه أحمد.
- معنى الاستغفار: والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها، وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار:
- فتارة يؤمر به: كقوله تعالى{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [20]}[سورة المزمل] .
- وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره: كقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا[110]}[سورة النساء] .
- الاستغفار المقرون بالتوبة: وكثيرًا ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة: عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح.
- إفراد الاستغفار: وتارة يفرد الاستغفار، ويرتب عليه المغفرة كما ذكر الحديث، وما أشبهه.
- الاستغفار المقبول: قيل: إنه أريد به الاستغفار المقترن بالتوبة. وقيل: إن نصوص الاستغفار المطلقة تقيد بما ذكر في آية آل عمران:{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ[135] }.من عدم الإصرار، فإن الله وعد فيها بالمغفرة لمن استغفر من ذنوبه، ولم يصر على فعله، فتحمل النصوص المطلقة في الاستغفار كلها على هذا القيد.
ومجرد قول القائل: 'اللهم اغفر لى' طلب منه للمغفرة، فيكون حكمه حكم سائر الدعاء، فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه، ولاسيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنوب، أو صادف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات.
ويروى عن لقمان أنه قال لابنه: 'يا بنى عوّد لسانك اللهم اغفر لي؛ فإن الله ساعات لا يرد فيها سائلًا'. وقال الحسن: 'أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفى طرقكم، وفى أسواقكم، وفى مجالسكم، وأينما كنتم؛ فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة'. وعن مغيث بن سمى قال:'بينما رجل خبيث، فتذكر يومًا اللهم غفرانك، اللهم غفرانك، ثم مات، فغفر له'.
ويشهد لهذا ما في الصحيحين عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [إِنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا قَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلَاثًا فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ]. والمعنى: ما دام على هذا الحال كلما أذنب استغفر، والظاهر أن مراده الاستغفار المقرون بعدم الإصرار.
- الإصرار من موانع إجابة الاستغفار: الاستغفار باللسان مع إصرار القلب على الذنب هو دعاء مجرد إن شاء الله أجابه، وإن شاء رده، وقد يكون الإصرار مانعا من الإجابة. وفى حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: [...وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] رواه أحمد.
- الاستغفار الموجب للمغفرة: قول القائل:'أستغفر الله'. معناه: أطلب مغفرته، فهو كقوله: 'اللهم اغفر لي'. فالاستغفار التام الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم الإصرار كما مدح الله تعالى أهله، ووعدهم بالمغفرة.
قال بعض العارفين:'من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب في استغفاره'. وفى ذلك يقول بعضهم:
استَغفِرُ اللهَ مِن اَستَغفِرُ اللهَ ... ... مِن لَفظَةٍ بَدَرَت خالَفتُ مَعناها
وَكَيفَ أَرجُو إِجَابَاتِ الدُّعَاءِ وَقَد ... ... سَدَدتُ بِالذَّنبِ عِندَ اللهِ مَجراها
فأفضل الاستغفار ما قرن به ترك الإصرار، وهو حينئذ يؤمل توبة نصوحًا وإن قال بلسانه: [استغفر الله] وهو غير مقلع بقلبه، فهو داع لله بالمغفرة كما يقول:'اللهم اغفر لى' فقد يرجى له الإجابة.
وأما من تاب توبة الكذابين فمراده أنه ليس بتوبة كما يعتقده بعض الناس وهذا حق. فإن التوبة لا تكون مع الإصرار.(252/2)
- أفضل أنواع الاستغفار: أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يثنى بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة، كما فى حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ] رواه البخارى.
- من أنواع الاستغفار: ومن أنواع الاستغفار أن يقول العبد، ما جاء في الحديث: [ مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ] رواه أبو داود والترمذى.
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: [رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ]رواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد.
- كم يستغفر في اليوم؟
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً] رواه البخاري. وعَنْ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ] رواه مسلم. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا]رواه ابن ماجة.
- دواء الذنوب الاستغفار: وبالجملة فدواء الذنوب الإستغفار، قال قتادة:'إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم: فالذنوب، وأما دواؤكم: فالاستغفار.
- طلب الاستغفار ممن قلت ذنوبه: ومن زاد اهتمامه بذنوبه، فربما تعلق بأذيال من قلت ذنوبه، فالتمس منهم الاستغفار وكان عمر يطلب من الصبيان الاستغفار ويقول:'إنكم لم تذنبوا'.وكان أبو هريرة يقول لغلمان الكتاب قولوا:'اللهم اغفر لأبى هريرة'. فيؤمن على دعائهم.
السبب الثالث للمغفرة :التوحيد: وهو السبب الأعظم، فمن فقده؛ فقد المغفرة، ومن جاء به؛ فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال تعالى:{إِنَّ اللهَ لاَ يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [48]}[سورة النساء]. فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض، وهو ملؤها أو ما يقاربه خطايا؛ لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة.
- تحقيق التوحيد يوجب مغفرة الذنوب:فإن كمل توحيد العبد، وإخلاصه لله فيه، وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه، أوبقلبه ولسانه عند الموت؛ أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية.
فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه؛ أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيمًا، وإجلالًا، وخشية، ورجاء، وتوكلًا. وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات؛ فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضع منه ذرة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات.
من 'شرح الحديث الثاني والأربعين في جامع العلوم والحكم' للحافظ ابن رجب رحمه الل(252/3)
أسباب النزول ... ... ...
... ...
... ...
28-03-2004
أ- تعريف السبب:
لغة: الحبل. ثم استعمل لكل شيء يتوصل به إلى غيره.
شرعاً: ما يكون طريقاً للوصول إلى الحكم غير مؤثر فيه. مثاله: زوال الشمس علامة لوجوب الصلاة، وطلوع الهلال علامة على وجوب صوم رمضان في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
ب- أسباب النزول:
1 - قسم نزل بدون سبب، وهو أكثر القرآن.
2- قسم نزل مرتبط بسبب من الأسباب. ومن هذه الأسباب:
أ- حدوث واقعة معينة فينزل القرآن الكريم بشأنها:
عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [ الشعراء: 214]. خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه، فاجتمعوا إليه فقال" أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟.." الحديث ، فقال أبو لهب تباً لك، إنما جمعتنا لهذا، ثم قام، فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1].
ب-أن يُسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء، فينزل القرآن ببيان الحكم مثال ذلك: عن عبد الله قال: إني مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة وهو متكىء على عسيب، فمر بنا ناس من اليهود فقالوا: سلوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه فيستقبلكم بما تكرهون، فأتاه نفر منهم فقالوا له: يا أبا القاسم ما تقول في الروح؟ فسكت، ثم قام، فأمسك وجهه بيده على جبهته، فعرفت أنه ينزل عليه، فأنزل الله عليه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85].
جـ- الحكمة والفوائد من أسباب النزول.
1-الحكمة:
معرفة وجه ما ينطوي عليه تشريع الحكم على التعيين لما فيه نفع المؤمنين وغير المؤمنين، فالمؤمن يزداد إيماناً على إيمانه لما شاهده وعرف سبب نزوله، والكافر إن كان منصفاً يبهره صدق هذه الرسالة الإلهية فيكون سبباً لإسلامه، لأن ما نزل بسبب من الأسباب إنما يدل على عظمة المُنزل وصدق المُنزَل عليه.
2-الفوائد:
أ- الاستعانة على فهم الآية وتفسيرها وإزالة الإشكال عنها، لما هو معلوم من الارتباط بين السبب والمسبب.
قال الواحدي: لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها.
قال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن.
قال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب.
وقد أشكل على مروان بن الحكم قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا...} [آل عمران: 188].
وقال: لئن كان كل امرىء فرح بما أُوتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً، لنعذبنَّ أجمعون. حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكتموه إياه وأخبروه بغيره، وأَرَوْه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه.
ب- أن لفظ الآية يكون عاماً، ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عُرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته.
جـ- دفع توهم الحصر، قال الإمام الشافعي ما معناه في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا...} [الأنعام: 145]: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة - أي تصرفهم بقصد المخالفة - جاءت الآية مناقضة لغرضهم فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه.
د- معرفة اسم النازل فيه الآية، وتعيين المبهم فيه.
د-كيفية معرفة أسباب النزول:
لما كان سبب النزول أمراً واقعاً نزلت بشأنه الآية، كان من البَدَهي ألا يدخل العلم بهذه الأسباب في دائرة الرأي والاجتهاد، لهذا قال الإمام الواحدي: ولا يحل القول في أسباب النزول إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها.
ومن هنا نفهم تشدد السلف في البحث عن أسباب النزول، حتى قال الإمام محمد بن سيرين: سألت عَبيدَةَ عن آية من القرآن، فقال: اتق الله وقل سداداً، ذهَب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن.
وقد اتفق علماء الحديث على اعتبار قول الصحابي في سبب النزول، لأن أسباب النزول غير خاضعة للاجتهاد فيكون قول الصحابي حكمه الرفع، أما ما يرويه التابعون من أسباب النزول، فهو مرفوع أيضاً، لكنه مرسل، لعدم ذكر الصحابي.
لكن ينبغي الحذر والتيقظ، فلا نخلط بأسباب النزول ما ليس منها، فقد يقع على لسانهم قولهم: نزلت هذا الآية في كذا ويكون المراد موضوع الآية، أو ما دلت عليه من الحكم.
هـ- صيغة السبب:
1- تكون نصحاً صريحاً في السببية إذا صرح الراوي بالسبب بأن يقول: سبب نزول هذه الآية كذا، أو يأتي الراوي بفاء التعقيب بعد ذكر الحادثة، بأن يقول: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا، فنزلت الآية.(253/1)
2- تكون محتملة للسببية إذا قال الراوي: أحسب هذه الآية نزلت في كذا، أو ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في كذا، مثال ذلك ما حدث للزبير والأنصاري ونزاعهما في سقي الماء، وتشاكيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفذ فيهما حكم الله، فكأن الأنصاري لم يعجبه هذه الحكم، فنزل قوله تعالى: {س} [ النساء: 65 ]. فقال الزبير ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك.
و- اختلاف روايات أسباب النزول.
لما كان سبيل الوصول إلى أسباب النزول هو الرواية والنقل، كان لا بد أن يعرض لها ما يعرض للرواية من صحة وضعف، واتصال وانقطاع، لكن هنا ظاهرة هامة يحتاج الدارس إليها وهي اختلاف روايات أسباب النزول وتعددها، وذلك لأسباب يمكن تلخيص مهماتها فيما يلي:
1-ضعف الرواة:
وضعف الراوي يسبب له الغلط في الرواية، فإذا خالفت روايته المقبولين، كانت روايته مردودة.
ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [ البقرة: 115]. فقد ثبت أنها في صلاة التطوع للراكب المسافر على الدابة.
أخرج مسلم عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وأخرج الترمذي وضعّفه: أنها في صلاة من خفيت عليه القبلة فاجتهد فأخطأ القبلة، فإن صلاته صحيحة. فالمعوّل عليه هنا في سبب النزول السبب الأول لصحته.
2- تعدد الأسباب والمُنَزَّل واحد:
وذلك بأن تقع عدة وقائع في أزمنة متقاربة، فتنزل الآية لأجلها كلها، وذلك واقع في مواضيع متعددة من القرآن، والعمدة في ذلك على صحة الروايات، فإذا صحت الروايات بعدة أسباب ولم يكن ثمة ما يدل على تباعدها كان ذلك دليلاً على أن الكل سبب لنزول الآية والآيات.
مثال ذلك: آيات اللعان: فقد أخرج البخاري: أنها نزلت في هلال بن أمية لما قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ..} [النور: 6].
وفي الصحيحين : أنها نزلت في عويمر العجلاني وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً…فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه قد أنزل فيك وفي صاحبتك القرآن".
وظاهر الحديثين الاختلاف، وكلاهما صحيح.
فأجاب الإمام النووي: بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيىء عويمر أيضاً، فنزلت في شأنهما معاً.
3- أن يتعدد نزول النص لتعدد الأسباب:
قال الإمام الزركشي: وقد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه، وتذكيراً به عند حدوث سببه خوف نسيانه … ولذلك أمثلة، منها:
ما ثبت في الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} أنها نزلت لما سأله اليهود عن الروح وهو في المدينة، ومعلوم أن هذه الآية في سورة " سبحان " - أي الإسراء وهي مكية بالاتفاق ، فإن المشركين لما سألوه عن ذي القرنين وعن أهل الكهف قبل ذلك بمكة، وأن اليهود أمروهم أن يسألوه عن ذلك، فأنزل الله الجواب، كما سبق بيانه.
ولا يقال: كيف يتعدد النزول بالآية الواحدة، وهو تحصيل حاصل؟
فالجواب: أن لذلك فائدة جليلة ، والحكمة من هذا - كما قال الزركشي - أنه قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة تقتضي نزول آية ، وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها، فتؤدي تلك الآية بعينها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً لهم بها ، وبأنها تتضمن هذه .
ز- تعدد النزول مع وحدة السبب
1-قد يتعدد ما ينزل والسبب واحد ومن ذلك ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [ آل عمران:195 ].
2-عن أم سلمة قالت: يا رسول الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال، فأنزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35].
3-عن أم سلمة أنها قالت: تغزوا الرجال ولا تغزوا النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ}
[ النساء: 32 ] .
حـ- تقدم نزول الآية على الحكم
1- المثال الأول: قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] استدل بها على زكاة الفطر، والآية مكية، وزكاة الفطر في رمضان، ولم يكن في مكة عيد ولا زكاة.
2-المثال الثاني: قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1-2] السورة مكية، وقد ظهر أثر الحل يوم فتح مكة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: "أحلت لي ساعة من نهار "(253/2)
3- المثال الثالث: قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [ القمر: 45] قال عمر بن الخطاب: كنت لا أدري أي الجمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}.
ط- تعدد ما نزل في شخص واحد.
1- موافقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أخرج البخاري عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث. قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [ البقرة: 125].
وقلت يا رسول الله: إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] فنزلت كذلك.
2- نزلت آيات في سعد بن أبي وقاص: قال: كانت أمي حلفت ألا تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمد صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15].
الآية الثانية: يقول سعد: أخذت سيفاً فأعجبني، فقلت: يا رسول الله هب لي هذا، فنزلت سورة الأنفال.
ي- أمثلة عن أسباب النزول.
1- قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ} [البقرة: 142] نزلت في تحويل القبلة.
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، فقال السفهاء من الناس-وهم اليهود- {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142].
2- قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء : 11].
عن جابر قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان، فوجدني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش عليَّ منه فأفقت فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: {يوصيكم الله في أولادكم}.
3- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم استهزاءً، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي ؟ فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
4-قوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها من دون أن آتيها وأنا هذا فاقض فيّ ما شئت، قال: فقال عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فانطلق الرجل فأتبعه رجلاً ودعاه، فتلا عليه هذه الآية، فقال الرجل: يا رسول الله هذا له خاصة؟ قال: " لا، بل للناس كافة ".
5- قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [ الإسراء: 110].
عن ابن عباس قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، وكانوا إذا سمعوا القرآن سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي بقراءتكم فيسمع المشركون فيسبوا القرآن {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا يسمعون {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا}.
6- قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [ النور: 33 ].
عن جابر قال: كان لعبد الله بن أبي جاريه يقال لها: مسيكة، فكان يكرهها على البغاء، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}.
7- قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8 ] عن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه قال: نزلت هذه الآية فيّ، قال: حلفت أم سعد لا تكمله أبداً حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، ومكثت ثلاثة أيام حتى غشي عليها الجهد، فأنزل الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}.
8- قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53].
عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة، فنزلت هذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا...}. ... ...(253/3)
أسباب النصر
1ـ كمال التقوى والاستقامة على دين الله تعالى:
قال تعالى:?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ? [محمد :7 ].
وقال تعالى ?وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ? [الروم : 47 .
2ـ اجتماع الكلمة والحذر من الاختلاف والتنازع: والصبر والثبات عند ملاقاة العدو والإكثار من ذكر الله تعالى واستدامة طاعة الله ورسوله:
قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ?[الأنفال : 45،46].
3ـ إعداد العدة الكافية والممكنة لملاقاة العدو:
قال تعالى ? وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ?[الأنفال :60].
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.(254/1)
أسباب النصر الحقيقية وصفات من ينصرهم الله
الحمدُ لله، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ، وأصحابه، والتابعينَ لهم بإِحسانٍ وسلَّم تسليماً، أما بعد ،،،
فلقد نصرَ الله المؤمنينَ في مَواطنَ كثيرةٍ في بدرٍ، والأحزابِ، والفتحِ، وحُنينٍ، وغيرها:
1- نصرَهُمُ اللهُ وفاءً بِوَعدِه: {...وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ[47]} [سورة الروم] . {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَْشْهَدُ [51] يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ[52]} [سورة غافر].
2- نَصرَهُمُ اللهُ لأنهم قائمونَ بدينِه وهو الظَّاهرُ على الأديانِ كلِّها: فمن تمسك به فهو ظاهرٌ على الأممِ كلِّها: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[33]} [سورة التوبة].
3- نصَرَهم اللهُ لأنهم قاموا بأسبابِ النصرِ الحقيقيَّةِ المادَيةِ منها والمَعْنَويةِ: فكان عندهم من العَزْمِ ما بَرَزُوا به على أعْدائهم أخذاً بتوجيه اللهِ لَهُم، وتَمشِّياً مع هديهِ وتثبيتِه إياهم:{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [139] إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ[140]} [سورة آل عمران] . {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً[104]} [سورة النساء]. { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ[35]}[سورة محمد]. فَكانوا بهذِه التَّقْويَةِ والتثبيتِ يَسِيرونَ بِقُوةٍ وعزْمٍ وجِدٍّ.
وأخَذُوا بكِلَّ نصيبٍ من القُوة امتثالاً لقولِ ربِّهم: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ[60]} [سورة الأنفال] من القُوَّةِ النفسيةِ الباطنةِ، والقوةِ العسكريةِ الظاهرة.
4- نصرهم الله تعالى لأنهم قامُوا بنصر دينِه: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. فوعدَ اللهُ بالنصر من ينصرُه وعداً مؤكداً بمؤكدات لفظية ومَعنوية: أما المؤكدات اللفظية: فهي القسمُ المقدَّرُ؛ لأنَّ التقديرَ: واللهِ لينصرنَّ اللهُ مَنْ ينصرُهُ. وكذلك اللامُ والنونُ في:{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} كلاهُما يفيدُ التوكيدَ.
وأمَّا التوكيدُ المعنويُّ: ففي قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ } فهو سبحانه قَويٌّ لا يضْعُفُ، وعزيزٌ لا يذِلُّ، وكلُّ قوةٍ وعزةٍ تُضَادُّهُ ستكونُ ذُلاً وضعفاً. وفي قولِه:{ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} تثبيتٌ للمؤمِنِ عندما يسْتَبعِدُ النصر في نَظَره لِبُعد أسبابِه عندَه، فإنَّ عواقبَ الأمورِ لله وحْدَهُ يغَيِّر سبحانَه ما شاءَ حَسْبَ ما تَقْتَضِيه حكمَتُه.
أوصاف من يستحقون النصر:
وفي هاتين الآيتين: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. بيانُ الأوْصافِ التي يُستحقُّ بها النصرُ، وهي أوصافٌ يَتَحَلَّى بها المؤمنُ بعدَ التمكين في الأرضِ، فلا يُغْرِيه هذا التمكينُ بالأشَرِ والْبَطرِ والعلوِّ والفسادِ، وإنما يَزيدُه قوةً في دين الله وتَمسُّكاً به.(255/1)
الوصفُ الأول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. والتمكينُ في الأرض لا يكونُ إلاّ بعْدَ تحقيق عبادةِ الله وحْدَه كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[55]}[سورة النور]. فإذا قام العبدُ بعبادَةِ الله مخلصاً له في أقْوَالِه، وأفعالِه، وإرادَتِه لا يريدُ بها إلا وجه الله والدار الآخرة، ولا يريد بها جاهاً، ولا ثناءً من الناسِ، ولا مالاً، ولا شيئاً من الدُّنيا، واستمَرَّ على هذِه العبادة المخْلصة في السَّراء والضَراءِ والشِّدةِ والرَّخاءِ؛ مكَّنَ الله له في الأرض.
إذَنْ فالتمكينُ في الأرضَ يستلزمُ وصفاً سابقاً عليه وهو عبادةُ اللهِ وحْدَه لا شريكَ له، وبعد التمكين والإِخلاص يَكُونُ:
الوصفُ الثاني: وهو إقامةُ الصلاةِ: بأن يؤدِّيَ الصلاة على الوجهِ المطلوب منه، قائماً بشروطِها وأركانِها وواجباتِها، وتمامُ ذلك القيامُ بمُسْتَحَبَّاتِها، فيحسنُ الطُّهورَ، ويقيمُ الركوعَ والسجودَ والقيامَ والقعودَ، ويحافَظُ على الوقتِ وعلى الجمعةِ والجماعاتِ، ويحافظُ على الخشوعِ وهو حضورُ القلبِ وسكونُ الجوارح، فإِنَّ الخشوعَ رُوحُ الصلاةِ ولُبُّها، والصلاةُ بدونِ خشوعٍ كالجسمِ بدون روحٍ، وعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدْسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا، رواه أبو داود وأحمد.
الوصفُ الثالث: إيتاءُ الزكاةِ:{...وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ[43]}[سورة البقرة]. بأن يعْطوُهَا إلى مستحقِّيها طِّيبةً بها نفوسُهم، كاملةً بدونِ نقصٍ يبتغُون بذلك فضلاً من الله ورضواناً، فيُزكُّون بذلك أنفسَهُم، ويطهِّرون أموالَهم، وينفعونَ إخوانهم من الفقراءِ والمساكينِ وغيرهم من ذوي الحاجات.
الوصفُ الرابعُ: الأمر بالمعروفِ: {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} والمعروفُ: كلُّ ما أمرَ اللهُ به ورسولُه من واجباتٍ ومستحبات، يأمرون بذلك إحياءً لشريعةِ اللهِ، وإصلاحاً لعباده، واستجلاباً لرحمتِهِ ورضوانِهِ، فالمؤمنُ للمؤمنِ كالبنيِان يشدُ بعضُه بعضاً، فكما أنَّ المؤمنَ يحبُّ لنفسِهِ أَنْ يكونَ قائماً بطاعَةِ ربِّه، فكذلك يجبُ أن يحبَّ لإِخوانِه من القيام بِطاعةَ الله ما يحبُّ لنفسه.
والأمرُ بالمعروفِ عن إيمانٍ وتصديقٍ يستلزمُ أن يكونَ الآمر قائماً بما يأمرُ به؛ لأنه يأمرُ به عن إيمانٍ واقتناعٍ بفائدتِهِ وثمراتِهِ العاجلة والآجلةِ.
الوصفُ الخامسُ: النَّهيُ عن المنكرِ: {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} والمُنْكَرُ: كلُّ ما نهى اللهُ عنه ورسولُه من كبائر الذنوبِ وصغائِرِها، مما يتعلقُ بالعبادةِ، أو الأخلاقِ، أو المعاملةِ؛ ينْهونَ عن ذلك كلِّه صِيانةً لدينِ الله، وحمايةً لِعباده، واتقاءً لأسْبابِ الفسادِ والعقوبةِ.
فالأمرُ بالمعروفِ والنَهْيُ عن المنكر دعَامَتَانِ قَوِيَّتانِ لبقاءِ الأمَّةِ وعزتِها ووحْدَتِها حتى لا تتفرَّق بها الأهواءُ، وتَشَتَّتَ بها المسالكُ؛ ولذلك كانَ الأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر من فرائِضِ الدين على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ مع القدرةِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[104]وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[105]}[سورة آل عمران].
فَلَوْلا الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر لتَفَرَّق الناسُ شِيعاً، وتمزَّقوا كل ممزَّق كلُّ حزبٍ بما لَدَيْهِمْ فرحون.
وبه فُضِّلت هذه الأمةُ على غيرها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[110]}[سورة آل عمران].(255/2)
وبتَركه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[78]كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[79]}[سورة المائدة].
فهذه الأوصافُ الخمسةُ متى تحقَّقتْ مع القيامِ بما أرشدَ الله إليه من الْحَزمِ، والعزيِمَةِ، وإعْدادِ القُوَّةِ الحسيَّة؛ حصل النصرُ بإذنِ الله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[6]يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[7]}[سورة الروم].فيَحْصَلُ للأمَّةِ من نصْر الله ما لَمْ يخْطُرْ لهم على بالٍ.
وإن المؤمنَ الواثقَ بوعدِ الله ليَعْلمُ أنَّ الأسباب المادِّيةَ مَهْما قويَتْ فليستْ بشيء بالنسبةِ إلى قُوةِ الله الذي خلقها وأوْجَدَها:
افْتَخَرَتْ عادٌ بقوَّتِها وقالُوا منْ أشدُّ منا قوةً، فقال الله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ[15]فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ[16]}[سورة فصلت].
وافْتَخر فرعونُ بمُلكِ مصْرَ وأنْهَاره التي تْجري مِنْ تحته فأغرقَه الله بالماءِ الَّذِي كان يفْتَخرُ بِمثْلِهِ، وأوْرث مُلْكهُ مُوسى وقومَه، وهو الَّذِي في نظر فرعونَ مَهِيْن ولاَ يكادُ يُبِين.
وافتَخرت قريشٌ بعظَمتها وَجَبروتِها، فخرجوا من ديَارِهم برؤسائِهم وزعمائِهم بطراً ورِئاءَ الناس يقولون:'لا نَرْجعُ حتى نقدمَ بَدْراً، فننحرَ فيها الجزور، ونَسْقِيَ الخمورَ، وتعزفَ الْقِيانُ، وتسمعَ بنا العربُ فلا يزالُون يهابوننَا أبداً'. فَهُزمُوا على يد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه شرَّ هزيمةٍ، وسُحبت جثثُهم جِيفاً في قليبِ بدرٍ، وصاروا حديثَ الناس في الذُّلِّ والهوانِ إلى يوم القيامةِ.
ونحنُ المسَلمين في هذا العصرِ لو أخَذْنَا بأسباب النصر،ِ وقُمْنَا بواجبِ دينِنا، وكنَّا قدوةً لا مُقْتَدين، ومتبوعِين لا أتباعاً لِغَيرنا، وأخَذْنَا بوسائِل الحرب الْعَصْريَّةِ بصدقٍ وإخلاصٍ؛ لنصَرنَا الله على أعدائنا كما نصر أسلافَنا. صدقَ الله وعْدَه، ونصر عَبْدَه، وهزَمَ الأحزابَ وحْدَه. {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا[23]}[سورة الفتح].
اللَّهُمَّ هييء لنا منْ أسبابِ النصرِ ما به نَصْرُنَا وعزتُنا وكرامتُنا، ورفعةُ الإِسلام، وذُل الكفرِ والعصيانِ؛ إنك جوادٌ كريمُ، وصلَّى الله وسلَّم على نبِينا محمدٍ، وعلى آلِهِ، وصحبِه أجمَعين.
من كتاب:'مجالس شهر رمضان' للشيخ/ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله(255/3)
أسباب النصر وأسباب الهزيمة من خلال سورة الأنفال
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ?[ آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا? [النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
لا تنتصر الأمة ولا تزدهر إلا إذا وقع تغيير جذري في كيانها ونفوس أفرادها. ولا تنهزم أمة أو تزول إلا حين تتحول نفسياتها واهتماماتها فتنحدر من الأعلى إلى الأدنى فهذه سنة الله عز وحل في عباده ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
ومن يتتبع سنة الله عز وجل في خلقه سيجد النتيجة واضحة ساطعة مطردة ولقد بينت لنا سورة الأنفال نموذجاً من هذه السنة لفريقين: فريق مؤمن منتصر وفريق كافر منهزم، فما هي أسباب النصر وما هي أسباب الهزيمة. فريق الكافرين المشركين الذين أذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا وفي الآخرة عند ربهم أشد وأنكى ، ذكر الله هؤلاء الكفرة وبين حالتهم وهم يودعون الحياة شر وداع، تتناولهم ملائكة الموت باللطمات والصفعات وهم يواجهون جزاءهم قال تعالى: ? وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ?[الأنفال:50-51]. تعالوا أيها الأخوة لنرى ماذا فعل هؤلاء في حياتهم وماذا قدموا ، لقد مكثوا أمداً بعيداً وطويلاً يكرهون الحق ويؤثرون الكبر والعناد ، يعيشون لأنفسهم، فما يرجون لله وقاراً، ولا يتخذون عنده مآباً. كانوا في رخاء من العيش لا تشوبه أزمة، وفي أمان لا يعكره قلق فما شكروا من هذه النعم قليلاً ولا كثيراً.
جاءهم رسول منهم أرجح الناس عقلاً وأشرفهم نسباً وأصدقهم لهجة وأبرهم رحماً لا ترقى إلى سيرته تهمة، لقبوه هم بالصادق الأمين ثم قاوموه وطاردوه في صلف وكبر غريب.والإنسان السوي إذا اشتبهت عليه الأمور طلب من الله أن يهديه إلى الصواب، أما هؤلاء فقد أبغضوا الحق، وكرهوا النزول على حكمه وقالوا مكابرين رب السماوات والأرضين: ?... اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ?[الأنفال:32].
وقد لقي دعاءهم بعض الإجابة، فلما التقوا المسلمين في بدر حل بهم الخزي الرهيب، وتبخر السراب الذي كانوا يعيشون في خداعه فسقطوا بين قتيل وأسير.
لقد قاوم المشركون النور والهداية التي امتن الله بها على عباده، قاوموه بكل ما لديهم من جبروت، واستماتوا لكي يبقى ليل الوثنية مخيماً على جزيرة العرب، وتبقى الخرافات تسرح وتمرح في المشارق والمغارب، الشيطان سول لهم وأملى لهم ، إذ ركبوا رؤوسهم حتى آخر لحظة ، لقد كانت الفرصة أمامهم متاحة ليُسلموا ويَسلموا ولكن الكفر والعناد والغطرسة والكبر الذي ملأ نفوسهم حال بينهم وبين السعادة، أنظروا إلى موقف أبي جهل ذاك الطاغية المعاند المكابر ، لقد كان بإمكانه أن يعود بقومه من أرض بدر، ما دامت القافلة التي خرجوا لإنقاذها قد نجت، غير أن مشاعر الكبرياء والغرور هاجت في دمه وعروقه، فقال: لا نعود حتى ننحر الجزور ، ونشرب الخمور، وتغني لنا القيان ويسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً، لقد كان حريصاً على إذلال الإسلام وأهله في مهجرهم الجديد. إن هذا القصد هو الذي ذبحه ، وقاد قومه إلى المأساة وإلى الخزي والبوار، هذه الأخلاقيات والمسالك إذا بثتها أمة يهلكها الله عز وجل ويدمرها ولهذا فإن الله عز وجل يحذر المؤمنين من أن يسلكوا مسالكهم ، قال تعالى: ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ?[الأنفال:47].(/1)
ولنترك فريق الكافرين وما آل إليه حالهم من العذاب والنكال. ونلق نظرة أخرى على الفريق المؤمن ، لننظر كيف كان يفعل وما هي الأسباب التي أخذ بها فجاء الخير والعزة والسعادة والنصر والتمكين. لقد عاش المؤمنون بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة وبعدها يؤمنون بربهم وحده لا شريك له ، يحترمون دينهم، ويقدمون مطالبه على رغبات نفوسهم، يحملون في الحياة رسالتهم العالمية ويرفعون راية التوحيد في ثبات ويقين دون شك ولا وجل، ولقد كان خصوم الإسلام يستكثرون على المؤمنين حق الحياة كما يريدون ، بل كانوا يروعونهم في الحرم الآمن، ويرغمونهم على النزوح هنا وهناك. لكن الله جل جلاله اطلع على قلوبهم فعلم صدقهم فكافأهم مكافأة سخية كريمة لم تخطر لهم على بال حيث كتب الله لهم النصر والتمكين والسيادة، قال الله عز وجل ممتناً على المؤمنين بالنصر والظفر والعزة والتمكين الذي نالوه على الرغم من قلة عددهم وعدتهم وكثرة أعدائهم : ?وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ?[الأنفال:26].
نعم على المؤمنين أن يدركوا دائماً وأبداً أنهم ليسوا وحدهم في المعركة التي يواجهون بها أعداء الله، إن الله معهم جلت قدرته، يرعاهم ويؤويهم وينصرهم ويرزقهم، فلا خوف إذاً ولا قلق ، فسنة الله تعالى مع أوليائه أنه معهم يتولاهم بنصره وتأييده في كل زمان ومكان ففي معركة بدر كانت عوامل النصر الظاهرية والدلائل الواقعية في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف المؤمنين حتى قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ?... غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ ...? [الأنفال:49]، لأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة، فهم يرون ظواهر الأمور المادية ولا يرون إلى مواطنها، لأنهم لم يؤمنوا بالله أو يستشعروا عظمته وقدرته جل وعلا. فهم لذلك يظنون المسلمين مخدوعين في موقفهم، مغرورين بدينهم واقعين في الهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين الذين يرونها.
إن المؤمنين بالله عز وجل حق الإيمان يأخذون بالأسباب ويستعدون ولكنهم يوقنون مع ذلك بأن الأمر كله لله وأن نواصي الخلق بيده فهم يتوكلون عليه ويفوضون الأمر إليه: ?... وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ?[الأنفال:49].
وما أشبه الليلة بالبارحة ، لقد تجمع الكفر والوثنية لمواجهة الرسول والمؤمنين ، فكانت المعركة بين القلة المؤمنة والكثرة الكافرة، ووقف المنافقون والذين في قلوبهم مرض يتفرجون على المعركة مؤيدين للكافرين ساخرين من المؤمنين واليوم تتكالب قوى الكفر والإلحاد العالمي بقيادة اليهود وأمريكا لتدمير الإسلام والمسلمين ويقف معها المنافقون والذين في قلوبهم مرض وجهاً لوجه في مواجهة القلة المؤمنة التي تكفر بالطاغوت وتؤمن بالله وتستعصي على الواقع وتواجه كل القوى الكافرة الملحدة معتصمة بالله متوكلة عليه وحده سبحانه وتعالى.
إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يعرفون لهذا الموقف الإيماني الثابت الشامخ الذي يقفه المؤمنون مبرراً لهذا التهور ـ كما يسمونه ـ وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة من يستطيع أن يواجه أمريكا وإسرائيل؟ إنهم يحسبون الحياة كلها ـ بما فيها الإيمان والعقيدة والدين ـ صفقة في سوق التجارة، إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها، فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى، إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن ولا يزنون الأشياء بميزان الإيمان، إن هذه المعركة التي يخوضها المؤمن صفقة رابحة دائماً في حسه وميزانه، فهي مؤدية إلى إحدى الحسنيين: النصر والغلبة ، أو الشهادة والجنة.
ثم إن حساب القوى لدى المؤمنين يختلف عن حسابات الكافرين والمنافقين ، فهناك الله القادر المنتقم الجبار القوي العزيز .. وهذا مالا يدخل في حساب المنافقين والذين أشركوا ، ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم. لا تغالب قوته ولا يهزم جنده ? وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ?[الصفات:171-173].(/2)
فتن وأهواء تعصف بالناس، وحروب ومحن واختلاف وأمراض وزلازل تهز أرضنا هذه هزاً. وكأنني بهذه الأمور والحوادث تقول للناس لا مقام لكم في هذه الدار وليست إقامتكم بها إلا يسيراً، فاستعدوا للرحيل .. ولهذا فإن الله عز وجل يدعونا إلى المسارعة والمبادرة في فعل الخير واغتنام الوقت في الإكثار من عمل الصالحات كما قال سبحانه: ?... فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ...?[البقرة:148] ، وقال: ? وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?[ آل عمران:133] ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاثاً أمته على المسارعة والمبادرة في فعل الخير والعمل الصالح : "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا".
وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً ، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر".
بادروا أيها الناس وسارعوا إلى عمل الخير والإكثار من الصالحات ، تزودوا لآخرتكم قبل أن تنزل بكم واحدة من هذه السبع.
ماذا تنتظرون وماذا تأملون، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً ينسيكم كل شيء ولا تفكرون سوى في الغلاء والجرعات وزيادات الأسعار وقلة الأعمال وكساد التجارات وانهيار العملة. لقد تعلق الناس في بلادنا بالنفط وعولوا عليه كثيراً وظنوا أنه سيغنيهم ويسد حاجتهم، نسوا الله فنسيهم، فما ازدادوا بظهور النفط إلا فقراً وحاجة ، ألا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له.
ماذا تنتظرون أيها الناس؟ هل تنتظرون غنى مطغياً، يطغي وينسي وتدلفون منه إلى البطر والترف وتشتغلون بجمع المال وتكثيره وتنسون الله والدار الآخرة ، وتبخلون وتمنعون حق الله في أموالكم.
ماذا تنتظرون؟ مرضاً مفسداً يعطل حركتكم ويشل قواكم فلا تستطيعون فعل شيء من أعمال الخير التي تحتاج إلى صحة ونشاط وإلى سعي وحركة وجهاد.
هل تنتظرون أن يطول بكم العمر حتى يسلمكم إلى التخريف والفند أو هرماً مفنداً، ينتكس الإنسان فيه ويعود كالطفل الذي لا يعقل ولا يدرك، لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً.
ماذا ننتظر من دنيانا هذه التي نرى الموت فيها زائراً لنا يحصد فيه الناس حصداً وهم لا يرغبون في ذلك وهم كارهون أو موتاً مجهزاً ، أي سريعاً وبدون استئذان أو مقدمات.
فحتى متى وإلى متى نتوانى وأظن هذا كله نسيانا
والموت يطلبنا حثيثاً مسرعا إن لم يزرنا بكرة مسانا
إنا لنوعظ بكرة وعشية وكأنما يعني بذاك سوانا
غلب اليقين على التشكك في الردى حتى كأني قد أراه عيانا
يا من يصير غداً إلى دار البلى ويفارق الإخوان والخلانا
إن الأماكن في المعاد عزيزة فاختر لنفسك إن عقلت مكانا
ماذا ننتظر ، هل ننتظر الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر.
يا أيها الناس تنبهوا من غفلتكم واعملوا لآخرتكم وتزودوا بالتقوى والعمل الصالح فإن خير الزاد التقوى.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
ـ صحيح مسلم. ج1كتاب الإيمان. باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن. الحديث رقم: 118
ـ سنن الترمذي 4/ 552، حديث رقم: 2306، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب ، وضعفه الألباني.(/3)
أسباب النصر وأصول التمكين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد.
فلم يعد خافيًا على أحدٍ من الناس اليوم ما يعيشه المسلمون من ذلةٍ ومهانة، وما يحيط بهم من ظروف صعبة، وأحوال مريرة، تتمثل في كيد الأعداء وتسلطهم على بلاد المسلمين، كما تتمثل في أحوال المسلمين أنفسهم، وما طرأ على كثير من مجتمعاتهم من بُعْدٍ عن تعاليم الإسلام، وإقصاء لشريعة الله سبحانه، ورفض الحكم بها والتحاكم إليها.
إنَّ الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون اليوم لا يستغرب من قبل العالمين بسنن الله عز وجل في التغيير، حيث إنَّ هذا الواقع هو النتيجة الطبيعية للبعد عن دين الله عز وجل، وعدم الاستسلام لشرعه. ولا ننتظر في ضوء السنن الربانية غير هذا، والله عز وجل يقول: (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) (الرعد:11 ) ويقول سبحانه : (( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُم )) (محمد: 7) .
أما الذين يجهلون سنن الله عز وجل أو يغفلون عنها، وينسونها، فهم الذين يستغربون ما يحل بالمسلمين اليوم من محنٍ وويلات، وهم الذين يتساءلون أنى هذا؟ وكيف يحصل هذا ونحن أصحاب الدين الحق؟ فيجيبهم الله عز وجل بما أجاب به من سأل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا السؤال، فقال سبحانه وتعالى: (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ )) (آل عمران: 165) .
ونتيجة لنسيان هذه السنة الربانية أو الغفلة عنها، يقع الانحراف في المواقف المختلفة إزاء هذه الأحوال المريرة، التي يمر بها المسلمون ما بين يائسٍ من التغيير قد أصابه الإحباط، وألقى بيده ينتظرُ المهدي أو المسيح عليه السلام لإنقاذ الأمة والتمكين لها في الأرض، أو مستعجلاً قد نفد صبره مما يرى من الكفر والنفاق، فقرر الجهاد والمواجهة مع أعداء الدين غير ملتفت للقواعد الشرعية وأصول التمكين، وأسباب النصر، فنجم عن ذلك من المفاسد ما الله به عليم، وآخر رأى مهادنة الأعداء والرضى منهم بأنصاف الحلول، والدخول معهم في مفاوضات ومقايضات، لم تثمر إلاَّ مزيدًا من التمكين للمفسدين، والإقرار لهم بالشرعية والوجود.
أما الذين فقهوا سنن الله عز وجل في النصر والتمكين والتغيير، وأخلصوا دينهم لله تعالى، فقد هداهم ربهم سبحانه لما اختلف فيه من الحق، ورأوا أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها، وذلك بما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام عليهم رضوان الله تعالى.
وباستقراء المنهج النبوي في الإصلاح والتغيير يظهر لنا أنه قائم على الأصول التالية :
الأصل الأول: البصيرة في الدين وصحة الفهم والعمل.
قال الله عز وجل: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)) (يوسف: 108) .
ويعنى بهذا الأصل : أن تقوم الدعوة وينطلق التغيير من فهمٍ صحيح، وعقيدة صافية، وبصيرة واضحة في الدين، كما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفهم الصحابة- رضي الله عنهم-، لأنَّ أي دعوة تعارض هذا الفهم أو تزيد عليه أو تنقص، فإنها قد فرطت في هذا الأصل العظيم من أصول التمكين والنصر.
ويلحق بالفهم الصحيح ما يجب أن يكون عليه أصحاب الدعوة من عمل صحيح، موافق لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في عباداتهم ومعاملاتهم وسلوكهم.
وهذا هو ما أراده الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما وصف الفرقة الناجية المنصورة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما أنا عليه وأصحابي )) [1] .
وإنَّ الجهد في إخضاع أفراد الدعوة وعامة الناس للفهم الصحيح والعمل الموافق يحتاج إلى صبر وعناء، وتضافر في الجهود، واتخاذ الأسباب المباحة المتاحة في تبليغ هذا الفهم الصحيح للأمة، ببرامج علمية وعملية، حتى تستقيم الأفهام في العقيدة والأحكام والتصورات على هذا المنهج النبوي الكريم، ومما يلحق بالفهم فهم الواقع الذي يتحرك فيه الدعاة، وطبيعته والبصيرة بأحوال الناس، واستبانة سبيل المجرمين، والوعي بكيدهم ومخططاتهم وإمكاناتهم.
الأصل الثاني: حسن القصد:
ويعنى بهذا الأصل إخلاص المقاصد لله عز وجل، وصدق النية في الدعوة والتغيير، بأن يكون القصد من ذلك التعبد لله عز وجل وابتغاء وجهه ورضاه وجنته، وإنقاذ الناس بإذن ربهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة.(/1)
وهذا بدوره ينفي كل مقصد دنيوي سواءً كان رياءً أو إرادة جاهٍ أو مالٍ أو منصبٍ أو شهرة.. إلخ، لأنَّ وجود مثل هذه المقاصد في الدعوة يفسدها ولا يكون القصد فيها حسنًا، وبالتالي لا يبارك الله فيها ولا ينصر أهلها، ولا يمكِّن لهم في الأرض ولو كانوا على فهمٍ صحيح؛ لأنَّهم فرطوا في أصلٍ عظيم من أصول التمكين، ألا وهو إرادة الله عز وجل والآخرة ليس إلا. ولا شك أنَّ تحقيق هذا الأصل العظيم في نفوس الدعاة يحتاج إلى جهدٍ ومجاهدة، ومناصحة وتربية علمية وعملية، يعتني فيها بالقلوب وأعمالها، وتُقوَّى فيها الصلة بالله عز وجل والتحلي بالأخلاق المحمودة الباطنة والظاهرة، والتي على رأسها الإخلاص لله عز وجل.
الأصل الثالث : وحدة الصف:
وهذا الأصل ثمرة للأصل السابق، حيثُ إنَّ تجرد المقاصد لله عز وجل ينفي الهوى وحظوظ النفس، والتي هي من أكبر أسباب الفرقة والبغضاء، لأنَّه لا يمكن لأصحاب الفهم الصحيح الواحد أن يتفرقوا إلاَّ إذا كان القصد غير حسن. وأصحاب القصد الحسن لا يفارقون غيرهم، إلاَّ إذا كانوا على فهمٍ منحرفٍ غير صحيح كأصحاب الفرق وأهل البدع.
وكون الاجتماع ووحدة الصف أصلٌ من أصول التمكين، لا يجادل في هذا أحد، كيف والله عز وجل يقول : (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) (الأنفال: 46).
ولا شك أنَّ نبذ الفرقة، واجتماع القلوب، ووحدة الصف بين أهل السنة، أصحاب الفهم الصحيح يحتاج إلى القد وات وإلى الصبر والجهد الجهيد، والتجرد لله عز وجل، وترك حظوظ النفوس.
وتقع المسئولية في ذلك على العلماء والموجهين والمربين كل في مجاله، ويكون ذلك بالتواصي والمناصحة، وإظهار الود وحقوق الأخوة بين الدعاة، وإن لم يجد بعضنا مجالاً لهُ في جمع الكلمة، فليتق الله ولا يفرق، فإنها صدقة منه على نفسه وكف شر عن إخوانه، وهو بذلك يساهم في جمع الكلمة وتوحيد الصف، وإن مما يحفز الهمم على تحقيق هذا الأصل العظيم، اليقين بأنَّ نصر الله عز وجل لا ينزل على أمةٍ متفرقةٍ متباغضة.
وقد يجد أصحاب الدعوة الحريصون على جمع الكلمة أنفسهم أمام أناسٍ غير حريصين على وحدة الصف، فحينئذ حسبهم أن يعلم الله عز وجل صدقهم وإخلاصهم، فيوفقهم ويعينهم وينصرهم.
الأصل الرابع: التمحيص والتميز:
قال الله عز وجل: (( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ )) . (آل عمران:141).
وقال سبحانه : (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ )) (آل عمران: 179) .
وإنَّ المتأمل في منهج الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وبخاصة في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنين، ليرى هذه السنة الربانية واضحة وضوح الشمس، وذلك بما تعرض له المسلمون من الابتلاء والتمحيص في مكة والهجرة، والجهاد في سبيل الله عز وجل، وأنهم لم يمكنوا إلاَّ بعد أن ابتلوا ومحصوا.
والابتلاء الذي يتعرض له أصحاب الدعوة نوعان :
أـ ابتلاء عقوبة وتكفير وتنبيه :
وذلك عندما يحصلُ الخلل في واحدٍ من الأصول الثلاثة السابقة أو أكثر. فعندما يحصل الخلل في الفهم والمعتقد، أو في النية والمقصد، أو في وحدة الصف وتآلف القلوب، فإنَّ الله عز وجل قد يبتلي عباده هؤلاء ببعض العقوبات والابتلاءات لعلهم يرجعون ويراجعون أنفسهم، ويكفِّر الله عز وجل عنهم بهذه العقوبات سيئاتهم.
ب ـ ابتلاء تمحيص وتمييز للصفوف :
وهذا النوع من الابتلاء هو الذي نقصده في هذا الأصل، وهو الذي يتعرض له أصحاب الفهم الصحيح، والقصد الحسن والصف الموحد، والحكمة منه تمحيص القلوب، وتمييز الصفوف مما قد يكون فيها من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة، والذين يكون ضررهم شديدًا على الدعوة فيما لو بقوا مندسين في الصفوف ولم يعرف شأنهم، فيقدر الله عز وجل مثل هذا النوع من الابتلاءات ليتميز المؤمن الصادق من غيره، ويزيد الله عز وجل به المؤمنين إيمانًا وثباتًا وصلابة في إيمانهم، قال الله عز وجل عن المؤمنين في غزوة الأحزاب عندما رأوا الشدائد والأهوال : (( وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً )) (الأحزاب:22).
وقال عن المنافقين الذين نجم نفاقهم عند الابتلاء : (( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)) (الأحزاب:12)
فما زادت الشدائد المؤمنين إلاَّ إيمانًا وتسليمًا، وما زادت المنافقين إلاَّ مرضًا، وأخرج الله بها ما في قلوبهم من النفاق والكذب والذي ما كان ليعرف في حال السلم والأمان.(/2)
وإنَّ فترات التمحيص والابتلاءات لمن أشدِّ فترات الدعوة على أهلها، فهي تحتاج إلى جهدٍ عظيم من التعليم والتربية والعبادة، والتواصي على الحق والتواصي بالصبر والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، ومن علم الله عز وجل صحة فهمه وحسن قصده، وعمله الصالح وحرصه على الوحدة والاجتماع، فإنَّهُ سبحانه يثبته ويخرج من الابتلاءات وقد قوي إيمانه، وصلب عوده. وعلى مثل هؤلاء ينزل نصر الله تعالى ويقوم عز الإسلام.
وبقيت مسألةٌ مهمةٌ تتعلقُ بالتميز، ألا وهي ضرورة تميز أصحابِ الدعوات الذين يريدون التمكين لدين الله تعالى عمن حولهم، ممن ابتعدوا عن الدين وتعاليمه، وظهور ذلك في تصوراتهم وأفهامهم، وفي عبادتهم وسلوكهم، وفي دعوتهم وصبرهم وتضحيتهم.
وعليهم أن يوصلوا ما يحملونه من علمٍ ودعوةٍ إلى طبقات الناس قدر استطاعتهم، حتى يتم البلاغ وتقوم الحجة، ويُعرف أصحاب الدعوة بين الناس بمنهجهم الواضح وأهدافهم العالية، ومن أهم ما يقومُ به أصحاب الدعوة حتى يحصل التميز القيام فضحهم للباطل وأهله، وتبيين سبيل المجرمين للناس حتى لا تختلط عليهم الأمور ويلتبس الحق بالباطل، ومالم يتم هذا البيان فإنَّ الناس المضللون قد يُستخدمون في مواجهة أصحاب الدعوة لعدم وضوحهم ووضوح دعوتهم في مجتمعات الناس، وذلك بما يستخدمه أعداء الدعوة من تضليل وتلبيس للناس، سواء في تشويه أهل الدعوة وإظهارهم للناس بمظهر المفسدين والمهيجين للفتن، أو بما يضفونه على أنفسهم من أنهم أصحاب الحق وحماته.
فمالم يحصل البلاغ الكافي، والذي يتميز فيه الحق من الباطل، ويزول التلبيس والتضليل، فإنَّ هذا الأصل أعني أصل التميز لم يتحقق بعد، وعلى الدعاة الصبر والتأني، وبذل الأسباب في تحقيقه قدر الاستطاعة، حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وحتى يعطي الواحد من الناس ولاءه لمن يختاره من أهل الحق أو الباطل عن علم وبينة وطواعية.
الأصل الخامس: اتخاذ الأسباب المادية المتاحة والمباحة في تبليغ الدعوة ومواجهة أعدائها:
والمقصود بهذا الأصل هنا أن لا يتكل أصحاب الدعوة على أنهم مسلمون والله ناصرهم؛ فيفرطون في الأخذ بالأسباب. نعم إنَّ الله عز وجل لو شاء لانتصر من أعدائه بكلمة واحدة، ولكن حكمته سبحانه اقتضت أن ينتصر دينهُ بجهد البشر، كما قال تعالى : (( ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْض )) ( محمد : 4 ) .
وإذا علم الله سبحانه أنَّ عباده المؤمنين المصلحين قد بذلوا ما في طاقتهم من الأخذ بأسباب النصر وأصوله من الفهم والمعتقد الصحيح والمقاصد الحسنة المتجردة لله تعالى واجتماع القلوب وتميز الصف والصبر على ابتلاءات الطريق، وبذلت الجهود الكبيرة، وأخذ بالأسباب والوسائل المتاحة، والتي توصل إلى تحقيق هذه الأصول. ومن ذلك الجوانب الاقتصادية التي توفر المال للدعوة، لأنها من أهم الأسباب التي يحصل بها قوة الدعوة وانتشارها، واعتماد الدعوة بعد الله تعالى على نفسها. إذا علم الله سبحانه أنَّ أصحاب الدعوة قد بذلوا كل ما في وسعهم ولم يفرطوا في الأخذ بأسباب النصر السابقة، واستعدوا للجهاد في سبيل الله تعالى، وقال قائلهم بعد ذلك : (( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ )) (القمر:10).
فإنَّ نصر الله عز وجل ينزل حين ذاك كما نزل على أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام-، وكما نزل على عباده المصلحين المجاهدين في مراحل التاريخ الإسلامي. ولم يكلف أصحاب الدعوة بمعرفة الطريقة التي سينزل بها نصر الله تبارك وتعالى، ولكن حسبهم أن يوقنوا بنصرِ الله عز وجل، وأنَّ لهُ سُبحانه جنود السموات والأرض، وهو على كل شيءٍ قدير، وأنَّه سبحانه لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهذا يقودنا إلى الأصل السادس.
الأصل السادس: التوكل على الله عز وجل والاستعانة به وحده:
وهذا أصل مهم من أصول النصر والتمكين، وهو في حقيقته داخلٌ في الأصل الأول والثاني، لأنَّ صحةَ الفهم والمعتقد يجعل أصحاب الدعوة فاهمين لحقيقة التوكل، وأنَّهُ يعني تمام الثقة بالله عز وجل والاعتماد عليه مع فعل الأسباب المأمور بها وعدم الاعتماد عليها، لأنَّ خالق الأسباب ومسبباتها هو الله عز وجل، كما أنَّ حسن القصد والإخلاص يجعلهم لا يتعلقون بالأسباب ولا يعجبون بأنفسهم وإيمانهم وكثرة أتباعهم، وإنما يوقنون بأنَّهم ضعفة عاجزون لا حول لهم ولا قوة إذا لم يعنهم الله عز وجل ويقويهم.
وإفراد هذا الأصل هنا في أصلٍ مستقل مع دخوله فيما سبق للتأكيد على أهميته ولوجود من يغفله في كثير من الأحيان، وفي زحمة الأخذ بالأسباب.(/3)
وإنَّ الأخذ بهذا الأصل يعني تقوية اللجوءِ إلى الله عز وجل، ودعائه والتضرع بين يديه في استجلاب النصر ودفع الشر، مما يكون لهُ الأثر في إضفاءِ الطمأنينة واليقين والثبات، ومن اليقين والثقة بوعد الله عز وجل اليقين الذي لا يتزعزع بأنَّ لله عز وجل جنود السموات والأرض، وأنَّهُ سبحانه ينصر عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر بجندٍ من جنوده، ويظهر ذلك للعيان ولو كان عباده في قلة من العدد والعتاد، ولو كان أعداؤهم في قوة عظيمة من العدد والسلاح وأدوات الدمار.
إنَّهُ لا يجوز لأصحاب الدعوة أن ينسوا نصر الله عز وجل لأنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- بجنوده الذين سخرهم لنصرة عباده الذين بذلوا ما في وسعهم من العبودية له سبحانه، والدعوة إلى دينه، وإبلاغه للناس والصبر على ابتلاءات الطريق، فلقد نُصِرَ نوح - صلى الله عليه وسلم - بالطوفان، ونصر هود - صلى الله عليه وسلم - بالريح، وصالح - صلى الله عليه وسلم - بالصيحة، ومحمد- عليه الصلاة والسلام- بالرعب والملائكة التي قاتلت معه في بدر وأحد وحنين وغيرها من الغزوات، بل إنَّ الناظرَ في انتصارات المسلمين بعد ذلك وفتوحاتهم ليلحظ أنهم كانوا دائمًا في قلةٍ من العدد والعتاد مقابل أعدائهم من الفرس والروم وغيرهم، ومع ذلك انتصروا بنصر الله عز وجل لهم.
إذن من لوازم التوكل على الله عز وجل اليقين بتدخل قوة الله عز وجل لنصر عباده المؤمنين بآياتٍ ومعجزات، وتثبيت للمؤمنين، وبث للرعب في قلوب أعدائهم وغير ذلك مما يقدره سبحانه في وقته المناسب وفق علمه سبحانه وحكمته.
والناس في نصر الله عز وجل لعباده المؤمنين بالآيات والمعجزات طرفان ووسط.
الطرف الأول :
الذين يرون أنَّ الله عز وجل سينصرُ المسلمين بالآيات والجنود الذين يسخرهم للقضاءِ على أعداء الدين ولو لم يأخذوا بأسباب النصر، أولم يكملوها، فما داموا مسلمين وأعداؤهم من الكافرين فإنَّ نصر الله عز وجل سينزل عليهم، لأنَّهم مسلمون وكفى وهذا الفريق من الناس يفرطُ في العادة في الأخذ بأسباب النصر، أو يطول الطريق فلا يكملها، وإنما ينتظر خارقةً وآية من الله عز وجل.
ولا يخفي ما في هذا القول من التفريط والغفلة عن سنن الله عز وجل في النصر والتمكين.
الطرف الثاني :
وهو مقابل للطرف الأول، وقد يكون ردةَ فعلٍ له، وذلك بقولهم بأنَّه لكي ينتصر المسلمون على أعدائهم، ويمكن لهم في الأرض، فلا بد أن يكونوا مكافئين لعدوهم في العدد والعتاد، والسلاح والأخذ بالأسباب المادية، ومثل هؤلاء يغلبِّون الأسباب المادية، ويفرطون في الأسباب الشرعية، ولا يلتفتون إلى الآيات والمعجزات والإعانات التي ينصر الله سبحانه بها عباده المحققين لأسباب النصر متى شاء سبحانه، وعلم أنَّ عباده المؤمنين قد استفرغوا ما في جهدهم من الأخذ بأصول النصر وأسبابه. ومعلومٌ أنَّ المسلمين في كل وقتٍ وبخاصة في هذا الوقت لم يصلوا ولن يصلوا ولم يكلفهم الله سبحانه بأن يصلوا إلى مستوى أعدائهم في القوة والصناعة والسلاح، لأنَّهُ ليس شرطًا في نزول النصر، ولا يخفى ما في هذا القول من تطرفٍ وغفلةٍ عن أسباب النصر الشرعية، ونسيان لقوة الله تعالى، والذي لا يقف أمامها أي قوة في الأرض ولا في السماء، والتي ينصرُ بها عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر واستحقوا أن يسخر لهم جنود السموات والأرض.
الوسط :
وهو الحق إن شاء الله تعالى، وهُم الذين بذلوا كل ما في وسعهم في الأخذ بأسباب النصر السالفة الذكر، حيث بذلوا ما في وسعهم في الأخذ بالعلم النافع والعمل الصالح، وربُّوا أنفسهم على ذلك وبلغوهُ للأمة قدر استطاعتهم، حتى عرفتهم الأمة وما هم عليه من الحق، وعرفت أعداءهم وما هم عليه من كفرٍ وفساد، وأخذوا بالأسباب المادية المباحة والمتاحة لهم، ومع أخذهم بهذه الأسباب، فلم يعتمدوا عليها بل اعتمدوا على مسبب الأسباب، ومن بيده ملكوت السموات والأرض، وانتظروا نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين، الذين أخذوا بأسباب النصر وبذلوا ما في وسعهم في ذلك، وانتظروا تأويل قوله سبحانه : ((إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )) (محمد: 7).
ولم ينسوا قوله تعالى : (( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) (الفتح:7).
وقوله تعالى : (( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )) (المدثر: 31).
بل هم موقنون بتدخل قوة الله عز وجل وظهور الآيات بعد أن يبذلوا وسعهم في الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة للجهاد، ولم يرهبهم حينئذ قوة أعدائهم من الكفرة والمنافقين مهما بلغت في القوة والدمار، لأنَّ قوة الله عز وجل فوق قوتهم ونواصيهم بيده سبحانه، ولو يشاء الله تعالى دمرها عليهم وأبطل مفعولها. ولكن هذا لا يكون إلاَّ لمن حقق أسباب النصر والتمكين.
أسأل الله عز وجل أن يشرفنا بنصرة دينه، وإعلاءِ كلمته وأن يمكن لنا ديننا الذي ارتضاه لنا.(/4)
والحمد لله رب العالمين
__________
[1] رواه الترمذي : كتاب الإيمان باب ( 18 ) ما جاء في افتراق هذه الأمة
5 / 26 ( رقم : 2641 ) .(/5)
________________________________________
أسباب النصر والهزيمة في التاريخ الإسلامي
رئيسي :أحوال العالم الإسلامي :الأحد 26 ربيع الأول 1425هـ - 16 مايو2004 م
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله وخيرته من خلقه، وعلى من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين وبعد،،،
فإن أسباب الانتصار والهزيمة في التاريخ الإسلامي موضوع مهم ينبغي أن يعرفه المسلمون عموماً، والدعاة إلى الله خصوصاً، ينبغي أن يبحثوه ويتأملوه ليعرفوا أسباب النصر، فيعملوها، وينشروها، ويعرفوا أسباب الخذلان والهزيمة، فيجتنبوها، ويحاربوها، ويبعدوها.
ومن المعلوم عند كل مسلم أن الله وعدنا أن ينصر هذا الدين وأن يمكن لعباده المؤمنين، قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْاَشْهَادُ[51]}[سورة غافر] . وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55]}[سورة النور].
إذن: هذا وعد صادق لابد أن يتحقق.. وقد تحقق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في عهد خلفائه، ومرت السنون والقوة الإسلامية والتمكين لها في الأرض بين مد وجزر، فبعد القرون المفضلة أصبح التاريخ الإسلامي يمر بفترات هزيمة وبفترات انتصار، ولكن النصر كلمة واسعة عامة شاملة تشمل:
انتصار الداعية: حتى ولو قتل، فهناك من الدعاة من قتل، ومن عذب، ومن شرّد، ولكنه في النهاية نصره الله- أي نصر المنهج الذي عاش من أجله، حتى ولو قتل ذلك الداعية- وأقرب مثال لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي مات سجيناً، ثم إنه بعد عدة قرون ييسر الله من يقوم بنفس المباديء التي دعا إليها شيخ الإسلام، وهو الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ويرفع لوائها، وينشرها في هذه الأرض، فليس النصر بالمعنى العام هو الظهور في الأرض فقط، إنما حديثنا يتركز حول الظهور على العدو والتمكين في الأرض .
الأمة الإسلامية اليوم تواجه واقعاً مأساوياً، نستطيع أن نلخصه في ثلاث نقاط:
1- هزيمة نفسية تنتاب كثيراً من أفراد الأمة: ومع الأسف حتى على مستويات كبيرة حتى وجد من ينادي بالانخراط في منظومة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد لنكون عجلة من عجلات هذا النظام، ويقوده ذلك الرجل الغربي الكافر .
2- تبعية في مجالات كثيرة: ومن أهمها التبعية الثقافية والفكرية، والاقتصادية، وتبعيات كثيرة .
3- الأمر الثالث الذي يتضح فيه واقع الأمة: الضعف والذلة والتفرق: فأصبحت الأمة المسلمة رغم كثرتها وامتداد ساحتها ورقعتها أصبحت أضعف الأمم، وأقل الأمم شأناً في هذا العصر، بينما الأمم الأخرى لا يمكن أن يحصل شيء في هذه الأرض إلا بعد أن يؤخذ رأيهم حتى البوذيين في الصين يؤخذ رأيهم، وأما الأمة المسلمة فإنه لا يؤخذ رأيها حتى في قضاياها هي ! وصدق فيها قول الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
إذن: لابد لهذه الأمة أن تعرف أسباب النصر والهزيمة، وأن تتلمس واقعها هذا، والأمور التي أدت إلى نزولها إلى هذا الحضيض، وأن تحاول أن تنتشل نفسها، وأن تخرج إلى ما أراد الله لها من قيادة هذه الدنيا، ومن سيادة العالم .فنحاول أن نلخص أسباب النصر والهزيمة بدون استطراد وتوسع وإلا فهي تحتاج إلى مجلدات.
أسباب النصر والهزيمة:
أولاً: من أسباب النصر:
لعل أهم سبب من أسباب النصر لهذه الأمة هو:
1- الإيمان الصادق والعمل الصالح: يقول الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإذن لابد من إيمان صادق وعمل صالح : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} وهنا شرط مهم : {...يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55]}[سورة النور]. ثم قال في الآية التي بعدها مباشرة:{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[56]}[سورة النور]. فإذن: لابد من إيمان صادق، ومن عمل صالح.
ومن أهم ما يتمثل فيه هذا الإيمان:
أ- عبادة الله سبحانه وتعالى عبادة خالصة ليس فيها شرك .
ب- وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به، وفي كل ما نهى عنه، فما أمر به يفعل، وما نهى عنه يجتنب .(/1)
ج- التوكل على الله وحده، والاعتماد عليه سبحانه، والاستنصار به جل وعلا، ودعاؤه والاستغاثة به: كما كان نبينا يفعل، ومن يقرأ قصة غزوة بدر يجد ذلك واضحاً حيث قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: [اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ] فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ...إلخ الحديث.رواه مسلم.
د- الصبر والثبات: سواء كان ذلك في المعركة، أو قبل المعركة: صبر على الابتلاء، صبر على المحن، فلا يمكن أن يمكن لهذا الدين إلا بعد ابتلاءات ومحن، ثم إذا صُفي ونُقي جاء التمكين، وجاء النصر، فلابد من صبر وثبات كما قال جل وعلا:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا...[45]}[سورة الأنفال]. وكما قال سبحانه:{ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[66]}[سورة الأنفال].
هـ- ذكر الله كثيراً ...{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا...[45]}[سورة الأنفال] . إذا قارنت هذا الأمر الإلهي الذي طبقه النبي وأصحابه والسلف الصالح من بعدهم، ثم قارنته بهذا العصر الذي نعيشه؛ وجدت أن أهل هذا العصر يدخلون المعركة، وهم يغنون، ويرقصون؛ فتكون النتيجة هزيمة ساحقة، وخيبة ماحقة .
2- ومن أسباب النصر: وحدة صف الأمة: أما إذا كانت مفرقة ومشتتة، فإن النصر لن يكون حليفها، ولذلك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لما أراد أن يستخلص بيت المقدس من أيدي الصليبيين أول أمر فعله أن قام بتوحيد أقوى بلدان المسلمين في ذلك الوقت، وهي: مصر والشام، فلما وحدها نهض لقتال الصليبيين، فوحدة الصف المسلم سبب من أسباب النصر والتمكين، وأما إذا كان المسلمون مفرقين فإن النصر منهم بعيد.
3- كذلك من أسباب النصر: وجود القيادة المؤمنة القوية: فالقيادة العلمية القوية وقيادة الدنيا إذا اجتمعتا تحقق النصر والتمكين، أما إذا وجدت القيادة العلمية، ولكن ليس معها قوة تحميها وتدافع عنها وتجاهد لنشرها فإنها لا تقوى ولا تنتصر.
4-إعداد العدة والأخذ بالأسباب: قال الله:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ...[60]}[سورة الأنفال]. كل شيء تستطيعونه من أسباب القوة، فأعدوه صغيراً كان أو كبيراً ما دمتم تستطيعونه عليكم أن تعدوه.{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الخيل تدخل في القوة، فلماذا خصها بالذكر؟ خصها بالذكر لحكمة وهي: أن نعتني بأهم أسباب القوة، فالخيل في عهد النبي هي أهم أسباب القوة، فما دمنا نستطيع أن نوجد أهم أسباب القوة فإن علينا أن نعتني بها، في غزوة بدر لم يكن مع النبي إلا فارس واحد، وقيل: اثنان، وأكثر الأقوال أنهم ثلاثة.ويقول الحافظ ابن حجر:لم يثبت أو لم يصح أنه وجد فارس إلا المقداد وحده . فهذا هو قدر استطاعتهم، وكان مع قريش مائة فارس، والخيل في ذلك الوقت مثل الطائرات في زماننا هذا، فنحن مطالبون بأن نعد ما نستطيع ولسنا مطالبين بأن نعد ما لا نستطيع.
والنبي صلى الله عليه وسلم أعد أسباب القوة، وفعل الأسباب الموجودة في عصره، والتي استطاع أن يفعلها، فلبس الدرع يوم أحد، وحفر الخندق يوم الأحزاب، وأخذ السلاح وأعد الجنود، وأعد القادة ورباهم، وأعد الأموال فكان يعمل بالأسباب الممكنة في عصره. لكن ينبغي أن نعلم أن الاعتماد لا يكون على الأسباب إنما على الله القوي العزيز وحده.(/2)
وعلينا أن نعلم حقيقة مهمة وهي: أنه لم يلتق ولم يحصل يوم من الأيام أن كانت قوة المسلمين أقوى من قوة الكافرين، فالكافرون دائماً هم الأكثر، والكافرون دائماً هم الأقوى من ناحية العدة والعتاد، ولكن جانب الإيمان يرجح المسلمين على عدوهم ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا استبطأ النصر من قادته كتب لهم:'إنا لا نقاتل الناس بعدد ولا عدة إنما نقاتلهم بهذا الدين فلعلكم أحدثتم أمراً'. يذكرهم لعلكم أحدثتم شيئاً فراجعوا أنفسكم، هل أخللتم بشيء من أسباب النصر.
- سؤال: هل أمة الإسلام اليوم مطالبة بأن يكون لديها مثل ما لدى اليهود من السلاح؟ ومثل ما لدى اليهود من الخبرات ومثل ما لدى اليهود من التقدم العلمي والتكنولوجي؟
الجواب: لا، الأمة ليست مطالبة بهذا، الأمة مطالبة بأن تكون مؤمنة، وأن يكون صفها موحداً، وأن تكون قيادتها مؤمنة، ثم أن تُعِدَّ ما تستطيع من الأسباب، وتستعين بالله، وتجاهد في سبيله وسَتُنْصَرُ وتُمَكَّنُ.. هذا هو الشيء المطلوب، وهذا هو الذي يريح قلب المؤمن، ويدخل السرور على نفسه، فإننا لسنا مطالبين بأن نكون أقوى من الكفار، ولا حتى بأن نماثلهم، ولا حتى بأن نكون قربهم، بل علينا أن نعد ما نستطيعه، ثم نجاهد، وسينصرنا الله جل وعلا، وأفغانستان عبرة لمن اعتبر حيث لم يكونوا يحملوا إلا أسلحة قليلة ضعيفة بالنسبة لما كان في أيدي الشيوعيين الروس، ومع ذلك خذل الله الروس على أيدي أولئك الذين يسمون في القاموس الغربي بالبدائيين .
وفعل الأسباب وإعداد العدة ينقسم لأمور كثيرة جداً لعل أهمها:
أ - إعداد الجندي المؤمن والقيادة المؤمنة: هذه هو أهمها وأولها، فتعد هذه القوة التي هي الجندي المؤمن والقيادة المؤمنة بالإيمان والعمل الصالح أولاً، وينقى الصف المؤمن من غير هؤلاء، ولذلك بمجرد أن تطالع كتب 'الفقه الإسلامي' تجدهم يقولون: وعلى القائد أن يمنع المخذل والمرجف من أن يسير مع الجيش؛ لأن هذا منافق لا يستطيع أن يواجه الكفار إذا حمي الوطيس.
فإذن: لابد من إعداد الجندي المؤمن الذي يذكر الله كثيراً، والذي يحافظ على طاعة ربه، ويجتنب ما نهاه الله عنه، والذي نصب عينيه أن يموت شهيداً ليدخل الجنة بفضل الله. كما قال عمير بن الحمام-لما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ] وكان بيده تمرات بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ] قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: [فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا] فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ- ربما لا تتجاوز خمس تمرات - إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ قَالَ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم .
إذن إذا وجد مثل هذا النموذج الذي يقدم على الموت، فإنه سيوهب لنا النصر، وستوهب لنا الحياة، وسنحصل على الحسنيين .
ب - الأمر الآخر في إعداد العدة إعداد العدة العسكرية: بالعتاد.. بالأجهزة.. بما نستطيع من قوة فنعد ذلك ونجهزه، حتى لا يبقى سبب من أسباب النصر في استطاعتنا إلا وفعلناه، فإذا أعددنا تلك العدة، فإن القلوب تنام وهي مطمئنة مرتاحة .
ت - ومن العدة أيضاً: إعداد الأموال اللازمة: فإن الأموال الآن أصبحت عماد الجهاد، بل هي عماد الجهاد منذ عصر النبي، ولعل الجميع يتذكر أن عثمان بن عفان لما جهز جيش العسرة، فماذا كانت جائزته؟ كانت جائزته: [ مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ] رواه الترمذي وأحمد. هذه جائزته لماذا؟ لأن المال هو عصب الجهاد، فلا بد أيضاً أن تعد الأمة الأموال اللازمة للجهاد في سبيل الله .(/3)
ث - ومن إعداد العدة: ألا يغفل المسلمون عن معرفة عدوهم وعن قدراته: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر عندما أخذ السقاة الذين جاءوا يستقون الماء لقريش ثم سألهم: كم عدد قريش؟ كم ينحرون من الجزر؟ كم معهم من الخيل؟ من معهم من صناديد قريش؟ معهم فلان وفلان،ينحرون من الجزر كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ ] رواه أحمد . فَأَعَدَّ لذلك عدته، فهذا واجب من واجبات المسلمين، فلا يستهينوا بعدوهم، واحتقار العدو ليس من شأن المسلمين بل إننا نبحث عن مكامن القوة ومواطن الضعف فيه، ثم نستنصر بالله جل وعلا عليه، ومع ذلك علينا أن نتأمل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ] رواه البخاري ومسلم.أي أننا نسأل الله جل وعلا أن ينصرنا عليهم وأن يخذلهم، حتى ولو لم نلتق بهم ولم نقاتلهم .
5- من أهم أسباب النصر: الثقة بالله سبحانه وتعالى والثقة بوعده: وأنه سبحانه سيعلي هذا الدين وينصره ويمكن له في الأرض إن عاجلاً أو آجلاً، فإن حساب الزمن ليس عند الله شيء، فمن المعلوم أن اليوم عند الله يساوي ألف سنة مما نعد نحن، فلا ننظر بمنظار الأعمار البشرية، بل ننظر إلى المنهج الذي ينتصر ويبقى، وننظر إلى الزبد الذي يذهب جفاء في الأرض .
لابد أن نكون واثقين من أن الله سينصر هذا الدين مهما ضيق عليه، ومهما حورب دعاته، ومهما وقف في وجوههم، ومهما وضعت في طريقهم العراقيل؛ فإن النصر حليفهم إن عاجلاً أو آجلاً، فالحق يبتلى أولاً، ثم يمكن له وينصر . وكم من الدعاة والمجاهدين والعلماء ابتلوا حتى ظن الناس أنهم قد هلكوا وفشلت دعوتهم، فإذا بهم تنقلب في طريقهم المحن إلى منح، ويضع الله لهم القبول في الأرض والتمكين والنصر .
6- من أهم أسباب النصر التي ينبغي أن يعرفها المؤمنون حتى لا يصابوا بشيء من الإحباط: كون الأمة في مستوى النصر بإمكاناتها بقدراتها بعزائمها ونياتها:كيف ذلك؟
الأمة- أحياناً- قد تحارب ولكنها لا تكون في مستوى النصر، فيؤخر الله النصر قليلاً حتى يرتفع مستوى هذه الأمة وتصبح قادرة على تحمل أعباء النصر الذي سيمنحه الله إياها إذا جاء وقته، يقول الله سبحانه:{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]}[سورة الحج] من هم يا رب؟
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج] . {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} إذن: ها هنا نيات وعزائم في القلوب لا يطلع عليها إلا علام الغيوب .
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} هذا مستقبل {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} ربما يوجد من الدعاة من لو مُكن في الأرض لترك بعض أمور الدعوة، وما أقام الصلاة وما آتى الزكاة، أو ربما يقوم بالصلاة ويؤدي الزكاة، ولكنه لا يقوم تمام القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ربما يتنازل بعض المحسوبين على الدعوة عن بعض الأمور الهامة، ربما يتحالف مع الشيوعيين، ربما يتحالف مع علمانيين من أجل مكاسب.. هذا لا يستحق النصر.
أيضًا: تكون الأمة في مستوى النصر بالإمكانات بالقدرات، فيكون لديها من يستطيعون إدارة البلدان المسلمة لو تيسر لها النصر، أو إدارة العالم لو تمكنت من فتح العالم كله، فإذا أصبحت الأمة في هذا المستوى، وتوفرت لها بقية الأسباب؛ فإن الله جل وعلا يمنحها النصر أمراً مؤكداً لا شك فيه ولا ريب .
7- أيضاً من أهم أسباب النصر: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذان الأمران سياجان حافظان لهذه الأمة، فالجهاد يحفظها من الخارج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظها من الداخل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظ السفينة من أن تُخرق ثم بعد ذلك تغرق، والجهاد يحفظ الأمة من أن تستذل، أو أن يهينها العدو، فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، قاعدة قالها أسلافنا رحمهم الله ،و رضي الله عن علي إذ قال:'ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا كتبت عليهم الذلة'.(/4)
الجهاد سبب العز، وسبب النصر: يقول سبحانه:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[216]}[سورة البقرة] . عندما تقرأ تفسير هذه الآيات للإمام القرطبي الذي عاش رحمه الله وقت سقوط الأندلس تحس بالحسرة والألم بين السطور والعبارات، يقول مامعناه :'{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} وهو القتال وسفك الدماء وبذل الأموال، {وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}: أي التمكين في الأرض والعز والنصر، { وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} وهو الراحة والإخلاد إلى الأرض والطمأنينة في البيوت والديار، وهو شر لكم بالإذلال وانتهاك حرماتكم وأعراضكم، واستيلاء الكفار عليكم، واستئصالهم لكم' ثم قال عبارة مؤلمة محرقة:' ولما أصبح المسلمون في الأندلس على هذه الحال تسلط عليهم العدو فأخذوا ديارهم واحدة بعد الأخرى بلاد وأي بلاد '. يعني ما أحسنها من بلاد، ومع ذلك فرط فيها أهلها فضاعت.
ومن المعلوم عند كل عاقل أن الكفار لن يتركوا المسلمين ولو تركهم المسلمون، وهذه حقيقة شرعية وسنة إلهية أخبرنا الله بها في حيث قال:{ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا...[217]}[سورة البقرة] . يعني مهما فعلتم، ومهما تقربتم إلى هؤلاء الكفرة، فهم لا يزالون يقاتلونكم.. لن يتركوكم ترتاحون حتى ترتدوا عن هذا الدين وتتبعوا أهوائهم كما قال سبحانه:{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...[120]}[سورة البقرة] .
فإذن: هم لن يرضوا عنك إلا بهذا.. ولن يتركوك من القتال إلا بهذا وإذا كانوا لم يتركوك من القتال والقتال هو أشق شيء على النفوس، فسيحاربونك بغير القتال من باب أولى.. سيحاربونك بغزو ثقافي.. بغزو فكري.. عن طريق المرأة.. عن طريق الإعلام.. سيحاربونك لتهديم دينك، ولتضييع عقيدتك.. فكن أيها المسلم الموحد من الكافرين على حذر .
8- ثم أخيراً من أهم أسباب النصر: السلامة من أسباب الخذلان والهزيمة، ومنها:
أ –أهم أسباب الخذلان والهزيمة: هو الانحراف عن الصراط المستقيم: سواء كان هذا الانحراف انحرافاً عقدياً، أو انحرافاً عملياً، يعني سواء كانت المعاصي في باب الاعتقاد: بالإلحاد في أسماء الله وصفاته.. بالشرك الأكبر والشرك الأصغر، أو كان بالردة الكاملة باعتناق المذاهب الكافرة كالشيوعية، والقومية، والعلمانية، أو كان من باب الأعمال أي المعاصي العملية.
والمتتبع للقرآن يجد أن هذا هو سبب هلاك الأمم:{ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[40]}[سورة العنكبوت] . فالأمم السابقة أخذت بسبب ذنوبها، وظلمها لأنفسها، والأدلة على هذا كثيرة، وما عليك إلا أن تقرأ كتاب ربك وستجد ذلك واضحاً، وعلى سبيل المثال: اقرأ قصة أصحاب سبأ، واقرأ قصة أصحاب السبت، واقرأ سبب إغراق قوم نوح، واقرأ سبب إهلاك قوم عاد وثمود وقوم لوط، وما حصل لقوم موسى، وما حصل لغيرهم من الأمم؛ فستجد الذنوب هي السبب في ذلك .
أولا:الانحراف العقدي وأثره: سنضرب على الانحراف في العقيدة مثلين هما شاهد حي على أن الأمة إذا انحرفت اعتقاديا،ً فإنها تضعف وتذل:
الشاهد الأول من القرن الرابع الهجري: فقد شهد مداً رافضياً شديداً، فقامت دول رافضية في شرق الجزيرة في البحرين والأحساء قامت دولة القرامطة، وفي بلاد فارس والعراق دولة بني بويه، وفي بلاد الشام الحمدانيون- أبو فراس الحمداني وجماعته كانوا رافضة- وفي بلاد المغرب قامت الدولة العبيدية الإسماعيلية القرمطية، والتي تسمى زوراً وبهتاناً بالدولة الفاطمية، ثم بعد ذلك انطلقت فأخذت مصر، ثم الحجاز. والقرامطة أهل البحرين وصلوا إلى الحجاز، وأخذوا في ذلك القرن الحجر الأسود وبقي عندهم اثنتان وعشرون سنة، ووصلوا إلى دمشق، ولم يبق من بلدان المسلمين سالماً من المد الرافضي إلا القليل، وأذكر لكم ما قاله الإمام ابن كثير رحمه الله في حوادث حصلت في ذلك الزمن ثم انظروا إلى تعليقاته رحمه الله على تلك الحوادث .(/5)
إنه مع قيام تلك الدول الضالة الرافضية تقدم النصارى من بلاد الروم، فأخذوا بعض بلاد المسلمين، وفعلوا من الجرائم البشعة ما تقشعر له الأبدان، يذكر الحافظ ابن كثير بعض هذه الحوادث، ثم يعلق عليها، فيقول في حوادث سنة 359 للهجرة:'وفيها دخلت الروم أنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز، وسبوا من أهلها الشيوخ والأطفال نحواً من عشرين ألفاً فإنا لله وإنا إليه راجعون' ثم يعلق على ذلك بقوله:'وكل هذا في ذمة ملوك الأرض أهل الرفض الذين قد استحوذوا على البلاد وأظهروا فيها الفساد قبحهم الله'. ثم يذكر أيضاً في حوادث سنة359 هـ أيضاً أن ملك الروم فعل أعظم من ذلك في طرابلس الشام، وفي السواحل الشامية وحمص وغيرها، يقول رحمه الله :'ومكث ملك الروم شهرين يأخذ ما أراد من البلاد ويأسر ما قدر عليه، ثم عاد إلى بلده ومعه من السبي نحو مائة ألف إنسان ما بين صبي وصبية وكان سبب عوده إلى بلاده كثرة الأمراض في جيشه واشتياقهم إلى أولادهم'.
تصوروا عدو من أعداء المسلمين يأتي ويأخذ مائة ألف أسير من المسلمين ولا يرجع إلا بسبب الأمراض التي فتكت بجيشه ولم يحاربه أحد من ملوك الرافضة الذين كانوا ملوك الأرض في ذلك الوقت، تذكروا ما ذكرناه في أول الموضوع أن من أسباب النصر القيادة المؤمنة، ويعلق ابن كثير على ما كان يفعله الروافض في ذلك القرن من سب الصحابة، وما يفعلونه من البدع والضلالات، فيقول في حوادث سنة 351 هـ بعد أن ذكر غارات الروم وقتلهم ما لايحصى من المسلمين قال:' وفيها كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد لعنة الله علي معاوية بن أبي سفيان، وكتبوا أيضا:ً ولعن الله من غصب فاطمة حقها-يعنون أبا بكر رضي الله عنه-، ومن أخرج العباس من الشورى -يعنون عمر رضي الله عنه-ومن نفى أبا ذر-يعنون عثمان رضي الله عنه- 'يقول ابن كثير رحمه الله:' رضي الله عن الصحابة وعلى من لعنهم لعنة الله' . ثم تكلم قليلاً ثم قال:'ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة-يقصد ابن بويه وكان رافضياً- لم ينكره ولم يغيره قبحه الله وقبح شيعته من الروافض'.
انظروا إلى تعليق ابن كثير وهو المراد في هذه المحاضرة يقول:'لا جرم أن الله لا ينصر هؤلاء وكذلك سيف الدولة ابن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض لا جرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم لمتابعتهم أهواءهم، وتقليدهم سادتهم وكبراءهم وآباءهم، وتركهم أنبياءهم وعلماءهم، ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد مصر والشام وكان فيهم الرفض وغيره استحوذ الإفرنج على سواحل الشام وبلاد الشام كلها حتى بيت المقدس ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق، وجميع السواحل وغيرها مع الإفرنج والنواقيس النصرانية والطقوس الإنجيلية تضرب في شواهق الحصون والقلاع، وتكفر في أماكن الإيمان من المساجد وغيرها من شريف البقاع' - ثم بعد ذلك صور حال المسلمين-' والناس معهم في حصر عظيم وضيق من الدين وأهل هذه المدن-يقصد دمشق وحلب وحمص وحماة- التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الإفرنج فإنا لله وإنا إليه راجعون وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب وإظهار سب خير الخلق بعد خير الأنبياء'.
هذا نتيجة الانحراف العقائدي الذي استحوذ على هذه الأمة في القرن الرابع الهجري بل استحوذ على حكامها وقادتها في ذلك الوقت.
أما الشاهد الثاني، فأضربه لكم من عصرنا هذا: فقد هُزم العرب أمام اليهود رغم أنه لا تناسب بين العددين، ورغم ما كان يتشدق به طواغيت العصر في الشام، وفي مصر من أنهم سيلقون باليهود في البحر، وسيفعلون وسيفعلون، كان أولئك يرفعون لواء القومية، ولواء الاشتراكية، ويحاربون الإسلام وكان طاغوتهم الأكبر قد قتل سيد قطب رحمه الله قبل المعركة بسنة، ثم لما جاءت المعركة كانت إذاعاتهم ترفع النشيد الآتي تقول موجهة الخطاب لطائرات اليهود:
ميراج طيارك هرب خايف من نسر العرب
والميج علت واعتلت في الجو تتحدى القدر
هذا كانت تتغنى به إذاعة دمشق في ذلك الوقت، إذن كانت تلك الهزيمة الساحقة التي أخذ فيها ما تبقى من فلسطين، وأخذت أضعاف أرض فلسطين مثل سيناء والجولان كانت بسبب تلك القيادات الفاجرة المنحرفة التي تسلطت على رقاب المسلمين، وكانت سبب من أهم أسباب الخذلان والهزيمة .
ثانيًا: الانحراف في ناحية المعاصي العملية، وبالإمكان أن نقسمها إلى ثلاثة أقسام:
1- معاصي تؤثر أثناء المعركة: كمعصية أمر القائد في أثناء المعركة مثل ما حصل في يوم أحد لما ترك الرماة الجبل، وخالفوا أمر النبي، فحصل ما حصل مما تعرفونه.
2- معاصي تؤثر من قبل المعركة: وهذه سنطيل في الحديث عنها، فنتركها إلى الأخير.(/6)
3- وهناك معاصي تؤدي إلى ضرب الذلة على الأمة المؤمنة ضرباً مؤبداً:وهذه المعاصي تؤثر تأثيراً مباشراً في هزيمة الأمة أمام أعدائها، وقد بينها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] حديث صحيح بمجموع طرقه، رواه أبوداود وأحمد.
والعينة نوع من أنواع الربا والربا قد انتشر الآن في بلدان المسلمين فحقت عليهم الذلة، [وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ] يعني: الإخلاد إلى الدنيا والالتفات إليها.
[وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ] من أسباب ضرب الذلة، [سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا]، ليس الذل على اليهود فقط، بل الذل يضرب أيضاً على هذه الأمة إذا عصت أمر ربها، [سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ] لا يرفعه إلى متى؟ ليس إلى أن يصبح عندكم مليون جندي، ولا أن يصبح عندكم ألف طائرة، ولا أن يصبح عندكم خمسة آلاف دبابة، لا.. وإنما [حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] فإذا رجعتم إلى دينكم يرفع الله عنكم الذلة، بهذا الشرط الوحيد، وهو أن ترجعوا إلى دينكم كله من أوله إلى آخره، لا تقولوا: هذه قشور وهذا لباب، ولا تقولوا: هذه سنن وهذه وهذه ، ولا تقولوا: هذه تفرق المسلمين إذا بحثت أمور العقائد بين السنة والروافض، أو بين السنة والأشعرية وغيرهم . بل تأخذ هذا الدين كاملاً كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، تأخذ به كاملاً نقياً صافياً.. فعند ذلك يمنح لك النصر، ويمنح لك الظفر على العدو .
ننتقل إلى المسألة الثانية:وهي المعاصي التي توعد عليها بأنها سبب من أسباب الهزيمة فمن ذلك مايلي:
أ ] الظلم: الظلم ليس سببًا من أسباب الهزيمة فحسب، بل هو سبب من أسباب هلاك الأمم وسقوط الدول، وتغير الأحوال، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلمة استقرائية ماتعة يقول:' إن الدول تبقى مع العدل وإن كانت كافرة، وتسقط مع الظلم وإن كانت مسلمة'. [انظر:السياسة الشرعية] .
ب] ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو سبب من أسباب الهلاك ونزول العذاب، يقول الله:{ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ[116]وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ[117]}[سورة هود] . إذا كان أهلها يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يهلكهم الله، أما إذا تركوا ذلك، وانتشرت الرذائل، وأصبحت علانية، فليسوا مهددين بالهزيمة بل بأعظم من ذلك، وهو أن يهلكهم الله، ويحل بهم العذاب، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ[105]}[سورة المائدة] . وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ] رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة وأحمد.
كما أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أسباب الاختلاف، وسبب من أسباب التفرق، وهذا من أهم أسباب الهزيمة.
ج] نقض عهد الله وعهد رسوله: فقد جاء في حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ... فذكرها، ومنها: [ وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ] حديث صحيح رواه ابن ماجة وغيره . ومن المعلوم أن العدو لن يستطيع أن يأخذ بعض ما في أيدي المسلمين من الأموال، أو من الأراضي، أو من غيرها إلا بعد أن يهزم المسلمون، ويستذلوا.
د] الغلول: والغلول المراد به أخذ مال المسلمين بغير حق : جاء في الموطأ عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:' مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبُ...' . ومن المعلوم أنه إذا ألقى الله الرعب في قلوب قوم فإنهم لن يواجهوا العدو وسيهزمون ويولون الأدبار هذا أمر لا شك فيه ..(/7)
هـ ] من المعاصي التي توعد الله عليها بأن أصحابها يهزمون ولا ينصرون، البطر والفخر والغرور والعجب: قال سبحانه:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[47]}[سورة الأنفال]. فهذا الرياء والبطر والكبر في الأرض، ثم الصد عن سبيل الله أي: الصد عن دينه حتى ولو عن جزئية من جزئيات الدين، الصد عنها منذر بوقوع الهزيمة كما دلت عليه هذه الآيات . وكذلك العجب قال الله:{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ[25]}[سورة التوبة] . فلما أعجب الصحابة بأنفسهم وبكثرتهم، وقالوا: لن نغلب هذا اليوم من قلة؛ ما أغنت عنهم كثرتهم شيئاً، وبعض الروايات تقول: إن هوازن لم يتجاوزوا الثلاثة آلاف رجل . والصحابة كانوا عدة أضعاف لهوازن، ومع ذلك ولوا مدبرين لما أعجبوا بأنفسهم، ونسوا الاعتماد على ربهم عز وجل.
وهنا ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي: أنك عندما تقرأ في القرآن في أعقاب ذكر غزوات النبي؛ لا تجد أبداً أن الله يمدح المؤمنين، ويشيد ببطولاتهم، إنما يبين لهم أن هذا النصر الذي تحقق إنما هو فضل منه:{ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[126]}[سورة آل عمران]. { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[10]}[سورة الأنفال].
بل إنك تجد أن الله ينبه المؤمنين إلى أخطاء وقعت منهم، وهم منتصرون، فيقول لهم يوم بدر:{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ...[67]}[سورة الأنفال] .{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...} ثم قال لهم بعد:{... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[1]}[سورة الأنفال] . كأن هذا إشارة إلى أن اختلافكم في قسمة الغنائم والأنفال ليس بجيد، فاحذروا أن تخالفوا أمر الله وأمر رسوله.
فإذن: ما قال لهم لقد أحسنتم وفعلتم وفعلتم.. ما أشاد بهذه البطولات التي فعلها الصحابة يوم بدر، بل نبههم على أخطاء، وذكرهم بأن لا يعتمدوا على أنفسهم، وأن لا يعجبوا بأنفسهم، إنما النصر من عند الرب وحده لا شريك له. كذلك في أحد عندما تقرأ قصة أحد تجد أن الله نبههم على مكمن الخطأ وسبب ما حاق بهم وما حصل لهم . فالله سبحانه ينبهنا على أن المسلم دائماً يجب أن يكون خاشعاً لله، معتمداً عليه، مستنصراً به، مخلصاً له، يعلم أن النصر من عنده ليس بعدد ولا بعدة .
السبب الثاني من أسباب الهزيمة:
ب ] الفرقة والاختلاف: تفرق المسلمين وتشتت أحوالهم سبب من أسباب الهزيمة الماحقة، يقول الله:{ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال]. وهذا الأمر بالإضافة إلى الأمر السابق وهو المعصية كان من أعظم أسباب سقوط الأندلس.
ج ] من أسباب الهزيمة في تاريخنا الإسلامي: موالاة الكافرين والمنافقين، وعدم الحذر منهم: لقد حذرنا الله من ذلك تحذيراً شديداً، وأبدأ وأعاد حتى قال العلامة الشيخ حمد بن عتيق من أئمة الدعوة رحمه الله:'لم يرد في القرآن الكريم بعد الأمر بالتوحيد والنهي عن ضده أكثر من النهي عن موالاة الكافرين' . وفيآية واحد يتبين لنا حقيقة الكفار، يقول الله سبحانه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } أي: لا يقصرون فيما يفسدكم. { وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أي: أحبوا ما يشق عليكم.{ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} فما استطاعوا إخفاءها. { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[118]}[سورة آل عمران] ولكن أين الذين يعقلون؟
لقد كان هذا هو السبب في هزيمة الدولة العباسية أمام التتار لما وثقت بالرافضي الخبيث ابن العلقمي وولته الوزارة، وكان ذلك الخبيث ممن مالأ التتار وكاتبهم من أجل أن تهدم الخلافة وتسقط الدولة، فكان ذلك وحصل له ما أراد، ولكن الله كان له بالمرصاد، فجازاه ملك التتار أن قتله، وقال له: أنت لا تستحق أن يثق فيك، فقتله شر قتلة، وما أكثر أمثال ابن العلقمي في هذه العصور .(/8)
قد يندس شياطين الإنس من المنافقين في صفوف المؤمنين، ولا يميزهم المؤمنون، فمن رحمة الله بالمؤمنين أن تتوالى الابتلاءات على المؤمنين، فتكشف حقيقة المنافقين، وتميز الصف المؤمن وتطهره من هؤلاء المندسين حتى يتميز الصف، ويصبح مؤمناً خالصاً، وما هذه الابتلاءات التي حصلت لإخواننا المجاهدين في أفغانستان سابقاً ولا حقاً إلا فيما نحسب من هذا الباب، ليميز الله الصفوف فتتساقط الأوراق المندسة التي لا يستطيع المؤمن أن يكشفها لتظاهرها بالإيمان.
د ] ومن أهم أسباب الهزيمة: ترك إعداد العدة والإخلاد إلى الدنيا وملذاتها والإغراق في اللهو وطلب الراحة مما يجعل الإنسان لا يستطيع أن يدخل المعركة، ولا أن يواجه العدو .
هذه بعض أسباب الهزيمة التي مرت في التاريخ الإسلامي، وهي ليست كلها، ولو تتبعت واستقرأها شخص من بطون كتب التاريخ لوجدها أضعاف ما ذكرنا أضعافاً كثيرة، ولكن حسبنا أن نذكر الأهم والأقل يدل على الأكثر .وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم .
من محاضرة:' أسباب النصر والهزيمة في التاريخ الإسلامي' للشيخ/ بشر البشر(/9)
أسباب النصر
فإن الأمة الإسلامية اليوم تتطلع إلى نصر عاجل يرفع عنها هذا الذل والهوان الذي تسربلت به ، وينقلها من دركات المهانة والإذلال إلى درجات العزة والرفعة والسمو ...
نصراً يعيد لها مجدها السابق ، وحماها المستباح ....
ولاشك أن الناصر هو الله تعالى وحده .... فهذه عقيدة الموحدين التي لا يساومون عليها ... ولا يشكون فيها ... عقيدة ثابتة مغروسة في النفوس ....
ولكن الله تبارك وتعالى قد جعل لذلك النصر أسباباً وأمر بتحصيلها والاعتناء بها حتى تؤتي الشجرة ثمرتها ....
وهنا جملة من أسباب النصر مادية ومعنوية فاسأل الله تعالى التوفيق والسداد .
أول تلك الأسباب : الإيمان بالله تعالى [ باطناً و ظاهراً ] .
قال تعالى : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ )
قال تعالى : (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )
ولاشك أن من أسباب الهزيمة المعاصي .... ومن أسباب النصر الطاعات
الثاني : الصبر
قال تعالى : ( بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) .
قال تعالى : ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )
الثالث : الإخلاص لله تعالى . [ أن يكون القصد نصر دين الله وإقامة شرعه ]
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) .
قال تعالى : ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )) .
وعلامة المخلص ... (( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ))
الرابع : الإعداد المادي
قال تعالى : ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ ...)
فلما تركنا هذا التوجيه الرباني الكريم صرنا مطمع كل طاغية وكافر ....
الخامس : الائتلاف وعدم الاختلاف
قال تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .
فلما اختلفنا زرع الأعداء بيننا من ليس منا ... ليزيد الفرقة والتمزق ... حتى صرنا قطعاناً تتناهشها الكلاب ....
السادس : التوكل على الله والاعتماد عليه واللجوء إليه والتضرع بالدعاء إليه ....[ وهذه مجموعة من الأسباب آثرت جمعها مع بعضها لقوة الترابط بينها ]
قال تعالى : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )
قال تعالى : ( إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ )
قال تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ))
قال تعالى : ( ... أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )
السابع : الإقدام وعدم الإحجام ....
قال تعالى : (( قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ))
ولذلك كان الانغماس في العدو من أفضل الجهاد لما ينتج عنه من علو في الهمم ، ورفع للمعنويات ، وبه تقوى عزائم أهل الإيمان ، وبه تتحطم معنويات أهل الظلم والطغيان ...
وفي المقابل حرم التولي يوم الزحف وصار من السبع الموبقات لما يسببه من الهزيمة .... والتثبيط .... ورفع معنويات العدو ....
الثامن : مشاورة القائد [ حاكماً أو قائداً ] لأصحابه [ أصحاب الرأي والمشورة من أهل الحل والعقد وغيرهم ] وإشراكهم في صناعة القرار.... [ فتطيب النفوس وتقوى العزائم ]
قال تعالى : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ... )
قال تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ )
وهذا يشمل الجهاد وغيره فهو قاعدة عامة .
أخوكم التونسي
شبكة أنا المسلم(/1)
أسباب انشراح الصدر
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.. أما بعد:
لقد خلق الله الإنسان في هذه الحياة وهيّأ له من الأسباب والمسببات ما يضمن له صلاح حياته القلبية والبدنية، إن هو أحسن استغلالها وترويض نفسه عليها، فالإنسان في هذه الدنيا في مجاهدة مع أحوالها {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] مكابدة لنفسه، ومكابدة لنزعات الشيطان، ومكابدة لمصاعب الحياة ومشاقها وأهوالها، يَغلبُ تارةً ويُغلبُ أخرى، يفرح ويحزن، يضحك ويبكي، وهكذا دواليك. فالحياة لا تصفو لأحد من أكدارها.
يختلف الناس في خوض معتركها، يتعثر أقوام فيستبطئون ويبادر آخرون إلى جهاد أنفسهم فيعانون، وقد تعاودهم أكدار الحياة كرة بعد أخرى.
وإن من أكدار الحياة حالة تنتاب كثيراً من الناس، بل لو قيل ( لا يسلم منها أحد ) لم يكن ذلك بعيداً، والناس فيها بين مستقل ومستكثر. إن ضيق الصدر وما ينتاب المسلم من القلق والأرق أحياناً، مسألة قد تمر على كل واحد منا، تطول مدتها مع قوم وتقصر مع آخرين. ترى الرجل إذا أصابته تلك الحالة كئيباً كسيراً تتغير حاله، وتتنكر له نفسه، قد يعاف الطعام والشراب، بكاء وحزن، وحشة وذهول، وقد تغلب أحدهم نفسه، فيشكو أمره إلى كل من يجالسه ويهاتفه، دون أن يجاهد نفسه طرفة عين.
يراه جليسه ومن يشاهده فيرى عليه من لباس الهم والغم ما الله به عليم، يستسلم للشيطان بجميع أحاسيسه، فيُظهر لك من اليأس والقنوط والشكوى، ما يغلق أمامك الكثير من أبواب الفرج والتنفيس، حتى إن بعض أولئك يوغل في الانقياد لتلبيس الشيطان، ويكاد أن يقدم على خطوات تغير مجرى حياته، من طلاق للزوجة، وترك للوظيفة، وانتقال عن المنزل، وما يتبع ذلك، وقد يصل أمره إلى الإنتحار؛ مما يدل على عظم تلبيس إبليس عليه.
إن للهمّ أسباباً حسّية ومعنوية، وقد يكون الهم مفاجئاً لصاحبه لا يعرف له سبباً. شاهد المقال: أن حالة ضيق الصدر، تجعل العبد أحياناً حبيس الهواجس والوساوس؛ فيبقى المسكين أسيراً لكيد الشيطان، مرتهناً بقوة تلبيسه عليه، وبضعف مجاهدته له.
معاشر المسلمين:
ولما كان تلك الحالة تعتري كثيراً من المسلمين فتؤثر على عباداتهم وسلوكياتهم، ناسب أن يكون الكلام عن الأسباب التي تعين على انشراح الصدر، وتنقله من تلك الغشاوة التي أظلمت عليه، إلى حالة يشعر فيها بالراحة النفسية والطمأنينة القلبية.
فيقال وبالله تعالى التوفيق: إن أسباب انشراح الصدر كثيرة، يكتفي في هذا المقام بذكر ثمانية أسباب منها، علها أن تكون شاملة لغيرها مما لم يذكر.
السبب الأول: قوة التوحيد
إن من أعظم الأسباب لشرح الصدر وطرد الغم، بل هو أجل الأسباب وأكبرها: قوة التوحيد وتفويض الأمر إلى الله تعالى، بأن يعتقد العبد اعتقاداً جازماً لا شك فيه ولا ريب، أن الله عز وجل وحده الذي يجلب النفع ويدفع الضر، وأنه تعالى لا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه، عدل في قضائه، يعطي من يشاء بعدله، ولا يظلم ربك أحداً. فعلى العبد أن يحرص على عمارة قلبه بهذه الاعتقادات وما يتبعها فإنه متى كان كذلك؛ أذهب الله غمه، وأبدله من بعد خوفه أمناً.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره، والسكون إليه والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جَنّةُ الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين". انتهى كلامه رحمه الله.
السبب الثاني: حسن الظن بالله
حسن الظن بالله تعالى، وذلك بأن تستشعر أن الله تعالى فارجٌ لهمك كاشفٌ لغمك، فإنه متى ما أحسن العبد ظنه بربه، فتح الله عليه من بركاته من حيث لا يحتسب،فعليك يا عبد الله بحسن الظن بربك ترى من الله ما يسرك، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيراً فله، وإن ظنّ شراً فله» أخرجه الإمام أحمد وابن حبان، فأحسن ظنك بالله، وعلِّق رجاءك به، وإياك وسوء الظن بالله، فإنه من الموبقات المهلكات، قال تعالى: {الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [الفتح:6].
السبب الثالث: كثرة الدعاء
كثرة الدعاء والإلحاح على الله بذلك، فيا من ضاق صدره وتكدر أمره، ارفع أكف الضراعة إلى مولاك، وبث شكواك وحزنك إليه، واذرف الدمع بين يديه، واعلم رعاك الله تعالى: أن الله تعالى أرحم بك من أمك وأبيك وصحابتك وبنيك.(/1)
عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قدم على النبي سبيٌ، فإذا امرأه من السبي تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها» أخرجه البخاري.
السبب الرابع: المبادرة إلى ترك المعاصي
تفقد النفس والمبادرة إلى ترك المعاصي، أتريد مخرجاً لك مما أنت فيه وأنت ترتع في بعض المعاصي؟ يا عجباً لك! تسأل الله لنفسك حاجتها وتنسى جناياتها، ألم تعلم هداك الله تعالى أن الذنوب باب عظيم ترد منه المصائب على العبد:{وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]، {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].
استسقى العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، فقال في دعائه: "اللهم إنه لم تنزل عقوبة إلا بذنب ولا تنكشف إلا بتوبة". قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وما يُجازى به المسيء من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته وظلمته وحزازاته وغمه وهمه وحزنه وخوفه، وهذا أمر لا يكاد من له أدنى حس وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق: عقوبات عاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة. والإقبال على الله تعالى والإنابة إليه والرضى به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته: ثواب عاجل، وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة... " (الوابل الصيب:104) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
فبادر رعاك الله إلى محاسبة نفسك محاسبة صدق وإنصاف، محاسبة من يريد مرضاة ربه والخير لنفسه، فإن كنت مقصراً في صلاة أو زكاة أو غير ذلك مما أوجب الله عليك أو كنت واقعاً فيما نهاك الله عنه من السيئات، فبادر إلى إصلاح أمرك، وجاهد نفسك على ذلك، وسترى من الله ما يشرح صدرك وييسر أمرك {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب} [الطلاق:3،2]، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4]، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5]. فبادر هداك الله إلى تقوى الله ولن ترى من ربك إلا ما يسرك بإذنه تعالى.
قال الإمام ابن الجوزي: "ضاق بي أمر أوجب غماً لازماً دائماً، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة وبكل وجه، فما رأيت طريقاً للخلاص، فعرضت لي هذه الآية: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم، فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج... " (صيد الخاطر:153) انتهى كلامه.
السبب الخامس: أداء الفرائض والمداومة عليها
المحافظة على أداء الفرائض والمداومة عليها، والإكثار من النوافل من صلاة وصيام وصدقة وبر وغير ذلك، فالمداومة على الفرائض والإكثار من النوافل من أسباب محبة الله تعالى لعبده، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه» الحديث أخرجه البخاري.
السبب السادس: مجالسة الصالحين
الاجتماع بالجلساء الصالحين والاستئناس بسماع حديثهم والاستفادة من ثمرات كلامهم وتوجيهاتهم، فالجلوس مع هؤلاء مرضاة للرحمن، مسخطة للشيطان، فلازم جلوسهم ومجالسهم واطلب مناصحتهم، ترى في صدرك انشراحاً وبهجة ثم إياك والوحدة، احذر أن تكون وحيداً لا جليس لك ولا أنيس، وخاصة عند اشتداد الأمور عليك، فإن الشيطان يزيد العبد وهناً وضعفاً إذا كان وحيداً، فالشيطان من الواحد أقرب ومن الاثنين أبعد وليس مع الثلاثة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
شاهد المقال: أن تحرص أعانك الله تعالى على عدم جلوسك وحيداً، فجاهد نفسك وغالبها على الاجتماع بأهل الخير والصلاح، والذهاب إلى المحاضرات والندوات، وزيارة العلماء وطلبة العلم فذلك يدخل الأُنس عليك؛ فيزيدك إيماناً وينفعك علماً.
السبب السابع: قراءة القرآن(/2)
قراءة القرآن الكريم تدبراً وتأملاً، وهذا من أعظم الأسباب في جلاء الأحزان وذهاب الهموم والغموم، فقراءة القرآن تورث العبد طمأنينة القلوب، وانشراحاً في الصدور {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "أي تطيب وتركن إلى جانب الله، وتسكن عند ذكره وترضى به مولى ونصيراً، ولهذا قال تعالى {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}:أي هو حقيق لذلك" انتهى كلامه رحمه الله.
فاحرص رعاك الله على الإكثار من تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وسل ربك أن تكون تلاوتك له سبباً في شرح صدرك، فإن العبد متى ما أقبل على ربه بصدق؛ فتح الله عليه من عظيم بركاته {يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} [الإسراء:82].
السبب الثامن: أذكار الصباح والمساء
المداومة على الأذكار الصباحية والمسائية وأذكار النوم، وما يتبع ذلك من أذكار اليوم والليلة، فتلك الأذكار تحصن العبد المسلم بفضل الله تعالى من شر شياطين الجن والإنس، وتزيد العبد قوةً حسيّة ومعنوية إذا قالها مستشعراً لمعانيها موقناً بثمارها ونتاجها، ولتحرص رعاك الله على تلك الأذكار المتأكدة فيمن اعتراهم همّ أو غم، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم»، وكذا ما أخرجه البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي كان يكثر من قوله: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل...» إلى آخر الحديث.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل به هم أو غم قال:
«يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» أخرجه الحاكم. وعن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجوا فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأنه كله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» أخرجه أبو داود وابن حبان.
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب عبداً هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب غمي، إلا ذهب الله حزنه وهمّه، وأبدله مكانه فرحاً» أخرجه أحمد في مسنده وابن حيان في صحيحه، إلى غير ذلك مما ورد من الأذكار في هذا الباب ونحوه.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا ويسر أمورنا، وهيء لنا من أمرنا رشداً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد العزيز بن محمد السدحان(/3)
أسباب تخلف المسلمين
يتناول الدرس النظر إلى واقعنا، والنظر إلى ماضينا، والبون الشاسع والفرق الهائل،و من هذا المنطلق تناول أبرز أسباب تخلف المسلمين، و الآثار التي نتجت من تلقاء تخلف المسلمين؟ ثم وسائل العلاج .
نقلب صفحات الماضي المجيد، ونجد أن القرآن يتحدث عن هذه الأمة فيقول : [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [110] ] [سورة آل عمران] ننظر إلى واقعنا، وننظر إلى ماضينا، فنجد البون الشاسع والفرق الهائل.. ننظر كيف كانت هذه الأمة التي هابتها الفرس والروم، ثم كيف أصبحت غثاء كغثاء السيل، لا يأبه الله بهم في أي واد هلكوا!
بعد أن كنا سادة وقادة، ماذا دهانا؟ ماذا أصابنا؟ هذا هو موضوعنا .
من هذا المنطلق، وأخذاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ لَمْ يَهْتَمّ بَأَمْرِ المُسْلِمينَ فَلَيسَ مِنْهُمْ] رواه الطبراني في الصغير والأوسط. جلسنا نلتمس الأسباب، ونبحث عن العلل؛ علنا نصل إلى الداء، ثم نشخص الدواء بعد ذاك .
أبرز أسباب تخلف المسلمين:
سقوط الخلافة ألإسلامية: منذ بزغ فجر هذه الرسالة والخلافة قائمة، يتناقلها خليفة عن خليفة، وجيل عن جيل، وأمة عن أمة، وأدرك العدو أنه لن تموت هذه الأمة مادام لها أمير للمؤمنين؛ فسلطوا سهامهم، وشرعوا أسلحتهم، وحاكوا المؤامرات تلو المؤامرات حتى أسقطوا هذه الخلافة. واستطاعت أوربا ممثلة ببريطانيا أن تصور أن الخلافة شبح رهيب، وسموها بالرجل المريض، وأثاروا النعرات والقبليات، ثم بعد ذلك ساعدهم كثير من المسلمين حتى اعتبروا أن عدوهم الأول هي الدولة العثمانية أو الخلافة الإسلامية حتى أسقطوها.
فصل الدين عن الدولة: سبب رئيسي للمآسي التي نعيشها، لماذا؟ لأنه لا يمكن أن يُحكم البشر إلا بشريعة رب البشر، فإذا أبعدت هذه الشريعة عن الساحة؛ حُكم البشر بسنن البشر، والبشر عاجز وقاصر، وبهذا حل فينا ما حل !
ويزداد ألمي عندما أجد أن كثيراً من المنتسبين للإسلام- والإسلام منهم براء- أشد اقتناعاً بفصل الدين عن الدولة أي: بالعلمنة بمفهومها الصحيح.. يقولون:' دع ما لله للهِ وما لقيصر ليقصر' ونقول لهم: الكل لله سبحانه وتعالى: }الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [56] {[سورة الحج] نعم، فصل الدين عن الدولة مخطط رهيب؛ لأن أولئك الأعداء علموا أن القرآن هو عدوهم الأول، ولذا جندوا جنودهم لإبعاد القرآن عن حكم المسلمين- وقد نجحوا وللأسف- وكثير من المسلمين لا يدركون خطورة هذا الأمر، وهو خطر داهم وشر قائم . والمسلمون الآن في مشارق الأرض ومغاربها-إلا من عصم الله- يُحكمون بقوانين الشرق والغرب، بقوانين اليهود والنصارى والوثنيين، ولكنهم لا يخضعون لحكم الله، ومن تخلى عن حُكم الله؛ تخلى الله عنه: }أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [83] { [سورة آل عمران]
}وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[44] {[سورة المائدة] .. } وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[45]{ [سورة المائدة] .. }وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[47]{ [سورة المائدة] .
الهزيمة النفسية أمام الأعداء: وهذه القضية من أخطر ما أدى بنا إلى ما نحن فيه، يقول الأمير شكيب أرسلان: ' من أعظم أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير فقدهم كل ثقة بأنفسهم وهو من أشد الأمراض الاجتماعية، وأخبث الآفات الروحية، لا يتسلط هذا الداء على أمة إلا ساقها إلى الفناء'.
الهزيمة النفسية مرض خطير أشد فتكاً من مرض السرطان، والمسلمون الآن أصيبوا بالهزيمة النفسية، وما دخل علينا الأعداء إلا بعدما أصبنا بالهزيمة النفسية.. أصبح لدى كثير من المسلمين قناعة بأنهم لن يهزموا عدوهم، كيف نهزم أوربا؟كيف نهزم أمريكا؟ لديها من السلاح، ولديها من العتاد، ولديها ولديها ولديها، فأصبحوا خير أبواق لأوربا، وأمريكا، ولروسيا، ولغيرها من الشرق والغرب.. والهزيمة النفسية مرض فتاك حكى الله ذك في سورة الحشر:
} فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [2] {[سورة الحشر] وقد جعل الله من خصائص هذه الأمة كما بيّن صلى الله عليه وسلم أنها: تُنصر بالرعب مسيرة شهر. إذاً: إذا أحس العدو بالرعب فهذا أولى علامات السقوط.
الجهل وتخلف المسلمين في العلوم الإسلامية والعلوم المادية: كثير من المسلمين جهلة في دينهم، جهلة في دنياهم، وهذا سبب أساسي للمرض الذي نعيش فيه، والداء الذي وصلنا إليه.
الإعجاب بالغرب واعتباره القدوة الصالحة: إعجاب يبينه البعض، ويبيته البعض الآخر، حتى وصل الإعجاب بالغرب إلى أن يكون الذهاب إلى بلادهم أمنية يتمناها كثير من المسلمين، فيفتخر أنه زار أمريكا، أو زار أوربا .(/1)
وإعجاب كثير من المسلمين بالغرب، والسير في ركابهم، واعتبارهم القدوة الصالحة أوصلهم إلى ما أوصلهم.
نعم، إعجاب كثير منا بالغرب أوصلنا إلى ما أوصلنا إليه، حتى أننا رأينا من صور الإعجاب أنه إذا اشتهر رجل منهم بأحد أوجه الفساد كالغناء، أو الرقص، أو لعب الكرة، أو نحوها؛ وجدنا من يقلده بعد ساعات.. سئل أحد شباب المسلمين: من هو مثلك الأعلى ؟ ويجب أن يكون مثله الأعلى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ماذا قال؟!
قال: إن مثلي الأعلى هو لاعب الكرة [مارادونا]!!
والبعض يخجل من أن يلبس لباسه العادي إذا خرج إلى أوربا، ويبحث عن أفضل ما أخرجت الموضات الفرنسية، أو الموضات الأوربية؛ إعجاباً وتقليداً !
الإفساد باسم الإصلاح والتطور: وذلك تضليل للأمة، وهذا ما يحكيه سبحانه وتعالى عن المنافقين، ويقول عنهم:
} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ[11] { [سورة البقرة]
باسم الإصلاح: انتزعت أهم خصائص مؤسسات الأمة الإسلامية..الأزهر بعراقته ضاع باسم الإصلاح والتطوير.
باسم التطور والحضارة والمدنية تنتهك حرمات الله سبحانه وتعالى، ويضرب بأمر الله عرض الحائط .
اجتماع كلمة الأعداء علينا مع تفرقهم وتشتتهم : } تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [14] {[سورة الحشر] ولكنهم يجتمعون علينا، الخلاف بين روسيا وأمريكا عريق قديم، وسيظل طالما استمروا على وضعهم ومبادئهم، ولكنهم يتفقون على ما يكون ضد المسلمين، هذه قضية لا يناقشون فيها أبداً..يختلفون ويتقاتلون ويتناحرون إلا في شيء واحد: ما يخص المسلمين، فهم يتفقون على ما يهيننا ويذلنا وينزع الكلمة من بيننا.
الجهود التي بذلها المستشرقون والمستغربون : المستشرقون أمرهم معروف، ولكن من هم المستغربون؟
هم الذين ذهبوا إلى أوربا، وتعلموا في أوربا وأمريكا وغيرها، وجاءوا ليبثوا ولينشروا بيننا ما تعلموه هناك كَمُثُلٍ لا تقبل النقاش ولا الجدل، يرجع أمثال طه حسين ويقول:'علينا أن نلحق بفرنسا حتى في شكل اللباس'.
هؤلاء المستغربون نالوا الشهادات العالية من هنا وهناك، وجاءوا إلى بلاد المسلمين، واحتلوا فيها القيادة والمناصب والريادة، وقادوا المسلمين إلى التأخر والتقهقر.. يعيشون بيننا ويتكلمون بلغتنا، بل إن بعضهم قد يدخل إلى مساجدنا، ووالله إن هؤلاء أشد خطراً من المستشرقين. هؤلاء هم من الأسباب الرئيسية التي أوصلتنا إلى الوضع الذي نعيشه .
ضعف القدوات لدى العلماء والقادة: في السابق كان العلماء والقادة هم القدوة التي يقتدى بهم، ولكن هذا الجانب ضعف في عصرنا الحاضر، فلم يعد كثير من العلماء أهلًا لئن يقتدى بهم.. فقدوا مقومات القدوة الصالحة؛ ولذلك وبسبب ضعف القدوة لدى هؤلاء اقتدى الناس بالمنحرفين.
ذهبت إلى بعض البلاد الإسلامية وحين تسألهم أين علماؤكم ؟ ويا للأسف تجد أشباه علماء يقودون الناس إلى جهنم لماذا ؟ لأنك تجد هؤلاء قد يحملون شهادات عالية ولكنهم لا يلتزمون بشريعة الله وإن تسلموا المناصب باسم العلماء، وباسم التوجيه وتجد أن بعضهم وهم من المنتسبين إلى العلماء مفتون بالغرب.
فإذا ضعف جانب القدوة لدى العلماء؛ بحث الناس عن القدوة فلم يجدوها، فاقتدوا بالشرق وبالغرب وبمن هب ودب.
خيانة بعض المسلمين لدينهم ولأمتهم: أصبحوا عملاء للشرق والغرب، عملاء لأعداء الله؛ فخانوا الله والرسول، وخانوا أمانتهم ودينهم.
نشوء العصبيات والقبليات: العرب أمة مشتتة مفرقة، جاء الإسلام وهي هكذا، بما اجتمعت ؟
هل اجتمعت تحت لواء قريش ؟ أو باسم مكة أو الحجاز ؟ لا، إنما جمعتهم ووحدتهم كلمة الإسلام، كلمة لا إله إلا الله، ودان الشرق والغرب لهذه الكلمة بعد العصبيات وبعد التفرق.
رأى العدو أن من أفضل الوسائل التي تبعدنا عن ديننا أن ينشيء فينا العصبيات: القومية العربية، القومية التركية، القومية الكردية.
بعد أن فرقوهم إلى قوميات جاءوا بالوطنية حتى تفرق العرب أيضاً إلى بلاد كل منهم ينتسب إلى وطنه،
ثم جاءوا بالإقليمية: أهل الوطن الواحد يتفرقون، هذا من وطن كذا وهذا من بلد كذا..عصبيات وإقليميات وقوميات ووطنيات مزقوا فيها شمل أمتنا .
الجبن والخوف وحب الدنيا وكراهية الموت: هلع وخوف أدى بنا إلى ما نحن فيه.
هذه فيما أرى أبرز الأسباب التي أوصلت المسلمين إلى الوضع المتخلف والمتأخر الذي استطاع أن يعبر عنه الشاعر عندما قال:
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه.
الآثار التي نتجت من تلقاء تخلف المسلمين؟
الانحراف الفكري : ويتمثل هذا بالإلحاد وانتشار المذاهب الهدامة.(/2)
فساد بعض مناهج التعليم : وتختلف البلاد في ذلك، فبعضها لا يعترف بالشريعة الإسلامية، أو بمناهج التربية الإسلامية إطلاقاً،وبعضها يضعها في منزلة كمناهج النصارى واليهود، وبعضهم يأخذ منها، ويزدادون وينقصون على حسب اختلاف القائمين على الأمر. ومن أبرز القادة الذين حملوا لواء الانحراف الفكري: طه حسين وأمثاله .
الخلل الاجتماعي: ويتمثل في عدة صور:
الأسرة: العلاقة بين الزوج وزوجته.. بين الابن وأبيه.. بين الأخ وأخيه...أوضاع الأسر الآن تعاني من مرض عضال.
المرأة: استخدموا المرأة سلاحاً فتاكاً حتى أوصلوا نساء المسلمين إلى وضع لا نحسد عليه !
الإسلام صان المرأة وأكرمها، والعربي - حتى قبل الإسلام- كانت لديه حمية خاصة تجاه المرأة، ولكن في عصرنا الحاضر: لا دين ولا حمية..المرأة هي السيدة المطاعة، وجهوا لها السهام واستعملوها واستغلوها أبشع استغلال.
استخدموا المرأة باسم الحرية،باسم التمدن،باسم مساواة الرجل، وهذا خطير، فانتبهوا إلى المؤامرات التي تحاك لنسائكم.
الانحراف الخلقي: الآن هناك انحراف خلقي لدى كثير من شباب المسلمين، بل إنه تعداهم إلى من يزيد عمره عن الستين- والعياذ بالله- وهذا أثر من آثار تأخرنا وتخلفنا، وبعدنا عن كتاب الله سبحانه وتعالى
الفساد الاقتصادي : وما عرفنا النظام الرأس مالي أو الغربي، والنظام الاشتراكي إلا بعد تخلفنا.
ومن مظاهر هذا الفساد الاقتصادي:
استغلال ثروات الأمة من قبل الكفار.
استثمار أموال المسلمين في بلاد النصارى.
أهم المشاريع التنموية التي تقام في بلاد المسلمين تقام تحت ظل الشركات الغربية والشرقية.
أرصدتنا عند أعدائنا يتمتعون بها : حتى قالت إحدى الصحف الأوربية:' لو سحب العرب أرصدتهم من بنوك أوربا وأمريكا؛ لانهارت أوربا وأمريكا خلال ساعات'. يشتغلون بأموالنا وهذا خلل اقتصادي منشؤه تخلفنا.
عدم الهيبة أمام الأعداء : أصبحنا غثاء كغثاء السيل، لم يعد المسلم كما كان في السابق: له الهيبة والمنعة والقوة.
أصبح يتندر به، ويضحك عليه، رمزاً للسخرية والاستهزاء والضعف.. نعم، نزعت المهابة من قلوب أعدائنا نحونا؛ لأننا لم نخف الله تعالى، ولم نتقه، ولم نطعه.
التحول من السيادة إلى مؤخرة الأمم : الآن نحن نكرر عبارات وضعت لنا من قبل أعدائنا، فنكرر دائماً:العالم الثالث والعالم النامي، ثم نأتي ندرس هذا على أنها حقائق يجب أن يحفظها أبناؤنا. .رضينا بهذه المنزلة التي أعطيت لنا من قبل أعدائنا، وهذا هوان وضعف وذلة .
اليأس والقنوط : ويتبع هذا اللامبالاة والتبلد وعدم الإحساس بمشكلات الأمة .
انشغال الفرد بمستقبله عن مستقبل أمته : رجل- وليس عامياً – قيل له: ما هي أمنيتك العظمى؟
قال: أن أملك بيتاً أعيش فيه . سبحان الله ! وأين أمنيته لتحرير بلاد المسلمين ؟! أين أمنيته للخروج من الواقع الذي نحن فيه ؟! كثير من المسلمين انشغل بمستقبله، فيشتغل الليل والنهار بمستقبله الخاص، وينسى مستقبل أمته، أو لم يبالي بمستقبل أمته.
من وسائل العلاج:
العودة الصادقة إلى الإسلام : العودة الصادقة إلى الله تعالى، وتحكيم شريعة الإسلام، ووالله لا حياة لنا، ولا مجد، ولا عز، ولا فخر إلا بالعودة إلى الله وتحكيم شريعة الله،ومتى ما تخلينا عن ذلك تخلى الله عنا:} إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7] {[سورة محمد] ولكن في آية أخرى: }وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[38] { [سورة محمد] .
}إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [11] {[سورة الرعد] غيروا ما بأنفسكم إلى الأسلم والأحسن والأحوط حتى يغير الله وضعنا.
عليكم بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: حين تركنا الجهاد، وأخذنا بأذناب البقر، نلهث وراء الدنيا ونركض؛ حل بنا ما حل،'لن يصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به حال أولها' صلح أول هذه الأمة، بالجهاد؛ لذا أقول لكم: ربوا أبناءكم على حب الجهاد في سبيل الله، والموت في سبيل الله.. أعداؤنا يحيكون لنا المؤامرات، ونخشى أن ينقضوا علينا بين عشية وضحاها، أحاط بنا الأعداء إحاطة السوار بالمعصم، في الشرق أعداء، في الجنوب أعداء في الشمال أعداء، في الغرب أعداء، أين المفر؟ } فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [50] {[سورة الذاريات]. ربوا أبناءكم على الجهاد، ربوهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ربوهم على الرجولة، كثير من شبابنا مائع، لا يتحمل حتى لفحة الهواء، ولا ضربت الشمس، هل هؤلاء على استعداد ليواجهوا عدوهم ؟
وسنن الله الكونية لا تختلف، إن بقي أولادنا على أساليب تربيتهم الآن في اللهو والعبث والسهر وحب الذات، فلا تلوموا إلا أنفسكم ، هذه سنن الله لا تتغير.(/3)
العزة والاستقلال والتخلص من الهزيمة النفسية: الهزيمة النفسية مرض فتاك إن لم نتخلص منه؛ فستحل بنا العقوبة تلو العقوبة .. ولابد من الشعور بالعزة، وأن أعداءنا هم الأذلة: }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[8] {[سورة المنافقون].
اجتماع كلمة المسلمين، وتعاونهم في ما بينهم : وهذه لن أعلق عليها؛ فهي واضحة جلية.
عودة دور العلماء في المجتمع، وتسلمهم ذروة القيادة: أطالب وأؤكد على ذلك، التفوا حول علمائكم، التقوا بعلمائكم، فنحن نجد هوة كبيرة بين علمائنا وبين أبنائنا . لا بد أن يرجع للعلماء دورهم وقيادتهم ومهابتهم وقيمتهم، ودوركم في هذا المجال: أن تتجهوا وتوجهوا أبناءكم إلى علمائكم، يتعلموا منهم ويستفيدوا منهم، ويحيطوهم بمشكلات الأمة. العلماء لهم دورهم في الأمة، فلابد من عودة دور العلماء الصادقين المخلصين، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم.
إصلاح مناهج التعليم، وتطهير وسائل الإعلام من الفساد : وسائل إعلام المسلمين مليئة بالفساد، مليئة بالانحطاط من صور النساء ومن غيرها، فلابد من عودة صادقة. وأطالبكم بالنصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذا رأيتم منكراً في صحيفة، أو في جهاز مسموع أو مرئي، هل كل واحد منكم يكتب فيها ينبه ويخوف هؤلاء المسئولين من الله سبحانه وتعالى ؟ أم نحن استسلمنا ويأسنا وقنطنا ؟ كل واحد منكم مسئول، على ثغرة، اللهَ الله أن يؤتى الإسلام من قبله.
التربية الصالحة والاهتمام بالأسرة: اهتموا بأسركم، عودوا إلى أسركم، وكما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وأحمد. صدق صلى الله عليه وسلم، بدأ بالأمير وانتهى بالخادم مروراً بالأب ومروراً بالأم..القائد الأول مسئول أن يرعى رعيته ضمن منهج الله، وضمن حدود الله سبحانه.. والأب مسئول، والأم مسئولة.
نريد الأم الصالحة المخلصة، نريد الأم الصادقة التي تضحي في سبيل دينها وعقيدتها، لا في سبيل ما يريده أعداؤها منها من الأزياء والخروج إلى الشوارع والمناسبات، وتضييع بيتها، فانتبهوا إلى أسركم خوفاً من أن يصيبها الداء، وقد أصاب الداء بعضها. ليعد للأب وللأم دوره في أسرته، فهذا من أهم وسائل العلاج للوضع الذي نحن فيه، فإذا أخرج لنا كل واحد منكم من بيته رجالًا، فبعد أيام وبعد سنوات –ولا نستعجل العلاج- سيخرج لنا جيل –إن شاء الله- يحمل الريادة والقيادة والسيادة..أنتم مسئولون عن ما في بيوتكم، أنتم مسئولون عن من تحت أيديكم.
ليست مسئوليتكم أن تأمنوا لهم الأكل والشرب والملبس لا، هذا مطلب، ولكن أهم من ذلك أن تربوهم وفق منهج الله سبحانه وتعالى.
لما تخلينا عن مسئوليتنا، وتخلينا عن قيادتنا وسيادتنا وريادتنا في بيوتنا..لما تركناها لغيرنا عن طريق: آلة اللهو، عن طريق الصحف، عن طريق الخدم والحشم والأصدقاء . وأصبح الأب متفرجاً على مسرحية تقام في بيته، ونار تلتهب في بيته ولا يطفئوها..عودوا إلى الله، خافوا من الله قبل أن تحل بكم عقوبة لا ندري ما هي نتيجتها.
من الذين يمشون ويسرحون في شوارعنا، هل هم أبناء النصارى؟ لا، إنهم أبناؤنا، أين دور آبائهم؟ أين دور أمهاتهم؟
لماذا نحمل التبعة على غيرنا، ونحن مسئولون عن هذا الأمر؟ أنتم المسئولون فعودوا إلى الله.
لا بد من تطهير ووقاية المجتمع من وسائل الفساد والإفساد : مجتمعنا مملوء بوسائل الفساد والإفساد؛ فلابد من التطهير والتنقية.
هذه أهم الأسباب التي أراها ولابد منها حتى نعود إلى عزنا ومجدنا وسؤددنا، ولابد أن نتذكر قوله تعالى:
} كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[110] {[سورة آل عمران].
وقوله تعالى: }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[103] {[سورة آل عمران] .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من محاضرة: أسباب تخلف المسلمين للشيخ/ ناصر سليمان العمر(/4)
أسباب ترك الإيمان والإعراض عنه
رئيسي :عقائد :الأحد 28 ذي القعدة 1425هـ - 9 يناير 2005 م
إذا كان الإيمان الصحيح- كما جاءنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيه السعادة العاجلة والآجلة.وأنه يصلح الظاهر والباطن، والعقائد، والأخلاق، والآداب. وأنه يدعو جميع العباد إلى ما فيه من كل خير وصلاح، ويهدي للتي هي أقوم.
فإذا كان الأمر كما ذكرنا؛ فلم أكثر الناس عن الدين والإيمان معرضون، وله محاربون، ومنه ساخرون؟ وهلا كان الأمر بالعكس؛ لأن الناس لهم عقول وأذهان تختار الصالح على الطالح، والخير على الشر، والنافع على الضار؟
نعم كان من المفروض أن يكون الأمر كذلك! واعلم أن الله تعالى قد ذكر هذا الإيراد في كتابه العزيز، وأجاب عنه بذكر الأسباب الواقعة، وبالموانع العائقة، وبذكر الأجوبة عن هذا الإيراد فلا يهول العبد ما يراه من إعراض أكثر البشر عنه، ولا يستغرب ذلك؛ فقد ذكر الله عز وجل من أسباب عدم الإيمان بالدين؛ موانع عديدة، واقعة من جمهور البشر، منها:
1- الجهل بالإيمان: وعدم معرفته حقيقة، وعدم الوقوف على تعاليمه العالية، وإرشاداته السامية. والجهل بالعلوم النافعة؛ أكبر عائق، وأعظم مانع من الوصول إلى الحقائق الصحيحة، والأخلاق الحميدة، قال تعالى:{ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ[39]}[سورة يونس]. وقال: {...وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[111]}[سورة الأنعام]. وقال:{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[37]}[سورة الأنعام].
والجهل إما أن يكون بسيطاً: كحال كثير من دهماء المكذبين للرسول، الرادين لدعوته؛ اتباعاً لرؤسائهم وساداتهم، وهم الذين يقولون إذا مسهم العذاب:{...رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ[67]}[سورة الأحزاب].
وإما أن يكون الجهل مركباً؛ وهذا على نوعين:
أحدهما: أن يكون على دين قومه وآبائه، ومن هو ناشئ معهم، فيأتيه الحق فلا ينظر فيه، وإن نظر فنظر قاصر جداً لرضاه بدينه الذي نشأ عليه، وتعصبه لقومه، وهؤلاء جمهور المكذبين للرسل، الرادين لدعوتهم، الذين قال الله فيهم:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ[23]}[سورة الزخرف] . وهذا هو التقليد الأعمى؛ الذي يظن صاحبه أنه على حق، وهو على الباطل.
ويدخل في هذا النوع: أكثر الملحدين الماديين؛ فإن علومهم عند التحقيق تقليد لزعمائهم؛ إذا قالوا مقالة قبلوها كأنها وحي منزل، وإذا ابتكروا نظرية خاطئة سلكوا خلفهم في حال اتفاقهم وحال تناقضهم، وهؤلاء فتنة لكل مفتون لا بصيرة له.
النوع الثاني من الجهل المركب: حالة أئمة الكفر وزعماء الملحدين الذين مهروا في علوم الطبيعة والكون، واستجهلوا غيرهم، وحصروا المعلومات في معارفهم الضئيلة الضيقة الدائرة، واستكبروا على الرسل وأتباعهم. وزعموا أن العلوم محصورة فيما وصلت إليه الحواس والتجارب البشرية، وما سوى ذلك أنكروه، وكذبوه مهما كان من الحق؛ فأنكروا رب العالمين، وكذبوا رسله، وكذبوا بما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب كلها.وهؤلاء أحق الناس بالدخول تحت قوله تعالى:{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[83]}[سورة غافر].
ففرحهم بعلومهم – علوم الطبيعة – ومهارتهم فيها هو السبب الأقوى الذي أوجب لهم تمسكهم بما معهم من الباطل، وفرحهم بها يقتضي تفضيلهم لها، ومدحهم لها وتقديمها على ما جاءت به الرسل من الهدى والعلم؛ بل لم يكفهم هذه الحال؛ حتى وصلوا إلى الاستهزاء بعلوم الرسل واستهجانها، وسيحيق بهم ما كانوا به يستهزؤن.
ولقد انخدع لهؤلاء الملحدين كثير من المشتغلين بالعلوم العصرية التي لم يصحبها دين صحيح، والعهدة في ذلك على المدارس التي لم تهتم بالتعاليم الدينية العاصمة من هذا الإلحاد. فإن التلميذ إذا تخرج فيها ولم يمهر في العلوم الدينية، ولا تخلق بالأخلاق الشرعية، ورأى نفسه أنه يعرف ما لا يعرفه غيره؛ احتقر الدين وأهله، وسهل عليه الانقياد لهؤلاء الملحدين الماديين. وهذا أكبر ضرر ضرب به الدين الإسلامي.
2- الحسد والبغي: كحال اليهود الذين يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه وحقيقة ما جاء به كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم يكتمون الحق وهم يعلمون؛ تقديماً للأغراض الدنيوية، والمطالب السفلية على نعمة الإيمان. وقد منع هذا الداء كثيراً من رؤساء قريش كما هو معروف من أخبارهم وسيرهم، وهذا الداء في حقيقة الأمر ناشئ عن داء آخر، وهو الكبر.(/1)
3- الكبر: الذي هو أعظم الموانع من اتباع الحق، قال تعالى:{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ[146]}[سورة الأعراف].
فالتكبر – الذي هو رد الحق واحتقار الخلق – منع خلقاً كثيراً من اتباع الحق والانقياد له بعد ما ظهرت آياته وبراهينه، قال تعالى:{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ[14]}[سورة النمل].
4 – الإعراض عن الحق والإيمان: الإعراض عن الأدلة السمعية، والأدلة العقلية الصحيحة؛ من أهم موانع الإيمان، قال تعالى:{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ[36]وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ[37]}[سورة الزخرف]. وقال:{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ[10]}[سورة الملك]. فلم يكن لأمثال هؤلاء الذين اعترفوا بعدم عقلهم وسمعهم النافع رغبة في علوم الرسل، والكتب المنزلة من الله، ولا عقول صحيحة يهتدون بها إلى الصواب، وإنما لهم آراء ونظريات خاطئة يظنونها عقليات، وهي جهالات ولهم اقتداء خلف زعماء الضلال منعهم من اتباع الحق؛ حتى وردوا نار جهنم، فبئس مثوى المتكبرين.
5- رد الإيمان بعد معرفته: فيعاقب العبد بانقلاب قلبه ورؤيته الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، قال تعالى:
{ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[5]}[سورة الصف]. لأن الجزاء من جنس العمل.
6- الانغماس في الترف، والإسراف في التنعم: فإنه يجعل العبد تابعاً لهواه، منقاداً للشهوات الضارة، كما ذكر الله هذا المانع في عدة آيات، مثل قوله:{ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ...[44]}[سورة الأنبياء]. وقوله:{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ[45]}[سورة الواقعة]. فلما جاءتهم الأديان الصحيحة بما يعدل ترفهم، ويوقفهم على الحد النافع، ويمنعهم من الانهماك الضار في اللذات؛ رأوا ذلك صاداً لهم عن مؤاداتهم.
وصاحب الهوى الباطل ينصر هواه بكل وسيلة. لما جاءهم الدين بوجوب عبادة الله، وشكر المنعم على نعمه، وعدم الانهماك في الشهوات؛ ولو على أدبارهم نفورًا.
7- احتقار الحق وأهله: احتقار المكذبين للرسل عليهم السلام وأتباعهم، واعتقاد نقصهم، والتهكم بهم، والتكبر عليهم؛ من الموانع الصادة عن وصول الإيمان إلى القلب؛ كما قالوا لنوح عليه السلام:{...أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ[111]}[سورة الشعراء]. وهذا الداء منشؤه من الكبر؛ فإذا تكبر وتعاظم في نفسه، واحتقر غيره؛ اشمأز من قبول ما جاء به من الحق؛ حتى لو فرض أن هذا الذي رده جاءه من طريق من يعظمه لقبله بلا تردد.
8- الفسق: فالفسق أكبر مانع من قبول الحق علماً وعملاً، قال تعالى:{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ[33]}[سورة يونس]. والفسق: هو خروج العبد عن طاعة الله إلى طاعة الشيطان.
والله تعالى لا يزكي من كان هذه حاله؛ بل يكله إلى نفسه الظالمة، فتجول في الباطل عناداً وضلالاً، وتكون حركاته كلها شراً وفساداً؛ فالفسق يقرنه الباطل، ويصده عن الحق؛ لأن القلب متى خرج عن الانقياد لله والخضوع؛ فلابد أن ينقاد لكل شيطان مريد:{ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ[4]}[سورة الحج].
9- حصر العلوم والحقائق في دائرة ضيقة: كما فعل ملاحدة الماديين في حصرهم العلوم بمدركات الحس؛ فما أدركوه بحواسهم أثبتوه، وما لم يدركوه بها نفوه، ولو ثبت بطرق وبراهين أعظم بكثير، وأوضح وأجلى من مدركات الحس، وهذه فتنة وشبهة؛ ضل بها خلق كثير. ولكن المؤمن البصير يعرف بنور بصيرته أنهم في ضلال مبين.
10- تجرء الماديين ومن تبعهم من المغرورين: زعم هؤلاء الماديون: أن البشر لم يبلغوا الرشد، ونضوج العقل إلا في هذه الأوقات التي طغت فيها المادة، وعلوم الطبيعة، وأنهم قبل ذلك لم يبلغوا الرشد. وهذا فيه من الجراءة والإقدام على السفسطة والمكابرة للحقائق، والمباهتة ما لا يخفى على من له أدنى معقول لم تغيره الآراء الخبيثة.
فلو قالوا: إن المادة والصناعة والاختراعات، وتطويع الأمور الطبيعية لم تنضج ولم تتم إلا في الوقت الأخير؛ لصدقهم كل واحد. فإن العقول والعلوم الصحيحة؛ إنما تعرف ويستدل على كمالها، أو نقصها بآثارها وبأدلتها وغاياتها.(/2)
وانظر إلى الكمال والعلو في العقائد، والأخلاق، والدين، والدنيا، والرحمة، والحكمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وأخذها عنه المسلمون وأوصلتهم وقت عملهم بها إلى كل خير ديني ودنيوي، وكل صلاح، وأخضعت لهم جميع الأمم؛ وأنهم وصلوا إلى حالة وكمال؛ يستحيل أن يصل إليه أحد، حتى يسلك طريقهم.
ثم انظر إلى ما وصلت إليه أخلاق الماديين الإباحيين الذين أطلقوا السراح لشهواتهم، ولم يقفوا عند حد؛ حتى هبطوا بذلك إلى أسفل سافلين، ولولا القوة المادية تُمسكهم بعض التماسك لأردتهم هذه الإباحية والفوضى في الهلاك العاجل:{ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ...[42]}[سورة إبراهيم].
ثم لولا بقايا من آداب الأديان بقيت بعض آثارها في الشعوب الراقية صلحت بها دنياهم لم يكن لرقيهم المادي قيمة عاجلة؛ فإن الذين فقدوا الدين؛ عجزوا كل العجز عن الحياة الطيبة، والراحة الحاضرة، والسعادة العاجلة، والمشاهدة أقوى شاهد لذلك.
ثم قد علم بالضرورة أن الرسل عليهم السلام جاءوا بالوحي، والهداية جملة وتفصيلاً، وبالنور والعلم الصحيح، والصلاح المطلق من جميع الوجوه، واعترفت العقول الصحيحة بذلك، وعلمت أنها في غاية الافتقار إليه، وخضعت لما جاءت به الرسل، وعلمت العقول أنها لو اجتمعت من أولها إلى آخرها لم تصل إلى درجة الكتب والحقائق النافعة التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب، وأنه لولاها لكانت في ضلال مبين، وعمى عظيم وشقاء وهلاك مستمر، قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[164]}[سورة آل عمران].
فالعقول لم تبلغ الرشد الصحيح، ولم تنضج إلا بما جاءت به الرسل، ومع ذلك انخداع أكثر الناس بالألفاظ التي يزوق بها الباطل، ويرد بها الحق من غير بصيرة، ولا علم صحيح، وذلك لتسميتهم علوم الدين، وأخلاقه العالية رجعية، وتسميتهم العلوم والأخلاق الأخر المنافية لذلك ثقافة وتجديداً.
ومن المعلوم لكل صاحب عقل سليم: أن كل ثقافة وتجديد لم يستند في أصوله إلى هداية الدين، وإلى توجهاته؛ فإنه شر وضرر، عاجل وآجل.
ومن تأمل ما عليه حال من يسمون [المثقفين الماديين] من هبوط الأخلاق، والإقبال على كل ضار، وترك كل نافع؛ عرف أن الثقافة الصحيحة تثقيف العقول بهداية الرسل، وعلومهم الصحيحة.
ومن تأمل ما جاء به الدين الإسلامي من الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً عرف أنه لا صلاح للبشر إلا بالرجوع إلى هدايته وإرشاده، وأنه كما أصلح العقائد والأخلاق والأعمال؛ فقد أصلح أمور الدنيا، وأرشد إلى كل ما يعود إلى الخير والنفع العام والخاص، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
من كتاب:' الإيمان:حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة' مراجعة وتقديم الشيخ / عبد الرحمن بن صالح المحمود ، إعداد الشيخ/عبد الله بن عبد الحميد الأثر(/3)
أسباب دخول النار
رئيسي :عقائد :الاثنين 4 رمضان 1425هـ - 18 أكتوبر 2004 م
الحمدُ لله، أحمدُه سبحانَه حمدَ الشاكِرين، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله ، وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله، وسائِر أصَحابِه الطَّيِّبين، وعلى أتباعِه في ديِنه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً، وبعد،،،
فإن لدخولِ النار أسباباً بيَّنها اللهُ في كِتابِه، وعلى لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلّم؛ ليَحْذَرَ الناسُ منها ويَجتنبُوها، وهذِه الأسبابُ على نوعين:
النوعُ الأولُ: أسبابٌ مُكَفِّرةٌ تُخرِج فاعلَها من الإِيمانِ إلى الكفرِ، وتوجبُ له الخلودِ في النار.
النوعُ الثاني: أسبابٌ مُفَسِّقَةٌ تُخْرجُ فاعلَها مِنَ العدالةِ إلى الْفِسق، ويَسْتَحِقُ بها دخولَ النارِ دونَ الخلودِ فيها.
فأمَّا النوعُ الأولُ فنَذْكُرُ منه أسباباً:
السبب الأولُ: الشركُ بالله: بأنْ يجعلَ لله شريكاً في الرُّبوبية،ِ أو الألُوهيةِ، أو الصِّفَاتِ. فمَن اعتقد أنَّ مع الله خالقاً مشاركاً، أو منفرداً، أو اعتقد أن مع الله إلهاً يستحق أنَ يُعْبَد، أو عَبَد مع الله غيره فصرف شيئاً من أنواع العبادة إليه، أو اعتقد أنَّ لأحدٍ من العلمِ والقدرةِ والعظمةِ ونحوها مثل ما لله عزَّ وجلَّ؛ فقد أشركَ بالله شرْكاً أكْبَرَ، واستحقَّ الخلودَ في النار، قال الله عزَّ وجلَّ:{...إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[72]}[سورة المائدة].
السبب الثاني: الكفرُ بالله عزَّ وجلَّ، أوْ بملائكتِه، أوكتبِه، أو رسلِه، أو اليومِ الآخرِ، أو قضاءِ الله وقدرِه: فمَنْ أنكر شيئاً من ذلك تكذيباً، أو جَحْداً، أو شكَّ فيه؛ فهو كافرٌ مخلَّدٌ في النار. قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا[150]أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا[151]}[سورة النساء].
السبب الثالثُ: إنكارُ فرض شيء من أركانِ الإِسلامِ الخمسةِ: فَمَنْ أنكرَ فَرِيضَةَ توحيدِ ال،له أو الشهادةِ لرسولِه بالرسالِة، أو عمومِها لجميع الناسِ، أو فريضةَ الصلواتِ الخمسِ، أو الزكاةِ، أو صوم رمضانَ، أو الحجِ فهو كافرٌ؛ لأنه مُكذِّبٌ لله ورسولِه وإجماع المسلمين، وكذلك مَنْ أنكر تحريمَ الشركِ، أو قتلِ النفسِ التي حَرَّم الله، أو تحريمِ الزِّنا، أو اللواطِ، أو الخمرِ، أو نحوها مما تَحْريمُه ظاهرٌ صريحٌ في كتاب الله، أو سنة رسولِه صلى الله عليه وسلّم؛ لأنه مُكَذِّبَ لله ورسولِه، لكن إن كان قريبَ عهدٍ بإسلامٍ، فأنكر ذلك جهلاً؛ لم يَكفُر حتى يُعَلَّم فينكرَ بعد عِلْمِهِ.
السبب الرابعُ: الاستهزاءُ بالله سبحانه، أو بدينهِ، أو رسولِه صلى الله عليه وسلّم: قال تعالى:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ[65]لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ[66]}[سورة التوبة] . والاستهزاء هو السُّخْريَّةُ، وهو من أعظم الاستهانةِ بالله ودينه ورسولِه، وأعظمِ الاحتقارِ والازدراءِ تعالَى اللهُ عَنْ ذلك عُلوَّاً كبيراً.
السبب الخامسُ: سبُّ الله تعالى، أو دينِه، أو رسولِه، وهو القَدْحُ والْعَيْبُ وذِكْرُهُمْ بما يقتضي الاستخفافَ والانتقاصَ كاللَّعنِ والتَقْبِيحِ ونحوِ ذلك. قال شيخُ الإِسلام ابن تيميةَ رحمه الله: ' مَنْ سَبَّ الله، أو رسوله فهو كافرٌ ظاهراً وباطناً، سواءُ كان يعتقد أنَّ ذلك محرمٌ، أو كان مُسْتَحِلاًّ له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاد . وقال أصحابنا: يكفر سواء كان مازحاً أوجاداً. وهذا هو الصواب المقطوع به، ونقل عن إسحق بن راهويه: أن المسلمين أجمعوا على أن من سبّ الله، أو سبَّ رسولَه، أو دفع شيئاً مما أنزَل الله؛ فهو كافرٌ- وإن كان مقرَّاً بما أنزل الله-' وقال الشيخ أيضاً:' والْحُكْمُ في سَبِّ سائِر الأنْبياءِ كالحكم في سبِّ نبيِّنا صلى الله عليه وسلّم، فمَنْ سبَّ نبيَّاً مُسَمَّى باسمه من الأنبياء المعروفينَ المذكورينَ في القرآنِ، أو مَوْصُوفاً بالنُّبوةِ بأن يُذْكرَ في الحديثِ أن نبيَّاً فَعلَ أو قَالَ كذا فَيَسُبَّ ذلك الفاعلَ أو القائل مع عِلمِهِ أنه نبيٌّ فحكمه كما تقدم'. اهـ.(/1)
وأما سبُّ غير الأنبياء: فإن كان الغرض منه سبَّ النبي مثلُ أن يَسبَّ أصحابَه يقصد به سبَّ النبيِّ؛ لأنَّ المقارِنَ يقتدي بمَنْ قارنَه، ومثلُ أن يقذِفَ واحدةً من زوجاتِ النبي صلى الله عليه وسلّم بالزِّنا ونحوه؛ فإنَّه يكفرُ لأن ذلك قَدْحٌ في النبيِّ وسبٌّ له، قال تعالى: { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[26]}[سورة النور].
السبب السادسُ: الْحُكْمُ بغير ما أنزلَ الله مُعْتَقِداً أنَّه أقربُ إلى الْحَقِّ، وأصلحُ للخلْق، أو أنه مساوٍ لحكم الله، أو أنه يجوز الحكم به، فهو كافرٌ: لقوله تعالى:{...وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[44]}[سورة المائدة].
وكذا لو اعتقَدَ أنَّ حكمَ غيرِ الله خيرٌ من حكم الله، أو مساوٍ له، أو أنه يجوزُ الحكمُ به؛ فهو كافرٌ وإن لم يَحْكَمْ به؛ لأنه مكذِّبٌ لقوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[50]}[سورة المائدة]. ولما يقتضيه قوله:{...وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[44]}[سورة المائدة].
السبب السابعُ: النفاقُ: وهو أنْ يكونَ كافراً بقلبِه، ويظهرَ للناسِ أنه مسلمٌ: إما بقولِه، أو بفعلِه، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا[145]}[سورة النساء].
وهذا الصنفُ أعظم مما قَبْلَه؛ ولذلك كانَتْ عقوبةُ أصحابه أشَدَّ، فهمْ في الدركِ الأسفل من النار؛ وذلك لأن كُفْرَهم جامعٌ بين الكفر والخِداع، والاستهزاءِ بالله وآياتِهِ ورسولِه.
علامات النفاق: للنفاق علاماتٌ كثيرةٌ منها:
1- الشَّكُّ فيما أنزلَ الله، وإن كان يُظْهِرُ للناس أنه مؤمنٌ: قال الله عزَّ وجلَّ:{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ[45]}[سورة التوبة].
2- كراهةُ حُكْم الله ورسوله: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا[60]وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا[61]}[سورة النساء].
3- كراهةُ ظهورِ الإِسلامِ وانتصار أهلِه، والفرحُ بخُذْلانِهم: قال تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ[50]}[سورة التوبة].
4- طلبُ الفتنةِ بينَ المسلمينَ، والتفريق بينهَم، ومحبَّة ذلك: قال تعالى:{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[47]}[سورة التوبة].
5- محبةُ أعْداءِ الإِسلامِ وأئِمَّةِ الكفرِ ومدحُهم، ونشرُ آرائِهم المخالفة للإِسلام: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[14]}[سورة المجادلة].
6- لمز المؤْمِنِينَ وعيبُهم في عباداتِهم: قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[79]}[سورة التوبة]. فيعيبونَ المجتهدينَ في العبادةِ بالرِّياءِ، ويعيبون العاجِزينَ بالتَّقْصِير.
7- الاستكبارُ عن دُعاءِ المؤمنينَ احتقاراً وشكّاً: قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ[5]}[سورة المنافقون].
8- ثِقَلُ الصلاةِ والتكاسلُ عنها: قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا[142]}[سورة النساء].(/2)
9- أذِيَّةُ الله ورسولِهِ: قال تعالى:{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[61]}[سورة التوبة]. وقال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا[57]وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا[58]}[سورة الأحزاب].
فهذه طائفةٌ من علاماتِ المنافقينَ ذكرناها للتحذيرِ منها، وتطهيرِ النفسِ من سلوكِها.
اللَّهُمَّ أعذْنَا من النفاق وارزقنا تحقيقَ الإِيمَان على الوجهِ الَّذِي يرضيكَ عنَا واغَفر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمينَ يا ربَّ العالمين وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وآلِهِ وصحبِه أجمعين.
النوع الثاني: وهي الأسبابُ التي يستَحِقُّ فَاعلُها دخول النار دونَ الخلودِ فيها:
السببُ الأوَّلُ: عُقُوقُ الوالِدَين:وعقوقُهما أنْ يقطعَ ما يجبُ لهما من بِرٍّ وصلةٍ، أو يُسيءَ إليهما بالقولِ أو الفعلِ، قال تعالى:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا[23]وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[24]}[سورة الإِسراء]. وقال تعالى: {...أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[14]}[سورة لقمان].
السببُ الثاني: قطيعةُ الرَّحِمِ: وهي أنْ يُقَاطِع الرجلُ قرابته فيمنَعَ ما يجبُ لهم من حقوقٍ بدنيةٍ، أو ماليةٍ، فعن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: [لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ]رواه البخاري ومسلم. قال سفيانُ: يعني قاطعُ رَحِمٍ. وقال صلى الله عليه وسلّم: [ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتْ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَهُ مَهْ قَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَذَاكِ] ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ[22]أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[23]}[سورة محمد] ] رواه البخاري ومسلم.
ومن المُؤْسِفِ أنَّ كثيراً من المسلمين اليومَ غفَلُوا عن القيامِ بحقِّ الوالدينِ والأرحامِ، وقطَعوا حبْلَ الْوَصْل، وحُجَّةُ بعضِهِم أنَّ أقاربَه لاَ يصِلُونَه، وهذه الحجةُ لا تنفعُ؛ لأنه لو كانَ لا يصلُ إِلاَّ مَنْ وصلَه لم تكنْ صلتُه لله، وإنما هي مُكافَأةٌ كما في صحيح البخاريِّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: [لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا]رواه البخاري.
وإذا وصَلَ رَحِمَه وهم يقطعونَه فإنَّ له العاقبةَ الحميدةَ، وسَيَعُودون فيصلُونَه كما وصَلَهم إن أراد الله بهم خيراً.
السبب الثالثُ: أكْلُ الرِّبا: قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[130]وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ[131] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[132]}[سورة آل عمران]. وقد تَوَعَّدَ الله تعالى مَن عَادَ إلى الرِّبا بعد أن بلغتْهُ موعظةُ الله، وتحذيُره توعَّده بالخلودِ في النار، فقال سبحانه: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[275]}[سورة البقرة].(/3)
السبب الرابع: أكل مُال اليتامى ذكوراً كانوا، أم إناثاً، والتلاعب به: قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا[10]}[سورة النساء]. واليتيم هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ.
السبب الخامس: شهادةُ الزُّور: فعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَنْ تَزُولَ قَدَمَا شَاهِدِ الزُّورِ حَتَّى يُوجِبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ] رواه ابن ماجه والحاكم وقال: صحيح الإِسناد. وشهادةُ الزور أنْ يشهدَ بما لا يَعْلَمُ، أو يشهدَ بما يَعْلَمُ أن الواقعَ خلافُه؛ لأن الشهادة لا تجوزُ إلاَّ بما عَلِمه الشاهدُ.
السببُ السادس: الرِّشوةُ في الحُكْمِ: فعن عبدِالله بن عمْرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: [الرَّاشِي والْمُرْتَشِي فِي النّار]رواه الطبراني ورُوَاتُهُ ثقات معروفونَ، قاله في الترغيبِ والترهيب. قال في النهايةِ: الراشِي: من يُعْطِي الذي يُعِيْنُه على الباطِل، والمرتِشي: الآخذ. فأَمَّا ما يُعطَى تَوَصُّلاً إلى أخذِ حقٍّ أو دفعِ ظلمٍ فغيرُ داخلٍ فيه. اهـ.
السببُ السابعُ: اليمينُ الغَموسُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ]رواه البخاري ومسلم. وسُميتْ غَموساً لأنها تَغْمِس الحالفَ بهَا في الإِثمِ ثُم تغمسِهُ في النارِ. ولا فرقَ بينَ أنْ يحلِف كاذباً على ما ادَّعاهُ فيُحْكمَ له به، أو يحلفَ كاذباً على ما أنكَرَه فيُحكَمَ ببراءته منه.
السببُ الثامنُ: القضاءُ بين الناسِ بغير علمٍ، أو بِجورٍ وميلٍ: لحديثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ] رواه أبو داود والترمذيُّ وابنُ ماجة.
السبب التاسعُ: الغِشُّ للرعيَّةِ، وعدمُ النصحِ لهم، بحيثُ يَتَصَرّفُ تصرُّفاً ليس في مصلحتهم، ولا مصلحةِ العملِ: لحديث: [مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ]رواه البخاري ومسلم. وهذا يعمُّ رعايةَ الرجلِ في أهلِه، والسلطانَ في سلطانِه، وغيرهم؛ لحديث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ] رواه البخاري ومسلم.
السبب العاشر: تصويرُ ما فيهِ رُوْحٌ من إنسانٍ، أو حيوانٍ: فعن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [ كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ]رواه البخاري ومسلمٌ-واللفظ له-. فأما تصوير الأشجار والنباتِ والثمراتِ ونحوها مما يخلقُه الله من الأجسام الناميِة فلا بأسَ بِه على قول جمهورِ العلماءِ.
السبب الحادي عشر: ما ثبتَ في الصحيحين عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ] رواه البخاري ومسلمٌ. فالعتلُّ: الشديدُ الغليظُ الذي لا يلين للحَقِّ، ولا للخلقِ، والجَّواظُ: الشحيحُ البخيل فهو جمَّاعُ منَّاعُ، والمستكبرُ: هو الذي يردُّ الحقَّ ولاَ يتواضعُ للخلقِ فهو يرَى نفسه أعلى من الناس ويرى رأيَه أصوبَ من الحقِّ.
السبب الثاني عشر: استعمالُ أواني الذَّهب والفضةِ في الأكلِ والشرب للرجالِ والنساءِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَنْ شَرِبَ فِي إِنَاءٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارًا مِنْ جَهَنَّمَ] رواه البخاري ومسلمٌ-واللفظ له-.(/4)
فاحذرُوا إخواني أسبابَ دخولِ النار، واعملُوا الأسبابَ التي تُبْعِدُكم عنها؛ لتفوزُوا في دارِ القرارَ، واعلمُوا أن الدنيا متاعٌ قليلٌ، سريعةُ الزوالِ والانهيار، واسألوا ربَّكم الثباتَ على الحقِّ إلى الممات، وأن يحشُرَكم مع الذين أنعمَ الله عليهمْ من المؤمنين والمؤمنات..اللَّهُمَّ ثبّتْنَا على الحقِّ وتوفَّنا عليه، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبهِ أجمعين.
من كتاب:'مجالس شهر رمضان' للشيخ/محمد بن صالح العثيمين رحمه الله(/5)
أسباب دفع العقوبات عن الأمم
ناصر بن يحيى الحنيني
honini48@hotmail.com
الحمدلله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، الحمدلله ولي الصالحين ، وقاصم الجبابرة والظالمين، وناصر المؤمنين والمستضعفين ، الحمدلله حمداً يليق بجلاله ذو القوة المتين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وإمام العلماء وقدوة الدعاة والمجاهدين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأطهار الأبرار حماة الدين وحملة رسالة رب العالمين إلى الناس أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أمابعد:
عباد الله إن من جوانب تدبر القرآن الكريم : تتبع السنن على الأمم التي وقعت في القديم والتي حلت عليها بسبب انحرافها عن الصراط المستقيم والمنهج القويم ، وتكمن الفائدة وتحصل العبرة والعظة في البحث والتدبر والتفكر في أسباب هذه العقوبات ، والتفكر فيما ذكره الله في كتابه في أسباب دفع هذه العقوبات وعوامل النجاة من غضب رب الأرض والسموات .
أيها المؤمنون :إن هذه العقوبات كثيرة متنوعة قص الله بعضها في كتابه مجملة ومفصلة وأمرنا بتدبرها وأخذ العبرة والعظة حتى لا نقع فيما وقعوا فيه فيحل علينا ما حل بهم ، وذكر سبحانه رحمة بنا وفضلاً منه على عباده بعض العوامل التي إذا أخذ بها الأفراد والمجتمعات والأمم رفعت عنهم العقوبات ودفعت.
قال سبحانه :(قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)آل عمران [137].
وقال سبحانه : (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) يونس [39].
والله سبحانه لما قص لنا حال الأمم الماضية أمرنا بأخذ العبرة والعظة وعدم السير على طريقهم ومنهجهم فقال سبحانه : (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) التوبة [69-70].
أيها المؤمنون : إن الأمة في الأزمنة المتأخرة تعرضت لعقوبات ربانية -وهي في ازدياد- ونحن نعيش مرحلة صعبة ومن تدبر حال الأمة وحالها مع هذه الأزمات يأخذه الخوف والعجب من صنعها ومواقفها ، وإن المخرج من هذه الفتن بسلام وأمان لن يكون إلا بالعمل بكتاب الله وسنة رسول الكريم صلى الله عليه وسلم ففيهما النور والهدى ، ومن خلال تدبر كتاب الله في معرفة الأسباب والعوامل لدفع العقوبات عن الأمم نخلص إلى أهمها وهي كالتالي :
العامل الأول : الإيمان بالله وبوعد الله .
الله عزوجل وعد ومن أصدق من الله قيلاً أن أي أمة آمنت بالله حق الإيمان ولم تفرط بهذا الإيمان الذي هو سر قوتها ونصرها على آعدائها وعدها بالنجاة وقت الأزمات فقال سبحانه : (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين) يونس [103]. ، ويقول سبحانه : (ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) فصلت[18].
العامل الثاني : الإصلاح والدعوة إلى الله ومحاربة الفساد
قال سبحانه : (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)هود[116-117] وتدبر هذا السبب العجيب للنجاة (النهي عن الفساد والإصلاح ) ولايمكن إصلاح من غير نهي عن الفسادوهذا بنص القرآن. ، والإصلاح يبدأ من أنفسنا فإذا صلحت استطعنا إصلاح غيرنا فالله الله بتقوى الله عزوجل فإن لن يغير حالنا وينجينا إلا إذا بادرنا بإصلاح أنفسنا قال سبحانه : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) .
والخطير في الأمر أن سبب هلاك الأمم السابقة أنها ردت ورفضت دعوة المصلحين ودعوة الناصحين قال سبحانه : (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) البقرة [10]. وقال سبحانه :( إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) طه [48].فالعذاب على من أعرض ولم يستجب للناصحين.وقال سبحانه : (إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب) ص [14].وقال سبحانه : (فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين) الأعراف [64].وقال سبحانه : (فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) الأعراف[136].وقال جل وعلا : (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما) الفرقان[37].وقال سبحانه : (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب)آل عمران[11].
العامل الثالث : البعد عن الغفلة والبعد عن اللهو والعبث والاستمرار على الطاعة والذكر:(/1)
قال سبحانه : (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) الأعراف [95-99]
ويقول سبحانه مبينا أن الغفلة والنسيان سبب من أسباب العقوبة : (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) الأنعام [44].
قال الحسن –رحمه الله -: " مكر بالقوم ورب الكعبة أُعطوا حاجتهم ثم أُخذوا" أ.هـ ، ويقول قتادة –رحمه الله -:" بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغِرّتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله ، إنه لا يغتر إلا القوم الفاسقون"أ.هـ
وجاء في المسند عن عقبة بن عامر –رضي الله عنه –عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون).."وهو حديث حسن
العامل الرابع :التوبة والاستغفار من الذنوب، والإقلاع عنها فراداً وجماعات وعدم المجاهرة والإعلان بما يغضب الله فإن المعاصي نذير شؤم على الأمة كلها .
يقول جل وعلا : (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) الأنفال[33].قال ابن عباس في تفسير هذه الآية:"كان فيهم أمانان : النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار ، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار".
والرسول صلى الله عليه وسلم لما سألته زوجه رضي الله عنها فقالت :" أنهلك وفينا الصالحون "؟ قال :" نعم إذا كثر الخبث". والخبث هو كل ما يغضب الله من المعاصي والموبقات والجرائم التي يعلن بها ويسر والله المستعان.
العامل الخامس : الدعاء والتضرع والاستغاثة بالله :
فإن الله لا يرد من سأله : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) ويقول سبحانه : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم) والله سبحانه قد بين أن سبب هلاك بعض الأمم أنها تركت التضرع واللجوء إلى وقت الأزمات والحاجات فقال سبحانه : (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) الأنعام [43].
ويقول سبحانه : (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون)الأعراف [94].
يقول الحافظ ابن كثير : " وتقدير الكلام : أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا فما فعلوا شيئاً من الذي أراد الله منهم "أ.هـ، وإن الدعاء من أعظم مظاهر عبودية المؤمن لربه وفيها يظهر حاجته وفقره وعجزه وذلته بين يديه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل عند نزول النوازل والحوادث يهرع لدعاء ربه والتضرع بين يديه .
العامل السادس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
فإن الأمر بالمعروف من أعظم أسباب دفع العقوبات عن الأمة كيف لا يكون كذلك وهو سبب رفعتها وخيريتها ، فإذا ادلهمت الخطوب وخيف من نزول العقوبات الربانية فإن من أعظم أسباب رفع العقوبات والنجاة وقتها هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقول جل وعلا : (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) الأعراف[165].
وقال صلى الله عليه وسلم : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ ).
وقال صلى الله عليه وسلم : (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)رواه البخاري .
أيها المسلمون : إذا أردنا النجاة والنصر والفوز لنحيي هذه الشعيرة في حياتنا حتى ننجوا جميعا في بيوتنا وأعمالناوأسواقنا لنقف صفاً واحداً ضد من يريد خرق السفينة لنقف مع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عل الله أن يرحمنا ويرفع عنا مقته وغضبه .
العامل السابع : رفع الظلم ونشر العدل وإعطاء الحقوق إلى أهلها:(/2)
وعدم فرض الضرائب والمكوس فإن هذا كله مؤذن بعقوبة عاجلة ، قال سبحانه : (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) هود[102].وجاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه – قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) .
وإن أعظم الظلم هو الشرك بالله عزوجل وعبادة غيره فالأمم الماضية كانت تمارس أنواعاً من الظلم أعظمها وأخطرها الشرك بالله عزوجل فقال سبحانه : (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين) يونس [13].وقال سبحانه : (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) هود [67]. وقال سبحانه :( ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) هود [94].وقال سبحانه مبينا سبب هلاك القرى والديار : (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) الكهف[59].أقول ماتسمعون واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
العامل الثامن : وحدة الصف والكلمة وعدم التفرق والتشرذم :
فإن الفرقة والتنازع هي عقوبة في ذاتها كما قال سبحانه : (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) الأنعام [65]. فالله الله ياأمة الإسلام أن ينقض علينا عدونا ونصاب بالوهن والضعف بسبب انشغالنا بالطعن والتجريح في بعضنا شعوبا ودولاً ، أفراداً ومجتمعات ولنكن كالبنيان المرصوص ولنعمل بوصية ربنا حيث قال : (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)آل عمران [103 ].
والله سبحانه قد نهانا عن التفرق والتشرذم فإنها سبب للضعف وهي طريقة ومنهج الظالين من الأمم فقال سبحانه : (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) الأنفال [46].ونمتثل أمره سبحانه لما قال : (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم )
العامل التاسع : عدم الغرور والعجب والتفاخر والتكبر والتعالي على الخلق:
فإن الله سبحانه أنزل عقوبة بأفضل الخلق بعد الأنبياء وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فقال جل وعلا : (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين) التوبة[25].
واسمع لقول الله جل وعلا : (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)يونس [24].تدبر معي قوله ( وظن أهلها أنهم قادرون عليها ) ما أجهلك أيها الإنسان وما أظلمك ، ويقول الله سبحانه عن سبب عقوبة أمة من الأمم وهم قوم عاد أنهم اغتروا وتكبروا بقوتهم ونسوا أن الذي أعطاهم القوة هو القوي العزيز سبحانه فقال جل وعلا :( فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون) فصلت [15].وإننا والله لما نسمع ما يتبجح به أعداء الله من اليهود والنصارى ونرى غطرستهم وكبرهم وخيلائهم نقول إنها والله البشارة بقرب زوال ملكهم ومجدهم لأنها سنة لاتتبدل وقد أهلك الله قريش لما خرجت كبراً وبطراً تريد حرب المؤمنين يوم بدر فقال سبحانه : (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) الأنفال[47].
وهذا قارون أهلكه الله وهو في أبهة مجده وفي قمة غطرسته فقال سبحانه : (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) إلى أن قال سبحانه : ( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) القصص [81].
الصفحة الرئيسة(/3)
أسباب زيادة الإيمان ونقصانه
المصدر/المؤلف: محمد بن إبراهيم الحمد ... أرسلها لصديق
عرض للطباعة
عدد القرّاء: 1980
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه رسالة قصيرة في بيان أسباب زيادة الإيمان ونقصانه، نسأل الله تعالى أن ينفع بها.
حرص السلف على زيادة إيمانهم:
1- كان عمر يقول لأصحابه: ( تعالوا نزدد إيماناً ).
2- وابن مسعود يقول: ( اجلسوا بنا نزدد إيماناً )، ويقول في دعائه: ( اللهم زدني إيماناً ويقيناً وفقهاً ).
3- وكان معاذ يقول: ( اجلسوا بنا نؤمن ساعة ).
أسباب زيادة الإيمان:
1 - تعلم العلم إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ .
2 - قراءة القرآن بالتدبر والتفهم إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .
3 - معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وعبادته عز وجل بمقتضى تلك المعرفة.
4 - تأمل سيرة النبي .
5 - تأمل سيرة السلف الصالح.
6 - تأمل محاسن الدين الإسلامي.
7 - التأمل في آيات الله الكونية.
8 - الاجتهاد في العبادة، والإكثار من الأعمال الصالحة من صلاة، وزكاة، وصدقة، وصيام، وحج، وعمرة، وذكر، واستغفار، ودعاء، وصلة رحم، وغير ذلك.
9 - الاهتمام بأعمال القلوب من خوف، وخشية، ومحبة، ورجاء، وإخبات، وتوكل، وغير ذلك.
10 - الإحسان إلى عباد الله.
11 - الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
12 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب القدرة والاستطاعة.
13 - مجالسة أهل الخير.
14 - الإعراض عن مجالس الخنا والزور.
15 - الإمساك عن فضول الطعام، والكلام، والمنام، ومخالطة الأنام.
16 - غض البصر.
17 - التعفف عما في أيدي الخلق.
18 - صدق اللهجة؛ فإن الصدق يهدي إلى البر.
19 - النظر إلى من أعلى في أمور الدين، وإلى من هو أسفل في أمور الدنيا.
أسباب نقص الإيمان:
1 - الجهل.
2 - الغفلة.
3 - الإعراض والنسيان.
4 - فعل المعاصي.
5 - الحسد.
6 - قرناء السوء.
7 - الشيطان.
8 - النفس الأمارة بالسوء.
9 - الدنيا وفتنتها.
10 - إطلاق البصر في النظر إلى ما حرمه الله.
11 - إطلاق اللسان بالغيبة، والنميمة، والجدال بالباطل.
12 - سماع ما يغضب الله من الغناء وزور الكلام وغير ذلك.
13 - كثرة الأكل، والشرب، والنوم، والخلطة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/1)
أسباب سوء الخاتمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [ آل عمران: 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [النساء : 1]والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
إن المؤمنين يتخوفون من سوء الخاتمة ويسألون الله أن يتوفاهم على الإسلام.
وكما أن لحسن الخاتمة أسباباً من أخذ بها فإنه يرجى أن يختم له بخاتمة طيبة وتتوفاهم الملائكة طيبين يبشرونهم ويطمئنونهم ويثبتونهم. فإن لسوء الخاتمة كذلك أسباباً من سلكها خشي عليه أن يموت على غير الإسلام أو أن يخذل عند الموت ولا يوفق .. ولقد ذكر العلماء أسباباً لسوء الخاتمة:
منها سوء المعتقد وفساده والتعبد بالبدع ومخالفة هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن أهل البدع الذين يتعبدون بحسب أهوائهم أو إتباعاً لساداتهم وكبرائهم دون دليل ولا برهان من الله ورسوله يختم لهم بالسوء ومن تلك غلاة الباطنية الذين يقدسون الأشخاص لاعتقادات فاسدة ويغيرون الشريعة التي جاء بها محمد رسول الله بيضاء نقية أو غلاة المتصوفة الذين يقولون بقول النصارى في الاتحاد والحلول أو كالعلمانيين الذين يعطلون الإسلام ويعملون بغيره في السياسات وإدارة شؤون الحياة.
هؤلاء الذين يبتدعون ويشرعون ما لم يأذن به الله من أهل الأهواء والبدع هم أكثر الناس شكاً واضطراباً عند الموت، وذلك لسوء معتقدهم وفساد قلوبهم، وليس أضل ممن يتعبد ويجتهد ويظن أنه على شيء ثم يتبين له آخر المطاف أنه ليس على شيء من الدين الحق الذي أكرمنا الله به وأمرنا باتباعه والانقياد له باطناً وظاهراً .. قال تعالى عن الذين يتقربون إليه ولكن على غير دينه ومراده ? قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً?[الكهف:103-104].
وكم ختم لكثير من البشر بالسوء والعياذ بالله بسبب ما ابتدعوا في دين الله عز وجل، وزاغوا وانحرفوا عن صراطه المستقيم، وظهرت حقيقتهم في أول لقائهم مع ملك الموت وانتقالهم لرب العالمين يقول أحدهم ممن كان يتظاهر بالزهد والصلاح وهو مبتدع ضال يقول عند موته:
ألا أبلغ أحبائي بأني ركبت البحر وانكسر السفينة
على دين الصليب يكون موتي فلا البطحا أريد ولا المدينة
ومن أسباب سوء الخاتمة مخالفة الباطن الظاهر، فقد يكون الإنسان بظاهره يعمل بطاعة الله عز وجل ، ولكنه يبطن النفاق والرياء، أو يكون في قلبه دسيسة من دسائس السوء ، كالكبر أو العجب .. فيظهر ذلك عليه في آخر عمره، ويختم له به فتكون الخسارة الأبدية، كما في قصة الرجل الذي كان يقاتل مع رسول الله r ويبلي أحسن البلاء، ولكنه لم يرد بذلك وجه الله، وأن تكون كلمة الله هي العليا ، وإنما كان ذلك رياء وسمعة فلما جرح استعجل الموت فانتحر فقال النبي r : "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار"(1) فقال - صلى الله عليه وسلم - فيما يبدو للناس، يدل على أن باطنه خلاف ظاهره، ولا يمكن أن تسوء خاتمة من صلح ظاهره وباطنه وصدق مع الله ، فحاشَ لفضل الله وكرمه أن يتخلى عن عباده الطيبين ، وكم رأينا وسمعنا في عصرنا من أخبار المنتكسين والمتساقطين من الذين كانوا يظهرون على مسرح الحياة بالتقوى والصلاح وهم يخادعون الله والذين آمنوا ، فختم لهم بسوء والعياذ بالله.
ومن أسباب سوء الخاتمة الانغماس في الفجور والمعاصي والإدمان عليها حتى يأتيه الموت وهو في غمرة وله .. فيخذل عند الاحتضار والانتقال إلى الله وربما يتعذر عليه النطق بالشهادة.
وقد نقل عن بعضهم ممن كان يدمن على الخمر والعياذ بالله ، فلما لقنوه الشهادة جعل يقول اشرب واسقني ثم مات على ذلك.
ونقل عن بعضهم ممن كانوا يتعاملون بالربا فلما ذكر بالشهادة عند الموت جعل يقول المائة بمئة وعشرة .. ومات وهو يردد ذلك.(/1)
وآخر كان يغني ويرقص فلما جاءه الموت قيل له قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء ويردد كلمات الغناء حتى مات. وقد شاهدنا من مات وهو يعزف على العود وآلة الطرب. فطول الإلف بالمعاصي يقتضي تذكرها عند الموت، وعودها في القلب وتمثلها فيه، وميل النفس إليها وإن قبض روحه في تلك الحالة يختم له بسوء ، نعوذ بالله من الخذلان ومن سوء الخاتمة.
بعض المسرفين على أنفسهم ممن يقعون فيما حرم الله يقعون في الزنا وقد يذهبون إلى بلاد الكفار ليمارسوا البغاء .. فيصابوا بالإيدز فيموتون بعلته .. أو يموتون بجلطة أو سكتة وهم يعاقرون الحرام.
وإن من أسباب سوء الخاتمة طول الأمل: فقد جاء في الأثر بأن صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل.
وقال عمر بن عبد العزيز : لا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم وتنقادوا لعدوكم.
وطول الأمل له سببان : أحدهما الجهل الذي يدفع بالإنسان إلى الغفلة ويظن أنه شاب فيستبعد الموت ، وقد يستبعده لقوته وصحته، ويستبعد الموت فجأة، فالجهل إذاً يدعوا إلى طول الأمل والغفلة عن التأهب للموت القريب والاستعداد له، ونحن دائماً نرى الموتى ونشيعهم ونهيل عليهم التراب ولا نقدر أننا سنكون واحداً من أولئك، لأن هذا مشهدٌ متكررٌ ومألوف، فالتسويف والغفلة جهل محض يرتكبه الإنسان. ولقد أحسن من قال:
تنام ولم تنم عنك المنايا تنبه للمنية يا نؤوم
تموت غداً وأنت قرير عين من الغفلات في لجج تقوم
لهوت عن الفناء وأنت تفنى وما حي على الدنيا يدوم
وأما السبب الآخر لطول الأمل فهو حب الدنيا ومحبة الدنيا والتعلق بها ونسيان الله والدار الآخرة من أعظم أسباب سوء الخاتمة، لأن من غلب على قلبه حب الله عز وجل والدار الآخرة حسنت خاتمته في الغالب ومن غلب على قلبه حب الدنيا والتعلق بأسبابها ساءت خاتمته في الغالب ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. قال أحد الصالحين: الدنيا خمر الشيطان من سكر منها فلا يفيق إلا في عسكر الموتى نادماً بين الخاسرين.
وقال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب، قال له ليت شعري مالنا عند الله تعالى غداً؟ قال: اعرض نفسك على كتاب الله عز وجل. قال وأين أجده من كتاب الله عز وجل، قال : قال تعالى: ? إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ?[الانفطار:13-14]. قال له كيف العرض على الله غداً؟ قال أبو حازم: أما المحسن كالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء كالآبق يقدم به على مولاه، فبكى سليمان حتى علا نحيبه واشتد بكاؤه.
الخطبة الثانية:
من الأمور التي استجدت في حياتنا هذه الأيام وأصابت الناس جميعاً إلا المترفين. ارتفاع الأسعار، وازدياد المعاناة ولن أتحدث في هذا الأمر كثيراً إذ أن الناس يتحدثون عن ذلك ويكادون يجمعون على استنكارهم وعدم ارتياحهم لما يجري في هذه البلاد من سياسات عقيمة لا تثمر خيراً وإنما تجلب الخراب والدمار.
ولكنني أقول لكم إن قضية الفقر والغنى والغلاء والرخاء والشدة وجور الحكام، كل ذلك لا يزول إلا إذا رجعنا إلى الله وصدقنا في تحقيق عبوديته واللجوء إليه وأخذنا بالأسباب الشرعية التي أمرنا الله بها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم ومحبة الخير للناس جميعاً والتعاون على البر والتقوى والتناصر والتكافل . إن فعلنا ذلك فسوف يستجيب الله دعاءنا ويغدق علينا الخيرات والنعم وينتقم من الظالمين الذين يتسلطون على الأمة ويفرضون عليها سياسة الإذلال والإفقار والتجهيل والتبعية لليهود والنصارى ، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
أما القضية المحورية التي تعيشها الأمة كلها فهي قضية العدوان السافر والمتصاعد الذي يمارسه اليهود ومن خلفهم ضد هذه الأمة والمتجسد واقعاً في فلسطين أرض النبوات والرسالات أرض الجهاد والرباط والاستشهاد والبطولات ، إن الشعب الفلسطيني الأعزل المجاهد يسطر أعظم الملاحم والبطولات ضد أعتى قوة غاشمة في العصر الحديث، وتتجلى تلك البطولات في الدفاع المستميت عن المسجد الأقصى والأرض المباركة ، إن الشعوب التي تُقْصَف ويُعْتدى عليها تلوذ بالفرار والنزوح وهؤلاء الأبطال صامدون يهدمون عليهم البيوت فينصبون الخيام، ويواجهون أعتى وأحدث ما تنتجه المصانع الأمريكية من أسلحة بالصبر والحجارة متوجهين إلى السماء طالبين من الله وحده النصر والعون والمدد ، بعد أن قطعوا رجاءهم من الزعامات العربية العميلة التي أسلمت قيادها لليهود، وغرقت في لهوها وعبثها وفسادها وترهلت وأسِنت، هذه القيادات قد تجردت من كل معاني الرجولة والشهامة والنجدة والغيرة على الدين والأعراض ، إنها أشباح ودُمى لا حياة فيها ولا حركة، وما لجرح بميت إيلام.(/2)
هذه صورة من صور البطولة يسطرها الشعب الفلسطيني بمفرده. والصورة الأخرى التي تجسدت في واقعه ذلك الإجماع والتلاحم والاتفاق بين كل الفرقاء على ضرورة المقاومة والجهاد فلا تعايش مع هذا العدو الغاشم ولا تفاوض ولا سلام ولا تطبيع وبذلك يحطمون كل مؤامرات الحكام الخونة الذين يسوقون الأمة إلى الذلة والخضوع للكافرين ويكبلونها بالاتفاقيات والبرامج والسياسات الكاذبة الآثمة الخاطئة الهادفة إلى تدمير الأمة في دينها وعقيدتها وأخلاقها وفي تعليمها واقتصادها وكل مقومات حياتها.
إن الشعب الفلسطيني قد اكتسب في تقديري من خلال الظلم والمعاناة اكتسب مناعة ضد الخوف من اليهود فلا يخيفه منهم شيء ونرجوا أن تكتسب الأمة جميعها هذه المناعة وتسقط أسطورة الجبن والخوف .
أيها المسلمون: هذا الشعب الأبي المجاهد الذي يخوض المعركة وحده، هل نقف موقف المتفرج على ما يجري له على مرأى ومسمع؟
أين الدين أيها الإخوة؟ أين الغيرة والحمية؟ وأين النصرة والمشاركة؟.
أيها المؤمنون: اعملوا بكل ما تستطيعون لنصرة إخوانكم بالرأي وبالنفس وبالمال والدعاء، بالقلم واللسان. بمطالبة الحكام باتخاذ خطوات عملية لنصرة المقدسات وحماية المسلمين إنني أتعجب غاية العجب ولدينا أكثر من خمسين دولة متمسلمة تملك المال والسلاح والجيوش لماذا لا تشكل قوة تدخل سريع وردع على غرار ما تفعله الدول الكافرة لحماية مصالحها.
أيها المؤمنون: إن واجب النصرة يقتضي منا أن نشارك ونساهم بما نستطيع ، ونستطيع أن نفعل الكثير. لابد من إعلان حالة الطوارئ في حياتنا على الأقل لنشعر بخطر اليهود والنصارى ، فها هي برامجهم تعرض علينا !! وتمرر بواسطة أذنابهم ولنعد للأمر عدته ونأخذ بالأسباب التي أمرنا الله بها في الإعداد والاستعداد، فاليهود والنصارى لن يتركونا أبداً ولكن القضية قضية وقت .
فلا بد من أخذ الحيطة والحذر ومعرفة رموزهم وعملائهم في أوساطنا ورصدهم وتضييق الخناق عليهم، فهم طلائع الغدر والخيانة والتآمر، وهم سبب المشكلات ?... هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ...?[ المنافقون:4] .
أيها المؤمنون: تبرعوا لإخوانكم وقفوا معهم، ضحوا بشيء من لذائذكم لا داعي لشراء الدخان، لا داعي لشراء القات بالمبالغ الطائلة، لا داعي للإكثار من الكماليات ولو لوقت محدود .. جاهدوا في الله حق جهاده وأنفقوا وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
ـ صحيح البخاري ج2 كتاب الجهاد والسير. باب: لا يقول فلان شهيد. الحديث رقم: 2742 وصحيح مسلم.
ج1 كتاب الإيمان. باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة.
الحديث رقم:112(/3)
أسباب صحة القلب وفساده
الحمد لله الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى ، الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الحمد لله الحق المبين الذي هو على كل شيء قدير ، وأشهد أن لا إله إلا الله والصلاة والسلام على من بعثه الله بشيراً ونذيراً للعالمين نبينا وحبيبنا محمد ، وعلى آله وصحابته الغر الميامين ، وعنا معهم بمنك وكرمك ياأكرم الأكرمين . . . أما بعد :
فالقلب مصدر السعادة والشقاء للإنسان ، فإن احتوى على نفس مطمئنة ومؤمنة بلقاء الله وبجنته وناره فصاحبه من السعداء ، وإن احتوى على نفس أمارة بالسوء وتدفع للمعاصي والذنوب والفواحش فصاحبه من الأشقياء ـ عياذاً بالله من ذلك ـ فإذا صلح القلب صلح سائر الجسد واستبشر صاحبه بالخير والنور ، وكان من أهل الخير والسرور فهو في الدنيا بصير العين والقلب ، ذو بصيرة ونضر ثاقب ، يراقب الله عز وجل في السر والعلانية ، يرجو رحمة الله ، ويخشى عذابه ، تتوق نفسه للقاء الله عز وجل ، ليجد ما أعد الله له من النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، فهو من السعداء في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة ، علم حدود الله فوقف عندها ولم يتعداها ويتخطاها إلى ما حرم الله بل التزم بما أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو وقّاف عند حدود الله و محارمه يقوم بأوامر الله ، ويجتنب نواهيه ، فهنيئاً لهذا القلب المطمئن هنيئاً له بما أعد الله له من نعم لا تعد ولا تحصى ، وهذا هو القلب السليم ، أما القلب الأخر وهو القلب السقيم المريض فإنه قلب فاسد ، وسيفسد سائر الجسد ، فصاحبه ذو قلب مكبوب منكوس تغيرت فيه ملامح الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فهو يدعو صاحبه إلى فعل الفواحش الظاهرة والباطنة لايقف عند حدود الله ، عرف محارم الله فارتكبها ، واستوعب أوامر الله فتركها وانصرف عنها ، استوثق بقفل الذنوب والمعاصي ، وأغلق عليه وأحكم الغطاء ، فهذا الجسد الذي احتوى هذا القلب فهو كالبيت الخرب ، دمار ظاهره وباطنه ، فصاحبه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ، انكب على الشهوات والهوى ، أعمى البصر والبصيرة ، مطموس الفطرة والخلقة ، اجترأ صاحبه على فعل كل فاحشه ورذيلة ، وارتكاب كل معصية وخطيئة ، لا يردعه رادع ، ولا يمنعه مانع ، فهو لم يطع الخالق سبحانه ، بل تعدى حدوده ، قال تعالى: { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين } ( النساء 14 ) ، لا يمل ولا يفتر عن مشاهدة الأفلام الخليعة وسماع الأغاني الماجنة ، لا يمل ولا يكل من العكوف على الدشوش وما فيها من هرج ومرج ، وما فيها من بعد عن الله وأوامره ، يفعل الفواحش غير آبه بما أعد الله له من العذاب والسعير في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة فكيف بصاحب هذا القلب إذا احتوشته ملائكة العذاب ، سود الوجوه أصواتهم كالرعد القاصف ، كيف بهذا المسكين عندما يوضع في قبره ليس معه أنيس ولا جليس إلا عمله القبيح ، كيف به في وحشة القبور والعذاب يأتيه من كل مكان فإنا لله وإنا إليه راجعون ، كيف بهذا المخلوق إذا تشققت السماء بالغمام وتنزلت الملائكة الكرام وتطايرت الصحف فآخذ صحيفته باليمين وآخذ صحيفته بالشمال أو من وراء ظهره ، كيف بهذا المسكين إذا قيل له { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } ( الإسراء14 ) ، ماذا تفعل يا مسكين إذا ناداك الملائكة للحساب والعتاب ، إذا نوديت أين فلان بن فلان تقدم للحساب ؟ كيف ستقابل جبار السماوات والأرض وكل شيء محصى عنده { في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } ( طه52 ) ، كيف بك أيها الغافل عندما تنطق وتشهد عليك جوارحك بكل ما فعلته وقلته ، يقول تبارك وتعالى : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } ( النور24 ) ، وقال تعالى : { ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاءُوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } ( فصلت 19/20 ) ، فأين المفر ؟ وأين الملجأ ؟ وأين المهرب ؟ قال تعالى : { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } ( الذاريات 50 ) ، ماذا ستقول للخالق سبحانه ؟ ماذا ستقول لعالم الخفيات ، قال تعالى : { يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } ( الحاقة 18 ) ، هذا القلب هو القلب المطموس بصيرته ، المريض سريرته .
قيل أن لقمان دفع إليه سيده بشاة وقال اذبحها وائتني بأطيب ما فيها ، فأتاه بالقلب واللسان ، ثم بعد أيام أتاه بشاة أخرى وقال له اذبحها وائتني بأخبث ما فيها ، فأتاه بالقلب واللسان ، فسأله سيده عن ذلك ، فقال : ما أطيبهما إذا طابا ، وما أخبثهما إذا خبثا .
أسباب صلاح القلب :
1ـ قراءة القران بالتدبر والتفكر فيه ، وفيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
2ـ تقليل الأكل .
3ـ قيام الليل وإحياؤه بالعبادة .
4ـ الدعاء واغتنام أوقات الإجابة .
5ـ مجالسة الصالحين .
6ـ الصمت عما لا يعني .
7ـ الابتعاد عن أهل الفسق والمعاصي .(/1)
8ـ أكل الحلال والابتعاد عن أكل الحرام والمشتبه .
9ـ اجتناب المنكرات والملاهي .
10ـ اغتنام الأوقات بالنافع من الأقوال والأعمال .
11ـ الإكثار من الصيام ، والتتابع بين الحج والعمرة .
12ـ الخلوة بالنفس ومحاسبتها .
13ـ العلم بأن الله مطلع على الأقوال والأعمال .
14ـ بر الوالدين .
15ـ زيارة القبور فإنها تذكر الآخرة .
16ـ الصدقة ، وتفقد الفقراء والمساكين ومعرفة أحوالهم .
17ـ زيارة المرضى ، ومن يعانون سكرات الموت .
18ـ المحافظة على الصلوات جمعة وجماعات .
19ـ التفكر في مخلوقات الله تعالى .
20ـ النظر في عواقب الظلمة والطغاة والمفسدين الذين قصهم القرآن ، أو من نسمع عنهم في هذه الأزمان .
أسباب مرض القلب :
1ـ البعد عن الحق بعد معرفته ، قال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لايهدي القوم الفاسقين } ( الصف5 ) .
2ـ أكل الحرام ، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم [ الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب ، يارب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام وغذي بالحرام ، فأنا يستجاب لذلك ] ( مسلم ) .
3ـ فعل المعاصي ، فإن المعاصي تؤثر في القلوب ، قال تعالى :{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } ( المطففين14 ) .
4ـ استماع المحرم من الكلام مثل الغناء وغيره ، فالغناء صوت الشيطان ، قال تعالى :{ واستفزز من استطعت منهم بصوتك } ( الإسراء64 ) .
5ـ النظر المحرم ، ومشاهدة الصور والأفلام الخليعة ، والجلوس أمام الدشوش بالساعات الطويلة ، لمشاهدة أفلام الرذيلة والله عزوجل يقول : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } ( النور30/31 ) .
6ـ أصدقاء السوء ، قال تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } ( الزخرف67 ) .
7- الانجراف في تيار الحياة الغادرة ، قال صلى الله عليه وسلم : [ الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً ] ( الترمذي وهو حديث حسن ) . وقال عليه الصلاة والسلام : [ لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ] ( الترمذي وقال حسن صحيح ) .
ومن أسباب فساد القلب ومرضه ضد ما ذكرنا في أسباب صلاح القلب سابقاً .
أهمية السلام والمصافحة وفضلهما :
لا يخفى عليك أخي الكريم أهمية السلام وأنه من سمات أهل هذا الدين الإسلامي الحنيف ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على السلام والمصافحة لإزالة ما يعلق في النفوس من البغضاء والكراهية بين الناس وكلنا يعرف فضل السلام والمصافحة في تسوية النفوس وإزالة الخلاف الواقع بين الناس ، وما يعود به من مردود إيجابي على الفرد والمجتمع ، ولقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اله صلى الله عليه وسلم : [ والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ] ( صحيح انظر الإرواء 771 ) .
وعن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ما من مسلمين يلتقيان ، فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا ] ( صحيح بن ماجة 3003 ) .
الخاتمة :
ينبغي على المسلم الحق أن يتجنب هذه الصفات القبيحة والمحرمة شرعاً ، والمنهي عنها ، حتى يصبح مطمئن القلب ، صافي المزاج ، بعيداً عن الأهواء والوساوس والهواجيس ، ينبغي على المؤمن الحق أن يترك بضائع الشيطان ، لأنها بضائع خاسرة كاسدة ، ولا يتعامل بها إلا أصحاب القلوب المريضة التعيسة ، أصحاب القلوب الخربة المنكوسة .
قال تعالى : [ إنما المؤمنون اخوة ] ( الحجرات10 ) ، فالله الله أيها الاخوة أوصيكم بإخوانكم المسلمين أحسنوا إليهم ولينوا بأيديهم ، وأحبوا لهم ما تحبونه لأنفسكم فالمؤمنون اخوة ، ذبوا عنهم وردوا عن أعراضهم ، وكونوا عباد الله إخواناً ، فمن الظلم عباد الله أن يضر المسلم أخاه المسلم بحسد أو غيبة أو نميمة أو كذب أو سوء ظن أو كبر أو غير ذلك مما قد يضر بالمسلم ، والظلم عباد الله من الأمور المحرمة والتي قد تصيب صاحبها بأضرار في الدنيا والآخرة ، فالله عزوجل حرّم الظلم على نفسه وجعله بين الناس مُحرماً ، فكيف أنت أيها المسكين تظلم عباد الله بتلك الأمور المحرمة ، أنسيت أن لذلك المظلوم دعوة مستجابة لو دعا بها عليك ثم استجيبت لخسرت الخسران المبين ، فإنه لا شفاء لأمراض القلوب إلا بالدواء الذي أنزله الله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور } ( يونس57 ) ، وقال تعالى : { ونُنَزِل من القران ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } ( الإسراء82 ) ، وقال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } ( فصلت44 ) .(/2)
فأقبلوا على كتاب الله وسنة رسوله لتداووا قلوبكم ففيهما الشفاء والرحمة ، وفيهما الدواء والمودة ، وفيهما النور والهداية ، وفيهما الروح والحياة ، وفيهما العصمة من الشيطان ووساوسه ، وليأخذ كل منا بنفسه فيبعدها عن مواطن الفتن ويقطع عنها وسائل الشر ، وكذلك أبعدوا أولادكم وبيوتكم عن وسائل الشر ودواعي الفساد إن كنتم تريدون الشفاء لقلوبكم والخير لمجتمعكم وأكثروا من هذا الدعاء الذي كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم [ يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ] .
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، اللهم طهر مجتمعات المسلمين من كل فاحشة ورذيلة ، اللهم ألف بين قلوب المسلمين وأصلح ذات بينهم ياحي ياقيوم يا ذا الجلال والإكرام ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
يحيى بن موسى الزهراني(/3)
أسباب ضعف الإيمان
يتناول الدرس الدرس الأسباب التي تؤدي إلى ضعف الإيمان مثل الوقوع في المعاصي والانشغال بالدنيا،و الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة،و الابتعاد عن القدوة الصالحة...إلى غير ذلك مع ذكر الأدلة والتعليل لوجه إضعاف هذا السبب للإيمان .
إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله:
}يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[102]{ سورة آل عمران . }يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[1]{ سورة النساء . }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا[70]يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[71]{ سورة الأحزاب، أما بعد،،،
إن لضعف الإيمان أسباباً كثيرة ومنها ما هو مشترك مع الأعراض مثل الوقوع في المعاصي والانشغال بالدنيا، وهذا ذكر لبعض الأسباب مضافاً إلى ما سبق:
1- الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة: وهذا مدعاة لضعف الإيمان في النفس، يقول الله عز وجل: }أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[16]{ سورة الحديد.
فدلت الآية الكريمة على أن: طول الوقت في البعد عن الأجواء الإيمانية؛ مدعاة لضعف الإيمان في القلب.
2- الابتعاد عن القدوة الصالحة: فالشخص الذي يتعلم على يدي رجل صالح يجمع بين العلم النافع والعمل الصالح وقوة الإيمان، يتعاهده ويحذيه مما عنده من العلم والأخلاق والفضائل، لو ابتعد عنه فترة من الزمن؛ فإن المتعلم يحس بقسوة في قلبه، ولذلك لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووري التراب قال الصحابة: [ فأنكرنا قلوبنا ]، وأصابتهم وحشة لأن المربي والمعلم والقدوة عليه الصلاة والسلام قد مات .
3- الابتعاد عن طلب العلم الشرعي والاتصال بكتب السلف والكتب الإيمانية التي تحيي القلب: فهناك أنواع من الكتب يحس القارئ بأنها تستثير في قلبه الإيمان، وتحرك الدوافع الإيمانية الكامنة في نفسه وعلى رأسها كتاب الله تعالى وكتب الحديث ثم كتب العلماء المجيدين في الرقائق والوعظ والذين يحسنون عرض العقيدة بطريقة تحيي القلب، مثل كتب العلامة ابن القيم وابن رجب وغيرهم .
4-وجود الإنسان المسلم في وسط يعج بالمعاصي: فهذا يتباهى بمعصية ارتكبها، وآخر يترنم بألحان أغنية ... وبعض الأوساط لا تذكّر إلا بالدنيا كما هو الحال في كثير من مجالس الناس ومكاتبهم اليوم ...وأما البيوت - فحدث ولا حرج - حيث الطامات والأمور المنكرات، فالأغاني الماجنة، والأفلام الساقطة، والاختلاط المحرم، وغير ذلك مما تمتلئ به بيوت المسلمين، فمثل هذه البيئات تصاب فيها القلوب بالمرض، وتصبح قاسية ولا شك .
5- الإغراق في الاشتغال بالدنيا حتى يصبح القلب عبداً لها: والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: [تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ] رواه البخاري والترمذي وابن ماجه. ويقول عليه الصلاة والسلام: [ إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب] رواه الطبراني في الكبير، وهو في صحيح الجامع . يعني الشيء اليسير الذي يبلغه المقصود . وهذه الظاهرة واضحة في هذه الأيام التي عم فيها الطمع المادي والجشع في الازدياد من حطام الدنيا وصار الناس يركضون وراء التجارات والصناعات والمساهمات وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ] رواه أحمد وهو في صحيح الجامع(/1)
6- الانشغال بالمال والزوجة والأولاد: يقول الله: }وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [28]{ سورة الأنفال. ويقول عز وجل: }زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ[14]{ سورة آل عمران ومعنى هذه الآية: أن حب هذه الأشياء وفي مقدمتها النساء والبنون إذا كان مقدماً على طاعة الله ورسوله فإنه مستقبح مذموم صاحبه، وكثير من الناس ينساق وراء الزوجة في المحرمات وينساق وراء الأولاد منشغلاً عن طاعة الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة] رواه الطبراني وهو في صحيح الجامع . وليس المقصود ترك الزواج والإنجاب، ولا ترك تربية الأولاد، وإنما المقصود التحذير من الانشغال معهم بالمحرمات .
وأما فتنة المال: فيقول عليه الصلاة والسلام: [ إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ]رواه الترمذي وأحمد، وهو في صحيح الجامع . والحرص على المال أشد إفساداً للدين من الذئب الذي تسلط على زريبة غنم، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ]رواه الترمذي وأحمد والدارمي وهو في صحيح الجامع . ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على أخذ الكفاية دون توسع يشغل عن ذكر الله، فقال: [إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ خَادِمٌ وَمَرْكَبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى]رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وهو في صحيح الجامع . وقد تهدد النبي صلى الله عليه وسلم المكثرين من جمع الأموال إلا أهل الصدقات فقال: [ وَيْلٌ لِلْمُكْثِرِينَ إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا أَرْبَعٌ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ قُدَّامِهِ وَمِنْ وَرَائِهِ]رواه ابن ماجه وهو في صحيح الجامع. يعني في أبواب الصدقة ووجوه البر .
7- طول الأمل: قال الله تعالى: }ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[3]{ سورة الحجر وقال علي رضي الله عنه: [ إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى، فيصد عن الحق، وأما طول الأمل، فينسي الآخرة ] .
8- الإفراط في الأكل والنوم والسهر والكلام والخلطة: فكثرة الأكل تبلد الذهن، وتثقل البدن عن طاعة الرحمن، وتغذي مجاري الشيطان في الإنسان وكما قيل: ' من أكل كثيراً شرب كثيراً؛ فنام كثيراً وخسر أجراً كبيراً ' فالإفراط في الكلام يقسي القلب، والإفراط في مخالطة الناس تحول بين المرء ومحاسبة نفسه والخلوة بها والنظر في تدبير أمرها، وكثرة الضحك تقضي على مادة الحياة في القلب فيموت، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تُكْثِرُوا الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ]رواه ابن ماجه، وهو في صحيح الجامع . وكذلك الوقت الذي لا يملأ بطاعة الله تعالى ينتج قلباً صلداً لا تنفع فيه زواجر القرآن ولا مواعظ الإيمان ... وأسباب ضعف الإيمان كثيرة ليس بالوسع حصرها، ولكن يمكن أن يسترشد بما ذكر على ما لم يذكر منها.
ملخصة من كتاب : ظاهرة ضعف الإيمان
المؤلف : محمد المنجد(/2)
أسباب ضعف العمل الدعوي
رئيسي :الدعوة :الأربعاء 24 صفر 1425هـ - 14 أبريل 2004م
إن مما يفرح إقبال فئات المجتمع، وخاصة الشباب على التمسك بكتاب الله، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه الأفواج تتلمس من المربين الرعاية والتوجيه، وبذل الأوقات والأعمال حتى تستقيم حق الاستقامة، وتثبت على هذا الطريق إلى أن تلقى الله، منضبطة بقواعد الشرع، ونهج من سلف، الحكمة سبيلها والكتاب والسنة دليلها، والسلف الصالح قدوتها.
فهي أمانة في الأعناق، لا توضع بأيدٍ لا تتقن فن التربية والتوجيه فيُنشئوا جيلاً هزيلاً، صورته ضياء وباطنه خواء، فلا قرآن يُحفظ، ولا دروس للعلم تُحضر، ولا كتب تُقرأ، ولا همٌّ للدعوة يُحمل، فأين تربية الأجيال على سِيَر أؤلئك الرجال:{...رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...[23]}[سورة الأحزاب].
وبعد هذا نتساءل لماذا هذا الضعف؟ فلنقف على إشارات سريعة وصريحة حول أسباب ضعف العمل الدعوي، وضعف آثاره من قِبل الدعاة والمدعوِّين، أردت بها التذكير لمن غفل عنها، أو جهلها، أو قصَّر فيها:
أولاً: من جهة الملقي:
1- مجانبة الإخلاص في هداية المتلقي بوحي الله، أو عدم استحضاره بسبب الانشغال بالعمل وزحمته .
2- صدور الكلام نياحة من قلب غير متأثر.
3- نسيان الدعاء بالقبول، وصدق اللجوء إلى الله في ذلك.
4- عدم الإعداد المسبق الجاد المتمثل في ضعف المادة العلمية.
5- عدم احترام العقول، وجهل أو تجاهل مستوى المتلقي- ومما أورث السآمة أن أكثر ما يسمعونه أقل أهمية مما ينبغي أن يسمعوه ] .
6- عدم التجديد والتنويع .
7- الطول الممل والقِصر المخل .
8- التكرار الممل، والركام الهائل مما هو مكرر في مكتباتنا من كتب وأشرطة، ومطويات سواء اتفقت العناوين، أو اختلفت .
9- ضعف الإلقاء والأسلوب .
10- الاستعلاء على السامعين .
11- عدم اختيار الوقت والمكان المناسبين لطرح مالديه .
12- كثرة استخدام الألفاظ الغريبة .
13- عدم اختيار الموضوع المناسب .
14- عدم التفاعل من المتكلم مع ما يقول، وانعدام العاطفة الجياشة الآسرة .
15- التركيز على بعض المتلقين دون غيرهم .
16- إهمال المتلقي، فلا حوار، ولا سؤال، وهذا في الدروس العلمية واللقاءات الخاصة، وأما المحاضرات فليس مناسباً .
17- الخروج عن الدرس، وعدم التركيز .
18- عدم استخدام الشعر، فهو يهز الوجدان ويحرك المشاعر..[إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً]رواه البخاري .
19- إهمال العنونة للمواضيع، وعدم اختيار العناوين المناسبة .
20- ترك ضبط المستمعين .
21- الكلام في غير التخصص بما لا يعلمه، أو يجيده، فإن كان ولابد فعند الضرورة مع تعلمه، والرجوع إلى أهل التخصص .
22- عدم الواقعية، والبعد عن واقع المتلقين وتارة يكون الموضوع ولغة التخاطب أكبر من المستمعين أو أقل منهم .
23- التصريح بما حقه التلميح .
24- التصدر قبل النضوج .
25- عدم حصر الدرس في نقاط محددة .
26- خدش الهيئة والسمت والوقار بما لا يليق [ضعف القدوة] .
27- ضعف فراسة المتكلم في فهم مداخل النفوس، وطريق التأثير عليها .
28- إغفال آراء الآخرين، وعدم استشارتهم في الموضوع وعناصره .
29- إغفال جانب القصص الصحيح والمؤثر .
30- عدم التنويع في الملقين .
31- عدم الاهتمام بالجوانب الشكلية والإخراج فيما يحتاج فيه إلى ذلك .
32- تضييع العمر في طلب الإجماع على مسائل لا تقبل بطبعها وحدة الرؤية .
33- عدم استغلال الفرص المناسبة للتذكير عند وقوع المصائب والحوادث والمناسبات .
34 - أصبح الكتاب والشريط عند البعض باباً من أبواب الرزق والتجارة، فذهبت البركة مع الإخلاص، وضعف انتشاره.
35- كثرة التقطع في الدروس العلمية، والتوسع في شرحها، والمؤدي إلى طول الوقت، وملل الشيخ والطلاب، والتوقف وعدم الاستمرار .
36- الارتباط بين الشيخ والطلاب لا يتجاوز الحلقة .
37- عدم ربط الطلاب أثناء الدرس بأعمال القلوب، وتخولهم بالموعظة .
38- قلَّّ الاهتمام والعناية بركيزة الوعظ والتذكير، وهي ركيزة تربوية مؤثرة ومفيدة يحتاجها الجميع-الجاهل والعالم والمتعلم- وللأسف نجد من يزهد في شريط ومحاضرة وعظية، حينها تعطلت الطاقات الإيمانية، وأصبح علم أعمال القلوب والوعظ من العلم المفقود وعلم الفضلة.
حلاوة المعاناة:
لا يفيد الإنسان ولا يبرع في فن من الفنون حتى يذوق المعاناة، يحترق بنار الجهد والدأب؛ ليكون عطاؤه نابعاً من قلبه ووجدانه .. عشرات الكلمات والخطب والدروس والمؤلفات والبرامج والمخيمات جثث هامدة، لا روح فيها؛ لأنها قدمت بلا تعب و معاناة، فخسرت قيمتها وتأثيرها ووقعها.
إن الإكثار شيء والجودة شيء آخر، فعلى الباردين في عواطفهم وإعدادهم أن يعيشوا معاناة ما يحملون، وهمَّ ما يريدون حتى يصلوا إلى ما يريدون، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً، فبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى، وابتناء المناقب باحتمال المتاعب والأجر على قدر المشقة .
ثانياً: من جهة المتلقي:(/1)
1- الكبر والغرور التعالي المتمثل في:
أ - احتقار المتكلم .
ب- شعوره بأنه لا جديد يُذكر .
ج - اعتقاده بأن المخاطب بالدرس غيره .
د - عدم الشعور بحاجته إلى الموضوع .
2- التحزب حائل .
3- عدم الاهتمام بإصلاح النفس، والترقي بها، والرضا بالدون .
4- عدم الحرص على الفائدة، وعدم تقييد الفوائد .
5- اليأس المخيم على نفسه، ومن حالته التي يعيشها، والاستسلام لها.
6- السمعة السيئة للمتكلم عند السامع .
7- الفهم الخاطئ .
8- شرود الذهن، وتشعبه في أودية الدنيا .
9- عدم التهيؤ للدرس .
10- الآثام والذنوب .
11- الانشغال بتتبع السقطات لغوية وغيرها .
12- الاهتمام بالمتكلم وشهرته دون الفكرة والموضوع .
13- عدم استشعار فضل ما هو فيه .
14- تدني مستوى المتلقي في الذوق والوجدان .
15- تدني مستوى المتلقي في فهم العربية .
16- عدم احترام آراء المتلقي ووجهات نظره .
17- المداخلات أثناء ما يطرح سواء كانت حسية، أو معنوية كالطعام والشراب، والدخول والخروج، والأسئلة وغيرها .
18- فساد البيئة في البيت والمدرسة والحي والأقارب، وعدم وجود الصاحب الصالح المعين.
ثالثاً: الأسباب العامة: وتتعلق بالمراكز الدعوية، والمؤسسات الخيرية، والمحاضن التربوية، وغيرها على المستوى الجماعي والفردي:
1- الإعلان المتأخر عما يراد طرحه، أو عدم انتشاره، أو إخراجه بطريقة بدائية لا تجديد فيها .
2- عدم تهيئة الجو المناسب من حيث البرودة والتدفئة .
3- ضيق المكان وعدم معرفته وعدم وضع رسم بياني يوضحه .
4- ضعف أجهزة الصوت وعدم تفقدها قبل الاستخدام .
5- الإطالة في التقديم للملقي، أو ما يراد طرحه .
6- عدم ذكر ضوابط لما يراد طرحه والشرح المبسط لكيفية القيام به .
7- الفوضوية بكل معانيها وصورها: من برامج، وأساليب دعوية، ورحلات ودروس، وانتقاء لأفراد المحضن التربوي .
8- ضعف التنظيم والإدارة، وعدم التركيز والدقة في الأعمال .
9- الازدواجية والجماهيرية في العمل من أسباب الفشل مما يؤدي إلى عدم التوفيق بينها، والإتقان فيها وتزاحمها وقلة الإنتاج ولها صور:
منها:العمل في أكثر من مركز ومؤسسة دعوية، أو علمية، أو مجموعة، أو لقاء سواءً مسؤولاً أو عضواً، فيكون مشتت الذهن، والأفكار مع وجود كثير من الطاقات والعقليات المغمورة داخل الجامعات والمدارس وغيرها لم يُبحث عنها، ولم تُوجه للعمل، وإنما التركيز على بعض الأفراد في كثير من الأعمال، وهذا فيه قتل للجميع، بل يجب علينا جميعاً أن نتعاون على تجديد العاملين في جميع الميادين، وأن ندفعهم إلى الأمام مع شيء من الإلحاح إذا وثقنا في القدرات، ونكون الدليل إليهم حتى يُعرفوا، فيشاركوا ويعملوا.
10- عدم تحديد الأهداف التربوية التي يراد الوصول إليها والتي من خلالها توضع الوسائل الموصلة إليها سواء على مستوى العموم أو الأفراد، فمثلاً: الجدية، وقيام الليل، والعلم أهداف تغرس بواسطة بعض البرامج .
11- عدم الانضباط في المواعيد والدقة في الوقت التي تؤدي إلى الخلل في كثير من البرامج وتأخرها وعدم الحزم في ذلك من قِبل المربين .
12- عدم وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب كلٌ حسب طاقته وتخصصه .
13- التركيز على الدعوة والتربية الجماعية، والتقصير في الدعوة والتربية الفردية .
14- عدم التقييم لما يُطرح بين كل فينة وأخرى، ومعرفة الأخطاء وأسبابها، ومحاولة تلافيها، فالسكوت عن الأخطاء يشجع على تكرارها .
15- عدم الاستفادة من تجارب الماضي والآخرين .
16- الاستعجال في إدخال بعض الأفراد للعمل .
17- الأحكام السريعة، والتصرفات غير المنضبطة نتيجةً لردود الأفعال والأحداث .
18- الاهتمام بالكم لا الكيف أو العكس، وجعله قاعدة مطلقة ليس بصحيح وإنما كل قضية لها مايناسبها من ذلك وتارة نحتاج إلى إحداهما في البداية والأخرى في النهاية .
19- عدم العتاب بالأسلوب المناسب لمن استحق ذلك، والتشجيع لمن أحسن .
20- العمل على انفراد وتحمل الأعباء دون التعاون مع الآخرين عند وجودهم .
21- العمل في مكان ما لفترة طويلة، ثم تركه والانتقال عنه دون وضع الإنسان المناسب لمواصلة ما بدأ به .
22- عدم العناية بالتربية العملية كتوجيه المتربين للانضمام للدروس العلمية، والقيام بأعمال دعوية كلٌ حسب قدرته وتخصصه .
23- الشكوك والظنون، وتناقل الشائعات، وفتح باب القيل والقال، وتفضيل بعض الأشخاص على بعض بدون مبررات، ودخول آفة الإعجاب والتعلق بين أفراد المحاضن التربوية، أو تعلق المتربين بالمربين، وكل ذلك يؤدي إلى الفرقة والخلاف، وهدم دُور التعليم والتوجيه والانتكاسة بين الأفراد، وحدوث الضعف والفتور والشقاق بين المربين .
24- المركزية لدى بعض المربين، وعدم توزيع الأعمال على الآخرين، وإعداد القيادات البديلة .(/2)
25- عدم مراعاة التناسب بين البرامج بأنواعها مع الوقت والمكان وقدرات المتلقين والفوارق الفردية بين المتربين من حيث السن والمراحل الدراسية مما يؤدي إلى عدم استفادة البعض من البرامج المطروحة إما أكبر من مستوى البعض أو أقل .
26- أسبوعية اللقاءات للشباب أنفسهم مع عدم وجود ما يشغل أوقاتهم تماماً، ويشبع تطلعاتهم خلال الأسبوع كله في منازلهم، أو كثرة اللقاءات الجماعية فيما بينهم التي يعتقد المربون أنها أحفظ للأفراد من الضياع والانحراف ولو كانت مبرمجة، وهذا له سلبيات، والأولى أن يكلف الشباب بما يحفظ أوقاتهم في منازلهم، ولنعود الشباب على التربية الذاتية، ومساعدتهم على ذلك .
27- ذكر بعض المربين أخطاء المربين الآخرين أمام المتربين بأسمائهم مما يؤدي إلى عدم قبول توجيههم ونصحهم سواء كانت أخطاء شخصية، أو اجتهادات دعوية .
28- التركيز على بعض الأشخاص مع إهمال الأكثرين بحجة اعتذارهم عن المشاركة دون محاولة التكرار عليهم ومعرفة الأسباب لذلك، فإن قال: لا أقدر .. فقل: حاول .. وإن قال: لا أعرف .. فقل : تعلم .. وإن قال: مستحيل . فقل: جرب . وبهذا يستطيع الجميع أن يشارك، ويعمل وتغرس الثقة فيهم .
29- اهتمام بعض المربين بأشخاص لفترة طويلة وليس عندهم _ أي المتربين _ استعداداً لتغيير واقع أنفسهم، وإنما يأتي من أجل الأنس واللقاء، أو يعتريه الضعف لحداثة تمسكه، والأولى عدم الاهتمام به على حساب الآخرين وأعمال المحضن، وعلاجه على نحو الدرجات التالية:
أ- الاهتمام به فترة من الزمن فقط .
ب- معرفة أسباب عدم الاستفادة، ومحاولة العلاج بعد ذلك .
ج- الاهتمام به من قبل آخرين .
د- مناصحته ومصارحته .
هـ- نقله إلى محضن آخر.
30- ضعف المربي في الجوانب العلمية والإيمانية والتربوية، وإقحام بعض الشباب في ميدان رعاية محضن تربوي، وليست عنده القدرة على ذلك لضعفه، أو لصغر سنه، أو لعدم تفرغه، ثم النتيجة فقد الأفراد الثقة في قدرات المربي، والانسحاب من عنده، وضعف المتربين، وكثرة الأخطاء والمشاكل داخل المحضن، ثم سقوطه وتفرقهم وفتور كثير منهم كما هو واقع بعض المحاضن .
31- عدم المرونة في المناقشة وقبول الأعذار، والتخلص من المواقف الحرجة، والعجلة في إصدار الأحكام دون تأمل ومداولة للآراء وتأجيل البت فيها حتى تحمل قوة وقناعة وقبولاً من المتربين.
32- الإكثار من الترفيه بحجة عدم الإثقال، وكسب القلوب، ثم النتيجة:تربية غير جادة .
33- اعتماد المربين على بعض الأشخاص في الأعمال البدنية كإعداد الرحلات والمشتروات وغيرها دون أن ينالوا حظهم من الدروس وغيرها مستمعين، أو ملقين، والأولى توزيع الأعمال البدنية على الجميع حتى يتعودوا تعلمها، وبذل الجهد، وحتى لا تتوقف الأعمال بسبب غياب فلان، وفي نفس الوقت تربية للنفس على التواضع وخدمة الآخرين .
34- دخول بعض الشباب في بداية التمسك، وهم أقوياء محاضن يسودها الضعف مما يؤدي إلى ضعفهم أو رجوعهم .
35- عدم ارتباط بعض المحاضن بالدعاة وطلاب العلم، والاستفادة منهم علماً وعملاً ودعوة والرجوع إليهم فيما يشكل عليهم كلٌ حسب تخصصه، وهذه من المسائل التي ينبغي التنبه لها في فقه الاستشارة، ويخلط فيها كثير من الناس فإذا كان الإنسان لا يعيش واقع الشباب ومشكلاتهم، فلا يُسأل عن ذلك، وإن سُئل فيعتذر عن الجواب .
36- التركيز على الجانب العلمي، أو الإيماني، أو التربوي، والأولى التنويع بين تلك المجالات من خلال الدروس والبرامج بأنواعها حتى تتكامل وتتوازن شخصية المتربي .
37- عدم الاهتمام بالأذكياء وأصحاب القدرات، وإهمالهم، ثم النتيجة ضياع تلك القدرات، وإنما الاهتمام عند البعض بأصحاب الطرافة والمظاهر والمصالح الشخصية، أو على الأقل أشخاص عاديون .
38- حرص المربي على ألا يتلقى المتربي التربية والتوجيه إلا منه فقط، والحساسية الزائدة والتضجر إذا تلقى من غيره، أو رُئيَ مع غيره إلا إذا رئي مع أشخاص في منهجهم خلل غير قابل للاجتهاد، أو ضعيف، أو مخالف للكتاب والسنة، فينبهون بالطرق المناسبة المقنعة بدون أن تحدث ردود أفعال .
39- اعتبار بعض الشباب هذه المحاضن أنها للنزهة والترويح عن النفس في الدرجة الأولى، وأنها ليست للتربية والتعليم والتعاون على الخير .
40- ذهاب بعض الشباب إلى أصحاب الخبرات القليلة، والذين ليس عندهم تمكن في علاج المشاكل التربوية لحل مشاكلهم؛ لأنهم مكثوا سنيناً في المحاضن التربوية وهذا لا يعني تمكنهم في ذلك وفي المقابل إبداء الطرف الآخر الرأي والحل وتكون النتائج غير مرضية .
41- تسرب أخطاء، أو مشاكل المتربين بين أفراد المحضن من قبل المربي سواء خطأً أو عمداً مما يؤدي إلى انتكاسة المتربي وتركه، والأولى الحرص على السرية في مشاكل الأفراد ومعالجتها، وعدم إدخال الأفراد في حلولها .(/3)
42- كثرة مخالطة المربي مع المتربين فيما لا فائدة فيه مما ينتج عنه قلة الهيبة والتقدير له وعدم أخذ كلمته بجدية والاطلاع على أخطائه التي لا تُعرف إلا مع كثرة المخالطة، ثم النتيجة ضعف القدوة .
43- قلة اللقاءات التربوية بين المربين التي تعالج المشكلات بصورة جماعية مع ظهور الفردية في حل أي مشكلة، وذلك يضعف الحلول .
44- ضعف التناصح والمصارحة والوضوح في العمل بين المربين، أو المتربين، أو كلٌ مع الطرف الآخر وبين الدعاة والعاملين في طريق الدعوة ..فيا أيها الدعاة: لابد من المصارحة والمناصحة حتى نسير على الطريق، ونحقق المقصود، ولا تتبعثر الجهود فالغاية واحدة .
45- عدم اتخاذ أسلوب المناصحة المكثف والمنوع مع من يرى عليه الفتور، أو شيء من المعاصي من البداية، فالسكوت يؤدي إلى اتساع الضعف، ومن ثم تصعب المعالجة.
46- تحكيم العواطف، والتعلق بآراء الأشخاص والذوات لا الكتاب والسنة في تربية النفوس ومواجهة الفتن والأحداث والتسليم بقبول آراء الأشخاص لذواتهم بغض النظر عن تأمل القول مع وجود القدرة على ذلك، وإذا خالف أحد قول داعية، أو عالم مع تمسكه بأدب الخلاف؛ وجهت له التهم بالجهل والحسد، وعدم احترام أهل العلم وهجر .
47- عدم مراعاة أوقات الدروس العلمية في المساجد مع أوقات البرامج الخاصة بالمحضن التربوي .
48- تقديم بعض المربين والدعاة بعض الشباب المبتدئين في بعض المهمات، وتفضيلهم على غيرهم، ورفعهم فوق منزلتهم، وهذا فيه زج بهم إلى مزالق خطيرة منها الغرور بالنفس، والتحدث بما لا ينبغي التحدث به، وربما أوقع المربي بما لا تحمد عقباه، وربما يلام المربي على بعض الأخطاء التي تصدر من هذا المتربي لقربه منه وملازمته له .
49- الحكم على الشخص ووضعه في القائمة السوداء من خلال بعض الأخطاء، والتشهير به في كل مجلس، وربما هجر ولم يُدع للمشاركة في البرامج الدعوية، نُسيت الفضائل وبقيت الرذائل، نسي: [ كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد .
من ذا الذي ماساء قط ولم تكن له الحسنى فقط
والمعاصي تتفاوت وهناك فرق بين المجاهر من عدمه، والخطأ في حق الله وحق الأشخاص قال ابن المسيب رحمه الله :'ومن الناس من ينبغي ألا يذكر عيبه ويوهب نقصه لفضله'. وأقل الأحوال: مسلم لا تجوز غيبته، ولاندع لأنفسنا باب التأول في ذكر معايبه كما يفعل البعض .
50- تفلت المحضن وأفراده وتوقف البرنامج عند غياب المربي عن البرنامج اليومي، أو لفترة من الزمن، والأولى إيجاد البديل المناسب المؤقت من نفس المحضن، أوغيره لإتمام مابدئ به،لأن الغياب يؤدي إلى سلبيات كثيرة .
51- انشغال المربي أو بعض الأفراد بإنسان انحرف بعد الاستقامة وهذا الانشغال يكون على حساب الآخرين مع أن غيره أحوج إلى بذل الجهد؛ فالمقبل أولى من المدبر.
52- دخول المحضن التربوي غير الملتزمين، أو أناس يريدون الالتزام لكن مازالت رواسب الماضي قوية التعلق بهم، فالأولى عدم إدخال الصنف الأول، والاهتمام بالصنف الثاني، والارتباط بهم خارج المحضن، وتهيئتهم للدخول فيه حتى لايؤثروا في أفراد المحضن سلباً .
53- عدم التجديد في الأفراد بين كل فترة وأخرى، واستقطاب الشباب للمحضن مع مراعاة الاختيار الأمثل، فالتجديد يورث النشاط والحيوية، والعكس يؤدي إلى الضعف والتفكك والملل .
54- عدم المصارحة بكل ماله صلة بالموضوع ويؤثر فيه عند الاستشارة في أمر من الأمور، أو إخفاء بعض العيوب والأخطاء التي كانت بسببه _ أي المستشير _ أو يستشير وليس عنده القناعة بما يستشير فيه، أو يشار عليه به، ثم النتيجة يبرر لنفسه ولأخطائه في خاصة نفسه، أولمن حوله إذا لامه أنه استشار فلان ونسي أن الاستشارة بنيت على غير حقائق، فليتنبه الجميع، وعلى المستشار عدم الاستعجال في إبداء الرأي في ما يخص المحاضن وغيرها، والتحري في الأمور .
55- التحدث مع المبتدئين أو حين وجودهم عن بعض المشكلات والخلافات قبل نضجهم العلمي والفكري، فيحدث لهم ردة فعل تكون سبباً في رجوعهم وبعدهم عن التمسك، وإن كان ولابد فإعطاؤهم قواعداً في فقه الخلاف وموقف السلف منه حتى لا يحدث عندهم اضطراب، أو يأتي من يلبس عليهم الحق بالباطل .
56- ضعف الصلة بين أفراد المحضن أو المربي مع من يترك المحضن لسفر بسبب التعلم، أو الوظيفة، أوغيرها، وعدم الاتصال بهم هاتفيا، أو زيارة، أو مراسلة، أو ربطهم بالدعاة والأخيار في البلد الذي انتقلوا إليه، وهذا أمر مشاهد وملموس ولذا نرى الفتور، وتقديم التنازلات بسبب الغربة والوظيفة، وعدم وجود الرفقة الصالحة، والاضطرار إلى العيش مع الرفقة السيئة، أو على الأقل لوحده والفراغ مفسدة.(/4)
57- عدم المرجعية عند كثير من الشباب والمربين عند النزاع فلا يرجع عند الخلاف إلى العلماء، وهذا يجرنا إلى ويلات لانهاية لها كما هو مشاهد وملموس، والخلاف أمر لابد منه لكن لايصل إلى حد الاتهام بالباطل، والوقيعة في الأعراض، والحزازيات في الصدور، والتوقف عن العلم والدعوة، بل تؤدى الفرائض والنفوس منشغلة ومشتعلة، تضيع الجهود وتبعثر، تهدر الأوقات وتخسر الأموال والقدرات والكتب والأوراق، وكثير من الصالحين والمفكرين والأخيار، ومن نحبهم في الله.
ومن المستفيد؟ إنه الشيطان وحزب الشيطان، قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ] رواه مسلم.
58- التكلفة الباهضة لإعداد المشاريع الدعوية من حيث البناء ومستلزماته مما يؤدي إلى التأخر في البدء بالمشروع لعدم وجود المال الكافي، أو لكبره، وكذلك يؤدي إلى بذل الأموال الطائلة التي يمكن الاستفادة منها في أكثر من مشروع، كذلك يؤدي إلى نزع ثقة التجار في القائمين عليها بسبب الإسراف والاعتذار عن المساهمة.
59- الحماس غير المنضبط المؤدي إلى الخطأ والاستعجال، وتراكم الأعمال وكثرتها، وعدم التناسب مع القدرات، والإثقال على النفس والآخرين، ثم الملل والاعتذار والانقطاع .
60- الاهتمام بالتجديد كوسيلة حتى يضعف المضمون، وتفقد الغاية وهذه قضية ينبغي التنبه لها، لأننا نلحظ هذا الجانب بدأ يظهر في أوساط الذين يهتمون بجانب التجديد، حيث يغلبونه على القضية الأساسية وهي الدعوة إلى الله وهداية الخلق، وإفادة الناس. والتجديد لاشك أنه مطلب في ميدان الدعوة، وأقترح على كل فرد و محضن ومؤسسسة دعوية أن تجند أصحاب التخصص لكي يفكروا ويبتكروا فيما يجيدون فيه كل حسب تخصصه.
أخي الداعية والمدعو والمربي والمتربي:
عذراً على هذه الكلمات فليست نظرة نظرة يائس، أو تتبع للأخطاء، والتفنن في عرض السقطات، أوطلب للمثالية الزائدة، أو متناس أن كل بني آدم خطاء، وكل عمل لا يخلو من خطأ و صواب، وأن الكمال لله، والناقد بصير .. كلا بل هو واقع نلمسه وحياة نعيشها .
إن ذكر الأخطاء ولَّد عندنا ردود الأفعال، فلم يفرق البعض بين ذكر الأخطاء وطريقة عرض الأخطاء، وتفسير النيات، والبعض يقول: إن ذكر الأخطاء يزيد الغم غمين، ويكفينا تربص الأعداء فالحال غير مناسب .
فيقال: إن ذكر الأخطاء أمر جآءت به الشريعة، والقرآن والسنة مليئان بذلك، بل إن المتأمل لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في بدايتها وما واجهته من أحداث ومعارضات، وما كان ينزل من القرآن نحو قوله تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى[1]...}[سورة عبس] . قصة ابن مكتوم رضي الله عنه. وقوله { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا[74]}[سورة الإسراء] . وغيرها لدليل على أن ذكر الأخطاء، وتصحيح المسار أثناء المسير مطلب لاغبار عليه، والسكوت عن الأخطاء يشجع على تكرارها، وترك الداء بلا دواء يؤدي إلى قتل الجسد لكن نحتاج إلى مراعاة ما يلي :
أ- أن نفرق بين الخطأ والظاهرة من حيث ماهيتهما قلة وكثرة .
ب- أن نفرق في وسيلة العرض عند الحديث عنهما، فهناك محاضرة وخطبة وشريط وكتاب ومقال ورسالة واتصال هاتفي ولقاء وغيرها وكل منها له ما يناسبه .
ج- أن نفرق بينهما من حيث الفئة المرتبطة بكل منهما من الناس، فتارة الارتباط بشخص، وتارة بشريحة من المجتمع، وتارة بالمجتمع .
د- عدم ذكر التفاصيل ودقائق الأمور التي لا تكون إلا في حالات يسيرة ونادرة وقضايا عينية .
هـ- إذا كان التلميح يغني عن التصريح كان أولى .
و- الموازنة في عرض السلبيات والإيجابيات بل إن ذكر الجميع من العدل والإنصاف، وحديثي عن أخطاء فئة من المجتمع ليس أشخاص بأعينهم، فأخطاء الأشخاص موضوع مستقل .
ز- إشعار الناس بأن الخير موجود في الأمة كما أن الشر موجود، وعدم إغفال ذكر الخير وصوره في الناس إذا ذكرت الصور المأساوية؛ لبعث الأمل في الأمة، وليعلم الميْت أن في الأمة أحياء، فيحيا بذكرهم .
ح- عدم ذكر ما كان مخفياً ومستوراً وضئيلاً كبعض المنكرات التي لا يعرفها إلا القليل .
ط- عدم ذكر القصص التي تأخذ حكم النادر، وفيها من البشاعة والقذارة مالا يمكن وصفه وتردادها على مسامع الناس حتى لا يكون المتحدث عرضة للتكذيب والاتهام بالمبالغة، وحتى لا يعتادها الجميع وتصبح أمراً عادياً، وإن كان ولابد فذكرها مختصرة دون الإكثار وذكر التفاصيل، فإنها تقسي القلب، وكثرة المساس تقلل الإحساس، وتبعث الإحباط في النفس، والقرآن والسنة مليئان بالقصص التي تقرع القلوب، وليس فيها كثرة تفصيل للأحداث .
ط- مراعاة المكان والمستمعين عند الحديث عن خطأ أو ظاهرة، وهل هم بحاجته، وهل كثير منهم يدركونه ويلمسونه ؟(/5)
إشكال: يرد ويتكرر عندما يتكلم عن مشكلة، فتجد البعض يقول: لماذا الحديث عن هذا الموضوع، فلا ألمسه وكذا مثلي سيقرؤه ويسمعه وهو لا يدركه؟
فيقال: ليس من المعقول أن يسكت عن ظاهرة من أجل أن واحداً أو اثنين أو عشرات لا يدركونها، وفي المقابل مئات يعيشونها ويرونها، ومئات ضحايا بسببها، بل لا يمكن أن يسكت حتى يؤتى على الأخضر واليابس .
فالمستمع إما : صاحب المشكلة، أو قريب منها يحوم حولها بقصد أو بدونه، أو داعية، أو مسئول، أو متعلم ينبغي عليه معرفة الواقع، أو مرب يحتاج إلى معرفة ذلك أسباباً ومظاهراً وعلاجاً، أو بعيد عن كل ذلك فالعلم به علم، والوقاية خير من العلاج، والشريعة جاءت مقررة لهذه القاعدة .
فإن لم يكن ذلك كله فدعه لمن يهمه ذلك، والموضوع قابل للاجتهاد .
من:' دعوة للمصارحة:أسباب ضعف العمل الدعوي'
للشيخ/فهد بن يحيى العماري(/6)
أسباب هلاك الأمم والشعوب
تناول الدرس الأسباب المؤدية إلى هلاك الأمة وسقوط الممالك والشعوب، حتى نتجنبها، وأن هذه الأسباب مبينة في الكتاب والسنة، ثم عرضها مع تطبيقاتها على بعض الدول التي بادت، وحذر من السقوط بسبب اتباع الأمم الهالكة والسير على خطاها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد,,, فإن موضوع الهلاك والنجاة من أهم الموضوعات التي يهتم بها المسلم ويفكر فيها دائماً، فكل مؤمن يعبد الله ويجتهد؛ لينال النجاة من عذاب الله، وليتجنب أسباب الهلاك والعقوبة في الدنيا والآخرة، ومن هنا كان لزاما وضرورياً أن نعرف الأسباب المؤدية إلى هلاك الأمة وسقوط الممالك والشعوب، وأن نتجنبها . ومعرفة الهلاك والنجاة لا تتوقف على آراء المحللين: من مؤرخين، أو إخباريين، أو متفلسفين، وإنما تؤخذ من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فها هنا الخبر اليقين .
لماذا أهلكت الأمم؟ ولماذا بادت الحضارات؟
نحن كما في كتاب الله تعالى وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم نسميها أمماً ، ونسميها كما سماها الله تعالى قروناً ، وكما سماها في آيات كثيرة: القرون، أو القرى، أو الأمم، وهذه هي التي يعبر عنها أهل التاريخ والمعاصرون منهم بالذات يسمونها:الحضارات، ولكن قلما يذكر أن أسباب هلاكها واضمحلالها هي أنها أشركت بالله، وكذبت رسله، وعصت الله ورسله.
مراحل هلاك الأمم
الله سبحانه وتعالى- كما بين في كتابه- جعل هلاك الأمم على مرحلتين:
المرحلة الأولى: مرحلة الهلاك العام ، حيث تباد الأمة بأكملها، فلا يبقى منها أحد إلا الرسل، ومن آمن معهم فقط.
المرحلة الأخرى: هي مرحلة الهلاك الجزئي، أو مرحلة العقوبات المختلفة التي يصبها الله على من خالف دينه، وخرج عن أمر رسله، وقد بين الله ذلك في قوله: }وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ[43]{ سورة القصص. قال المفسرون من السلف: أن الله سبحانه وتعالى لم يهلك أمه بعامة- أي: هلاكاً عاماً- يستأصلها، فلا يبق منها أحداً من بعد أن بعث الله موسى عليه السلام إلا ما كان من شأن القرية التي كانت حاضرة البحر .
المرحلة الأولى:مرحلة الهلاك العام: أمم لا تحصى ولا تعد جرت عليها سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلا، هذه السنة: هي إهلاك من كذب وعصى وتجبر وكفر بآيات الله كما قص الله عنهم: } كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ[105]{سورة الشعراء }كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ[123] {سورة الشعراء }كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ[141] {سورة الشعراء ... والسبب واحد:وهو أنهم كذبوا المرسلين؛ فأهلكوا، ونوّع الله أسباب الهلاك، وإن اختلفت العقوبات؛ فالعلة واحدة، وهي الشرك والكفر وهذا ما يفسر لنا قوله تعالى: } وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا[59] {سورة الكهف. فالظلم هو الشرك كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أنزل الله تبارك وتعالى قوله: } الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[82] { سورة الأنعام شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ قَالَ: ' لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ }لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ{ بِشِرْكٍ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ : } يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[13]{ سورة لقمان .رواه البخاري ومسلم . فبين صلى الله عليه وسلم أن الظلم هو الشرك. فالمرحلة الأولى- كما قلنا- مرحلة الهلاك العام: تهلك الأمة بأكملها: }هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا[98] {سورة مريم.وأبقى الله تبارك الله وتعالى منهم: آثارهم، وديارهم}وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ[137]وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[138] {سورة الصافات. الناس يمرون ويرون آثارهم، أبقى الله آثار أصحاب الحجر قوم ثمود شاخصة؛ ليعتبر بها من اعتبر، وترك كذلك الأهرامات... الأوتاد التي بناها فرعون ؛ لتكون شاهدا وعبرة؛ ليبكي المؤمن ويعتبر كيف أهلك الله من بنوا هذه العجائب؟ .
المرحلة الثانية:وهي مرحلة ما بعد التوراة:والسبب الأساسي في إهلاك الأمم في هذه المرحلة هو:(/1)
? ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:} وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ[117] {سورة هود.ما دام فيها المصلحون فإن الله لا يعذبها ولا يهلكها، أما إذا لم يكن هناك مصلحون، فإن الله يعذبها مع وجود الصالحين كما سألت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ: [ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد .فالمانع من الهلاك ليس وجود الصالحين، وإنما وجود المصلحين الذين يجهرون، ويبذلون لتغيير المنكر والأمر بالمعروف .
ومن الأمثلة في هذه المرحلة: هذه القرية التي كانت حاضرة البحر، التي عوقبت عقوبة عامة في المرحلة الثانية من مراحل الهلاك هذه، لأن هذه القرية كما قضى الله: }إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ[163] {سورة الأعراف . ابتلاء من الله ففي يوم السبت حيث نهوا عن العمل تأتي الحيتان شُرَّعاً، تظهر طافحة على ظهر الماء، فتقترب منهم }وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ { تغور الحيتان في أعماق البحار فلا يجدونها؛ ابتلاء من الله، فماذا فعل اليهود هؤلاء، وهم أهل المكر والخبث والاحتيال في كل زمان ومكان؟كيف احتالوا ؟ قيل حفروا الحفر يوم الجمعة، فوقعت فيها الحيتان يوم السبت، فجاء الأحد، فأكلوا، أو نحو ذلك، والمقصود واحد:احتالوا فأكلوا مما حرم الله عليهم؛ إذ حرم ذلك عليهم يوم السبت، فحولوه إلى يوم آخر، فأكلوا، ووقعوا في المعصية، فما كان من قومهم غير الآكلين معهم إلا أن انقسموا فئتين:
فئة أنكرت، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر؛ فأنجاهم الله سبحانه وتعالى .
وفئة سكتت، فسكت الله تعالى عنهم، واختلف العلماء في شأنهم: هل أُهلكوا أم نجوا ؟ .
المرحلة الثالثة : وهي مرحلة ظهور الإسلام : ثم بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، وجاءنا بهذا النور العظيم، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس ، وقص الله علينا في كتابه العظيم من أسباب الهلاك في هذه المرحلة ما نعتبر به ونتعظ، فمن أسباب ذلك :
? الشرك: كما يتبين لنا من أخبار الأمم السابقة .
? ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهي العلة التي من أجلها لعن بنو إسرائيل: } لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[78]كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[79] {سورة المائدة . فإذا وقعنا فيما وقعوا فيه؛ فالنتيجة هي نفسها: اللعن والطرد والعقوبات، والعقوبات مختلفة، فمنها إذلال وقهر: بشر يسلطون على بشر ، فيستعبدون و يستذلون كما وقع من استذلال فرعون واستضعافه لبني إسرائيل، وهذا جانب أو جزء من العقوبات.
وقد صح عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ{قَالَ: [ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ ]} أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ{ قَالَ: [ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ ] فَلَمَّا نَزَلَتْ }أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ {قَالَ : [هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ] رواه البخاري والترمذي وأحمد .
رسول الله صلى الله عليه وسلم من كمال شفقته بأمته صلى ركعتين صلاة تامة ، وكل صلاته صلى الله عليه وسلم كذلك ؛ لكن الصحابة الكرام لفتت نظرهم هذه الصلاة؛فسألوه عنها، فقال: [ أَجَلْ إِنَّهَا صَلَاةُ رَغَبٍ وَرَهَبٍ سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا ثَلَاثَ خِصَالٍ فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُهْلِكَنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَنَا فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُظْهِرَ عَلَيْنَا عَدُوًّا مِنْ غَيْرِنَا فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يَلْبِسَنَا شِيَعًا فَمَنَعَنِيهَا] رواه النسائي والترمذي .فمنعه الثالثة، وهي الفرقة والفتنة بأن يستذل بعضهم بعضاً، أو يسلط عليهم من الأمم من يستضعفهم ويستذلهم ويستعبدهم أي الهلاك الذي لا يكون عاماً، ولكن يختص بعضهم دون بعض في بعض الأزمان دون بعض، وذلك إذا انحرفوا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
? انتشار البدع والضلالات: و هذا من أعظم أسباب الانحراف الموجبة لسقوط الأمم والشعوب في تاريخ الأمة الإسلامية بعد الشرك بالله، ومن الأمثلة:(/2)
? الدولة الأموية: كانت أقوى دول الدنيا جميعاً ، فهابها الروم والفرس، وكانت أكبر وأوسع الممالك في عهد بني أمية، فلما انتشرت البدع في آخرها مع أسباب أخر _ إلا أن هذا السبب واضح _ سقطت هذه الدولة.
? الدولة العباسية:وقعت في سببين من أسباب هلاك الأمة:
الأول: البدع .
الثاني: الترف الذي ذكره الله من أسباب الهلاك } وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[16] { سورة الإسراء .
فهنا نجد أن الدولة العباسية كان وزيرها هو الرافضي ابن العلقمي ، وكان يكاتب هولاكو ، ويستقبل المكاتبات ، ويرد عليها، ومن الذي يأمن أعداء الإسلام على بلاد الإسلام؟! وسرَّح هذا الرافضي الجيش، وكان هولاكو يريد الصلح، فكتب إليه: بأن لا صلح؛ لأنه لا جيش بل تدخل ، واتفقت الرافضة مع التتار ، ودخل هولاكو بغداد ، وكانت أكبر مجزرة في التاريخ الإسلامي .
إذاً البدع من أسباب سقوط الأمم، وإذا استُأمِن أهل البدع، ووُلُّوا في أمة فاعلم أن سقوطها قريب ، وأنهم سوف يوصلونها إلى الهاوية...لماذا ؟ لأن البدعة قرينة الشرك، ولأن أهل البدع أهل البريد إلى الهلاك كما هو حال الشرك نسأل الله العفو والعافية. والعقوبة على البدع أعظم من العقوبة على سائر المعاصي لأن المعصية أخف من البدعة والبدعة شر منها وأكبر كما لا يخفى عليكم.
? ثم جاءت الدولة العثمانية: وكان من أسباب هلاكها وهلاك المسلمين في القرن الماضي أنهم بالإضافة إلى ما سبق من البدع والترف هو أنهم: والَوا الكفار، وأعداء الله، والله قد تأَذَّن أن يهلك أعداءه و أن يدمرهم، فمن والى أعداءه؛ فله نصيبه فيما قد توعد الله تعالى به أعداءه لا شك في ذلك ولا ريب، فبدأت الذلة والضعف في الأمة الإسلامية في العصر الحديث بالامتيازات التي أعطاها سليمان القانوني للفرنسيين، ثم تلا ذلك ما تلاه من أحداث حتى مزقت الدولة تمزيقاً كاملاً نسأل الله العفو والعافية.
ماأشبه الليلة بالبارحة !
ونحن المسلمين- نسأل الله تعالى أن يرحمنا، ويلطف بنا- قد أخذنا بأسباب الهلاك: فالشرك هو السبب الأكبر ، وقد انتشر إلا ما رحم الله... البدعة ظهرت نسأل الله الحماية واللطف... الفساد قد وقع بالمعاصي، وكذلك الظلم، والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من ذلك: }أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ[6]إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ[7]الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [8]وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ[9]وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ[10]الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ[11]فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ[12]فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ[13]إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ[14] {سورة الفجر بالمرصاد كل من عمل عملهم، فستكون نتيجته وعاقبته كعاقبتهم ، وكفانا كلام ربنا سبحانه وتعالى تحذيراً نسأل الله أن يجنبنا، وإياكم موجبات عقوبته، وأسباب إهلاكه وعذابه ، إنه سميع مجيب .
من محاضرة:أسباب هلاك الأمم و الشعوب للشيخ/ سلمان العودة(/3)
أستاذ الجهاد أسد الدين شيركوه - فاتح الديار المصرية
كتبه / شريف عبد العزيز
مقدمة
مفكرة الإسلام : هناك بعض الشخصيات التاريخية في حياة أمة الإسلام كان لها دور بارز ونصيب وافر من التدوين والتعريف في كتب التاريخ، طارت أخبارهم وطبقت شهرتهم على كل من عاصرها فلم يبق ذكر إلا لها ولا مجد إلا إليها، على الرغم من وجود بعض الشخصيات الأخرى في نفس الوقت أو العصر كان لها من الدور والأثر ما ربما يفوق أثر وفعل الشخصية الأشهر فتنسى أفعالهم ومواقفهم في خضم شهرة الآخر، ومن هؤلاء صاحبنا أسد الدين شيركوه الذي هو عم الناصر صلاح الدين وأستاذه ومعلمه ومرشده الجهادي ومربيه على الحقيقة، والناس كلهم يعرفون صلاح الدين وقليل منهم من يعرف أسد الدين .
أسد الجبل
هو البطل الفذ والفارس الأسد أسد الدين شيركوه بن شاذى بن مروان بن يعقوب الدونيى الكردي، المولود ببلدة 'دوين' على أطراف أذربيجان مع جورجيا سنة 500 هجرية تقريباً، وشيركوه بالعربية : أسد الجبل، فشير :أسد، وكوه : جبل، نشأ هو وأخوه نجم الدين أيوب والد صلاح الدين، بتكريت لما كان أبوهما شاذى 'ومعناها فرحان' نقيب قلعتها، وكان نجم الدين أسن من أسد الدين، ويغلب على نجم الدين العقل والحكمة والتؤدة، في حين كان أسد الدين كالشهاب الحارق لا يصبر على إساءة أو عدوان أو انتهاك حرمات وهذا ما سينقل حاله من مكان لآخر .
من تكريت إلى الموصل
التحق أسد الدين وأخوه نجم الدين بخدمة الأمير 'بهروز' قائد شرطة بغداد عاصمة الخلافة العباسية، فأقطعهما الأمير 'بهروز' قلعة تكريت، فسارا في الناس سيرة حسنة، ووقعت حادثة سنة 526 هجرية خلاصتها أن أسد الدين ونجم الدين قد ساعدا الأمير البطل 'عماد الدين زنكي' عندما جاء إلى تكريت منهزماً في قتاله ضد بعض خصومه بالخلافة، حيث قدم الأخوان لعماد الدين زنكي السفن اللازمة لعبوره هو وجنوده نهر دجلة إلى مدينته 'الموصل' وكان الأمير 'بهروز' على خلاف شديد مع 'عماد الدين زنكي' فلم يعجبه هذا الفعل من أسد الدين ونجم الدين وتربص لهما الدوائر وتحين لهما الفرصة لمعاقبتهما .
كثرت التحرشات بنجم الدين وأسد الدين وأهلهم بقلعة تكريت من جانب جنود الأمير 'بهروز' حتى جاءت الفرصة التي يريدها، عندما تعرض أحد الجنود لفتاة من آل أسد الدين في الطريق واشتكت الفتاة لعمها أسد الدين، فنزل لهذا الجندي الماجن وتكلم معه بشدة فرد عليه الجندي بأن سحب عليه السلاح، فتشاجر الرجلان مشاجرة انتهت بمصرع الجندي الماجن فغضب الأمير 'بهروز' وأمر بطرد نجم الدين وأسد الدين وأهليهم من قلعة تكريت وذلك سنة 532 هجرية وفي نفس الليلة التي ولد فيها صلاح الدين يوسف بن أيوب .
قرر الأخوان الصالحان التوجه إلى أمير الموصل 'عماد الدين زنكي' والالتحاق بخدمته، فسارا إليه فأحسن استقبالهما وشكر صنيعهما معه، وضمهما لأمرائه وقادته وبالغ في إكرامهما وأقطعهما أقطاعاً حسناً، وجعل نجم الدين والياً على بعلبك وأسد الدين من مقدمي جيوشه، فعماد الدين زنكي كما قلنا من قبل كان خبيراً بمعادن الرجال، بصيراً بقدراتهم، قادراً على توظيفهم حسب ما يبرزون ويحسنون، فرأى في نجم الدين الرجل الحكيم العاقل القادر على السياسة والقيادة، ورأى في بطلنا أسد الدين القائد العسكري الشجاع القادر على تحويل دفة الحروب بشجاعته وإقدامه .
من عماد الدين إلى نور الدين
ظل أسد الدين شيركوه في خدمة عماد الدين زنكي، وخاض معه كل حروبه ضد الصليبيين وكان معه يوم فتح الرها وكان عماد الدين يحبه ويقدره لأنه كان مثله بطلاً شجاعاً لا يهاب الموت، وظل هكذا حتى كان معه في معسكره ليلة أن قتل عماد الدين سنة 541 هجرية، وعندها قام أسد الدين شيركوه بدور في غاية الأهمية، ذلك أنه حفظ معسكر المسلمين من الهرج والمرج الذي يحدث عادة عند مقتل القائد ثم قام بإعطاء خاتم الملك الخاص بعماد الدين لولده نور الدين محمود كناية عن خلافته لأبيه الشهيد، ثم قام بحراسة نور الدين محمود حتى وصل سالماً أمناً إلى مدينة 'حلب'، فعرف نور الدين هذا الجميل لأسد الدين، وصار من أقرب الناس إليه .
ومن ذلك اليوم أصبح أسد الدين شيركوه قائد جيوش نور الدين محمود أمير الشام الجديد وأصبح أخلص وأقوى أمراء الجيوش الشامية، ورجل المهام الصعبة الذي يعتمد عليه نور الدين محمود في النوازل وصعاب الأمور، وكان له المواقف المشهورة والبطولات المشهورة .
الأسد المعلم
كان أسد الدين شيركوه بحق الأستاذ الأول والمعلم الحقيقي والمكتشف البارع لقدرات ومواهب ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وذلك منذ كان صلاح الدين فتى يافعاً حيث رأى فيه شيركوه بعين الخبير الفاحص أن الفتى الصغير يجمع بين عقل وحكمة أبيه نجم الدين أيوب، وشجاعة وفروسية عمه أسد الدين شيركوه، وزهد وورع أميره نور الدين، وهى خصال ثلاث كفيلة بأن ترشح هذا الفتى لقيادة الأمة فيما بعد .(/1)
أدرك ذلك كله الأسد المعلم شيركوه في ابن أخيه فتعهده بالرعاية وضمه إليه وتولى تدريبه على فنون القتال وقيادة الجيوش وأساليب إدارة المعارك دفاعاً وهجوماً، كما تولى تعليمه فنون السياسة والمناورة والمفاوضة، حتى نضج الفتى اليافع وأصبح شاباً قوياً يصحبه أسد الدين في كل مكان وهو بمثابة الذراع اليمنى له ومن لا يعرفهما يظن أن صلاح الدين هو الابن الوحيد والمقرب لأسد الدين، ولعل تعليم وتدريب صلاح الدين من أهم وأفضل أعمال أسد الدين شيركوه .
الأسد فاتح الديار المصرية
كان أسد الدين شيركوه بحكم خبرته العسكرية الطويلة وبصيرته السياسية لأوضاع العالم الإسلامي وقتها يرى أهمية الديار المصرية وضرورة فتحها وإزالة الدولة الفاطمية الخبيثة بها والتي تسببت في ضياع بيت المقدس سنة 492 هجرية، فلقد كان أسد الدين شيركوه متأثراً بفكرة توحيد العالم الإسلامي ضد الوجود الصليبي، وكان يرى أن النصر على الصليبيين لن يتم إلا بتوحيد مصر والشام
لذلك كان شيركوه دائم الإلحاح على نور الدين لكي يفتح مصر ونور الدين يرى أن الوقت غير مناسب والإمكانيات غير متاحة، فالجيوش مشغولة في قتال البؤر الصليبية في جميع أنحاء الشام، ولكن نور الدين لم يترك فكرة فتح مصر بالكلية، بل انتظر الفرصة المناسبة .
كانت الأوضاع في مصر شديدة الاضطراب، فالخلاف على أشده بين شاور وضرغام على منصب الوزارة والخليفة العاضد الفاطمي ليس له من الأمر شيء، ولقد انتصر ضرغام على شاور وأخرجه من مصر فذهب مستنجداً بالملك العادل نور الدين محمود وضمن له ثلث إيراد مصر وأموراً أخرى إن هو أعانه على استعادة وزارته المفقودة، فوجد في ذلك نور الدين الفرصة المناسبة لفتح مصر وضمها للشام، فكلف قائد جيوشه أسد الدين شيركوه على أن يتوجه إلى مصر لذلك الغرض، ففرح الأسد بهذه المهمة وخرج في صحبته تلميذه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي ومعه ألف رجل فقط وذلك سنة 559 هجرية .
الأسد المرعب
وصل أسد الدين شيركوه بعسكره المكون من ألف رجل فقط إلى مدينة بلبيس حيث اشتبك مع جيش ضرغام وانتصر عليه، ثم واصل تقدمه إلى القاهرة حتى قضى على ضرغام وأعاد شاور لمنصب الوزارة وأقام هو بظاهر القاهرة انتظارا للوفاء بالعهود والمواثيق مع شاور ولكن شاور غدر به وأمره بالرجوع إلى الشام وهدده، فما كان من الأسد شيركوه إلا أنه دخل مدينة 'بلبيس' وامتنع بها وأرسل إلى شاور بأنه لن يتحرك من مكانه إلا بأمر قائده الملك العادل نور الدين محمود، وهكذا يكون الجندي الممتثل لأوامر قائده، حتى ولو كان هذا الجندي هو أعظم فرسان زمانه .
ولما كان شاور رجل لا يهمه إلا مصالحه الخاصة ومنصبه، فلقد أسرع وأرسل للصليبيين في الشام يستنجد بهم على أسد الدين، وكان الصليبيون منذ أن توجه أسد الدين إلى مصر قد أيقنوا الهلاك إذا فتح الشاميون مصر، فلما جاءتهم استغاثة شاور فرحوا بها وأرسلوا جيوشهم وقد بذل لهم شاور أموالاً طائلة من أجل الانتصار على بني دينه وهكذا نرى أهل الدنيا لا يبالون بشيء إلا بدنياهم ولا أي شيء يردعهم عن تحصيل دنياهم .
اجتمعت الجيوش الصليبية مع عساكر شاور الخائن وحاصروا أسد الدين شيركوه في بلبيس ثلاثة أشهر وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جداً يقفزه الفارس بفرسه وليس لها خندق ولا أي تحصينات، ومع ذلك لم يجسروا على اقتحام المدينة من شدة خوفهم من أسد الدين شيركوه الذي ظل يقاتلهم ليلاً ونهاراً بألف رجل لا غير وهم عشرات الألوف، وفي هذه الفترة أغار نور الدين على أملاك الصليبيين في الشام وفتح تل 'حارم'، فخاف الصليبيون على باقي أملاكهم وراسلوا أسد الدين في الصلح على أن يخرج كل منهم ومن الشاميين إلى بلادهم فوافق أسد الدين .
شهادة الأعداء
قديماً قالوا 'الفضل ما شهد به الأعداء' فاسمع لهذه الشهادة من أحد الصليبيين الذين شاهدوا أسد الدين شيركوه يوم حصار بلبيس ثم يوم الصلح قال [أخرج أصحابه بين يديه وبقى في أخرهم وبيده عود من حديد يحمى ساقتهم والمصريون والفرنج ينظرون إليه، فتقدمت منه وقلت له 'أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك ولا يبقى لكم بقية ؟' فقال شيركوه : ياليتهم فعلوه حتى كنت ترى ما أفعله، كنت والله أضع السيف فلا يقتل منا رجل حتى يقتل منهم رجال، والله لو أطاعني هؤلاء 'يعنى جنوده' لخرجت إليكم من أول يوم 'يعنى الحصار' ولكنهم امتنعوا' فقام هذا الصليبي بالتصليب على صدره وقال : كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك والآن فقد عذرناهم .
العزيمة الفولاذية(/2)
رجع أسد الدين شيركوه إلى الشام وهو يتلمظ غيظاً على الوزير الخائن 'شاور' والأوضاع المتردية في الديار المصرية، ويتحرق شوقاً لمعاودة الكرة مع الصليبيين وخونة المصريين، وهو مازال يلح على الملك العادل نور الدين محمود في العودة إلى مصر، حتى وافق نور الدين على ذلك سنة 562 هجرية، وانطلق أسد الدين في جيش يقدر بألفين من المقاتلين .
أسرع 'شاور' كعادته وأرسل للصليبيين بالشام يستنجد بهم، فجاءوه بألوف مألفة من أجل إدراك ثأرهم مع أسد الدين وتحقيق مبتغاهم باحتلال مصر، وكان أسد الدين يتحرك بسرعة لخفة جيشه، فوصل إلى الصعيد وفتحه ثم عسكر في منطقة البابين 'قريب من محافظة المنيا الآن' وقد رفعت له الجواسيس الأخبار عن ضخامة الجيش الصليبي ومن معه من عساكر شاور، فعقد اجتماعا مع قادة جيشه فأشاروا جميعاً بالرجوع إلى الشام لقلة عددهم وتسليحهم وبعدهم عن أوطانهم، فوقف أسد الدين كالطود العظيم وأصر على القتال واستعان بالله ووافقه ابن أخيه صلاح الدين، ثم قام أسد الدين شيركوه بوضع خطة عسكرية في غاية الذكاء بحيث أن استدرج معظم الجيش الصليبي لقلب الجيش المسلم ثم هجم هو في كتيبة منتقاه من خلاصة الأبطال على مؤخرة الجيش الصليبي، فوضعه في شبه دائرة، وانتصر انتصارا عظيماً لم يسمع بمثله في التاريخ كما يقول المؤرخ ابن الأثير .
بعد معركة البابين توجه أسد الدين وجنده الشامي إلى الإسكندرية بعد أن استدعاه أهلها الذين أرادوا نصرة إخوانهم المجاهدين الشاميين، ثم ترك بها حامية يقودها صلاح الدين ثم توجه إلى الصعيد لمواصلة الفتح، فانتهز الصليبيون الفرصة وحاصروا الإسكندرية حصاراً عنيفاً طيلة تسعة أشهر، فعاد الأسد لنصرة أهل الإسكندرية وابن أخيه، فخاف الصليبيون منه خوفاً شديداً جعلهم يطلبون منه الصلح، فاشترط عليهم مغادرة مصر ولا يتملكوا منها قرية واحدة فوافقوا .
الخيانة العمياء
لم يعلم أسد الدين شيركوه عندما اتفق مع الصليبيين على الخروج من مصر، أن الخيانة والعمالة التي تسرى في دم الوزير الخائن 'شاور' سوف تدفعه لأن يعقد اتفاقاً سرياً مع الصليبيين يتعهد فيه بدفع مائة دينار سنوياً من إيراد البلاد للصليبيين كي ما يتقووا بها على حرب نور الدين في الشام، ثم يكتف الخائن بهذه الفعلة القذرة، بل اتفق معهم على أن يكون للصليبيين حامية من كبار فرسانهم تحرس أبواب القاهرة وذلك سنة 562 هجرية .
لم يكن بقاء هذه الحامية من أجل الحرص على سلامة مصر والمصريين أو السهر على راحتهم ! بل كانت ترصد الأخبار والأحوال تمهيداً لعودة الصليبيين مرة أخرى في الفرصة المناسبة وهو ما حدث بالفعل في أوائل 564 هجرية، عندما أرسلت الحامية الصليبية إلى ملك بيت المقدس الصليبي 'أملريك' تعرفه أن الأوضاع مهيئة في مصر لدخول القوات الأجنبية .
حشد 'أملريك' جيوشه وانطلق إلى مصر بأقصى سرعة وكانت مدينة 'بلبيس' أولى محطاته حيث قام الصليبيون هناك بمجزرة مرعبة لأهل المدينة كلها بحيث لم يتركوا منها أحداً كما هي عادتهم البربرية الوحشية، ثم نزلوا إلى القاهرة وضربوا عليها حصاراً شديداً، فأقدم الخائن شاور على فعلة في غاية الحقارة والذلة وأيضا في غاية الغباء السياسي حيث أقدم على حرق القاهرة ليرجع عنها الصليبيون، وظلت النار تأكل القاهرة 54 يوماً فأرسل الناس وعلى رأسهم العاضد الفاطمي إلى نور الدين يستغيثون به من الصليبيين وشاور .
الفتح الأخير
لقد كان فتح مصر بالنسبة لأسد الدين شيركوه الخطوة الأخيرة في تحقيق حلم حياته بتوحيد العالم الإسلامي في مصر والشام لطرد العدو الصليبي الجاثم على الأرض المقدسة منذ سبعين سنة، لذلك فإننا نجد أن أسد الدين شيركوه منذ أن خرج لمصر سنة 559 هجرية وهو لا يفكر ولا يسعى ولا يتجهز إلا لفتح مصر والمعاودة إليها مرة بعد مرة، على الرغم من الأهوال والشدائد التى لاقاها في كل مرة .
وكان أسد الدين مقيماً في 'حمص' عندما جاءته رسالة نور الدين محمود بالقدوم إلى حلب استعداداً لإنقاذ مصر فركب البطل العجوز الذي جاوز الستين فرسه بعد صلاة الفجر وانطلق بأقصى سرعة حتى وصل 'حلب' قبيل الغروب وهذا الأمر لم يتسن لأحد من الناس سوى الصحابة رضوان الله عليهم أن يقطعوا هذه المسافة الطويلة في هذا الوقت الوجيز فسر نور الدين بذلك جداً وجهزه بجيش مكون من ألفي فارس وقام أسد الدين بجمع ستة آلاف فارس آخر من متطوعة الشام لفتح مصر وانطلق الأسد يزأر ويرعد ويبرق ويتوعد الصليبيين والخونة المنافقين في مصر .(/3)
كما قلنا من قبل كان الصليبيون في قمة الخوف والفزع من مجرد ذكر اسم أسد الدين شيركوه، فلقد كان كابوسهم المفزع الذي يقض مضاجعهم، فلما جاءتهم الأخبار بقدوم الأسد وجنوده الشامي على جناح السرعة أجمعوا أمرهم على الرحيل من مصر بعد أن هزموا بها مرتين من قبل على يد أسد الدين، وبالفعل رحلوا مذعورين هاربين، ودخل الأسد المظفر القاهرة فاتحاً منتصراً من غير أن يشهر سيفاً واحداً هذه المرة، فلقد نصره الله عز وجل بالرعب .
حاول شاور الخائن أن يستدرج الأسد لدعوة طعام مسموم ليهلك فيها هو وأصحابه ولكن الكامل بن شاور الابن الأكبر لشاور وكان رجلاً صالحاً مجاهداً نهى أباه عن هذه الفعلة وهدده بأن سيخبر شيركوه وقال كلمته الشهيرة عندما قال له أباه الخائن 'شاور' [والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعاً] قال الكامل صدقت ولأن نقتل ونحن مسلمون والبلاد إسلامية، خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فإنه ليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه] .
لقي شاور جزاء خيانته وعمالته للصليبيين حيث أمر العضد الفاطمي بإعدامه، وتولى أسد الدين شيركوه الوزارة في مصر وأخذ في التدبير والعمل من أجل إسقاط الدولة الفاطمية الخبيثة وتوحيد مصر والشام تحت حكم نور الدين محمود خاصة بعد إلحاح الخليفة العباسي المستضيء بالله على ذلك الأمر، ولكن القدر المحتوم والأجل المكتوب جاء للأسد في ميعاده المعلوم فأصيب الأسد بذبحة صدرية قتلته رحمه الله في 22 جمادى الأخر 564 هجرية بعد أن حقق مراده وكلل سعيه وجهاده الطويل بفتح مصر، وسبحان الله لقد خاض هذا البطل أكثر من مائة وخمسين موقعة وتعرض للشهادة في كل موطن وسعى لها سعياً حثيثاً ولكنه مات على فراشه وصدق الصديق عندما قال [احرص على الموت توهب لك الحياة] .
فلقد كانت سيرة هذا الرجل ترجمة لحياة المجاهد المعتز بدينه وإسلامه ولا يرى له عملاً سوى تحرير الأرض المحتلة، والذي كانت أخباره ووقائعه مليء الصدور وصورته مليء العيون وهيبته وقدره في نفوس عدوه كفزع الزلازل والأعاصير والبراكين، فرحمه الله على الأسد شيركوه الذي ترك لنا مثل هذه السيرة وتخرج من مدرسة بطولته وشجاعته وحلقة جهاده الناصر صلاح الدين .
المراجع والمصادر :
الكامل في التاريخ / سير أعلام النبلاء / البداية والنهاية
وفيات الأعيان / السلوك للمقريزي / العبر في خبر من غبر
الروضتين في تاريخ الدولتين / شذرات الذهب / النجوم الزاهرة
مفرج الكروب / حسن المحاضرة / أيام الإسلام .(/4)
أستاذ جامعي يزعم أن محمدا لم يكن إلا تاجرا
من مسلسل الهجوم التافه على الإسلام من أبنائه
أ.
د/إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
كنت أبحث منذ عدة أعوام فى مكتبة جامعة "أم القرى" بالطائف عن كتاب لوالتر سكوت الروائى الإنجليزى المشهور، فإذا بى أعثر بدلا منه على كتاب "Islamic History- A New Interpretation" (مطبعة جامعة كمبريدج 1980م) للدكتور محمد عبد الحى شعبان، الذى كان يشتغل فى جامعة إكستر البريطانية أستاذا للتاريخ الإسلامى ورئيسا لقسم اللغة العربية ومديرا لمركز دراسات الخليج العربى. وكنت قد سمعت به وأنا فى بريطانيا (1976م- 1982م) سماعا عارضا، وكان ذلك فى سياق الحديث عن تهجمه على الرسول عليه الصلاة والسلام واتهامه له بأن غزواته كانت فى الواقع عملا من أعمال قطع الطريق، وهو ما أثار شهيتى لقراءة ما كتبه الرجل عن الرسول عليه الصلاة والسلام فى ذلك الكتاب، وهو فى الفصل الأول منه. وقد قرأت الفصل، وكان لى عليه عدد من المراجعات والتعليقات: بعضها خاص بالمنهج، وبعضها يتصل بالأفكار ذاتها، ولسوف يرى القارئ من خلالها مدى التفاهة الفكرية والسطحية المنهجية التى يعالج بها دينَ محمد كارهوه رغم تصايحهم دائما بالمنهجية العلمية، فهم كلهم من طينة واحدة.
أولى الملاحظات أن المؤلف على طول الفصل الذى نحن بصدده، وهو أساس الكتاب (لأن الكتاب يتناول تاريخ الإسلام، والفصل يتعلق بنبى هذا الإسلام ورسوله) لا يذكر أى مصدر، بل لا يستشهد بأى مرجع عربى، اللهم إلا "قتوح البلدان" للبلاذرى. وفى أى شىء؟ فى معلومة جانبية تافهة هى أنه كان لليهود مركز تجارى فى الطائف، بل إنه لم يكلف خاطره أن يذكر نص ما قاله البلاذرى فى ذلك، واكتفى بما فهمه هو من كلام الرجل. وكل مراجعه فى هذا الفصل مقالان لكِسْتَرْ وآخر لسرجنت، وثلاثة كتب لمونتجومرى وات، وكتاب لبيلاييف. وهذه الكتب هى كتب تحليلية بالدرجة الأولى، فهى لا تقدم معلومات بل تطرح آراء وتفسيرات، وتنطلق كلها تقريبا من التفسير الماركسى للتاريخ وحركة المجتمعات. علاوة على أن مقال سرجنت ليس فى صلب الموضوع، بل عن "الحَرَم" و"الحَوْطَة". ومع هذا كله، وهو مخجل، فإن المؤلف، فى مقدمة الكتاب، يدَّعى بجرأة يُحْسَد عليها أنه قد رجع إلى كل المصادر والمراجع المتاحة! أهذه بالله هى كل المصادر والمراجع المتاحة فى الموضوع لأستاذ جامعى متخصص؟ يا ضيعة العلم والمنهج العلمى!
الكاتب إذن يسطّّر فصلا كاملا عن أول وأهم وأخطر شىء فى التاريخ الإسلامى بهذه الخفة وتلك اللامبالاة، وكأنه يكتب موضوعا فى مادة التعبير عن جمال القمر، أو عبير الورد فى البستان، أو المقارنة بين السيف والقلم. أهكذا يكتب التاريخَ أساتذةُ التاريخ؟ إن كان هذا هو المنهج العلمى فى كتابة التاريخ أو أى فرع آخر من فروع المعرفة فقل: يا رحمن! يا رحيم! أين القرآن الكرم وتفسيراته؟ أين أحاديث النبى الذى يدور حوله هذا الفصل؟ أين كتب السيرة النبوية والغزوات وطبقات الصحابة؟ أين كتب الطبرى وابن الكلبى والواقدى وابن حزم وابن الأثير والمقريزى...إلخ؟ لا شىء من هذا كله ولا من غيره بالمرة! (يمكن الرجوع مثلا إلى كتاب "مصادر السيرة النبوية وتقويمها" للدكتور فاروق حمادة/ دار الثقافة/ الدار البيضاء/ 1400هـ- 1980م، حيث يعرض المؤلف ويناقش عددا كبيرا من المصادر والمراجع الخاصة بسيرة النبى عليه السلام ومدى وثاقة كل منها). هذا، والكاتب بَعْدُ هو أستاذ فى جامعة بريطانية شهيرة، وليس مدرسا فى مدرسة ابتدائية أو إعدادية. فهل هذا هو المنهج الذى يعلمه لطلبته فى الجامعة والدراسات العليا؟
والذى يقرأ الفصل الذى بين أيدينا سيجد د. شعبان يصول ويجول كما يحلو له دون أى قيد، فقد نبذ مصادر الدراسة ومراجعها وراءه ظِهْرِيًّا، وأخذ يسود من الصفحات ما يحلو له ويملؤها بالكلام الذى يعجبه دون رقيب أو حسيب! ولسوف يشعر القارئ بدُوَار هائل من غياب الإحساس بمسؤولية العلم والقلم ومن جرأة المؤلف على الحقائق والتاريخ وشخصية الرسول صلى الله عله وسلم جرأةً يصعب أن نجد لها نظيرا بين من يكتبون التاريخ. إن حَقَدَة المستشرقين والمبشرين لا يفوتهم، رغم سوء نيتهم وخبث كيدهم، أن يذكروا مصادرهم ومراجعهم ويسوقوا كل ما يعين على مراجعتها كى يتمكن القارئ من العودة إليها بنفسه إذا أراد، بغض النظر عن أنهم قد يملخون النصوص من سياقها أو يتلاعبون فيها بطريقة أو بأخرى أو يضفون عليها تفسيرا ليست منه ولا هو منها. أما المؤلف، وهو ذو أصل إسلامى، فإنه يتجاهل هذا كله، وينطلق فيكتب، كما قلت، عن أخطر وأهم وأول شىء فى التاريخ الإسلامى دون الاستنادة إلى أى مصدر أو مرجع عربى، بل ولا إلى أى مرجع أوربى يقدِّم حوادث العصر الذى يدور حوله الفصل وأخبار سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم!(/1)
والعجيب الغريب أن المؤلف يأخذ على بيلاييف اعتماده على آراء فردريك إنجلز فى كلامه عن الإسلام والظروف التى أحاطت بظهوره أكثر مما يعتمد على المصادر المتصلة بهذا الموضوع. فهلاّ قال هذا الكلام لنفسه وانتفع به؟ أم هو مجرد كلام والسلام؟ إذن فلا عجب إذا وجدناه يقول كلاما عجيبا ما أنزل الله به من سطان، ويدّعى أشياء لم تحدث قط. أليس يكتب من دماغه دون أى توثيق؟ فما حاجته إذن للالتزام بحقائق التاريخ ووقائعه؟ وما الذى يمنعه أن يلويها على هواه ويفسرها بأى شىء يعنّ له ببال؟
إنه يدعى أن المبدأ الأساسى فى دعوة النبى عليه السلام على مدار حياته كلها كان هو التعاون بين الأغنياء والفقراء، ومن هنا فإنه (كما يقول) كان دائم الإلحاح على أن الشر كل الشر فى تكديس الأموال. كما يزعم أن خططه عليه السلام كان هدفها الأوحد والدائم هو استمرار التجارة فى عصره وازدهارها. أهذا كلا م يقوله رجل يقيم للتاريخ وزنا ويحترم عقول قارئيه؟ فليؤمن المؤلف هو أو غيره أو فليكفر، فهذا شأنه، أما القول بأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يهمه إلا التجارة ولم يَدْعُ طوال حياته (يقصد سِنِى رسالته) إلا إلى التعاون بين الأغنياء والفقراء فهذا ليس مرجعه إلى ما يشاء المؤلف، لأن حقائق التاريخ ووقائعه أكبر مما نشاء، وينبغى احترامها والحرص على نقلها بصدقٍ بغضّ النظر عما نحب أو نكره.
لقد دعا الرسول الأكرم، ضمن ما دعا إليه، إلى البر بالفقراء والمساكين والمحرومين، وجعل الإسلامُ لهم حقا معلوما فى أموال الأثرياء، لكن هذا ليس كل شىء، ولا هو أول شىء فى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وعجيب أن يقول المؤلف ما قال وكأنه يتحدث عن نبى ذهب فى حِقَب التاريخ الأول قبل نشوء الكتابة والتدوين فلم يَعُد معروفا عنه شىء إلا اسمه! هل هذا معقول؟ وهل معقول أن يكون الدكتور جاهلا بالإسلام ورسالته إلى هذا الحد، وهو المصرى الذى نشأ وتربى فى بيئة مسلمة؟ أهكذا تفعل أوربا بالناس؟ لا أقصد أنها تجعلهم ينبذون ما كانوا يؤمنون به من قبل، فقد قلت إن لكل إنسان الحق فى أن يؤمن أو يكفر كما جاء فى القرآن الكريم، بل أقصد لَىّ التاريخ ومحاولة طمس حقائقه. ولكن ماذا نصنع، وهناك ناس عندهم الجرأة على إنكار الشمس فى رائعة النهار كما يقولون؟
هل يظن المؤلف أنه بما سطَّر من مزاعم سيُقْنِع الناسَ فعلا بأن رسالة محمد لم يكن لها من هدف إلا التجارة والتعاون بين الأغنياء والفقراء فى سبيل نجاحها وازدهارها، وأنه لم يكن فيها وحدانية، ولا بعث وحساب، ولا جنة ونار، ولا ملائكة وشياطين، ولا صلاة وزكاة وحج، ولا صدق وأمانة وكرم وشجاعة وسعى حثيث فى سبيل الرزق، ولا حب ومودة، ولا نظافة ولياقة وتهذيب وذوق اجتماعى مصفًّى...إلخ؟ لقد كان فى رسالة سيد البشر العقائد والعبادات والمعاملات والسلوك والجهاد والأحوال الشخصية، وليست التجارة إلا فرعا واحدا من فروع المعاملات، فأى معنى لاختزال ذلك كله فى شىء واحد ليس إلا؟ أليس فى القرآن والأحاديث وما كتب المسلمون فى علم الكلام والفقه والأخلاق إلا التجارة والتعاون بين الفقراء والأغنياء؟ أليس عجيبا أشد العجب أن يجد الإنسان نفسه مضطرا إلى توضيح البديهيات وتأكيدها؟ ولكن ما العمل، وهذا ما يقوله أستاذ جامعى فى جامعة من أشهر جامعات العالم؟
وهو يقول أيضا: "إن أية محاولة لدراسة أنشطة محمد فى مكة والجزيرة العربية دون الالتفات إلى مسألة التجارة لتساوى بالضبط دراسة الكويت أو الجزيرة العربية الآن دون أخذ البترول فى الاعتبار". قد يكون الشق الثانى من هذا الكلام صحيحا. كذلك فمن المؤكد أنه لا يمكن فهم الإهداء المشحون بعبارات المديح والثناء الطنّان الذى وجهه المؤلف فى صدر الجزء الثانى من كتابه إلى الشيخ أحمد زكى يمانى والذى جاء فيه: "إلى صديقى الشيخ أحمد زكى يمانى، الذى أعادت سياسته إلى الحياة كثيرا من خصال أسلافه العظام" إلا إذا أخذنا "البترول" فى الاعتبار، إذ كان يمانى وقتها وزيرا للبترول فى المملكة العربية السعودية. أما هذه المطابقة بين دعوة الرسول عليه السلام والتجارة فكَلاّ ثم كَلاّ، لأنها عدوان أثيم غشيم على التاريخ وحقائق التاريخ!
ويستمر المؤلف فى غيه وعدوانه على حقائق التاريخ فيزعم أن الرسول عليه السلام حينما عرض على عدد من المسلمين الهجرة إلى الحبشة للاحتماء بملكها العادل الذى لا يُظْلَم عنده أحد إنما أرسلهم بغية إقامة علاقات تجارية مستقلة لولا أن قريشا أحبطت مسعاه. طبعا، والدليل على ذلك أن الجمارك الحبشية بناء على التبليغ الذى قام به رسولا قريش آنذاك فى الحبشة قد ردّت هؤلاء المهاجرين إلى مكة فى "بلاليص" مختومة بالشمع الأحمر، وعليها بطاقة تقول إن هذه البضاعة قد انتهت فترة صلاحيتها. لا تؤاخذنى أيها القارئ الكريم، فإن الكاتب منا إذا لم يضحك إزاء مثل هذا الكلام طَقَّ من الغيظ!(/2)
أتدرى من أين استمد المؤلف العبقرى هذا الخبط العجيب؟ إنه يشير إلى مونتجومرى وات وكتابه "Muhammad at Mecca". أما ابن إسحاق وابن هشام والواقدى والسهيلى فكأنْ ليس لهم وجود أو كأنهم لم يكتبوا فى السيرة النبوية وهجرة بعض المسلمين إلى الحبشة شيئا. لقد ذكر ابن هشام مثلا فى سيرته عن ابن إسحاق أنه "لما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها مَلِكًا لا يُظْلَم عنده أحد، وهى أرضُ صِدْق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم" ("السيرة النبوية" لابن هشام/ المكتبة الفاروقية/ ملتان/ باكستان/ 1397هـ- 1977م/ 1/ 204). ثم ذكَر شعورَهم بالأمن بأرض الحبشة وحَمْدهم جِوارَ النجاشى وعبادتَهم الله هناك لا يخافون على ذلك أحدا، وأن النجاشى قد أحسن جوارهم، كما ساق الأشعار التى قالها بعض المهاجرين تعبيرا عن هذه المشاعر. وعقَّب على ذلك بما يقوله اين إسحاق من أن قريشا "لما رأت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أَمِنُوا بها دارا وقرارا ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم رجلين من قريش جليدين إلى النجاشى فيردّوهم عليهم ليفتنوهم فى دينهم ويخرجوهم من أرضهم التى اطمأنوا بها وأَمِنوا فيها" (المرجع السابق/ 1/ 210). ثم إن النجاشى لم يشأ أن يتخذ أى تصرف قبل أن يسمع من المهاجرين، الذين تلخَّص دفاعُهم عن أنفسهم فى المقارنة بين الشرك الذى كانوا عليه وأكْلهم الميتة وإتيانهم الفواحش وقطْعهم الأرحام وإساءتهم الجوار وأكْل القوى منهم الضعيف وبين الإسلام وما يدعو إليه من الوحدانية والصلاة والزكاة والصيام والصدق والأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، والانتهاء عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات. ثم قرأوا عليه، بناءً على طلبه أن يسمع منهم شيئا من القرآن الذى جاءهم به نبيهم، آيات من سورة "مريم"، مما أبكى النجاشى حتى اخضلَّت لحيته وجعله يقول: "إن هذا والذى جاء به عيسى لَيَخْرُج من مِشْكاةٍ واحدة". ومع ذلك لم ييأس السفيران وعادا للنجاشى فى اليوم التالى وأخبراه أن المسلمين يقولون إن عيسى عَبْد لا إله، فلم تنجح المكيدة أيضا، إذ أمّن النجاشى على ما يقول المسلمون فى هذا الصدد (السابق/ 1/ 212- 213. ويمكن الرجوع أيضا إلى الترجمة الإنجليزية التى قام بها المستشرق البريطانى ألفرد جِيّوم لسيرة ابن إسحاق: The Life of Muhammad, Oxford University Press, 198o, PP. 146- 153).
هذا ما يقوله ابن إسحاق وابن هشام فى السيرة النبوية، وهو نفسه مايقوله كل كُتّاب السيرة والمؤرخين المسلمين. وليس فيه، كما نرى، أى كلام عن التجارة والمال والاقتصاد، وإنما الكلام عن الوحدانية وعبادة الله والمبادئ الخلقية النبيلة التى جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وأن عيسى ليس إلا عبدا لله ونبيا. وهو أيضا نفس ما يقوله المستشرقون الذين يحرصون على توثيق كلامهم والرجوع إلى مصادر الموضوع ومراجعه كواشنطن إرفنج وجورج سِيل وألفرد جيوم ووليم مُوِير...إلخ، ومنهم مارتن لنجز، الذى كان تخصصه الأصلى فى الأدب الإنجليزى ثم تحول فيما بعد إلى دين محمد واهتم بدراسة الإسلام وكتب سيرة للنبى عليه السلام استند فيها إلى المصادر الإسلامية عنوانها "Muhammad- His Life Based on the Earliest Sources" (انظر ص 80 وما بعدها، طبعة George Allen and Unwin, 1983). وكيف يصحّ كلام المؤلف العجيب، ولم تكن للمسلمين آنذاك دولة حتى يفكر الرسول فى إقامة علاقات تجارية بينها وبين الدول المجاورة؟ بل إنه حتى عندما قامت الدولة الإسلامية فى المدينة لم نسمع قطّ أنه عليه السلام قد فكر فى مثل هذه الخطوة! فانظر بالله عليك أيها القارئ واعجب ما شئت من هذا الكلام الذى لا طعم له ولا لون ولا رائحة!
إن الكاتب، وهو ( كما قلت) عربى مصرى مسلم، يخترع ويؤلف، أو يتابع مونتجومرى وات فى اختراعه وتأليفه، وكأن التاريخ اختراع وتأليف! ومتى؟ بعد وقوع حوادثه بألف وأربعمائة عام! أليس هذا شيئا رهيبا؟ لو أن المؤلف، حين كتب ما كتب، قد اعتمد مثلا على رواية حبشية لحوادث الهجرة تخالف ما عند المسلمين لقلنا له: نعم ونعام عين! ولكن أين هذا المصدر الحبشى؟ أم ترى المؤلف يلجأ إلى أسلوب الكُهّان وضاربى الودع؟ لكن هل يحتمل مثل هذا الموضوع بجلاله وخطره ذلك الهزل؟ إن هذا وَايْمِ الله لعيب كبير! إن المسألة ليست مسألة إيمان أو كفر كما قلت، ولكنها مسألة احترام لمنهج البحث والحقيقة، بل احترام أصحاب الأقلام قبل ذلك لأنفسهم!(/3)
وبنفس الطريقة يعلل المؤلف ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حيث تقيم قبيلة ثقيف، الذين يصفهم بأنهم "المشاركون الصغار فى التجارة المكية". وأية تجارة تلك التى قصد محمد الطائف من أجلها يا ترى؟ لقد كان بعض كبار ثقيف يقولون استنكارا لنزول الوحى على محمد من دونهم: "لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم؟" (الزخرف/ 31). فهذه إذن هى نظرة رجال ثقيف إلى الأمر. إن عنادهم وكبرهم وغباءهم قد سوَّل لهم أن يكفروا بمحمد لا لشىء إلا لأنه لم يكن فى نظرهم رجلا من رجال مكة والطائف العظماء، أى الأغنياء. لقد كانوا يظنون، بسبب عنجهيتهم وانغلاق عقولهم، أن مكانة النبوة السامية ينبغى أن تكون تبعا للمركز المالى للشخص. فمن أين أتى المؤلف بهذا الكلام عن التجارة؟ ثم من يا إلهى الذى يقرأ دعاء النبى عليه السلام بعد أن طاردته الحجارة وأدمت عقبيه وألجأته إلى أحد البساتين هناك، هذا الدعاء الذى يهز الكيان كله هزًّا ويفجّر الدمعَ فى العيون والحنانَ فى القلوب، ثم تواتيه نفسه بعد ذلك أن يقول إن محمدا قد ذهب إلى الطائف لأغراض تجارية، اللهم إلا أن يكون ذلك الشخص مدخول الضمير؟ ألا شاهت الوجوه! إن من الحجارة، كما جاء فى القرآن الكريم، لما يتفجر منه الأنهار، ولكن بعض الناس أشد قسوة من الحجارة! إنها هى القلوب التى وصفها القرآن بأن عليها أقفالها! والآن إلى هذا الدعاء العجيب: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربى. إلى من تَكِلُنى؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمنى أم إلى عدوًّ ملَّكتَه أمرى؟ إن لم يكن بك غضبٌ علىَّ فلا أُبالى، ولكن عافيتك هى أوسع لى. أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنْزِل بى غضبك أو تُحِلّ بى سخطك. لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك!" ("السيرة النبوية" لابن هشام/ 1/ 261. وهذا الدعاء لا يزال، حتى فى ترجماته الإنجيزية التى اطَّلَعْتُ عليها وأنا بسبيل إعداد هذا البحث، يشع نورا وحنانا وعظمة ونبلا. انظره كاملا فى ترجمة جيوم لسيرة ابن إسحاق/ 193، وكتاب مارتن لينجز: Muhammad- His Life Based on the Earliest Sources, P. 98- 99 ، وفقرات منه فى كتاب H. M. Balyuzi: Muhammad and the Course of Islam, George Roland, Oxford, 1976,P. 40). بالله أهذا كلام رجل كان سفره إلى الطائف لأسباب تجارية؟ إن أحد الباحثين المعاصرين يعلق على ذلك بهذه الكلمات: "ألا ليت كان ثمة فى بعض الصدور البشرية قلب رقيق لكى يدرك صفاء الروح التى أطلقت العِنان لمشاعر فى مثل هذا السموّ كله وسط ظروف فى مثل هذه القسوة كلها!... أى إيمان راسخ بالله كان إيمانه! وأى إذعان بهيج للمشيئة الإلهية كان إذعانه! وأى سعادة روحية محضة كانت سعادته! إن هذه كلها (كذلك قال) لم تكن شيئا مذكورا ما دام يتمتع برضا الله وارتياحه" (مولانا محمد على/ حياة محمد ورسالته/ ترجمة منير البعلبكى/ ط3/ دار العلم للملايين/ بيروت/ 1976م/ 107).
ويقول التاريخ إن عداسا غلام أصحاب البستان الذى التجأ إليه النبى من سفاهة أوباش الطائف وأذاهم عندما جلس إلى النبى، بعد أن قدم له قِطْفًا من العنب وتحاور معه قليلا وسمعه يسمِّى الله قبل أن يأكل، أَكَبَّ على رأسه ويديه وقدميه يقبلها (السيرة النبوية/ 1/ 262)، وذلك لما كان يتمتع به ذلك الغلام من إنسانية وقلب حى. بيد أن أناسا على غير شاكلة عداس، ذلك الغلام الإنسان النبيل، يفضلون أن يقبّلوا شيئا آخر هو أحذية أعداء الإسلام.
ويعزو المؤلف الفتور الذى قابل به اليهودُ وبعضٌ من سكان المدينة انتشار الإسلام فيها إلى التجارة، كما يعزو ترحيب اليثربيين (الذين قابلوه عليه السلام سرا فى مكة) به وبدينه وبهجرته إليهم واستعدادهم للدفاع عنه إلى ذلك العامل أيضا، عامل التجارة. ذلك أنهم، كما يزعم، كانوا على علم بخبرته فى التجارة هو ومن هاجروا معه إليهم.(/4)
ونسأل: من أين للمؤلف بهذا؟ أفتح قلب النبى عليه السلام وقلوب أهل يثرب فوجد فيها شيئا آخر غير ما أعلنوه لبعضهم البعض وسجلته كتب الحديث والسيرة والتاريخ من دعوته إياهم إلى الإسلام وقبولهم هذه الدعوة ودخولهم فى دين الله؟ وبالنسبة لليهود، أهذا الذى ذكره هو السبب فى نفورهم من الإسلام وعدائهم لصاحبه وأتباعه؟ إن المؤلف لا يؤمن بطبيعة الحال بقدسية القرآن وأنه وحى من لدن رب العالمين. فليكن، فذلك شأنه. ومن هنا فإذا قلنا إن القرآن يؤكد أن اليهود كفروا بمحمد ودينه حسدًا من عند أنفسهم وبغضًا أن ينزل الله وحيه على إنسان من غير بنى إسرائيل، فلسنا نطالبه بالإيمان بهذا بوصفه وحيا إلهيا بل بوصفه كلاما (مجرد كلام) سمعه اليهود ووَعَوْه، ومع ذلك لم يعترضوا على ما جاء فيه فيردّوا عليه بأن محمدا إِنْ هو إلا تاجر جاء إلى يثرب لينافسهم على لقمة العيش فعادَوْه من أجل ذلك. أم إن هناك مصدرا عبرانيا استقى منه المؤلف هذا الكلام المُمْغِص؟ فلْيُطْلِعْنا عليه إن كان من الصادقين!
ويمضى المؤلف فى تفسيره العجيب ذى النغمة الواحدة المسئمة فلا يرى فى "الصحيفة" التى كتبها النبى لتنظيم العلاقة بين طوائف المدينة بعضها وبعض فى الدِّين والسلم والحرب إلا اتفاقية تجارية. إن الصحيفة تخلو من أية إشارة إلى التجارة وأى شىء يتعلق بها (انظر هذه الصحيفة فى "سيرة ابن هشام"/ 2/ 16 وما بعدها. ويوجد تلخيص لها فى "The Life of Muhammad" لجيوم/ 231 وما بعدها، و"Muhammad- His Life Based on the Earliest Sources " لمارتن لينجز/ 125- 126، و" Muhammad and the Course of Islam" للبليوزى/ 56- 57، و"حياة محمد ورسالته" لمولانا محمد على/ 129- 130). والمؤلف نفسه يقر بذلك، لكن لا تظن أنه ستُعْيِيه الحيلة للخروج من هذه الورطة. أتدرى ماذا قال؟ لقد قال إن مسألة التجارة كانت، فيما يبدو، أمرا مسلَّما به عند الجميع. أى أنه أمر من البداهة بمكان يحيث لا يحتاج إلى النص عليه. إذن ففيم كانت كتابة الميثاق أصلا؟ إن المؤلف لا يفرق، فيما يبدو، يبن النبى عليه الصلاة والسلام وبين ذلك الحاكم العربى الذى كانوا يقولون عنه ساخرين إنه كان يضىء غمّاز سيارته الأيسر ليوهم الناس أنه سينعطف يسارا على خُطَا سَلَفه فى الوقت الذىكان يعمل فيه بكل طاقته وجهده على التعفية على سياسته وتحطيم كل ما كان يدعو إليه وينادى به! بيد أن الرسول شىء، وذلك الحاكم وأمثاله شىء آخر! لكن يبدو أن للمؤلف رأيا مختلفا. فليكن، ولكن أين الدليل؟ أين المصادر؟ هذا هو محك الكلام. إنه إذا كانت كتابة التاريخ بهذا المنهج فلا كان التاريخ ولا كانت الكتابة!
وينظر الكاتب إلى تربُّص المسلمين بقافلة قريش العائدة من الشام على أنها غارة من الغارات التى كان قُطّاع الطرق فى الجاهلية يشنونها على قوافل التجارة المارّة على مقربة من بلادهم، زاعما أن الرسول كان يهدف من وراء هذا العمل إلى التوصل إلى اتفاقية يعطيه القرشيون بمقتضاها إتاوة من المال كى يكفّ أذاه هو وأصحابه عن قوافلهم وتجارتهم. إلا أن قريشا، وقد تيقنتْ أنه سوف يطرح شروطا متشددة، رفضت أن تعقد معه مثل هذه الاتفاقية. إذن فالمسلمون تحولوا بعد الهجرة إلى عصابة من عصابات الطرق! وقد نسى الكاتب أنه لا يمكن بأى حال تسمية عمل المسلمين: "قطْع طريق" حتى لو قلنا إنهم كانوا يهدفون فعلا إلى الاستيلاء على القافلة، بل كانوا يبغون الحصول على بعض حقوقهم التى أخرجهم منها أهل مكة واسْتَوْلَوْا عليها من أرضين وبساتين ودور وأموال، ودعنا من النفوس التى أُزْهِقت ظلما وجبروتا، والجلود التى شُوِيَت بالسياط، والصدور التى كادت أن تخنقها الصخور الملتهبة الراسخة فوقها، والمؤامرات التى لم تكن تنتهى، والسخريات والإهانات من كل جنس ولون! وهل قطاع الطرق يصمدون لأعدائهم إذا جيّشوا جيشا عدد جنوده كعددهم ثلاث مرات، ويضم من الأسلحة والعتاد وحيوانات الحرب ما ليس عندهم وأتَوْا ليحاربوهم به؟ ثم هل علينا أن نغطى على عيوننا ونغلق عقولنا وضمائرنا فلا نحاول أن نفهم مغزى العبارات والتصرفات التى صدرت عن محاربى المسلمين دالةً على عميق إيمانهم ورغبتهم الجارفة فى الاستشهاد؟ أم ترى المؤلف سيقول هنا أيضا: إنهم كانوا يذكرون الشهادة، لكنهم كانوا يقصدون الأموال والتجارة؟ والله إن هذا لعبث!(/5)
وعلى سُنَّته فى ظلم الجانب الإسلامى دائما وتفسير كل ما يفعله النبى والمسلمون فى ضوء المصالح التجارية نرى المؤلف يُرْجِع غزوات المسلمين لليهود وعقابه لبنى قُرَيْظة إلى أنه صلى الله عليه وسلم قد وجد أن دخول اليهود أعضاءً فى الأمة لا يتواءم مع مصالحها التجارية. وهو بهذا يتجاهل، كعادته دائما، التاريخ وشهادته. لقد بدأ اليهود بالغدر، وتكررت خيانتهم للشروط التى وقَّعوا عليها فى "الصحيفة" مع غيرهم من طوائف أهل المدينة، وتآمروا على قتل النبى عليه السلام والقضاء على الدين الذى أُرْسِل به. وقد سامحهم صلى الله عليه وسلم فى المرتين الأُولَيَيْن فاكتفى من بنى قينقاع وبنى النضير بترك المدينة حاملين معهم أموالهم، لكنه أمام غدر بنى قريظة، الذى كاد أن يقضى على المسلمين جميعا لولا لطف الله وانكشاف خيانتهم، وأمام تواطئهم مع الأحزاب لطعنه عليه السلام وأتباعه فى ظهورهم بكل خسة ونذالة وحقد سامّ أسود، لم يستطع أن يمضى فى سياسة التسامح هذه، إذ لم يكن هذا التصرف منهم إلا الخيانة العظمى عينها بكل يقين. وعلى أية حال فقد كانت العقوبة التى وُقِّعَت على أولئك الخونة الأنذال أخف كثيرا مما ينص عليه كتابهم المقدس فى معاملتهم للأمم المغلوبة، إذ يوجب عليهم أن يُعْمِلوا السيف فى جميع أفراد الأمة التى يُقَدَّر لها أن تُهْزَم على أيديهم لا يتركون منها ولا نسمة واحدة، لا الخونة من رجالها فقط كما حدث فى عقوبة بنى قريظة! (انظر تفصيل هذا الموضوع فى كتابى: "مصدر القرآن- دراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى"/ مكتبة زهراء الشرق/ 1417هـ- 1997م/ 43 وما بعدها. أما التشريع المشار إليه عند اليهود فموجود فى سفر "التثنية"/ 20/ 10- 16). كما أن اليهود كانوا قد دخلوا أعضاء فى الأمة منذ أول لحظة، وذلك فى "الصحيفة" التى سوت تماما بينهم وبين المسلمين فى كل شىء، فما معنى الزعم السخيف بأن الرسول لم يكن يريدهم أعضاء فى الأمة؟ إنهم هم الذين لم يحفظوا الجميل التى امتدت إليهم بالخير والمعروف والإحسان، فِعْل اليهود فى كل زمان ومكان، إذ هم مطبوعون على كراهية الغير واحتقارهم لهم لتصورهم أن الله لا يهتم بأحد غيرهم واعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه كما يعرف ذلك كل من اطَّلَع على القرآن الكريم والعهد القديم. لكن المؤلف يتجاهل هذا كله وينشئ تاريخا من لدن نفسه، وهذا أمر عجيب غاية العجب!
والكاتب يسمِّى "الزكاة" ضريبة، ويقول إن محمدا قد فرض على القبائل التى أخذت تتقاطر وفودها على المدينة فى أواخر حياته صلى الله عليه وسلم أن تدفعها له. وهو يدَّعِى أيضا أنها ليست إلا إحياء لتلك الضريبة القديمة التى كان على بعض القبائل أن تدفعها إذا أرادت المشاركة فى تجارة مكة.(/6)
وهذا كله خلط وخبط وجهل وتهويل سخيف: فالزكاة ليست هى الضريبة، وهذا أمر من الوضوح بمكان، بيد أن المؤلف كدَيْدَنِه لا يبالى بالحقائق التاريخية! إن الزكاة هى حق العاجزين المحتاجين، أما الضرائب فإن الناس يدفعونها للدولة فى مقابل الخدمات التى تقدمها لهم، فهى منهم وإليهم (فى التفرقة بين الزكاة والضريبة انظر على سبيل المثال: أبو الأعلى المودودى/ فتاوى الزكاة/ جامعة الملك عبد العزيز/ 1405هـ- 1985م/ 92- 96، ود. محمود عاطف البنا/ نظام الزكاة والضرائب فى المملكة العربية السعودية/ دار العلوم/ 1403هـ- 1983م/ 13 وما بعدها، و55 وما بعدها). وعلى كل حال فلا الزكاة ولا الضريبة كان يأخذها الرسول، بل كانت تذهب إلى خزانة الدولة. ثم إن حق الفقراء والمحرومين منصوصٌ عليه فى السُّوَر المكية، فليس الأمر إذن، كما يزعم الكاتب، أمر تشدد من جانب الرسول عليه السلام فى شروطه مع الوفود بعد استقوائه بحيث أصبح يوجب عليهم الدخول فى الإسلام ودفع الضرائب له بعد أن كان لا يعبأ بهذا ولا بذاك فى البداية. جاء فى سورة "المعارج" ضمن صفات الناجين من النار: "والذين فى أموالهم حقٌّ معلوم* للسائل والمحروم" (الآيتان 24- 25)، وفال تعالى فى "الذاريات" فى حديثه عن المتقين الفائزين بالجنة وما فيها من نعيم: "وفى أموالهم حق للسائل والمحروم" (الآية 19)، وفى "المؤمنون" فى صفات المؤمنين المفلحين: "والذين هم للزكاة فاعلون" (الآية 4)، وفى "الروم": "وما آتيتم من رِبًا لِيَرْبُوَ فى أموال الناس فلا يَرْبُو عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المُضْعِفون" (الآية 39)، وفى سورة "لقمان" عن المحسنين أنهم هم "الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون" (الآية 4). وهو بنصه ما جاء فى الآية الثالثة من سورة "النمل" وصفا للمؤمنين... وغير ذلك من الآيات. كما مرّ بنا أن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة قد ذكروا أمام النجاشى "الزكاة" ضمن ما جاءهم به النبى عليه الصلاة والسلام. فها نحن أولاء نرى هذه النصوص المكية، وهى متعددة، وهناك آيات أخرى غيرها كما قلت، تتحدث بوضوح شديد عن حق المُعْوَزين العاجزين فى أموال إخوانهم المؤمنين المقتدرين، وبعضها يستخدم لفظة "الزكاة" استخداما صريحا. الزكاة إذن موجودة منذ العهد المكى، وإن لم يفصَّل القول فيها وتُقَنَّن، حسبما يوضح العلماء، إلا فى المدينة على خلاف بينهم فى تحديد تاريخ ذلك: أهو السنة الثانية من الهجرة أم بعدها؟ (انظر مثلا "مناهج المستشرقين فى الدراسات العربية والإسلامية"/ المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة ومكتب التربية العربى لدول الخليج/ 2/ 211 من دراسة د. محمد أنس الزرقا فى الرد على آراء المستشرق شاخت عن الزكاة، ود. يوسف القرضاوى/ فقه الزكاة/ ط5/ مؤسسة الرسالة/ بيروت/ 1401هـ- 1981م/ 1/ 52- 62، وعبد الله بن محمد الطيار/ الزكاة/ جامعة الملك محمد بن سعود الإسلامية/ 1407هـ- 1987م/ 59- 62).
وليس عجيبا أن يحاول الكاتب تلطيخ المفهوم النبيل والهدف السامى لعبادة الزكاة بالادعاء بأنها ليست أكثر من إحياء للضريبة التجارية القديمة التى كان يجمعها منظمو التجارة المكية، فقد أخذ الكاتب على عاتقه تشويه صورة الإسلام والإساءة إلى الرسول العظيم بكل الوسائل ووضع مبادئه وتشريعاته وتصرفاته فى إطار بشع منفّر!
ويحصر المؤلف جهود الرسول عليه السلام فى المدينة فى أنه قد وضع أساس مركز تجارى كبير يتفوق على المراكز السابقة. وهو كلام كسائر ما يقول المؤلف ليس له رأس ولا رِجْلان، وإلا فأين ذلك المركز التجارى؟ أم كان الرسول يخفيه تحت الأرض ولا يعرفه أحد إلا هو وبعض المقربين منه، ثم بعد أربعة عشر قرنا الأستاذ المؤلف؟ لقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبلّغ الناس ما ينزل عليه من الوحى، وكان يدير شؤون الدولة بوصفه حاكما سياسيا، كما كان يقود بنفسه الجيش الإسلامى فى أحيانٍ كثيرةٍ، وكان يقضى بين الناس. لكننا لم نسمع قط أنه كان يتاجر أو يشرف على إحدى المؤسسات التجارية أو ينظِّم القوافل. لقد كان بين المسلمين تجار، ولكن كان منهم أيضا صنّاع وزرّاع ورعاة وجنود وقرّاء، فلم يكن للتجارة إذن وضع متميز، ولا كانت المدينة مركزا تجاريا بالمعنى الذى يقصده المؤلف، ولا كان النبى كبير التجار فيها.
وينتهى الدكتور شعبان إلى أن النبى عليه السلام لم يأت بجديد، وأن دينه ليس بالشىء الجديد، وحتى القيم الإنسانية التى أتى بها من وجوب التعاون بين أفراد الأمة ليس فيها أى معنى جديد، فقد سبقه جده هاشم إلى ذلك. بل إنه ينفى أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم قد أنشأ دولة أو وحَّد العرب.(/7)
هذا ما قاله الدكتور فى أواخر الفصل الذى نحن بسبيل مناقشة ما فيه من آراء وأفكار. ومع ذلك فإنه قد قرر فى بداية هذا الفصل ذاته عكس ذلك تماما، حين كان يناقش بيلاييف فى قوله إن : "الإسلام قد ظهر فى الجزيرة العربية دينًا جديدًا يعكس تغيرات ضخمة فى المجتمع العربى، ألا وهى التفاوت فى الملكية والرق وتطور المبادلات. إن ظهور هذا الدين مرجعه إلى نشوء نظام قائم على الرق داخل مجتمع بدائى فى طريقه إلى الانهيار"، إذ ردّ عليه قائلا: "إن مما لاشك فيه أيضا وجود تغيرات ضخمة فى المجتمع العربى، إلا أن بقية الدعوى لا تستند إلى أى دليل بالغًا ما بَلَغَتْ تفاهته فى المراجع التى بين أيدينا".
وهذا تناقض حاد ورهيب، وفى أول فصل من فصول الكتاب، وفى ما لا يزيد على اثنتى عشرة صفحة، وفى أهم شىء فى الدراسة كلها. وهو من العيوب المنهجية المسيئة التى لا تُقْبَل من باحث مبتدئ، بَلْهَ من أستاذ فى إحدى الجامعات العريقة فى أمة من أكثر الأمم فى عصرنا هذا تقدما وثقافة!
أمّا أن الرسول أتى أو لم يأت بدين جديد فذاك يحتاج إلى شىء من التفصيل. إن الرسالات السماوية كلها نابعة من مصدر واحد، وكلها تدعو إلى الإيمان بالله ووحدانيته وبالبعث وبالأخلاق النبيلة الكريمة من صدق وتحاب وتعاون... إلخ. بيد أنها فى مجال التشريعات تختلف من دين لآخر، وكذلك الأمر فى صور العبادات، وإن قُصِد بها جميعا وجه الله ومرضاته. فهذا هو القول باختصار شديد فى هذه المسألة من الناحية النظرية.
على أن الأمر يمكن النظر فيه من ناحية أخرى، إذ لم تظل الأديان والكتب السماوية السابقة على حالتها الأولى من النقاء والصفاء الذى نزلت به من عند رب العالمين، فجاء الإسلام ليعيد الأمور المعوجَّة إلى استقامتها التى كانت عليها. فالإسلام من هذه الزاوية دين جديد حتى فى مجال العقائد والأخلاق، إذ الوحدانية مثلا شىء مختلف عن التثليث، وعالميةُ الألوهية ليست مما يؤمن به اليهود، لأنهم ينظرون إلى الله سبحانه على أنه إله خاص بهم وحدهم ويحابيهم على غيرهم لا لشىء سوى أنهم بنو إسرائيل. ومثل ذلك تحريم الإسلام للربا تحريما قاطعا، فى حين أن كِتَاب اليهود، كما هو بحالته الراهنة، يحرّمه فقط فيما بين اليهود بعضهم وبعض، أما تعاملهم به مع غيرهم فهو حلال...وهكذا. فضلا عن أن الإسلام هو دين عالمى صالح للناس جميعا فى كل زمان ومكان، بخلاف الأديان الأخرى، فهى أديان محلية خاصة بأقوام أنبيائها فقط.
هذا، ولا أظن عاقلا يمكن أن يوافق المؤلف على دعواه بأن ما فعله الرسول ليس شيئا آخر غير ما فعله جده البعيد هاشم تقريبا. لقد كان هاشم تاجرا ومنظما للقوافل، أما محمد فهو رسولٌ صاحبُ دين. وحتى لو قال الكافرون إن هذا الدين إنما أتى به محمد من عنده، فيبقى أنه مع ذلك دين، والدين شىء مختلف عن تنظيم القوافل والتجارة.
كذلك لا أظن عاقلا له أدنى إلمام بالتاريخ يمكن أن يأخذ مأخذ الجِدّ ما قاله المؤلف من أن الرسول عليه السلام لم ينشئ دولة ولم يوحد العرب. إن أقل ما يوصف به مثل هذا الزعم أنه عبث أطفال، وإلا فما الذى يمكن أن نسمّى به خضوع العرب جميعا فى حياة النبى صلى الله عيه وسلم لحكومة واحدة وحاكم واحد هو محمد، وانخراط القادرين على الحرب منهم فى جيش تلك الدولة...إلخ؟ والله إننى لا أدرى ماذا يمكن أن أقول لصاحب هذا المنطقّ! إن المؤلف يقول إن محمدا قد وجد هذا كله جاهزا، وكل ما فعله أنه أدخل عليه بعض التحويرات الطفيفة! وهو، كما لا يخفى، كلام لا معنى له ولا منطق فيه، ويكذِّبه التاريخ تكذيبا عنيفا. ثم إنه، كما رأينا، قد سلَّم مع بيلاييف بأن التغييرات التى أحدثها النبى فى الجزيرة العربية كانت تغييرات ضخمة.
ويقول المؤلف أيضا إن النظام الذى أقامه الرسول عليه السلام والطاقات الجديدة التى أطلقها فى بلاد العرب قد قُدِّر لهما أن يصلا إلى مدًى لم يكن يخطر له على بال، إذ اضْطَرّ العربَ التراجعُ الاقتصادىُّ المحتومُ الذى أدّت إليه أعمالُه أن يستغلوا تلك الطاقات فى الإغارة على الأرضين المجاورة وفى أن يكونوا بعد وفاته، وعلى غير قصد منهم، أصحاب إمبراطورية!(/8)
والسبب فى قوله هذا الكلام هو أنه يصر إصرارا عجيبا على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن إلا تاجرا بارعا فى تنظيم أمور المال كجدّه هاشم، مع أن نصوص القرآن والسُّنّة فى هذا الصدد تصكّ هذا المنطق المتهافت وتفتته بل تسحقه سحقا. فالقرآن يقول: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (المؤمنون/ 107)، "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا" (سبأ/ 28)، "هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظْهِره على الدين كله ولو كره المشركون" (التوبة/33، والصف/ 9)، "هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظْهِره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا" (الحجرات/ 28). وهذه النصوص هى نصوص مكية ومدنية مما يدل على أن عالمية الدعوة لم تكن فكرة طارئة، بل كانت موجودة منذ العهد المكى، واستمرت فى العهد المدنى. ولقد قال الرسول عليه السلام، وهو بصدد التفرقة بينه وبين إخوانه الأنبياء السابقين، إن كلا منهم كان يُبْعَث إلى أمته، أما هو فبُعِث إلى الناس كافة. كما أنه عليه السلام قد بشَّر أصحابه، فى عزّ الحصار القاسى الذى ضربته قريش وحلفاؤها على المسلمين فى غزوة الأحزاب، بغزو فارس والروم والاستيلاء على كنوز كسرى وقيصر مما أثار استغرابَ بعض من سمعوه آنئذ. ومن ذلك أيضا بشارته لهم بفتح القسطنطينية، التى لم يستول عليها المسلمون كما هو معروف إلا بعد أن سُجِّلت الأحاديث بأزمانٍ بحيث لا يمكن أىَّ مناكف سخيف أن يدّعى أن المسلمين هم الذين أضافوا هذا إلى كلامه عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى. وقد بعث الرسولُ صلى الله عليه وسلم، تطبيقا لذلك، برسائل إلى ملوك عصره يدعوهم فيها إلى الإسلام والاعتراف بنبوته. ولم يعد أحد يجادل فى هذا، وبخاصة بعد ما عُثِر على بعض هذه الرسائل. فكيف جرؤ المؤلف مع ذلك كله على القول بأن الأمور قد وصلت إلى مَدًى لم يخطر للنبى عليه السلام ببال، وأن فتح المسلمين للبلاد التى حولهم بعد وفاته وانسياحهم فى الأرض ينشرون فيها دين الله وتكوينهم إمبراطورية إنما كان على غير قصد منهم، أى بضربة حظ عشوائى؟
والناظر فى تحليل المؤلف لشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام وتاريخ تلك الحقبة بجد أنه قد اتخذ التجارة عاملا أوحد. وهو يردد أيضا مقولة الماركسيين من أن التراكم الكمى يؤدى إلى تراكم كيفى، أن أن المادة هى العامل الذى يؤثر فى الروح، وذلك عند قوله فى ختام الفصل الذى نناقشه الآن إنه كان للتغييرات غير الملحوظة التى أحدثها الرسول عليه الصلاة والسلام تأثير كمى كانت نتيجته فى نهاية المطاف نشوء دين عالمى. فهذا الدين العالمى هو نتيجة غير مقصودة من محمد، الذى هو فى نظر المؤلف لم يكن أكثر من تاجر عبقرى فى مسائل التنظيم المالى والتجارى، أدت إلى ما لم يكن يطوف له بخيال. إن نشوء هذا الدين ليس عنده إلا تغييرا كيفيا سببه هذه التراكمات الكمية التى أشار إليها.
والمؤلف يجرى فى هذا على منهج الماركسيين فى تحليل حوادث التاريخ وتفسير ظواهره ودراسة شخصياته. وهو منهج ضيق العَطَن، إذ العوامل التاريخية متعددة ومتشابكة. والناس يحركهم عدد من الغرائز والمخاوف والمطامح والمطامع والآلام والآمال والأساطير والقيم الأخلاقية والدينية والوطنية والأشواق الروحية العليا...إلخ، فليس المال والاقتصاد إذن إلا عاملا من عوامل. بل كم رأينا ونرى من يضع هذا العامل وراءه ظِهْرِيًّا فى سبيل مبدإ وطنى أو قومى أو دينى أو سياسى أو إنسانى أجدر فى نظره بأن يُولِيَه وقته وراحته، بل وحياته أيضا إذا اقتضى الأمر. والرسول الكريم أعظم مثال على ذلك، فقد انصرف عن مصالحه الشخصية والأسرية والقبلية أيضا فى سبيل نشر الدعوة التى كلّفه الله بها والمنافحة عنها، وتحمَّل فى ذلك ضروبا من الأذى والإهانة والعنت، وتعرَّضت حياته نفسها للخطر مرات.
ولقد كان للتحليل الاقتصادى للتاريخ والنشاط الإنسانى والحضارات بريقه يوم أن كان للشيوعية إمبراطورية ذات توابع، وكان كثير من حكومات العالم الثالث، بما فيها عدد غير قليل من حكومات الأمم الإسلامية، يرى فى الاتحاد السوفييتى الأم الرءوم التى تأخذهم فى أحضانها لترضعهم لبن العطف والمرحمة وتحميهم من غوائل الاستعمار الرأسمالى. بيد أن الغريب هو أن عددا من هؤلاء الماركسيين أو الآخذين بوجهة النظر الماركسية من ذوى الأصول الإسلامية كانوا يجدون ملجأهم وراحة نفوسهم فى البلاد الرأسمالية، ويَلْقَوْن فيها التشجيع ويكافَأون بالمناصب والأموال وغير المناصب والأموال، مع أن هذه البلاد نفسها، رغم ما فيها من ديمقراطية، لا تشجع أبناءها من الماركسيين أو المتعاطفين مع الماركسية وحكوماتها. والمعنى فى بطن الشاعر!(/9)
وأخيرا فإن عنوان الكتاب هو "التاريخ الإسلامى- تفسير جديد"، مع أن المؤلف نفسه يقرر فى أحد هوامش الصفحة الثانية من الأصل الإنجليزى أنه مع شىء من التحوير فإن تفسيرات كِسْتَرْ للظواهر التى بقيت حتى الآن بلا تفسير، وكذلك رجوعه فى كل شىء إلى المراجع المعتمدة، يشكلان الأساس لذلك التفسير الذى يقدمه فى هذا الكتاب. أى أن المؤلف يعترف بأنه لم يأت بجديد، وإنما أخذ تفسيره مع شىء من التحوير من كستر. وهو تناقض يضاف إلى غيره من التناقضات والثقوب التى يعجّ بل يفيض بها كتابه والتى أوردنا عددا منها فى الدراسة التى بين يدى القارئ.
((يجد القارئ ترجمة الفصل المذكور وردّى عليه فى كتابى: "ثورة الإسلام فى ضوء ظروف البيئة التى ظهر فيها"/ مكتبة زهراء الشرق/ القاهرة /1419هـ- 1999م))(/10)
أستغفر الله .. !!
طلب الله من المكلَّفين أن يستغفروه بعد كل عمل صالح، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم في آخر عمره: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) [النصر:1-3].
وقال سبحانه وتعالى للحجيج بعد أن قضوا مناسكهم وانتهوا من أعمال حجهم: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) [البقرة:199].
فواجبك، أخي المسلم: أن تعود إلى الملك العلاَّم، وأن تختم هذه الساعات القريبة الوجيزة التي بقيت من عمرك بالاستغفار والتوبة، لعل الله أن يقبلك فيمن قبل، وأن يعفو عنك فيمن عفا عنه، وأن يردَّك سبحانه وتعالى إليه.
فإن الأنبياء، عليهم السلام، سلفاً وخلفاً، استغفروا الله عزّ وجل على حسناتهم وبرّهم وعلى صلاحهم.
قال نوح عليه السلام لقومه: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً) [نوح:10-12].
وقال آدم وزوجه لما أذنبا: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف:23].
وقال هود عليه السلام لقومه: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجلٍ مسمىً ويؤتِ كل ذي فضلٍ فضله) [هود:3].
وقال سليمان عليه السلام، وقد رأى ملكه، وجيشه: (رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي) [ص:35].
وقال إبراهيم –عليه السلام-، في آخر عمره: (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) [الشعراء:82].
والله –عز وجل- وعد المستغفرين، أن لا يأخذهم بنقمته في الدنيا إذا استغفروا الله فقال: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) [الأنفال:33].
ونادى الله الناس جميعاً فقال: (قل ياعبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) [الزمر:53].
وقال مادحاً سبحانه وتعالى من استغفر يوم يذنب، ومن تاب يوم يسيء، ومن راجع حسابه من الحي القيوم فقال: (والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) [آل عمران: 135-136].
ومن صفات الله عز وجل الحسنى أنه (تواب رحيم) [الحجرات:12]، (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون) [الشورى:25].
وقال لبني إسرائيل: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم) [المائدة:74].
وقال سبحانه وتعالى مخبراً أن من اجتنب الكبائر، غفر الله له الصغائر فقال: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً) [النساء: 31].
وقال جلَّ ذكره: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً) [النساء:64].
وقال سبحانه وتعالى: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً) [النساء:110].
فسبحان من بسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وسبحان من بسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها.
والله يقول في الحديث القدسي: "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم".
متى يتوب من لا يتوب الآن ؟
ومتى يعود إلى الرحمن من لا يعود الآن ؟
ومتى يراجع حسابه مع الواحد الديَّان من لا يراجع حسابه الآن ؟ ينسلخ الشهر تلو الشهر، ولا يُنسى الذنب، ولا تسارع في فكاك رقبتك من النار.
أليس من الحسرة والندامة أن يعفو الله عن مئات الألوف، ثم لا تكون منهم ؟
فسارع، أخي، بفكاك رقبتك من النار، واغتنم كثرة الصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكثرة التوبة والاستغفار، وبادر بالحسنات.
إذا عُلم ذلك، عباد الله، فأوصي نفسي، وإياكم بالتوبة النصوص وكثرة الاستغفار ورفع يد الضراعة إلى الحي القيوم، لعلَّ الله أن يغفر.
فوالله، ليس لنا من الأعمال ما نتقدَّم به إلى الله، فكل أعمالنا خطيئة وذنب، وكلنا فقر ومسكنة، وكلنا عجز وتقصير.
فنحن نخشى من أعمالنا أن يشوبها الرياء والسمعة فيبطلها الله.
إن فعلنا من الحسنات فقد قابلها، سبحانه وتعالى، بنِعمٍ مدرارة غزيرة لا نقوم بشكرها أبداً.
يظن بعضنا يوم يصلي ساعة، أو يقرأ ساعة، أو يذكر الله ساعة أنه فعل شيئاً عظيماً.
فأين ساعات النعيم ؟ وأين ساعات الأكل والشرب ؟ وأين ساعات اللهو واللعب ؟
وأين ساعات الفرح، والمرح، والذهاب، والمجيء ؟
فيا من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً.. الله، الله، في استغلال الأوقات بما ينفع عند علاّم الغيوب، لعل الله أن يختم لك بخير.
فسبحان من بسط ميزان العدل للعادلين، وسبحان من نشر القبول للمقبولين، وسبحان من فتح باب التوبة للتائبين.(/1)
فمن مُقبل ومُدبر، ومن سعيد وشقي، ومن تائب وخائب.
فنسأل الذي بيده مفاتيح القلوب أن يفتح على قلوبنا وقلوبكم، وأن يعتق رقابنا ورقابكم من النار، وأن ينقذنا من عذاب جهنم، وأن يجعلنا ممن قَبِل صلاته، وصيامه، وقيامه، وذكره، وتلاوته.
ربَّنا وتقبَّل منَّا أحسن ما عملنا وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(/2)
أسرار أركان الاسلام الخمسة
* روجيه جارودي
مهما كان الرأي الذي يحمله شخص غير مسلم عن القرآن، فإنه لا يمكن أن يكون هناك حوار حقيقي. إذا لم نعترف أنه إشراقة إلهية وإيمان يربط الانسان بأصله وبغايته ويعطي معنى لحياته اعتماداً على أركان الاسلام الخمسة.
الشهادة: هي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
إن للكون كله معنى، والمطلق يبدو في النسبي على شكل آيات ورموز والطبيعة والناس هما تجل لله وشاهد على إظهار وجوده: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً) الإسراء/ 44.
الصلاة: هي مشاركة الانسان بشكل واع في تسبيحة الحمد التي تربط المخلوق بخالقه. إن الصلاة تدمج الانسان المؤمن بهذه العبادات الشاملة، فحين يقوم مسلمو العالم لأداء الصلاة ووجهتهم تتجه نحو مكة وكذلك جميع المساجد حيث أن المحراب يدل على اتجاه الكعبة، فإنهم ينتظمون على شكل دوائر متحدة المركز في طواف القلوب المنجذبة نحو مركزها. والوضوء من الشعائر قبل الصلاة يرمز إلى عودة الانسان إلى الطهارة الأولية، مبعداً عن نفسه كل ما يمكن أن يُبعده عن وجه الله، حيث يصبح بواسطتها مرآة كاملة.
الصيام: هو انقطاع إرادي في إيقاع الحياة، يُعتبر تأكيداً على حرية الانسان تجاه ذاته ورغباته، فيتذكر في الوقت ذاته ذلك الانسان الجائع وكأنه كائن في ذاته وأن عليه أن يساعده للتخلص من الجوع ومن الموت.
الزكاة: إنها ليست صدقة، لكنها نوع من العدالة الداخلية المفروضة بحكم الشرع، والتي تجعل التضامن بين أهل الإيمان فعالاً، أي هؤلاء الذين يعرفون كيف ينتصرون على الأنانية والبخل في أنفسهم. إن الزكاة تذكير دائم بأن كل ثروة مثل كل شيء، يعود إلى الله ولا يمكن للفرد التصرف بها على هواه. لأن كل انسان هو متضامن مع الآخرين. (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم).
- الحج إلى مكة:
إن الحج لا يجسد فقط الحقيقة العالمية للأمة الاسلامية ككل. ولكن بالنسبة لكل حاج على حده، فإنه يُحيي فيه الشوق الباطني نحو مركز ذاته. إن فكرة الاسلام المركزية في كل مظاهره هي هذه الحركة المزدوجة، حركة مدٍ يتجه بها الانسان نحو الله، وحركة جزر يمن الله بها على الانسان، كانبساط القلب الانساني وانقباضه: (والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون.(/1)
أسرار الحج
لله الحكمة البالغة في أحكامه وتشريعاته، ومن أمعن النظر وتدبر في مجمل التكاليف الشرعية التي كلف الله بها العباد -لتبين له السر الكامن الذي قصده الشارع الحكيم من ذلك التشريع، وفي مقدمة ذلك تحقيق العبودية لله -عز وجل-، في امتثال أوامره واجتناب نواهيه.
فالحج ركن من أركان الإسلام، وهو فرض على المستطيع، والمسلم وهو يؤدي هذه الشعيرة يستشعر عظمة الله -عز وجل- الذي يُعبَدُ في كل مكان وبكل لسان، فما من حركة ولا سكون يصدر من الحاج إلا وفيه سر عظيم يدركه من أخلص النية لله –تعالى-، فالله -جل وعلا- ما شرع شيئاً إلا لحكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، ولو تتبع المسلم شعائر الحج منذ أن يعقد الحاج العزم على الحج ويركب راحلته متوجهاً إلى بيت الله الحرام -لوجد نفسه في عبادة بل عبادات متتابعة، فمناسك الحج القولية والفعلية كلها حكم ومقاصد لم تشرع سدى، وإنما فيها تعبد وتعظيم لله -عز وجل-، منذ أن يلبي الحاج النداء بقوله:"لبيك اللهم لبيك" فهذا بداية الاستجابة لله -عز وجل-، وهذا غاية الامتثال والطاعة، وهو وفاء بالعهد الذي أخذه المسلم على نفسه، ودخول في العبادة التي يستشعر الحاج حلاوتها، وتطمئن نفسه إليها، وكل حاج تعمر قلبه السعادة وهو يلبي نداء ربه -عز وجل- مقبلاً على الله بقلبه وقالبه مخلصاً العبادة له وحده، وتظهر علامة هذه الإقبال والإخلاص على وجهه، ويشهد عليها قوله وفعله، كيف لا. وقد تكبد مشقة السفر في سبيل الله، وترك الأهل والوطن والمال والولد ابتغاء مرضاة الله.
فالحج أعظم مؤتمر إسلامي، يجتمع فيه المسلمون من شتى بقاع الأرض في صعيد واحد مهللين مكبرين ملبين نداء رب العالمين يحدوهم الأمل، ويحفهم الخوف والرجاء، رافعين أكف الضراعة إلى الله -عز وجل- راغبين في مغفرته ورضوانه.
ولو لم يكن في الحج إلا سر واحد لكفى ألا وهو كونه مكفراً للذنوب والمعاصي كما قال الرسول –صلى الله عليه وسلم-:"من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
لكن الحج له أسرار كثيرة نذكر منها إضافة لما ذكر:
(1) الحج سبب لدخول الجنة، كما قال الرسول –صلى الله عليه وسلم-:" الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
(2) في الحج منافع للناس تجل عن الحصر كما قال –تعالى-:"وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ظامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم" فهي منافع مادية ومعنوية في الدنيا والآخرة.
(3) الحج رابطة أخوية من أقوى الروابط في الإسلام؛ لكونه يحقق التآلف والمحبة بين المسلمين رغم اختلاف جنسياتهم وتباعد أقطارهم، وتظهر فيما بينهم كثير من القيم الإسلامية التي يرغِّب فيها الإسلام، كالتعاون والعطف والشفقة، والمحبة والبر والصلة، في جو إيماني بعيد عن التعسف والجدل كما قال –تعالى-:"الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج".
(4) الحج يحقق سمة من سمات الإسلام وخصائصه ألا وهي العدل والمساواة، فلا فرق فيه بين غني ولا فقير ولا سيد ولا مسود، ولا جنس دون جنس، فالناس كلهم سواء في لباس واحد وهدفهم واحد، فتتجسد أسمى آيات الوحدة الإيمانية والأخوة الإسلامية في هذا الموسم العظيم.
(5) في الحج تعظيم لشعائر الله التي هي علامة على تقوى القلوب كما قال –تعالى-:"ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" فكلما عمل الحاج عملاً من المناسك تذكر عظمة الله –تعالى-، خاصة وهو واقف بعرفات يناجي ربه، ويسكب العبرات في تلك الرحبات فما أروع هذا المشهد! وما أعظمه!
(6) في الحج تعظيم لذكر الله كما قال –تعالى-:"فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" وذكر الله في كل مكان وزمان، لكنه يتأكد في تلك المشاعر وفي أيام التشريق الثلاثة التي هي أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل-.
(7) في الحج اقتداء بالمصطفى –صلى الله عليه وسلم- القائل:"خذوا عني مناسككم" والعمل بسنته عمل بشرع الله "إن هو إلا وحي يوحى".
(8) في الحج التقرب إلى الله بأنواع العبادات التي منها ذبح الهدي طاعة لله -عز وجل- "ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله".
فهنيئاً لك أيها الحاج هذا النسك وتلك العبادة التي هي تلبية نداء وطاعة، وشوق ومحبة في كل لحظة وساعة سائلاً الله أن يجعل حجك مبروراً وسعيك مشكوراً وذنبك مغفوراً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كاتب المقال: د. إبراهيم بن ناصر الحمود
المصدر: الإسلام اليوم(/1)
أسرار في العمل الإسلامي
أسرار نبوح بها للدعاة :
أولاً : أسرار في العمل الصالح : الإخلاص في القصد والعمل مع موافقة الشرع في الأعمال : إن العمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً لوجه الله، وموافقا لشرعه، فلو تخلف أحد هذين الأصلين؛ بطل العمل، فالمخلص مهما بلغ من إخلاصه، إن لم يوافق الشرع؛ فعمله مردود، وكذلك من وافق الشرع، ودقق بالنصوص إن تخلف عنصر الإخلاص؛ فعمله مردود، وبهذا استفاضت النصوص.
العمل بالخفاء:
وهو أمر قد غفل عنه مع عظمة أجره كما بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فقال صلى الله عليه وسلم:[سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك وأحمد . فما السر في هذا الأجر العظيم؟ وما السبب في تظليل الله لهم في ذلك اليوم الذي يغرق الناس في عرقهم؟ هل هو قيام كل واحد من هؤلاء السبعة بالعمل الذي نسب إليه فقط؟؟
كلا.. فمفهوم الحديث يفيد أن أمراً عظيماً قد صاحب أداء كل منهم لعمله!! فجعل له هذا الأجر العظيم.. ألا وهو الإخلاص والخفاء في الأداء، إنه التعامل مع رب لا تخفى عليه خافية.
الاعتزاز بالعمل الصالح : حيث يرتفع صاحبه عن مجالسة أصحاب الجور والطغيان، ويكون كما كان ابن تيمية رحمه الله يُوصف: بأنه ليس برجل محافل يزهو بعبارات الإعجاب والإطراء، ويستهويه أن يتجمع حوله الأتباع والأشياع، وإنما هو رجل حق يزول معه حيثما زال، ويميل أينما مال، هو رجل يسير بالطريق المستقيم لا توحشه قلة السالكين وينأى عن الطريق المنحرف ولا يغتر بكثرة الهالكين.. فهو كما يقول عن نفسه:' رجل ملة ولا رجل دولة'.
وكما كان البخاري رحمه الله عندما طلب منه والي نيسابور أن يحمل إليه كتاب الجامع في التاريخ ليسمع منه فأبى وقال:'إني لا أذل العلم ولا أحمله إلي أبواب السلاطين، فإن كانت له حاجة فليحضرني في مسجدي' فكان ذلك سبب الوحشة بينهما.
ثانيا : سر فعالية وتأثير السيرة :
عند القراءة في كتب السيرة، تقشعر الأبدان وترتجف القلوب فإذا الدموع الساخنة تتلألأ على سبحات الوجه، وقوة عظيمة تحرك الوجدان لتبعث فيه نفحات حب العمل والتضحية، وإذا بأحلام اليقظة تأخذ بالقارئ إلى حيث المواقف التي يعيش فيها من خلال قراءته، فيرى نفسه حاملاً السلاح يقاتل في القادسية، أو ممسكاً بحلي زوجته وقوت أولاده متبرعاً به للجيش الإسلامي الذي يقاتل لتحرير الشام من التتار، وهكذا تفعل السيرة في حياة الناس من مستمع وقارئ فما السر ذلك؟ ولماذا لا نرى المستمع للقرآن والباحث في الحديث والمقلب لأمهاته يتأثر التأثر السابق الذي ذكرناه؟؟
إنه لابد من الوقوف والتأمل فيه.. فهو واقع لا تغمض العين عنه، وسر لابد من فهمه وهو:أن السيرة النبوية، ومواقف الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم ما هي إلا الترجمان الحقيقي العملي لآي الفرقان العظيم، فأخلاقيات وسلوكيات الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ليست منفكة عن المحجة البيضاء بل هي التطبيق والامتثال لما تركه لنا النبي صلى الله عليه وسلم بدليل حديث عائشة -رضي الله عنها- عندما سئلت عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت :'كَانَ خُلُقَهُ القُرْآنُ'رواه مسلم. وليزداد هذا الأمر وضوحا نضرب على سبيل المثال بعضاً من الصور التقريبية:
صورة التربية على المفاصلة والثبات على المبدأ :فهذه التربية يمكن أن تصاغ بطريقتين:
? الطريقة الأولى :أن تجمع نفراً من الشباب، وتقرأ عليهم قوله تعالى:} قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[24]{[سورة التوبة].وقوله تعالى:} قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ[52]{ [سورة التوبة].(/1)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ وَإِذَا سَأَلْتَ فَلْتَسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ]رواه الترمذي وأحمد وصححه الشيخ ناصر [صحيح الجامع الصغير 7834].
وغيرها من النصوص التي تبين أن المسلم يجب أن يعتقد بأن النفع والضر من الله تعالى وحده، وأن على المسلم أن يعلو على جميع القوى المؤثرة فيثبت على عقيدته ومنهجه وتصوراته لا يثنيه عن ذلك رحم مقرب ولا شهوة ساقطة ولا مال.
? الطريقة الثانية: أن تذكر هذه الآيات والأحاديث مطمعة بمواقف من سيرة الرعيل الأول– كقصة خالد بن سعيد بن العاص مع أبيه، وقصة مصعب مع أمه خناس بنت مالك، وكذلك ما قاله سعد بن أبي وقاص لأمه:'تعلمين والله يا أمه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، هذا طعام فكلي إن شئت أولا تأكلي'. فأي الموقفين أكثر تأثيرا في النفوس؟ لاشك أن الطريقة الثانية في الحالات التي ذُكرت أكثر أثراً؛ لاشتراك الجانب العملي مع البيان النظري.
ثالثاً : سر تأخر النصر عن الحركة الإسلامية : ليس من شك أن الحركة الإسلامية ظلت ومازالت تعمل قبيل سقوط الخلافة العثمانية إلى وقتنا هذا، ومع ذلك لم تحقق في أي قطر نصراً مادياً من خلال استلام زمام الدولة والنظام.. مع أن الحركات الهدامة أتت بعدها بسنوات وهي الآن تملك دولاً وأنظمة… فما هو السبب؟؟
السبب الأول: نقص النضج القيادي في الحركة الإسلامية : إن وجود الراحلة التي تقود أي قطاع من القطاعات؛ هو مطلب الناس على مر العصور، لذلك كان البيان النبوي الكريم:[النَّاسُ كَإِبِلِ مِائَةٍ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً] رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد. وهذه القاعدة مطردة في جميع التجمعات والدول والحركات والهيئات، ولهذا السبب كان العنصر القيادي عملة نادرة في شتى الميادين.
وتأتي أهمية القيادة في الحركة الإسلامية من وجود عنصر القدوة في البناء التربوي الإيماني، ومن أن التعامل يكون مع الله سبحانه الذي لا تخفي عليه خافية، والناظر في تاريخ الدعوة الإسلامية في العهد النبوي يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عمد في سنواته التي عاشها في مكة والمدينة على تكوين القيادات التي تستلم العمل من بعده، فكان التركيز النظري في دار الأرقم بن أبي الأرقم، مع الممارسة، والاحتكاك في المجتمع الوثني، وتحمل تبعات هذا الاحتكاك اليومي، ثم متابعة المبادئ والقيم والموازين خلال الحياة اليومية التي يعيشها الجيل القيادي في مكة والمدينة، لذلك رأينا النبي صلى الله عليه وسلم مستمراً مع نفس العناصر التي رباها في شعاب مكة، وصقلها في المدينة، ونتاج هذه التربية القيادية رأينا أن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم من الجيل القيادي الأول، والقادة في الفتوحات الإسلامية هم من هذا الجيل الأول كذلك.
وعلى ذلك: فمنهج الدعوة في عهد النبوة يوجهنا إلى تكوين هذه القيادة التي ترفع راية الدعوة إلى'لا إله إلا الله' كما أن الحركة الإسلامية يقاس نجاحها لا بكثرة أتباعها، أو مؤلفاتها، أو مؤسساتها التجارية والمالية – وإن كانت هذه مهمة – ولكن بكثرة العنصر القيادي الذي معدنه يتناسب مع الرسالة التي يحملها.
السبب الثاني : نسيان الضابط الشرعي : في زخم العمل والاحتكاكات اليومية، والفتن التي تنهال على الحركة الإسلامية نرى غياب الأصل في التفكير الإسلامي، من أنه يجب أن يكون تفكيرهم شرعياً ويضبط من أهل الذكر:} فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[7]{ [سورة الأنبياء] والذي يجعلنا نذكر هذا الأمر- الذي يعد من بديهيات العمل الإسلامي- أننا نسمع ممن نحبهم من أصحاب الحركة الإسلامية: أن من مصلحة الحركة الإسلامية ألا تقضي على جميع أوكار الأحزاب الكافرة، وذلك بتعليل: أن طاقة الحركة الإسلامية الإنتاجية الإدارية لا تعينها على احتواء المعاقل الكافرة، وتحويلها إلى معاقل لبث الخير والدين، أو أن القضاء عليهم سيجعل السلطات تنفرد بهم في الساحة.. إلى غير ذلك من أنماط التفكير الذي غاب عنه الأصل في التعامل مع هؤلاء.} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ...[39]{ [سورة الأنفال] . [مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ...] رواه مسلم والنرمذي والنسائي وأبوداود وابن ماجة وأحمد .(/2)
السبب الثالث : عدم متابعة العمل عند التكليف به : مع زيادة متطلبات العمل من قيادي الحركة الإسلامية، ومع القراءة لفن الإدارة في كتب الغرب، التي تبين أن من أسس الإدارة الناجحة عدم تمركز العمل في مكان واحد، بل توزيع الصلاحيات على القطاعات المختلفة، ومع هذه الأمور يعمد المسئولون بعد توزيع الصلاحيات إلى عدم المتابعة والبحث والنظر، وهذا مخالف لمنهج السلف رضوان الله عليهم، الذي يبين أن توزيع الصلاحيات لا يعفي القيادة من مسئولياتها، لذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:' أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت ما عليّ؟ قالوا نعم، قال: لا، حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته لا ؟؟'.
السبب الرابع : عدم معرفة حقيقة العهد المكي الذي تقول الحركات الإسلامية بأنها تعيشه في مسيرتها وخطواتها : فتارة تسمع بأنها مرحلة الصبر والسكوت على إيذاء المجرمين، بل قد تسمع أن من سمات هذه المرحلة أن تنبري للدفاع عن هذه الأنظمة القائمة، وتنافح عنها أكثر من منافحتها عن نفسها؛ بعلة أنها أحسن الموجود!! وتارة تسمع بأن الحركة الإسلامية قد تخطت العهد المكي بمجرد ما ظهرت أقلامها وكلماتها عبر المنبر والصحافة والكتاب إلى غير ذلك من الأفهام حول العهد المكي.
والذي يظهر لي: إن مرحلة العهد المكي تمثل في حقيقتها مرحلتين:
? مرحلة في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وغار حراء، وشعاب مكة المظلمة،.
?ومرحلة مسيرة القافلة المؤمنة في الصدع بالحق وتميزها عن الباطل، ووضوح الرايتين: راية التوحيد، وراية الشرك والوثنية.
وهذه المرحلة ليست بهذه السهولة، بل تستلزم الصبر والتربية الإيمانية العميقة، فتتطلب من أصحابها الإعداد الكامل في جميع الميادين، ثم يبدأون فيقولون كلمة الحق، ويصبرون عليها كما أراد الله سبحانه:} وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ... [29]{ [سورة الكهف]. ليسوا مهيئين في تربيتهم الحالية على العيش وفق مقتضيات العهد المكي، الذي يمثل في حقيقته المفاصلة ومستلزماتها، من الصبر والثبات، والله المستعان.
السبب الخامس: الاعتماد على الجهد البشري: يُفهم من عبارات بعض الدعاة اعتمادهم على جهدهم البشري، وهذا يمثل خدشًا في حس الدعاة الإيماني، ويأتي هذا الأمر بعد كثرة الأنصار، وتقدم الدعوة في مسيرتها، فالمرحلة الأولى التي تمثل الضعف البشري الذي بطبيعته يمثل الالتجاء إلى القوة التي يعبدها، وهذا أمر مشترك لدى الجميع، ولكن الأمر الذي يتميز به أهل الإيمان عن غيرهم أنهم على صلة بالله تعالي في جميع حالاتهم وقوتهم وكثرة عددهم؛ لأنهم يعلمون أنهم ضعاف أذلاء بالنسبة لله تعالي؛ وذلك لأن العبودية لله في حقيقتها: الحب والذلة له تعالى مع الخوف والرجاء، وقد عالج القرآن الكريم هذا الضعف البشري في البيان القرآني، فقال تعالى:} وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[26]{ [سورة الأنفال]. وكذلك الدرس العلمي في غزوة حنين التي يصفها القرآن الكريم:} لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ[25]ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ[26]{ [سورة التوبة] .
فالمنهاج الصحيح: أن يبقى الدعاة على صلة دائمة بالله تعالى: فلا يركنوا إلى تخطيطاتهم، وأعدادهم وأرقامهم وإحصائياتهم، ولا يظهروا ذلك في لحن القول، بل لسان حالهم يُردد:'اللهم لا حول ولا قوة لي إلا بك'.. 'اللهم إنا نبرأ من حولنا وقوتنا'.
رابعاً: أسرار في قواعد العمل الإسلامي:
القاعدة الأولى: سر الترابط بين الغاية والوسيلة: في كل عمل منظم لابد من وضع نظم لتسيير العمل، وهي التي تسمى بالإداريات، وهذه الإداريات الأصل في وضعها بيان قواعد مقننة تضبط جوانب هذا الصرح الذي يراد له الاستمرارية والنماء، وتختلف هذه الإداريات من حيث الكثرة والتعقيد حسب اتساع العمل ونمائه الأفقي والعمودي، وإلى هذا الأمر فلا إشكال ولا اختلاف في وجهات النظر.(/3)
? هل الضوابط الإدارية وضعت لذاتها، وهي غاية في نفسها ، أم هي وسيلة للغاية؟ وهنا تتباين وجهات النظر، فيتم الاتفاق على أنها وسيلة من الوسائل، ثم يكون الاختلاف: هل نقدم مصالح الدعوة التي تصطدم مع بعض الإداريات، ونكسر بعض القواعد التي اتفقنا عليها؟ وهذا التساؤل لا يوفق إلى الإجابة عنه وإيجاده في واقع العمل إلا صاحب تجربة، نبه دقيق في مهمته، صاحب نضج في ترجيحاته، قد وضح عنده أنه مع أهمية الضوابط الإدارية لسير العمل، لا نجعلها حائلاً دون اغتنام بعض الفرص التي قد لا تسنح لنا مرة أخرى؛ لأن هذه الضوابط إنما وضعناها بأنفسنا، ولمصلحتنا فلا يمنع من أن نغيرها متى اقتضت المصلحة ذلك، فليست هي بنص التنزيل الذي لا يجوز في حقه النقص والتغيير، وهذه الضوابط لابد من جعلها مرنة رطبة كالغصن الندي الذي يمثل المسلم يتحرك مع مصلحة دعوته، ويدور معها حيث دارت.
القاعدة الثانية :معرفة سبيل المجرمين : لابد لأصحاب الحركة الإسلامية من معرفة الجاهلية وطرقها وأساليبها، وكيفية تفكيرها، وهذا الأمر ليس بدعاً ، بل له أسوة في تفكير الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حيث قال :' كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي' رواه البخاري ومسلم . وبهذا التصور نطق الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:'إنما تنتقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية'. والجهل بسبيل المجرمين قد يؤدي إلى:
?إخراج الجماعة من الطريق المستقيم الوسط : الذي هو طريق بين الإفراط والتفريط، وسبيل المجرمين لا يهتم بالصورة التي تنحرف فيها المسيرة الربانية غلواً أو تقصيراً، إفراطاً أو تفريطاً، فالنتيجة واحدة هي الانحراف.
?توظيف الجماعة الإسلامية في إجهاض الحركة الإسلامية ذاتها عن طريق سبل المجرمين الكثيرة:
دس العناصر الجاسوسية: التي تمثل الفضلات النتنة التي أفرزتها الصراعات الحزبية.
تدليل بعض الجماعات وتقريبها من الحريات والفرص على حساب الجماعات الإسلامية الأخرى: وهذا التدليل لا يستمر بل مثله كمثل إطعامنا الطعام والعلف للخروف ليسمن فنذبحه.
القاعدة الثالثة:الداعية لا يغير مبادئه : بعض الحركات الإسلامية نرى أنها: كثيراً ما تغير بعضاً من مبادئها مع تغييرها لمواقع دعوتها، ويكفي هذا الأمر خطورة أنه مخالف لمنهج النبي
صلى الله عليه وسلم حيث كان يتغير مكانه ومنصبه ومع ذلك لم يتخل عن شيء من مبادئه قيد أنملة، فهو في مكة ينادى بنفس المبادئ التي ينادى بها في الطائف، وهو بين قومه في مكة أعلنها صريحة نقية، وكذلك في المدينة في ديار لا يعرف فيها أحداً، وهكذا يجب أن تكون الحركة الإسلامية، لا نراها في مهد الطفولة نقية طاهرة، ثم هي في عهد الشباب والفتوة طائشة متخبطة، فطبيعة الدعوات في نموها يجب ألا تخضع لمثل تغيرات الإنسان في نموه من طيش ورعونة إلى شيخوخة وضعف.
القاعدة الرابعة :الداعية يذكر الدوافع كلها : من الأمور التي قد نراها في بعض الدعاة إمتطاء ظهر الدعوة وإخفاء الدافع الحقيقي، حيث نسمع كلاماً ونتسمع همساً في مناسبات كثيرة في مجال الركض إلى الدرهم والدينار، يقول هذا الداعي الراكض: إنما أبحث عن المال؛ لأنه عصب الحياة، وقوة للدعوة فهو لها ومن أجلها، وإلا فمن يتبرع؟ ومن يبني المدارس والمستشفيات؟
وهنا لا يُنكر أهمية المال في الحياة، ولكن الذي ينكر طبيعة هذا التبرير، فلماذا لم يقل: وبالمال أوسع على نفسي بالعيش، وأوفر للأولاد ما يحتاجون، وأدخر بعضاً من المال للزوجة والأولاد .. نعم الذي لا ترتاح له النفس هو عدم ذكر الدافع الثاني الذي لا يقل أهمية عن الدافع الأول في حقيقة الأمر لدى ذلك الداعي، ولذلك فإنه يجب على من يتصدر للحركة الإسلامية أن يصدق مع الله، ويعلم أنه يتعامل مع رب يعلم السر وأخفى .
القاعدة الخامسة :مبدأ الموالاة ليس حصراً على أفراد جماعة بعينها : مما تناساه كثيرون أنهم جسد واحد، يفرح بعضهم لأفراح بعض ويحزن لمصائبه، عز بعضهم من عز البعض الآخر، وكذلك الذل، ولكن مما يحز في النفس ذهاب هذا المبدأ الأصيل من حس وشعور عند بعض أفراد الحركة الإسلامية، حتى أصبح حال بعضهم مع بعض هو ما يمثله قول الشاعر :
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحاً وإن تُسمِّعْهم من صالح دفنوا(/4)
القاعدة السادسة: إثبات الحق لأهله: أهل الدعوة لا ينسون الفضل لأهله في زحمة العمل الإسلامي، ومناشدة الأحسن للدعوة. ولكن في الحرص على السرعة في الوصول للهدف تُنسى طاقات أهل الفضل التي كانت تواصل الليل مع النهار، ولكنها لم تنل حظاً وافراً من الشهادات العالية أو الوجاهات الاجتماعية والمادية، فيُنسى هذا الصنف عندما يتقدم صاحب الشهادة والوجاهة. وبذلك يخطيء أصحاب الحركة الإسلامية؛ لأنهم نسوا منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم ينس فضل زيد وابنه أسامة، فولى أسامة جيشاً فيه أصحاب الجاه والأصل والشرف.
وسلك هذا المنهج من بعده من تلقوا التربية عن طريقه، فنرى الفاروق رضي الله عنه يقف على بابه سادة قريش الذين امتنعوا عن الدعوة في أول الأمر، ويدخل عليه من غير انتظار: سابق الروم، وسابق الحبشة، وسابق الفرس، فهم سبقوا في الدخول إلى الإسلام، فسبقوا بالدخول إلى مجالس الخلفاء، وهذا ما فهمه سهيل بن عمرو حين رأى الغضب على وجوه سادة قريش وهم ينتظرون الإذن فقال – وياله من رجل ماأعقله – :'أيها القوم إني والله قد أرى الذي في وجوهكم فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم'، ثم قال:' إن هؤلاء قد سبقوكم بما ترون ولا سبيل لكم والله إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه'.
خامساً: أسرار في أسباب السقوط من قطار الدعوة إلى الله :
قبل الخوض في هذه القضية لابد من ذكر أمرين:
?الأمر الأول:أن دوام الحال من المحال ، وأن الذي يتحرك ويتكلم لابد أن يخطيء، وأن أصناف الناس في قطار الدعوة هم في المجتمع ، فيهم الضعيف وفيهم القوي ، وكذلك الكريم والبخيل والمتجرد والمخلط ، والإمعة والقائد ، والعاصي والمطيع ولكن الفارق أن هذه الأصناف في قطار الدعوة قد لاقت قسطاً من التربية والتهذيب، وأن الصفات الناقصة التي ذكرناها ليست مطلقة فيهم، بل عملت على تهذيبها واقتلاع كثير من شوائبها أصابع المربين من الدعاة.
? الأمر الثاني :أنه على الدعاة ألا يجزعوا لسقوط بعض الدعاة من قطار الدعوة، وألا يتعجبوا من ذلك فيصفوا الدعوة بالقصور والنقص بسبب تخلي هؤلاء عن المسيرة ، فقد كان سيد البشرية صلى الله عليه وسلم يدعو:[ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ] رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن. وصححه الألباني [صحيح الجامع 4677].
أسباب السقوط:
السبب الأول: الكبر: فمن المتفق عليه أن السبب الرئيسي في سقوط إبليس من منزلة الملائكة: هو الكبر وقد ورد في ذلك قوله تعالى:} قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا[13]{ [سورة الأعراف].
السبب الثاني: الخوف على الأولاد والأهل والنفس والرغبة في معونة الجاهلية: وهذا السبب يخالج أصحاب الدعوة في فترة يضعف فيها اليقين بأن الآجال مكتوبة، وأنها بيد الله، والأرزاق معينة قبل خلق الناس بخمسين ألف سنة، فنسيان هذه القضية مع زحمة العمل والتكاليف يجعل الإنسان يبدأ بالانزلاق وهو لا يشعر، ومن صور ذلك :
أن يقول الدعاة: إن الطاغية الفلاني هو أخف العصاة الموجودين في الساحة، فلو أني استجبت له في بعض الأمور، وأعلمته ببعض الأشياء، لكنت أجده وقت الشدة عند ضربة الدعاة الآخرين.
وصورة أخرى: أن نجد بعض الدعاة يحاول أن ينزلق إلى أهل الوجاهة والسلطان، ويقدم بين أيديهم، حتى إذا كانت ضربة لا قدر الله للحركة كانت له مكانة ينجو من خلالها.
السبب الثالث: افتراض الصواب المطلق في الرأي الشخصي : الداعية النشط يبادر برفع الآراء، واقتراح الأسباب الناجحة لسير العمل، والعيش مع الدعوة في مشاكلها وصراعاتها، وإلى هذا الحد فالأمر طبيعي، بل والسير فيه ممدوح، ولكن بغفلة عن الضوابط الشرعية بسبب زحمة العمل، وتكالب الجاهلية، وضراوة الصراع نرى بعض الدعاة بحسن نية يعرض الرأي ويتعصب له، فإذا تداركته رحمه الله رجع إلى أسسه التي تربى عليها، وفهم حقيقة الاقتراح، وأنه لا يعدو كونه رأياً ضمن آراء كثيرة من بعض الدعاة، ورجع إلى القاعدة الأصولية التي تقرر أن الخطأ لا يكون صواباً مع حسن النية، وقول العلماء المحققين:' قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب' فإن لم يرجع إلى هذه الأصول فسيكون هذا التعصب بداية السقوط !!(/5)
السبب الرابع: طول الجهاد وتأخر النصر: الناظر في المنهج القرآني يرى أن هناك قضية يجب على الدعاة أن يجعلوها دائماً نصب أعينهم هي:” أن المطلوب منهم هو الجهاد والحركة عند إيمانهم بهذا المنهج إلى أن يتوفاهم الله سبحانه'. أما النصر فهو من أمر الله، إن شاء جعله في عصرهم وعلى أيديهم، وإن شاء أمضاه على أيدي الأجيال من بعدهم، وذلك مصداقاً لقوله تعالى:} وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ...[46]{ [سورة يونس] . وقوله تعالى:} وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ... [40]{ [سورة الرعد].
حالة الساقطين من الدعوة: إن من يتساقط في الطريق هو بين حالتين:
الحالة الأولى:أن يبرر سقوطه، ويرمي اللوم والعتب والأسباب على الدعاة؛ بأنهم أخطئوا في معالجته، أو أنهم خالفوا لوائحهم في تعاملهم معه، أو أنهم ليسوا على المستوى الذي يؤهلهم لإدارة الحركة.
الحالة الثانية:ألا يبرر سقوطه بل يعترف بتقصيره، وأن الشيطان قد أخذ منه حظاً، وأنه في يوم ما سيرجع إلى دائرة العمل إن شاء الله.
من كتاب:' طريق الدعوة الإسلامية' للشيخ/جاسِم بن محمد بن مُهَلْهِل اليَاسين(/6)
أسرى شيراك !!..
شعر:صالح علي العمري-الظهران
أشغلتْ فرنسا العالمَ بقضيّةِ الصحفيين الأسيرين في العراق ، وحُقَّ لها ذلك، وبعد جهودٍ مُضنيةٍ ابتهج الفرنسيون بإطلاق سراحهما ، فقطعَ الرئيسُ إجازته وأوفدَ وزيرَ خارجيته لإحضارهم من الشرقِ الأوسط ، وكان يوماً وطنياً لفرنسا..
تذكرتُ عندها أسرانا في فلسطين سواءً في سجون الصهاينة أو خلف الجدران العنصرية والحواجز القهريّة وتذكّرتُ أسرانا في كوبا وأفغانستان والعراق .. الآف مؤلفة .. يرفلون في قيودهم من غير ذنب أو جريرة دونما سؤال عنهم .. فهذه رسالة عتاب إلى المسلمين شعوبا وحكومات ، وأفرادا وجماعات على تقصيرنا في فكّ العاني وخلافة الفقيد في أهله وماله...
فمَا لنا مهجةٌ تبكي لأسرانا ii!!
فليس في أمتي من يرفعُ iiالشانا
وحَلِّ " بُرْجَكَ " أنوارا iiوألوانا
وصُفّ جيشَكَ ضبّاطاً و iiأركانا
وقد صففنا لهم ذلاًّ و iiخذلانا!!
واكسُ الصغيرةَ باقاتٍ و iiريحانا
تقرّحتْ حسرةً.. قلبا وأجفانا !!
بالحزنِ .. تحصدُ بعدَ البذل iiنُكرانا
وتحفظُ العهد أشواقاً ووجدانا
تراقبُ الفجر.. علّ الفجر قد iiحانا
تنعى الشهامة أبواباً و جدرانا !!
يهتَزُّ من أجلهم بَرّاً و خُلْجانا ii..
صلافةُ الحاقدِ الممسوخِ iiشيطانا!!
واللهُ أنزلها للناس iiقرآنا
لنُصرةِ الدينِ أرواحا iiوأبدانا
مستيقظٍ لم يجدْ في الدهرِ iiسلوانا
أخوّةً صاغها الإسلامُ iiبُنيانا
كالأمِّ عطفاً وإيثاراً iiوتحنانا
وقد ينامُ على الفاقاتِ iiجوعانا..
أين التناصرُ تثبيتاً و إحسانا؟!
ألم نكنْ في الأسى والسعدِ iiإخوانا؟!
أضحتْ مبادئهُ زوراً iiوبُهتانا!!
وباتَ يسبي حمانا كلُّ من iiهانا
فقد جعلتمْ جزاءَ البرِّ عدوانا ii!!
وحكمكم مِقْصلٌ يزجي iiمنايانا
وأّكْرَمَ الناسَ أجناساً iiوأديانا
كفى بما سجّل التأريخُ iiبُرهانا
وبَذْرُكم نزّ أحقاداً و iiأضغانا!!
لم نبدِ إلا لوجهِ الله شكوانا.. ... 1 . شيراكُ عرّجْ على أسْرَاكَ جذلانا
2 . " واقطع إجازتك " الغنَّاء في فرحٍ
3 . وصُغْ بباريس أعيادا iiمطرّزةً
4 . واجعلْ وزيرَكَ حكْراً في iiمواكبهم
5 . فإن من أخوتي مليون معتقلٍ ii..
6 . وهنّيءْ الأمَّ والزوجَ التي iiسكنتْ
7 . فللأسيرِ هُنا أمٌ iiمعذبةٌ..
8 . وللأسير هنا زوجٌ iiملفعةٌ
9 . تشكو إلى الله أحزانا iiمُعتّقةً
10 . وللأسيرِ هنا بنتٌ iiمشوّقةٌ
11 . وللأسير هنا دارٌ iiمعطّلةٌ
12 . غابوا فما سائلٌ عنهم، ولا وطنٌ
13 . تسومُهم تحت عين الكونِ iiأجمعِهِ
14 . لايرقبونَ لهم إلاًّ ولا iiذمما
15 . ويحيي .. وما نقموا منهم سوى صورٍ
16 . من لي بقلبٍ على إخوانهِ iiشَفِقٍ
17 . يبيتُ فوق صفيحِ الجمر من iiلَهَفٍ
18 . خليفةُ الجارِ في مالٍ وفي iiحّشمٍ..
19 . سترُ اليتامى.. جوادٌ حين iiمسغبةٍ
20 . أين التُّقى يا عباد الله في iiزمني؟!
21 . ألم يكن بيننا في الدين من iiرحمٍ؟!
22 . لكنْ إذا شطَّ جيلٌ عن iiشريعته
23 . هُنّا فهانتْ على الدنيا iiمحارُمنا
24 . شيراكُ لا قدوةٌ فيكم ولا iiشرفٌ..
25 . لقد حكمنا فأحيتكم iiحضارتُنا
26 . إسلامنا عبّدَ الدُّنيا iiلخالِقِها
27 . وعهدُكم آلةٌ تفري و محْرَقةٌ ii..
28 . يا كم غرسنا غراسَ العدلِ iiفازدهرتْ
29 . شيراكُ : لي موعدٌ للنصر iiأرقُبُهُ
30 . بي من أسى أمتي عن همّكم iiشُغُلٌ(/1)
أسرى لا بواكي لهم!
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف (*)
ها أنتم أيها الأسرى في فلسطين وكوبا! من المجاهدين والعلماء والدعاة؛ قابعون في سجون الظلم والاستبداد، تكابدون الآلام والأوجاع، وتعانون شماتة الأعداء، وتوجع الأحباء، فاللهم ثبت قلوبهم على دينك، وارفع درجتهم في جنتك.
لكنكم موقنون أن الأسير من أسره هواه، والمحبوس من حبسه هواه، وأنتم جاهدتم أنفسكم وأعداءكم في سبيل الله تعالى، وقمعتم أهواءكم في مرضاة الله ـ تعالى ـ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41]، ومن يرد الله به خيراً يُصب منه.
فيا معشر الأحرار الكرام! تذكروا مقالة الإمام مالك بن أنس: «لا تغبطوا أحداً لم يُصبه في هذا الأمر بلاء»، وتذكروا أن أسلافكم الأوائل ابتُلوا بذلك؛ فإن الإمام أحمد بن حنبل «قد تداوله ثلاثة خلفاء(1) مسلطون من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين، والقضاة، والوزراء، والسعاة، والأمراء والوالاة مَنْ لا يحصيهم إلا الله، فبعضهم بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل وبغيره، وبالترغيب في الرياسة والمال ما شاء الله، وبالضرب، وبعضهم بالتشريد والنفي. وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض، حتى أصحابه العلماء، والصالحون والأبرار، وهو مع ذلك لم يعطهم كلمة واحدة مما طلبوه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة»(2).
وسُجن الإمام البويطي ـ صاحب الشافعي ـ ووُضع الغُلّ في عنقه، والقيد في رجليه، وكان يقول: لأموتن في حديدي هذا، حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.
وكان البويطي وهو في الحبس يغتسل كل جمعة، ويتطيب، ويغسل ثيابه، ثم يخرج إلى باب السجن إذا سمع النداء، فيردّه السجان، فيقول البويطي: اللهم! إني أجبت داعيك فمنعوني.
وكتب البويطي إلى الذهلي: «أسألك أن تعرض حالي على إخواننا أهل الحديث، لعل الله يُخلِّصني بدعائهم، فإني في الحديد، وقد عجزتُ عن أداء الفرائض؛ من الطهارة والصلاة. فضجّ الناس بالبكاء والدعاء له».
قال السبكي: انظر إلى هذا الحبر ـ رحمه الله ـ لم يكن أسفه إلا على أداء الفرائض، ولم يتأثر بالقيد ولا بالسجن، فرضي الله عنه، وجزاه عن صبره خيراً(3).
ولما سُجن علي بن الجهم أنشد أبياتاً رائعة، منها:
قالوا حُبستَ فقلتُ ليس بضائري *** حبسي، وأي مهند لا يُغمدُ؟!
والشمس لولا أنها محجوبة *** عن ناظرَيْك لما أضاء الفرقدُ
والبدر يدركه السرار فتنجلي *** أيامه وكأنه متجددُ
والحبس إن لم تغشه لدنِيَّة *** في الدهر نعم المنزل المتوددُ
وسُجن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ سبع مرات، وكان سجنه أسوأ من سجن النصارى، كما قال ـ في مناظرته لمخالفيه بشأن العقيدة الواسطية ـ: «ثم النصارى في حبس حسن، يشركون فيه بالله، ويتخذون فيه الكنائس، فيا ليت حبسنا كان من جنس حبس النصارى، ويا ليتنا سُوّينا بالمشركين وعبّاد الأوثان! بل لأولئك الكرامة ولنا الهوان.. وبأي ذنب حُبس إخوتي في دين الإسلام؛ غير الكذب والبهتان؟!»(4).
ومع ذلك كله؛ فإن ابن القيم يحكي حال شيخه في سجن القلعة بدمشق فيقول: «وكان [ابن تيمية] يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة. أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي من الخير.
وعلم الله؛ ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط.. وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً»(5).
وإن الواجب علينا تجاه إخواننا الأسرى أن نسعى إلى المطالبة بإطلاق سراحهم، وتبني قضاياهم وشؤونهم، والسعي إلى فك العاني بالفدية، والترغيب في ذلك، والدعاء والقنوت لهم.
فلقد وصف الله ـ تعالى ـ عباده الأبرار بقوله ـ سبحانه ـ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8].
ودفع الخليفة العباسي المتقي بالله منديلاً يقال إنه لعيسى ـ عليه السلام ـ لملك الروم؛ مقابل إطلاق عدد كثير من أسرى المسلمين كما أفتى الفقهاء(6).
واحتسب بعض علماء الأندلس في جمع التبرعات من أجل فكاك الأسرى المسلمين في أعقاب المعارك الواقعة بينهم وبين النصارى، فهذا أبو عبد الله الحجام (ت 614هـ) يندب الناس في جامع إشبيلية إلى افتكاك الأسارى، فتسارع الناس إلى ذلك ما حضرهم، وخلع كثير منهم بعض ما كان عليه من الثياب(7).
وطالب شيخ الإسلام ابن تيمية ملك قبرص ـ النصراني ـ بإطلاق أسرى المسلمين، سالكاً في تلك الرسالة مسلك الترغيب من جهة، ومسلك «الترهيب» والتحذير من جهة أخرى، ولما قدر شيخ الإسلام على إطلاق الحافظ المُزِّي من الحبس؛ أخرجه من الحبس بيده، وكان يقول: «يجب على القريب افتكاك قريبه من الأسر»(8).(/1)
ويقول أيضاً: «ولو أسرنا حربياً لأجل تخليص مَنْ أسروه منّا جاز اتفاقاً»(9).
فاللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم اشدد وطأتك على أعداء الدين، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف.
-------------------------------
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
(1) المأمون، والمعتصم، والواثق.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، 12/ 439.
(3) انظر: طبقات السبكي، 2/ 164، 165.
(4) مجموع الفتاوى، 3 / 254.
(5) المستدرك على مجموع الفتاوى، 1/ 154.
(6) انظر: المنتظم، لابن الجوزي، 14 / 27.
(7) انظر: تفصيل ذلك في جهود علماء الأندلس في الصراع مع النصارى، لمحمد أبي الخيل، ص 266.
(8) المستدرك على مجموع الفتاوى، 5/ 62.
(9) المستدرك على مجموع الفتاوى، 3/ 241.
المصدر : مجلة البيان(/2)
أسس التغيير والإصلاح ...
17-01-2006
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، وبعد :
إن العمل لتغيير واقع الأمة واجب على كل مسلم، ولكن التغيير لا يصار إليه إلا بعاملين اثنين، العلم والقوة، قال تعالى : (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)) . البقرة
فحين استجاب الله سبحانه لبني إسرائيل، ملك عليهم طالوت، فما كان منهم إلا أن يعترضوا على ما اختاره الله سبحانه لهم متعلقين بحجة واهية لا تسمن ولا تغني من جوع، وما تعلق به بنو إسرائيل ذاك الزمان ، هو مقياس لما يتعلق به المسلمون اليوم، فمقاييس بني إسرائيل متجهة نحو الحظوظ الدنيوية، فعليها يبنون شؤون حياتهم،بعيداً عن المقاييس الحقيقية التي تعرب عن معادن الرجال، لا عن ظواهرهم ، فإن اعتراض بني إسرائيل على ذلك القائد كان بسبب أمرين وهما :
1: أنهم أحق بالملك منه، ذلك لكونه ليس من أشرف أسباطهم.2 : أنه لم يؤت سعة من المال، فهو لذلك ليس من أغنيائهم. فالملك بمنظور بني إسرائيل له عاملان، المكانة الاجتماعية ، والغنى ،فمن تحقق فيه هذان الوصفان فهو أهل للملك، ومن فقدهما فلا يستحق الملك،لذا نجد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، ينصب موازين الحكم على الناس من خلال ميزان العدل ، إذ يضع كل واحد في منزلته بناء على مقاييس ربانية حكيمة، بعيداً عن التعصب والهوى، فقد جاء في سنته العطرة ما رواه أبو العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس : (ما رأيك في هذا؟) فقال رجل من أشراف الناس ، هذا والله حري إن خطب أن ينكح و إن شفع أن يُشفع. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل آخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيك في هذا؟) فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين حري إن خطب أن لا يُنكح و إن شفع أن لا يُشفع و إن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) متفق عليه . فلا يكون الحكم على عباد الله سبحانه من خلال الموازين الدنيوية ،بل من خلال موازين العدل والعلم ، فيجب على الناس أن ينظروا إلى الأمور بمنظار الشرع، فما حسنته النصوص فهو الحسن، وما قبحته النصوص فهو القبيح، والموازين الشرعية تقدم أهل التقوى عن غيرهم، قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ) الحجرات وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) . رواه مسلم وما ذهب إليه بنو إسرائيل من حجج واهية لم يلتفت إليها الله سبحانه، فحين اختار طالوت عليهم كان يعلم بحقيقته، ويعلم أيضاً مراد بني إسرائيل، ومع ذلك غاير مراد بني إسرائيل وجعل الأمر على خلاف ما يهوون ، مبيناً لمن تكون أهلية الملك، لأهل القوة والعلم ، فأهل القوة والعلم، هم أصحاب الشأن، وهم المؤهلون لقيادة الناس، والأخذ بهم إلى طريق الحق والتغيير والحكم والثبات، وهما أي القوة والعلم، كجناحي الطائر لا يستغني عن أيهما، ولا يستقر محلقاً إلا بهما، فالعلم من غير قوة لا يؤثر بالواقع، ولا يحقق التغيير قال سبحانه على لسان بعض أنبيائه: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)). هود ،فهذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو لوط، رزقه الله العلم والحكمة، ولكنه كان يفتقد إلى عامل القوة، فعجز عن صد قومه والحيلولة دون ما يشتهون، فالقوة تمكن للتغيير والتأثير ما لا يمكنه العلم ، فقوله تعالى : (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) ) . هود ، وهذه آية في السورة نفسها، فالله سبحانه بين أن عبده شعيباً عليه السلام كان يدعو قومه إلى ما لا يهوون، بيد أنهم لم يتعرضوا له بأذى بسبب رهطه أي القوم حوله مما يتمتعون به من قوة، وهذا ما حمل النبي صلى الله عليه وسلم على عرض نفسه على القبائل متوجه إلى أصحاب القوة والمنعة لتتم له الدعوة إلى الله سبحانه دون معوقات .(/1)
وكذلك فإن القوة بلا علم، سبيل الغواية والهلاك، فانظر إلى ما حملت القوة أصحابها عليه قال تعالى : (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) ) . فصلت فهذا أنموذج لأهل القوة المفتقرين إلى العلم، فما من أمة عتت عن أمر ربها سبحانه، إلا لفرط جهلها وضياع عقولها، بل إن الاعتماد على مظاهر القوة والركون إليها بعيداً عن التعلق بمسببات النصر والتمكين، طريق إلى الفشل ، قال سبحانه : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ) التوبة فقد خص الله سبحانه يوم حنين بالذكر لما كان فيها من حادثة مؤلمة تسببت في اختلال الموازين، وهي الاغترار بالكثرة الدالة على القوة، متجاهلين الأسباب الحقيقية التي يتسبب بها النصر، وهو تقوى الله سبحانه والتوكل عليه، فالقوة المفتقرة إلى العلم لا تحقق تغييراً صحيحاً، أي قد تتسبب في تغيير الواقع، وقلب الأمور رأساً على عقب، لكنها لن تحدث تغييراً صحيحاً منطلقاً من القواعد الشرعية الحقة، فهنالك تأثير على الأمة من خلال القوة المادية، سواء أكان التأثير تأثيراً سياسياً، أم تأثيراً اجتماعياً، أم حركياً، إلا أنه لم يحدث الصحوة الإيمانية المنبثقة عن المفاهيم الصحيحة للكتاب والسنة، هذا وإن أحدث تأثيراً فإنه يقوم على أسس خاطئة تسبب الضلال والانحراف، لا الصحوة الحقة والنجاة، فقد جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوساً جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) متفق عليه
فلا شك أن هؤلاء الرؤوس لهم تأثير على العامة، وذلك بما لهم من قوة وسلطان، إلا أنهم يقودون الناس إلى الهلاك، لا إلى النجاة لفقدانهم لأحد عاملي التغيير وهو العلم. فالعلم والقوة هما أساسا التغيير لذا وصف الله سبحانه أنبياءه بهذين الوصفين فقال: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) ) .ص
والقوة والعلم لا يتحصل عليهما إلا بالتقوى ، فمهما سلك الناس سبلاً لتحصيل العلم والقوة،فلن يحققوا نجاحاً شرعياً، فالقوة بلا علم كما ذكرت سبيل للهلاك، وأما العلم بلا تقوى فهو سبيل للهلاك أيضاً، فعن العلم يقول سبحانه : ( وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) ) . البقرة وقال سبحانه : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) ) . القصص
وأما عن القوة فقال سبحانه : (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ (52) ) . هود
وإن مما ابتليت به الأمة في هذا الزمان، فقدانها للعلم والقوة، فكثير من المتصدرين لقضاياها ينطلقون من منطلقات هشة، يشوبها الجهل والضعف ، ومع ذلك فهم رؤوس لكثير من الناس ، وهذا ما جعل الأمة في ضلال عظيم، وأوصلها إلى أدنى دركات الذل والهوان، لا يبعد حالها عما وصفها به نبيها صلى الله عليه وسلم بأنها أمة غثائية لا تزن شيئاً، وذلك فيما رواه ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت ) . حديث صحيح رواه الإمام أحمد(/2)
وما كان لها ذلك إلا بما اقترفته من آثام، وبعٍد عن النهج القويم، وتكالبٍ على الدنيا وزينتها، وإعراضها عن التضحية والتفاني والإخلاص لدينها القويم،فقد أصبح الغني فيها مالكاً مقرباً، والفقير ذليلاً مبعداً، القوي يأكل الضعيف، والضعيف يصارع الذل والصغار والظلم،أصبحت المقاييس دنيوية،فأنت كما يقول المثل الظالم المتعارف عليه، والمعمول به بين الناس ( إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب ) إن لم تكن متحزباً استبيح عرضك، إن لم تكن قائماً بالظلم والتعصب والمحسوبية،طردت خارجاً ، وأصبحت عبئاً على قومك وعشيرتك، فيا قومي: ليست الأمور على هذا الشكل، ليس الأقوى هو الذي بيده زمام الأمور، ليس الأغنى هو من يتحكم برقاب العباد، يا قومي ليس من يرفع شعارات الحق هو من يقود،بل الذي يجعل الحق نهجاً له، وأسس يقيم عليها حياته، إن ما تحتاج إليه الأمة اليوم، ليست الشعارات الفارغة من مضمونها، بل إلى أناسٍ تحققوا على مؤهلات شرعية ، دل عليه البرهان والسلطان،وعليه ما تحتاج إليه الأمة اليوم، هو أهل العلم الشرعي الصحيح ، والقوة الحقيقية المستندة إلى العدل والإحسان ، نسأل الله العلي العظيم أن يرزقنا العلم والقوة، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أمين والحمد لله رب العالمين .(/3)
أسس الخطاب الدعوي المعاصر
رئيسي :الدعوة :السبت 23رمضان1425هـ - 6 نوفمبر 2004 م
أولًا:وصف الخطاب الدعوي:
أ- وضوح الدلالة:
قال تعالى:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ[193]عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ[194] بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[195]}[سورة الشعراء].
قال ابن كثير[ 3/34]:'أي: هذا القرآن الذي أنزلناه إليك، أنزلناه باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل؛ ليكون بيّناً واضحاً ظاهراً، قاطعاً للعذر، مقيماً للحجة دليلاً إلى المحجة'
. وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:' كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ'رواه البخاري.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعِيدُ الْكَلِمَةَ ثَلَاثًا لِتُعْقَلَ عَنْهُ.رواه الترمذي،ورواه البخاري بلفظ آخر.
ب- قوة الحجة:
قال تعالى:{ قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ[10]}[سورة إبراهيم].
قال البغوي:' سلطان مبين:حجة بينة على صحة دعواكم'
[3/28].
قال السعدي:' أي بحجة وبينة ظاهرة '.[4/28].
الأَعْرَابِي الذي وَلَدَتْ امرأته غُلَامًا أَسْوَدَ.
الشَاب الذي أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يستأذن في ِالزِّنَا.
ج - كفاية التبليغ:
1- شمول جميع عناصر الرسالة بالتبليغ:
قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ...[67]}[سورة المائدة].
قال القرطبي:'قال ابن عباس:المعنى بلّغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئاً منه فما بلغت رسالته، وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئاً من أمر شريعته '[6/242].
2- شمول البلاغ جميع المخاطبين:
قال تعالى:{ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ...[52]}[سورة إبراهيم]. قال ابن كثير:'يقول تعالى هذا القرآن بلاغ للناس كقوله:{...لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ...[19]}[سورة الأنعام]. أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن '.[2/454].
وقال الراغب:' البلوغ والبلاغ الانتهاء إلى المقصد والمنتهى مكاناً كان أو زماناً أو أمراً من الأمور المقدّرة '[60].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ]. رواه البخاري.
ج- كفاية التبليغ:
1- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا] قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ قَالَ: [ فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا] قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ قَالَ: [ فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا] قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ: [ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا] فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: [اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ] رواه البخاري.
2- عرض النبي صلى الله عليه وسلم على القبائل .
3- مكاتبة الرسول صلى الله عليه وسلم للملوك .
ثانياً:غاية الخطاب الدعوي:
أ- الوضوح والبيان:
قال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...[4]}[سورة إبراهيم].
ب- القوة والظهور:
قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ...[33]}[سورة التوبة].
ثالثاً:تنوع الخطاب الدعوي:
1- تنوع القوالب:
أ- الخطاب المباشر:{...يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ...[59]}[سورة الأعراف].
ب- المحاورات:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ...[258]}[سورة إبراهيم].
ج- القصص:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ[69]إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ[70]...}[سورة الشعراء].
د- الأمثلة:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ... [45]}[سورة الكهف].
هـ- المواعظ:{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ...[13]}[سورة لقمان].
2- تنوع المضامين:
أ- أساس خطاب الكافرين قائم على الحجة العقلية والأدلة المادية:(/1)
قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا...[22]}[سورة الأنبياء].
قال تعالى:{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ[78]}[سورة يس].
ب-وأساس خطاب المؤمنين قائم على التأثير الغيبي والشعور الإيماني:
قال تعالى:{ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ...[22]}[سورة النور].
قال تعالى:{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[133]}[سورة آل عمران].
ج- التركيز في الفترة المكية على المسائل العقدية والحقائق الغيبية.
د- التركيز في الفترة المدنية على الأحكام التشريعية، والآداب الاجتماعية، والحاجات الحياتية.
العوامل المؤثرة في الخطاب الدعوي
1- أصناف المخاطبين:
ومن أنواع المخاطبين:
1- الكافرون الذين لا يؤمنون بالكتاب والسنة.
2- المعتدّون بعقولهم المقدمين لها على النص النقلي .
3- المخدوعون بالشبهات، أو المتعلقون بالشهوات .
4- المعاندون الذي يتبّعون الباطل تبعاً لمصالحهم ويسعون إلى إضلال غيرهم .
5- الواقعون تحت تأثير الأوضاع والأعراف الخاطئة حتى ألفوها ورأوها صواباً .
2- أفهام المخاطبين:
قال الإمام البخاري في 'صحيحه في كتاب: العلم، بَاب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا، وَقَالَ عَلِيٌّ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ'. وروى مسلم عن اِبْن مَسْعُود:' مَا أَنْتَ مُحَدِّثًا قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغهُ عُقُولهمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَة'.
قال ابن حجر:'وَمِمَّنْ كَرِهَ التَّحْدِيث بِبَعْضٍ دُون بَعْض أَحْمَد فِي الْأَحَادِيث الَّتِي ظَاهِرهَا الْخُرُوج عَلَى السُّلْطَان, وَمَالِك فِي أَحَادِيث الصِّفَات, وَأَبُو يُوسُف فِي الْغَرَائِب, وَضَابِط ذَلِكَ أَنْ يَكُون ظَاهِر الْحَدِيث يُقَوِّي الْبِدْعَة وَظَاهِره فِي الْأَصْل غَيْر مُرَاد, فَالْإِمْسَاك عَنْهُ عِنْد مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْأَخْذ بِظَاهِرِهِ مَطْلُوب، وَاَللَّه أَعْلَم'. .
قال الإمام الشاطبي:' ومن ذلك- أي الابتداع- التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه فإنه من باب وضع الحكمة في غير موضعها وسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها – وهو الغالب –وهي فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق والعمل بالباطل، وإما لا يفهم منها شيئاً وهو أسلم'.
3- بيئة المخاطبين:
إن كل بلد لها أعرافها وكل بيئة لها عوائدها، ومراعاة ذلك بالضوابط الشرعية، من ضروب الحكمة وموافقة جوهر الشريعة.
قال ابن القيم في 'إعلام الموقعين' منبهًا على هذا الموضوع:'ولا تَجْمد على المنقول في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك' إعلام الموقعين [3/78].
ثم بين أثر ذلك وضرره، فقال:'ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم ' [إعلام الموقعين [3/78]].
4- الأحوال والنيات:
أ- اختلاف الوصايا باختلاف أحوال أصحابها .
حديث: [لَا تَغْضَبْ] رواه البخاري.
حديث: [قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ] رواه مسلم وأحمد-واللفظ له-.
حديث: [لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.
ب- اختلاف الحكم والخطاب باختلاف المقاصد والنيات .
حديث: [أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ] رواه مسلم. قال ابن القيم:' إياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجني عليه وعلى الشريعة وتنسب إليها ما هي بريئة منه '[إعلام الموقعين 3/62].
5- الأولويات والمآلات:
قال تعالى:{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[19]}[سورة التوبة].
حديث:
[ أَعْلَاهَا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَأَدْنَاهَا إِمَاطَة الْأَذَى عَنْ الطَّرِيق] رواه مسلم .
قال ابن تيمية:' العمل الواحد يكون فعله مستحب تارة، وتركه تارة باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه حسب الأدلة الشرعية، والمسلم يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته'[الفتاوى: 247/195].
6- المناسبات والأوقات:(/2)
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:'كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا'.
حديث: [ يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ...]رواه البخاري ومسلم.
أسس الخطاب الدعوي المعاصر :
1- الأصالة المنهجية الشرعية .
2- الشمول التكاملي المؤثر .
3- التوازن النسبي الملائم .
4- الإقناع العقلي المتمكن .
5- الحوار المبدئي الهادف .
6- التيسير الشرعي المرغب .
7- الواقعية الاستيعابية الواعية .
8- اللغة الإيجابية الراقية .
9- الخبرة التجريبية المتراكمة .
10- المعرفة الثقافية المتخصصة.
من دورة:'أسس الخطاب الدعوي المعاصر' د. علي بن عمر بادحدح.(/3)
أسس بناء البيت السعيد
هناك ثلاثة معالم ينبغي أن تتوفر في البيت المسلم هي:
السكينة والمودة والتراحم
وأعني بالسكينة: الاستقرار النفسي؛ فتكون الزوجة قرة عين لزوجها، لا يعدوها إلى أخرى، كما يكون الزوج قرة عين لامرأته لا تفكر في غيره.
أما المودة: فهي شعور متبادل بالحب يجعل العلاقة قائمة على الرضاء والسعادة ..
ويجيء دور الرحمة: لنعلم أن هذه الصفة أساس الأخلاق العظيمة في الرجال والنساء على حد سواء، فالله سبحانه يقول لنبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
وليست الرحمة لونًا من الشفقة العارضة، وإنما هي نبع للرقة الدائمة ودماثة الخلق وشرف السيرة.
وعندما تقوم البيوت على السكن المستقر، والود المتصل، والتراحم الحاني فإن الزواج يكون أشرف النعم، وأبركها أثرًا.
إذًا فمعادلة استقرار البيوت واستمرارها راسخة لا تتأثر بريح عاتية ولا تتزعزع لظروف مفاجئة تهز البنيان وتعود الأركان مبناها على أمرين اثنين هما: التفاهم والحب؛ والحب هو سبيل التفاهم.
إذًا: تفاهم + حب = بيت سعيد مستقر
والتفاهم ينشأ من حسن الاختيار والتجاوب النفسي والتوافق بين الرجل والمرأة في الطباع والاتفاق بشأن الأولاد والإنفاق والتجاوب في العلاقة الجنسية.
أما الحب فهو ذلك الميل القلبي نحو الزوج أو الزوجة، حيث إن الله فطر الرجل والمرأة على ميل كل منهما إلى الآخر وعلى الأنس به والاطمئنان إليه, ولذا منّ الله على عباده بذلك فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
وهذا الميل الفطري والأنس الطبعي مجراه الطبيعي هو الزواج، وهذه هي العلاقة الصحيحة التي شرعها الله بين الرجل والمرأة؛ فمن أحب زوجته وعاشرها بالمعروف سيرجى أن تكون لها ذرية صالحة تنشأ في دفء العلاقة الحميمة بين أبوين متحابين متراحمين, وهكذا يفرز لنا الحب أسرًا قوية البنيان لتفرزها لنا هي الأخرى مجتمعًا متين الأركان.
وهذا هو الحب في الإسلام بين الرجل والمرأة إنه حب عفيف لا ريبة فيه ولا دغل، حب يخدم الأسرة والمجتمع والأمة.
وإذا كانت البيوت تبنى على الحب فإن دمارها يبدأ من جفاف المشاعر، ومع أن الأسرة في عصرنا الحاضر قد تعيش في بحبوحة من العيش، تملك الكثير من متاع الدنيا، لكنها تبحث عن السعادة فلا تجدها، والسبب في ذلك أن المشاعر قد جف وانحصرت، وأصبحت هشيمًا، وهذه العلاقة أصبحت كجسد لا روح فيه توشك أن تنقضي وتقع وتنهار، والجميع يعرف حقوقه ولكنه دائمًا ما ينسى تمامًا واجباته.
ومع زحمة الحياة وتصارع وتيرة الهموم والأهداف والطموح قد ينسى الزوج أو تنسى الزوجة أهمية رعاية شجرة الحب بينهما وقد يظنا أن العلاقة بينهما قوية ومتينة وأن الحب راسخ، ومع مرور الأيام تضعف الشجرة وتصبح عرضة لأي ريح عاصفة تسقطها، وتدمرها وينهار البيت والسبب هو جفاف المشاعر.
والحفاظ على المشاعر والعلاقة العاطفية غضة طرية ندية، ليس معناه أن لا يختلف الرجل مع زوجه أبدًا، ومن هو الذي خلا من الأخطاء والعيوب، ولكن هناك فرقًا بين العتاب وتصحيح الخطأ، وبين القسوة وجفاف المشاعر، وكلنا ذوو خطأ ولكن يبقى الحب وتبقى المشاعر.
ويجب أن نفرق بين الخطأ وبين الشخص الذي أخطأ 'وهناك قاعدة تقول: 'فرق بين الفعل والفاعل' فالفاعل زوجي وحبيبي، والفعل تصرف خاطئ، وهذه القاعدة الجليلة هي إحدى طرق السعادة والتغيير الفعال وحسن الاتصال.
ويجب على كل من الزوجين التغاضي عن بعض ما لا يحب أن يراه في الآخر، ويضع كلاهما في حسبانه أنه إذا كره في الآخر صفة فلا بد أن تكون فيه صفة أخرى تشفع له. وهذا هو بعينه ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: 'لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقًا رضي منها آخر' [أخرجه مسلم وغيره].(/1)
أسس بناء المجتمع الإسلامي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [آل عمران : 102 .] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [ النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم إلى الأخذ بالقواعد والأسس التي أرسى دعائمها محمد رسول الله r في بناء وإقامة المجتمع والأمة والدولة. فما أن استقر رسول الله r في المدينة بعد الهجرة حتى أخذ في بناء المجتمع الجديد الذي تعلو فيه كلمة الله تعالى، ويسري فيه الهدي النبوي تربية وسلوكاً وطاعة وحباً.
فكان أول شيء بدأ فيه هو بناء المسجد الذي كانت تؤدى فيه الصلاة ويدرس فيه العلم، وتعقد فيه الرايات وتناقش في حرمه الأزمات، ويأوي إليه المسلمون إذا حز بهم أمر. إن النهوض برسالة المسجد مقياس لحرارة الإيمان لدى الفرد وتعبير عن الارتباط العضوي بجماعة المسلمين.
وكانت الخطوة الثانية بعد بناء المسجد هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.. كان المهاجرون قد تركوا بلدهم تاركين الأهل والولد والدور والقصور والمال مجردين من كل شيء إلا من الإيمان . ولا شك أن هذا قد ترك في أنفسهم وحشة وغربة، فلما قدم رسول الله r المدينة آخى بين أصحابه ليذهب عنهم تلك الوحشة ويؤنسهم وليشد بعضهم أزر بعض وليرسي للأمة الإسلامية قاعدة مهمة في حياتها إنها قاعدة الحب والأخوة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي السليم ، حتى شبهه الرسول r بالجسد الواحد فقال r : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"(1).
إن أي دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها وتعاونها .. ولا يتحقق ذلك إلا بالتآخي والمحبة المتبادلة. على أن التآخي لابد أن يكون مسبوقاً بعقيدة يتم اللقاء عليها والإيمان بها. ولذلك رأينا رسول الله r جعل أساس الأُخوة التي جمع عليها أصحابه هي العقيدة الإسلامية التي جاءهم بها من عند الله والتي تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله تعالى دون اعتبار لأي فارق إلا فارق التقوى والإيمان والعمل الصالح. إذ من المستحيل أن يسود الحب والإخاء والتعاون والإيثار بين أناس شتتهم العقائد والتصورات والأفكار المختلفة والمتباينة كما هو حال أمتنا اليوم في سوادها الأعظم.
إن الأخوة التي عقدها رسول الله r بين أصحابه لم تكن مجرد شعار، وإنما كانت حقيقة عملية تتصل بواقع الحياة في كافة جوانبها. لقد جعل r تلك الأخوة مسؤولية حقيقية تترجم في الواقع أقوالاً وأعمالاً وسلوكاً، ولقد ضرب الأنصار رضي الله عنهم أروع الأمثلة في ميدان النصرة والكرم والمواساة والإيثار. وإليكم نماذج من ذلك الذي وقع في عالم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
إننا حينما نتأمل فيما قام به الأنصار رضي الله عنهم تجاه النبي r والمهاجرين لنتعجب مما فعله هؤلاء القوم، ولو ذهبنا نلتمس الأسباب، فلن نجد إلا مسبب الأسباب وهو أن ذلك كان بفضل الله ورحمته لا بصنع بشر وحكمته وسياسته وصدق الله حيث قال: ?وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(63) ? [الأنفال:63].
فلم يلتق النبي r بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالاً. لم يكن بين دخول الأنصار الإسلام وقيامهم بهذه المآثر إلا أقل من عام. إنهم قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، لقد فتحوا للمهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم وضربوا في باب الإيثار ، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلاً عليا لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، بالإكبار والإعظام .(/1)
روى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله r آخى بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري –وكان كثير المال- فقال سعد قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين ، ولي امرأتان انظر أعجبها إليك، فأطلقها حتى إذا ما انتهت عدتها تزوجتها. فقال عبد الرحمن بن عوف بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق، فدله على السوق ، فباع وابتاع حتى صار له مال.(2)
وهكذا ضرب سعد بن الربيع مثلاً فريداً في الكرم والإيثار وضرب عبد الرحمن بن عوف مثلاً عالياًُ في عزة النفس والرغبة في العمل والاكتساب، وقد فتحت له الدنيا بعد، حتى كان من أثرى الأثرياء . وما سعد بن الربيع إلا صورة مشرقة ومثالاً من أمثلة الأنصار الكرام. فقد ضربوا جميعهم أروع الأمثلة في ميدان الكرم والمواساة، حتى جاء المهاجرون إلى رسول الله r خائفين أن يكون ذلك مُذهباً لأجرهم، فقالوا: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: "لا، ما أثنيتم عليهم، ودعوتم الله لهم"(3).
ومن صور إيثارهم رضوان الله عليهم ما رواه ابن عباس t قال: قال رسول الله r يوم النضير للأنصار : "إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم أموالكم ودياركم ولم نقسم لكم شيئاً من الغنيمة"، فقال الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها!!(4)".
يا لها من نفوس أبية، ويا له من كرم وإيثار ، ويا له من سخاء ، لقد كان جزاؤهم من الله أن أنزل فيهم قرآناً يتلى إلى يوم الدين ، ثناءً عليهم وبياناً لمنزلتهم ومكانتهم، قال سبحانه فيهم: ?وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(9) ? [الحشر:9].
إن البشرية في تاريخها الطويل لم تشهد حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين، بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وذاك الإيثار العجيب مع طيب نفس وسماحة. لقد قام الأنصار الكرام رضوان الله عليهم بواجبات تلك الأخوة من التزامات واستمر أداؤهم كذلك. وظلت حقوق هذا الإخاء مقدمة على حقوق القرابة حيث كانوا يتوارثون فيما بينهم حتى وسع الله على المسلمين ونزلت الآية الكريمة: ?...وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(75) ? [الأنفال:75]، فنسخ التوارث، وأقر المودة والحب بينهم.
أرسل عمر بن الخطاب t إلى بلال t وقد خرج إلى الشام فأقام بها مجاهداً، يسأله إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال مع أبي رويحة ، لا أفارقه أبداً، للأخوة التي كان رسول الله r عقد بيني وبينه.
لقد أثنى رسول الله r على موقف الأنصار من إخوانهم المهاجرين وبين مناقبهم وفضلهم فقال رسول الله r: "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار"(5)، وجعل حبهم علامة الإيمان، وبغضهم علامة النفاق، فقال: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار"(6) وقال: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"(7).
وما أجمل قول الله عز وجل في وصفهم: ?وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(9)وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(10) ? [الحشر:9-10].
هذا حال القوم وهذه أخوتهم وأوصافهم فأين نحن منهم. فاعرفوا لهم قدرهم واسلكوا سبيلهم فإنهم كانوا على الحق المبين.(/2)
الأمة الإسلامية اليوم في حاجة إلى بناء جديد، إنها بحاجة إلى أن تعود إلى كتاب الله وسنة رسوله r لتتعرف على أسس البناء وطريق النجاة للخروج من مآزقها وغثائيتها التي تعيشها.. إنه لا سبيل لنا إلا بالإيمان العميق الصادق والرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد r رسولاً ونبيا والانقياد التام لله ورسوله ظاهراً وباطناً، هذا الإيمان هو الزاد والطاقة، التي تدفعنا إلى كل خير، وهو النور الذي يبدد عنا ظلمات الحياة وهو الدواء الناجح والبلسم النافع لآلامنا وجراحاتنا ، إن الناس إذا لم يجتمعوا على الحق والإيمان فرقهم الباطل وإن البشر يظلون محكومين بطباعهم مهما بلغوا من الكمال ، إن النزاع والاختلاف وإن الشقاق والخصام سيظل في الطبيعة البشرية ولن يكبح جماحه ويحد من شروره إلا عقيدة ربانية راسخة ثابتة كتلك التي ربى عليها رسول الله r أصحابه الكرام.
الصحابة الكرام كان يقع بينهم ما يقع بين البشر ولكن الرسول r سرعان ما يعالج ما يقع بينهم، ويذكرهم برصيد الإيمان فيرعوون وينزجرون ويتعانقون ويتصافحون ويبكون.
يصدق فيهم قول القائل:
إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها تذكرت القربى فسالت دموعها
ولنذكر مثالين على ذلك ودور اليهود في واحد منهما!! حتى ندرك مدى خطرهم ، فقد مر شاس بن قيس اليهودي وكان شيخاً قد أسن عظيم الكفر شديد الحقد على المسلمين على نفر من أصحاب النبي r من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من الحرب والعداء في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملوكهم بها من قرار. فأمر فتى شاباً من يهود كان معهم فقال: إعمد إليهم فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه ففعل اليهودي، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين فقال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة. فغضب الفريقان وقالوا قد فعلنا. موعدكم الظاهرة –الحرة- السلاح السلاح، فخرجوا إليها.
فبلغ ذلك رسول الله r فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال، يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم من الكفر وألف بين قلوبكم.(8) فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم وعانق الرجال الأوس والخزرج بعضهم بعضاً. ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله كيد عدوهم. ونزل في هذه الحادثة آيات تتلى إلى يوم القيامة : ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ(100)وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(101) ? [آل عمرآن:100-101].
المثال الآخر حين قسم رسول الله r الغنائم على الناس في غزوة حنين وأجزل العطاء لبعض المؤلفة قلوبهم ليسلموا ويصدقوا في إسلامهم، وإذا كان لرسول الله r ما يبرر فعله، فقد خفيت الحكمة من ذلك على الناس وانطلقت الكلمات تعبر عن العتب فقد أعطى r قريشاً والمؤلفة قلوبهم وغيرهم من سائر العرب ولم يعط للأنصار، وجد بعض الأحداث منهم في نفسهم وقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟! وما أن سمع r بمقالتهم حتى أمر بجمعهم وحدهم ليتحدث إليهم شارحاً لهم الأسباب والحكمة، ويوضح ما خفي عليهم أنه الحديث الخاص، ولذا قال قبل بدء حديثه: فيكم أحد من غيركم؟ قالوا لا إلا ابن اختنا. قال ابن أخت القوم منهم. ثم قال: ما حديث بلغني عنكم؟ فقال فقهاء الأنصار وكبارهم: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله ...
ثم قال: يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، ثم قال : ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيب؟ المن لله ورسوله، فقال النبي r: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم جئتنا طريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمناك ومخذولاً فنصرناك، فقالوا: المن لله ولرسوله.(/3)
ثم قال r : أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار... في شيء يسير من الدنيا تألفت بها قلوب قوم أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعباً ، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، ثم دعا لهم قائلاً اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ، فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا بالله رباً وبرسوله قسماً ، ثم انصرفوا"(9).
فهل سمعت في باب الاسترضاء أروع وأبلغ من هذه الكلمات الجامعة بين الحق والصراحة والرقة والاستعطاف؟ وهل سمعت في تهدئة النفوس الثائرة مثل هذا الكلام الرقيق الذي يضرب على أوتار القلوب ، ويهز المشاعر ويستولي على الوجدان؟ ومن أعجب العجب أنك لا تجد فيها كلمة مداهنة أو مخادعة، أو كلمة مزوقة دعت إليها المجاملة ، أو عدة بالوعود الكاذبة والأماني البراقة كما يفعل زعماء السياسة وقواد الحروب وزعماء الأحزاب ولا سيما في العصر الحديث الذي يخادع الحكام فيها شعوبهم ويعدونهم ويمنونهم وما يعدونهم إلا السراب الخادع ، إنها الرسالة والنبوة التي تسمو عن كل ذلك، إنه منطق الإيمان.
(1) صححه الألباني في مشكلة الفقر ص 69 رقم الحديث: 105 قال وهو في مختصر مسلم 1773 وسلسلة الصحيحة 1083
(2) أنظر صحيح البخاري . ج3 باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه رقم الحديث: 3722
(3) أنظر السنن الكبرى للبيهقي. ج6 باب شكر المعروف. ص183 رقم الحديث: 11814
(4) تخريج آحاديث وآثار كتاب "في ظلال القرآن" سورة الحشر، تأليف علوي بن عبد القادر السقاف، دار الهجرة للنشر والتوزيع.
يقول المؤلف: لم أجد له إسناداً صحيحاً. وقد رواه الواقدي بإسناده إلى أم العلاء رضي الله عنها. وقال ابن سيد الناس في ((عيون الأثر)): ((وذكر أبو عبد الله الحاكم في ((الإكليل)) له بإسناده إلى الواقدي.. (وذكره))). كما نسبه للحاكم الحافظ في ((الفتح)). والواقدي متهم بالكذب. ونسبه القرطبي لابن عباس ولم يسنده، وهو موجود في ((تنوير المقباس)). انظر: ((تفسير القرطبي))(18/25)، ((مجمع التفاسير))(6/223)، ((عيون الأثر))(2/70)، ((الفتح))(7/333)،((مغازي الواقدي))(1/379).
(5) أنظر صحيح البخاري ج3 .باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار رقم الحديث: 3568
(6) متفق عليه : أنظر صحيح البخاري ج1 باب علامة الإيمان حب الأنصار ص14 رقم الحديث : 17 وصحيح مسلم ج1 باب الدليل على أن حب الأنصار وعلياً من الإيمان ص 85 رقم الحديث: 74.
(7) متفق عليه : أنظر صحيح البخاري ج3 باب حب الأنصار من الإيمان: رقم الحديث 3572 وصحيح مسلم: ج1 باب الدليل على أن حب الأنصار وعلياً من الإيمان ص 85 رقم الحديث: 85.
(8) لم أجده بهذا اللفظ ولكن وجدته بلفظ : " ما بال دعوى الجاهلية" أخرجه البخاري . أنظر صحيح البخاري ج3 ، ص1563. رقم الحديث :4905
(9) متفق عليه : أنظر صحيح البخاري ج4 باب غزوة الطائف رقم الحديث: 4075وصحيح مسلم ج 2 باب إعطاء المؤلفة قلوبهم وتصبر من قوى إيمانه رقم الحديث: 1061.(/4)
...
أسطورة خولة بنت الأزور
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد ..عندما كنا في المرحلة الابتدائية كان يدرس لنا في منهج التربية الدينية موضوعاً هو الأفضل والأشوق عندنا وهو موضوع 'بطولة بنت الأزور' حيث رسم لنا واضع المنهج صورة تلك المرأة ي بطولة وشجاعة وتضحية وبذل وفروسية تفوق فروسية خالد ودهاء يفوق دهاء عمرو وإقدام يقوف إقدام البراء وشجاعة تفوق شجاعة علي فكنا نقرأ هذا الموضوع وخيالنا يجمع معها ويتقلب في بطولاتها فنحفظ كل أقوالها ومواقفها ثم يرتبط ذلك كله برابط من العقيدة ذلك لأنهم قالوا لنا أنها من الصحابة وهي أخت الصحابي الجليل ضرار بن الأزور وأنها اشتركت في فتح دمشق وقامت بعملية فروسية جريئة لإنقاذ أخيها ضرار من أسر الرومان .ولكن المفاجأة العجيبة والتي ربما يفاجئ بها من هم مثلي أن شخصية خولة بن الأزور شخصية وهمية لا وجود لها إلا في مخيلة واضع كتاب 'فتوح الشام' المنسوب زوراً للإمام محمد بن عمر الواقدي , ولقد أثبت بعض المؤرخين أن هذا الكتاب الذي يعتبر المصدر الأول والأوحد في استلهام بطولات خولة بن الأزور قد ألف في سنة 907هـ على يد مؤلف مجهول نسبه زوراً للواقدي الذي لا يحتاج إلى مزيد طعن منا بسبب هذا الكتاب حيث أجمع العلماء على ضعفه ورماه الكثير بالكذب والوضع .وبين أيدينا المصادر والمراجع التي تتحدث عن الصحابة مثل الإصابة لابن حجر وأسد الغابة لابن الأثير والاستيعاب لابن عبد البر وغير ذلك من التراجم والسير وحتى التواريخ الشهيرة مثل تاريخ ابن عساكر عن دمشق لم يرد فيها ذكر صحابية باسم خولة بن الأزور نهائياً ولقد ذكر ابن حجر 28 صحابية باسم خولة في اختلاف في بعضهن ولكنه لم يذكر مطلقاً اسم بنت الأزور .ثم إن الصحابي الجليل ضرار بن الأزور قد ذكر ابن حجر ترجمته وذكر ثلاثة من إخوته الذكور من المسلمين ولم يكن بينهم أي امرأة , ثم إن هذا الصحابي الراجح أنه قد قتل شهيداً في معركة اليمامة مع المرتدين أتباع مسيلمة الكذاب .والعجيب أننا نرى ممن ينسبون للعلم والفضل والدين يستشهدون ببطولات تلك الشخصية الأسطورية كأنها حقيقة لا مراء فيها ويطلق اسمها على الميادين والشوارع في بعض العواصم العربية وتصير مصدر إلهام عند نساء هذا الزمان من المتهتكات والسافرات والمقتحمات لكل الميادين ثم يقلن إن لنا أسوة في خولة بن الأزور التي شاركت الرجال في كل شئ وتفوقت عليهم وهذا يذكرنا بما فعله الشيوعيون والاشتراكيون في وقت سابق عندما اتخذوا أبا ذر الغفاري إماماً لهم وأطلقوا عليه اسم رائد الاشتراكية ونصير الفقراء وهكذا من هذا البهتان والزور والضحية في النهاية هم أشرف جيل جيل الصحابة رضوان الله عليهم .(/1)
أسطورة غاندي
د. خالد بن محمد الغيث
</TD
لقد كان الزعيم الهندي غاندي من الزعماء القلائل الذين نالوا شهرة واسعة في هذا العصر ، وحيثما ذكر نجد الثناء العطر يرافق سيرته ، وأنه بطل المقاومة السلمية التي يحرص الغرب على تصديرها إلى العالم الإسلامي ، وتذكيرهم بها في كل مناسبة.. فيا ترى ما سر هذا الرجل الذي ظهر فجأة على المسرح السياسي في الديار الهندية ؟
إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب منا العودة إلى القرن 16م ، الذي شهد الانطلاقة الحديثة للحروب الصليبية.
لقد كان هدف الموجة الجديدة من الحروب الصليبية الأوربية في القرن 16م هو الالتفاف حول العالم الإسلامي من الخلف لخنقه اقتصادياً ، من أجل إضعاف الدولتين المملوكية والعثمانية ، لكن أوربا فوجئت بأن العمق الإسلامي يمتد في وحدة دينية فريدة وخطيرة حتى يصل إلى جزر الفلبين ، ماراً بالهند ، التي أثارت لوحدها شهية الأوربيين بشكل عجيب ، لكونها من أعظم المراكز الاقتصادية الإسلامية في ذلك الوقت ، هذا وقد استغل الأوربيون سماحة السلطان المغولي المسلم (جها نكير) فبدأوا بالتسلل إلى الهند كتجار ، حتى تمكن الإنجليزي (وليم هوكنز) من مقابلة السلطان (جها نكير) في عام (1017هـ / 1608م) بصفته مبعوثاً من الملك الانجليزي (جيمس الأول) ، وقد حاول (وليم هوكنز) استثمار مقابلته للسلطان (جها نكير) بأن يأخذ منه خطاب مجاملة إلى الملك (جيمس الأول) لكن الوزير الأول في بلاط السلطان رد عليه قائلاً : (إنه مما لا يناسب قدر ملك مغولي مسلم أن يكتب كتاباً إلى سيد جزيرة صغيرة يسكنها صيادون !).
لقد عرف الإنجليز أن وجود الحكم الإسلامي في الهند كفيل بتعطيل أحلامهم الصليبية لذا فقد اكتفوا بما كان من تأسيسهم لشركة الهند الشرقية للتجارة الإنجليزية في الهند والأقطار المجاورة في عام (1009هـ /1600م). ومع الوقت كانت شركة الهند الشرقية تتوسع وتزداد فروعها في أرجاء الهند ، ومع الوقت بدأت حقيقة هذه الشركة وفروعها تتكشف فلم تكن إلا قواعد عسكرية إنجليزية ، وبؤر تجسسية كان هدفها تجنيد المنافقين من أبناء المسلمين ، والعملاء من أبناء الهندوس ، والسيخ.
وفي عام (1170هـ / 1757م) وفي إبان الغزو الشيعي الصفوي الإيراني للهند قام الجيش البريطاني التابع لشركة الهند الشرقية باستغلال هذا الظرف الحرج فتمكن من هزيمة المسلمين في منطقة البنغال في معركة (بلاسي) التي تعد أول المعارك الحاسمة بين الطرفين ، وقد تم لهم ذلك بمساعدة المنافقين والعملاء الذين تم تجنيدهم عبر عشرات السنين ، إلا أن احتلال الإنجليز للهند لم يتم إلا بعد قرن من الزمان وبعد معارك طاحنة بين الطرفين ، انتهت بعزل (بهادر شاه) آخر السلاطين المسلمين ونفيه إلى بورما حيث توفي عام (1279هـ / 1862م) لذلك فقد قامت بريطانيا في عام (1275هـ /1858م) بضم الهند إلى التاج البريطاني رسمياً ، لتصبح درة التاج البريطاني منذ ذلك التاريخ.
تقريب الهنادكة :
لقد عرف الاحتلال البريطاني أنه من المستحيل أن يقبل المسلمون في الهند الرضوخ لسياسة الأمر الواقع وفي ذلك يقول (النبرو) الحاكم البريطاني في الهند : (إن العنصر الإسلامي في الهند عدو بريطانيا اللدود ، وإن السياسة البريطانية يجب أن تهدف إلى تقريب العناصر الهندوكية إليها ، لتساعدهم في القضاء على الخطر الذي يتهدد بريطانيا في هذه البلاد).
وفي عام (1303هـ / 1885م) قامت بريطانيا بتأسيس حزب المؤتمر الوطني الهندي ، ومن خلال هذا الحزب تم إحياء القومية الهندوسية الوثنية القديمة ، لتكون عوناً لبريطانيا في محاربتها للإسلام والمسلمين في شبه القارة الهندية.
سياسة بريطانيا تجاه المسلمين :
لقد كانت بريطانيا تعلم أن بقاءها في الهند لن يكتب له الاستمرار في ظل مقاومة إسلامية صلبة ترفض الذوبان والانبطاح والتوسل للمحتل ، لذا فقد لجأت إلى تنفيذ سلسلة من الخطوات الرامية إلى خلخلة هذه المقاومة وكسرها ، ومن ذلك :
1- إقامة المذابح للمسلمين في كل مكان ، وفي ذلك يقول أحد الكتاب الإنجليز : (إن ما ارتكبه جنودنا من ظلم ووحشية ، ومن حرق وتقتيل ، لا نجد له مثيلاً في أي عصر).
2- زرع العصبية الجاهلية داخل المجتمع المسلم ، حيث قسموا المسلمين إلى طوائف اجتماعية ، وأجبروهم على تسجيل أنفسهم رسمياً حسب هذا التقسيم الطائفي.
3- العبث بمناهج التعليم لتخدم سياسة الاحتلال البريطاني ، مما جعل المسلمين ينفرون من المدارس العلمانية خوفاً على عقيدة أبنائهم.
4- نشر الانحلال والمجون والإباحية والفساد.
5- تأسيس الحركات الهدامة التي تتسمى باسم الإسلام مثل القاديانية ، التي نفت مبدأ ختم النبوة ، ونبذت الجهاد ومقاومة المحتل ، ودعت إلى طاعة الإنجليز والقبول بسياسة الأمر الواقع.
6- تزوير التاريخ الجهادي للأمة المسلمة عن طريق نشر الكتب والمؤلفات التي تنبذ الجهاد والمقاومة ، ومن ذلك كتاب المستشرق ، تومس آرنولد : الدعوة إلى الإسلام.(/1)
7- إبعاد العلماء وعزلهم عن قيادة وتوجيه الجماهير المسلمة.
8- إيجاد زعامات قومية إسلامية ، تفتخر بقوميتها على حساب انتمائها إلى دينها وإسلامها ، وقد كان هؤلاء ممن تخرجوا من المدارس والكليات العلمانية.
صناعة غاندي :
عندما توفي السلطان العثماني محمد الفاتح رحمه الله (886هـ) وهو يحاصر روما دعا بابا الفاتيكان في روما النصارى في أوروبا إلى الصلاة شكراً لله ابتهاجاً بوفاة محمد الفاتح.
هذه الحالة من الرعب والفزع لم تكن لتغيب عن أوروبا الصليبية في نظرتها إلى العالم الإسلامي ، لذا فقد كان أخطر عمل قامت به بريطانيا هو إلغاء الخلافة الإسلامية وإسقاط الدولة العثمانية وتفتيت العالمين العربي والإسلامي ، حتى لا تضطر أوربا لإقامة صلاة الشكر مرة أخرى.
لقد أدى قيام بريطانيا الصليبية بإلغاء الخلافة الإسلامية إلى إذكاء روح المقاومة الإسلامية في الهند ، ومن ذلك تأسيس المسلمين جمعية إنقاذ الخلافة في عام (1920م) ، وقاموا بجمع (سبعة عشر مليون روبية) لأجل هذا الغرض.
وهنا طفا على السطح فجأة شخص هندوسي اسمه (غاندي) وقام بالتقرب إلى جمعية إنقاذ الخلافة وطرح عليهم فكرة التعاون مع حزب المؤتمر الوطني الهندي ، فرحب المسلمون بذلك ، ولما عقد أول اجتماع بين الطرفين ، طرح المسلمون شعار استقلال الهند عن بريطانيا ، بدلاً عن فكرة إصلاح حالة الهند التي كانت شعار المؤتمر الوطني ، لكن (غاندي) عارض هذا المقترح وثبط الهمم ، وفي عام (1921م) عقد الطرفان اجتماعاً مهما تمكن فيه المسلمون من فرض شعار الاستقلال عن بريطانيا وقاموا بتشكيل حكومة وطنية لإدارة البلاد.
هذا التطور الخطير لم تكن بريطانيا لتسمح له بإفساد فرحتها بإسقاط الدولة العثمانية وتقسيم العالم الإسلامي ، لذا فقد قام (ريدينج) الحاكم البريطاني للهند بالاجتماع (بغاندي) وقال له : (إن مصدر الحركة الاستقلالية في الهند هم المسلمون ، وأهدافها بأيدي زعمائهم ، ولو أجبنا مطالبكم ، وسلمنا لكم مقاليد الحكم ، صارت البلاد للمسلمين ، وإن الطريق الصحيح هو أن تسعوا أولاً لكسر شوكة المسلمين ، بالتعاون مع بريطانيا ، وحينئذ لن تتمهل بريطانيا في الاعتراف لكم بالاستقلال ، وتسليم مقاليد الحكم في البلاد إليكم).
وبناء على التنسيق والتفاهم الذي تم بين (ريدينج) و (غاندي) قامت بريطانيا بالقبض على الزعماء المسلمين المنادين بالاستقلال ، فأصبح الطريق ممهداً أمام (غاندي) الذي طلب من هيئة المؤتمر الإسلامي الهندوسي ، بأن تسلم له مقاليد الأمور بصفة مؤقتة نظراً لقبض بريطانيا على الزعماء المسلمين ، وعندما عقد أول اجتماع برئاسة (غاندي) نفذ ما تم الاتفاق عليه مع الحاكم البريطاني (ريدينج) وأعلن أن الوقت لم يحن بعد لاستقلال الهند.
وفي الفترة من (1921- 1948م) نجد أن بريطانيا قد طبقت في الهند ما طبقته في فلسطين مع الصهاينة [ انظر الجذور التوراتية للسياسة البريطانية – مقال بصفحة الكاتب في الموقع ]، حيث قامت بتسليح الهندوس وتدريبهم ، والتنسيق معهم لإقامة المذابح للمسلمين ، أما غاندي الذي أصبح كل شيء بعد تلميعه في مسرحية نفيه المؤقت إلى جنوب أفريقيا فقد قام بمذبحة ثقافية بشعة للحضارة الإسلامية في الهند ، وفي ذلك يقول الأستاذ أنور الجندي رحمه الله : (لقد كانت دعوة غاندي إلى ما سماه اكتشاف الروح الهندي الصميم ، والرجوع إلى الحضارة الهندية ، هو بمثابة إعلان حرب على الحضارة الإسلامية التي عاشت على أرض الهند أربعة عشر قرناً ، وغيرت كل مفاهيم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، بل إنها قد غيرت مفاهيم الهندوكية نفسها).
وعندما اطمأنت بريطانيا على مقدرة الهندوس على حكم الهند قامت بترتيب الأمور لاستقلال الهند.
لقد كان عام (1948م) الفصل الأخير من مسرحية غاندي وبريطانيا حيث سلب الحق من أهله بإعلان استقلال الهند عن بريطانيا في تلك السنة ، لكن مسرحية المقاومة السلمية التي قام غاندي فيها بدور البطل لا تزال تعرض إلى يومنا هذا.
بقي أن نشير إلى أن من يطلق شرارة الحقد والكراهية لا بد أن يكتوي بنارها ، فقد مات غاندي مقتولاً عند استقلال الهند ، ثم تبعه في عام 1978م آخر حاكم بريطاني للهند حيث قتل على أيدي الثوار الإيرلنديين ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كتبه
د. خالد بن محمد الغيث
جامعة أم القرى - كلية الشريعة
قسم التاريخ والحضارة الإسلامية
Km750@altareekh.com(/2)
أسعد إمراة في العالم
... المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى وصحبه ومن والاه ، بعد:
فهذا كتاب يناشد المرأة أن تسعد بدينها ، وتفح بفضل الله عليها ، وتستبشر بما عندها من نعم ، انه بسمة أمل ، نسيم رجاء ، وإشراقة بشرى ، لكل من ضاق صدرها ، كثر همها ، زاد غمها ، يناديها بانتظار الفرج ، وترقب اليسر بعد العسر ، ويخاطب عقلها الذكي ، وقلبها الطاهر ، وروحها الصافية ، ليقول لها : اصبري واحتسبي ، لا تيأسي ، لا تقنطي ، تفاءلي ، فإن الله معك ، والله حسبك ، الله كافيك ، والله حافظك وليك .
أختاه : أقرئي هذا الكتاب ، ففيه الآية المحكمة ، والحديث الصادق ، والقول الفصل ، والقصة الموحية ، البيت المؤثر ، والفكرة الصائبة ، التجربة الراشدة ، أقرئي هذا السجل ليطارد فيك فلول الأحزان ، وأشباح الهمم، وكابوس الخوف والقلق ، طالعي هذا الديوان ليساعد على تنظيف الذاكرة من ركام الأوهام ، أكوام الوساوس ، ويدلك على رياض الإنس ، وبستان السعادة ، وديار الإيمان ، وحدائق الأفراح ، وجنات السرور ، عسى الله أن يسعد في الدارين بمنه وكرمه انه جواد كريم .
وقد جعلته كنزاً يحوي حليا زاهيا تتجملين به ، فيه من بريق الحسن ، ولمعان الجمال ، وسناء الحق ، ما يفوق وميض الذهب ، و إغراء الفضة ، سميت فصوله بأسماء الحلى ، من سبائك ، وعقود ، وفرائد ، ومرجان ، وجمان ، وجواهر ، وخواتم ، والماس ، وزبرجد ، وياقوت ، درر ، ولآلي ، وزمرد ، وعسجد .
فإذا كان هذا الكتاب عندك فلا عليك من كل زخرف دنيوي ، وزينة جوفاء ، ومظاهر زائفة ، وموضات تافهة ، فتحلي بهذه الحلية ، والبسيها في مهرجان الحياة ، وتزيني بها في عرس الدنيا ، وفي أعياد السرور ، ومواسم الأفراح ، وليالي البهجة ، لتكوني – إن شاء الله – ( أسعد امرأة في العالم ) :
يا اسعد الناس في دين وفي أدب
... ... بلا جمان لا عقد لا ذهب
بل بالتسابيح كالبشرى مرتلة ... ... كالغيث كالفجر كالإشراق كالسحب
في سجدة ، في دعاء ، في مراقبة ... ... في فكرة بين نور اللوح والكتب
في ومضة في سناء الغار جاد بها ... ... رسول ربك للرومان والعرب
فأنت اسعد كل العالمين بما ... ... في قلبك الطاهر المعمور بالقرب
س
إن سبيل سعادتك يكمن في صفاء معرفتك نقاء ثقافتك ،وها لا يحصل بالقصص الرومانسية الخيالية التي تجر القارئ إلى الخروج من واقعه والذهاب بعيدا عن عالمه ، وقد تجدين فيها أحلاما وردية ، وخمرة أوهام مسكرة ، ولكن ثمارها إحباط وانفصام في الشخصية ، وكآبة قاتلة ، بل ما هو اخطر من ذلك كقصص ( أجاثا كريستي ) التي تعلم الخدام والجريمة والنهب والسلب وقد طالعت سلسلة ( رائع القصص العالمي ) وهي مترجمات منتقاة من القصص الخلابة الجذابة ، الحازة على جائزة نوبل ، فألفيتها مشوبة بكثير من الأغلاط الكبرى والحماقات . ولا شك أن في بعض روائع القصص العالمي روايات جيدة ، من حيث رقي الفن القصصي والعمل الروائي .. كرواية( الشيخ والبحر ) لآرنست همنغواي ، وأشباهها من القصص التي جانبت الفحش والرذيلة ، وسلمت من غوائل الانحطاط الأخلاقي والإسفاف الأدبي.
فحق على كل راشدة أن تطالع التراث القصصي الراشد : مثل كتب الطنطاوي والكيلاني والمنفلوطي الرافعي و أمثالهم ، ممن لديه طهر ، وعنده ضمير حي ، ويحمل رسالة واعية ، وإنما ذكرت هذا : لأنني حرصت على نقاء كتابي من لوثة الأجنبي ، وسم المنحرف ، وغثاء التافهين ، فكم من ضحية لمقالة ، وكم من قتيل لرواية ، والله الحافظ .
وعلى كل حال ، فلا أجل ولا أحسن من قصص الله في كتابه ، ورسوله r في سنته ، التاريخ المجيد للأبرار من الخلفاء والعلماء والصالحين ، فسيري على بركة الله ، فأنت السعيدة بما عندك من دين وهدى ، وبما لديك من عقيدة وميراث.
أهلاً بك
أهلاً بك .. مصلية صائمة قانتة خاشعة .
أهلاً بك .. محجبة محتشمة وقورة رزية.
أهلاً بك .. متعلمة مطلعة واعية راشدة .
أهلاً بك .. وفية أمينة صادقة متصدقة.
أهلاً بك .. صابرة محتسبة تائبة منيبة .
أهلاً بك ..ذاكرة شاكرة داعية واعية .
أهلاً بك .. تابعة لآسية ورين وخديجة .
أهلاً بك .. مربية للأبطال ،ومصنعاً للرجال .
أهلاً بك .. راعية للقيم ، حافظة للمثل.
أهلاً بك ..غيورة على المحارم ، بعيدة عن المحرمات.
نعم
نعم .. لبسمتك الجميلة التي تبعث الحب وترسل المودة للآخرين .
نعم .. لكلمتك الطيبة التي تبني الصدقات الشرعية وتذهب الأحقاد.
نعم ..لصدقة متقبلة تسعد مسكينا ، وتفرح فقيرا ، وتشبع جائعاً.
نعم ..لجلسة مع القران تلاوة وتدبرا وعملا وتوبة واستغفاراً .
نعم ..لكثرة الذكر والاستغفار، وإدمان الدعاء ، وتصحيح التوبة .
لتربية أبنائك على الدين ،وتعليمهم السنة ، و إرشادهم لما ينفعهم .
نعم ..للحشمة والحجاب الذي أمر الله به ، وهو طريق الصيانة والحفظ.
نعم ..لصحبة الخيران ممن يخفن الله ، ويحببن الدين ، ويحترمن القيم.(/1)
نعم .. لبر الوالدين ، وصلة الرحم ، و إكرام الجار ، وكفالة الأيتام .
نعم .. للقراءة النافعة ، والمطالعة المفيدة ، مع الكتاب الممتع الراشد .
لا .. !
لا .. لصف عمرك في التوافه ، من حب للانتقام ومجادلة لا خير فيها .
لا .. لتقديم المال وجمعه على صحتك وسعادتك ونومك وراحتك.
لا .. لتتبع أخطاء الآخرين واغتيابهم ونسيان عيوب النفس.
لا .. للانهماك في ملاذ النفس ، و إعطائها كل ما تطلب وتشتهي.
لا .. لضياع الأوقات مع الفارغين ، و إنفاق الساعات في اللهو .
لا .. لإهمال الجسم والبيت من النظافة ، والروائح الذكية ، والنظام.
لا .. للمشروبات المحرمة ، والدخان والشيشة ، وكل خبيث.
لا .. لتذكر مصيبة مرت ، أو كارثة سبقت ، أو خطأ حصل .
لا .. لنسيان الآخرة والعمل لها ، والغفلة عن تلك المشاهد .
لا .. لإهدار المال في المحرمات ، والإسراف في المباحات ، والتقصير في الطاعات .
الورد
الوردة الأولى : تذكري أن ربك يغفر لمن يستغفر ، ويتوب على من تاب ، ويقبل من عاد.
الوردة الثانية : ارحمي الضعفاء تسعدي ، و أعطي المتحاجين تشافي ، ولا تحملي البغضاء تعافي.
الوردة الثالثة : تفاءلي ، فالله معك ، والملائكة يستغفرون لك ، والجنة تنتظرك .
الوردة الرابعة : امسحي دموعك بحسن الظن بربك ، واطردي همومك بتذكر نعم الله عليك .
الوردة الخامسة : لا تظني بأن الدنيا كملت لأحد ، فليس على ظهر الأرض من حصل له كل مطلوب ، وسلم من أي كدر .
الوردة السادسة :كوني كالنخلة عالية الهمة ، بعيدة عن الأذى ، إذا رميت بالحجارة ألقت رطبها .
الوردة السابعة :هل سمعت أن الحزن يعيد ما فات ، وان الهم يصلح الخطأ ، فلماذا الحزن والهم ؟!
الوردة الثامنة : لا تنتظري المحن والفتن ، بل انتظري الأمن والسلام والعافية إن شاء الله .
الوردة التاسعة : أطفئي نار الحقد من صدرك بعفو عام عن كل من أساء لك من الناس .
الوردة العاشرة : الغسل والوضوء والطيب والسواك والنظام أدوية ناجحة لكل كدر وضيق.
الزهر
الزهرة الأولى : كوني كالنخلة : تقع على الزهور الفواحة والأغصان الرطبة .
الزهرة الثانية : ليس عندك وقت لاكتشاف عيوب الناس ، وجمع أخطائهم .
الزهرة الثالثة : إذا كان الله معك فمن تخافين ؟ وإذا كان الله ضدك فمن ترجين ؟!
الزهرة الرابعة : نار الحسد تأكل الجسد ، وكثرة الغيرة نار مستطيرة.
الزهرة الخامسة : إذا لم تستعدي اليم ، فليس الغد ملكا لك .
الزهرة السادسة :انسحبي بسلام من مجالس اللهو والجدل.
الزهرة السابعة :كوني بأخلاقك اجمل من البستان .
الزهرة الثامنة :ابذلي المعروف فانك اسعد الناس به .
الزهرة التاسعة : دعي الخلق للخالق ، والحاسد للموت ، والعدو للنسيان .
الزهرة العاشرة : لذة الحرام بعدها ندم وحسرة وعقاب .
ومضة : لا حول ولا قوة إلا بالله
السبيكة الأولى : امرأة تحدت الجبروت
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
انظري إلى نصوص الشريعة كابا وسنة ، فإن الله U قد أثنى على المرأة الصالحة ، ومدح المرأة المؤمنة ، قال سبحانه وتعالى )وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم:11) ، فتأملي كيف جعل هذه المرأة (آسية رضي الله عنها ) مثلا حيا للمؤمنين والمؤمنات ،وكيف جعلها رمزا وعلما ظاهرا لكل من أراد أن يهتدي وان يستن بسنة الله في الحياة ، وما اعقل هذه المرأة وما أرشدها: حيث أنها طلبت جوار الرب الكريم ، فقدمت الجار قبل الدار ، وخرجت من طاعة المجرم الطاغية الكافر فرعون ،ورفضت العيش في قصره ومع خدمه وحشمه ومن زخرفه ، وطلبت دارا أبقى واحسن واجمل في جوار رب العالمين ، في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، أنها امرأة عظيمة : حيث أن همتها وصدقها أوصلاها إلى أن جاهرت زوجها الطاغية بكلمة الحق والإيمان ، فعذبت في ذات الله ، وانتهى بها المطاف إلى جوار رب العالمين ، لكن الله U جعلها قدوة وأسوة لكل مؤمن ومؤمنة إلى قيام الساعة ، وامتدحها في كتابه ، وسجل اسمها ، وأثنى على عملها ، وذم زوجها المنحرف عن منهج الله في الأرض
إشراقة : تفاءلي ولو كنت في عين العاصفة
ومضة : ‘إن مع العسر يسرا
السبيكة الثانية : عندك ثروة هائلة من النعم
لطائف الله وان طال المدى كلمحة الطرف إذا الطرف سجى(/2)
أختاه إن مع العسر يسرا ، وان بعد الدمعة بسمة ، وان بعد الليل نهارا ، سوف تنقشع سحب الهم ، وسوف ينجلي ليل الغم ، وسوف يزول الخطب ، وينتهي الكرب بإذن الله ، واعلمي انك مأجورة ، فإن كنت أما فإن أبناءك سوف يكونون مددا للإسلام ، وعونا للدين ، وأنصارا للملة ، متى قمت بتربيتهم تربية صالحة ، وسوف يدعون لك في السجود، وفي السحر ، أنها نعمة عظيمة أن تكوني أما رحيمة رؤومة ، ويكفيك شرفا وفخرا أن أم محمد r امرأة أهدت البشرية الإمام العظيم ، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :
وأهدت بنت وهب للبرايا يدا بيضا طوفت الرقابا
إن في وسعك أن تكوني داعية إلى منهج الله في بنات جنسك ، بالكلمة الطيبة ، بالموعظة الحسنة ، بالحكمة ، والمجادلة بالتي هي احسن ، بالحوار ، بالهداية ، بالسيرة العطرة ، بالمنهج الجليل النبي ، فإن المرأة تفعل بسيرتها وعملها الصالح ما لا تفعله الخطب والمحاضرات والدروس ، وكم من امرأة سكنت في حي من الإحياء ، فنقل عنها الدين والحشمة والحجاب والخلق الحسن ، والرحمة بالجيران ، والطاعة للزوج ، فصارت سيرتها العطرة محاضرة تتلى ، ووعظا ينقل في المجالس ، وصارت أسوة لبنات جنسها .
إشراقة : غدا يزهر الريحان ، وتذهب الأحزان , ويحل السلوان
ومضة : سيجعل الله بعد عسر يسرا
السبيكة الثالثة : يكفيك شرفا انك مسلمة
أتيأس أن ترى فرجا فأين الله والقدر ؟!
فكل ما أصابك في ذات الله فهو مكفر بإذن الواحد الأحد ، وابشري بما ورد في الحديث : " إذا أطاعت المرأة ربها ، وصلت خمسها ، وحفظت عرضها ، دخلت جنة ربها " ، فهي أمور ميسرة على من يسرها الله عليه ، فقومي بهذه الأعمال الجليلة ، لتلقي ربا رحيما ، يسعدك في الدنيا والآخرة ، قفي مع الشرع حيث وقف ، واستني بكتاب الله U وسنة رسوله r ، فأنت مسلمة ، وهذا شرف عظيم ، وفخر جسيم فغيرك ولدت في بلاد الكفر ، إما نصرانية ، أو يهودية ، أو شيوعية ، أو غير ذلك من الملل والنحل المخالفة لدين الإسلام، أما أنت فإن الله اختارك مسلمة ، وجعلك من اتباع محمد r ، ومن المتبعين المقتدين بعائشة وخديجة وفاطمة رضي الله عنهن جميعا ، فهنيئاً لك انك تصلين الخمس ، وتصومين الشهر ، وتحجين البيت ، وتتحجبين الحجاب الشرعي ، هنيئا لك انك رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد r رسولا .
إشراقة : ذهبك دينك ، وحليك أخلاقك ، ومالك أدبك .
ومضة : حسبنا الله ونعم الوكيل
السبيكة الرابعة : لا تستوي مؤمنة وكافرة
فما يدوم سرور ما سررت به ولا يرد عليك الغائب الحزن
أن بإمكانك أن تسعدي إذا نظرت في ظاهرة واحدة ؛ وهي واقع المرأة المسلمة في بلاد الإسلام ، وواقع المارة الكافرة في بلاد الكفر ، فالمسلمة في بلاد الإسلام ، مؤمنة ، متصدقة ، صائمة ، قائمة ،متحجبة، طائعة لزجها ، خائفة من ربها ، متفضلة على جيرانها ، رحيمة بأبنائها ، هنيئا لها الثواب العظيم ، والسكينة والرضا ، وأما المرأة في بلاد الكفر ، فهي امرأة متبرجة ، جاهلية ، سخيفة ، عارضة أزياء ، سلعة منبوذة ، بضاعة رخيصة تعرض في كل مكان، لا قيمة لها ، لا عرض ولا شرف ولا ديانة ، فقارني بين الظاهرتين والصورتين ؛ لتجدي انك الأسعد والأرفع والأعلى ، والحمد لله : )وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)
إشراقة : كل الناس سوف يعيشون ؛ صاحب القصر ، وصاحب الكوخ .. ولكن من السعيد ؟
ومضة : الله .. الله ربي لا أشرك به شيئا
السبيكة الخامسة ؛ الكسل صديق الفشل
أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
أوصيك بمزاولة العمل ، وعدم الركون للفتور والكسل والاستسلام للفراغ ، بل قومي واصلحي من بيتك أو مكتبتك ، أو أدي وظيفتك ، أو صلي ، أو أقرئي في كتاب الله ، أو في كتاب نافع ، أو استمعي إلى شريط مفيد ، أو اجلسي مع جاراتك وصديقاتك وتحدثي معهن فيما يقربكن من الله عز وجل ، حينها تجدين السعادة الانشراح الفرح – بإذن الله – وإياك .. إياك أن تستسلمي للفراغ أو الطالة ؛ فإن هذا يورثك هموما وغموما ووساوس وشكوكا وكدرا لا يزيله إلا العمل .
وعليك بالاعتناء بمظهرك ، من جمال في الهيئة ، ومن طيب داخل البيت ، ومن ترتيب في مجلسك ، ومن حسن خلق تلقين به زوجك ، وأبناءك ، وإخوانك ، وأقرباءك ، وصديقاتك ،ومن بسمة راضية ، ومن انشراح في الصدر .
وأحذرك من المعاصي فإنها سبب الحزن ، خاصة المعاصي التي تكثر عند النساء ؛ من النظر المحرم ، أو التبرج ، أو الخلوة بالأجنبي ، أو اللعن والشتم والغيبة ، أو كفران حق الزوج وعدم الاعتراف بجميله ، فإن هذه ذوب تكثر عند النساء إلا من رحم الله ، فاحذري من غضب الباري – جل في علاه ، واتقي الله U فإن تقواه كفيلة بإسعادك و إرضاء ضميرك.
إشراقة ؛ إذا أقبلت الهموم ، تكاثرت الغموم ، فقولي : " لا إله إلا الله "
ومضة:فصبر جميل
السبيكة السادسة:أنت بما عندك فوق ملايين النساء(/3)
سيكفيك – عمن اغلق الباب دونه وظن به الأقوام – خبز مقمر
تفكري في العالم بأسره ، إما يوجد في المستشفيات أسرة بيضاء يرقد عليها آلاف من البشر أصابهم المرض من سنوات ، واجتاحتهم الحوادث من أعوام ؟ . أما في السجون آلاف من الناس وراء الحديد ، كدرت عليهم حياتهم وذهبت لذتهم ؟ ، أما في دور العناية والمستشفيات أناس ذهبت عقولهم وفقدوا رشدهم فصاروا مجانين ؟، أليس هناك فقراء يسكنون في الخيام الممزقة وفي الأكواخ لا يجدون كسرة خبز ؟ ، أليس هناك نساء أصيبت الواحدة منهن فمات جميع أبنائها في حادث واحد ؟ ، أو امرأة ذهبت بصرها أو سمعها ، أو بترت يدها أو رجلها ، أو ذهب عقلها ، أو أصيبت بمرض عضال من سرطان ونحوه ، وأنت سليمة ، معافاة ، في خير ، وسكينة ، وأمن ، ورضى ؟، فاحمدي الله على نعمه ، ولا تصرفي أوقاتك فيما لا يرضي الله عز وجل من الجلوس طويلا أمام القنوات الفضائية ، وما فيها من رخص ، وزيف ، وبضاعة مزجاة ، ومادة تافهة ، تورث القلب الأسقام والأحزان ، وتعطل الجسم عن أداء وظيفته ، ولكن خذي النافع المفيد ، مثل محاضرة ، أو ندوة ، أو برنامج طبي نافع ، أو أخبار تهم المسلم والمسلمة ، أو نحو ذلك ، واجتنبي هذه التفاهات التي تعرض ، وهذا المجنون الذي يصدر ، فإنها تسقط الحياء والحشمة والدين .
إشراقة : دعي الظالم لمحكمة الآخرة حيث لا حاكم إلا الله
ومضة : من ساعة إلى ساعة الفرج
السبيكة السابعة : ابني لك قصرا في الجنة
أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو إني قنعت لكنت حرا
انظري كم مر من أجيال ؟ هل ذهبوا بأموالهم ؟ هل ذهبوا بقصورهم ؟. هل ذهبوا بمناصبهم ؟ هل دفنوا بذهبهم وفضتهم ؟ هل انتقلوا إلى الآخرة بسياراتهم وطائراتهم ؟ لا .. ! ، جردوا حتى من الثياب والأغطية ، وأدخلوا بأكفانهم في القبر ، ثم سئل الواحد منهم : من ربك ؟ من نبيك ؟ وما دينك ؟ ، فتهيئي لذلك اليوم ، ولا تحزني ولا تأسفي على شيء من متاع الدنيا ، فإنه زائل رخيص ، ولا يبقى إلا العمل الصالح ، قال سبحانه وتعالى : س)مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97)
إشراقة : المرض رسالة فيها بشرى ، والعافية حالة لها ثمن
ومضة : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
السبيكة الثامنة : لا تمزقي قلبك بيديك
إن كان عندك يا زمان بقية ما يهان به الكرام فهاتها !
اجتنبي كل ما يقتل الوقت ، من مطالعة لمجلات خليعة ، وصور عارية ، وأفكار بائسة ، أو كتب إلحادية أو روايات ساقطة في عالم الأخلاق ، ولكن عليك بالنافع المفيد ، كالمجلات الإسلامية ، والكتب النافعة ، والدوريات البناءة ، والمقالات التي تنفع العبد في الدنيا والآخرة ، فإن بعض الكتب والمقالات تورث في النفس شكا ، وفي الضمير شبهة وانحرافا ، وهذه من آثار الثقافة المنحرفة المنحلة التي وفدت علينا من العالم الكافر ، والتي اجتاحت بلاد الإسلام .
واعلمي أن الله عز وجل عنده مفاتح الغيب ، وهو الذي يفرج الهم والغم فالحي عليه بالدعاء ، وكرري هذا الدعاء دائما وأبدا : " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من البخل والجبن ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " ، فإذا كررت هذا الحديث كثيرا ، وتأملت معانيه ، فرج الله عنك كربك وهمك وغمك بإذن الله .
إشراقة : اغرسي في الثانية تسبيحة ، وفي الدقيقة فكرة ، وفي الساعة عملا .
ومضة : أمن يجيب المضطر إذا دعاه
السبيكة التاسعة : أنت تتعاملين مع رب كريم جواد
لعل الليالي بعد شحط من النوى ستجمعنا في ظل تلك المآلف
استبشري خيرا ، فاغن الله قد أعد لك ثوابا عظيما ، وهو القائل – سبحانه وتعالى - : )فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)(آل عمران: من الآية195) ، فالله – سبحانه – وعد النساء كما وعد الرجال ، واثنى على النساء كما أثنى على الرجال ؛ فقال : )إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)(الأحزاب: من الآية35) الآية ، فدل على أنك شقيقة الرجل وقرينته ، وأن أجرك محفوظ عند الله ، فلك من أف عال الخير في البيت والمجتمع ما يوصلك إلى رضوان الله عز وجل ، فاضربي أحسن الأمثلة ، وكوني نبراسا لأبناء أمتك ، ومثلا ساميا لهم .
اجعلي قدوتك في الحياة آسية امرأة فرعن رضي الله عنها ، ومريم عليها السلام ، وخديجة وعائشة وأسماء وفاطمة رضي الله عنهن جميعا ، فهؤلاء وأمثالهن مختارات طيبات ، مؤمنات قانتات ، صائمات قائمات ، رضي الله عنهن وأرضاهن ، فكوني على ذاك المنهج ، وطالعي سيرهن الرائدة تجدي الخبر والبرد والسكينة .
إشراقة : امسحي دمع اليتيم لتفوزي برضوان الرحمن وسكنى الجنان
ومضة : أليس الصبح بقريب؟
السبيكة العاشرة : أنت الرابحة على كل حال(/4)
قل للذي بصروف الدهر عيرنا هل عاند الدهر إلا من له خطر ؟!
عليك بالاحتساب ، فإن وقع عليك هم أو غم أو حزن فاعلمي انه كفارة للذنوب ، وإن فقدت أحد أبنائك فاعلمي أنه شافع عند الواحد الأحد ، وإن أصابتك عاهة أو مرض في الجسم فاعلمي أنه بأجره عند الله ، وأنه محفوظ لك عند الواحد الأحد ، الجوع بأجره ، والمرض بثوابه ، والفقر بجزائه عند الله عز وجل ، فلن يضيع عند الواحد الأحد شيء ، والله U يحفظ هذا ، كما يحفظ الوديعة لصاحبها حتى يؤديها في الآخرة .
إشراقة : الصلاة كفيلة بشرح الصدر وطرد الهم .
ومضة : فخد ما أتيتك وكن من الشاكرين
العقد الأول : عددي مواهب الله عليك
وإني لأرجو الله حتى كأنني أرى بجميل الصبر ما الله صانع
إذا أصبحت فتذكري أن الصباح قد أطل على آلاف البائسات وأنت منعمة ، وعلى آلاف الجائعات وأنت شبعانة ، وعلى آلاف المأسورات وأنت حرة طليقة ، وعلى آلاف المصابات والثكلى وأنت سعيدة سالمة ، كم من دمعة على خد امرأة ، وكم من لوعة في قلب أم ، وكم من صراخ في حنجرة طفلة ، وأنت باسمة راضية ، فاحمدي الله على لطفه وحفظه وكرمه .
اجلسي جلسة مصارحة مع نفسك ، واستخدمي الأرقام والإحصائيات : كم عندك من الأشياء والأموال والنعم والمسرات والمبهجات ؛ جمال ومال وعيال وظلال وسكن ووطن وومنن ، ضياء وهواء وماء وغذاء ودواء ، فافرحي ، واسعدي ، واستأنسي .
إشراقة : اشتري بالريال دعاء الفقراء وحب المساكين
ومضة : ارضي بما قسم الله لك تكوني أغنى الناس
العقد الثاني : قليل يسعدك ولا كثير يشقيك
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت ، أتاح لها لسان حسود
عمرك المحسوب هو عمر السرور والفرح والرضا والسكينة والقناعة ، أما الجشع والطمع والهلع فليس من عمرك أصلا ؛ فهو ضد صحتك وعافيتك وجمالك ، فحافظي على الرضى عن الله ، والقناعة بالمقسوم ، والإيمان بالقدر ، والتفاؤل بالمستقبل ، وكوني كالفراشة خفيفة الظل ، بهيجة المنظر ، قليلة التعلق بالأشياء ، تطير من زهرة إلى زهرة ، ومن تل إلى تل ، ومن روضة إلى روضة ، أو كوني كالنحلة ، تأكل طيباً وتضع طيبا ، وإذا سقطت على عود لم تكسره ، تمس الرحيق ولا تلسع ، تضع العسل ولا تلدغ ، تطير بالمحبة ، وتقع بالمودة ، لها طنين بالبشرى ، وأنين بالرضوان ، كأنها من ملكوت السماوات هبطت ، ومن عالم الخلود وقعت .
إشراقة : الله يحب التوابين ؛ لأنهم رجعا إليه وشكوا الحال عليه
ومضة : الحمد لله الذي أذهب عني الحزن
العقد الثالث : انظري إلى السحاب ولا تنظري إلى التراب
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود
كوني صاحبة همة عالية ، أرجوك في الصعود دائما ، أرجوك بالاستمرار أبدا ، احذري الهبوط والسقوط ، واعلمي أن الحياة دقائق وثواني ، وكوني كالنملة في الجد والمثابرة والصبر ، حاولي دائما ، توبي فإن عدت إلى الذنب فعودي إلى التوبة ، احفظي القرآن فإن نسيت فعودي إلى حفظه مرة ثانية وثالثة .. وعاشرة ، المهم أن لا تشعري بالفشل والإحباط ؛ لأن التاريخ لا يعرف الكلمة الأخيرة ، والعقل لا يعترف بالنهاية المرة ، بل هناك محاولة وتصحيح . إن العمر كالجسم يمكن أن تجرى له عملية جراحية تجميلية ، إن العمر كالبناء يمكن أن يرمم ، وأن يشاد من جديد ، وأن يجمل بالطلاء والدهان فإياك ومدرسة الفشل والإخفاق ، وأزيلي من ذهنك توقعات المرض ، والكوارث ، والمصائب ، والمحن ، والله يقول : ) وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(المائدة: من الآية23)
إشراقة : ترك المعصية جهاد ، والمداومة عليها عناد
ومضة : بشر الذين آمنوا
العقد الرابع : كوخ بإيمان ولا قصر مع طغيان
إني وإن لمت حاسدي فما أنكر أني عقوبة لهم
إن امرأة مسلمة تعيش في كوخ ، تعبد ربها ، وتصلي خمسها ، وتصوم شهرها ، أسعد من امرأة تعيش في قصر شاقه بين العبدان والقيان والعيدان والكيزان ، وإن مؤمنة في بي من شعر ، على خبز الشعير ، وعلى ماء الجرة ، معها مصحفها ومسبحتها ، أسعد عيشاً من امرأة تعيش في برج عاجي ، وفي غرفة مخملية ، وهي لا تعرف ربها ، ولا تذكر مولاها ، ولا تتبع رسولها . أجل افهمي معنى السعادة ؛ فليس هو المعنى الضيق المحرف الذي يتوهمه كثير من الناس ، فيظنونه في الدولار والدينار والدرهم والريال ، والمفروشات ، والملبوسات ، والمطعومات ، والمشروبات ، والمركوبات ، كلا وألف كلا ! .. السعادة رضا قلب ، راحة ضمير ، قرار نفسي ، فرحة روح ، انشراح بال ، صلاح حال ، استقامة خلق ، تهذيب سلوك ، مع قناعة وكفاف .
إشراقة : كيف يرتاح من أذى مسلما أو ظلم عبدا ؟!
ومضة: وتوكل على الحي الذي لا يموت
العقد الخامس : وزعي الأوقات على الواجبات
عسى الهم الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب(/5)
جربي حظك مع كتاب نافع ، أو شريط مفيد ، قراءة واستماعا ، أنصتي لتلاوة عطرة من كتاب الله ، عل آية واحدة تهز كيانك ، وتنفذ إلى أعماقك ، وتخاطب وجدانك ، فيكون معها الهداية والنور ، ويذهب معها اليأس ، والشك ، والشبهة ، والقنوط ، طالعي في دواوين السنة ، واقرأي كلام الحبيب في ( رياض الصالحين ) ؛ لتجدي الدواء الناجع ، والعلم النافع ، الذي يحصنك من الزلل ، ويحفظك من الخلل ، ويشافيك من العلل ؛ فدواؤك في الوحي كتابا وسنة ، وراحتك في الإيمان ، وقرة عينك في الصلاة ، وسلامة قلبك في الرضا ، وهدوء بالك في القناعة ، وجمال وجهك في البسمة ، وصيانة عرضك في الحجاب وطمأنينة خاطرك في الذكر .
إشراقة : احذري دعاء المظلوم ودموع المحروم
ومضة : لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم
العقد السادس : سعادتنا غير سعادتهم
سيعافى المريض بعد سقام ويعود الغريب بعد غياب
من قال : إن الموسيقى اللاهية ، والأغنية الهابطة ، والمسلسل الهدام ، والمسرحية العابثة والمجلة الخليعة ، والفلم المشبوه ، تورث السعادة والسرور ؟ كذب من قال ذلك !... إن هذه الوسائل مفاتيح الشقاء ، وطرق الكآبة وأبواب الهموم والغموم والأحزان ، باعترافات موثقة ممن مارسها وعرفها ثم تاب منها ، فأهربي من هذه الحياة التعيسة البئيسة ، حياة العابثين اللاغين المنحرفين عن صراط الله المستقيم ، وتعالى إلى تلاوة خاشعة ، وقراءة نافعة ، وموعظة دامعة ، وخطبة ساطعة ، وصدقة رابحة ، وتوبة صادقة ، تعالي إلى جلسات روحانية ، وأذكار ربانية ، عل الله أن يتوب عليك ، فيملأ قلبك سكينة وأمنا وطمأنينة .
إشراقة : القلب السليم لا شرك فيه ولا غش ولا حقد ولا حسد
ومضة : رب اشرح لي صدري
العقد السابع : اركبي سفينة النجاة
يا إله الكون قد أسلمت لك رب فارحم ضعفنا ما أرحمك
لقد طالعت عشرات القصص للفنانين والفنانات ، واللاهين واللاهيات ، واللاغين واللاغيات ، والعابثين والعابثات ، الأحياء منهم والأموات ، فقلت : وا أسفاه ، أين المسلمون والمسلمات ، والمؤمنون والمؤمنات ، والصادقون والصادقات ، والصائمون والصائمات ، والعابدون والعابدات ، والخاشعون والخاشعات ؟! ، هل يتسع العمر المحدود القصير كي يضيع بهذه الطريقة من العبثية والهامشية ويصرف في سوق الإهمال والمعصية ؟ ، هل لك عمر آخر غير هذا العمر ؟ هل عندك أيام غير هذه الأيام ؟ ، هل لديك العهد الوثيق من الله أنك لن تموتي ؟ .. كلا والله ، بل هي الأوهام والظنون الكاذبة ، والأماني الفاشلة ، فحاسب النفس إذن ، وجددي المسيرة ، وحثي الخطا ، والحقي بالقافلة ، واركبي سفينة النجاة
إشراقة : المرأة العقلة تحول الصحراء إلى حديقة غناء
ومضة : وإن الفرج مع الكرب
العقد الثامن ك مفتاح السعادة سجدة
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
أول صفحات السعادة في دفتر اليوم ، وأول بطاقات المعايدة في سجل النهار صلاة الفجر ، فابدئي بصلاة الفجر يومك ، وافتتحي بصلاة الفجر نهارك ، حينها تكونين في ذمة الله ، في عهد الله ، في حفظ الله ، في رعاية الله ، في أمان الله ، وسوف يحفظك من كل مركون ، ويرشدك إلى كل خير ، ويدلك على كل فضيلة ، ويمنعك من كل رذيلة ، لا بارك الله في يوم لم يبدأ بصلاة الفجر ، لا حيا الله نهارا ليس فيه صلاة فجر ، إنها أول علامات القبول ، وعنوان كتاب الله ، ولافتة النصر والعز والتمكين والنجاح . فهنيئا لكل من صلى الفجر ، طوبى لكل من صلى الفجر ، قرة عين لمن حافظ على صلاة الفجر ، وبؤسا وتعاسة وخيبة لمن أهمل صلاة الفجر
إشراقة : الجدل العقيم والنقاش التافه يذهب الصفاء والبهاء
ومضة : ألم نشرح لك صدرك
العقد التاسع : عجوز تصنع الرموز
أتاك على قنوط منك غوث بمن به اللطيف المستجيب
كوني كالعجوز عند الحجاج يوم وثقت بربها ، يوم سجن الحجاج ابنها ، وحلف بالله للعجوز أن يقتله ، فقالت في ثقة وحزم وشجاعة وإقدام : ( لو لم تقتله مات ) ! ، وكوني كالعجوز الفارسية في توكلها على الله يوم غابت عن كوخ دجاجها ونظرت إلى السماء وقالت : اللهم احفظ كوخ دجاجي فإنك خير الحافظين ! ، وكوني في صمد أسماء بنت أبي بكر وقد رأت ابنها عبد الله بن الزبير مقتولا مصلوبا فقالت كلمتها المشهورة : أما آن لهذا الفارس أن يترجل ؟ّ! .. وكوني كالخنساء قدمت أربعة في سبيل الله ، فلما قتلوا قالت : الحمد لله الذي شرفني بقتلهم شهداء في سبيله ..ز انظري لهؤلاء النسوة وتاريخهن المجيد وسيرتهن الحافلة .
إشراقة : خذي من النسيم رقته ، ومن المسك رائحته ، ومن الجبل ثباته
ومضة : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنت الاعلون
العقد العاشر : حتى تكوني أبهى إنسانة في الكون
وكل الحادثات وإن تناهت فموصول بها فرج قريب(/6)
أنت بجمالك أبهى من الشمس ، وبأخلاقك أزكى من المسك ، وبتواضعك أرفع من البدر ، وبحنانك أهنأ من الغيث ، فحافظي على الجمال بالإيمان ، وعلى الرضا بالقناعة ، وعلى العفاف بالحجاب ، واعلمي أن حليك ليس الذهب والفضة ولا الألماس ، بل ركعتان في السحر ، وظمأ الهواجر صياماً لله ، وصدقة خفية لا يدري بها إلا الله ، ودمعة حارة تغسل الخطيئة ، وسجدة طويلة على بساط العبودية ،وحياء من الله عند نوازع الشر وداعي الشيطان ، فالبسي لباس التقوى فإنك اجمل امرأة في العالم ولو كانت ثيابك ممزقة ، وارتدي عباءة الحشمة فانك أبهى إنسانة في الكون ولو كنت حافية القدمين ، وإياك وحياة الفاجرات الكافرات الساحرات العاهرات السافرات ، فإنهن وقود نار جهنم : )لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى) (الليل:15)
إشراقة : في كل مكان تجدين ظلاما في حياتك ما عليك إلا أن تنيري المصباح في نفسك
ومضة : إذا أصبحت فلا تنتظري المساء
العسجدة الأولى : يا سامية المقام
رب أمر تتقيه جر أمرا ترتجيه
أيتها المسلمة الصادقة ، أيتها المؤمنة المنيبة ، كوني كالنخلة بعيدة عن الشر ، رفيعة عن الأذى ، ترمى بالحجارة فتسقط تمرا ، دائمة الخضرة صيفا وشتاء ، كثيرة المنافع ، كوني سامية المقام عن سفاسف الأمور ، مصونة الجناب عن كل ما يخدم الحياء ، كلامك ذكر ، ونظرك عبرة ، وصمتك فكر ، حينها تجدين السعادة والراحة ، فينشر لك القبول في الأرض ، وينهمر عليك الثناء الحسن والدعاء الصادق من الخلق ، ويذهب الله عنك سحاب الضنك ، وشبح الخوف ، وأكوام الكدر ، نامي على زجل دعاء المؤمنين لك ، واستيقظي على نشيد الثناء عليك ، حينها تعلمين أن السعادة ليست في الرصيد ، وإنما في طاعة الحميد ، وليست في لبس الجديد ، ولا في خدمة العبيد ، وإنما في طاعة المجيد .
إشراقة : لا تيأسي من نفسك ، فالتحول بطيء ، وستصادفك عقبات تخمد الهمة ، فلا تدعيها تتغلب عليك
ومضة : ادعوني استجب لكم
العسجدة الثانية : اقبلي النعمة ووظفيها
كم نعمة لا يستقل بشكرها لله ، في طي المكاره كامنة
وظفي نعم الله مع شكره وطاعته ، وانعمي بالماء شربا ووضوءا وغسلا ، وتدثري بالشمس دفئا ونورا ، واغتسلي بضوء القمر حسنا ومتعة ، واقطفي من الثمار ،وعبي من الأنهار ، وانظري في البحار ، وسيرى في القفار ، واشكري العزيز الغفار ، الملك القهار ، استفيدي من هذا العطاء المبارك الذي من الله به عليك ، وإياك والتنكر لنعم الله : )يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا )(النحل: من الآية83) ، إياك والحجود ، وقبل أن تنظري في شوك الورد ، انظري في جماله ، وقبل أن تشتكي حرارة الشمس تمتعي بضيائها ، وقبل أن تتذمري من سواد الليل تذكري هدوءه وسكينته ، لماذا هذه النظرة التشاؤمية السوداوية للأشياء ؟، لماذا تغيير النعم عن مسارها ؟ : )َمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ )(ابراهيم: من الآية28) ، فخذي هذه النعم واقبليها بقبول حسن ، واحمدي الله عليها
إشراقة : إن التحول من الخطأ إلى الصواب مغامرة طويلة ولكنها جميلة
ومضة : لا تقنطوا من رحمة الله
العسجدة الثالثة : مع الاستغفار الرزق المدرار
أجارتنا إن الأماني كواذب وأكثر أسباب النجاح مع اليأس
قالت امرأة : مات زوجي وأنا في الثلاثين من عمري وعندي منه خمسة أبناء وبنات ، فأظلمت الدنيا في عيني وبكيت حتى خفت على بصري ،وندبت حظي ، ويئست ، وطوقني الهم ، وغشيني الغم ، فأبنائي صغار ، وليس لنا دخل يكفينا ، وكنت أصرف باقتصاد من بقايا مال قليل تركه لنا أبونا ، وبينما أنا في غرفتي فتحت المذياع على إذاعة القرآن الكريم وإذا بشيخ يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا )) ، فأكثرت بعدها من الاستغفار ، وأمرت أبنائي بذلك ، وما مر بنا والله ستة أشهر حتى جاء تخطيط مشروع على أملاك لنا قديمة ، فعوضت فيها بملايين ، وصار ابني الأول على طلاب منطقته ، وحفظ القران كاملاً ، وصار محل عناية الناس ورعايتهم ، وامتلأ بيتنا خيرا ، وصرنا في عيشة هنية ،وأصلح الله لي كل أبنائي وبناتي ، وذهب عني الهم والحزن والغم ، وصرت أسعد امرأة .
إشراقة : إذا استسلمت لليأس فإنك لن تتعلمي شيئا ، ولن تظفري بالسعادة
ومضة : إنه لا يياس من روح الله إلا القوم الكافرون
العسجدة الرابعة : الدعاء يرفع البلاء
قد ينعم إله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم(/7)
لي صديق عابد صالح أصيبت زوجته بمرض السرطان ولها منها ثلاثة أبناء ، فضاقت به الدنيا بما رحبت ،وأظلمت الأرض في عينيه ، فأرشده أحد العلماء إلى قيام الليل والدعاء في السحر مع الاستغفار والقراءة في ماء زمزم لزوجته ، فاستمر على هذا الحال ، وفتح الله عليه في الدعاء ، وأخذت زوجته تغسل جسمها بماء زمزم مع القراءة عليه ، وكان يجلس معها من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس ، ومن صلاة المغرب إلى صلاة العشاء ، يستغفرون الله ويدعونه ، فكشف الله ما بها وشافاها وعافاها وأبدلها جلداً حسنا وشعرا جميلا ، وقد تعلقت بالاستغفار وصلاة الليل ، فسبحان المشافي المعافي ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .
فيا أختاه إذا مرضت ففري إلى الله ، واكثري من الاستغفار والدعاء والتوبة ، وأبشري بما يسرك ، فإن الله يستجيب الدعاء ،ويكشف الكرب ، ويذهب السوء : )أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ )(النمل: من الآية62)
إشراقة : افحصي ماضيك وحاضرك ، فالحياة مكونة من تجارب متتابعة يجب أن يخرج المرء منها منتصرا
ومضة : وكان بالمؤمنين رحيما
العسجدة الخامسة : احذري اليأس والإحباط
والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي أنباك كيف نعيمها
سجن شاب ليس لوالدته إلا هو ، فذهب النوم عنها وأخذ الهم منها كل مأخذ ، وبكت حتى مل منها البكاء ، ثم أرشدها الله إلى قول : (( لا حول ولا قوة إلا بالله )) ، فكررت هذه الكلمة العظيمة التي هي كنز من كنوز الجنة ، وما هي إلا أيام – بعدما يئست من خروج ابنها 0 وإذا به يطرق الباب فامتلأت سرورا وغبطة وبهجة وفرحا ، وهذا جزاء من تعلق بربه وأكثر من دعائه وفوض الأمر إليه ، فعليك بلا حول ولا قوة إلا بالله ، فإنها كلمة عظيمة ، فيها سر السعادة والفلاح ، فأكثري منها ، وطاردي بها فلول الهم ، وكتائب الحزن ، وأشباح الاكتئاب ، وأبشري بسرور من الله وفرج قريب ، وإياك أن ينقطع بك حبل الرجاء ، أو تصابي بالإحباط ، فإنه ما من شدة إلا ولها رخاء ، وما من عسر إلا وبعده يسر ، سنة ماضية ، وقضية مفروغ منها ، فالله الله في حسن الظن بالله والتوكل عليه ، وطلب ما عنده ، وانتظار الفرج .
إشراقة : لا تجعلي من متاعبك وهمومك موضوعا للحديث ؛ لأنك بذلك تخلقين حاجزا بينك وبين السعادة
ومضة : إن ربك واسع المغفرة
العسجدة السادسة : بيتك مملكة العز والحب
قل هو الرحمن آمنا به وأتبعنا هاديا من يثرب
أيتها العزيزة الغالية : الزمي بيتك إلا من أمر مهم ، فإن بيتك سر سعادتك : )وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ )(الأحزاب: من الآية33) ؛ ففي بيتك تجدين طعم السعادة ، وتحافظين على ناموس شرفك ووقارك وحشمتك ، فإن المرأة الهامشية هي التي تكثر من الخروج إلى الأسواق من غير ضرورة ، فهمها متابعة الموضات ، ومراقبة الأزياء ، ودخول المحلات التجارية ، والسؤال عن كل جديد وغريب ، ليس لها هم ديني ، ولا رسالة دعوية ، ولا همة في المعرفة والعلم والثقافة ، بل هي مسرفة مبذرة ، همها المأكول والملبوس ، فحذار حذار من هجران البيت ، لأنه منزل السرور ، ومحل الأمن والراحة ، وكهف الانس ، وكعبة السلامة من الناس ، فاجعلي من بيتك جامعة للمحبة ، ومنطلقا للعطاء الطيب المبارك .
إشراقة : لا تفضي بمتاعبك إلا لأولئك الذين يساعدونك بتفكيرهم وكلامهم الذي يجلب السعادة
ومضة : عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير
العسجدة السابعة : ليس عندك وقت للثرثرة!
البدر يضحك والنجوم تصفق فعلام تقتلنا الهموم وتختق ؟!
اتركي الجدل والدخول في نقاش عقيم حول أمور محتملة ؛ لأن ذلك يضيق الصدر ويكدر الخاطر ، ولا تحاولي إقناع الناس دائما في مسائل تقبل وجهات النظر ، بل اطرحي رأيك بهدوء وبدون صخب ولا إلحاح ولا تشنج ، وابتعدي عن كثرة الردود والانتقادات ؛ لأنها تفقدك راحة البال ، وتنقل عنك صورة غير لائقة ، فقولي كلمتك اللينة المحببة في رفق وهدوء ، حينها تملكين القلوب وتعمرين الأرواح ، كما إن مما يورث الهم والحزن اغتياب الناس وهمزهم ولمزهم وتنقصهم ، وهذا يذهب الأجر ويجمع عليك الإثم ، ويفقدك الاطمئنان ، فاشتغلي بإصلاح عيوبك عن عيوب الناس ، فإن الله لم يخلقنا كاملين معصومين ، بل عندنا جميعا ذنوب وعيوب ، فطوبى لمن أشغله عيبه عن عيوب الناس
إشراقة : على الأم التي يسقط ولدها من مكان عال أن لا تضيع الوقت في النحيب والصراخ ، بل عليها أن تسعى حالا لتضميد جراحه .
ومضة : اعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطئك
العسجدة الثامنة : كوني مشرقة النفس يحيك الكون
أتحسب أن البؤس للمرء دائم ولو دام شيء عدة الناس في العجب(/8)
انظري للحياة نظر المحب المتفائل ، فالحياة هدية من الله للإنسان ، فأقبلي هدية الواحد الأحد ، وخذيها بفرح وسرور ، اقبلي الصباح بإشراقة وبسمته الرائعة ، اقبلي الليل بوقاره وصمته ، اقبلي النهار بسنائه وضيائه ، عبي الماء النمير حامدة شاكرة ، استنشقي الهواء فرحة مسرورة ، شمي الزهرة مسبحة ، تفكري في الكون معتبرة ، استثمري العطاء المبارك في الأرض ، في باقة الزهر ، في طلعة الورد ، في هبة النسيم ، في نفحة الروض ، في حرارة الشمس ، في ضياء القمر ، حولي هذه العطاءات والنعم إلى رصيد من العون على طاعة الله ، والشكر له على نعمه ، والحمد له على تفضله وامتنانه ، إياك أن يحاصرك كابوس الهموم وجحافل الغموم عن رؤية هذا النعيم ، فتكوني جاحدة جامدة ، بل اعلمي أن الخالق الرازق – جل في علاه – ما خلق هذه النعم إلا ليستعان بها على طاعته وهو القائل : )يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً)(المؤمنون: من الآية51)
إشراقة : أفضل الكرم وأنقاه يكون من أولئك الذين لا يملكون شيئا ، ولكنهم يعرفون قيمة الكلمة والابتسامة ، وكم أناس يعطون وكأنهم يصفعون !
ومضة : ومن يتق الله يجعل له مخرجا
العسجدة التاسعة : ما تمت السعادة لأحد وما كمل الخير لإنسان
أطردي الهم بذكر الصمد واهجري ليل الهوى وابتعدي
إنك تخطئين كثيرا إذا توهمت أن الحياة لابد أن تكون لصالحك مائة بالمائة ، فهذا لن يتحقق إلا في الجنة ، أما في الدنيا فإن الأمر نسبي ؛ فلن يتم كل ما تريدين ، بل سوف يقع شيء من البلاء والمرض والمصيبة والامتحان ، فكوني شاكرة في السراء ، صابرة في الضراء ، ولا تعيشي في عالم المثاليات بحيث تريدين صحة بلا سقم ، وغني بلا فقر ، وسعادة بلا منغصات ، وزوجا بلا سلبيات ، وصديقة بلا عيوب ، فهذا لن يحصل أصلا ، وطني نفسك على غض الطرف عن السلبيات والأخطاء والملاحظات ، وانظري إلى الإيجابيات والمحاسن ، وعليك بحسن الظن والتماس العذر والاعتماد على الله فقط ، أما الناس فليسوا أهلا للاعتماد عليهم وتفويض الأمر إليهم : )إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً )(الجاثية: من الآية19)
إشراقة : لا تقبلي بوجود مناطق مظلمة في حياتك ، فالنور موجود وليس عليك إلا أن تديري الزر ليتألق!
ومضة : ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا
العسجدة العاشرة : ادخلي بستان المعرفة
أيها الشامت المعير بالدهر أأنت المبرأ الموفور؟
إن من أسباب سعادتك تفقهك في دينك ، فإن تعلم الدين يشرح الصدر ، ويرضي الرب ، وكما قال عليه الصلاة والسلام : __ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين )) ، فاقرأي كتب العلم الميسرة النافعة التي تزيدك علما وفهما للدين كرياض الصالحين ، وفقه السنة ، وفقه الدليل ، والتفاسير الميسرة ، والرسائل المفيدة ، واعلمي أن أفضل أعمالك هو معرفة مراد الله عز وجل في كتابه ، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته ، فأكثري من تدبر القران ومدارسته مع أخوانك ، وحفظ ما تيسر منه ، والاستماع إليه ، والعمل به ؛ لأن الجهل بالشريعة ظلمة في القلب ، وضيق في الصدر ، فلتكن عندك مكتبة – ولو كانت صغيرة – فيها كتب قيمة نافعة ، وأشرطة مفيدة ، وحذار من ضياع الوقت في سماع الأغنيات ، ومشاهدة المسلسلات ، فإن كل ثانية من عمرك محسوبة عليك ، فاستثمري الوقت في مرضاة الله U .
إشراقة : أشد الصعاب تهون بابتسامة إنسان واثق
ومضة : لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا
اللؤلؤة الأولى : تذكري الدموع المسفوحة والقلوب المجروحة
ألم تر أن الليل لما تكاملت غياهبه جاء الصباح بنوره
قال أحد الأدباء :
إن كنت تعلمين أنك أخذت على الدهر عهدا أن يكون لك كما تريدين في جميع شؤونك وأطوارك وألا يعطيك إلا ما تحبين وتشتهين ، فجدير بك أن تطلقي لنفسك في سبيل الحزن عنانها كلما فاتك مأرب واستعصي عليك مطلب ، وإن كنت تعلمين أخلاق الأيام في أخذها وردها ، وعطائها ومنعها ، وأنها لا تنام عن منحة تمنحها حتى تكر عليها راجعة فتستردها ، وأن هذه سنتها وتلك خلتها في جميع أبناء آدم ، سواء في ذلك ساكن القصور وساكن الأكواخ ، ومن يطأ بنعله هام الجوزاء ومن ينام على بساط الغبراء ، فخفضي من حزن ، وكفكفي من دمعك ، فما أنت بأول إنسانة أصابها سهم الزمان ، وما مصابك بأول بدعة طريفة في جريدة المصائب والأحزان .
إشراقة : انقطعي عن تأمل الذنب ، وتأملي الصفة الحسنة التي ستضعينها مكانه
ومضة : بالبلاء يستخرج الدعاء
اللؤلؤة الثانية : هؤلاء ليسوا في سعادة !
اشتدي أزمة تتفرجي قد آذن ليلك بالبلج(/9)
لا تنظري لأهل الترف وأهل البذخ والإسراف في الحياة ، فإن واقعهم يرثى له ولا يفرح به ، فإن أناسا كان همهم الإسراف على أنفسم وملذاتهم وشهواتهم ، واستفراغ الجهد في طلب المتعة ، ومطاردة اللذة ، سواء كانت حلالا أو حراما ، وهؤلاء ليسوا في سعادة ، إنما هم في ضنك وفي هم وفي غم ، لأن كل من انحرف عن منهج الله ، وكل من ارتكب معاصي الله ، فلن يجد السعادة أبدا ، فلا تظني أن أهل الترف والبذخ والإسراف في نعيم وفي سرور ، لا . ، إن بعض الفقيرات الساكنات في بيوت الأكواخ والطين أسعد حالا من أولئك الذين ينامون على ريش النعام ، وعلى الديباج والحرير ، وفي القصور المخملية ؛ لأن الفقيرة المؤمنة العابدة الزاهدة أسعد حالا من المنحرفة الصادة عن منهج الله .
إشراقة : إن السعادة موجودة فيك ، ولهذا يجب أن توجهي جهودك إلى نفسك .
ومضة : فاعلم أنه لا إله إلا الله
اللؤلؤة الثالثة : الطريق إلى الله أحسن الطرق
ربما تجزع النفوس لأمر ولها فرجة كحل العقال
ما السعادة ؟ هل السعادة في المال ؟ أم في الجاه والنسب ؟ إجابات متعددة ... ولكن دعينا ننظر إلى سعادة هذه المرأة :
اختلف رجل مع زوجته .. فقال : لأشقينك ، فقالت الزوجة في هدوء : لا تستطيع ، فقال لها : كيف ذلك ؟ قالت : لو كانت السعادة في مال لحرمتني منه ، أو في حلي لمنعتها عني ، ولكن لا شيء تمتلكه أنت ولا الناس ، إني أجد سعادتي في إيماني ، وإيماني في قلبي ، وقلبي لا سلطان لأحد عليه إلا ربي .
هذه هي السعادة الحقيقية .. سعادة الإيمان ن ولا يشعر بهذه السعادة إلا من تغلغل حب الله في قلبه .. ونفسه .. وفكره ، فالذي يملك السعادة – حقيقة – هو الواحد الأحد ، فاطلبي السعادة منه بطاعته U .
إن الطريق الوحيد لكسب السعادة إنما هو في التعرف على الدين الصحيح الذي بعث به رسول الله r ، فمن عرف هذا الطريق فليس يضره أن ينام في كوخ ، أو يتوسد الرصيف ، أو يكتفي بكسرة خبز ، ليكون أسعد إنسان في العالم ، أما من ضل عن هذا الطريق فعمره أحزان ، وماله حرمان ، وعمله خسران ، وعاقبته خذلان .
إشراقة : إننا نحتاج إلى المال لنعيش ، ولكن هذا لا يعني إننا يجب علينا أن نعيش لأجل المال
ومضة : الله إني أسالك العفو والعافية
اللؤلؤة الرابعة : إذا ضاقت الدروب فعليك بعلام الغيوب
إذا ضاق بك الأمر ففكر في ألم نشرح
قال ابن الجوزي :
(( ضاق بي أمر أوجب غما لازما دائما ، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة ، وبكل وجه ، فما رأيت طريقا للخلاص .. فعرضت لي هذه الآية : ) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)(الطلاق: من الآية2) ، فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم ، فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج ..)).
قلت : التقوى عند العقلاء هي سبب كل خير ، فما وقع عقاب إلا بذنب ، وما رفع إلا بتوبة ، فالكدر والحزن والنكد إنما هو جزاء على أفعال قمت بها ، من تقصير في صلاة ، أو غيبة لمسلمة ، أو تهاون في حجاب ، أو ارتكاب محرم . إن من يخالف منهج الله لابد أن يدفع ثمن تقصيره ، وأن يسدد فاتورة إهماله ، فالذي خلق السعادة هو الرحمن الرحيم فكيف تطلب السعادة من غيره ؟، ولو أن الناس يملكون السعادة لما بقي في الأرض محروم ولا محزون ولا مهموم.
إشراقة : ابعدي عن تفكيرك كل وضعية يائسة وانسي وجنودها ، وركزي على النجاح ، عندها لا يمكن أن تخفقي .
ومضة : أنا عند ن عبدي بي
اللؤلؤة الخامسة : اعلي كل يوم عمرا جديدا
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
إن البعد عن الله لن يثمر إلا علقما ، ومواهب الذكاء والقوة والجمال والمعرفة تتحول كلها الى نقم ومصائب عندما تعرى عن توفيق الله وتحرم من بركته ، ولذلك يخوف الله الناس عقبى هذا الاستيحاش منه ، والذهول عنه .
قد تكون سائرا في طريقك فتقبل عليك سيارة تنهب الأرض نهبا وتشعر كأنها موشكة على تحطيم بدنك واتلاف حياتك ، فلا تر بدا من التماس النجاة وسرعة الهرب ... إن الله يريد إشعار عباده تعرضهم لمثل هذه المعاطب والحتوف إذا هم صدفوا عنه ، ويوصيهم أن يلتمسوا النجاة – على عجل – عنده وحده : )فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) )وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذريات:) .
وهي عودة تتطلب أن يجدد الإنسان نفه ، وان يعيد تنظيم حياته ، وان يستأنف مع ربه علاقة افضل ،وعملا اكمل ، وعهدا يترجمه بهذا الدعاء : (( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك منشر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علي ، وابوء بذنبي ، فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )).
إشراقة : أهلاً بك .. أخفقت في عمل من أعمالك عليك ألا تستسلمي لليأس ،ولا تقلقي ولا يساورك الشك في أن حلا سيأتي .
ومضة : وتبسمك في وجه أختك صدقة(/10)
اللؤلؤة السادسة : النساء نجوم السماء وكواكب الظلماء
وإن ألمت صروف دهر فاستعن الواحد القديرا
المرأة الملمة الصالحة هي التي تحسن معاشرة زوجها وتطيعه بعد طاعة ربها ، وقد أثن رسول الله r على هذه المرأة ، وجعلها المرأة المثالية التي ينبغي على الرجل أن يظفر ها ، فعندما سئل صلى الله عليه وسلم : أي النساء خير ؟ قال :(( التي تسره إذا نظر ، وتطيعه إذا أمر ، ولا تخالفه في نفسها ولا ماله بما يكره )) .
ولما نزل قول الله U : ) وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ)(التوبة: من الآية34) انطلق عمر ، واتبعه ثوبان رضي الله عنهما ، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية!، فقال النبي r :" ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء : المرأة الصالحة ؛ التي إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته ".
وقد قرن رسول الله دخول المرأة الجنة برضا زوجها ، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله r : (( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة )) فكوني تلك المرأة تسعدي .
إشراقة : هناك مكان في الصف الأول ، بشرط أن تضحي في كل ما تعملين مزيدا من الإتقان والكمال .
ومضة : أتاك السرور لأن الفلك يدور
اللؤلؤة السابعة : الموت ولا الحرام
ولا تجزع وإن اعسرت يوما فقد ايسرت في الزمن الطويل
في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – في النفر الثلاثة الذين باتوا في الغار ، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار ، فتوسلوا إلى الله تعالى أن ينجيهم فذكروا صالح أعمالهم ، يقول الثاني منهم : (( اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت احب الناس الي – وفي رواية – كنت احبها كأشد ما يحب الرجال النساء ، فرادتها على نفسها ، فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين ، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار عل أن تخلي بيني وبين نفسها ، ففعلت ، حتى إذا قدرت عليها – وفي رواية – فلما قعدت بين رجليها قالت : اتق الله ، ولا تفض الخاتم إلا بحقه .. )) فهذه الفتاة كانت تقية ولم تمكنه من نفسها ابتداء ، فلما ضعفت لفقرها اضطرت إلى ما طلب ، وذكرته بالله تعالى وتقواه ، وهزت فيه المشاعر الإيمانية وان عليه - إن أرادها- أن يتزوجها حلالا ولا يقع عليها زنا ، فارعوى وتاب إلى الله تعالى ، وكان ذلك سببا في انفراج شيء من الصخرة يوم سدت باب الغار.
إشراقة : تعلمي أن تتعايشي مع الخوف وسوف يتلاشى
ومضة : حياتك من صنع أفكارك
اللؤلؤة الثامنة: آيات واشراقات
إني رأيت – وفي الأيام تجربة - للصبر عاقبة محمودة الأثر
قال تعالى : ) سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)(الطلاق: من الآية7)
قال تعالى : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200)
قال تعالى : ) وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) )الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:156)
قال تعالى : )وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ )(الشورى: من الآية28)
قال تعالى : ) إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر: من الآية10)
قال تعالى عن نداء ذي النون : ) لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(الانبياء: من الآية87)
هذا هو القران يناديك أن تسعدي وتطمئني ، وأن تثقي بربك ، وأن ينشرح صدرك لوعد الله الحق ، فالله لم يخلق الخلق ليعذبهم، إنما ليمحصهم ويهذبهم ويؤدبهم ، والله ارحم بالإنسان من أمه وأبيه ،فاطلبي الرحمة والأنس والرضا من الله – جل في علاه - ، وذلك بذكره وشكره وتلاوة كتابه ، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم
إشراقة : استعدي لاستقبال الأسوأ ، وستكون هديتك الشعور بالتحسن
ومضة : يكفي المرأة شرفا أن أم محمد صلى الله عليه وسلم امرأة
اللؤلؤة التاسعة : معرفة الرحمن تذهب الأحزان
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
الله .. أجود الأجودين وأكرم الأكرمين ، أعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمله ، يشكر القليل من العمل وينميه ،ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه ، يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شان ، لا يشغله سمع عن سمع ،ولا تغلطه كثرة المائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ، بل يحب الملحين في الدعاء ، ويحب أن يسال ، ويغضب إذا لم يسال ، يستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه ، ويستره حيث لا يستر نفسه ، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه ،وكيف لا تحب القلوب من لا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يذهب السيئات إلا هو ، ولا يجيب الدعوات ، ويقيل العثرات ، ويغفر الخطيئات، ويستر العورات ، ويكشف الكربات ،ويغيث اللهفات ، وينيل الهبات سواه ؟(/11)
الله .. أوسع من أعط ، وارحم من استرحم ،واكرم من قصد ، واعز من التجئ إليه، واكف من توكل العبد عليه، ارحم بعبده من الوالدة بولدها، واشد فرحا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا يئس من الحياة ثم وجدها .
إشراقة ليكن قرارك بمحاولة بلوغ السعادة تجربة سارة في حد ذاتها .
ومضة : وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون
اللؤلؤة العاشرة: اليوم المبارك
واصبر إذا خطب دهى يأت الإله بالفرج
جربي إذا صليت الفجر أن تجلسي جلسة خاشعة ، وتستقبلي القبلة عشر دقائق أو ربع ساعة ، وتكثري من الذكر والدعاء ، اسألي الله يوما جميلا ، يوما طيبا مباركا فيه ، يوما سعيدا ، يوما فيه نجاح وصلاح وفلاح ، يوما بلا نكبات ولا أزمات ولا مشكلات ، يوما رزقه رغد ، وخيره وافر ، وستره عميم ، يوما لا كدر فيه ولا هم ولا غم ، فمن عند الله يسال السرور ، ومن عنده يسال الرزق ، ويطلب الخير – جل في علاه – فهذه الجلسة – بإذن الله – كفيلة باستعدادك لهذا اليوم الطيب المبارك النافع .
ومما يوصى به إذا كنت تزاولين العمل ، أو كنت جالسة أن تسمعي شيئا من كتاب الله ، من شريط مسجل ، أو من مذياع من قارئ مخبت خاشع ، جميل الصوت ، يسمعك آيات الله عز وجل في كتابه ، فتنصتين لها ، وتخشعين عند سماعها ، فتغسل ما في قلبك من در وشك وشبه وتعودين احن حالا وبالا ، واشرح صدرا من ذي قبل
إشراقة : لا تهتمي بالأشياء التي تعجزين عن أدائها ، دلا من ذلك امضي الوقت محاولة تحسين الأشياء التي تستطيعين تحسينها .
ومضة : ألا إن نصر الله قريب
الدرة الأولى : المرأة الرشيدة هي الحياة السعيدة
عسى فرج يأتي به الله انه له كل يوم في خليقته أمر
يجب على المرأة أن تحسن استقبال زوجها .. حين يعود إليها ، فلا تضيق إذا وجدته ضائقا أو متعبا ، بل على العك تهرع إليه وتلبي طلباته مهما كانت ، دون أن تسأله عن سبب ضيقه أو تعبه فور عودته إلى بيته ، فإذا استقر وخلق ثيابه التي يخرج بها ولبس ثياب البيت ، فقد يبادر هو الى الإفضاء لها بسبب كدره ، وإذا لم يبادر هو بإخبارها فلا باس من أن تسأله ولكن بلهجة تشعره فيها بانشغالها عليه وقلقها بشان حاله التي عاد عليها .
وإذا وجدت الزوجة أن في إمكانها أن تساعد زوجها ف يحال المشكلة التي سببت له الضيق فلتبادر إلى ذل ، فإنها أن فعلت ستخلف كثيرا عن زوجها .. سيشعر الزوج بعد هذا أن في بيته جوهرة ثمينة ، بل اثمن من جواهر الدنيا جميعها ..
إشراقة : لا تبتئسي عل عمل لم تكمليه ، يجب أن تعرفي أن عمل الكبار لا ينتهي !
ومضة : إن الله إذا احب قوما ابتلاهم
الدرة الثانية : اعمري هذا اليوم فقط
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ولا يحسبون الشر ضربة لازب
يقول أحد السعداء :
(( اليوم الجميل هو الذي نملك فيه دنيانا ولا تملكنا فيه ، وهو اليوم الذي نقود فيه شهواتنا ولذاتنا ولا ننقاد لها صاغرين أو طائعين .
ومن هذه الأيام ما اذكره ولا أنساه :
فكل يوم ظفرت فيه بنفسي وخرجت فيه من محنة الشك فيما أستطيع وما لا أستطيع فهو يوم جميل بالغ الجمال.
جميل ذلك اليوم الذي ترددت فيه بين ثناء الناس وبين عمل لا يثني عليه أحد ولا يعلمه أحد ، فألقيت بالثناء عن طهر يدي ، وارتضيت العمل الذي ذكره ما حييت ولم يسمع به إنسان .
جميل ذلك اليوم الذي كاد يحشو جيوبي بالمال ويفرغ ضميري من الكرامة ، فآثرت فيه فراغ اليدين عل فراغ الضمير .
هذه الأيام جميلة ، واجمل ما فيها أن نصيبي منها جد قليل ، إلا أن يكون النصيب عرفاني باقتدار نفي على ما عملت ، فهو إذن كثير بحمد الله .. )).
إشراقة : كوني سعيدة بما يدك ، قانعة راضية بما قسمه الله لك ، ودعيك من أحلام اليقظة التي لا تتناسب مع جهدك أو إمكانياتك .
ومضة : عفا الله عما سلف
الدرة الثالثة : اتركي الشعور بأنك مضطهدة
انعم ولد فللأمور أواخر أبدا كما كانت لهن أوائل
أنها صفة رائعة تساعد على دحر القلق وعلى النجاح في الحياة بشكل عام ، وعل الاحتفاظ بالصداقات والسعادة مع العائلة ، لأن صاحب الأفق الواسع يفهم طبائع الناس ، ويقدر المتغيرات ، ويضع نفسه موضع الآخرين ، ويقدر الظروف ما خفي منها وما بان .
وبالنسبة لموضوع القلق بالذات فإن صاحب الأفق الواسع يتفهم طبيعة الحياة وانه ما عليها مستريح ، وان الإنسان قد يكره أمراً ويكون فيه الخير ، وقد يفرح بأمر فيكون فيه الشر ، وان الخير فيما اختاره الله U .(/12)
صاحب الأفق الواسع يحس انه جزء من هذا الكون الواسع ، وان له نصيبه من الآلام والأحزان ومن السعادة أيضاً ، فلا يفاجأ ولا ينفجع ، وهو فوق هذا وذاك لا يحس بعقدة الاضطهاد التي يحس بها صاحب الأفق الضيق ، الذي يظن أن هذا الشر أو تلك المشكلة قد أصابته وحده ، أو أن الناس يضطهدونه ، أو أن حظه سيئ دائما ، صاحب الأفق الواسع لا يحس بشيء من هذه المشاعر ، وإنما هو يدرك طبيعة الحياة ، ويعلم انه جزء منها ، فيرضى بها بعد أن يبل جهده كله في سبيل تحقيق الأفضل .
إشراقة : اسعدي الآن وليس غداً .
ومضة : سلام عليكم بما صبرتم
الدرة الرابعة : ما ألذ النجاح بعد المشقة
الغمرات ثم ينجلينا ثمت يذهبن ولا يجينا
يقول أحد الناجحين :
ولدت فقيرا ولازمتني الفاقة مذ كنت في المهد ، ولقد ذقت مرارة سؤال أمي قطعة من الخبز في حين انه ليس لديها شيء تعطيه ولا كسرة من الخبر الجاف ، وتركت البيت في العاشرة من عمري ، واستخدمت في الحادية عشرة ، وكنت ادرس شهرا في كل سنة ، وبعد إحدى عشرة سنة من العمل الشاق كان لدى زوج ثيران وستة خراف اكسبتني أربعة وثمانين دولارا ، ولم انفق في عمر يفلسا واحدا على ملذاتي ، بل كنت أوفر كل درهم أحصله من يوم نشان إلى أن بلغت الحادية والعشرين من العمر .. وقد ذقت طعم التعب المضني حقا ، وعرفت السفر أميالا عديدة لسؤال إخواني من البشر ي يسمحوا لي بعمل أعيش منه ، وقد ذهبت في الشهر الأول بعد بلوغي الواحدة والعشرين إلى الغابات سائقا عربة تجرها الثيران لأقطع حطبا ، وكنت انهض كل يوم قبل الفجر وأظل مكبا على عملي الصعب إلى ما بعد الغسق لاقبض ستة دولارات في نهاية الشهر ، فكان كل واحد من تلك الدولارات الستة يظهر لي كأنه البدر في جنح الدجى!..
إشراقة : إذا كنت قد ارتكبت أخطاء في الماضي ، تعلمي منها ، ثم دعيها تذهب بعد أن تأخذي منها العبرة.
ومضة : قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب
الدرة الخامسة : سوف تتأقلمين مع وضعك
غريب من الخلان في كل بلدة أهلاً بك .. عظم المطلوب قل المساعد
اعرف رجلا قطعت قدمه في جراحة أجريت له ، فذهبت إليه لأواسيه ، وكان عاقلا عالما ، وعزمت أن أقول له : إن الأمة لا تنتظر منك أن تكون عداء ماهرا ، ولا مصارعا غالبا ، إنما تنتظر منك الرأي السديد والفكر النير ، وقد بقي ها عندك ولله الحمد .
وعندما عدته قال لي : الحمد لله ، لقد صحبتني رجلي هذه عشران السنين صحبة حسنة ،وفي سلامة الدين ما يرضي الفؤاد .
يقول أحد الحكماء : إن طمأنينة الذهن لا تتأتى إلا مع التسليم باسوا الفروض ، مرجع ذلك – من الناحية النفسية – أن التسليم يحرر النشاط من قيوده ... ثم قال : ومع ذلك فإن الألوف المؤلفة من الناس يحطمون حياتهم في سورة غضب ، لأنهم يرفضون التسليم بالواقع المر ، ويرفضون إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، وبدلا من أن يحاولوا بناء آمالهم من جديد يخوضون معركة مريرة مع الماضي ، وينساقون مع القلق الذي لا طائل تحته .
أن التحسر على الماضي الفاشل ، والبكاء المجهد على ما وقع فيه من الأم وهزائم هو – في نظر الإسلام – بعض مظاهر الكفر بالله والسخط على قدره
إشراقة : الإحباط هو ألد أعدائك ، انه قادر على تدمير الطمأنينة.
ومضة : وكذلك جعلناكم أمة وسطا
الدرة السادسة : وصايا سديدة من أم رشيدة
فكم رأينا أخا هموم أعقب من بعدها سرورا
هناك وصية جامعة من خير الوصايا المأثورة عن نساء العرب ، وهي وصية إمامة بنت الحارث لابنتها أم اياس بنت عوف ليلة زفافها ، وما فأوصتها به قوله :
(( أي بني : انك فارقت الجو الذي منه خرجت ، وخلفت العش الذي فيه درجت ، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها كنت أغنى الناس عنه ، ولكن النساء للرجال خلقت وهن خلق الرجال .
أما الأولى والثانية ، فالخضوع له بالقناعة ، وحن السمع له والطاعة .
وأما الثالثة والرابعة ، فالتفقد لمواضع عينه وأنفه ، فلا تقع عينه منك عل قبيح ، ولا يشم منك إلا أطيب ريح !.
وأما الخامسة والسادسة، فالتفقد لوقت نومه وطعامه ، فإن توتر الجوع ملهبة ، وتتغيص النوم مغضبة !.
وأما السابعة والثامنة : فالاحتراس بماله والارعاء عل حشمه وعياله ، وملاك الأمر في المال حسن التقدير ، وفي العيال حسن التدبير .
وأما التاسعة والعاشرة ، فلا تعصي له أمراً ، ولا تفشي له سرا ، فانك إن خالفت أمره أوغرت صدره ، وإن أفضيت سره لم تأمني غدره ، ثم إياك والفرح بين يديه إن كان حزينا ، والكآبة بين يديه إن كان فرحا!)).
إشراقة : سعادتك ليست وقفا على شخص آخر ، أنها في يداك أنت
ومضة : غدا تشرق الشمس وتسعد النفس
الدرة السابعة : جادت بنفسها فأرضت ربها
ولا تياس فإن اليأس كفر لعل الله يغني عن قليل(/13)
هل سمعت عن المرأة الجهنية التي زلت فوقعت في الزنا ، ثم ذكرت الله فتابت وأنابت ، وجاءت إلى رسول الله r تريد أن يرجمها فيطهرها ؟ لقد جاءته حبلى من الزنا ، فقالت : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا النبي r وليها فقال : احن إليها ، فإذا وضعت فائتني ، ففعل فأمرر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فشدت عليها ثيابها ، ثم أمر بها فرجمت ، ثم صلى عليها ، فقال له عمر : تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت ؟!، قال : لقد تابت توبة ، لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت افضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل ؟
أنها دفعة إيمانية قوية دفعتها إلى التطهر ، واختيار الآجلة عل العاجلة ، ولو لم تكن ذات إيمان قوي ما آثرت الموت رجما ، ولعل قائلا يقول : فلماذا زنت وهل يفعل ذلك إلا ضعيف الإيمان ؟ ! والجواب : انه قد يضعف الإنسان فيقع في المحظور لأنه خلق من ضعف ، ويزل لأنه خلق من عجل ، ويضل لحظة لأنه ناقص ، لكن بذرة الإيمان حين تنمو في قلبه جعل هذه المارة تسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن يطهرها ، وجادت بروحها ابتغاء مرضاة الله ورحمته وغفرانه .
إشراقة : لا تكوني متشكية مزمنة ، أو بالهواية !
ومضة : اشتدي أزمة تنفرجي
الدرة الثامنة : حفظت الله فحفظها
ولا عار أن زالت عن المرء نعمة ولن عارا أن يزول التجمل
حكي أن امرأة حسنة الوجه كثيرة المال تأخرت في دارها هي ووصيفاتها وجواريها عن الهروب حين الوقعة بالإسكندرية ، فدخلت الإفرنج إليها بأيديهم السيوف المسلولة ، فقال لها أحدهم : أين المال ؟ .
فقالت – وهي فزعة - : المال في هذه الصناديق التي هي داخل هذا البيت ، و أشارت إلى بيت بالمجلس التي هي به ، وصارت ترعد من الخوف ، فقال أحدهم لها : لا تخافي ، فأنت تكونين عندي ، وفي مالي وخيري ترتعين ، ففهمت عنه انه احبها ويريدها لنفسه ، فمالت إليه ، وقالته بكلام خفي : أريد أن ادخل بيت الخلاء ، ورققت له القول
ففهم عنها أنها أرادته ، وأشار إليها أن تمضي لقضاء حاجتها ، فمضت واشتغلوا بنهب الصناديق ، فخرجت المرأة من باب دارها ، ودخلت مخزنا غلسا مملوءا تبنا بزقاق دارها ، فحفرت في التبن حفرة واندفنت بها ، فطلبتها الإفرنج بعد نهبهم لدارها فلم يجدوها ، فاشغلوا بحمل النهب ، ومضوا ، فسلمت المرأة من الأسر بحيلتها تلك ، وكذلك وصيفاتها وجواريها سلمن من الأسر بصعودهن سطح الدار .
فقالت المارة عند ذلك : سلامة الدين والعرض خير من المال الذي لم يدخر عند ذوي المروءات إلا لغرض مثل هذا ، لأن الفقر خير من الأسر والافتتان بتغيير الدين بالقهر .
إشراقة : تقبلي حقيقة لا مفر منها ، وهي انك ستصادفين دائما في الدنيا أمورا لا تستطيعين تغييرها ، وإنما تستطيعين التعامل معها بالصبر والإيمان .
ومضة : الأم مصنع الرجال ومعدن الأبطال
الدرة التاسعة : ماء التوبة اطهر ماء
افرحي بالحياة فهي جميلة واجعليها بكل خير خميلة
الله .. يحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، بل يفرح بتوبة عبده إليه اعظم من فرحة إنسان كان بأرض فلاة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه ، فانفلتت منها ، فايس منها ، فجلس إلى جذع شجرة ينتظر الموت فأخذته إغفاءة ثم أفاق ، فإذا بها واقفة عند رأسه ، وعليها طعامه وشرابه ، فقام إليها ، وامسك بزمامها ثم صاح من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك! .. فسبحانه ما أعظمه وارحمه ، يفرح بتوبة عبده ليفوز بجنانه ، ويحظى برضوانه ،وهو – جل وعلا – ينادي عباده المؤمنين بقوه : ) وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(النور: من الآية31)
فالتوبة غسل القلب بماء الدموع وحرقة الندم ، فهي حرقة في الفؤاد ، ولوعة في النفس ، وانكساره في الخاطر ، ودمعة في العين ، إنها مبدا طريق السالين ، ورا مال الفائزين ، و أول إقدام المريدين ، ومفتاح استقامة المائلين، التائب يضرع ويتضرع ، ويهتف ويبكي ؛ إذا هدا العباد لم يهدا فؤاده ، وان سكن الخلق لم يسكن خوفه ، وإذا استراحت الخليقة لم يفتر حنين قلبه ، وقام بين يدي ربه بقلبه المحزون ، وفؤاده المغموم منكسا رأسه ، ومقشعرا جلده ،إذا تذكر عظيم ذنوبه وكثير خطئه ، هاجت عليه أحزانه ، واشتعلت حرقات فؤاده ،و أسبل دمعه؛ فأنفساه متوهجة ، وزفراته بحرق فؤاده متصلة ، قد ضمر نفسه للسباق غدا ، وتخفف من الدنيا لسرعة الممر على جسر جهنم .
إشراقة : فكري بطريقة إيجابي متفائلة ، فإذا ساءت الأمور في يوم ما كان ذلك مقدمة لمجيء يوم آخر قريب كله بهجة وسرور .
ومضة : حافظات للغيب بما حفظ الله
الدرة العاشرة : الفدائية الأولى
ولربما كره الفتى أمراً عواقبه تسر
كانت تعيش في اعظم قصر في زمانها ، تحت يديها الكثير من الجواري والعبيد ، حياتها مرفهة متنعمة .(/14)
إنها آسية بنت مزاحم زوج فرعون – رضي الله عنها - ، امرأة وحيدة ، ضعيفة جسديا ، آمنة مطمئنة في قصرها ،اشرق نور الإيمان في قلبها ، فتحدت الواقع الجاهلي الذي يرأسه زوجها .
لقد كانت نظرتها نظرة متعدية ،تعدت القصر ، والفرش الوثير ، والحياة الرغيدة ، تعدت الجواري ،والعبيد ، والخدم ؛ لذلك كانت تستحق أن يذكرها رب العالمين في كتابه المكنون ،ويضعها مثالا للذين آمنوا ، وذلك عندما قال تعالى )وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم:11) .
قال العلماء عند تفسير هذه الآية الكريمة : لقد اختارت آسية الجار قبل الدار . واستحقت أيضاً أن يضعها الرسول صلى الله عليه وسلم مع النسا اللاتي كملن ، وذلك عندما قال :كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ، وان فضل عائشة على الناس كفضل الثريد على سائر الطعام )).
هذه آسية المؤمنة ، السراج الذي أضيء في ظلمات قصر فرعون ، فمن يضيء لنا سراجا يشع منه النور حاملا معه الصبر ، والثبات ، والدعوة إلى الله تعالى ؟ .
إشراقة : سيطري عل أفكارك تسعدي
ومضة : إن رحمة الله قريب من المحسنين
الزبرجدة الأولى : وكلي ربك ونامي
عسى الله أن يشفي المواجع إنه إلى خلقه قد جاد بالنفحات
إلى من نامت قريرة العين برضا الله وقدره ، متوسدة عاصفة هوجاء ،تتخطفها الأسنة وتنالها الرماح ،ما عرف الحزن إلى قلبها مدخلا ، وما استقرت الدمعة في عينها زمنا ، إلى من فقدت الأبناء والأحباب والآباء والأصحاب ، إلى كل مؤمن مهموم ، وكل مبتلى مغموم :
عظم الله أجرك .. ورفع درجتك .. وجبر كسرك ، قال الله تعالى : واستعينوا)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45)
قال علي رضي الله عنه : (( الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد )) ، فابشري بثواب أخروي في نزل الفردوس وجوار الواحد الأحد في جنات عدن ومقعد صدق ، جزاء ما قدمت وبذلت وأعطيت ، وهنيئا لك هذا الإيمان والصبر والاحتساب ، وسوف تعلمين انك الرابحة على كل حال : ) وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(البقرة: من الآية155)
إشراقة : ثقتك في نفسك تعني إيجاد معن أكثر لحياتك مهما كان عمرك ، والحصول على مزيد من الكسب في هذه الحياة
ومضة :الله لطيف بعباده
الزبرجدة الثانية : العم عمى القلب
هل الدهر إلا كربة وانجلاؤها وشيكا و إلا ضيقة وانفراجها
كان رجل كفيف يعيش سعيدا مع زوجة محبة مخلصة ،وابن بار ، وصديق وفي ، وكان الشيء الوحيد الذي ينغص عليه سعادته هو الظلام الذي يعيش فيه ، كان يتمنى أن يرى النور ليرى سعادته بعينيه.
هبط البلدة التي يقطنها هذا الكفيف طبيب نحرير ، فذهب إليه يطلب دواء يعيد له بصره ، فأعطاه الطبيب قطرة وأوصاه أن يستعملها بانتظام ، وقال له : إنك بذلك قد ترى النور فجأة وفي أي لحظة.
واستمر الأعمى في استخدام القطرة على يأس من المحيطين به ، ولكنه بعد استخدامها عدة أيام رأى النور فجأة وهو جالس في حديقة بيته ، فجن من الفرح والسرور وهرول إلى داخل البيت ليخبر زوجته الحبيبة فرآها في غرفته تخونه مع صديقه ، فلم يصدق ما رأى ، وذهب إلى الغرفة الأخرى فوجد ابنه يفتح خزانته ويسرق بعض ما فيها .
عاد الأعمى أدراجه وهو يصرخ : هذا ليس طبيبا ، هذا ساحر ملعون ، وأخذ مسمارا ففقأ عينيه ! مذعورا إلى سعادته التي ألفها .
إشراقة : إن القلق النفسي اشد فتكا من أمراض الجسم
ومضة : كلا إن معي ربي سيهدين
الزبرجدة الثالثة : لا تقيمي محكمة الانتقام فتكوني أول ضحية !
إن ربا كفاك ما كان بالأمس سيكفيك في غد ما يكون
بعض الناس سمح لا يهمه أن يتقاضى حقه كله ، وهو يتغاضى عن كثير من الأمور ويتغابى أحيانا ، وفي مجمل الأمر فإن نفسه سمحة سهلة ، وهو لا يدقق كثيرا ، ولا يفتش فيما خلف العبارات ، ولا يتعب نفسه بهذه الأمور .
وبعضهم الآخر لا يعرف السماحة ولا يتغاضى عن حقوقه بمقدار ذرة ، وهو في جهاد مع الناس ومع المواقف المختلفة للاستقصاء والحصول على حقه – وربما غير حقه – وهو قلما يرضى .
ومن الطبيعي أن الإنسان السمح اقرب إلى رضا النفس وهدوء البال والبعد عن القلق ، كما انه اقرب إلى قلوب الناس وأجدر بحبهم ، و أبواب النجاح تفتح أمامه أكثر من ذلك الذي يعتبر نفسه في حرب دائمة مع عباد الله . وفوق ذلك يحلل الكلمات والمواقف ويبحث فيها عن المقاصد الخبيثة ، فيجلب القلق لنفسه من كل سبيل ، ويكرهه الناس يتحاشونه ويوصدون أمامه أبواب النجاح ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما وإلا كان ابعد الناس عنه .
قال رسول الله r : (( رحم الله عبدا سمحا إذا باع ، سمحا إذا اشترى ، سمحا إذا اقتضى ))(/15)
إشراقة : عليك بالاجتهاد في الوقت الحاضر ، مع عدم القلق حول ما سيأتي في الغد .
ومضة : ما أنزلنا عليك القران لتشفى
الزبرجدة الرابعة : الامتياز في الإنجاز
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
يقول أحد الأثرياء :
لا يتملكني أي شعور خاص لأنني أغنى رجل في العالم ، و أعيش حياة عادية في شقة متواضعة مع زوجتي ، ولا أشرب ولا أدخن ولا أعشق حياة المليارديرات الذين تملأ صورهم الصحف ، بيخوتهم الفاخرة ، وقصورهم في الأرياف ، وحياتهم الصاخبة ، وزيجاتهم من فتيات جميلات ، وهي الزيجات التي تنتهي عادة بطلاق يدفعون مقابله ملايين الدولارات .
أعشق العمل وأسعد به وغالبا ما آخذ غدائي معي لأتناوله في مقر عملي ولا تملأ ذاكرتي الغبطة والسعادة إذا تصورت ما املكه من مليارات ، ولكن تملؤها السعادة حين أتذكر أنني قد ساعدت في تحويل مدينتي الأم ( طوكيو ) بشوارعها المتواضعة إلى عاصمة هي محط أنظار العالم بالمجمعات العقارية الحديثة التي أنجزتها ..باختصار سعادتي في الإنجاز .
إشراقة : التحسر لا ينتشل سفينة من أعماق البحار !
ومضة : أليس الله بكاف عبده
الزبرجدة الخامة : عالم الكفر يعاني الشقاء
ولو جاز الخلود خلدت فردا ولكن ليس للدنيا خلود
ألقى الدكتور (( هارولدسين هابين)) الطبيب بمستشفى ( مايو ) رسالة في الجمعية الأمريكية للأطباء والجراحين العالمين في المؤسسات الصناعية قال فيها : إنه درس حالات 176 رجلا من رجال الأعمال ، أعمارهم متجانسة في نحو الرابعة والأربعين ، فاتضح له أن أكثر من ثلث هؤلاء يعانون واحدا من ثلاثة أمراض تنشأ كلها عن توتر الأعصاب وهي : اضطراب القلب ، وقرحة المعدة ، وضغط الدم ، ذلك ولما يبلغ أحدهم الخامة والأربعين بعد ! ، هل يعد ناجحا ذاك الذي يشتري نجاحه بقرحة في معدته ، واضطراب في قلبه ؟ وماذا يفيده المرض إذا كسب العالم أجمع وخسر صحته ؟ !، لو أن أحداً ملك الدنيا كلها ما استطاع أن ينام الأعلى سرير واحد ، وما وسعه أن يأكل أكثر من ثلاث وجبات في اليوم ، فما الفرق بينه وبين العامل الذي يحفر الأرض ؟ لعل العامل اشد استغراقا في النوم ، وأوسع استمتاعا بطعامه من رجل الأعمال ذي الجاه والسطوة .
ويقول الدكتور (( و س . الفاريز )) : اتضح أن أربعة من كل خمسة مرضى ليس لعلتهم أساس عضوي البتة ، بل مرضهم ناشئ عن الخوف ، والقلق ، والبغضاء ، والأثرة المستحكمة ، وعجز الشخص عن الملاءمة بين نفسه والحياة .
إشراقة : نحن لا نملك تغيير الماضي ولا رسم المستقبل بالصورة التي نشاء ، فلماذا نقتل أنفسنا حسرة على شيء لا نستطيع تغييره ؟!
ومضة : لا تغضب ، لا تغضب ، لا تغضب
الزبرجدة السادسة : من أخلاق شريكة الحياة
ورب عسر أتى بيسر فصار معسوره يسيرا
المرأة المؤمنة الصالحة لا ترهق زوجا بكثرة طلباتها ، فهي تقنع بما قسمه الله لها ، وقدوتها في ذلك آل بيت رسول الله r ، يروي عروة عن خالته عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول : ( والله يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ، ثم الهلال ، ثلاثة أهله في شهرين ، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار ، قلت : يا خالة ، فما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر والماء ، إلا انه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار ، وكانت لهم منايح ، فكانوا يرسلون إلى رسول الله r ، من ألبانها فسقيناه ).
إشراقة : قيمة الحياة هي أن يحيا الإنسان كل ساعة منها
ومضة : العمل وقود الأمل وعدو الفشل
الزبرجدة السابعة : أرضى باختيار الله لك
ولا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أول بالجميل
ما أروع ما قالته السيدة هاجر رضي الله عنها زوج إبراهيم وأم إسماعيل عليهما السلام حين تبعت زوجها – بعد أن وضعها وابنها في واد غير ذي زرع ومضى -، تكرر على مسامعه : يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء ؟، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : ( إذا لا يضيعنا ) نعم ، إن الله لا يضيع عباده الصالحين ، ألم يعوض الله سبحانه وتعالى الرجل وزوجته في سورة الكهف ؟: )وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً) )فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (الكهف:81) .
ألم يحفظ الله تعالى صاحب الكنز – الرجل الصالح – في ولديه حين أمر صاحب موس أن يبني الجدار من جديد ، فيثبته حتى يكبر ولداه فيأخذا كنز والدهما ؟: )وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّك)(الكهف: من الآية82)(/16)
إشراقة : لن أستطيع تغيير الماضي ، ولست الآن قادرة على أن اعلم ما سيجيء فلماذا اندم أو اقلق؟!
ومضة : النصر مع الصبر
الزبرجدة الثامنة : لا تأسفي على الدنيا
فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد ؟!
إن من يعلم بقصر عمر الدنيا ، وقلة بضاعتها ، ورداءة أخلاقها ، وسرعة تقلبها بأهلها ، لا يأسف على شي منها ، ولا ييأس على ما ذهب منها ، فلا تحزني على ما فات ولا تياسي ، فإن لنا دارا أخرى اعظم وابقى واكبر واحسن من هذه الدار ، وهي الدار الآخرة ، فاحمدي الله انك تؤمنين بلقاء الواحد الأحد وغيرك – من غير المسلمات – يكفرن بهذا اليوم الموعود ، فهنيئا لمن آمن بذاك اليوم واستعد له ، وتعسا لمن ضعف إيمانه في ذل اليوم ، وشغله عنه قصره ، وداره ، وكنوزه ، ومتاعه الرخيص ! ، وما قيمة قصر أو دار أو مجوهرات بلا إيمان ؟ وما قيمة منصب ومكانة بلا تقوى ؟ ولو أن الملوك والأمراء والتجار يعيشون الشقاء ، ويتجرعون غصص المرارة ، ويشتكون من مصائبهم وأحزانهم .
إشراقة : إن الأمس حلم ولى وانقضى ، والغد أمل جميل ، أما اليوم فهو حقيقة واقعة .
ومضة : المرأة أهدت العظماء للعالم
الزبرجدة التاسعة : متعة الجمال في خلق ذي الجلال
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفسا إذا حكم القضاء
انظري إلى الإنسان وروعة خلقه ، وتباين أجناسه ، وتعدد واختلاف نغماته ، أحسن الله خلقه ، وركبه في اجمل صورة : ) وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ )(غافر: من الآية64) )يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (الانفطار:6) (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار:7)
)فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الانفطار:8) ، )لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4)
انظري إلى السماء وهيبتها ، والنجوم وفتنتها ، والشمس وحسنها ، والكواكب وروعتها ، والقمر وإشراقه ، والفضاء ورحابته ، وانظري إلى الأرض كيف دحاها ، وأخرج منها ماءها ومرعاها ،والجبال أرساها ، تأملي هذه البحار والأنهار ، هذا الليل ، هذا الصبح ، هذا الضياء ،هذه الظلال ، هذه السحب ، هذا التناغم الساري في الوجود كله ، هذا التناسق ، هذه الزهرة ، هذه الوردة ، هذه الثمرة اليانعة ، هذا اللبن السائغ ، هذا الشهد المذاب ، هذه النخلة ، هذه النحلة ، هذه النملة، هذه الدويبة الصغيرة ، هذه السمكة ، هذا الطائر المغرد ، والبلبل الشادي ، هذه الزاحفة ، هذا الحيوان ، جمال لا ينفد ، وحسن لا ينتهي ، وقرة عين لا تنقطع : )فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (الروم:17) )وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (الروم:18) )يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) (الروم:19)
إشراقة : لا تتطلعي إلى الجوانب التعيسة من الحياة ، بل استغني مباهجها .
ومضة : وقرن في بيوتكن
الزبرجدة العاشرة : غاية الكرم ونهاية الجود
كم فرج بعد إياس قد أتى وكم سرور قد أتى بعد الأسى
سبى الروم بعض النساء المسلمات ، فعلم بالخبر ( المنصور بن عمار ) فقالوا له : ( لو اتخذت مجلسا بالقرب من أمير المؤمنين ، فحرضت الناس على الغزو ؟ وفعلا جعل له مجلسا بقرب أمير المؤمنين هارون الرشيد وذلك في ( الرقة ) في الشام .
وبينما كان الشيخ ( منصور ) يحث الناس على الجهاد في سبيل الله ، إذ طرحت خرقة بها صرة مختومة ومضموم بها كتاب ، فك ( المنصور ) الكتاب وإذ فيه : إني امرأة من أهل البيوتات من العرب ، بلغني ما فعل الروم بالمسلمات ، وسمعت تحريضك الناس على الغزو في ذلك ، فعمدت إلى اكرم شيء من بدني وهما ذؤابتناي ( أي : ضفيرتاها ) فقطعتهما وصررتهما في هذه الخرقة المختومة ، وأناشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد ( لجام ) فرس غاز في سبيل الله ، فلعل الله العظيم أن ينظر إلى على تلك الحال فيرحمني بهما ) .
فلم يتمالك ( المنصور ) نفسه تجاه تلك العبارات البليغة ، فبكى وأبكى الناس ، فقام هارون الرشيد وأمر بالنفير العام ، فغزا بنفسه مع المجاهدين في سبيل الله ، ففتح الله عليهم .
إشراقة : لا تبكي على ما فات ، ولا تضيعي الدموع هباء ، فليس في استطاعتك أن تعيدي ما مضى وولى .
ومضة : ألا بذكر الله تطمئن القلوب
الياقوتة الأولى : ليس لك من الله عوض
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير(/17)
دخل رجل في غير وقت الصلاة فوجد غلاما يبلغ العاشرة من عمره قائما يصلي بخشوع ، فانتظر حتى انتهى الغلام من صلاته فجاء إليه وسلم عليه وقال : يا بني ابن من أنت ؟ فطأطأ برأسه وانحدرت دمعة عل خده ثم رفع رأسه وقال : يا عم إني يتيم الأب والأم ، فرق له الرجل ، وقال له : أترضى أن تكون ابنا لي ؟ فقال الغلام : هل إذا جعت تطعمني ؟ قال : نعم ، فقال الغلام : هل إذا عريت تكسوني ؟ قال نعم ، قال الغلام : هل إذا مت تحييني ؟ قال الرجل : ليس إلى ذلك سبيل .
قال الغلام فدعني يا عم للي خلقني فهو يهدين ، والي يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين.
فسكت الرجل ومضى لحاله وهو يقول : آمنت بالله ، من توكل عل الله كفاه .
إشراقة : مهما شددت شعرك ،وسمحت للهم والكدر أن يمسكا بخناقك ، فلن تستطيعي أن تعيدي قطرة واحدة من أحداث الماضي.
ومضة : ورحمتي وسعت كل شيء
الياقوتة الثانية : السعادة موجودة .. لكن من يعثر عليها ؟!
وقلت لقلبي إن نزا بك نزوة من الهم افرح ، أكثر الروع باطله
لا يمكن لإنسان أن يستمد السعادة إلا من نفسه ، ولكن عليه أن يهتدي إلى الطريقة الفضلى لبلوغها ، وهي تتلخص بان يكون صادقا شجاعا محبا للعمل والناس ، وأن يتحلى بالتعاون والبعد عن الأنانية السوداء ، وأن يكون له ضمير حي قبل كل شيء ، فالسعادة ليست خرافة ، إنها حقيقة ظاهرة ، ويستمتع بها كثيرون ، وبإمكاننا أن نستمتع بها إذا استفدنا من تجاربنا وإذا ما استعنا بالخبرة التي كسبناها في الحياة ، فإذا تبصرنا بالحياة نستطيع أن نستخرج من ذواتنا أشياء كثيرة وأن نبرأ من كثير من الأمراض الصحية والنفسية من المعرفة والإرادة والصبر ، ونعيش حياتنا التي وهبها الله لنا بلا جحود ولا عقوق ولا شقاء .
إشراقة : ما من عدو لدود لجمال المرأة أكثر من القلق الذي يقربها من الشيخوخة
ومضة : ولسوف يعطيك ربك فترضى
الياقوتة الثالثة : حسن الخلق جنة في القلب
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
الناس مرايا للإنسان فإذا كان حسن الأخلاق معهم كانوا حسني الأخلاق معه ، فتهدأ أعصابه ويرتاح باله ، ويحس انه يعيش في مجتمع صديق.
وإذا كان الإنسان سيئ الأخلاق غليظا وجد من الناس سوء الأخلاق والفظاظة والغلظة ،فمن لا يحترم الناس لا يحترمونه .
وصاحب الخلق الحسن أقرب إلى الطمأنينة وأبعد عن القلق والتوتر والمواقف المؤلمة ، إضافة إلى أن حسن الأخلاق عباد لله U ومما حض عليه الإسلام كثيرا ، قال الله U : )خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف:199) وقال U يصف رسوله صلى الله عليه وسلم : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن احبكم إلي أحاسنكم أخلاقا ، الموطئون أكنافا ، الذين يألفون ويؤلفون ، وإن أبغضكم الي المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الملتمسون للبرآء العيب )).
إشراقة : إن التردد والتخاذل والسير حول المشكلة بلا آمال . ل هذا يدفع البشر إلى الانهيار العصبي .
ومضة : كل يوم هو في شأن
الياقوتة الخامسة : استعيذي بالله من الهم والحزن
ولو أن النساء كمن عرفنا لفضلت النساء على الرجال
ما أظن عاقلا يزهد في البشاشة أو مؤمنا يجنح إلى التشاؤم واليأس ، وربما غلبت المرء أعراض قاهرة فسلبته طمأنينته ورضاه ، وهنا يجب عليه أن يعتصم بالله كي ينقذه مما حل به ، فإن الاستسلام لتيار الكآبة بداية انهيار شامل في الإرادة يطبع الأعمال كلها بالعجز والشلل.
ولذلك كان رسول الله r يعلم أصحابه أن يستعينوا بالله في النجاة من هذه الآفات ، قال أبو سعيد الخدري : دخل رسول الله r المجد ذات يوم ، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة ، فقال : (( يا أبا أمامة .. ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة ؟، قال : هموم لزمتني وديون يا رسول الله ، قال : أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك ، وقضى عنك دينك ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، ، قال : قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : (( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال )) . رواه أبو داود . قال : ففعلت ذلك ، فأذهب الله همي وقضى عني ديني.
إشراقة : إن قرحة المعدة لا تأتي مما تأكلين ، ولكنها تأتي مما يأكلك !
ومضة : وما بك من نعمة فمن الله
الياقوتة السادسة : المرأة التي تعين على نوائب الدهر
هي حالان شدة وبلاء وسجالان نعمة ورخاء(/18)
تروي كتب الطبقات عن فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تطوي الأيام جوعا ، وقد رآها زوجها الإمام علي رضي الله عنه يوما ، وقد اصفر لونها ، فقال لها : ما بك يا فاطمة ؟
قالت : منذ ثلاثة لا نجد شيئا في البيت ، قال : ولماذا لم تخبريني ؟ قالت : إن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ليلة الزفاف : (( يا فاطمة ، إذا جاءك علي بشيء فكليه ، وإلا فلا تسأليه )).
لكن كثيرا من النساء قد تخصصن في تفريغ جيوب أزواجهن ، فالواحدة منهن لا تطيق أن ترى فيجيب زوجها مالا ، فتلعن حالة الطوارئ في المنزل ، ولا تهدأ حتى تسلبه ما معه من مال .
ولا شك أن الرجل إن استسلم مرة ، فلن يرفع الراية البيضاء دائما ، وإنما سيبدأ الشقاق ولو بعد حين ، وقد يتطور هذا الشقاق إلى الطلاق ويومها سيترنم الزوج بأبيات هذا الأعرابي الذي تخلص من زوجته ( أمامة ) بطلاقها بعد طول عناء وشقاء معها:
طعنت أمامة بالطلاق ونجوت من غل الوثاق
بانت فلم يألم لها قلبي ولم تدمع مآقي
ودواء مالا تشتهيه النفس تعجيل الفراق
والعيش ليس يطيب بين اثنين في غير اتفاق
إشراقة : إن الحياة اقصر من أن نقصرها ، فلا تحاولي أن تقصريها أكثر
ومضة : النجاح أن تكوني على كل لسان
الياقوتة السابعة : امرأة من أهل الجنة
إن ربا كان يكفيك الذي كان منك الأمس يكفيك غدك
رو عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس رضي الله عنهما : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ فقلت : بلى ، قال : هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني اصرع ، وإني أتكشف ، فادع الله تعالى لي ، قال :( إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك ) فقالت : أصبر ، وقالت : إني أتكشف ، فادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها .
فهذه المرأة المؤمنة التقية رضيت ببلاء يصاحبها في حياتها الفانية على أن لها الجنة ، وقد ربح البيع ، فكانت من أهل الجنة ، ولكنها أنفت أن تتكشف فيرى الناس من عورتها ما لا يليق بالمرأة المسلمة المحتشمة التقية ، فماذا نقول لهؤلاء الكاسيات العاريات اللواتي يتفنن في إبداء محاسنهن ، ويجتهدن في خلع برقع الحياء ، وفي التعري ؟!
إشراقة : كفي عن القلق ، تحلي ، واجهي الحقيقة بثبات ، وافعلي شيئا لتعيشي.
ومضة : المعونة على قدر المؤونة
الياقوتة الثامنة : الصدقة تدفع البلاء
وفي كل شيء له آية تدل على انه الواحد
الصدقة باب عظيم من أبواب سعة الصدر وانشراح الخاطر ؛ فإن بذل المعروف يكافئ الله صاحبه في الدنيا بانشراح صدره ،وسروره وحبوره ، ونوره وسعة خاطره ،ورخاء حاله ، فتصدقي ولو بالقليل ، ولا تحتقري شيئا تتصدقين به ، تمرة أو لقمة أو جرعة ماء أو مذقة لبن ، أهدي للمسكين ، و أعطي البائس ، أطعمي الجائع ، وزوري المريض ، وحينها تجدين أن الله – سبحانه وتعالى – خفف عنك من الهموم والغموم ، ومن الأحزان ، فالصدقة دواء لا يوجد إلا في " صيدلية " الإسلام.
وسال رجل الإمام عبد الله بن المبارك فقال له : يا أبا عبد الرحمن قرحة خرجت في ركبتي منذ سبع سنين ،وسألت الأطباء ، وقد عالجت بأنواع العلاج ، فلم أنتفع به ؟ !
فقال له ابن المبارك : اذهب فانظر موضعا يحتاج الناس فيه إلى الماء، فاحفر هناك بئرا فإني أرجز أن تتبع هناك عين ويمسك عنك الدم ، ففعل الرجل فبرأ .
ولا عجب أيتها الأخت الكريمة : فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( داووا مرضاكم بالصدقة ) ، وقال r : ( إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء ) .
إشراقة : القلق حبيب الفراغ
ومضة : حور مقصورات في الخيام
الياقوتة التاسعة : كوني جميلة الروح لأن الكون جميل
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء
مشهد النجوم في السماء جميل ،ما في هذا شك ، جميل جمالا يأخذ بالقلوب ، وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه وأوقاته ؛ ويختلف من صباح إلى مساء ، ومن شروق إلى غروب ، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء ، ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب ، بل إنه ليختلف من ساعة لساعة ، ومن مرصد لمرصد ، ومن زاوية لزاوية ، وكله جمال ، وكله يأخذ بالألباب .
هذه النجمة الفريدة التي توصوص عناك ، وكأنها عين جميلة ، تلتمع بالمحبة والنداء ، وهاتان النجمتان المفردتان هناك وقد خلصتا من الزحام تتناجيان !..
وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك ، وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء ، وهذا القمر الحالم الساهي ليلة ، والزاهي المزهو ليلة ، والمنكسر الخفيض ليلة ، والوليد المتفتح للحياة ليلة ، والفاني الذي يدلف للفناء ليلة ..!
وهذا الفضاء الوسيع الذي لا يمل البصر امتداده ، ولا يبلغ البصر آماده .
إنه الجمال ، الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه ، ولكن لا يجد له وصفا فيما يملك من الألفاظ والعبارات!.
إشراقة : لابد من تقبل الأمر الواقع الذي لابد منه ، وإذا قلقت فماذا ينفعك القلق؟(/19)
ومضة : ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى
الياقوتة العاشرة : امرأة تصنع بطولة
أترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقه الندى إكليلا؟
ولى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حبيب بن مسلمة الفهري قيادة جيش من المسلمين لتأديب الروم ، وكانوا قد تحرشوا بالمسلمين ، وكانت زوجة حبيب جندية ضمن هذا الجيش ، وقبل أن تبدأ المعركة أخذ حبيب يتفقد جيشه ،وإذا بزوجته تسأله هذا السؤال :أين ألقاك إذا حمي الوطيس وماجت الصفوف ؟
فأجابها قائلا : تجديني في خيمة قائد الروم أو في الجنة ! ، وحمي وطيس المعركة وقاتل حبيب ومن معه ببسالة منقطعة النظير ، ونصرهم الله على الروم وأسرع حبيب إلى خيمة قائد الروم ينتظر زوجته ،وعندما وصل إلى باب الخيمة وجد عجبا ، لقد وجد زوجته قد سبقته ودخلت خيمة قائد الروم قبله !
ولو كان النساء كمثل هذي لفضلت النساء على الرجال !
إشراقة : الحياة ليس فيها صعب أو مستحيل طالما أن هناك القدرة على العمل والحركة !
ومضة : فاذكروني أذكركم
الجوهرة الأولى : لا تنفقي ساعاتك في الهواء
نزداد هما كلما ازددنا عن والحزن كل الحزن في الإكثار
يقول نبيك r لعائشة رضي الله عنها : (وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه ..).
تخيلي أنك قد ملكت كل ما تريدين من آمال وأحلام ، ووصلت إلى كل ما تريدين من أمنيات، ثم فجأة ضاع منك كل شيء بغير فائدة ، حينها ستبكين ، وتتوجعين ،وتتحسرين ، وتعضين على أصابعك ،ندامة وحسرة على ما ضاع منك فما بالك بعمرك الذي يضيع منك وأنت لا تشعرين ؟
إن عمرك جوهرة نفيسة لا تقدر بأي شيء مادي ، وهذا العمر في حقيقته عبارة عن أنفاس، كل نفس يخرج ولا يعود إليك أبدا ، وهذه الأنفاس هي رأس مالك في الدنيا ، تستطيعين أن تشتري بهما ما تشائين من نعيم الجنة ، فكيف تضيعين ذلك العمر بلا توبة نصوح؟!.
إشراقة : هناك طريق واحد يؤدي إلى السعادة ، ذلك هو التوقف عن التوجس من أشياء لا قدرة لنا عل السيطرة عليها.
ومضة : فسيكفيكهم الله
الجوهرة الثانية : السعادة لا تشترى بالمال
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
كثيرون بذلوا شبابهم وصحتهم ليجمعوا المال ، ثم عاشوا طول عمرهم ينفقون كل ما كسبوه ليحصلوا عل السعادة ، فحصلوا على الشقاء ، أو ليستردوا الشباب فدهمتهم الشيخوخة ، أو ليحصلوا عل الصحة فهزمهم المرض العضال!
وهذا ممثل مشهور يقول إن أمنية حياته كانت هي المال .
أن يتوهم أنه بالمال يستطيع أن يكون اسعد رجل في العالم لمدة مائة سنة !، كان واثقا انه قادر بالمال أن يحقق كل ما يتمناه، أن يجعل الأماني والأحلام والدنيا تسجد صاغرة بين يديه ، وبعد عشرين سنة أعطاه الله المال أضعاف ما تمنى ، ولكنه أخذ منه الصحة والشباب والأحلام !، ونقل عنه انه كان يبكي ويقول : ليتني ما طلبت من الله المال ، ليتني طلبت أن أعيش مائة سنة فقيرا آكل الفول المدمس ، واتشعبط على سلم الترام حتى لا ادفع ثمن التذكرة !، ولم يعرف هذا الممثل قيمة الصحة إلا عندما فقدها ، ولم يكتشف أن المال عاجز عن أن يشتري له أي شي إلا عندما اصبح أغنى فنان في مصر ، وعرف انه لا يستطيع أن يضيف بكل أمواله يوما واحدا إلى عمره المخطوف !.
إشراقة : إن المرء لا ينبغي أن يضيع نصف حياته في المشاحنات
ومضة : واستعينوا بالصبر والصلاة
الجوهرة الثالثة : العجلة والطيش وقود الشقاء
من إن تكن حقا تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
الحلم فروسية من النوع الراقي يتغلب بها الإنسان عل غضبه وحماقته وهواه ، والأناة هي التثبت وعدم الاستعجال والتصرف بعقل وحكمة ، وهاتان الخصلتان حرب على القلق ، ومن عدمهما عدم الكثير من الخير ، وكان مع القلق على ميعاد ، فإن الحليم يرد بحلمه الكثير من الشرور ، أما الأحمق الغضوب فإنه يجعل الشر يكبر ودواعي القلق تزداد وتتأصل ، والإنسان المتأني قلما يندم أو يقدم على أمر مجهول العاقبة ، أما الأحمق العجول فإنه حليف للندم والقلق وسوء العاقبة . وكذلك فإن الإنسان الذي يرفق بنفسه وبالآخرين يكون موفقا يعتاد هدوء الأعصاب ويكسب راحة البال .
وديننا الإسلامي الحنيف يحض على الرفق والحلم والأناة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه )).
إشراقة : إننا نضيع أوقات سعادتنا في الحياة من أجل أشياء لا قيمة لها .
ومضة : وما جعل عليكم في الدين من حرج
الجوهرة الرابعة: لعبة جمع المال لا نهاية لها
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حرا طليقا غريبا(/20)
يقول بيفربرو : لقد جمعت من المال الكثير ولكنني رأيت من واقع التجربة أن الاستمرار في هذه اللعبة ، لعبة جمع المال ،خطيرة وليس لها نهاية وتبلع العمر والسعادة ، لذلك غيرت عملي واتجاهي إلى عمل آخر أهواه في مجال النشر لا يدر مالا كثيرا ، ولكنه يحقق لي السعادة وخدمة المجتمع ، وإنني انصح كل رجل أعمال جمع من المال ما يكفيه جدا أن يكف عن لعبة المال ، ويتقاعد مبكرا ليتمتع بما حقق ، ويشرع في عمل محبوب ، فيه خدمة للمجتمع وإمتاع للوقت.
إن صاحب المال الذي جربه وامتلك الكثير منه لا يعن إلا قليلا بأن يخلف لورثته ثروة كبيرة ، لأنه يعلم انهم يكونون رجالا افضل إذا نزلوا إلى الميدان مجردين من الثروة ولا يملكون إلا العقل والأخلاق ، إن الثروة بلا مجهود كثيرا ما تصبح لعنة لا نعمة ، وشقاء لا سعادة ، حيث يشبع بها الرجال أجسادهم برفاهية وخمول ،وعقولهم بتفاهة وفراغ ، ويبتسرون الشباب الوضيء حتى الممات .
إشراقة : رسخي إيمانك بعدم وجود المستحيل في الحياة
ومضة : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم
الجوهرة الخامسة: في الفراغ تولد الرذيلة
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
في أحضان البطالة تولد آلاف الرذائل ، وتختمر جراثيم التلاشي والفناء ، إذا كان العمل رسالة الإحياء فإن العاطلين موتى.
وإذا أنت دنيانا هذه غراسا لحياة اكبر تعقبها ، فإن الفارغين أحرى الناس أن يحشروا مفلسين لا حصاد لهم إلا البوار والخسران .
وقد نبه النبي r إلى غفلة الألوف عما وهبوا من نعمة العافية والوقت فقال : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة ،والفراغ)).
ألهذا خلق الناس ؟ . كلا ، فالله عز وجل يقول )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون:115)
)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)(المؤمنون: من الآية116).
إن الحياة خلقت بالحق ، الأرض والسماء وما بينهما ، والإنسان في هذا العالم يجب أن يتعرف إلى هذا الحق وان يعيش به .
أما أن يدخل في قوقعة من شهواته الضيقة ، ويحتجب في حدودها مذهولا عن كل شي فبئس المهاد ما اختار لحاضره ومستقبله !!.
إشراقة : ضعي في خيالك دائما صورة النجاح ودعيها مرسومة في ذهنك .
ومضة : ويرزقه من حيث لا يحتسب
الجوهرة السادسة : بيت بلا غضب ولا صخب ولا تعب
والفتى الحازم اللبيب إذا ما خانه الصبر لم يخنه العزاء
قالت لأبيها وهي تبكي :يا أبت ،كان بيني وبين زوجي البارحة شيء ، فغضب لكلمة بدرت مني، فلما رأيت غضبه ندمت على ما فعلت ، واعتذرت له ، فأبى أن يكلمني وحول وجهه عني ، فطفت حوله حتى ضح ورضي عني ، وأنا خائفة من ربي أن يؤاخذني على اللحظات التي أحرقت فيها من دمه- ساعة غضبه – بعض قطرات ! ، فقال لها والدها : يا بنية ، والذي نفسي بيده لو انك مت قبل أن يرضى عنك زوجك لما كنت راضيا عنك ، أما علمت أن أيما امرأة غضب عليها زوجها فهي ملعونة في التوراة والإنجيل والزبور والقران ، وتشدد عليها سكرات الموت ، ويضيق عليها قبرها ،فطوب لامرأة رضي عنها زوجها .
فالمرأة الصالحة تحرص على أن تكون محبوبة إلى زوجها ، فلا يبدو منها ما يعكر صفو حياتهما .. وقد نصح أحد الرجال زوجته فقال :
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين اغضب
ولا تنقريني نقرك الدف مرة فإنك لا تدرين كيف المغيب
ولا تكثري الشكوى فتذهب بالهوى ويأباك قلبي والقلوب تقلب
فإني رأيت الحب في القلب والأذى إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب!
إشراقة: اطردي صورة الفشل ودعيها خارج ذهنك
ومضة : لا أمان لمن لا إيمان لها
الجوهرة السابعة : العفة والحياء تزيد جمال الحسناء
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما
وهل أتاك نبأ أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمعته يقول : ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ، فقالت : فكيف تصنع النساء بذيولهن ؟ قال : ( يرخين شبرا ) ، قالت: إذا تنكشف أقدامهن ، قال : ( فيرخينه ذراعا ولا يزدن ) .
لله درك يا أم المؤمنين !! ، لله درك يا أم سلمة ، ليست من أهل الخيلاء ولا التكبر ، ولكن نساء المسلمين حييات عفيفات ، طاهرات شريفات ، لا ينبغي أن ترى أقدامهن ، وثيابهن لها ذيول يجررنها عل الأرض وراءهن ، فلا يرى الرجال منهن شيئا ، أما النساء في عصرنا ، - إلا من رحم ربك – فإنهن يرخين الذيل إلى ( أعلى ) أقصى ما يستطعن ، خوفا عليه من البلل ، أو الغبار ، ولو استطعن لخلعنه ، أسوة بالكوافر العواهر ، ويجدن ألف مبرر للتعري والتسفخ ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ورجالهن ليس فيهم من الرجولة إلا الاسم ، يمشون إلى جانبهن ، ولا يبالون ، فقد ذهب الحياء :
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
إشراقة : راحة الجسم في قلة الطعام .. وراحة النف في قلة الآثام ..(/21)