وفي المسند أيضاً وسنن أبي داوود ومستدرك الحاكم عن أبي الدرداء y أن رسول الله r قال : ( فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها : الغوطة فيها مدينة يقال لها : دمشق . خير منازل المسلمين يومئذ ) ، قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه .
قال المنذري في " تهذيب السنن " قال يحيى بن معين ، وقد ذكروا عنده أحاديث من ملاحم الروم ، فقال يحيى : ليس من حديث الشاميين شيء أصح من حديث صدقة بن خالد عن النبي r أنه قال :( معقل المسلمين أيام الملاحم دمشق ) انتهى .
ففي هذه الأحاديث دليل على أن جل الطائفة المنصورة يكون بالشام في آخر الزمان ، حيث تكون الخلافة هناك ، ولا يزالون هناك ظاهرين على الحق ، حتى يرسل الله الريح الطيبة ، فتقبض كل من في قلبه إيمان كما تقدم في الأحاديث الصحيحة أن النبي r قال :
( حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) وقال معاذ : وهم بالشام .
فأما في زماننا وما قبله ، فهذه الطائفة متفرقة في أقطار الأرض ، كما يشهد له الواقع من حال هذه الأمة منذ فتحت الأمصار في عهد الخلفاء الراشدين إلى اليوم وتكثر في بعض الأماكن أحياناً ، ويعظم شأنها ويظهر أمرها ببركة الدعوة إلى الله تعالى وتجديد الدين ] إتحاف الجماعة 1/332-334 .
قال الإمام النووي : ( … ويحتمل أن هذه الطائفة ، مفرقة بين أنواع المؤمنين ، منهم شجعان مقاتلون ، ومنهم فقهاء ، ومنهم محدثون ، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين ، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/58-59.
وبعد عرض أقوال أهل العلم في الطائفة الظاهرة ، يظهر لنا أن الكاتب حجَّر واسعاً ، وألبس جماعته وحزبه لباساً ليس على مقاسهم ، وما زعمه من أن أوصاف الطائفة الواردة في الأحاديث تنطبق على حزب التحرير دون استثناء ، زعمٌ باطلٌ يرده واقع هذا الحزب وأفكاره .
وما هذه الدعوى العريضة التي لم يقم عليها دليل ولا برهان إلا غرور وكبر وتزكية للنفس والحزب ، بل تعصب مقيت للحزب ، قاتل الله التعصب ماذا يفعل بصاحبه ، قال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :
( والقرآن يحذر من تزكية النفس، بمعنى مدحها والثناء عليها، كما قال تعالى: ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم، فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن أتقى ) ، وذم اليهود والنصارى الذين زكوا أنفسهم ، فقال: ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم، بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ) ، وذلك أنهم قالوا، كما حكى عنهم القرآن: ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) ، وردَّ عليهم بقوله: ( بل أنتم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ولله ملك السموات والأرض وما بينهما، وإليه المصير ).
ولا يجوز لمن يعمل الصالحات ، أن يذكرها بعد الفراغ منها، إلا تحديثاً بنعمة ربه عليه: ( وأما بنعمة ربك فحدث ) ، أو ليرغب غيره فيقتدي به :( من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها )، أو دفاعاً عن نفسه أمام اتهام ألصق به وهو منه برئ، أو لغير ذلك من الأسباب الباعثة، وهذا مشروع لمن قوي باطنه في المعرفة بالله، وعدم الالتفات إلى ما سواه، وأمن على نفسه من تسلل آفتي العجب والرياء، ولم يكن قصده اكتساب محمدة الناس والمنزلة عندهم، وقلَّ من يسلم من ذلك.. والله المستعان.
فليحذر المسلم من إعجابه بنفسه، وما يقدمه من حسنات وصالحات، واعتقاده أنه وحده المفلح، وغيره من الخاسرين ، أو أنه وجماعته هم "الفرقة الناجية" وكل المسلمين من الهالكين، أو أنهم وحدهم "الطائفة المنصورة " وغيرهم من المخذولين!
إن هذه النظرة إلى النفس ، هي العجب المهلك ، وتلك النظرة إلى المسلمين هي "الاحتقار المردي". وفي الحديث الصحيح: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم".
روي الحديث بضم الكاف وبفتحها، ومعنى الضم: أنه هو "أهلكُهم"، بمعنى أسرعهم وأشدهم هلاكا، لغروره بنفسه، وإعجابه بعمله، واحتقاره لغيره.
ومعنى الرواية بالفتح "أهلكَهم": أنه الذي تسبب ـ هو وأمثاله ـ في هلاكهم، بالاستعلاء عليهم، وتيئيسهم من روح الله.
قال الإمام النووي: "وهذا النهي لمن قال ذلك، عجباً بنفسه، وتصاغراً للناس، وارتفاعاً عليهم، فهذا هو الحرام . وأما من قاله لما يرى في الناس من نقص في أمر دينهم، وقاله تحزناً عليهم، وعلى الدين، فلا بأس به. فكذا فسره العلماء وفصلوه، وممن قاله من الأئمة الأعلام : مالك بن أنس، والخطابي، والحميدي، وآخرون.
وفي الحديث الصحيح الآخر: ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) فمن حق المسلم على المسلم ألا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، وكيف يحقر الإنسان أخاه، وهما فرعان من أصل واحد ؟ ) برنامج الشريعة والحياة للقرضاوي / قناة الجزيرة الفضائية / عن شبكة الإنترنت .(128/10)
ويضاف إلى ما تقدم ، أنه قد وردت في بعض روايات أحاديث الطائفة الظاهرة ، أوصاف تبطل زعم الكاتب أنها تنطبق على حزب التحرير فقط ، وقد ذكرها الكاتب ، ولكنه أوَّلها تأويلاً أعرجاً حتى تؤيد زعمه الباطل :
فمن ذلك ما ورد في الحديث :( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ... إلخ ) رواه مسلم .
وفي الحديث الآخر ( لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم ... إلخ ) .
فهذه الأحاديث ، تثبت أن الطائفة الظاهرة تقاتل على دين الله وتدافع عنه بالقتال ؟
فأين هذا الوصف من واقع حزب التحرير ، الذي لا يؤمن باستخدام الوسائل المادية أبداً ؟
وإنما مبدؤه ورأسماله الفكر والثقافة ، ولا شيء سوى ذلك ، أي الكلام باللسان فقط ؟
وأما ما قاله الكاتب:[ فقوله r يقاتلون على الحق ، يقاتلون على أمر الله ، جاء القتال … فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم ) ، يدل دلالة صحيحة على أن هذه الطائفة ، سيكون لها دولة تعلن الجهاد والقتال وتنتصر على الأعداء ، وهذه هي الغاية التي يسعى إليها
( حزب التحرير ) منذ نشأته وهي إعادة الخلافة الراشدة ] ص56 .
إن هذا القول تأويل بعيد لا تحتمله النصوص ، لأن الأحاديث أخبرت أنهم يقاتلون لا أنهم سيقاتلون ، وفرق بين الحالتين .
وأما دعواه أن الحزب سيقيم دولة ستقاتل . فهذا أمر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى . ولا أظن أن الحزب بهذه الأفكار التي يحملها والوسائل التي ينتهجها سيصل إلى إقامة دولة .
فإعادة الخلافة أو إقامة الدولة الإسلامية يحتاج إلى أكثر من الثقافة والفكر الذي حصر الحزب نفسه بهما ، إن سنة الله تعالى وما سلكه الأنبياء عليهم السلام في الدعوة إلى الله يدل على ارتباط القول بالعمل وهكذا كانت سنة النبي r . انظر أثر الجماعات الإسلامية 1/251 .
المبحث الرابع
بطلان ما ادعاه الكاتب أن الغرباء هم حزب التحرير فقط
وأخيراً ، فقد أبى الكاتب إلا أن يختم كلامه بفرية عظيمة ، افتراها على سنة النبي r وطعن بها المتمسكين بالإسلام على مرِّ العصور والأيام فقال لا فض فوه :[ بقيت صفة أخيرة لا أحسبها تنطبق إلا على هذه الطائفة الظاهرة على الدين القائمة على أمر الله ، وهي صفة الغربة والاغتراب في مجتمع سيئ تكثر فيه المعاصي ، وينتشر فيه الفساد ، كما هو حال المجتمع في العالم الإسلامي حالياً ، وتقوم هذه الطائفة الغريبة عن المجتمع في حال غربة الإسلام وغروبه بإصلاح فساد الأفكار ، التي يدَّعي أصحابها أنها إسلامية ، وما هي بإسلامية بل هي أفكار كفر ، تسربت إلى المسلمين عبر الغزو الثقافي الغربي كفكرة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحريات وأمثالها ، هذه الصفة أيضاً وردت في الحديث النبوي الشريف ، فقد روى مسلم وأحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله r :( بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء ) .
وروى أحمد والبزار وأبو يعلى بسند رجاله رجال الصحيح عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله r يقول :( إن الإيمان بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس ) .
وفي رواية لأحمد من طريق عبد الرحمن بن سنة بلفظ :( بدأ الإسلام غريباً ثم يعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء قيل : يا رسول الله ومن الغرباء ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس … ) .
فقد وصفت هذه الأحاديث الثلاثة المجتمع أو الناس بالفساد ، ووصفت الإسلام بالغربة والاغتراب ، ووصفت المتمسكين بالدين بأنهم غرباء وبأنهم صالحون ، ولكن هذه الأوصاف لا تكفي للدلالة الواضحة على هذه الطائفة التي أشرنا إليها ، إذ قد يتمسك بأحكام الشرع شخص أو بضعة أشخاص في زمن الفساد ، فيطلق عليه أو عليهم صفة الغربة وصفة الصلاح ، فكيف يصح القول إن الغرباء هم هذه الطائفة ؟
والجواب على ذلك هو فيما رواه الترمذي وحسنه عن عمرو بن عوف أن رسول الله r قال : ( إن الدين بدأ غريباً ويرجع غريباً فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي ) . فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على نفي الغربة عن مجرد ناس متمسكين بأحكام الشرع في زمن الفساد إلا أن يكونوا عاملين على إصلاح ما أفسد الناس من الأفكار والأحكام الشرعية كما أشرنا إلى ذلك والمعلوم بداهة أن شخصاً أو بضعة أشخاص متناثرين هنا وهناك لا يقدرون على إصلاح ما فسد في المجتمع إلا أن يكونوا طائفة أي حزباً يتولى هذه المهمة الصعبة فلكي ينطبق على المسلم ما جاء في هذه الأحاديث الأربعة يجب أن يكون ضمن طائفة أو حزب يعمل على إصلاح فساد الأفكار والأحكام في المجتمع وبدون الطائفة أو الحزب فإنه لا يستطيع فعل ذلك قطعاً فوجب صرف الثناء الوارد في هذه الأحاديث إلى كل مسلم ينتمي إلى الطائفة أو الحزب الذي يتولى مهمة إصلاح الفساد في المجتمع .(128/11)
وحيث إن الأحاديث قد نوهت بالطائفة أو العصابة الظاهرة على الدين القائمة على أمر الله وأنها ستقيم دولة تقاتل الكفار فإن وصف الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنة محمد r - والسنة هنا تعني الشريعة أي الدين - ينبغي أن يصرف إلى أعضاء هذه الطائفة أو الحزب الذي واقع أعضائه أنهم فعلاً غرباء في المجتمع المعاصر وعلى ذلك فإن الغرباء الذين لهم طوبى هم أعضاء الطائفة أو الحزب الذي نوهنا به والذي جاء ذكره في العديد من الأحاديث ] ص56-58 .
لقد أعظم الكاتب الفرية على سنة رسول الله r وحرَّف الكلم عن مواضعه وزعم أن وصف الغربة الوارد في الأحاديث ينطبق فقط على حزب التحرير ، سبحانك هذا بهتان عظيم ، وتعصب مقيت .
إن الكاتب ليس أول من زعم هذا الزعم الباطل فقد سبقه إلى هذا غيره انظر الاعتصام للشاطبي 2/114-115 .
وجواباً على هذا الافتراء على السنة النبوية أقول :
أولاً :قد ورد في روايات حديث الغرباء عدة صفات لهؤلاء الغرباء فهم: ( الذين يصلحون عند فساد الناس ) .
( الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي ) .
( الذين يتمسكون بكتاب الله حين يُترك ويعملون بالسنة ... ) .
( الذين يُحْيُون ما أمات الناس من سنتي ) .
( الذين يفرون بدينهم من الفتن ) .
( الذين إذا فسد الناس أصلحوا ) .
( الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله ) .
( وما الغرباء ؟ قال : قوم صالحون قليل ، في ناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) .
( من الغرباء ؟ قال : الفرَّارون بدينهم ) .
( من الغرباء ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس ولا يمارون في دين الله ) .
( نزَّاع الناس ) .
( النزَّاع من القبائل ) رواه الدارمي ، وهو حديث صحيح ، كما قال الإمام البغوي في شرح السنة 1/119 .
والنزَّاع جمع نزيع ، وهو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته ، والنزائع من الإبل : الغِراب . شرح السنة 1/119 .
قال الإمام النووي :[ وأما معنى الحديث ، فقال القاضي عياض رحمه الله في قوله ( غريباً ) ، روى ابن أبي أويس عن مالك رحمه الله أن معناه في المدينة ، وأن الإسلام بدأ بها غريباً وسيعود إليها . قال القاضي وظاهر الحديث العموم ، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر وظهر ، ثم سيلحقه النقص والإخلال ، حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضاً كما بدأ . وجاء في الحديث تفسير الغرباء ، وهم النزاع من القبائل قال الهروي : أراد بذلك المهاجرين الذين هجروا أوطانهم إلى الله تعالى ] شرح النووي على صحيح مسلم 1/334 .
وقال البيهقي :[ ( فطوبى للغرباء ) المهاجرين الذين هجروا أوطانهم في الله عز وجل ] الزهد الكبير 2/118 .
وقال شمس الحق آبادي :[ ( فطوبى للغرباء من أمتي ) يريد المنفردين عن أهل زمانهم ] عون المعبود 11/333 .
وقال المناوي :[ ( فطوبى ) فُعْلى من الطيب ، أي فرحة وقرة عين ، أو سرور وغبطة ، أو الجنة أو شجرة في الجنة ( للغرباء ) ، أي المسلمين المتمسكين ، بحبله المتشبثين بذيله ، الذين كانوا في أول الإسلام ويكونون في آخره ، وإنما خصهم بها لصبرهم على أذى الكفار أولاً وآخراً ولزومهم دين الإسلام ] فيض القدير 2/407 .
وأما نفي الكاتب صفة الغربة عن شخص يتمسك بأحكام الشرع ، أو بضعة أشخاص في زمن الفساد ، وزعمه أنه لا يوصف بالغربة إلا طائفة أو حزب ، فهذا كلام باطل يرده ظاهر الأحاديث .
فالحديث وصف الغرباء ، بأنهم يصلحون ما أفسد الناس .
والحديث وصف الغرباء ، بأنهم يتمسكون بالكتاب والسنة .
والحديث وصف الغرباء ، بأنهم يحيون ما أماته الناس من السنة .
والحديث وصف الغرباء ، بأنهم النزاع من القبائل .
فلا أدري من أين جاء الكاتب بزعمه أن الغرباء لا بد أن يكونوا ضمن حزب ، وليس أي حزب ، وإنما حزب التحرير فقط . أليست هذه هي النظرة الحزبية الضيقة ؟ بلى وربي .
لا شك أن هذا التأويل للأحاديث ، ما هو إلا من تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا يستحي هذا الكاتب من قوله الباطل هذا ، والذي ينفي به وجود الغرباء المتمسكين بالإسلام ، على مرّ العصور والأيام ،إنه الكبر والتعالي على عباد الله . إنها لمأساة أن يصدر هذا الكلام ، من هذا الحزبي قصير النظر ، الذي لا يرى إلا نفسه وحزبه ، بينما نرى علماء الأمة الراسخين في فهم معاني الحديث ، يشرحون هذا الحديث بأوضح عبارة يقول التوربشتي :(128/12)
[ معناه - أي الحديث - إن الإسلام لما بدأ في أول وهلة نهض بإقامته والذب عنه أناس قليلون ، من أشياع الرسول r ونزاع القبائل ، فشردوهم عن البلاد ، ونفروا عن عقر الديار ، يصبح أحدهم معتزلاً مهجوراً ، ويبيت منتبذاً وحداناً كالغرباء ، ثم يعود آخراً إلى ما كان عليه ، لا يكاد يوجد من القائلين إلا الأفراد ، ويحتمل أن يكون المماثلة بين الحالة الأولى والحالة الأخيرة ، لقلة من كانوا يتدينون به في الأول ، وقلة من كانوا يعملون به في الآخر ، فطوبى للغرباء المتمسكين بحبله المتشبثين بذيله ] فتح المنان شرح كتاب الدارمي 9/625-626 .
وقال الإمام الطرطوشي :[ ومعنى هذا الحديث ، أنه لما جاء الله بالإسلام ، فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته وحيّه غريباً فيهم مستخفياً بإسلامه ، قد جفاه الأهل والعشيرة ، فهو بينهم ذليل حقير خائف ، يتغصص بجرع الجفاء والأذى ، ثم يعود غريباً لكثرة الأهواء المضلة والمذاهب المختلفة ، حتى يبقى أهل الحقّ غرباء في الناس ، لقلتهم وخوفهم على أنفسهم ] الحوادث والبدع ص32 .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : [ وقوله r : ( ثم يعود غريباً كما بدأ ) ، يحتمل شيئين :أحدهما أنه في أمكنة وأزمنة يعود غريباً بينهم ثم يظهر ، كما كان في أول الأمر غريباً ثم ظهر ، ولهذا قال ( سيعود غريباً كما بدأ ) ، وهو لما بدأ كان غريباً لا يعرف ، ثم ظهر وعرف ،فكذلك يعود حتى لايعرف ، ثم يظهر ويعرف ، فيقل من يعرفه في أثناء الأمر ، كما كان من يعرفه أولا . ويحتمل أنه في آخر الدنيا لا يبقى مسلماً إلا قليل . وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة . وحينئذ يبعث الله ريحاً تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ثم تقوم القيامة ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 18/295-296 .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً :[ وكذلك بدأ غريباً ولم يزل يقوى حتى انتشر ، فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة ، ثم يظهر حتى يقيمه الله عز وجل ، كما كان عمر بن عبد العزيز ، لما ولي قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس ، حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر ، فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريباً ] المصدر السابق 18/297 .
وقال شيخ الإسلام أيضاً :[ وقد تكون الغربة في بعض شرائعه وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة ، ففي كثير من الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ، ما يصير به غريباً بينهم لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد ، ومع هذا فطوبى لمن تمسك بتلك الشريعة كما أمر الله ورسوله فإن إظهاره والأمر به والإنكار على من خالفه هو بحسب القوة والأعوان ] المصدر السابق 18/298 .
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية برئاسة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله [ ما معنى ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ )؟
فأجابت : معنى ( بدأ الإسلام غريباً ) ، غربته بغربة أهله حيث دعا النبي r إلى الإسلام سراً ، فآمن به أبو بكر الصديق وزوجته خديجة ومولاه زيد ، ثم أخذ يعرض الإسلام على من يثق به ، فآمن به من آمن ، حتى زالت الغربة وانتشر الإسلام ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، وفي آخر الدنيا تعود الغربة ثانية إلى دين الإسلام ، فلا يكون في القبيلة إلا الرجل الواحد على دين الإسلام ] فتاوى اللجنة الدائمة السعودية 4/326 .
وبعد هذا العرض لأقوال أهل العلم في بيان المراد بالغرباء ، يظهر لنا أن وصف الغرباء ، ينطبق على كل متمسك بالكتاب وبالسنة ، ويدعو لإحياء السنة النبوية ، ولا يوجد أي دليل على اشتراط أن يكون ضمن جماعة ، أو حزب ، ولا دليل مطلقاً على أن صفة الغربة محصورة في حزب التحرير بل إن قول الكاتب :[ إن الغرباء الذين لهم طوبى هم أعضاء الطائفة أو الحزب الذي نوهنا به والذي جاء ذكره في العديد من الأحاديث ] ص58 .
إن هذا الكلام من أكذب الكذب ، ومن التأويل الباطل لكلام سيد المرسلين ، وتعدٍ سافرٍ على سنة المصطفى r ، وتعدٍ على أمة الإسلام المنتشرة في أصقاع الأرض ، والتي تزيد على مليار مسلم ، فلم يعدها شيئاً ، وانتقاصٍ من قدْر الأفراد والجماعات العديدة التي تعمل جادة مخلصة ومجاهدة لنصرة الإسلام ، فالكاتب لم يرَ هؤلاء المسلمين شيئاً ورأى فقط أتباع حزبه ، الذين لا يكادون يعدون شيئاً ، إلا كما تعد الشعرة الواحدة في جلد الثور الضخم !!!
وإن هذا الكلام الذي هذى به الكاتب ، ما هو إلا نتيجة الكبر والغرور، والتعالي والتعصب الحزبي المقيت ، وقصر النظر وسوء الظن بالأمة المسلمة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(128/13)
إن الغرباء ، هم المتمسكون بالسنة النبوية ، على مرّ العصور والأيام . قال القرطبي :[ إن قرنه - r - إنما فُضِّل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم ، لكثرة الكفار ، وصبرهم على أذاهم ، وتمسكهم بدينهم ، وإن أواخر هذه الأمة ، إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم ، في حين ظهور الشر والفسق ، والهرج والمعاصي والكبائر ، كانوا عند ذلك أيضاً غرباء ، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت ، كما زكت أعمال أوائلهم ، ومما يشهد لهذا قوله عليه الصلاة والسلام : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء ] تفسير القرطبي 4/172 .
الخاتمة
منهاج الفرقة الناجية
وأخيراً أختم بذكر منهاج الفرقة الناجية ، والطائفة الظاهرة ، وهو كما يلي :
1. الفرقة الناجية : هي التي تلتزم منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ، ومنهاج أصحابه من بعده ، وهو القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله ، وبيَّنه لصحابته في أحاديث الصحيحة ، وأمر المسلمين بالتمسك بهما ، فقال صلى الله عليه وسلم: تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض ) صححه الألباني في صحيح الجامع 1/566 .
2. الفرقة الناجية تعود إلى كلام الله ورسوله ، حين التنازع والاختلاف عملاً بقوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) سورة النساء الآية 59 . وقال تعالى :( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) . سورة النساء الآية 65 .
3. الفرقة الناجية لا تقدم كلام أحد على كلام الله ورسوله عملاً بقوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ) سورة الحجرات ، الآية .
وقال ابن عباس : أراهم سيهلكون ! أقول :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : قال أبو بكر وعمر ) رواه أحمد وغيره وصححه أحمد شاكر .
4. الفرقة الناجية تعتبر التوحيد ، وهو إفراد الله بالعبادة ، كالدعاء والاستعانة والاستغاثة وقت الشدة والرخاء والذبح والنذر والتوكل والحكم بما أنزل الله ، وغير ذلك من أنواع العبادة ، هو الأساس الذي تبنى عليه الدولة الإسلامية الصحيحة ؛ ولا بدّ من إبعاد الشرك ومظاهره الموجودة في أكثر البلاد الإسلامية ، لأنه من مقتضيات التوحيد ، ولا يمكن النصر لأي جماعة تهمل التوحيد ، ولا تكافح الشرك بأنواعه ، أسوة بالرسل جميعاً وبرسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
5. الفرقة الناجية : يحيون سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادتهم وسلوكهم وحياتهم ، فأصبحوا غرباء بين قومهم ، كما أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) رواه مسلم .
وفي رواية :( فطوبى للغرباء : الذين يصلحون إذا فسد الناس ) قال الألباني : رواه أبو عمرو الداني بسند صحيح .
6. الفرقة الناجية : لا تتعصب إلا لكلام الله وكلام رسوله المعصوم ، الذي لا ينطق عن الهوى ؛ أما غيره من البشر ، مهما علت رتبته فقد يخطئ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل بني آدم خطاء وخير الخطّائين التوابون ) رواه أحمد وهو حديث حسن .
وقال الإمام مالك :[ ليس أحدٌ بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
7. الفرقة الناجية : تحترم الأئمة المجتهدين ، ولا تتعصب لواحد منهم ، بل تأخذ الفقه من القرآن والأحاديث الصحيحة ومن أقوالهم جميعاً إذا وافق الحديث الصحيح ، وهذا موافق لكلامهم حيث أوصوا أتباعهم أن يأخذوا بالحديث الصحيح ويتركوا كل قول يخالفه .
8. الفرقة الناجية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فهي تنكر الطرق المبتدعة والأحزاب الهدامة التي فرقت الأمة ، وابتدعت في الدين وابتدعت عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
9. الفرقة الناجية : تدعو المسلمين أن يكونوا من المتمسكين بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى يكتب لهم النصر وحتى يدخلوا الجنة بفضل الله وشفاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .(128/14)
10. الفرقة الناجية : تنكر القوانين الوضعية التي هي من وضع البشر، لمخالفتها حكم الإسلام ، وتدعو إلى تحكيم كتاب الله الذي أنزله الله لسعادة البشر في الدنيا والآخرة ، وهو أعلم سبحانه وتعالى بما يصلح لهم ، وهو ثابت لا تتبدل أحكامه على مدى الأيام ، ولا يتطور حسب الزمان ، وإن سبب شقاء العالم عامة والعالم الإسلامي خاصة وما يلاقيه من متاعب وذل وهوان ومصائب ، تركه الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا عز للمسلمين إلا بالرجوع إلى تعاليم الإسلام ، أفراداً وجماعات وحكومات ، عملاً بقوله تعالى :( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) سورة الرعد الآية 11 .
11. الفرقة الناجية : تدعو المسلمين جميعاً إلى الجهاد في سبيل الله ، وهو واجب على كل مسلم حسب طاقته واستطاعته ، ويكون الجهاد بما يلي :
1.الجهاد باللسان والقلم : بدعوة المسلمين وغيرهم إلى التمسك بالإسلام الصحيح ، والتوحيد الخالي من الشرك ، الذي انتشر في كثير من البلاد الإسلامية ، والذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع بين المسلمين ، فقال :( لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان ) صحيح رواه أبو داود وورد معناه في مسلم .
2. الجهاد بالمال : ويكون بالإنفاق على نشر الإسلام ، وطبع الكتب الداعية إليه على الوجه الصحيح ، ويكون بتوزيع المال على المؤلفة قلوبهم من ضعفاء المسلمين لتثبيتهم ويكون بتصنيع وشراء الأسلحة والمعدات للمجاهدين ، وما يلزمهم من طعام وكساء وغير ذلك .
3. الجهاد بالنفس : ويكون بالقتال والاشتراك في المعارك لنصرة الإسلام ، ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى ، وقد أشار الرسول الكريم إلى هذه الأنواع ، فقال :( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) صحيح رواه أبو داود ) منهاج الفرقة الناجية والطائفة المنصورة ص 6 - 11.
والله الهادي إلى سواء السبيل
قائمة المصادر
القرآن الكريم
إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة / حمود بن عبد الله التويجري / دار الصميعي / الرياض .
أثر الجماعات الإسلامية الميداني خلال القرن العشرين / محمود سالم عبيدات / مكتبة الرسالة الحديثة / ط 1 / عمان .
أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين / محمد عوامة / ط 2 / دار البشائر الإسلامية .
الاعتصام / أبو إسحاق الشاطبي / دار المعرفة / بيروت .
الحوادث والبدع / أبو بكر الطرطوشي / ط 2 / دار ابن الجوزي .
الزهد الكبير / أحمد بن الحسين البيهقي / مؤسسة الكتب الثقافية .
المستدرك على الصحيحين / أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم / دار المعرفة / الطبعة الأولى .
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم / أبو العباس القرطبي / ط 1 / دار ابن كثير ، دار الكلم الطيب .
تاج العروس من جواهر القاموس / محمد مرتضى الزبيدي / تحقيق علي شيري / دار الفكر .
تفسير ابن كثير / الحافظ ابن كثير الدمشقي / ط 1 / دار الكتاب العربي .
تفسير القرطبي / أبو عبد الله محمد الأنصاري القرطبي / دار القلم / الطبعة الثالثة .
تفسير فتح القدير / محمد بن علي الشوكاني / مطبعة مصطفى الحلبي / الطبعة الثانية .
حمل الدعوة الإسلامية واجبات وصفات / محمود عبد اللطيف عويضة / دار الأمة .
زاد المعاد في هدي خير العباد / شمس الدين ابن القيم / ط 12 / مؤسسة الرسالة .
سلسلة الأحاديث الصحيحة / محمد ناصر الدين الألباني / الطبعة الثانية / المكتب الإسلامي .
سنن أبي داود / سليمان بن الأشعث السجستاني / دار الكتب العلمية / الطبعة الأولى / مطبوع مع عون المعبود .
سنن ابن ماجة / أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي / دار الكتب العلمية .
سنن البيهقي ( السنن الكبرى ) / أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي / دار الفكر .
سنن الترمذي / أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة / تحقيق أحمد محمد شاكر / دار الكتب العلمية
سنن النسائي / أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي / دار الكتب العلمية .
شرح السنة / الحسين ابن مسعود البغوي / ط 2 / المكتب الإسلامي .
شرح النووي على صحيح مسلم / أبو زكريا محيي الدين النووي / دار الخير.
شرح قصيدة ابن القيم / أحمد إبراهيم عيسى / المكتب الإسلامي .
صحيح ابن حبان ( الإحسان ) / علاء الدين علي بن بلبان / تحقيق شعيب الأرناؤوط / مؤسسة الرسالة / الطبعة الأولى .
صحيح ابن خزيمة / محمد بن خزيمة / تحقيق محمد الأعظمي / المكتب الإسلامي .
صحيح البخاري / محمد بن إسماعيل البخاري / تحقيق مصطفى البغا / دار ابن كثير ، اليمامة / ط 3
صحيح الجامع الصغير / محمد ناصر الدين الألباني / ط 2 / المكتب الإسلامي .
صحيح مسلم / مسلم بن الحجاج النيسابوري / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي / دار إحياء التراث العربي .(128/15)
صفات الطائفة الظاهرة / عدنان محمد عرعور / ط 2 / مؤسسة منارة قرطبة .
عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي / أبو بكر ابن العربي المالكي / ط 1 / دار الكتب العلمية .
عون المعبود شرح سنن أبي داود / محمد أشرف بن أمير الصديقي العظيم أبادي / دار الكتب العلمية الطبعة الأولى .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء / جمعها أحمد الدويش / ط 1 / دار عالم الكتب .
فتح الباري بشرح البخاري / الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني / دار السلام / الرياض .
فتح المنان شرح المسند الجامع / نبيل الغمري / ط 1 / دار البشائر الإسلامية .
فيض القدير شرح الجامع الصغير / محمد عبد الرؤوف المناوي / ط 1 / دار الكتب العلمية .
كنز العمال في سنن الأفعال والأقوال / المتقي الهندي .
لسان العرب / ابن منظور / تعليق علي شيري / دار إحياء التراث العربي / الطبعة الأولى .
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد / نور الدين علي الهيثمي / ط 3 / دار الكتاب العربي .
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية / جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد العاصمي النجدي / مؤسسة الرسالة .
مناهل العرفان في علوم القرآن / محمد الزرقاني / ط1 دار الفكر .
موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف / محمد السعيد زغلول / دار الفكر .
نصب الراية لأحاديث الهداية / جمال الدين الزيلعي / ط 1 / دار المأمون .(128/16)
أحاديث الي الشباب المسلم
دار الاعتصام
"مقدمة خصائص الأدب العربي"
لا ريب أن خصائص الأدب العربي التي تميزه عن الآداب العالمية " شرقية و غربية ترجع ألي البيئة التي نشأ فيها و الفكر الذي تشكل في اطاره و الأصول التي استمد منها وجوده و التحديات التي واجهته في طريق مساره الطويل .
ولا ريب أن أدب أي أمة مرتبط دائما بلغتها فهو في المصطلح الفني " أدب اللغة العربية "
وأدب أي أمة هو نتاج عواطفها و مشاعرها و عقولها و هو عصارة مزاجها النفسي و طابع روحها و هو في نفس الوقت مرتبط بهذه الأمة : أرضها و سمائها و قيمها و تقاليدها و أحداثها و مجتمعها فهو عصارة وجهة نظرها في الحياة مستمدة من داخلها
و من هنا كان الاختلاف و التباين بين أدب أمة و أدب أمة أخري ومن هنا كان الأدب أدب أمة و أدب لغة لأنه يستمد وجوده من مشاعر هذه الأمة و طوابعها الروحية و العقلية و النفسية و يستمد وجوده من اللغة التي تكتب بها و لكل لغة مفاهيمها و تاريخها و معاني كلماتها و خصائصها الذاتية
و الأدب الأصيل عالمي بطبعه من حيث نزعته الانسانيه لا من حيث انصهاره في نموذج واحد و الطابع الانساني للأدب لا يخرجه عن ذاتيته كأدب أمة و لا يدمجه في غيره من الأدب تحت ما يسمي عالمية الأدب
و الأدب العربي أدب أمة عريقة وأدب لغة عريقة أيضا و هو أدب لميتشكل في صورته الحقيقية الا منذ ظهور الاسلام الذي جمع العرب في الجزيرة العربية فكان عاملا في تحويل القبائل العربية الي أمة تامة و بذلك يمكن القول بأن الأدب العربي قد تشكل في صورته الحقيقية بالاسلام و لا يمنع هذا من وجود ديوان الشعر القديم و ما يتصل به أسجاع الكهان وهي في مجموعها لا تشكل صورة الأدب بمفهومه الفني ولا بمعامله الأصلية التي وضحت بعد نزول القرآن :الذي كان هو العامل الأعظم في بناء الأدب وظهور فنونه و علومه و مناهجه و اللغة العربية سابقة علي الاسلام وهي عماد وجود الأمة العربية و هي لغة تطورت و نمت خلال مئات السنين حتي وصلت الي صورتها التي عرفت بها
قبيل الاسلام وان ظلت لهجاتها المختلفة المتعددة فلما نزل القرآن انصهرت اللغة العربية في لهجة واحدة ثم كان أن أعطاها القرآن " كما أعطي الأدب العربي " هذا البيان المعجز الفائق الذى فهمه العرب وأعجبوا به و عجزوا في نفس الوقت عن الأتيان بمثله.
إذن يمكن القول بأن أدب أي أمة يشكله : ضمير الأمة و القيم الفكرية و الروحية التي تعتنقها و جوهر اللغة
و في مجال أدب اللغة نجد الأمة العربية لم تكن قائمة قبيل الاسلام في الجزيرة العربية وانما كانت مجموعة من القبائل المتصارعة التي لم تجتمع تحت أي لواء سوي الاسلام ولكنها كانت ذات قيم وتقاليد ولها طابعها الذى أورثه اياها مكانها في هذه الجزيرة شبه المنعزل عن حضارتي عالمها : حضارتي الفرس والرومان هذا الطابع البدوي الخاص الذى أهلها لتلقي رسالة انسانية كالاسلام فقد حماها وجودها المنعزل عن أن تذوب في مقارف الحضارات وانحلالها ومكن لها من تنمية قيمها و هي بقايا الحنفية{ دين إبراهيم } التي تمثل كل ما كان عند العرب في الجاهلية من خلق يقوم علي الأريحية والمروءة وان خالطها كثير من فساد عادات الثأر ووأد البنات والشرك و عبادة الأصنام و الاستعلاء و التفاخر فلما جاء الإسلام حرر هذه النفس العربية من جاهليتها وصاغ كثيرا من طوابعها صياغة جديدة وحول أهداف الكرم وحماية الزمار والنجدة فأعطاها مفهوم التوحيد الأول واستبقى قدرتها على المجالدة والحمية ووجه ذلك كله إلى هدف أسمى تحت لواء عقيدة التوحيد الخالص وبذلك محا عنها دون الجاهلية وحرر قيمتها التي كانت عماد القوى الكبرى التى اندفعت فى الأرض ترفع راية الإسلام وتعلن اسمه وتمد نفوذه من حدود الصين إلى حدود فرنسا .
كل هذه العوامل أعطت أدب اللغة العربية ذاتية خاصة وطبعيه على النحو خاص يختلف به عن أدب الأمم الأخرى فظهرت فنون لم توجد فى الآداب الأخرى واختفت فنون وجدت فى الآداب الأخرى وظهور هذه الفنون فيه واختفاء تلك الأخرى منه لا ينقص من قدره ما دام يصدر عن أعماق روحه الطبيعية ومقوماته الخالصة .
ومن هنا فان الأدب لا يدرس على ضوء مناهج وضعت لآداب أخرى هذه الآداب ولذلك فهي مستمدة منها ول يمكن العكس .
أن مذاهب الأداب التى يحاول النقاد محاكمة الأدب العربى عليها هى فى جملتها مذاهب غربية وضعت مسمياتها ومناهجها بعد قيام ظواهرها فى الآداب الأوربية وهى فى الحق مذاهب وانما هى أسماء عصور : كالكلاسيكية والرومانتيكية وغيرها وهى تتصل فى مجموعها بتاريخ الأمم التى وضعت هذه المذاهب فلماذا تنقل لتكون قوانين يخضع لها أدبنا الذى يختلف من حيث تكوينه وطابعه وتاريخه وبيئته ومظاهر حياته عن هذه الآداب .(129/1)
هذا من حيث ناحية النقد ،أما من ناحية أصول الأدب نفسه : اصول الشعر والنثر والقصص والتراجم فلماذا يخضع الأدب العربي لقواعد مستمده من آداب اخرى تختلف عن الأدب العربي :مزاجا وشكلا وطابعا .
وهل يمكن أن هناك أصولا يضعها الأروبيون لتخضع لها الآداب في العالم كله ، واذا قالوا لهم ذلك فهل نقبل نحن ذلك والأدب العربي عريق الجذور وسابق لهذه الآداب كلها من النشأة والتكوين ، هل نقبل أن يخضع أدبنا لقواعد غريبة عنه ، بينما شكل أدبنا بوجوده خلال أربعة عشر قرنا قواعد وقيما مستمده من جوهره وطوابعه .
أن اختلاف المصادر والمنابع بين الأدب العربي والآداب الأخرى الغربية يجعل من العسير خضوع الأدبين لمقاييس واحده ، أو لقوانين واحده ، والمعروف أن الآداب الغربية جميعا تستمد مصادرها من الأدب الهلينى والفلسفة اليونانية والحضارة الرومانية ،فقد أتجه الأدب الأروبي الحديث منذ أول ظهوره في عصر النهضة الي هذه المنابع وربط نفسه بها وجعلها أساسا ثابتا لمختلف وجهات نظره ومفاهيمه وقيمه ، واتخذ من النظرات التي قدمها أرسطو في الأدب والنقد والشعر وغيره أساسا له .
وهذه الحصيلة التاريخية الضخمة وهذا التراث الاغريقى الروماني المسيحي يقوم علي أساس يختلف اختلافا واضحا عن الأساس الذي يقوم عليه الأدب العربي الذي أستمد مصدره أساسا من القرآن الكريم و الاسلام وانصهرت معها ،ومن هنا كان ذلك الخلاف الواضح ، والتباين الكبير بين المشاعر والعواطف والأحساسيس في كلا الأدبين .
الأدب الذي استمد وجوده من التوحيد والنبوة ، والثقة بالله ،والنظر الي الكون بمنظار السماحة والتفاؤل والايمان ، وهو ما كونته طبيعة البيئة العربية بالأضافة الي ما صاغة الاسلام في النفس العربية من عقيدة ، وبين الأدب الذى يستمد وجوده من بيئة تتصارع الانسان ويصرعها الانسان ويصرعها النسان ويصرعها الانسان ومن أجواء مضببة تقاسي جو الجبال الصخرية ، وظلام الليالي الطويلة ، وظلال الحياة الغامضة وغلبة السماء المغطاة بالسحب .
لاشك أن هذا الاختلاف البعيد المدي في طبيعة البيئة ،وفي طبيعة النفس الانسانية وانعكاس هذه البيئة عليها يجعل من المستحيل التقاء أدبي العرب والغرب في وجهة واحدة ، أو مشاعر واحدة ،ومن ثم فانة من المستحيل أن يخضع كلا الأدبين الي قوانين واحدة ومناهج في الصياغة والنقد والبيان والمضمون واحدة .
وحيث يطلع النهار في سماء العرب فيملأ الفضاء بالضوء الساطع والشمس المشرقة المشعة ، الانسانية لاشك توجه الحياة في الضياء والنور ، ومن ثم فهي تعبر عنها علي هذا النحو ، ومن ثم فان أدبها لايشكل صور الضباب ، والظلال ،والرمز، والقصة الخيالية الوهمية ، وفي فنون كثيرة تتصل بطبيعة الأرض وبطبيعة النفس الانسانية في الأدب العربي تختلف اختلافا واضحا وجذريا عن مثيلاتها في الأدب الأروبى حيث يشكل الضباب والظلام وعواء الذئاب في الليل والجبال العالية لونا مختلفا وطابعا متباينا .
هذا هو أهم أوجه الخلاف بين الأدبين العربي والغربي ، وهو خلاف عميق أشد العمق متصل بالنفس الانسانية باعثة الأدب ومنشئته ، ومن ثم فان خضوع الأدب العربي لقوانين وقواعد ونظم قامت أساسا في ضوء حصيلة الأدب الأرةبي وفنونه أمر بالغ الخطر 000 وبعيد الأثر .
واذن كان لنا أن نتساءل :فالي متي نظل تابعين لأفكار الغرب ، ومستوردين لمناهج الغرب حتى في أدق ما يتصل بالنفس الانسانية والتععبير عنها ؟ ومتي نصل الي مرحلة الرشد والأصالة والتشكيل الذاتي الصادر من أعماق أدبنا ، أدبنا العريق الذي يسنق الآداب الأروبية بعشرة قرون أو تزيد 00 ؟.(129/2)
أحاديث تتعلق بالحاكم والمحكوم والحكم
جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "... ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته".
في العدل:
ورد في السنة المطهرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل –وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا".
في ظلم الحاكم والوالي وغيرهم:
النبي صلى الله عليه وسلم كان يحذر من ظلم الحاكم والوالي ومن الظلم عموماً ومن شدة تحذيره من ظلم الحاكم كان صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء فيقول: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يسترعيه الله يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :"ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة".
وقال أيضاً: "الظلم ظلمات يوم القيامة".
وقال صلى الله عليه وسلم: " اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
وقال أيضاً:" إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته"، ثم قرأ:?َكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ? [هود :102] .
لا تعطى الإمارة لمن لا يحسنها:
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر رضي الله عنه: " يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم".
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ قال: فضرب على منكبي ثم قال: " يا أبا ذر إن ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الأمانة عليه فيها".
يقول ابن الجوزي: روينا أن بعض بني مروان هرب إلى بلاد الحبشة لما ظهرت ولاية بني العباس فنزل بلادهم فأتاه ملك الحبشة وقال له: ما الذي جاء بك؟ قال: ولي الأمر غيرنا فاستجرت بك فقال: أنتم تزعمون أن نبيكم حرم الخمر فلم شربتموها؟ فقال: إنما يفعل ذلك رعاع الناس ومن لا خلاق لهم. قال: وتقولون إنه حرم الحرير فلم لبستموه؟ فقال: إنما يفعله أتباع لنا. قال: وتخرجون إلى الصيد في طلب عصفور فتنزلون بالقرى فتأخذون أموالهم وتفسدون زروعهم فقال: إنما يفعله الجهال. قال: لا والله بل بارزتم الله بالذنوب فسلبكم الملك.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
ومن كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد توليته الخلافة أنه قال: ( أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حسن فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه).
وكانت سياسة أبي بكر رضي الله عنه الالتزام بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد فيها استشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بالرأي الناتج عن ذلك.
عمر الفاروق رضي الله عنه:
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ( من رأى في اعوجاجاً فليقومه، فقال له رجل: سنقومك ولو بهذا السيف، فأجابه: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم عمر ولو بالسيف).
وقال أيضاً: إني لا أجد يحل لي أن آكل من مالكم إلا ما كنت آكل من مالي الخبز والزيت والخبز والتمر.
وخطب عمر وهو خليفة وعليه أزار فيه اثتنا عشرة رقعة، وكان يدني يده من النار ويقول: يا ابن الخطاب أتصبر على هذا.
عثمان بن عفان رضي الله عنه:
كان رضي الله يصوم الدهر، ويقوم الليل، ويقيل في المسجد، وكان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت، وكان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
كان رضي الله عنه يفرق بيت المال ثم يكنسه ويصلي فيه ركعتين.
قال ضرار بن سعد في وصفه: كان يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما خشن، فأشهد الله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته، يبكي بكاء الحزين وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا إلى تعرضت أم لي تشوفت، هيهات هيهات، غري غيري قد بتتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، عمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه آه من قلة الزاد وطويل الطريق.
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:(130/1)
لما ولي الخلافة قدمت إليه مراكب الخلافة، فقال: مالي ولها، نحُّوها عني وقدموا لي دابتي، فقربت إليه، فجاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنح عني، مالي ولك، إنما أنا رجل من المسلمين، وأمر بالستور فرفعت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فأمر ببيعها، وإدخال ثمنها بيت المال.
راجعه : عبد الحميد أحمد مرشد.
- أخرجه مسلم عن ابن عمر، كتاب الإمارة، باب رقم 5، ج3 برقم 1829.
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة باب 5 فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، ج3 برقم 1827 عن عبد الله بن عمرو.
-أخرجه مسلم ج3، كتاب الإمارة باب 5 برقم 1828.
-أخرجه مسلم ج3، كتاب الإمارة، باب 5 برقم 142.
- مسلم 1/ 125 ، حديث رقم : 142 .
- البخاري 3 / 169 كتاب المظالم ، من حديث عبد الله بن عمر.
- البخاري 3/ 169، كتاب المظالم من حديث عبد الله بن عباس ومسلم ج1 كتاب الإيمان 29 من حديث معاذ بن جبل وابتعاثه إلى اليمن.
- البخاري 6/ 94 تفسير سورة هو من حديث أبي موسى ، وفي مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب 15، تحريم الظلم برقم 61-2583. من حديث أبي موسى كذلك ص1997.
- مسلم 3/1457، حديث رقم: 1826 .
- مسلم 3/1457
- مصنف عبد الرزاق 11/336
- راجع سنن الدارمي باب الفتيا (في المقدمة)1/55
- ابن الجوزي: صفوة الصفوة 1/28، وأحمد بن حنبل: في الزهد : 124.
- الشفاء في مواعظ الملوك والخلفاء لابن الجوزي : 83.
- الشفاء في مواعظ الملوك والخلفاء صـ84.
-صفة الصفوة، 1/315 الأصبهاني في الحلية 1/84.
- صفوة الصفوة: 1/315.
- صفوة الصفوة: 1/315، الأصبهاني في الحلية 1/84، ابن عبد البر في الاستيعاب.
- صفوة الصفوة 2/113، وابن كثير في عمر بن عبد العزيز 106 والسيوطي في تاريخ الخلفاء :231.
- صفوة الصفوة، 2/115، ابن الأثير في الكامل 4/164 وابن كثير: عمر بن عبد العزيز :61.(130/2)
أحاديث رمضانية ضعيفة منتشرة !
...
...
التاريخ : 10/10/2005
الكاتب : تسونامي ... الزوار : 2142
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إليكم أحاديث رمضانية كثر تداولها في المنتديات وهي ضعيفة ، نقلتها لكم للفائدة ...
أولا : حديث (( شهر رمضان أوله رحمه و أوسطه مغفرة و آخره عتق من النار )) حديث منكر .
أنظر : كتاب الضعفاء للعقيلي 2 / 162 و كتاب الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 1 / 165 و كتاب علل الحديث لابن أبي حاتم 1 / 249 و كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني 2 / 262 ، 4/70 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانيا : حديث (( صوموا تصحوا )) حديث ضعيف .
أنظر : كتاب تخريج الإحياء للعراقي 3 / 75 و الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 2 / 357 و كتاب الشذرة في الأحاديث المشتهرة لابن طولون 1 / 479 و كتاب الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني 1 / 259 و كتاب المقاصد الحسنة للسخاوي 1 / 549 و كتاب كشف الخفاء للعجلوني 2 / 539 و كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني 1 / 420 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثالثا : حديث (( من أفطر يوما من رمضان من غير عذر ولامرض لم يقضه صوم الدهر وإن صامه )) حديث ضعيف .
أنظر : كتاب فتح الباري للحافظ ابن حجر 4 / 161 و كتاب مشكاة المصابيح تحقيق الألباني 1 / 626 و كتاب ضعيف سنن الترمذي للألباني حديث رقم 115 و كتاب العلل الواردة في الأحاديث للدار قطني 8 / 270 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابعا : حديث (( إن لله عند كل فطر عتقاء من النار )) حديث ضعيف .
أنظر : كتاب تنزيه الشريعة للكناني 2 / 155 و كتاب الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني 1 / 257 و كتاب الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع والواهي للطرابلسي 12 / 230 و كتاب ذخيرة الحفاظ للقيسراني 2 / 956 و كتاب شعب الإيمان للبيهقي 3 / 304 و كتاب الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 2 / 455 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خامسا : حديث (( لو يعلم العباد مافي رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها ، إن الجنة لتتزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول ……الخ )) حديث ضعيف .
أنظر : كتاب الموضوعات لابن الجوزي 2 / 188 و كتاب تنزيه الشريعة للكناني 2 / 153و كتاب الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني 1 / 254 و كتاب مجمع الزوائد للهيثمي 3 /141 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سادسا : حديث (( اللهم بارك لنا في رجب و شعبان و بلغنا رمضان )) حديث ضعيف .
أنظر : كتاب الأذكار للنووي و كتاب ميزان الاعتدال للذهبي 3 / 96 و كتاب مجمع الزوائد للهيثمي 2 / 165 و كتاب ضعيف الجامع للألباني حديث رقم 4395 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سابعا : حديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول عند الإفطار : (( اللهم لك صمت و على رزقك أفطرت )) حديث ضعيف .
أنظر : كتاب خلاصة البدر المنير لأبن الملقن 1 / 327 حديث رقم 1126 و كتاب تلخيص الحبير للحافظ ابن حجر 2 / 202 حديث رقم 911 و كتاب الأذكار للنووي ص 172 و كتاب مجمع الزوائد للهيثمي 3 / 156 و كتاب ضعيف الجامع للألباني حديث رقم 4349 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثامنا : حديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول : "لكل شيء باب ، وباب العبادة الصوم" .
أورده أبو شجاع في "الفردوس" (رقم 4992) من حديث أبي الدرداء ، وعزاه الحافظ العراقي في "المغني" (رقم 726) لأبي الشيخ في "الثواب" ، وابن المبارك في الزهد ، ولم أجده في المطبوع .
وقد ضعف الحديث شيخنا العلامة الألباني في "الضعيف" (رقم 4720) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاسعا ـ حديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول : "نوم الصائم عبادة" .
رواه ابن صاعد في " مسند ابن أبي أوفى" (رقم 43) ، والبيهقي في "الشعب" (أرقام 3937 ـ 3939) من حديث عبد الله بن أبي أوفي ، ورواه أبو نعيم في "الحلية" 5/83 من حديث ابن مسعود ، والسهمي في :تاريخ جرجان" ص 370 من حديث محمد بن علي بن الحسين الهاشمي .
والحديث ضعفه العراقي في "المغني" (رقم 727) ، ورمز له السيوطي بالضعف في "الجامع الصغير" ص 188 ، وأقره المناوي في "الفيض" (رقم 9293) ، ووافقهما شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ في "الضعيف" (رقم 5972) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عاشرا ـ حديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول : "الصوم نصف الصبر" .
رواه الترمذي في "السنن" (رقم 3519) ، والدارمي كذلك (رقم 659) ، والإمام أحمد في "المسند" 4/260، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (رقم 432) من حديث رجل من بني سليم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحادي عشر ـ حديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول : "الصبر نصف الإيمان" .(131/1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 5/34 ، والقضاعي في "مسند الشهاب" (رقم 158) ، والخطيب في "تاريخه" 13/226 ، وابن الجوزي في "العلل" 1/815 من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا .
ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (رقم 8544) موقوفا على ابن مسعود ، وعلقه البخاري في "الصحيح" أو كتاب الإيمان ، وقال الحافظ في "الفتح" 1/63 : هذا التعليق طرف من أثر وصله الطبراني بسند صحيح ، وبقيته "والصبر نصف الإيمان" ، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" ، والبيهقي في "الزهد" من حديثه مرفوعا ، ولا يثبت رفعه . اهـ .(131/2)
أحاديث فيها بيان وجود الجهاد إلى يوم القيامة
قال أبو داؤد حدثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب ، حدثني معاوية بن صالح ، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي هريرة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الصلاة المكتوبة واجبة خلف كل مسلم ، برَّاً كان أو فاجراً ، وإن عمل الكبائر".
ورواه أيضاً بالسند المذكور عن أبي هريرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برّاً كان أو فاجراً، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر، والصلاة واجبة على كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر".
قال أبو داؤود : حدثنا سعيد بن منصور، ثنا أبو معاوية، ثنا جعفر بن برقان عن يزيد بن أبي نشبة عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة من أصل الإيمان: الكف عمن قال : لا إله إلا الله ، ولا تكفره بذنب ، ولا تخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ، ولا عدل عادل ، والإيمان بالأقدار".
وقال الإمام البخاري ـ في كتاب الجهاد56 ـ :باب الجهاد ماض مع البر والفاجر:
لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" .
حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زكريا ، عن عامر، حدثنا عروة البارقي، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة".
وقد بين الحافظ ابن حجر وجه استدلال البخاري بالحديث المذكور على استمرار الجهاد إلى يوم القيامة مع البر والفاجر، فقال: لأنه ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة، وفسّره بالأجر والمغنم، والمغنَمُ المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، ولم يقيد ذلك بما إذا كان الإمام عادلاً، فدلَّ على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزو مع الإمام العادل أو الجائر...
ثم قال :وهو مثل الحديث: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق... الحديث اهـ.
- سنن أبي داؤود برقم 594,والحديث ضعيف كما قال الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود برقم (120)، باب: إمامة البر والفاجر ص57 .
- سنن أبي داود رقم(2533), والحديث ضعيف ضعفه الألباني في ضعيف أبي داؤود برقم (545) ص249 . وأورده الحافظ بن حجر في الفتح (6/56) كتاب الجهاد والسير ، باب الجهاد ماض مع البر والفاجر برقم (44) – ذكره الحافظ في تعليقه على حديث "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة..) برقم 2852 ، وقال: أخرجه أبو داود وأبو يعلى مرفوعاً وموقوفاً عن أبي هريرة ، ولا بأس بروايته إلا أن مكحولاً لم يسمع من أبي هريرة وذكره في ضعيف الجامع الصغير 2673 ، ومشكاة المصابيح 1125 ، وقال الألباني إن علة ضعفه اختلاط العلاء بن الحارث وعدمه لقيا مكحول لأبي هريرة كما قال الدارقطني اهـ. المشكاة ص351.
- سنن أبي داود رقم (2532), والحديث ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود برقم (544) ص248 ، وفي ضعيف الجامع الصغير وزيادته ص373 وهو في المشكاة برقم (59) ص25 قال الألباني إسناد ضعيف ، فيه مجهول وإن كان معناه صحيح .
ـ أخرجه البخاري في صحيحه 3/1047, برقم: 2695, ومسلم في صحيحه 3/1493, برقم: 1872.
- البخاري ج4 ص34 .
ـ (فتح الباري 6/56).(132/1)
أحبوا بناتكم
المعاملة السيئة في البيت، أو القسوة من الوالدين من أهم الأسباب التي تحدث فراغاً عاطفياً في نفوس وقلوب الشباب، لا سيما البنات وذلك لطبيعتهن المختلفة عن طبيعة الذكور، إضافة إلى أن الابن الشاب ربما كان لديه من المتنفسات ما يصرفه عن التفكير في قسوة والديه والتأثر السلبي بها!
فالقسوة مع الشباب والشابات تجعل الأبناء يهربون أحيانا من واقعهم الذي يعيشونه إلى واقع آخر لعلهم أن يجدوا فيه ما لا يجدوه في بيوتهم، وربما يقع الابن أو البنت في دوامة البحث عن الذات التي تقوده أو تقودها إلى ما لا يحمد عقباه، نتيجة قسوة الوالدين، بل قد يقع أحد الأبناء في خطأ واضح ويعاقبه الوالدان على هذا الخطأ ولكن دون مراعاة لعواقب الأمور ودون وضع العقاب في مكانه الصحيح!
إن البيوت التي تهمل بناتها وإشباعها العاطفي تسلمها وجبة سهلة للفراغ القاتل، فلو كانت أوقات البنات مشغولة ببرامج مخطط لها مع الأسرة، تتناول تبصيرهن بأمور دينهن ودنياهن، وتعودهن على التفكير الصحيح الذي يتجاوبن به مع كل مناحي الحياة، لكانت النتائج مختلفة والثمار يانعة نضرة.
لماذا لا نسكب الحب في قلوب بناتنا لينطلقن في الحياة واثقات من أنفسهن يعرفن ما يردن، ولا يخطئن أهدافهن، وإن تربصت بهم شياطين الإنس والجن، فالفتاة متى ما كانت واثقة من نفسها، يسع سرها صدر أمها، وتنهل من حب أبيها؛ كانت فتاة سوية ناضجة ناجحة، ينتظر منها أن تكون أماً لأبناء متفتحين، قادرين على إعمار الأرض على خير ما يحب الله ورسوله.
إن عنصر بناء الثقة في النشء ذكراً كان أو أنثى من أهم مقومات بناء شخصية هذا النشء، بل إنها أهم من الطعام والكساء، ويجب مراقبتها ومتابعتها وتغذيتها بما ينميها، ويدفعها، فبالحب نستطيع أن نهزم الكثير من المشاكل التي تعوق حياة أبنائنا وبناتنا، على المستويات الأخلاقية والسلوكية والمعرفية، إن الحب إكسير النجاح فهل ننهل منه آباء وأبناء؟
المصدر: لها أون لاين(133/1)
أحداث الساعة في غزة و العراق
الشيخ الدكتور/ لطف الله خوجه
- في غزة: المدينة محاصرة، فيها الناس يقتلون؛ الشيوخ، والأطفال، والنساء يقتلون. والبيوت، والمرافق العامة، والمصالح تدمر. وخيرة الرجال والشباب منهم من يقتل، ومنهم من يعتقل.
- وفي العراق: جنود الاحتلال الأمريكي يغتصبون الفتيات الصغيرات، ويقتلون الأسر الآمنة، من الوريد إلى الوريد، حتى لا يبقى في البيت وليد.
المشكلة خطيرة، هم يعانون منها، ونحن نعاني منها .. أهل العراق وغزة يخوضون حرباً غير متكافئة، ونحن المسلمون عاجزون عن فعل شيء ؟!!!.
فالمشكلة مزدوجة: ظلم وأذى هناك، وهنا عجز معيب عن إيقاف ذلك الظلم والأذى !!!.
الظلم والأذى عدوان بغير حق. والعجز عن إيقافه ضعف عن غير حق !!.
فكلاهما عري من الحق، فليس أنكى من العدوان إلا العجز عن ردعه.
وكلاهما يكونان معا؛ العدوان حصاد الضعف، والضعف بذرة العدوان.
فلولا هذا ما حصل هذا، ولولا هذا ما حصل هذا؛ فالشر في الإنسان كامن، حيث وجد ثغرة بدا فاعتدى، وحيث لم يجد خنس واهتدى.
والثغرة هي الضعف، والضعف هو الوهن، والوهن هو: حب الدنيا، وكراهية الموت. كذلك هذان يكونان معاً، فلولا حب الدنيا ما كُره الموت، وما كرُه الموت إلا لحب الدنيا.
فهذا المحتل المعتدي ما عدا إلا لما وجد في المسلمين: حب الدنيا، وكراهية الموت. فإن حب الدنيا مانع يمنع، وقاطع يقطع، والمسلمون أحبوا الدنيا، فخافوا عليها أن تنقص أو تذهب، فأصابهم الوهن، أو الضعف، أو العجز. فكلما أرادوا فعل شيء يعيد الحق، وينصر المظلوم، وينتصف من الظالم، تذكروا دنياهم، وما جمعوا، وما كنزوا. تذكروا فإذا قلوبهم معلقة بـ: المنصب، والجاه، والرياسة، والمال، والنساء، والولد، والحرث، والأنعام. حولها تطوف، وبين طرائقها تسعى، فذلك ألقى في قلوبهم الوهن والعجز عن القيام بالحق؛ لذا كان العجز عن إيقاف العدوان ضعفا عن غير حق؛ أي ضعف لا يعذر به. بل هو ضعف عن باطل، فما الباطل إلا إضاعة الحق.
ومتى كان حب الدنيا عذرا يعتذر به فيقبل ؟، بل هو أسّ كل بلية، ورأس كل خطيئة.
ولقد كان من أسباب كفر الكافرين، وعذابهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: "وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة".
تمكن حب الدنيا من قلوب المسلمين، فأصابهم الوهن، فنزع من قلوب أعدائهم مهابتهم، فعدوا عليهم عدو الذئاب على الخراف الضالة.!!.
قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "يوشك أن تداعي عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله! فمن قلة يومئذ ؟، قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرعب من قلوب عدوكم؛ لحبكم الدنيا، وكراهيتكم الموت". أحمد
حب الدنيا أوهن القلب؛ أي أضعفه، فصار جبانا. فكره الموت. فنزع الرعب من قلوب العدو، فما عاد يهاب جانب المسلمين، فاعتدى، واحتل، وسفك، واغتصب، ودمر.
وإذا كان كذلك، فلن يكف، فيرتدع، ويعود من حيث أتى، إلا بعود الرعب في قلوبه؛ خوفا وهيبة. ولن يعود إلا بحب المسلمين الموت. ولن يحبوا الموت إلا بكراهية الدنيا.
قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "يوشك أن تداعي عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله! فمن قلة يومئذ ؟، قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرعب من قلوب عدوكم؛ لحبكم الدنيا، وكراهيتكم الموت".
هكذا هي المقدمات والنتائج. فهذا داؤنا، وهذا دواءنا. حب الدنيا داؤنا، وكراهية الدنيا دواءنا.
هذا هو الحل باختصار شديد، لعلاج عجزنا عن إيقاف العدوان على: غزة، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير. وأي بلد مسلم هو تحت الاحتلال.
ومع كونه علاجاً واضحاً، معروفاً، غير معقد، إلا أنه من السهل الممتنع.؟!
عجزنا عنه جميعا إلا القلة. وآية عجزنا: عدوان العدوان على ديارنا، وأنفسنا، وأموالنا، وأعراضنا.
فكيف يمكن تجاوز هذا العجز المعيب ؟
فإنه لا بد من تجاوزه، وإلا فالأمر كما نرى: سيزيد العدوان عدوانه، ويستبيح ما لم يستبح؛ ليكون الآتي أسوأ من الفائت، وهذا قد حصل.
دعونا من: شرعية دولية، والأسرة الدولية، وهيئة الأمم المتحدة، والتسامح، والآخر.!!.
فكل هذه الشعارات، الذي وضعها هو الذي داسها، فوضعها تحت قدمه أمام العالم أجمع، هو الذي يصول ويجول في بلاد المسلمين احتلالا، وإذلالا، وهو الذي يقف مع إسرائيل بالدعم، والعون الكامل، فانحيازه السافر إلى هذه الدولة لا يخفى على أحد.
لكن مسلوبي الإرادة وضعوا تلك الشعارات فوق رؤوسهم، يصيحون بها ليل نهار، جذلين بها فرحين، كأنهم حازوا نصرا غير خاسر. ولو أنهم تعاملوا بها سياسية لكانت لهم فيها مندوحة، يحرجون بها هذا المحتل المخالف لشعاراته، لكنهم آمنوا بها وأخلصوا لها، مع أنهم لا يملكون حيالها أي تأثير، ولا تعديل، وتفعيل.(134/1)
هذا المحتل لا يعرف، وكل محتل، لا يعرف سوى لغة واحدة، لغة لا يفهمها إلا من فهم معنى: حب الموت، وكراهية الدنيا. لا يفهمها أبدا الذي يحب الدنيا، ويكره الموت.
ما عز الإسلام والمسلمون إلا برجال يحبون الموت، رجاء لقاء الله تعالى وثوابه، ويكرهون الدنيا، لما يعلمون من فنائها، وقصرها، وكدرها، وقلتها بالنظر إلى الآخرة.
هكذا كان النبي _صلوات الله وسلامه عليه_، فلا يدع مدع أنه كان يحب الدنيا، بل رفضها في كل موقف، فلم يقبل مالها، ولا ملكها، فعاش على حياة الفقراء، وحذر أصحابه من زهرة الدنيا:
- عن أنس قال: (لم يأكل النبي _صلى الله عليه وسلم_ على خوان حتى مات، وما أكل خبزا مرققا حتى مات). [البخاري، الرقاق، فضل الفقر]
الأمة فيها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، والأمل فيهم، وعلى القادة، والعلماء، والتجار، وأصحاب الرأي، والعموم، عونهم، ونصحهم، وتسديدهم؛ فإنهم سدوا مكاناً لم يسده غيرهم.
- عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل". [البخاري، الرقاق، باب قول النبي: "كن في الدنيا كأنك غريب"]
- عن عمران بن حصين عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء". [البخاري، الرقاق، فضل الفقر]
وهكذا كان أصحابه من بعده رضوان الله عليهم، وهكذا التابعون، وتابع التابعين، أهل القرون المفضلة. فأعز الله _تعالى_ الإسلام والمسلمين، حيث دانت لهم البلاد شرقاً إلى الصين، وغرباً إلى المحيط، وشمالاً إلى أوربا، وجنوباً إلى إفريقيا.
في هذه المدة صار للإسلام دولة عظمى، ليس في الدنيا مثلها. لقد كان الذين يحبون الموت، ويكرهون الدنيا فيها كثير، لا يحصون. ثم لا زالوا يتناقصون، ليكثر مقابلهم الذين يكرهون الموت، ويحبون الدنيا، فكان من أثر ذلك: أن اشتغل الناس بدنياهم، الملوك بملكهم، والتجار بأموالهم، وأهل الأنعام بأنعامهم، وأهل الحرث بحرثهم، وكل صاحب دنيا بدنياه، فتوقفت الفتوحات، وبدأ الضعف يدب إلى الأمة، وكثر الخارجون عليها، وكثر التفرق والاختلاف، والفرق والأحزاب. فوجد العدو الفرصة سانحة للعدوان، فغزا بلاد الإٍسلام الشام ومصر، فاحتل منها المدن والسواحل، حتى احتل بيت المقدس سنة 492هـ في الحملة الصليبية.
في هذه الأثناء كانت طائفة من المسلمين تستعيد هيبتها بالشرط: حب الموت، وكراهية الدنيا. فتسترد البلاد، وتحرر العباد.
وهكذا مضى الأمر سجالا. كلما تحقق المسلمون بالشرط انتصروا، وكلما تخلوا انهزموا. كان ذلك في بعض الأحيان، وبعض البلدان، فالتحقيق الشامل العام من الأمة كلها لشرط الهيبة، لم يتحقق إلا في القرون الأولى المفضلة. ثم أقبل المسلمون بعدها على الدنيا بعامتهم؛ حكاما، ومحكومين، عدا بعض الذين كانوا يذكرون الأمة بوجود هيبتها حية، وإن انحسرت.
حتى كان قرن الاستعمار؛ حيث زالت الهيبة بالكامل بسقوط الخلافة العثمانية، فتكاملت استباحة الأعداء لبلاد الإسلام، بما لم يمر مثله على المسلمين يوماً.
فهي ثلاث مراحل من الهيبة مرت بالمسلمين:
المرحلة الأولى: الهيبة كاملة متمكنة من قلوب العدو، فكان المسلمون في كل معركة ينتصرون، وعز جانبهم، وفتحوا البلاد. وهي المدة من عهد النبوة، إلى الدولة الأموية.
المرحلة الثانية: الهيبة ناقصة ، فاستغل العدو الفرصة، فتمكن من الاحتلال لبعض البلاد، لكن بقية من الهيبة كانت كافية في ردعه عن المزيد. وهي الفترة من الدولة العباسية إلى سقوط الدولة العثمانية.
المرحلة الثالثة: الهيبة مفقودة، فما عاد العدو يأبه للمسلمين، فاستباح كل شيء منهم. وهي المدة من سقوط الخلافة العثمانية إلى اليوم.
ومع عودة روح الجهاد والمقاومة، بدأت الأمة تسترجع شيئا يسيرا من هيبتها، الضرورية اللازمة لبقائها، لزوم الماء والهواء للحياة.
وهو أول الطريق، فتجربة جهاد العدو، وإن كانت من تراث الإسلام وتاريخ المسلمين، إلا أنها اليوم وليدة، حديثة التجربة؛ لاختلاف وسائل المقاومة في هذا العصر.
وقد فتحت على المسلمين أبواب كثيرة يجاهدون منها، لم تفتح من قبل، ليس مقاومة العدو إلا إحداها، والقدرة على مخاطبة جميع العالم، ودعوته إلى الإسلام باب من هذه الأبواب.
وهناك اليوم في الثغور مرابطون، مجاهدون، نحورهم في نحر العدو، بصدورهم يتلقون سلاحه، ومهما قيل عنهم، ومهما نعتوا، فإنهم درع الأمة، وسياج منع عنها كثيراً من الشر، وخفف عنها من كيد العدو بإشغاله، وصرفه عن مزيد من الاستباحة، والعدوان، والاحتلال. وما قد يقع منهم من خطأ فإصلاحه بالاحتضان، والتوجيه، والنصيحة من أهل العلم والرأي.
ونحن في زمان غريب؛ فإنه في كل أمة، يتبوأ مناضلوها، والمقاومون للعدو المحتل فيها المقامات الرفيعة، والشرف الكبير. غير أننا نرى مجاهدينا، والواقفين بطريق العدو، وخططه لاحتلال سائر بلاد الإسلام، يتهمون ولا ينصفون..!!؛ يتهمون بالإرهاب، وبنقصان الوعي والإدراك.(134/2)
أي إرهاب أعظم من أن يحتل الكافر بلاد المسلمين.؟!.
أفيكون هذا المحتل، المستبيح للحرمات، مسالما، متسامحا، يحمل الورد والخير معه. والذي يقاومه، ويجاهده، فيمنعه من احتلال البلاد، إرهابيا ؟!!.
وأي رأي أفسد من الدعوة إلى ترك مقاومة العدو، ليسلم البلاد له على صحفة من الفضة ؟!
أفيكون هذا رأياً، ووعياً، وإدراكاً. والدفاع عن شرف الأمة، واستقلالها نقصا ؟!
لا عجب أن تنقلب الثوابت والموازين؛ لأن لغة العصر اليوم هي لغة المحتل، فهو الذي يملي التصورات، وهو الذي يضع الموازين، فيتبعه من يحبه من كل قلبه. ويخضع له الضعيف العاجز، الذي أحب دنياه، حيث استكثر منها، بحق وبغير حق، فعز عليه نقصانها، أو ذهابها، فبذل كل شيء لتسلم له، فكره الموت، فقاده ذلك إلى الاستخذاء، والخنوع، فسلب الهيبة، فأذلة العدو، وأملى عليه ما يريد، فلم يملك إلا الإجابة؛ فقد استبدل الرعب بالهيبة، فما ربحت تجارته، وما كان من المهتدين.
لكن الأمة فيها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، والأمل فيهم، وعلى القادة، والعلماء، والتجار، وأصحاب الرأي، والعموم، عونهم، ونصحهم، وتسديدهم؛ فإنهم سدوا مكاناً لم يسده غيرهم.(134/3)
أحداث الهجرة
أولاً: الهجرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
1 ـ الهجرة الأولى إلى الحبشة.
2 ـ الهجرة الثانية إلى الحبشة.
3 ـ الهجرة من مكة إلى المدينة.
ثانياً: الرواية الصحيحة للهجرة النبوية من مكة إلى المدينة.
ثالثاً: دروس وعبر من حادثة الهجرة.
رابعاً: التأريخ الهجري.
أولاً: الهجرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث هجرات مشهورة:
1- الهجرة الأولى إلى الحبشة:
كانت هذه الهجرة في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، حيث خرج أحد عشر رجلاً وأربع نسوة مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار فنزلوا بخير دار إلى خير جار أمنوا على دينهم ولم يخشوا ظلما([1]).
2- الهجرة الثانية إلى الحبشة:
بلغ المسلمين وهم بأرض الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة، فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحاً، فرجعوا وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وكانوا أكثر من ثمانين رجلاً، وهي الهجرة الثانية([2]).
3- الهجرة من مكة إلى المدينة النبوية:
وسنفرد لها فصلاً خاصاً بها.
([1]) انظر: فتح الباري (7/ 188).
([2]) انظر: فتح الباري (7/ 189).
ثانياً: أحداث هجرة النبي صلى الله عليه وسلم:
· كان اختيار المدينة مهاجراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم : ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وَهَلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب)) ([1])، وقال صلى الله عليه وسلم : ((إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين)) ([2]).
قال ابن المنير: "كأن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِي دار الهجرة بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أُري الصفة المختصة بالمدينة فتعينت".
· وأول من هاجر إلى المدينة كما تذكر كتب السير هو أبو سلمة بن عبد الأسد، وكان ذلك قبل بيعة العقبة بسنة، وكذلك كان مصعب بن عمير وابن أم مكتوم من أوائل المهاجرين حيث كانا يقرئان الناس القرآن، ثم تتابع المهاجرون فقدم المدينة بلال بن رباح وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر ثم عمر بن الخطاب في عشرين من الصحابة([3]).
· أراد أبو بكر أن يهاجر إلى المدينة وتجهز لذلك فقال له النبي : ((على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي)).وكان ذلك قبل الهجرة بأربعة شهر.
ولم يهاجر أبو بكر رضي الله عنه رجاء أن يكون في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم إن أذن له في الهجرة([4]).
· أجمعت قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر القرآن: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}[الأنفال:30].
· أذن للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة فجاء إلى الصديق في وقت الظهيرة، تقول عائشة: فلما أذن له في الخروج إلى المدينة لم يرعنا إلا وقد أتانا ظهراً . . قال : ((أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج؟!))، قال: الصحبةَ يا رسول الله؟ قال: ((الصحبة)) ([5]).
وكان الصديق قد أعد ناقتين فعرض إحداهما على رسول الله يركبها فقبل وقال: ((بالثمن)) ([6]).
· وبدأ آل أبي بكر بالتجهيز السريع للرحلة، قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب([7]).
· وقد كان خروجهم من مكة ليلاً يقول الصديق: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة([8]).
قال ابن حجر: "أسريت: في سير الليل"([9]).
وكان ذلك في يوم الاثنين أو الخميس، قال الحاكم: "تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين".
قال ابن حجر: "خروجه من مكة كان يوم الخميس، وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين"([10]). فكأنه اعتبر بداية رحلة الهجرة.
· وأوى رسول الله إلى بئر ميمون (في طريق منى) حيث واعد الصديق، ثم دخلا الغار فيما بقي علي بن أبي طالب في فراش النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعمي على قريش خروج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وقد كانت قريش ترميه بالحجارة، وهي تظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم([11]).
· كَمَنَ صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة، فيسمع أخبار قريش، فإذا جاء الظلام انطلق إلى الغار يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار قريش، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، فيما كان عامر بن فهيرة يرعى بغنمه عليهما فيشربان من ألبانها، ويعود عند الغلس إلى رعيان قريش([12]).
· وصلت قريش باقتفاء الأثر إلى غار ثور حتى وقفوا على باب الغار يقول أبو بكر: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا قال : ((ما ظنك باثنين ـ يا أبا بكر ـ الله ثالثهما))([13]).
· وبعد المكث في الغار ثلاثة أيام انطلق النبي وصاحبه صباحاً بصحبة الدليل الليثي وعامر بن فهيرة وقد خلا الطريق لا يمر فيه أحد ([14]) .(135/1)
· وقصد رسول الله وصاحبه صخرة طويلة وإذا براع لرجل من أهل مكة، فحلب لهما ورسول الله نائم، فبرده الصديق له، فاستيقظ رسول الله فشرب ثم شرب الصديق([15]).
· ومر رسول الله وصاحبه بخيمة أم معبد بقُديد، وطلبا منها القِرى، فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها، وعندها شاة هزيلة لا تدر لبناً، فأخذ رسول الله الشاة فمسح ضرعها بيده، ودعا الله وحلب في إناء، حتى علت الرغوة، وشرب منه الجميع([16]).
· وانطلق الركب من طريق الساحل، وشعرت قريش بخيبتها فجعلت لمن قتل رسول الله وصاحبه ديتين فلما جازا قديداً أدركهما سراقة بن مالك المدلجي يقول : فركبت فرسي .. تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عُثَان ساطع في السماء مثل الدخان . . فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت وجئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: ((أخف عنا))، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم([17]).
· وأما الطريق الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته فقد ذكره ابن إسحاق والحاكم فرويا عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار مهاجراً ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة مردفه أبو بكر، وخلفه عبد الله بن أريقط الليثي فسلك بهما أسفل من مكة، ثم مضى بهما حتى هبط بهما على الساحل أسفل من عسفان، ثم استجاز بهما على أسفل أمج، ثم عارض الطريق بعد أن أجاز قديداً، ثم سلك بهما الحجاز، ثم أجاز بهما ثنية المرار، ثم سلك بهما الحفياء، ثم أجاز بهما مدلجة ثقف ثم استبطن بهما مدلجة صحاح ثم سلك بهما مذحج ثم ببطن مذحج من ذي الغصن ثم ببطن ذي كشد ثم أخذ الجباجب ثم سلك ذي سلم من بطن أعلى مدلجة ثم أخذ القاحة ثم هبط العرج ثم سلك ثنية الغائر عن يمين ركوبه ثم هبط بطن ريم فقدم قباء على بني عمرو بن عوف([18]).
وفي الطريق كان الصديق إذا سئل عن النبي قال: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني طريق الخير([19]).
· وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل([20]) .
وقد كان الصحابة يخرجون كل يوم ينتظرون مقدم النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا ارتفعت الشمس عادوا إلى بيوتهم.
· ولما أتى النبي قباء كانت الشمس قد اشتدت فدخلوا بيوتهم، وقدم رسول الله فبصر به يهودي فصرخ : يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون([21]). فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة([22]).
· وبلغ عدد مستقبليه صلى الله عليه وسلم حين جاء المدينة-كما جاء في بعض الروايات- خمسمائة من الأنصار، ودخل والرجال والنساء فوق البيوت، والغلمان في الطرقات يقولون : يا محمد يا رسول الله([23]). يقول البراء: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله([24]).
يقول أنس: فشهدته يوم دخل المدينة، فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه([25]).
· ومشى موكب النبي صلى الله عليه وسلم في طرقات المدينة، وتطلع زعماء الأنصار إلى استضافة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلما مر بأحدهم دعوه للنزول عندهم، فكان يقول لهم: ((دعوا الناقة فإنها مأمورة))، فبركت على باب أبي أيوب([26]).(135/2)
وكانت داره طابقين، يقول أبو أيوب : لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له : يا نبي الله – بأبي أنت وأمي – إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت، فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل. فقال: ((يا أبا أيوب، إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت))، قال: فلقد انكسر حب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، وما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله منه شيء يؤذيه([27]) .
وفي رواية ضعيفة لابن سعد أن مقام النبي في دار أبي أيوب استمر سبعة أشهر([28]).
([1]) أخرجه البخاري ح (6629) ومسلم ح (2272).
([2]) أخرجه البخاري ح3694.
([3]) أخرجه البخاري ح (4657).
([4]) أخرجه البخاري ح (2176).
([5]) أخرجه البخاري ح (2318).
([6]) أخرجه البخاري ح (2318).
([7]) أخرجه البخاري ح (3906).
([8]) أخرجه البخاري ح (1365).
([9]) فتح الباري ح (6/ 623).
([10]) فتح الباري ح (7/ 237).
([11]) أخرجه أحمد ح (3052) وإسناده صحيح.
([12]) أخرجه البخاري ح (3906).
([13]) أخرجه البخاري ح (3653)، ومسلم ح (2381).
([14]) أخرجه البخاري ح (3615).
([15]) أخرجه البخاري ح (3615)، ومسلم ح (2009).
([16]) أخرجه الحاكم ح (4274)، ووافقه الذهبي على تصحيحه.
([17]) أخرجه البخاري ح (3906).
([18]) أخرجه الحاكم ح (4272) وصححه، وسكت عنه الذهبي، وصحح ابن حجر إسناده في الفتح (7/238).
([19]) أخرجه البخاري ح (3911).
([20]) أخرجه الحاكم (3/ 8).
([21]) أخرجه البخاري ح (3906).
([22]) أخرجه البخاري ح (3906).
([23]) أخرجه مسلم ح (2009).
([24]) أخرجه البخاري ح (3925).
([25]) أخرجه أحمد ح (13110).
([26]) أخرجه الطبراني وفيه راو ضعيف.
([27]) أخرجه الحاكم ح (5939) وصححه ووافقه الذهبي.
([28]) الطبقات (1/ 237).
ثالثاً: دروس وعبر من حادثة الهجرة:
- معية الله لأوليائه المؤمنين ونصرته لهم، ويتجلى هذا في حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار من أن تناله أيدي المشركين ثم نجاته من سراقة بن مالك.
- الثقة المطلقة بالله وبنصره وتأييده، ويتجلى هذا الدرس في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما))، ثم في عدم تلفته عندما لحقه سراقة، وكأن الأمر لا يعنيه صلى الله عليه وسلم، ثم في إعطائه صلى الله عليه وسلم سراقة كتاب أمان، وهو الذي يخرج من بلده مهاجراً، لكنه كان يرى نصر الله له ويرقبه ويتيقنه كما يتيقن الشمس في رابعة النهار.
- الأخذ بالأسباب المادية لا ينافي التوكل، فها هو صلى الله عليه وسلم حال هجرته يأخذ شتى الوسائل المادية المتاحة له، فيستخفي بالظهيرة ثم بسواد الليل ثم بتجويف الغار، ويسلك طريقاً غير معتادة، وينطلق جهة الجنوب ومقصده الشمال، ويستعين بكافر قد أمنه ... لكن ذلك كله لم ينسه أن يتوكل على ربه ويعتمد عليه.
وهذه الأسباب التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن كافية لإبعاد قريش عنه، فقد وصلت قريش إلى غار ثور، لكن الله حجبه عنهم فلم يصلوا إليه بسوء.
يقول ابن حجر: "فالتّوكّل لا ينافي تعاطي الأسباب لأنّ التّوكّل عمل القلب وهي عمل البدن، وقد قال إبراهيم عليه السّلام: {وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى}[البقرة:260] وقال عليه الصّلاة والسّلام: ((اعقلها وتوكّل))" ([1]).
وقال الشّيخ أبو محمّد بن أبي جمرة رحمه الله: "مهما أمكن المكلّف فعل شيء من الأسباب المشروعة لا يتوكّل إلا بعد عملها، لئلا يخالف الحكمة, فإذا لم يقدر عليه وطّن نفسه على الرّضا بما قدّره عليه مولاه، ولا يتكلّف من الأسباب ما لا طاقة به له".
قال ابن حجر: الأسباب إذا لم تصادف القدر لا تجدي"([2]).
وقال بعد أن ذكر أقوال العلماء في العلاقة بين الأسباب والتوكل: "والحقّ أنّ من وثق باللّه وأيقن أنّ قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكّله تعاطيه الأسباب اتّباعًا لسنّته وسنّة رسوله, فقد ظاهر صلّى اللّه عليه وسلّم في الحرب بين درعين, ولبس على رأسه المغفر, وأقعد الرّماة على فم الشّعب, وخندق حول المدينة, وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة, وهاجر هو, وتعاطى أسباب الأكل والشّرب, وادّخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السّماء, وهو كان أحقّ الخلق أن يحصل له ذلك, وقال الّذي سأله : أعقل ناقتي أو أدعها ؟ قال : ((اعقلها وتوكّل)) فأشار إلى أنّ الاحتراز لا يدفع التّوكّل, واللّه أعلم"([3]).
- جواز استخدام المعاريض في دفع الشر والبلاء كما صنع الصديق حين كان يخبر من قابله في طريق الهجرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم دليله في الطريق، فيفهم المخاطب أنه طريق السفر، وهو يقصد الطريق إلى الجنة.(135/3)
قال ابن تيمية في بيان جواز استخدام المعاريض في بعض المواطن، بل وجوبها: "وقد يكون واجباً إذا كان دفع ذلك الضرر واجباً ولا يندفع إلا بذلك، مثل التعريض عن دم معصوم وغير ذلك، وتعريض أبي بكر الصديق رضي الله عنه قد يكون من هذا السبيل"([4]).
وبين رحمه الله الفيصل بين ما يحل وما يحرم من المعاريض فقال: "والضابط أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام لأنه كتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرار بالحق والتعريض في الحلف عليه، والشهادة على الإنسان والعقود بأسرها، ووصف العقود عليه والفتيا والتحديث والقضاء إلى غير ذلك، وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب"([5]).
قال ابن حجر: "ومحلّ الجواز فيما يخلّص من الظّلم أو يحصّل الحقّ, وأمّا استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحقّ أو تحصيل الباطل فلا يجوز"([6]).
وقال النووي: "استعمال المعاريض عند الحاجة .... وشرط المعاريض المباحة ألا يضيع بها حقّ أحد"([7]).
- العفة والزهد فيما عند الناس رغم الحاجة إليه درس آخر من دروس الهجرة، حيث عرض سراقة بن مالك عليه الزاد والعون وهو صلى الله عليه وسلم أحوج الناس يومذاك إليه، يقول سراقة: وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: ((أخف عنا)) ([8]).
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله)) ([9]).
- جواز الاستعانة بالمشرك إذا أمن شره ومكره، فقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أرقط فكان دليله في سفره وكان (هادياً خرّيتاً – والخريت الماهر بالهداية – قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه([10]) .
- بذل الصحابة أنفسهم وأموالهم وأهليهم فداء لنبي الله صلى الله عليه وسلم فقد نام علي في فراشه ليلة خروجه، وكان الصديق شريكه في أهوال رحلة الهجرة، فيما جهد ولداه عبد الله وأسماء ومولاه عامر في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من علامات الإيمان وضروراته، قال صلى الله عليه وسلم (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))([11]).
- دلائل صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ثباته في الغار، وحين دهمهم سراقة، وذلك لا يتأتى إلا لمن علم أن ربه لا يسلمه إلى عدوه.
ومنه أيضاً معجزاته عليه الصلاة والسلام فقد ساخت يدَا فرس سراقة لما همه بالسوء، كما حلبت شاة أم معبد وهي عجفاء لم يطرقها فحل -كما جاء في بعض الروايات – لما مسّ صلى الله عليه وسلم ضرعها.
- الاستفادة من الطاقات المختلفة، وكل حسب نوعه وسنه، فقد كان الصديق بحكمته خير رفيق للرسول صلى الله عليه وسلم، فيما تولى الشاب عبد الله بن أبي بكر مهمة تحسس أخبار قريش، وتولى عامر بن فهيرة الخدمة، وتولت أسماء إعداد الجهاز والطعام لهذا الركب.
- استحباب الرفقة في السفر، وأن يكونوا أكثر من واحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب))([12]).
قال الخطابي : "والمنفرد في السّفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه, ولا عنده من يوصي إليه في ماله ويحمل تركته إلى أهله ويورد خبره إليهم, ولا معه في سفره من يعينه على الحمولة, فإذا كانوا ثلاثةً تعاونوا وتناوبوا المهنة والحراسة وصلّوا الجماعة وأحرزوا الحظّ فيها"([13]).
- فضل عبادة الهجرة وعظم ثواب المهاجر حيث قال صلى الله عليه وسلم مخاطباً مكة: ((والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)) ([14])، وفي بيان ما فيها من بلاء قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} [النساء:66]، فجعل ترك الديار والأوطان قرين القتل والموت.
- فضل الصديق وشدة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان له أنيساً وصاحباً في الهجرة وخادماً، فقد كان يحرسه ويخاف عليه ويبرد له اللبن ويؤثره على نفسه ويظله إذا قامت الشمس.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "نطقت بفضله الآيات والأخبار، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار، كلما تليت فضائله علا عليهم الصغار، أترى لم يسمع الروافض الكفار: {ثاني ... الغار} [التوبة: 40]؟!
دعا إلى الإسلام فما تلعثم ولا أبى، وسار على المحبة فما زل ولا كبا، وصبر في مدته من مدى العدى على وقع الشبا، وأكثر في الإنفاق فما قلل حتى تخلل بالعبا([15]) .
تا لله لقد زاد على السبك في كل دينار دينار، {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ}.
من كان قرين النبي في شبابه؟! من ذا الذي سبق إلى الإيمان من أصحابه؟! من الذي أفتى بحضرته سريعًا في جوابه؟! من أول من صلى معه؟! من آخر من صلى به؟! من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه؟! فاعرفوا حق الجار.(135/4)
نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ، وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد الألحاظ، فالمحب يفرح بفضائله والمبغض يغتاظ، حسرة الرافضي أن يفر من مجلس ذكره، ولكن أين الفرار؟!.
كم وقى الرسول بالمال والنفس، وكان أخص به في حياته وهو ضجيعه في الرمس، فضائله جلية وهي خلية عن اللبس، يا عجبًا! من يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار، لقد دخلا غارًا لا يسكنه لابث، فاستوحش الصديق من خوف الحوادث، فقال الرسول: ((ما ظنك باثنين الله الثالث)) فنزلت السكينة فارتفع خوف الحادث، فزال القلق وطاب عيش الماكث، فقام مؤذن النصر ينادي على رؤوس منائر الأمصار (ثاني اثنين إذ هما في الغار).
حبه ـ والله ـ رأس الحنيفية، وبغضه يدل على خبث الطوية، فهو خير الصحابة والقرابة والحجة على ذلك قوية، لولا صحة إمامته ما قيل: ابن الحنفية، مهلاً مهلاً، فإن دم الروافض قد فار.
والله ما أحببناه لهوانا، ولا نعتقد في غيره هوانًا، ولكن أخذنا بقول علي وكفانا: (رضيك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟!).
تا الله لقد أخذت من الروافض بالثأر، تا لله لقد وجب حق الصديق علينا، فنحن نقضي بمدائحه ونقر بما نقر به من السني عينًا، فمن كان رافضيًا فلا يعد إلينا وليقل: لي أعذار([16]).
- اختلف العلماء في توجيه شرب النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الراعي في الطريق، قال المهلّب بن أبي صفرة : "إنّما شرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من لبن تلك الغنم لأنّه كان حينئذ في زمن المكارمة, ولا يعارضه حديثه: ((لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه))، لأنّ ذلك وقع في زمن التّشاحّ, أو الثّاني محمول على التّسوّر والاختلاس، والأوّل لم يقع فيه ذلك بل قدّم أبو بكر سؤال الرّاعي: هل أنت حالب؟ فقال: نعم, كأنّه سأله هل أذن لك صاحب الغنم في حلبها لمن يرد عليك؟ فقال: نعم، أو جرى على العادة المألوفة للعرب في إباحة ذلك والإذن في الحلب على المارّ ولابن السّبيل, فكان كلّ راع مأذونًا له في ذلك .
وقال الدّاوديّ : إنّما شرب من ذلك على أنّه ابن سبيل وله شرب ذلك إذا احتاج, ولا سيّما النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم"([17]).
- أهمية المسجد ودوره في الإسلام، حيث حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه أينما حل، فقد بنى مسجد قباء قبل وصوله المدينة، وكان بناء المسجد النبوي أول أعماله صلى الله عليه وسلم حين وصل المدينة.
وليس هذا آخر الدروس والعبر المستفادة من حادثة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
([1]) رواه الترمذي 2517، فتح الباري (6/ 82).
([2]) فتح الباري (9/ 120).
([3]) فتح الباري (10/ 212).
([4]) الفتاوى الكبرى (3/ 205).
([5]) الفتاوى الكبرى (3/ 206).
([6]) فتح الباري (10/ 594).
([7]) شرح النووي على مسلم (2144).
([8]) أخرجه البخاري ح (3694).
([9]) أخرجه البخاري ح (1361).
([10]) أخرجه البخاري ح (3694).
([11]) أخرجه البخاري ح (15).
([12]) أخرجه أبو داود ح (2107)، والترمذي ح (1174).
([13]) تحفة الأحوذي 5/ 260.
([14]) رواه الترمذي ح (3925) وقال: "حديث حسن غريب صحيح".
([15]) أي: حتى توفي.
([16]) الفوائد (ص 100 ـ 101).
([17]) انظر: فتح الباري لابن حجر (7/ 10).
رابعاً: التأريخ الهجري:
إن من المؤسف جدًا أن نجد اليوم أكثر المسلمين يجهلون التأريخ الهجري ويجهلون الشهور العربية، ولا يحسبون إلا بالتاريخ الإفرنجي أو غيره من التواريخ المبدلة المحرفة، يقول الشيخ أبو يعلى الزواوي رحمه الله: "ومن هنا اعتمد الصحابة التاريخ الهجري منتبهين ومستنبطين، حين استشارهم العبقري الذي يفري الأمور فريًا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنهم، فاتفقوا أن يكون التاريخ من عام الهجرة، وكانوا يؤرخون بالحوادث المشهورة كعام الفيل... ومن الجهل والغفلة بل من العار والشنار أن يؤرخ عربي مسلم بتاريخ جوان وجوليت وحزيران وأغسطس وبشنس وهلم جرا، وبالميلاد المنسوخ بالهجرة، فيترك الناسخ ويجعل الهجرة مهجورة والعياذ بالله، وإن بعض الحكومات كمصر تعمل بهذا وهي مسلمة ويا للغفلة!! والمطلوب كل المطلوب أن تعتبر الهجرة وصاحب الهجرة صلى الله عليه وعلى وآله وصحبه وسلم ومن تبعه وتبعهم من أمته إلى يوم الدين"([1]).
([1]) الثمرة الأولى لجمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين (ص 41، 42).(135/5)
أحسن القصص
28/3/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فلا نزال مع سورة يوسف، نستلهم منها دروساً، ونأخذ منها عبراً، وموقفنا اليوم مع قوله تعالى: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ" (يوسف:3).
ذكر بعض الأدباء أن القصص والأخبار هي "لقاح العقول، ومشكاة الأفهام، وزناد التجارب، ومقياس التيقظ، ومنهاج الاعتبار، وجدد السالك" وهو كذلك، ولهذا كثرت قصص السابقين وأخبار الماضين، في القرآن الكريم، وقد اعتنى القرآن ببيان أخبار الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وقد ساق من أخبار أولي العزم من الرسل ومناظراتهم القطع التي لا تنقضي عجائبها، ولا تنضب فوائدها، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا خص وصْف قصة يوسف في هذه السورة بكونها أحسن القصص؟
للعلماء في ذلك اجتهادات عدة:
فقال بعضهم: سميت أحسن القصص؛ لأنها وردت متكاملة من أولها إلى آخرها في نفس السورة، أما بقية القصص فتذكر في عدة مواضع. قصة موسى -عليه السلام- مثلاً، أشمل موضع ذكرت فيه هو سورة القصص، ومع ذلك فصل فيها في سور أخرى.
وقال آخرون: إنها وصفت بأنها أحسن القصص لاشتمالها على موضوعات متعددة، وأغراض متنوعة، فقد عالجت مسائل تربوية واجتماعية ودعوية وغير ذلك، ولهذا كانت فيها كما قال الله: "آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ" (يوسف: من الآية7)(1).
وذهب بعض أهل المعاني إلى أنها وصفت بذلك؛ لأن كل من ورد فيها كان مآله حسناً وعاقبته طيبة(2) ، فيعقوب رد عليه بصره، وظفر بفلذتي كبده، ويوسف - عليهم السلام - آتاه الله الملك والحكمة وعلمه من تأويل الأحاديث، وإخوته تاب الله عليهم، وحسن حالهم، بل ذكر بعض أهل العلم أن الله اصطفاهم أنبياء، وما فعلوه لا يتعارض مع عصمة الأنبياء؛ لأنهم إنما فعلوا ذلك قبل النبوة، وامرأة العزيز ذكروا لها أخباراً تفيد حسن مآلها، وما جاء في السورة يفيد إقرارها بذنبها، وندمها عليه، وذلك خير، وأهل مصر اجتازوا السبع الشداد، بل كان يأتيهم الناس من أقطارها طلباً لمؤنتهم، وصاحبي السجن أما أحدهما فأسلم ونجا وصار من خاصة الملك، وأما الآخر فدعاه يوسف - عليه السلام - فوافاه أجله وهو مسلم وتلك غنيمة، أما قتله فإن كان بحق فهو كفارة له وإلا فلن يضيع حقه يوم القيامة، وأجره على الله – تعالى-.
ومن أسباب التسمية أن السورة كسائر سور القرآن لها تأثير في حياة الأمم، من عمل بما فيها من مقومات الفوز والنجاح فاز وسعد وآل أمره إلى خير.
وقيل غير ذلك، ومن تعليقات أهل العلم على هذه السورة قول السعدي - رحمه الله - في سبب كونها أحسن القصص: "وذلك لصدقها وسلاسة عبارتها ورونق معانيها"، ثم قال - رحمه الله-: "واعلم أن الله ذكر أنه يقص على رسوله أحسن القصص في هذا الكتاب، ثم ذكر هذه القصة وبسطها، وذكر ما جرى فيها، فعلم بذلك أنها قصة تامة كاملة حسنة، فمن أراد أن يكملها أو يحسنها بما يذكر في الإسرائيليات التي لا يعرف لها سند ولا ناقل وأغلبها كذب، فهو مستدرك على الله، ومكمل لشيء يزعم أنه ناقص، وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحاً، فإن تضاعيف هذه السورة قد ملئت في كثير من التفاسير، من الأكاذيب والأمور الشنيعة المناقضة لما قصه الله - تعالى - بشيء كثير.
فعلى العبد أن يفهم عن الله ما قصه، ويدع ما سوى ذلك مما ليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقل"(3).
وإجمالاً فإن قصص القرآن هي أحسن القصص؛ لصدق معانيها، وللحكم العظيمة المشتملة عليها، فضلاً عن التعقيبات القرآنية، والتوجيهات الربانية، المصاحبة لها، ولاشك أن من أحسن قصص القرآن سورة يوسف التي ناسب ذكر هذه الآية في صدرها، ولهذا قال بعض المفسرين(4) قول الله - تعالى-: "إِذْ قَالَ يُوسُفُ..." (يوسف: من الآية4) بدل اشتمال من قوله: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ" (يوسف: من الآية3).
المفسرون والإسرائيليات:
بعض المفسرين أعرض عنها جملة وتفصيلاً ونقح تفسيره منها واكتفى بالآثار والأخبار ونقول من سبقه من أهل العلم.
وجمع آخر من المفسرين ذكر بعضها وعلق عليه.(136/1)
وطائفة أخيرة أسرفت في النقل وأكثرت دونما تعقيب أو تعليق وفيهم بعض أئمة التفسير، فأشكل ذلك على كثير من عامة المسلمين ممن يكتفون بقول من عرف بالعلم، وقد شاعت بذلك كثير من الخرافات منها القصيدة المشهورة المسجلة على الأشرطة التي تروي قصة يوسف وتعج بالأخطاء، وهنا لابد من الإشارة أن كون العالم المعين ذكر شيئاً ليس كافياً حتى نسلم به، ونصر على صحته، فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ولكل جواد كبوة ولكل حسام نبوة، أما من لا يستطيع أن يميز بين الصحيح والسقيم، فعليه أن يلتزم كتب من عرف بالتحقيق وتحري الصحة من أهل العلم.
والأصل في هذه المسألة أن التشريعات والأحكام لا يجوز التماسها في غير آية محكمة، أو سنة ثابتة، أو ما تفرع عنهما مما دلا على حجيته.
فالرجوع إلى الإسرائيليات التماس حكم لا يجوز ولا ينبغي، ومع ذلك فقد أذن لنا في التحديث عن بني إسرائيل فلا حرج، وفي الصحيح: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، ولعل هذا الإذن جاء بعد تضييق، ولكن ليس المراد بالتحديث العمل بكتبهم، بل أخذ العبر والعظات، والاستفادة مما علمنا صدقه وصوابه، أو حله وجوازه في شرعنا، ولا يخفى أن أخبار الماضين وقصصهم قد تنطوي على فوائد قد يحسن ذكرها في بعض الأحيان، شريطة ألا يتعدى ذلك إلى إحداث تشريع لم يرد في الكتاب أو السنة.
وأخيراً .. قول الله - تعالى-: "وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ" (يوسف: من الآية3) في عقب قوله: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ" (يوسف: من الآية3)، فالمقصود بالغفلة هنا: عدم العلم، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم هذه القصة، ونحوها قبل أن يقصها الله عليه في القرآن. وقيل: لم تكن ملتزماً بوحي قبل نزول القرآن، وإن كان - صلى الله عليه وسلم - يتحنث ويتعبد على ملة إبراهيم.
أسأل الله أن يرزقنا الاعتبار من قصص القرآن، وأن يثبت بها قلوبنا، وأن يرزقنا السير على نهج أولئك الصالحين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا وآله وصحبه أجمعين.
____________
(1) انظر تفسير القرطبي للآية 9/120.
(2) السابق.
(3) ونحواً من هذا أشار إليه ابن كثير في التفسير 2/468.
(4) انظر تفسير الآية عند الزمخشري في الكشاف.(136/2)
أحكام ابن الزنا
السؤال :
ما هي الأحكام الخاصة بابن الزنا هل يعترف به أم لا ، و خاصة إذا لم يكن الرجل متأكداً من أن هدا الطفل ابنه بسبب تكرر وقوع أمّه في الفاحشة ؟
و هل من توبة لي بعد أن وقعت في الفاحشة ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
هاهنا جملة مسائل نتناول كلاً منها على حدةٍ تسهيلاً على السائل ، و تقريباً للحكم بين يديه .
المسألة الأولى : لا يُنسب ابن الزنا إلى أبيه و إن أقرّ به ، لقوله صلى الله عليه و سلّم ( الولد للفراش و للعاهر الحجر ) الذي رواه الشيخان و غيرهما من حديث عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها.
قال الجصاص [ في أحكام القرآن : 5 / 24 ] :
ومن الدليل على أن الزنا قبيح في العقل أن الزانية لا نسب لولدها من قبل الأب إذ ليس بعض الزناة أولى بإلحاقه به من بعض ففيه قطع الأنساب و منع ما يتعلق بها من الحرمات في المواريث و المناكحات و صلة الأرحام و إبطال حق الوالد على الولد و ما جرى مجرى ذلك من الحقوق التي تبطل مع الزنا و ذلك قبيح في العقول مستنكر في العادات ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر .اهـ .
قلتُ : هذا فيما إذا كان الأب معروفاً ، أمّا إذا كان غيرَ معروفٍ على وجه التحديد ، فالأمر أشد ، و لا وجه لنسبةِ ابن الزنا إليه بحالٍ من الأحوال .
المسألة الثانية : لا توارث بين ابن الزنا و والده ، و إن كان معروفاً ، و إذا مات ابن الزنا ورِثَته أمّه و إخوانه لأمّه ، و ليس لأبيه و لا لإخوانه من أبيه حقّ في تركَتِه ، كما أنّه لا يرثهم .
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله [ في الوسيط : 4 / 366 ] : ( و إذا ولدت المرأة من الزنا فهي ترثه و الولد يرثها و التوأمان يتوارثان بأخوة الأم و من ينسب إلى الزنا فلا أبوة له و لا ميراث ) .
المسألة الثالثة : العقد على الحامل ( سواءً كانت مطلّقةً أو أرملةً من زواج صحيح ) فاسدٌ ، و إذا كان حملُها من زنا فالعقد أولى بالفساد ، و لذلك فلا طائل من تحايُل بعض الناس بعد ظهور الحمل من الزنا على المرأة ، لإخفاء الفاحشة و آثارها السيّئة ، بإجبار الزانيَيْن على التعجيل في عقد القران ، بدعوى الستر ، و أنّ الله لا ستّير يحبّ الستر ، لأنّ ما بُني على فاسد فهو فاسد .
المسألة الرابعة : باب التوبة مفتوحٌ ما لم يُغَرغِر العبد ، إلى أن تطلُعَ الشمس من مغربها ، و إذا تاب المذنب توبةً صادقة فلا يقنط من رحمة الله لأنّ الله يغفر الذنوب جميعاً .
و لكن عليه أن يأتي بالتوبة بشروطها ، و هي :
• الإقلاع عن الذنب .
• الندم على ما فات .
• العزم و عقد النيّة على عَدَم العودة إلى الذنب مستَقبَلاً .
• و إذا كان الذنب في حقوق العباد ( كالسرقة و الغش و نحوهما ) فعلى التائب أن يعيد الحقوق إلى أصحابها ، أو أن يستحلّهم قبل فوات الأوان .
هذا و بالله التوفيق .(137/1)
أحكام الأسهم [1/2]
هاني بن عبد الله الجبير 20/7/1427
14/08/2006
- مقدمة:
- تمهيد:
- حقيقة السهم وقيمته:
- عوامل تفاوت قيمة الأسهم السوقية :
- مكان تداول الأسهم
- هل يجوز بيع الأسهم وشراؤها؟
- شروط تداول الأسهم المباحة:
- مقدمة:
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله .
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .
أما بعد :
فإن دين الإسلام هو الدين الذي ختم الله تعالى به الأديان ، وهو الدين الذي لا يقبل الله تعالى من أحد أن يتديّن بغيره ؛ قال تعالى : "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"(1)، فلمّا كان الإسلام بهذه المثابة كان صالحًا لكل زمان ومكان ، ولذا فهو يجمع بين التطور والثبات ، القواعد التي قررها الله تعالى في كتابة وقررها المصطفى –صلى الله عليه وسلم- في سنته وأجمع عليها أئمة الإسلام قواعد ثابتة لا تتغير ولا تتبدل يستضيء بها المجتهد في كل نازلة ومسألة تلم بالمسلمين ، ومهما حصل للمسلمين من قضايا ونوازل حديثة أو قديمة سواء كانت تتعلق بنفس الإنسان أو تجارته أو طريقة تنقله أو بعلاجه وتطبيبه ودوائه فإنّه سيجد في قواعد الشريعة الثابتة بيانًا لحكم هذه المسألة ، ولذا كانت هذه الشريعة متطورة مع ما فيها من الثبات ؛ لأنها وضَعَت القواعد التي يمكن للإنسان أن يعرف من خلالها حكم كل واقعة ، وبذلك يصبح للمجتهد القدرة على أن ينظر في كل نازلة تقع ويبيّن حكمها الشرعي . وهذه الشريعة لم تترك تصرفًا من تصرفات الإنسان إلا وبينت فيه حكمًا يمنّ الله به على من يشاء من عباده ؛ فإنّ الفقه في الدين منة من الله تعالى على عباده لم يعطيها كل أحد ؛ قال صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين) (2).
وبحمد الله فإنَّ هذه الشريعة لا تأتي بشيء يعارض الفطرة، ولذا حث الشرع على تحصيل المال كما قال تعالى: "فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون"(3) وليس جمع المال محظورًا ، إنما المحظور أن يجمع المال من الحرام.
عن أبي برزة الأسلمي أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه، وعن جسمه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه) (4).
فالإنسان مسئول عن هذا المال من حيث طريقة الإنفاق وطريقة الكسب . ولذا فإنَّ معرفة طرق الكسب المباحة وطرق الكسب المحرمة من أهم ما ينبغي لمن أراد أن يدخل في أي تجارة من أنواع التجارات .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقّه في الدين) (5).
وفيما يلي عرض موجز لطريقة اكتساب معاصرة نلقي الضوء عليها بما أرجو أن يكون نافعاً والله الموفق والهادي لا إله إلا هو.
- تمهيد:
نشهد هذا العصر تطورات اقتصاديّة كثيرة تحتّم أن تتم الأعمال عن طريق تكاتف أعداد كبيرة من المساهمين لتجميع مبالغ ضخمة يمكن من خلالها إنشاء المشاريع الكبيرة التي لا يكفي في إنشائها رؤوس أموال بسيطة .
كما توجه كثير من الناس إلى البحث عن طرق يتمكنون بها من استثمار مدخراتهم القليلة، والتي لا يمكنهم من خلالها إنشاء مشاريع مستقلة، وذلك عن طريق اجتماع عدد منهم لتحصيل رأس المال المطلوب.
وتزايدت هذه الحاجة مع تزايد الرغبة في تنويع وتكثير مصادر الدخل لوجود الإكباب على الدنيا والحرص على التزيّد منها ، ولوجود الضغوط الحياتية المعاصرة .
كما أن وجود الشراكات في المنشآت التجارية يحقق لها الاستقرار والاستمرار ؛ لأنها بذلك لا تتأثر بحياة ما لكيها وهذا يدعم النهضة الاقتصادية .
ومن هنا وجدت الحاجة إلى وجود الشركات بأنواعها خاصّة المساهمة منها.
وأصل مبدأ الشراكة موجود في العصور الماضية ، حتى وجدت بعض القواعد المتعلّقة به في مدونات الرومان ، ولذا تناولها الفقهاء في باب مستقل وهو باب الشركة ، وبينوا جملة من أحكامها ، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بمال لخديجة رضي الله عنها ليتاجر به (6) وهذه شراكة بينهما ، ومضاربة بمالها .
ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر وقسمها بين أصحابه ، عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمار مقابل عملهم(7)، وهذا نوع من أنواع المشاركات التي تعتمد على بذل المال من أحد الطرفين ، والقيام بالعمل من الطرف الآخر وهو الذي يسمى : ( شركة المضاربة ) المعروفة في الفقه الإسلامي .
وفي هذا العصر وجدت للشركات تسميات جديدة ، واستحدث لها أساليب جديدة .
ومن هذه الشركات: الشركات المساهمة.
والشركة المساهمة: هي الشركة التي ينقسم رأس مالها إلى أسهم متساوية قابلة للتداول، ويكون الشريك مسئولاً عن ديون الشركة بقدر حصّته(8).(138/1)
وهي شركة تعتمد على جمع أموال المكتتبين على قدر طاقتهم لتحقيق رأس المال المطلوب لها.
وأغراضها متعددة، فقد تكون تجاريّة، أو صناعية، أو زراعية.
وهذه الشركة نوع جديد من المعاملات ينطبق عليها وصف شركة المضاربة، أو شركة العنان والمضاربة، ولكن مع زيادة شروط لم تكن في الشركات السابقة، وهذه الشروط الأصل فيها الإباحة إلا إذا دل دليل على التحريم. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم ، إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا) (9).
قال ابن القيم: " جمهور الفقهاء على أنّ الأصل في العقود والشروط الصحّة، إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح؛ فإنّ الحكم ببطلانها حكمٌ بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنّه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله "(10) .
- حقيقة السهم وقيمته:
السهم نصيب معلوم من رأس مال مشترك لمجموعة من المشتركين، وكل منهم يمثّل جزءًا من أجزاء متساوية، وهو عبارة عن حصّة مشاعة من كامل حجم الشركة ومالكه يملك جزءًا من الشركة(11).
وقيمته لها أنواع(12):
1- قيمة اسميّة وهي التي يعلن عنها في الاكتتاب، وينص عليها في وثيقة الاكتتاب. وهي القيمة التي يدفعها المكتتب .
2- قيمة دفتريّة (حقيقيَّة) وهي النصيب الذي يستحقّه صاحب السهم في صافي أموال الشركة بعد حسم ديونها ويتم تحديده بعد معرفة موجوداتها وممتلكاتها .
3- القيمة السوقية وهي قيمة السهم في السوق عند التداول بالبيع والشراء.
فإذا حُلّت الشركة وانتهت نقدر قيمة السهم بالقيمة الحقيقية فقط والمفترض أن تكون قيمة السهم السوقيّة مماثلة لقيمته الحقيقيّة ، لكن بعض الظروف قد تؤثر على قيمة السهم السوقية.
- عوامل تفاوت قيمة الأسهم السوقية :
القيمة السوقية يتحكم فيه:
1- العرض والطلب.
2- الأمل المعقود على الشركة في نوعية إنتاجها والحصول على أرباح منها .
3- ما تدفعه من أرباح للمساهمين .
4- الأوضاع والظروف السياسية للدولة، فالدول المستقرة ترتفع فيها قيمة الأسهم والدول غير المستقرة سياسيًا تنخفض قيمة الأسهم فيها.
- مكان تداول الأسهم(13):
يتم تداول الأسهم في سوق أسهم قد يسمّى: (بورصة الأسهم). والبورصة سوق منظّم تنظيمًا خاصًّا، تتم العمليات فيه بواسطة وسطاء.
وأسواق الأسهم قد تكون أسواقًا أوليَّة، وهي التي يتم فيها إصدار الأسهم، أما الأسواق الثانويّة فهي التي تتم فيها تداول الأسهم.
والآن في المملكة العربيّة السعوديّة يتم إصدار الأسهم وتداولها عبر البنوك؛ لأنّه لا توجد أسواق خاصّة بالأسهم.
- هل يجوز بيع الأسهم وشراؤها؟
استقر رأي جماهير الفقهاء المعاصرين على جواز تداول الأسهم المباحة، وبعض الفقهاء يحرم تداولها ومن أدلّتهم:
1- أنَّ السهم جزء مجهول من رأس مال الشركة لا يعلم تحديده وبيع المجهول لا يجوز؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر(14).
2- أن جزءًا من السهم أموال نقديّة ، أو ديون فبيع السهم مع اشتماله على ذلك دون تحديد مقداره تمامًا يكون مبادلة مال ربوي بمثله مع الجهل بالتماثل ، والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل .
ويمكن أن يجاب عن ذلك:
1- بأنه يمكن تحديد مقدار السهم ومكوناته من خلال دراسة القوائم المالية للشركة ، ولو بقي بعد ذلك جهالة يسيرة فإنها تكون مغتفرة للقاعدة المعلومة من اغتفار اليسير ، خاصّةً وأن تتبع الجزئيات في مثل هذا فيه حرج ومشقّة ومن القواعد المقررة أن المشقّة تجلب التيسير .
2- وأمّا النقود والديون في الشركة فإنّها تابعة غير مقصودة ، وبذلك لا يكون لها حكم مستقل بل تكون تابعة لغيرها والقاعدة المتقررة في الفقه أنه يجوز تبعًا مالا يجوز استقلالاً .
ويدل على هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتاع عبدًا فماله للذي باعه. إلاّ أن يشترطه المبتاع) (15).
فصح دخول المال في هذه المعاوضة لكونه تابعًا ، وسواء كان مال العبد موجودًا أو في ذمم الناس .
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى : الأمرُ المجتمع عليه عندنا أنَّ المبتاع إن اشترط مال العبد فهو له ، نقدًا كان أو دينًا أو عرضًا ، يُعْلم أو لا يُعْلم ، وإن كان للعبد من المال أكثر مما اشترى به ، كان ثمنه نقدًا أو دينًا أو عرضًا(16).
وبما سبق يظهر جواز بيع الأسهم والله أعلم(17).
- شروط تداول الأسهم المباحة:
ما سبق من أنّ الصواب إباحة تداول الأسهم مشروط بشروط، وليست الإباحة مطلقة وهذه الشروط و الضوابط هي:
1- أن يكون موضوع نشاط الشركة مباحًا وسيأتي تفصيل لهذا الضابط .
2- أن يكون تداول الأسهم بعد أن تبدأ الشركة في نشاطها الفعلي وذلك بأن تتملك بعض الأصول أو تشرع في بعض أعمالها أمّا قبل بدئها في نشاطها الفعلي فإنّه لا يجوز بيع الأسهم إلا بالقيمة الاسمية لها فقط.(138/2)
والسبب أنَّ السهم قبل بدء الشركة في نشاطها الفعلي عبارة عن نقود فقط فإذا باع الإنسان سهمه فيكون قد باع نقدًا بنقدٍ فهنا لابد من التقابض والتماثل . أما إذا شرعت الشركة في نشاطها وتحولت أموالها - أو بعضها - إلى سلع وخدمات فهنا تخرج عن مسألة الصرف ويكون النقد تابعًا كما سبق.
3- من أهل العلم من يشترط لجواز شراء الأسهم أن يكون المقصود اقتناء وتملك الأسهم، أما اتخاذ الأسهم سلعة تباع وتشترى بقصد كسب فرق السّعر المتغيّر دون أن يكون له غرض في أسهم الشركة ولا يريد تملك أسهمها فهذا محرم عنده(18).
ومع وجاهة هذا القول إلا أنّه يخالف المعلوم من إباحة البيع والشراء سواء كانت رغبة المشتري تملك الشيء أو بيعه بعد رواجه.
|1|2|
________________________________________
(1) سورة آل عمران آية 85 .
(2) صحيح البخاري ( 71 ) ؛ صحيح مسلم ( 1037 ) .
(3) سورة العنكبوت آية 17 .
(4) سنن الترمذي ( 2417 ) وقال حديث حسن صحيح .
(5) سنن الترمذي ( 487 ) وقال هذا حديث حسن غريب.
(6) المستدرك للحاكم ( 3/182 ) وصححه وأقره الذهبي ؛ مصنف عبد الرزاق ( 5/319 ) وهو مشهور في كتب السيرة وإن كانت أسانيده ضعيفة .
(7) صحيح البخاري ( 2285 ) ؛ صحيح مسلم ( 1551 ) .
(8) الشركات التجارية في النظام السعودي ، الغرفة التجارية الصناعية بالرياض ص 42 .
(9) أخرجه البخاري معلقًا مجزومًا به في كتاب الإجارة باب أجرة السمسرة ، سنن الترمذي ( 1352 ) ؛ سنن أبي داوود ( 3594 ) ؛ سنن ابن ماجة ( 2353 ) ؛ مسند أحمد ( 366/2 ) وسنده حسن .
(10) إعلام الموقعين ( 1/344 ) . وانظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ( 29/346 ) .
(11) فقه الزكاة ، د. يوسف القرضاوي ( 1/521 ) .
(12) الشركات في النظام السعودي ، عبد العزيز الخياط ( 2/95 ) ؛ الأسهم والسندات وأحكامها ، أحمد الخليل ص 61 .
(13) انظر : أحكام السوق في الإسلام ، أحمد الدريويش ص 49 فما بعدها .
(14) صحيح مسلم ( 1513 ) .
(15) صحيح البخاري ( 2379 ) ؛ صحيح مسلم ( 3905 ) ( 1543 ) .
(16) الموطأ ص 394 ، كتاب البيوع ، باب ما جاء في مال المملوك .
(17) انظر فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم ( 7/42 ، 43 ) ؛ الشركات للشيخ علي الخفيف ص 96 ، 97 ؛ المعاملات المالية المعاصرة لعثمان شبّير ص 167 ، 168.
(18) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السابع ( 1/270 ، 576 ).
أحكام الأسهم [2/2]
هاني بن عبد الله الجبير 29/7/1427
23/08/2006
أقسام الشركات من حيث حكم نشاطها
حكم تداول أسهم الشركات حسب نشاطها:
كيفية التخلص من الأرباح الحاصلة عن التعامل بالأسهم المحرمة :
بيع حق الاكتتاب :
مخالفات شرعيّة في تداول الأسهم:
حكم علاوة الإصدار:
زكاة الأسهم:
أقسام الشركات من حيث حكم نشاطها:
تنقسم الشركات إلى ثلاثة أقسام :
(1) شركات محرمة محظورة وهي التي أُنشئت أصلاً للمتاجرة في المحرمات مثل شركة أُنشئت لبيع الخمور، أو أُنشئت للعقود المحرمة مثل شركات التأمين التجاري، والمصارف الربويّة فهذه لا يجوز للإنسان أن يساهم فيها ولا أن يكتتب فيها ولا يجوز إنشاؤها ولا التصرف فيها بيعًا وشراءً .
(2) شركات أصل نشاطها مباح لكن دخل عليها بعض الاستثمارات المحرمة مثل التمويلات والاستثمارات المحرمة كقروض ربوية أو بعض العقود الفاسدة وهذه يسميها المعاصرون: (شركات مختلطة).
(3) شركات أصل نشاطها مباح ولم تتعاطَ العقود المحرمة والاستثمارات غير المباحة ويسميها المعاصرون: (شركات نقية) وهذا التقسيم إجمالي.
ولابد عند إرادة الحكم على الشركة أن يراعى هل تتعامل بعقود محرمة أو لها استثمارات محرمة سواء في الربا أو غيره من المعاملات وسواء في ذلك القوائم الأخيرة أو ما قبلها ، وأن لا يكتفى بآخر القوائم المالية ، حتى يتحقق من وجود المال المحرم من عدمه .
حكم تداول أسهم الشركات حسب نشاطها:
أولاً : لا شك أن كل من يرضى بإجراء العقود المحرمة والاستثمارات المحرمة أنه آثم ومعرض نفسه للوعيد الشديد الذي بينه الله تعالى في كتابه وبينه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته والإنسان أيضًا لا يجوز له عند أي من فقهاء الإسلام أن يأكل جزء من المال المحرم بل لابد أن يخرج الحرام من ماله .
كذلك كل من يستطيع أن يمنع الشركة من تعاطي العقود المحرمة بأن كان عضوًا في الجمعية العمومية للشركة، أو عضوًا في مجلس الإدارة، ويستطيع أن يمنع شيئًا من المحرمات فإنه لابد أن يمنعه، وإذا لم يمنع هذا العقد المحرم فهو آثم .
والشركة التي أصل نشاطها غير مباح لا يجوز للإنسان أن يساهم فيها والله تعالى يقول : "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون[البقرة:278-279] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء ) (1).(138/3)
والسبب في هذا أن الشريك موكّل للعامل في المال، ولا يجوز للإنسان أن يوكل شخصًا أن يأخذ له ربا، أو يجري له عقدًا محرّمًا.
قال ابن القيم رحمه الله: "المضارب (يعني العامل الذي يأخذ الأموال ويتاجر فيها) أمين وأجير ووكيل وشريك فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرّف فيه، وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل، وشريك إذا ظهر فيه الربح "(2)
كما لا يجوز لشخص أن يوكّل أحداً أن يعمل له عملاً محرّمًا أو يجري له عقدًا فاسدًا أو يستثمر له استثمارًا محظورًا ، فكذلك لا يجوز للإنسان أن يشترك مع إنسان آخر ليجري له عقودًا محرمة بحكم الشراكة .
ومن هنا نعلم أن التعامل بأسهم سلة شركات مساهمة لا يعرف حقيقة نشاط تلك الشركات ولا يلتزم القائمون عليها كونها مباحة النشاط، لا ينبغي لجهالة حالها.
ثانيًا: الشركات النقية إذا تحقق فعلاً أنها نقية فإنه لا حرج في تداول أسهمها وتملكها والمشاركة فيها سواء بالاكتتاب أو المضاربة.
ثالثًا : الشركات المختلطة هذه لا إشكال أن مجلس الإدارة فيها يأثم لتعاطيه العقود الفاسدة ، ولا إشكال أيضًا أن الإنسان إذا حصّل ربحًا من شركة مختلطة أنه لابد أن يخرج الجزء الذي يقابل نسبة الحرام في الشركة .
وقد اختلف فقهاء العصر في حكم تداول أسهم هذه الشركات والمشاركة معها والمساهمة فيها على أقوال:
وهي التحريم مطلقًا، والإباحة مطلقًا، والتفريق بين ما تكون نسبة الحرام فيه قليلةً وبين ما تكون نسبته فيه كثيرةً، على تفاوت بينهم في تحديد النسبة المذكورة.
والمختار من هذه الأقوال هو تحريم الاكتتاب في الشركات المختلطة وبيعها وشرائها.
وهو الذي قرره مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته السابعة(3).
واختارته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية(4).
وسبب التحريم: أن يد الشريك هي نفس يد الآخر في الحكم، وكما لا يجوز للإنسان أن يباشر الحرام بنفسه فإنه يحرم عليه أن يباشره بواسطة وكيله، وتقدم أن الشريك وكيل. قال ابن القيم رحمه الله: " وما باعوه – أي أهل الذِّمة – من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم جاز لهم شركتهم في ثمنه، وثمنه حلال لاعتقادهم حله، وما باعوه واشتروه بمال الشركة فالعقد فيه فاسد؛ فإن الشريك وكيل، والعقد يقع للموكّل "(5).
وقد ذكر السيوطي قاعدة في الأشباه والنظائر(6) فقال: من صحّت منه مباشرة الشيء صح توكيله فيه غيره، وتوكله فيه عن غيره، وإلا فلا.
كما أن المال الحرام يشيع في مال الشركة وإخراج النسبة المحرمة من سهمه فقط قد تطهر المال ؛ لأنه ستبقى فيه حصّة شائعة من الحرام عند بعض أهل العلم قال ابن رشد : " لا يجوز له أن يأكل منه شيئًا - أي من ماله الذي خالطه الربا - حتى يرد ما فيه من الربا ؛ لاختلاطه بجميع ماله وكونه شائعًا فيه "(7).
كما أن في هذه المساهمة تعاونًا على الإثم وقد نهى الله عنه بقوله تعالى: "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"(8).
وفيه استمراء للربا، وتعطيل للسعي لتحويل الاستثمارات إلى استثمارات شرعيّة خالصة.
كيفية التخلص من الأرباح الحاصلة عن التعامل بالأسهم المحرمة :
من المهم بداية أن نقرّر أن من تعامل معاملة يعتقد أنها صحيحة بناء على اجتهاد أو فتوى وحصل التقابض فيها ثم تبيّن له ترجيح أنّها غير مباحة وأنه أخطأ فأخذه وتصرفه بهذا المال الحاصل من المعاملة المذكورة لا حرج فيه ، وإنما عليه أن يمتنع في المستقبل عنها .
قال ابن تيمية : " وهكذا كل عقدٍ اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقرير ... فإنّ هذه العقود إذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة ، لم تنقض بعد ذلك ، لا بحكم ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد .
أمّا إذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل القبض أو استفتياه ، إذا تبيّن لهما الخطأ فرجع عن الرأي الأوّل فما كان قد قبض بالاعتقاد الأوّل أُمضي ، وإذا كان قد بقي في الذمة رأس المال وزيادة ربويّة اسقطت الزيادة ورجع إلى رأس المال ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأوّل "(9).
أمّا إذا كان إقدامه على المعاملة دون استفتاء أو اجتهاد فإن الواجب عليه أن يخرج من ماله ما كان فيه من حرام لأنه لا عذر له.
وعليه من أراد التخلص من المال المحرم الذي دخله بمثل هذه العقود فإنه لا يخلو من أحد ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يقبض ربحًا من عائد أسهمه، فهذا عليه أن يخرج نسبة العقود المحرمة والاستثمارات غير المباحة من الربح.
الحالة الثانية: أن يحصّل ربحًا نتيجة ارتفاع سعر السهم والمضاربة به فهذا عليه أن يخرج النسبة المحرمة من قيمة السهم كاملة؛ لأنّه قد باع حلالاً وحرامًا فصح في الحلال دون الحرام كمسائل تفريق الصفقة.
فإن علم مقدار الحرام وإلا تحرى وأخرج ما تطمئن إليه نفسه أن به يطيب ماله .(138/4)
الحالة الثالثة : أن يحصّل ربحًا من بيع أسهم محرمة (غير مختلطة) فهنا يكون قد باع حرامًا لا شبهة فيه فعليه أن يخرج كامل القيمة التي حصلها، فإنّ ما حرم شراؤه حرم بيعه(10).
والمراد بإخراج القيمة أو النسبة أن ينفقها في وجوه البر، بقصد التخلّص من المال الحرام، وليس بنيّة الصدقة؛ لأنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيبًا.
بيع حق الاكتتاب :
والمقصود أن يمكّن شخصٌ غيره من أخذ أوراقه الثبوتية المتضمنة لاسمه وأسماء أفراد عائلته ليكتتب في إحدى الشركات بأسمائهم ويعطيه في مقابل ذلك مبلغًا ماليًا .
وسبب ذلك أن بعض الشركات قد توزع نسبةً من الأسهم لكل مكتتب بمقدار متساوٍ عند كثرة المكتتبين فإذا اكتتب بأسماء كثيرة حصَّل نسبةً أكثر من الأسهم.
وهذا العمل لا يجوز أخذ العوض عليه؛ لأنّ المعقود عليه وهو الاسم الشخصي ليس ملكًا لصاحبه وليس مالاً يقبل المعاوضة، كما لا يمكن اعتباره حقًا معنويًا كالاسم التجاري؛ لأن الاسم التجاري يجذب العملاء ويميّز السلعة أما استعمال الاسم الشخصي فليس له فائدة إلا أخذ نصيب الغير.
ولابد أن يفرّق الإنسان بين ملك المنفعة وملك الانتفاع.
وقد أوضحه القرافي فقال: "تمليك الانتفاع نريد به أن يباشر هو بنفسه فقط، وتمليك المنفعة أعم وأشمل، فيباشر بنفسه، ويمكّن غيره من الانتفاع بعوض وبغير عوض.
مثال الأوّل: سكنى المدارس والرباط والمجالس في الجوامع والمساجد والأسواق، فله أن ينتفع بنفسه فقط. ولو حاول أن يؤجر أو يعاوض عليه امتنع ذلك ..
وأمّا مالك المنفعة فكمن استأجر دارًا أو استعارها فله أن يؤجرها من غيره .." (11)
كما أن بيع الاسم الشخصيّ في حقيقته تحايل على الشركة المكتتب فيها، وعلى النظام العام الذي يقصد توزيع الأسهم بالتعادل بين المكتتبين لتنتفع أكبر شريحة من الناس. ففيه غش وتغرير وهما حرام(12).
مخالفات شرعيّة في تداول الأسهم:
ومن هذه المخالفات : البيع الآجل ، والبيع على المكشوف ، والشراء بالهامش ( المارجن ) ، وأعمال النجش والتجمعات القاصدة للتحكم بسوق الأسهم بما يضر المتعاملين به .
فالبيع الآجل : بيع يتم فيه عقد صفقات لبيع أسهم لكن يشترط فيها أن يكون الدفع والتسليم بعد فترة محددة(13).
والبيع على المكشوف : أن يستقرض المستثمر عددًا من أسهم شركة يتوقع انخفاض قيمتها، ثم يبيعها مباشرة ويسلّم قيمتها لمن اقترضها منه رهنًا .
فإن حصل ما توقعه من انخفاض قيمة السهم فإنه يشتري مثل تلك الأسهم التي اقترضها ويعيدها لمن اقترضها منه، وبذلك يكسب الفرق بين سعر الشراء والبيع(14).
والشراء بالهامش: أن يشتري العميل أسهمًا بمبلغ لا يملكه كاملاً، فيدفع جزءًا من القيمة والباقي يقترضه من البائع بفائدة، ويبقى السهم مرهونًا للبائع ضمانًا لحقوقه(15).
فالبيع الآجل نوع من بيع الدين بالدين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ (16) وانعقد الإجماع على معنى الحديث(17).
قال ابن تيمية: " النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ، وهو المؤخّر بالمؤخّر، .. فالعقود وسائل إلى القبض، وهو المقصود بالعقد، كما أنَّ السلع هي المقصودة بالأثمان، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل.. لما في ذلك من الفساد والظلم المنافي لمقصود الثمنيّة ومقصود العقود "(18).
والشراء بالهامش فيه اقتراض بالربا المحرّم .
والمعاملات الثلاث لا يكون المقصود فيها البيع والشراء الحقيقيّ بل المراد المراهنة والقمار على ارتفاع أو انخفاض الأسعار، فهي معاملات تقوم على المخاطرة، بلا إرادة للتملك ولذا لا يحصل فيها -في العادة- تسليم أوراق مالية بل يعطى أحدهما للآخر فرق السّعر فقط.
والميسر هو كل معاملة لا يخلو الداخل فيها من أن يغرم أو يغنم بناء على المخاطرة فقط(19).
ولذا قال جمع من السلف: الميسر كل شيء فيه خطر(20).
ولا شك أن نسبة المخاطرة في أسواق الأسهم مرتفعة جدًا، ولا نلبث أن نسمع عن أضرار كبيرة لحقت بالمضاربين جراء ما في هذه الأسواق من مخاطرة. وهذه الأضرار تكفي للمنع من هذه الصور مع ما فيها من محاذير.
وكذلك فإن النجش، والاتفاق على التلاعب بالأسعار لأجل الكسب على حساب مستثمرين آخرين محرم ، فإن الشرع لا يبيح اكتساب المال عن طريق خداع الناس ، والإضرار حرام سواء كان بقصد الكسب أو غيره .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من غَشّ فليس منا ) (21).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار ) (22) .
وكل كسب حصل للإنسان بسبب ظلمه لغيره أو خداعه له أو تغريره بالإشاعات، والأعمال الموهمة؛ فهو كسب محرم لا يحل له.
حكم علاوة الإصدار:(138/5)
تعمد بعض الشركات عند طرح أسهمها للاكتتاب أن تضيف إلى قيمة السهم مبلغًا يسمى : رسم إصدار ، أو علاوة إصدار ، يقصد منه أن يغطي تكاليف إجراءات إصدار الأسهم وهذا لا حرج فيه بشرط أن تقدّر تقديرًا مناسبًا يكون ممثلاً فعلاً لما يكلفه إصدار السهم أما لو زادت على ذلك فتكون من أكل أموال المساهمين بالباطل(23).
زكاة الأسهم:
اختلف أهل العلم في كيفيّة زكاة الأسهم على أقوال لعل الراجح منها هو ما صدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي وخلاصته أن تعامل شركات الأسهم كما يعامل الأفراد بأن تخرج الشركة زكاة أسهمها كما يخرج الإنسان الواحد زكاة أمواله بالنظر لمقدار المال ونصابه ونوعه .
فإن لم تزك الشركة أموالها فإنّ المساهم من خلال حسابات الشركة يحسب مقدار الزكاة الواجبة على أسهمه بمعرفته لمقدار الزكاة الواجبة على الشركة إجمالاً ثم يخرج ما يخص أسهمه من الزكاة بنفس الاعتبار السابق.
وإن لم يتمكن من معرفة ذلك فإن كان قد ساهم بقصد الاستفادة من ريع السهم السنوي فتجب الزكاة في الرّيع ربع العشر بعد مضي الحول عليه .
وإن كان قد تملك الأسهم بقصد بيعها عندما ترتفع قيمتها زكّاها زكاة عروض تجارة بأن يخرج ربع العشر من القيمة والربح(24).
وعليه فإنَّ المساهم الذي يقصد الاستفادة من ريع السهم يخرج الزكاة بحساب القيمة الحقيقية للسهم. وأما المضارب الذي يقصد بيعها عند ارتفاع قيمتها فيحسب زكاته على أساس قيمتها السوقية؛ لأنها كعروض التجارة.
|1|2|
________________________________________
(1) صحيح مسلم ( 1598 ) .
(2) بواسطة حاشية الروض المربع للشيخ عبد الرحمن بن قاسم ( 5/253 ) .
(3) مجلة مجمع الفقه الإسلامي ( 7/1/712 ) .
(4) فتاوى اللجنة ( 13/407 ) .
(5) أحكام أهل الذمة ( 1/274 ) .
(6) ص 261 .
(7) البيان والتحصيل ( 18/195 ) .
(8) سورة المائدة آية 2 .
(9) مجموع الفتاوى ( 29/412 ، 413 ) .
(10) هذه المسألة وهي طريقة التخلص من الأرباح لم أقف على تفصيل واف فيها . والذي اخترته ورصدته بعاليه هو ما تطمئن إليه النفس ولولا طبيعة المحاضرات لاحتاج الأمر إلى زيادة بسط في تقريره .
وقد وقفت على قول من يجيز بيع الأسهم المحرمة على أن يسترد البائع رأس ماله فقط ويتصدّق بالباقي ، ويرد عليه أنّه بيع للحرام والحرام غير مملوك ، ورأيت من يجيز أخذ الأرباح كاملة في عمليات مضاربة الأسهم المختلطة بالحرام ويجعل الأسهم عروضًا غير مرتبطةٍ برأس مال الشركة ، وهذا لا أدري كيف يوصف عوائد الأسهم للمستثمرين فيها مادامت ليست جزءًا من رأس المال .
(11) الفروق ( 1/187 ) .
(12) انظر في المعاوضة على الاسم الشخصي : فتاوى اللجنة الدائمة ( 15/106 ) .
(13) أسواق الأوراق المالية ، سمير رضوان ص 332 .
(14) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السادس ( 2/1602 ).
(15) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السادس ( 2/1601 ).
(16) المستدرك للحاكم ( 2/57 ) ؛ سنن الدارقطني ( 3/71 ) ؛ سنن البيهقي ( 5/290 ) وهو حديث ضعيف قال الإمام أحمد : ليس في هذا حديث يصح ، لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين . التلخيص الحبير ( 3/26) ، ومعنى الكالئ بالكالئ أي : الدين بالدين .
(17) الإجماع لابن المنذر ص 104 ؛ مجموع فتاوى ابن تيمية ( 20/512 ) .
(18) مجموع الفتاوى ( 29/472 ) .
(19) شرح المحلي على المنهاج ( 4/226 ) ؛ مجموع فتاوى ابن تيميّة ( 32/242 ) ؛ تفسير القرطبي ( 3/53 ) .
(20) الكشاف للزمخشري ( 1/262 ) ؛ مجموع فتاوى ابن تيمية ( 29/46 ) .
(21) صحيح مسلم ( 101 ) .
(22) سنن ابن ماجة ( 2341 ) ؛ سنن الدارقطني ( 4/228 ) وذكره النووي في الأربعين وقال عنه : حديث حسن ، وله طرق يقوي بعضها بعضًا.
(23) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السابع ( 1/713 ).
(24) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الرابع ( 1/881 ) وفيه عدة أبحاث في هذه المسألة .(138/6)
أحكام الإذن الطبي(الجزء الأول)
الكاتب: الشيخ د.عبد الرحمن بن أحمد الجرعي
التاريخ: 22/05/1427
تقييم:
المحتويات :
المبحث الأول: تعريف الإذن الطبي وتحته مطلبان :
المطلب الأول: تعريف الأذن والطب لغة .
المطلب الثاني: تعريف الإذن الطبي اصطلاحا .
المبحث الثاني: مشروعية الأذن الطبي .
المبحث الثالث: حكم إعطاء الإذن الطبي .
المبحث الرابع: اشتراط إذن المريض .
المطلب الأول: تعريف الإذن , والطب لغة .
1. تعريف الإذن لغة:
من معاني الإذن في اللغة الإباحة: قال في اللسان " أذن له في الشيء إذناً: أباحه له. واستأذنه: طلب منه الإذن (1).
ومن معانيه أيضا: إطلاق الفعل ففي المصباح المنير " أذنت له في كذا: أطلقت له فعله "(2).
ومن معاني الإذن: العلم بالشيء قال في العين " أذنت بهذا الشيء أي علمتُ, وآذنني: أعلمني وفعله بإذني أي بعلمي: وهو في معنى بأمري " (3).
والإذن الحاجب(4) .
والمعاني السابقة تؤدي إلى معنى واحد: فإن إطلاق اليد في التصرف: رفع للقيود وإثبات الحرية للمتصرف (5).
وفُرِّق بين الإذن والإجازة: بأن الإذن لما سيقع, والإجازة لما وقع والإذن يكون بمعنى الإجازة إذا كان لأمر وقع وعلم به الآذن(6).
2. أما الطب:
فيأتي في اللغة بمعانٍ منها: علاج الجسم والنفس, ورجل طبٌ, وطبيب: أي عالم بالطب(7).
والمتطبب الذي يتعاطى علم الطب(8).
ويطلق في اللغة الحذق: يقال رجل طب ٌ وطبيب: الحاذق من الرجال الماهر بعلمه(9).
ومنه قول الشاعر الجاهلي:
فإن تسألوني بالنساء فإنني *** خبير بأدواء النساء طبيب (10)
ويطلق على السحر (11)وفي الحديث ( من طبَّه ؟ قال لبيد بن الأعصم ) (12)أي من سحره, ورجل مطبوب أي مسحور, كَنَوا بالطب عن السحر, تفاؤلاً بالبرء, كما كَنَوا بالسليم عن اللديغ(13).
المطلب الثاني: تعريف الإذن الطبي اصطلاحا
عرف بعض الباحثين الإذن الطبي: بأنه: إقرار المريض بالموافقة على إجراء ما يراه الطبيب مناسبا له من كشف سريري, وتحاليل مخبريه, ووصف الدواء، وغيره من الإجراءات الطبية التي تلزم لتشخيص المرض وعلاجه(14). وليس في التعريف السابق إشارة إلى موافقة ولي أمر المريض عند تعذر أخذ موافقة المريض كما أن فيه شيء من الطول والتفصيلات التي يمكن أن يستغنى عنها.
ويمكن أن نعرف ( الإذن الطبي ) بأنه: موافقة المريض أو وليه على الإجراءات الطبية اللازمة لعلاجه.
- فكلمة ( أو وليه ) مهمة في التعريف لأن المريض قد لا يتمكن من إعطاء الإذن , إما لصغر أو إغماء ونحوه.
- وعبارة الإجراءات الطبية الواردة في التعريف تشمل: الكشف والتحليل والعلاج والعملية.
- كلمة ( اللازمة ) تخرج ما ليس لازما من العلاج ونحوه فلا يدخل ذلك في مسمى الإذن الطبي. والله أعلم
وعلى هذا فأركان الأذن أربعة:
1. الآذن .
2. المأذون له ( الطبيب ).
3. المأذون به ( نوع المعالجة).
4. الصيغة (15)بأنواعها ، كما سيأتي في أنواع الأذن.
المبحث الثاني: مشروعية الإذن الطبي
الإذن الطبي عبارة عن عقد بين الطبيب والمريض يتعهد الطبيب بموجبه أن يعالج المريض وفق الأصول المتعارف عليها عند أهل الطب(16).
والإذن الطبي يرجع إلى إذن الشارع بالتداوي عموما كما في قوله صلى الله عليه وسلم ( تداووا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء ، غير داء واحد ، الهرم) (17).
وبالتالي لا يحلّ الإذن الطبي بالمداواة إلا فيما يجوز شرعاً, فلا يحل للمريض مثلاً أن يأذن لطبيبه بمعالجة محرمة أو قتل له .... الخ
ومما يمكن الاستدلال به على مشروعية إذن المريض بمعالجته ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنه قالت: ( لددنا (18)رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار أن لا تلدّوني فقلنا: كراهية المريض للدواء. فلما أفاق قال: ألم أنهكم أن لا تلدوني, لا يبقى منكم أحد إلا لُدّ غير العباس فإنه لم يشهدكم) (19).
قال النووي " فيه – أي في الحديث- تعزير المتعدي بنحو من فعله الذي تعدى به إلا أن يكون فعلا محرما "(20).
ففي الحديث السابق بيان بأن " أذن المريض البالغ العاقل ضروري لإجراء أمر التداوي, فإذا صرّح المريض أوأشار أنه يرفض نوعاً من أنواع التداوي فله الحق في ذلك, ويكون إجباره على التداوي تعدياً, ويعاقب المتعدي تعزيراً بمثل ما فعل. . . إلا أن يكون ذلك الفعل محرماً كأن سقي المريض خمراً وهو مغمور فلا يسقى الفاعل ذلك, بل يعزر ويعاقب عقوبة رادعة " (21).
فنخلص مما سبق إلى أنه لابد في الأذن الطبي من اجتماع أمرين:
أحدهما: إذن الشرع في المعالجة(22).
الثاني: أذن المريض أو ولية (23).
ويشار هنا إلى أنه لا يجوز الحصول على الأذن الطبي بالإكراه, ولا بإغراء مادي, فلا يجوز مثلاً استغلال حال بعض الأشخاص – كالمساجين مثلاً – فيكرهون على فعل طبي ما.
ولا يجوز استغلال حالة العوز عند بعض الأشخاص كالمساكين والفقراء والمشردين, فيغرون مثلاً ببعض المال لإجراء البحوث والتجارب عليهم(24).(139/1)
وقبل إجراء العلاج يجب على الطبيب المعالج أن يبين للمريض تشخيص مرضه ومدى خطورة الحالة, ومدى نجاح العملية الجراحية , ومختلف المعلومات اللازمة لإيضاح أبعاد الحالة المرضية, حتى يتخذ المريض قراره بالموافقة على هذا العمل الطبي على بينّة من حقائق الأمور(25).
المبحث الثالث:حكم إعطاء الإذن الطبي
إعطاء الإذن الطبي – طلب التداوي – أمر اختلف فيه العلماء على ثلاثة اتجاهات(26):
الاتجاه الأول: المنع من التداوي، وأصحابه على فريقين:
الفريق الأول: أنكر التداوي مطلقا وهم غلاة الصوفية (27)، واستدلوا بأدلة منها:
1)قوله تعالى: ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) (28).
ووجه الدلالة: أن الله قد علم أيام الصحة والمرض، ولو حرص الخلق على دفع المرض ما قدروا، فالواجب على الخلق أن يتركوا التداوي اعتصاما بالله وثقة به.فما دام كل شيء بقضاء وقدر فلا حاجة إلى التداوي (29).
2)حديث: ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) (30)، ووجه الدلالة من هذا الحديث: إن الرقى والتمائم مما يتداوى به ،وفي ذلك إشراك لها مع الله في التوكل فلا تجوز.
الفريق الثاني من المانعين: يرى منع التداوي إن كان يرى الشفاء من الدواء ويعتقد أنه لو لم يعالج لما سلم. وإليه ذهب بعض الحنفية (31)، واستدلوا: بأن الأصل في التداوي الجواز، لكن ما ورد من الأحاديث التي وردت في كراهة التداوي فهو محمول على من كان يرى الشفاء في الدواء ويعتقد أنه لو لم يعالج لما سلم، ونحن نقول لا يجوز لمثل هذا التداوي، جمعا بين الأدلة (32).
الاتجاه الثاني: جواز التداوي وهذا الاتجاه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إباحة التداوي: وهو قول جمهور العلماء من الحنفية(33)، والمالكية(34)، والحنابلة(35).
أدلتهم:
1- حديث: ( نعم , يا عباد الله تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو قال دواء إلا داء واحداً قالوا: يا رسول الله وما هو ؟ قال الهرم ) (36).
2- حديث : ( ما أنزل الله تعالى داء إلا وأنزل له شفاء ) (37)، ثم اختلف أصحاب هذا الفريق أيهما أفضل الفعل أم الترك على فريقين:
- الفريق الأول: قالوا: التداوي أفضل، واختاره جمع من الحنابلة(38) وأدلتهم ما سبق في القول بالإباحة.
- الفريق الثاني: قالوا: الترك أفضل،وهو المنصوص عن أحمد(39)، واستدلوا بما يأتي:
1- حديث ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) (40). ووجه الدلالة: أن هؤلاء الممدوحين تركوا التداوي لتحقيق التوكل فكانت لهم هذه المنزلة العظيمة.
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة سوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي ، قال: ( إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك ) فقالت: أصبر، فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها (41)، ووجه الدلالة: أن هذه المرأة لما اختارت الصبر وترك التداوي دعا لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة فدل على أفضلية ترك التداوي.
القول الثاني: استحباب التداوي وأنه مندوب إليه .
وإليه ذهب الكاساني من الحنفية (42)، واستدلوا بأدلة منها:
1- حديث: (تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم يخلق داء إلا وخلق له دواء إلا السام والهرم) (43).
2- حديث: ( لكل داء دواء فإن أصاب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى) (44).
القول الثالث: كراهية التداوي وهم على فريقين ، الأول يرى كراهة التداوي مطلقا ، وهم بعض السلف (45).
وحُجتهم :
1) حديث السبعين ألفا(46).
2) حديث المرأة السوداء(47).
الفريق الثاني : يرى كراهة التداوي قبل نزول الداء . وهم المالكية (48)، ولعل وجه الكراهة في ذلك أنه اشتغال بأمر يشك في تحققه، وحصول ثمرته موهوم، فيكون من باب العبث .
الاتجاه الثالث: وجوب التداوي، وانقسم هذا الاتجاه إلى فريقين:
الفريق الأول: يرى وجوب التداوي مطلقا، وهو قول لبعض الحنابلة وهو وجه عند الإمام أحمد (49).
ولعل حجة هذا القول: أن التداوي فيه دفع للهلاك عن النفس وهو أمر واجب.
الفريق الثاني: قالوا: يجب التداوي إن علم أن بقاء النفس لا يحصل بغيره، وبه قال بعض الشافعية (50). وبعض الحنابلة(51). وقال به ابن تيميه(52). ولعل دليلهم أن استبقاء النفس إذا كان في قدرة الإنسان أمر واجب ولذلك يحرم على من اضطر إلى أكل الميتة أن يدع الأكل منها وإلا كان آثما، ومثال هذا التداوي الواجب التغذية للضعيف واستخراج الدم(53).
والراجح أن التداوي مندوب إليه في العموم جمعا بين الأدلة التي فيها إرشاد للتداوي وأمر به والأحاديث التي تدل على أن ترك التداوي أفضل.
المبحث الرابع: اشتراط إذن المريض
إذا أراد الطبيب علاج المريض فهل يشترط أذن هذا المريض ؟
لا يخلو الأمر من حالتين:(139/2)
الحالة الأولى: أن يكون المريض مشرفاً على الهلاك, ولا يمكن أخذ إذنه, وتمكن معالجته، ويحتمل بقاؤه حياً بسبب هذه المعالجة. كمثل حوادث السيارات التي يغمى فيها على السائق ولا يوجد من أوليائه أحد, وحالته تستدعي سرعة العلاج حفظاً لحياته.
ففي هذه الحالة يجب على الطبيب مباشرة العلاج دون استئذان وذلك لإنقاذ هذا المريض من الموت(54).
ودليل ما سبق قوله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار "(55).
ووجه الدلالة:
1. أن ترك علاج المريض إذا لم يتمكن من أخذ إذنه، أو إذن وليه في ضرر عظيم قد يؤدي إلى الهلاك فيكون ممنوعاً.
2. أن إنقاذ حياة المريض في هذه الحالة فرض عين على الطبيب مادام قادراً عليه , ولو امتنع عن ذلك كان آثما, وفي ضمانه له - إن مات لعدم وجود إذنه – خلاف(56).
الحالة الثانية: ألا يكون المريض مشرفاً على الهلاك ففي هذه الحالة اتفق الفقهاء (57)على عدم جواز تطبيب المريض إلا بعد أخذ إذنه , فإن خالف ذلك وطببه ضمن الطبيب في هذه الحالة . فإن عالجه بإذنه فمات المريض أو تضرر فلا ضمان(58).
وإنما قيل بتضمين الطبيب في حالة عدم أخذ إذن المريض لأنه فعل فعلا غير مأذون فيه فكان عليه الضمان(59).
وقد نص نظام مزاولة مهنة الطب البشري السعودي في المادة ( 21 ) بأنه يشترط تدخل الطبيب أو الجراح بدون إذن المريض أو بموافقة من يمثله وعلى هذا فإنه إذا تدخل الطبيب أو الجراح بدون إذن المريض وبدون ضرورة توجب الاستشفاء حقت عليه المسؤولية الجزائية لخروج عمله من دائرة الإباحة إلى مجال التعدي(60). ونصت المادة 21 – 1 – ل : على أن تؤخذ موافقة المريض البالغ العاقل سواء كان رجلاً أو امرأة , أو من يمثله إذا كان لا يعتد بإرادته قبل القيام بالعمل الطبي أو الجراحي , وذلك تمشيا مع مضمون خطاب المقام السامي رقم 4 / 2428 / م , وتاريخ 29 / 7 / 1404 هـ , المبني على قرار هيئة كبار العلماء رقم 119 وتاريخ 26 / 5 / 1404 هـ كما نصت المادة 21 – 2 – ل على أنه : يتعين على الطبيب أن يقدِّم الشرح الكافي للمريض أو ولي أمره عن طبيعة العمل الطبي أو الجراحي الذي ينوي القيام (61).
- الإذن الخاص والإذن العام:
- الإذن الشفوي والإذن المكتوب
- من لا يعتبر إذنه
-إذن الأولياء
الإذن الخاص والإذن العام:
ينقسم الأذن الطبي إلى نوعين:
أولا: الإذن المقيد ( الخاص ):
وفيه يفوض المريض الطبيب بإجراء طبي محدد كالختان، أو جراحة استئصال اللوزتين، أو علاج ورم ما، في جسده (62).
وهذه الصفة من الإذن هي الأصل, ولا إشكال في جوازها شرعا مادامت صادرة من صاحب الحق في الإذن وهو المريض, أو من ولية إن لم يكن أهلا للإذن (63).
ثانيا: الإذن المطلق ( العام ):
وفيه يفوض المريض الطبيب بالإجراء الطبي الذي يكون مناسبا دون تقييد وذلك كقوله ( أذنت لك بعلاجي حسب ما تستدعي حالتي ).
وهذا النوع من الإذن يطلبه الأطباء في حالة خوفهم من وجود أمراض تحتاج إلى جراحة مفاجئة لم يكن يعلم عنها المريض , بل ولا الطبيب إلا بعد مباشرة العمل الجراحي.
فيحتاط الطبيب بأخذ هذا النوع من الإذن المطلق لكي يستطيع المعالجة دون تردد أو خوف من المسؤولية (64).
ومثاله: أن يكون الطبيب قد حدد له الإذن باستئصال الزائدة الدودية ( Appendectomy ) مثلا فيجد نفسه أمام سرطان في البطن ( Abdominal Cancer ) أو حمل خارج الرحم) (65) Ectopic Pregnancy ))
وفي مثل هذا النوع ينبغي أن تقيد الأذن بما فيه مصلحة للمريض فلو فعل مالا مصلحة فيه للمريض أو فعل ما ليس له فعله فهو ضامن , ويجب تقييد هذا الإذن بالمعتاد من الأعمال. وإذا بدأ الطبيب الجراح العملية بإذن مقيد ( خاص ) , ثم وجد نفسه مضطراً إلى إجراء جراحي آخر , فإن كان ولي أمر المريض حاضراً أخذ الإذن منه , وإلا نظر الجراح في الحالة , فإن كانت لا تحتمل التأجيل , أو كان في تركها خطر على حياة المريض جاز له إتمام الجراحة بما يراه مناسباً دون انتظار الإذن (66).
لأن الأذن هنا متعذر, ودرءا لمفسدة هلاك المريض فيجوز إجراء العملية بلا إذن في هذه الحالة وأرى أن يكون تصرّف الطبيب هذا مؤيداً برأي لجنة طبية تقدر بقدر الإمكان لمزيد التوثيق من صحة قرار الطبيب, والله أعلم , ويجب على الطبيب هنا أن يسجل في تقرير العملية الأسباب التي دعته لهذا الإجراء الجراحي غير المأذون به (67).
لكن إذا وجد الطبيب أن حالة المريض تحتمل التأجيل فهل له أن يجري هذه العملية الجراحية التي لم يأذن بها المريض؟
أشار بعض الباحثين: إلى أن الطبيب في هذه الحالة مخير بين إجراء العملية وبين تأجيلها فإن أجراها فليس عليه شيء مادام لها مسوغ طبيّ , إن كان إتمامها أصلح للمريض, أو كان تأجيلها يعرّضه لأخطار التخدير والجراحة مرة أخرى (68).(139/3)
والذي يظهر لي والله أعلم أن جواز إجراء العملية في هذه الحالة ينبغي أن يكون مقيدا بما إذا كان سيترتب على تركها خطر محقق أو غالب في المستقبل , وليس مجرد المسوغ الطبي, لأن جواز إجراء مثل هذه العملية بدون إذن المريض إنما كان على خلاف الأصل وهو وجوب إذن المريض فلا يتجاوز به حالات الخطر المحتملة, سداً لذريعة التساهل والتوسع في إجراء مثل هذه العمليات , والله أعلم .
الإذن الشفوي والإذن المكتوب.
أولاً : الإذن الشفوي:
هناك من المعالجات مالا يحتاج إلى إذن مكتوب فيكتفى فيه بالإذن الشفوي, لعدم خطورة هذه الفحوصات والمعالجات على جسم المريض في العادة, ومن أمثلة ذلك:
تحليل الدم، والبول, والبراز, والبصاق, والأشعة العادية التي ليس فيها أي تدخل في جسم المريض وخلع الأسنان ومعالجة الفم ونحوها مما يتم في العيادة دون الحاجة إلى دخول المستشفى أو إعطاء المخدر العام أو النصفي.
ثانياً: الإذن المكتوب:
يرى الدكتور البار أن الإذن المكتوب من المريض البالغ العاقل أو إذن ولي المريض القاصر أو المجنون أو المغمى عليه ينبغي الحصول عليه في الأمور التالية:
1. أي عملية جراحية ما عدا خلع الأسنان ومعالجة الفم التي في العيادة ودون الحاجة لدخول المستشفى أو إعطاء المخدر.
2. إعطاء أي مخدر وخاصة إذا كان التخدير عاما أو نصفياً.
3. إجراء فحوصات فيها تدخل في جسم المريض Invasive مثل المناظير للجهاز الهضمي أو البولي أو التناسلي , ومثل أخذ عينه من الكبد أو الكلى أو الأمعاء أو الرئتين ... ومثل القسطرة لشرايين القلب أو غيرها من الأوعية الدموية ومثل إجراء الأشعة التي فيها تدخل في جسم المريض.
4. إجراء أي علاج كيماوي لمعالجة السرطان أو علاج بالأشعة .
5. تصوير المريض بالآلة التصويرية أو الفيديو وخاصة إذا كان التصوير يشمل الوجه أما تصوير العمليات الجراحية أو غيرها التي لا توضح الوجه الذي يستدل به على الشخص فلا تحتاج إلى إذن
6. إذن المريض في الاستفادة من الأنسجة التي تم إزالتها أثناء عملية أو بعد ولادة, كالاستفادة من المشيمة أو من السقط الذي نزل ميتا لاستعماله في زرع الأعضاء, أو تحنيطه ووضعه في محلول (الفورمالين) لدراسته وتعليم طلبة الطب ليتعرفوا على أنواع الأمراض .
ولا حاجة للإذن في الأنسجة والإفرازات التي قد تشكل خطرا على الصحة العامة, والتي يجب التخلص منها فينبغي الالتزام بالإجراءات التي تفرضها الأنظمة الصحية في هذه الحالة (69).
ثالثا: الإذن بالإشارة:
فإذا كانت إشارة المريض مفهومة اعتبرت في الإذن أو عدمه لما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت " لددنا (70)رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار أن لا تلدوني, فقلنا كراهية المريض للدواء, فلما أفاق قال: ألم أنهكم أن تلدوني, لايبقى منكم أحد إلا لُد , غير العباس فإنه لم يشهدكم" (71) فلإشارة منه صلى الله عليه وسلم لما كانت مفهومة لهم, اعتبرها كالتصريح برفض العلاج. والله أعلم .
من لا يعتبر إذنه:
وهم أربعة:
الأول: إذن الصغير:
إذا عالج الطبيب صبياً بإذنه أو بإذن غير وليّه, فأصابه شيء بسبب هذه المعالجة فهو ضامن (72) وذلك لأن الصبي ليس أهلية الإذن بالمعالجة, فلا بد من إذن وليه, والطبيب ضامن في هذه الحالة , لأنه فعل فعلاً غير مأذون فيه (73).
هذا هو الحكم من حيث الأصل, ويستثنى من ذلك الحالات التي جرى العرف فيها بالمسامحة وعدم استئذان الأولياء, فالعرف معتبر, عملاً بالقاعدة المعروفة " العادة محكمة" (74).
ومن أمثلة ذلك: المعالجات البسيطة التي لا خطر في فعلها, وكذلك ما جرى به العرف من إذن الأولياء بمعالجة أبنائهم عندما يحتاجون للعلاج أثناء فترة الدراسة.
وبالتالي فلا حرج ولا مسؤولية على الطبيب لو أقدم على العلاج في هذه الحالة في هذه الحالات المستثناة (75).
الثاني: المكره:
فالمكره فاقد الاختيار. وقد سبق الكلام عن أخذ الإذن الطبي تحت ضغط الإكراه عند الحديث عن مشروعية الإذن الطبي (76).
الثالث: المغمى عليه أو فاقد الوعي:
سواء كان ذلك فقدانً مؤقتاً بنوم أو مرض أو دواء أو حادثة أو سكر أو تخدير, أو فقداناً دائما بسبب مرض من الأمراض. لعموم الحديث" رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ ,وعن المبتلى- وفي رواية :وعن المجنون- حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر" (77).
الرابع: المجنون: سواء أكان الجنون وفقدان الإدراك والعقل دائما أو مؤقتا , للحديث السابق (78).
إذن الأولياء:
وتحته مسألتان:
المسألة الأولى: اعتبار إذن الأولياء: من حكمة الشريعة أنها اعتبرت الولاية على الغير عند الاحتياج إليها كما في حال السفيه والصبي والمجنون فإن هؤلاء لا يحسنون التصرف لأنفسهم إما بالكلية أو لا يحسنونه على نحو مرضيّ.
وقد رأينا في المبحث السابق أن الصغير والمجنون ونحوها لا يعتبر إذنهما لأنهما لا يحسنان التصرف, واعتبار إذنهما في هذه الحالة فيه ضرر وغبن عليهما.(139/4)
وكان من حكمة الشارع أن اعتبر إذن وليهما الذي ينوب عنهما في اختيار ما يصلح أمرهما, ولم يكلفهما شططا , ويأمرهما بالانتظار وحتى البلوغ أو الإفاقة, لما في ذلك من تفويت مصالحهما وحصول الضرر عليهما.
فكان ذلك – أي اعتبار الولي – محققا لمصالح الصبي والمجنون ورافعاً للمفاسد المترتبة على عدم وجود هذه الولاية (79).
وقد نص ابن قدامه – رحمة الله – على اعتبار إذن الولي في حال عدم أهلية المريض للإذن فقال "وان ختن صبياً بغير إذن وليه, أو قطع سلعة (غدة) من لسانه بغير إذنه, أو من صبي بغير أذن وليه, فسرت جنايته ضمن, لأنه قطع غير مأذون فيه (80).
ومفهوم الكلام السابق أن القطع إذا كان بإذن الولي فهو جائز, وهذا يدل على اعتبار إذن الولي على المريض إذا لم يكن أهلاً لإعطاء الإذن (81).
المسألة الثانية: ترتيب الأولياء في الإذن: يكون ترتيب الأولياء في الإذن بحسب قرابتهم من المريض فالأقرب أولى من الأبعد, فالأبناء أحق القرابة لأن التعصيب بالبنوة مقدم على غيره, ثم الأبوة ويقدم فيها الأب على الأم, لأن ولاية الأب أقوى من ولاية الأم كما أشار إليه بعض الحنفية (82).
ويقوم مقام الأب الجد وإن على, ثم الإخوة الأشقاء ثم الإخوة لأب, ثم بنو الإخوة الأشقاء ثم بنو الإخوة لأب, ثم الأعمام الأشقاء ثم الأعمام لأب, ثم بنو الأعمام الأشقاء ثم بنو الأعمام لأب.
وقد اعتبر الفقهاء يرحمهم الله الترتيب السابق في الإرث وهو مبني على قوة التعصيب (83).
قال الدكتور محمد المختار الشنقيطي " ونظراً لكونه – أي الترتيب السابق بيناً على مراعاة قوة القرب فإنه لا مانع من اعتباره في مسألة الإذن هنا, لأن الترتيب فيها مبني على قوة القرب كالحال في الإرث, وقد اعتمد الفقهاء – رحمهم الله – في ترتيبهم القرابة في بعض المسائل على ترتيبهم في الميراث كما في مسألة تكفين الميت وغسله والصلاة عليه (84).
وبناءً على هذا الترتيب فإنه لا يرجع إلى القريب الأبعد في حال وجود من هو أقرب للميت " اهـ
ويظهر لي والله أعلم – وجاهة ما ذكره الشيخ الفاضل, إلا أنني أرى تقديم ولاية الزوج لزوجته عند الحاجة - كما لو أغمي عليها – على جميع الأقارب لما يلي:
1. ما ورد من النصوص بشأن عظم حق الزوج وتقديم أمره على غيره كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" (85).
2. أن له ولاية على هذه الزوجة.
3. ما بين الزوجين من المودة والرحمة التي امتن الله بها في قوله تعالى: (وجعل بينكم مودة ورحمة). (25) والله أعلم
--------------
(1) ابن منظور ، لسان العرب, مادة ( اذن ) 13 / 10 (2) الفيومي ، المصباح المنير, ص 4 .
(3) الفراهيدي: الخليل بن أحمد ، العين , 8 / 200 .
(4) لسان العرب 13 / 10 .
(5) معجم لغة الفقهاء ص 74 .
(6) حاشية رد المحتار المعروفة بحاشية ابن عابدين 3 / 167 .
(7) لسان العرب , مادة طب , 1 / 553 .
(8) المرجع السابق الصفحة نفسها .
(9) لسان العرب 1 / 553 , والزاوي : طاهر ، ترتيب القاموس المحيط , 1 / 50 .
(10) ابن قتيبة: الشعر والشعراء, ص126،والبيت لعلقمة بن عبده .
(11) لسان العرب 1 / 554 .
(12) أخرجه مسلم في صحيحه 4 / 1719 .
(13) النهاية في غريب الحديث والأثر , لابن الأثير 3 / 110 .
(14) كنعان : أحمد ، الموسوعة الطبية الفقهية , ص 52 .
(15) انظر : د . المختار : محمد , أحكام الجراحة الطبية , 226 , مكتبة الصديق الطائف .
(16) الموسوعة الفقهية الطبية ص 52 .
(17) أخرجه أحمد في المسند 4/278 ، والحديث صحيح كما قاله الألباني في صحيح الجامع 1/565. وسيأتي بيان حكم التداوي بشيء من التفصيل .
(18) أي جعلنا في جانب فمه دواه بغير إرادته ، وهذا هو اللدود ، فأما مايصب في الحلق فيقال له : الوجور (ابن حجر ، فتح الباري 8/147)
(19) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب المغازي ، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته . انظر صحيح البخاري مع الفتح (8/147)
(20) النووي : يحى بن شرف ، شرح صحيح مسلم المسمى بالمنهاج ، 14/199.دار الفكر - بيروت
(21) المسؤولية الطبية وأخلاق الطبيب .
(22) أنظر : المختار : محمد , أحكام الجراحة الطبية , ص 225 .
(23) أنظر : ابن القيم , تحفة المودود , ص 118 ، وأحكام الجراحة ص 237
(24) الموسوعة الطبية الفقهية, ص 53 , 55 .
(25) د . العربي: بالحاج , الأخطاء المدنية والجنائية للأطباء في الفقه الإسلامي , بحث منشور في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد 52 , ص 33، 34.
(26) انظر في تفصيل هذه الاتجاهات الى كتاب د . النتشة :محمد : المسائل الطبية في ضوء الشريعة الإسلامية، ، 1/23 وما بعدها .
(27) شرح النووي على صحيح مسلم 9 / 33 .
(28) سورة الحديد : 22 .
(29) انظر : تفسير القرطبي 17/ 194 ، والنووي على مسلم 9 / 23 .(139/5)
(30) رواه ابن مسعود وأخرجه أحمد( 1/381 ) ،وأبو داود (عون المعبود 10/367) وذكره الحافظ في الفتح وسكت عنه (10/196) وصححه السيوطي في الجامع الصغير (فيض القدير 2 / 342 .
(31) انظر : الزيلعي: تبيين الحقائق 6 / 23 .
(32) انظر : تبيين الحقائق 6 / 32 .
(33) انظر : البابرتي: الهداية مع العناية ي 10 / 66 .
(34) انظر : الدردير , أحمد , الشرح الصغير بهامش بلغة السالك , 2 / 494 , دار الفكر , بيروت .
(35) انظر : المبدع 2 / 213 .
(36) أخرجه أحمد 4 / 278 ، و الترمذي في سننه 4 / 335 .
(37) أخرجه البخاري في صحيحه ( الفتح 10 / 134 ) .
(38) انظر : الإنصاف 2 / 363 ،والمبدع 2 / 213 .
(39) انظر : الفروع 2/165 ، والإنصاف 2/463 .
(40) أخرجه مسلم 1/ 198 برقم 218 .
(41) أخرجه البخاري ، الفتح 10 / 114 ، ومسلم 4 / 1994 برقم 2576 .
(42) انظر : بدائع الصنائع 5 / 127 وهو مذهب الشافعية ( المجموع 5/ 106) .
(43) سبق تخريجه.
(44) أخرجه مسلم 4/ 1729 برقم 2204 .
(45) انظر : القوانين الفقهية 295 ، والبحر الرائق 8/208 .
(46) سبق تخريجه .
(47) سبق تخريجه .
(48) انظر : التداوي والمسؤولة الطبية، نقلا عن القبس شرح الموطأ ص 103.
(49) انظر : الإنصاف 2/463 و مجموع الفتاوى21/564 .
(50) انظر : قليوبي وعميره 1/344 .
(51) انظر : الإنصاف 2 / 463 .
(52) انظر : الفتاوى 18/12.
(53) انظر : الفتاوى 18 / 12 .
(54) أنظر : الزرقاني : شرح مختصر خليل 8 / 8 , والجمل : حاشية شرح المنهج 5 / 7 والانصاف 10 / 50 , والموسوعة الفقهية الكويتية 3 / 154 .
(55) انظر : الموسوعة الفقهية الكويتية 3 / 154 .
(56) انظر : الموسوعة الفقهية الكويتية 3 / 154 .
(57) انظر : ابن عابدين : حاشية رد المحتار 6 / 69 , والدسوقي : الحاشية على اشرح الكبير 4 / 355 , والجمل : الحاشية على المنهج 5 / 24 , والبهوتي :شرح منتهى الإرادات 2 / 377 .
(58) بشرط أن يكون الطبيب حاذقاً وألا تجن يده ( البهوتي , شرح منتهى الإرادات 2 / 377 ) .
(59) انظر : البهوتي , شرح منتهى الإرادات 2 / 377 .
(60) الأخطاء المدنية والجنائية للأطباء في الفقه الإسلامي (دراسة مقارنة مع النظام الطبي السعودي) , بحث منشور في مجلة البحوث الفقهية , العدد 52 ص 32 .
(61) انظر : البار , المسؤولية الطبية , ص 70 .
(62) انظر: أحكام الجراحة ص 277, والموسوعة الطبية الفقهية ص 55 .
(63) انظر: آل الشيخ مبارك: قيس بن محمد, التداوي والمسؤولية الطبية في الشريعة الإسلامية, ص 198.
(64) انظر: أحكام الجراحة ص 227.
(65) انظر: الموسوعة الطبية الفقهية, ص 55.
(66) انظر: الموسوعة الطبية الفقهية, ص 55, ويرى الدكتور قيس آل الشيخ مبارك أن هذا الأمر يُعد من الإذن بالدلالة, لأنا نعلم يقيناً أن أحداً من الناس لا يرضى بإتلاف نفسه ومنافعه وأمواله, ولا يرضى أيضاً بتعريضها للهلاك والتلف , وعدم , رضاه بذلك ينبئ بإذنه في كل ما يكون سبباً في بقائها والحفاظ عليها, ولا شك أن عمل الطبيب هنا فيه حفاظ على حياة المريض وإبقاء بصحته في حالة نفسية حسنة ولذلك فإن فعله يعتبر مأذون فيه دلالة ( انظر: التداوي والمسؤولية الطبية, ص 206 ) .
(67) انظر: الموسوعة الطبية الفقهية, ص55.
(68) انظر : الموسوعة الطبية الفقهية, ص 50 .
(69) انظر: البار : المسؤولية الطبية 87 .
(70) أي جعلنا في جانب فمه دوءاه بغير إرادته، (ابن حجر، فتح الباري 8/147)
(71) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. انظر صحيح البخاري مع الفتح (8/147).
(72) ابن قاضي سماوة: محمود بن محمد بن اسماعيل, جامع الفصولين, 2 / 18, المطبعة الأزهرية – مصر, الدسوقي، الحاشية على الشرح الكبير 4 / 355 دار إحياء الكتب العربية المصرية, الشافعي: محمد بن إدريس, ألام, 6 / 53 , مكتبة المعارف – الرياض , والمرداوي, الإنصاف, 6 / 75 وقيس آل الشيخ مبارك, التداوي والمسؤولية الطبية ص 209 .
(73) انظر: ابن قدامة , المغني, بتحقيق: د. عبدالله التركي, د. عبد الفتاح الحلو، 8/11، دار هجر – القاهرة.
(74) انظر: السيوطي, جلال الدين, الأشباه والنظائر, 89.
(75) انظر: التداوي والمسؤولية الطبية ( مرجع سابق ) ص 210, 211.
(76) انظر: ص 6 من هذا البحث.
(77) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدا، 4/558، والحديث صحيح كما قاله الألباني في إرواء الغليل 2/4.
(78) انظر: البار: المسؤولية الطبية وأخلاق الطبيب, ص 79
(79) أحكام الجراحة ( مرجع سابق ) ص 230 , 231 . (19) المغني ( مرجع سابق ) 8117.
(80) انظر: أحكام الجراحة ص 230.
(81) انظر : الفتاوى الهندية 5 / 357, وأحكام الجراحة ص 231 .
(82) انظر : الفوزان : صالح , التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية , ص 114 , 115 , وأحكام الجراحة ص 231 , 232 .
(83) انظر : أحكام الجراحة , ص 232 .(139/6)
(84) أخرجه الترمذي في جامعه , كتاب الرضاع , باب : ماجاء في حق الزوج على المرأة , 3/465 وقال الترمذي عنه: حديث حسن غريب . وصححه الألباني . انظر: صحيح الجامع 2/937
(85) سورة الروم آية 21 .
أحكام الإذن الطبي(الجزء الثاني)
الكاتب: الشيخ د.عبد الرحمن بن أحمد الجرعي
التاريخ: 06/06/1427
المحتويات :
• الحالات التي يسقط فيها الإذن الطبي
• شروط الإذن
• الإشهاد على إذن المريض
• انتهاء الإذن الطبي
• أسئلة مهمة في الإذن الطبي
• الخاتمة
الحالات التي -يسقط فيها الإذن الطبي
الأصل اشتراط الإذن الطبي, لكن أحوال المرضى, وظروف أوليائهم قد لا تمكنهم من إعطاء الإذن الطبي. ولهذا استثنيت بعض الحالات من اشتراط الإذن الطبي على النحو التالي:
1. الحالات الخطرة التي تهدد حياة المريض بالموت, أو تهدد بتلف عضو من أعضائه, ويكون فيها فاقداً للوعي, أو أن حالته النفسية لا تسمح بأخذ إذنه, ولا يكون وليه حاضراً لأخذ الإذن منه(1).
ومن الأمثلة على هذه: التهاب الزائدة الدودية التي بلغت درجة الخوف من انفجارها ما لم يجر استئصالها بالجراحة, وكذلك جراحات حوادث السيارات التي كثرت في الآونة الأخيرة, فيكون المريض عاجزاً عن إعطاء الإذن, ولا يمكن انتظار أوليائه , فلا مناص من علاجه دون إذن, لكن ينبغي ألا يتم ذلك, إلا بعد أن تقرر لجنة من الأطباء حاجته إلى هذا العلاج أو العملية, زيادة في التثبت لضرورة المعالجة, ولقطع التهمة عن الأطباء في أنهم يحرصون على الجراحة طلباً لمصلحتهم الذاتية(2).
2. الحالات التي تقتضي المصلحة العامة معالجتها, كالأمراض السارية المعدية والتي يشتد خطرها على المجتمع, فإن من حق الدولة أن تفرض التداوي قسراً على المريض حتى لا يضرّ المجتمع, كما أن من حقها أن تعزله في مستشفيات خاصة لذلك . تعرف باسم المحجر الصحي أو مستشفى الحميّات, كما أن هناك مستشفيات خاصة لمعالجة السل الرئوي (الدرن), ومستشفيات أو مستعمرات لمداواة المجذومين .. ويمكن فرض التداوي كذلك في حالة الإصابة بالأمراض الجنسية مثل السيلان والزهري والكلاميديا .. ومن حق الدولة أن تفرض التطعيم والتحصين ضد مجموعة من الأمراض الخطيرة التي تصيب الأطفال والمجتمع مثل تحصينات الأطفال ضد الحصبة والسعال الديكي والدفتريا وشلل الأطفال والدرن. وقد أضيف إليها التحصين ضد التهاب الكبد الفيروسي من نوع B, وللفتيات قبل البلوغ التطعيم ضد الحصبة الألمانية, وكانت الدول تفرض التطعيم عند السفر ضد الجدري والكوليرا والحمى الصفراء وخاصة عند السفر إلى المناطق الموبوءة .. وقد تم بفضل الله سبحانه وتعالى, ثم بفضل حملات التطعيم المتتالية استئصال الجدري الذي كان يقتل الآلاف كل عام(3).
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم لأن مرضه معدٍ فقال "فر من المجذوم كما تفر من الأسد"(4) ولأن في عدم علاج المرض المعدي ضرر والضرر يزال(5). ويُعد عمل الطبيب في هذه الحالة الطارئة واجباً عليه, مادام قادراً على علاج المصاب واستنقاذه, ولو امتنع الطبيب عن العلاج كان آثما(6). فإن استنقاذ النفس مطلب شرعي.
3. ويستثنى كذلك الحالات اليسيرة للصغار عندما يكون العرف السائد يقتضي ذهابهم دون إذن ولي أمرهم إلى طبيب الوحدة الصحية المدرسية , ونحوها مما يتسامح به الناس في العادة(7).
شروط الإذن
يشترط للإذن الطبي شروط خمسة حتى يكون إذناً معتبراً:
الشرط الأول: أن يكون الإذن صادراً ممن له الحق, وهو الشخص المريض، أو وليه في حالة تعذر الحصول على إذنه, أو من له الولاية كالحاكم(8).
الشرط الثاني: أن يكون الآذن أهلاً للإذن والأهلية تعتبر بوجود أمرين أحدهما: البلوغ والثاني العقل(9) فإن أذن المريض وليس أهلاً للإذن فلا اعتبار بإذنه وكذلك الولي الفاقد للأهلية من باب أولى(10).
الشرط الثالث : الاختيار , وعدم الإكراه(11).
فالمكره في حقيقته غير آذن . قال تعالى: (إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان)(12) فلم يؤاخذ رغم قوله كلمة الكفر لأنه في حالة إكراه .
الشرط الرابع: أن تكون المعالجة المأذون بها مشروعة , فلو كانت محرمة لم يصح الإذن(13).
كما لو أذن المريض للطبيب أن يجري له جراحة تغيير الخلقة, كتغيير الجنس, والوشم, وتغيير لون البشرة , وتصغير الأنف وتكبير الشفاه, ونحوها من الجراحات والعلاجات المحرمة بلا مسوغ شرعي.
الشرط الخامس: أن يعطي الإذن وهو على بينة وإدراك من أمره(14) فلابد من إيضاح الأمر له حتى يعرف ما هو مقدم عليه. وأرى أنه يجب ترك التهويل والتهوين, لأن طلبهما فيه تزييف للواقع, وتغرير بالمريض. وإذا كانت المعالجة عبارة عن جراحة تجرى للمريض فيزداد شرطان على ما سبق وهما:
1. أن يشمل الأذن على إجازة فعل الجراحة لأن ذلك هو المقصود من الإذن.(139/7)
2. أن تكون دلالة الصيغة على إجازة فعل الجراحة صريحة أو قائمة مقام الصريح, كقول المريض لطبيبه: أذنت لك بفعل الجراحة ونحوه, ومثله الإشارة المفهومة التي تدل على رضاه بإجراء هذه الجراحة(15).
الإشهاد على إذن المريض
الأصل في الإشهاد أنه أداة للتوثيق, ويُفتقر إليه عند التنازع, ولذلك شرع عند التبايع والتداين وغيرها قال تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله)(16) لكن هل يشرع الإشهاد على إذن المريض؟
ذكر بعض الباحثين أن "ينبغي الإشهاد على إذن المريض باثنين من الشهود, ولو كانا ضمن الهيئة الطبية " (2) والظاهر أن مشروعية الإشهاد تعم هذه المسألة, باعتباره تصرفاً يتعلق به حق الغير, وفيه – أي الإشهاد – حسم لمادة التنازع, خاصة إذا ترتب على العلاج وفاة أو إصابة.
ويمكن أن يقوم الإقرار المكتوب والموقع عليه من قبل المريض أو وليه مقام الإشهاد في تبرئة ساحة الطبيب المعالج وفريقه الطبي, لكن الإشهاد ـ خاصة في إجراء العمليات الخطرة ـ أولى لأنه مظنة قيام التنازع، وهو المعمول به حاليا في المستشفيات. والله أعلم.
وانظر في الملحق(17) في نهاية البحث،نموذجا للإقرار الذي يُشهد عليه.
انتهاء الإذن الطبي
ينتهي الإذن الطبي في الحالات الآتية :
1. عند انتهاء مدته , فما بعد المدة المأذون فيها يحتاج إلى أذن جديد.
2. إذا شفي المريض من الداء المعَاَلج ْ , فالشفاء علامة انتهاء الإذن الطبي.
3. الموت , فإذا توفي المريض انتهى الإذن بعلاجه .
4. إذا انتفت الأهلية عن الإذن كما لو جُن جنوناً مطبقاً, فلا يصح إذنه حينئذ, ووجوده كعدمه(18).
أسئلة مهمة في الإذن الطبي
طرح الدكتور محمد بن علي البار مجموعة من الأسئلة المهمة التي تحتاج إلى أجوبة, وسأذكر أهمها ملخّصة, ثم أتبعه بما يظهر لي من إجابة, والله الموفق.
س1 / الأطفال الذين يصابون بأمراض مستعصية على العلاج ويرفض آباؤهم إجراء العمليات الجراحية لهم , ويفضلون أن يتركوهم حتى الموت حتى لا يحصلوا على أطفال مصابين بتخلف عقلي, ما الحكم في ذلك ؟
جـ1: إذا كانت هذه العمليات مما يغلب على الظن إبقاؤها للمريض على قيد الحياة, وعدمها يعرضه للموت بشكل كبير, فأرى أنه يجب على الولي, بقدر إمكانه, الحرص على استنقاذ طفله بهذه العملية, فإذا كان لا يغلب على الظن حصول فائدته من هذه العملية فلا يجب على الولي شيء من ذلك.
س2: الأب الذي يرفض إيصال ابنته الصغيرة المصابة بالكلى, لتُغسل لها الكلية Hemodialysis في مستشفى الدولة المجاني, ويحتج في رفضه بأنه قد فقد ابناً له بسبب عمليات الغسيل الكلوي. فتدخلت وزارة الصحة وأمرت بنقل الطفلة دون إذن والدها وقامت بإجراء الغسيل المتكرر للطفلة؟ فهل هذا التدخل صحيح علماً بأن الغسيل ليس علاجاً شافياً للفشل الكلوي؟
جـ2: يظهر لي - والله أعلم – أن هذا التصرف في غير محله, لأن امتناع الأب يلحق الهلاك العاجل بهذه الطفلة, ويتسبب في قتلها، وهو ما يناقض مسؤوليته المناطة به, فإنه يجب عليه أن يتصرف فيمن ولاه الله أمره بما يحقق مصلحته ويدفع عنه المفسدة, وإلا انتقلت عنه الولاية إلى من بعده من الأولياء الذين ينظرون في مصلحته، وكون العلاج غير شاف بالكلية، لا يمنع وجوب العلاج به في هذه الحالة، إنقاذا لحياة المريض.
س3 / إذا تعسرت ولادة الطفل, واستدعى ذلك سرعة إجراء عملية قيصرية لإنقاذ حياة الطفل, فرفض أحد الأبوين أو جميعهما, فما الحل؟
جـ 3: إذا كان الرفض من الأم فلا تجبر على إجراء العملية طالما أنها تعي وتدرك، وإذنها معتبر حتى لو رفض الأب، لكن لو كان الرفض من الأب والأم لا تستطيع إعطاء الإذن فلا اعتبار برفضه، وينتقل الإذن لمن بعده.
س4: إذا رفض الزوج علاج زوجته وفحصها لدى طبيب بحجة أنه لا يريد أن يتولى ذلك إلا طبيبة, وما الحكم لو كان له ابنه راشدة أو قاصرة وهي فاقدة للوعي, وحالتها تستدعي التدخل الجراحي العاجل ولا يوجد إلا طبيب وهو يرفض أي الأب أن يتولى علاجها غير النساء؟
جـ4 : الأمر يتوقف على حالة هؤلاء النسوة, فإن كانت الحالة خطرة بحيث يخشى على حياتهن, واستُفْرِغ الجهد في البحث عن طبيبة فلم توجد فيجب استنقاذهن وإجراء العمليات اللازمة حتى وإن قام بها طبيب. وامتناع الزوج أو الأب في هذه الحالة إضرار بزوجته أو ابنته, والضرورات تبيح المحظورات, بل يجب استنقاذ النفس بأكل الميتة وشرب الخمر، رغم أنها محظورات إذا توقفت الحياة على تناولها.
فتنتقل الولاية عن الزوج أو الأب لمن بعده من الأولياء الذين ينظرون في مصلحة المريض . والله أعلم .(139/8)
وأخيراً فإن هناك سؤالاً يتردد ومفاده أن بعض المرضى يحتاج إلى عملية مهمة لحياته , فإذا شرح له الطبيب ما يمكن أن يترتب على العملية من المضاعفات وهي نسبة ضئيلة فلن يوافق أبداً , أو يكون عامياً لا يدرك ولا يفهم معنى ما يقوله الطبيب من شرح بل يفهم أن هذه العملية سبب لهلاكه , وربما يكون من أقاربه من سيفهم شرح الطبيب فهل لابد من إبلاغ المريض بكافة المعلومات المعتادة حتى لو أدى ذلك إلى رفضه للعملية المهمة أم يكتفي بالقدر الذي يفهمه, ويفهم الباقي لقريبه فإن لم يوجد قريبه هذا, فيسكت الطبيب عن بقية التفصيلات؟
جـ : الذي يظهر لي – والله أعلم – أن المريض يُبلغ بكل المعلومات بطريقة مناسبة وهذا من حقه على الطبيب طالما أنه كامل الأهلية, ثم يكون القرار بيده في رفض العملية أو قبولها. والله أعلم
الخاتمة
أهم النتائج التي توصل إليها البحث ما يلي:
1. الإذن الطبي هو موافقة المريض أو وليه على الإجراءات الطبية اللازمة لعلاجه.
2. الأصل عدم جواز المعالجة للمريض إلا بإذنه أو إذن وليه عند الحاجة ويستثنى من ذلك الحالات الخطرة التي لا يمكن فيها أخذ إذن المريض ولا وليه, وكذلك حالات الأمراض المعدية فلا بد من علاجها ولو بغير إذن المريض.
3. ترتيب الأولياء في الإذن بحسب قرابتهم في الميراث تعصيباً, ويقدم الزوج عليهم .
4. الإشهاد على إذن المريض سائغ , ويمكن أن يُكتفى عنه بالإقرار الموقع عليه من قبل الطبيب.
-------------------------
(1) انظر: الموسوعة الطبية الفقهية, ص 54.
(2) انظر: أحكام الجراحة, ص 243 – 245.
(3)انظر: د .البار, المسؤولية الطبية وأخلاقيات الطبيب, ص 76،77, والموسوعة الطبية الفقهية, ص54.
(4) انظر: صحيح البخاري, بتحقيق د. مصطفى البغا, 5 / 2158 , دار ابن كثير – بيروت, ط 3.
(5) انظر: الأشباه والنظائر , ص 83 .
(6) انظر: السيوطي, الشاطبي, الموافقات 2 / 10, الموسوعة الطبية الفقهية, ص 54, وأحكام الجراحة , ص 244.
(7) أنظر: التداوي والمسؤولية الطبية ( مرجع سابق ) ص 211
(8) انظر المغني, 8/117 وأحكام الجراحة و 235 .
(9) انظر: ابن القيم :تحفة المودود في أحكام المولود, ص 118
(10) انظر: أحكام الجراحة, ص 235.
(11) انظر: ص 6 من هذا البحث.
(12) سورة النحل آية 106.
(13) انظر: أحكام الجراحة ص 273.
(14) انظر: الأخطاء المدنية والجنائية للأطباء ( مرجع سابق ) ص 33
(15) أنظر: أحكام الجراحة, ص 236.
(16) سورة الطلاق آية 2 .
(17) انظر: د. البار, المسؤولية الطبية وأخلاقيات الطبيب, ص 88
(18) انظر: الموسوعة الطبية الفقهية, ص 56.(139/9)
أحكام البيعة والخلافة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ ... 23/12/1424هـ
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هل أحكام البيعة والخلافة توقيفية أم اجتهادية؟ وإذا كانت اجتهادية فهل يصح تحديد فترة زمنية محددة للخليفة يتم بعدها إعادة تنصيب خليفة آخر؟.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الناظر في تاريخ الخلفاء الراشدين الأربعة وتوليهم للخلافة يتبين له أن بيعتهم تمت برأي واجتهاد من المسلمين وخاصة ذوي الاجتهاد والمكانة منهم، ولم يقل أحد من أهل العلم أن بيعتهم بالخلافة كانت بتوقيف من الشارع غير بيعة أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- فمختلف فيها فمن العلماء من ذكر أنها تمت بنص وإشارة من النبي – صلى الله عليه وسلم- كقوله: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" رواه البخاري(678)، ومسلم(420) من حديث أبي موسى –رضي الله عنه- ، وروجع أكثر من مرة ليصلي غيره فيقول: "يأبى الله ذلك والمسلمون" رواه أبو داود(4660) من حديث عبد الله بن زمعة –رضي الله عنه-وكقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" رواه الترمذي(3662)، وابن ماجة (97) من حديث حذيفة –رضي الله عنه- وذهب جمهور العلماء إلى أن بيعة أبي بكر – رضي الله عنه- خاصة تمت باختيار واجتهاد لا بنص جلي، أو خفي ويدل على ذلك خطبته - رضي الله عنه- يوم السقيفة بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم- وقبل دفنه حيث قال: "نحن الأمراء (قريش) وأنتم الوزراء (الأنصار) وهم (قريش) أوسط العرب وأعربهم أحساباً فبايعوا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، أو أبا عبيدة بن الجراح – رضي الله عنه-، فقال عمر: بل نبايعك، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، انظر ما رواه البخاري(3668) من حديث عائشة –رضي الله عنها- ولو كانت خلافته بنص من الله أو رسوله – صلى الله عليه وسلم- لاستند إليه أولئك المبايعون، ولما احتاج أبو بكر إلى أن يقترح للخلافة عمر بن الخطاب وأبا عبيدة ابن الجراح كما يدل على أن بيعته ليست توقيفية خطبة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- في آخر حياته: عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما- أن عمر قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر – رضي الله عنه- وإن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله – صلى الله عليه وسلم- رواه البخاري (7218)، ومسلم(1823) من حديث ابن عمر –رضي الله عنهما-، وإذا تبين لك هذا علمت أن بيعة الخلفاء الراشدين المهديين كانت اجتهادية باختيار المسلمين وليست بتوقيف من الشارع وما عداهم من الخلفاء فمن باب أولى بل تجاوز الأمر إلى أن صارت بيعة الخلفاء والسلاطين بعدهم بيعة جبرية مثَّل الرعية منها أهل الحل والعقد خوفاًَ من الفتنة وإراقة الدماء وانتهاك الأعراض، وتطبيقاً للقاعدة الشرعية ارتكاب أخف الضررين وتقديم أدنى المفسدتين دفعاً لأعلاهما، وليس في الشرع مدة زمنية محددة للخليفة يجدد له بعدها أو يبايع غيره، كما أنه لا يوجد في الشارع دليل يمنع تحديد مدة ولي الأمر، فهي من الأمور المباحة المسكوت عنها، وحقيقة البيعة للخليفة أو السلطان أنه ما دام مستقيماً على أمر الله يقيم الحق ويحكم بالعدل بين الرعية فذلك هو المطلوب، وفي العصور المتأخرة وبعد سقوط الخلافة لا يوجد خليفة يدخل تحت بيعته أو ولايته جميع المسلمين بل مملكة الإسلام أصبحت اليوم دويلات ممزقة على كل واحدة منها رئيس أو ملك، أو أمير، والله المستعان.(140/1)
أحكام الجنائز والقبور وبدعها
أمرنا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستغفر لصاحبنا عند القبر، وأن نسأل له التثبيت
(1)رواه أبو داود في سننه ( 3/213 ) من حديث هاني مولى عثمان بن عفان رضي الله عنهما " ، ولم يحدد لنا كيفية ذلك أو يخصص الأمر بما يفيد الترجيح لأي كيفية في الدعاء سرًّا وجهرًا، فهل دعاؤنا للميت عند القبر عبادة أم من الفضائل . . ؟ وهل يستوي الدعاء سرًّا وجهرًا . . ؟ أم أن الدعاء سرًّا من السنة والدعاء جهرًا من البدعة كما يراه بعض الأخوة . . ؟ علمًا بأن الأمر بالدعاء خطاب مطلق يحتمل السر والجهر، وترجيح إحدى الكيفيتين يقتضي الدليل الترجيحي، فهل من دليل على الدعاء سرًّا والدعاء جهرًا، من الكتاب أو السنة أو الإجماع القولي أو الإجماع الفعلي من الصحابة رضي الله عنهم . . ؟
أمرنا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالاستغفار للميت المسلم وسؤال التثبيت له بعد دفنه مباشرة، وعَلَّلَ ذلك بأن هذا الوقت وقت سؤال الملكين له، فهو بحاجة للدعاء له بالتثبيت وطلب المغفرة (2) ، ولم يرد في الحديث أنهم جهروا بالدعاء والاستغفار .
ومعلوم أن الإسرار بالدعاء والاستغفار أفضل من الجهر لأنه أقرب إلى الإخلاص، ولأن الله سبحانه يسمع الدعاء سرًّا كان أو جهرًا، فلا يشرع الجهر إلا بدليل، علاوة على أن الجهر يحصل به تشويش على الآخرين، ولم يعرف - فيما أعلم - أن السلف كانوا يجهرون بالدعاء عند القبر بعد دفنه أو يدعون بصوت جماعي، وقد روى أبو داود النهي عن اتباع الميت بصوت أو نار (3)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " ( 24/294 ) قال قيس بن عبَّاد - وهو من كبار التابعين من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه - : كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند القتال، وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أن هذا لم يكن على عهد القرون الثلاثة المفضلة انتهى .
وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يرفعون الأصوات بالدعاء للميت لا مع الجنازة ولا بعد الدفن عند القبر وهم أعلم الناس بالسنة، فيكون رفع الصوت بذلك بدعة . . والله أعلم .
ـ من العادات المعروفة والمشهورة عندنا تلقين الميت بعد وضعه في قبره وبعد أن يوارى عليه التراب، ونرى أن معظم العلماء على هذا وبعضهم لا يلقي له بالاً - أعني : علماء بلدنا - ويستشهدون على ذلك بأنه قد ثبت عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما توفي ابنه إبراهيم أنه وقف عليه الصلاة والسلام عند قبره ولقنه فقال أحد الصحابة : يا رسول الله أنت خير الخلق وبعد وفاتك من يلقننا ؟ فقال لهم : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ . . . } [ سورة إبراهيم : آية 27 ] الآية .
والسؤال : ما مدى صحة هذا الخبر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟ وإذا كان التلقين مشروعًا ما هي صيغته وكيفيته ؟ ونرجو أن تقرنوا الإجابة بالأدلة المقنعة ما أمكن ذلك . وجزاكم الله خيرًا ؟
التلقين المشروع هو تلقين المحتضر عند خروج روحه بأن يلقن : لا إله إلا الله، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/631 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ] يعني عند الاحتضار لتكون هذه الكلمة العظيمة آخر كلامه من الدنيا حتى يلقى الله تعالى بها، ويختم له بها، فيلقن هذه الكلمة وهو في الاحتضار برفق ولين، وإذا تلفظ بها فإنها لا تعاد عليه مرة أخرى إلا إذا تكلم بكلام آخر، فإن تكلم بكلام آخر فإنها تعاد عليه برفق ولين ليتلفظ بها، وتكون آخر كلامه، هذا هو التلقين المشروع .
أما بعد خروج الروح فإن الميت لا يلقن لا قبل الدفن ولا بعد الدفن، ولم يرد بذلك سنة صحيحة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما نعلم، وإنما استحب تلقين الميت بعد دفنه جماعة من العلماء، وليس لهم دليل ثابت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن الحديث الوارد في ذلك مطعون في سنده، فعلى هذا يكون التلقين بعد الدفن لا أصل له من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما قال به بعض العلماء اعتمادًا على حديث غير ثابت .
فالتلقين بعد الدفن لا أصل له في السنة، وإنما التلقين المشروع هو عند الاحتضار، لأنه هو الذي ينفع المحتضر ويعقله المحتضر لأنه مازال على قيد الحياة ويستطيع النطق بهذه الكلمة وهو لا يزال في دار العمل، أما بعد الموت فقد انتهى العمل .
نعم الثابت عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنسبة للميت بعد دفنه أنه كان يقف على قبره ويدعو له ويستغفر له ويقول لأصحابه : ( استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 3/213 ) من حديث هاني مولى عثمان بن عفان رضي الله عنهما ] .(141/1)
فالذي يشرع للمسلمين إذا دفنوا الميت وانتهوا من دفنه أن يقفوا على قبره، وأن يستغفروا له، وأن يسألوا الله له التثبيت؛ لأنه وقت سؤال الملكين في القبر فيقولون : اللهم اغفر له، اللهم ثبته، ويكررون هذا الدعاء المبارك، فإن الله ينفعه بذلك؛ لأن دعاء المسلمين للأموات يرجى وصوله إليهم وانتفاعهم به .
وأما ما يفعله الجهال والقبوريون من أنهم يطلبون من الميت أن يدعو لهم، وأن يستغفر لهم وأن يشفع لهم، فهذا عكس ما شرعه الله ورسوله، وهذا من المحادة لله ورسوله، إنما المشروع العكس أن الحي هو الذي يدعو للميت ويستغفر له، والله جل وعلا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ سورة محمد : آية 19 ] وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا مرَّ بالقبور استقبلهم بوجهه عليه الصلاة والسلام، وقال : ( السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن في الأثر، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم ) [ ورد بألفاظ . . انظر مثلاً " صحيح الإمام مسلم " ( 2/671 ) ، من حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما، وانظر " سنن النسائي " ( 4/94 ) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما ] .
أما ما يفعل مع الجنائز من هذه البدع المحدثة ومن الأمور التي اعتادها الناس وهي ليس لها أصل في شريعة الإسلام، فالواجب الحذر منها والمنع منها والتحذير منها .
ـ هل ذبح الذبائح ليلة دخول الميت القبر جائز من الناحية الشرعية وهي ما يسميه الناس ( عشاء الميت ) حيث يدعى لها الناس ليأكلوا من هذه الذبائح ويعتبرون ذلك صدقة عن روح الميت ؟
ذبح الذبائح ليلة وفاة الميت وإطعام الناس من هذه الذبائح وهذه الوليمة هذا من البدع المحرمة؛ لأنه لم يرد في الشرع ما يدل على هذا العمل وعلى تخصيص وقت معين بالصدقة عن الميت .
ومن ناحية ثانية هذا إجحاف بالورثة ( ورثة الميت ) إذا كانت هذه الذبائح وهذا الطعام من تركة الميت، وربما يكون فيهم صغار وفقراء، فيكون هذا إجحافًا بهم علاوة على ما ذكرنا من أن هذه بدعة في الشرع لا يجوز عمله والاستمرار عليه، ومن أراد أن يتصدق عن الميت بطعام أو لحم أو غير ذلك فإنه يتصدق عنه من ماله الخاص وفي أوقات الحاجة دون تقيد بليلة معينة أو وقت معين . والعوائد المخالفة للشرع لا يجوز العمل بها .
ـ ما هي الطريقة الشرعية لعمل المآتم أو المعازي ؟ وما هي الطريقة الشرعية للقيام بالعزاء والمواساة ؟
ليس من الشرع إقامة المآتم، بل هذا مما نهى الله عنه؛ لأنه من الجزع والنياحة والابتداع الذي ليس له أصل في الشريعة .
وأما المشروع في العزاء فهو إذا لقيت المصاب أن تدعو له وتدعو للميت، فتقول : أحسن الله عزاءك، وجبر الله مصيبتك، وغفر الله لميتك، إذا كان الميت مسلمًا . هذا هو العزاء المشروع وفيه دعاء للحي المصاب ودعاء للميت المسلم . ولا بأس - بل يستحب - أيضًا أن يصنع طعام ويهدي لأهل الميت إذا كانوا قد اشتغلوا عن الطعام وعن إصلاح الطعام بالمصيبة فينبغي لجيرانهم ومن يعلم حالهم أن يصنع لهم طعامًا ويهديه إليهم .
أما إقامة المآتم وإقامة السرادقات وجمع الناس والقراء وطبخ الطعام فهذا لا أصل له في دين الإسلام .
ـ كيف يكون العزاء في الميت ؟ وهل هو بالاجتماع في منزل المتوفى طوال الثلاثة أيام مع ما يحصل من لهو وغيبة ويقولون : إنها تسلية لأهل الميت ؟ وكذلك الذبح للقادمين للعزاء ولأهل الميت وكذلك الذبح للمتوفى بقولهم : إنها صدقة عنه وتوزيعها على الجماعة ؟ ولأن سؤالي هذا ذو أهمية أود منكم إصدار نشرة أو كتيب . ؟
تعزية أهل الميت بميتهم مشروعة لأنها من باب المواساة، ولكن تكون في حدود ما ذكره أهل العلم من الدعاء للمصاب والدعاء للميت وتكون في أيام المصيبة، ومن التعزية لأهل الميت صنعة الطعام لهم وتقديمه إليهم إذا شغلتهم المصيبة عن صنعة الطعام لأنفسهم كما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يصنع لآل جعفر طعامًا لأنه جاءهم ما يشغلهم [ (4) ] . ويكون هذا الطعام بقدر حاجة أهل الميت .
أما التوسع في العزاء بالاجتماعات الكبيرة وعمل الولائم واستئجار المقرئين فكل هذه الأمور آصار وأغلال أو بدع ما أنزل الله بها من سلطان يجب على المسلمين تركها والتحذير منها .
وقد كتبت في هذا الموضوع رسالة في أحكام الجنائز وفي آخرها تكلمت عن هذه المسألة، وقد طبعت الرسالة ضمن مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأيضًا يعاد طبعها الآن في إحدى دور النشر ونرجو أن تحصل عليها .
ـ إعلانات التعازي في الصحف والشكر على التعزية والإعلان عن وفاة شخص . . ما رأي الشريعة في ذلك . ؟(141/2)
الإعلان في الصحف عن وفاة شخص إذا كان لغرض صحيح وهو أن يعلم الناس بوفاته فيحضروا للصلاة عليه وتشييعه والدعاء له، وليعلم من كان له على الميت دين أو حق حتى يطالب به أو يسامحه، فالإعلان لأجل هذه الأغراض لا بأس به، ولكن لا يبالغ في كيفية نشر الإعلان من احتجاز صفحة كاملة من الصحيفة، لأن ذلك يستنفذ مالاً كثيرًا لا داعي إليه . ولا تجوز كتابة هذه الآية التي اعتاد كثير من الناس كتابتها في الإعلان عن الوفاة وهي قوله تعالى : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي } [ سورة الفجر : الآيات 27-30 ] لأن هذا فيه تزكية للميت وحكم بأنه من أهل الجنة، وهذا لا يجوز، لأنه تقوُّل على الله سبحانه وشبه ادعاء لعلم الغيب، إذ لا يحكم لأحد معين بالجنة إلا بدليل من الكتاب والسنة، وإنما يرجى للمؤمن الخير ولا يجزم له بذلك . . والله الموفق .
ـ عندنا عادة : عندما يموت شخص فإنهم قبل دفنه يذهبون إلى قبرة على قبر ولي كما يزعمون ويقولون : إن الحضرة النبوية توجد عند هذه القبة، والغرض من ذلك كما يعتقدون هو أن لا يعذب في قبره بل ولا يحاسب، فما حكم هذا العمل ؟
هذا من الباطل وأعمال الجاهلية، والبناء على القبور مما نهى عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد النهي، قد نهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبنى على القبر (5) وأن يجصص (6)، أو يكتب عليه (7) ، أو يسرج بالمصابيح (8) ، فالبناء على القبور من أفعال الجاهلية ومن وسائل الشرك .
وكذلك الذهاب بالجنازة إلى قبر الولي لا يجوز، وإذا كان يعتقد لذلك أن الولي ينفع الميت وأنه تغفر للميت ذنوبه فهذا من الشرك الأكبر؛ لأن هذا معناه الاستغاثة بالميت صاحب القبر وطلب البركة منه والشفاعة منه، وهذا من الشرك الأكبر .
وأما قولهم : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحضر عند هذا الضريح فهذا من الخرافات والأباطيل التي يروجها شياطين الإنس والجن ليغرروا بالجاهلين والعوام ويعلقوهم بالقبور والأضرحة، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن البناء على القبور، ونهى عن طلب الحوائج منها أو الاستشفاع بها، فكيف يحضر عليه الصلاة والسلام عندها وهو قد حرمها ونهى عنها ؟ !
ـ إذا مات أحد عندنا نأتي بالخطيب يقرأ القرآن لمدة خمسة أيام، وبعدها نذبح ذبيحة ونفرقها على الناس، وهذه عادة وجدناها وسرنا عليها، ما حكم هذا العمل يا فضيلة الشيخ بارك الله فيكم ؟
هذا العمل بدعة محرمة، فاستئجار المقرئ خمسة أيام يقرأ بعد وفاة المريض، لا أصل له في دين الإسلام ولا ينفع الحي ولا الميت، وديننا الحنيف وشرعنا المطهر بيَّن لنا ما يُعمل بالميت، وأنه يجهز بالتغسيل، والتكفين، ويصلى عليه، ويدفن، ويدعى له ويحج عنه ويعتمر، ويتصدق عنه، ويضحى عنه في وقت الأضحية؛ هذا ما يشرع في حق الميت .
أما أن نستأجر من يقرأ القرآن أيامًا معينة ونذبح ذبيحة في ختامها كل هذا من الآصار والأغلال ومن البدع والخرافات، وهذه لا تنفع الحي ولا الميت، وإنما هي من الأعمال الضارة والأعمال البدعية، وأي أجر يأتي من قراءة مستأجرة؛ لأن هذا القارئ لا يقرأ طمعًا في ثواب القراءة وإنما يقرأ طمعًا في الأجر الذي يدفع له، والعبادات لا يؤخذ عليها أجور .
ـ ما هي الأشياء التي ينتفع بها الميت من قبل الأحياء ؟ وهل هناك فرق بين العبادات البدنية وغير البدنية، نرجو أن توضحوا لنا هذه المسألة وتضعوا لنا فيها قاعدة نرجع إليها كلما أشكل علينا مثل هذه المسائل أفتونا بارك الله فيكم ؟
ينتفع الميت من عمل الحي بما دل عليه الدليل من الدعاء له والاستغفار له والتصدق عنه والحج عنه والعمرة عنه وقضاء الديون التي عليه وتنفيذ وصاياه الشرعية كل ذلك قد دلت الأدلة على مشروعيته . وقد ألحق بها بعض العلماء كل قربة فعلها مسلم وجعل ثوابها لمسلم حي أو ميت . والصحيح الاقتصار على ما ورد به الدليل ويكون ذلك مخصصًا لقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى } [ سورة النجم : آية 39 ] والله أعلم .
ـ ما حكم الشرع في نظركم فيمن جمع قومًا ليتلوا كتاب الله بقصد أن تعود فائدة الذكر لصاحب الدعوة أو لشخص متوفى ؟
إن تلاوة القرآن من أفضل القربات، والله جل وعلا أمرنا بتلاوة كتابه وبتدبره وتأمل معانيه، أما أن يتخذ للتلاوة شكلاً خاصًا أو نظامًا خاصًا هذا يحتاج إلى دليل .(141/3)
ومثل ما ذكره السائل من جمع الناس ليقرءوا القرآن لتحصل له الفائدة أو يهدى ثوابه للأموات هذا لا دليل عليه على هذه الصفة، وإنما هو بدعة من البدع، وكل بدعة ضلالة هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن هؤلاء المقرئين إذا كانوا يقرءون بالإيجار كما هو الواقع من كثير منهم، فهذه القراءة لا ثواب فيها؛ لأنهم لم يقرءوا القرآن تعبدًا لله عز وجل، وإنما قراءة من أجل الأجرة، والعبادات إذا فعلت من أجل الأجرة، فإنها لا ثواب فيها وإرادة الإنسان بعمله الدنيا . هذا مما يبطل العمل .
وإنما تنفع قراءة القرآن إذا كان القصد منها التقرب إلى الله من القارئ ومن المستمع، وأن تكون على الصفة المشروعة لا الصفة المحدثة والرسوم التي أحدثها الجهال وابتدعوها فمثل هذه القراءة على هذا الشكل وإهداء ثوابها للأموات أو الأحياء من البدع المحدثة ولا ثواب فيها .
فالواجب على المسلم أن يترك مثل هذا العمل، وإذا أراد أن ينفع الأموات فإنه ينفعهم بما وردت به الأدلة من الترحم عليهم والاستغفار لهم والدعاء لهم والتصدق عنهم والحج أو العمرة عن الميت، هذه هي الأمور التي وردت الأدلة بأنها تنفع المسلمين أحياء وأمواتًا، أما فعل شيء لم يقم عليه دليل من الشرع فهذا يعتبر من البدع المخالفة .
ـ ما هي الأعمال التي تنفع وتفيد الوالدين أحياءً وأمواتًا ؟
الأعمال هي برهما في حياتهما، والإحسان إليهما بالقول والعمل، والقيام بما يحتاجانه من النفقة والسكن وغير ذلك والأنس بهما، والكلام الطيب معهما وخدمتهما، لقوله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ سورة الإسراء : آية 23 ] خصوصًا في كبرهما .
أما بعد الممات فإنه يبقى من برهما أيضًا الدعاء والصدقة لهما والحج والعمرة عنهما وقضاء الديون التي في ذمتهما، وصلة الرحمن المتعلقة بهما وكذلك برُّ صديقهما وتنفيذ وصاياهما المشروعة .
ـ زوجي استشهد منذ سنتين وكنت أصلي قبل أن يستشهد لنفسي، وبعد أن استشهد بدأت أصلي لي وله منذ سنتين، وأنا على هذه الحالة فهل يجوز لي ذلك أم لا ؟
لا يصلي أحد عن أحد، ولكن عليك بالدعاء لزوجك والإكثار من الدعاء والاستغفار له والتصدق عنه .
أما الصلاة فإنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يُصلى عن الميت ولا عن الحي؛ لأن الصلاة لا تدخلها النيابة لأنها عمل بدني، وقد شرع الله الدعاء للأموات والاستغفار لهم والصدقة عنهم إذا كانوا مسلمين، وفي ذلك كفاية إذا تقبله الله .
ـ إذا توفي شخص وهو لا يصلي في حياته بتاتًا أو كان يصلي حينًا ويتركها أحيانًا ؟ فهل يجوز أن تؤدى عنه الصلاة بعد وفاته ؟ وإذا لم يكن ذلك جائز فهل ينفع أن يتصدق عنه أو يقرأ القرآن له ؟ وما هي الأشياء التي ينتفع بها الميت بعد وفاته مما خلفه ؟
أولاً : الصلاة لا تفعل عن أحد، لا يصلي أحد عن أحد؛ لأن الصلاة عملٌ بدنيٌّ لا تدخله النيابة لا عن الحي ولا الميت .
ثانيًا : من ترك الصلاة متعمدًا واستمر على ذلك حتى مات فإنه كافر - والعياذ بالله - لا يجوز للمسلم أن يترحم عليه ولا يدعو له ولا يتصدق عنه، لأنه مات على الكفر .
أما بالنسبة لما يلحق الميت بعد وفاته من الأعمال فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1255 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .
فهذه الأمور تلحق الميت إذا أوقف وقفًا ينتفع به في سبيل الخير، واستمر هذا الوقف يفعل بعد وفاته فإنه يلحقه الأجر ما بقي هذا الوقف، كذلك إذا علَّم علمًا ينتفع به من العلوم الشرعية النافعة فإن هؤلاء المتعلمين الذين صاروا ينفعون الناس من بعده يعود إليه الأجر وهو ميت؛ لأنه علَّم الخير، وكذلك إذا ألَّف مؤلفات ينتفع المسلمون بها، فإن هذا علمٌ ينتفع به ويعود أجره له ما انتفع بهذه المؤلفات وما بقيت .
وكذلك إذا طبع كتبًا نافعة وأوقفها على المسلمين ينتفعون بها أو مصاحف من القرآن الكريم، كل هذا من العلم الذي ينتفع به بعد موته، ويلحق من بذل فيه، الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى .
وكذلك الذرية الصالحة الذين يدعون له من ذكور وإناث فإن هذا يلحقه الأجر إذا تقبل الله دعواتهم .
كذلك الصدقة عن الميت، لأنه ورد أن الميت يتصدق عنه، وأن ذلك ينفعه، وعمم بعض من أهل العلم أنه أي طاعة فعلها مسلم وجعل ثوابها لأي مسلم حي أم ميت أن ذلك ينفعه .
كذلك الحج ورد في الدليل أنه ينفع الميت وأنه يبرئ ذمته إذا كان واجبًا عليه وينفعه إذا كان تطوعًا، فالحج والصدقة والدعاء والوقف كل هذا مما يلحق الميت بعد وفاته .
ـ إذا نذر الإنسان نذرًا وقال على سبيل المثال : ( إن شفى الله مريضي لأذبحن ذبيحة لله عند قبر فلان تقربًا لله ) ، فهل يجوز مثل هذا العمل ؟ وهل هناك أماكن نهي عن الذبح فيها لله تعالى ؟(141/4)
إذا نذر أن يذبح لله عند قبر من القبور، فهذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به، والذبح عند القبور إن كان القصد منه التقرب إلى صاحب القبر فهو شرك أكبر يُخرج من الملة ولو ذكر اسم الله على الذبيحة .
وإن كان القصد منه التقرب إلى الله فهو معصية كبيرة ووسيلة من وسائل الشرك؛ لأنه لا يجوز التّعبُّد عند القبور، فلا يجوز لنا أن نصلي عند القبور ولا أن ندعو عند القبور، ولا أن نذبح عند القبور، وإن كنا لا نقصد إلا الله؛ لأن هذا مشابهة للمشركين وهو وسيلة إلى الشرك .
روى أبو داود بسنده عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، قال : نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد ؟ ) قالوا : لا، قال : ( فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ ) ، قالوا : لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 3/235 ) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه ] ، وإسناده على شرط الشيخين .
قال في " فتح المجيد " : قلت : وفيه سد الذريعة وترك مشابهة المشركين، والمنع مما هو وسيلة إلى ذلك (9) . انتهى .
وبهذا يتبين أنه لا يجوز الذبح لله تعالى عند القبور، ولا في الأماكن التي كان فيها أوثان للمشركين ولو كانت قد أزيلت، ولا في المواطن التي يتخذها المشركون مكانًا لأعيادهم وشعائرهم . ـ كيف تكون زيارة القبور ؟ وهل يجوز الدعاء للأموات عند القبر ؟ وهل يكون الواقف أمام القبر مستقبلاً القبلة أم مستدبرها ؟ وما أفضل الأيام لزيارة القبور إذا كان هناك فضيلة ؟ وهل يجوز وضع حجر محفور عليه حرف كرمز يدل على القبر لكي يستدل عليه الزائر ؟
زيارة القبور بقصد الدعاء للأموات المسلمين والترحم عليهم وبقصد الاعتبار والتذكر زيارة مستحبة، قال صلى الله عليه وسلم : ( زوروا القبور فإنها تذكر بالآخرة ) [ انظر " فتح المجيد " ( 1/284 ) بتحقيق الدكتور الوليد بن عبد الرحمن آل الفريان ] ، وإنما تكون مشروعة في حق الرجال، أما النساء فيحرم عليهن زيارة القبور لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/671 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( . . فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/9 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) من حديث بريدة رضي الله عنه بلفظ : ( . . فزوروها فإن في زيارتها تذكرة ) ] ، وهذا يدل على شدة تحريم زيارة النساء للقبور، لما فيهن من الفتنة؛ ولأن المرأة ضعيفة قد يحصل منها ما لا يجوز من الأفعال والأقوال كالجزع والنياحة .
وكذلك إذا كان القصد من زيارة القبور التبرك بها وطلب الحوائج من الأموات والاستغاثة بهم والطواف بقبورهم، كما يُفعل اليوم عند الأضرحة، فهذه زيارة شركية لا تجوز لا للرجال ولا للنساء .
وكذا إن كان القصد من زيارة القبور الصلاة عندها والدعاء عندها بحيث يظن أن في ذلك فضيلة، فهذه زيارة بدعية، وهي وسيلة من وسائل الشرك، وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد وأماكن للعبادة والدعاء، وقد لعن ـ صلى الله عليه وسلم ـ من اتخذ القبور مساجد (10) ، ونهى وشدد عن البناء عليها (11)، وعن إسراجها (12) والكتابة عليها (13) ، وعن تجصيصها (14) ، لأن هذه الأفعال من وسائل الشرك .
وإذا زار القبر الزيارة الشرعية فإنه يقف أمام وجهه ويستقبله ويستدبر القبلة ويسلم عليه، وليس للزيارة وقت محدد ولا يوم معين، ويجوز وضع حجر على القبر ليعرفه إذا زاره (15) ، ولا يجوز أن يكتب عليه شيئًا (16) ، لأن هذه وسيلة إلى تعظيمها ووقع الشرك عندها، وسواء كانت الكتابة حرفًا أو أكثر كل ذلك محرم وممنوع لما يؤول إليه من الشرك وتعظيم القبور والغلو بها .
ـ هل صحيح ما يقال : إن الله لعن زائرات القبور ؟ وقد سمعت بعض الناس يقولون : إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إذا ضاقت الصدور عليكم بزيارة القبور ) ، وأنا أزور قبر زوجي كل يوم خميس وأقرأ الفاتحة على روحه وأترحم على جثمانه دون بكاء أو عويل، ثم أعود، هل عليَّ شيء في ذلك ؟(141/5)
أما ما ذكرت من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعن زائرات القبور، فقد ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسند صحيح أنه قال : ( لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها السرج ) لا يجوز للمرأة أن تزور القبور لا قبر زوجها ولا غيره؛ لأنها لو فعلت ذلك استحقت اللعنة، وما فعلتيه على قبر زوجك من زيارة وقراءة الفاتحة عليه كل هذا لا يجوز، فزيارتك القبر محرمة، وقراءة الفاتحة عند القبور بدعة، فعليك أن تتوبي إلى الله سبحانه وتعالى، وألا تستمري في زيارة قبره، وإذا كان عندك حرص على نفعه فعليك بالدعاء له والاستغفار والتصدق عنه، فإن ذلك ينفعه إن شاء الله .
أما ما ذكرت من أنه ورد : ( إذا ضاقت الصدور فعليكم بزيارة القبور ) ، فهذا باطل وموضوع، ولا أصل له من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي صح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تشريع زيارة القبور للرجال خاصة دون النساء في قوله صلى الله عليه وسلم : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر بالآخرة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/671 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( . . فزوروا القبور فإنها تذكر بالموت ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/9 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) من حديث بريدة رضي الله عنه بلفظ : ( . . فزوروها فإن في زيارتها تذكرة ) ] ، فزيارة القبور مشروعة في حق الرجال دون النساء بقصد الدعاء للأموات والاستغفار لهم والترحم عليهم إذا كانوا مسلمين، ونقصد الاتعاظ والاعتبار وتليين القلوب بمشاهدة القبور وأحوال الموتى، لا بقصد التبرك بها والتمسح بترابها تبركًا بها، وطلب الحاجات منها، كما يفعله المشركون الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، والله تعالى أعلم .
وهذا لابد أن تكون زيارة الرجال للقبور بدون سفر؛ لأن السفر لزيارة القبور بقصد العبادة فيها محرمة إلا السفر لزيارة المساجد الثلاثة، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/56 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .
ـ ورد في الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه دخل مقابر المدينة فنادى : السلام عليكم يا أهل القبور : أتخبرونا بأخباركم أم نخبركم بأخبارنا ؟ فسمع صوتًا يقول : عليك السلام ورحمة الله وبركاته، أخبرنا بما كان بعدنا، فقال علي : أما أزواجكم فقد تزوجت، وأما أموالكم فقد قسمت، وأما أولادكم فقد حشروا في زمرة اليتامى، وأما البناء الذي شيدتم فقد سكنه أعداؤكم، فهذه أخبار ما عندنا فما أخبار ما عندكم ؟ فسمع صوتًا يقول : قد تمزقت الأكفان، وانتثرت الشعور، وتقطعت الجلود، ما قدمناه وجدناه، وما كسبناه خسرناه، ونحن مرتهنون بالأعمال .
فهل هذا الأثر صحيح ؟ وإذا كان كذلك فكيف يكون الجمع بينه وبين قوله تعالى : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } [ سورة النمل : آية 80 ] ، فإن ظاهر هذه الآية أن الموتى لا يسمعون الكلام من الأحياء، أم أن للآية تفسيرًا آخر غير المتبادر إلى الذهن ؟
الذي وقفت عليه من كلام علي رضي الله عنه كما ذكرته كتب الوعظ أنه لم يخاطب الموتى ولم يخاطبوه، وإنما تكلم يعظ أصحابه الذين معه، ثم قال موجهًا الكلام للموتى : هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم ؟ ثم قال لأصحابه : أما إنهم لا يتكلمون ولو تكلموا لقالوا كذا وكذا (17)، فأجاب على لسان الموتى .
ومن واقع أحوال الموتى وما يقولونه لو تكلموا ولو نطقوا فهذا من باب الافتراض من علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الميت لو تكلم لقال كذا نظرًا لحالته وما لاقى، وهذا يقصد به علي رضي الله عنه موعظة الأحياء وتذكير الناس بأحوال الموتى، وليس في القصة أن أحدًا من الموتى كلمه بهذا الكلام، وإنما هو الذي قاله على لسان الأموات تذكيرًا للأحياء .
وأما قضية سماع أهل القبور لمن يخاطبهم فلا شك أن أحوال أهل القبور من أمور الغيب ومن أمور الآخرة، ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها إلا بموجب الأدلة الصحيحة، وقد ورد : ( أن الميت إذا وضع في قبره وانتهى من دفنه وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم، يأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ ) هذا الذي ورد أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين إذا أدبروا عنه، فما أثبته الدليل أثبتناه، وما لم يرد دليل فإننا نتوقف عنه .
ـ في بلدتنا مسجد يصلي به الناس ولكن يوجد أمامه من جهة اليسار قليلاً وعلى بعد مترين غرفة بها قبر، وكذلك أمامه من ناحية القبلة مباشرة وعلى بعد عشرة أمتار توجد مقابر، فهل يصح الصلاة في هذا المسجد ما دامت المقابر خارجًا وليست منه ؟ أم لا تصح بأي حال مادامت محيطة به ؟(141/6)
إذا كانت المقابر مفصولة عن المسجد بشارع أو بسور ولم يبن هذا المسجد من أجل المقابر فلا بأس أن يكون المسجد قريبًا من المقبرة إذا لم يوجد مكان بعيد عنها، أما إذا كان وضع المسجد عند القبور مقصودًا ظنًّا أن في ذلك بركة، أو أن ذلك أفضل، فهذا لا يجوز، لأنه من وسائل الشرك .
ـ يوجد في قريتنا مسجد قديم تقام فيه صلاة الجمعة والجماعة علمًا بأن هذا المسجد يوجد في قبلته مقبرة قديمة وحديثة، كما أن هناك عدة قبور ملتصقة في قبلة هذا المسجد، وكما هو معلوم أن هذه المقبرة يمر في وسطها طريق للرجال والنساء، وأيضًا طريق للسيارات فما هو الحكم في هذا ؟
إذا كانت القبور مفصولة عن المسجد ولم يبن المسجد من أجلها، وإنما بني للصلاة فيه، والمقبرة في مكان منعزل عنه لم يقصد وضع المقبرة عند المسجد، ولم يقصد وضع المسجد عند المقبرة، وإنما كل منهما وضع في مكانه من غير قصد ارتباط بعضهما ببعض، وبينهما فاصل فلا مانع من الصلاة في المسجد؛ لأن هذا المسجد لم يقم على قبور .
أما قضية مرور الطريق في وسط المقبرة، فالواجب منع ذلك، وتسوير المقبرة وتجنيب الطريق عنها .
ـ في بعض بلاد المسلمين قبور لعدد من الصحابة والصالحين وغيرهم، هذه القبور يزورها بعض الناس بصفة منتظمة ويطوفون بها ويصلون عندها ويعتقدون أنها تجلب البركة، فإلى أي حد يؤثر هذا العمل على عقيدة المسلم ؟
زيارة القبور من أجل التذكر والاعتبار والدعاء لأموات المسلمين مستحبة قد أمر بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : ( زوروا القبور فإنها تُذكر بالآخرة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/671 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه بلفظ : ( . . فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/9 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) من حديث بريدة رضي الله عنه بلفظ : ( . . فزوروها فإن في زيارتها تذكرة ) ] ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا مر بقبور المسلمين سلّم عليهم ودعا لهم، فقال : ( السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم ) (18) .
هذه هي الزيارة الشرعية التي فيها نفع للزائر بحصول الأجر والتذكر والاعتبار ونفع للميت المزور بالسلام عليه والدعاء له .
أما زيارة القبور من أجل التبرك بتربتها والتمسح بجدرانها وسؤال الموتى قضاء الحاجات وتفريج الكربات وتقديم النذور لهم والذبح لهم والطواف بقبورهم والصلاة عندها أو إليها، فهذه زيارة بدعية شركية قد حرَّمها الله ورسوله .
قال الله تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ سورة الجن : آية 18 ] ، وقال تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ سورة يونس : آية 18 ] ، سمى عملهم هذا شركًا نزه نفسه عنه مع أنهم يزعمون أن هؤلاء الموتى مجرد شفعاء لهم عند الله يسألونه بحقهم وجاههم وهذا ما عليه القبوريون اليوم .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) (19) ، ومعنى يتخذونها مساجد : يصلون عندها رجاء بركاتها وقبول دعائهم بواسطتها .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يبنون المساجد على القبور ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/405 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبعض أزواجه لما ذكرن له ما رأينه بأرض الحبشة من كنائس النصارى وما فيها من التصاوير : ( أولئك شرار الخلق عند الله ) . وهذا بعينه هو ما يفعله القبوريون اليوم : يبنون المشاهد الشركية على القبور، ويسمونها مساجد، ويغرون العامة والسُّذَّج بزيارتها وصرف الذبائح والنذور لها واعتبروها موارد مالية يستغلونها للكسب من هؤلاء الطعام وأشباه الأنعام، وهذا شرك أكبر يبطل العقيدة ويخرج من الملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
والواجب على ولاة أمور المسلمين وعلى علمائهم إنكار هذا الشرك القبيح وإزالة هذه المساجد، بل المشاهد المبنية على القبور، وتحكيم شرع الله في هؤلاء الذين أضلوا الناس، وزينوا لهم هذه الأعمال الشركية القبيحة، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويّته ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/666 ) من حديث أبي الهياج الأسدي ] ، وهذا أمر لجميع الأمة .(141/7)
أحكام الذبائح واللحوم المستوردة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله -محمد وعلى آله وصحبه أجمعين-، وبعد:
فإن الحكم على واقعة ما يتوقف على معرفة جزئياتها ومكوناتها وحيثياتها، وشرح حالاتها، وعرضها على معاني الشريعة وقواعدها، ومبادئها ثمَّ تطبيق القواعد الكلية التي تناسبها، ومن ثمَّ إبداء الحكم عليها ؛ لأن للشريعة حكماً في كل واقعة تحدث من هذه الوقائع ، فما وافقها ولم يخالفها كان مقبولاً سائغاً، أما إذا خالفها فمردود، ولا يقال إن في هذا حرج وضيق ؛ لأن الله تعالى يقول: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ? [الحج: 11] ، ولا بد على العالم أن يبن حكم الشرع في أي مسألة حادثة ويتحرى حكم الشارع فيها ولا يكون همه إيجاد مخارج ، إلا أن يصل الأمر إلى حد يعتبره الشرع ضرورة.
ومن القضايا الهامة التي فشت وانتشرت في بلاد المسلمين قضية اللحوم المستوردة من خارج بلاد المسلمين، فقد أصبح المسلمون اليوم، يستوردون من بلاد الكفرة كميات كبيرة من هذه اللحوم ـ معلبة كانت أو غير معلبة ـ الذي يتوقف حِلُّها على توفر الصفة المشروعة في ذبحها، كلحوم الأبقار والأغنام والدجاج، وقد وقع المسلمون ـ لا سيما المحتاطون لدينهم ـ في تردد وحيرة من أمر هذه اللحوم، هل توفرت فيها شروط وضوابط التذكية الشرعية أم لا؟!
وحُق لهم أن يقعوا في هذه الحيرة وهذا التردد في قضية كهذه لا شك أن لها أهميتها في حياة المسلمين، لكونها تتعلق بالغذاء، لذا فقد كثر انتشارها في المدن والقرى وعمت بها البلوى، فلا يكاد يخلو منها بيت من بيوت المسلمين، ولهذا نجد الإسلام قد أولى هذه القضية اهتماماً كبيراً، فوضع حدوداً وضوابط للأطعمة، فبين ما يحل منها وما ُيحرَم، بل وحذر المسلمين من تناول هذه المحرمات، لما لها من آثار سيئة ومخاطر بالغة على صحة وسلامة الإنسان .
هذه اللحوم الوافدة على بلادنا الإسلامية من هنا وهناك، أهي حلال أم حرام؟
هذا السؤال الذي تردد في أذهان كثير من المسلمين وجرى على ألسنتهم، الأمر الذي جعلهم يستفتون العلماء بكثرة عن هذه القضية، وقد اختلفت وتباينت أقوال المجيبين على هذا السؤال مما زاد في حيرة السائلين، بل لربما زاد القضية غموضاً وتعقيداً وسنتحدث ـ بعون الله وتوفيقه ومدده ـ في هذا البحث عن هذه القضية من خلال عدة محاور:
المحور الأول: تعريف الذكاة ، وبيان حكمها.
المحور الثاني: ضوابط وشروط الذبح الشرعي.
المحور الثالث: ضوابط من تحل لنا ذبيحته من غير المسلمين.
المحور الرابع: الضوابط الشرعية في حل ذبائح أهل الكتاب.
المحور الخامس: تطبيق ضوابط الذبح الشرعي على واقع اللحوم المستوردة.
المحور السادس: الحكم الشرعي في اللحوم المستوردة.
الخاتمة والتوصيات :
المحور الأول
تعريف الذكاة وحكمها
لمَّا كان من شرط حِل الحيوان البري أن يكون مذكى ذكاة شرعية- وإن لم تجر عليه تلك الذكاة يكون ميتة محرمة أكلها -كان ما يتعلق بمسألة الذكاة، ومعرفة ما يلزم لها من الأهمية بمكان.
الذكاة في اللغة:
يقول ابن منظور: التذكية الذبح والنحر، يقال ذكية الشاة تذكية ، وذكاء الحيوان ذبحه وأصل الذكاة في اللغة: إتمام الشيء (1) ، ويقول الدكتور وهبة الزحيلي التذكية لغة: القطع أو الشق وإزهاق الحيوان (2) ، إذاً الذكاة في اللغة تمام الشيء لأن ذبح الحيوان معناه إتمام زهوقه.
الذكاة في الاصطلاح:
عرفها الفقهاء بعدة تعاريف اختار منها هذا التعريف : بأنها ذبح الحيوان البري بقطع حلقومه ومريئه أو عقر الممتنع منه(3).
حكمها:
الذكاة لازمة ولا يحل شيء من الحيوان البري المأكول المقدور عليه بغير ذكاة ؛ لأن غير المذكى يكون ميتة، وقد وقع الإجماع على حرمة أكل الميتة إلا للمضطر ويستثنى من الميتة ميتة السمك والجراد لحديث ابن عمر مرفوعاً "أحل لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال"(4).
المحور الثاني
في بيان ضوابط الذبح الشرعي وشروطه والحكمة منه
عن شداد بن أوس - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"(5)، ولما كان لهذا الحديث الشريف من علاقة وطيدة فيما نتحدث عنه في هذا المحور حَسُن بنا أن نتصدر به موضوعنا.
ضوابط وشروط الذبح الشرعي:
اعلم أن الذكاة المشروعة لها شروط يجب تحقيقها عند ذبح الحيوان، وهي:
1- النية، والقصد عند الذبح.(142/1)
2- أهلية المذكي ، بأن يكون مميزاً عاقلاً، مسلماً، أو كتابياً، ذمياً أو حربياًُ، قاصد التذكية ولو كان مكرهاً على الذبح، ذكراً أو أنثى، طاهراً أو حائضاً، أو جنباً، بصيراً أو أعمى، عدلاً أو فاسقاً، لعموم الأدلة وعدم المخصص(6).
3- آلة الذبح: لابد أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها، سواء كانت حديداً أو حجراً أو خشباً أو زجاجة، لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم- بكل ما أنهر الدم بحد إلا السن والظفر، لحديث رافع بن خديج أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل إلا السن والظفر"(7).
4- قطع الحلقوم(8) والمريء(9)، والودجين(10) ، فقد اتفق العلماء: على أن الذبح الذي يقطع فيه الودجان والمريء والحلقوم مبيح للأكل، ومحل القطع الحلق واللَّبة وهي الوهدة بين أصل العنق والصدر، ولا يجوز في غير ذلك بالإجماع(11).
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء على جمل أورق يصيح في فجاج مكة: ألا إن الذكاة في الحلق واللُّبة"(12).
5- التسمية عند الذبح:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجب للذكاة الشرعية أن يذكر الذابح اسم الله تعالى عند الذبح، فإن ترك التسمية عمداً فلا تحل ذبيحته عند أبي حنيفة،ومالك، وأحمد،وجمهور الفقهاء، وأما إذا نسيها، فالذكاة معتبرة عند الحنفية، والمالكية، ولا فرق عندهم في هذا بين الذبيحة والصيد، أما عند الحنابلة فالنسيان معفوٌ عنه في الذكاة الاختيارية فقط، أما في الصيد فلا تعتبر الذكاة إذا لم يذكر اسم الله عند إرسال السهم أو الكلب، سواء أتركها عمداً أو نسياناً.
أما الإمام الشافعي-رحمه الله-، فالمشهور عنه أن التسمية ليست واجبة عنده، وإنما هي سنة(13)، فتحل الذبيحة وإن تركها الذابح عمداً، ولكن الذي يظهر من مراجعة كتاب الأم للشافعي أنه لم يصرح بحل متروك التسمية عمداً، إنما صرح بحل ما نسى الذابح ذكر الله عليه، وعبارته ما يلي: (وإذا أرسل الرجل المسلم كلبه أو طائره المعلمين أحببت له أن يسمي، فإن لم يسم ناسياً فقتل أكل، لأنهما إذا كان قتلهما كالذكاة، فهو لو نسي التسمية في الذبيحة أكل، لإن المسلم يذبح على اسم الله وإن نسي)(14)
ثم إن الإمام الشافعي-رحمه الله- صرح فيما بعد بإن من يترك التسمية عند الذبح استخفافاً، لا يحل أكل ذبيحته، فقد ذكر-رحمه الله- في معرض ما هو مُسلًم عنده :) أن المسلم إن نسي اسم الله تعالى أكلت ذبيحته، وإن تركه استخفافاً لم تؤكل ذبيحته)(15)، وقد صرح بعض العلماء بإن الفقهاء أجمعوا على ذلك، فقد جاء في التفسير المظهري نقلاً عن شرح المقدمة المالكية: (وكل هذا في غير المتهاون، أما المتهاون فلا خلاف أنها لا تؤكل ذبيحته تحريماً، قاله ابن الحارث والبشير، والمتهاون هو الذي يتكرر منه ذلك كثيراً، والله أعلم)(16).
وهذه العبارات تدل على أن مذهب الشافعي-رحمه الله- ليس على إطلاق الحل فيما تعمد ترك التسمية عليه، وإنما تحريم الذبيحة عنده إذا ترك عليها التسمية تهاونا واستخفافا، وجعله الرجل عادة له، ومفاد ذلك: أن حكم الحل مقتصر عنده على من ترك التسمية مرة أو مرتين اتفاقاً، لا تهاوناً واستخفافاً، وفي تلك الصورة أيضا لا يخلو ذلك من كراهة، لأنه قال: (أحببت له أن يسمى) وقد صرح الفقهاء الشافعية بأن ترك التسمية عمداً مكروه، وأنه يأثم به التارك(17).
وبهذا ظهر أن متروك التسمية عمدا حرام عند الحنفية والمالكية والحنابلة، وحرام عند الشافعي - رحمه الله - أيضا،ً إذا كان ذلك استخفافاً وتهاوناً، وصار كالعادة للذابح، وما وقع اتفاقا فإنه لا يحكم بحرمته عنده، ولكنه لا يخلو من كراهة، وهذه الرخصة أيضا لا تساندها نصوص القرآن والسنة، حيث تظافرت الآيات والأحاديث على اعتبار التسمية ركنا من أركان الذكاة الشرعية، قال الله سبحانه وتعالى: ? وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق? [الأنعام:121] .
وأية عبارة أصرح على كون متروك التسمية حراما من هذه الآية الكريمة الواضحة التي ليس فيها إجمال ولا خفاء؟ فإن فيه نهيا صريحا، والنهي يقتضي التحريم، ولم يكتف القرآن بصيغة النهي، بل أتبعها بقوله ? وَإِنَّهُ لَفِسْق? بما يقطع كل شبهة في هذا الباب)(18).
الحكمة من الذبح واشتراط إنهار الدم:
تظهر الحكمة من الذبح لمراعاة صحة الإنسان ودفع الضرر عنه، بفصل الدم عن اللحم، فالدم المسفوح له ضرره على صحة الإنسان، فهو مرتع خصب للميكروبات والجراثيم، يقول الإمام النووي في الحكمة في اشتراط أنهار الدم: تميز اللحم والشحم من حرامهما وتنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها القبيح فيها(19).اهـ.(142/2)
والحكمة في تخصيص الذكاة في المحل المذكور، وفي قطع هذه الأشياء الحلقوم ، والمريء، والودجان خاصة، لأن هذا المحل هو مجمع العروق، فيخرج الدم السيال من جسم المذبوح بغزارة ، ومن الحكمة أيضاً أن هذه الكيفية لها أثر في سرعة إزهاق الروح فيكون اللحم طيباً، وهذه الطريقة هي أخف على الحيوان(20).
المحور الثالث
معرفة من تحل لنا ذبيحته من غير المسلمين
يقول الله جل وعلا : ? الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم ? [المائدة:5].
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم : قال ابن عباس: يعني ذبائحهم وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله(21) ، ويقول ابن عطية: الطعام في هذه الآية الذبائح كذا قال أهل التفسير(22).
قال صاحب المنار وفسر الجمهور الطعام هنا بالذبائح واللحوم، لأن غيرها حلال بقاعدة " أصل الحل" ولم تُحرم من المشركين(23).
إذاً فقد أخبرنا الله عز وجل بأن لحوم أهل الكتاب وذبائحهم حِلٌ لنا معشر المسلمين، وتخصيص أهل الكتاب في هذه الآية يدل على أن من سواهم من الكفار لا تحل لنا ذبائحهم، كما أن حصر الحِل في ذبائح أهل الكتاب على غيرهم من الطوائف يدل على أن تحليل ذبائح من سواهم من الكفار يحتاج إلى دليل .
ومن الأدلة أيضاً على أن ذبائح أهل الكتاب حل لنا:
أَكلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشاة التي أهدته إياها يهودية، فعن أنس بن مالك - - رضي الله عنه -- : "أن يهودية أتت النبي- صلى الله عليه وسلم- بشاة مسمومة، فأكل منها فجئ بها: فقيل ألا نقتلها ؟ قال: لا ، فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (24).
وحديث عبد الله بن مغفل قال: " أصبت جراباً من شحم يوم خيبر قال فالتزمته لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً، قال فالتفت فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مبتسماً "(25) فهذا يدل على إقرار من النبي- صلى الله عليه وسلم- .
فخلاصة الأمر:
أن ذبائح أهل الكتاب حلال للمسلمين، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
يقول ابن عثيمين: وقد حكى إجماع المسلمين على حل ذبائح أهل الكتاب غير واحد من أهل العلم، منهم صاحب المغني وشيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال: ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثابت في الكتاب والسنة والإجماع(26).
ومادام الأمر كذلك فلا بد لنا من ضبط مدلول أهل الكتاب وتحديدهم، يقول الإمام القرطبي ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعمّ اليهود والنصارى(27).
فعلى هذا نقول أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى الذين لهم كتاب ودين سماوي. وكل ما عداهم من الكفرة لا تحل لنا ذبائحهم، فالمجوس: أمَّة من الناس، ومجوس كلمة فارسية(28) ومجوس كصبور، رجل صغير الأذنين، وضع ديناً ودعا إليه العرب منج كوش(29)، وهم يدعون نبوة زراد شت ونزول الوحي عليه(30)، والمجوس ليسوا أهل كتاب بالإجماع، وشذ من جعلهم كأهل الكتاب، وهو خلاف لا يعتمد ولا يعول ولا يلتفت إليه، ومما يدل على أنهم ليسوا أهل كتاب قول النبي- صلى الله عليه وسلم- "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"(31) فهذا يدل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب، إنما يفعل بهم في الجزية كما فُعل بأهل الكتاب، أما أن تؤكل ذبائحهم وتُنكح نسائهم فلا، لذلك قال الشافعي، -رضي الله عنه- ولم أعلم مخالفاً في أن لا تُنكح نساء المجوس ولا تؤكل ذبائحهم(32).
كذلك الوثني : وهو الذي يعبد الوثن الصنم سواء كان هذا الصنم حجراً أو شجراً أو قبراً، أو أشخاصاً، فهذا مشرك بالله شركاً أكبر أياً كان معبوده، فمن كان هذا حاله فذبيحته حرام.
وتحرم ذبيحة الدهري نسبة إلى الدهر ويطلق على من يقول بقدم الدهر ولا يؤمن بالبعث، فيشمل كل من لا يؤمن بوجود الخالق من الماديين كالشيوعيين وأشكالهم من الملاحدة، ومن ارتد عن الإسلام فكفر بعد إسلامه بارتكابه ناقض من نواقض الإسلام فذبيحته حرام مطلقاً عند الجمهور، لأن المرتد كافر لا يُقَّرُ على دينه الذي ارتد إليه، فلم تحل ذبيحته كالوثني، ولا تثبت له أحكام أهل الكتاب إذا تدين بدينهم، فلا يقر بالجزية ولا يُسترق ولا يحل له نكاح المرتدة(33).
وخلاصة الأمر:
إن الذابح الذي لا تؤكل ذبيحته وتحرم بالاتفاق، هو الكافر من غير أهل الكتاب كالمشرك والوثني عابد الصنم والملحد الذي لا يدين بدين، والمرتد وإن تدين بدين أهل الكتاب، والزنديق ،والمتوجه بالذبح لغير الله ، لقوله تعالى: ? وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب ?[المائدة:3]، وقوله تعالى: ِ? وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِه ?[المائدة:3] لأنه يحرم الاتجاه بالذبح إلى غير الله تعالى.(142/3)
والمرتد لا يقر على الدين الذي انتقل إليه، وبناء عليه: تحرم اللحوم المستوردة من البلاد الوثنية كاليابان والشيوعية، كروسيا والصين أو التي لا تدين بدين سماوي كالهند، كما تحرم ذبيحة الباطنية إلا من ثبت إيمانه بالإسلام وترك ملته(34).
الحكمة من تحريم ذبائح المجوس والوثنيين والمرتدين:
لعل سائل أن يسأل فيقول:
لماذا أحل الله لنا ذبائح أهل الكتاب، وحرم علينا ذبائح من سواهم من الكفار كالوثنيين والمجوس والمرتدين؟!
وأراني هنا أتوقف عن إبداء ما أراه تأدباً مع الإمام ابن القيم رحمه الله، حيث ذكر ما يغني ويفيد، وإذا جاء نهر الله بَطَل نهر مَعْقِل، يقول- رحمه الله- في الحكمة من تحريم ذبائح المجوس والمرتدين:
إن ذبائح هؤلاء يكسب المذبوح خبثاً أوجب تحريمه... لأن ذكر اسم الأوثان والكواكب والجن على الذبيحة يكسبها خبثاً.. وذكر اسم الله وحده يكسبها طيباً، وقد جعل- الله سبحانه- ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح فسقاً وهو الخبيث ولا ريب أن ذكر اسم الله على الذبيحة يطيبها ويطرد الشيطان عن الذابح والمذبوح فإذا أخل بذكر اسمه لابس الشيطان الذابح والمذبوح فأثر ذلك خبثاً في الحيوان ، والشيطان يجري في مجاري الدم من الحيوان، والدم مركبه وحامله وهو أخبث الخبائث، فإذا ذكر الذابح اسم الله خرج الشيطان من الدم فطابت الذبيحة وإذا لم يذكر اسم الله لم يخرج الخبث، وإذا ذكر اسم غير الله من الشياطين والأوثان فإن ذلك يكسب الذبيحة خبثاً آخر، والذبح يجري مجرى العبادة، ولهذا يقرن الله بينها كقوله تعالى: ? فصل لربك وانحر ? [الكوثر:2] ، وقوله تعالى: ?قل إن صلاتي ونسكي ومحيايَّ ومماتي لله رب العالمين? [الأنعام:162] ، وقاله تعالى: ? وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ? [الحج: 36].
فأخبر أنه إنما سخرها لمن يذكر اسم الله عليها، وأنه إنما يناله التقوى وهي التقرب إليه بها، وذكر اسمه عليها، فإذا لم يذكر اسم الله عليها كان ممنوعاً أو ذكر عليها اسم غيره ـ وصف الخبيث ـ فكانت بمنزلة الميتة، وإذا كان هذا في متروك التسمية وما ذكر عليه اسم غير الله، فما ذبحه عدوه المشرك به الذي هو من أخبث البرية أولى بالتحريم، فإذا فعل الذابح وقصده وخبثه لا ينكر أن يؤثر في المذبوح(35).
وفي هذا المعنى يقول السعدي رحمه الله :
وقد اتفق الرسل كلهم على تحريم الذبح لغير الله لأنه شرك، فاليهود والنصارى يتدينون بتحريم الذبح لغير الله فلذلك أبيحت ذبائح الكتابيين دون غيرهم(36).
ثم إن هناك فرقاً واضحاً بين عُبَّاد الأوثان وبين أهل الكتاب، فكفر الوثنيين أشد وأغلظ من كفر أهل الكتاب، فأهل الكتاب معهم بعض من آثار التوحيد ويؤمنون بالمعاد وبأصل النبوات، وبالجنة والنار بخلاف عباد الأوثان الذين أنكروا المعاد والجزاء، وتاريخهم حافلٌ بالتكذيب ومحاربة الأنبياء.
ولعل من الحكمة في تحريم ذبائح الوثنيين وغيرهم من الكفرة وتحليل ذبائح أهل الكتاب، ما ذكره محمد رشيد رضا في تفسيره حيث قال: كان من سياسة الدين التشديد في معاملة مشركي العرب حتى لا يبقى في الجزيرة منهم أحد إلا ويدخل الإسلام، وخفف في معاملة أهل الكتاب استمالة لهم(37).
المحور الرابع
الضوابط الشرعية في حل ذبائح أهل الكتاب
بعد هذه المحاولة للتعريف بأهل الكتاب وتحديدهم، وتظافر النصوص على حل ذبائحهم، فهل يا ترى هذا الحل على عمومه ؟ أم أن ثمة قيود وضوابط تخصص هذا العموم ـ أعني عموم قوله تعالى :? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم? .
فأقول إن فقهاء المالكية قالوا: يشترط لحل ذبيحة الكتابي يهودياً كان أو نصرانياً شروط :
أولاً: أن لا يذبح الكتابي ذبيحته لصنم .
ثانيا: ألا يغيب الكتابي حال ذبحها عنا، بل لابد من حضور مسلم عارف بالذكاة الشرعية، خشية أن يكون الكتابي قد قتلها، فإن غاب لم تؤكل، وهذا التفصيل هو المشهور من المذهب، قال ابن راشد:
القياس أنه إذا كان يستحل الميتة لم تؤكل ذبيحته، ولو لم يغب عليها لأن الذكاة لابد فيها من النية، وإذا استحل الميتة فكيف ينوي الذكاة.
ثالثاً: أن يكون ما ذبحوه مما يحل لهم في شريعة الإسلام وهذا خاص باليهود فإن كان ما ذبحه اليهود مما لا يحل له في شرعنا من ذي الظفر أو المخلب أو الحافر وكل ما ليس مشقوق الظلف ولا منفرج القوائم، فلا يحل لنا أكله إن ذبحه اليهودي.
ودليل حرمة ذي الظفر على اليهودي في شرعنا ، قوله تعالى: ?وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُر... ? [الأنعام:146] ، وليس من ذي الظفر الدجاج والحمام إذ هما مشقوقا الأصابع، وليس بينها اتصال.
وأما النصارى فلم يحرم عليهم شيء في شرعنا الإسلامي.(142/4)
رابعاً: أن يكون ما ذبحه الكتابي ملكاً له، فإن كان ملكاً لمسلم أو مشتركاً بينهما فيكره أكله على أرجح الأقوال(38)
خامساً: أن لا يكون ما ذبحه الكتابي مما حرمه الله علينا بعينه كالخنزير والدم، أو مما حرمه علينا بوصفه كالميتة، إذا كانوا يستحلون ذلك فلا يباح لنا أكله بذكاتهم(39).
أقول: وكذلك إذا أزهق الكتابي روح الحيوان بطريقة غير شرعية كالخنق، والضرب، وما في معناه، لا يجوز لنا أكله، لأن الله حرم علينا ذلك، قال تعالى: ? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ..?[المائدة:3].
أما ما ذبحه الكتابي على اسم غير الله كالمسيح وغيره فللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
أ ـ التحريم وهو قول الشافعية(40) والحنفية(41)، وأصح الروايتين عن أحمد(42)، لأن القرآن قد صرح بالتحريم بما أهل لغير الله به، قال تعالى: ?إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِه... ? [النحل:115].
وهذا عام في ذبيحة الوثني والكتابي إذا هما أهلا لغير الله به.
ب ـ من العلماء من قال بالإباحة وهم جماعة من السلف ورواية عن أحمد(43).
قالوا لأن هذا من طعامهم، وقد أباح الله لنا طعامهم من غير تخصيص.
ج ـ وقال المالكية: إذا ذبح أهل الكتاب وقصدوا به التقرب لآلهتهم وتركوه لا ينتفعون به فلا يحل لنا أكله إذ ليس من طعامهم، وأما ما ذبحوه لأنفسهم بقصد أكلهم ولو في أعيادهم وسموا عليه آلهتهم تبركاً، فهذا يؤكل بكره، لأنه تناول عموم، قال تعالى : ? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم ?(44).
والذي يرجح من هذه الأقوال: القول الأول وهو التحريم مطلقاً، وذلك لعموم الآية:-? إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِه ? (45).
والذبح باسم الآلهة أو المسيح مما أهل لغير الله به، وكذلك ما أزهقه أهل الكتاب من روح الحيوان، بالخنق، والضرب، فهو ميتة لا تحل لنا لعموم قوله تعالى: ? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَة... ? [المائدة:3].
فالآية وإن كانت مطلقة في حل ذبائح أهل الكتاب في قوله تعالى: ? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم ? إلا إن هذا الإطلاق ليس على عمومه، بل هو مقيد بما لم يهلوا به لغير الله، وما لم يكن ميتة أو دم أو لحم خنزير، أو كان مخنوقاً أو مضروباً، فمن قال أن الآية في حل طعام أهل الكتاب على الإطلاق أياً كان فقد حاد عن الصواب، وكذلك إذا لم يذكر الكتابي على ذبيحته اسم الله تعالى- التي هى شرط في التذكية- فلا يجوز الأكل منها،لعموم قوله تعالى: ? وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق? [الأنعام:121] .
يقول الإمام الشافعي: فإن قال قائل: وكيف زعمت أن ذبائحهم صنفان وقد أبيحت مطلقة، قيل قد يباح الشيء مطلقاً، وإنما يراد بعضه دون بعض، فإذا زعم زاعم أن المسلم إذا نسي اسم الله أكلت ذبيحته، وإن تركه استخفافاً لم تؤكل ذبيحته وهو لا يدعه للشرك، كان من يدعه للشرك أولى أن تترك ذبيحته ،وقد أحل الله عز وجل لحوم البدن الإبل مطلقة، فقال تعالى: ? فَإِذَا وَجَبَتْ ? أي سقطت جنوبها فكلوا منها، ووجدنا بعض المسلمين يذهب إلى أنه لا يؤكل من البدنة التي هي نذر، ولا جزاء صيد ولا فدية، فلما احتملت هذه الآية ذهبنا إليه وتركنا الجملة لا لأنها خلاف للقرآن ولكنها محتملة، ومعقول أن من وجب عليه شيء في ماله لم يكن له أن يأخذ منه شيئاً، لأنا إذا جعلنا له أن يأخذ منه شيئاً فلم نجعل عليه الكل إنما جعلنا عليه البعض الذي أعطى، فهكذا ذبائح أهل الكتاب بالدلالة على شبيه ما قلناه (46) .أهـ(142/5)
وهذا ما يرشد إليه العقل السليم، فقوله تعالى :? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم ? مطلقة فيما أهل به لله، وما أهل به لغيره، وبما توفرت فيه الصفة المشروعة في الذبح أو لم تتوفر، أما ما أهل به لغير الله، وما لم تتوفر فيه الصفة الشرعية في الذبح، فهما قيد منه، فلا يجوز تعطيل القيد وإلغاؤه، بل يحمل المطلق على المقيد حتى ولو أدعى المخالفون عكس ذلك، فإن الله- تعالى- قد نص على تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية والنطيحة..، حتى ولو كان المزهق لروح الحيوان مسلم فلا يباح أكله، فكيف نستبيحه إن وقع من الكفرة أهل الكتاب، وقد نهى الله عن أكل ما لم يذكرا اسم الله عليه، فقال سبحانه: ? وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ? [الأنعام: 121].
فبين حرمته، ووصفه بأنه فسق، وفي هذا إشارة على أن ما ذُكر عليه أسم غير أسم الله فهو أشد تحريماً، وأحرىُ بأن يوصف بالفسق، فلا يكون حلالاً.
المحور الخامس
تطبيق ضوابط الذبح الشرعي على واقع اللحوم المستوردة
ذكرنا فيما مضى أنه لا بد من توفر ضوابط وشروط في التذكية، بحيث يكون ذبحها مستكملاً شروط إباحتها للأكل حسبما ذكره أهل العلم في باب التذكية، فإذا تخلفت شروط التذكية عن ذبح الذبيحة، فذبحت بطريقة غير شرعية، فإن أكلها غير مباح وتكون في حكم الميتة المحرمة، فإذا كان ذلك كذلك فلا بد لنا ديانةً وشرعاً من الاطمئنان على توفر هذه الضوابط والشروط في الذبائح التي تورد إلى بلاد المسلمين من الدول غير الإسلامية معلبة كانت أو غيرها بما تسمى "باللحوم المستوردة"، وهي إما أن تكون:
1/ مستوردة من بلاد كافرة أهلها، من غير أهل الكتاب، أو ذبحها كافر غير كتابي في أي بلد، فهذه اللحوم يحرم أكلها.
2/ ما كان من هذه اللحوم مستورداً من بلاد كافرة لكن أهلها أهل كتاب أو كان الذابح كتابي في أي بلد وعُلِمَ يقيناً في هذا النوع أنه ذبح على الطريقة المشروعة فهو حلال.
3/ ما كان منها مستورداً من بلاد كافرة أهلها أهل الكتاب لكن كثر القول بأنهم يذبحون على غير الطريقة المشروعة فهنا محل الأشكال.
ولا بد لنا حين ذلك من تطبيق ضوابط الذبح الشرعي على هذه الذبائح ولا يكفي أنها من أهل الكتاب فيكون ذلك حجة أو مبرر يمنع من النظر في توفر الصبغة الشرعية في ذبحها، أو عدمها
فقد أفتى بحل ذلك بعض العلماء ـ كما ذكر ذلك- الشيخ الفوزان (47) .
واحتج هؤلاء بعموم قوله تعالى : ? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم ? ، قال القاضي ابن العربي المالكي في تفسير هذه الآية ما نصه: ( هذا دليل قاطع على أن الصيد وطعام الذين أوتوا الكتاب من الطيبات التي أباحها الله وهو الحلال المطلق.. ولقد سئلت عن النصراني يقتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاماً..؟ فقلت تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله أباح لنا طعامهم مطلقاً، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه. أهـ)(48)
وقد استند إلى هذه الفتوى الشيخ/ محمد عبده فأباح هذه النوع من فتواه حيث قال ما نصه:ـ (وأما الذبائح فالذي أراه أن يأخذ المسلمون في تلك الأطراف بنص كتاب الله تعالى في قوله: ? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم ? ، وأن يعولوا على ما قال الأمام الجليل أبو بكر بن العربي المالكي: من أن المدار على أن يكون ما يذبح مأكول أهل الكتاب- قسيسهم وعامتهم- ويعد طعاماً لهم كافة) (49).
وقد أحدثت هذه الفتوى ضجة كبرى بين العلماء في ذلك الوقت ما بين مستنكر لها ومؤيد لها، وممن أيدهما وتحمس لها تلميذه محمد رشيد رضا ـ وأطال الكلام في تأييدها والدفاع عنها في مجلة المنار(50)، وتفسير المنار(51).
ويرد على هذه الفتوى من وجوه:ـ
الوجه الأول: أن ابن العربي قد نقض فتواه هذه بما جاء في موضع آخر من تفسيره حيث قال:- فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة، كالخنق وحطم الرأس، فالجواب: أن هذه ميتة وهي حرام بالنص، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير، فإنه حلال لهم، ومن طعامهم وهو حرام علينا أهـ (52).
فكلامه هنا واضح في أنه يرى تحريم ما ذكاه أهل الكتاب على غير الصفة المشروعة في الذكاة، كالخنق وحطم الرأس، ولا شك أن فتل العنق خنق، فهو يرى تحريمه علينا، وإن أكلوه هم واعتبروه طعاماً لهم.
الوجه الثاني: أن المراد بطعام أهل الكتاب ما ذكوه من الذبائح على الصفة المشروعة، فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته، لأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كذكاة المسلم، والمسلم لو ذكى على غير الصفة المشروعة لم تبح ذبيحته ، فالكتابي من باب أولى، وكيف يتشدد في ذبيحته المسلم ويتساهل في ذبيحة الكافر الكتابي والمسلم أعلى من الكافر.(142/6)
الوجه الثالث: أن طعام أهل الكتاب قد خص منه ما استباحوه كالخنزير، فيخص منه ما ذبحوه على غير الصفة المشروعة في الذكاة .
الوجه الرابع: أن ما ذبح بفتل عنقه يدخل في المنخنقة، وما ذبح بضربة بالبلطة ونحوها موقوذ، وقد حرم الله المنخنقة، والموقوذة بنص القرآن في قوله تعالى: ? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَة. ? ، فيكون ذلك مخصصاً لقوله تعالى : ? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم ? .
الوجه الخامس: أن ما ذكي على غير الصفة المشروعة يفتقد فوائد الذكاة من استخراج دمه وتطيب لحمه، والذكاة لا ينظر فيها إلى وصف المذكي فقط، بل ينظر فيها إلى وصف المذكى وصفة الذكاة معاً، فلو وجد أمامنا ذبيحتان كل منها ذكي على غير الصفة المشروعة، إحداهما ذكاها مسلم، والأخرى ذكاها كتابي، فكيف تحرم ذبيحة المسلم ونبيح ذبيحة الكافر في هذه الحالة، إن في هذا رفعاً لشأن الكافر على المسلم، ثم إن هذه اللحوم الواردة إلينا لن نبني حكمنا عليها بمجردة الظن والإحتمال والشك، إنما سنذكرهنا شهادات ممن ذهبوا إلى تلك البلاد الكافرة الكتابية، وقاموا بزيارات لتلك المواقع، ورأوا بأعينهم كيف تتم عملية إزهاق روح الحيوان حتى نكون على بينة من الأمر، ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي على بينة.
يقول الأستاذ/ عبد الله على حسين(53) في كتابه "اللحوم ـ أبحاث مختلفة في الذبح والصيد واللحوم المحفوظة.
وأما اللحوم المحفوظة في العلب مثل "بولي بيف" ومرقة الثور وهي المسماة (كيف أكسو) وشوربة الفراخ بالشعيرية، وهكذا من اللحوم المحفوظة في علب صفيح وما يشتق منها أياُ كان نوعها الذي يصدر إلى مصر من أوربا واستراليا وأمريكا: أن يحرم استعمالها قطعاً، لأنها لحم حيوان موقوذ مضروب حتى مات، فإن طريقة الذبح في جميع هذه البلاد تكاد تكون واحدة، وهي ضرب الحيوان في مخه فيخر صريعاً بلا حركة، لأنها تصيب المخ ومتى ما وقع حُمل إلى التقطيع بعد السلخ فيعمل من هذا الحيوان كافة أنواع اللحوم المحفوظة وما يخرج عنها..وقد أردت أن أعرف طريقة ذبحهم بطريقة رسمية لا تقبل الجدل أو الشك في تطبيق الأحكام الشرعية، فكتبت كتاباً دورياً أرسلته لقناصل 14 دولة 1ـ انجلترا 2ـ فرنسا 3ـ أسبانيا 4ـ هولندا 5ـ إيطاليا 6ـ تركيا 7ـ جنوب إفريقيا 8ـ الولايات المتحدة 9ـ البرازيل 10ـ استراليا 11ـ روسيا 12ـ الدانمرك 13ـ سويسرا 14ـ رومانيا.
ويتضمن هذا الكتاب ثلاثة أسئلة:ـ
أولاً: ما هي طرق الذبح في بلادكم ،أو قتل الحيوان عندكم؟
ثانياً: ما هو المكان الأول الذي يضرب فيه الحيوان من جسمه لقتله في بلادكم؟
ثالثاً: ما هي الصناعات المختلفة من اللحوم المحفوظة التي تصنع وتصدر من بلادكم؟
ثم ذكر أن الذي أجابت من تلك الدول هي تركيا، واليونان، وهولندا، وأسبانيا و الدنمرك والذي يبدوا واضحاً في المخالفة للطريقة الشرعية ما جاء في إجابة هولندا والدنمرك.
1- طريقة هولندا في إجابتها:ـ
قالت تقتل البهائم بعد تدويخها بأسرع ما يمكن بإسالة دمها، وتحصل عملية التدويخ بواسطة آلات تغُيب المخ، فتفقد البهيمة وعيها في الحال وقطع الرأس أو الرقبة ممنوع، وكذلك الذبح بسكين بموجب مرسوم ملكي.
2- وطريقة الدانمارك كما جاء في نص إجابتها:ـ
الخيول والثيران والعجول الكبيرة تذبح بطريقة صعقها بإطلاق الرصاص على رأسها في موضع المخ بالمسدس برصاص خاص لهذه العملية..والعجول الصغيرة والأغنام تذبح بطريقة الصعق، إما بالرصاص، أو بالضرب الشديد على جهتها الأمامية بمطرقة، أما الدواجن، فإنه يشترط في ذبحها أن يكون ذلك بطريقة الصعق السريع بالضرب الشديد بالمطرقة على رأسها، أو بقتلها قتلاً سريعاً بفصل رأسها، وعند ذبح الخيل والثيران والعجول الكبيرة بالطريقة المذكورة تصفى ماؤها بإدخال سكين في أسفل رقبتها في الشريان الكبيرة الوقع في مدخل الصدر من أعلى، وتستعمل لهذا الغرض السكين العادية، أما العجول الصغيرة والأغنام فتصفى دماؤها بتشريطها من الجانب الأسفل من رقبتها في الشريان الكبير الواقع خلف الرأس حول الرقبة فتفصل شرايينها.أهـ.(142/7)
ثم علق المؤلف بقوله: وكل هذه أدلة رسمية قاطعة في صدق ما ندعيه من أن ذبائحهم موقوذة مقتولة نجسه محرمة لا يصح لمسلم أن يتعاطاها، أو يحملها أو يبيعها، ثم قال: وقد كنت أكتفي بما أعلمه شخصياً وأنا طالب بأوروبا خمس سنوات من أن طريقة ذبح الحيوانات عندهم في المجازر هي القتل بضربها على رأسها على المخ من مقدم الرأس بين القرنين في الجبهة ، وهي ضربة واحدة بآلة خصصت لذلك ، فيخرالحيوان صريعاً لوقته، ولكن خشية ادعاء مالا أعرف أقمت الدليل الكتابي من حكوماتهم أنفسهم، ثم قال: وقد أرسلت إلى الدكتور العلامة الأستاذ/ عبد الحميد مصطفى فرغلي المتخصص في وظائف أعضاء الحيوان بأمريكا -جامعة جونس هوبكنز بمدينة بلتمور ـ أسأله عن كيفية قتل حيوانات الأكل عندهم في أمريكا، فورد منه جواب في 15ـ 7 سنة 1947م يقول: سألتَ عن طريقة الذبح، الطريقة: أن يضربوا الحيوان بمطرقة مدببة في مخه فيموت وبعد ذلك يقطعون رقبته... ، ثم ختم الأستاذ/ عبد الله حسين كتابه بقوله:ـ
وإني أشهد الله وحده أني لم أدخر وسعاً في البحث والتقصي عن المعلومات المفيدة وأشهد الله أني بلغت والله خير الشاهدين.
ونشرت مجلة الدعوة بالرياض مقالاً للدكتور/ محمود الطباع في عددها 673 بتاريخ 21/ذي القعدة 1398. تحت عنوان "لئلا نأكل حراماً" جاء فيه ما نصه: أنا الدكتور محمود الطباع طبيب بيطري، درست في ألمانيا الغربية، وفي بدء دارستي تعرضت مع إخوتي المسلمين لمشكلة اللحوم المذبوحة، وهل يجوز الأكل منها، وحتى نتأكد من طريقة الذبح، ذهبت مع عدد من الإخوان لزيارة المسلخ في مدينة هانوفر، فشاهدنا الجزارين يحضرون قطيعاً من الأبقار يطلقون على رأسها من مسدس خاص، وبعد أن وقعت جميعها على الأرض بدون حراك أخذ العمال استراحة يأكلون فيها ما يقارب الثلث ساعة، ثم قاموا وعلقوا الأرجل الخلفية في الرافعات المتحركة، وقطعوا الرأس ثم نزعوا الجلد، وشقوا البقرة إلى نصفين، وغسلوها بالماء بعد إخراج الأعضاء والأمعاء، فكانت مياه الغسيل بلون الدم، وقبل أن ينتهي العمال من فترة الاستراحة ويبدءون بقطع رأس الأبقار، تأكدنا أن جميع الأبقار كانت ميتة، ولا يحل أكلها في ديننا الحنيف.
وهذا تقرير (54)من الداعية الأستاذ/ أحمد بن صالح محايري عن اللحوم المستوردة من البرازيل إلى المملكة العربية السعودية نصه: (الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
معالي الرئيس العلامة الوالد الشيخ/ عبد العزيز بن باز المحترم حفظه الله تعالى: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...وبعد :ـ
فتنفيذاً لما جاء في رسالة سماحتكم رقم 3442/4 بشأن التحري عن كيفية ذبح الطيور والمواشي الموردة إلى المملكة، فيشرفني أن أرفع لمعاليكم ما يلي: ثم ذكر أنه قام بجولة عن طريق البر إلى سبع مدن برازيلية فيها شركات مصدرة للحوم والدواجن واطلع على كيفية الذبح فيها منها:( شركة بربنسيسا للدجاج والدواجن) ، وذكر أن هذه الشركة تذبح من الدواجن ما ينوف عن 150 طن في الشهر، وتقوم بتغليفها وتصديرها إلى عدة بلدان عربية، وذلك ضمن أكياس وكراتين كتب عليها باللغة العربية: ( ذبح على الطريقة الإسلامية)، ولما طلبت وزارة الخارجية من بعض الدول الإسلامية من المستوردين أن يكون مع أوراق الاستيراد ما يثبت أن اللحم المورد ذبح على الطريقة الإسلامية، قامت هذه الشركة بالاتصال برئيس الجمعية الإسلامية في مدينة كورتيبا الغربية منها واتفقت معه أن يشهد خطياً عند كل شحنة أن الذبح جرى وتم على الطريقة الإسلامية وذلك لقاء نسبة 1% من قيمة الشحن تدفعها الشركة له مقابل شهادته هذه.
ثم ذكر الأستاذ "محايري" أنه ذهب مع رئيس الجمعية الإسلامية إلى مقر الشركة وطلب من المسئولين عن هذه الشركة مشاهدة عملية الذبح فقال: لقد رأيت بنفسي أن الطيور تعلق من أرجلها حية منكوسة الرأس على آلة متحركة تسوقها إلى مكان فيه رجل قائم بسكينة يقطع بها وريد كل دجاجة، ويبالغ في السرعة ليتمكن من قطع وريد الطير الذي يليه وهكذا.. ونفس الآلة تسوق الطير المعلق بعد عملية الذبح إلى مكان فيه ماء ساخن لتغمسه فيه، كي يتم نتفه وتنظيفه وتعبئته بالأكياس الآنفة الذكر، والمحظور في عملية الذبح المذكورة وأنه لا يتحقق في الغالب قطع الوريدين لعامل السرعة المفروضة على الذابح، كما أن الدجاج المذبوح يغمس في الماء المغلي بعد مدة وجيزة من الذبح قد لا يكون الطير خلالها فارق الحياة، فيحصل أنه يموت خنقاً، كما يجب التأكد من عقيدة الذابح ، هل هو كتابي أم وثني؟(142/8)
أم شركة "أويسته" للبقر والدواجن وهي من أكبر الشركات العالمية للحوم البقر والدواجن، فإن الآلة تغمس الذبيحة في الماء الساخن المغلي في الغالب قبل أن يفارق الحياة، ويُساق الثور إلى مكان ضيق ويغلق عليه، ثم يضرب بمطرقة على رأسه بقصد أن يغيب وعيه فيسقط على الأرض، فيأتي رجل بسكين فيشق حلق الرقبة ليصل إلى الوريد، والمهم في هذه الطريقة مسألة الضرب على الرأس قبل الذبح، وهل يجوز شق جلد الرقبة قبل الذبح- أعني قبل قطع الوريد- ثم إن الذي يباشر الذبح كتابي أم وثني؟!
ولما طلبنا من مدير الشركة أن يطلعنا على كيفية حصولهم على الشهادة الخطية التي تشهد بأن الذبح تم على الطريقة الإسلامية قال: نحصل عليها من بعض الجمعيات الإسلامية في سان باولو فقلت له: وكيف ذلك وبينكم وبين ساند باولو 1800 كيلو متراً ؟!!! .
"الشركة الدانماركية للحوم"
هذه الشركة الدانماركية بأوروبا وليست في البرازيل، ولكن إتماماً للفائدة أدرج طية قصاصة من مجلة الوطن العربي التي تصدر عن الجالية العربية في فرنسا، وتجدون في القصاصة مقابلة أجرتها الصحيفة مع أحد العمال العرب في الدانمارك المدعو/" محمد الأبيض المغربي" الذي يعمل في مصنع لتعليب اللحوم فيقول عن اللحوم والدواجن المصدرة إلى البلاد العربية: إنهم يكتبون عليها ذبحت على الطريقة الإسلامية، وهذا غير صحيح ،لأن القتل يتم كهربائياً في كل الحالات، ويكتبون على صناديقها مذبوحة على الطريقة الإسلامية.
وأخيراً يقول الأستاذ الداعية/ أحمد صالح محايري : بعد أن عرضت صورة من عملية الذبح في البرازيل، يشرفني أن أرفع أن المركز الإسلامي في البرازيل تم تأسيسه بعضوية السفراء العرب والمسلمين، والذي ليس له حتى الآن منفذ معتمد أو مدير دائم، هذا المركز الإسلامي، بنى مدرسة للمسلمين في برازيليا، سرعان ما أغلقها ثم سلمها دون قيد أو شرط لبعض البرازيليين ليفتحها مدرسة برازيلية ـ نعم برازيلية المنهج والإدارة ـ وذلك لفشله في اتخاذ ولو قرار واحد فيما يتعلق بالمسلمين في المنطقة، هذا المركز الإسلامي قد اتخذ قراراً ليشرف بنفسه على عملية الذبح وهذه خطوة جيدة لو تحققت، ولكن كيف يشرف على عملية الذبح وبينه وبين أماكن الذبح مئات الأميال، وليس عنده موظفون ليستخدمهم في هذا؟!!.
وهذا تقرير(55) من الشيخ/" عبدالله بن علي الغضية"- مرشد الرئاسة بالقصيم عن اللحوم المستوردة من لندن وفرنسا- نصه: ( أما عن موضوع الدجاج المستورد وذبحه، فقد حاولت في لندن التعرف على طريقة الذبح، فاتصلت بمدير شركة مكائن الذبح، متظاهراً أني أريد إقامة مصنع ذبح دجاج في المملكة، فأعطاني كتلوجاً مصوراً عن المصنع الذي تنتجه شركته فلما قام يشرح لي كيفية العملية، قلت له إن الدجاج ظهرت لجهاز التغليف دون قطع رأسها، فسألني مستفهماً ولماذا قطع الرأس؟! فقلت إننا في الشرق الأوسط لا نأكل رؤوس الطيور، ثم ذكر الشيخ عبدالله الغضية: وأرفق لسماحتكم صورة فوتوغرافية للمصنع وفيه أولاً تقف السيارة عند باب المصنع كما يتضح لكم في الرسم المترجم، ثم ينزل الدجاج منها فيعلق بأرجله، ثم يمر بآلة مستديرة تنفتح مع النصف، فيدخل به رأس الدجاجة، ومكتوب عليه الذبح بطريقة التدويخ لأنه يضرب رأس الدجاجة هواء شديد الانفجار، فتصبح الدجاجة بعد لا تسمع ولا ترى وتنتظر الموت بعد لحظات، ثم تمر بجهاز آخر يقطر فيه إن ظهر منها سائل دم أو غيره، بعده تمر على جهاز يعمل بالبخار، أو الماء الحار جداً ،وفيه تموت إن كان بها حياة، وتخرج منه لأجهزة النتف والتنظيف إلى أن تخرج لأكياس النايلون، ثم للكرتون الذي كتب عليه باللغة العربية" ذبح على الطريقة الإسلامية"، وهذا المصنع صغير، وينتج في الساعة ألفين دجاجة 2000 ويقول من سألت: أن في فرنسا نفس الطريقة، إلا أنهم يزيدون أن الدجاج إذا اكتمل نموه فإنهم يضعونه في مستودعات شديدة البرودة، ويسحب منها حسب طلب الأسواق، وبالطبع تخرج الدجاجة من هذه المستودعات ميتة، ثم توضع في برك حارة استعداداً للنتف والتصدير، وهذا ذكره بعض من سافر لفرنسا وأمريكا اهـ. ويقول وأنا أكتب هذا المقال اطلعت على ما نشر في مجلة المجتمع بعددها "414 صفحة 20" بعنوان حول شرعية ذبح الدجاج في الدانمرك والذي وجهته جمعية الشباب المسلم، وخلاصته: أن الدجاج هناك لا يذبح على الطريقة الإسلامية المشروعة، ولا يحل لمسلم أن يأكله... ولو كتب على الكرتون" ذبح على الطريقة الإسلامية"، ومن المعلوم أن الدجاج يذبح هناك بالآلاف.(142/9)
ثم ذكر الشيخ صورة عن مصنع لذبح الدجاج من المصانع الأوربية، قام بزيارة إليه، لكنهم خدعوه عن المذبح الأتوماتيكي، وأروه مذبحاً فيه قلة من المسلمين، -يذبحون لمسلمين في الداخل -ولم يمكنوه من الإطلاع على المذبح الأتوماتيكي، كما حدث للشباب المسلمين في الدنمارك، فقد حاولوا عدة مرات الاطلاع على طريقة الذبح، فلم يسمح لهم بذلك، ولو كان موافقاً للطريقة الإسلامية كما يقولون لمكنوهم من مشاهدته.
نبذة عن هذا المصنع:
1- تحضر السيارة الدجاجة من الحظائر التي ربما مات بعضه فيها قبل أن ينزل، أو نتيجة البرد الشديد، أو التحميل أو التنزيل، ومعروف سرعة موت الدجاج.
2- كما يتضح من الصور في كتلوج المصنع ـ تعليق الدجاجة بأرجلها، ثم يحيط بها حزام متحرك فوق الرأس، فتذهب بطريقة آلية حيث تمر بجهاز كتب تحته الذبح بطريقة التدويخ.
3- هناك حوض يستقبل السوائل من الدجاج إن سقط منها شيء.
4- وهو بيت القصيد، مغطس ضخم كتب عليه جهاز محرق جداً، يعمل بالبخار، أو بالماء الحار، فتغطس فيه الدجاجة المسكينة ، لتفقد فيه آخر رمق من حياة، ثم بعد ذلك تخرج منه جثة هامدة، بعد أن تعرضت للخنق والوقذ والتردي، ثم بعد نتفه وتنظيفه من الرأس، يغلف بكراتين كتب عليها: ذبح على الطريقة الإسلامية.
وتلاحظ أخي القارئ: أن الدجاجة دخلت المذبح وخرجت منه ميتة، منتوفة الرأس منظفة الأحشاء، ومقطعة الأرجل، إلا أن رأسها قد صحبها منذ أن خلقها الله، ولا يقطع رأسها بعد ذلك إلا إذا كانت سوف تصدر للشرق الأوسط، وقد سألت الإنجليزي لماذا خرجت من المذبح ورأسها موجود فيها؟. فقال لي: أما رأيت أن الطيور عندنا والذبائح رؤوسها موجودة لا تقطع، وفعلاً رأيت الطيور والذبائح بأسواقهم رؤوسها معلقة فيها، وهي معروضة للبيع دون أن ترى في رقابها أثراً للذبح، وهذا يشاهده كل من زار لندن، أو غيرها من البلاد الأوربية.
الآثار المتربة على هذه الطريقة:
أراني قد أطلت في النقل عن هذه المشاهدات والشهادات التي تبين كيفية إزهاق الحيوان في البلاد الغربية التي تورد لنا هذه اللحوم لكني أرى أنها إطالة لابد منها لما اشتملت عليه من حقائق تهمنا في هذا الموضوع.
إن المجازر الغربية اتخذت الطرق المذكورة للذبح رحمة بالحيوان، حسب ادعاء جمعيات الرفق بالحيوان، ولكن من البديهي أن الغربيين اختاروا هذه الطرق للحصول على أكبر كمية من اللحم في مدة قصيرة، أو بعبارة أخرى، لأجل تحقيق مكاسب تجارية، خصوصاً وأن بقاء الدم في لحم الحيوان يزيد من وزنه، فيكون الربح أكبر، وهذا ما نشاهده خاصة في لحوم الدجاج المستوردة على مستوى واسع، وقد قام عدد من الأطباء المسلمين بإجراء تحقيق كامل في مثل هذه اللحوم ووصلوا إلى النتائج التالية:- كما ورد في كتاب الدكتور/ غلام مصطفى خان رئيس جمعية أطباء المسلمين في بريطانيا، وتقرير الدكتور/ محمد نسيم رئيس وقف المسجد الجامع في مدينة برمنجهام-
أولاً: تخدير الحيوان قبل الذبح يسبب فتوراً لدى الحيوان وانكماشاً في قلبه، فلا يخرج منه الدم عند الذبح بالكمية التي تخرج عادة.
ومن المشاهد أن طعم اللحم الذي خرج منه الدم كاملاً، غير طعم الحيوان الذي بقيت فيه كمية من الدم، وأخبرني أحد المستشرقين على مجزرة إسلامية كبرى في برمنجهام،أن من الإنجليز من يفضل أكل الحيوان المذبوح بالطريقة الإسلامية، وذلك لأجل طعمه المتميز عن بقية اللحوم.
ثانياً: أن الصدمة الكهربائية لا تؤدي مقصودها في جميع الأحوال، فإذا كانت الصدمة مثلاً خفيفة بالنسبة لضخامة الحيوان، بقي مفلوجاً بدون أن يفقد الحواس ويشعر بالألم مرتين، الأولى بالصدمة الكهربائية أو بضربة المسدس، والثانية عند الذبح، أما إذا كانت الصدمة الكهربائية شديدة لا يحتملها الحيوان أدت إلى موته بتوقف القلب، فيصير ميتة لا يجوز أكلها بحال من الأحوال.
ثالثاً: أن الطريقة المتبعة لدى المسلمين أرحم بالحيوانات حقيقية، وذلك لأن الذبح بسكين حاد وبسرعة فائقة، ومن الثابت أن الشعور بالألم ناتج عن تأثير الأعصاب الخاصة بالألم تحت الجلد، وكلما كان الذبح بالطريقة المذكورة خف الشعور بالألم أيضاً، ومن المعلوم أن قلب الحيوان الذي لم يفقد حسه أكثر مساعدة على إخراج الدم كما مر آنفاً.
رسالة من" جمعية الشباب المسلم بالدانمرك للمسلمين":(56)
نظراً للاستفسارات العديدة التي وردت إلى جمعيتنا من المسلمين المقيمين في الدول العربية للتأكد من كيفية ذبح اللحوم والدجاج المُصدَّر من الدانمرك، فأننا قد انتهينا بعد بحث هذا الأمر والتحقق منه في دائرة الدانمرك، إلى عدة نتائج نوردها فيما يلي:(142/10)
لقد علمنا من مصادر رسمية أن الفئة القاديانية بالدانمرك قامت منذ تأسيسها عام 1967م، بتمثيل الإسلام والمسلمين في هذه البلاد، فكانت تصادق على شهادات تصدير اللحوم والدجاج إلى الدول الإسلامية، وهي تتقاضى مقابل ذلك من الشركات المصدرة رسوماً مقابل هذا التصديق، وعلمنا كذلك، أن السفارات الإسلامية هناك كغيرها من السفارات في العالم، لا تمثل الإسلام من قريب أو بعيد، بل تمثل الحكام الذين يرفعون ويخفضون، فضلاً عن حرص هذه السفارات البالغ على اتباع السنن الدبلوماسية في حفلاتها وسهراتها، هذا إذا استثنينا ـ خشية التعميم ـ بعض الأفراد القلائل العاملين في هذه السفارات، والذين هداهم الله إلى التمسك بالدين بعيداً عن المؤثرات المهنية وهم قلة، وعلمنا كذلك من خلال الأعوام الماضية، أن بعض هذه الشركات يتحايل لكي يبيع الدجاج الدانمركي للدولة الإسلامية، ومن صور هذا التحايل: تشغيل تسجيل عليه أشرطة القرآن الكريم داخل المجازر، ظناً منهم أن مثل هذه الطقوس تحل لنا أكل هذه اللحوم، كما يقوم بعضهم ذرا للرماد في العيون بتعيين عامل مسلم أو أكثر في المصنع يقوم بمهام عادية ليس لها علاقة بالذبح، وحتى لو قام بالذبح فعلاً، فلا يعقل أن يتمكن من ذبح الآلاف من الدجاج المنتج كل يوم، بل قل كل ساعة...، وقد كانت ليبيا من أول الدول التي اكتشفت هذه المهزلة في الدانمرك وخارج الدانمرك فقررت منع استيراد اللحوم والدجاج من أوربا بالمرة..، والله أعلم إن كان هذا المنع ما زال ساري المفعول أم لا..؟
أما من جانب المستهلك المسلم فخلال الأعوام العشرة الماضية، كانت مشكلة الدجاج المستوردة من أوروبا لا تكاد تشغل بال السواد الأعظم من المسلمين لصغر حجمها بالقياس إلى المصائب والمؤامرات التي كانت وما زالت تحاك ضد المسلمين، ولكن من بينهم من يحاول ترويج هذه الذبائح بحجة أنها من طعام أهل الكتاب، ونحن لا نقر هذا الرأي لأنه يكفي أن ننظر من حولنا لنجد الزنا والخمر والعري والشذوذ الجنسي وقطع الأرحام وعقوق الوالدين والربا وغيرها من الموبقات والكبائر مباحة بنص القانون في التشريعات المحلية الوضعية، فلا مجال هنا لتسميتهم بأهل الكتاب بحال من الأحوال، بل هم أقرب إلى الشيوعيين والوثنيين منهم إلى النصارى، وكنتيجة طبيعية للغموض المكثف لهذا الأمر ولشعورنا بمسئولية التحقق من هذا الأمر، قامت جمعيتنا بتوجيه خطاب إلى جميع المجازر الدانمركية التي تقوم بتصدير الدجاج إلى الخارج، وعددها 35 مجزرة للدجاج والطيور، وفيما يلي ترجمة للخطاب: ( وصلتنا في الشهور الماضية ، بصفتنا منظمة إسلامية ثقافية بالدانمارك ، عدة استفسارات من مسلمين مقيمين داخل الدانمارك وخارجها، عن الطريق المتبعة لذبح الدجاج والطيور، المعدة للتصدير إلى الدول العربية، حيث أن الإجابة على هذه الاستفسارات تعتبر ذات أهمية كبيرة لنا نحن المسلمين، إذ أن طريقة الذبح يجب أن تكون تبعاً لما ورد في القرآن الكريم من أحكام، لهذا نرجوا منكم السماح لمجموعة من جمعيتنا حوالي 3-4 أشخاص، بزيارة مجزرتكم، للاطلاع على طريقة الذبح..، كما نود مستقبلاً نشر هذا التحقيق في مجلتنا الشهرية ـ الصراط ـ حتى يطلع المسلمون عليها ، مع مراعاة عدم التعرض لاسم شركتكم بسوء، راجين أن يصلنا ردكم في أقرب فرصة.
وعند استلامنا الردود، اتضح لنا أن بعض هذه المجازر لا يصدر إلى الدول العربية بالمرة ، وهذا النوع من المجازر لم يمانع من زيارتنا لأماكن الذبح ، لكن الشركات التي تصدر إلى الدول الإسلامية لم توافق على الزيارة بالمرة، وبعضها أبدى صراحة عدم ترحيبه بقدومنا، وأحال البعض الآخر نظر القضية إلى لجنة مهنية خاصة بتصدير الدجاج والطيور، بحجة أنها الجهة الممثلة لهم، والمتكلفة ببحث مشكلة الذبح الإسلامي، وباتصالنا بهذه اللجنة ـ بعد محاولات استمرت فترة طويلة ـ رفضت السماح بأي نوع من المعاينة، بحجة أنها لا تجد أن منظمتنا تمثل الإسلام والمسلمين في الدانمرك، وأن هذه اللجنة على اتصال مع جهة إسلامية بالدانمرك تمثل الإسلام- في نظرهم- لاتصالها بعدد من السفارات العربية، وأن هذه الجهة الإسلامية توافق على طريقة الذبح، وتصادق على شهادات التصدير، مع علمها التام بأن الدجاج المصدر لا يفترق عن غيره من الدجاج المنتج، باستثناء المغلف المطبوع عليه عبارة ذبح على الطريقة الإسلامية.
وبقيامنا بمزيد من التحريات وجدنا أن الجهة الإسلامية القائمة على التصديق ليست هي الفئة القاديانية كما جرت العادة خلال العشر السنوات الماضية، لكنها جهة إسلامية انتزعت من القاديانية مهمة التصديق على شهادات التصدير، وما يتبعها من مهام أخرى كالدفاع عن مصالح شركات الدجاج، ومصالح المستوردين العرب، ومصالح السفارات العربية الواقفة وراءها، وبحديث هاتفي مع مدير لجنة التصدير الدانمركية المذكورة اتضح لنا الآتي:(142/11)
أولاً: ليس لدى المذابح الدانمركية أي فكرة عن متطلبات الذبح الإسلامي، والمعلومات التي لديها لا تعد أن تكون شائعات، وردت إليهم بطريق الحديث العفوي مع فئات من المسلمين- بعض هذه المعلومات متضاربة- مما جعل الأمر في النهاية ـ في نظر المجازر الدانمركية ـ ليس له ضابط ديني محكم.
ثانياً: أن المستورد العربي هو الذي يطلب وضع عبارة ذبح إسلامي، ويجهزها له، والمصدر الدانمركي يوافق طالما أن البيع في ازدياد، والجهات الرسمية تصادق على شهادات التصدير .
ثالثاً: أن الذي يهم الشركات الدانمركية في الوقت الحاضر هو موقف السفارات التي تتبع الدول المستوردة، لأنها هي التي تصدق على توقيع الجهة الإسلامية التي تعاين الذبح، وطالما أن هذه الجهات متفقة فليس لأحد ـ في نظرهم ـ مصلحة في التدخل، وطلبنا من مدير اللجنة الرد كتابة على هذه النقاط، فوعد بذلك ثم تأخر في الرد مدة طويلة، وفي النهاية وصلنا منه رد دبلوماسي بعيد عن النقاط التي تحدثنا عنها هاتفياً.
مما سبق يتبين أن المسؤول الأول عن هذه المهزلة ليس هو المصدر الدانمركي، بل هو بالدرجة الأولى المستورد العربي التاجر، ومن ورائه السفارات التي تصدق على جريمته.
وعليه: فنحن جمعية الشباب المسلم بالدانمرك نعلن من هنا إلى كافة المسلمين أينما وجدوا:( أن الذبائح التي تصدر إليهم من الدانمرك ليست مذبوحة بطريقة خاصة إسلامية، ولا تختلف عن الذبائح التي تصدر إلى الدول الأخرى الكافرة، وأن الذبح يتم بطريقة قص الرأس بعد التحذير، والفارق الوحيد هو في الأغلفة التي تحمل عبارات عربية لخداع المستهلك والمسلم.
وبقية كلمة أخيرة لا تتعلق بالدجاج ذاته ولكن تتعلق بمن يأكله من المسلمين، فالمعروف أن القلة من الناس هي التي تتحرى الحلال.. والأغلبية لا تفكر في ذلك.. بل تظن التحري في بعض الأحيان عسراً ومشقة.. وهي للأسف سمة العصر الذي نعيش فيه..، الاهتمام بإشباع الغرائز، والميول أولاً، ثم بعد ذلك يساء استخدام - إن الله غفور رحيم- .
كما يريد أغلبنا دخول الجنة ولقاء الله تعالى دون علم أو عمل.. أو تضحية ولو بسيطة، فقد يلجأ الكثير من المسلمين إلى قطع مسافات طويلة، قد تصل إلى السفر في سبيل الحصول على سلعة، أو طعام معين بمواصفات معينة، والتكبد في سبيل ذلك المشاق الكثيرة، ليس إرضاءً لله وللرسول.. ولكن إرضاء للهوى ...، فإذا تعلق الأمر بحكم شرعي تحايلوا أو تهربوا بحجة أن الدين يسر.
ولنضرب مثلاً يتعلق بفئة النباتيين الذين يمنعون أنفسهم من أكل اللحوم ومشتقاتها، فهؤلاء معروفون في العالم كله... وحرصهم على تحري ما يأكلون، حتى إن منهم من يبلغ به حد الورع مبلغا،ً فلا يأكل الكعك والمربى المطروحة في الأسواق، خشية أن تكون مصنوعة من دهون الحيوانات، ويسألون قبل الشراء عن مكونات الطعام، ولهم حوانيت خاصة بهم في كل مكان.
فهؤلاء وضعوا قوانينهم بأنفسهم ويحترمونها، ولا يعتبرون الدقة والتحري ضرباً من التعصب، أو تضييع الوقت والجهد، فما بال المسلمين ينزل عليهم كتاب من الله وتصلهم سنة نبيهم فلا يهتمون ولا يتحرون!!، عسى أن ينفعنا الله بما قلنا.. وأن يكون ما بلغنا إبراء لذمتنا يوم القيامة، وأن يتقبل عملنا خالصاً لوجهه تعالى.
"جمعية الشباب المسلم بالدانمرك".
وقد يقول قائل:إن هذه المعلومات عن الذبح في هذه البلدان منذو سنين، ولربما قد تغير الوضع في طريقة الذبح، فنقول :الأصل استصحاب الحال، وبقاء الشيء على ما كان،ومن ادعى تغير الحال،فعليه بالدليل المقابل لمقام المشاهدة والعيان.
وبقي أن أستعرض في نهاية هذا المحور مسألة هي محل نظر واجتهاد وهي: هل يعتبر اليهود والنصارى في عصرنا هذا أهل كتاب أم لا؟
أقول وعلى الله التوفيق : من العلماء من يقول: بأنهم أهل كتاب، وإن حرَّفوا وبدَّلوا وأشركوا، فقد كان هذا حالهم حتى في زمن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، ومع ذلك سماهم القرآن ووسمهم بأهل الكتاب.
ومن العلماء من يقول: إنهم ليسوا بأهل كتاب، إذ قد كثرت في العالم الغربي الانحرافات، وانتشرت المذاهب المعارضة لكل الديانات، مثل الشيوعية الخبيثة التي تنكر وجود الله، وجميع الديانات السماوية، فهذه الدول في الوقت الحاضر قد نبذت الأديان، وخرجت عليها، وكون الشخص يهودياً أو نصرانيا،ً يكون بتمسكه بأحكام ذلك الدين، إما ذا تركة ونبذه وراء ظهره فلا يعد كتابياً، أرأيت المسلم لو ارتكب ناقض من نواقض الإسلام، كان سبباً في ردته لا يكون مسلما،ً ولا يشفع له كونه في بلاد المسلمين أن يُحكم بإسلامه، والانتساب فقط دون العمل لا ينفع.
وقد روي عن علي - رضي الله عنه - في نصارى بني تغلب:
أنهم لم يأخذوا من دين النصارى إلا شرب الخمر فلم يجز أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وكون الرجل كتابياً أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه...(57).(142/12)
بمعنى أنه إذا لم يلتزم بديانته، ولم يكن محافظاً على معتقده، لا ينفعه ذلك في ادعائه أنه من أهل الكتاب ولو كان من نسلهم.
واليوم لا يوجد في اليهود والنصارى الذين أبيح لنا ذبائحهم من هو محافظ على معتقده، إلا شرذمة قليلة يدعون برجال الدين، وهم بعيدون كل البعد عن الذبح والذبائح، إذ أن لهم مناصب رفيعة ومكانة عالية فلا يتولَ الذبح إلا بعض صغار العمال، من الشباب المنحرف الذين لا يلتزمون بدين ومعظمهم دهري، ووثني وبوذي.
والذي يبدو لي التفصيل في المسألة:
فمن كان من اليهود والنصارى اليوم معترف بالله تعالى، وكذلك بالمسيح- عليه السلام- وكان مؤمن بالجنة والنار والمعاد فهو كتابي، وإن اعتقد أن الله ثالث ثلاثة، أما من كان منهم كافرٌ بالله وبالنبوات والجنة والنار والمعاد، كالشيوعيون الإلحاديون، والوثنيون، والبوذيون، والدهريون، والعلمانيون، وكل من اعتقد ذلك منهم فليسوا من أهل الكتاب في شيء وإن وُجدوا فيهم، والله أعلم.
المحور السادس
الحكم الشرعي للحوم المستوردة
مر بنا ـ آنفاً ـ في هذا المبحث، تعريف الذكاة وحكمها ، وتطرقنا لضوابط وشروط الذبح الشرعي، وكذا ضوابط من تحل لنا ذبيحته من غير أبناء المسلمين، ثم قمنا بشيء من التركيز وتسليط الضوء على واقع اللحوم المستوردة، ثم قمنا باستطراد - بصورة أوسع- في نقل بعض التقارير، والمقالات والمشاهدات الموثقة، لما يحدث في المجازر الغربية، التي تصدر لنا هذه اللحوم ـ وكان هذا الاستطراد لابد منه في بابه ـ حتى يتضح الأمر، وتتبين الحقائق، فنقول وبالله التوفيق:
إن هذه اللحوم المستوردة:
1 ـ إما أن تكون من بلاد كافرة - غير كتابية - كالبلاد الوثنية والشيوعية الإلحادية والبوذية ـ كما ذكرنا سابقاً، فهذه اللحوم حرام شرعاً، لأن الأصل في ذبائحهم التحريم، ولم يخصص القرآن من ذبائح غير المسلمين بالحل إلا ذبائح أهل الكتاب، قال تعالى: ? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم ? .
فالحكم بإباحة ذبائح من سوى أهل الكتاب- للمسلمين- يحتاج إلى دليل.
2 ـ وإما أن تكون هذه اللحوم من بلاد كافرة أهلها أهل كتاب فهي إما:
أ ـ أن تستخدم الطريقة الشرعية في الذبح، بالتزامها بشروط وضوابط التذكية فهذه اللحوم عند ذلك حلال، لقوله تعالى: ? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم ? .
ب ـ وإما أن يثبت أن هذه البلاد لا تستخدم الطريقة المشروعة في الذبح، بل انتشر عنها وشاع، أنها تستخدم الصعق بالكهرباء، أو الضرب على رأس الحيوان، أو الخنق، أو عُلم أنهم يذبحون باسم غير اسم الله، كالمسيح وغيره، فهذه اللحوم في حكم الميتة، حرام على المسلم تعاطيها، لقوله تعالى: ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ... ? ، وقوله تعالى : ? وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق ? ، ولا يتمسك بعموم: قوله تعالى: ? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم ? كما وضحنا ذلك وفصلناه سابقاً.
ج ـ أن تكون هذه اللحوم الواردة من بلاد الكفرة من أهل الكتاب مجهولة الحال، والشك فها قائم ، هل ذبحت على الطريقة الإسلامية، أم لا ؟
فحكمها أنها محرمة- للاشتباه الحاصل- لا يحل شيء منها إلا بذكاة شرعية، متيقنة، تنقلها من التحريم إلى الإباحة، فحصول الذكاة على الوجه الشرعي في هذه اللحوم مشكوك فيه ، فيبقى على أصله وهو التحريم، ومما يستدل به على التحريم في موضع الاشتباه: حديث عدي- رضي الله عنه- : "إذا أرسلت كلبك المعلم فوجدت معه كلباً آخر فلا تأكل فإنك سميت على كلبك ولم تسم على غيره"(58) وفي رواية "فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله"(59)، ثم إن الأصل في الذبائح التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله، فلو قدر تعارض دليلي الحظر والإباحة، لكان العمل بدليل الحظر أولى لثلاثة أوجه:
أحدهما: تأييده بالأصل الحاضر .
الثاني: أنه أحوط.
الثالث: أن الدليلين إذا تعارضا تساقطا ورجع إلى أصل التحريم(60)، ومما يدل على أن الأصل في الذبائح التحريم قوله -صلى الله عليه وسلم- : في كلاب الصيد "وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره"(61)، فدل على أن الأصل في الذبائح التحريم حتى يثبت الدليل الناقل(62).(142/13)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى - : ( فلما تعارض العموم الحاظر وهو قوله تعالى:? وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِه? ، والعموم المبيح وهو قوله تعالى: ? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم ? ، اختلف العلماء في ذلك، والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه أكثر كلام الإمام أحمد من الحظر، وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكرهذه الرواية بحال، وذلك لأن عموم قوله تعالى :? وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِه? وقوله تعالى: ? وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ..? عموم محفوظ لم تخص منه صورة. بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب، فإنه يشترط له الذكاة المبيحة، فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته، لأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم، و المسلم لو ذبح لغير الله أو ذبح باسم غير الله لم يبح، وإن كان يكفر بذلك، فكذلك الذمي لأن قوله تعالى: ?وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ? سواء ، وهم إن كانوا يستحلون هذا ونحن لا نستحله، فليس كل ما استحلوه يحل لنا، ولأنه قد تعارض حظر ومبيح، فالحظر أولى أن يقدم، ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقيناً أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام، فهو من الشرك الذي أحدثوه، فالمعنى الذي لإجله حلت ذبائحهم منتفٍ في هذا والله اعلم (63). وهذا ما رجحه شيخ الإسلام في هذا الموضوع وهو ترجيح على ضوء الكتاب والسنة والقواعد الشرعية.
وهذا ما أراه في هذه المسألة وما توصلت إليه في هذا البحث .
وأوافق الأستاذ الأزهري / عبد الله علي حسين، حينما ذكر في آخر كتابه الموسوم باللحوم: أبحاث مختلفة في الذبح والصيد واللحوم المحفوظة ، وقال في خاتمة هذا الكتاب: (وإني أشهد الله وحده أني لم أدخر وسعاً في البحث والتقصي عن المعلومات المفيدة، وأشهد الله أني بلغت والله خير الشاهدين.
وإليك أخي الكريم: فتوى مخطوطة في هذا الموضوع لسماحة/ رئيس المجلس الأعلى للقضاء في المملكة العربية السعودية الشيخ/ عبد الله بن محمد بن حميد عن سؤال هذا نصه: ( ما حكم اللحوم المستوردة من الخارج -معلبة وغير معلبة- والتي كثر انتشارها في المدن والقرى وعمت البلوى بها، فلا يكاد بيت يسلم منها، هل الأصل فيها الإباحة أم الحظر؟ نرجو بيان ذلك مفصلاً ولكم الأجر) .
وهذا نص الفتوى: ( الأصل في الأبضاع والحيوانات التحريم، فلا يحل البضع إلا بعقد صحيح مستجمع لأركانه وشروطه، كما لا يباح أكل لحوم الحيوانات إلا بعد تحقق تذكيتها من أهل التذكية، فإن الله -سبحانه وتعالى- حرم الميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وحرم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إلا ما ذكي، فهذا يدل على أن الأصل في الحيوان التحريم إلا ما ذكاه المسلمون أو أهل الكتاب، بقطع الحلقوم وهو مجرى النفس، والمريء وهو مجرى الطعام والماء، مع قطع الودجين في قول طائفة من أهل العلم، فما يرد من اللحوم المعلبة إن كان استيراده من بلاد إسلامية، أو من بلاد أهل الكتاب أو معظمهم وأكثرهم أهل كتاب، وعادتهم يذبحون بالطريقة الشرعية فلا شك في حله.
وإن كانت تلك اللحوم تستورد من بلاد جرت عادتهم أو أكثرهم أنهم يذبحون بالخنق أو بضرب الرأس وبالصاعقة الكهربائية، ونحو ذلك فلا شك في تحريمها وكذلك ما يذبحه غير المسلمين وغير أهل الكتاب، من وثني أو مجوسي أو قادياني أو شيوعي ونحوهم، فلا يباح ما ذكوه، لان التذكية المبيحة لأكل ما ذكي لابد أن تكون من مسلم أو كتابي عاقل له قصد وإرادة، وغير هؤلاء لا يباح تذكيتهم ، أما إذا جهل الأمر في تلك اللحوم ولم يعلم عن حالة أهل البلد التي وردت منها تلك اللحوم، هل يذبحون بالطريقة الشرعية أم بغيرها؟، ولم يعلم حال المذكين وجهل الأمر، فلا شك في تحريم ما يرد من تلك البلاد المجهولة أمر عادتهم في الذبح تغليباً لجانب الحظر، وهو أنه إذا اجتمع مبيح وحاضر، فيغلب جانب الحظر سواء أكان في الذبائح أو الصيد، ومثله النكاح كما قرره أهل العلم ،ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، والحافظ ابن رجب وغيرهم من الحنابلة، وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني، والإمام النووي وغيرهم كثير- مستدلين بما في الصحيحين وغيرهما من حديث عدي بن حاتم: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال له "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل، فإن وجدت معه كلباً آخر فلا تأكل".(142/14)
فالحديث يدل على: أنه إذا وجد مع كلبه المعلم كلباً آخر أنه لا يأكله تغليباً لجانب الحظر، فقد اجتمع في هذا الصيد مبيح وهو إرسال الكلب المعلم إليه، وغير مبيح وهو اشتراك الكلب الآخر، لذا منع الرسول من أكله وقال:- صلى الله عليه وسلم- أيضاً: "إذا أصبته بسهمك فوقع في الماء فلا تأكله"(64) وفي رواية: "إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثرر سبع فكل"(65)، قال ابن حجر في الصيد: إن الأثر الذي يوجد فيه من غير سهم الرامي أعم من أن يكون أثر سهم رام آخر، أو غير ذلك من الأسباب القاتلة فلا يحل أكله مع التردد،
وقال ذلك أيضاً عند قوله :"وإن وقع في الماء فلا تأكل" ، لأنه يقع حينئذ التردد هل قتله السهم، أو الغرق في الماء، فلو تحقق أن السهم أصابه فمات فلم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم فهذا يحل أكله ، قال النووي في شرح مسلم: إذا وجد الصيد في الماء غريقاً حرم باتفاق.اهـ.
وقد صرح الرافعي: بأن محله ما لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح، فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلاً فقد تمت ذكاته، ويؤيد قوله- صلى الله عليه وسلم- : "فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك"(66) فدل على أنه إذا علم أن سهمه هو الذي قتله أنه يحل(67).
قال الخطابي : إنما نهاه عن أكله إذا وجده في الماء، لا مكان أن يكون الماء قد غرقه، فيكون هلاكه من الماء لا من قبل الكلب الذي هو آلة الذكاة، وكذلك إذا وجد فيه أثر لغير سهمه.
والأصل أن الرخص تراعى شرائطها التي بها وقعت الإباحة فمهما أخل بشيء منها عاد الأمر إلى التحريم الأصلي.
ومما تقدم يتضح تحريم اللحوم المستوردة من الخارج على الصفة التي سبق بيانها، وأن مقتضى قواعد الشرع يدل على تحريمها، كما في حديث عدي وغيره في اشتراك الكلب المعلم معه غيره، وفيما رماه الصائد بسهمه فوقع في الماء لاحتمال أن الماء قتله، وفيما رواه الترمذي وصححه: "إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل"، فدل الحديث بمفهومه: على أنه لو وجد فيه أثر سبع أنه لا يأكله، فإنك ترى من هذا أنه إذا تردد الأمر بين شيئين مبيح وحظر فيغلب جانب الحظر، وليس ذلك في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما- "أن قوماً حديثي عهد بإسلام يأتوننا باللحوم فلا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- سموا الله أنتم وكلوا"(68) -لأن الحديث في قوم مسلمين إلا أنهم حديثوا عهد بكفر، بخلاف تلك اللحوم المستوردة من الخارج فإن الذابح لها ليس بمسلم ولا كتابي، بل مجهول الحال كما بينا فيما تقدم من أن أهل البلد إذا كانت حالتهم أومعظمهم يذبحون بالطريقة الشرعية وهم مسلمون أو أهل كتاب فيباح لنا ما ذبحوه، وإن كانوا يذبحون بغير الطريقة الشرعية بل بخنق أو بضرب رأس أو بصاعقة كهربائية فهو محرم، وإن جهل أمرهم ولم تعلم حالتهم بما يذبحونه فلا يحل ما ذبحوه تغليباً لجانب الحظر، ولا عبرة بما عليه أكثر الناس اليوم من أكلهم لتلك اللحوم من غير مبالاة بتذكيتها من عدمها ـ والله المستعان ـ (69).
ومن هنا يتضح رجحان القول بالتحريم لقوة مبناه ووضح أدلته وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن الله حرم لحوم الحيوانات التي تموت بغير ذكاة شرعية في قوله سبحانه: ? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ? إلى قوله : ? إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ? ، فما لم تتحقق في هذه اللحوم الذكاة الشرعية فهي محرمة بناء على الأصل.
الوجه الثاني: أن النصوص الشرعية التي ساقها فضيلة الشيخ في فتواه تبين بوضوح أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر غلب جانب الحظر، وهذه اللحوم كذلك ترددت بين كونها مذكاة الذكاة المبيحة فتحل، وكونها غير مذكاة فلا تحل فيغلب جانب التحريم، وكما قرر ذلك كبار الأئمة الذين ساق الشيخ أقوالهم في الفتوى .
الوجه الثالث: أن هذه الكميات الهائلة التي تمتلئ بها الأسواق العالمية من الدجاج وغيره يستبعد أن تأتي الذكاة الشرعية بشروطها على أفرادها كلها لأنها تذبح وتعلب آلياً.
الوجه الرابع: أن الإلحاد والتحلل من العهد الدينية والأحكام الشرعية، قد غلب على الناس في هذا الزمان وقلت الأمانة والصدق، فلا يعتمد على أقوال هؤلاء المصدرين لهذه اللحوم ولا على كتابتهم على ظهر أغلفتها بأنها ذكيت على الطريقة الإسلامية، لاسيما وقد وجد بعض الدجاج برأسه لم يقطع شيء من رقبته كما وجدت هذه العبارة " ذبح على الطريقة الإسلامية " مكتوبة على أغلفة ما لا يحتاج إلى ذكاة كالسمك!!، مما يدل على أن هذه الكتابة إنما هي عبارة عن دعاية مكذوبة يقصد بها مجرد ترويج هذه اللحوم وابتزاز الأموال بالباطل.
الوجه الخامس: أن الثابت يقينا أن النصارى لا يذكرون اسم الله عند الذبح، والقول الراجح المنصور عند أهل العلم:أن التسمية شرط لحل ذبائح أهل الكتاب أيضا.(142/15)
الوجه السادس: أنه لم يكن لقول من أباح هذا النوع من اللحوم من مستند سوى التمسك بعموم الآية : ? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم ? وهذا العموم مخصوص بالنصوص الكثيرة، كقوله تعالى : ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ..?، وبقوله تعالى: ? وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق?[الأنعام:121]، وبالنصوص التي تدل على أنه إذا اجتمع حظر وإباحة غلب جانب الحظر.
فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بشأن اللحوم المستوردة(70)
إن مجرد البيان لطريقة الذبح الشرعي، دون الحكم بها على واقع اللحوم المستوردة من دول أوروبا وأمريكا وغيرها، لا تفيد من يتحرى الحلال فيما يأكل ويجتهد في اجتناب ما حرم الله عليه من ذلك، إلا إذا عرف أحوال التذكية وأحوال المذكين في تلك الشركات الغربية وغيرها التي تستورد منها اللحوم إلى المملكة العربية السعودية وغيرها وأنى له ذلك، فإن السفر إلى تلك البلاد فيه كلفة لبعد الشقة، فلا يتيسر إلا للنزر اليسير، وأكثر من يسافر إليها، يكون سفره لضرورة من علاج ونحوه، أو لإشباع رغبة حب استطلاع، ولا يعني هذا الأمر، ولا يكلف نفسه البحث عنه والوقف على حقيقته، ولذا كتبت الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء إلى المسئولين عن استيراد اللحوم وغيرها من المأكولات تستفسر منها عن الواقع، وتوصيها بالعناية بما تستورده من ذلك، من الجهة الشرعية محافظة على الدين، وعلى سلامة الرعية من تناول ما حرم الله عليهم من الأطعمة، وتوفير ما تحتاج إليه الأمة مما أحل الله.
وجاء منهم إجابة مجملة لا تكفي لإزالة الشك وطمأنينة النفس، فكتبت إلى دعاتها في أوروبا وأمريكا ليطلعوا على كيفية الذبح وديانة الذابحين هناك، فأجاب منهم جماعة، إجابة في بعضها إجمال، وكتب جماعة من أهل الغيرة في المجلات عن صفة الذبح والذابحين جزى الله الجميع خيراً، واللجنة تعرض خلاصة ما جاءها من التقارير، وما اطلعت عليه في المجلات على ما تقدم من طريقة الذبح الشرعية وما صدر في الموضوع من فتاوى كلية ليتبين الحكم على اللحوم المستوردة من تلك البلاد.
وعلى هذا يمكن أن يقال:
أولاً: بناء على ما جاء في كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، من أنه قد وردت إلى معاليه تقارير تفيد أن بعض الشركات الأسترالية التي تصدر اللحوم للأقطار الإسلامية وخاصة شركة الحلال الصادق والتي يمتلكها القادياني حلال صادق لا تتبع الطريقة الإسلامية في ذبح الأبقار والأغنام والطيور يحرم الأكل من ذبائح هذه الشركات ، وتجب مراعاة ما قررته الرابطة وأوصت به في كتابها(71).
ثانياً: بناء على ما جاء في تقرير الأستاذ أحمد بن صالح: مما يرى في طريقة الذبح في شركة برنسيسا من أن الذابح لا يدري عنه هل هو مسلم أو كتابي أو وثني أو ملحد، ومن الشك في قطع الوريدين أو أحدهما، ومن أن شهادة المصدق على الشحنة لم تبن على معاينة بنفسه أو بنائبه للذبح، ولا على معرفته بالذابح لا يجوز الأكل من هذه الذبائح، ويؤكد كون التذكية غير شرعية موافقة مدير الشركة على تعديل طريقة الذبح لتكون شرعية، بشرط بيان الكمية اللازمة للجهة المستوردة أولاً(72) .
ثالثاً: وبناء على ما جاء عنه أيضاً في طريقة ذبح الدجاج والبقر في شركة ساديا أو يسته من أن الذابح مشكوك في ديانته هل هو كتابي أو وثني، ومن أن الأبقار تصعق بكهرباء ، فإذا سقطعت رفعت من أرجلها بآلة ثم شق جلد رقبتها بسكين، ثم قطع الوريد بسكين آخر، فينزل الدم بغزارة لا يجوز الأكل من هذه الذبائح(73).
رابعاً: بناء على ما جاء في تقرير الشيخ/ عبد الله الغضية عن الذبح في لندن، من أن الذابحين من الشباب المنحرف الوثني أو الدهري، ومن أن الدجاجة تخرج من الجهاز ميتة منتوفة ورأسها لم يقطع بل لم يظهر في رقبتها أثر للذبح، وإقرار إنجليزي من أهل المذبح بذلك، ومن خداع- القائمين على المذبح- من أراد الاطلاع على طريقة الذبح عن المذبح الأتوماتيكي الذي يذبح فيه للتصدير واطلاعهم على مذبح يذبح فيه قلة من المسلمين بالداخل، وذلك مما يبعث في النفس ريبة في كيفية الذبح وديانة الذابح، لذلك لا يجوز الأكل من هذه الذبائح(74).(142/16)
خامساً: بناء على ما جاء في تقرير الأستاذ حافظ : عن طريقة الذبح في بعض الأمكنة المشهورة في اليونان، من أن ذبح الحيوان الكبير يكون بعد سقوطه من ضرب رأسه بمسدس، ومن الشك في كون الذبح حصل بعد موته من المسدس أو قبل موته، لا يجوز الأكل منه، وهناك طريقة أخرى قال فيها صاحب التقرير: إن الذبح فيها على الطريق الإسلامية ولم يبين كيفية الذبح ولا ديانة الذابح، كما أنه لم يبين أماكن الذبح ولا شركاته في اليونان(75).
سادساً: بناء على ما جاء في تقرير الشيخ عبدالقادر الأرناؤط: عن طريقة الذبح في يوغسلافيا، من أن الذبح في القرى وفي سيراجيفوا على الطريقة الشرعية والذابح مسلم، يجوز الأكل مما ذبح فيها وبناء على ما جاء فيه عن الذبح في غيرها من مدن يوغسلافيا من أن الذابح قد يكون غير مسلم كتابياً أو شيوعياً ظاهراً لا في حقيقة الأمر، لا يجوز الأكل من ذبائح هذه المدن للشك في أهلية الذابح.
سابعاً: بناء على ما جاء في تقرير الدكتور الطباع عن طريقة الذبح في ألمانيا الغربية: من أن الأبقار تضرب بمسدس في رؤوسها أولاً ثم لا تذبح إلا بعد أن تصير ميتة، لا تؤكل هذه الذبائح(76).
ثامناً: بناء على ما جاء في المقال الذي نشرته مجلة المجتمع ـ عدد 314 ـ عن طريقة الذبح بالدانمرك، من أن الذابح إلى الشيوعيين والوثنيين أقرب منه إلى النصارى، ومن أن الشركة هناك ليست عندها معلومات عن طريقة الذبح الإسلامي إلا من جهة الإشاعات، حتى يتأتى لها أن تراعي في ذبحها الطريقة الإسلامية، وأن تكتب على الطرود ذبح على الطريقة الإسلامية ، وإنما تكتب هذه الصيغة الجهة المستوردة، ليصدق عليها هناك من لا يُؤمَن، مع امتناعهم من تمكين من يريد معرفة كيفية الذبح من الشركة المصدرة من الاطلاع على ذلك(77).
وبناء على ما جاء أيضاً عن الأستاذ/ أحمد صالح محايري عن محمد الأبيض المغربي، الذي يعمل في تعليب اللحوم بالدنمرك، من أنهم يكتبون عليها ذبحت على الطريقة الإسلامية وهذا غير صحيح، لأن قتل الحيوان يتم كهربائياً على كل حال، بناء على هذا وذاك لا يجوز الأكل من تلك الذبائح.
تاسعاً: ما ذكر عن ابن العربي من إباحة الأكل مما ذكاه أهل الكتاب من الأنعام والطيور ونحوها مطلقاً، وإن لم توافق تذكيتهم التذكية عندنا وأن كل ما يرونه حلالاً في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه مردود بما تقدم في بيان طريقة الذبح وفي الفتاوى وقد تراجع ابن العربي عن قوله .
عاشراً: مما تقدم في بيان كيفية الذبح وديانة الذابحين، يتبين لنا أن ما ذكر في كتب وزارة التجارة والصناعة إلى الرئاسة لا يقوى على بعث الاطمئنان في النفس إلى أن الذبائح المستوردة يحل الأكل منها، بل يبقى الشك على الأقل يساور النفوس في موافقة ذبحها للطريقة الإسلامية، والأصل المنع وعلى هذا لابد من البحث عن طريق لحل المشكلة: مشكلة اللحوم المستوردة.
الخاتمة والتوصيات
يمكن تخليص ذلك فيما يأتي:
1- الإكثار من تربية الحيوانات والدواجن، والتشجيع من قبل حكومات الدول الإسلامية، والدعم لمن يقوم على تربية هذه الحيوانات ، سواء كانت شركات أو أفراد، والعمل على تسهيل، وتوفير العلف الجيد لهذه الحيوانات.
2- الاعتناء بالجانب الصحي في هذه الحظائر والمزارع وتوجيه الإرشادات للعاملين فيها لتمام جانب العناية بها.
3- استيراد ما كان من هذه الحيوانات والدواجن حياً عند الضرورة والاحتياج .
4- نشر التوعية في وسائل الإعلام بأضرار هذه اللحوم الواردة، التي لم تتوفر فيها شروط الذكاة الشرعية.
5- أن يعمل المسلمون على إقامة مجازر في البلاد الغربية التي تستورد منها هذه اللحوم، ويكون العمال فيها مسلمون، وعلى قدر من الأمانة والعلم بطريقة الذبح الشرعي، ويتم اختيار المشرفين الأمناء الخبراء بأحكام التذكية الشرعية، للإشراف على تذكية الحيوانات، وعلى مصانع تعليب اللحوم والأجبان.
والأمر هنا يتطلب إخلاصاً وتفانياً من بعض المسلمين لإنجاز هذا المشروع على الوجه المطلوب، كما يتطلب تخصيص ميزانية مناسبة لإنشاء مجزرة إسلامية للتصدير إلى الدول الإسلامية تتوفر فيها الشروط الشرعية والعصرية في آن واحد، ويمكن الاستعانة بالجمعيات الإسلامية في تلك البلاد للمساعدة في الاتصالات التمهيدية مع الشركات التي تصنع آلات الذبح، والاتفاق مع إحدى شركات الاستشارة والتخطيط لعمل دراسة مستوفية لتكاليف المشروع واحتياجاته.
ولقد ذكر الشيخ/محمد تقي العثماني في قضايا فقهية معاصرة بعض التوصيات في هذا الشأن ولأهميتها أسوقها على النحو التالي :
1- أن تعنى البلاد الإسلامية بالإكثار من إنتاج الثروة الحيوانية بحيث لا تحتاج إلى استيراد اللحوم من البلاد المسلمة.
2- ولئن احتاجت دولة إلى استيراد اللحوم، فلتحاول أن يقتصر الاستيراد من البلاد المسلمة.(142/17)
3- وإلى أن تصل البلاد الإسلامية في إنتاجها إلى هذا المستوى، فلتفرض الحكومة على شركات الاستيراد أن تبعث وفوداً من علماء الشريعة والخبراء إلى الشركات المصدرة، لتطلب منها التعديل في طريق الذبح بما يوافق أحكام الشريعة الإسلامية، وتعين في بلدها رجالاً من ذوي الغيرة من المسلمين، يراقبون طريقة ذبحهم بصفة دائمة بطريق يوثق به، ولا يصدرون شهادتهم على التذكية الشرعية، إلا بعد الطمأنينة الكاملة على حصولها، ولا يصدرون شهادتهم بصفة إجمالية من أن هذا اللحم حلال، وأنه مذبوح بالطريقة الإسلامية، بل تكون شهادتهم على التصريح بجميع العناصر اللازمة للتذكية الشرعية، من أن الحيوان ذبح بيد مسلم أو كتابي سمى عند الذبح وقطع العروق اللازمة لحلة الحيوان.
4- أن تمنع الحكومات الإسلامية الشركات المستوردة من استيراد اللحوم من بلاد غير إسلامية، ومن استخدام العبارات المجملة من كون اللحم حلالاً، إلا بعد إنجاز ما سبق في الفقرة السابقة من الشروط.
5- أن يعقد مجمع الفقه الإسلامي ندوة يُدعى إليها المسؤولون من الشركات المستوردة للحوم وممثليهم من شتى مناطق الوطن الإسلامي بقدر الإمكان لتشرح لهم أهمية القضية، وطريق التعامل المشروع، والتقيد بتوصيات المجمع في هذا الصَّدد. (78)
[المصادر والمراجع]
-حسب ترتيبها في البحث-:
1- القرآن الكريم.
2- لسان العرب .
3- الفقه الإسلامي وأدلته.
4- الملخص الفقهي.
5- مسند الإمام أحمد.
6- سنن ابن ماجه.
7- إرواء الغليل.
8- صحيح مسلم.
9- صحيح البخاري.
10- فتوى اللجنة الدائمة.
11- مجلة البحوث الإسلامية.
12- المغني مع الشرح الكبير.
13- سنن الدارقطني.
14- شرح النووي على صحيح مسلم.
15- تفسير ابن كثير.
16- المحرر الوجيز لابن عطية.
17- تفسير المنار.
18- www.ahlalhdeeth.comموقع أهل الحديث
19- سنن أبي داود.
20- سنن الدارمي.
21- مسند الحاكم.
22- سنن البيهقي.
23- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
24- المصباح المنير.
25- القاموس المحيط.
26- الموطأ .
27- مسند البزار.
28- الأم للشافعي.
29- الأطعمة وأحكام الصيد والذبائح.
30- إعلام الموقعين.
31- تفسير السعدي.
32- الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه.
33- المختصر.
34- المجموع.
35- بدائع الصنائع.
36- أحكام أهل الذمة.
37- حاشية المقنع.
38- اقتضاء الصراط المستقيم.
39- أحكام القرآن لابن العربي.
40- تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده.
41- مجلة المنار ج6.
42- اللحوم أبحاث مختلفة في الذبح والصيد واللحوم المحفوظة.
43- مجلة الدعوة 674.
44- مجلة الوطن العربي.
45- مجلة المجمتمع العدد414.
46- مجموع فتاوى ابن تيمية.
(1) لسان العرب لابن منظور، ج14/ ص288 .
(2) الفقه الإسلامي وأدلته / ج3 / ص648- 649 ، د/ وهبة الزحيلي.
(3) الملخص الفقهي للفوزان ج2/ ص467 .
(4) رواه أحمد ج2/ ص97 / رقم 5723 ، وابن ماجه ج2/ ص232/ رقم 2679، وصححه الألباني في الإرواء (المختصر) ج1/ ص503/ رقم 2526 .
(5) رواه مسلم ج3/ ص1548 / رقم (1955) وأصحاب السنن.
(6) الفقه الإسلامي وأدلته (د/ وهبة الزحيلي / ج3/ ص649 .
(7) صحيح البخاري، ج5 ، ص2098، رقم (5190) .
(8) وهو الحلق.
(9) مجرى الطعام والشراب.
(10) عرقان عظيمان في جانبي العنق.
(11) فتاوى اللجنة الدائمة: مجلة البحوث الإسلامية العدد السادس، المغني مع الشرح الكبير، ج11/ ص44 .
(12) سنن الدارقطني بإسناد جيد ج4 / ص283 ، رقم (45).
(13) قيلوبي وعميرة: 245.
(14) ألأم للشافعي: 2/227/ كتاب التسمية والذبائح ، باب تسمية الله عز وجل عند إرسال ما يصطاد.
(15) كتاب الأم، للشافعي: 2/131 باب ذبائح أهل الكتاب.
(16) التفسير المظهري: 3/318.
(17) انظر روضة الطالبين: 3/205 ، ورحمة الأمة : ص118 .
(18) بحوث في قضايا فقهية معاصرة ،للعثماني: ص393-395.
(19) شرح الإمام النووي على صحيح مسلم، ج3/ ص123 باختصار.
(20) الملخص الفقهي بتصرف، للفوزان ، ج2/ ص469 .
(21) تفسير ابن كثير ج1 ، ص486 .
(22) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، ج2/ ص158 .
(23) تفسير المنار ، ج6 / ص146 .
(24) أخرجه البخاري ج2/ 923 /2474.
(25) صحيح مسلم، ج3/ ص1393، رقم (1772).
(26) ، موقع أهل الحديث. www.ahlalhdeeth.com
(27) الجامع لأحكام القرآن، ج34/ ص44 .
(28) المصباح المنير، ص229 .
(29) القاموس المحيط، ج2/ ص250 .
(30) تفسير المنار، ج6/ ص186 .
(31) من حديث عبدالرحمن بن عوف (موطأ مالك ج1/ص278 ، رقم (616) ، ومسند البزار ج3/ص264 ، رقم (1056). وضعفه الألباني في إرواء الغليل ج5/ص88 .
(32) الأم، ج4/ ص258 .
(33) الأطعمة وأحكام الصيد والذبائح للفوزان، ص148149 .
(34) الفقه الإسلامي وأدلته ص650 .
(35) إعلام الموقعين، ص154155 ، ج2 .
(36) تفسير السعدي ، ص117 ، ج2 .
(37) تفسير المنار ، ص147 ، ج6 .
(38) انظر: الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه ج2/ ص130 .
(39) المختصر: 33.
(40) المجموع/ ج9 ، ص78 .(142/18)
(41) بدائع الصنائع / ج1 ، ص46 .
(42) أحكام أهل الذمة / ج1 / ص249 ، وانظر حاشية المقنع / ج3 / ص541 .
(43) أحكام أهل الذمة / ج1 / ص249250 .
(44) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير / ج2/ ص110 .
(45) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير / ج2/ ص110 .
(46) الأم، ج2/ص196.
(47) الأطعمة وأحكام الصيد والذبائح.
(48) أحكام القرآن ج2/ص554.
(49) تاريخ الأستاذ الأمام، ص682ج1.
(50) مجلة المنار ،ص 771، 812، 927 ج6.
(51) تفسير المنار، ص 200ـ 217 ج2.
(52) أحكام القرآن، ص553، ج2.
(53) من علماء الأزهر، ليسانس في الحقوق.
(54) مجلة البحوث الإسلامية العدد/ 6.
(55) مجلة البحوث الإسلامية، العدد السادس.
(56) مقالاً نشرته مجلة المجتمع الكويتية يوم الثلاثاء الموافق 1 / ذي القعدة سنة 1398م ـ العدد 414 .
(57) مجموع الفتاوى 35 /223-224.
(58) ا لبخا ري 1/76/137 .
(59) مسلم 3/1529/1929.
(60) أحكام أهل الذمة ج1/ ص253 .
(61) رواه البخاري /ج1/ص76/ رقم 173، انظر المجموع شرح المهذب/ج9 ،ص99.
(62) الأطعمة وأحكام الصيد والذبائح / للفوزان/ ص 110 -111 .
(63) اقتضاء الصراط المستقيم/ ص256.
(64) البخاري 5/2089/5167.
(65) سنن الترمذي 4/67/1468، وصححه ألألباني في المشكاة 2/429/4084.
(66) مسلم 3/1529/1929.
(67) فتح الباري 9/611.
(68) البخاري 2/726 /1952.
(69) الأطعمة وأحكام الصيد والذبائح للفوزان ، ص162 .
(70) مجلة البحوث الإسلامية ، العدد السادس ، ص183 .
(71) مجلة البحوث الإسلامية ص 44 من الأعداد.
(72) مجلة البحوث الإسلامية ص 4550 من الأعداد.
(73) مجلة البحوث الإسلامية ص 4550 من الأعداد.
(74) مجلة البحوث الإسلامية ص 156 من الأعداد.
(75) مجلة البحوث الإسلامية ص 54 من الأعداد.
(76) مجلة البحوث الإسلامية ص6367 من الأعداد.
(77) مجلة البحوث الإسلامية ص 50 من الأعداد.
(78) محمد تقي العثماني (قضايا فقهية معاصرة) ص: 444445 .(142/19)
أحكام الشركة وكيفية فسخها
د. مصطفى البروجردي
أ_تعريف الشركة:
هناك العديد من التعاريف التي عرف بها الفقهاء الشركة، أهمها:
الشركة عبارة عن اجتماع حقوق أكثر من مالك على بضاعة بصورة مشاعة.
الشركة عبارة عن كون شيء واحد لاثنين أو أزيد ملكاً أو حقاً.
الشركة هي بمعناها اللغوي في مقابل الاختصاص.
ب_ أقسام الشركة:
شركة حقيقية قهرية، كالمال أو الحق المورث عن الميت.
شركة حقيقية اختيارية بدون الاستناد إلى عقد. كما لو أحيا اثنان أرضاً مواتاً أو حفرا بئراً أو قلعا شجرة معاً.
الشركة الحقيقية المستندة إلى عقد غير عقد الشركة، كما لو تملك اثنان أو أكثر مالاً عن طريق عقد الهبة أو الصلح أو غيرهما.
الشركة الحقيقية المعروفة بالتشريك، أي أن يشرك أحدهم غيره في ماله.
الشركة الحقيقية المعروفة بالشركة العقدية، وهي التي يُشرك فيها كل واحد من الشركاء شركاءه الآخرين في ماله.
وهناك من الفقهاء مَن أضاف نوعين آخرين من الشركة الأمر الذي أثار انتقاد الآخرين، وهما:
الشركة الظاهرية القهرية، وهي الشركة التي تمتزج فيها مادتان لشخصين رغماً عنهما دون أن يستطيعا فصل إحداهما عن الأخرى كامتزاج الخل بالسكر.
الشركة الظاهرية الاختيارية، وهي أن يمزج شخصان أو أكثر بضاعتيهما عن اختيار ودون قصد الشركة، بحيث يصبح من المتعذر التمييز بينهما.
وقيل في نقد النوعين الأخيرين من الشركة أن الشركة الظاهرية ـ قهرية كانت أو اختيارية ـ لا معنى لها، لأننا نعلم أنها ليست شركة حقيقية. أما إذا كانت هذه البضاعة الجديدة هي بالشكل الذي يراها العرف مختلفة عن البضاعتين قبل امتزاجهما، فهي شركة حقيقية.
ج_ أقسام الشركة:
هناك تقسيم آخر للشركة: شركة في العين، وشركة في المنفعة، وشركة في الحق.
د_ أقسام الشركة:
وتقسم الشركة من حيث النوعية إلى: الشركة بنحو الإشاعة، والشركة بنحو الكلي في المعين. ورغم توجيه انتقاد للنوع الثاني واعتباره موضوعاً خارجاً عن اطار لاشركة. ولكن أُجيب على هذا الانتقاد بالقول بأن ما هو معتبر في مضمار الشركة هو أن يضاف المال الواحد إلى أكثر من شخص، وان اختلفت طريقة الاضافة بين شخص وآخر.
هـ_ أقسام الشركة:
وهناك تقسيم آخر للشركة يكون لدى الشريكين فيه استقلال في التصرف كشركة الفقراء في الزكاة، والسادات في الخمس، والموقوف عليهم في الأوقاف العامة. وقيل ان هذا التقسيم يقوم على المسامحة لأن المقصود ليس شركة الأفراد وإنما الشركة الكلية والجهة العامة.
و_ أقسام الشركة العقدية:
تصح الشركة العقدية في أعيان الأموال وليس في المنافع ولا في الديون. وتسمى هذه الشركة بشركة العنان. أما شركة الأعمال والتي تسمى بشركة الأبدان، وكذلك شركة الوجوده وشركة المفاوضة فباطلة. والمراد بشركة الأعمال أو الأبدان هي أن يعقد شخصان عقداً يتفقان فيه على اشتراك كل منهما في أجرة عمل الآخر. والمراد بشركة الوجوه أن يعقد شخصان لا مال لهما عقداً يشتري كل منهما بموجبه بضاعة بثمن مؤجل ثم يتقاسمان الربح بعد البيع وتسديد الثمن. وشركة المفاوضة هي أن يعقد شخصان أو أكثر عقداً يتعاهدون بموجبه على تقاسم كل نفع يصل إلى أي منهم سواء كان عن طريق التجارة أو الزراعة أو عن طريق الإرث والوصية وغيرها، وكذلك تقاسم كل ضرر يلحق بأي منهم.
ز_شروط المتعاقدين:
الشريك في عقد الشركة ومثل سائر العقود يجب أن يكون بالغاً وعاقلاً ومختاراً، وأن لا يكون محجوراً بسبب السفاهة أو الإفلاس.
ج_شروط مال الشركة:
قال بعض الفقهاء ان مال الشركة يجب أن يكون ممزوجاً ـ قبل الشركة أو بعدها ـ بالشكل الذي لا يمكن تمييز بعضه عن البعض الآخر سواء كان نقوداً أو بضاعة أخرى. وقال البعض الآخر يجب أن يكون ذلك المال متحداً في الجنس والوصف.
ولكن يبدو ان قبول هذا الشرط غير ممكن الثبوت، كما لا يوجد دليل يدل عليه. فاذا كان الامتزاج قبل العقد، فانه سيؤدي إلى الشركة القهرية، وإذا كان بعد العقد، فيجب أن يلغى العقد لأن الشركة في هذه الحالة تتحقق بالامتزاج.
وأما على صعيد الإثبات فلا يوجد دليل يدل عليه سوى ادعاء الإجماع الذي قال به العلامة الحلي، غير انه إجماع غير صحيح، لأن الكثير من القدماء لم يتعرض لهذه المسألة قط، كما ان البعض الذي تعرض كانت كلماته بالشكل الذي لا يدل على الإجماع على اشتراط الامتزاج. ولذلك لا يمكن القول بوجود إجماع تعبدي في هذه المسألة.
ط_ شروط عقد الشركة:
هذا العقد ومثل سائر العقود بحاجة إلى الايجاب والقبول. فهذا الايجاب بامكانه أن يُبرز من قبل أي من الشركاء وبامكان الطرف الآخر أن يعلن القبول. والايجاب والقبول ليس من الضرورة أن يتما من خلال اللفظ، بل يتحققان حتى من خلال العمل الدال عليهما.(143/1)
ويشترك الشركاء بالربح والخسارة في عقد الشركة. ويتحدد سهم الربح والخسارة لكل منهم على أساس رأسماله. ولو اشتُرط في عقد الشركة أن يكون لأحد الشركاء سهم أكبر من غيره، ففي هذه الحالة يرى جميع الفقهاء ان هذا الشرط صحيح اذا كان ذلك الشريك إما عامل أو يقوم بعمل أكبر. وفي غير هذه الحالة فهناك ثلاثة آراء وهي إما صحة الشرط والعقد، أو بطلان العقد والشرط، أو صحة العقد وبطلان الشرط. ويأخذ المحقق اليزدي بالرأي الأول فيرى صحة الشرط والعقد ودليله في ذلك الرواية القائلة: "المؤمنون عند شروطهم"، ويرى ان مثل هذا الشرط لا يخالف مقتضى العقد وإنما يخالف اطلاقه.
ويأخذ المحقق الخوئي بالرأي الثالث فيرى بطلان الشرط ويقول بأن هذا الشرط مخالف لمقتضى السنة لأن مقتضى السنة يتمثل في تبعية ربح المال للملك والربح مرتبط بصاحبه. لذلك يعد اشتراط بعض هذا الربح أو كلّه للآخر أمراً مخالفاً للسنة. هذا أولاً. وثانياً نظراً لعدم وجود الربح يعد اشتراطه للآخر من باب تمليك المعدوم، ومن البديهي أن تمليك المعدوم مخالف للسنة.
ويقول المقحقق اليزدي لو اشترط تعلق الربح بأحد الشركاء، أدى هذا الشرط إلى بطلان العقد إذ يُعد خلافاً لمقتضى العقد. ولكن لو اشترط لحوق الخسارة كلها بأحد الشركاء كان الشرط صحيحاً لانه غير مانف لمقتضى العقد.
وتعرض هذان الحكمان للانتقاد لأن حكمه الأول يتعارض مع حكمه السابق حول اشتراط زيادة الربح. فعقد الشركة لا علاقة له بالربح والخسارة. وأثره الوحيد هو انه يبدل الاختصاص إلى الاشتراط. ثم كيف لا يتنافى اشتراط بعض الربح مع العقد بينما يتنافى معه اشتراط كله؟!
وأما الحكم الثاني وهو اعتقاده بصحة اشتراط كل الخسارة لأحد الشركاء في العقد، فهو أمر نادر أيضاً، لأن قبول خسارة مال الآخر بدون موجبات الضمان بحاجة إلى دليل، وهو غير موجود.
بامكان الشريكين أن يشترطا في عقد الشركة أن يتصرف كل منهما لوحده أو مع الآخر بالمال، ولابد في هذه الحالة من العمل طبقاً لهذا الشرط. أما إذا لم يوجد هذا الشرط فلا يحق لأي منهما التصرف بمفرده في المال إلا إذا أجازه الآخر.
لو ذكر الشريكان في العقد نوعاً خاصاً من التصرف في رأس المال، فلابد من العمل بموجب ذلك. أما إذا لم يُشر بشيء إلى ذلك فيجب العمل بالأسلوب المتعارف. وفي غير هذه الصورة يكون العامل ضامناً للتلف والخسارة.
ويُعد العامل بشكل عام أميناً في عقد الشركة، ولا يعد ضامناً إلا في حالة التعدي أو التفريط.
ويعد عقد الشركة من العقود الجائزة، ولذلك بامكان كل شريك أن يفسخه في أي زمان يريد ما لم يكن قد اشتُرط عدم الفسخ ضمن عقد لازم. وفسخ عقد الشركة لا يعني انه يوجب انفساخ العقد منذ ابتدائه أو منذ زمان الفسخ، بل يبقى العقد على قوته إلى أن يحين زمان القسمة. ومعنى فسخ الشركة رجوع كل من الشريكين عن الأذن في التصرف أو المطالبة بالقسمة.
والبنوك ومن أجل الحيلولة دون تساهل الشريك، بامكانها أن تشترط على الشريك التعويض عن رأس المال حين تلفه من سائر أمواله الأخرى. ولابد أن يكون هذا الشرط ضمن عقد لازم كي يكون الوفاء به ملزماً.
وبامكان البنوك أيضاً ومن أجل الاطمئنان على وفاء الشريك بالتزاماته، أن تطالبه بوثيقة، وهو عمل لا يتعارض مع الشركة.
ي_حل الشركة وتقسيم الأموال:
بما أن الشركة عقد جائز، فبامكان الشركاء حلها في أي وقت يشاؤون ما لم تكن هناك مدة محددة واردة ضمن عقد لازم، وحينذاك لا يجوز حلها ما لم تنقض تلك المدة، أو أن الشركاء ملزمون ضمن عقد لازم بتقسيم أموال الشركة أو حلّها.
وفي غير الموردين أعلاه، فبالامكان حل الشركة عند طلب أحد الشركاء. وفي هذه الحالة لابد من تقسيم أموال الشركة. ويأخذ التقسيم ثلاث صور هي:
التقسيم بالإفراز: وهو التقسيم الذي يتم بموجبه تعيين سهم كل من الشركاء بطريقة بحيث يكون ذا قيمة مالية وقابل للاستفادة. وهذا لا يتحقق إلا إذا كان المال المشترك ذا أجزاء متساوية. كما لو اشترك ثلاثة أشخاص في 600 كغم من الرز، فحينذاك يكون نصيب كل منهم 200 كغم.
التقسيم بالتعديل: ويتحقق هذا التقسيم حينما تكون أموال الشركة من أنواع مختلفة وليس بالامكان اعطاء الشركاء من جميع هذه الأموال. ولذلك لابد من تحديد قيمة أموال الشركة ومن ثم تقسيم المبلغ النهائي على أساس سهم كل شريك بحيث يدخل في ذلك السههم كل نوع من تلك الأموال بالشكل الذي لا يتعلق مال اضافي ببعض الشركاء من خارج أموال الشركة.
التقسيم بالرد: حينما يصبح من غير الممكن التقسيم بالافراز أو التعديل، يُلجأ إلى التقسيم بالرد. ويتحقق حينما لا نستطيع تقسيم مال الشركة إلى حصص محددة طبقاً للأسهم وحينما تكون قيمة حصة بعض الشركاء أكثر من سهمه. وفي هذه الحال لابد للشريك المذكور من اعطاء مال سائر الشركاء كي يتاح التقسيم.
عدم جواز التقسيم: هناك حالتان لا يمكن فيهما تقسيم مال الشركة:(143/2)
1- حينما يؤدي التقسيم إلى إلحاق ضرر فاحش ببعض الشركاء. ولكن لو طلب الشريك المتعرض لمثل ذلك الضرر التقسيم، فلا مانع.
2- حينما يؤدي التقسيم إلى زوال مالية مال واحد أو أكثر من الشركاء.
والجدير بالذكر: بما أن عقد الشركة عقد جائز، فان موت أو جنون أو سفه أحد الطرفين يؤدي إلى انفساخ العقد تلقائياً.
المصدر : فقه الاوراق النقدية والبنك/دار الهادي(143/3)
أحكام الصيام الخلقية والسلوكية ...
د. رجب أبو مليح ـ إسلام أون لاين ...
بداية فإن الصيام الشرعي المعروف هو: الإمساك والامتناع الإرادي عن الطعام والشراب، ومباشرة النساء وما في حكمها، خلال يوم كامل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بنية الصوم والامتثال والتقرب إلى الله تبارك وتعالى.
لكن هناك أحكاما أخرى للصيام وأعني بها الأحكام الخلقية والسلوكية التي تعتبر أصل كل عبادة وقد نسيها البعض أو تناسوها فأصبحت أقل شهرة من الأحكام الفقهية العملية المعروفة.
لقد فرض الله العبادات عامة للارتقاء بالأخلاق وتهذيب السلوك، فقال سبحانه وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة: 45).
وقال تعالى عن الصلاة: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45).
وقال تعالى في شأن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (التوبة: 103).
وقال تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (البقرة: 263)، وقال في شأن الصيام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).
وقال صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
وقال تعالى في شأن الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ} (البقرة: 197).
ومن هذا يتبين أن الغاية العظمى من تشريع العبادات هو تحقيق كمال العبودية لله عز وجل ولا بد أن يظهر هذا في أخلاق المسلم فقد حصر وقصر النبي صلى الله عليه وسلم رسالته على إتمام مكارم الأخلاق فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
وإذا عدنا إلى الصيام وأثره في الارتقاء بالأخلاق وتهذيب السلوك نستطيع أن نقف على بعض هذه الآثار:
الارتباط بحركة الكون
إذا أقبل شهر رمضان تشوف الناس لهلاله، وتقلبت وجوههم في السماء، وشنفوا آذانهم أيهم يسبق بمعرفة هذا النبأ السعيد، والحدث العظيم، وعدوا الساعات عدا، حتى تأتي البشرى بانتهاء شهر شعبان وبداية شهر رمضان، وهم لا يفعلون ذلك في سائر الشهور، بل ربما جهل كثير من المسلمين بداية الشهور أو نهايتها، حتى إذا جاء شهر رمضان عادوا إلى طبيعتهم، ولسان حالهم يقول: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. (التوبة: 36).
وتوقيت المسلمين كله بالأشهر القمرية، كما في حول الزكاة، والحج، وعِدَد النساء، وغيرها، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: 189)، وهو توقيت طبيعي، تدل عليه علامة طبيعية هي ظهور الهلال، فهو يتنقل بين فصول العام، فتارة يكون في الشتاء، وطورًا يكون في الصيف، وكذا في الربيع والخريف، فمرة يأتي في أيام البرد، وأخرى في شدة القيظ، وثالثة في أيام الاعتدال، وتطول أيامه حينًا، وتقصر حينًا، وتعتدل حينًا.
وبذلك يتاح للمسلم ممارسة الصوم في البرد والحر، وفي طوال الأيام وقصارها.
وفي هذا توازن واعتدال من ناحية، وإثبات عملي لطاعة المسلم لربه وقيامه بواجب العبادة له في كل حين، وفي كل حال.
إنها فرصة في هذا الشهر الكريم أن يتنفس المسلم الصعداء، وهو يردد مع الذاكرين عند رؤية هلال رمضان "ربي وربك الله هلال خير وبركة".
ولا يرتبط المسلمون خلال شهر رمضان ببداية الشهر ونهايته فحسب فهم يترقبون الفجر حتى يمسكوا ويترقبون مغيب الشمس حتى يفطروا، ويعدون أيامه عدا لا يكاد يخطئ فيه أحد فيرتبطون بحركة هذا الكون العابد المسبح لله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (الإسراء:44).(144/1)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} (الحج: 18).
وهذا الترقب والانتظار يتساوى فيه المسلمون جميعا عربا وعجما، فقراء وأغنياء، حكاما ومحكومين، فلا مجال للحظوة والوساطة، فمن أكل أو شرب متعمدا بعد أذان الفجر أو قبل أذان المغرب فصيامه باطل، فلا مجال للتسلق على أكتاف الآخرين وليس هناك صيام للسادة وصيام للعبيد، وليس هناك صيام للصفوة وصيام للعامة، فالكل هنا سواء.
الوقاية من الآثام
قد خص الله هذا الشهر الكريم بالصيام، والصيام جنة (أي وقاية)، وكل عمل ابن آدم فهو له إلا الصوم فهو لله وهو يجزي به، وأنعم بجزاء الله تعالى من جزاء، وأجمل بكرمه وعطائه من عطاء، والصوم يهذب النفس، ويسمو بالروح والخلق، ويتعلم المسلم أنه ما خلق ليأكل ويشرب ويعاشر النساء، فكل هذا تشاركه فيه جميع دواب الأرض، لكنه خلق لغاية أسمى وهدف أعلى وهو عبادة الله تعالى وتقواه بإتيان ما أمر واجتناب ما نهى، فهي ثورة على شهوات الأرض وجواذبها، فنحن نملكها وهي لا تملكنا فلسنا عبيدا لشهوة ولا أسرى لعادة، حيث إننا أعلنا العبودية لله، وهذا يتضمن نبذ عبودية ما دون الله.
التقييم وتقويم الذات
وهذا الشهر تصفد فيه الشياطين، ويترك المسلم لنفسه والنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 53).
فيستطيع أن يميز المسلم بين ما يأمره بالشيطان وما تأمره به النفس، ومعرفة الداء طريق لمعرفة الدواء فيضع من التدابير الواقية والأسباب المعينة على الارتقاء بالنفس، وتهذيبها وتزكيتها {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 7 - 10)، فيحاسب المسلم نفسه فيشارطها ويراقبها ويحاسبها ثم يعاتبها ويؤدبها حتى تسلس له وتخضع لأمر الله فتصبح نفسا لوامة تستحق أن يقسم بها الله ثم ترقى حتى تصير مطمئنة { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: 27 -30).
حراسة الدخل والخارج
وفي هذا الشهر يهتم المسلم بحراسة مدخل الطعام والشراب، حتى إذا نسي أو أخطأ فإذا به ينزعج انزعاجا شديدا ويحاول أن يخرج ما دخل في فمه من الطعام والشراب حتى يكاد يخرج ما في معدته، على الرغم من رفع الحرج في الشرع عن الناسي والمخطئ، وقد طمأن النبي صلى الله عليه وسلم الناسي فقال: "من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه"، وعلى الرغم من ذلك يحرص هذا الحرص كله، ولذلك لم يقف الشيطان له في هذا الطريق لعلمه بحرصه عليه، ويقظته وتنبهه من أن يؤتى من قبله، ولذلك وقف له في طريق آخر، فأغواه وأغراه بالغيبة والنميمة، وأغراه بإطلاق اللسان في الآخرين يشتم هذا، ويقذف هذا، دون أدنى حرج، وهو لا يعلم المسكين أن طعامه وشرابه ناسيا لا يقارن بما يقترفه من الكبائر الموبقة التي تذهب بأجر الصيام، وهذا ما نبهت عليه الأحاديث الشريفة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب -وفي رواية: (ولا يجهل)- فإن امرؤ سابه أو قاتله فليقل: إني صائم، مرتين" (متفق عليه عن أبي هريرة).
وقال عليه الصلاة والسلام: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
وقال: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" وكان الصحابة وسلف الأمة يحرصون على أن يكون صيامهم طُهرة للأنفس والجوارح، وتَنزُّهًا عن المعاصي والآثام.. ومن أجل ذلك ذهب بعض السلف إلى أن المعاصي تفطِّر الصائم فمن ارتكب بلسانه حرامًا كالغيبة والنميمة والكذب، أو استمع بأذنه إلى حرام كالفحش والزور، أو نظر بعينه إلى حرام كالعورات ومحاسن المرأة الأجنبية بشهوة، أو ارتكب بيده حرامًا كإيذاء إنسان أو حيوان بغير حق، أو أخذ شيئًا لا يحل له، أو ارتكب برجله حرامًا، بأن مشى إلى معصية، أو غير ذلك من أنواع المحرمات، كان مفطرًا.
فاللسان يُفطِّر، والأذن تُفطِّر، والعين تُفطِّر، واليد تُفطِّر، والرجل تُفطِّر، كما أن البطن تُفطِّر، والفرج يُفطِّر.
وإلى هذا ذهب بعض السلف: أن المعاصي كلها تُفطِّر، ومن ارتكب معصية في صومه فعليه القضاء، وهو ظاهر ما روي عن بعض الصحابة والتابعين، وهو مذهب الإمام الأوزاعي، وهو ما أيده ابن حزم من الظاهرية.(144/2)
وإن كان جمهور العلماء قد ذهبوا إلى أن المعاصي لا تُبطل الصوم، ولكن تخدشه وتصيب منه، بحسب صغرها أو كبرها، لكن الجميع مجمعون على أنها كبائر يحاسب عليه المرء ما لم يتب منها.
تقوية خلق المراقبة
الصيام يكسب صاحبه خلق المراقبة لله تعالى، فهو يستطيع أن يأكل ويشرب لكنه لا يفعل طاعة لله تعالى ولذلك لا يدخله الرياء، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: "إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به".
وإذا صحت المراقبة لله تعالى فسيصلح بصلاحها الشيء الكثير وسينعكس ذلك على سلوك المسلم، وسيتضح ذلك في أخلاقه، وإذا راقب الإنسان الله في عباداته ومعاملاته، وأخذه وعطائه، وعلم أن الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: 59).
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة: 7).
أقول إذا علم هذا كله واستشعر التوجيه النبوي "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فقد حاز خيرا كثيرا، وارتقى في سلم الأخلاق والسلوك إلى مدى بعيد.
مدرسة لتعليم الصبر
والصيام يكسب المسلم خلق الصبر، فيصبر على الجوع والعطش والشهوات طاعة لله، والصبر نوعان: صبر على الطاعة حتى يفعلها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا بعد صبر ومصابرة ومجاهدة لعدوه الباطن والظاهر، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤه للمأمورات وفعله للمستحبات.
وصبر عن المنهي عنه حتى لا يفعله، فإن النفس ودواعيها وتزيين الشيطان، وقرناء السوء؛ تأمره بالمعصية وتجرئه عليها، فبحسب قوة صبره يكون تركه لها.
ويكفي أن الله جعله طريقا لنيل الإمامة في الدنيا والدين يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24).
والصبر يحول العدو اللدود إلى صديق حميم، وهو طريق للفوز برضا الله تعالى وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين يقول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 34-35).
تقوية الارتباط بالجماعة
الصوم يقوي في نفس المسلم الارتباط بالجماعة، ويرسخ في نفسه معنى الاتحاد للتعاون والتناصر؛ فالمسلمون يصومون عند رؤية الهلال، ويفطرون عن رؤيته، ويمسكون عند أذان الفجر ويفطرون عند أذان المغرب، ولسان حاله يردد مع قول الله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92).
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103).
تنمية احترام الوقت
والصوم يعود المسلمين على احترام الوقت والنظام؛ فتأخير الأفطار بعد الأذان بفترة طويلة مكروه، والإفطار قبل المغرب يبطل الصيام، كما أن تأخير السحور من السنة ولكن إذا أكل أو شرب الصائم بعد الأذان ولو بوقت يسير فصيامه باطل، فللوقت أهميته، والناس يفطرون في وقت واحد ويمسكون في وقت واحد، ولو أخذ المسلمون من هذه الدروس وعاشوا بها في حياتهم ومعاملاتهم لفاقوا أمما كثيرة من الغرب أو الشرق ننبهر عندما نرى احترامهم للوقت وتقديسهم للنظام، ونحن أولى بهذه الأخلاق منهم لكننا صدق فينا قول الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
وأصدق منه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف: 2- 3).
الالتفاف حول القرآن
وفي شهر رمضان بدء نزول القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185). {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1).(144/3)
فلا عجب أن يلتف الناس طوال شهر رمضان حول حلق القرآن وأن ترتفع أصواتهم به في البيوت ووسائل المواصلات؛ فهو شهر القرآن، ولا عجب أن يعيشوا معه قراءة في النهار وأن يطيلوا القيام به في الليل، وحبذا لو قرءوا فتدبروا ففهموا وعملوا ولا يكونون كمن يقرأ القرآن والقرآن يلعنه يقول ألا لعنة الله على الظالمين وهو من الظالمين.
فرص استجابة الدعاء
وفي شهر رمضان يكون الدعاء مستجابا بإذن الله، وللصائم دعوة مقبولة فليدع بالخير لنفسه وأهله وإخوانه، وليدع بالنصر لهذه الأمة المنكوبة المكلومة، عسى الله أن يقيلها من عثرتها، ويبدل ذلها عزا، وخوفها أمنا، وأن يوحد كلمتها ويهيئ لها قائدا ربانيا يقودها لخيري الدنيا والآخرة، ولا عجب أن يختم الله آيات الصيام بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186).
إحياء سنة الاعتكاف
وفي آوخر الشهر يسن الاعتكاف حيث يترك الناس الدنيا وزخرفها وضجيجها وضوضائها، ولهوها وزينتها وينقطعون للعبادة والذكر والقيام والقرآن، وفي هذه الخلوة تتسامى أرواحهم، وتصفو نفسهم وتعلو هممهم، ويستمدون الطاقة من الله حتى يستعينوا بهذا الخير وبهذا الزاد طوال عامهم كما كان حال السلف حيث كانوا يتشوقون ويستعدون لرمضان ستة أشهر وينتفعون به ستة شهر، وبهذا تتحقق التقوى في أتم صورها كما أمر الله تعالى المسلمين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102).
ومن أراد أن يموت على الإسلام فليعش دائما على الإسلام، وليكن جل دعائه، اللهم أحينا على الإسلام وتوفنا على الإيمان.
تعويد النفوس على البذل
وفي هذا الشهر فرضت زكاة الفطر وهي تخنلف في أحكامها عن زكاة المال التي لا يخرجها إلا من كان عنده مال فائض عن حاجته الضرورية وبلغ النصاب وحال عليه الحول، أما هذه الزكاة فتجب على كل من يملك قوت يومه، حتى لو كان فقيرا مستحقا للزكاة، يأخذ الزكاة من الناس ويعطي منها للفقراء حتى يتدرب على البذل والعطاء حتى ولو كان معسرا ويصدق فيه قول الله تعالى {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ...} (آل عمران: 134).
وقد فرضت زكاة الفطر في السنة الثانية من الهجرة، وهي السنة التي فرض فيها صيام رمضان طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وإغناء لهم عن ذل الحاجة والسؤال في يوم العيد.
وفي هذا البذل والعطاء الذي يأخذ هذه الطريقة المنظمة الشاملة العامة لأثر طيب في خُلق الغني وخُلق الفقير فيطهر نفس الغني من الشح والبخل، ويطهر نفس الفقير من الحقد والحسد، يعلم الغني أن المال مال الله وهو مستخلف فيه، ينفق حيث أمر الله ويمسك حيث نهى الله، ويعلم الفقير أن الله لم يتركه هملا ولن يضيع في وسط مجتمع مسلم يعرف حق الله في ماله.
التتويج بالفرحة والنصر
في نهاية هذا الشهر جعله الله عيدا يفرح الناس لأداء هذه الطاعة ولتوفيق الله وهدايته لهم ليعلموا كيف يفرحون ومتى يفرحون، يعرف المسلم أنه يفرح يوم أن يوفق لأداء عبادة من عبادات الله تعالى، ويحزن يوم أن يقترف إثما مما نهى الله عنه، وإذا فرح فرح على مراد الله لا على مراد نفسه {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58). حتى أضحى العيد وكأنه تتويج لهؤلاء الذين نجحوا في الاختبار فحصلوا على الجائزة عند نهاية هذا الشهر العظيم فكانت جائزتهم بداية الطريق للجائزة الكبرى إن شاء الله. ...(144/4)
أحكام العملة الورقية
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد، فإن من المسلم به إسلاميا أن دين الإسلام دين شامل لكل مناحي الحياة لا يشذ عنه شيء، وأن المسلم مخاطب الأحكام التكليفية في مجالات حياته كاملة ولا يقتصر الأمر على مجال العبادات مثلا كما يحاول البعض أن يروج له، ومن البدهي أن المال يمثل ركيزة أساسية في حياة الأفراد والشعوب والحضارات بل لقد كان السبب في إشعال فتيل الحروب وذهاب الأرواح وتدمير الحضارات والدول، كما أنه كان سببا كبيرا في إقامة حضارات حكمت شعوبا ورقاعا واسعة من الأرض، وبسبب هذا الموقع الذي يحتله المال فمن البدهي أن يكون للشرع الإسلامي منهج وموقف إزاء كل التعاملات المالية المختلفة والمتنوعة، ومن هنا كان لزاما على علماء الإسلام أن يتعرفوا على التطورات المالية ويدرسوها دراسات متأنية ويسلطوا عليها ضوء الشرع، ليعلما مواطن الحلال من الحرام وليبينوا للأمة كي تعمل بالحلال وتجتنب الحرام.
وإن من المسائل المهمة في هذا العصر مسألة العملة الورقية وما يتعلق بها من أحكام ربما يجهل بعضها الكثيرون وفيما يلي بيان لجملة من هذه الأحكام التي ينبغي بل يجب على من يتعامل بها أن يتعلمها ليعرف متى يكون تعامله حلالا ومتى لا يكون كذلك، لكي يرضي ربه أولا ولكي يأكل اللقمة الحلال التي لا تنغص على المسلم عيشه، لأن الله ما أمرنا إلا بما فيه نفعنا وما نهانا إلا عما فيه ضرنا فطوبى لمن رشد.
أولا: تعريف العملة الورقية:
يتوجب التفريق بين مفهومي النقد والعملة , فالنقد يشمل كافة المبادلات التي تتمتع بقبول عام في الوفاء بالإلتزامات, وهو غالباً ما يكون ناشئاً عن الإتفاق أو العادة أو العرف أو ثقة الأفراد.
أما العملة فهي نوع من أنواع النقود الحكومية وهو ما يكون لها قوة إبراء الديون وتقتصر على المسكوكات المعدنية والعملة الورقية الحكومية .
والنقد يشمل إضافة لذلك على الأوراق المصرفية المتداولة تحت مدلول ثقة المتعاملين في قدرة وملاءة البنك الذي أصدرها ,بدفع قيمتها بعملة الدولة .
أما العملة الورقية فهي التي تصدرها الحكومة وتشمل فئات معينة ومختلفة وكل فئة تحمل قيمة اسمية بدون ما يقابلها من ضمان معدني, وهي بالتالي تستمد قوتها من إرادة الدولة وثقة المتعاملين به(1).
ثانيا: تكييف العملة الورقية:
كانت العملة قديما هي الدينار الذهب والدرهم الفضة وبهاتين العملتين كان يتعامل المسلمون بيعا وشراء، ولم تظهر العملة الورقية كبديل للدينار والدرهم إلا متأخرا حيث ترجع بداية جعلها نقودا إلزامية إلى سنة 1914م، فمن البدهي ألا يتحدث عنها فقها الإسلام وإن تكلموا عن عملة أخرى وهي المسماة بالفلوس وهي عملة نحاسية تستمد قوتها من اعتراف السلطان لها وإعطائها قيمة معينة.
هذا وقد كانت الكتب والبحوث الفقهية في بيان تكييف وأحكام العملة الورقية نادرة للغاية، ولكن بعد قيام الجامعات وبرامج الدراسات العليا ساهم هذا في إنعاش الكثير من الجوانب العلمية في المجال الفقهي والتي كان منها دراسة العملة الورقية وموطنها من الشرع.
وقد اختلف العلماء المعاصرون في تكييف العملة الورقية، وكان لهم مواقف مختلفة في مالية هذه العملة وهي مختصرة كما يلي:
القول الأول: العملة الورقية سندات ديون.
القول الثاني: عرض من عروض التجارة.
القول الثالث: ملحقة بالفلوس.
القول الرابع: ليست بمال أصلا.
القول الخامس: العملة الورقية متفرعة من الذهب والفضة
القول السادس: هي نقد مستقل قائم بذاته(2).
والذي قرره المجمع الفقهي التابع للمؤتمر الإسلامي: هي أنها اعتبارية فيها صفة الثمينة كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامه(3).
ثالثا: أحكام العملة الورقية:
تبعا للقرار السابق من أن العملة الورقية تقوم مقام الذهب والفضة أوجز هنا الأحكام المتعلقة بالعملة الورقية:ـ
أولا: وجوب الزكاة:
تجب في العملة الورقية الزكاة إذا بلغت نصابا، بقيمة 85 جراما من الذهب يخرج ربع العشر من مجموع ما يملك ، لأن العملة الورقية مال تام، فإذا كانت قيمة نصاب الذهب مائة ألف ريال وكان صاحب المال يمتلك هذا المبلغ ، وحال عليه الحول وهو معه فيجب عليه تزكية ماله وهو هنا ربع العشر أي ألفان وخمسمائة ريال فقط.
ثانيا: دخول الربا:
تخضع العملة الورقية لأحكام الصرف، والمقصود بالصرف هو بيع العملات بعضها ببعض، وللصرف ضوابط يجب مراعاتها وفي مخالفتها الوقوع في الربا، وهذه الضوابط وهي:
1- التقابض: إي قبض البدلين (الثمن والمثمن) قبل الافتراق بالأبدان بأن يقوم أحدهما من مجلسه أو أن يخرج من الغرفة .(145/1)
2- التماثل: أي لا يجوز أن يزيد أحدهما عن الآخر عند اتحاد الجنس فيحرم مبادلة " 10 ريال يمني " بعشرين ريالا يمنيا " ، أما إذا اختلف الجنس فيجوز التفاضل كأن " يصرف 10ريال سعودي" بعشرين يمني" ، إذ أن كل عملة تعتبر جنسا مختلفا.
3- الحلول: فلا يجوز أن يشترط أحدهما أو هما جميعا تأخير التقابض، سواء اتحدا جنسا أو اختلفا، لأن قبض البدلين مستحق قبل الافتراق.
ودليل ما سبق ما رواه أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض(4) ولا تبيعوا منها غائبا بناجز"(5).
وذهب الجماهير من أهل العلم إلى اشتراط خلو العقد من خيار الشرط، لأن خيار الشرط يمنع تمام الملك وذلك يخل بتمام القبض، فإذا اشترطا أو أحدهما الخيار فإن العقد يفسد في حين خالف الحنابلة وذهبوا إلى صحة العقد وفساد الشرط(6).
أولا: مبادلة الأوراق النقدية بالحلي:
هل يجوز أن يشتري أحدهم ذهبا بعملة ورقية نسيئة، فيقبض المشتري الحلي ويبقى ثمنه أو بعض ثمنه في ذمة المشتري؟
والجواب على ذلك أن العملة الورقية قد أصبحت اليوم بمثابة الذهب والفضة قديما وأنهما يجتمعان في علة متعدية واحدة وهي الثمنية، وعليه فلا يجوز بيع الحلي بالعملة الورقية نسيئة لأنهما ربويين فيشترط فيهما التقابض والحلول ولا يشترط التماثل لاختلاف الجنس وهذا ما قرره المجمع الفقهي التابع للمؤتمر الإسلامي(7).
ثانيا: المعاملات المصرفية:
تقوم البنوك بمنح قروض بربا بضمان أو بغير ضمان والحكم الشرعي هنا هو:
أ - لا يجوز وضع المال في البنوك الربوية.
ب - فإن أودعها في البنك لا يجوز تركها لأن فيه إعانة على المعصية.
ت - لا يجوز الانتفاع بها.
ث - يفرقها في سبل الخير، علما أن هذا الإنفاق ليس من باب التصدق ولا أجر فيه بل هو تخلص من المال الحرام.
ومن الخدمات المصرفية تحويل النقود مقابل مبلغ من النقود يأخذه البنك عن عملية التحويل فيدفع البنك شيكا مقابل استلام النقود ليقبض صاحب الشيك النقود في البلد الآخر أو من بنك آخر، فيقيد هذا البنك المبلغ في سجلاته، وقد قرر المجمع الفقهي التابع للمؤتمر قيام الشيك مقام القبض في صرف النقود بالتحويل في المصارف، وقرر الاكتفاء بالقيد في دفاتر المصرف عن القبض لمن يريد استبدال عملة أخرى مودعة في المصرف(8).
ثالثا : تغير قيمة العملة:
لا تثبت العملة الورقية على سعر معين بل قد ترتفع بدرجة كبيرة كما قد تنخفض حتى لكأنها لا تساوي شيئا، وتعتبر هذه المشكلة من المشاكل الكبيرة التي يعاني منها العصر، وتظهر في مسألة القرض فقد يقرض أحدهم الآخر مبلغا من المال ثم إذا استوفاه وجده أقل قيمة من نقوده الأولى، ومثله ما لو أمهر امرأة مبلغا ثم حدث الزواج بعد انخفاض قيمة النقود، ومثله في البيع والإجارة وغيرها، وهذه الحالة كثيرا ما تؤدي إلى مشاكل.
والسؤال هنا هل تقضى الديون بمثل عددها، فمن استدان ألفا ، فليس عليه إلا الألف، أم تعتبر القيمة؟
اختلف الفقهاء على ثلاثة أقوال:
- فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى قضاء الدين بالمثل لا القيمة، ولا عبرة للغلاء والرخص، قياسا على المثليات، ولأن العدد المذكور هو المترتب في ذمته(9).
- وذهب أبو يوسف وهو المفتى به عند الحنفية أن المدين ملزم بوفاء قيمة النقد عند غلائه أو رخصه فإن كان الدين بيع قدرت قيمة النقد يوم البيع، وغن كان من قرض فالقيمة يوم القرض(10).
- وذهب بعض المالكية إلى أن التغير إن كان فاحشا بحيث كان انخفاض القوة الشرائية للنقد كبيرا فالواجب على المدين قيمة النقد يوم ثبوته في الذمة وإلا فالواجب المثل(11).
وخلاصة الخلاف:
ذهب بعض المعاصرين إلى ترجيح القولين الأخيرين، والذي يظهر والله أعلم أن الأخذ بغير مذهب الجمهور فيه محاذير منها دخوله في الربا فمن اقترض ألفا ثم رد ألفين فلا شك أنه ربا، كما أن فيه جهالة من ناحية أن المقرض أو البائع أو الزوجة لا يدرون كم سيستلمون، ويزداد الأمر سوءا على المقترض والمشتري والزوج إذ لا يدرون كم سيسلمون، أضف إلى ذلك عدم انضباطه، ومن هنا كان رأي الجمهور هو الصحيح، ولكن قد يريد البعض أن يضمن ماله بحيث يبقى على قيمته أو قريبا منها، فيمكن له أن يقرض يبيع أو يمهر ذهبا ثم يستلمه وقت حلوله ذهبا أو قيمته نقودا، كما يمكنه أن يربطه بعملة أجنبية يغلب عليها الاستقرار فيقرضه مثلا ألفا سويسريا ثم يعطيه صرفها عملة محلية وعند المطالبة يأخذ الألف السويسرية أو صرفها من العملة المحلية.
هذه خلاصة ما يتعلق بالعملة الورقية من أحكام، أسأل الله أن يهدينا ويوفقنا للعمل بشرعه والحمد لله رب العالمين
فهد عبد الله
________________________________________
(1) جرائم تزييف العملات مازن الحنبلي...
(2) انظر هذه الأقوال وما ينبني عليها في الأوراق النقدية في الاقتصاد الإسلامي لأحمد حسن 165 وما بعدها.(145/2)
(3) القرار التاسع المجمع الفقهي التابع للمؤتمر الإسلامي..
(4) أي لا تفضلوا والشف الزيادة.
(5) أخرجه مسلم 3/1208
(6) انظر: فتح القدير 6/260وما بعدها، المدورنة 3/3، كفاية الأخيار 1/335، والمغني 4/134 ونيل الأوطار 5/152.
(7) مجلة الاقتصاد الإسلامي ع 69
(8) مجلة المجمع ع 8/72
(9) انظر الدسوقي 3/45، ونهاية المحتاج 3/399، والمغني 4/365.
(10) انظر تنبيه الرقود لابن عابدين 5
(11) حاشية الرهوني 5/121، وانظر بشكل موسع الأوراق النقدية لأحمد حسن 337 وما بعدها.(145/3)
أحكام المسح على الخفين والنعلين والجوربين
هذه رسالة مختصرة نضعها بين يديك في بيان بعض المسائل المهمة في المسح على الخُفَّين والجوربين والنعلين على ضوء الكتاب و السنة وآثار السلف الصالح ، وهي كالآتي :-
أولاً : - مشروعية المسح اعلم أن المسح على الخفين والجوربين والنعلين ثابت شرعاً ، ( والخُف : ما كان مصنوعاً من الجلد ، والجورب : ما كان مصنوعاً من القطن ونحوه ) فقد روى البخاري ومسلم ، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : ( كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأهويت لأنزع خُفَّيه ، فقال : ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ، فمسح عليهما ) وعن همام قال : ( بال جرير ، ثم توضأ ، ومسح على خفيه ، فقيل : تفعل هذا ؟ قال : نعم ، رأيت رسول الله بال ثم توضأ ، ومسح على خفَّيه ) رواه مسلم . وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين ) رواه أبو داود والترمذي [ الإرواء : 1/137 ]
ثانياً : - إدخال الخُفَّين أو الجوربين على طهارة اعلم أنه لابد من إدخال الخفين أو الجوربين على طهارة لمن أراد المسح عليهما ، ( يعني أن يكون قد لبسهما وهو طاهر من الحدث الأكبر والأصغر ) كما جاء في حديث المغيرة بن شعبة المتقدم ذكره 0
ثالثاً : - كيفية المسح يقتصر من يريد المسح على مسح أعلى الخف أو الجورب أو النعلين ، وذلك بإمرار اليد على القدم اليمنى واليسرى مرةً واحدةً فقط ، أما مسح أسفل الخف فلم يثبت فيه دليل ، بل ثبت الدليل بخلافه ، فقد روى أبو داود وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه ) [ الإرواء : 1/140 ] 0
رابعاً : - مدة المسح وبدايته تكون مدة المسح للمقيم يوماً وليلة ( أي أربع وعشرين ساعة ) ، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن ، ويبتديء من وقت مسحه على خُفَّيه لا من وقت لبسهما ، وهو ظاهر الأحاديث والمأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
خامساً : - المسح على الخف أو الجورب المُخَرَّق الصحيح أنه يجوز المسح على الخف المخرَّق والمرقَّع والشفّاف ، إذ لا دليل على منع المسح عليها، قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله : ( امسح على ما تعلقت به رجلك ، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مخَرَّقة مشقَّقة مرقَّعة ) ذكره عبدالرزاق في المصنف ، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى 0
سادساً : - حكم وضوء من نزع خفيه أصح ما قيل فيه أن طهارته باقية ، لأنه مذهب الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ولم يُعلم له مخالف من الصحابة ، وقد روى البيهقي والطحاوي في شرح معاني الآثار واللفظ له ، عن أبي ظبيان : ( أنه رأى عليّاًرضي الله عنه بال قائماً ، ثم دعا بماء ، فتوضأ ومسح على نعليه ، ثم دخل المسجد ، فخلع نعليه ثم صلى )
هذه بعض المسائل المتعلقة بالمسح على الخفين والجوربين ، اقتطفناها من كلام العلماء للإيضاح والبيان ، وتسهيلاً على المسلمين ، وأخذاً بالرخصة ، استجابةً لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب أن تُؤتى رُخَصُهُ ، كما يُحب أن تؤتى عزائمه )) رواه الإمام أحمد وغيره [ صحيح الجامع 1/383 ] 0(146/1)
أحكام زكاة الفطر
مجموعة من العلماء 29/9/1426
01/11/2005
حكم زكاة الفطر
صدقة الفطر واجبة على كل مسلم تلزمه مؤنة نفسه إذا فضل عنده عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته : صاع ، والأصل في ذلك ما ثبت عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: ( فرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – زكاة الفطر صاعاً من تمر ، أو صاعاً من شعير ، على العبد والحر ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير من المسلمين ، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ) متفق عليه واللفظ للبخاري .
وما روى أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : ( كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول – صلى الله عليه وسلم – صاعاً من طعام ، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير ، أو صاعاً من زبيب ، أو صاعاً من أقط ) متفق عليه .
ويجزئ صاع من قوت بلده مثل الأرز ونحوه ، والمقصود بالصاع هنا : صاع النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وهو أربع حفنات بكفي رجل معتدل الخلقة . وإذا ترك إخراج زكاة الفطر أثم ووجب عليه القضاء.
ونسأل الله أن يوفقكم ، وأن يصلح لنا ولكم القول والعمل ، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى(5733) الجزء التاسع ص464 )
وقت إخراج زكاة الفطر
يبدأ وقت إخراج زكاة الفطر من غروب شمس آخر يوم من رمضان ، وهو أول ليلة من شهر شوال ، وينتهي بصلاة العيد ؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بإخراجها قبل الصلاة ، ولما رواه ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات " ويجوز إخراجها قبل ذلك بيوم أو يومين لما رواه بن عمر - رضي الله عنهما – قال : ( فرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صدقة الفطر من رمضان .. ) ، وقال في آخره ( وكانوا يعطون قبل ذلك بيوم أو يومين ) . فمن أخرها عن وقتها فقد أثم وعليه أن يتوب من تأخيره ، وأن يخرجها للفقراء .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى(5733) الجزء التاسع ص464 )
إخراج زكاة الفطر نقداً
إخراج القيمة في زكاة الفطر اختلف فيها العلماء على قولين :
الأول : المنع من ذلك . قال به الأئمة الثلاثة مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وقال به الظاهرية أيضاً ، واستدلوا بحديث عبد الله بن عمر في الصحيحين " فرض رسول الله زكاة الفطر صاعاً من تمر ، أو صاعاً من بر ، أو صاعاً من شعير ،(وفي رواية أو صاعاً من أقط)، على الصغير والكبير من المسلمين . ووجه استدلالهم من الحديث : لو كانت القيمة يجوز إخراجها في زكاة الفطر لذكرها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأيضاً نص في الحديث الآخر " أغنوهم في هذا اليوم"، وقالوا: غنى الفقراء في هذا اليوم يوم العيد يكون فيما يأكلون حتى لا يضطروا لسؤال الناس الطعام يوم العيد .
والقول الثاني : يجوز إخراج القيمة ( نقوداً أو غيرها ) في زكاة الفطر ، قال به الإمام أبو حنيفة وأصحابه ، وقال به من التابعين سفيان الثوري ، والحسن البصري ، والخليفة عمر ابن عبد العزيز ، وروي عن بعض الصحابة كمعاوية بن أبي سفيان ، حيث قال : " إني لأرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر " ، وقال الحسن البصري : " لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر " ، وكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله في البصرة : أن يأخذ من أهل الديون من أعطياتهم من كل إنسان نصف درهم ، وذكر ابن المنذر في كتابه (الأوسط) : إن الصحابة أجازوا إخراج نصف صاع من القمح ؛ لأنهم رأوه معادلاً في القيمة للصاع من التمر ، أو الشعير .
ومما سبق يتبين أن الخلاف قديم وفي الأمر سعة ، فإخراج أحد الأصناف المذكورة في الحديث يكون في حال ما إذا كان الفقير يسد حاجته الطعام في ذلك اليوم يوم العيد ، وإخراج القيمة يجوز في حال ما إذا كانت النقود أنفع للفقير كما هو الحال في معظم بلدان العالم اليوم ، ولعل حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " أغنوهم في هذا اليوم" ، يؤيد هذا القول ؛ لأن حاجة الفقير الآن لا تقتصر على الطعام فقط ، بل تتعداه إلى اللباس ونحوه .. ، ولعل العلة في تعيين الأصناف المذكورة في الحديث ، هي: الحاجة إلى الطعام والشراب وندرة النقود في ذلك العصر ،حيث كانت أغلب مبايعاتهم بالمقايضة، وإذا كان الأمر كذلك فإن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، فيجوز إخراج النقود في زكاة الفطر للحاجة القائمة والملموسة للفقير اليوم . والله أعلم .
د. سعود بن عبد الله الفنيسان
إخراج زكاة الفطر لحماً
السؤال:
بعض أهل البوادي ليس عندهم طعام يخرجونه لزكاة الفطر فهل يجوز لهم الذبح من المواشي وتوزيعها على الفقراء؟
الجواب:(147/1)
لا يصح ذلك؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – فرضها صاعاً من طعام واللحم يوزن ولا يكال، قال ابن عمر – رضي الله عنهما - : "فرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – زكاة الفطر صاعاً من تمر وصاعاً من شعير".
وقال أبو سعيد – رضي الله عنه -: "كنا نخرجها في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – صاعاً من طعام، كان طعامنا التمر والشعير والزبيب والأقط" ، ولهذا كان القول الراجح من أقوال أهل العلم أن زكاة الفطر لا تجزئ في الدراهم ولا من الثياب ولا من الفرش.
ولا عبرة بقول من قال من أهل العلم إن زكاة الفطر تجزئ من الدراهم لأنه ما دام بين أيدينا نص عن النبي – عليه الصلاة والسلام – فإنه لا قول لأحد بعده ولا استحسان للعقول في إبطال الشرع، والله – عز وجل – لا يسألنا عن قول فلان أو فلان يوم القيامة وإنما يسألنا عن قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – لقوله تعالى: "وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ" [القصص:65].
فتصور نفسك واقفاً بين يدي الله يوم القيامة وقد فرض عليك على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن تؤدي زكاة الفطر من الطعام فهل يمكنك إذا سئلت يوم القيامة: ماذا أجبت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في فرض هذه الصدقة؟ فهل يمكنك أن تدافع عن نفسك وتقول والله هذا مذهب فلان وهذا قول فلان؟ الجواب: لا ولو أنك قلت ذلك لم ينفعك.
فالصواب بلا شك أن زكاة الفطر لا تجزئ إلا من الطعام وأن أي طعام يكون قوتاً للبلد فإنه مجزئ وإذا رأيت أقوال أهل العلم في هذه المسألة وجدت أنها طرفان ووسط:
فطرف يقول: أخرجها من الطعام، وأخرجها من الدراهم، وطرف آخر يقول: لا تخرجها من الدراهم ولا تخرجها من الطعام إلا من خمسة أصناف فقط وهي البر والتمر والشعير والزبيب والأقط، وهذان القولان متقابلان.
وأما القول الوسط فيقول: أخرجها من كل ما يطعمه الناس ولا تخرجها مما لا يطعمه الناس، فأخرجها من البر والتمر والأرز والدخن والذرة، إذا كنت في مكان يقتات الناس فيه الذرة وما أشبه ذلك، حتى لو فرض أننا في أرض يقتات أهلها اللحم فإننا نخرجها من اللحم.
وبناءً على ذلك يتبين أن ما ذكره السائل من إخراج أهل البوادي للحم بدلاً عن زكاة الفطر لا يجزئ عن زكاة الفطر.
محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله-
وكالة اللجان الخيرية على الصدقات
السؤال:
فضيلة الشيخ هاني الجبير- حفظه الله تعالى:
هل اللجان الخيرية وكيلة عن صارفها (المزكي والمتصدق)؟ أم وكيلة عن مستحقها؟ ومحل الإشكال في الآتي:
1-متى تبرأ ذمة المزكي؟ هل بوقت دفعها لهم أم بوقت صرفها لمستحقها؟
2- وهل يجوز وضع جدول زمني لصرفها لمستحقيها خلال العام، لكل شهر عدد معين؟
3- وهل يجوز استثمار أموال الصدقات والزكوات؟
4- وهل يجوز قبض زكاة الفطر في وقت لا يسع صرفها فيه؟ كقبيل تكبيرة الإحرام في صلاة العيد؟
5- وهل يفرق في ذلك بين اللجان المرخصة من قبل (الحكومة)، وغير المرخصة؟ وهل هي وكيلة عنها في القبض، كجباة للزكاة للإمام؟ وهل يستحق العاملون فيها من مصرف (والعاملين عليها)؟ أفتونا بارك الله فيكم وفي علمكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين.
الجواب:
الحمد لله وحده، وبعد:
فاللجان والمؤسسات الخيرية بمثابة الوكيل عن المتبرع والمزكي، ولا تكون وكيلة عن المستحقين ممن تبذل لهم التبرعات إلا إذا وكلوها، وهذا ظاهر؛ إذ إعطاء المتبرع المال لهم توكيل لهم في صرفه، وأما الفقراء والمستحقون فلم يوكلوها، ولذا تقوم بعض الهيئات بأخذ توكيل شفهي أو كتابي من المستحقين المسجلين لديها لتتمكن من قبض زكاة الفطر إلى انتهاء وقتها.
1- وأما سؤالك عن براءة ذمة المزكي فهي حاصلة بمجرد بذله لزكاته إلى وكيل ثقة عارف بما يجب عليه نحو الزكاة.
2- ووضع جدول زمني لصرف الزكاة على المستحقين خلال العام الأصل فيه عدم الجواز بل تبذل الزكاة ما دام المستحق موجودًا ويعطى الواحد ما يكفيه عامًا كاملاً، إلا إذا كان مستحق الزكاة لا يحسن التصرف في المال أو يبذله في الحرام، فلا حرج في تقسيط الزكاة عليه أو إعطاؤه إياها على شكل أعيان يحتاجها، أو كانت المؤسسة لا تتمكن من صرف المبالغ دفعة واحدة لكثرة المستحقين، فترتب حضورهم لديها، مع استشعار أن يكون التصرف لمصلحة، لا لأجل إظهار نشاط المؤسسة، فبكثرة من يحضر لها من المحتاجين والله المستعان.(147/2)
3- استثمار أموال الزكاة لا يجوز، بل الواجب صرفها مباشرة في مستحقيها، فإن لم تجد المؤسسة أو الهيئة مستحقين للزكاة فإنه لا يجوز لها أن تستقبل الزكاة من المتبرعين. وأما أموال الصدقات والتبرعات العامة فلا حرج في استثمارها؛ لما فيه مصلحة وزيادة نفع، وقد أخرج البيهقي في سننه (4/114)، عن قيس بن أبي حازم، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء (أي ضخمة) فسأل عنها، فقال المصدِّق: إني ارتجعتها بإبل. فسكت، ومعنى ارتجاعها أن يشتريها بثمن حصل عليه من بيع مثلها، فهنا تصرف المصدِّق وهو عامل الصدقة بما فيه المصلحة والنفع؛ إذ الواحدة أسهل في النقل، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أصل جواز التصرف في المال بما فيه مصلحة. وليس الحال كذلك في الزكاة؛ لأنه لا يجوز تأخيرها إن دفعت للمؤسسات الخيرية، أما لو أعطاها الإنسان لولي الأمر فقد برئت ذمته ولو كان جائرًا، قال أبو صالح: سألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر وجابرًا وأبا سعيد وأبا هريرة، رضي الله عنهم، فقلت: هذا السلطان يصنع ما ترون، أفأدفع إليه زكاتي؟ فقالوا كلهم- رضي الله عنهم: نعم. وروي ذلك عن غيرهم. انظر المصنف لعبد الرزاق(4/48)، ولابن أبي شيبة(3/223).
4- ولا يجوز قبض زكاة الفطر في وقت لا يكفي قابضها من صرفها إلا إذا كان وكيلاً عن مستحقها.
5- ولافرق في جميع ذلك بين لجنة مرخصة من ولي الأمر أو لجنة لا تحمل ترخيصًا أو فرد يستقبل الزكاة إلا إذا وضع ولي الأمر عمالاً يجمعون الزكاة، فهؤلاء تدفع لهم الزكاة مطلقًا ولو غير عدول؛ لأن الإمام نائب عن المستحقين، والعامل الذي يستحق من مصرف العاملين على الزكاة هو الذي يعينه ولي الأمر لجمع الزكاة، وأما اللجان الخيرية فليست من هذا الصنف، ولا يجوز لها أن تبذل شيئًا من الزكاة لأفرادها إلا إذا كانوا مستحقين لها. والله تعالى أعلم.
أجاب عليه:هاني بن عبدالله الجب(147/3)
أحكام زيارة المسجد النبوي
يوسف بن عبدالله الأحمد
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن أحكام زيارة المسجد النبوي والصلاة فيه تخفى على كثير من الناس، ويقع الكثيرون أثناء بقائهم في المدينة في جملة من المخالفات الشرعية؛ ولذا فقد حرصت هذه الرسالة على بيان الأحكام والتنبيه على المخالفات وفق ما ثبت عن النبي وأصحابه رضي الله عنهم، في عرض مرتب وأسلوب سهل يناسب العامة.
فإليك هذه الأحكام:
1- يشرع السفر من أجل الصلاة في مسجد النبي في أي وقت؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام } [متفق عليه].
2- السفر من أجل الصلاة في مسجد النبي لا علاقة له بالحج؛ وعليه فليس من سنن الحج أو كماله زيارة المسجد النبوي قبل الحج أو بعده.
3- إذا وصل المسلم إلى المسجد استحب له ما يستحب عند دخول كل مسجد، وهو أن يقدم رجله اليمنى عند الدخول، ويقول: (بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)، (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم).
4- ثم يصلي ركعتين تحية المسجد.
5- وبعد الصلاة يستحب أن يذهب إلى قبر النبي وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويسلم عليهم، فيقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا عمر، ثم ينصرف ولا يقفل، كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل إذا قدم من سفر، فإن زاد شيئاً يسيرًا من الدعاء لهم دون أن يلتزمه فلا بأس إن شاء تعالى.
6- ويستحب لمن كان بالمدينة أن يتطهر في بيته ثم يأتي مسجد قباء ويصلي فيه ركعتين؛ لقول النبي : { من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له كأجر عمرة } [حديث صحيح أخرجه أحمد والنسائي وغيرهما].
7- ويستحب أن يزور مقبرة البقيع وقبور شهداء أحد؛ لأن النبي كان يزورهم ويدعو لهم؛ ولعموم قوله : { كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها } [أخرجه مسلم].
وكان النبي يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: { السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية } [أخرجه مسلم].
8- ومما يجب معرفته أن البناء على القبور من قباب وغيرها أو بناء المساجد على القبور، أو دفن الموتى في المساجد من أعظم المحرمات التي حذر منها النبي أشد التحذير في نصوص كثيرة منها:
أ- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله في مرضه الذي لم يقم منه: { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } [متفق عليه].
ب- وعن عائشة أيضاً أن ام حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله فقال: { إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة } [أخرجه مسلم].
ج- وعن جابر قال: { نهى رسول الله أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه } [أخرجه مسلم].
د- وعن ابي مرثد أن رسول الله قال: { لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها } [أخرجه مسلم].
أما وجود قبر النبي في المسجد؛ فإن النبي لم يدفن في المسجد، وإنما دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها، وكانت حجرتها خارج المسجد، واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة.
ثم وسع المسجد في خلافة الوليد بن عبدالملك وأدخلت فيه الحجرة (انظر مجموعة فتاوى ابن تيمية 27/323).وكان الواجب ألا تكون التوسعة من جهة قبر النبي ، وإنما تكون من الجهات الثلاثة الأخرى، فيبقى القبر خارج المسجد، كما حصل في توسعة عمر وعثمان رضي الله عنهما للمسجد.
أخطاء وتبيهات:
1- يسافر كثير من الناس إلى المدينة بقصد زيارة قبر النبي ، وهذا العمل لا يجوز. والمشروع أن يقصد المسلم بسفره الصلاة في المسجد النبوي، لقوله : { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى } [متفق عليه].
2- زيارة قبر النبي وصاحبيه والبقيع وغيرها من القبور خاص بالرجال؛ أما النساء ليس لهن زيارة شيء من القبور؛ لقول النبي : { لعن الله زوّارات القبور } [حديث صحيح،أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة].
3- لا يجوز لاحد أن يتمسح بالمنبر ولا بالحجرة التي فيها قبر النبي وصاحبيه رضي الله عنهما، ولا أن يقبلها، أو يطوف بها؛ فإن هذا كله بدعة منكرة.
4- لا يجوز لأحد أن يسأل الرسول ولا غيره قضاء حاجة، أو تفريج كربة، أو شفاء مريض، أو أن يشفع له في الآخرة، أو نحو ذلك؛ لأن هذا كله لا يطلب إلا من الله سبحانه، وطلبه من الأموات شرك بالله تعالى.(148/1)
5- من الأعمال المبتدعة ما يفعله بعض الزوار من رفع الصوت عند قبره ، وطول القيام، وتحري الدعاء عند قبره، وقد يستقبل القبر رافعاً يديه يدعو، وكذا ما يفعله بعض الناس من استقبال القبر من بعيد وتحريك شفتيه بالسلام او الدعاء، أو زيارة القبر النبوي بعد كل صلاة أو كلما دخل المسجد أو خرج منه؛ وهذا كله خلاف ما عليه السلف الصالح من أصحاب النبي واتباعهم بإحسان، بل هو من البدع المحدثة.
6- سبق بيان ما يشرع زيارته لمن زار المدينة، وما عدا ذلك فلا يشرع؛ كالمساجد السبعة، ومسجد القبلتين وغيرها، وكذا الذهاب مع مَنْ يُسمّوْن (بالمزورين) لتلقينهم الأدعية.
ملحق مهم بما يجب على العبد معرفته
أوجزه في المسائل الآتية:
أولاً: إن أعظم واجب على المسلم أن يعبد الله وحده لا شريك له، قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:56]. وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل:36]. وقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً [النساء:36].
ومن صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله فقد وقع في الشرك، قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء:48].
وقال تعالى: إن الشرك لظلم عظيم [لقمان:13].
والشرك قسمان:
القسم الأول: الشرك الأكبر وهو المخرج من الملة، ومن الأمثلة عليه:
1- دعاء غير الله؛ كأن يذهب إلى قبر نبي أو رجل صالح فيقول: اشفع لي، أو اشف مريضي ونحو ذلك.
2- الذبح لغير الله؛ كالذبح للجن والشياطين، أو للأنبياء والصالحين عند قبورهم.
3-الطواف حول القبور.
4- الحكم بغير ما أنزل الله (على التفصيل المذكور في كتب العقيدة).
5- تعليق التمائم على الرقبة، أو اليد، أو على الأطفال، أو في البيت أو السيارة، واعتقاد أنها تجلب النفع أو تدفع الضر.
6- السحر.
القسم الثاني: الشرك الأصغر، وهو إثم عظيم لكنه لا يخرج من الملة، ومن أنواعه:
1- الرياء، قال النبي : { أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. فسئل عنه؟ فقال: الرياء } [أخرجه أحمد وإسناده حسن].
2- الحلف بغير الله، مثل: والنبي، وحياتي، وأبي، وشرفي، فعن عمر بن الخطاب قال: قال الرسول : { من حلف بغير الله فقد كفر أو شرك } [حديث صحيح، أخرجه احمد وابو داود وغيرهما].
3- قول ما شاء الله وشاء فلان؛ فعن حذيفة عن النبي قال: { لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان } [أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي : { ما شاء الله وشئت. فقال: "أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده" } [حديث صحيح، أخرجه أحمد وابن ماجة وغيرهما].
ثانياً: أن العبادة لا تصح إلا بثلاثة شروط:
1- الإسلام؛ فلا تصح العبادة من غير المسلم كاليهودي والنصراني وغيرهما.
2- الإخلاص؛ فمن أشرك في العبادة شركاً أكبر أو أصغر كالرياء فعبادته باطلة.
3- المتابعة للنبي ؛ فمن زاد صلاة سادسة أو صلى الظهر خمس ركعات، فعمله بدعة يأثم به، وصلاته باطلة ولو كان مخلصاً، أو قال: إن قصدي زيادة الأجر؛ لقول النبي : { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } [أخرجه مسلم].
ثالثاً: أن جملة من المحاذير الشرعية قد انتشرت بين الناس اليوم فانتبه إليها أخي المسلم، واحذر من الوقوع فيها، ومن هذه المحاذير:
1- احذر تأخير الصلاة عن وقتها؛ فإنه من أعظم الكبائر في الإسلام.
2- احذر ترك الصلاة جماعة في المسجد وخصوصاً الفجر والعصر.
3- احذر الذهاب إلى السحرة والمشعوذين.
4- احذر التبرك بغير المشروع؛ كالتبرك بقبور الأنبياء والصالحين، أو بأستار الكعبة وبنائها.
5- احذر شرب الخمر وتعاطي المخدرات.
6- احذر أخذ المال بالحرام؛ كالربا، والسرقة، والغش في البيع، وتطفيف الميزان.
7- احذر جريمة الزنا ومقدماتها من النظر إلى النساء والاختلاط بهن.
8- احذر عقوق الوالدين وقطيعة الرحم.
9- احذر مزالق اللسان كالكذب والغيبة والنميمة.
10- احذري - أيتها المسلمة - كشف شيء من العورة أمام الرجال الأجانب؛ كالوجه، والشعر، واليدين، والرجلين، أو تتركي لبس العباءة، فعليك بارتداء الحجاب الساتر لجميع البدن.
هذا وآخر الرسالة الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(148/2)
أحكام سجود السهو ...
إن حاجة الناس إلى معرفة أحكام سجود السهو ظاهرة؛ ولا أدل عليه من كثرة أسئلتهم؛ فهذا الموضوع يحتاجه الناس كثيرا ، ويكثر سؤالهم عنه ، فأحببت بيانها وفق القول الراحج بدليله. وقد ثبت في سجود السهو أحاديث كثيرة من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ؛ فلعل الأنسب أن أبدأ بها ، ثم بذكر ما تدل عليه من فوائد.
1 - عن عَبْداللَّهِ بن بُحَيْنَةَ ـ رضي الله عنه ـ : « أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمُ الظَّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ؛ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ» [متفق عليه].
2 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: « صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلاتَيِ الْعَشِيِّ ـ أي الظهر أو العصر ـ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا. قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّه غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا: قَصُرَتِ الصَّلاةُ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ قَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ. فَقَالَ: أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ! فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ ـ أي محمد بن سيرين ـ: ثُمَّ سَلَّمَ، فَيَقُولُ: نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ»[متفق عليه].
3 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فِي ثَلاثِ رَكْعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُولٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ، وَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إلى النَّاسِ. فَقَالَ: أَصَدَقَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ! فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ»[أخرجه مسلم].
4 - عن عَبْد اللَّهِ بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: « صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لا أَدْرِي زَادَ أَوْ نَقَصَ ـ فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَحَدَثَ فِي الصلاة شَيْءٌ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ: إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ؛ وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ»[متفق عليه].
وفي رواية لهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلاةِ ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ». وفي رواية لمسلم بلفظ: « صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسًا؛ فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ زِيدَ فِي الصَّلاةِ؟ قَالَ: لا. قَالُوا: فَإِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَانْفَتَلَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ».(149/1)
5 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى: ثَلاثًا أَمْ أَرْبَعًا؛ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لأرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ»[أخرجه مسلم].
6 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ وَاحِدَةً صَلَّى أَوْ ثِنْتَيْنِ فَلْيَبْنِ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ: ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَوْ ثَلاثًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثِنْتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ: ثلاثاً صَلَّى أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثَلاثٍ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ»[أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: «هذا حديث حسن غريب صحيح»، وصححه النووي في المجموع (4/107)، وصححه من المعاصرين الألباني (صحيح سنن الترمذي، ح 399).].
ومن فوائد هذه الأحاديث:
أولاً: أن سجود السهو واجب على من سها في صلاته بزيادة أو نقص أو شك في الأركان والواجبات. قال ابن تيمية بعد أن أورد الأدلة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره في السجود: «وهذه دلائل بينة واضحة على وجوبهما، وهو قول جمهور العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة، وليس مع من لم يوجبهما حجة تقارب ذلك»[مجموع الفتاوى (23/28)] .
ثانياً: مشروعية التكبير لسجود السهو. قال ابن الملقن: « يشرع التكبير لسجود السهو، وهذا مجمع عليه »[الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/294)] .
ثالثاً: إذا تكرر السهو في الصلاة فإنه يكفيه بسجود السهو مرة واحدة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك التشهد الأول، والجلوس له ولم يكرر سجود السهو، كما في حديث عبد الله بن بحينة. قال ابن دقيق معلقاً على هذا الحديث: «فيه دليل على عدم تكرار السجود عند تكرار السهو؛ لأنه قد ترك الجلوس الأول والتشهد معاً، واكتفى لهما بسجدتين »[ إحكام الأحكام ، ص 283 ] .
رابعاً: إذا كان سجود السهو بعد السلام، فيشرع له سلام آخر بعده. وهو الراجح من قولي العلماء لظاهر حديث أبي هريرة وعمران وابن مسعود رضي الله عنهم.
خامساً: من شك في صلاته فعليه أن يتحرى الصواب أولاً؛ فإن ترجَّح له أحد الأمرين عمل به، وإن لم يترجح له شيء بنى على اليقين وهو الأقل؛ ويدل عليه مجموع حديث عبد الله بن مسعود، وحديث أبي سعيد، وابن عوف رضي الله عنهم».
سادساً: هل يكون سجود السهو قبل السلام أو بعده؟ هذا الأمر فيه خلاف بين العلماء على أقوال:
القول الأول: أن محل السجود كله قبل السلام. وهو مذهب الشافعية، وقول الزهري، و مكحول، والأوزاعي، والليث بن سعد.
القول الثاني: أن محل السجود كله بعد السلام. وهو مذهب الحنفية، وقول الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والثوري.
القول الثالث: أن الأصل في السجود أن يكون قبل السلام، إلا ما جاءت السنة بالسجود فيه بعد السلام؛ فإنه يسجد بعده. وهو المشهور عن الإمام أحمد.
القول الرابع: أن الأصل في السجود أن يكون بعد السلام، إلا في حالين فيكون المصلي مخيراً فيهما بالسجود قبل السلام أو بعده: إذا نسي الجلوس للتشهد الأول، وإذا شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً. وهو قول ابن حزم.
القول الخامس: أن ما ثبت في السنة من السجود قبل السلام أو بعده فإنه يفعل كما ورد، وما عدا ذلك فإن المصلي مخير بين السجود قبل السلام وبعده. وهذا قول الشوكاني.
القول السادس: أن المصلي مخير بين السجود قبل السلام وبعده مطلقاً. وهو قول بعض الشافعية، واختيار الصنعاني.
القول السابع: إذا كان السهو عن نقص سجد قبل السلام، وإن كان عن زيادة سجد بعد السلام. وهو مذهب المالكية. وهذا القول جزء من القول الذي يليه.
القول الثامن: إذا كان السهو عن نقص سجد قبل السلام [ والمراد بالنقص هنا ترك الواجب: كترك التشهد الأول، والجلوس له، وتكبيرات الانتقال، وقول سبحان ربي العظيم في الركوع، وقول سبحان ربي الأعلى في السجود، وقول ربي اغفر لي في الجلوس بين السجدتين. فمن ترك شيئاً من ذلك فإنه يجبر بسجود السهو قبل السلام ] . وإذا كان عن زيادة سجد بعد السلام. وإذا كان عن شك فإنه يتحرى الصواب؛ فإن غلب على ظنه شيء عمل به وسجد بعد السلام، وإن لم يغلب على ظنه شيء بنى على اليقين وهو الأقل، وسجد قبل السلام. وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.(149/2)
وهذا أرجح الأقوال وأقربها إلى الصواب وبه تجتمع الأدلة ولا تتعارض. فالنبي صلى الله عليه وسلم سجد قبل السلام جبراً للنقص حين ترك التشهد الأول؛ كما في حديث عبد الله بن بحينة. وسجد بعد السلام حين زاد في الصلاة ركعة خامسة كما في حديث عبد الله بن مسعود، وسجد بعد السلام أيضاً حين زاد سلاماً بعد الثانية في صلاة الظهر كما في قصة ذي اليدين. وأمر بالسجود قبل السلام عند الشك في عدد الركعات بعد البناء على اليقين كما في حديث أبي سعيد، وحديث ابن عوف ـ رضي الله عنهما ـ وأمر بالسجود بعد السلام إذا شك ثم تحرى وعمل بما ترجح له بعد التحري. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: « فهذا القول الذي نصرناه هو الذي يستعمل فيه جميع الأحاديث، لا يترك منها حديث مع استعمال القياس الصحيح فيما لم يرد فيه نص، وإلحاق ما ليس بمنصوص بما يشبهه من المنصوص» [ مجموع الفتاوى (23/25) ] .
مناقشة الأقوال الأخرى:
أما القول الأول : فهو مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود بعد السلام.
والقول الثاني : مخالف أيضاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود قبل السلام.
والقول الثالث : جعل الأصل في السجود قبل السلام، وهذا يحتاج إلى دليل خاص.
والقول الرابع : جعل الأصل في السجود بعد السلام، ودليلهم حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لكل سهو سجدتان بعدما يسلم » [ أخرجه أبو داود، رقم 874. كما أخرجه أحمد وابن ماجه، وفي إسناده عندهم زهير بن سالم العنسي، وهو ضعيف. قال عنه الدارقطني: «منكر الحديث». وقال عبد الحق الإشبيلي عن هذا الحديث في الأحكام الوسطى (2/29): «وليس إسناده مما تقوم به حجة». وقال النووي في المجموع (4/155) : «حديث ضعيف ظاهر الضعف» ] .
وعلى فرض صحته فإنه محمول على الأحوال التي يكون السجود فيها بعد السلام جمعاً بينه وبين الأحاديث الأخرى التي ثبت فيها السجود قبل السلام من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره.
وتتمة القول الرابع: أنه ذكر حالين يكون المصلي فيهما مخيراً بعد السلام. وكيف يكون مخيراً والنبي صلى الله عليه وسلم سجد قبل السلام في الحال الأولى، وأمر بالسجود قبل السلام في الحال الثانية، والصواب الاقتداء بفعله وامتثال أمره.
والقول الخامس : شبيه بالقول الراجح إلا أنه جعل المصلي مخيراً بالسجود قبل السلام أو بعده في كل صورة لم يرد فيها دليل خاص. فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر ثلاثاً وسلم، ولما نُبه أتى بركعة وسجد بعد السلام كما في حديث عمران ـ رضي الله عنه ـ فلو صلى الإمام ركعة في صلاة الفجر ثم سلم ناسياً، ثم نُبه؛ فهل يسجد بعد إتيانه بالركعة بعد السلام إلحاقاً بنظيرها في حديث عمران وقصة ذي اليدين، أو يكون مخيراً؛ لأنها صورة جديدة؟! الأقرب أن يسجد بعد السلام ـ وهو الراجح كما سبق ـ لأن إلحاق النظير بنظيره أوْلى من إفراده بحكم آخر من غير دليل صريح عليه.
أما القول السادس : وهو القول بالتخيير مطلقاً؛ فضعيف أيضاً؛ إذ كيف يكون المصلي مخيراً والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسجود قبل السلام في أحوال، وأمر به بعد السجود في أحوال أخرى؟ ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خير بالسجود، أو أمر بالسجود قبل السلام وبعده في حال واحدة، أو أنه فعل ذلك. قال شيخ الإسلام: «ولم ينقل عنه في صورة واحدة أنه سجد تارة قبل السلام وتارة بعده، ولو نقل ذلك لدل على جواز الأمرين» ثم قال: «الشارع حكيم لا يفرق بين الشيئين بلا فرق، فلا يجعل بعض السجود بعده، وبعضه قبله، إلا لفرق بينهما» [ مجموع الفتاوى (23/ 21 ـ 22) ] .
أما القول السابع : فهو جزء من القول الثامن.
سابعاً: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة أنه تكلم بعدما سلم وقبل أن يأتي بما بقي من صلاته وسجود السهو. وغيَّر مكانه، وخرج من المسجد، وأن الصحابة تكلموا، وتشوشوا، وخرج بعضهم من المسجد وهم يتكلمون قبل أن يتموا صلاتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم . ثم أتم النبي صلى الله عليه وسلم ما أخل في صلاته، ولم يجعل هذا الفصل بالكلام والخروج من المسجد وبمضي قدر من الوقت مبطلاً للصلاة بل أتم عليه.
وقد اختلف العلماء في من سها في صلاته وسلم ناسياً ثم خرج من المسجد أو تكلم أو طال الفصل قبل أن يتم صلاته ويسجد للسهو: هل يبدأ من جديد لطول الفصل، أو يتم صلاته ويسجد للسهو ولو طال الفصل؟ وفي هذا خلاف بين العلماء على أقوال:
القول الأول: أن الضابط هو البقاء في المسجد فإذا خرج وجب عليه إعادة الصلاة.
وهذا القول لا دليل عليه، ثم هو مردود بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الذين خرجوا من المسجد.
القول الثاني: أن الضابط هو الكلام؛ فإذا تكلم في غير مصلحة الصلاة وجب عليه الإعادة.(149/3)
وهذا القول لا دليل عليه أيضاً، ثم إن الصحابة تشوشوا، وخرج السَّرَعان وهم يتكلمون، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل بيته، كل ذلك قبل أن يسجدوا للسهو، ويبعد جداً أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ويخرج الصحابة من المسجد بصمت تام دون مخاطبة الآخرين. ثم لو كان الكلام في غير مصلحة الصلاة قبل السجود مبطلاً لها لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولسأل الصحابة الذين شوشوا وخرجوا من المسجد أن من تكلم في غير مصلحتها فعليه الإعادة. فلما لم يحصل شيء من ذلك كان مؤكداً لضعف هذا الضابط.
القول الثالث: أن الضابط هو طول الفصل، فإذا طال الفصل وجب عليه الإعادة، وطول الفصل ضابطه العرف.
وهذا القول أيضاً لا دليل عليه. والقاعدة أن ما ورد في الشرع ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف. أما اعتبار طول الفصل فلم يرد في الشرع أصلاً حتى يضبط بالعرف.
والذي يظهر من الأدلة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر طول الفصل لمنع الإتمام على ما سبق من صلاته وسجود السهو؛ فدخول النبي صلى الله عليه وسلم بيته، وخروج السرعان من المسجد يأخذ وقتاً ليس بالقليل، ولو كان طول الفصل معتبراً في منع البناء لبينه النبي صلى الله عليه وسلم .
القول الرابع: أنه يتم صلاته ويسجد للسهو ولو طال الفصل أو تكلم أو خرج من المسجد. وهذا أقرب الأقوال كما يظهر من مناقشة الأقوال السابقة. قال ابن تيمية: «وعن أحمد رواية أخرى أنه يسجد وإن خرج من المسجد وتباعد، وهو قول للشافعي وهذا هو الأظهر؛ فإن تحديد ذلك بالمكان أو بزمان لا أصل له في الشرع، لا سيما إذا كان الزمان غير مضبوط؛ فطول الفصل وقصره ليس له حد معروف في عادات الناس ليرجع إليه ولم يدل على ذلك دليل شرعي ولم يفرق الدليل الشرعي في السجود والبناء بين طول الفصل وقصره، ولا بين الخروج من المسجد والمكث فيه، بل قد دخل هو صلى الله عليه وسلم إلى منزله وخرج السرعان من الناس كما تقدم» [ مجموع الفتاوى (23/43) ] . وقال أيضاً عن خروج السرعان من المسجد: «لا ريب أنه أمرهم بما يعملون. فإما أن يكونوا عادوا أو بعضهم إلى المسجد، فأتموا معه الصلاة بعد خروجهم من المسجد، وقولهم قصرت الصلاة، قصرت الصلاة. وإما أن يكونوا أتموا لأنفسهم لما علموا السنة، وعلى التقديرين فقد أتموا بعد العمل الكثير، والخروج من المسجد. وأما أن يقال: إنهم أمروا باستئناف الصلاة: فهذا لم ينقله أحد ولو أمر به لنقل، ولا ذنب لهم فيما فعلوا» [ مجموع الفتاوى (23/40 ـ 41) ] .
ثامناً: هذا التفصيل في السجود قبل السلام وبعده هل هو على الوجوب أو على الاستحباب؟ قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «ذهب كثير من أتباع الأئمة الأربعة إلى أن النزاع إنما هو في الاستحباب، وأنه لو سجد للجميع قبل السلام، أو بعده جاز.
والقول الثاني: أن ما شرعه قبل السلام يجب فعله قبله، وما شرعه بعده لا يفعل إلا بعده. وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة وهو الصحيح.. فهذا أمر فيه بالسلام ثم بالسجود، وذلك أمر فيه بالسجود قبل السلام، وكلاهما أمر منه يقتضي الإيجاب...
ولكن من سجد قبل السلام مطلقاً، أو بعده مطلقاً متأولاً فلا شيء عليه، وإن تبين له فيما بعد السنة استأنف العمل فيما تبين له، ولا إعادة عليه» [ مجموع الفتاوى (23/ 36 ـ 37) ] .
مسألة: من نسي التشهد الأول وذكره أثناء الصلاة، فلا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يتذكر التشهد الأول بعدما استتم قائماً في الركعة الثالثة. فهذا يتم صلاته، ويسجد للسهو قبل السلام جبراً لنقص هذا الواجب.
الحال الثانية: أن يتذكره أثناء النهوض، وقبل أن يستتم قائماً ؛ فالواجب عليه أن يرجع فيجلس للتشهد، ولا يلزم في هذه الحالة سجود سهو.
والدليل على هذا التفصيل ما رواه قيس بن أبي حازم قال: «صلى بنا المغيرة بن شعبة، فقام من الركعتين قائماً، فقلنا: سبحان الله! فأومأ وقال: سبحان الله! فمضى في صلاته؛ فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس، ثم قال: صلى بنا رسول الله فاستوى قائماً من جلوسه فمضى في صلاته، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس، ثم قال: إذا صلى أحدكم فقام من الجلوس، فإن لم يستتم قائماً فليجلس، وليس عليه سجدتان، فإن استوى قائماً فليمض في صلاته وليسجد سجدتين وهو جالس» [ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/440) ] . قال: « حدثنا ابن مرزوق ( وهو إبراهيم بن مرزوق بن دينار الأموي) قال: حدثنا أبو عامر ( وهو عبد الملك بن عمرو العقدي)، عن إبراهيم بن طهمان، عن المغيرة بن شبيل، عن قيس بن أبي حازم به» [ وهذا إسناد جيد. قال الألباني في الإرواء (2/110): «إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات» ] .
مسألة: قال ابن المنذر: « وأجمعوا على أن ليس على من سها خلف الإمام سجود. وانفرد مكحول وقال عليه» [ الإجماع له (ص 8 )، وانظر المغني (2/439) ] .(149/4)
ولم ينقل عن الصحابة أنهم كانوا ينفردون بسجود السهو خلف إمامهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، والسهو في الصلاة لا يسلم منه البشر، مع كثرة المصلين خلف النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، واستمرار الصلاة خلفه أكثر من عشر سنوات؛ فيبعد جداً أن لا يقع من أحدهم سهو وهو مؤتم. ولو سجدوا لنقل إلينا لتوافر دواعي النقل.
مسألة: إذا سجد المصلي للسهو بعد السلام؛ فإنه يسلم بعد سجود السهو، ولا يتشهد على الصحيح من قولَيِ العلماء؛ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في سجود السهو من قوله وفعله وليس في شيء منها حديث صحيح أنه تشهد أو أمر به. قال النووي عن التشهد بعد سجود السهو: «لم يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء»اهـ.
أما حديث عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سها فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم» [ أخرجه الترمذي، رقم 361 ] .
فإن قوله: «ثم تشهد» زيادة شاذة تفرد بها أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين. وقد رواه جمع من الثقات عن ابن سيرين دون هذه الزيادة. وممن حكم بشذوذها البيهقي وابن عبد البر وابن حجر، ومن المعاصرين الألباني في الإرواء .
قال ابن حجر: «وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما، ووَهَّموا رواية أشعث لمخالفته غيرَه من الثقات عن ابن سيرين، فإن المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد، وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة أيضاً في هذه القصة: قلت لابن سيرين: فالتشهد؟ قال: لم أسمع في التشهد شيئاً.اهـ فصارت بزيادة أشعث شاذة؛ ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت. لكن ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة عند البيهقي، وفي إسنادهما ضعف. فقد يقال إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن. قال العلائي: وليس ذلك ببعيد، وقد صح عن ابن مسعود من قوله. أخرجه ابن أبي شيبة» [ الفتح (2/79) ] .
فالتشهد عند ابن المنذر والعلائي محتمل للتحسين، لكنهما لم يجزما به. والأصل في العبادات هو المنع حتى يتبين ثبوت الدليل.
مسألة: قال ابن قدامة: «ولا يشرع السجود للسهو في صلاة جنازة.. ولا في سجود تلاوة.. ولا في سجود سهو. نص عليه أحمد. وقال إسحاق: هو إجماع» [ المغني (2/444) ]
يوسف بن عبد الله الأحمد(149/5)
أحكام صلاة المريض وطهارته
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه كلمة مختصرة تتعلق ببعض أحكام طهارة المريض وصلاته.
لقد شرع الله سبحانه وتعالى الطهارة لكل صلاة، فإن رفع الحدث وإزالة النجاسة سواء كانت في البدن أو الثوب أو المكان المصلى فيه شرطان من شروط الصلاة. فإذا أراد المسلم الصلاة وجب أن يتوضأ الوضوء المعروف من الحدث الأصغر، أو يغتسل إن كان حدثه أكبر، ولا بد قبل الوضوء من الاستنجاء بالماء أو الاستجمار بالحجارة في حق من بال أو أتى الغائط لتتم الطهارة والنظافة.
وفيما يلي بيان لبعض الأحكام المتعلقة بذلك:
- فالاستنجاء بالماء واجب لكل خارج من السبيلين كالبول والغائط.
وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء، إنما عليه الوضوء. لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة ولا نجاسة ها هنا.
والاستجمار يقوم مقام الاستنجاء بالماء ويكون بالحجارة أو ما يقوم مقامها، ولا بد فيه من ثلاثة أحجار طاهرة فأكثر، لما ثبت عن النبي أنه قال: { من استجمر فليوتر } ولقوله أيضا: { إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإنها تجزئ عنه } [رواه أبو داود]. ولنهيه عن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار [رواه مسلم].
ولا يجوز الاستجمار بالروث والعظام والطعام وكل ما له حرمة، والأفضل أن يستجمر الإنسان بالحجارة، وما أشبهها كالمناديل واللبن - اليابس من التراب والجص - ونحو ذلك، ثم يتبعها الماء. لأن الحجارة تزيل عين النجاسة والماء يطهر المحل، فيكون أبلغ، والإنسان مخير بين الاستنجاء بالماء أو الاستجمار بالحجارة وما أشبهها، أو الجمع بينهما. عن أنس قال: { كان النبي يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء } [متفق عليه]. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لجماعة من النساء (مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم وإن رسول الله كان يفعله) قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل، لأنه يطهر المحل ويزيل العين والأثر، وهو أبلغ في التنظيف، وإن اقتصر على الحجر أجزأه ثلاثة أحجار إذا نقي بهن المحل فإن لم تكف زاد رابعا وخامسا حتى ينقي المحل، والأفضل أن يقطع على وتر، لقول النبي : { من استجمر فليوتر }، ولا يجوز الاستجمار باليد اليمنى، لقول سلمان في حديثه: { نهانا رسول الله أن يستنجي أحدنا بيمينه }، ولقوله : { لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه }، وإن كان أقطع اليسرى أو بها كسر أو مرض ونحوهما، استجمر بيمينه للحاجة ولا حرج في ذلك، وإن جمع بين الاستجمار والاستنجاء بالماء، كان أفضل وأكمل.
ولما كانت الشريعة الإسلامية مبنية على اليسر والسهولة، خفف الله سبحانه وتعالى عن أهل الأعذار عباداتهم بحسب أعذارهم ليتمكنوا من عبادته تعالى بدون حرج ولا مشقة، قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وقال سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقال عليه الصلاة والسلام: { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم }، وقال: { إن الدين يسر }.
فالمريض إذا لم يستطع التطهر بالماء بأن يتوضأ من الحدث الأصغر أو يغتسل من الحدث ألا كبر لعجزه أو لخوفه من زيادة المرض أو تأخر برئه، فإنه يتيمم وهو: أن يضرب بيديه على التراب الطاهر ضربة واحدة، فيمسح وجهه بباطن أصابعه وكفيه براحتيه لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [المائدة:6]، والعاجز عن استعمال الماء حكمه حكم من لم يجد الماء، لقول الله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ولقوله لعمار بن ياسر: { إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا } ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح بهما وجهه وكفيه.
ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار.
ولا يصح التيمم إلا بنية؛ لقوله : { إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى }.
وللمريض في الطهارة عدة حالات:
1- إن كان مرضه يسيرا لا يخاف من استعمال الماء معه تلفا ولا مرضا مخوفا ولا إبطاء برء ولا زيادة ألم ولا شينا فاحشا وذلك كصداع ووجع ضرس ونحوهما، أو كان ممن يمكنه استعمال الماء الدافئ ولا ضرر عليه، فهذا لا يجوز له التيمم. لأن إباحته لنفي الضرر ولا ضرر عليه ؛ ولأنه واجد للماء فوجب عليه استعماله.(150/1)
2- وإن كان به مرض يخاف معه تلف النفس، أو تلف عضو، أو حدوث مرض يخاف معه تلف النفس أو تلف عضو أو فوات منفعة، فهذا يجوز له التيمم. لقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].
3- وإن كان به مرض لا يقدر معه على الحركة ولا يجد من يناوله الماء جاز له التيمم. فإن كان لا يستطيع التيمم يممه غيره، وإن تلوث بدنه، أو ملابسه، أو فراشه بالنجاسة، ولم يستطيع إزالة النجاسة، أو التطهر منها - جاز له الصلاة على حالته التي هو عليها؛ لقول الله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ولا يوجوز له تأخير الصلاة عن وقتها بأي حال من الأحوال بسبب عجزه عن الطهارة أو إزالة النجاسة.
4- من به جروح أو قروح أو كسر أو مرض يضره استعمال الماء فأجنب، جاز له التيمم للأدلة السابقة، وإن أمكنه غسل الصحيح من جسده وجب عليه ذلك وتيمم للباقي.
5- إذا كان المريض في محل لم يجد ماء ولا ترابا ولا من يحضر له الموجود منهما، فإنه يصلي على حسب حاله وليس له تأجيل الصلاة، لقول الله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
6- المريض المصاب بسلس البول أو استمرار خروج الدم أو الريح ولم يبرأ بمعالجته، عليه أن يتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها ويغسل ما يصيب بدنه وثوبه، أو يجعل للصلاة ثوبا طاهرا إن تيسر له ذلك. لقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقوله : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم }، ويحتاط لنفسه احتياطا يمنع انتشار البول أو الدم في ثوبه أو جسمه أو مكان صلاته.
وله أن يفعل في الوقت ما تيسر من صلاة وقراءة في المصحف حتى يخرج الوقت، فإذا خرج الوقت وجب عليه أن يعيد الوضوء أو التيمم إن كان لا يستطيع الوضوء لأن النبي أمر المستحاضة أن تتوضأ لوقت كل صلاة وهي التي يستمر معها الدم غير دم الحيض. وما خرج في الوقت من البول فلا يضره بعد وضوئه إذا دخل الوقت.
وإن كان عليه جبيرة يحتاج إلى بقائها مسح عليها في الوضوء والغسل، وغسل بقية العضو، وإن كان المسح على الجبيرة أو غسل ما يليها من العضو يضره كفاه التيمم عن محلها، وعن المحل الذي يضره غسله.
ويبطل التيمم بكل ما يبطل به الوضوء، وبالقدرة على استعمال الماء، أو وجوده إن كان معدوما، والله ولي التوفيق.
كيفية صلاة المريض
أجمع أهل العلم على أن من لا يستطيع القيام، له أن يصلي جالسا، فإن عجز عن الصلاة جالسا فإنه يصلي على جنبه مستقبل القبلة بوجهه، والمستحب أن يكون على جنبه الأيمن، فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى مستلقيان؛ لقوله لعمران بن حصين: { صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب } [رواه البخاري]، وزاد النسائي: { فإن لم تستطع فمستلقيا }.
ومن قدر على القيام وعجز عن الركوع أو السجود لم يسقط عنه القيام، بل يصلي قائما فيومئ بالركوع ثم يجلس ويومئ بالسجود؛ لقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، ولقوله : { صل قائما }، ولعموم قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
وإن كان بعينه مرض فقال ثقات من علماء الطب: إن صليت مستلقيا أمكن مداواتك وإلا فلا، فله أن يصلي مستلقيا.
ومن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما ويجعل السجود أخفض من الركوع.
وإن عجز عن السجود وحده ركع وأومأ بالسجود.
وإن لم يمكنه أن يحني ظهره حنى رقبته، إن كان ظهره متقوسا فصار كأنه راكع فمتى أراد الركوع زاد في انحنائه قليلا، ويقرب وجهه إلى الأرض في السجود أكثر من الركوع ما أمكنه ذلك.
وإن لم يقدر على الإيماء برأسه كفاه النية والقول. ولا تسقط عنه الصلاة ما دام عقله ثابتا بأي حال من الأحوال للأدلة السابقة.
ومتى قدر المريض في أثناء الصلاة على ما كان عاجزا عنه من قيام أو قعود أو ركوع أو سجود أو إيماء، انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلاته.
وإذا نام المريض أو غيره عن صلاة أو نسيها وجب عليه أن يصليها حال استيقاظه من النوم أو حال ذكره لها، ولا يجوز له تركها إلى دخول وقت مثلها ليصليها فيه. لقوله : { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك } وتلا قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14].(150/2)
ولا يجوز ترك الصلاة بأي حال من الأحوال، بل يجب على المكلف أن يحرص على الصلاة أيام مرضه أكثر من حرصه عليها أيام صحته، فلا يجوز له ترك المفروضة حتى يفوت وقتها ولو كان مريضا ما دام عقله ثابتا، بل عليه أن يؤديها في وقتها حسب استطاعته، فإذا تركها عامدا وهو عاقل عالم بالحكم الشرعي مكلف يقوى على أدائها ولو إيماء فهو عالم، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى كفره بذلك. لقول النبي : { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر }، ولقوله عليه الصلاة والسلام: { رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله }، ولقول النبي : { بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة } أخرجه مسلم في صحيحه، وهذا القول أصح؛ للآيات القرآنية الواردة في شأن الصلاة، والأحاديث المذكورة.
وإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو جمع تأخير حسبما يتيسر له، إن شاء قدم العصر مع الظهر وإن شاء أخر الظهر مع العصر، وإن شاء قدم العشاء مع المغرب، وإن شاء أخر المغرب مع العشاء. أما الفجر فلا تجمع مع ما قبلها ولا مع ما بعدها، لأن وقتها منفصل عما قبلها وعما بعدها.
هذا بعض ما يتعلق بأحوال المريض في طهاراته وصلاته.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفي مرضى المسلمين، ويكفر سيئاتهم، وأن يمن علينا جميعا بالعفو والعافية في الدنيا والآخرة إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أحاديث في فضل المرض والمصائب والصبر عليها
1- عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، عن النبي قال: { ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه } [متفق عليه] واللفظ لبخاري. والنصب: التعب. والوصب: المرض.
2- وعن أبي مسعود قال: قال رسول الله : { ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها } [متفق عليه].
3- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : { ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها } [متفق عليه].
4- وعن أبي هريرة قال: لما نزلت: من يعمل سوءا يجز به [النساء:123]، بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً، فقال رسول الله : { قاربوا وسددوا، ففي ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها } [مسلم].
5- وعن جابر بن عبدالله { أن رسول الله دخل على أم السائب فقال: "مالك يا أم السائب تزفزفين؟"، قالت: الحمى لا بارك الله فيها. فقال: "لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد" } [مسلم]. ومعنى تزفزفين: ترتعدين.
6- و عن أم العلاء رضي الله عنها قالت: { عادني رسول الله وأنا مريضة فقال: "أبشري يا أم العلاء، فإن مرض المسلم يذهب الله به الخطايا، كما تذهب النار خبث الذهب والفضة" } [أبو داود وحسنه المنذري].
7- و عن أبي هريرة قال: { قال رسول اله : "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" } [الترمذي وقال:حسن صحيح].
8- و عن سعد بن أبي وقاص قال: { قال رسول الله عليه وسلم: "ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" } [الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني].
9- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: { سمعت رسول الله عليه وسلم: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة" } [مسلم].
10- وعن أبي سعيد { أن رسول الله قال: "صداع المؤمن، أو شوكه يشاكها، أو شيء يؤذيه، يرفعه الله بها يوم القيامة درجة، ويكفر عنه ذنوبه" } [ابن أبي الدنيا ورواته ثقات].
أخي المريض:
هذه الباقه العطرة التي نثرناها عليك من الأحاديث النبوية الصحيحة تدل على عظم أجرك عند الله، إن أنت صبرت على مرضط وقابلت قدر الله تعالى بالتسليم والرضا لا بالجزع والتسخط.
وماذا يفيدك الجزع والتسخط والتشكي؟! إن ذلك لن يفيدك شيئاً، بل هو يزيد عليك الألم والضعف والتعب أضعاف أضعاف ما لو كنت صابراً محتسباً.
ألا فاحمد الله - أخي المريض - على هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك، ليكفر عنك بها ذنوبك، ويزيد لك في حسناتك، ويرفع بها درجاتك.
أخي المريض:
إن من فوائد المرض والبلاء أنه يبين للإنسان كم هو ضعيف مهما بلغت قوته، فقير مهما بلغ غناه، فيذكره ذلك الشعور الذي يحس به عند مرضه بربه الغني الذي كمل في غناه، القوي الذي كمل في قوته، فليلجأ إلى مولاه بعد أن كان غافلاً عنه، ويترك مبارزته بالمعاصي بعد أن كان خائضاً فيها.
أخي المريض:(150/3)
ومن فوائد المرض والبلاء أنه يريك نعم الله عليك كما لم ترها من قبل، ففي حال المرض يشعر الإنسان شعوراً حقيقياً بنعمة الصحة، ويشعر أيضاً بتفرياه في هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه سنين طوالاً، وهو مع ذلك لم يؤد حق الشكر فيها، ومن ثم يعاهد ربه فيما يستقبل من أمره أن يكون شاكراً على النعماء، صابراً على البلاء.
أخي المريض:
لا أريد أن أطيل عليك في هذا المقام، ويكفي ما سقته إليك من صحاح الأحاديث في فوائد المرض والبلاء للمؤمن الصابر.
رقية المريض
أخي المريض:
أخبر النبي أن لكل داء دواء علمه من علمه وجهله من جهله. ومن أعظم الأدوية التي تذهب الأدواء وتقضي عليها هي الأدوية الربانية من الآيات القرآنية، والأدعية النبوية. قال تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [الإسراء:82]، وقال سبحانه: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء [فصلت:44].
وإليك بعضاً من تلك الرقى الشرعية التي يمكن أن ترقي بها نفسك أو يرقيك بها غيرك:
1- قراءة فاتحة الكتاب (مرة أو سبع مرات).
2- قراءة المعوذتين (ثلاث مرات).
3- يمسح بيده اليمنى على جسده ويقول: "أذهب البأس رب الناس، واشف أن الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً".
4- قل: "أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك" (سبع مرات).
5- قل: "بسم الله أرقيك من كل شر يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك".
6- وضع اليد على المكان المؤلم من الجسم ثم يقول: "بسم الله" (ثلاثاً) ثم يقول: "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" (سبعاً).
7- قل: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق".
8- قل: "أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون".
9- قل: "أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، و من كل عين لامة".
10- قل: "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم" (ثلاثاً).
وفي الختام:
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، وأن ينعم عليك بالصحة والعافية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(150/4)
رسالة
في
أحكام قيام الليل
تأليف
سليمان بن ناصر العلوان
الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
خص الله بعض عباده بخير عظيم وعمل كبير، وفتح لهم من أبواب الخير والطاعة ما زكت به قلوبهم وعزّت نفوسهم واستنارت صدورهم وطابت حياتهم وأنسهم ونعيمهم . وبصّرهم بطريق الحق ويسّر لهم أسباب السعادة ومنّ عليهم بلذة العبادة ومناجاة الله في أسحارهم وخلواتهم .
قومٌ إذا جن الظلام عليهم
خمصُ البطونِ من التعفف ضمراً ... باتوا هنالك سجّداً وقياماً
لا يعرفون سوى الحلال طعاماً
... قال ثابت البناني رحمه الله (ما شئ أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام الليل ) وقال سفيان رحمه الله ( إذا جاء الليل فرحت وإذا جاء النهار حزنت) (1) وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله (لأهل الطاعة بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا )) (2)
...
فسبحان من تفضل على عباده بهذا النعيم قبل لقائه فحباهم من الخير والفضل ما فضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً فحازوا أسباب السعادة واستمسكوا بطريق النجاة فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . قال بعضهم ( مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها ؟ قيل وما أطيب ما فيها قال محبة الله تعالى ومعرفته وذكره) (3) .
وقال آخر ( إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب) وقال شيخ الإسلام رحمه الله ( إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة ) (4) .
والحديث عن هذه المقاصد العظيمة والمطالب العالية المتعلقة بفضل قيام الليل وشأنه في حياة القلوب وعز النفوس وانشراح الصدور ونعيم الأرواح ومجاهدة النفس والهوى ودفع الأعداء أمرٌ يطول ذكره .
وليس القصد من هذه الرسالة الحديث عن ذلك فأذ كرمن أدلة الكتاب والسنة وهدي أئمة السلف ما فيه صلاح الدارين والفوز بالحسنيين وإنما القصد تقييد بعض المسائل في أحكام قيام الليل وذكر أدلتها وبيان صحيحها من سقيمها واستنباط الأحكام منها فلا تطيب الحياة إلا بهذا. ولا يعظم العلم ويثمر إلا بالفقه الصحيح والعودة إلى الدليل وفهم مقاصد الشريعة وأسرارها وتسخير الجهود في ربط الوسائل بالمقاصد والغايات وتحرير الأفهام والأفكار من وهَدِ التقليد . وتغشمُر التعصب .
فالرأي المجرد عن البرهان حجر على العقول وغلق لباب الاجتهاد وسدّ لطريقه وتضييق على المسلمين وتجهيل لفهومهم وعقولهم وهذا لا يدل عليه شرع ولا يقره عقل وصاحبه بمعزل عن العلم ولا يسمى عالماً وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره الاتفاق على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم . وأن العلم معرفة الحق بدليله (5) وهذا حق لم يختلف فيه الناس . فلا يزال الأئمة في كل عصر ينعون على المقلد الأعمى ويذمونه ويبيّنون للناس ضرره وسوء فعله وشذوذ فتاويه فياويله إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وقد أفتى وقضى بما يخالف الكتاب والسنة ورضى للناس رأيه ورأي إمامه ولم يرض لهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
تالله إنها فتنة عظيمة ومصيبة كبيرة هجر من أجلها القرآن وتركت السنة وظهرت الآراء والأهواء فالله المستعان.
وهذه المسألة كبيرة ولها أبعاد ومرامي وتحتاج إلى بسط وشرح وهذا المقام لا يمكن فيه ذلك ولكن هذه لطائف وإشارات دعت إليها الحاجة فإنّ ما لا يدرك كله لا يترك كله .
هذا وقد ذكرتُ في هذا الكتاب مذاهب أهل العلم ولا سيّما الأئمة الأربعة ورجحت من أقوالهم ما يقتضي الدليل ترجيحه ونبهت على مسائل يكثر الجهل بها وأخرى ليس عليها دليل صحيح وكل هذا على وجه الاختصار وإليك البيان .
المسألة الأولى :
اعلم أن الأفضل في صلاة الليل الثلث الأخير لأنه وقت نزول الرب جل وعلا ، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
وجاء في صحيح الإمام مسلم (6) من طريق حفص وأبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله ، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر بالليل مشهودة وذلك أفضل )) وقال أبو معاوية محضورة .
__________
(1) مقدمة الجرح والتعديل [ 1 / 85 – 86 ] للإمام أبي حاتم .
(2) حلية الأولياء [ 9 / 275 ] .
(3) الوابل الصيب ( 58 ) للإمام ابن القيم .
(4) الوابل الصيب ( 57 ) للإمام ابن القيم .
(5) انظر جامع بيان العلم وفضله [ 2 / 109 – 120 ] وإعلام الموقعين [ 1 / 7 ] [ 2 / 239 ] وكتاب الروح [ 390 – 391 ] والسيل الجرار [ 1 / 4- ] .
(6) رقم ( 755 ) .(151/1)
ومن قام أول الليل أو أوسطه فلا مانع من ذلك وفي كل خير غيرَ أن آخر الليل أفضل لأنه الأمر الذي استقر عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الصحيحين (1) وغيرهما من طريق مسلم عن مسروق عن عائشة قالت :( من كل الليل قد أوتر رسول الله فانتهى وتره إلى السحر ) وفي رواية لمسلم من طريق يحي بن وثّاب عن مسروق عن عائشة قالت : ( من كل الليل قد أوتر رسول الله من أول الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر ) وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الوتر من بعد صلاة العشاء ، سواء جمعت جمع تقديم مع المغرب ، أو أخرت إلى منتصف الليل ، وأما قبل صلاة العشاء فلا يصح (2) على الراجح.
وقد جاء في مسند الإمام أحمد (3) من طريق ابن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني رضي الله عنه أن عمرو بن العاص خطب الناس يوم جمعة فقال : إن أبا بصرة حدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله زادكم صلاة ، وهي الوتر ، فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر .....) إسناده صحيح . وقال عنه ابن رجب في فتح الباري (9/ 146 ) إسناده جيد .
ومن نام عن وتره أو نسيه ، فله صلاته بعد طلوع الفجر ، قبل صلاة الصبح . فقد روى أبو داود بسند قوي والحاكم [ 1 / 302 ] وقال صحيح على شرط الشيخين من طريق محمد بن مطرف المدني عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره ) .
وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، وهو قول الإمام مالك ، وقول للشافعي وأحمد (4) رحمهم الله تعالى.
وأما إذا فاته الوتر حتى طلعت عليه الشمس فقد قال بعض أهل العلم : يقضيه شفعاً . واستدلوا بما رواه مسلم في صحيحه ( 746 ) من طريق قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله إذا غلبه النوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ) .
والقول الثاني في المسألة : أنه يقضيه وتراً قاله طاووس ومجاهد والشعبي وغيرهم ، وحجتهم في ذلك حديث أبي سعيد ، وقد سبق ذكره ، ولفظه ( من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره ) فهذا الخبر يدل على مشروعية قضاء الوتر بعد طلوع الشمس لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا ذكره ) وقد قال الأوزاعي : ( يقضيه نهاراً وبالليل مالم يدخل وقت الوتر بصلاة العشاء الآخرة ، ولا يقضيه بعد ذلك لئلا يجتمع وتران في ليلة (5). وأما خبر عائشة السابق فقد قيل ليس فيه نفي الوتر ، فلعله أوتر أول الليل مقتصراً على أقل العدد لغلبة النوم أو الوجع ، فلما أصبح صلى قيام الليل . وفي هذا التوجيه نظر . ويبعد حمل حديث عائشة على أنه أوتر أول الليل فإن هذا الأمر لو حدث لبينت ذلك عائشة فإن هذا الحكم من الأهمية بمكان .
والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يوتر .. وقول عائشة رضي الله عنها [ صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة )) يدل على ذلك فإنه لو أوتر أول الليل لصلى من النهار عشر ركعات فقد قالت عائشة رضي الله عنها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة )) متفق عليه .
ويجاب عن حديث أبي سعيد بأنه لم يقل بعمومه أحد من الصحابة والمنقول عن بعضهم الوتر بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح فيحمل الحديث على قضاء الوتر في هذا الوقت فإنه لا تعارض بين قوله صلى الله عليه وسلم وفعله والله أعلم .
وأما من ترك الوتر متعمداً حتى طلع الفجر ، فالحق أنه قد فاته ، وليس له حق القضاء . ففي حديث أبي سعيد وقد تقدم تقييدُ الأمر بالقضاء فيمن نام عن وتره أو نسيه ، فدل مفهوم الخبر أن العامد بخلاف ذلك . وقد روى ابن خزيمة في صحيحه ( 1092 ) من طريق أبي داود الطيالسي عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [ من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له ) وأصل الحديث في صحيح مسلم ( 754 ) بدون هذا اللفظ وهو محمول على التعمد دون النوم والنسيان في أصح أقاويل أهل العلم والله أعلم .
المسألة الثانية : ( في عدد ركعات قيام الليل ) .
ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه لا يزيد في قيام الليل لا في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة .
__________
(1) البخاري ( 966 ) ومسلم ( 745 ) .
(2) نقل ابن عبد البر في الاستذكار ( 5 / 287 ) . والقرطبي في المفهم ( 2 / 382 ) . الاتفاق على هذا وفيه نظر فقد ذكر فقهاء الأحناف أنه يؤدى في وقت العشاء . وانظر البناية ( 2 / 575 ) .
(3) ج 4 / 279 ، الفتح الرباني ) .
(4) انظر الاستذكار ( 5 / 288 ) . وعون المعبود ( 4 / 309 ) . وشرح مسلم للنووي ( 6 / 24 ) . والمبدع في شرح المقنع [ 2 / 4 ] .
(5) فتح الباري لابن رجب ( 9 / 160 ) وانظر الأوسط لابن المنذر ( 5 / 194 ) .(151/2)
فقد جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ، يصلى أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلى ثلاثاً..... ) (1)
قال ابن عبد البر رحمه الله : ( وأكثر الآثار على أن صلاته كانت إحدى عشرة ركعة ) (2)
وروى مالك في الموطأ بسند صحيح عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة....) (3)
وما جاء أن الناس كانوا يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. فلا يصح . رواه مالك (4) وغيره بسند منقطع .
وجاء عند عبد الرزاق (5) عن داود بن قيس وغيره عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة .....) .
وهذا الخبر غير محفوظ . ورواية مالك عن محمد بن يوسف بإحدى عشرة ركعة أصح من رواية داود . وأهل العلم بالحديث يقدمون مثل مالك على من دونه بالحفظ فتقرر بهذا أن السنة عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة ، لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي داوم عليه ولم يذكر عنه خلافه وعليه جرى العمل في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه ووافقه عليه الصحابة ولم يأت عن أحد منهم شيء صحيح يخالف هذا وغاية ما يحتج به القائلون بسنية ثلاث وعشرين ركعة عمومات صحّ تقييدها ، واجتماع الناس في عهد عمر على ذلك وهذا لا يصح والمحفوظ أنّه جمعهم على إحدى عشرة ركعة وقد تقدم على أن ترجيح هذا القول لا يجعل القول الآخر بدعة أو ضلالة فالمسألة اجتهادية والخلاف فيها محفوظ .
وقد قال أكثر أهل العلم بالزيادة ورأوا أن من صلى عشرين ركعة أو ثلاثاً وعشرين أو أكثر أنه مصيب ومأجور.
وذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله إجماع العلماء على هذا فقال ( وقد أجمع العلماء على أن لاحدّ ولاشيء مقدراً في صلاة الليل وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلت ركعاته ومن شاء أكثر الركوع والسجود ) (6) .
غير أن البحث عن الراجح والعمل بالأفضل مطلب من مطالب الشريعة ، وقد بينت السنة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي داوم عليه حتى فارق الحياة وجرى عليه عمل أصحابه من بعده أن قيام الليل إحدى عشرة ركعة في رمضان وغيره . ولم يصح عن أحد منهم التفريق في رمضان بين أول الشهر وآخره على عادة الناس اليوم بل كانوا يقومون بهذا العدد طِوال حياتهم ويجتهدون في العشر الأواخر في الكيفية دون الكمية ، فيطيلون القيام والركوع والسجود متلذذين بتدبر القرآن فهو حياة قلوبهم ومتنعمين بالوقوف بين يدي رب العالمين، ولم تكن همة أحدهم مصروفة إلى هَذّ القراءة ابتغاء بدعة يؤدونها آخر الشهر(7) أو تكثير عدد الركعات والإخلال بالطمأنينة بحيث لا يمكن للمأموم متابعة إمامه إلا بمشقة وعناء نسأل الله العافية .
المسألة الثالثة : ( في كيفية صلاة الليل )
__________
(1) البخاري ( 1147 ) ومسلم ( 738 ) .
(2) الاستذكار . ( 5 / 236 ) .
(3) الموطأ بشرح الزرقاني ( 1 / 238 ) .
(4) الموطأ بشرح الزرقاني ( 1 / 239 ) .
(5) المصنف [ 4 / 260 - ) .
(6) الاستذكار [ 5 / 244 ] .
(7) وقد كتبت في ذلك رسالة تحمل عنوان (( البيان في حكم دعاء ختم القرآن )) أوضحت في ثناياها عدم مشروعية دعاء الختمة داخل الصلاة وأنه لم يثبت بذلك خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة وأن القول به هتك لسياج قاعدة التوقيف في العبادات وبالتالي خرق للإجماع قال الإمام مالك رحمه الله (( ما سمعتُ أنه يدعو عند ختم القرآن وما هو من عمل الناس )) المعيار المعرب [ 11 / 114 ] والمدخل لابن الحاج [ 2 / 299 ] وقد تقرر في قواعد أهل العلم أن ما وجد سببه ومقتضاه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر صحابته ولم يقع منهم فعل لذلك مع عدم المانع من فعله ففعله بدعة .(151/3)
ذهب الإمام مالك (1) والشافعي (2) وأحمد (3) وطائفة من السلف إلى أن صلاة الليل مثنى مثنى إلاّ ركعة الوتر ، على خلاف بينهم هل هذا على الوجوب أم على الاستحباب . وحجتهم في هذا ما جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى ) وقوله : ( مثنى مثنى ) معدول عن اثنين اثنين ، والمراد أن تسلم في كل ركعتين قيل وجوباً وقيل استحباباً . قال في المبدع (4) : فإن زاد على ذلك فاختار ابن شهاب والمؤلف أنه لا يصح ، قال أحمد فيمن قام في التراويح إلى ثالثة : يرجع وإن قرأ ، لأن عليه تسليماً ، ولابد . للخبر . وعنه يصح مع الكراهة . ذكره جماعة ، وهو المشهور، سواء علم العدد أو نسيه ) وعنه لا يكره (5) وهو مذهب أبي حنيفة قال رحمه الله في صلاة الليل ( إن شئت ركعتين وإن شئت أربعاً وإن شئت ستاً وثمانياً لا تسلم إلا في آخرهن ) (6) والأفضل في مذهبه صلاة أربع بسلام واحد لخبر عائشة في الصحيحين حين سألها أبو سلمة بن عبدالرحمن عن كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل قالت : يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً ) .
وهذا الحديث مجمل ليس فيه التصريح بصلاة أربع بسلام واحد والاحتمال فيه وارد وإن كنت استظهر فيه الأربع بسلام واحد جرياً على الأخذ بالظاهر حتى يرد لفظ صريح يخرجه عن ذلك . وحديث ابن عمر (( صلاة الليل مثنى مثنى )) لا يدل على وجوب التسليم في كل ركعتين ولفظه لا يساعد على ذلك فيحمل على الاستحباب وأنه الأكثر استعمالاً. وغيره من الأحاديث تحمل على السنية في بعض الأحيان ، والعبادات الواردة على وجوه متنوعة يعمل بها كلها وهذا أفضل من المداومة على نوع وهجر غيره فإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم عمل الأمرين على أن المداومة على نوع مراعاة للمصلحة ودرءاً للمفسدة قد تكون أفضل في وقت دون آخر كما أن المفضول يكون فاضلاً وهذا أمر عام في كل العبادات الواردة على هذا الوجه والقول الجامع فيها مراعاة المصالح وهذا يختلف باختلاف الأحوال والبلاد والأشخاص والله أعلم .
وهل يتشهد في الركعتين أم يصلي الأربع بتشهد واحد ، لا أ علم في ذلك دليلاً والأظهر فيها التخيير . إن شاء صلى أربعاً بتشهد واحد ، وإن شاء تشهد تشهدين ، ولا يسلم إلاّ في آخرهن.
وأما الوتر : فله أن يوتر بركعة . لحديث ابن عمر السابق ( فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة ...) متفق عليه. وعند مسلم من طريق شعبة عن قتادة عن أبي مجلز قال : سمعت ابن عمر يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الوتر ركعة من آخر الليل ) وإن صلى قبلها شفعاً فهذا أفضل .
وله أيضاً الوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع إلاّ أنه إذا أوتر بثلاث لا يتشهد تشهدين ، بل يقتصر على التشهد في آخر الصلاة . والسنة أيضاً لمن صلى تسع ركعات أن لا يجلس فيها إلاّ في الثامنة فيجلس ويذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض بدون سلام ثم يصلى التاسعة ثم يسلم . والحديث في صحيح مسلم (7) من حديث عائشة وجاء في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعدما سلم وهو قاعد .
والتنويع في هذه الصيغ أفضل محافظة على السنة واتباعاً للنصوص الواردة في هذا الباب .
والكل سنة بما في ذلك قيام الليل والوتر إلاّ أنه سنة متأكدة ، كما هو قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين . وهو قول مالك والشافعي وأحمد ، والأخبار في هذا متكاثرة .
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى وجوبه (8) وقال غيره : واجب على أهل القرآن . والراجح قول الجمهور ، وأنه سنة على عامة المسلمين .
وقد روى أبو داود في سننه من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبدالله بن الصُنابِحِيّ قال : زعم أبو محمد أن الوتر واجب . فقال عبادة بن الصامت : كذب أبو محمد . أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( خمس صلوات افترضهن الله عز وجل من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له ، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ) (9) سنده صحيح .
__________
(1) الاستذكار ( 5 / 237 – 249 – 255 ) .
(2) المجموع ( 4 / 49 – 51 ) .
(3) مسائل الإمام أحمد [ 2 / 296 ] رواية ابنه عبد الله ومسائل أبي داود [ ص 72 ] .
(4) 2 / 21 ) .
(5) الإنصاف ( 2 / 187 ) .
(6) البناية في شرح الهداية ( 2 / 613 ) . وانظر الاستذكار ( 5 / 237 ) .
(7) مسلم بشرح النووي . ( 6 / 27 ) .
(8) البناية في شرح الهداية . ( 2 / 565 ) . حاشية رد المختار [ 2 / 3 ، 4 ] .
(9) سنن أبي داود مع عون المعبود . ( 2 / 93 ) و ( 4 / 294 ) .(151/4)
و رواه أبو داود أيضاً من طريق محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز أن رجلاً من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلاً بالشام يدعى أبا محمد يقول : إن الوتر واجب ....)
وأما حديث أبي أيوب الأنصاري مرفوعاً ( الوتر حق على كل مسلم ) فلا يصح إلاّ موقوفاً . قاله أبو حاتم والذهلي والدارقطني وغيرهم . قال ابن حجر : وهو الصواب (1) .
وأما حديث بريدة مرفوعاً ( الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا ) الحديث رواه أبو داود وغيره . فإنه خبر لا يصح . في إسناده عبيد الله بن عبدالله العتكي ، قال عنه البخاري عنده مناكير ، وقال العقيلي لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلاّ به (2) . وقال ابن حبان يجب مجانبة ما ينفرد به (3) .
وأما حديث علي مرفوعاً ( يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر ) ففي صحته نظر فقد رواه أبو داود من طريق زكريا وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش كلاهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي به ورواه سفيان الثوري وغيره عند الترمذي والنسائي عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي رضي الله عنه قال ( الوتر ليس بحتم كهيئة الصلاة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وهذا هو المحفوظ فإن سفيان أحفظ وأضبط من كل من رواه عن أبي إسحق قال الترمذي ( 2/317 ) في جامعه وهذا أصح من حديث أبي بكر بن عياش .
فترجح من هذا قول الجمهور أن الوتر سنة وليس بواجب على أنه لو صح ليس نصاً في المسألة فقد دلت أحاديث أخرى على عدم الوجوب فيحمل هذا الخبر على تأكد السنية والله أعلم .
المسألة الرابعة : [ فيما يقرأ في الوتر ].
السنة لمن أوتر بثلاث أن يقرأ بعد الفاتحة ( سبح اسم ربك الأعلى ) وفي الثانية ( قل يا أيها الكافرون ) وفي الثالثة ( قل هو الله أحد ) . لحديث سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ) رواه أحمد (4) وأبو داود (5) والنسائي (6) وغيرهم .
واستحب الإمامان مالك والشافعي رحمهما الله قراءة المعوذتين بعد الإخلاص . وذلك لما روى أبو داود (7) والترمذي (8) وابن ماجه (9)من طريق خصيف عن عبدالعزيز بن جريج عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين .
وروى ابن حبان في صحيحه والطحاوي والحاكم وغيرهم من طريق يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة به . وصححه الحاكم ولم يتعقبه الذهبي بشيء ، وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار (10) . وفي هذا نظر فلم يثبت في الحديث زيادة المعوذتين ولا تشرع قراءَ تهما بعد الإخلاص وقد أنكر الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين زيادة المعوذتين وإليك البيان :
*خبر عائشة الأول فيه انقطاع ، فإن ابن جريج لم يسمع من عائشة قاله الإمام أحمد وابن حبان وجماعة (11) وقال البخاري في التاريخ الكبير (6/23) عبد العزيز بن جريج عن عائشة لا يتابع في الحديث . والراوي عنه خصيف بن عبدالرحمن سيء الحفظ . وضعفه أحمد وابن خزيمة وقال يحيى بن سعيد القطان ( كنا تلك الأيام نجتنب حديث خصيف ) (12) .
وأما الحديث الثاني فلا يصح . وتفرد يحيى بن أيوب لا يحتمل . قال الأثرم : سمعت أبا عبدالله يسأل عن يحيى بن أيوب المصري فقال: كان يحدث من حفظه ، وكان لا بأس به ، وكان كثير الوهم في حفظه فذكرت له من حديثه عن يحيى عن عمرة عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر ....الحديث . فقال : ها ، من يحتمل هذا ، وقال مرة : كم قد روى هذا عن عائشة من الناس ليس فيه هذا ، وأنكر حديث يحيى خاصة ) (13) .
__________
(1) انظر التلخيص . ( 2 / 13 ) .
(2) انظر الضعفاء . ( 3 / 121 ) .
(3) كتاب المجروحين . ( 2 / 64 ) .
(4) المسند [ 5 / 123 ] .
(5) رقم ( 1423 ) .
(6) السنن [ 3 / 244 ] .
(7) رقم ( 1424 ) .
(8) رقم ( 463 ) .
(9) رقم ( 1173 ) .
(10) وانظر التلخيص [ 2 / 18 – 19 ] .
(11) كتاب المراسيل ( 112 ) لابن أبي حاتم ومشاهير علماء الأمصار ( 145 ) لابن حبان .
(12) انظر المجروحين لابن حبان [ 1 / 283 ] .
(13) الضعفاء للعقيلي [ 4 / 391 – 000 ] و ( تنقيح التحقيق [ 2 / 1061 ] .(151/5)
وقال العقيلي (( أما المعوذتين فلا يصح )) وحينئذٍ لا تشرع قراءتهما بعد الإخلاص لضعف الخبر في هذا فيقرأ المصلي بالوارد من صحيح الأخبار ( سبح اسم ربك الأعلى ) في الأولى وفي الثانية ( قل يا أيها الكافرون ) وفي الثالثة ( قل هو الله أحد ) ولا يزيد على هذا . وبعض أهل العلم لا يرى استحباب تقصد قراءة هذه السور الثلاث (1) وفيه نظر . وحديث أبي بن كعب يرده. وقال بعض أهل العلم لا يداوم على قراءة هذه السور في الوتر لأنه يفضي إلى اعتقاد أنها واجبة (2) . وفي هذا القول قوة لأنّ المداومة لم تثبت ، وأما التعليل ففيه نظر لأنه ينسحب على جميع السنن ، وهذا غير صحيح .
واعلم أنه يستحب إذا سلم من وتره أن يقول سبحان الملك القدوس ثلاثاً لحديث أبي بن كعب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر ....الحديث ) وفيه فإذا سلم قال : سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ) رواه النسائي (3) . وفي حديث عبد الرحمن ابن أبزى وهو صحابي صغير ( ويرفع بسبحان الملك القدوس صوته بالثالثة ). رواه أحمد والنسائي . وزاد الدارقطني (4) من حديث أبي ابن كعب ( رب الملائكة والروح ) ولا تصح هذه الزيادة والمحفوظ ما تقدم .
المسألة الخامسة : في القنوت.
القنوت في الوتر لم يثبت فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا من قوله ولا من فعله . قال الإمام أحمد : لا يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء....) (5) .
وقال الإمام ابن خزيمة رحمه الله : ( ولست أحفظ خبراً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر ...) (6) . غير أنه ثبت عن بعض الصحابة رضى الله عنهم كما قال عطاء حين سئل عن القنوت قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعلونه (7) . وجاء عن بعض الصحابة أنه لا يقنت إلاّ في النصف من رمضان . صح هذا عن ابن عمر . رواه أبو بكر بن أبي شيبة (8) عن ابن علية عن أيوب عن نافع عن ابن عمر .
وقال الإمام الزهري رحمه الله : ( لا قنوت في السنة كلها إلاّ في النصف الآخر من رمضان ) . رواه عبد الرزاق في المصنف (9) ، بسند صحيح . وقال الإمام أبو داود قلت لأحمد : القنوت في الوتر السنة كلها ؟ قال : إن شئت ، قلت : فما تختار ؟ قال : أما أنا فلا أقنت إلاّ في النصف الباقي ، إلاّ أن أصلي خلف الإمام فيقنت فأقنت معه (10) .
وذكر ابن وهب عن مالك في القنوت في رمضان أنه قال إنما يكون في النصف الآخر من الشهر(11) . وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله (12) . وفي وجه عنده يستحب القنوت في الوتر بالسنة كلها وهذه آخر الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله (13) . قال النووي رحمه الله : وهذا الوجه قوي في الدليل لحديث الحسن بن علي رضي الله عنهما (14) .
أقول : وفي هذا نظر من وجهين :
الوجه الأول : أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في هذا الباب قاله أحمد وغيره ، واستحباب المواظبة على أمر لم يثبت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه نظر . وقد جاءت أحاديث كثيرة تصف وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في شيء منها أنه قنت في الوتر ، ولاسيما أن هذه الأحاديث من رواية الملازمين له كعائشة رضي الله عنها . فلو كان يقنت كل السنة أو معظمها أو علم أحداًَ هذا لنقل ذلك إلينا .
__________
(1) انظر مختصر قيام الليل ص ( 303 - .. ) . والبناية ( 2 / 585 – 586 ) .
(2) انظر حاشية الروض المربع . ( 2 / 188 ) .
(3) ج ( 3 / 244 ) . وانظر المسند ( 3 / 406 ) .
(4) ج 2 / 31 ) .
(5) التلخيص لابن حجر . ( 2 / 18 ) .
(6) صحيح ابن خزيمة . ( 2 / 151 ) .
(7) مختصر قيام الليل . ص ( 66 ) .
(8) المصنف . ( 2 / 98- ) .
(9) ج / 3 / 121 .
(10) كتاب مسائل الإمام أحمد لأبي داود . ص ( 66 ) .
(11) الاستذكار . ( 5 / 166 ) .
(12) المجموع للنووي . ( 4 / 15 ) .
(13) انظر مسائل أحمد [ 1 / 99 ] رواية اسحاق بن إبراهيم . والإنصاف ( 2 / 170 ) .
(14) المجموع . ( 4 / 15 ) .(151/6)
الوجه الثاني : أن عمدة القائلين باستحباب القنوت في السنة كلها هو حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر ( اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت ) رواه أحمد (1) وأهل السنن (2) من طريق أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن به . ورواه أحمد (3) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء بمثله . و إسناده جيد ، إلاّ أن زيادة ( قنوت الوتر ) شاذة . فقد رواه أحمد في مسنده (4) عن يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني بريد بن أبي مريم بلفظ ( كان يعلمنا هذا الدعاء ، اللهم اهدني فيمن هديت ...) وهذا هو المحفوظ لأن شعبة أوثق من كل من رواه عن بريد فتقدم روايته على غيره ومَن قَبل تفرّد الثقة عن أقرانه الذين هم أوثق منه بدون قيود ولا ضوابط فقد غلط ، ومن أدّعى قبول زيادة الثقة إذا لم تخالف روايته ما رواه الآخرون فقد أخطأ. فأئمة الحديث العالمون بعلله وغوامضه لا يقبلون الزيادة مطلقاً كقول الأصوليين وأكثر الفقهاء ولا يردونها بدون قيد ولا ضابط بل يحكمون على كل زيادة بما يقتضيه المقام وهذا الصواب في هذه المسألة (5) وبيان وجهه له مكان آخرفالمقصود هنا ترجيح رواية شعبة على روايتي أبي اسحاق ويونس.
... ... وبعد تحرير هذا وقفت على كلام لابن خزيمة رحمه الله يؤيد ما ذهبت إليه ، قال: ( وهذا الخبر رواه شعبة بن الحجاج عن بريد بن أبي مريم في قصة الدعاء ، ولم يذكر القنوت ولا الوتر . قال: وشعبة أحفظ من عدد مثل يونس بن أبي إسحاق ، وأبو إسحاق لا يعلم أسمع هذا الخبر من بريد أو دلسه عنه . اللهم إلاّ أن يكون كما يدعي بعض علمائنا أن كل ما رواه يونس عن من روى عنه أبوه أبو إسحاق هو مما سمعه يونس مع أبيه ممن روى عنه . ولو ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالقنوت في الوتر أو قنت في الوتر لم يجز عندي مخالفة خبر النبي صلى الله عليه وسلم ولست أعلمه ثابتاً ] (6) .
وقد تقدم قول الإمام أحمد ( لا يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ) ولكن ثبت القنوت عن الصحابة (7) رضي الله عنهم على خلاف بينهم ، هل يقنت في السنة كلها أم لا ، والحق فيه أنه مستحب في بعض الأحيان ، والأولى أن يكون الترك أكثر من الفعل ، وما يفعله بعض الأئمة من المثابرة عليه فغلط مخالف للسنة. وإذا ثبت ضعف لفظة القنوت في خير الحسن . فاعلم أن القنوت يشرع بأي دعاء ليس فيه اعتداء ولا سجع مكلف وتلحين مطرب ونحو ذلك مما اخترعه المتأخرون مما لا أصل له في الكتاب ولا في السنة ولا جرى به عمل للأئمة . غاية ما في الأمر اجتهادات فردية ممن لا يملك حق الاجتهاد ، أدّت إلى ترك المشروع وتتبع الآراء وتحكيم الأهواء ، وقد جرّ هذا الأمر المغلوط إلى ملحوظات أخرى من إطالة الدعاء والمبالغة فيه بما يشق على المأمومين ويجعلهم في ملل وتألم وبغض للحال .
هذا والأفضل في دعاء القنوت أن يبدأ الداعي أولاً بحمد الله تعالى والثناء عليه ويُثَنّي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو فإن هذا أقرب إلى الإجابة من دعاء مجرد من الحمد والثناء (8) . لما روى الترمذي (9) في جامعه وأبو داود (10) وغيرهما عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عجل هذا ثم دعاه فقال له ولغيره : إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ليدع بعد بما شاء ) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح .
__________
(1) المسند [ 1 / 200 ] .
(2) أبو داود ( 1425 ) والترمذي ( 464 ) والنسائي ( 3 / 248) وابن ماجة ( 1178 ) .
(3) 1 / 199 ] .
(4) 1 / 200 ] .
(5) انظر نظم الفرائد ( 376 ) للحافظ العلائي ، والنكت على كتاب ابن الصلاح [ 2 / 604 – 687 ] للحافظ ابن حجر .
(6) صحيح ابن خزيمة . ( 2 / 152 - ) .
(7) وأهل العلم مختلفون في محل القنوت فقال قوم بعد الركوع وقال آخرون قبل الركوع وسبب اختلافهم أنه لم يثبت في هذا الباب شئ وقاسه أهل العلم على قنوت النوازل والصحيح في المسألة جواز الأمرين .قال الإمام أحمد : وبعد الركوع أحب إلي . انظر مسائل أحمد رواية إسحاق بن إبراهيم . ( 1 / 100 ) .
(8) هذا الحكم في قنوت الوتر ويختلف الحكم بالنسبة لدعاء قنوت النوازل فإن المستحب في هذا البدأ بالدعاء على الظلمة المعتدين والدعاء للمستضعفين من المؤمنين لظواهر الأدلة في هذا الباب كَحديث ابن عمر في البخاري [ 4069 ] .
(9) رقم ( 3477 ) .
(10) رقم ( 1481 ) .(151/7)
وحديث تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لسبطه الحسن بن علي أن يقول في قنوت الوتر ( اللهم اهدني فيمن هديت ) صحيح بدون ذكر القنوت ... وقد تقدم بيان ذلك ، وحينئذٍ لا يصح الاستدلال به على استفتاح دعاء القنوت بغير الحمد ، قال ابن القيم رحمه الله ( المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله والثناء عليه بين يدي حاجته ثم يسأل حاجته كما في حديث فضالة بن عبيد ) (1) وقد دل هذا الحديث على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب إجابة الدعاء ومن هنا كان أبيُ بن كعب يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته بالصحابة رواه ابن خزيمة في صحيحه (2/155/156) وقال الإمام إسماعيل القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ( ص/86) : حدثنا محمد بن المثنى قال ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن عبد الله بن الحارث أن أبا حليمة معاذاً كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت ) . وهذا سند صحيح إلى أبي حليمة معاذ بن الحارث الأنصاري وهو مختلف في صحبته .وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، وهو ممن أقامه عمر بن الخطاب يصلى التراويح بالناس في شهر رمضان (2) .
*رفع اليدين في القنوت :
وأما رفع اليدين في القنوت فقد منعه الإمام الأوزعي وجماعة من أهل العلم (3) . حتى قال الإمام الزهري ( لم تكن ترفع الأيدي في الوتر في رمضان) رواه عبد الرزاق ( 3 / 122) بسند صحيح .
وذهبت طائفة من أهل العلم وهم الجمهور إلى استحبابه لأن الأصل في الدعاء رفع اليدين . وقد قاسه جماعة من الفقهاء وأهل الحديث على قنوت النوازل . فقد سئل الإمام أحمد عن القنوت في الوتر قبل الركوع أم بعده وهل ترفع الأيدي في الدعاء في الوتر ؟ فقال : القنوت بعد الركوع . ويرفع يديه . وذلك على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الغداة (4) .
وقال أبو داود : سمعت أحمد سئل ، يرفع يديه في القنوت ؟ قال: نعم يعجبني . قال أبو داود : فرأيت أحمد يرفع يديه في القنوت (5) . وذكر البخاري في جزء رفع اليدين (6) . من طريق أبي عثمان قال : كان عمر يرفع يديه في القنوت .
وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ في آخر ركعة من الوتر قل هو الله أحد ثم يرفع يديه فيقنت قبل الركعة ) .
... قلت : هذا الأثر في إسناده ليث بن أبي سلِم ، ضعيف الحديث وقد قال البخاري رحمه الله بعد ذكر أثر ابن مسعود : ( وهذه الأحاديث كلها صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يخالف بعضها بعضاً....) .
وقال البيهقي رحمه الله : ( إن عدداً من الصحابة رضي الله عنهم رفعوا أيديهم في القنوت مع ما رويناه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ) (7) .
* وأما مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء فلم يثبت فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يصح عن الصحابة رضي الله عنهم لا في القنوت ولا في غيره ، لا داخل الصلاة و لا خارجها . وقد اعتاد بعض العامة فعل ذلك وهذا غلط . واعتاد آخرون رفع الأيدي عقب النوافل ومسح الوجه بها بدون دعاء وهذا أقبح من الأول والسّنة ترك المسح مطلقاً في الصلاة وغيرها . قال الإمام أبو داود في مسائله (8) : سمعت أحمد سئل عن الرجل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ ، قال : لم أسمع به . وقال مرة : لم أسمع فيه بشيء . قال : ورأيت أحمد لا يفعله . وسئل مالك رحمه الله عن الرجل يمسح بكفيه وجهه عند الدعاء ؟ فأنكر ذلك وقال : ما علمت ) (9) .
وقال الحافظ البيهقي رحمه الله : ( لست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت ، وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة وقد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف وهو مستعمل عند بعضهم (10) ، خارج الصلاة ، وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة . وبالله التوفيق ) (11) .
تمت الرسالة
على يد الفقير إلى الله
سليمان بن ناصر العلوان
في مدينة بريدة 2/2/1418هـ
والحمد لله رب العلمين
الفهرس
الموضوع ... رقم الصفحة
المقدمة
الرأي المجرد عن الدليل حجر على العقول
المقلد ليس من العلماء
الأفضل في صلاة الليل ثلث الليل الآخر
لا يصح الوتر إلا بعد صلاة العشاء
حكم من نام عن وتره أو نسيه
حكم من ترك الوتر متعمداً
الصحيح في قيام الليل وصلاة التراويح أنها إحدى عشرة ركعة
تضعيف الأثر الوارد بثلاث وعشرين ركعة
الزيادة على إحدى عشرة ركعة ليست بدعة ولا ضلالة
__________
(1) الوابل الصيب ( 110 ) .
(2) انظر تهذيب الكمال . ( ج 28 / 117 ) .
(3) انظر مختصر قيام الليل . ( ج / 320 ) .
(4) مختصر قيام الليل . ( ص / 318 ) .
(5) كتاب مسائل الإمام أحمد لأبي داود . ( ص / 66 ) .
(6) ص ( 68 ) .
(7) السنن الكبرى . ( 2 / 211 ) .
(8) ص ( 71 ) .
(9) مختصر قيام الليل . ( 327 ) .
(10) والحق ترك العمل به لأنه خبر لاتقوم به حجة .
(11) السنن الكبرى . ( 2 / 212 ) .(151/8)
البحث عن الراجح والعمل بالأفضل من مطالب الشريعة
حاشية في بدعية دعاء ختم القرآن في الصلاة
صلاة الليل مثنى مثنى
الأفضل في مذهب أبي حنيفة صلاة الليل أربع بسلام واحد
كلام عن العبادات الواردة على وجوه متنوعة
الوتر بركعة
القول الصحيح أن قيام الليل والوتر سنة مؤكدة
الجواب عن أدلة القائلين بالوجوب
تضعيف حديث ( الوتر حق على كل مسلم )
تضعيف حديث ( من لم يوتر فليس منا )
تصحيح قول علي رضي الله عنه ( الوتر ليس بحتم كالمكتوبة
السنة في القراءة بالوتر
تضعيف الحديث الوارد في قراءة المعوذتين بعد الإخلاص
ماذا يقال بعد السلام من الوتر
حكم القنوت في الوتر
قال عطاء كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعلونه
قول الإمام الزهري في ذلك
تعقب على الإمام النووي
تخريج حديث الحسن بن علي ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن
شذوذ لفظة في الوتر
قول الإمام ابن خزيمة في ذلك
لا يشرع المداومة على القنوت
لا يشرع الاعتداء والسجع في القنوت
الأفضل في دعاء القنوت البدأ بحمد الله
مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت
حكم رفع اليدين في القنوت
عدم جواز مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء
قول الإمام أحمد في ذلك
قول الإمام مالك في ذلك
الفهرس(151/9)
أحكام لباس المرأة المسلمة وزينتها
دار الوطن
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، أما بعد:
أختي المسلمة:
للناس في دروب الحياة، وشعابها غايات شتى، وأهداف متعددة وآمال متغايرة. فمنهم من يريد المال، فتجده ينفق ساعات عمره وأيامه في جمعه، ولا يبالي أمِنْ حلال أم من حرام. ومن الناس من غايته اللهو واللعب والسفر والتجوال بحثاً عن المتعة أينما وجدت، ومن النساء من غايتها تضييع الوقت وإهدار ساعات العمر فيما يغضب الله عز وجل من مجالس السوء التي فيها الغيبة والنميمة والكذب والاستهزاء بالآخرين، فإذا نُصحت إحداهن قالت: وماذا نفعل، إننا نتسلى ونوسِّع صدورنا !! ومنهنَّ من غايتها الأكل والشرب وقضاء الوطر، ثم إنها لا تعرف شيئاً بعد ذلك عن صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا حج، وكأنها تقول بلسان الحال: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:37]، أو تقول: ما الأمر إلا أرحام تٌدفع، وأرضٌ تبلع !!
وهؤلاء جميعاً مآلهم الشقاء، ونهايتهم الحسرة والندم: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126]. فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39].
أما أنت أيتها الأخت الفاضلة، فغايتك سامية وهدفك نبيل، إن غايتك هي رضا الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، والنجاة من النار والفوز بالجنة وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41]. من أجل ذلك – أختي المسلمة – فإنكِ دائماً تتطلعين إلى معرفة أحكام الله عز وجل فيما يخصك من أمور.
وهذه الصفحات سوف نجعلها للحديث عن ضوابط لباس المرأة وزينتها وتحدثها مع الرجال الأجانب، وذلك لأن اللباس والزينة من أعظم الأسلحة التي حوربت بها المرأة – بل الأمة كلها – في هذا العصر، وكان من نتائج ذلك أن تجاوزت كثير من النساء حدود الإسلام في اللباس والزينة بصورة كبيرة – ولهذا التجاوز أسباب منها:
1- أن المرأة مفطورة على حب الحليّ والزينة كما قال تعالى: أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، ولكن ينبغي أن يكون ذلك وفق الضوابط الشرعية حتى لا يكون سبيلاً إلى معصية.
2- خفة التديُّن واتباع الهوى وعدم مراقبة الله تعالى لدى كثير من النساء.
3- طول الأمل ونسيان أن الموت يأتي بغتة.
4- التعلق بآيات وأحاديث الرجاء والعفو وسعة الرحمة، ونسيان أنه تعالى شديد العقاب.
5- ارتياد المرأة أماكن التجمعات العامة لغير حاجة كالأسواق.
6- الاهتمام بمجلات وبيوت الأزياء.
7- سلبية بعض الأولياء والأزواج، فلا تجد المرأة من أحدهم نصحاً أو إرشاداً أو اعتراضاً على ما ترتديه.
8- سوء عشرة بعض الأزواج لزوجاتهم، وهجرانهم لهن.
9- صديقات السوء.
10- التشجيع والثناء من بعض من لا خلاق لهم.
الفتاوى
سُئل الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله: هل المعنى الحقيقي لكلمة "الحجاب" في الإسلام هو أن لا يظهر من المرأة سوى وجهها ويديها أم هناك معنى أوسع وأعمق لكلمة الحجاب في الإسلام؟
فأجاب: الحجاب في الإسلام بيَّنه القرآن وهو: أن المرأة المسلمة ينبغي أن تكون عفيفة، وأن تكون ذات مروءة، وأن تكون بعيدة عن مواطن الشبه، بعيدة عن اختلاطها بالرجال، الأجانب،هذا هو معنى الحجاب بالإضافة إلى ستر وجهها ويديها عن الرجال الأجانب، لأن محاسنها وجمالها هو في وجهها، والحجاب وسيلة، والغاية من تلك الوسيلة هو محافظة المرأة على نفسها والبقاء على مروءتها وعفافها وإبعادها عن مواطن الشبه، وألا تفتتن بغيرها وألا يفتتن غيرها بها، فإن محاسنها وجمالها كله في وجهها، والله أعلم. [نور على الدرب]
حكم لبس النقاب والبرقع واللثام
سؤال: في الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة بين أوساط النساء بشكل ملفت للنظر، وهي ما يسمى بالنقاب، ففي بداية الأمر كان لا يظهر من الوجه إلا العينان فقط ؛ ثم بدأ النقاب بالاتساع شيئاً فشيئاً، فأصبح يظهر مع العينين جزء من الوجه مما يجلب الفتنة؛ ولا سيما أن كثير من النساء يكتحلن عند لبسه، وهن - أي النساء - إذا نوقشن في هذا الأمر احتججن بأن فضيلتكم قد أفتى بأن الأصل فيه الجواز، فنرجو توضيح هذه المسألة بشكل مفصل وجزاكم الله خيراً؟(152/1)
الجواب: لا شك أن النقاب كان معروفاً في عهد النبي وأن النساء كنَّ يفعلنه ؛ كما يفيده قوله : في المرأة إذا أحرمت: { لا تنتقب } فإن هذا يدل على أن من عادتهن لبس النقاب، ولكن في وقتنا هذا لا نفتي بجوازه ؛ بل نرى منعه، وذلك لأنه ذريعة إلى التوسع فيما لا يجوز، وهذا أمر كما قال السائل مشاهد، ولهذا لم نفت امرأة من النساء لا قريبة ولا بعيدة بجواز النقاب أو البرقع في أوقاتنا هذه ؛ بل نرى أن يمنع منعاً باتًّا، وأن على المرأة أن تتقي ربَّها في هذا الأمر، وألا تنتقب، لأن ذلك يفتح باب شر لا يمكن إغلاقه فيما بعد. [ابن عثيمين – فتاوى نسائية]
حكم لبس العباءة المطرزة
سؤال: ما حكم لبس العباءة التي في أطرافها أو أكمامها قيطان أو غيره؟
الجواب: محرم حيث إنه يؤدي إلى الفتنة. فيا أختي المسلمة حكِّمي عقلك وفكري ومعِّني في لبسك للعباءة، فهل يُعقل أن تستري الزينة بزينة أخرى، وهل شُرع الحجاب إلا لإخفاء تلك الزينة؟!! فلنكن على بينة من أمرنا. ولنعلم أن أعداء الإسلام يحيكون ضدنا مؤامرة على الحجاب. فيا أيتها المسلمة أنقذي نفسك فإن متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى، فلا تغتري بمالك ولا جمالك، فإن ذلك لا يغني عنك من الله شيئاً !! وأني أنذرك وأحذرك بأن النبي قد عرضت عليه النار ورأى أكثر أهلها النساء، وأنذرك بأن النبي قال في النساء وأنت إحداهن: { اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء } وأنقذي نفسك من النار، واعلمي أنك أعجز من أن تطيقي عذاب النار، فإن الجبال لو سيرت في النار لذابت، فأين أنت من الجبال الراسيات والصم الشامخات؟ أنقذي نفسك من النار واستجيبي لمنادي الحق، واعلمي أن من ترك شيئاً لله عوَّض الله خيراً منه. وأن الآخرة هي مسعانا وإن طالت الآمال في الدنيا، فماذا تريدين من هذه العباءة المزركشة التي تشترينها بالمئات وأنت توضعين في القبر في كفن من أرخص الأقمشة، فهل تنفعك هذه العباءة في ظلمة القبر؟!! فتذكري نفسك وأنت في هذا الموضع. [الشيخ ابن عثيمين، فتاوى المرأة]
حكم لبس القصير والضيق من الثياب
سؤال: إن بعض الناس اعتادوا إلباس بناتهم ألبسة قصيرة وألبسة ضيقة تبين مفاصل الجسم، سواء كانت للبنات الكبيرات أو الصغيرات. أرجو توجيه نصيحة لمثل هؤلاء.
الجواب: يجب على الإنسان مراعاة المسئولية، فعليه أن يتقي الله ويمنع كافة من له ولاية عليهن من هذا الألبسة، فقد ثبت عنه أنه قال: { صنفان من أهل النار لم أرهما بعد... وذكر نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.. } [رواه مسلم] وهؤلاء النسوة اللاتي يستعملن الثياب القصيرة كاسيات ؛ لأن عليهن كسوة، لكنهن عاريات لظهور عوراتهن ؛ لأن المرأة بالنسبة للنظر كلها عورة، وجهها ويداها ورجلاها وجميع أجزاء جسمها لغير المحارم.
وكذلك الألبسة الضيقة، وإن كانت كسوة في الظاهر لكنها عري في الواقع، فإن إبانة مقاطع الجسم بالألبسة الضيقة هو تعري. فعلى المرأة أن تتقي ربَّها ولا تبيِّن مفاتنها، وعليها ألا تخرج إلى السوق إلاَّ وهي متبذلة لابسة ما لا يلفت النظر، ولا تكون متطيبة لئلا تجر الناس إلى نفسها فيخشى أن تكون زانية.
وعلى المرأة المسلمة ألا تترك بيتها إلا لحاجة لابد منها، ولكن غير متطيبة ولا متبرجة بزينة وبدون مشية خيلاء، وليعلم أنه قال: { ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء } [متفق عليه]، ففتنة النساء عظيمة لا يكاد يسلم منها أحد. [ابن عثيمين – منار الإسلام]
حكم لبس الكعب العالي ووضع المناكير
سؤال: ما حكم لبس الكعب العالي، وما حكم وضع المناكير؟
الجواب: لبس الكعب العالي محرم ؛ لأنه من التبرج الذي نهى الله عنه بقوله لنساء النبي : وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33]. وأما المناكير فإن كانت المرأة تصلي فلا تستعملها لأنها تمنع وصول الماء إلى ما تحتها ؛ وإن كانت لا تصلي فلا بأس باستعمالها. [ابن عثيميمن – دليل الطالبة المؤمنة]
حكم لبس ما يسمى بـ"الكاب" وحكم لبس "النقاب"
سؤال: انتشر في الآونة الأخيرة لبس (الكاب) والنقاب اللذين يظهران بعض مفاتن المرأة فما حكم لبسه بهذه الطريقة؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.(152/2)
الجواب: المرأة عورة وفتنة، وهي أعظم ضرراً من كل الفتن ؛ لقول النبي : { واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء }، ولا شك أن كل لباس يلفت النظر وتحصل به الفتنة فإنه حرام. ومعلوم أن هذا اللباس المعروف بالكاب فيه تشبه بالرجال، وفيه بيان محاسن المرأة ومفاتنها وحجم أعضائها، وكل ذلك من الأدلة على منعه والنهي عنه. وكذلك لبس النقاب الذي تبدي منه المرأة بعض وجهها كالأنف والحاجب والوجنتين، وذلك من أسباب تحديق النظر نحوها، فهو فتنة ووسيلة إلى الفساد، فهو حرام لما يسببه من الشرور والمنكرات. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [ابن جبرين – وقفات مع فتيات]
حكم التبرج أمام النساء
سؤال: شوهد أخيراً في مناسبات الزواج قيام بعض النساء بلبس الثياب التي خرجن بها عن المألوف في مجتمعنا، معللات بأن لبسها إنما يكون بين النساء فقط وهذه الثياب فيها ما هو ضيق يحدد مفاتن الجسم، ومنها ما هو مفتوح من أعلى أو أسفل بدرجة يظهر من خلالها جزء من الصدر أو الظهر، ومنها ما يكون مشقوقاً من الأسفل إلى الركبة أو قريب منها، أفتونا عن الحكم الشرعي في لبسها، وماذا على الولي في ذلك؟
الجواب: ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا }. فقوله : { كاسيات عاريات } يعني أن عليهن كسوة لا تفي بالستر الواجب، إما لقصرها، أو خفتها، أو ضيقها.
ومن ذلك: فتح أعلى الصدر، فإنه خلاف أمر الله تعالى حيث قال: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]. قال القرطبي في تفسيره: وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها، ثم ذكر أثراً عن عائشة أن حفصة بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله عنهما – دخلت عليها بشيء يشف عن عنقها وما هنالك، فشقته عليها وقالت: إنما يُضرب بالكثيف الذي يستر.
ومن ذلك: ما يكون مشقوقاً من الأسفل إذا لم يكن تحته شيء ساتر، فإن كان تحته شيء ساتر فلا بأس إلا أن يكون على شكل ما يلبسه الرجال ؛ فيحرم من أجل التشبه بالرجال.
وعلى ولي المرأة أن يمنعها من كل لباس محرم ومن الخروج متبرجة أو متطيبة لأنه وليها فهو مسئول عنها يوم القيامة في يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا تقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى. [ابن عثيمين - دليل الطالبة المؤمنة]
حكم ستر الوجه بغطاء شفاف
سؤال: كم طبقة من غطاء الوجه ينبغي أن تضع المرأة على وجهها؟ أطبقه واحدة أم اثنتين أم ثلاث أم أربع؟ أفيدونا بارك الله فيكم؟
الجواب: الواجب على المرأة أن تستر وجهها عن الرجال غير المحارم لها، بأن تستره بستر لا يصف لون البشرة، سواء كان طبقة أم طبقتين أم أكثر، فإن كان الخمار صفيقاً لا ترى البشرة من خلاله كفى طبقة واحدة، وإن كانت لا تكفي زادت اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، والمهم أن تستره بما لا يصف اللون، فأما ما يصف اللون فإنه لا يكفي كما تفعله بعض النساء، وليس المقصود أن تضع المرأة شيئاً على وجهها ؛ بل المقصود ستر وجهها فلا يبين لغير محارمها. [ابن عثيمين- منار الإسلام]
إخراج المرأة كفيها وساعديها في الأسواق
سؤال: ما رأي فضيلتكم في أن كثيراً من النساء اللاتي يخرجن إلى الأسواق لقصد الشراء من أصحاب المحلات التجارية يخرجن أكف أيديهن، والبعض الآخر يخرجن الكف مع الساعد وذلك عند غير محارمهن؟
الجواب: لا شك أن إخراج المرأة كفيها وساعديها في الأسواق أمر منكر وسبب للفتنة، لا سيما أن بعض هؤلاء النساء يكون على أصابعهن خواتم وعلى سواعدهن أسورة، وقد قال الله تعالى للمؤمنات: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. وهذا يدل على أن المرأة المؤمنة لا تبدي شيئاً من زينتها، وأنه لا يحل لها أن تفعل شيئاً يعلم به ما تخفيه من هذه الزينة، فكيف بمن تكشف زينة يديها ليراها الناس. [ابن عثيمين – فتاوى المرأة]
حكم خروج المرأة متعطرة ومتزينة
سؤال: ما حكم تعطر المرأة وتزينها وخروجها من بيتها إلى مدرستها مباشرة، هل لها أن تفعل هذا الفعل؟ وما هي الزينة التي لا يجوز إبداؤها للنساء؟(152/3)
الجواب: خروج المرأة متطيبة إلى السوق محرم لما في ذلك من فتنة، أما إذا كانت المرأة ستركب في السيارة ولا يظهر ريحها إلا لمن يحل لها أن تظهر الريح عنده، وستنزل فوراً بدون أن يكون هناك رجل حول المدرسة، فهذا لا بأس به ؛ لأنه ليس في هذا محذور، فهي في سيارتها كأنها في بيتها، ولهذا لا يحل للإنسان أن يمكن امرأته أومن له ولاية عليها أن تركب وحدها مع السائق ؛ لأن هذه خلوة، أما إذا كانت ستمر إلى جانب الرجال فإنه لا يحل لها أن تتطيب.
وبهذه المناسبة أود أن أذكِّر النساء بأن بعضهن في أيام رمضان تأتي بالطيب معها وتعطيه النساء، فتخرج النساء من المسجد وهن متطيبات بالبخور، وقد قال النبي : { أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا صلاة العشاء }، ولكن لا بأس أن تأتي بالبخور لتطيب المسجد.
أما بالنسبة للزينة التي تظهرها للنساء فإن كل ما اعتيد بين النساء من الزينة المباحة فهي حلال، وأما التي لا تحل كما لو كان الثوب خفيفاً جداً يصف البشرة، أو كان ضيقاً جداً يبين مفاتن المرأة، فإن ذلك لا يجوز لدخوله في قول النبي : { صنفان من أهل النار لم أراهما بعد.. وذكر: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها }. [ابن عثيمين – فتاوى المرأة المسلمة]
ضوابط التحدُّث مع أصحاب المحلات والخياطين
وسؤال: ما حكم تحدث المرأة مع صاحب محل الملابس أو الخياط؟ مع الرجاء توجيه كلمة شاملة إلى النساء.
الجواب: تحدُّث المرأة مع صاحب المتجر التحدث الذي بقدر الحاجة وليس فيه فتنة لا بأس به، فقد كانت النساء تكلم الرجال في الحاجات والأمور التي لا فتنة فيها وفي حدود الحاجة. أما إذا كان مصحوباً بضحك أو بمباسطة أو بصوت فاتن ؛ فهذا محرم لا يجوز.
يقول الله سبحانه وتعالى لأزواج نبيه ورضي الله عنهن: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا [الأحزاب:32]، والقول المعروف ما يعرفه الناس وبقدر الحاجة، أما ما زاد عن ذلك بأن كان على طريق الضحك والمباسطة، أو بصوت فاتن، أو غير ذلك، أو أن تكشف وجهها أمامه، أو تكشف ذراعيها أو كفيها ؛ فهذه كلها محرمات ومنكرات من أسباب الفتنة، ومن أسباب الوقوع في الفاحشة.
فيجب على المرأة المسلمة التي تخاف الله عز وجل أن تتقي الله، وألا تكلم الرجال الأجانب بكلام يطمعهم فيها ويفتن قلوبهم، تجتنب هذا الأمر، وإذا احتاجت إلى الذهاب إلى متجر أو إلى مكان فيه الرجال، فلتحتشم ولتتستر وتتأدب بآداب الإسلام، وإذا كلمت الرجال فلتكلمهم الكلام المعروف الذي لا فتنة ولا ريبة فيه. [المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان]
حكم لبس البنطلون
سؤال: ما حكم لبس البنطلون للفتيات عند غير أزواجهن؟
الجواب: لا يجوز للمرأة عند غير زوجها مثل هذا اللباس ؛ لأنه يبين تفاصيل جسمها، والمرأة مأمورة أن تلبس ما يستر جميع بدنها ؛ لأنها فتنة وكل شيء يبين من جسمها يحرم إبداؤه عند الرجال أو النساء أو المحارم وغيرهم إلا الزوج الذي يحل له النظر إلى جميع بدن زوجته، فلا بأس أن تلبس عنده الرقيق أو الضيق ونحوه والله أعلم. [ابن جبرين – النخبة من الفتاوى النسائية]
حكم قص شعر الفتاة إلى كتفيها للتجميل واستعمال أدوات التجميل
سؤال: ما حكم قص شعر الفتاة إلى كتفيها للتجميل سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة، وما حكم استعمال أدوات التجميل المعروف للتجمل للزوج؟
الجواب: قص المرأة لشعرها إما أن يكون على وجه يُشبه شعر الرجال. فهذا محرم ومن كبائر الذنوب، لأن النبي لعن المتشبهات من النساء بالرجال، وأما أن يكون على وجه لا يصل به إلى التشبه بالرجال، فقد اختلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال: منهم من قال: إنه جائز لا بأس به، ومنهم من قال: إنه محرم، ومنهم من قال: إنه مكروه، والمشهور من مذهب الإمام أحمد أنه مكروه، وفي الحقيقة أنه لا ينبغي لنا أن نتلقى كل ما ورد علينا من عادات غيرنا، فنحن قبل زمن غير بعيد كنا نرى النساء يتباهين بكثرة شعور رءوسهن وطول شعورهن، فما بالهنّ يذهبن إلى هذا العمل الذي أتانا من غير بلادنا، وأنا لست أنكر كلَّ شيء جديد، ولكنني أنكر كل شيء يؤدي إلى أن ينتقل المجتمع إلى عادات متلقاه من غير المسلمين.
أما استعمال أدوات التجميل كتحمير الشفاه فلا بأس بها، وكذلك تحمير الخدود لا بأس به لا سيما للمتزوجة، وأما التجميل الذي تفعله بعض النساء من النمص وهو نتف شعر الحواجب وترقيقها فحرام ؛ لأن النبي لعن النامصة والمتنمصة. وكذلك وشر المرأة أسنانها للتجميل محرم ملعون فاعله. [أسئلة مهمة – للشيخ ابن عثيمين]
حكم تخفيف الحاجب وتطويل الأظافر ووضع المناكير
سؤال:
1- ما حكم تخفيف الشعر الزائد من الحاجب؟
2- ما حكم تطويل الأظافر ووضع مناكير عليها مع العلم بأنني أتوضأ قبل وضعه ويجلس 24 ساعة ثم أزيله؟
3- هل يجوز للمرأة أن تتحجب دون أن تغطي وجهها إذا سافرت للخارج؟
الجواب:(152/4)
1- لا يجوز أخذ شعر الحاجبين ولا التخفيف منها، لما ثبت عن النبي صلى الله علية وسلم أنه لعن النامصة والمتنمصة. وقد بين أهل العلم أن أخذ شعر الحاجبين من النمص.
2- تطويل الأظافر خلاف السُنة، وقد ثبت عن النبي أنه قال: { الفطرة خمس: الختان، و الاستحداد، وقص الشارب، ونتف الإبط، وقلم الأظفار }. ولا يجوز أن تترك أكثر من أربعين ليلة لما ثبت عن أنس قال: { وقَّت لنا رسول الله وفي قص الشارب وقلم الظفر ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك شيئاً من ذلك أكثر من أربعين ليلة }، ولأن تطويلها فيه تشبه بالبهائم وبعض الكفرة.
أما المناكير فتركها أولى، وتجب إزالتها عند الوضوء ؛ لأنها تمنع وصول الماء إلى الظفر.
3- يجب على المرأة أن تتحجب عن الأجانب في الداخل والخارج، لقوله سبحانه: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:59]، وهذه الآية الكريمة تعم الوجه وغيره، والوجه هو عنوان المرأة وأعظم زينتها، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59]، وقال سبحانه: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ [النور:31].
وهذه الآيات تدل على وجوب الحجاب في الداخل والخارج، وعن المسلمين والكفار، ولا يجوز لأي امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تتساهل في هذا الأمر لما في ذلك من المعصية لله ولرسوله، ولأنَّ ذلك يُفْضِي إلى الفتنة بها في الداخل والخارج. [الشيخ ابن باز – فتاوى المرأة]
حكم لبس الجوارب والقفازين عند الخروج
سؤال: ها يجب على المرأة لبس الجوارب والقفازين عند الخروج من البيت أم ذلك من السنة فقط؟
الجواب: الواجب عليها عند الخروج من البيت ستر كفيها وقدميها ووجهها بأي ساتر كان ولكن لبس قفازين كما هم عادة نساء الصحابة رضي الله عنهن عند الخروج ودليل ذلك قوله في المرأة إذا أحرمت لا تلبس القفازين و هذا يدل على أن من عادتهن لبس ذلك. [ابن عثيمين - دليل الطالبة المؤمنة]
حكم لبس العدسات اللاصقة بقصد الزينة
سؤال: ما حكم لبس بعض النساء للعدسات اللاصقة الملونة بقصد الزينة؟ كأن تلبس لباساً أخضر فتضع عدسات خضراء.
الجواب: لا يجوز هذا إذا كان بقصد الزينة، فإنه من تغيير خلق الله، ولا فائدة فيه للبصر، وربما قلل بصر العين حيث تعرض للعبث بها بالإلصاق وما بعده، ثم هو تقليد للغرب دون هائدة، ولا جمال أحسن من خلق الله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [ابن جبرين - النخبة من الفتاوى النسائية]
حكم المراسلة يبن الشباب والشابات
سؤال: إذا كان الرجل يقوم بعمل المراسلة مع المرأة الأجنبية وأصبحا متحابين هل يعتبر هذا العمل حراماً؟!
الجواب: لا يجوز هذا العمل لأنه يثير الشهوة بين الاثنين، ويدفع الغريزة إلى التماس اللقاء والاتصال، وكثيراً ما تحدث تلك المغازلة والمراسلة فتناً وتغرس حب الزنى في القلب، مما يوقع في الفواحش أو يسببها، فننصح من أراد مصلحة نفسه وحمايتها عن المراسلة والمكالمة ونحوها، حفظاً للدين والعرض والله الموفق. [ابن جبرين - فتاوى المرأة المسلمة]
حكم المكالمات الهاتفية بين الشباب والفتيات
سؤال: ما حكم فيما لو قام شاب غير متزوج وتكلم مع شابة غير متزوجة في التليفون؟
الجواب: لا يجوز التكلم مع المرأة الأجنبية بما يثير الشهوة كمغازلة وتغنج وخضوع في القول، سواء كان في التليفون أو في غيره لقوله تعالى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، فأما الكلام العارض لحاجة فلا بأس به إذا سلم من المفسدة ولكن بقدر الضرورة. [ابن جبرين –فتاوى المرأة]
حكم جلوس المرأة مع أخي زوجها
سؤال: تطلب مني أم زوجي أن أجلس مع أبنها - أخي زوجي - بالعباءة والغطاء أمام التلفزيون وحين يشربون الشاي فأرفض وينتقدونني، فهل أنا على حق أم لا؟!
الجواب: يحق لك الامتناع من الجلوس معهم في تلك الحال لما في ذلك من أسباب الفتنة، فأخو زوجك الذي لا يزال عزباً يعتبر أجنبياً فيعتبر سماعه لصوتك ورؤيته لشخصك من أسباب الفتنة وهكذا نظرك إليه.
حكم مصافحة غير المحارم
سؤال: نحن في قرية لها عادات سيئة من ذلك مثلاً أنه إذا جاء ضيف إلى المنزل فإن الكل يصافحونه ذكوراً وإناثاً فإذا امتنعت عن ذلك قالوا عني أنني شاذة فما الحكم؟(152/5)
الجواب: الواجب على المسلم أن يطيع الله عز وجل بامتثال أمره والبعد عن نهيه، والمتمسك بذلك ليس شاذاً، بل الشاذ هو الذي يخالف أوامر الله، وهذة العادة - المسئول عنها - عادة سيئة، فمصافحة المرأة للرجل غير المحرم سواء أكانت من وراء حائل أو مباشرة حرام، لما يفضي إليه الملمس من الفتنة، وقد وردت في ذلك أحاديث في الوعيد وإن كانت غير قوية السند، ولكن المعنى يؤيدها - والله اعلم - وأقول للسائلة: لا تصغي لذم أهلها، بل الواجب عليها أن تنصحهم بأن يقلعوا عن هذه العادة السيئة وأن يعملوا بما يرضي الله ورسوله. [ابن عثيمين - فتاوى المرأة المسلمة]
حكم شراء مجلات الأزياء
سؤال: ما حكم شراء مجلات عرض الأزياء للاستفادة منها في بعض موديلات ملابس النساء الجديدة والمتنوعة؟ وما حكم اقتنائها بعد الاستفادة منها وهي مليئة بصورة النساء؟
الجواب: لاشك أن شراء المجلات التي ليس بها إلا صور محرم ؛ لأن اقتناء الصور حرام ؛ لقول الرسول : { لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة } [متفق عليه]. ولأنه لما شاهد الصورة في النمرقة عند عائشة وقف ولم يدخل، وعُرفت الكراهية في وجهه، وهذه المجلات التي تعرض الأزياء يجب أن ينظر فيها، فما كل زيّ يكون حلالاً، قد يكون هذا الزيُّ متضمناً لظهور العورة، أما لضيقه أو لغير ذلك، وقد يكون هذا الزيُّ من ملابس الكفار التي يختصون بها، والتشبه بالكفار محرم ؛ لقول الرسول : { من تشبه بقوم فهو منهم }.
فالذي أنصح به إخواننا المسلمين عامة والنساء خاصة أن يتجنبن هذه الأزياء ؛ لأن منها ما يكون تشبُّهاً بغير المسلمين، ومنها ما يكون مشتملاً على ظهور العورة، ثم إن تطلع النساء إلى كل زيّ جديد يستلزم في الغالب أن تنتقل عاداتنا التي منبعها ديننا إلى عاداتٍ أخرى متلقاة من غير المسلمين.
حكم ركوب الطالبة وحدها مع السائق الأجنبي
سؤال: فضيلة الشيخ بعض الطالبات يركبن بمفردهن مع السائق الأجنبي، وقد يكون مسلماً وقد يكون كافراً، فيذهب بها إلى المدرسة تارة وإلى السوق تارة أخرى، فما حكم ذلك بالتفصيل حيث إن الناس قد تساهلوا في ذلك؟
*الجواب: ركوب المرأة وحدها مع السائق غير المحرم مُحرم بلا شك ؛ لأنه خلوة، وقد قال النبي : { لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم }. وهو أخطر من كثير من الخلوات التي لا إشكال فيها ؛ لأن هذا السائق بيده التصرف في السيارة المركوبة فيمكنه أن يذهب بها إلى حيث شاء ثم يلجأها إلى ما يريد من الشر، وكذلك هي ربما تكون فاسدة أو يغريها الشيطان بسبب خلوتها مع هذا الرجل فتدعوه إلى أن يخرج بها إلى مكان ليس حولهما أحد، فيحصل الشر والفساد.
أما إذا كان معها امرأة أخرى وكان السائق أميناً فإن هذا لا بأس به ؛ لأن هذا لا يُعد خلوة. وعلى هذا فالواجب على المرأة إذا كانت تحتاج أن تذهب إلى السوق أو المدرسة أن تصطحب معها امرأة أخرى إذا لم يكن هناك محرم، ولا بد أن يكون المحرم بالغاً عاقلاً، فمن دون البلوغ لا يكفي أن يكون محرماً، وكذلك من لا عقل له، والواجب على النساء وأولياء أمورهن أن يتقين الفتنة وأسبابها حتى لا يحصل الشر والفساد. [ابن عثيمين – دليل الطالبة المؤمنة]
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.(152/6)
أحلاف الضعف والارتباط
يتناول الدرس قضية مهمة وهي قضية المعاهدات والتحالفات مع أهل الباطل، فبين علو الإسلام على ذلك وأنه ما كان الإسلام في يوم من الأيام ليستعين بالباطل لنصرته، ولا بأعداء الله لرفع كلمته، ولا بالظالمين لرفعته، فالإيمان لا يرتفع إلا بالحق، ولا تقوم دولته إلا على أيدي أبنائه الصادقين بدعوته، وأوضح ضوابط المعاهدات التي حدثت بين الإسلام وغير المسلمين مما يختلف عما يدعو إليه ضعفاء النظر والعقول في هذه الفترات .
ما كان الإسلام في يوم من الأيام ليستعين بالباطل لنصرته، ولا بأعداء الله لرفع كلمته، ولا بالظالمين لرفعته، فالإيمان لا يرتفع إلا بالحق، ولا تقوم دولته إلا على أيدي أبنائه الصادقين بدعوته، المخلصين لله .
ولم يُفكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمره وقد وجد أن قريشًا قد نابذته العداء، ووقفت في وجه دعوته، وحالت بينه وبين الناس، لم يُفكر أبدًا في أن يستفيد من الخلافات القائمة بين القبائل، ولا من العداوات الناشئة بين المدن، ولا من المنافسات الموجودة بين الرجال لينهض بدعوته، ويُنشئ دولته، وإنما انكفأ على نفسه مع المؤمنين الذين صدقوه يُعلمهم، ويدعو سرًا، وتحمّل وتحمّلوا، وصبر وصبروا، وضحّى وضحّوا حتى أيّد الله دينه، ونصر عبده.
لم يُفكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُثير بني عبد مناف- وهو منهم- على غيرهم من البطون القرشية، وينتصر بهم، وينشر دعوته بين بني عبد منافٍ، من بني هاشم، والمطلب، ونوفل، وعبد شمس.
ولم يفكر أبدًا أن يثير عمه أبا لهب عبد العزى بن عبد المطلب على الوليد بن المغيرة المخزومي، أو على أمية بن خلف ورءوس الكفر الآخرين، وينتصر بأبي لهب، ويسمو بين عشيرته الأقربين.
ولم يخطر على باله أن يلجأ إلى بعض القبائل التي بينها وبين قريش عداوات أو ثارات، ويجمع القبائل ويغزو قريشًا، ويلزمها أن تدين له وتخضع، بعد أن ذاق منها وأصحابه ما ذاقوا من العذاب والأذى.
ولم يخطر على باله أن ينتقل إلى يثرب- وهي كمكة على الكفر- ويبعث الخلاف ويُقاتل مشركين بمشركين، ولكنه انتقل إلى يثرب، وقد غدا اسمها:المدينة، لما أسلم بعض أهلها، وقاتل بهم مشركيها ومشركي أم القرى حتى نصره الله، وأقام دولة الإسلام، وحطّم الأصنام، وأذلّ الشرك.
إن الإسلام دعوة مُتميزة لا تقبل الانتصار بالشرك أو بالكفر، وأعداء الله من مشركين وكفار:
} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[51]{ 'سورة المائدة' .
وفي الجاهلية كانت هناك أحلاف بين الأوس وبين بني قريظة من يهود، كما كانت بين الخزرج وبين بني قينقاع وبين النضير من يهود، فلما جاء الإسلام قضى على هذه الأحلاف، وقطع تلك الأواصر فكان المسلمون أمة واحدة من مهاجرين، وأوس، وخزرج، وآخرين من القبائل الأخرى تجمعهم كلهم رابطة الإسلام، وتربطهم جميعًا:'لا إله إلا الله، محمد رسول الله'.
يمكن أن يكون بين المسلمين وغيرهم موادعة، أي: لا يخون أحدهم الآخر، ولا يعتدي بعضهم على بعض، وقد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة ليكون أهل المدينة جميعًا ضدّ من تسوّل له نفسه بغزو المدينة، وحتى لا يأتي الأعداء من خارج المدينة، ويعتمدوا على اليهود، ويكون المسلمون بين شقي الرحى: الأعداء من الخارج، واليهود من الداخل، وهذا ما حدث في غزوة الخندق، فعندما رجع الأحزاب عن المدينة عُدّ اتفاق اليهود مع الأحزاب خيانةً للمسلمين، وساروا إليهم وأوقعوا فيهم تلك الوقعة المعروفة بـ [غزوة بني قريظة].. وكذلك عندما خان بنو قينقاع من يهود السملمين بعد معركة بدر أخرج بنو قينقاع من المدينة، ورحّلوا عنها فساروا إلى خيبر، ووادي القرى، والشام.. ولما خان بنو النضير المسلمين بعد معركة أحد أخرجوا من المدينة، وأجلوا عنها فانطلقوا إلى خيبر، ووادي القرى، والشام.(153/1)
وهذا يدل على أن الموادعة يمكن أن تكون بين المسلمين وغيرهم، ولكن ليس يعني أن المسلمين كانوا ضعفاء فوادعوا من هم أقوى منهم، واتفقوا مع أقوياء يستمدون منهم النصر، ويأخذون منهم النجدة والدعم والسلاح، يُوادع المسلمون غيرهم حتى يقووا هم بأنفسهم لا بغيرهم، لا يرتمون بديار سواهم ويعيشون في كنفهم، ثم يقولون: نُحالفهم، وعندما وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود كان هو القوي، والمسلمون هم الأعلى، وفي الساعة التي يرون اليهود يُريدون التلاعب، أو يبدو منهم الغدر، أو تظهر منهم الخيانة يمكنهم أن يتصرّفوا بهم كما يشاءون، وقد لاحظنا أنهم أجلوا بنو قينقاع، ورحّلوا بني النضير، وأوقعوا ببني قريظة، ويهود لا يستطيعون فعل شيء، فالمسلمون هم الأقوياء وخصومهم هم الضعفاء، المسلمون لا يخونون ولا يغدرون، أما أعداؤهم فإن فكروا بهذا؛ فإن المسلمين قادرين على كل تصرّف.
ويمكن أن يكون بين المسلمين وغيرهم ميثاق أي أن يكون اتفاق بين الطرفين ألا يحدث بينهم قتال، وهذا ما حدث في صلح الحديبية، إذ كان من شروط ذلك الصلح أن تضع الحرب أوزارها بين الطرفين، وهذا لا يعني أن أحدهما ركن إلى الآخر، وإنما بقي كل جانب يأخذ حذره من الآخر خوف الغدر، ويستمر في استعداده خوفًا من اللقاء المرتقب بين الجهتين، والمسلمون لا يغدرون، ولا يخونون، ومطلوب منهم أن يتموا الميثاق إلى مدته .
ويمكن أن يكون هناك اتفاق بين المسلمين وغيرهم على عمل شيء أو قيام أحدهما بدعم الآخر، فالمسلمون وهم يتقدمون فاتحين في بلاد العراق وقد ظهرت قوتهم وبدا تفوقهم؛ طمع في التقرب منهم بعض القبائل التي كانت تقيم هناك من غير الفرس، ومنها قبائل عربية، وكان من بينها بنو تغلب وكانوا على النصرانية يخالفون المجوسية دين الفرس، فعرضوا على المسلمين مساعدتهم في القتال فوافقهم المسلمون على أن يُقاتلوا وحدهم كي لا يدخلوا وسط المسلمين ويمكنهم علم شيء فيما إذا كانوا يفكرون بغدر أو خيانة.
هذه الاتفاقات وهذه الأحلاف التي عقدها المسلمون أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيام خلفائه الراشدين مع غير المسلمين.. وهكذا كانت أيام قوة المسلمين في كل عصورهم ومراحل حياتهم، وتنطلق من نقطتين اثنتين:
المسلمون هم الطرف الأقوى، ولا يعقد المسلمون حلفًا أو اتفاقًا أبدًا وهم الجانب الأضعف كي لا يكونوا تبعًا لغيرهم، وقوة ملحقة بجماعة أخرى.
يُملون شروطهم على الآخرين ما داموا هم الأقوى ويلتزمون بشروطهم، ويراقبون حليفهم فإن بدر منه شيء يخالف الشروط أو يسيء للمسلمين أدّبوه.
ويُريد بعض المسلمين اليوم أن يغالطوا: تبريرًا لمواقفهم فيدّعون أنه يحقُ للمسلمين التحالف مع غيرهم، ويقفون عند هذا الكلام ويسكتون عن جانب القوة لينطبق مع ما يريدون تحقيقه.
إن كلامهم هذا صحيح ولكنه ناقص مبتور إذ لم ينظروا إلى القوة وجانب الشروط، كالذي يقرأ شطرًا من الآيات، ويترك الشطر الآخر:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى[43] { 'سورة النساء' فيقرأ: :} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ { ويترك:}وَأَنْتُمْ سُكَارَى { .
وقد عقدوا التحالف مع غير المسلمين بناء على مُغالطاتهم هذه، وكانوا الجانب الأضعف، فأصبحوا تبعًا لغيرهم، ومجموعة ملحقة بسواهم؛ فأذلوا بذلك المسلمين، وزادوهم ضعفًا إلى ضعفهم، ثم لحق بهم أتباعهم، فأيدوهم من غير تفكير، وتبعوهم دون استعمال عقل، فوضعوا المسلمين في آخر الركب، واستعلى عليهم من كان دونهم، وتجرأ عليهم من كان لا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
من رسالة'المغالطات وأثرها في الأمة' للشيخ/محمود شاكر(153/2)
أحمد ديدات .. شيخ المناظرين ...
ربما لا نعرف كثيرا من البلدان إلا بأشهر شخصياتها، ولا شك أننا حين نذكر كلمة "جنوب أفريقيا" فإن اسم "نيلسون مانديلا" سرعان ما يندفع إلى أذهاننا، ليس وحده، ولكن بالطبع سيكون معه اسم "أحمد ديدات" ففي الحين الذي كان يخوض فيه الأول نضالاً سياسيا لتحرير البلاد من داخل زنزانته، كان الثاني يقود نضالا عقديا لتحرير العقول من الخلط والغلط…
وأجدني -بعد أن تعرضت لشخصية ديدات بالكتابة- أستطيع أن أقول بلا وجل: إن أحمد ديدات قد أحدث دويا في الغرب بمناظراته الشهيرة التي ذاعت منذ منتصف السبعينيات وما زال صداها يتردد حتى اليوم.. فالحديث حول تناقضات الأناجيل دفع الكنيسة ومراكز الدراسات التابعة لها والعديد من الجامعات في الغرب لتخصيص قسم خاص من مكتباتها لمناظرات ديدات وكتبه وإخضاعها للبحث والدراسة سعياً لإبطال مفعولها.
ورغم إصابة الداعية الكبير بشلل تام في كل جسده -عدا دماغه- يلزمه الفراش منذ عام 1996 فإن الرجل واصل دعوته... فسيل الرسائل المتدفق عليه يوميا من جميع أنحاء العالم لم ينقطع ويصل في المتوسط إلى 500 رسالة يومية سواء بالهاتف، أو الفاكس أو عبر الإنترنت والبريد.
الحانوت الجامعة
أكمل "ديدات" تعليمه في المرحلة الابتدائية، لكنه عند نهاية السنة الثانية من المرحلة المتوسطة، توقف عن التعليم واضطرته ظروف الحياة إلى البحث عن عمل لكسب قوته ومساعدة أسرته، فلم يجد سوى ذلك الحانوت الصغير ليعمل به نظير أجر شهري. وقطع ديدات صلته تماماً بالمدرسة، وانهمك في عمله، ولم يكن يدري أن ذلك الحانوت الصغير سيكون بمثابة جامعة كبرى، فقد بدأ في شراء نسخ من الأناجيل المتنوعة، وانهمك في قراءاتها ثم المقارنة بين ما جاء فيها فاكتشف تناقضات غريبة وأخذ يسأل نفسه: أي من الأناجيل هذه أصح؟ وواصل وضع يده على التناقضات وتسجيلها لطرحها أمام أولئك الذين يناقشونه بحدة كل يوم في الحانوت.
رفاق على طريق الدعوة
يبدو أن ديدات حين كبر وأصبح شاباً يافعاً واتسعت ثقافته ونضج فكره وواصل تعليم نفسه.. أدرك حينئذ أن خير وسيلة للدفاع عن الإسلام هي الهجوم.. وذات يوم تعرف ديدات على صديق عمره الأول "غلام حسن فنكا" من جنوب أفريقيا الحاصل على الليسانس في القانون والذي يعمل في تجارة الأحذية، وقد جمعت بين الرجلين صفات عديدة.. أهمها: رقة المشاعر.. والاهتمام بقضايا الإسلام.
التقى "غلام" مع ديدات في رحلة البحث والدراسة والقراءة المتعمقة في مقارنات الأديان، وساعد ديدات كثيراً في التحصيل العلمي وصقل الذات.
وفى تلك الآونة كانت ملكة المناظرة قد نضجت لدى أحمد ديدات من خلال مناقشاته اليومية التي تطورت إلى مناظرات على نطاق ضيق مع القساوسة في مدن وقرى صغيرة داخل جنوب أفريقيا، وحين أصبحت الدعوة تملك "غلام" قرر التفرغ تماماً عام 1956، واتفق الرجلان في نفس العام على تأسيس "مكتب الدعوة" في شقة متواضعة بمدينة ديربان، ومنه انطلقا إلى الكنائس والمدارس المسيحية داخل جنوب أفريقيا حيث قام أحمد ديدات بمناظراته المبهرة والمفحمة.
لقد جاب البلاد بطولها وعرضها ومعه رفيق دربه "غلام" وأحدث اضطرابًا في الوسط الكنسي ومن ثم المجتمع كله، وهز مفاهيم ومعتقدات راسخة ومقدسة واستطاع تغييرها، وأحدث ثغرة داخل الكنيسة بعد أن تحول المئات بإرادتهم إلى الإسلام إثر حضور مناظراته أو بعد زيارته في مكتبه الذي تحول إلى منتدى للزائرين والوافدين من كل مكان.
كيب تاون .. أم أحمد ديدات تاون؟!!
ثم تعرف ديدات بعد ذلك على "صالح محمد" وهو من كبار رجال الأعمال المسلمين، وكيب تاون مدينة ذات طبيعة خاصة، حيث تتميز بكثافة سكانية إسلامية عالية، لكن أوضاع المسلمين ليست على ما يرام، وبالمقابل تتميز بأغلبية قوية ومنظمة جدًّا من المسيحيين، بالإضافة إلى أنها ذات موقع مهم ولها أهميتها التجارية والسياسية.
لكل هذه الأسباب قام "صالح محمد" بدعوة "ديدات" لزيارة المدينة، حيث رتب له أكثر من مناظرة مع القساوسة في المدينة، ولكثرة عددهم ورغبتهم في المناظرة فقد أصبحت إقامة ديدات في كيب تاون شبه دائمة، وتمكن ديدات من خلال مناظراته أن يحظى بمكانة كبيرة بين سكانها جميعاً الذين تدفقوا على مناظراته حتى أصبح يطلق على "كيب تاون".. أحمد ديدات تاون!!
وهكذا صار غلام حسن وصالح محمد ملازمين لديدات في حله وترحاله، وأصبح الرجلان يمثلان جناحي طائر ينطلق به إلى الفضاء محلقاً في جولات ناجحة ومناظرات فتحت عشرات الآلاف من القلوب والعقول للإسلام فاهتدت إليه، الجناح الأول: غلام حسن الذي لازمه في البحث والدراسة والقراءة فكان كمزود الوقود.
والجناح الثاني: صالح محمد الذي تولى ترتيب المناظرات من الألف للياء متحملاً كل الأعباء، فكان كممهد الطريق أمام ديدات.
التواضع .. أقصر طريق إلى القلوب(154/1)
إن أهم ما يتمتع به ديدات "تواضعه".. ورغم ما حققه من شهرة واسعة، فقد ظل محتفظاً بتواضعه وبساطته في كل شيء بدءًا من ملبسه حتى سيارته الصغيرة من طراز (فولكس فاجن) القديم، وكل من عايشه أو تعامل معه عن قرب انتبه إلى هذا الملمح فيه؛ ما ساعده على نجاح دعوته وجذب الناس إليه، بالإضافة إلى ذكائه الاجتماعي فهو دقيق الملاحظة، لا يترك شاردة ولا واردة إلا لاحظها بدقة وتوقف عندها.
هذه العوامل الشخصية والبيئية المحيطة به تضافرت مع إخلاص ووفاء أصدقائه الذين جردوا أنفسهم للوقوف وراءه في رحلته الدعوية.. تضافرت في صياغته وإنضاجه وجعلت منه نموذجا للداعية المسلم، ولذلك فإنه قبل أن يخرج إلى العالم في أول مناظرة عالمية عام 1977 بقاعة لندن الكبرى "ألبرت هول" كانت جنوب أفريقيا كلها تعرفه جيداً بعد أن عاينت فيه مناظراً من طراز فريد.. وللأسف فإن رفيقيه غلام حسن فنكا وصالح محمد قد توفيا قبل أن يصحباه في رحلته هذه إلى لندن، لكنهما تركا إلى جانب ديدات تلامذة كُثْرا، يعد أقربهم اليوم إليه هو "إبراهيم جادات".
الدعوة لآخر رمق ..
500 رسالة يوميا تصل لمكتبه في ديربان، يطلب معظمها نسخاً من مناظراته وكتبه كما أن زائري مسجده الكبير في ديربان من الأجانب يصل تعدادهم إلى أربعمائة سائح أجنبي يوميا، يتم استقبالهم وضيافتهم من قبل تلامذة ديدات، كما يتم إهداؤهم كتبه ومحاضراته ومناظراته التي جاءوا يطلبونها.
يحاول ديدات فيما يخص منهجه أن يقوم بـ "التوريث" لضمان استمرار نهجه في الدعوة إلى الله بالمناظرة، فأنشأ 6 وقفيات في ديربان من بينها المركز العالمي للدعوة الإسلامية، والذي يقوم على "الدعوة على طريقة ديدات"، ويجري تنظيم دورات لمدة عامين تتضمن (8 كورسات) ويقوم بالتدريس فيها علماء ودعاة، ويشارك فيها دارسون من جميع أنحاء العالم رجالاً ونساء لتعلم هذه الطريقة الفريدة.
كما أن ثمة وقفية أخرى لتشغيل معاهد مهنية لتدريب المهتدين إلى الإسلام على حرف جديدة، مثل النجارة والكهرباء يكسبون بها قوتهم. ويطمح المسئولون في مؤسسات ديدات إلى مد يد الرعاية والتطوير لتواكب هذه المؤسسات.
حلم الرجل ..
كانت أهم أمنية لديدات هي ما عبر عنها بقوله: "لئن سمحت لي الموارد فسأملأ العالم بالكتيبات الإسلامية، وخاصة كتب معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية".
لقد كان ديدات يتطلع لطباعة معاني القرآن الكريم، وقد أكد ذلك لأعضاء مجلس أمناء المركز في زيارتهم الأخيرة له حاثاً إياهم على ضرورة طبع معاني القرآن الكريم ونشرها في العالم: "ابذلوا قصارى جهودكم في نشر كلمة الله إلى البشرية.. إنها المهمة التي لازمتها في حياتي…".
وفي سعيه الدءوب لطباعة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية كثيراً ما يستشهد الشيخ ديدات بجهود الكنيسة في ترجمة وطباعة الإنجيل إلى 2000 لغة، ولا يزال الشيخ متفائلا بأن المسلمين سيطورون قدراتهم وإمكاناتهم لطباعة معاني القرآن الكريم بالملايين، وتوزيعها في العالم، إن شاء الله.
هل تتحقق البشارة؟
وقد تعلق ديدات بهذا الهدف منذ أن رأى رؤيا في منامه، يرويها رفيقه إبراهيم جادات قائلاً: "في عام 1976م روى لنا الشيخ ديدات أنه رأى في منامه أنه يقدم بيده مليون نسخة من القرآن الكريم لكل من يناظره حول الإسلام.. وبعد أن استيقظ من منامه أخذ على نفسه عهداً بطباعة وتوزيع مليون نسخة من معاني القرآن الكريم في كل مكان يذهب إليه من العالم".
وعندما أصيب بالمرض عام 1996م كان الشيخ قد أتم توزيع 400 ألف نسخة من معاني القرآن الكريم مترجمة بواسطة العالم البارع "يوسف علي" أشهر مترجم لمعاني القرآن، يضيف السيد إبراهيم جادات: "وقد استدعاني الشيخ بعد مرضه، وحمّلني أمانة إكمال هذه المهمة، والحمد لله ما زلت أقوم بإكمالها بالتعاون مع المركز العالمي للدعوة الإسلامية برئاسة الأستاذ أحمد سعيد مولا الذي أكد مراراً أن المركز تعهد للشيخ بضمان استمرار نشر رسالة القرآن الكريم على نطاق واسع ودون انقطاع…".
كاتب المقال: شعبان عبد الرحمن
المصدر: إسلام أون لاين(154/2)
أحمد زروق "
الشيخ سالم جابر ـ أعده ابن شعيب المالكي
ليبيا بلد العلماء فيما مضى وهى الآن ديار القراء ، وهذه كوكبة جليلة وشموس منيرة من الذين تنسّموا عبيرها وترعرعوا على أرضها يعيش معهم... فإننا نبدأ بعلم جمع بين العلم والعمل ، وبين القول والفعل شخصيا... هو الفقيه الزاهد والعالم الناقد والواعظ الماهر والمؤلف المحقق صاحب التصانيف الغزيرة والمعارف الكثيرة الشيخ :ـ
( أحمد زروق )
مولده ونشأته :ـ
ولد أحمد زروق بمدينة فاس بالمغرب يوم الخميس طلوع شمس الثامن والعشرين من محرم سنة ست وأربعين وثمانمائة هجرية ، وتوفى أبويه وهو صغير فكفلته جدته وحرصت على تعليمه ؛ فكانت تأخذه معها إلى مجلس شيخها العالم الصالح أبى محمد العبدوس كلما ذهبت لتقرأ عليه مع أختيه فاطمة وأم هاني ، وكأنها أرادت لحفيدها أن يرضع لبان الفقه والعلم فيُكوّن نمو الجسد والروح والعقل والفكر... فشب محبا للعلم والمعرفة وأثرت هذه البيئة العلمية الصالحة في حياته إذ لم يبلغ السادسة عشرة من عمره حتى اخذ وحفظ متون التوحيد والفقه ودرس علوم الشريعة على مشايخ فاس وعلمائها .
ثم تاقت نفسه إلى الرحلة من أجل العلم والتبحر في علوم الشريعة .
رحلاته :ـ
رحل إلى تونس ودخل الزيتونة ودرس على علماء مدينة تونس ، وأخذ عنهم ، ثم قصد كعبة العلماء ومحط أنظار الفقهاء الأزهر الشريف ، فرحل إلى مصر ومكث في الأزهر سبع سنوات ينهل من معينه ويعب من مورده ويأخذ من فقهائه علما وعملا ، من فقه وتفسير وحديث وتوحيد وتصوف وتعلم السلوك والأخلاق والعبادة والتقوى كما يتعلم العلم وأكثر من ذلك .
ثم أخذه شوق العباد وحنين الزهاد فقصد بيت الحرام للحج والزيارة ، ثم رجع إلى مدينة فاس فنشر فيها ما تعلمه وفاء منه لوطنه الأصلي ومسقط رأسه ولكن كل ذي نعمة محسود... فدبر له بعض الظلمة مكيدة فنصحه شيخه الزيتوني بمغادرة مدينة فاس فغادرها إلى مصر وبقى فيها فترة من الزمن وعكف على علم التصوف وعَلِم إن العلم والتحصيل لا فائدة منه ولا غاية له إلا إذا دلَّ صاحبه على الطريق وأخذه بيده إلى حسن السلوك وعرف أن ثمرة العلم والعمل ، وأيقن أن أعلى درجات السالكين الإحسان والتي بُيّنتْ في حديث جبريل المشهور عن مراتب الإسلام والإيمان والإحسان وحَوّل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمل ورأى التصوف الصحيح السليم من الإفراط والتفريط بعيدا عن الشطحات والبدع والخرافات والأوهام .
ولم يُلقِ الشيخ عصا الترحال... وعندما أراد الخلوة والعبادة حط رحاله في مدينة أوجلة والتي تبعد عن مدينة بنغازي حوالي 400 كم ، منقطعا للعبادة والتقوى ومازالت آثار هذا الشيخ باقية إلى الآن حيث يوجد مسجد أثرى يقال أن الشيخ كان إماما فيه ، وهذا المسجد يتميز سقفه بشكل هندسي غريب يتلاءم مع طبيعة الصحراء ، وبعض أهل هذه الواحة لا يعرفون شيئا عن علم الشيخ زروق ، وإنما يعرفونه وليّاً ينسبون إليه الكثير من الكرامات وينسبون إليه عددا من المبالغات ، وهذا جهل مركب في حق هذا الشيخ يشاركه فيه كثير من أهل بلادنا ، فلا يعرفون فقه هذا الرجل ولا علمه .
ثم استقر به المقام فختمت رحلاته بمدينة مصراتة التي تقع شرق مدينة طرابلس 200 كم على ساحل البحر .
شيوخه:ـ
صحب الشيخ زروق جماعة من المباركين لا تحصى كثرة ، بين فقيه وعالم منهم القوري والمجاصي الكبير وقرا عليهم القرآن برواية نافع المدني ، والشيخان على السطى وعبدا لله الفخار وقرأ عليها رسالة ابن أبى زيد القيرواني في الفقه المالكي قراءة وبحثا وتحقيقا ....والشيخ عبد الرحمن المجد ولي وأخذ عليه الرسالة القدسية وعقائد الطوسي في التصوف والتوحيد .
وذكر الشيخ زروق أنه أخذ عن القوري بعض التنوير وسمع عليه البخاري كثيرا وتفقه في كل أحكام عبد الحق الصغرى وجامع الترمذي وجميع هؤلاء المشايخ وغيرهم ممن اخذ عنهم المغاربة .....أما من أخذ عنهم من المشارقة (النور السنهوري والحافظ الدميري والحافظ السخاوى ) والذي قال في كتابه الضوء اللامع عن الشيخ زروق ( وبقى سنة مديما للاشتغال عند الجوجري وغيره في العربية والأصول وغيرها وقرأ عليه بلوغ المرام وبحث في الاصطلاح بقراءته إلى أن لقيني بمكة سنة 894هـ وصار له أتباع ومحبون وكتب )
تلامذته:ـ
ممن أخذ عن الشيخ زروق ونهل من علمه ، الإمام القسطلاني صاحب إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري وغيره ، والحطاب الكبير شارح مختصر خليل والخروبى الصغير ...وممن أخذ عنه في بلاد الحجاز زين الدين القسطنطينى نزيل مكة ، والشيخ عبدا لوهاب الشعراني صاحب الميزان في الفقه ، وممن أخذ عنه من ليبيا العارف بالله الشيخ عبد السلام الأسمر الفيتوري نزيل زليتن ، وممن لازمه مثل ظله شمس الدين اللقاني ، وناصر الدين اللقاني الأخوان ، وقد تركا بلداهما وهاجرا منها ليتعباه ويعيشا معه في مصراتة .
مؤلفاته :ـ(155/1)
لم يألُ الشيخ الزروق جهدا في بث علوم الشريعة وتنقيتها مما علق بها من غرائب وعجائب ، ومن يطلع على قائمة كتبه يعلم أن هذا الرجل يعد دائرة معارف إسلامية وموسوعة علمية ؛ كثير المراجع في وقت كانت الكتب فيه مخطوطة ، ناقدا بارعا شارحا لكثير من الذخائر ، ذو نفس طويلة في البحث والاستقصاء ، عالما بالتبويب والتصنيف ؛ كأنه درس علم البحث وفن التأليف ، محاربا للبدع في أسلوب الداعية والخبير بأسباب البدع وعلاجها .
بعض كتبه المطبوعة :ـ
· شرح رسالة ابن أبى زيد :جزين مطبوع ومعه شرح ابن ناجى وقد اعتمد على الشرح وأثنى عليه كثير من العلماء ومن بينهم العدوى في حاشيته على الرسالة .
· شرح الحكم العطائية ،مطبوع ومحقق .
· النصيحة الكافية لمن خصه الله بالعافية .
· الوظيفة الزروقية : وهى تشمل على بعض الأفكار ولقيت عناية فائقة من الكتاب والناشرين .
· قواعد التصوف .
الكتب المخطوطة :ـ
وهى كثيرة تصارع السوس محبوسة بين الجدران مثل غيرها من المخطوطات الإسلامية ، والتي لم تلق أي عناية من الكتاب والباحثين ، ولا من دور النشر في بلادنا ، وكم أتمنى أن يقيض الله لهذه المخطوطات من يخرجها إلى النور فتكون لدينا مكتبة ليبية إسلامية قرآنية خاصة ، وللأسف حتى الكتب المطبوعة التي ألّفَهَا علماء بلادنا لا توجد في مكتباتنا ولا حاولت دور النشر إعادة طبعها .
بينما كم من كلام هزيل وديوان شعر ركيك ورواية مدمرة للأخلاق والسلوك وكتب داعية للانحلال والتفكك الاجتماعي تطبع وتوزع وتظهر في صور وأثواب تأخذ أبصار الناظرين وتميل قلوب الناظرين .
ولكن كم من لؤلؤة في قاع البحر مدفون ، وذهب في باطن الأرض مخزون ، وكم من سمك طافح على السطح مرئي ذو رائحة كريهة ، وكم من جيف على سطح الأرض يتأذى منها العباد والبلاد ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
أقل شيء نقدمه من حقوق هذا الشيخ علينا أن نذكر بعض مخطوطاته بعد أن ذكرت كتبه المطبوعة :ـ
· مناسك الحج في الفقه .
· شرح القطابية في الفقه .
· شرح الدقائق والحقائق للتلمساني
· شرح الوغليسية .
· تعليق على البخاري .
· تعليق على مسلم .
· شرح مختصر خليل .
· البدع والحوادث .
· علم مصطلح الحديث .
....................................وغير ذلك كثير .
خاتمة المطاف :ـ
وبعد هذا الزهد والعبادة والعمل والتألق والبحث والترحال والتجوال آن لروح هذا الفقيه التقى أن تصعد إلى بارئها فتوفى رحمة الله عليه بمدينة مصراتة ودفن بها وقبره معروف إلى الآن ، وكانت وفاته سنة 899هـ بمنطقة زروق ....فجزاه الله عن الإسلام والفقه الإسلامي كل خير .
الشيخ سالم مفتاح جابر
خطيب وواعظ بمكتب الهيئة العامة
للأوقاف وشؤون الزكاة.بنغازي(155/2)
أحمد ياسين .. وشواهد الصمت المبين حسام عبد القادر صالح*
أخيرا ترجل فارس الجهاد بعد أن بلغ ذروة سنام الإسلام، وصار قدوة الأنام في عصره، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا، إنه أحمد ياسين، بلا ألقاب أو مسمّيات، فما حاجته للألقاب، وماذا عسانا أن نقول غير أحمد ياسين، هل نقول الشيخ، أم الشهيد، أم المجاهد، أم البطل، أم المصابر، أم المرابط، أم الصخرة، أم المؤسس، أم القدوة، أم الأستاذ، أم الإمام، أم العَلَم، أم القدوة، أم الأمة، إني إجلالاً لقدره لا أصفه إلا بـ أحمد ياسين.
أحمد ياسين لم يدهشني استشهاده فقد كنت مستيقناً بأن الله تعالى سيختار له هذه النهاية لأنه هو الذي وضعه في الطريق، وما أدهشني حقاً هو غدر يهود الجبان، وما تعيشه أمتنا من هوان، وشواهد الصمت المبين الذي عاشه أحمد ياسين، بروحه وجسده الذي لم يبق منه سوى رأس مرفوعة ولحية بيضاء وابتسامة وادعة.
تساؤلات حيرى وإجابات خجلى:
لقد سألت نفسي مراراً هل أكتب عن أحمد ياسين أم لا؟ هل أكتب بالمداد أم الدموع أم الدماء؟ وسألتها من أنا؟ حتى أكتب عن أحمد ياسين تلك القمة الشماء التي تتقاصر دونها الكتوف، وأين تلك الكلمات التي يمكن أن تفي الرجل حقه ومكانته.
في الحقيقة لم أجد بلاغاً مبيناً غير الصمت، وقد صدق من قال: "رب صمت مبين"، فإن أحمد ياسين بحياته وتاريخه صمت مبين، بقعوده وسكونه الذي يحرّك السكون، بل حتى بكلماته التي تخرج من فمه ـ لا تكاد تتلقفها الأسماع ـ فتفعل في فعل السحر في يهود الجبناء.
غير أنه مادمنا قد لذنا بالصمت المبين وقررنا أن نكتب عنه فهاك شواهده:
مهرجان الكلمات:
بعد سماع وكالات الأنباء وهي تذيع خبر استشهاد أحمد ياسين وجدت أن الحروف قد تراصت والكلمات قد تقاطرت وجاءت على قدر، لتشكل مشهداً حياً متصل الحلقات، وكانت كل كلمة من ذلك الخبر (الفاجعة) لها دلالاتها الموحية وظلالها الشفيفة.
وكنت أقف عند كل كلمة في ذلك الخبر وأتأمل عظمة الخبر والرجل والكلمات.
استشهد ـ أبو محمد ـ أحمد ـ إسماعيل ـ ياسين ـ صباح ـ الاثنين ـ صلاة ـ الفجر ـ مسجد ـ المجمع ـ الإسلامي ـ حيَّ ـ صبرا ـ غزّة (غُزّى).
ما قل ودل:
في اليوم الثاني من استشهاده، رحت أقلب الصحف، فهالتني عشرات الكلمات والمقالات والمفردات التي سطرت في حقه ولكني لم أجد أبلغ من ذلك الصمت المبين الذي بدا على عمود الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد، الذي خذلته الكلمات فأناب عنها السواد الذي اتشح به عموده (ما قلّ ودلّ)، وقلت في نفسي إن لم يصنع الشيخ ما صنع، لما قلّ في عموده، ولا دلَّ.
صمت دهراً ونطق شعرا:
أجد نفسي مجبراً على أن أثبت أن للصمت أحياناً بياناً، كما للعيي لسانا، فمن صمت دهراً نطق يوم رحيل أحمد ياسين شعرا!
نعم.. إنه ذلك الصديق الجامعي الشاب الذي ما أن سمع باستشهاد أحمد ياسين بعد المحاضرة الصباحية الأولى حتى قابلني بعد المحاضرة الثانية وهو يحمل أول قصيدة نظمها في حياته، بعد سماعه لنبأ استشهاد أحمد ياسين، ورب صمت مبين.
العزلة والصمت المبين:
فقط في يوم استشهاده قدّر الله لشاب آخر أن يكون أحمد ياسين هو الشيخ الذي يعلمه الدرس الميداني في الحدود الشرعية الصحيحة للعزلة. لقد كان ذلك الشاب يلحّ على زميله في الجامعة أن يعيره كتاب العزلة للخطابي ليوم واحد فقط، إلا أن زميله كان يعتذر دائماً بأدب، ويخبره أنه لم يقرأ الكتاب بعد، ويعده بأن يعيره الكتاب قريباً.
وفي اليوم الذي تحصل فيه الشاب على الكتاب استشهد أحمد ياسين، فوجد الشاب نفسه ممسكاً بالكتاب (العزلة) وهو يجول ويصول مخالطاً لإخوانه الطلاب في مظاهرة هادرة تجوب أنحاء الجامعة وهي تعلي صوتها بالتكبير والتهليل وهتافات الوعيد لإسرائيل، وبين الحين والآخر ينظر إلى غلاف الكتاب ثم ينظر إلى قدميه المغبرتين، وإلى صوته المبحوح من الهتاف، ويتعجب!!
لم يتوقف نشاط الشاب يومذاك في حدود الجامعة فحسب بل خرج مع الطلاب في مسيرة كبيرة لتقديم واجب العزاء والنصرة للمسلمين في فلسطين، وبعد أن رجع إلى البيت أيقن الشاب أن أحمد ياسين قد علمه اليوم درساً ميدانياً علمياً يعرف به متى تكون العزلة وعن من؟ ومتى تكون الخلطة ومع من؟
كل ذلك كان قبل أن يفتح كتاب العزلة ليجد قول الخطابي: (باب في لزوم القصد في حالتي العزلة والخلطة... كن مع الناس في الخير، وكن بمعزل عنهم في الشر)أ.هـ(156/1)
أحناه على ولد في صغره... هل أنت أم ناجحة ؟
مجرمون في المهد:
مفكرة الإسلام : يؤكد علماء النفس أن الشخصية السيكوباتية أو الأجرامية هي في الأصل نتاج لبيئة أسرية غير سوية، إما تكون بفقد الأم بالموت أو الطلاق، أو بغيابها عن أولادها خارج المنزل، أو بفقد الأب لنفس الأسباب السابقة، أو بفقد الأسرة أبًا وأمًا.
وبلا شك أن البيئة الأسرية الطبيعية تعتبر من العناصر الأساسية في عملية التنشئة الاجتماعية، وفي بناء النمو النفسي السليم للطفل.
ولا يختلف اثنان على أهمية الرعاية الوالدية في مرحلة مبكرة من طفولة الأبناء، فعلاقة الطفل على درجة كبيرة من الأهمية، نظرًا لتأثيرها في تنشئة الطفل وتكوين شخصيته، وبدون شك فإن فقدان الأبناء لرعاية والديهم وخاصة الأم؛ يؤدي إلى كثير من الآثار السلبية على الأبناء.
والسؤال الآن: ماذا نقصد بالرعاية والحنان؟
وما نريده هنا هو إحاطة الطفل بالحب والحنان، والرعاية والعطف المتوازن المعتدل، الذي يمنح الطفل الإحساس بالأمن والاطمئنان، والثقة بنفسه وبالآخرين، ويساعد على استقراره ونموه نموًا نفسيًا صحيحًا؛ فينطلق بعد ذلك في حياته ناجحًا من جراء هذه الشحنة النفسية من الحنان والحب المتوازن.
والآن نتساءل: هل هناك آثارًا للقسوة والتدليل الزائدين؟
إن القسوة الزائدة، والتي تبدو في الضرب والعقاب، وتوجيه النقد لتصرفات الطفل؛ لها أثراها النفسية والاجتماعية السيئة على الأبناء.
وكذلك التدليل والحماية الزائدة، والمبالغة في رعاية الطفل لها أثرها السيئ أيضًا على شخصية الطفل.
وملاك الأمر الاعتدال بين هذا وذاك؛ فتكون الأم حازمة من غير عنف، رقيقة من غير ضعف.
فالأم المسلمة رحيمة بأولادها، فهم يحتاجون إلى الحضن الدافئ، والحب والحنان الصادق لينشأوا نشأة نفسية صحية خالية من الأمراض والأزمات والعقد.
الحاجات الوجدانية للأطفال:
إن الحاجة إلى الحب والحنان والأمن تُعد من أهم الحاجات الوجدانية للأبناء وخاصة الرغبة في الأمن، ولن يتقدم الأبناء في حياتهم إلا إذا اطمأنوا وشعروا بالأمن، ففقدان الأمن والحب يترتب عليه القلق والخوف وعدم الاستقرار.
وتذهب التربية الإسلامية إلى أن حنان الوالدين وخاصة الأم لازم لإحساس الطفل بالأمن والاطمئنان، وهو ضروري لزيادة ثقته بأمه، ومن ثم ثقته بنفسه ثم ثقته بالمجتمع بأسره، ويؤكد ضرورة حنان الأم ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على نساء قريش في هذه القصة العجيبة.
وهل يُرفض هذا العرض:
هذه أم هانئ فاختة بنت أبي طالب رضي الله عنها، أخت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وبنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراوية حديث الإسراء، فرق الإسلام بينها وبين زوجها هبيرة، وكانت قد انكشفت منه عن أربعة بنين، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم هانئ : يا رسول الله، لأنت أحب إليّ من سمعي ومن بصري، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلت على زوجي تعني رسول الله أن أُضيَّع بعض شأني وولدي، وإن أقبلتُ على ولدي أن أضيع حق زوجي، وهنا امتدحها النبي صلى الله عليه وسلم وشكر لها ذلك، فقال:
[[خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده ]]. متفق عليه.
والسؤال هنا: لماذا نساء قريش خير نساء ركبن الإبل؟
لقد أجاب رسول الله على هذا السؤال، والسبب في خيريَّتهن هو العطف والحنان على الأولاد، مع رعاية الزوج وحفظ ما يملك من مال.
هل تحبين عزيزتي الأم المسلمة أن تكوني من خير النساء؟
ومن منا لا تحب، إذًا فاسلكي مسلك نساء قريش وأم هانئ رضي الله عنها في حنانها على أولادها، ورعايتها لزوجها وماله، كما أشار الحديث الشريف.
وهذا هو هدي ديننا، يريد أن تكون الأم نبع حب وحنان، ودفقة عاطفة ورعاية، وموجه اهتمام وتضحية واحتضان، وترنَّمي معي قول الشاعر حطان بن المعلي:
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
إن هبت الريح على بعضهم تمتنع العين من الغمض
هذا الري العاطفي يتحقق للأمة المسلمة على عكس الأمة الغربية، التي امتصتها الحياة المادية، وأنهكها عملها اليومي المستمر، ففقدت الشعور بهذا الري العاطفي الأسري.
وقد عبَّرت عن هذا كله السيدة سلى الحفار، إحدى عضوات الحركات النسائية في بلاد الشام بعد زيارتها إلى أمريكا فقالت [ من المؤسف حقًا أن تفقد المرأة أعز وأسمى ما منحتها أياه الطبيعة، وهذا التعبير خطأ لأن المانح هو الله تعالى، وأعني أنوثتها، ثم سعادتها، لأن العمل المستمر المفني قد أفقدها الجنات الصغيرات التي هي الملجأ الطبيعي للمرأة والرجل على حد سواء، والتي لا يمكن أن تتفتح براؤها ويفوح شذاها بغير الأم وربة البيت، ففي الدور وبين أحضان الأسرة سعادة المجتمع والأفراد، ومصدر الألهام، وينبوع الخير والأبداع.
برنامج عملي للأم الحنون:
لإشباع حاجة الطفل إلى الحب والحنان والأمن، عليك عزيزتي الأم المسلمة اتباع الخطوات التالية:(157/1)
1- التقبيل: فالقبلة دليل على رحمة القلب لهذا الطفل الصغير، وتأكيد لعلاقة الحب بين الكبير والصغير، وهي سنة ثابته عن رسولنا، فمما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدم ناس من الأعراب على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ قالوا: نعم، فقالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [[ وأملك أن كان الله قد نزع منكم الرحمة ]]. صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة.
ويروي أبو هريرة أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل حسينًا، فقال: إن لي عشرة من الولد ما فعلت هذا بواحد منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[ من لا يرحم لا يرحم ]]. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
2- الملاعبة والمداعبة: وهذا هو نهج رسولنا مع الأطفال، فكان يلاعبهم ويضاحكهم، فعن أنس قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا، حتى يقول لأخ لي صغير: [[ يا أبا عمير، ما فعل النغير؟]]، كان له نغير يلعب به فمات. متفق عليه.
ولا شك أن الملاعبة لها أثرها الطيب في نفس الطفل.
3- تقديم الهدايا: والهدايا لها أثرها على النفس يقول صلى الله عليه وسلم [[ تهادوا تحابوا ]]. حسنه الألباني في صحيح الجامع.
ويمكن ربط الهدايا بالتشجيع على الطاعة؛ كالمحافظة على الصلوات والصيام وغير ذلك، وأيضًا ربط الهدايا بالتفوق الدراسي، وفي تغيير بعض السلوكيات؛ كالفوضى وعدم النظام في غرفة الأولاد، مما يساعده على انجاز الأعمال بانشراح صدر وسرعة.
4- المسح على الرأس: وهذا هو هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم، فكان يمسح على رأس الأطفال وعلى خديهم وهو يكلمهم، وهو صورة من صور العطف والحنان والحب والقرب.
5-حسن استقبال الأولاد وتفقد أحوالهم: فكان صلى الله عليه وسلم يقوم لابنته فاطمة إذا دخلت عليه يرحب بها، ويقبلها ويجلسها في مجلسه إلا في مرضه الذي توفى فيه، فإنه رحب بها وقبلها ولكن لم يقم لها عليه الصلاة والسلام، وعلى الأم تفقد أحوال أبنائها والسؤال عنهم، وما فعلوا بعد عودتهم من المدرسة لتشعرهم بالاهتمام والحب.
6-التسوية بين الأبناء سواء كانوا بنينًا أو بناتًا: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: [جائتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني، فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فأخذتها فقسمتها بين أبنتيها، ولم تأكل منها شيئًا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته حديثها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم [[ من اُبتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن؛ كن له سترًا من النار ]]. رواه البخاري ومسلم.
فعلى الأم المسلمة أن تعدل بين أبنائها، وتنظر إلى البنين والبنات بعين واحدة من الرحمة والعدل والرعاية والحنو، فقد قال صلى الله عليه وسلم : [[ أتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ]]. متفق عليه.
7- الدعاء لهم لا عليهم: الأم المسلمة لا تدعو على أولادها كما أمرنا رسولنا الكريم.
ففي حديث جابر الطويل الذي قال فيه رسول الله: [[ لا تدعو على أنفسكم، ولا تدعو على أولادكم ولا تدعو على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم ]]. صحيح مسلم.
بتطبيق هذا البرنامج عزيزتي الأم المسلمة تصلين إلى أفضل النتائج مع أبنائك ؛ فالبيت الذي يكون الأب سقفه، والأم قلبه، ويغشاه الحب والرحمة والوعي والإيمان؛ فهو البيت الذي يخرج الإنسان المسلم المتوازن الواثق بنفسه(157/2)
أحوال النساء في الجنة
سليمان بن صالح الخراشي
دار القاسم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإني لما رأيت كثرة أسئلة النساء عن أحوالهن في الجنة وماذا ينتظرهن فيها أحببت أن أجمع عدة فوائد تجلي هذا الموضوع لهن مع توثيق ذلك بالأدلة الصحيحة وأقوال العلماء فأقول مستعينا بالله:
فائدة (1):
لا ينكر على النساء عند سؤالهن عما سيحصل لهن في الجنة من الثواب وأنواع النعيم، لأن النفس البشرية مولعة بالتفكير في مصيرها ومستقبلها ورسول الله لم ينكر مثل هذه الأسئلة من صحابته عن الجنة وما فيها ومن ذلك أنهم سألوه : ( الجنة وما بنائها؟ ) فقال : { لبنة من ذهب ولبنة من فضة...} إلى آخر الحديث. ومرة قالوا له: ( يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ ) فأخبرهم بحصول ذلك.
فائدة (2):
أن النفس البشرية – سواء كانت رجلا أو امرأة – تشتاق وتطرب عند ذكر الجنة وما حوته من أنواع الملذات وهذا حسن بشرط أن لا يصبح مجرد أماني باطلة دون أن نتبع ذلك بالعمل الصالح فإن الله يقول للمؤمنين: وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [الزخرف:72]. فشوّقوا النفس بأخبار الجنة وصدّقوا ذلك بالعمل.
فائدة (3):
أن الجنة ونعيمها ليست خاصة بالرجال دون النساء إنما هي قد أعدت للمتقين [آل عمران:133]، من الجنسين كما أخبرنا بذلك تعالى قال سبحانه: ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة [النساء:124].
فائدة (4):
ينبغي للمرأة أن لا تشغل بالها بكثرة الأسئلة والتنقيب عن تفصيلات دخولها للجنة: ماذا سيعمل بها؟ أين ستذهب؟ إلى آخر أسئلتها.. وكأنها قادمة إلى صحراء مهلكة! ويكفيها أن تعلم أنه بمجرد دخولها الجنة تختفي كل تعاسة أو شقاء مر بها.. ويتحول ذلك إلى سعادة دائمة وخلود أبدي ويكفيها قوله تعالى عن الجنة: لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين [الحجر:48]، وقوله: وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون [الزخرف:71]. ويكفيها قبل ذلك كله قوله تعالى عن أهل الجنة: رضي الله عنهم ورضوا عنه [المائدة:119].
فائدة (5):
عند ذكر الله للمغريات الموجودة في الجنة من أنواع المأكولات والمناظر الجميلة والمساكن والملابس فإنه يعمم ذلك للجنسين ( الذكر والأنثى ) فالجميع يستمتع بما سبق. ويتبقى: أن الله قد أغرى الرجال وشوقهم للجنة بذكر ما فيها من ( الحور العين ) و ( النساء الجميلات ) ولم يرد مثل هذا للنساء.. فقد تتساءل المرأة عن سبب هذا !؟
والجواب:
1- أن الله: لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون [الأنبياء:23]، ولكن لا حرج أن نستفيد حكمة هذا العمل من النصوص الشرعية وأصول الاسلام فأقول:
2- أن من طبيعة النساء الحياء – كما هو معلوم – ولهذا فإن الله – عز وجل – لا يشوقهن للجنة بما يستحين منه.
3- أن شوق المرأة للرجال ليس كشوق الرجال للمرأة – كما هو معلوم – ولهذا فإن الله شوّق الرجال بذكر نساء الجنة مصداقا لقوله : { ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء } [أخرجه البخاري] أما المرأة فشوقها إلى الزينة من اللباس والحلي يفوق شوقها إلى الرجال لأنه مما جبلت عليه كما قال تعالى أومن ينشأ في الحلية [الزخرف:18].
4- قال الشيخ ابن عثيمين: إنما ذكر – أي الله عز وجل – الزوجات للأزواج لأن الزوج هو الطالب وهو الراغب في المرأة فلذلك ذكرت الزوجات للرجال في الجنة وسكت عن الأزواج للنساء ولكن ليس مقتضى ذلك أنه ليس لهن أزواج.. بل لهن أزواج من بني آدم.
فائدة (6):
المرأة لا تخرج عن هذه الحالات في الدنيا فهي:
1- إما أن تموت قبل أن تتزوج.
2- إما أن تموت بعد طلاقها قبل أن تتزوج من آخر.
3- إما أن تكون متزوجة ولكن لا يدخل زوجها معها الجنة، والعياذ بالله.
4- إما أن تموت بعد زواجها.
5- إما أن يموت زوجها وتبقى بعده بلا زوج حتى تموت.
6- إما أن يموت زوجها فتتزوج بعده غيره.
هذه حالات المرأة في الدنيا ولكل حالة ما يقابلها في الجنة:
1- فأما المرأة التي ماتت قبل أن تتزوج فهذه يزوجها الله – عزوجل – في الجنة من رجل من أهل الدنيا لقوله : { ما في الجنة أعزب } [أخرجه مسلم]، قال الشيخ ابن عثيمين: إذا لم تتزوج – أي المرأة – في الدنيا فإن الله تعالى يزوجها ما تقر بها عينها في الجنة.. فالنعيم في الجنة ليس مقصورا على الذكور وإنما هو للذكور والإناث ومن جملة النعيم: الزواج.
2- ومثلها المرأة التي ماتت وهي مطلقة.
3- ومثلها المرأة التي لم يدخل زوجها الجنة. قال الشيخ ابن عثيمين: فالمرأة إذا كانت من أهل الجنة ولم تتزوج أو كان زوجها ليس من أهل الجنة فإنها إذا دخلت الجنة فهناك من أهل الجنة من لم يتزوجوا من الرجال. أي فيتزوجها أحدهم.
4- وأما المرأة التي ماتت بعد زواجها فهي – في الجنة – لزوجها الذي ماتت عنه.(158/1)
5- وأما المرأة التي مات عنها زوجها فبقيت بعده لم تتزوج حتى ماتت فهي زوجة له في الجنة.
6- وأما المرأة التي مات عنها زوجها فتزوجت بعده فإنها تكون لآخر أزواجها مهما كثروا لقوله : { المرأة لآخر أزواجها } [سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني]. ولقول حذيفة – – لامرأته: ( إن شئت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تزوجي بعدي فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا فلذلك حرم الله على أزواج النبي أن ينكحن بعده لأنهن أزواجه في الجنة ).
مسألة: قد يقول قائل: إنه قد ورد في الدعاء للجنازة أننا نقول ( وأبدلها زوجا خيرا من زوجها ) فإذا كانت متزوجة.. فكيف ندعوا لها بهذا ونحن نعلم أن زوجها في الدنيا هو زوجها في الجنة وإذا كانت لم تتزوج فأين زوجها؟
والجواب كما قال الشيخ ابن عثيمين: "إن كانت غير متزوجة فالمراد خيرا من زوجها المقدر لها لو بقيت وأما إذا كانت متزوجة فالمراد بكونه خيرا من زوجها أي خيرا منه في الصفات في الدنيا لأن التبديل يكون بتبديل الأعيان كما لو بعت شاة ببعير مثلا ويكون بتبديل الأوصاف كما لو قلت لك بدل الله كفر هذا الرجل بإيمان وكما في قوله تعالى: ويوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات [إبراهيم:48]، والأرض هي الأرض ولكنها مدت والسماء هي السماء لكنها انشقت".
فائدة (7):
ورد في الحديث الصحيح قوله للنساء: { إني رأيتكن أكثر أهل النار...} وفي حديث آخر قال : { إن أقل ساكني الجنة النساء } [أخرجه البخاري ومسلم]، وورد في حديث آخر صحيح أن لكل رجل من أهل الدنيا ( زوجتان ) أي من نساء الدنيا. فاختلف العلماء – لأجل هذا – في التوفيق بين الأحاديث السابقة: أي هل النساء أكثر في الجنة أم في النار؟
فقال بعضهم: بأن النساء يكن أكثر أهل الجنة وكذلك أكثر أهل النار لكثرتهن. قال القاضي عياض: ( النساء أكثر ولد آدم ).
وقال بعضهم: بأن النساء أكثر أهل النار للأحاديث السابقة. وأنهن – أيضا – أكثر أهل الجنة إذا جمعن مع الحور العين فيكون الجميع أكثر من الرجال في الجنة.
وقال آخرون: بل هن أكثر أهل النار في بداية الأمر ثم يكن أكثر أهل الجنة بعد أن يخرجن من النار – أي المسلمات –قال القرطبي تعليقا على قوله : { رأيتكن أكثر أهل النار } : ( يحتمل أن يكون هذا في وقت كون النساء في النار وأما بعد خروجهن في الشفاعة ورحمة الله تعالى حتى لا يبقى فيها أحد ممن قال: لا إله إلا الله فالنساء في الجنة أكثر ).
الحاصل: أن تحرص المرأة أن لا تكون من أهل النار.
فائدة (8):
إذا دخلت المرأة الجنة فإن الله يعيد إليها شبابها وبكارتها لقوله : { إن الجنة لايدخلها عجوز.... إن الله تعالى إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا }.
فائدة (9):
ورد في بعض الآثار أن نساء الدنيا يكن في الجنة أجمل من الحور العين بأضعاف كثيرة نظرا لعبادتهن الله.
فائدة (10):
قال ابن القيم ( إن كل واحد محجور عليه أن يقرب أهل غيره فيها ) أي في الجنة.
وبعد: فهذه الجنة قد تزينت لكن معشر النساء كما تزينت للرجال في مقعد صدق عند مليك مقتدر فالله الله أن تضعن الفرصة فإن العمر عما قليل يرتحل ولا يبقى بعده إلا الخلود الدائم، فليكن خلودكن في الجنة – إن شاء الله – واعلمن أن الجنة مهرها الإيمان والعمل الصالح وليس الأماني الباطلة مع التفريط وتذكرن قوله : { إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت }.
واحذرن - كل الحذر – دعاة الفتنة ( وتدمير ) المرأة من الذين يودون إفسادكن وابتذالكن وصرفكن عن الفوز بنعيم الجنة. ولا تُغررن بعبارات وزخارف هؤلاء المتحررين والمتحررات من الكتاب والكاتبات ومثلهم أصحاب ( القنوات ) فإنهم كما قال تعالى: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء .
أسأل الله أن يوفق نساء المسلمين للفوز بجنة النعيم وأن يجعلهن هاديات مهديات وأن يصرف عنهن شياطين الأنس من دعاة وداعيات ( تدمير ) المرأة وإفسادها وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(158/2)
أخا الصدق والوفاء حبيبا د. عبد الحي يوسف*
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
أننا في زمان أكثر الناس فيه من الحديث عن أموات وأحياء، هم بميزان الشرع ليسوا أهلاً لأن ينوَّه بذكرهم ولا أن يقتدى بهم، فحريٌ بنا أن نتحدث عمن كان لله تقياً، وبأهل العلم حفياً، وعمن ورث المكارم كابراً عن كابر، نحسبه
فقد كان من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم أن يثني على من توفاه الله من أصحابه بما يعلم عنهم من خير وبر؛ فقال عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه بعدما دفنه ووضع على قبره حجراً (علامة أعرف بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي) وقال عن سعد بن معاذ رضي الله عنه (لقد اهتز عرش الرحمن لموته) وقال عن صاحبه جليبيب رضي الله عنه (قتل سبعة ثم قتلوه؛ هذا مني وأنا منه) وقال عن زوجه خديجة رضي الله عنها (والله ما أبدلني الله خيراً منها؛ لقد صدَّقتني إذ كذَّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمني أولاد النساء) وجرياً على هذه السنة النبوية فإنني أكتب اليوم عن صاحبي وأخي وحبيبي في الله تعالى/ محمد الحبيب أحمد الطيب الذي وافته المنية صبيحة الأربعاء الثاني والعشرين من صفر عام سبع وعشرين وأربعمائة وألف، بعدما ترك سيرة عطرة، وذكراً حسناً، وعملاً باراً، نحسبه كذلك ولا أزكيه على الله، وإنما أكتب عن الحبيب:
أولاً: وفاءً ببعض حقه عليَّ بعدما تتابع إحسانه وعمَّ بره وتواتر خيره، فكان ـ رحمه الله ـ آية من آيات الله في صدق الأخوة وطيب المعاشرة
وثانياً: شحذاً لهمتي وهمة إخواني في الاقتداء بهذا البرِّ الكريم في حَسَن صفاته وكريم خصاله وطيِّب أفعاله
وثالثاً: توثيقاً لتلك المآثر التي تُروى عنه، والتي رأيت كثيراً منها رأي العين، وعاصرت صاحبها ـ عن قرب ـ بضعة عشر عاماً
ولو أردت أن أعدد مناقب الحبيب ما وسعتني مقالة ولا مقالات، لكنني أنبه على بعضها؛ (ليزداد الذين آمنوا إيماناً)، وليعلم الناس أن في الأمة أخياراً وأبراراً وأطهاراً، وأن الخير لم ينقطع بعد
ورابعاً: تعزية للآل والأصحاب والإخوان ممن آلمهم فراقه، وشق عليهم موته؛ فلم تجفَّ منهم المآقي بعدُ، ولا كفت العبرات، ولولا عزاؤهم بموت محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأخيار من هذه الأمة من قبلُ؛ لعظُم جزعُهم وقلَّ صبرُهم، ولكن كما قال الأول:
اصبر لكل مصيبة وتجلَّدِ ** واعلم بأن المرء غير مخلد
وإذا ذكرتَ محمداً ومصابَه ** فاذكُر مصابك بالنبي محمد
وخامساً: إحياء لشرعة محمد صلى الله عليه وسلم في تخليد مآثر الطيبين والحديث عن أخلاق الصالحين، وقد أنزل الله عليه في القرآن (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة) وأنزل عليه (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) وأنزل عليه (وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه) إلى غير ذلك من آيات كثيرة نوَّهت بذكرهم، ورفعت من قدرهم
وسادساً: لأننا في زمان أكثر الناس فيه من الحديث عن أموات وأحياء، هم بميزان الشرع ليسوا أهلاً لأن ينوَّه بذكرهم ولا أن يقتدى بهم، فحريٌ بنا أن نتحدث عمن كان لله تقياً، وبأهل العلم حفياً، وعمن ورث المكارم كابراً عن كابر، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله تعالى.
الحبيب آية من آيات الله في البذل وحب المساكين، لا يكل ولا يمل، يقف أهل الحاجات بباب مكتبه وباب منزله، ويتربصون به حال خروجه من المسجد، ويلحُّون عليه فما غيَّر ذلك من خلقه شيئاً
لا أتحدث عن الحبيب غلواً فيه ـ معاذ الله ـ ولا مجاملة له أو مبالغة في مدحه، وقد عاد مرتهناً بعمله في قبره، بعدما فارق دنيانا فاستراح من نصبها وكدها (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) وإنما أتحدث عنه حديث من عرفه عن قرب بعد أن ألَّف الله بين قلبينا، وواءم بين روحينا، (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) فلله كم جمعتنا مجالسُ وخلوات، ولله كم ضمَّنا ثرى مزدلفة وعرفات، ولله كم كنا معاً في سفر وحضر، وصحة وسقم، وعسر ويسر، وفي تلك المواطن كلها كان الحبيب حبيباً لم تؤثر فيه السنون، ولم يطغه المال، أو تبدِّله الأيام: قرة عين، وطيب نفس، وطمأنينة قلب، وحسن خلق، وكرم أصل، بل كان الحبيب عطاءً وفيضاً، إيماناً وشكراً، صلاة وذكراً، قرآناً وبراً، حناناً وعطفاً، بل ـ والله ـ كنت في كل يوم أزداد يقيناً بأن الحبيب ليس إلا أخاً لي لم تلده أمي؛ لما وجدت من نصحه لي وحرصه عليَّ ورغبته في نفعي، وأرى فيه صورة تقرِّب إلى ذهني ما كان بين المهاجرين والأنصار من أخوة في الله وإيثار على النفس، وإن كان الحبيب ـ في حاله معي ـ هو الأنصاريُ والمهاجريُ معاً، قدس الله روح الحبيب، ونوَّر الله قبر الحبيب، وجبر الله مصابنا في الحبيب (وإن في الله تعالى عوضاً من كل تالف، وخلفاً من كل هالك)(159/1)
ولو أردت أن أعدد مناقب الحبيب ما وسعتني مقالة ولا مقالات، لكنني أنبه على بعضها؛ (ليزداد الذين آمنوا إيماناً)، وليعلم الناس أن في الأمة أخياراً وأبراراً وأطهاراً، وأن الخير لم ينقطع بعد والحمد لله، بل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالخيرات زاخرة، وبالمبرات عامرة:
أولاً: قال علماؤنا: البركة هي الخير والنماء والكثرة، وقد كنت ألمس ذلك في شخص الحبيب؛ حيث كان رحمه الله يدير تجارة ضخمة، تستلزم سفراً كثيراً وسعياً حثيثاً وعملاً دؤوباً، ومع ذلك تجده في المسجد مع الجماعة، وفي حلقة القرآن مع التالين، وفي مجلس العلم مع المتذاكرين، وفي المستشفى مع العائدين، وفي الجنائز مع المشيِّعين، فإن فاته ذلك لم تفقده في بيت العزاء مع المواسين، وفي الأعراس مع المهنئين، مع ممارسة للرياضة، وضرب في مناكب الأرض، وقضاء لمصالح الناس، وصلة للأرحام، وإحسان للجيران، ولا أجد لذلك تفسيراً سوى أنها البركة التي يختص الله بها من شاء من عباده
ثانياً: كان رحمه الله من العُبَّاد؛ فما فاتته الصلاة مع الجماعة قط، لا أقول مطلق الجماعة بل جماعة المسجد، حتى في مرضه العضال لما أُقعد عن الحركة، بلغ من علو همته وصدق عزيمته وحسن استعداده للقاء ربه، أن أقام في بيته وفي المسجد طريقاً زَلَقاً يستطيع أن يسير عليه بدراجته؛ لئلا يفوته فضل الجماعة، ولما أكثر الناس من لومه وطلبوا منه أن يصلي في بيته اشتد إباؤه، وكان ـ رحمه الله ـ يمكث في المسجد بين العشاءين؛ تخفيفاً للمشقة وطلباً للثواب، كما كان صواماً لا يخل بصيام الاثنين والخميس إلا لمرض أو سفر، حريصاً على نافلة الحج والعمرة ـ خاصة في رمضان ـ وله من الليل نصيب، وقد رأيت ذلك منه في بعض أسفاري معه؛ فلله دره من عابد.
ثالثاً: الحبيب آية من آيات الله في البذل وحب المساكين، لا يكل ولا يمل، يقف أهل الحاجات بباب مكتبه وباب منزله، ويتربصون به حال خروجه من المسجد، ويلحُّون عليه فما غيَّر ذلك من خلقه شيئاً، وكان رحمه الله يحرص على أن يحصي زكاته بنفسه، ويوزِّع بعضها أو أكثرها بنفسه، ولا يعلم باباً من أبواب الخير إلا حرص على أن يضرب فيه بحظ وافر، ويلوم إخوانه إذا سعوا في باب من أبواب الخير ولم يخبروه، وكأني به ممن عناهم ابن القيم رحمه الله حين قال ((احرص على أن تضرب مع أهل كل عبودية بسهم)) وقد شاد رحمه الله من المساجد الكثير الذي لا نعلمه ـ الله يعلمه ـ وطرق أبواباً من الخير حرص على أن تكون سراً بينه وبين الله تعالى، حتى إن إخوانه وخاصة أهله ما كان لهم بها علم، ولما كنا في عزائه رحمه الله جاء ناس يقولون: إن حبيباً بنى لنا مسجداً في الحتانة، وآخرون يقولون: بنى لنا مسجداً بمحلة كذا، وناس من جامعة الخرطوم يقولون: بنى مركزاً للنساء والتوليد بسوبا، وهذه ـ إن شاء الله ـ علامة الإخلاص ودليل الرقي العبادي الذي يستوجب به الحبيب ـ إن شاء الله ـ ظل عرش ربنا جل جلاله يوم لا ظل إلا ظله (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه) ولما كنا على شفير قبره جاء رجل يعزيني باكياً وقد سالت دموع عينيه على خديه قائلاً: أنا مريض بسرطان الصدر، وقد كان هذا الرجل ـ رحمه الله ـ يتعاهدني، فعظَّم الله أجر حبيب وأجزل له المثوبة، وأحسن إليه كما أحسن إلى عباده
رابعاً: كان الحبيب مثال وسطية الإسلام حقاً، فهو ناجح في عمله، بارٌّ بأهله، وصول لرحمه، محسن إلى إخوانه، محافظ على شعائر دينه، مكثر من الذكر والحج والعمرة، عامر لبيوت الله، يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة، وفي الوقت نفسه لا ينسى نصيبه من الدنيا، فهو حسن الهندام طيب الرائحة أنيق المركب والمسكن، يدير أعماله بكفاءة نادرة، وقد أحاط نفسه بخيرة من يعينه على بلوغ الكمالات، يحرص على أن يصحب زوجه وعياله في أسفار يروِّح بها عن نفسه وعنهم، يحب الطعام الجيد والعيش الهنيء، في عفة طُعمة وطيب كسب.
كان الحبيب مثال وسطية الإسلام حقاً، فهو ناجح في عمله، بارٌّ بأهله، وصول لرحمه، محسن إلى إخوانه، محافظ على شعائر دينه، مكثر من الذكر والحج والعمرة، عامر لبيوت الله، يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة، وفي الوقت نفسه لا ينسى نصيبه من الدنيا، فهو حسن الهندام طيب الرائحة أنيق المركب والمسكن، يدير أعماله بكفاءة نادرة(159/2)
خامساً: كان الحبيب نسيج وحده في تحري الحلال؛ فما كان يُدخل على نفسه حراماً أو مالاً فيه شبهة، قد أتته الدنيا وهي راغمة بعد أن بذل لها الأسباب المشروعة؛ فلم يُلهه ذلك عن طلب رضا ربه في اجتناب الشبهات، وقد كان رحمه الله فقيه النفس يحرص على السؤال قبل التلبس بالفعل، ويأخذ الدين بقوة، ولو كان على خلاف ما تهوى الأنفس، وما زلت أذكر كيف اتصل بي من تركيا ـ وقد غرقت له بضاعة في طريقها من إيطاليا ـ يسأل كيف يتصرف في مال قد وجب له؛ لأن الشركة المصدِّرة كانت قد أمَّنت على تلك البضاعة، فأفتيته بأن يأتي بالمال ليُنفق في وجوه الخير، ولم يُدخل ـ رحمه الله ـ على نفسه من ذلك المال شيئاً، ولا زلت أذكر أن ذلك المال كان يبلغ ثلاثمائة ألف دولار. وهذا ـ لعمر الله ـ هو الدين الحق الذي يميز به صاحبه الخبيث من الطيب
سادساً: الحبيب من خير الناس أخلاقاً، قد وطأ كنفه لإخوانه وخفض لهم الجناح فهو يمازحهم ويلاطفهم، يعطف عليهم ويرجو الخير لهم، لا يعرف الخصومة ولا العداوة؛ كأن الناس كلهم أحبابه، يغضي عن الزلات، مبدؤه مبدأ الصالحين الذين رفعوا شعار:
ليس الغبيُّ بسيِّد في قومه ** لكن سيِّد قومه المتغابي
يداعب الأطفال ويحنو عليهم ويهاديهم، وقد كنا نزور بعض الإخوة أحياناً؛ فينفر الصغار منا ويستوحشون من وجودنا، لكن الحبيب لا يلبث إلا قليلاً حتى يستولي على حب أولئك الأطهار، ويأسرهم بكرمه وأريحيته وطيب عشرته وجميل ابتسامته، وقد كنت ألحظ في الرجل رقة قلب لا أكاد أجدها عند كثيرين، ولا زلت أذكر صبيحة العيد ونحن بالمزدلفة، ولما نذهب بعدُ إلى منى، خرجت للوضوء؛ فتاه مني المكان، وما زلت أبحث عن الرفقة حتى كادت الشمس تطلع، ووصلت إليهم بعد عناء فلما رأوني استبشروا ـ وكلهم على خير وفضل وبر ـ سوى الحبيب الذي أقبل عليَّ ـ رحمه الله ـ يقبِّل رأسي في حركة عفوية دالة على حب وتقدير وحنان وأخوة، فاللهم أجزه عني خير ما جزيت أخاً عن أخيه وصاحباً عن صاحبه.
كان ـ رحمه الله ـ يخدم إخوانه في شعيرة الحج وكأنه أصغرهم، يرتاد لهم أطيب الأماكن ويكنهم من الحر والقر، ويسألنا إذا طعمنا: هل شبعتم أم آتيكم بزيادة!! ويقول أحياناً: اجمعوا لي ثيابكم حتى أذهب بها إلى المغسلة
وقد كان ـ رحمه الله ـ يخدم إخوانه في شعيرة الحج وكأنه أصغرهم، يرتاد لهم أطيب الأماكن ويكنهم من الحر والقر، ويسألنا إذا طعمنا: هل شبعتم أم آتيكم بزيادة!! ويقول أحياناً: اجمعوا لي ثيابكم حتى أذهب بها إلى المغسلة، فأعاد ـ والله ـ بفعاله سيرة السلف الصالحين والقوم الطيبين.
سابعاً: كلُّ ما ذكر عن الحبيب شيء، وصبره في مرضه ورضاه بأمر ربه شيء آخر، حيث ضرب لنا مثلاً في الصبر والثبات، ولقننا درساً عملياً في سلامة المعتقد وحسن الظن بالله تعالى، فقد كان رحمه الله قوياً فتياً، يمارس الرياضة غير أكول ولا شروب، ولا مكثر من السهر، أغلب نومه في العاشرة مساء، ومبدأ نشاطه منذ الفجر، تسير حياته وفق نظام دقيق، وهو ـ وفق مقاييس البشر ـ أبعد الناس عن الإصابة بالمرض، وفجأة يجد نفسه أسير داء عضال، لا يكاد يصيب من الناس إلا قليلاً، وهو يعرف تفاصيله ومآلاته، فقد كان رحمه الله مجيداً للإنجليزية، مكثراً من القراءة عن هذا المرض، وفي كل يوم يرى جسده يضمحل ويذوي، ويفقد حواسه الواحدة تلو الأخرى فلا يستطيع المشي ولا الحركة، ثم يعجز عن الكلام ويفقد شهيته للطعام، وهو في كل هذا صابر محتسب لا تفارقه ابتسامة الرضا بالقضا، وكان الناس ـ من محبيه ـ يدخلون عليه يعودونه ثم يخرجون يغالبون دموعهم، ولربما لم يستطع بعضهم لنفسه ملاكاً فيجهش بالبكاء بين يديه، وهو رحمه الله رابط الجأش قوي النفس لا تفارقه ابتسامته؛ كأنه ـ والله أعلم ـ يرى ما لا يرون، وقد أنزل الله عليه سكينته فاطمأنت نفسه وخشع قلبه، فلم يجزع ولم يفزع وقد أيقن بأن الله تعالى فعال لما يريد، بعد أن أخذ رحمه الله بالأسباب وطرق الأبواب، وهو في هذا كله متذرِّع بالتقى متدثر بالهدى، ولا زلت أذكر حين ألح َّ عليه بعض فضلاء الأطباء بالسفر إلى الصين لإجراء جراحة يغلب على الظن نجاحها وانتفاعه بها، فلم يسارع بل بقي يسأل ويستفتي ويستخير، حتى شرح الله صدره للذهاب، فأجرى تلك الجراحة وكان من أمر الله ما كان.
وفي سكرات الموت وكربات النزع طال عناءُ حبيب وعظم كربُه ـ رحمه الله ـ تطهيراً من الله له، وحسن خاتمة إن شاء الله، وقد جلس عند رأسه يلقنه الشهادة ويتلو عليه القرآن خيرة أهل القرآن ـ نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله ـ فكان مجلسه ـ وهو في سكرات الموت ـ مجلس ذكر وعلم؛ لأنه ـ في حياته ـ كان محباً للقرآن والعلم، كارهاً لسقط الكلام وقيل وقال؛ فأماته الله على ما عاش عليه، وأسأله أن يبعثه على مات عليه، وأن يجيره من فتنة القبر وعذاب النار.(159/3)
وبعد: فيا أهل حبيب ويا أبناء حبيب ويا إخوانه وأصدقاءه: بالله ثقوا وإياه فارجوا؛ فإن المصاب من حُرِم الثواب، قد كان حبيب آية في حياته وهو كذلك بعد موته، أما رأيتم كيف تدافع الناس للصلاة عليه وتشييعه، ولما يمضِ على وفاته سوى ساعتين أو تزيد قليلاً؛ حتى ضاقت بهم المقابر ولم يسعهم المكان فحملت جنازته إلى ميدان فسيح للصلاة عليه؟ أما رأيتم كثرة من يدعو له من العلماء وطلبة العلم وأهل القرآن والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام؟ أما رأيتم كيف جرت ألسنة الخلق بالثناء عليه؟ لقد كان في جنازته من الخلق ما لا يحصيه إلا الله، لا يجمعهم حزب، ولا توحدهم قبيلة، ولا تؤلف بينهم مهنة، بل (من كل حدب ينسلون) قد أتى الله بهم ليشهدوا جنازة حبيب بعد أن أسرهم بحسن خلقه وكرم معدنه، ولقد جاء بعض الشيوخ الفضلاء من الجزيرة يخبر أنهم قد صلوا عليه صلاة الغائب في خلوتهم؛ لما له من أياد بيضاء على أهل القرآن في تلك البقعة، وفي خطبة الجمعة ـ بعد وفاته بيومين ـ أجرى الله ألسنة الخطباء في عدد من المساجد بالثناء عليه والدعاء له، وهذه إن شاء الله علامة القبول (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) اللهم ارحم حبيباً، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم أفسح له في قبره، ونوِّر له فيه، وجازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفرانا، واجعل روحه في عليين، وتقبله في عبادك الصالحين، اللهم اجبر كسرنا في فراق حبيب، وعوضنا خيراً، وألهمنا وآله وإخوانه وأحبابه صبراً جميلاً؛ واجمعنا به في مستقر رحمتك ودار كرامتك؛ إنك أكرم مسئول وخير مأمول، والحمد لله في البدء والختام.(159/4)
أخبرني ما مرجعيتك التربوية؟
هل نتعامل مع أبنائنا بخلفيات تربيتنا؟الآباء والأمهات هنا بين موقفين أساسيين تتفرع عنهما أشكال عديدة:فمدرسة من الآباء والأمهات شعارها 'هكذا تربينا وتعلمنا من أهلنا فكان نتاجهم نحن، وهكذا ينبغي أن يتربوا هم ويتعلموا'.ومدرسة أخرى شعارها 'لا نريد أن يتعرضوا لنماذج من سوء التربية التي تعرضنا نحن لها'.وما بين هذه المدرسة وتلك يقع الأبناء فريسة لأفهام في التربية لا تعرف مدى صحتها ومدى مطابقتها لواقع الأبناء والبنات، وتلبيتها لحاجاتهم ومتطلباتهم النفسية والمادية.وهي عودة مرة أخرى إلى التعامل معهم بمنطق الآلات والأدوات، لا بمنطق الكيان البشري الذي هو خليط من المشاعر والأفكار وتقلبات الجسد المادية.* ولكي نفهم أبناءنا ونحسن تربيتهم لا بد لنا من فهم أنفسنا وفهم دوافعنا في تصرفاتنا. وفهم الخلفيات التربوية التي نتعامل بها مع أبنائنا.ما هي مرجعياتنا التربوية؟[1] مرجعياتنا: خبراتنا المكتسبة وخبرة الآباء والأجداد.أو كما يقال: مدرسة 'هذا ما تربينا عليه نحن وأخرجنا آباء وأمهات متحملين للمسئولية .. وهذا ما ينبغي أن يتربى عليه أبناؤنا'.لكن أيها الأب أيتها الأم إنكما بهذه المرجعية وحدها تحققان جانبًا مهمًا من جوانب التربية وطرق علاج المشاكل، لكن عدم تقبل هذا الجيل لهذه المرجعية وطرق العلاج يجعلنا بدون شك نتنبه أننا نغفل عوامل أخرى تضعف من إمكانية الاعتماد على هذه المرجعية كأساس للتربية وحل المشاكل.ومن ضمن هذه العوامل اختلاف البيئات وانتشار الفساد على مستوى ونطاق لم نعهده من قبل ـ على الأقل في فترات نشوئنا نحن ـ وكذا تنوع مؤسسات الفساد والإفساد ومنها ما افتقدناه من احترام الكبار بل وتعمد إهانتهم واعتبار سماع كلامهم أو نصائحهم تعبيرًا عن الضعف وذوبان الشخصية.فأنى لخبراتنا أن تكون كافية أو قادرة على مقاومة طوفان الفساد والإفساد الحالي أو تصلح بمفردها لمواجهة تربية هذا الجيل الفريد في اضطرابه وحيرته وتذبذبه.[2] مرجعياتنا: التقاليد والعادات والأعراف.إن العادات والتقاليد والأعراف وإن كانت تشكل جانبًا رئيسيًا في صياغة الفرد فكره وشعوره وثقافته وتربيته إلا أننا يجب أن ننتبه إلى التغير الجذري في التعامل مع العادات والتقاليد في مجتمعنا الحاضر وطبيعة توصيفها بين الغالب أبناء هذا الجيل ـ بالأخص ـ على أنها من دلائل الرجعية والتخلف.هذا مع مراعاة أمر آخر أن مجرد اختلاف البيئات ينعكس بشدة على اختلاف التقاليد والعادات.مثال:ـ مجرد الانتقال بالإقامة من الريف إلى المدن نجد المتنقل سرعان يخلع ثوب العادات والتقاليد بمجرد ملابسته للمدن وأخلاقياتها، ما لم يكن الدين هو دافعه للتمسك بهذه العادات والتقاليد.فهذه المرجعية لتربية أبنائنا لم تعد بالقوة الكافية لصيانتهم والحفاظ عليهم من غوائل هذه الدهر.[3] مرجعياتنا: الوسائل الإعلامية المختلفة وعلى رأسها التلفاز.هذه الوسائل يعتمد عليها كثير من الأباء والأمهات في البحث عن حلول لمشكلاتهم مع أبنائهم وحتى حل بعض خلافاتهم، والبعض الآخر لا إراديًا ـ يتأثرون بهذه التوجهات الإعلامية كل المشاكل، وذلك كثرة الاحتكاك بوسائل الإعلام.ولكن لحظة ... تابعوا معي ... المشاهد الآتية:ممثلون يدخنون [السجائر ـ الشيشة] ـ أناس يجلسون على المقاهي يتقابلون عليها ـ شباب يعاكسون ـ تمثيليات تروج أن منطق القوة والمكر والخديعة والغش هو الذي يفوز ـ نماذج لا تصل إلى المناصب العليا إلا بالتدليس والكذب والرياء والمداهنة ومدح الناس بما ليس فيهم ـ تروج وسائل الفساد من تعليم طرق شرب المخدرات وغيرها ـ عرض أزياء الموضة الحديثة التي رسالتها: تعالوا نتعرى زيادة ـ كيف تجذب المرأة الرجل؟ بالطبع ليس زوجها ـ كيف تسيطر المرأة على الرجل؟ ـ تحويل الزواج إلى مؤسسة عسكرية صراعية ـ تعظيم قضيا الصراع على الفتاة بين الشباب وافتح صفحات الحوادث واقرأ و..... و...... و........ أليست واحدة مما سبق إذا ترسخت لدينا ولدى أبنائنا بكافية لتدمير حياة أسرة كاملة فضلاً عن حياة شاب واحد من أبنائنا.وعلى الرغم مما قد يذكره البعض من فوائد متناثرة هنا وهنا في أجهزة إعلامنا إلا أننا بالمقارنة بحجم الفساد لا نملك إلا أن نقف متوجهين وخائفين من حجم الإفساد الحقيقي لعقول الأمة رجالاً ونساءً وشبابًا الذي يهدف إلى تعليمهم أساليب حياة لا تناسب ديننا وقيمنا ومجتمعنا.ولكن لا نملك في الوقت ذاته إلا الإشارة إلى القنوات الإسلامية الخالصة التي بدأت في النشوء حديثًا لتوجد البديل الإسلامي الراقي الخالي من المنغصات والمفسدات للحياة البشرية. وبذا أخي الأب أختي الأم يترجح لدي أن الاعتماد على وسائل الإعلام وعلى رأسها التلفاز كوسيلة لاستقاء الحلول لمشاكل الحياة اليومية إنما يعد إقدامًا متعمدًا على ما نعلم أنه يفسد حياتنا بصورة أو بأخرى.[4] مرجعياتنا: ما قام به الغربيون في علم النفس من دراسات(160/1)
متخصصة.إن ما قام به علماء الغرب من دراسات متخصصة في علم النفس والاجتماع، وفهم النفس وسبر أغوارها ومعالجة إشكالاتها تثير الإعجاب.ولكن علينا التنبه إلى أن الأصول التي اعتمدت عليها تلك الدراسات تختلف كلية عن الأصول والقيم والمبادئ التي تقود مجتمعاتنا الغربية والإسلامية.مثال على ذلك:تضخيم حجم الجسد وحاجاته ورغباته وتلبيتها له بدون قيد أو رقيب بدعوى أنه لا بد من إطلاق العنان للنفس لتحقيق ما تريده، لأن الكبت لحاجات النفس ومطالبها هو أول الطرق لتدمير النفس، وعدم توفير الجو المناسب لها للتحرر والإبداع، وفي المقابل إهمال جذري لحاجات الروح وغذائها وعقيدتها، وتفاعلها مع الكون من حولها.ومن هنا فإننا قد نؤيد الاستفادة بخلاصة الخبرات الغربية لكننا ننبه أنه لا بد أن تفهم في إطار من قيمنا ومبادئنا وأفكارنا.[أنصح بقراءة مقدمة كتاب دراسات في النفس الإنسانية للأستاذ/ محمد قطب حيث يوضح هذا الاختلاف تفصيلاً بين علم النفس الغربي وعلم النفس الإسلامي].[5] مرجعياتنا: استشارة أهل الاختصاص:ما هي نوعية مرجعية أهل الاختصاص المستشارين؟أهي دراستهم النفسية العلمية الغربية؟أم دراستهم العلمية الغربية المشبعة بدارسة واقعنا العربي الإسلامي؟ أم هي الدراسة العلمية الشرعية الإسلامية المستفيدة من النظريات الغربية الموافقة للتصور الرباني عن النفس والحياة والكون؟على أساس الإجابة يتحدد موقفنا من الاعتماد على هذا الشق كمرجعية.ولكن عندما تستشير كن صادقًًا في عرض شكواك، ومدى مساهمتك في هذه المشكلة سواء مساهمة سلبية أو إيجابية حتى تحصل على الاستشارة الدقيقة من أهل الاختصاص، والذين ذكرنا سابقًا أنهم لا بد وأن يكونوا من العلماء الشرعيين التربويين الذين أحاطوا بأصول التربية الإسلامية ومبادئها، واستفادوا من النظريات العلمية النفسية الغربية بما يوافق أصول الشرع الحنيف. وما خاب من استشار.[6] مرجعياتنا: التربية الإسلامية.كل المرجعيات التي سبق عرضها تتفق في أنها عوامل مرجعية متغيرة تبعًا للبيئة الزمانية والمكانية، كما أنها لا تملك من القدسية والثقة في النفوس البشرية درجة ثابتة.وهذا كله يؤدي إلى حدوث تضارب شديد في اعتمادها كمرجعيات تربوية، وحتى في مدى التسليم بما ينتج عنها من آراء وخبرات.فنحن بحاجة إلى مصدر ومرجعية تربوية ثابتة تمتلك من القدسية والاحترام في نفسية الجميع ما يجعلها تملأ مكانها، وكذا يمكن زراعة هذه القدسية والمرجعية في نفوس الأبناء والبنات لتكون قاعدة يتحاكم إليها الجميع، بها توضع الأمور في مواضعها وحجمها الحقيقي ونصابها. وهذه المرجعية هي التربية الإسلامية.ـ ولنا هنا لفته مؤداها أننا وإن كنا نقر بالتربية الإسلامية الموافقة لشرع الله تعالى باعتبارها المصدر الأساسي والمرجعية الأم لتربية أبنائنا وبناتنا، إلا أنه لا ينبغي إنكار الدور الحقيقي للعوامل السابقة كعوامل مساعدة في التربية، بقدر ما تحقق من التوافق مع التربية الإسلامية وتدعمها.ـ إن ما يعرف بمأساة الصراع بين الأجيال أو بمعنى آخر ظهور الفجوات في الحوار والفهم بين الآباء والأمهات من جهة والأبناء والبنات من الجهة الأخرى، هذه المشكلة لو بحثنا في أسبابها لأجملناها في سبب رئيس وهو عدم وجود القيادة الثابتة الواحدة التي يتحاكم إليها كافة الأطراف في معرفة الصواب والخطأ.وإذا وجدت فليس لديها من القدسية والتقدير لدى كلا الطرفين ما يجعلها قادرة على الإلزام بأحكامها.ـ لكننا نلاحظ أن كثيرًا مما نعتبره من المشاكل ونقوم بتوصيفه على أنه أزمات ما هو في الحقيقة إلا استيراد لتلك المشاكل وهذه الأزمات مع مجتمع يختلف في واقعة الحياتي وثوابته ومبادئه عن مجتمعنا وديننا وقيمنا.ـ لذا فنحن لسنا بحاجة لخلق أزمة كي نقوم بعلاجها, إنما بإقرارنا لثوابت تربيتنا الإسلامية، ونشوء الأبناء والبنات عليها يقينا الله تعالى كثيرًا من الشرور وتتحول الأزمات التي قد تصيب أبناءنا إلى أزمات عابرة لا حقيقية.ـ ولا يفوتني هنا أن ألفت انتباهك عزيزي الأب وعزيزتي الأم إلى أنه في ظل التربية الإسلامية فإن القدسية إنما تكون للشرع وتحقيق رضا الله تعالى، وإن احترام الأبناء للأبوين لا ينبثق أو ينبع من ذات الأبوين بل هو مما يضفيه عليهما الشرع الرباني، فيكون تحصيل رضاهما قربة أكثر منه واجب يؤدى، بل هو شرف يسعى إليه الابن والابنة.(160/2)
أخذ الأجرة على التبرع بالدم
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التعويضات المالية
التاريخ ... 18/1/1423
السؤال
01ما حكم أخذ أجرة (مال) مقابل الدم المتبرع به ؟
02 ماذا يفعل من سبق له أن تبرع بدمه وأخذ مالاً مقابله ؟
الجواب
01التبرع بالدم لنفع مسلم أو إنقاذه من الهلاك من أعظم القرب والطاعات التي يتقرب بها إلى الله ، قال الله –تعالى-:" وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" [المائدة:2] وفي الحديث" والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" رواه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أما المعاوضة بأخذ الأجرة مقابل ما يسمى بالتبرع بالدم، فهذا بيع ومعاوضة وليس تبرعاً وهو حرام في الشرع؛ لأن الدم محرم أكله وشربه والانتفاع به بنص القرآن " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ..." الآية [النحل:115]، وجاء في صحيح البخاري (2238) أن النبي – صلى الله عليه وسلم - : (نهى عن ثمن الدم ، وثمن الكلب ...) الحديث، وفي الحديث الآخر " إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه " رواه الدارقطني في سننه (3/7) وابن حبان في صحيحه (4938) من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- بهذا اللفظ وبغيره عند أبي داود (3488) وأحمد (2221)، وعلى هذا لا يجوز أخذ المال معاوضة عن التبرع بالدم بحال من الأحوال، والله أعلم.
02 من أخذ مالاً مقابل تبرعه بالدم فعليه أن يتوب إلى الله ، ويستغفر لذنبه ، وأرجو أن لا شيء عليه بأخذ هذا المال ؛ لأنه أخذه وهو يجهل الحكم الشرعي فيه -كما يبدو من سؤال السائل - وذلك لقول النبي – صلى الله عليه وسلم –:"إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" رواه ابن ماجة (2043) من حديث أبي ذر –رضي الله عنه-ورواه أيضاً برقم (2045) من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- وهو عند الحاكم (2855) وغيرهما. وحال السائل لا تخرج عن هذا الحديث، وإن كان لا يزال في نفس السائل حرج وتردد فعليه بالتصدق بهذا المال على الفقراء والمساكين ؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم –:" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" رواه الترمذي (2518) والنسائي (5711) من حديث الحسن بن علي –رضي الله عنهما-، وفقنا الله وإياك إلى العلم النافع والعمل الصالح .(161/1)
أخذ التعويض على التأمين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التعويضات المالية
التاريخ ... 20/3/1425هـ
السؤال
المرجو توضيح الضرورة الشرعية التي تستدعي التأمين كما هو مذكور في سياق الفتوى المعنونة بـ(أخذ التعويض من شركة التأمين).
الجواب
إن القواعد الشرعية في الفقه الإسلامي، منها: ما يستند مباشرة إلى دليل شرعي من الكتاب أو السنة، ومنها: يستند إلى اجتهاد واستنباط أصولي أو فقهي (فرعي)، ومثال النوع الأول: (الضرر يزال)، و(الضرورات تبيح المحظورات)، و(المشقة تجلب التيسير)، ومثال النوع الثاني: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، و(ما حرم سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة)، و(الاجتهاد لا ينقض بمثله)، وما كان من النوع الأول يجوز الاستدلال بالقاعدة في الفتوى والقضاء لاستناد تلك القاعدة إلى آية من القرآن أو حديث من السنة النبوية، وما كان من النوع الثاني لا يستدل بالقاعدة على إصدار الحكم أو الفتوى، وإنما يستأنس بها؛ لأنها لا تعدو أن تكون أمراً اجتهادياً بحتاً، فهي بحاجة إلى أن يستدل لها لا أن يستدل بها، والتفريق بين هذه القواعد والاستدلال لها أو عليها مبسوط في كتب القواعد، ويعرفه أهل العلم مما لا مجال لذكره هنا.
أما كيف تستدعي الضرورة جواز أخذ التعويض من شركة التأمين فالذي يقدّره المفتي أو القاضي الشرعي بعد النظر في سؤال المستفتي وحاله وحال الشركة التي تقوم بالتعويض له أو عنه، وما في العقد من شروط وما قد يعتريه من صحة وفساد، وهل عقد التأمين إجباري لا خيار للسائل فيه، إن كان كذلك فأخذ التعويض جائز من (باب الضرورات تبيح المحظورات)، وإن كان اختيارياً فلا يجوز له الدخول فيه، ثم إن (الضرورة تقدر بقدرها) فإذا كان الإلزام بالتأمين على نوع منه كالسيارات مثلاً فيكتفى به ولا يدخل في أنواع أخرى كالتأمين على عموم الممتلكات من بيوت، ومزارع، ومصانع، هذا كلّه إذا كان المفتي أو الحاكم يرى حرمة التأمين، أما لو كان يرى جوازه وحله فلا حاجة للاستدلال بقاعدة الضرورة، بل يستند حينئذٍ إلى قواعد أخرى معتمدة على دليل شرعي كقاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة)، و(الأصل في العقود الجواز)، وهكذا.
أما العالم وطالب العلم المتمكن الذي لا يحتاج أن يستفتي أو يقلد غيره في مثل هذه المسألة فإضافة إلى ما سبق، عليه أن يستفتي قلبه وخير له أن يأخذ لنفسه بالأحوط والعزيمة وإن أفتى الناس بالجواز والرخصة.
ونظراً إلى كثرة النوازل والوقائع المستجدة التي نزلت بالأمة اليوم مما لم يعرف عند السابقين من سلفنا الصالح كالتأمين ضد الغير، والتصوير، وعقود التأجير المنتهية بالتمليك، وبطاقات الائتمان، ونحو ذلك، ينبغي أن يفتى الناس بما لا يشق عليهم ما دام في النصوص والقواعد الشرعية متسع ومخرج، والنوع الأول من القواعد الشرعية التي مثلنا ببعضها تتسع لكل نازلة تنزل بالأمة، وهذا رحمة من الله بعباده، وسر من أسرار التشريع لهذا الدين الخاتم "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" [المائدة:3]، "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" [آل عمران:85]، "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [البقرة:185]، "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" [الأعراف:157].
فهذه الآية الكريمة ركزت على ست صفات يجب على الموقعين عن رب العالمين وورّاث النبوة –الحكام والمفتون- مراعاتها عند إصدار الأحكام والفتاوى حتى يكونوا من المفلحين، والدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، وما خير رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن في ذلك إثم أو معصية، والله أعلم.(162/1)
أخذ التعويض من شركة التأمين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 11/12/1422
السؤال
أنا شاب وقع لي حادث سير بالحافلة وأصبت بعض الشيء، وجرت العادة أن تصرف لك شركة التأمين مبلغاً من المال كتعويض عن الإصابة، للإشارة أنا لست مشتركاً في التأمين، ولكن صاحب الحافلة هو المشترك أفتونا.
الجواب
صاحب الحافلة هو المتسبب في إصابتك، ومن حقك الرجوع عليه عما لحق بك من ضرر، وبما أن صاحب الحافلة قد أمّن على حافلته وركابها ضد الغير فإن شركة التأمين قد عوضته عما لحق ركابها من ضرر. وعلى هذا فلا أرى عليك من حرج لو أخذت تعويضاً مقابل ما لحق بك سواء أخذته مباشرة من يد صاحب الحافلة أو أخذته من شركة التأمين؛ لأن الشركة حينئذٍ نائبة عنه في الدفع لك . أما من حيث الدخول في عقد التأمين مع شركات التأمين المنتشرة اليوم فأنا لا أنصح بالاشتراك معها حالياً ما لم تعدل في أنظمتها حتى تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، وأعود فأقول: لا حرج عليك في أخذ المبلغ التعويضي مقابل ما لحق بك من ضرر، فالإثم حينئذٍ إنما هو على صاحب الحافلة إن لم تدعه إلى التأمين ضرورة شرعية معتبرة، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد .(163/1)
أخطأ ابني [1]
أين هو حتى أريه خطأه؟ [الانتقام]
طبيعي كل الناس تخطئ!! لا يهم. [الإهمال واللامبالاة]
لا أعرف ماذا أفعل!! [عدم وضوح الرؤية]
سأكلم أمه لتكلمه!! [انقطاع الاتصالات]
هذه بعض المشاهد من تصرفات أبوية حال خطأ الأبناء ، ولعل الأغلبية العظمى إنما تتفاعل حال الخطأ تفاعل الغضب والرغبة في الانتقام من الابن بدعوى التأديب ، خاصة إذا كان الخطأ متكررًا ، وأشد من ذلك إذا كان الأب قد نبه على الابن ألا يخطئ هذا الخطأ فهنا تقع الكارثة.
ما هي الصورة الصحيحة لقنوات الاتصال بيننا وبين أبناءنا ؟
أنتباسط معهم فلا يحترموننا ؟
أم نحافظ على المسافات بعيدة فيهابونا ؟
هل تستطيع أن تقيم حوارًا ناجحًا مع ولدك ؟
هل يعاقب الابن على شيء لا يراه هو خطأ ؟ أم أن رأيه غير مهم ؟
هل يعتقد الأبوان بضرورة وأهمية الحوار الهادئ مع الابن أو الابنة ؟
هل تستغل سلطاتك كأب لفرض رأيك عليهم عندما تريد إنهاء النقاش ؟
كيف يمكنك التعبير عن مشاعر الحب والمودة إذا لم يكن بينك وبين أبنائك قنوات للحوار والاتصال ؟
عزيزي الأب .. عزيزتي الأم:
إنه لا بد من وضع سياسة واضحة للتعامل مع الأبناء ليس فقط عند وقوع الخطأ , بل كذلك عند الإثابة على الصواب ، لا بد من فتح قنوات اتصال قوية ومستمرة لتوفير ملجأ آمن للأبناء للاستشارة والنصح عند الحاجة ، ولاستخدامه كذلك عند الرغبة في التوجيه نحو التغيير لسلوك معين أو استحداث سلوك جديد والتوجيه إلى عمل معين.
* هذه بعض المعالم في كيفية إحداث التغيير السلوكي للشباب أو إنشاء سلوك جديد مع أهمية بيان ملاحظة خاصة وهي أن الطفل الذي كان يسمع الكلمة فينبهر ويسارع في التنفيذ لم يعد كذلك بل يحتاج إلى التودد والتلطف والفهم والاقتناع.
* معالم في التغيير السلوكي والتوجيه نحو سلوك جديد.
1ـ اجلس معه ... [كيف؟ متى؟ أين؟]
2ـ الرفق واللين.
3ـ أشعره بالأمان.
4ـ إنَّه الحوار وليست الأوامر.
5ـ أحسن الاستماع إليه.
6ـ أعطه حرية الاختيار.
7ـ الإثابة عند الإنجاز والمعاقبة عند التقصير.
8ـ الباب مفتوح فهلم إلينا.
9ـ الدعاء.
10ـ لمسه أبوية حانية وكلمة دافعة.
وفي هذا المقال نتناول بالتفصيل الحديث عن أول أربع معالم في التغيير السلوكي لأبنائنا نحو سلوك جديد:
[1] اجلس معه ... [كيف؟ متى؟ أين؟]
هل تريد أن تنفع ولدك أم تريد إرهابه ؟
إن الإجابة على هذا السؤال تساهم في تحديد شكل الجلوس وزمانه ومكانه، وقد قسم علماء التربية شكل الجلوس إلى أنواع ثلاثة:
أ ـ المجالسة الفوقية:
أنت جالس والابن واقف أمامك، وأنت توجه التعليمات وهو وضع المعلم، هذا النوع من المجالسة يبعث برسالة إليه 'افهم فأنا أعلم منك' وهذه لن تؤدي الغرض المطلوب بل كل تفكير الشاب في كيفية الرد على حضرتك، أو الاستماع وعدم الاهتمام بما تقول.
ب ـ المجالسة التحتية:
أنت واقف وهو جالس وهو وضع المحقق والرسالة التي يستوعبها الشاب المراهق، اسمع الكلام لأني أقوي منك، أستطيع ضربك في أي لحظة خاصة إذا كان الأب يدور حول الابن الجالس من أمامه ومن خلفه ويتحرك حوله بلا ثبات، وهذه الطريقة لا تفلح كذلك، لأن الابن إنما يكون متأهبًا للضرب سيأتيه من أي اتجاه، أو هو مضطرب لحركتك الكثيرة المضطربة.
ج ـ المجالسة المعتدلة:
وهو وضع الصديق إما أنتما الاثنين واقفين أو جالسين، وهذه وسيلة لإشعار المراهق بالراحة والاطمئنان بل والحب، فيندفع إلى المصارحة وحسن الاستماع والتجاوب بقوة مع الصواب.
* متى تجالس؟
في وقت مناسب ليس فيه انشغال ويكون الوقت كافي لحجم الموضوع، وفي غير طعام أو نوم.
* أين تجالس؟
في مكان مألوف بعيد عن أعين الناس في غير مكان المشكلة، ويفضل خارج المنزل والتغيير والانتقال معه طول الوقت.
[2] الرفق واللين:
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه' ويقاس ذلك بنبرة الصوت الهادئ غير المتعصب وتعبيرات الوجه والصبر في الحوار.
[3] أشعره بالأمان:
لكي يعبر المراهق عن نفسه بوضوح وصدق وقوة لا بد من شعوره بالأمان وعدم التهديد بل وعدم استخدام ما سيقوله عن نفسه مما قد يكون فيه انتقاص لذاته ضده بعد ذلك بفضحه أمام الناس أو أهله أو أصدقائه، فلا بد من شعوره أن الدافع على هذه الجلسة هي الرغبة في الإصلاح والتوجيه إلى عادة حسنة.
[4] إنَّه الحوار وليست الأوامر:
وكلمة حوار تعني كلامًا من طرفين وحديثًا متبادلاً بينهما وسواء كان الأمر متعلقًا بمشكلة لا بد أن نتفق على تجريمها أو سلوكًا نبتغي زرعه ونسعى للاتفاق على ضرورة فعله، فهناك محاذير في هذا الشق ومنها:
أ ـ لا لتصيد الأخطاء:(164/1)
المراهق كثيرًا ما لا يجيد التعبير بألفاظ عما يجيش بمكنون صدره فيستخدم ألفاظا غير دقيقة قد يساء فهمها، فاحرص على الاستفسار عن معاني الألفاظ المبهمة والبعد عن تحميل الألفاظ على تناقض الألفاظ خاصة إذا وفرت لابنك الشعور بالأمان وعدم الرهبة من تبعات الكلام.
ب ـ إياك وتحطيم الحوار:
باستخدام عبارات تدفع إلى اليأس مثل 'ماذا تريد أن تقول بعدما فعلته؟' 'لا فائدة'، 'انت بتحلم'، 'مش ممكن، مستحيل، لا أمل'.....'هذا كلام غير منطقي'، 'كلام لا يقوله عاقل' ومثله كثير مما يمتلئ به قاموس الآباء والأمهات مما هو كفيل بتحطيم أي أمل في حوار بناء.
في الجزء الثاني موعدنا مع باقي النقاط والمعالم العشر في توجيه السلوك وتغييره إلى سلوك جديد عند أبنائنا.
أخطأ ابني - 2
في هذا الجزء نتابع ما ذكرناه في المقال السابق من الحديث عن معالم التغيير السلوكي الواجب اتباعها حتى يتيسر لنا إحداث تغيير حقيقي في سلوك أبنائنا وإقناعهم بمساعدتنا في إحداث هذا التغيير:
[5] أحسن الاستماع إليه:
حتى يخبرك الشاب بمكنون صدره وخبايا نفسه لا بد من حسن الاستماع إلى النهاية حتى يمكنك تقييم الوضع بدقة ومن ثم إحسان التوجيه والصواب وتنبه 'إنما جعل الله لك أذنين وفم واحد حتى تتكلم نصف ما تسمع'.
ومهارة الاستماع لا بد من تعلمها ولها أشكال في التعبير للمراهق عن حسن الاستماع إليه ومنها:
1ـ النظر والتركيز على وجه المراهق مع عدم التحديق للعين.
2ـ إظهار الفهم لما يقوله بتحريك الرأس والتفاعل البسيط بالوجه إيجابًا أو سلبًا مع انفعالات.
3ـ تقليل ما يقطع الحديث كالنظر إلى غير المراهق أو الانشغال بغيره أو القيام لفعل شيء والعودة إليه وغيره.
وهنا لا بد من التأكد بدقة من صحة الرسالة المراد إيصالها من المراهق إلى محاوره، ويتم ذلك عن طريق الاستيضاح بمجموعة من الأسئلة التي توحي بالاهتمام من جهة وتضمن صحة الفهم من جهة أخرى.
1ـ أعطني مثالاً لتوضيح ما تريد؟
2ـ ما شعورك تجاه الموقف؟ وماذا تريد فعله؟
3ـ ما معنى هذه الكلمة؟ هذه الحركة؟ هذا التصرف؟
4ـ ما مدى أهمية هذا الموقف؟
5ـ هل لديك إضافات أخرى؟
[6] أعطه حرية الاختيار:
تريد أن تكسب الحوار فليكن ابنك شريكًا لك فيه.
لم لا تعطه الفرصة ليشارك برأيه حتى في الطريقة التي سيعاقب بها على التقصير والخطأ.
مجالات الاختيار:
أ ـ طرق حلول المشكلة.
ب ـ العقوبة نوعها وكميتها ومدتها.
ج ـ المكافأة نوعها وكميتها وكيف الوصول إليها.
د ـ أسلوب تنفيذ الأمر المطلوب منك.
تحديد: إياك والإهانة وتحطيم الآمال والطموحات على صخرة الواقع, دع للمراهق فرصة أن يحلم وأن يحاول تحقيق حلمه وادفعه إلى الأمام، ولا تثبطه وإياك أن يخرج المراهق محملاً باتهامه بالغباء وعدم الفهم.
وإلى الآباء والأمهات المتخصصين في تحطيم الطموحات والآمال ارفعوا أيديكم عن أبنائكم, فإن لم تناصروهم في أمالهم فلا تعينوا الشيطان عليهم وعلى تدمير طموحاتهم وأحلامهم.
[7] الإثابة عند الإنجاز والمعاقبة عند التقصير:
والمراد به شعور المراهق أنه لا شيء بلا مقابل, إن أحسن تتم إثابته، وإن أساء تتم معاقبته.
والإثابة تكون بتقديم كل محبوب ومرغوب لدى المراهق على قدر العمل المؤدى، وكذا العقوبة تتحدد أشكالها سواء كان بحرمان من محبوب أو المعاقبة باللوم سواء اللفظي أو البدني في الحدود الشرعية أو بالنظر، أو المعاقبة بخسارة بعض الحقوق والحرمان منها أو فقد ما كان قد وعد بالإثابة في حالة إنجازه.
[8] الباب مفتوح فهلم إلينا:
باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها, فلماذا نغلق أبواب العودة على أبنائنا بل وإعادة المحاولة مرات ومرات، ونسارع بفقد الأمل.
[9] الدعاء:
تنبه فدعاؤك مستجاب عند الله تعالى لولدك بنص الحديث، هذا إذا كان على ولدك فما بالك إذا كان له، فلا يفوتك هذا الباب فاستمسك فهو هو:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
وأحسن الظن بربك أنه مستجيب لك: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
[10] لمسة أبوية حانية وكلمة دافعة:
لمس شعر الرأس والوجه والقبلة والاحتضان وكلمات من نوعية: أريد فهمك .. أنا فخور بك .. أنا موجود متى احتجتني ... أحبك, هذه كلمات تدفع الأبناء إلى بذل الغالي والنفيس ولا تكلف شيئًا.
تنبه:
في حالة البنت: البنت التي لا تجد حب أبيها سوف تبحث عن الحب في مكان آخر وسترضى بأية بضاعة، فهي لا تجيد التفريق بين البضاعة الفاسدة والصالحة.
في حال الولد: الولد الذي لا يجد الحب السليم في محيط أسرته وبيئته سيبحث عنه بالخارج، بما يستتبعه من التعبير عنه بوسائل غير سوية في حب الرفقة صالحة أو فاسدة، أو بالعلاقات غير الشرعية.
حفظ الله شباب أمتنا من كل سوء وشر
ـــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
* مراهقة بلا أزمة. د/ أكرم رضا
أ ـ ترويض العاصفة.
ب ـ فنون تربوية.(164/2)
*سلوك المراهق المسلم المعاصر. د/ عبد الرحمن العيسوي
* عذرًا أنا مراهق. رضا المصري(164/3)
أخطاء الدراسات الغربية
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
أظهرت أخطاء الدراسات الغربية للنفس الإنسانية:
1-دراسة الإنسان دراسة جزئية غير متكاملة ، فأعطت هذه الدراسة صورة خاطئة ومشوهة عن الإنسان وترتب على ذلك مفاهيم خاطئة في الاقتصاد والاجتماع والآداب والفنون والتعامل الفردي والجماعي .
2-أن جل هذه الدراسات لا تميز كثيراً بين الحالات السوية والحالات المنحرفة ، لأنها فقدت المعيار الذي ترجع إليه لمعرفة الاستواء والانحراف .
3-دراسة النفس الإنسانية والحياة الإنسانية بمعزل عن الله فهي لا تدرس النفس الإنسانية موصول بالله خالقها ومحركها ومودع ما فيها من طاقات.
فيدرسون تحت التأثير الجغرافي والبيئي والمادي والاقتصادي والاجتماعي ولا يدرسونه قط متأثراً بقدر الله الذي يقرر مصير كل شيء بما فيها الجغرافيا والبيئة والاقتصاد والاجتماع .
•من أمثلة تخبط المدارس الغربية :
1-مرة ترسم الإنسان وكأنه الإله في الكون .
2-مرة ترسم الإنسان وكأنه عبد لآلهة الاقتصاد والاجتماع والمادة .
3-مرة ترسم الإنسان وكأنه إنما يتحرك بتأثير الأفعال المنعكسة أو الجنس أو الكيماويات الجسدية أو الميكانيكا الجسدية .
•إذن الدراسة الشاملة للإنسان ضرورة أولية تسبق كل بحث تفصيلي في النفس الإنسانية .
•الحديث عن النقاط المتقابلة في النفس الإنسانية هو حديث عن الصورة الفطرية السوية وليس وصفاً لما يلتصق بها من انحرافات ، لأنها الأصل والانحرافات طارئ .
•هذه الخطوط المتقابلة تعمل مجتمعة على جانبي النفس وتشتبك وتختلط في داخلها كما تشتبك الأعصاب في الجسم .
•هذه الخطوط المتقابلة تعمل كأنها أعصاب نفسية وهي بتعددها واختلاف أنواعها وامتدادها وتشابكها تبين مقدار سعة النفس الإنسانية(165/1)
(5)
أخطاء الفلسفة المادية
إن أخطر ما يحاول دعاة التغريب والماديون وأصحاب الفلسفات أن يقولوا أنهم إنما يصدرون فيما يقولون به من نظريات وأيدلوجيات ومذاهب على أساس عملي لا يقبل النقض، ونحن نعلم أن هناك فارقاً بعيداً جداً بين العلم وبين الفلسفة وبين معطيات العلم التجريبي القائمة على البحث والتجربة على النحو الذي يتم داخل المعامل وبين الفرضيات التي لم تؤكدها التجربة بعد. أو التي قال بها العلم في محلة ما ثم جاءت تجارب أخرى غيرت هذه المسلمات وتخطتها، ذلك أن الخطأ والخلط إنما يجئ نتيجة تبني الفلسفات لبعض مؤثرات العلم أو نظرياته ونقلها من مجال العلم التجريبي أو من مجال الدراسات البيولوجية ودراسات الطبيعة إلى مجال المفاهيم الإنسانية وقضايا النفس والاجتماع والأخلاق. بينما لا تصلح أساليب العلم التجريبي في التطبيق على شئون الإنسانيات من نفس واجتماع وأخلاق، هذه التي يجب أن تدرس وفق منهج آخر غير مناهج العلوم المادية.
إذا اتضح هذا المعنى أمكن النظر في سهولة ويسر إلى ذلك الحشد المتعدد من المصطلحات والمفاهيم التي تختلط بين العلم وبين الفلسفة، أما في مجال العلم فهي تدرس دراسة خالصة، وأما في مجال الفلسفة فإنها تخضع لكثير من الأهواء والدوافع.
وقد ظهرت نظريات متعددة في مجال العلم البيولوجي ثم لم تلبث أن نقلت إلى مجال العلوم الاجتماعية كحقائق مسلمة، ومن ذلك مفهوم التطور ومفهوم تنازع البقاء، وقد تبين من بعد أن تقبل هذه الفرضيات ليس سليماً على إطلاقه وأن تطبيقه في المجال الاجتماعي ليس صحيحاً دائماً.
ومن العجب أن النظرية المادية قامت من بعدها النظرية الماركسية على فرضية كشفت أبحاث العلم من بعد خطأها، قامت النظرية المادية وكذلك الماركسية على أساس القول بأن الحياة كلها من عقلية ونفسية وسلوكية صادرة من مادة عضوية، وهذه الفرضية لا تعد الآن من الحقائق العلمية، ومعنى هذا أن أساس الفلسفة المادية والنظرية الماركسية قد انهار من الأساس. كذلك فإن القول بالتطور المطلق الذي جعله هربرت سبنسر مفهوماً اجتماعياً قد سقط نتيجة لمفهوم آخر أصلح منه هو مفهوم الثوابت والمتغيرات، كذلك فإن فكرة الجوهر الفرد التي قامت عليها الفلسفات سقطات بنظرية النسبية وظهور مفهوم الطاقة التي تتحول إلى مادة والمادة التي تتحول إلى طاقة، كذلك فإن نظرية النسبية نقلت إلى المجال الاجتماعي القول بنسبية الأخلاق وارتباط القيم الأخلاقية بالمجتمعات والعصور، وهذه النظرية وجدت معارضة شديدة؛ لأنها تخالف الفطرة طبائع الأشياء. كذلك فإن نظرية الجبرية التي حاولت بعض المذاهب تطبيقها على التاريخ والحضارات والمجتمع قد تبين فسادها؛ لأنها تلغي التزام الأفراد ومسئولياتهم وتلغي إرادتهم بينما التاريخ كله من عمل الأفراد.
وكذلك تبين خطأ القول بتنازع البقاء وتبين أن تعاون الكائنات أطهر وأقوى وأكبر أثراً من تنازعها. وأن نظرية تنازع البقاء إنما ظهرت نتيجة ملاحظة محدودة لمجتمع محدود.
ويرجع هذا كله إلى منطلق الفكر الغربي أو الفلسفة الغربية الذي يقصر النظرة على المادة وحدها، بينما ينطلق الفكر الإسلامي إلى أفاق أرحب وإلى نظرة لها أبعاد أكثر وضوحاً وقوة.
فالفكر الإسلامي يؤمن بأن الثبات والتغير من القوانين الطبيعية في حياة البشرية والإنسان وفي الكون نفسه. وأن هناك أفلاكاً ثابتة وكواكب متحركة. وأن لكل شئ إطاراً لا يتغير وإنما تتغير الحركة في داخله.
فالإنسان في صورة خلقه وفي حياته يتحرك داخل إطار واضح محدود منذ الولادة إلى الوفاة، وقد تتغير الأساليب والملابس والوسائل ولكن تبقى القواعد الأساسية ثابتة، النوم واليقظة، والسكن والحركة، والطعام والشراب، هناك قيم ثابتة ولكن أساليب العمل بها تتغير وتتطور من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة حسب الظروف والحاجات.
والإنسان يتغير دائماً من حيث الحركة ولكن له إطاره الثابت من حيث أصول الحياة والفكر وأصول البقاء.
وكذلك فإن الإنسان يتحرك في الحياة في إطار من القيم والتعاليم والضوابط والحدود. ويخضع لقوانين الأخلاق والتعامل بما يتكامل معه مع مسيرة المجتمع كله، أخذاً وعطاءً، وحيث تنتهي حريته عندما تبدأ حرية الآخرين.
ومن هنا فإن مفهوم الإسلام يقوم على أساس ثبات القيم الأخلاقية والآداب الإنسانية التي هي من أصول ثبات الطبيعة البشرية، وفيما عدا ذلك فإن هناك تغيراً وتبديلاً وتطوراً دونما انقطاع، هذه القيم الثابتة من الدين والأخلاق والحدود والضوابط هي التي تقي المجتمع الإنساني من الفناء والهلاك، وهي القانون الثابت الذي لا يتغير مع تغير العناصر المختلفة في المجتمع.
وهكذا نجد ثوابت الكون في الطبيعة وثوابت الأخلاق في الإنسان ومتغيرات الكون ومتغيرات الإنسان، وكأنما نظام السلوك الإنساني مطابق لواقع النظام الكوني.(166/1)
وثبات السنن الإلهية في الكون والإنسان هو إطار حركة المتغيرات، ولقد كان الفكر الغربي في مرحلته اليونانية يؤمن بالثبات المطلق، ثم جاء هيجل فنقله إلى التطور المطلق. وكلاهما صدر عن نقص في النظرة وعجز عن استقصاء الأبعاد المختلفة التي جاء الدين الحق ليكشف عنها للإنسان وليدله عليها وليجعل فكره أكثر رقياً وأعمق فهماً.
ومن هنا فإن الفكر الغربي هو فكر انشطاري يمر اليوم بمرحلة التطور المطلق الذي لا يتوقف عند حد والذي يجري في غير إطار من الثوابت ومن ثم يتعرض لكثير من المعاطب والأخطار.
أما الفكر الإسلامي فهو فكر متكامل جامع، يربط بين القيم في توازن رقيق وتناسق معجز، فالحياة يقابلها الموت والفقر يقابله الغنى والجبن يقابله الشجاعة والروح تقابلها المادة، والكون كله ثنائيات متلاقية ليس فيه واحداً لا شاء له ولا تعدد إلا الله تبارك وتعالى، ومن شأن هذا الفهم أن يعالج أزمة الفكر الغربي التي تقوم على الصراع والتناقضات، ذلك أن المفهوم الكامل من شأنه أن يقضي على المتناقضات ويذيب الصراعات.
فليس وجود الأضداد دليل على خصومتها وتعارضها؛ ولكنه سبيل إلى تكاملها والتقائها فالضد يولد من الضد، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. ذلك أنو النور يكشف الظلام والحق ينسف الباطل.
أما الفكر الغربي الذي أثر فكرة التطور المطلق وحجب فكرة الأطر الثابتة فقد عجز عن فهم هذا الالتقاء وعده صراعاً، وتناقضات.
أما الإسلام فقد وفق بين المتناقضات في إطار التكامل وعلى قاعدة التوازن وليس في هذا ما يوصف بأنه ازدواجية؛ بل هو التكامل الذي يوفق بين الأضداد والمتناقضات ويسلكها في طريق الحركة الطبيعية.
ولقد يعجز الفكر الغربي عن فهم التكامل والالتقاء بينهما هو طبيعة طيعة للفكر الإسلامي الذي يقوم على التكامل بين الزمني والروحي والمطلق والنسبي واللانهائي والمحدود.
ومن هنا يمكن القول بلغة الفلاسفة أن الإسلام يجمع بين المنطق الشكلي والمنطق الجدلي، بين منطق أرسطو القائل بثبات الموجودات ومنطق هيجل القائل بتغير الموجودات الدائم. وبذل يقيم قانون "الثوابت والمتغيرات"، فالإسلام يجمع بين الأصول العقائدية الثابتة وبين الاجتهاد في الفروع والتفاصيل والتطبيقات (وهو ما نسميه التطور)، ويقول بتغير الأحكام النوعية مع تغير الأزمنة والأمكنة وهو ما يسميه الفقهاء اختلاف زمان ومكان لا اختلاف حجة وبرهان ذلك أن الإسلام منهج إلهي من حيث الأصول، ووضعي بشري من حيث التطبيق والتفاصيل، أصول إلهية ووضع بشري من حيث التطبيق والتفاصيل، أصول إلهية على أساس التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فهو لا يسحق الفرد لصالح الجماعة ولا يسحق الجماعة لصالح الفرد، فإذا استحال التوفيق اختار الإسلام المصالح الجماعية، وهذا هو التوازن الدقيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. ومعنى هذا أنه لا انفصال بين ما هو مادي وما هو روحي في الإسلام، ومنهج الإسلام أصول إلهية وتفسيرات بشرية، وعن طريق هذا المفهوم لا يجد المسلم ذلك القلق الفلسفي الواسع الذي يشغل الباحثين حول: التناقض والصراع والجبرية وتنازع البقاء.
(2)
فساد نظرية الجبرية
إلى أي حد يمكن أن يصل بالحضارة الغربية وبالفكر الغربي ذلك التصور الذي يجتاح العصر كله ويحاول أن يلقي بظله على الفكر الإسلامي ويجد من المثقفين العرب من يتبناه ويردده: هذا الفهم الخطير للجبرية والحتمية الذي يستمد منطلقه من الفلسفة المادية والذي يذهب بعيداً ليكون عاملاً خطيراً في تصرفات الإنسان، وسلوكه، وما هي صلة ذلك كله بنظرية الخطيئة الأولى في الفكر الغربي المسيحي، وعلاقته بالوجودية وبالأدب وبالأخلاق.(166/2)
لنستعرض هذا النص الذي يمثل وجهة نظر عامة الآن بين كتاب الغرب لنرى معه إلى (أي=) حد نستطيع أن نفهم الموقف: النص للكاتب الغربي الأمريكي (ماكسين جرين) يرى الإنسان الحديث أنه وليد قوى اجتماعية واقتصادية وبيولوجية تحدد دوره في الأرض دون أن يشعر هو نفسه على الإطلاق. إن فقدان الإنسان لكرامته واعتزازه بنفسه يرجع إلى التقدم العلمي الضخم في القرن التاسع عشر إلى أمثال دارون وهكسلي وماركس الذين أظهروا الإنسان فريسة لقوى ضخمة مظلمة لا سلطان له عليها، وهكذا وجد التفكير الجبري، وظهر هذا التفكير في الأدب في أعمال أصحاب المذهب الطبيعي في كل بلد هؤلاء الذين حلوا محل الأبطال الشاعرين بذواتهم مخلوقات سلبية مطاوعة أنتجتها قوى الوراثة والبيئة لا صلة لهم بها، بل لا وعي لهم بها، وقد اختفت بطولة الإنسان بفضل المذهب الطبيعي". هذا النص يتحدث عن "جبرية القوانين الطبيعية" وخضوع الإنسان لها: هذه تريد أن تفرض وجودها على الفكر الغربي كله: ليس الفكر الماركسي وحده ولكن الفكر الليبرالي أيضاً، فقد تغيرت الجذور القديمة التي كانت تستمد من الفلسفات المثالية وغيرها رؤية تتمثل فيها إرادة الإنسان، وساد الفكر الغربي اليوم قتام كامل ترتبط فيه كل المذاهب بهذه الجبرية والحتمية. سواء في دراسات علماء النفس، وعلماء الاقتصاد، أو علماء الاجتماع، أو علماء التاريخ أو في مذاهب الأدب والفن والشعر والمسرح والقصة .. إلخ.
هذا التحول الخطير أساسه المذهب المادي الذي يعد الآن بمثابة القاعدة الأساسية للاتجاهين المختلفين في الفكر الغربي: ليبرالي وماركسي، فردي واجتماعي، أدبي وعلمي. وهذا هو أبرز وجوه الخلاف اليوم بين الفكر الإسلامي وبين هذا الفكر جملة.
فإذا ذهبنا نستقصي المصدر الأول لفكرة الحتمية أو الجبرية وجدناها في تلك القوانين التي اكتشفها الإنسان للكون عن طريق العلم الحديث، دون معرفة مصدر هذه القوانين، والاعتقاد بأنها قوانين طبيعية حيث تدير الطبيعة نفسها فهي لا تتخلف. وفي هذا الاعتقاد خطأ أكبر وخطأ أصغر؛ أما الخطأ الأكبر فإنه من المستحيل أن تدير الطبيعة نفسها بمثل هذه الدقة؛ لأنها لم تخلق نفسها ولابد لها من خالق أساساً، ثم هو نفسه تبارك وتعالى الذي يديرها لحظة بعد أخرى. ومن هنا فإن هذه القوانين مخلوقة لله تعالى وهو القادر على إبطالها. غياب هذا الفهم عند الفكر المادي جعل النظرية قائمة على شق واحد منها هو حتمية هذه القوانين وإغفال الجانب الهام منها وهو صانعها ومديرها والقادر على إبطالها.
ومن هنا يصور العلماء الحتمية بأنها: هي خضوع الأشياء لمبدأ التغير للقوانين الضرورية وهذا يعني أن الأحداث تترابط فيما بينها وفق قوانين موضوعية ومن هنا فإن الحتمية هي إنكارها المصادفة والاحتمال وحرية الإرادة وأخطر ما في الحتمية هي إنكارها حرية الإرادة، ذلك أن الحتمية لا تتفق مع إرادة التغيير، ومن هنا فهي تعطل هذا الجانب الهام الذي هو مصدر أصيل في إنشاء التاريخ وتلغي دور الإنسان في التغيير.
وهي في هذا تخالف الإنسان من جانبين: من جانب عجزها عن فهم قدرة الله المطلقة وقدرته على خرق القوانين وتغيير الواقع وقصورها عن فهم إرادة الإنسان التي منحها الله إياه، داخل الإرادة العليا للكون كله.
والفارق يسير جداً فهو في نظر المسلم أن العوامل الظاهرة للحدث أو للقانون ليست هي وحدها العوامل الحقيقية، وأن هناك عوامل أخرى تخفى وهي من إرادة الله ومشيئته التي هي أكبر من الأسباب نفسها، والقادرة على تعطيل الأسباب أو إمضاء الأسباب من غير أن تحقق النتائج المترتبة عليها.
ونحن نطلق خطأ على هذا الجانب المجهول من قدرة الله والذي لا يخضع للقوانين الظاهرة: المصادفات والاحتمالات والظواهر غير المنظورة تقريباً للأمور. والواقع أن الحتمية تقوم على نظرية مادية خالصة.
أما الإنسان فله دوره وإرادته الذاتية التي تحقق له التصرف الذي به يكن مسئولاً عن عمله، في دائرة صغيرة ولكنها بعيدة الأثر في أحداث التغيير.
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
والفرد يستطيع أن يمارس إرادته في تغيير الواقع والمجتمع بقدر استفادته من قوانين الحركة.
والإنسان له إرادة فاعلة وهي جزء من إرادة الله يتميز بها عن الحيوان وهي يتحرك في دائرة خاصة ويكون مسئولاً في حدودها، ولكنها لا تمثل إلا شطراً يسيراً من إرادة الله الكبرى التي تخلق التأثيرات العامة للمجتمعات والأكوان أما الحتمية فهي لا تتفق مع إرادة التغيير؛ لأن الحتمية تفترض أنه لا إرادة من جانب الإنسان، وهي بذلك تعد الإنسان متفرجاً إزاء حركة التاريخ يرى ما يحدث له وللمجتمع دون أن يشارك فيه وهذا والقول مخالف للواقع ولطبائع الأشياء.(166/3)
ومن هنا فإن القول الذي يردده جبريو التاريخ كماركسي والذي يقول أن التاريخ محكوم المسار في مستقبله فهو غير صحيح وكل النبوءات التي قدمها ماركس في هذا الصدد قد تبين كذبها ولم تتحقق -جميعاً- وما وقع في المستقبل بعد تنبؤات ماركس كان مخالفاً تماماً لما قرره بناء على حتمية التاريخ أو جبريته في حدود النظرية التي قدمها، ذلك لأن ماركس ليس إلا بشراً يعجز عن الإحاطة ونظريته ليست إلا شطيرة ترتبط بعنصر واحد من عناصر التأثير وهي الاقتصاد وتقوم في مرحلة زمنية محدودة وبيئة لها طابع خاص، ومن هنا فقد عجز وعجزت عن تفسير المستقبل فضلاً عن إخفاق ماركس في تحليل التاريخ القديم.
ولا ريب أن النموذج البشري الذي تقوم عليه فكرة الجبرية هو نموذج إنسان سلبي خامل كسول، مستسلم للواقع، متنازل عن حقه الطبيعي في الاختيار مؤثراً للأمان والجبن وعدم المجازفة، وبذلك يفترض في هذا الإنسان أنه تطبيق للحتمية المادية الخادعة الكاذبة.
والمسلم لا يقر هذا المفهوم، السلبي، ويؤمن بالإرادة، وبالقدرة على الاختيار والحركة لتغيير الواقع، ويجعل من إرادته البشرية قوة قادرة على حكم الغرائز وقيادتها والسيطرة عليها.
وهذا هو السر في دعوة الإسلام الملحة لبناء الإرادة.
كذلك الأمم فإنها حين تخضع للجبرية تموت؛ لأنها تستسلم وتُداس بالأقدام، أقدام الغزاة والغاصبين، والإرادة والاختيار هما عاملا التغير في الفرد وفي الجماعات والأمم، وبقوانين هذه الإرادة تقوم الأمم وتتجدد، ولا ريب أن التقدم مرتبط بتنمية إرادة التغيير، فإذا فقدت الأمة هذه الإرادة، استسلمت للجبرية التي هي الانحطاط.
ولا ريب أن تفشي هذا المفهوم في الفكر الغربي في هذه المرحلة من انهيار الحضارة هو علامة على مرحلة سقوطها الذي تنبأ به كثير من الباحثين، والذي هو سمة كل الحضارات والأمم التي تستسلم للجبرية الممثلة في الترف والانحلال والفساد والإباحية.
وكما يرفض الإسلام الجبرية التي تجعل الإنسان متفرجاً على التاريخ، كذلك فإن العلم يرفض الجبرية ولا يراها حقيقة أساسية. وكل ما يقال عن أن الجبرية أو الحتمية هي علم فهو من قبيل الخداع: فالعلم لا علاقة له بهذه الأبحاث التي هي من شأن الفلسفة وإنما هم أطلقوا عليها كلمة فلسفة العلم لأنهم حاولوا أن يستمدوا مفهوم المادية من بعض نظريات العلم التي كانت في القرن التاسع عشر تقول بانبثاق هذا الكون بدون صانع، وقد سقطت هذه النظرية التي قامت على أساسها مذاهب سياسية واجتماعية كثيرة كالماركسية والوجودية والبرجماتية مثلاً. ولقد تقدم العلم الآن تقدماً عجيباً وألغى كثيراً من النظريات العلمية التي لم تكن في واقع الأمر إلا "فرضاً" لتغطية الجوانب الناقصة في عملية البحث، غير أن التجربة المستمرة كشفت عن أشياء جديدة جعلت كل ما كان يقال من قبل فاسداً وخاصة فيما يتعلق بالطاقة والمادة؛ فقد أثبت العلم أن الطاقة تتحول إلى مادة وأن المادة تتحول إلى طاقة وبذلك انهدم أساس الفكر المادي وتحطم كثير من القواعد التي تقوم عليها الفلسفات المادية.
ولكن دعاة هذه المذاهب إنما يهدفون إلى هدم المجتمع البشري بإحلال روح الفساد فيه وإسقاط الإرادة ووضع مسئولية الخطأ والانحراف على المجتمعات، وإعلاء شأن المفهوم الجمعي للقضاء على الفردية التي هي مناط المسئولية والخبراء في الدين الحق، وذلك من شأنه أن يدفع إلى مزيد من غلبة الشهوات وتبرير الفساد وسقوط المجتمعات وهو ما تهدف إليه اليهودية التلمودية فيما أشارت إليه في بروتوكلات صهيون.
وعندما نراجع أصول الجبرية في الفكر الإسلامي تجد أن مصدرها يهودي، فهو مما قال به الذين حملوا سموم الفكر البشري القديم، والفرنسيون يقولون بأن الإنسان ليس إرادة ولا اختياراً ولا تأثيراً ولا جزءاً كسبياً، ولذا لا يرونه جديراً بالمدح ولا بالذم، أما اليهود الفروشيم فقد بالغوا بالاختيار ورأوا الإنسان قادراً على مطلق عمل دون أمر الله ونهيه. وكلا الأمرين الجبر المطلق والاختيار المطلق لا يقرهما الإسلام، وفي الفلسفات الهندية والصينية والفارسية جبرية واضحة؛ إذن أن البرهمية والبوذية والمزكية تبرره، كذلك الفلسفة اليونانية فإن حرب طروادة قد حملت سواد الناس على التسليم المطلق بالجبر، وكذلك فلسفات التقمص والتناسخ كلها مفضية إلى الجبرية.
وكذلك تحمل فكرة وحدة الوجود معنى الجبر؛ فهي تلغي الإرادة والمسئولية الفردية، وصدق في هذا قول القائل: إن الاختيار المطلق يكلف الإنسان فوق الطاقة والجبر المطلق محو للتكليف وهدم للشريعة وإبطال لحكم العقل وإنكار للواقع.
والإسلام لا جبر فيه، ولقد نادى القرآن بالتمييز: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وأخذ الرسول بيد طلاب الهداية لربهم، ودعا الإسلام إلى الإرادة: والصبر وعزائم الأمور، ودعا إلى تغيير الواقع الفاسد ودعا إلى الهجرة في الأرض حتى لا يظلم الإنسان نفسه بالبقاء في الواقع السلبي.(166/4)
ولقد أقام الإسلام الاختيار ونادى به القرآن (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه).
وقال ابن تيمية=: "إن للعبد قدرة ومشيئة وعمل فهو مختار مريد. والجبريون هم المعطلون للتكاليف الشرعية المسفهون للخطابات الإلهية". وقال النابلسي أنهم زنادقة هذه الأمة:
ولقد فتح الإسلام الباب واسعاً أمام الذين ينحرفون إلى الجبر مع قدرتهم على الحرية والاختيار، وفتح لهم باب العودة إلى الإرادة الصحيحة.
ورسل الله ودعاة الحق في كل جيل وعصر لم يأمروا بالانحراف، ودعوا إلى الإرادة والاختيار التي تنشأ عنها المسئولية والجزاء، ولكن المنحرفين من أصحاب الفكر البشري هم الذين زينوا القياس الحلول والإشراق والتجسد وغيرها من المفاهيم الباطلة المبطلة التي تدعو إلى الجبرية، ثم جاء الفكر الفلسفي المادي المعاصر فاحتوى كل هذه العناصر وأعاد صياغتها من جديد.
ومن عجب أن العلم بالتجارب العديدة لم يعد تعبر نظرية الحتمية: التي كان يقوم عليها كيانه، فأصبح حين تتوافر الشروط والأسباب يحكم بوقوع النتائج؛ وذلك لأنه وجد عشرات من الأشياء لا تخضع لهذا القانون، ومن ثم فإن العلماء لأن يقررون أن الحتمية في العلم غير ضرورية وأن القانون الذي يحكم العلم هو قانون الاحتمالات، وبذلك انفسح لهم المجال للإيمان بقوة عليا تسير العالم خارج نفسه.
ولكن رجال الفلسفة المادية، وهم اليهود التلموديون أصحاب بروتوكلات صهيون، إنما يريدون أن يتجاهلوا حقائق الفطرة وآراء العلم وطبيعة الدين الحق؛ ليفرضوا على البشرية نظرية زائفة يراد بها تدمير المجتمعات: تلك هي الجبرية والحتمية.
ولقد صدق القائل: أن الإنسان لا تجوز عليه الحتمية؛ لأن الناس ليسوا كرات بليارد تتحرك بحتمية قوانين فيزيائية؛ ولكنها مجموعة إرادات حرة تدخل في علاقات متعددة يستحيل فيها التنبؤ القائم على قوانين مادية، كذلك فإن القوانين الإحصائية هي قوانين إجمالية وكلها ترجيحات ولا يرتفع أحدها إلى مرتبة الحتمية على الإطلاق.
(3)
فساد نظرية (تنازع البقاء)
ومن الفرضيات التي قدمها العلم تحت التجربة نظرية (تنازع البقاء)، وقد تعالى القول بهذه النظرية وامتد حتى خُيل للناس أن هناك قانوناً يطلق عليه تنازع البقاء، وفي أفق الفكر الإسلامية والثقافة العربية ردد الباحثون هذا المصطلح سنوات وسنوات، ثم تبين من بعد أنه لا توجد حقيقة علمية تسمى تنازع البقاء، وأن كل ما يقال عن التنازع أو الصراع ليس من طبيعة العلاقات بين الأحياء.
لقد جاءت فرضية التنازع نتيجة لتقدير مادي بأن إنتاج الطعام في العالم محدود، بينما التوالد يتضاعف ويزداد، ومن هنا فلابد أن يتنازع الأفراد لأجل البقاء أو من أجل الحصول على الطعام، ولكن نظرية إنتاج الطعام المحدود التي قال بها "مالتوس"ثبت بطلانها من بعد؛ فقد اكتشفت أفاق عديدة للموارد والرزق ونما العالم وتضاعف عشرات المرات دون أن يفقد القوت، وهذا عيب النظريات التي تكون دائماً محدودة بقدر معين من العلم في عصرها، وبالتحدي الخاص ببيئتها وبالتأثير بنظرية جزئية أخرى، نجد هذا تماماً عند دارون ونجده عند ماركس ونجده عند فرويد.
وقد حاول أنصار دارون تبرير موقفه ودافعوا عنه، فقالوا أنه استمد نظرية تنازع البقاء في الطبيعة من إقامته في لنكشير وغيرها من الأقاليم الصناعية، وكانت نظرية دارون في مجموعها -وهي نظرية بيولوجية- مما استخدمه الفكر السياسي الاستعماري خاصة فيما يتعلق بتنازع البقاء وبقاء الأصلح، فقد طبقوها على الشعوب المستعمرة والقوى الاستعمارية المسيطرة عليها وجعلوا منها مبرراً لسيطرة المستعمرين.
فشلت نظرية داروين في تنازع البقاء وبقاء الأصلح وتبين للباحثين والعلماء أن هناك "تعاوناً" بين الأنواع أكبر من التنازع، وهناك تلاقياً أقوى من الصراع، وفي هذا يقول أحد الباحثين: أن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة الصناعية في لانكشير ومن كفاح الإمبراطورية البريطانية لخطف الأسواق وإذلال الأمم هذه العواطف حملته على أن يكبر من شأن التنازع: تنازع البقاء وحال هذا بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة؛ لأن الواقع أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع.
وكما سقطت نظرية التطور كما أرادها الفلاسفة الاجتماعيون، وسقطت نظرية مالتوس في الوراثة، كذلك سقطت نظرية "تنازع البقاء"، والفكر الإسلامي واضح في هذا تمام الوضوح؛ فهو يقر مفهوم التلاقي والتعاون والتكامل بين قوى الطبيعة المختلفة، ويرى أن هذا الالتقاء هو دافعها إلى الحركة والقوة والنماء".
ويرى الفكر الإسلامي ضرورة التعاون في المجتمع الإنساني بجميع أفراده، القوي والضعيف، والغني والفقير، والمريض والصحيح، ويُحّمل الإسلام الأقوياء والأغنياء والأصحاء مسئولية باقي أفراد المجتمع بنظام كامل من أنظمة الإعاشة والإنفاق والبذل.(166/5)
ويرفض الإسلام تماماً فكرة القضاء على الضعفاء أو الفقراء أو المرضى ويراها عاملاً من عوامل الخروج عن الإيمان (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)، وإذا كانت نظرية تنازع الإبقاء قد بدأت في مجال العلم الطبيعي فإن علماء الاجتماع أرادوا أن يجعلوها قانوناً عاماً للبشرية ولكنهم فشلوا في ذلك وتبين من التجارب المتعددة قيام التعاون بديلاً عن التنازع.
ومن هنا كان زيف كل التفسيرات التي حاول بعض الماديين إلقاءها شأن المواقع التاريخية واندثار الحضارات وانقراض الأمم.
ومن الحق أن الصراع لم يكن هو مصدر انهيار الحضارات أو انقراض الأمم؛ وإنما كان الفساد والانحراف والاستعلاء والترف والتحلل والخروج عن نظام الكون وقوانينه الطبيعية التي تفرض العمل والإرادة وبذل الجهد والاستمساك بالخشونة في الحياة والحفاظ على الضوابط والحدود.
ومما ينقض نظرية تنازع البقاء أن الحيوانات الواطئة الضعيفة تعيش وتنمو. وفق قانون التكيف مع البيئة الذي هو أصدق من قانون تنازع البقاء، ذلك أن كل كائن يستطيع أن يحتاط ويتكيف مع الظروف إذا كانت هذه من الطبيعة كالبرد والحر أو من مقاومة الأعداء.
ويصدق قانون التكيف مع البيئة بينما تفشل نظرية "تنازع البقاء"، ويؤكد الباحثون أن فساد نظرية تنازع البقاء ترجع أساساً إلى أنها تعارض الطبيعة والفطرة وتكشف عن تحدِ واضح لانطلاقة الحياة في صورتها السليمة. فهي تؤدي إلى حرمان الضعفاء من حق الحياة وتشجيع الأقوياء على التسلط والسيطرة، وتبيح الحرب وتعتبرها ضرورة في يد القوي لإهلاك الضعيف.
ولما كان من طبيعة القوي أن يسيطر على الأضعف، فقد دعا الإسلام إلى أن يتمسك أهله بالقوة في مواجهة كل مَن يحاول الاعتداء عليهم، وكذلك دعا الأفراد إلى الهجرة من الأرض التي يقع فيها الإذلال لهم؛ حتى لا يكون المسلمون موضع سيطرة من غيرهم أو تسلط مِن عدوهم.
والحق دائماً يثبت والباطل دائماً يرتفع ثم ينهزم؛ لأنه لا يستطيع أن يواجه ثبات الحق وسلامته وقدرته على الانتصار والبقاء. وعلى أهل الحق أن يلتمسوا نصر الله بالاستعداد لمعارضة الباطل ومقاومته.
ويقر الإسلام نظام "التعاون" بديلاً لمفهوم "التنازع"، ومن هنا فإن الأنظمة التي تقوم على الصراع لابد أن تسقط؛ لأنها تمثل اتجاهاً مضاداً للحق والخير، الذي هو الناموس الطبيعي للحياة. ومن شأن "الفطرة" التي فطر الله عليها الكون والناس أن تمكن للحق من هزيمة الباطل والادالة نه=، ومن شأن أهل الحق أن يكونوا في يقظة حتى لا يستشري الباطل ويكسب الحولية عليهم، فإذا فقدوا مقومات عقيدتهم، تغلب الباطل عليهم لا محالة، فكان حقاً عليهم أن يعودوا إلى التماس مقومات عقيدتهم ويتجمعوا لها، ومهما كانوا قلة فإن تمسكهم بالحق مع معونة الله يحتم تحقيق النصر لهم، وهذا هو مفهوم دفع الله الناس بعضهم ببعض، وهو معنى يختلف عن النظرية الغربية "تنازع البقاء".
ويجمع الباحثون على أن "الصراع" فكرة استعمارية نشأت في ظل الفكر الغربي الاستعماري الذي اعتمد على القوة كوسيلة للسيطرة على الضعيف على النحو الذي اعتمد على القوة كوسيلة للسيطرة على الضعيف على النحو الذي سارت عليه عمليات الاستعمار والاحتلال والحروب الاستعمارية، تبريراً للاستيلاء على موارد الغير وممتلكاته بالقوة والعنف. ولقد رحب الماديون بفكرة دارون؛ لأن عقيدتهم تقوم على العنف وصراع الطبقات.
أما القرآن فقد ذكر أن "الصلاح" هو سبب بقاء الأمم والحضارات في الدنيا، وهو عدة الضعفاء المتقين في التغلب على الأقوياء المنحرفين.
ولا ريب أن من أخطر ما تروج له الفلسفات الغربية كلمة "الطبيعة"، حيث ينسب إليها العطاء والمنع والكشوف والقوانين، ولا ريب أن هذا معارض تماماً لمفهوم الدين الحق؛ فإن الخالق هو الله وليس الطبيعة، والطبيعة مخلوقة لله، مذللة له سبحانه. أما كلمة "الطبيعة" في مفهوم العلم فهي عبارة (عن=) قوانين سقوط الأجسام ودورانها ومغناطسيتها، وهي قوانين تعبر عن قدرة الله في خلق الكون والإنسان، وليس في الإسلام صراع بين الله والطبيعة؛ فالكل يسلم ويسجد طوعاً وكرهاً.(166/6)
وكل ما كشفه العلم الحديث ليس إلا قشوراً صغيرة من علم الله الأكبر، وما استطاع العلم أن يصل إلى تفسير ظواهر الأشياء. ومن أخطر مقاتل العلم الحديث أنه فضل بين المادي والروحي في العلم وأنكر الروحي: يقول الكسي كاريل: "إن الغلطة المسئولة عما نعانيه أنها جاءت مِن فكرة لجاليلو؛ فقد فصل جاليلو بين الصفات الأولية للأشياء وهي الأبعاد والأوزان التي يمكن قياسها بسهولة عن صفاتها الثانوية وهي الشكل واللون والرائحة التي لا يمكن قياسها فقد فصل الكم عن النوع (الكيف)، ولقد جلب الكم المعبر عنه باللغة الحسابية والعلم، بينما أهمل الكيف. لقد كان تجريد الأشياء عن صفاتها الأولية أمراً مشروعاً ولكن التغاضي عن الصفات الثانوية لم يكن كذلك؛ فالأشياء غير القابلة للقياس في الإنسان أكثر أهمية من تلك التي يمكن قياسها، فوجود التفكير هام جداً مثل التعادل الطبيعي الكيميائي لمصل الدم، ولما اتخذت التركيبات العضوية والألباب الفسيولوجية = حقيقة أكبر كثيراً من التفكير والسرور والحزن والجهل، دفعت هذه الغلطة الحضارة إلى سلوك طريق أدى إلى فوز العلم والانحلال الإنساني، ولابد أن يعيد الإنسان صياغة نفسه وأن الخطأ الذي بدأ به كان أنه أعل شأن الكم على الكيف، هذا الخلل المروع في بناء الحضارة، الإنسان الذي حقق تسخير المادة وإطلاق الطاقة لا يزال أقرب إلى الغابة في العقل والتدبير وذلك أن الدين هو الحماية: هو الحائط العريض الحاجز عن الخطر هو إنسان الإنسان الذي ينقله من الغابة".
من هذا المنطلق وقع المحظور، وتوالت الأخطاء، واندحر الإنسان الذي تمزق في الغرب.
أنور الجندي(166/7)
أخطاء الفلسفة المادية
إن أخطر ما يحاول دعاة التغريب والماديون وأصحاب الفلسفات أن يقولوا أنهم إنما يصدرون فيما يقولون به من نظريات وأيدلوجيات ومذاهب على أساس عملي لا يقبل النقض، ونحن نعلم أن هناك فارقاً بعيداً جداً بين العلم وبين الفلسفة وبين معطيات العلم التجريبي القائمة على البحث والتجربة على النحو الذي يتم داخل المعامل وبين الفرضيات التي لم تؤكدها التجربة بعد. أو التي قال بها العلم في محلة ما ثم جاءت تجارب أخرى غيرت هذه المسلمات وتخطتها، ذلك أن الخطأ والخلط إنما يجئ نتيجة تبني الفلسفات لبعض مؤثرات العلم أو نظرياته ونقلها من مجال العلم التجريبي أو من مجال الدراسات البيولوجية ودراسات الطبيعة إلى مجال المفاهيم الإنسانية وقضايا النفس والاجتماع والأخلاق. بينما لا تصلح أساليب العلم التجريبي في التطبيق على شئون الإنسانيات من نفس واجتماع وأخلاق، هذه التي يجب أن تدرس وفق منهج آخر غير مناهج العلوم المادية.
إذا اتضح هذا المعنى أمكن النظر في سهولة ويسر إلى ذلك الحشد المتعدد من المصطلحات والمفاهيم التي تختلط بين العلم وبين الفلسفة، أما في مجال العلم فهي تدرس دراسة خالصة، وأما في مجال الفلسفة فإنها تخضع لكثير من الأهواء والدوافع.
وقد ظهرت نظريات متعددة في مجال العلم البيولوجي ثم لم تلبث أن نقلت إلى مجال العلوم الاجتماعية كحقائق مسلمة، ومن ذلك مفهوم التطور ومفهوم تنازع البقاء، وقد تبين من بعد أن تقبل هذه الفرضيات ليس سليماً على إطلاقه وأن تطبيقه في المجال الاجتماعي ليس صحيحاً دائماً.
ومن العجب أن النظرية المادية قامت من بعدها النظرية الماركسية على فرضية كشفت أبحاث العلم من بعد خطأها، قامت النظرية المادية وكذلك الماركسية على أساس القول بأن الحياة كلها من عقلية ونفسية وسلوكية صادرة من مادة عضوية، وهذه الفرضية لا تعد الآن من الحقائق العلمية، ومعنى هذا أن أساس الفلسفة المادية والنظرية الماركسية قد انهار من الأساس. كذلك فإن القول بالتطور المطلق الذي جعله هربرت سبنسر مفهوماً اجتماعياً قد سقط نتيجة لمفهوم آخر أصلح منه هو مفهوم الثوابت والمتغيرات، كذلك فإن فكرة الجوهر الفرد التي قامت عليها الفلسفات سقطات بنظرية النسبية وظهور مفهوم الطاقة التي تتحول إلى مادة والمادة التي تتحول إلى طاقة، كذلك فإن نظرية النسبية نقلت إلى المجال الاجتماعي القول بنسبية الأخلاق وارتباط القيم الأخلاقية بالمجتمعات والعصور، وهذه النظرية وجدت معارضة شديدة؛ لأنها تخالف الفطرة طبائع الأشياء. كذلك فإن نظرية الجبرية التي حاولت بعض المذاهب تطبيقها على التاريخ والحضارات والمجتمع قد تبين فسادها؛ لأنها تلغي التزام الأفراد ومسئولياتهم وتلغي إرادتهم بينما التاريخ كله من عمل الأفراد.
وكذلك تبين خطأ القول بتنازع البقاء وتبين أن تعاون الكائنات أطهر وأقوى وأكبر أثراً من تنازعها. وأن نظرية تنازع البقاء إنما ظهرت نتيجة ملاحظة محدودة لمجتمع محدود.
ويرجع هذا كله إلى منطلق الفكر الغربي أو الفلسفة الغربية الذي يقصر النظرة على المادة وحدها، بينما ينطلق الفكر الإسلامي إلى أفاق أرحب وإلى نظرة لها أبعاد أكثر وضوحاً وقوة.
فالفكر الإسلامي يؤمن بأن الثبات والتغير من القوانين الطبيعية في حياة البشرية والإنسان وفي الكون نفسه. وأن هناك أفلاكاً ثابتة وكواكب متحركة. وأن لكل شئ إطاراً لا يتغير وإنما تتغير الحركة في داخله.
فالإنسان في صورة خلقه وفي حياته يتحرك داخل إطار واضح محدود منذ الولادة إلى الوفاة، وقد تتغير الأساليب والملابس والوسائل ولكن تبقى القواعد الأساسية ثابتة، النوم واليقظة، والسكن والحركة، والطعام والشراب، هناك قيم ثابتة ولكن أساليب العمل بها تتغير وتتطور من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة حسب الظروف والحاجات.
والإنسان يتغير دائماً من حيث الحركة ولكن له إطاره الثابت من حيث أصول الحياة والفكر وأصول البقاء.
وكذلك فإن الإنسان يتحرك في الحياة في إطار من القيم والتعاليم والضوابط والحدود. ويخضع لقوانين الأخلاق والتعامل بما يتكامل معه مع مسيرة المجتمع كله، أخذاً وعطاءً، وحيث تنتهي حريته عندما تبدأ حرية الآخرين.
ومن هنا فإن مفهوم الإسلام يقوم على أساس ثبات القيم الأخلاقية والآداب الإنسانية التي هي من أصول ثبات الطبيعة البشرية، وفيما عدا ذلك فإن هناك تغيراً وتبديلاً وتطوراً دونما انقطاع، هذه القيم الثابتة من الدين والأخلاق والحدود والضوابط هي التي تقي المجتمع الإنساني من الفناء والهلاك، وهي القانون الثابت الذي لا يتغير مع تغير العناصر المختلفة في المجتمع.
وهكذا نجد ثوابت الكون في الطبيعة وثوابت الأخلاق في الإنسان ومتغيرات الكون ومتغيرات الإنسان، وكأنما نظام السلوك الإنساني مطابق لواقع النظام الكوني.(167/1)
وثبات السنن الإلهية في الكون والإنسان هو إطار حركة المتغيرات، ولقد كان الفكر الغربي في مرحلته اليونانية يؤمن بالثبات المطلق، ثم جاء هيجل فنقله إلى التطور المطلق. وكلاهما صدر عن نقص في النظرة وعجز عن استقصاء الأبعاد المختلفة التي جاء الدين الحق ليكشف عنها للإنسان وليدله عليها وليجعل فكره أكثر رقياً وأعمق فهماً.
ومن هنا فإن الفكر الغربي هو فكر انشطاري يمر اليوم بمرحلة التطور المطلق الذي لا يتوقف عند حد والذي يجري في غير إطار من الثوابت ومن ثم يتعرض لكثير من المعاطب والأخطار.
أما الفكر الإسلامي فهو فكر متكامل جامع، يربط بين القيم في توازن رقيق وتناسق معجز، فالحياة يقابلها الموت والفقر يقابله الغنى والجبن يقابله الشجاعة والروح تقابلها المادة، والكون كله ثنائيات متلاقية ليس فيه واحداً لا شاء له ولا تعدد إلا الله تبارك وتعالى، ومن شأن هذا الفهم أن يعالج أزمة الفكر الغربي التي تقوم على الصراع والتناقضات، ذلك أن المفهوم الكامل من شأنه أن يقضي على المتناقضات ويذيب الصراعات.
فليس وجود الأضداد دليل على خصومتها وتعارضها؛ ولكنه سبيل إلى تكاملها والتقائها فالضد يولد من الضد، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. ذلك أنو النور يكشف الظلام والحق ينسف الباطل.
أما الفكر الغربي الذي أثر فكرة التطور المطلق وحجب فكرة الأطر الثابتة فقد عجز عن فهم هذا الالتقاء وعده صراعاً، وتناقضات.
أما الإسلام فقد وفق بين المتناقضات في إطار التكامل وعلى قاعدة التوازن وليس في هذا ما يوصف بأنه ازدواجية؛ بل هو التكامل الذي يوفق بين الأضداد والمتناقضات ويسلكها في طريق الحركة الطبيعية.
ولقد يعجز الفكر الغربي عن فهم التكامل والالتقاء بينهما هو طبيعة طيعة للفكر الإسلامي الذي يقوم على التكامل بين الزمني والروحي والمطلق والنسبي واللانهائي والمحدود.
ومن هنا يمكن القول بلغة الفلاسفة أن الإسلام يجمع بين المنطق الشكلي والمنطق الجدلي، بين منطق أرسطو القائل بثبات الموجودات ومنطق هيجل القائل بتغير الموجودات الدائم. وبذل يقيم قانون "الثوابت والمتغيرات"، فالإسلام يجمع بين الأصول العقائدية الثابتة وبين الاجتهاد في الفروع والتفاصيل والتطبيقات (وهو ما نسميه التطور)، ويقول بتغير الأحكام النوعية مع تغير الأزمنة والأمكنة وهو ما يسميه الفقهاء اختلاف زمان ومكان لا اختلاف حجة وبرهان ذلك أن الإسلام منهج إلهي من حيث الأصول، ووضعي بشري من حيث التطبيق والتفاصيل، أصول إلهية ووضع بشري من حيث التطبيق والتفاصيل، أصول إلهية على أساس التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فهو لا يسحق الفرد لصالح الجماعة ولا يسحق الجماعة لصالح الفرد، فإذا استحال التوفيق اختار الإسلام المصالح الجماعية، وهذا هو التوازن الدقيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. ومعنى هذا أنه لا انفصال بين ما هو مادي وما هو روحي في الإسلام، ومنهج الإسلام أصول إلهية وتفسيرات بشرية، وعن طريق هذا المفهوم لا يجد المسلم ذلك القلق الفلسفي الواسع الذي يشغل الباحثين حول: التناقض والصراع والجبرية وتنازع البقاء.
فساد نظرية الجبرية
إلى أي حد يمكن أن يصل بالحضارة الغربية وبالفكر الغربي ذلك التصور الذي يجتاح العصر كله ويحاول أن يلقي بظله على الفكر الإسلامي ويجد من المثقفين العرب من يتبناه ويردده: هذا الفهم الخطير للجبرية والحتمية الذي يستمد منطلقه من الفلسفة المادية والذي يذهب بعيداً ليكون عاملاً خطيراً في تصرفات الإنسان، وسلوكه، وما هي صلة ذلك كله بنظرية الخطيئة الأولى في الفكر الغربي المسيحي، وعلاقته بالوجودية وبالأدب وبالأخلاق.(167/2)
لنستعرض هذا النص الذي يمثل وجهة نظر عامة الآن بين كتاب الغرب لنرى معه إلى (أي=) حد نستطيع أن نفهم الموقف: النص للكاتب الغربي الأمريكي (ماكسين جرين) يرى الإنسان الحديث أنه وليد قوى اجتماعية واقتصادية وبيولوجية تحدد دوره في الأرض دون أن يشعر هو نفسه على الإطلاق. إن فقدان الإنسان لكرامته واعتزازه بنفسه يرجع إلى التقدم العلمي الضخم في القرن التاسع عشر إلى أمثال دارون وهكسلي وماركس الذين أظهروا الإنسان فريسة لقوى ضخمة مظلمة لا سلطان له عليها، وهكذا وجد التفكير الجبري، وظهر هذا التفكير في الأدب في أعمال أصحاب المذهب الطبيعي في كل بلد هؤلاء الذين حلوا محل الأبطال الشاعرين بذواتهم مخلوقات سلبية مطاوعة أنتجتها قوى الوراثة والبيئة لا صلة لهم بها، بل لا وعي لهم بها، وقد اختفت بطولة الإنسان بفضل المذهب الطبيعي". هذا النص يتحدث عن "جبرية القوانين الطبيعية" وخضوع الإنسان لها: هذه تريد أن تفرض وجودها على الفكر الغربي كله: ليس الفكر الماركسي وحده ولكن الفكر الليبرالي أيضاً، فقد تغيرت الجذور القديمة التي كانت تستمد من الفلسفات المثالية وغيرها رؤية تتمثل فيها إرادة الإنسان، وساد الفكر الغربي اليوم قتام كامل ترتبط فيه كل المذاهب بهذه الجبرية والحتمية. سواء في دراسات علماء النفس، وعلماء الاقتصاد، أو علماء الاجتماع، أو علماء التاريخ أو في مذاهب الأدب والفن والشعر والمسرح والقصة .. إلخ.
هذا التحول الخطير أساسه المذهب المادي الذي يعد الآن بمثابة القاعدة الأساسية للاتجاهين المختلفين في الفكر الغربي: ليبرالي وماركسي، فردي واجتماعي، أدبي وعلمي. وهذا هو أبرز وجوه الخلاف اليوم بين الفكر الإسلامي وبين هذا الفكر جملة.
فإذا ذهبنا نستقصي المصدر الأول لفكرة الحتمية أو الجبرية وجدناها في تلك القوانين التي اكتشفها الإنسان للكون عن طريق العلم الحديث، دون معرفة مصدر هذه القوانين، والاعتقاد بأنها قوانين طبيعية حيث تدير الطبيعة نفسها فهي لا تتخلف. وفي هذا الاعتقاد خطأ أكبر وخطأ أصغر؛ أما الخطأ الأكبر فإنه من المستحيل أن تدير الطبيعة نفسها بمثل هذه الدقة؛ لأنها لم تخلق نفسها ولابد لها من خالق أساساً، ثم هو نفسه تبارك وتعالى الذي يديرها لحظة بعد أخرى. ومن هنا فإن هذه القوانين مخلوقة لله تعالى وهو القادر على إبطالها. غياب هذا الفهم عند الفكر المادي جعل النظرية قائمة على شق واحد منها هو حتمية هذه القوانين وإغفال الجانب الهام منها وهو صانعها ومديرها والقادر على إبطالها.
ومن هنا يصور العلماء الحتمية بأنها: هي خضوع الأشياء لمبدأ التغير للقوانين الضرورية وهذا يعني أن الأحداث تترابط فيما بينها وفق قوانين موضوعية ومن هنا فإن الحتمية هي إنكارها المصادفة والاحتمال وحرية الإرادة وأخطر ما في الحتمية هي إنكارها حرية الإرادة، ذلك أن الحتمية لا تتفق مع إرادة التغيير، ومن هنا فهي تعطل هذا الجانب الهام الذي هو مصدر أصيل في إنشاء التاريخ وتلغي دور الإنسان في التغيير.
وهي في هذا تخالف الإنسان من جانبين: من جانب عجزها عن فهم قدرة الله المطلقة وقدرته على خرق القوانين وتغيير الواقع وقصورها عن فهم إرادة الإنسان التي منحها الله إياه، داخل الإرادة العليا للكون كله.
والفارق يسير جداً فهو في نظر المسلم أن العوامل الظاهرة للحدث أو للقانون ليست هي وحدها العوامل الحقيقية، وأن هناك عوامل أخرى تخفى وهي من إرادة الله ومشيئته التي هي أكبر من الأسباب نفسها، والقادرة على تعطيل الأسباب أو إمضاء الأسباب من غير أن تحقق النتائج المترتبة عليها.
ونحن نطلق خطأ على هذا الجانب المجهول من قدرة الله والذي لا يخضع للقوانين الظاهرة: المصادفات والاحتمالات والظواهر غير المنظورة تقريباً للأمور. والواقع أن الحتمية تقوم على نظرية مادية خالصة.
أما الإنسان فله دوره وإرادته الذاتية التي تحقق له التصرف الذي به يكن مسئولاً عن عمله، في دائرة صغيرة ولكنها بعيدة الأثر في أحداث التغيير.
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
والفرد يستطيع أن يمارس إرادته في تغيير الواقع والمجتمع بقدر استفادته من قوانين الحركة.
والإنسان له إرادة فاعلة وهي جزء من إرادة الله يتميز بها عن الحيوان وهي يتحرك في دائرة خاصة ويكون مسئولاً في حدودها، ولكنها لا تمثل إلا شطراً يسيراً من إرادة الله الكبرى التي تخلق التأثيرات العامة للمجتمعات والأكوان أما الحتمية فهي لا تتفق مع إرادة التغيير؛ لأن الحتمية تفترض أنه لا إرادة من جانب الإنسان، وهي بذلك تعد الإنسان متفرجاً إزاء حركة التاريخ يرى ما يحدث له وللمجتمع دون أن يشارك فيه وهذا والقول مخالف للواقع ولطبائع الأشياء.(167/3)
ومن هنا فإن القول الذي يردده جبريو التاريخ كماركسي والذي يقول أن التاريخ محكوم المسار في مستقبله فهو غير صحيح وكل النبوءات التي قدمها ماركس في هذا الصدد قد تبين كذبها ولم تتحقق -جميعاً- وما وقع في المستقبل بعد تنبؤات ماركس كان مخالفاً تماماً لما قرره بناء على حتمية التاريخ أو جبريته في حدود النظرية التي قدمها، ذلك لأن ماركس ليس إلا بشراً يعجز عن الإحاطة ونظريته ليست إلا شطيرة ترتبط بعنصر واحد من عناصر التأثير وهي الاقتصاد وتقوم في مرحلة زمنية محدودة وبيئة لها طابع خاص، ومن هنا فقد عجز وعجزت عن تفسير المستقبل فضلاً عن إخفاق ماركس في تحليل التاريخ القديم.
ولا ريب أن النموذج البشري الذي تقوم عليه فكرة الجبرية هو نموذج إنسان سلبي خامل كسول، مستسلم للواقع، متنازل عن حقه الطبيعي في الاختيار مؤثراً للأمان والجبن وعدم المجازفة، وبذلك يفترض في هذا الإنسان أنه تطبيق للحتمية المادية الخادعة الكاذبة.
والمسلم لا يقر هذا المفهوم، السلبي، ويؤمن بالإرادة، وبالقدرة على الاختيار والحركة لتغيير الواقع، ويجعل من إرادته البشرية قوة قادرة على حكم الغرائز وقيادتها والسيطرة عليها.
وهذا هو السر في دعوة الإسلام الملحة لبناء الإرادة.
كذلك الأمم فإنها حين تخضع للجبرية تموت؛ لأنها تستسلم وتُداس بالأقدام، أقدام الغزاة والغاصبين، والإرادة والاختيار هما عاملا التغير في الفرد وفي الجماعات والأمم، وبقوانين هذه الإرادة تقوم الأمم وتتجدد، ولا ريب أن التقدم مرتبط بتنمية إرادة التغيير، فإذا فقدت الأمة هذه الإرادة، استسلمت للجبرية التي هي الانحطاط.
ولا ريب أن تفشي هذا المفهوم في الفكر الغربي في هذه المرحلة من انهيار الحضارة هو علامة على مرحلة سقوطها الذي تنبأ به كثير من الباحثين، والذي هو سمة كل الحضارات والأمم التي تستسلم للجبرية الممثلة في الترف والانحلال والفساد والإباحية.
وكما يرفض الإسلام الجبرية التي تجعل الإنسان متفرجاً على التاريخ، كذلك فإن العلم يرفض الجبرية ولا يراها حقيقة أساسية. وكل ما يقال عن أن الجبرية أو الحتمية هي علم فهو من قبيل الخداع: فالعلم لا علاقة له بهذه الأبحاث التي هي من شأن الفلسفة وإنما هم أطلقوا عليها كلمة فلسفة العلم لأنهم حاولوا أن يستمدوا مفهوم المادية من بعض نظريات العلم التي كانت في القرن التاسع عشر تقول بانبثاق هذا الكون بدون صانع، وقد سقطت هذه النظرية التي قامت على أساسها مذاهب سياسية واجتماعية كثيرة كالماركسية والوجودية والبرجماتية مثلاً. ولقد تقدم العلم الآن تقدماً عجيباً وألغى كثيراً من النظريات العلمية التي لم تكن في واقع الأمر إلا "فرضاً" لتغطية الجوانب الناقصة في عملية البحث، غير أن التجربة المستمرة كشفت عن أشياء جديدة جعلت كل ما كان يقال من قبل فاسداً وخاصة فيما يتعلق بالطاقة والمادة؛ فقد أثبت العلم أن الطاقة تتحول إلى مادة وأن المادة تتحول إلى طاقة وبذلك انهدم أساس الفكر المادي وتحطم كثير من القواعد التي تقوم عليها الفلسفات المادية.
ولكن دعاة هذه المذاهب إنما يهدفون إلى هدم المجتمع البشري بإحلال روح الفساد فيه وإسقاط الإرادة ووضع مسئولية الخطأ والانحراف على المجتمعات، وإعلاء شأن المفهوم الجمعي للقضاء على الفردية التي هي مناط المسئولية والخبراء في الدين الحق، وذلك من شأنه أن يدفع إلى مزيد من غلبة الشهوات وتبرير الفساد وسقوط المجتمعات وهو ما تهدف إليه اليهودية التلمودية فيما أشارت إليه في بروتوكلات صهيون.
وعندما نراجع أصول الجبرية في الفكر الإسلامي تجد أن مصدرها يهودي، فهو مما قال به الذين حملوا سموم الفكر البشري القديم، والفرنسيون يقولون بأن الإنسان ليس إرادة ولا اختياراً ولا تأثيراً ولا جزءاً كسبياً، ولذا لا يرونه جديراً بالمدح ولا بالذم، أما اليهود الفروشيم فقد بالغوا بالاختيار ورأوا الإنسان قادراً على مطلق عمل دون أمر الله ونهيه. وكلا الأمرين الجبر المطلق والاختيار المطلق لا يقرهما الإسلام، وفي الفلسفات الهندية والصينية والفارسية جبرية واضحة؛ إذن أن البرهمية والبوذية والمزكية تبرره، كذلك الفلسفة اليونانية فإن حرب طروادة قد حملت سواد الناس على التسليم المطلق بالجبر، وكذلك فلسفات التقمص والتناسخ كلها مفضية إلى الجبرية.
وكذلك تحمل فكرة وحدة الوجود معنى الجبر؛ فهي تلغي الإرادة والمسئولية الفردية، وصدق في هذا قول القائل: إن الاختيار المطلق يكلف الإنسان فوق الطاقة والجبر المطلق محو للتكليف وهدم للشريعة وإبطال لحكم العقل وإنكار للواقع.
والإسلام لا جبر فيه، ولقد نادى القرآن بالتمييز: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وأخذ الرسول بيد طلاب الهداية لربهم، ودعا الإسلام إلى الإرادة: والصبر وعزائم الأمور، ودعا إلى تغيير الواقع الفاسد ودعا إلى الهجرة في الأرض حتى لا يظلم الإنسان نفسه بالبقاء في الواقع السلبي.(167/4)
ولقد أقام الإسلام الاختيار ونادى به القرآن (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه).
وقال ابن تيمية=: "إن للعبد قدرة ومشيئة وعمل فهو مختار مريد. والجبريون هم المعطلون للتكاليف الشرعية المسفهون للخطابات الإلهية". وقال النابلسي أنهم زنادقة هذه الأمة:
ولقد فتح الإسلام الباب واسعاً أمام الذين ينحرفون إلى الجبر مع قدرتهم على الحرية والاختيار، وفتح لهم باب العودة إلى الإرادة الصحيحة.
ورسل الله ودعاة الحق في كل جيل وعصر لم يأمروا بالانحراف، ودعوا إلى الإرادة والاختيار التي تنشأ عنها المسئولية والجزاء، ولكن المنحرفين من أصحاب الفكر البشري هم الذين زينوا القياس الحلول والإشراق والتجسد وغيرها من المفاهيم الباطلة المبطلة التي تدعو إلى الجبرية، ثم جاء الفكر الفلسفي المادي المعاصر فاحتوى كل هذه العناصر وأعاد صياغتها من جديد.
ومن عجب أن العلم بالتجارب العديدة لم يعد تعبر نظرية الحتمية: التي كان يقوم عليها كيانه، فأصبح حين تتوافر الشروط والأسباب يحكم بوقوع النتائج؛ وذلك لأنه وجد عشرات من الأشياء لا تخضع لهذا القانون، ومن ثم فإن العلماء لأن يقررون أن الحتمية في العلم غير ضرورية وأن القانون الذي يحكم العلم هو قانون الاحتمالات، وبذلك انفسح لهم المجال للإيمان بقوة عليا تسير العالم خارج نفسه.
ولكن رجال الفلسفة المادية، وهم اليهود التلموديون أصحاب بروتوكلات صهيون، إنما يريدون أن يتجاهلوا حقائق الفطرة وآراء العلم وطبيعة الدين الحق؛ ليفرضوا على البشرية نظرية زائفة يراد بها تدمير المجتمعات: تلك هي الجبرية والحتمية.
ولقد صدق القائل: أن الإنسان لا تجوز عليه الحتمية؛ لأن الناس ليسوا كرات بليارد تتحرك بحتمية قوانين فيزيائية؛ ولكنها مجموعة إرادات حرة تدخل في علاقات متعددة يستحيل فيها التنبؤ القائم على قوانين مادية، كذلك فإن القوانين الإحصائية هي قوانين إجمالية وكلها ترجيحات ولا يرتفع أحدها إلى مرتبة الحتمية على الإطلاق.
فساد نظرية (تنازع البقاء)
ومن الفرضيات التي قدمها العلم تحت التجربة نظرية (تنازع البقاء)، وقد تعالى القول بهذه النظرية وامتد حتى خُيل للناس أن هناك قانوناً يطلق عليه تنازع البقاء، وفي أفق الفكر الإسلامية والثقافة العربية ردد الباحثون هذا المصطلح سنوات وسنوات، ثم تبين من بعد أنه لا توجد حقيقة علمية تسمى تنازع البقاء، وأن كل ما يقال عن التنازع أو الصراع ليس من طبيعة العلاقات بين الأحياء.
لقد جاءت فرضية التنازع نتيجة لتقدير مادي بأن إنتاج الطعام في العالم محدود، بينما التوالد يتضاعف ويزداد، ومن هنا فلابد أن يتنازع الأفراد لأجل البقاء أو من أجل الحصول على الطعام، ولكن نظرية إنتاج الطعام المحدود التي قال بها "مالتوس"ثبت بطلانها من بعد؛ فقد اكتشفت أفاق عديدة للموارد والرزق ونما العالم وتضاعف عشرات المرات دون أن يفقد القوت، وهذا عيب النظريات التي تكون دائماً محدودة بقدر معين من العلم في عصرها، وبالتحدي الخاص ببيئتها وبالتأثير بنظرية جزئية أخرى، نجد هذا تماماً عند دارون ونجده عند ماركس ونجده عند فرويد.
وقد حاول أنصار دارون تبرير موقفه ودافعوا عنه، فقالوا أنه استمد نظرية تنازع البقاء في الطبيعة من إقامته في لنكشير وغيرها من الأقاليم الصناعية، وكانت نظرية دارون في مجموعها -وهي نظرية بيولوجية- مما استخدمه الفكر السياسي الاستعماري خاصة فيما يتعلق بتنازع البقاء وبقاء الأصلح، فقد طبقوها على الشعوب المستعمرة والقوى الاستعمارية المسيطرة عليها وجعلوا منها مبرراً لسيطرة المستعمرين.
فشلت نظرية داروين في تنازع البقاء وبقاء الأصلح وتبين للباحثين والعلماء أن هناك "تعاوناً" بين الأنواع أكبر من التنازع، وهناك تلاقياً أقوى من الصراع، وفي هذا يقول أحد الباحثين: أن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة الصناعية في لانكشير ومن كفاح الإمبراطورية البريطانية لخطف الأسواق وإذلال الأمم هذه العواطف حملته على أن يكبر من شأن التنازع: تنازع البقاء وحال هذا بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة؛ لأن الواقع أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع.
وكما سقطت نظرية التطور كما أرادها الفلاسفة الاجتماعيون، وسقطت نظرية مالتوس في الوراثة، كذلك سقطت نظرية "تنازع البقاء"، والفكر الإسلامي واضح في هذا تمام الوضوح؛ فهو يقر مفهوم التلاقي والتعاون والتكامل بين قوى الطبيعة المختلفة، ويرى أن هذا الالتقاء هو دافعها إلى الحركة والقوة والنماء".
ويرى الفكر الإسلامي ضرورة التعاون في المجتمع الإنساني بجميع أفراده، القوي والضعيف، والغني والفقير، والمريض والصحيح، ويُحّمل الإسلام الأقوياء والأغنياء والأصحاء مسئولية باقي أفراد المجتمع بنظام كامل من أنظمة الإعاشة والإنفاق والبذل.(167/5)
ويرفض الإسلام تماماً فكرة القضاء على الضعفاء أو الفقراء أو المرضى ويراها عاملاً من عوامل الخروج عن الإيمان (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)، وإذا كانت نظرية تنازع الإبقاء قد بدأت في مجال العلم الطبيعي فإن علماء الاجتماع أرادوا أن يجعلوها قانوناً عاماً للبشرية ولكنهم فشلوا في ذلك وتبين من التجارب المتعددة قيام التعاون بديلاً عن التنازع.
ومن هنا كان زيف كل التفسيرات التي حاول بعض الماديين إلقاءها شأن المواقع التاريخية واندثار الحضارات وانقراض الأمم.
ومن الحق أن الصراع لم يكن هو مصدر انهيار الحضارات أو انقراض الأمم؛ وإنما كان الفساد والانحراف والاستعلاء والترف والتحلل والخروج عن نظام الكون وقوانينه الطبيعية التي تفرض العمل والإرادة وبذل الجهد والاستمساك بالخشونة في الحياة والحفاظ على الضوابط والحدود.
ومما ينقض نظرية تنازع البقاء أن الحيوانات الواطئة الضعيفة تعيش وتنمو. وفق قانون التكيف مع البيئة الذي هو أصدق من قانون تنازع البقاء، ذلك أن كل كائن يستطيع أن يحتاط ويتكيف مع الظروف إذا كانت هذه من الطبيعة كالبرد والحر أو من مقاومة الأعداء.
ويصدق قانون التكيف مع البيئة بينما تفشل نظرية "تنازع البقاء"، ويؤكد الباحثون أن فساد نظرية تنازع البقاء ترجع أساساً إلى أنها تعارض الطبيعة والفطرة وتكشف عن تحدِ واضح لانطلاقة الحياة في صورتها السليمة. فهي تؤدي إلى حرمان الضعفاء من حق الحياة وتشجيع الأقوياء على التسلط والسيطرة، وتبيح الحرب وتعتبرها ضرورة في يد القوي لإهلاك الضعيف.
ولما كان من طبيعة القوي أن يسيطر على الأضعف، فقد دعا الإسلام إلى أن يتمسك أهله بالقوة في مواجهة كل مَن يحاول الاعتداء عليهم، وكذلك دعا الأفراد إلى الهجرة من الأرض التي يقع فيها الإذلال لهم؛ حتى لا يكون المسلمون موضع سيطرة من غيرهم أو تسلط مِن عدوهم.
والحق دائماً يثبت والباطل دائماً يرتفع ثم ينهزم؛ لأنه لا يستطيع أن يواجه ثبات الحق وسلامته وقدرته على الانتصار والبقاء. وعلى أهل الحق أن يلتمسوا نصر الله بالاستعداد لمعارضة الباطل ومقاومته.
ويقر الإسلام نظام "التعاون" بديلاً لمفهوم "التنازع"، ومن هنا فإن الأنظمة التي تقوم على الصراع لابد أن تسقط؛ لأنها تمثل اتجاهاً مضاداً للحق والخير، الذي هو الناموس الطبيعي للحياة. ومن شأن "الفطرة" التي فطر الله عليها الكون والناس أن تمكن للحق من هزيمة الباطل والادالة نه=، ومن شأن أهل الحق أن يكونوا في يقظة حتى لا يستشري الباطل ويكسب الحولية عليهم، فإذا فقدوا مقومات عقيدتهم، تغلب الباطل عليهم لا محالة، فكان حقاً عليهم أن يعودوا إلى التماس مقومات عقيدتهم ويتجمعوا لها، ومهما كانوا قلة فإن تمسكهم بالحق مع معونة الله يحتم تحقيق النصر لهم، وهذا هو مفهوم دفع الله الناس بعضهم ببعض، وهو معنى يختلف عن النظرية الغربية "تنازع البقاء".
ويجمع الباحثون على أن "الصراع" فكرة استعمارية نشأت في ظل الفكر الغربي الاستعماري الذي اعتمد على القوة كوسيلة للسيطرة على الضعيف على النحو الذي اعتمد على القوة كوسيلة للسيطرة على الضعيف على النحو الذي سارت عليه عمليات الاستعمار والاحتلال والحروب الاستعمارية، تبريراً للاستيلاء على موارد الغير وممتلكاته بالقوة والعنف. ولقد رحب الماديون بفكرة دارون؛ لأن عقيدتهم تقوم على العنف وصراع الطبقات.
أما القرآن فقد ذكر أن "الصلاح" هو سبب بقاء الأمم والحضارات في الدنيا، وهو عدة الضعفاء المتقين في التغلب على الأقوياء المنحرفين.
ولا ريب أن من أخطر ما تروج له الفلسفات الغربية كلمة "الطبيعة"، حيث ينسب إليها العطاء والمنع والكشوف والقوانين، ولا ريب أن هذا معارض تماماً لمفهوم الدين الحق؛ فإن الخالق هو الله وليس الطبيعة، والطبيعة مخلوقة لله، مذللة له سبحانه. أما كلمة "الطبيعة" في مفهوم العلم فهي عبارة (عن=) قوانين سقوط الأجسام ودورانها ومغناطسيتها، وهي قوانين تعبر عن قدرة الله في خلق الكون والإنسان، وليس في الإسلام صراع بين الله والطبيعة؛ فالكل يسلم ويسجد طوعاً وكرهاً.(167/6)
وكل ما كشفه العلم الحديث ليس إلا قشوراً صغيرة من علم الله الأكبر، وما استطاع العلم أن يصل إلى تفسير ظواهر الأشياء. ومن أخطر مقاتل العلم الحديث أنه فضل بين المادي والروحي في العلم وأنكر الروحي: يقول الكسي كاريل: "إن الغلطة المسئولة عما نعانيه أنها جاءت مِن فكرة لجاليلو؛ فقد فصل جاليلو بين الصفات الأولية للأشياء وهي الأبعاد والأوزان التي يمكن قياسها بسهولة عن صفاتها الثانوية وهي الشكل واللون والرائحة التي لا يمكن قياسها فقد فصل الكم عن النوع (الكيف)، ولقد جلب الكم المعبر عنه باللغة الحسابية والعلم، بينما أهمل الكيف. لقد كان تجريد الأشياء عن صفاتها الأولية أمراً مشروعاً ولكن التغاضي عن الصفات الثانوية لم يكن كذلك؛ فالأشياء غير القابلة للقياس في الإنسان أكثر أهمية من تلك التي يمكن قياسها، فوجود التفكير هام جداً مثل التعادل الطبيعي الكيميائي لمصل الدم، ولما اتخذت التركيبات العضوية والألباب الفسيولوجية = حقيقة أكبر كثيراً من التفكير والسرور والحزن والجهل، دفعت هذه الغلطة الحضارة إلى سلوك طريق أدى إلى فوز العلم والانحلال الإنساني، ولابد أن يعيد الإنسان صياغة نفسه وأن الخطأ الذي بدأ به كان أنه أعل شأن الكم على الكيف، هذا الخلل المروع في بناء الحضارة، الإنسان الذي حقق تسخير المادة وإطلاق الطاقة لا يزال أقرب إلى الغابة في العقل والتدبير وذلك أن الدين هو الحماية: هو الحائط العريض الحاجز عن الخطر هو إنسان الإنسان الذي ينقله من الغابة".
من هذا المنطلق وقع المحظور، وتوالت الأخطاء، واندحر الإنسان الذي تمزق في الغرب.
ضوء حصيلة الأدب الأرةبي وفنونه أمر بالغ الخطر 000 وبعيد الأثر .(167/7)
(5)
أخطاء الفلسفة المادية
إن أخطر ما يحاول دعاة التغريب والماديون وأصحاب الفلسفات أن يقولوا أنهم إنما يصدرون فيما يقولون به من نظريات وأيدلوجيات ومذاهب على أساس عملي لا يقبل النقض، ونحن نعلم أن هناك فارقاً بعيداً جداً بين العلم وبين الفلسفة وبين معطيات العلم التجريبي القائمة على البحث والتجربة على النحو الذي يتم داخل المعامل وبين الفرضيات التي لم تؤكدها التجربة بعد. أو التي قال بها العلم في محلة ما ثم جاءت تجارب أخرى غيرت هذه المسلمات وتخطتها، ذلك أن الخطأ والخلط إنما يجئ نتيجة تبني الفلسفات لبعض مؤثرات العلم أو نظرياته ونقلها من مجال العلم التجريبي أو من مجال الدراسات البيولوجية ودراسات الطبيعة إلى مجال المفاهيم الإنسانية وقضايا النفس والاجتماع والأخلاق. بينما لا تصلح أساليب العلم التجريبي في التطبيق على شئون الإنسانيات من نفس واجتماع وأخلاق، هذه التي يجب أن تدرس وفق منهج آخر غير مناهج العلوم المادية.
إذا اتضح هذا المعنى أمكن النظر في سهولة ويسر إلى ذلك الحشد المتعدد من المصطلحات والمفاهيم التي تختلط بين العلم وبين الفلسفة، أما في مجال العلم فهي تدرس دراسة خالصة، وأما في مجال الفلسفة فإنها تخضع لكثير من الأهواء والدوافع.
وقد ظهرت نظريات متعددة في مجال العلم البيولوجي ثم لم تلبث أن نقلت إلى مجال العلوم الاجتماعية كحقائق مسلمة، ومن ذلك مفهوم التطور ومفهوم تنازع البقاء، وقد تبين من بعد أن تقبل هذه الفرضيات ليس سليماً على إطلاقه وأن تطبيقه في المجال الاجتماعي ليس صحيحاً دائماً.
ومن العجب أن النظرية المادية قامت من بعدها النظرية الماركسية على فرضية كشفت أبحاث العلم من بعد خطأها، قامت النظرية المادية وكذلك الماركسية على أساس القول بأن الحياة كلها من عقلية ونفسية وسلوكية صادرة من مادة عضوية، وهذه الفرضية لا تعد الآن من الحقائق العلمية، ومعنى هذا أن أساس الفلسفة المادية والنظرية الماركسية قد انهار من الأساس. كذلك فإن القول بالتطور المطلق الذي جعله هربرت سبنسر مفهوماً اجتماعياً قد سقط نتيجة لمفهوم آخر أصلح منه هو مفهوم الثوابت والمتغيرات، كذلك فإن فكرة الجوهر الفرد التي قامت عليها الفلسفات سقطات بنظرية النسبية وظهور مفهوم الطاقة التي تتحول إلى مادة والمادة التي تتحول إلى طاقة، كذلك فإن نظرية النسبية نقلت إلى المجال الاجتماعي القول بنسبية الأخلاق وارتباط القيم الأخلاقية بالمجتمعات والعصور، وهذه النظرية وجدت معارضة شديدة؛ لأنها تخالف الفطرة طبائع الأشياء. كذلك فإن نظرية الجبرية التي حاولت بعض المذاهب تطبيقها على التاريخ والحضارات والمجتمع قد تبين فسادها؛ لأنها تلغي التزام الأفراد ومسئولياتهم وتلغي إرادتهم بينما التاريخ كله من عمل الأفراد.
وكذلك تبين خطأ القول بتنازع البقاء وتبين أن تعاون الكائنات أطهر وأقوى وأكبر أثراً من تنازعها. وأن نظرية تنازع البقاء إنما ظهرت نتيجة ملاحظة محدودة لمجتمع محدود.
ويرجع هذا كله إلى منطلق الفكر الغربي أو الفلسفة الغربية الذي يقصر النظرة على المادة وحدها، بينما ينطلق الفكر الإسلامي إلى أفاق أرحب وإلى نظرة لها أبعاد أكثر وضوحاً وقوة.
فالفكر الإسلامي يؤمن بأن الثبات والتغير من القوانين الطبيعية في حياة البشرية والإنسان وفي الكون نفسه. وأن هناك أفلاكاً ثابتة وكواكب متحركة. وأن لكل شئ إطاراً لا يتغير وإنما تتغير الحركة في داخله.
فالإنسان في صورة خلقه وفي حياته يتحرك داخل إطار واضح محدود منذ الولادة إلى الوفاة، وقد تتغير الأساليب والملابس والوسائل ولكن تبقى القواعد الأساسية ثابتة، النوم واليقظة، والسكن والحركة، والطعام والشراب، هناك قيم ثابتة ولكن أساليب العمل بها تتغير وتتطور من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة حسب الظروف والحاجات.
والإنسان يتغير دائماً من حيث الحركة ولكن له إطاره الثابت من حيث أصول الحياة والفكر وأصول البقاء.
وكذلك فإن الإنسان يتحرك في الحياة في إطار من القيم والتعاليم والضوابط والحدود. ويخضع لقوانين الأخلاق والتعامل بما يتكامل معه مع مسيرة المجتمع كله، أخذاً وعطاءً، وحيث تنتهي حريته عندما تبدأ حرية الآخرين.
ومن هنا فإن مفهوم الإسلام يقوم على أساس ثبات القيم الأخلاقية والآداب الإنسانية التي هي من أصول ثبات الطبيعة البشرية، وفيما عدا ذلك فإن هناك تغيراً وتبديلاً وتطوراً دونما انقطاع، هذه القيم الثابتة من الدين والأخلاق والحدود والضوابط هي التي تقي المجتمع الإنساني من الفناء والهلاك، وهي القانون الثابت الذي لا يتغير مع تغير العناصر المختلفة في المجتمع.
وهكذا نجد ثوابت الكون في الطبيعة وثوابت الأخلاق في الإنسان ومتغيرات الكون ومتغيرات الإنسان، وكأنما نظام السلوك الإنساني مطابق لواقع النظام الكوني.(168/1)
وثبات السنن الإلهية في الكون والإنسان هو إطار حركة المتغيرات، ولقد كان الفكر الغربي في مرحلته اليونانية يؤمن بالثبات المطلق، ثم جاء هيجل فنقله إلى التطور المطلق. وكلاهما صدر عن نقص في النظرة وعجز عن استقصاء الأبعاد المختلفة التي جاء الدين الحق ليكشف عنها للإنسان وليدله عليها وليجعل فكره أكثر رقياً وأعمق فهماً.
ومن هنا فإن الفكر الغربي هو فكر انشطاري يمر اليوم بمرحلة التطور المطلق الذي لا يتوقف عند حد والذي يجري في غير إطار من الثوابت ومن ثم يتعرض لكثير من المعاطب والأخطار.
أما الفكر الإسلامي فهو فكر متكامل جامع، يربط بين القيم في توازن رقيق وتناسق معجز، فالحياة يقابلها الموت والفقر يقابله الغنى والجبن يقابله الشجاعة والروح تقابلها المادة، والكون كله ثنائيات متلاقية ليس فيه واحداً لا شاء له ولا تعدد إلا الله تبارك وتعالى، ومن شأن هذا الفهم أن يعالج أزمة الفكر الغربي التي تقوم على الصراع والتناقضات، ذلك أن المفهوم الكامل من شأنه أن يقضي على المتناقضات ويذيب الصراعات.
فليس وجود الأضداد دليل على خصومتها وتعارضها؛ ولكنه سبيل إلى تكاملها والتقائها فالضد يولد من الضد، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. ذلك أنو النور يكشف الظلام والحق ينسف الباطل.
أما الفكر الغربي الذي أثر فكرة التطور المطلق وحجب فكرة الأطر الثابتة فقد عجز عن فهم هذا الالتقاء وعده صراعاً، وتناقضات.
أما الإسلام فقد وفق بين المتناقضات في إطار التكامل وعلى قاعدة التوازن وليس في هذا ما يوصف بأنه ازدواجية؛ بل هو التكامل الذي يوفق بين الأضداد والمتناقضات ويسلكها في طريق الحركة الطبيعية.
ولقد يعجز الفكر الغربي عن فهم التكامل والالتقاء بينهما هو طبيعة طيعة للفكر الإسلامي الذي يقوم على التكامل بين الزمني والروحي والمطلق والنسبي واللانهائي والمحدود.
ومن هنا يمكن القول بلغة الفلاسفة أن الإسلام يجمع بين المنطق الشكلي والمنطق الجدلي، بين منطق أرسطو القائل بثبات الموجودات ومنطق هيجل القائل بتغير الموجودات الدائم. وبذل يقيم قانون "الثوابت والمتغيرات"، فالإسلام يجمع بين الأصول العقائدية الثابتة وبين الاجتهاد في الفروع والتفاصيل والتطبيقات (وهو ما نسميه التطور)، ويقول بتغير الأحكام النوعية مع تغير الأزمنة والأمكنة وهو ما يسميه الفقهاء اختلاف زمان ومكان لا اختلاف حجة وبرهان ذلك أن الإسلام منهج إلهي من حيث الأصول، ووضعي بشري من حيث التطبيق والتفاصيل، أصول إلهية ووضع بشري من حيث التطبيق والتفاصيل، أصول إلهية على أساس التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فهو لا يسحق الفرد لصالح الجماعة ولا يسحق الجماعة لصالح الفرد، فإذا استحال التوفيق اختار الإسلام المصالح الجماعية، وهذا هو التوازن الدقيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. ومعنى هذا أنه لا انفصال بين ما هو مادي وما هو روحي في الإسلام، ومنهج الإسلام أصول إلهية وتفسيرات بشرية، وعن طريق هذا المفهوم لا يجد المسلم ذلك القلق الفلسفي الواسع الذي يشغل الباحثين حول: التناقض والصراع والجبرية وتنازع البقاء.
(2)
فساد نظرية الجبرية
إلى أي حد يمكن أن يصل بالحضارة الغربية وبالفكر الغربي ذلك التصور الذي يجتاح العصر كله ويحاول أن يلقي بظله على الفكر الإسلامي ويجد من المثقفين العرب من يتبناه ويردده: هذا الفهم الخطير للجبرية والحتمية الذي يستمد منطلقه من الفلسفة المادية والذي يذهب بعيداً ليكون عاملاً خطيراً في تصرفات الإنسان، وسلوكه، وما هي صلة ذلك كله بنظرية الخطيئة الأولى في الفكر الغربي المسيحي، وعلاقته بالوجودية وبالأدب وبالأخلاق.(168/2)
لنستعرض هذا النص الذي يمثل وجهة نظر عامة الآن بين كتاب الغرب لنرى معه إلى (أي=) حد نستطيع أن نفهم الموقف: النص للكاتب الغربي الأمريكي (ماكسين جرين) يرى الإنسان الحديث أنه وليد قوى اجتماعية واقتصادية وبيولوجية تحدد دوره في الأرض دون أن يشعر هو نفسه على الإطلاق. إن فقدان الإنسان لكرامته واعتزازه بنفسه يرجع إلى التقدم العلمي الضخم في القرن التاسع عشر إلى أمثال دارون وهكسلي وماركس الذين أظهروا الإنسان فريسة لقوى ضخمة مظلمة لا سلطان له عليها، وهكذا وجد التفكير الجبري، وظهر هذا التفكير في الأدب في أعمال أصحاب المذهب الطبيعي في كل بلد هؤلاء الذين حلوا محل الأبطال الشاعرين بذواتهم مخلوقات سلبية مطاوعة أنتجتها قوى الوراثة والبيئة لا صلة لهم بها، بل لا وعي لهم بها، وقد اختفت بطولة الإنسان بفضل المذهب الطبيعي". هذا النص يتحدث عن "جبرية القوانين الطبيعية" وخضوع الإنسان لها: هذه تريد أن تفرض وجودها على الفكر الغربي كله: ليس الفكر الماركسي وحده ولكن الفكر الليبرالي أيضاً، فقد تغيرت الجذور القديمة التي كانت تستمد من الفلسفات المثالية وغيرها رؤية تتمثل فيها إرادة الإنسان، وساد الفكر الغربي اليوم قتام كامل ترتبط فيه كل المذاهب بهذه الجبرية والحتمية. سواء في دراسات علماء النفس، وعلماء الاقتصاد، أو علماء الاجتماع، أو علماء التاريخ أو في مذاهب الأدب والفن والشعر والمسرح والقصة .. إلخ.
هذا التحول الخطير أساسه المذهب المادي الذي يعد الآن بمثابة القاعدة الأساسية للاتجاهين المختلفين في الفكر الغربي: ليبرالي وماركسي، فردي واجتماعي، أدبي وعلمي. وهذا هو أبرز وجوه الخلاف اليوم بين الفكر الإسلامي وبين هذا الفكر جملة.
فإذا ذهبنا نستقصي المصدر الأول لفكرة الحتمية أو الجبرية وجدناها في تلك القوانين التي اكتشفها الإنسان للكون عن طريق العلم الحديث، دون معرفة مصدر هذه القوانين، والاعتقاد بأنها قوانين طبيعية حيث تدير الطبيعة نفسها فهي لا تتخلف. وفي هذا الاعتقاد خطأ أكبر وخطأ أصغر؛ أما الخطأ الأكبر فإنه من المستحيل أن تدير الطبيعة نفسها بمثل هذه الدقة؛ لأنها لم تخلق نفسها ولابد لها من خالق أساساً، ثم هو نفسه تبارك وتعالى الذي يديرها لحظة بعد أخرى. ومن هنا فإن هذه القوانين مخلوقة لله تعالى وهو القادر على إبطالها. غياب هذا الفهم عند الفكر المادي جعل النظرية قائمة على شق واحد منها هو حتمية هذه القوانين وإغفال الجانب الهام منها وهو صانعها ومديرها والقادر على إبطالها.
ومن هنا يصور العلماء الحتمية بأنها: هي خضوع الأشياء لمبدأ التغير للقوانين الضرورية وهذا يعني أن الأحداث تترابط فيما بينها وفق قوانين موضوعية ومن هنا فإن الحتمية هي إنكارها المصادفة والاحتمال وحرية الإرادة وأخطر ما في الحتمية هي إنكارها حرية الإرادة، ذلك أن الحتمية لا تتفق مع إرادة التغيير، ومن هنا فهي تعطل هذا الجانب الهام الذي هو مصدر أصيل في إنشاء التاريخ وتلغي دور الإنسان في التغيير.
وهي في هذا تخالف الإنسان من جانبين: من جانب عجزها عن فهم قدرة الله المطلقة وقدرته على خرق القوانين وتغيير الواقع وقصورها عن فهم إرادة الإنسان التي منحها الله إياه، داخل الإرادة العليا للكون كله.
والفارق يسير جداً فهو في نظر المسلم أن العوامل الظاهرة للحدث أو للقانون ليست هي وحدها العوامل الحقيقية، وأن هناك عوامل أخرى تخفى وهي من إرادة الله ومشيئته التي هي أكبر من الأسباب نفسها، والقادرة على تعطيل الأسباب أو إمضاء الأسباب من غير أن تحقق النتائج المترتبة عليها.
ونحن نطلق خطأ على هذا الجانب المجهول من قدرة الله والذي لا يخضع للقوانين الظاهرة: المصادفات والاحتمالات والظواهر غير المنظورة تقريباً للأمور. والواقع أن الحتمية تقوم على نظرية مادية خالصة.
أما الإنسان فله دوره وإرادته الذاتية التي تحقق له التصرف الذي به يكن مسئولاً عن عمله، في دائرة صغيرة ولكنها بعيدة الأثر في أحداث التغيير.
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
والفرد يستطيع أن يمارس إرادته في تغيير الواقع والمجتمع بقدر استفادته من قوانين الحركة.
والإنسان له إرادة فاعلة وهي جزء من إرادة الله يتميز بها عن الحيوان وهي يتحرك في دائرة خاصة ويكون مسئولاً في حدودها، ولكنها لا تمثل إلا شطراً يسيراً من إرادة الله الكبرى التي تخلق التأثيرات العامة للمجتمعات والأكوان أما الحتمية فهي لا تتفق مع إرادة التغيير؛ لأن الحتمية تفترض أنه لا إرادة من جانب الإنسان، وهي بذلك تعد الإنسان متفرجاً إزاء حركة التاريخ يرى ما يحدث له وللمجتمع دون أن يشارك فيه وهذا والقول مخالف للواقع ولطبائع الأشياء.(168/3)
ومن هنا فإن القول الذي يردده جبريو التاريخ كماركسي والذي يقول أن التاريخ محكوم المسار في مستقبله فهو غير صحيح وكل النبوءات التي قدمها ماركس في هذا الصدد قد تبين كذبها ولم تتحقق -جميعاً- وما وقع في المستقبل بعد تنبؤات ماركس كان مخالفاً تماماً لما قرره بناء على حتمية التاريخ أو جبريته في حدود النظرية التي قدمها، ذلك لأن ماركس ليس إلا بشراً يعجز عن الإحاطة ونظريته ليست إلا شطيرة ترتبط بعنصر واحد من عناصر التأثير وهي الاقتصاد وتقوم في مرحلة زمنية محدودة وبيئة لها طابع خاص، ومن هنا فقد عجز وعجزت عن تفسير المستقبل فضلاً عن إخفاق ماركس في تحليل التاريخ القديم.
ولا ريب أن النموذج البشري الذي تقوم عليه فكرة الجبرية هو نموذج إنسان سلبي خامل كسول، مستسلم للواقع، متنازل عن حقه الطبيعي في الاختيار مؤثراً للأمان والجبن وعدم المجازفة، وبذلك يفترض في هذا الإنسان أنه تطبيق للحتمية المادية الخادعة الكاذبة.
والمسلم لا يقر هذا المفهوم، السلبي، ويؤمن بالإرادة، وبالقدرة على الاختيار والحركة لتغيير الواقع، ويجعل من إرادته البشرية قوة قادرة على حكم الغرائز وقيادتها والسيطرة عليها.
وهذا هو السر في دعوة الإسلام الملحة لبناء الإرادة.
كذلك الأمم فإنها حين تخضع للجبرية تموت؛ لأنها تستسلم وتُداس بالأقدام، أقدام الغزاة والغاصبين، والإرادة والاختيار هما عاملا التغير في الفرد وفي الجماعات والأمم، وبقوانين هذه الإرادة تقوم الأمم وتتجدد، ولا ريب أن التقدم مرتبط بتنمية إرادة التغيير، فإذا فقدت الأمة هذه الإرادة، استسلمت للجبرية التي هي الانحطاط.
ولا ريب أن تفشي هذا المفهوم في الفكر الغربي في هذه المرحلة من انهيار الحضارة هو علامة على مرحلة سقوطها الذي تنبأ به كثير من الباحثين، والذي هو سمة كل الحضارات والأمم التي تستسلم للجبرية الممثلة في الترف والانحلال والفساد والإباحية.
وكما يرفض الإسلام الجبرية التي تجعل الإنسان متفرجاً على التاريخ، كذلك فإن العلم يرفض الجبرية ولا يراها حقيقة أساسية. وكل ما يقال عن أن الجبرية أو الحتمية هي علم فهو من قبيل الخداع: فالعلم لا علاقة له بهذه الأبحاث التي هي من شأن الفلسفة وإنما هم أطلقوا عليها كلمة فلسفة العلم لأنهم حاولوا أن يستمدوا مفهوم المادية من بعض نظريات العلم التي كانت في القرن التاسع عشر تقول بانبثاق هذا الكون بدون صانع، وقد سقطت هذه النظرية التي قامت على أساسها مذاهب سياسية واجتماعية كثيرة كالماركسية والوجودية والبرجماتية مثلاً. ولقد تقدم العلم الآن تقدماً عجيباً وألغى كثيراً من النظريات العلمية التي لم تكن في واقع الأمر إلا "فرضاً" لتغطية الجوانب الناقصة في عملية البحث، غير أن التجربة المستمرة كشفت عن أشياء جديدة جعلت كل ما كان يقال من قبل فاسداً وخاصة فيما يتعلق بالطاقة والمادة؛ فقد أثبت العلم أن الطاقة تتحول إلى مادة وأن المادة تتحول إلى طاقة وبذلك انهدم أساس الفكر المادي وتحطم كثير من القواعد التي تقوم عليها الفلسفات المادية.
ولكن دعاة هذه المذاهب إنما يهدفون إلى هدم المجتمع البشري بإحلال روح الفساد فيه وإسقاط الإرادة ووضع مسئولية الخطأ والانحراف على المجتمعات، وإعلاء شأن المفهوم الجمعي للقضاء على الفردية التي هي مناط المسئولية والخبراء في الدين الحق، وذلك من شأنه أن يدفع إلى مزيد من غلبة الشهوات وتبرير الفساد وسقوط المجتمعات وهو ما تهدف إليه اليهودية التلمودية فيما أشارت إليه في بروتوكلات صهيون.
وعندما نراجع أصول الجبرية في الفكر الإسلامي تجد أن مصدرها يهودي، فهو مما قال به الذين حملوا سموم الفكر البشري القديم، والفرنسيون يقولون بأن الإنسان ليس إرادة ولا اختياراً ولا تأثيراً ولا جزءاً كسبياً، ولذا لا يرونه جديراً بالمدح ولا بالذم، أما اليهود الفروشيم فقد بالغوا بالاختيار ورأوا الإنسان قادراً على مطلق عمل دون أمر الله ونهيه. وكلا الأمرين الجبر المطلق والاختيار المطلق لا يقرهما الإسلام، وفي الفلسفات الهندية والصينية والفارسية جبرية واضحة؛ إذن أن البرهمية والبوذية والمزكية تبرره، كذلك الفلسفة اليونانية فإن حرب طروادة قد حملت سواد الناس على التسليم المطلق بالجبر، وكذلك فلسفات التقمص والتناسخ كلها مفضية إلى الجبرية.
وكذلك تحمل فكرة وحدة الوجود معنى الجبر؛ فهي تلغي الإرادة والمسئولية الفردية، وصدق في هذا قول القائل: إن الاختيار المطلق يكلف الإنسان فوق الطاقة والجبر المطلق محو للتكليف وهدم للشريعة وإبطال لحكم العقل وإنكار للواقع.
والإسلام لا جبر فيه، ولقد نادى القرآن بالتمييز: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وأخذ الرسول بيد طلاب الهداية لربهم، ودعا الإسلام إلى الإرادة: والصبر وعزائم الأمور، ودعا إلى تغيير الواقع الفاسد ودعا إلى الهجرة في الأرض حتى لا يظلم الإنسان نفسه بالبقاء في الواقع السلبي.(168/4)
ولقد أقام الإسلام الاختيار ونادى به القرآن (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه).
وقال ابن تيمية=: "إن للعبد قدرة ومشيئة وعمل فهو مختار مريد. والجبريون هم المعطلون للتكاليف الشرعية المسفهون للخطابات الإلهية". وقال النابلسي أنهم زنادقة هذه الأمة:
ولقد فتح الإسلام الباب واسعاً أمام الذين ينحرفون إلى الجبر مع قدرتهم على الحرية والاختيار، وفتح لهم باب العودة إلى الإرادة الصحيحة.
ورسل الله ودعاة الحق في كل جيل وعصر لم يأمروا بالانحراف، ودعوا إلى الإرادة والاختيار التي تنشأ عنها المسئولية والجزاء، ولكن المنحرفين من أصحاب الفكر البشري هم الذين زينوا القياس الحلول والإشراق والتجسد وغيرها من المفاهيم الباطلة المبطلة التي تدعو إلى الجبرية، ثم جاء الفكر الفلسفي المادي المعاصر فاحتوى كل هذه العناصر وأعاد صياغتها من جديد.
ومن عجب أن العلم بالتجارب العديدة لم يعد تعبر نظرية الحتمية: التي كان يقوم عليها كيانه، فأصبح حين تتوافر الشروط والأسباب يحكم بوقوع النتائج؛ وذلك لأنه وجد عشرات من الأشياء لا تخضع لهذا القانون، ومن ثم فإن العلماء لأن يقررون أن الحتمية في العلم غير ضرورية وأن القانون الذي يحكم العلم هو قانون الاحتمالات، وبذلك انفسح لهم المجال للإيمان بقوة عليا تسير العالم خارج نفسه.
ولكن رجال الفلسفة المادية، وهم اليهود التلموديون أصحاب بروتوكلات صهيون، إنما يريدون أن يتجاهلوا حقائق الفطرة وآراء العلم وطبيعة الدين الحق؛ ليفرضوا على البشرية نظرية زائفة يراد بها تدمير المجتمعات: تلك هي الجبرية والحتمية.
ولقد صدق القائل: أن الإنسان لا تجوز عليه الحتمية؛ لأن الناس ليسوا كرات بليارد تتحرك بحتمية قوانين فيزيائية؛ ولكنها مجموعة إرادات حرة تدخل في علاقات متعددة يستحيل فيها التنبؤ القائم على قوانين مادية، كذلك فإن القوانين الإحصائية هي قوانين إجمالية وكلها ترجيحات ولا يرتفع أحدها إلى مرتبة الحتمية على الإطلاق.
(3)
فساد نظرية (تنازع البقاء)
ومن الفرضيات التي قدمها العلم تحت التجربة نظرية (تنازع البقاء)، وقد تعالى القول بهذه النظرية وامتد حتى خُيل للناس أن هناك قانوناً يطلق عليه تنازع البقاء، وفي أفق الفكر الإسلامية والثقافة العربية ردد الباحثون هذا المصطلح سنوات وسنوات، ثم تبين من بعد أنه لا توجد حقيقة علمية تسمى تنازع البقاء، وأن كل ما يقال عن التنازع أو الصراع ليس من طبيعة العلاقات بين الأحياء.
لقد جاءت فرضية التنازع نتيجة لتقدير مادي بأن إنتاج الطعام في العالم محدود، بينما التوالد يتضاعف ويزداد، ومن هنا فلابد أن يتنازع الأفراد لأجل البقاء أو من أجل الحصول على الطعام، ولكن نظرية إنتاج الطعام المحدود التي قال بها "مالتوس"ثبت بطلانها من بعد؛ فقد اكتشفت أفاق عديدة للموارد والرزق ونما العالم وتضاعف عشرات المرات دون أن يفقد القوت، وهذا عيب النظريات التي تكون دائماً محدودة بقدر معين من العلم في عصرها، وبالتحدي الخاص ببيئتها وبالتأثير بنظرية جزئية أخرى، نجد هذا تماماً عند دارون ونجده عند ماركس ونجده عند فرويد.
وقد حاول أنصار دارون تبرير موقفه ودافعوا عنه، فقالوا أنه استمد نظرية تنازع البقاء في الطبيعة من إقامته في لنكشير وغيرها من الأقاليم الصناعية، وكانت نظرية دارون في مجموعها -وهي نظرية بيولوجية- مما استخدمه الفكر السياسي الاستعماري خاصة فيما يتعلق بتنازع البقاء وبقاء الأصلح، فقد طبقوها على الشعوب المستعمرة والقوى الاستعمارية المسيطرة عليها وجعلوا منها مبرراً لسيطرة المستعمرين.
فشلت نظرية داروين في تنازع البقاء وبقاء الأصلح وتبين للباحثين والعلماء أن هناك "تعاوناً" بين الأنواع أكبر من التنازع، وهناك تلاقياً أقوى من الصراع، وفي هذا يقول أحد الباحثين: أن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة الصناعية في لانكشير ومن كفاح الإمبراطورية البريطانية لخطف الأسواق وإذلال الأمم هذه العواطف حملته على أن يكبر من شأن التنازع: تنازع البقاء وحال هذا بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة؛ لأن الواقع أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع.
وكما سقطت نظرية التطور كما أرادها الفلاسفة الاجتماعيون، وسقطت نظرية مالتوس في الوراثة، كذلك سقطت نظرية "تنازع البقاء"، والفكر الإسلامي واضح في هذا تمام الوضوح؛ فهو يقر مفهوم التلاقي والتعاون والتكامل بين قوى الطبيعة المختلفة، ويرى أن هذا الالتقاء هو دافعها إلى الحركة والقوة والنماء".
ويرى الفكر الإسلامي ضرورة التعاون في المجتمع الإنساني بجميع أفراده، القوي والضعيف، والغني والفقير، والمريض والصحيح، ويُحّمل الإسلام الأقوياء والأغنياء والأصحاء مسئولية باقي أفراد المجتمع بنظام كامل من أنظمة الإعاشة والإنفاق والبذل.(168/5)
ويرفض الإسلام تماماً فكرة القضاء على الضعفاء أو الفقراء أو المرضى ويراها عاملاً من عوامل الخروج عن الإيمان (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)، وإذا كانت نظرية تنازع الإبقاء قد بدأت في مجال العلم الطبيعي فإن علماء الاجتماع أرادوا أن يجعلوها قانوناً عاماً للبشرية ولكنهم فشلوا في ذلك وتبين من التجارب المتعددة قيام التعاون بديلاً عن التنازع.
ومن هنا كان زيف كل التفسيرات التي حاول بعض الماديين إلقاءها شأن المواقع التاريخية واندثار الحضارات وانقراض الأمم.
ومن الحق أن الصراع لم يكن هو مصدر انهيار الحضارات أو انقراض الأمم؛ وإنما كان الفساد والانحراف والاستعلاء والترف والتحلل والخروج عن نظام الكون وقوانينه الطبيعية التي تفرض العمل والإرادة وبذل الجهد والاستمساك بالخشونة في الحياة والحفاظ على الضوابط والحدود.
ومما ينقض نظرية تنازع البقاء أن الحيوانات الواطئة الضعيفة تعيش وتنمو. وفق قانون التكيف مع البيئة الذي هو أصدق من قانون تنازع البقاء، ذلك أن كل كائن يستطيع أن يحتاط ويتكيف مع الظروف إذا كانت هذه من الطبيعة كالبرد والحر أو من مقاومة الأعداء.
ويصدق قانون التكيف مع البيئة بينما تفشل نظرية "تنازع البقاء"، ويؤكد الباحثون أن فساد نظرية تنازع البقاء ترجع أساساً إلى أنها تعارض الطبيعة والفطرة وتكشف عن تحدِ واضح لانطلاقة الحياة في صورتها السليمة. فهي تؤدي إلى حرمان الضعفاء من حق الحياة وتشجيع الأقوياء على التسلط والسيطرة، وتبيح الحرب وتعتبرها ضرورة في يد القوي لإهلاك الضعيف.
ولما كان من طبيعة القوي أن يسيطر على الأضعف، فقد دعا الإسلام إلى أن يتمسك أهله بالقوة في مواجهة كل مَن يحاول الاعتداء عليهم، وكذلك دعا الأفراد إلى الهجرة من الأرض التي يقع فيها الإذلال لهم؛ حتى لا يكون المسلمون موضع سيطرة من غيرهم أو تسلط مِن عدوهم.
والحق دائماً يثبت والباطل دائماً يرتفع ثم ينهزم؛ لأنه لا يستطيع أن يواجه ثبات الحق وسلامته وقدرته على الانتصار والبقاء. وعلى أهل الحق أن يلتمسوا نصر الله بالاستعداد لمعارضة الباطل ومقاومته.
ويقر الإسلام نظام "التعاون" بديلاً لمفهوم "التنازع"، ومن هنا فإن الأنظمة التي تقوم على الصراع لابد أن تسقط؛ لأنها تمثل اتجاهاً مضاداً للحق والخير، الذي هو الناموس الطبيعي للحياة. ومن شأن "الفطرة" التي فطر الله عليها الكون والناس أن تمكن للحق من هزيمة الباطل والادالة نه=، ومن شأن أهل الحق أن يكونوا في يقظة حتى لا يستشري الباطل ويكسب الحولية عليهم، فإذا فقدوا مقومات عقيدتهم، تغلب الباطل عليهم لا محالة، فكان حقاً عليهم أن يعودوا إلى التماس مقومات عقيدتهم ويتجمعوا لها، ومهما كانوا قلة فإن تمسكهم بالحق مع معونة الله يحتم تحقيق النصر لهم، وهذا هو مفهوم دفع الله الناس بعضهم ببعض، وهو معنى يختلف عن النظرية الغربية "تنازع البقاء".
ويجمع الباحثون على أن "الصراع" فكرة استعمارية نشأت في ظل الفكر الغربي الاستعماري الذي اعتمد على القوة كوسيلة للسيطرة على الضعيف على النحو الذي اعتمد على القوة كوسيلة للسيطرة على الضعيف على النحو الذي سارت عليه عمليات الاستعمار والاحتلال والحروب الاستعمارية، تبريراً للاستيلاء على موارد الغير وممتلكاته بالقوة والعنف. ولقد رحب الماديون بفكرة دارون؛ لأن عقيدتهم تقوم على العنف وصراع الطبقات.
أما القرآن فقد ذكر أن "الصلاح" هو سبب بقاء الأمم والحضارات في الدنيا، وهو عدة الضعفاء المتقين في التغلب على الأقوياء المنحرفين.
ولا ريب أن من أخطر ما تروج له الفلسفات الغربية كلمة "الطبيعة"، حيث ينسب إليها العطاء والمنع والكشوف والقوانين، ولا ريب أن هذا معارض تماماً لمفهوم الدين الحق؛ فإن الخالق هو الله وليس الطبيعة، والطبيعة مخلوقة لله، مذللة له سبحانه. أما كلمة "الطبيعة" في مفهوم العلم فهي عبارة (عن=) قوانين سقوط الأجسام ودورانها ومغناطسيتها، وهي قوانين تعبر عن قدرة الله في خلق الكون والإنسان، وليس في الإسلام صراع بين الله والطبيعة؛ فالكل يسلم ويسجد طوعاً وكرهاً.(168/6)
وكل ما كشفه العلم الحديث ليس إلا قشوراً صغيرة من علم الله الأكبر، وما استطاع العلم أن يصل إلى تفسير ظواهر الأشياء. ومن أخطر مقاتل العلم الحديث أنه فضل بين المادي والروحي في العلم وأنكر الروحي: يقول الكسي كاريل: "إن الغلطة المسئولة عما نعانيه أنها جاءت مِن فكرة لجاليلو؛ فقد فصل جاليلو بين الصفات الأولية للأشياء وهي الأبعاد والأوزان التي يمكن قياسها بسهولة عن صفاتها الثانوية وهي الشكل واللون والرائحة التي لا يمكن قياسها فقد فصل الكم عن النوع (الكيف)، ولقد جلب الكم المعبر عنه باللغة الحسابية والعلم، بينما أهمل الكيف. لقد كان تجريد الأشياء عن صفاتها الأولية أمراً مشروعاً ولكن التغاضي عن الصفات الثانوية لم يكن كذلك؛ فالأشياء غير القابلة للقياس في الإنسان أكثر أهمية من تلك التي يمكن قياسها، فوجود التفكير هام جداً مثل التعادل الطبيعي الكيميائي لمصل الدم، ولما اتخذت التركيبات العضوية والألباب الفسيولوجية = حقيقة أكبر كثيراً من التفكير والسرور والحزن والجهل، دفعت هذه الغلطة الحضارة إلى سلوك طريق أدى إلى فوز العلم والانحلال الإنساني، ولابد أن يعيد الإنسان صياغة نفسه وأن الخطأ الذي بدأ به كان أنه أعل شأن الكم على الكيف، هذا الخلل المروع في بناء الحضارة، الإنسان الذي حقق تسخير المادة وإطلاق الطاقة لا يزال أقرب إلى الغابة في العقل والتدبير وذلك أن الدين هو الحماية: هو الحائط العريض الحاجز عن الخطر هو إنسان الإنسان الذي ينقله من الغابة".
من هذا المنطلق وقع المحظور، وتوالت الأخطاء، واندحر الإنسان الذي تمزق في الغرب.
أنور الجندي(168/7)
أخطاء شائعة بين الناس: أخطاء شائعة بين الناس (1) ... 2006-07-30 15:36:33
الشيخ د. مشهور فواز - المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - أم الفحم
الشيخ د. مشهور فواز - المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - أم الفحم
الشيخ د. مشهور فواز: إنّ تصحيح أخطاء العباد قربة الى ربّ الأرض والسماء، وإنّ إماتة البدع وإحياء السنن هو جهاد العلماء الذين حملوا مشاعل النور لتوضيح الطريق وإرشاد السبيل. والناظر في أحوال النّاس اليوم يجد الكثير منهم يقعون في أخطاء شرعية في شتى مجالات الشريعة، سواء من حيث يدرون أو من حيث لا يدرون.
وهنا يأتي دور الداعية ليمد إليهم يد العون لينقذهم ممّا هم فيه ويأخذ بأيديهم الى الله، أخذا رفيقا، وشعاره في ذلك:{ادع الى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل، آية 125).
وفي هذه السلسلة سأضع بين يدي القارئ الكريم أهم وأبرز الأخطاء الشائعة في عباداتنا ومعاملاتنا وعقودنا وأقوالنا وأفعالنا، متجنبا في ذلك المسائل المختلف فيها بين العلماء، لأنّه لا إنكار في محل الإختلاف، لذا سأجتهد أن لا أذكر إلا القضايا المتفق على عدم جوازها بين علماء الأمة، لتبصير النّاس بأمور عقائدهم وشرائعهم، راجيا رضا الله في الدارين الأولى والآخرة، والله من وراء القصد.
أولا: أخطاء الناس في مجال العبادات
وأبدأ في باب الطهارة:
1- عدم غسل الكعبين مع الرجلين:
من النّاس من يغسل قدمه الى كعبه، ويترك كعبه جافا، وهذا خطأ ينبغي التنبيه عليه.
والكعب: هما العظمان الناشئان على جنبتي القدم، ويسميها العامة (الجوزة).
والدليل على وجوب غسل الكعبين، ما رواه الأمام مسلم في صحيحه، عن نعيم المُجمر، قال: رأيت أبا هريرة رضي الله عنه يتوضأ، فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. (رواه مسلم، حديث دقم 642).
والشاهد من الحديث السابق قول أبي هريرة:«.. ثمّ غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق».
2- ترك الأعقاب جافة:
والأعقاب هي مؤخرة القدم، حيث أنه يجب على المتوضىء أن يتعهد مؤخرة قدمه بالغسل أثناء الوضوء، لما رواه البخاري في «صحيحه» عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، قال: تخلّف عنّا النّبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة (أي حان وقتها وأسرعنا في الوضوء لندركها) ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته:«ويل للأعقاب من النّار» مرتين أو ثلاثا. (رواه البخاري، حديث رقم 06)، ورواه مسلم بلفظ: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة حتى إذا كنّا بماء بالطريق تعجّل قومٌ عند العصر فتوضؤوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء» (رواه مسلم، حديث 142).
3- عدم غسل الكفين مع الذراعين:
ومن الأخطاء التي يقع فيها كثير من النّاس عدم غسل الكفين مع الذراعين عند غسل اليدين الى المرفقين، حيث يقتصرون على غسل اليد من الرسغ الى المرفق، دون غسل الكف.
والواجب غسل الكفين مع غسل الذراعين، لأنّ الكفين داخلان في مسمّى اليدين.
فإن قال قائل: لقد غسلت الكفين في بداية الوضوء! قلت له: إن غسل الكفين في بداية الوضوء سنة، أمّا مع الذراعين فواجب لقوله تعالى:{ يا أيّها الذين آمنوا إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق..} (المائدة، آية 60).
واليد تبدأ من الأظفار الى المرافق، فالكف داخل في مسمّى اليد، فوجب غسله.
4- ترك المرفق جافا:
من النّاس من يتوضأ فيغسل ذراعه الى المرفق ويترك غسل المرفق، وهذا خطأ، والصحيح أن يستوعب المرفق بالغسل حتى يشرع في العضد، لما رواه مسلم في صحيحه عن نُعيم المجمر، قال:«رأيت أبا هريرة رضي الله عنه يتوضأ، فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى، حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد»...
5- الإقتصار على غسل الخدين في الوضوء:
بعض الناس لا يغسل الوجه كاملا في الوضوء، بل يكتفي بغسل ظاهر الخدين، ويترك ما بقي، وبعضهم يضرب وجهه بالماء ثلاث مرات، ويكتفي بذلك، وقد يصيب الماء بعضه دون البعض الآخر.
والصحيح: أن يستوعب الوجه ليصح الوضوء، والوجه من منابت الشعر الى أسفل الذقن، ومن شحمة الأذن الى شحمة الأذن الأخرى.
وكذلك يجب تخليل اللحية الخفيفة (غير الكثة) عند غسل الوجه ليصل الماء الى أصل الشعر.
6- عدم تحريك الخاتم والساعة عند الوضوء:
ومن أخطاء بعض الناس عدم تحريك الخاتم عند غسل الكف، وعدم تحريك الساعة عند غسل الساعد، فيظل مكانهما جافا، والصحيح أنه يجب تحريكهما حتى يغسل ما تحتهما.(169/1)
قال البخاري رحمه الله تعالى:«وكان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم إذا توضأ» (رواه البخاري - كتاب الوضوء - باب غسل الأعقاب، وصحح إسناده الحافظ في الفتح، وقال: «لأنه قد لا يصل إليه الماء إذا كان ضيقا»).
7- الوضوء بالمناكير:
بعض النساء تتوضأ وعلى أظفارهنّ مادة المناكير، وهي طبقة عازلة تمنع وصول الماء الى الأظفار، فلا يصح الوضوء ولا الغسل بها، بل يجب إزالتها أثناء الوضوء أو الغسل.
روى أبو داود في سننه، حديث (175)، وأحمد في مسنده (15069)، وصححه الألباني عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم « أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلّي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعيد الوضوء والصلاة».
أخطاء شائعة بين الناس: أخطاء شائعة في المعاملات المالية (2) ... 2006-09-15 03:05:29
الشيخ د. مشهور فواز - المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - أم الفحم
الشيخ د. مشهور فواز - المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - أم الفحم
الشيخ د. مشهور فواز: 1- صرافة الشيكات المؤجلة بأقل من قيمتها :
حيث ظهر في الفترة الاخيرة ظاهرة بيع الشيكات المؤجلة بأقل من قيمتها التي قد حرّر بها الشيك ، وصورة ذلك : ان يأتي حامل الشيك الى صراف ومعه شيك قيمته 10000 شيكل مثلا ، فيصرفه له الصراف بـ 9000 شيكل .
وهذه الصورة من التعامل لا تجوز شرعا باتفاق علماء الأمة ، لأنها تحوي على ربا فضل وربا نساء ( نسيئة ) ، فليحذر الناس هذا التعامل الربوي وليتقوا الله ربهم .
وقد بينت في الحلقة السابقة فظاعة الربا وبشاعة وعقوبة المرابي الدنيوية والأخروية .
ولكن هل يمكن شراء بضائع او سلع بهذا الشيك المؤجل ؟ لا مانع شرعا من الشراء بالشيك المؤجل بضائع او سلعا ، وانما يحرم شراء اي عملة من العملات في هذا الشيك المؤجل ، وبناء على ذلك لو اشترى حامل الشيك المؤجل بضاعة كملابس او مواد تموينية مثلا او غيرها ثم قام البائع بارجاع الباقي للمشتري وهو حامل ( الشيك المؤجل ) فلا بأس بذلك شرعا .
صورة ذلك ان يذهب شخص الى حانوت لبيع الملابس ويشتري ملابس بقيمة 3000 شيقل من هذا الحانوت ويعطي المشتري لهذا البائع شيكا مقداره 5000 شيكل فيقوم البائع بارجاع 2000شيكل للمشتري .
فهذه الصورة جائزة شرعا ولا حرج بالتعامل بها ( انظر : يسألونك ، أ.د . حسام الدين ج6/ص18 ) ، وكما لا يجوز صرافة الشيكات المؤجلة بأقل من القيمة بنفس العملة المحرر بها الشيك كما سبق بيانه ، كذلك لا يجوز صرافة الشيكات المؤجلة بعملة اخرى غير المحرر بها الشيك .
ومثال ذلك : صرافة شيك مؤجل مقداره مثلا 5000 شيكل بالدولار او بالدينار او باليورو او بغيرها من العملات لأن هذا التعامل يتضمن ربا النسيئة ( النساء ) .
ولكن يجوز صرف الشيك النقدي بعملة اخرى غير العملة المحرر بها شيك مقابل ربح معلوم يحدده المتصارفان ( الصراف وحامل الشيك).
وصورة ذلك : ان يذهب شخص الى صراف ومعه شيك نقدي قيمته 10000 شيكل مثلا ويتفق مع الصراف بأن يعطيه بدلا منه 2000 دولار او 1500 دينار او 1000 يورو او غيرها من العملات .
فهذه العملية تجوز شرعا ، ولكن لا بد من تحقق الشروط التالية :
1- ان يكون الشيك مؤرخا بتاريخ اليوم الذي وقع فيه الصرف ( اي ان يكون الشيك نقديا ) .
2- ان يكون للشيك غطاء مالي بقيمته في المصرف الذي حُرر عليه ، فإن لم يكن للشيك غطاء مالي ، فلا يجوز في هذه الحالة لعدم التقايض ، لذلك لا بد من التوثق من ان الشيك مضمون الرصيد قبل صرفه .
فان توفر هذان الشرطان جاز الصرف بغير العملة المحرر بها الشيك والا فلا يجوز لاختلال شرط التقايض .
انظر :( استبدال النقود والعملات ، د. علي السالوس ص98 ) .
خطاء شائعة بين الناس: أخطاء شائعة بين الناس (3) ... 2006-08-11 20:26:28
الشيخ د. مشهور فواز - المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - أم الفحم
الشيخ د. مشهور فواز - المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - أم الفحم
الشيخ د. مشهور فواز:
1- العبث وكثرة الحركة في الصلاة:
وهذه آفة لا يكاد يسلم منها أعداد من المصلّين، لأنّهم لا يمتثلون أمر الله {وقوموا لله قانتين} (البقرة: 238)، ولا يعقلون قول الله :{قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} (المؤمنون: 1-2).
وقد ذكر أهل العلم أنّ الحركة الكثيرة المتوالية بغير حاجة تبطل الصلاة، فكيف بالعابثين في صلواتهم يقفون أمام الله، وأحدهم ينظر في ساعته، أو يعدل ثوبه أو يلقم إصبعه أنفه، ويرمي ببصره يمينا وشمالا وإلى السماء، ولا يخشى أن يخطف بصره وأن يختلس الشيطان من صلاته
2- مسابقة المأموم للإمام في الصلاة عمدا:
الإنسان من طبعه العجلة، قال تعالى:{ وكان الإنسان عجولا} (الإسراء، 21).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :«التأني من الله والعجلة من الشيطان» (رواه البيهقي في السنن الكبرى 40101).(169/2)
وكثيرا ما يلاحظ المرء وهو في الجماعة عددا من المصلّين عن يمينه أو شماله، بل ربّما يلاحظ ذلك على نفسه أحيانا مسابقة الإمام بالركوع أو السجود وفي تكبيرات الإنتقال عموما، وحتى في السلام من الصلاة.
وهذا العمل الذي لا يبدو ذا أهمية عند الكثيرين قد جاء فيه الوعيد الشديد عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار» (رواه مسلم، 1/302-213).
وإذا كان المصلّي مطالبا بالإتيان إلى الصلاة بالسكينة والوقار، فكيف بالصلاة ذاتها، وقد تختلط عند بعض النّاس مسابقة الإمام بالتخلف عنه.
فليعلم أن الفقهاء رحمهم الله قد ذكروا ضابطا حسنا في هذا، وهو أنّه ينبغي على المأموم الشروع في الحركة حين تنقطع تكبيرة الإمام، فإذا انتهى من (راء) الله أكبر يشرع المأموم في الحركة، لا يتقدم عن ذلك ولا يتأخر، وبذلك ينضبط الأمر، وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غاية الحرص على عدم استباق النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول أحدهم وهو البراء بن عازب - رضي الله عنه -: إنهم كانوا يصلّون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رفع رأسه من الركوع لم أرَ أحدا يحني ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض، ثم يخرّ من وراؤه سجدا. (رواه مسلم، حديث 474).
ولما كَبُر النبي صلى الله عليه وسلم وصار في حركته نوع من البطء نبّه المصلّين خلفه، فقال:«يا أيها النّاس، إنّي بدنت فلا تسبقوني بالركوع والسجود» (رواه مسلم، حديث 474).
وعلى الإمام أن يعمل بالسنة في التكبير إذا صلّى، بحيث يكبّر حين يقوم ثم يكبّر حين يركع.
روى البيهقي في سننه (2/93) وحسنه الألباني في أرواء الغليل (2/290) عن أبي هريرة رضي الله عنه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام الى الصلاة يكبّر حين يقوم، ثمّ يكبّر حين يركع، ثمّ يكبّر حين يهوي، ثمّ يكبّر حين يرفع رأسه، ثم يكبّر حين يسجد، ثم يكبّر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبّر حين يقوم من الثنتين». فإذا جعل الإمام تكبيره موافقا ومقترنا بحركته وحرص المأموم على الإلتزام بالكيفية السابق ذكرها صلح أمر الجماعة في صلاتهم.
3- مصافحة المرأة الأجنبية:
وهذا مما طغت فيه بعض الأعراف الإجتماعية على شريعة الله في المجتمع، وعلا فيه باطل عادات النّاس وتقاليدهم على حكم الله، حتى لو خاطبت أحدهم بحكم الشرع وأقمت الحجة وبيّنت الدليل اتهمك بالرجعية والتعقيد وقطع الرحم والتشكيك في النوايا الحسنة ... الخ، وصارت مصافحة بنت العم وبنت الخال وبنت الخالة وزوجة الأخ وزوجة العم وزوجة الخال أسهل في مجتمعنا من شرب الماء ، ولو نظروا بعين البصيرة في خطورة الأمر شرعا ما فعلوا ذلك .
قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : « لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له » ، ( رواه الطبراني ، 20/221 ، وهو في الصحيح الجامع 2194) .
ولا شك ان هذا من زنا اليد كما قال صلى الله عليه وسلم : « العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يزني » ، ( رواه احمد 6/357 ، وهو في الصحيح الجامع 2509 ) .
وهل هناك أطهر قلبا من محمد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك قال : « اني لا اصافح النساء » ، ( رواه احمد 6/753 ، وهو في صحيح الجامع 2509) .
وقال ايضا : « اني لا امس ايدي النساء » ، ( رواه الطبراني 24/342 ، وهو في صحيح الجامع 7053) .
وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : « والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير انه يبايعهن بالكلام ».
الا فليتق الله اناسٌ يهددون زوجاتهم بالطلاق اذا لم يصافحن اخوانهم ، وينبغي العلم بأن وضع الحائل للمصافحة من وراء ثوب لا يغني شيئا فهو حرام في الحالتين .
* ملاحظة : يخلط البعض بين مصافحة المرأة وبين نقض الوضوء من لمس المرأة ، فلمس المرأة شيء ونقض الوضوء شيء آخر .
فلو ان شخصا صافح امرأة أجنبية ( كامرأة اخيه مثلا ) أثم على ذلك بلا ريب ، اما بالنسبة لوضوئه ، فمسألته خلافية ، والراجح ان وضوءه ، صحيح ما لم يكن اللمس بشهوة .
فإن قال قائل : كيف يكون وضوؤه صحيح وهو قد أثم بسبب المصافحة ؟
قلت : هاتان جهتان منفكتان لا ارتباط بينهما ، فالمعصية ليست من نواقض الوضوء ، الا ترى ان البعض منا يجلس الساعات في مجلس مغيبة ونميمة ثم يقوم ويصلي دون ان يتوضأ ؟!
فالذي يغتاب مثلا يأثم ولكن وضوءه يبقى صحيحا .
-----------------
أخطاء شائعة بين الناس: أخطاء شائعة في المعاملات المالية ... 2006-09-08 12:24:21
الشيخ د. مشهور فواز - المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - أم الفحم
الشيخ د. مشهور فواز - المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - أم الفحم
الشيخ د. مشهور فواز: 1) مبادلة ذهب قديم بذهب جديد مع المفاضلة في الوزن:(169/3)
وصورة ذلك: أن يذهب شخص الى الصائغ ويكون معه ذهب مستعمل، ويريد استبداله بذهب جديد، فيقوم الصائغ بوزن المستعمل، ومن ثمّ إعطاء المشتري ذهبا جديدا أقل وزنا منه.
فلو كان وزن المستعمل مثلا (100 غرام)، يُعطيه الصائغ بدلا منه 80 غرام ذهب جديد.
وهذه الصورة من التعامل محرّمة شرعا، لأنّ من شروط بيع الذهب بالذهب التماثل والتقابض، ويُقصد بالتماثل هنا المساواة في الوزن، ولو كان أحد العوضين أجود من الآخر، كأن يكون أحد العوضين مثلا عيار 21 والآخر عيار 24.
فلا عبرة للجودة والرداءة عند مبادلة الذهب بالذهب، فلا بُدّ من التماثل والمساواة في الوزن على كل الأحوال.
والدليل على ذلك، ما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو رباً» (رواه مسلم، ج11 / ص15).
وهنا قد يتساءل البعض ويقول: ماذا يستفيد الصائغ في هذه الحالة؟! كيف يبدّل ذهبا قديما بذهب جديد بنفس الوزن، إنه سيخسر بهذه الحالة لا محالة؟!.
الجواب: هناك منفذ شرعي لهذه المسألة، وهو أن يبيع الشخص الذهب المستعمل أولا للصائغ، وبعد قبض النقود يشتري منه ذهبا جديدا إن شاء ذلك.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء :«لا يجوز تبديل ذهب مستعمل بذهب جديد بأقلّ من وزن الذهب المستعمل، ولو كان الذهب الجديد أجود من الذهب المستعمل، كأن يكون الذهب الجديد عيار 24 مثلا والذهب المستعمل عيار 21.
والذي أراه في هذه الحالة أنه يجب دفع قيمة الذهب المستعمل، ثم المشتري بعد قبض القيمة بالخيار: إن شاء اشترى ممّن باعه الذهب المستعمل ذهبا جديدا، وإن شاء اشترى من غيره».
والدليل على ذلك: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاء بتمر جنيب - جيد - فقال:«أكلّ تمر خبير هكذا؟ قال: لا، إنّا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تفعل، بع الجميع - أي التمر - الذي أقلّ من ذلك بالدراهم ثمّ ابتع بالدراهم جنيبا». (رواه البخاري،ومسلم ).
2) ربط الديون بعملة أخرى غير المتعاقد عليها:
وصورة ذلك: أن يقرض شخص آخر 100000 شيكل مثلا، ويسجّل عليه قيمتها بالذهب أو بالدولار أو بعملة أخرى ثابتة نسبيا، وغالبا ما تُسجّل عليه بالدولار.
فبدلا أن يسجّل عليه الدائن (المقرض) 100000شيكل يسجّل عليه قيمتها وهي 20000 دولار مثلا.
علما أن القرض لم يتمّ بالدولار، إنّما تمّ بالشيكل.
وهذه العملية لا تجوز شرعا عند أكثر العلماء المعاصرين، وبذلك أفتى المجمع الفقهي الإسلاميّ في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1400 هـ / 10-15 كانون الأول ديسمبر 1988م.
حيث قرر المجمع الموقّر بعد إطلاعه على البحوث المقدّمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تغيّر قيمة العملة) ما يلي: «العبرة في وفاء الديون بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة، لأنّ الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمّة أيا كان مصدرها بمستوى الأسعار».
فليحذر النّاس من هذا التعامل الماليّ المحرّم، لأنّ ذلك لون من ألوان الربا.
وقد يقول البعض: أنا كمقرض أريد أن أحافظ على القيمة الشرائية لمالي، فكيف أحافظ عليه إن لم ألجأ الى هذه الطريقة في التعامل؟
الجواب: إذا أراد الدائن أن يحافظ على قيمة ماله فعليه من الأصل أن يقرض بالدولار أو بالذهب أو بغيره من العملات الثابتة نسبيا.
فبدلا من أن يقرضه 100000 شيكل ويسجّل عليه قيمتها بالدولار 20000 دولار تقريبا، فليقرضه من الأساس 20000دولار، لا أن يقرضه بالشيكل ويسجّل عليه قيمتها بالدولار، فإنّ ذلك لا يجوز كما سبق.
وإنّني بهذا المقام، أنصح النّاس بالتوجه الى الإقراض بالذهب، فالذهب من العملات الثابتة، التي تحافظ على قيمتها الشرائية مع مرور الأيّام والأعوام، وصدقت العجائز لما أن قالت: «عليكم بالذهب، فإنّه زينة وذخيرة».
ملاحظة:
يجوز شرعا سداد الدين بغير العملة التي تم فيها القرض، وذلك بأن يتفق الدائن والمدين يوم السداد لا قبله على أداء الدين بعملة مغايرة لعملة الدين، شريطة أن يكون ذلك بسعر صرفها يوم السداد، وشريطة أن لا يتفرقا ويبقى شيء لأحدهما في ذمّة الآخر.
ومثال ذلك: أن يقرض شخص آخر 100000 شيكل، وعندما يأتي هذا الشخص لسداد الدّين الذي عليه يطلب منه المقرض بأن يعطيه إياها بالدولار بدلا من الشيكل، أو أن يسدّد المقترض هو من نفسه الدّين الذي عليه (100000 شيكل) بالدولار.
فهذه العملية تجوز شرعا بالشروط التالية:
1) أن لا يشترط ذلك على المقترض كشرط.
2) أن يكون ذلك بسعر صرفها، أي 100000 شيكل حسب يوم السداد، بمعنى أن تقدّر قيمة 100000 شيكل يوم السداد كم تكون بالدولار، لا أن تقدّر قيمة 100000 شيكل كم تكون بالدولار حسب سعرها يوم الإقراض.(169/4)
فإن كانت قيمة 100000 شيكل يوم الإقراض مثلا بالدولار 20000 دولار، وقيمتها بالدولار يوم السداد هي 81000 دولار، يلزمه أن يدفع 81000 دولار ولا يجب عليه أن يدفع 20000 دولار، ولا يجوز للمقرض أن يشترط عليه ذلك، إلا إذا تبرّع المدين (المقترض) من نفسه دون اشتراط مسبق.
3) أن لا يتفرقا وبينهما شيء، بمعنى أن يدفع له قيمة 100000 شيكل بالدولار في مجلس العقد قبل التفرق.
ودليل ذلك:ما ورد في السنة المطهرة عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: إنّي أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء».
==============
خطاء شائعة بين الناس: أخطاء شائعة بين الناس (5) ... 2006-09-08 12:36:28
الشيخ د. مشهور فواز - المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - أم الفحم
الشيخ د. مشهور فواز - المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - أم الفحم
الشيخ د. مشهور فواز: 1- هجر المسلم فوق ثلاثة ايام دون سبب شرعي :
من خطوات الشيطان احداث القطيعة بين المسلمين ، وكثيرون اولئك الذين يتبعون خطوات الشيطان فيهجرون اخوانهم المسلمين لاسباب غير شرعية اما لخلاف مادي او موقف سخيف وتستمر القطيعة دهرا ، وقد يحلف ان لا يكلمه وينذر ان لا يدخل بيته واذا رآه في طريق اعرض عنه واذا لقيه في مجلس صافح من قبله ومن بعده وتخطاه ، وهذا من اسباب الوهن في المجتمع المسلم .
ولذلك كان الحكم الشرعي حاسما والوعيد شديدا ، فعن ابي هريرة رضي الله عنه مرفوعا :« لا يحل لمسلم ان يهجر اخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار» ، ( رواه ابو داوود ج5/ص 215، وهو في صحيح الجامع 7635) .
وعن ابي خراش الاسلمي رضي الله عنه مرفوعا : ( من هجر أخاه سنة فهو بسفك دمه ) ، ( رواه البخاري في الادب المفرد ) وهو في صحيح الجامع - .
ويكفي من سيئات القطيعة بين المسلمين الحرمان من مغفرة الله عز وجل ، فعن ابي هريرة مرفوعا ( تعرض اعمال الناس في كل جمعة مرتين ، يوم الاثنين ويوم الخميس ، فيغفر لكل عبد مؤمن الا عبدا بينه وبين اخيه شحناء ، فيقال اتركوا او اركوا - أخروا .- هذين حتى يفيئا - أي يصطلحا -)، رواه مسلم .
ومن تاب الى الله من المتخاصمين فعليه ان يعود الى صاحبه يلقاه بالسلام ، فان فعل وابى صاحبه ، فقد برئت ذمة العائد وبقيت التبعة على من ابى .
فعن ابي ايوب مرفوعا : ( لا يحل لرجل ان يهجر اخاه فوق ثلاث ليال ، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) .
اما ان وجد سبب شرعي للهجر كترك الصلاة او اصرار على فاحشة ، فان كان الهجر يفيد المخطئ ويعيده الى صوابه او يشعره بخطئه صار الهجر واجبا ، واما ان كان لا يزيد المذنب الا اعراضا ولا ينتج الا عتوا ونفورا وعنادا وازديادا في الاثم ، فعند ذلك لا يسوغ الهجر لانه لا تتحقق له المصلحة الشرعية بل تزيد المفسدة فيكون من الصواب الاستمرار في الاحسان والنصح والتذكير .
ودليل ذلك :
ان النبي صلى الله عليه وسلم هجر كعبا بن مالك وصاحبيه لما رأى من المصلحة ذلك وترك هجر عبد الله بن ابي بن سلول والمنافقين لان عدم الهجر في حقهم اصلح .
2- اكل الربا :
لم يؤذن الله في كتابه بحرب احد الا اهل الربا ، قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ، ( سورة البقرة- آية 278-279) .
وهذا كاف في بيان شناعة الجريمة عند الله عز وجل .
والناظر على مستوى الافراد والدول يجد مدى الخراب والدمار الذي خلفه التعامل بالربا من الافلاس والكساد والركود والعجز عن تسديد الديون وشلل الاقتصاد وارتفاع مستوى البطالة وانهيار الكثير من الشركات والمؤسسات وجعل ناتج الكدح اليومي وعرق العمل يصب في خانة تسديد الربا غير المتناهي للمرابي وايجاد الطبقية في المجتمع ، مما جعل الاموال الطائلة تتركز في ايدي قلة من الناس ولعل هذا شيء من صور الحرب التي توعد الله بها المتعاملين بالربا ، وكل من يشارك في الربا من الاطراف الاساسية والوسطاء والمعينين المساعدين، ملعون على لسان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
فعن جابر - رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، وقال : هم سواء ) ، ( رواه مسلم ، ) .
ولقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبيان قبح هذه الكبيرة فيما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا :( الربا ثلاثة وسبعون بابا ايسرها مثل ان ينكح الرجل أمه وان اربى الربا عرض المسلم ) ، ( رواه الحاكم في المستدرك /، وهو في صحيح الجامع ) .
وعن عبد الله بن حنظلة رضي الله عنهما مرفوعا :(درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم اشد من ست وثلاثين زنية ) ، ( رواه الامام احمد 5/، وانظر صحيح الجامع ) .(169/5)
وتحريم الربا عام لم يخص بما كان بين غني وفقير كما يظنه بعض الناس ، بل هو عام في كل حال وشخص ، وكم من الاغنياء وكبار التجار قد افلسوا بسببه ، والواقع يشهد بذلك ، واقل ما فيه محق بركة المال ، وان كان كثيرا في العدد ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :( الربا وان كثر فإن عاقبته تصير الى قُل ٍّ ) ، ( رواه الحاكم ، ج2/وهو في صحيح الجامع - ومعنى قل أي نقصان الحال ) .
وليس الربا كذلك مخصوصا بما اذا كانت نسبته مرتفعة او متدنية ، قليلة أم كثيرة فكله حرام ، يبعث صاحبه من قبره يوم القيامة فيقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس والصرع .
ومع فحش هذه الجريمة ، الا ان الله اخبر عن التوبة منها وبين كيفية ذلك ، فقال تعالى لأهل الربا :{ وإن تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون } ، وهذا عين العدل .
وصور الربا في أيامنا كثيرة ، أهمها :
أ- الاقتراض الربوي : وهو ان يقترض شخص من جهة ما ( كمؤسسة او شخص ) مبلغا من المال وقدره مثلا50000 شيكل ليرده بعد سنة او سنتين 70000 شيكل .
وهذا قرض ربوي محرم بالاجماع بل هو كبيرة من الكبائر ، لا يجوز اللجوء الى مثل هذه المعاملة الا عند الاضطرار ، والضرورة تقدر بقدرها ، ومع ذلك ينبغي ان يستشعر المقترض مع اضطراره خطورة الربا وبشاعة امره ويكثر من الاستغفار وان يسعى لايجاد البديل ما امكن .
وهنا يجدر التنبيه والتحذير من الاستخفاف بأمر الاقتراض الربوي لأتفه الاسباب واقلها شأنا .
فالملاحظ ان هنالك حالات كثيرة يستقرض فيها الناس من البنوك الربوية ، مع عدم اضطرارهم او حاجتهم لذلك ، اللهم الا بغرض الرياء الاجتماعي الزائف او التوسع في الكماليات التي هم بغنى عنها .
ومن ذلك : الاستقراض من البنك الربوي لشراء سيارة من الشركة ، علما ان بمقدوره ان يشتري سيارة تسد حاجته وتقوم مقام كفايته دون اللجوء الى البنك الربوي .
فبدلا من ان يشتري سيارة من الشركة بامكانه ان يشتري سيارة مستعملة بقدر ما يملكه من الاموال .
ومن ذلك ايضا الاستقراض من البنك الربوي كما اخبرنا عن الكثيرين للسفر خارج البلاد بقصد الترويح عن النفس او لإقامة عرس يتباهى به بين الناس على حساب انتهاك محارم الله تعالى .
لذا ارى من الواجب المحتم ان أبيّن لإخواني مفهوم الضرورة والحاجة كما بينها العلماء .
الضرورة : هي التي اذا لم تتحقق للانسان قد يلحق به هلاك في نفسه ، كالذي يضطر الى اكل الميتة لاستبقاء حياته .
الحاجة : هي التي اذا لم تتحقق للانسان الحقت به مشقة في نفسه او ماله .
ويقصد بالمشقة : المشقة غير الاعتيادية التي هي فوق طاقة الانسان ومقدوره .
( والحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أم خاصة) .
كما ان ما ابيح للضرورة والحاجة فإنه يقدر بقدره ولا يجوز تجاوز حد الضرورة والحاجة .
ب- الميسر والقمار : وهو ما يسمى في أيامنا بالتوتو واللوطو و ( الونير ) وكل ذلك لون من ألوان الربا المحرم .
قال تعالى :{ انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } ، ( سورة المائدة- آية 90) .
قال العلماء :( قرن الله تعالى الميسر بالخمر والانصاب والازلام لان الذي يتعامل بالميسر يدمن على ذلك كما يدمن شارب الخمر على شربها فيصبح عاكفا على لعب الميسر والقمار كما يعكف الناسك على عبادة الاصنام ) .
وقد وجد في زماننا اندية خاصة بالقمار ومحلات تجارية تبيع استمارات تعبئة للقمار وهو ما يسمى بالتوتو واللوطو وكل ذلك سحت وايما لحم نبت من سحت فالنار اولى به .
ومن هنا انصح اخواني اصحاب المحلات التجارية بعدم بيع مثل هذه الاستمارات لان ذلك ابتزاز واستغلال لاموال الناس ، فكم من البيوت خربت من وراء ذلك وكم هم الذين يبذرون معاشاتهم برمتها على مثل هذه الاستمارات الشيطانية ، بدلا من ان ينفقوها على اطفالهم .
فاتقوا الله ايها الباعة وايها التجار وزكوا كسبكم ودخلكم .
بل لا اكون مبالغا ان قلت انه لا يجوز شرعا تعليق اوراق دعائية لمثل هذا التعامل الربوي المحرم كما نراه في كثير من المحلات التجارية من تعليق لافتات ترويج ودعاية للتوتو واللوطو .
لان الله تعالى يقول :{ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . والى لقاء آخر أبين فيه بقية صور التعامل الربوي في هذا الزمان .
والله تعالى اعلم .(169/6)
________________________________________
أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة
رئيسي :أخطاء ومخالفات :
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيراً، أما بعد،،،
فإن للناس مجالس، وأحاديث، ولكل من المحادثة والمجالسة آداب وسنن، يحسن بالمرء مراعاتها، ويتجنب ما ينافيها؛ ليكون مجلسه تسوده الحكمة، وتغشاه السكينة، وتتنزل عليه الرحمة.
وإن المتأمل لأحاديثنا ومجالسنا ليلحظ خللاً كبيرًا؛ ذلك أنها تعمر ـ غالبًا ـ بالهذر الضار، واللغو الذي لا طائل تحته، ولا فائدة ترجى من ورائه.
فلا يعالج في تلك المجالس قضية، ولا يؤمر فيها بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس، فلا غرو أن صارت وبالاً على أهليها؛ حيث فقدوا بركاتها، وحرموا خيراتها.
فما أحرانا أن تكون أحاديثنا ومجالسنا عامرة بالجد والحكمة، حافلة بما يعود علينا بالفائدة والمتعة، بعيدة عما ينافي الأدب والمروءة ، وإن مما يعين على ذلك أن تلقى الأضواء على ما يدور في مجالسنا وأحاديثنا من أخطاء؛ كي تتلافى ويسعى في علاجها.
أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة:
1ـ الثرثرة: وهي كثرة الكلام بلا فائدة، والثرثار هو كثير الكلام تكلفًا. والثرثار يتكلم في كل باب، فإذا حضر مجلسًا ملأه بكثرة الضجيج، وأشغله بفضول الكلام، فالثرثرة من مظاهر سوء الخلق، وهي دليل على نقص العقل ورقة الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ] رواه الترمذي وأحمد. وقال عطاء:'بترك الفضول تكمل العقول'.
وقال القاسمي:'إياك وفضول الكلام؛ فإنه يظهر من عيوبك ما بطن، ويحرك من عدوك ما سكن؛ فكلام الإنسان بيان فضله، وترجمان عقله؛ فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل'.
2ـ الاستئثار بالحديث: فهناك من يستأثر بالحديث، فلا يعطي غيره فرصة لأن يتكلم.
والأثرة بالحديث آفة قبيحة، ومن الأدب في الكلام أن يقتصد المسلم في تحدثه في المجالس، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:'وإياك أن تتصدى في مجالسك مع الناس للترؤس عليهم وأنت لست برئيس، وأن تكون ثرثارًا متصدرًا بكل كلام. وربما من جهلك وحمقك ملكت المجلس على الجلوس، وصرت أنت الخطيب والمتكلم دون غيرك. وإنما الآداب الشرعية والعرفية مطارحة الأحاديث، وكلٌ من الحاضرين يكون له نصيب من ذلك، اللهم إلا الصغار مع الكبار، فعليهم لزوم الأدب، وألا يتكلموا إلا جوابًا لغيرهم'.
3ـ الحديث عن النفس على سبيل المفاخرة: فبعض الناس لا يفتأ يتحدث عن نفسه، فيذكر محاسنها ، ويمتدح أعماله، ويدخل في ذلك تحدثه عن ذكاء أولاده، وعن زوجته، وحسن تدبيرها، ونحو ذلك.
والأصل في مدح الإنسان نفسه المنع؛ لقوله تعالى: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى[32] } [سورة النجم].
4ـ الغفلة عن مغبة الكلام: فهناك من يطلق لسانه بالكلام دونما نظر في آثاره، أو أبعاده، غير عابئ بما يجره عليه من بلاء أو شقاء؛ فلربما كان سببًا في مقتله، أو في إذكاء عداوة، أو إشعال حرب، أو نحو ذلك.
قال أكثم بن صيفي:'مقتل الرجل بين فكيه' يعني: لسانه. بل إن الإنسان قد يتكلم بكلمة لا يلقى لها بالاً يهوى بها في جهنم، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ] رواه البخاري ومسلم . ولهذا يجب على العاقل أن يخزن لسانه، وأن يزن كلامه؛ حتى لا يقع فيما لا تحمد عقباه، فيندم ولات ساعة مندم.
5ـ قلة المراعاة لمشاعر الآخرين: فمن الناس من هو غليظ الطبع، كثيف النفس، لا يراعى مشاعر الآخرين، ولا يأنف من مواجهتهم بما يكرهون، فتارة يُذكر الحاضرين بعيوبهم، وتارة يؤذيهم بلحن منطقة، وتارة يذكرهم بأمور يسوؤهم تذكرها.
قال ابن القيم رحمه الله : 'ومنهم من مخالطته حمى الروح، وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها. بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به؛ فهو يحدث من فيه كلما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة، التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض...'. ولهذا فالرجل النبيل، ذو المروءة والأدب هو من يراعي مشاعر الآخرين، فلا يؤذيهم بكلمة، ولا يجرح مشاعرهم بإشارة أو نحوها.(170/1)
6ـ التعميم في الذم: فتجد من الناس من يغلب عليه جانب المبالغة في إطلاق الأحكام، فتراه يعمم الحكم في ذم طائفة، أو قبيلة، أو جماعة من الناس. قال ابن المقفع:'إذا كنت في جماعة قوم أبدًا فلا تعمن جيلاً من الناس، أو أمة من الأمم بشتم ولا ذم؛ فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك مخطئًا فلا تأمن مكافأتهم، أو متعمدًا فتنسب إلى السفه.
ولا تذمن مع ذلك اسمًا من أسماء الرجال أو النساء بأن تقول: إن هذا لقبيحٌ من الأسماء؛ فإنك لا تدري لعل ذلك غير موافق لبعض جلسائك، ولعله يكون بعض أسماء الأهلين والحرم. ولا تستصغرن من هذا شيئًا؛ فكل ذلك يجرح في القلب، وجرح اللسان أشد من جرح اليد'.
7ـ كثرة الأسئلة، وتعمد الإحراج فيها: فيسأل عما لا يعنيه، ويسأل الناس عن أمورهم الخاصة، التي لا يرتضون أن يطلع عليها أحد غيرهم، ثم إن السائل قد يُوْقعُ نَفْسَهُ فيما يسوؤه من رد موبخ مسكتٍ ، قال ابن عبد البر:'قال تميم بن نضر بن يسار لأعرابي: هل أصابتك تخمة؟
قال: أما من طعامك فلا'.
ودع السؤال عن الأمور وبحثها فلرب حافر حفرةٍ هو يصرع
8ـ سرعة الجواب: فيجيب دون أن ينهي السائل كلامه، أو يجيب عن سؤال لم يوجه إليه، وأقبح ما في هذا أن يجيب المرء عن سؤال وجه إلى غيره، فهذا كله مناف لأدب المحادثة، قال عمر بن عبد العزيز :'خصلتان لا تعدمانك من الجاهل: كثرة الالتفات،وسرعة الجواب' .
9ـ الحرص على إبداء الرأي في كل صغيرة وكبيرة:وهذا مما يتنافى مع الحزم؛ فليس من الحكمة أن يتعجل الإنسان إبداء الرأي؛ لأنه ربما جانب الصواب، وخالف الحقيقة، بل ربما قاده ذلك إلى أن يتعصب لرأيه ولو كان غير مصيب؛ كيلا يوصم بالعجلة والزلل. و آراء المرء له، وأقواله عليه؛ فإذا صرح بآرائه صار أسيرًا لها، مكبلًا في أغلالها، له غنمها، وعليه غرمها.
10ـ التعرض للسفلة والسفهاء:فهناك من لا يأنف من مجاراة السفهاء، والتعرض للسفلة؛ فإذا ما جمعه بهم مجلس توسع في الحديث معهم، وتمادى في مضاحكتهم وممازحتهم، مما يجعله عرضة لسماع ما لا يرضيه من ساقط القول، فيصبح بذلك مساويًا لهم في سفههم وسفالتهم؛ إذ نزل إليهم، وانحط في حضيضهم.
إذا جاريت في خلق دنيئًا فأنت ومن تجاريه سواء
والمروءة أن يعرض المرء عنهم، ويدع الحديث معهم إلا بقدر ما تدعو إليه الحاجة؛ من سلام أورده، أو جواب لسؤال، أو نحو ذلك، قال تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[199] } [سورة الأعراف].
11ـ الحديث بما لا يناسب المقام: فتراه يتكلم بالهزل في مواقف الجد، ويحاول إضحاك السامعين في مجلس يسوده الحزن. ومن الناس من يخاطب الأذكياء بخطاب لا يناسب إلا قاصري العقول، وربما خاطب محدود الذكاء بكلام لا تدركه أفهامهم، ومن هنا يفقد الكلام قيمته، ويصبح ضربًا من الهذيان، بل ربما عرض صاحبه للمز للناس وعيبهم إياه.
ولئن كان مراعاة مقتضى الأحوال حسنًا مطلوبًا من كل أحد ـ فلهو من الخطيب حال الخطابة أولى وأحرى؛ فلكل مقام مقال، ولكل جماعة من الناس لسان تخاطب به؛ فالأغنياء يرضي كبرياءهم نزعٌ من الكلام لا يقتضيه مقام الخطبة ليسوا كذلك.
والعلماء يجتذبهم الثناء الحسن، وأن يكون الكلام الذي يلقى عليهم أقرب إلى العمق والسلامة؛ ليسترعي انتباههم. ثم إن الجماعة الثائرة تخاطب بعبارات هادئة. والجماعة الخنسةُ تخاطب بعبارات مثيرة للحمية، موقظة للهمة، حافزة للعزيمة. والجماعة التي شطت وركبت رأسها تخاطب بعبارات فيها قوة العزم، ونور الحق، وفيها إرعادة المنذر، ويقظة المنقذ، وفيها روح الرحمة، وحسن الإيثار؛ليجتمع الترهيب مع الترغيب، ومع سيف النقمة ريحان الرحمة. لذلك وجب على الخطيب أن يكون قادرًا على إدراك حال الجماعة، وما تقتضيه تلك الحال، والإتيان بالأسلوب الذي يلائمها؛ ليصل إلى مواضع التأثير فيها.
12ـ الحديث عند من لا يرغب: وهذا لا يحسن من ذي المروءة. قال مطرف: لا تطعم طعامك من لا يشتهيه .يريد لا تقبل على من لا يقبل عليك بوجهه.
ولا يدخل في ذلك كراهية الفساق والمجرمين لحديث الداعي إلى الله؛ فالعيب ليس فيه وإنما هو فيهم.
وما على العنبر الفواح من حرج أن مات من شمه الزبال والجعل
13ـ تكرار الحديث: فهناك من يذكر الشيء في المجلس الواحد مرات، وهناك من يكرر كلامه كثيرًا بلا مسوغ، مما يجعل الأذواق تمجه، والآذان تستك من سماعه. فأما إذا احتيج إلى التكرار، وكان فيه زيادة فائدة، ولم يكن موصلاً إلى حد الملال؛ فلا بأس به.
14ـ التعالي على السامعين:فمن الناس من إذا تحدث إلى أناس تعالى عليهم، وأزرى بهم.
وربما أشعر ـ ولو من طرف خفي ـ بأن السامعين لا يعون كلامه، ولا يدركون مراميه.
بل ربما تلمظ برطانة الأعاجم، وأدرجها في ثنايا حديثه بلا داع لذلك، وإنما قالها ليترفع على السامعين، وليظهر فضله عليهم!.(170/2)
قال ابن المقفع:'تحفظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطب نفسًا عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي؛ مداراةً؛ لئلا يظن أصحابك أن دأبك التطاول عليهم'.
قال الشيخ ابن سعدي :'واحذر غاية الحذر من احتقار من تجالسه من جميع الطبقات، وازدرائه، والاستهزاء به قولاً، أو فعلاً، أو إشارة أو تصريحًا، أو تعريضًا؛ فإن فيه ثلاثة محاذير:
أحدها: التحريم، والإثم على فاعل ذلك.
الثاني: دلالته على حمق صاحبه، وسفاهة عقله، وجهله.
الثالث: أنه باب من أبواب إثارة الشر، والضرر على نفسه'.
15ـ ترك الإصغاء للمتحدث: وذلك بمقاطعته، ومنازعته الحديث، أو بالتشاغل عنه بقراءة جريدة أو كتاب، أو متابعة متحدث آخر. فينبغي للمرء أن يحسن الأدب مع من يتحدث أمامه، وقال الحسن:'إذا جلست فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تعلم حسن القول، ولا تقطع على أحد حديثه'.
16ـ الاستخفاف بحديث المتحدث: فمن الناس من إذا سمع متحدثًا، وبدر من ذلك المتحدث خطأ يسير أو نحو ذلك؛ سفهه، واستخف بحديثه. ومن هذا القبيل ما يوجد عند بعض الناس، فما أن يتكلم أحد في مجلس إلا وتبدأ بينهم النظرات المريبة، التي تحمل استخفافًا وسخرية بالمتحدث.
وهذا لا يحسن أبدًا، عن معاذ بن سعد الأعور قال: كنت جالسا عند عطاء ابن أبي رباح، فحدث رجل بحديث، فعرض رجل من القوم في حديثه. قال: فغضب، وقال: ما هذه الطباع؟ إني لأسمع الحديث من الرجل، وأنا أعلم به، فأريه كأني لا أحسن شيئًا'.
17ـ المبادرة إلى إكمال الحديث عن المتحدث: قال ابن عبد البر رحمه الله:'ومن سوء الأدب في المجالسة أن تقطع على جليسك حديثه، أو أن تبتدره إلى تمام ما ابتدأ به منه خبرًا كان، أو شعرًا تتم له البيت الذي بدأ به؛ تريه أنك أحفظ له منه، فهذا غاية في سوء المجالسة، بل يجب أن تصغي إليه كأنك لم تسمعه قط إلا منه'. وقال عطاء:'إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه وقد سمعته قبل أن يولد'.
18ـ القيام عن المتحدث قبل أن يكمل حديثه: فهذا من قلة الأدب، ومما ينافي إكرام الجليس، قال أبو مجلز:'إذا جلس إليك رجل يتعمدك فلا تقم حتى تستأذنه'.
19ـ المسارعة إلى تكذيب المتحدث: فمن الناس من إذا طرق سمعه كلام غريب من حدث ما ـ بادر إلى تكذيبه، وتفنيد قوله، إما تصريحا، أو تلميحا، أو إشارة باليد أو العين، أو أن يهمز من بجانبه؛ ليشعره بأن المتحدث كاذب.
فهذا العمل من العجلة المذمومة، ومن إساءة الظن بمن يتحدث، وهو مما ينفي كمال الأدب والمروءة.
فينبغي لمن استمع حديثًا من أحد ألا يبادر إلى تكذيبه، بل عليه أن ينصت له، وإن رأى في هذا في الحديث وجه غرابة فلا يستعجل الحكم عليه بالكذب، بل يستفصل لعله يبين له وجهته وأدلته، ثم إن تأكد من كذبه فلينصح له على انفراد؛ لئلا يعاود الكذب مرة أخرى. فإن عاد إليه، واقتضت المصلحة أن يبين كذبه، فلا بأس حينئذ من ذلك؛ حتى يرتدع من تلك الخصلة الذميمة.
20ـ التقصير في محادثة الصغار: فلمحادثة المربي صغاره فائدةٌ عظمى، لتعليمهم آداب الحديث، فبذلك ينمو عقل الصغير، وتتوسع مداركه، ويزداد رغبة في الكشف عن حقائق الأمور، ومجريات الأحداث.
كما أن ذلك يكسبه الثقة في نفسه، ويورثه الجرأة والشجاعة الأدبية، ويشعره بالسعادة والطمأنينة، والقوة والاعتبار. مما يعده للبناء والعطاء، ويؤهله لأن يعيش كريمًا شجاعًا، صريحًا في حديثه، جريئًا في طرح آرائه.
ومع أهمية هذا الأمر وعظم فائدته إلا أن هناك تقصيرًا كبيرا فيه؛ فكثير من الناس لا يأبه بمحادثة صغاره ولا يلقي بالاً لتعليمهم عن أسئلتهم إذا هم سألوا، بل ربما كذبهم إذا أخبروا، ونهرهم وأسكتهم إذا تكلموا وهذا من الخلل والتقصير؛ فهذا الصنيع مما يولد الخوف في نفس الصغير، كما يورثه التردد، والذلة، والمهانة، والخجل الشديد، وفقدان الثقة بالنفس. بل قد يعجز عن الكلام، وقد يصاب بعيوب النطق من فأفأة، وتمتمة، ونحوها.
فيحسن بالمربين والآباء إذا خاطبهم الصغار أن يقبلوا عليهم، وأن يصغوا إلى حديثهم، وأن يجيبوا عن أسئلتهم، وأن ينأوا عن كل ما يشعر باحتقار الصغار وازدرائهم.
21ـ الوقيعة في الناس: فهناك من إذا جلس مجلسًا وقع في الناس، ورتع في أعراضهم، وأطلق لسانه في ذمهم وعيبهم، غيبة، ونميمة، وافتراء وبهتانًا. ومن أصاخ السمع، وأصغى الفؤاد لمن ينم أو يغتاب؛ فهو مشارك له في الإثم.
ومن يطع الواشين لا يتركوا له صديقًا ولو كان الحبيب المقربا
قال الشافعي رحمه الله:
المرء إن كان عاقلاً ورعًا أشغله عن عيوب غيره ورعه
كما العليل السقيم أشغله عن وجع الناس كلهم وجعه
22ـ التسرع في نشر الأخبار قبل التثبت منها ومن جدوى نشرها: فمن الناس من إذا سمع خبرًا طار به، وسعى في نشره وبثه بين الناس، قبل أن يتثبت من صحته ومن جدوى نشره.
وهذا من الأخطاء الكبيرة التي يحصل بسببها الاختلاف والافتراق.(170/3)
فالعاقل لا يتكلم إلا إذا تثبت من صحة الكلام، فإذا ثبت لديه صحته نظر:فإن كان في نشره حفز للخير واجتماع وألفة؛ نشره وأظهره، وإن كان الأمر بخلاف ذلك؛ كتم الخبر وستره.
ولقد ورد النهي عن أن يحدث المرء بكل ما سمع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ]رواه مسلم .
22ـ الكذب: فما أكثر الكذب في مجالس الناس، فمن الناس من إذا حضر مجلسا أطلق لسانه بالكذب، فتراه يأتي بالغرائب، ويغرب في العجائب؛ كل ذلك لأجل أن يستظرف ظله، ويستطرف حديثه، ويرغب في مجلسه. بل ربما ادعى الفضل، وتشدق بكثرة الأعمال مع أنه عاطل من ذلك كله، وإنما قال ذلك ادعاءً وتظاهرًا، ومجاراةً لأهل الفضل. والكذب دليل على ضعة النفس،وحقارة الشأن، وسقوط الهمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام : [ إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا] رواه البخاري ومسلم.
24ـ سماع كلام الناس بعضهم ببعض وقبول ذلك دون تمحيص أو تثبت: قال الشيخ ابن سعدي:' من الغلط الفاحش الخطر قبول قول الناس بعضهم ببعض، ثم يبني عليه السامع حبًا وبغضًا، ومدحًا وذمًا. فكم حصل بهذا الغلط من أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أمورًا لا حقائق لها بالكلية، أولها بعض الحقيقة فنميت بالكذب والزور، وخصوصًا ممن عرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عرف منهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبت والتحرز، وبهذا يعرف دين المرء ورزانته وعقله'.
25ـ رفع الصوت من غير حاجة أو داع إلى ذلك: وهذا مما ينافي أدب الحديث، قال تعالى: { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[19] } [سورة لقمان].
قال ابن سعدي في تفسير الآية:' { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } :أدبًا مع الناس، ومع الله، { إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ } أي أفظعها وأبشعها { لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة لما اختص الحمار بذلك، الذي علمت خسته وبلادته'
26ـ الغلظة في الخطاب:من الناس من إذا خاطب الناس أغلظ لهم القول، وجابههم بالعنف، وواجههم بالشدة. مما يبذر الشقاق الذي نهينا عنه . وللكلمة الطيبة وقع عظيم في القلب؛ فكم من مودة استجلبت بها، وكم من عداوة زالت بسببها، قال تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا[53] } [سورة الإسراء]. وقال تعالى: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً[83] } [سورة البقرة].
27ـ الشدة في العتاب:عند أدنى هفوة أو زلة، إما لحدة في طبعه، وإما لظنه أنه لو لم يفعل ذلك لسقطت منزلته، أو غير ذلك.
والشدة في العتاب، وقلة التغاضي عما يصدر من الأخطاء؛ مما يسبب النفور، فالعاقل اللبيب لا يعاتب إخوانه عند كل صغيرة وكبيرة، بل يلتمس لهم المعاذير، ويحملهم على أحسن المحامل.
ثم إن كان هناك ما يستوجب العتاب عتبهم عتابًا لينًا رقيقًا، ثم ما أحسن المرء أن يتغاضى ويتغافل؛ فالتغاضي والتغافل من أخلاق الكبار:
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
وما يصدر من الصديق إن كان من قبيل العثرة التي تقع في حال غفلة، أو كان خطأ في اجتهاد في الرأي؛ فذلك موضع الصفح والتجاوز، ولا ينبغي أن يكون له في نقص الصداقة أثر كبير أو قليل.
وأما إن كان عن زهد في الصحبة، أو انصرافًا عن الصداقة؛ فلك أن تزهد به، وتقطع النظر عن صداقته.
28ـ التقصير في أدب الحوار .
29ـ الجدال والمراء والخصومة: عند كل صغيرة وكبيرة، لا لجلب مصلحة، ولا لدرء مفسدة، ولا لهدف الوصول إلى الحق والأخذ به، وإنما رغبة في اللدد، وحبًا في التشفي من الطرف الآخر.
ولهذا تجد الواحد من هؤلاء يسفه صاحبه، ويرذل رأيه، ويرد قوله، فلا يمكن ـ والحالة هذه ـ أن يصل المتجادلون إلى نتيجة طالما أن الحق ليس رائدهم ومقصودهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:'كفى بك ظلمًا ألا تزال مخاصمًا، وكفى بك إثمًا ألا تزال مماريًا'. وقال الأوزاعي:'إذا أراد الله بقوم شرًا ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل'.
و قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله:'من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل'.
وقال جعفر بن محمد رحمه الله:'إياكم وهذه الخصومات؛ فإنها تشغل القلب'.(170/4)
30ـ حب المعارضة والخالفة: فمن الناس من هو محب للمعارضة، كلفٌ بالمخالفة، قال ابن حزم:' إياك ومخالفة الجليس، ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك ولا في آخرتك، وإن قل؛ فإنك تستفيد بذلك الأذى، والمنافرة، والعداوة. وربما أدى ذلك إلى المطالبة والضرر العظيم دون منفعة أصلاً'. وقال الخطابي ـ محذرًا من هذا الأمر-:'وقال بعضهم: إن من الناس من يولع بالخلاف أبدًا، حتى إنه يرى أن أفضل الأمور ألا يوافق أحدًا، ولا يجامعه على رأي، ولا يواتيه على محبة.
ومن كان هذا عادته فإنه لا يبصر الحق، ولا ينصره، ولا يعتقده دينًا ومذهبًا. إنما يتعصب لرأيه، وينتقم لنفسه، ويسعى في مرضاتها، حتى إنك لو رمت أن تترضاه، وتوخيت أن توافقه على الرأي الذي يدعوك إليه ـ تعمد لخلافك فيه، ولم يرض به حتى ينتقل إلى نقيض قوله الأول، فإن عدت في ذلك إلى وفاقه عاد فيه خلافك.
قال الخطابي: فمن كان بهذه الحال فعليك بمساعدته، والنفار عن قربه؛ فإن رضاه غاية لا تدرك، ومدى شأوه لا تلحق'.
31ـ بذاءة اللسان والتفحش في القول: قال الإمام النووي:'ما ينهى عن الفحش، وبذاءة اللسان... ومعناه: التعبير عن الأمور المستقبحة بعبارة صريحة وإن كانت صحيحةً، والمتكلم بها صادقًا، ويقع ذلك كثيرًا في ألفاظ الوقاع ونحوها. وينبغي أن يستعمل في ذلك الكنايات، ويعبر عنها بعبارة جميلة يفهم بها الغرض. وبهذا جاء القرآن العزيز، والسنن الصحيحة المكرمة، قال تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ...[187] } [سورة البقرة]. ... قال العلماء: فينبغي أن يستعمل في هذا وما شبهه من العبارات التي يستحيا من ذكرها بصريح اسمها الكنايات المفهمة، فيكنى عن جماع المرأة بالإفضاء، والدخول، والمعاشرة، والوقائع، ونحوها'.
قال صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ] رواه الترمذي وأحمد. ومما يدخل في فحش القول: ما كان مستنكر الظاهر، وإن كان معناه سليمًا بعد تدقيق النظر فيه.
32ـ التقعر في الكلام: وهو أن يتكلم المرء بأقصى قعر فمه؛ إظهارًا لفصاحته، وتميزه، وبراعته.
وذلك ممقوت مذموم، قال الإمام النووي:'ويكره التقعير في الكلام بالتشدق، وتكلف السجع، والتصنع بالمقدمات التي يعتادها المتفاصحون، وزخارف القول. فكل ذلك من التكلف المذموم، وكذلك تكلف السجع، وكذلك التحري في دقائق الإعراب، ووحشي اللغة في حال مخاطبة العوام. بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته لفظًا يفهمه صاحبه فهمًا جليًا، ولا يستثقله'. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [... وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ] رواه الترمذي وأحمد. وليس معنى ذلك ألا يحرص المرء على حسن منطقه، وإنما المقصود ألا يغرق في التكلف فيتعدى حدود الذوق.
33ـ الخوض فيما لا طائل تحته: فأكثر الناس لا يكاد ينقطع لهم كلام، واهتمامهم إنما هو بطرح قضايا باردة، أو موضوعات تافهة، تدور حول الصغائر والسفاسف والمحقرات، فتارة يتحدثون عن الرياضة ومن فاز، ومن هزم، ومن أصيب من اللاعبين ومن شفى؟ وتارة عن الفن وأخبار أهله، وقراءة مذكراتهم، ومتابعة آخر أعمالهم، وإن سمت تلك المجالس قليلاً أغرقت بالحديث عن حطام الدنيا، وعن المصالح الخاصة فحسب، وإلا ملئت بتسقط الأخبار، وتتبع العيوب، ونحو ذلك . قال تعالى: { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[114] } [سورة النساء].
فأولى لتلك المجالس أن تشغل بما ينفع، وذلك بالتواصي بالبر والتقوى، مسائل العلم التي يصحح بها الإنسان عقيدته وعمله، أو بالحديث عن أخبار المسلمين في أنحاء المعمورة، وبيان ما يصيبهم من البأساء واللأواء؛ حتى تنبعث القلوب للتعاطف معهم، وبذلك ما يستطاع من مال، أو دعاء، أو نحو ذلك مما يعود بالفائدة في الدنيا والآخرة. أو أن تشتمل على أخبار الكرام، والشجعان، وذوي المروءات، ونحو ذلك مما يجمع إلى جانب المتعة الفائدة.
34ـ كثرة التلاوم:وهذا دأب كثير من الناس، يقضون الساعات الطوال في التلاوم، وذم الأوضاع، وانتقاد الآخرين، والتشدق بمعالي الأمور دون سعي لها.
35ـ كثرة الشكوى إلى الناس: فما أكثر ما يرى من ديدنه الشكوى إلى الناس، وكثرة التسخط،
فتراه يشكو فقره، وأولاده، وزوجته،ودابته، ومزرعته، وعمله، ومديره، ومن تحت يده، وربما شكى الحر والقر وهكذا... فهذا الصنيع دليل على ضعة النفس، وقلة التحمل.
واللائق بالمسلم العاقل أن يتحلى بالصبر الجميل، وألا يشكو إلا إلى ربه، وألا ينزل حاجاته إلا ببابه، فالناس لا يملكون له ضرًا ولا نفعًا.(170/5)
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
36ـ كثرة الحديث عن النساء: وليس المقصود ههنا ما يدور في مجالس الخنا، وإنما المقصود في هذا المقام ما يدور في بعض المجالس العامة، وربما كان ذلك في بعض مجالس الفضلاء، فتجد تلك المجالس تعمر بذكر النساء، وربما كانت تلك المجالس ميدانًا للتنافس، والتفاخر، والتحدي؛ فهذا يفاخر بأنه قد عدد، وهذا يتحدى صاحبه بأن يتزوج بثانية، وهذا يزري بالآخرين؛ لاقتصارهم على واحدة.
وليس المقصود من هذا أن يمنع الحديث عن النساء بإطلاق، وإنما المقصود ألا يكون ذلك سمة في المرء، وديدنًا وعادة له.
37ـ كثرة الهزل: فهناك من الناس من إذا جلس مجلسًا أضفى عليه من هزله، وسخريته، وكلامه السمج الذي يسمونه:'التنكيت' الخارج عن حدود الأدب واللياقة؛ فإن هؤلاء المنكتين ينالهم الذل والصغار، واحتقار العقلاء لهم، فيكبرون وهم الأصغرون.
38ـ كثرة المزاح: بعض الناس يغلب عليه كثرة المزاح، وربما أسفَّ فيه، ومزح مع من لا يرغب في المزاح، قال بعض الحكماء:'من كثر مزاحه زالت هيبته'. وقال ميمون بن مهران:'إذا كان المزاح أمام الكلام فآخره الشتم واللطام'.
و المزاح لا ينبغي الإكثار منه، ولا الإسفاف فيه، وإنما يكون في الكلام كالملح في الطعام إن عدم أو زاد على الحد فهو مذموم.
39 ـ كثرة الحلف: بمناسبة وبدون مناسبة. أما إذا احتاج المسلم إلى اليمين أو طلبت منه ـ فلا بأس في ذلك.
40ـ تتبع عثرات الجليس .
41ـ تكليف الرجل جلاسه بخدمته: وهذا الصنيع ليس من المروءة في شيء؛ إذ المروءة تقتضي القيام بخدمة الزائر، والمبالغة في إكرامه، قال عمر بن عبدالعزيز:'ليس من المروءة أن يستخدم الإنسان ضيفه' .
42ـ التناجي: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى رَجُلَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ أَجْلَ أَنْ يُحْزِنَهُ] رواه البخاري ومسلم . قال ابن حجر رحمه الله:'قال الخطابي: وإنما قال: يحزنه؛ لأنه قد يتوهم أن نجواهما إنما هي لسوء رأيهما فيه، أو لدسيسة غائلة له' .
قال ابن حجر:'قال المازري ومن تبعه: لا فرق في المعنى بين الاثنين والجماعة، لوجود المعنى في حق الواحد. زاد القرطبي: بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأشد؛ فليكن المنع أولى.
وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتصور فيه ذلك المعنى، فمهما وجد المعنى فيه ألحق به في الحكم'.
43ـ القيام بما ينافي الذوق في المجالس: فلا يحسن بالمرء أن يصدر منه ما ينافي الذوق، وما يبعث على الكراهة والاشمئزاز، كأن يتجشأ في المجلس، أو أن يتثاءب، أو يتمخط، أو يبصق في حضرة غيره. ومن هذا القبيل: تخليل الأسنان، وإدخال الأصبع في الأنف، وكثرة التنحنح، والقهقهة، والتمطي، والعبث بالشارب، أو اللحية، ونحو ذلك.
44ـ مزاولة المنكرات في المجالس: كشرب الدخان، وسماع الأغاني، ومشاهدة المحرمات من أفلام خليعة ونحوها. وكالغيبة والنميمة، والاستهزاء بالدين، وبعباد الله الصالحين ونحو ذلك. فهذه المجالس مجالس زور وخنا لا يجوز شهودها، ولا السكوت عما يدور فيها لمن حضرها.
45ـ حضور مجالس اللغو ومداهنة أهلها: فهناك من يحضر مجالس اللغو ولا يشاركهم في منكرهم، ولكنه لا ينكر عليهم ، ويظن أنه في منجي من الإثم؛ لأنه لم يشاركهم في زعمه!.
وهذا خطأ ؛ إذ لا يجوز للمرء أن يشهد مجالس الزور إلا إذا كان سينكر عليهم، أما إذا سكت عنهم فقد وقع في المداهنة المحرمة. بل قد يظنون أن سكوته عنهم إنما هو إقرار لهم، ورضًا عما يصدر منهم.
46ـ الجلوس على هيئة تشعر بقلة الأدب: كأن يضطجع وهم جلوس إلا لعذر، أو أن يضع رجله في مواجهتهم أو نحو ذلك.
47ـ الجلوس وسط الحلقة: وهذا مما ينافي الأدب في المجالس.
48ـ التفريق بين اثنين متجالسين دون إذنهما: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا] رواه أبوداود والترمذي وأحمد .
فهذا مما يشعر بقلة الأدب، وقلة المراعاة لمشاعر الآخرين، ولأجل ذلك نهى عنه؛ حفاظًا على استبقاء روح المودة بين المسلمين.
49ـ إقامة الرجل من مجلسه والجلوس مكانه: فَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ] رواه البخاري ومسلم .(170/6)
50ـ الجلوس في مكان الرجل إذا قام لحاجة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ] رواه مسلم . قال النووي رحمه الله :'قال أصحابنا: هذا الحديث فيمن جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلاً، ثم فارقه؛ ليعود، بأن فارقه ليتوضأ، أو يقضي شغلاً يسيرًا ثم يعود ـ لم يبطل اختصاصه، بل إذا رجع فهو أحق به في تلك الصلاة، فإن كان قد قعد فيه غيره فله أن يقيمه، وعلى القاعد أن يفارقه لهذا الحديث' .
51ـ ترك السلام حال دخول المجلس وحال الخروج منه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الْآخِرَةِ] رواه أبوداود والترمذي وأحمد .
52ـ الإخلال بأمانة المجالس: فمن الناس من يحضر المجالس فلا يراعي حرمتها، ولا يحفظ حقوقها، بل تراه يسرد أخبارها، ويفشي أسرارها. وكم من مصالح تعطلت؛ لاستهانة بعض الناس بأمانة المجالس، وذكرهم ما يدور فيها. فالمجالس لها حرمات يجب أن تصان، ما دام الذي يجري فيها مقيدًا ومضبوطًا بقوانين الأدب وشرائع الدين.
ومن الإخلال بأمانة المجالس أن يفشي المرء سر صاحبه إذا جلس إليه، وأفضى إليه بمكنونه، وأشعره بأنه لا يحب اطلاع أحد عليه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ] رواه أبو داود والترمذي وأحمد .
قال ابن سعدي رحمه الله :'كن حافظًا للسر، معروفًا عند الناس بحفظه؛ فإنهم إذا عرفوا منك هذه الحال أفضوا إليك بأسرارهم، وعذروك إذا طويت سر غيرك الذي هم عليه مشفقون، وخصوصًا إذا كان لك اتصال بكل واحد من المتعادين؛ فإن الوسائل لاستخراج ما عندك تكثر وتتعدد من كل من الطرفين، فإياك إياك أن يظفر أحد منهم بشيء من ذلك تصريحًا أو تعريضًا.
واعلم أن للناس في استخراج ما عند الإنسان طرقًا دقيقة، ومسالك خفية؛ فاجعل كل احتمال ـ وإن بعد ـ على بالك، ولا تؤت من جهة من جهاتك؛ فإن هذا من الحزم. واجزم بأنك لا تندم على الكتمان، وإنما الضرر، والندم في العجلة، والتسرع، والوثوق بالناس ثقة تحملك على ما يضره.
53ـ فقدان المودة والصفاء، وشيوع الكراهية والبغضاء .
54ـ قلة ذكر الله في المجالس: فكثير من المجالس تعمر بالقيل والقال، وباللغو واللغط، ويقل فيه ذكر الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر مدعاة لنزع البركة، وحلول النقمة والحسرة، فَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ] رواه الترمذي وأحمد .
55ـ قلة المبالاة بقول كفارة المجلس: كثير من الناس يكثر لغطه ولغوه، ثم يقوم من المجلس دون أن يقول الدعاء الوارد في نهايته. فاللائق بالمسلم أن يحافظ على هذا الدعاء؛ حتى يحصل على الأجر العظيم المترتب على قوله، وليسلم من تبعات ما صدر منه في ذلك المجلس، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ] رواه الترمذي وأحمد .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
من كتاب:' أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة ' للشيخ/محمد بن إبراهيم الحمد(170/7)
أخطاء في التفكير
المحتويات
أخطاء في التفكير
الخطأ الأول: غياب التفكير العلمي
الخطأ الثاني: التعميم الخاطيء
الخطأ الثالث: الربط الخاطئ
الخطأ الرابع: الغلو والتطرف
الخطأ الخامس: القطع في الظنيات أو الأمور الاحتمالية
الخطأ السادس: المبالغة في التبسيط
الخطأ السابع: النظرة الأُحادية
الخطأ الثامن: افتراض خيارين لا ثالث لهما
الخطأ التاسع: الخلط بين الآراء والحقائق
الخطأ العاشر: التعامل الخاطيء مع الأخبار
أولا: الخلط بين الرواية التقويم
ثانيا: تأثير العاطفة على قبول الخبر ورفضه
الخطأ الحادي عشر: الاعتراض بالمثال
الخطأ الثاني عشر: الغلو في اعتقاد المؤامرة
الخطأ الثالث عشر: افتقاد العلاقة الصحيحة بين الأسباب والنتائج
الخطأ الرابع عشر: تأثير الخبرة الشخصية المحدودة
أخطاء في التفكير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فأسأل الله عز وجل أن يثيب الإخوة القائمين على هذه المؤسسة المباركة على تنظيم هذا اللقاء، وعلى حسن ظنهم ودعوتهم لي. ويشعر الإنسان بالحرج حينما يتحدث أمام أمثالكم، لكن الذي يدفعه للحديث معكم أن يجتهد أن لا يقول إلا ما يعلم، وأنه يخاطب عقلاء أمثالكم، ويشعر أن ما يقوله سيوزن: فمنه ما يقبله الناس، ومنه ما يتحفظون عليه، ومنه ما يرد.
حينما نريد أن نحصر كل الأخطاء التي تقع في تفكيرنا فلن نستطيع أن ندرك ذلك في لقاء عاجل مثل هذا اللقاء، لكني سأشير إلى أبرز الأخطاء.
وبادئ ذي بدء ثمة سؤال مهم، لعلي لا أطيل في الإجابة عليه، وهو: لماذا نحن بحاجة إلى بناء منهج التفكير؟
إن الإنسان يمكن أن يستوعب كماً هائلاً من المعلومات، سواءً النصوص أو الأحكام الشرعية، أو غيرها من المعلومات في أوجه الحياة، فذهن الإنسان يمكن أن يستوعب قدراً لا محدود من الأسماء والأرقام والمعلومات، لكنه يحتاج إلى أن يتعامل معها بطريقة صحيحة، ومن ثم فما لم يملك الإنسان منهجاً سليماً للتفكير، فإنه لن يستطيع توظيفها بطريقة صحيحة، وكثيراً ما نرى في عصرنا أناساً يبهرون من حولهم بما يحفظون ويطلعون عليه من الكم الهائل من المعلومات، لكننا نرى هوة واسعة بين ما يتوصلون إليه من نتائج، وبين مستوى القدرات والإمكانات والمعلومات التي يملكونها، والسبب هو الخلل في طريقة التفكير.
إن برنامج الحاسب الآلي كالموسوعات العلمية على سبيل المثال يحتوي على شقين، الشق الأول هو المعلومات والبيانات المدخلة فيه و المستقاة من المراجع والموسوعات العلمية، والشق الثاني البرنامج الذي يدير هذه المعلومات ويبحث فيها، فوجود الخلل في الشق الثاني سيعوق المستخدم عن الاستفادة المثلى من الكم الهائل من المعلومات المتاحة في البرنامج.
إن الشق الثاني هو أقرب ما يكون إلى منهج التفكير لدى الإنسان والشق الأول المعلومات والخبرات التي يملكها من خلال الحفظ أو البحث والإطلاع.
إن منهج التفكير السليم لن ينقل الإنسان إلى مستوى العصمة، ولن تكون كل الآراء التي يصل إليها صحيحة، فستبقى قضايا كثيرة نسبية، وفيها مجال للاحتمالات والأخذ والعطاء، لكن كلما صار الإنسان يملك منهجاً سليماً في التفكير، فإن هذا سيجعل فرصة وصوله إلى نتائج سليمة أكبر بكثير من غيره ممن لا يملك هذا المنهج.
ومع أهمية التفكير فنحن نعاني من إهمال في الاعتناء به، فمدارسنا لا تعتني بتعليمه للطلاب، إنما تركز على إعطاء معلومات مجردة، وفي قراءتنا وحواراتنا لا نعتني بهذا الجانب، ومن ثم قد نحفظ معلومات وشواهد لكن نوظفها توظيفاً خاطئاً وغير مثمر.
لا أستطيع أن أتحدث في هذه العجالة عن منهجية التفكير، لكن سأشير إلى طائفة من أخطائنا في التفكير، وأحسب أن إثارة هذه القضية تعطينا شعوراً بأهمية الاعتناء ببناء مهارات التفكير في أنفسنا، والاعتناء بها تربوياً في مدارسنا، وفي تعليمنا و تربية أولادنا و تربية هذا الجيل المبارك جيل الصحوة رجالاً ونساءً.
الخطأ الأول: غياب التفكير العلمي
ليست مشكلتنا أننا لا نفكر، لكننا نفكر بعشوائية ودون منهجية منظمة، وقلما نستخدم خطوات التفكير العلمي وهي خطوات معروفة ومحددة يمكن أن يمارسها الإنسان في الخروج من مشكلة شخصية، وفي إقناعه للآخرين، وفي حل مشكلة علمية، بل في أي مجال وميدان من ميادين الحياة.
وخطوات التفكير العلمي تبدأ بتحديد المشكلة أولاً، ثم فرض الفروض والاحتمالات الممكنة، ثم اختبار هذه الفروض، ثم الوصول إلى الحل الذي يمكن أن يفسر هذه الظاهرة، ودعونا نضرب على ذلك أمثلة.
المثال الأول:- لو أن أحد الجالسين في هذه الصالة غلبه النعاس، ولم يستيقظ إلا والصالة مغلقة، فهو بين خيارين: أن يضع يديه على رأسه ويفكر في المواعيد التي ستفوته ويفكر في عمله الوظيفي ماذا سيصنع غداً... إلخ؟. وهذا تفكير عشوائي لن يفيده.(171/1)
الخيار الثاني: أن يستعرض الاحتمالات الممكنة للخروج، فيفكر تفكيراً علمياً، ما الخيارات التي يمكن أن أصنعها لأخرج من هذا المأزق؟ أني أنام إلى أن يأتي أصحاب الصالة ويفتحونها في الغد. أو أن أبحث عن الأبواب فربما يكون هناك باباً نُسي أن يغلق.أن أكسر الزجاج أو النافذة. أن أتصل على أحد خارج الصالة...إلخ. ثم يقيم كل خيار: الخيار الأول هل أستطيع أن أطبقه أو لا؟ ما هي نتائجه الخيار الثاني ثم الثالث وفي النهاية يصل إلى الحل.
المثال الثاني: ما يمارسه عامل الصيانة في إصلاح السيارة حين ترتفع حرارة المحرك، أنه يقوم باختبار مستوى الماء، مستوى زيت المحرك، مروحة التبريد، السيور..............إلخ.
فهو يمارس أسلوب التفكير العلمي - دون أن يعيه نظرياً - إنه يفترض الفروض ثم يقوم باختبارها ليصل إلى تفسير المشكلة.
خطوات التفكير العلمي لا يمكن أن نمارسها من خلال التعليم النظري بأن نملي على الناس ونقول هذه هي الخطوات: الأولى، الثانية، الثالثة، فما لم يُعَلَّم الطالب وهو في المرحلة الابتدائية أن يطبقها، ما لم يعلم الطفل وهو صغير أن يمارسها في التعامل مع مشكلاته المحدودة إلى أن يصل إلى مستوى أعلى، فإننا لا يمكن أن نتقن هذه المهارات، ونطبقها بطريقة صحيحة.
الخطأ الثاني: التعميم الخاطيء
وهذا كثيراً ما يحدث من الدعاة والوعاظ والخطباء، ودعوني أضرب على ذلك أمثلة.
المثال الأول: قد تقول للناس: الأب المتعلم أكثر قدرة على تربية أولاده تربية سليمة من الأب الأمي، حينها يعترض عليك من يحتج بأن أباً أمياً قد أحسن تربية أولاده، وأنه يعرف عدداً من الآباء المتعلمين لا يحسنون التربية.
إنه قد عمم الصورة التي رآها لدى الأمي، والصورة التي رآها لدى المتعلم، جاهلاً أن نجاح هذا الأمي واستقامة أولاده نتيجة عامل آخر غير عامل الأمية، وأن فشل الآخر نتيجة عامل آخر غير عامل التعليم.
المثال الثاني: كثيراً ما نسمع من يقول أن المتدينين سيئو الخلق، والسبب في ذلك أنه رأى شخصاً متديناً يتصف بذلك، فعمم هذه النتيجة على الآخرين.
إن التعميم له شروط موضوعية لا بد من تحققها، وليس تكرر الصور كافيا في تعميم الأحكام.
الخطأ الثالث: الربط الخاطئ
أحياناً نربط بين ظاهرتين ليس بينهما علاقة وإليك الأمثلة:-
المثال الأول: كنت واقفاً ذات مرة فأتاني شاب غير متدين، فقال لي: أريد أن أسألك سؤالاً، ثم سألني وأجبت، ثم قلت له: ليس كل متدين طالب علم، فالتدين شيء والعلم شيئ آخر-وإن كان الغالب في المتدين أن يكونوا أكثر حرصاً، وأكثر تمسكاً- قال لي: إنك ستكون في الأغلب أعلم مني، ولو لم تعرف فستقول لي: لا أعلم.
الناس يربطون كثيراً بين الأمرين، وهو أمر ليس وليد العصر، ففي حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين رجلاً دله الناس على الراهب حين سأل عن أعلم أهل الأرض.
المثال الثاني: طالب متدين فاشل دراسياً، فهل يعني أن هناك صلة بين التدين والفشل الدراسي؟. أو طالب متدين متفوق دراسياً، هل يعني ذلك أن هناك صلة بين التدين و التفوق الدراسي؟.
إنها ظواهر كثيرة يبدو لنا في تفكيرنا العاجل الربط بينها، وافتراض السببية، والواقع أن الصلة محدودة أو معدومة.
الخطأ الرابع: الغلو والتطرف
يرتبط الغلو والتطرف بمحدودية الثقافة ارتباطاًُ وثيقاً، ومن ثم كانت مجتمعاتنا تتسم بقدر منها في التفكير.
ومن صور الغلو والتطرف ما يأتي:
الصورة الأولى: الغلو في الحديث عن حجم الظواهر، وهذه الصورة أكثر ما تحدث لدى الخطباء والوعاظ، فكثيراً ما نسمع هذه العبارة (هذه ظاهرة تنذر بالخطر، هذه مشكلة عظيمة).
إننا نخلط بين خطورة الظاهرة وحجمها، فالظاهرة الخطيرة تستحق التحذير والحديث، لكن ذلك لا يسَوِّغ تضخيم حجمها.
الصورة الثانية: الغلو في الحديث عن الطاعة، فقد نتحدث عن طاعة من الطاعات، فنغلو في الحديث عنها، فقيام الليل على سبيل المثال شأن الصالحين ودأبهم، ورد ذلك في معظم آيات القران التي وصف الله عز وجل فيها المتقين والمؤمنين، لكن لا يمكن أن يتحول قيام الليل إلى فريضة، ولا يمكن أن يكون ترك قيام الليل علامة على عدم الجدية، وقسوة القلب ..إلخ..
نتحدث أحياناً عن بعض النوافل، ونحولها إلى فرائض، بل نجعلها علامة على صدق التدين وعدمه، يأتيك متحدث يقول لك: أن هذا الشاب غير جاد في التزامه لماذا؟. لأنه لا يقوم الليل، ولا يصوم النوافل، ولا يقرأ القران. إذاً هو غير جاد.
إن هذا الأمر لم يوجبه الله على عباده، ولو لقي العبد ربه تبارك وتعالى، وهو لم يقم ليلة واحدة من الليالي، أو لم يصم نافلة، فإنه لن يحاسب ولن يسأل عن ذلك، ولو أننا نحتاج إلى الحث على النوافل، والتأكيد والتربية عليها؛ لتعوض الإنسان ما نقص من فريضته، وتكفر ذنوبه. لكن هذا شيء، والغلو في الحديث عنها، وتحويل السنة إلى واجب شيء آخر.
الصورة الثالثة: الغلو في الحديث عن المعصية:(171/2)
إن المؤمن يعظم المعصية ويخاف منها، وهو يرى أنها كالجبل يوشك أن يسقط على رأسه لكننا قد نتحدث عن معصية يقع فيها الشباب، فنبالغ في الحديث عنها، ونجعلها سبباً لسوء الخاتمة، وقد تؤدي بالإنسان إلى الوقوع في الانحراف، مع أنها من الصغائر، ولا تصل إلى حد الكبيرة. والله عز وجل يقول: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً). سورةالنساءآية31. وفي المقابل قد يتحمس الإنسان ليبعث الرجاء عند الناس، فيقع في الطرف الآخر. خطيب كان يتحدث عن التوبة، فيريد أن يشجع الناس على التوبة. فقال: إن الله عز وجل لم يقل لا تسيئوا، ولكن قال: إذا أسأتم فاستغفروا.
وهل يسوغ أن يأتي متحدث إلى قوم أهل كبائر، فساق وفجَّار؛ ليقول لهم: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولحاء بقوم يذنبون؛ فيستغفرون فيغفر الله لهم؟ إنه يحتاج إلى اعتدال فالغلو في تضخيم المعصية لا يسوغ، وكذلك الغلو في التهوين من شأنها.
الصورة الرابعة: الغلو في الحماس للفكرة، فقد يتحمس إنسان لفكرة من الأفكار، فيضخمها ويقيس الناس من خلالها، ويطالبهم أن يتحمسوا لها بقدر حماسه هو لها. هذه الفكرة قد تكون مشروعاً دعوياً، أو باباً من أبواب الدعوة، أو الخير.
من حق هذا المرء أن يفرغ وقته كله وجهده ليكون متخصصاً في ميدان من الميادين، لكن هذا شيء، وأن يطالب كل الناس أن يتحمسوا لفكرته شيء آخر.
الخطأ الخامس: القطع في الظنيات أو الأمور الاحتمالية
هناك أمور ظنية لا يمكن أن نقطع فيها، إلا أننا قد نحولها إلى مسائل قطعية ومن ذلك المسائل الاجتهادية فقد يترجح عند الإنسان فيها رأي معين، لكن ستبقى محل اجتهاد. لا يسوغ أن يصنف فيها كتاب تقرأ رأي المؤلف من عنوانه: القول القاطع، القول الصواب ..إلخ
وكما يحصل الخلل في القطع في الأمور الظنية في باب الأحكام الفقهية فهو يمتد إلى مجالات أخرى في حياتنا.
ففي تفسير الظواهر السياسية والتربوية، وفي الحديث عن المسائل الاجتماعية هناك مجالات واسعة للأخذ والعطاء والاحتمال. وحين يترجح لدى المتحدث رأي فهذا لا يلغي الاحتمال الآخر.
وفي ميادين النقاش نجد تباينا واسعا فهذا يتبنى رأيا والآخر يتبنى الرأي المقابل له والمضاد له، ولو كانت المسالة بهذا القدر من القطع والحزم لما احتملت اختلاف الآراء بهذا القدر من التباين.
إننا بحاجة إلى قدر من النسبية في التعامل مع ما يحتمل الرأي والاجتهاد، فبدلا من الحزم والقطع لنقل إن هذا الرأي صحيح بنسبة سبعين في المائة أو أقل أو أكثر، والمسألة محل نظر وأخذ وعطاء.
الخطأ السادس: المبالغة في التبسيط
هناك ظواهر معقدة نبسطها كثيراً، فنجعلها قضية سهلة، وكثيرا ما يحصل ذلك في الظواهر الاجتماعية.
مثال ذلك: ظاهرة التأخر في الزواج فقد ترى من يقول سبب التأخر في الزواج هو كذا، والحل هو كذا .
والواقع أن هذه الظاهرة معقدة ولها أسباب كثيرة. منها ما يتعلق بنظام التعليم، ومنها ما يتعلق بفرص العمل، وأخرى ترتبط بالنمط الاستهلاكي الذي يعيشه الإنسان، وبالعادات الاجتماعية التي اعتادها الناس في الزواج.
ثم أن الحلول ليست بهذه البساطة، وإلا انحلت مشاكل الناس كلها.
الخطأ السابع: النظرة الأُحادية
كثيراً ما ننظر إلى الأشياء نظرةً أُحادية، فالظاهرة نفسرها تفسيراً واحداً، والحل نختزله في قضية واحدة. دعونا نأخذ الأمثلة على ذلك:-
المثال الأول: حينما نسعى إلى تفسير ظاهرة التأخر في الزواج فإننا نبحث عن سبب واحد يفسر هذه الظاهرة، وهذا سر اختلافنا؛ لأنه يترجح عندي هذا السبب، ويترجح عندك السبب الثاني فنتصارع؛لأننا نريد أن نحسم الحل.
ألا يمكن أن يكون هناك مجموعة أسباب تفسر هذه الظاهرة؟ وأن هذه الأسباب تختلف درجة علاقتها بالظاهرة؟ وكل سبب يفسر لنا جزءاً منها.
مثال آخر: ما يقال في توصيف واقع الأمة: ما هو السبب فيما آلت إليه الأمة الإسلامية؟. شخص يقول لك: هو غياب العلم الشرعي، وأن العلم سيحل لك كل شيء وأنه من خلال العلم سيعرف الناس عقيدتهم والحلال والحرام وما يصلح قلوبهم ويعرفون أعداءهم ويدركون واقعهم.
بينما يقول آخر:العبرة بالإيمان؛ لأن المرء إذا صار عنده إيمان وتقوى فلن يعمل إلا بعلم وسيصلح تعامله مع الناس، وسيقوم بالدعوة وسيطلب العلم.
والنزاع ليس حول أهمية العلم أو الإيمان أو إصلاح النفس، إنما هو في اختزال الأسباب في سبب واحد.
وينشأ عن ذلك أن العلاج عند هؤلاء ليس له إلا سبيل واحد وطريق واحد.
ولو اتسع أفقنا لأدركنا أن الأسباب متعددة ومتداخلة، وفي المقابل فخطوات العلاج هي الأخرى متعددة.
الخطأ الثامن: افتراض خيارين لا ثالث لهما
كثيرا ما نضع أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما، فإن صح الخيار الأول بطل الثاني، وإن بطل الأول يتعين الثاني.(171/3)
وهو أسلوب نمارسه في تقويم المواقف والأشخاص فنتأرجح بين القبول المطلق والرفض المطلق، فلو سألت من استمعوا لمحاضرة ما ستجد آراءهم بين مادح بإطلاق، أو قادح بإطلاق.
ومثل ذلك الحكم على الأشخاص والمشروعات الدعوية والعلمية.
ونمارسه في التعامل مع مشكلاتنا فنفترض خيارين لا ثالث لهما، بينما تتطلب كثير من المشكلات أن نقف موقف الوسط بين الخيارين.
الخطأ التاسع: الخلط بين الآراء والحقائق
حين نقرر أن الزواج المبكر يزيد من تحصيل الطالب الدراسي، أو أن الزواج من الأقارب أولى من الأباعد فهذا رأي شخصيا يحتمل الصواب والخطأ.
لكن حين نقرر أن الزواج أولى من العزوبة فهذه حقيقة علمية تسندها الأدلة الشرعية القطعية وأدلة العقل والفطرة.
والآراء تحمل قدرا من النسبية وتخضع للأخذ والعطاء، وقد تستمد قوتها من تخصص صاحبها واهتمامه بموضوع ما، لكن ذلك لا يخرجها من دائرة الآراء إلى دائرة الحقائق.
والخطأ هاهنا ينشأ في الخلط بين الآراء والحقائق، وتحويل الآراء إلى حقائق علمية مقطوع بها.
الخطأ العاشر: التعامل الخاطيء مع الأخبار
ثمة طائفة من الأخطاء تقع في التعامل مع الأخبار ومنها:
أولا: الخلط بين الرواية والتقويم
قد يحكي أحد الثقات عن موقف من المواقف، كبلد زارها وقابل أهلها، أو جماعة دعوية التقى بها، أو شخص عاشره وخالطه فنخلط روايته بتقويمه.
قد يقول رأيت الفئة الفلانية تهمش العلم الشرعي ولا تعنى به، ورأيتهم يتساهلون في مواقفهم وآرائهم، ثم يحكي شواهد على ذلك، فيتقبل الناس ما يقوله؛ لأنهم يثقون به، وينسون أن الثقة فيه تستوجب قبول خبره لا رأيه وتقويمه، فالخبر المجرد الذي يرويه يختلف عن الأحكام التي يصدرها على الناس، أو المواقف التي يفهمها بناء على خلفيته.
وقديما فرَّق أهل العلم بين رواية الراوي ورأيه، وردوا رواية أقوام يعتقدون صلاحهم ودينهم.
ثانيا: تأثير العاطفة على قبول الخبر ورفضه
في مواقف كثيرة تدعونا عواطفنا إلى قبول طائفة من الأخبار أو رفضها، فيؤثر علينا ذلك في تلقينا للخبر، فنفرح بأي خبر يؤيد ما نحب ونعطيه أكبر من حجمه، ونهمش ما لا يتفق معه ونهون منه.
وأقرب مثال على ذلك أحداث أمريكا وأفغانستان الأخيرة، فثمة كثير يضخمون ما يتفق مع عواطفهم، ويقللون من شأن ما يتعارض معها، وكثيرا ما تواجه حينما تشكك في خبر أو تستغربه بالطعن في ولائك للدين وأهله.
إنه ما يسميه علماء النفس ( تحيز الإثبات) وهو ولع الشخص بالمعلومات التي تؤيد صدق أفكاره الحالية وتتفق معها.
إن من مصلحتنا أن نفهم الأخبار كما هي لا كما نحب ونريد.
الخطأ الحادي عشر: الاعتراض بالمثال
يحرص كثير من الكتاب والمتحدثين على التمثيل على ما يقول، ونظرا لأن المثال أكثر التصاقا بواقع الناس فإن وقعه عليهم أكثر من وقع الحقائق المنطقية.
وقد يورد المتحدث مثالا خاطئا، أو يختلف السامع معه في الحكم على المثال، فينقل سامع ذلك إلى القضية موضع التمثيل.
إن المثال كثيرا ما يأتي استطرادا –خاصة في الحديث المسموع– وقد يستدعيه المتحدث من الذاكرة فلا يحرره ولا يعتني بصحته ومن ثم لا يتسق مع موضوع الحديث.
ومن مظاهر ذلك أن كثيرا من الأسئلة التي توجه للمحاضر أو المتحدث هي حول الأمثلة التي ساقها وينسى السائل ما هو أهم من ذلك كله ألا وهو الفكرة.
وقد فرق أهل العلم في نسبة الأقوال إلى أصحابها بين ما يأتي تمثيلا واستطرادا، وما يأتي تحريرا وتقريراً.
الخطأ الثاني عشر: الغلو في اعتقاد المؤامرة
يُتهم الإسلاميون اليوم بأنهم يغلون في افتراض المؤامرة، وهذا الافتراض له نصيب من الصحة بغض النظر عن درجة هذا الغلو، وعن مقاصد من يتهم الإسلاميين به.
ومما أدى إلى ذلك ما يلي:-
أولاً: وجود المؤامرة بالفعل، وفي كل يوم يكشف لنا التاريخ أن حدثا من الأحداث التي كنا نظنها عفوية كان نتيجة مؤامرة ومكر.
ثانياً: طبيعة العقلية التي تميل إلى التبسيط، فكلما قلت ثقافة الإنسان وخبرته صارت فرص قبوله للتفسيرات العاجلة وغير المعقدة أكثر.
ثالثاً: كثرة حديث الإسلاميين عن الكيد للأمة والتآمر عليها.
إننا لا ننكر وجود المؤامرات، ولا ندعو إلى إهمال الحديث عنها، لكن يجب أن تبقى المؤامرة فرضية واحتمالاً يخضع للبحث والمناقشة.
الخطأ الثالث عشر: افتقاد العلاقة الصحيحة بين الأسباب والنتائج
من سنة الله تعالى أن لكل سبب نتيجة، وأن أمور الناس والمجتمعات تسير وفق سنن ظاهرة واضحة.
والتفكير السليم يقتضي إدراك هذه العلاقة، فلا غنى عنها لتفسير المواقف الفردية والجماعية، ولرسم السياسات والتفكير في المستقبل.
لقد شاع عند طائفة من الناس تفسير فشله في الدراسة أو العلاقة الزوجية بالعين والحسد والسحر ونحو ذلك، وهي حق لاشك فيها، لكن تفسير المواقف المحددة بها قد لا يكون صحيحاً.
ولو عاد هؤلاء إلى واقعهم بموضوعية فسوف يكتشف كثير منهم مصادر الخلل ومكمن الداء.(171/4)
ومثل ذلك مشروعات التغيير لدى الأفراد والمجتمعات، فهي بحاجة إلى أن يتعامل معها من خلال إدراك سنة الله الكونية في العلاقة بين الأسباب والنتائج.
الخطأ الرابع عشر: تأثير الخبرة الشخصية المحدودة
تؤثر الخبرة الشخصية على الفرد في نظرته إلى كثير من الظواهر والمواقف وحكمه عليها، وكثير من الناس تسيطر عليهم هذه الخبرة والإطار المرجعي فيفتقدون الموضوعية.
إنك حين ترتدي نظارة خضراء فسوف ترى كل ما أمامك أخضر اللون ولو كان غير ذلك، وهكذا فالإطار المرجعي والخبرة الشخصية تسيطر على بعض الناس فينظرون للأمور كلها من خلالها.
لو خرج الناس إلى أرض فسيحة وسألتهم عن انطباعهم فستجد من يقول أنها تصلح أن تكون مسجدا، ومن يقول تصلح أن تكون منتزها، ومن يقول أنها تصلح ملعباً وهكذا.
ولو قام متحدث أمام الناس فستجد من يقول أنه غيور لم يجاوز الحقيقة، ومن يقول أنه مندفع متهور، ومن يخرج وهو لا يدري ماذا قال، إنهم جميعا رأوا موقفا واحدا، والفارق في حكمهم عليه هو اختلاف الإطار المرجعي.
إننا يصعب أن نتخلص من تأثير إطارنا المرجعي، لكن إدراكنا لذلك يقودنا إلى الاعتدال في الثقة بأحكامنا، وإلى الاعتناء بالموضوعية أكثر.(171/5)
أخطاء في الطهارة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : لاشك أيها الأخوة المسلمون أن من أسباب قبول العمل هو أن يكون خالصا لوجه الله وموافقا لما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد هذا يقال أن من أسباب نقص أجر الصلاة ما يحدث من بعض المصلين من الأمور المخالفة لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم القائل : ( َصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي) رواه البخاري 0
وكذا ما يحدث من بعضهم من إخلال بالوضوء وعدم إتقانه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :
(مَنْ تَوَضَّأَ كَمَا أُمِرَ وَصَلَّى كَمَا أُمِرَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ) أخرجه أحمد والنسائي
وهذه بعض أخطاء الناس في طهارتهم حتى يجتنبوها وينصحوا من وقعوا فيها بالإقلاع عنها :
الإسراف في ماء الوضوء وقد( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ) .رواه البخاري .
قال البخاري : وكره أهل العلم الإسراف فيه - يعني في الوضوء - وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
عدم إتمام غسل أعضاء الوضوء فتبقى بعض الأجزاء غير مغسولة . وهذا نقص في الوضوء، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : (تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ) متفق عليه وأمر صلى الله عليه وسلم رجلا أن يعيد وضوئه لأنه ترك من قدمه شيئا لم يغسله .
يعتقد بعض الناس أنه لابد من غسل فرجه قبل كل وضوء .وهذا اعتقاد خاطئ فمن قام من نوم أو خرج منه ريح فليس عليه غسل فرجه إلا إذا أراد قضاء حاجته .
التيمم مع وجود الماء وهو قادر على استعماله . وهذا خطأ واضح قال تعالى:(00فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) فالآية صريحة في أن التيمم لا يجوز عند وجود الماء0
بعض الناس يأخذه النوم في مصلاه ثم إذا أقيمت الصلاة أيقظه من بجانبه فيقوم ويصلي دون أن يتوضأ .ومثل هذا عليه الوضوء لأنه كان مستغرقا في نومه ،قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ)رواه احمد وأبوداود وابن ماجة ،أما إذا كان ناعسا ويشعر بمن حوله فليس عليه الوضوء .
بعض الناس قد يدركه وقت الصلاة وهو حاقن لبوله إما لكسله عن الوضوء أو لبعد الماء عنه ـ لظنه أنه إذا صلى محتقنا أفضل من صلاته بالتيمم ـ وهذا جهل منه، قال صلى الله عليه وسلم :( لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ) رواه مسلم.
- سئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : عن الحاقن أيما أفضل أن يصلي بالوضوء محتقنا أو أن يحدث ثم يتيمم لعدم الماء ؟
فأجاب رحمه الله تعالى : صلاته بالتيمم بلا احتقان أفضل من صلاته بالوضوء مع الاحتقان فان هذه الصلاة مع الاحتقان مكروهة منهي عنها وفي صحتها روايتان وأما صلاته بالتيمم فصحيحة لا كراهة فيها بالاتفاق . والله أعلم .(172/1)
أخطاء في العقيدة
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
دار القاسم
من عبد العزيز بن عبدالله بن باز إلى من يراه من المسلمين وفقهم الله لما فيه رضاه وزادهم من العلم والإيمان آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بلغني أن كثيرا من الناس يقع في أخطاء كثيرة في العقيدة، وأشياء يظنونها سنة وهي بدعة، ومن ذلك إنكار علو الله واستوائه على عرشه. ومعلوم أن الله سبحانه بين لك في كتابه الكريم حيث قال سبحانه وتعالى: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش [الأعراف:54] الآية، ذكر ذلك في سبع آيات من كتابه العظيم منها هذه الآية، ولما سئل مالك رحمه الله عن ذلك سبحانه قال: ( الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب )، وهكذا قال غيره من أئمة السلف.
ومعنى الاستواء معلوم، يعني: من جهة اللغة العربية: وهو العلو والارتفاع، وقال سبحانه: فالحكم لله العلي الكبير [غافر:12]، وقال سبحانه: ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم [البقرة:255]، وقال عز وجل: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر:10]، في آيات كثيرة كلها تدل على: علوه وفوقيته، وأنه سبحانه فوق العرش فوق جميع الخلق، وهذا قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي وغيرهم.
فالواجب اعتقاد ذلك، والتواصي به، وتحذير الناس من خلافه.
ومن ذلك اتخاذ المساجد على القبور والصلاة عندها وجعل القباب عليها، وهذا كله من وسائل الشرك، وقد لعن النبي اليهود والنصارى على ذلك، وحذر منه فقال: { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } [متفق على صحته]، وقال : { ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك } [أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جندب]، وخرج مسلم في صحيحه أيضا عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما قال: { نهى رسول الله أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه }. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على المسلمين الحذر من ذلك، والتواصي بتركه، لتحذير النبي من ذلك، لأن ذلك من وسائل الشرك بأصحاب القبور ودعائهم والاستغاثة بهم وطلبهم النصر.. إلى غير ذلك من أنواع الشرك.
ومعلوم أن الشرك هو من أعظم الذنوب وأكبرها وأخطرها، فالواجب: الحذر منه، ومن وسائله وذرائعه، وقد حذر الله عباده من ذلك في آيات كثيرات: منها قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء:48]، ومنها قوله سبحانه: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [الزمر:65]، ومنها قوله عز وجل: ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [الأنعام:88]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومن أنواع الشرك الأكبر دعاء الأموات والغائبين والجن والأصنام والأشجار والنجوم، والاستغاثة بهم، وسؤالهم شفاء المرضى والنصر على الأعداء. وهذا هو دين المشركين الأولين من كفار قريش وغيرهم، كما قال سبحانه وتعالى عنهم: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس:18] الآية، وقال سبحانه: فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار [الزمر:3-2]، والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على أن المشركين الأولين يعلمون أن الله هو الخالق الرازق النافع الضار، وإنما عبدوا آلهتهم، ليشفعوا لهم عند الله، ويقربوهم لديه زلفى، فكفرهم سبحانه بذلك، وحكم بكفرهم وشركهم ن وأمر نبيه بقتالهم حتى تكون العبادة لله وحده، كما قال سبحانه: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله [الأنفال:39] الآية.
وقد كتب العلماء في ذلك كتبا كثيرة، وأوضحوا فيها حقيقة الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وبينوا فيها دين الجاهلية وعقائدهم وأعمالهم المخالفة لشرع الله، كعبد الله بن الإمام أحمد، والإمام الكبير: محمد بن خزيمة في (كتاب التوحيد) ومحمد بن وضاح، وغيرهم من الأئمة. ومن أحسن ما كتب في ذلك ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتبه الكثيرة، ومن أخصرها كتابه (القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة) ومن ذلك ما كتبه ما كتبه الشيخ: عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله في كتابه (فتح المجيد شرح التوحيد).(173/1)
ومن الأعمال المنكرة الشركية: الحلف بغير الله، كالحلف بالنبي ، أو بغيره من الناس، والحلف بالأمانة، وكل ذلك من المنكرات ومن المحرمات الشركية، لقول النبي : { من حلف بشيء دون الله فقد أشرك } [خرجه الإمام أحمد رحمه الله عن عمر بن الخطاب بإسناد صحيح]، وأخرج أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله أنه قال: { من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك }، وثبت عنه أنه قال: { من حلف بالأمانة فليس منا }، والأحاديث في ذلك كثيرة.
والحلف بغير الله من الشرك الأصغر عند أهل العلم، فالواجب: الحذر منه، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر، وهكذا قول: ما شاء الله وشاء فلان، ولو لا الله وفلان، وهذا من الله ومن فلان، والواجب أن يقال: ما شاء الله، ثم شاء فلان، أو لو لا الله ثم فلان، أو هذا من الله، ثم من فلان ؛ لما ثبت عنه أنه قال: { لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان }.
ومن المحرمات الشركية التي قد وقع فيها كثير من الناس: تعليق التمائم والحروز من العظام أو الودع أو غير ذلك، وتسمى: التمائم، وقد قال : { من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له، ومن تعلق تميمة فقد أشرك }، وقال : { إن الرقى والتمائم والتولة شرك }، وهذه الأحاديث تعم الحروز والتمائم من القران وغيره ؛ لأن الرسول لم يستثن شيئاً، ولأن تعليق التمائم من القران وسيلة إلى تعليق غيرها، فوجب منع الجميع سدا لذرائع الشرك، وتحقيقاً للتوحيد، وعملاً بعموم الأحاديث، إلا الرقى فإن الرسول استثنى منها ما ليس فيه شرك، فقال : { لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا }، وقد رقى بعض أصحابه، فالرقى لا بأس بها، فهي من الأسباب الشرعية إذا كانت من القران الكريم، أو مما صحت به السنة، أو من الكلمات الواضحة التي ليس بها شرك ولا لفظ منكر.
ومن المنكرات المبتدعة: الاحتفال بالموالد سواء كان ذلك بمولد النبي أو غيره ؛ لأن الرسول لم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدين، ولا بقية الصحابة رضي الله عنهم، ولا أتباعهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة، وإنما حدث في القرن الرابع وما بعده ؛ بسبب الفاطميين وغيرهم من الشيعة، ثم فعله بعض أهل السنة ؛ جهلا بالأحكام الشرعية، وتقليدا لمن فعله من أهل البدع، فالواجب الحذر من ذلك لكونه من البدع المنكرة الداخلة في قوله : { إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة }، وقوله : { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } [متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها]، وقوله : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } [خرجه مسلم في صحيحه]، وقوله في خطبه: { أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة } [خرجه مسلم في صحيحه]، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ولأن الاحتفال بالمولد من وسائل الغلو والشرك، فالواجب الحذر منها، والتحذير منها، والتواصي بالاستقامة على السنة وترك من خالفها.
والله المسؤول أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لما فيه رضاه وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(173/2)
أخطاء في المنهج
يتناول الدرس ظاهرة كثرة الحديث عن المنهج، وطرح التساؤلات، وإثارة النقاش حوله، وكثرة استخدام هذا المصطلح في الخطاب الدعوي، وتقويم الجهود والأعمال الدعوية، ثم عرض لأهم الأخطاء في المنهج الناتجة عن قصور تصور طبيعة المنهج .
يكثر اليوم الحديث عن المنهج، وطرح التساؤلات، وإثارة النقاش حوله، ويكثر استخدام هذا المصطلح في الخطاب الدعوي، وتقويم الجهود والأعمال الدعوية. والحديث عن المنهج مظهر من مظاهر النضج في التفكير، وتجاوز الوقوف عند المسائل الفرعية وتكرارها، والجدل فيها على حساب الأصول، ولكن ما طبيعة هذا الحديث؟ أهو حشد للطاقات والجهود داخل إطار الطائفة الناجية لاستكشاف معالم المنهج، وتحديد الثوابت الدعوية في مثل هذا العصر وظروفه؟ أم أن الجهود اتجهت للتشاجر والتطاحن داخل الصف الإسلامي بل داخل صف أهل السنة؟إن الغيرة وسلامة النية وحدها ليست كافية لتزكية كل عمل يطرح في الساحة الدعوية، وليست وحدها عاملاً لقبول ما يطرح، بل لابد من المناقشة والمراجعة للكثير مما يطرح حول المنهج.
وما أسطره هنا لايعدو كونه اجتهاداً فردياً، ومحاولة شخصية آمل من القارئ الكريم أن لا يؤدي به اختلافه معي في قضية، أو جزئية إلى رفض ما يوافقني عليه، وكل يؤخذ من كلامه ويرد، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم .
المنهج في اللغة: حين نرجع إلى لسان العرب نستطيع أن نستنبط من معاني المنهج ومشتقاته:
الوضوح: 'طريق نهج: بين واضح ... ومَنْهَجُ الطريق: وَضَحُه، والمنهاج كالمنهج.
وأنهج الطريق: وضح واستبان، صار نهجاً واضحاً بيناً، والمنهاج: الطريق الواضح، واستنهج الطريق صار نهجاً.
سلوك الطريق: نهجت الطريق: سلكته، والنهج الطريق المستقيم.
الانقطاع: وهو ليس من هذا الباب، بل من أصل الثاني.
المنهج في الكتاب والسنة: ففي القرآن:ورد المنهج في قوله تعالى:} لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[48] {[سورة المائدة] .
وفي السنة النبوية: جاء استخدام هذا المصطلح في حديث :'تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ'واه أحمد . وفي حديث الرؤيا التي عبرها أبو بكر رضي الله عنه:'.. ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِكَ رَجُلٌ عَلَى مِنْهَاجِكَ فَيَعْلُو وَيُعْلِيهِ اللَّهُ ...'رواه أحمد- ورواه البخاري ومسلم بلفظ آخر-. وعن العباس رضي الله عنه قال:'...إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ مَا مَاتَ حَتَّى تَرَكَ السَّبِيلَ نَهْجًا وَاضِحًا ... 'رواه الدارمي .
أخطاء في المنهج:
أولاً: اعتبار أقوال الرجال مقياساً للمنهج: مما لا جدال فيه أن لأقوال أهل العلم قيمة ومكانة، ولا أدل على ذلك من أنك لا تقرأ لأحد من المعتبرين في مسألة من المسائل إلا وتراه يثني على اختياره قولاً من الأقوال في الإشارة إلى من قال بهذا القول من أهل العلم. لكن هذا شيء، واعتبار أقوالهم وآرائهم حجة شرعية ومصدراً للتلقي شيء آخر!
وفي ميدان التقرير النظري، فلن تجد أحداً من أهل السنة يعتقد العصمة لرجل من الرجال، أو يرى أن قوله حجة ملزمة للأمة كلها، لكنك حين تنتقل إلى ميدان العمل والتطبيق؛ فسترى الكثير ممن يتحدث عن قضايا كبرى تتعلق بالمنهج ينطلق من رأي فلان وفلان من الناس، ويظهر أثر ذلك في جوانب عدة منها:
استفتاء البعض من أهل العلم في كل ما يجد ويحدث، واعتبار هذه الفتوى أو الرأي حجة دون اعتبار الدليل الشرعي.
في مجال تقويم الأعمال الدعوية والجهود والبرامج، أو تقويم البعض من الدعاة قد يُكتفى بسؤال فلان أو فلان من الناس، واعتبار رأيه حجة قاطعة.
ا لحكم بالانحراف عن المنهج على فرد، أو داعية بحجة أنه خالف ما قرره العالم الفلاني، أو الجماعة الفلانية، أو الهيئة العلمية الفلانية.
ومع تأكيدنا لقيمة أقوال أهل العلم، وضرورة استفتائهم إلا أن هذا شيء، واعتبار أقوال بعضهم حجة على الأمة شيء آخر، قال شيخ الإسلام رحمه الله :'وقد يقول كثير من علماء المسلمين، أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين: كالأربعة وغيرهم أقوالاً باجتهادهم، فهذه يسوغ القول بها، ولا يجب على كل مسلم أن يلتزم إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم'(174/1)
وقال رحمه الله:'والمقصود أن من نصب إماماً، فأوجب طاعته مطلقاً اعتقاداً أو حالاً؛ فقد ضل في ذلك، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية... وكذلك من دعا لاتباع شيخ من مشايخ الدين في كل طريق من غير تخصيص ولا استثناء... وكذلك من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم فيما قاله وأمر به ونهى عنه مطلقاً كالأئمة الأربعة، وكذلك من أمر بطاعة الملوك والأمراء والقضاة في كل ما يأمرون به وينهون عنه من غير تخصيص ولا استثناء' ومن يقرأ في كتب أهل العلم السابقين واللاحقين؛ فسيجدهم قد تواصوا بالعيب على التقليد ونعي أصحابه وذمهم.
ويعاني المصلحون دوماً من هذا الصنف من الناس الذين يقفون حجر عثرة في طريقهم باسم اتباع أقوال أهل العلم، يقول المنذر بن سعيد رحمه الله شاكياً ما يلقاه من أمثال هؤلاء:
عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك
فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك
فإن زدت قالوا قال سحنون قبله ومن لم يقل مقاله فهو آفك
فإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا وقالوا جميعاً أنت قرن مماحك
وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ذاك المسالك
وقد يعتذر البعض بأنه يسوغ له التقليد، وأن غيره يدرك مالا يدرك، وأنه لم يصل إلى مرتبة معرفة الأدلة ومناقشتها، فقد يسوغ له التقليد في ذات نفسه لكن: لما يجعل ذلك معياراً يحكم به على الآخرين؛ فيضللهم، أو يخرجهم عن دائرة المنهج محتجاً بأقوال الرجال، وحين يناقش بالدليل الشرعي يقول: إنه ليس صاحب علم وفرضه أن يقلد؟!
ثانياً:اعتبار واقع المجتمع معياراً للمنهج ورفض كل وافد وجديد: تتفاوت مجتمعات المسلمين اليوم في مدى قربها أو بعدها عن الهدي الشرعي، ومدى سلامتها من البدع والمحدثات، وقد يتميز مجتمع منها بأنه أكثر محافظة وأقل ابتداعاً من غيره، فيشعر أهله أن الكثير مما يفد إليهم من سائر المجتمعات بدعة وانحراف، ويعطي الواقع المشاهد بعض المصداقية لهذه النظرة.
لكن قد تتحول القضية إلى اقتناع راسخ بأن أي وافد على هذا المجتمع، فذلك دليل انحرافه، فيرفض هؤلاء الكثير ممالم يألفوه بحجة أنه وافد، أو لم يكن يعرف من قبل، ولو قالوا:} إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ[23]{ [سورة الزخرف] لكانوا أكثر واقعية مع أنفسهم. نعم: قد يكون هذا الوافد مخالفاً، فينبغي أن يرفض؛ لأنه مخالف للشرع، لا لأنه وافد، وقد يكون موافقاً للشرع، فكونه غير معروف لدى مجتمع معين، أو طبقة معينة من الناس مهما علا قدرهم، فليس مبرراً لرفضه.
ثالثاً:تعميم الحالات الاستثنائية: لكل قاعدة شواذ، والشذوذ يؤكد القاعدة كما يقال، وهو منطق يغيب عن أولئك الذين يأخذون موقفاً، أو صورة شاذة؛ ليعممونها على سائر الناس والمواقف . فحين يوجد شاب متدين، يسيء التعامل مع والديه، فهل يعني هذا أن نصم المتدينين جميعاً بذلك؟ وحين يوجد لدى أحد طلبة العلم جفاء وغلظة، فهل هذا يدل على أن الجفاء والغلظة، والقسوة صفة لازمة لطلاب العلم؟ إن العدل والموضوعية تقتضي منا: أن نضع النموذج الشاذ في إطاره الطبيعي، وأن لا ننطلق من مجرد موقف نراه؛ لنصدر حكماً عاماً.
رابعاً:الخلط في المصطلحات الشرعية: هناك مصطلحات شرعية رتب الشرع عليها المدح والذم، والوجوب والتحريم، وبعضها مصطلحات عامة تحتاج للفقه في تنزيلها على الوقائع والمواقف، وقد يتكأ على مثل هذه المصطلحات، وينطلق منها، ويستثمر أثرها على الناس في تقرير ما يريده المرء باسم المنهج، ومن ذلك:
?
المصلحة: فالمصالح والمفاسد مصطلح شرعي يكثر الحديث عنه في كتب الأصول والمقاصد، بل قد ذهب البعض من أهل العلم إلى اعتبار أن الدين كله قائم على مراعاة المصالح والمفاسد، لكن البعض من الدعاة قد يقف مواقف ويعمل أعمالاً دعوية تخالف المنهج الشرعي، وحين يطالب بالحجة والبرهان لا يجد لنفسه مستنداً إلا أن المصلحة تقتضي هذا الأمر، وينسى هؤلاء أن المصلحة وصف شرعي لابد من تنزيله على مناطه الشرعي فعلاً، وليست لباساً يلبسه من شاء على ما راق له من عمل... وأحياناً قد يوصف العمل بأنه يترتب عليه مفاسد، وينسى هؤلاء أنه واجب شرعي، وأن المفاسد المعتبرة هي ما اعتبرها الشرع، إن الأصل الشرعي المستقر أنه يجب إنكار المنكر إلا إذا ترتب على إنكاره مفسدة؛ فالقاعدة والأصل وجوب الإنكار، وترتب المفسدة استثناء، فتحول الاستثناء عند البعض إلى قاعدة.
? الفتنة: قد جاءت نصوص الشرع بذمها وعيب أهلها والداعين إليها والساعي لإثارتها، لكن قد ينطلق اليوم الذين يسعون لتشويه سير الدعاة إلى الله عز وجل، والآمرين المعروف والناهين عن المنكر، من هذا المعنى المستقر، وهذا الرفض لدى جمهور المسلمين للفتن؛ ينطلقون من ذلك؛ ليحولوا جهد هؤلاء وبلائهم إلى جرم وضلال، وفي ظل هذا الزخم الهائل من التهم بإثارة الفتنة للدعاة إلى الله نسي الكثير من المسلمين، أو جهلوا المعاني الشرعية للفتنة.(174/2)
فالصد عن سبيل الله، والكفر به، والصد عن سبيله، وعن المسجد الحرام جرم عظيم لا يوازيه القتال في الشهر الحرام:} يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ[217]{ [سورة البقرة]
وإيذاء المؤمنين لصدهم عن دينهم فتنة:} إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ[10]{ [سورة البروج] والكفر والشرك بالله فتنة تستوجب الجهاد والقتال، وإراقة الدماء لإزالتها:} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ[193]{ [سورة البقرة]
? البدعة: وهي مصطلح أطلق في الشرع على كل ما أحدث في دين الله، واقترن هذا المصطلح بالذم في نصوص الكتاب والسنة، بل كان صلى الله عليه وسلم لا يدع التحذير منه في خطبة أو مناسبة:'...وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ...'رواه مسلم والنسائي-واللفظ له- وأبوداود وأحمد والدارمي . وحين استوصاه أصحابه بعد موعظته قال:'..وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ'واه أبوداود والترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد. والخطأ هنا يقع في تنزيل هذا الوصف الشرعي على عمل معين أو شخص معين، فالبعض من أهل البدع يقصر هذا الوصف على نوع واحد من البدع وهي البدع الحقيقية، ويخرج البدع الإضافية من وصف البدعة.والبعض يغلو؛ فيحكم بالابتداع على من لا يستحقه، ويصف بذلك كل من أخطأ في مسألة، ولو كانت من المسائل الخفية، بل وربما كانت من مسائل الاجتهاد.
خامساً:الانطلاق من ردود الفعل: تترك الأحداث آثارها وتهز النفوس هزاً قد يفقدها بعض التوازن، فتتجه إلى طرف آخر، ومن هنا تساهم ردود الفعل في صرف بعض الناس عن موقف الاعتدال:
فقد تكون ردة الفعل تجاه موقف أخطأ فيه شخص، فعالجه آخر بتطرف مقابل، ولعل إهمال شأن الحكم بغير ما أنزل الله، وتهميش قضية الحاكمية؛ ردة فعل تجاه طائفة اختزلت مشكلات المسلمين كلها في هذه المشكلة.
وقد تكون ردة الفعل مدرسة في مقابل مدرسة أخرى، فمدرسة أهل الظاهر ما هي إلا ردة فعل لمدرسة أهل الرأي التي تطرفت في الأخذ بالقياس، وإهمال النص.
وقد تكون من الإنسان نفسه تجاه خطأ اكتشفه في نفسه، أو تقصير في جانب من الجوانب، فيتحول إلى الطرف المقابل ويعالج الأمر بالتطرف بعيداً عن الاعتدال والموضوعية.
وقد تكون تجاه حدث، أو أزمة مرت بالأمة، وتركت آثارها، وخلفت ظلالها الثقيلة على النفوس.
'إن الناموس العام لردود الأفعال هو عدم الاتزان، وعدم الموضوعية، وإن الكسالى والعاجزين، والفوضويين سيظلون باستمرار على هامش الفعل، وفي بؤرة ردود الأفعال؛ تتقاذفهم الأمواج العاتية'
فالانطلاق في رسم المنهج من ردة الفعل أياً كان سببها؛ يفقد هذا المنهج التوازن والاعتدال.
سادساً:اعتبار النتائج مقياساً لفشل ونجاح المنهج: الفشل تحكمه عوامل عدة منها:خطأ المنهج، لكن قد يكون الفشل ناشئاً عن:
تقصير في الأخذ بالأسباب، أو الذنوب والتقصير، أو عدم تمام صفاء النية، فقد يكون لدى المسلم شيء من ذلك لكنه في الجملة سليم المنهج، فلا يسوغ أن نرفض طريقته ونحكم بفشلها، فالفشل هنا له هو لا للمنهج، لقد هزم المسلمون في غزوة أحد، وفروا يوم حنين، وأخبر القرآن أن ذلك بما كسبته أيدي المسلمين، فهل يجرؤ مسلم على اتهام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالخلل في منهجهم إذ ذاك؟ إذاً: فيجب التفريق بين التقصير وإتيان بعض الذنوب والتي يتم علاجها بتصفية النفوس وتزكيتها، وبين الخلل في المنهج والذي يعني المراجعة له.
وقد يكون ذلك ابتلاءً وامتحاناً؛ لرفعة درجة أولياء الله:
فقد أخبر الله عن أهل الكتاب أنهم:} وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ[21]{ [سورة آل عمران] .
وأثنى على أصحاب الأخدود الذين حرقوا جميعاً في النار في مجزرة جماعية، لم يكن الغلام إذ ذاك هو المسئول عنها، ولم تكن تلك الدماء ثمناً لتهوره.
وحين جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته وجهر بها ؛أوذي من أوذي من المسلمين، بل منهم من قتل، وأخرجوا من ديارهم، أكانت دعوته صلى الله عليه وسلم هي المسئولة عن هذا الذي أصابهم، أم أن ذلك كان يعني الخلل في المنهج -معاذ الله-؟(174/3)
وأثنى صلى الله عليه وسلم على من بذل نفسه في سبيل الله فقال :'َيِّدُ الشُهَدَاءِ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطّلبِ ورَجُل قَامَ إلى إِمَامٍ جَائِرٍ، فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ؛ فَقَتَلَهُ'رواه الحاكم والضياء في المختارة . أيسوغ أن نجرد هذا المجاهد من الثناء الشرعي عليه؛ لنحمله مسئولية إزهاق نفسه، ولنقرر أن ذلك كان يعني فشل منهجه فلا هو حقق أهدافه، ولا حمى نفسه من بطش الظالمين، وإن تجرأ أحد أن يقول ذلك؛ فليقله عن النبيين الذين قتلهم بنو إسرائيل.إننا كثيراً ما نسمع الطعن في بعض المناهج الدعوية بحجة أنها فشلت في تحقيق أهدافها، والفشل جزء منه قد يعود للمنهج، لكنه ليس بالضرورة ملازماً له.
سابعاً: الخلط في تحرير منهج السلف: لقد كان من منجزات الدعوة السلفية المعاصرة أن اتفق الرأي العام الإسلامي على قبول منهج السلف في الجملة، وصار من دلائل ذلك أن أحداً لا يمكن أن يجرؤ على التصريح بأنه يرفض منهج السلف، وصار الوصف بالخروج عن منهج السلف؛ تهمة لدى الجميع، يسعى إلى نفيها ولو كان متصفاً بها في الحقيقة. وهي قضية إيجابية هامة، لكن كثر الحديث الآن عن منهج السلف، ووصف عمل من الأعمال بأنه على منهج السلف، ووصف آخر بأنه على خلاف منهج السلف، ولاشك أن السعي لتوضيح منهج السلف، والسير عليه، ودعوة الناس له؛ قضية لا مجال للمناقشة فيها، بل ذلك أمارة على الانحراف والزلل، ولكن:هل كل ما ادعي أنه منهج السلف هو منهج السلف فعلاً؟ وهل يحق لكل مدع أن يتهم فلاناً من الناس بأنه على خلاف منهج السلف؟إن هناك أخطاء ترتكب في تحديد منهج السلف ومنها على سبيل المثال:
إهمال اعتبار تغير الزمان والمكان: هناك أمور مستقرة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وهناك أمور تختلف باختلافهما، فقد يقول أحد السلف قولاً ينطبق على عصره ووقته، لكنه لو عاش إلى عصرنا لربما تغير اجتهاده، ومن ذلك أن السلف رضوان الله عليهم تواتر النقل عنهم بالنهي عن صحبة الأمرد، ولو لمصلحة تعليمه وتأديبه، وهو مسلك ينم عن وعي وعمق لديهم، وإدراك لأدواء النفوس، لكن هل يمكن أن نعمم ذلك على عصرنا، فنقول لأولئك الذين يتصدون لتعليم الشباب في حلق القرآن، أو البرامج التربوية: إنه لا ينبغي لكم أن تصحبوهم، ولو لمصلحة تعليمهم؟
إن هذا يعني أن يترك هؤلاء في الشوارع للمفسدين وأصحاب السوء، وقد كانت الحال في عصر السلف تختلف عن عصرنا: فشوارعهم وأسواقهم ليست كأسواقنا، وهذا لا يعني أن نهمل الورع في هذا الجانب، وأن نتساهل به، بل لابد من أن يتربى الدعاة على هذا الورع لكن هذا لا يعني ترك العمل مطلقاً؛ إذ مفاسده أعظم وأجل. إن اعتبار العصر وظروفه لا يعني بحال نسف آراء السلف وأقوالهم، لكن البعد الزماني المطلق ليس إلا لنصوص الوحي، بل حتى أقوالهم المرتبطة بزمن معين أو مكان معين يجب أن نستفيد منها ونعنى بها، مراعين اختلاف الزمان والمكان.
تعميم اجتهادات آحاد السلف: قد يقرر أحد رأياً في مسألة من المسائل، ويثني على تقريره بسرد بعض أقوال من قال بذلك من السلف؛ لينطلق من ذلك إلى أن هذا هو منهج السلف، وقد يجاريه القارئ في هذه النتيجة؛ لعدم استحضاره لسائر الأقوال والنصوص، ويغيب عن القارئ أن الكاتب قد تعمد اختيار الأقوال التي توافق ما يذهب إليه، وتجاوز ما تعارضه، والأمانة العلمية تقتضي نقل جميع النصوص، أو بالأصح: عدم الاقتصار على جانب واحد منها. يستطيع أي فرد أن يدعي أن منهج السلف هو الاستثناء في الإيمان، ويستطيع آخر أن يدعي أن منهج السلف عدم الاستثناء في الإيمان، ويستطيع كل منهما أن يأتي بالنقول الكثيرة عن السلف تؤيد ما يذهب إليه، لكن ذلك لا يعني أن هذا هو منهج السلف.إذاً فلابد من التفريق بين منهج السلف، وآراء آحاد السلف.
دعوى اعتبار روح ما عليه السلف: وهو منهج يسلكه أولئك المتميعون الذين يسيرون وفق ما يحلو لهم، وحين يناقشون في ذلك، ويطالبون بسلوك منهج السلف يحتجون بأن المقصود: اتباع روح ما عليه السلف، فالأقوال والآراء المبتدعة، والمناهج المنحرفة، والتسيب الفقهي والعلمي عند هؤلاء لا يمكن أن يترتب عليه مجاوزة منهج السلف ما دمنا متمسكين بروح ما عليه السلف!
ثامناً: النظر إلى جانب واحد من النصوص: إن من العدل في التعامل مع النصوص الشرعية أن ينظر الباحث فيها إليها جملة، وأن يجمع النصوص الواردة في الباب الواحد، وحين ينظر إلى جانب واحد منها فقط؛ فسيخرج بنتيجة غير شرعية، ففي مقابل النصوص التي تتوعد أهل الكبائر بالعقوبة والنكال هناك نصوص تفتح أمامهم باب الرجاء ... لذا فالذي ينظر لجانب واحد من النصوص؛ يكون كما قال ابن القيم رحمه الله:
نظروا بعيني أعور إذ فاتهم نظر البصير وغارت العينان(174/4)
تاسعاً: اعتبار المسائل الاجتهادية من المنهج: هناك مسائل مما يسوغ فيه الاجتهاد والاختلاف، ولا ينبغي أن تكون مجالاً وميداناً للإنكار والتهارج، فضلاً عن التأثيم والتضليل، لكنك تجد البعض حين يتبنى اجتهاداً في مسألة ينطلق من هذا الاجتهاد ليلزم الأمة به، ويقرر أن هذا الأمر مما لا يسوغ خلافه، وأن المخالفة فيه دليل على انحراف في المنهج... ألسنا نرى أن البعض يتبنى اجتهاداً في مسألة من مسائل الوسائل الدعوية، والتي اختلف فيها أهل العلم في هذا العصر، فيتبنى رأياً من هذه الآراء، ويحشد أقوال مؤيديه، ويطوي صفحاً عن الآراء الأخرى في المسألة وهو يعلم أنها تخالف رأيه وهي لعلماء يحترمهم، فيصور للقارئ أن هذه المسألة من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن ثم: فأولئك الذين يخالفونه في اجتهاده منحرفون في منهجهم، بعيدون عما عليه السلف، فاقدون للورع والديانة... إنه من حق أي فرد أو جماعة تبني رأي في مسألة اجتهادية، لكن ذلك لا يمكن بحال أن ينقلها لتكون من قضايا المنهج، ومن ثم يوصم من خالف فيها بالانحراف والضلال، قال شيخ الإسلام رحمه الله:'وأيضاً فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من الخطأ في الدين مالا يكفر مخالفه، بل ولا يفسق، بل ولا يأثم، مثل الخطأ في الفروع العملية'
عاشراً: اعتبار التلازم بين الغيرة على المنهج، وحجم من يخرجون من دائرته:لاشك أن من مقتضيات خدمة المنهج الذب عنه، والدفاع عن حياضه، وكشف المتربصين الدوائر به. والرد على أهل البدع عند أهل السنة من أصول الدين، لكنه قد ساد لدى الناس مفهوم خاطئ يقتضي أنه يمكن الاستدلال على عظم غيرة المرء على الدين والعقيدة من خلال حجم أولئك الذين يستطيع الحكم عليهم بالخروج من المنهج والانحراف...إن الرد على المخالف منهج شرعي لا نقاش فيه، والمجاملة لأهل الأهواء تمييع للمنهج، لكن القسوة على الخلق، ونصب النفس حكماً لتصيد الأخطاء والعثرات والزلات، والاجتهاد في البحث عن دليل إدانة على شخص أو جماعة تثبت خروجهم من دائرة السنة ليس بالضرورة غيرة محمودة على المنهج.
قال شيخ الإسلام رحمه الله :وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم إن لم يقصد فيه بيان الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحاً'
حادي عشر: الخلط بين الخلاف في الأصل وفي تحقيق المناط: هناك فرق في المسائل الخلافية قد لا يتفطن له البعض من المختلفين، والغالب في الخلاف الدائر اليوم بين أهل السنة هو من هذا الباب، ألا وهو الخلاف في الأصل، أو في تحقيق المناط، فقد يتفق الجميع على أنه لا يكفر مسلم بكبيرة من الكبائر، ولايكفر إلا بما سماه الشرع كفراً، فيجتهد أحدهم ويحكم بالكفر على معين لما ظهر له، فيكفره من خلال عمل موجب للكفر عند أهل السنة، فإن ذلك لا يجوز للآخر اتهامه بأنه يرى رأي الخوارج وينتحله. وهذا هو الشأن في الخلاف بين الأمة في سائر مسائل الفروع، فهم يتفقون على اتباع الدليل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل مسألة صغرت أم كبرت، لكن الخلاف قد ينشأ بينهم في تحديد ما هو مقتضى الدليل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أخطاء في المنهج للشيخ/ محمد الدويش(174/5)
أخطاء في علاج الأخطاء
مقدمة
الخطأ الأول : إهمال علاج الخطأ والتهرب من التصحيح
الخطأ الثاني : ردة الفعل وعلاج الخطأ بخطأ آخر
الخطأ الثالث : رفض التصحيح العلني للأخطاء جملةً
الخطأ الرابع : المثالية
الخطأ الخامس : التعذر بالبشرية
الخطأ السادس : الإسقاط والتبرير وغيرها
الخطأ السابع : الخطأ في مقاييس تحديد الخطأ
الخطأ الثامن : الخطأ في التعامل مع مسائل الاجتهاد
الخطأ التاسع : افتراض التلازم بين الخطأ والإثم والضلال
الخطأ العاشر : إهمال البعد الزمني في تصحيح الخطأ
الخطأ الحادي عشر : إحراج الواقع في الخطأ
الخطأ الثاني عشر : أن نفترض المخطئ خصماً
الخطأ الثالث عشر : المبالغة في تصوير الخطأ
الخطأ الرابع عشر : الحديث عن طرف واحد من المخطئين
الخطأ الخامس عشر : البحث عن الخطأ والفرح به
الخطأ السادس عشر : التمحل في إثبات الخطأ
الخطأ السابع عشر : إهمال محاسن الرجل
الخطأ الثامن عشر : الحديث عن الخطأ ومظاهره دون الحديث عن الأسباب والعلاج
الخطأ التاسع عشر : اعتبار تصحيح الأخطاء وحده هو منهج التربية
مقدمة
الحديث عن الأخطاء ليس حديثاً غريباً، سواءً أكان الحديث من خلال منهج منضبط أم غير ذلك، ومن يتحدث عن الأخطاء لابد أن يجد أمامه رصيداً ضخماً؛ لأن البشر أياً كان إيمانهم وتقواهم وعلمهم لابد أن يقعوا في الخطأ والذنب والتقصير، فضلاً عن الخطأ الآخر الذي هو ليس إثماً ولا ذنباً، إنما هو خطأ من قبيل الاجتهاد الذي يؤجر عليه صاحبه أجراً واحداً؛ لأن المجتهد إذا أخطأ فله أجر.
إذاً فما دام الخطأ صفةً ملازمةً للبشر باعتبار كونهم بشراً ابتداءً، فإننا بحاجة إلى الحديث عن منهج علاج الأخطاء، خاصة ونحن نرى الأخطاء أمام ناظرينا، ونحتاج أن نضبط هذا المنهج الذي نعالج به الأخطاء حتى لا نشتط ونقع في الخطأ ونحن نعالج الخطأ، إننا بحاجة إلى أن نحذر من الوقوع في الأخطاء حين نعالج أخطاءنا، سواءً كانت أخطاء تجاه أنفسنا - فالمرء يدرك الخطأ والتقصير على نفسه ويسعى إلى تصحيحه وعلاجه- أو كانت أخطاؤنا في الميادين التربوية من خلال الأسرة أو المدرسة أو أي مؤسسة تربوية .
ونحن أيضاً بحاجةٍ إلى انضباط المنهج في التعامل مع الأخطاء في أخطائنا العامة التي تقع في مجتمعاتنا والتي نسعى إلى علاجها، وبحاجة إلى رسم المنهج في علاج أخطاء المجتمعات الإسلامية، وفي علاج أخطاء الناس، وفي علاج أخطاء الصحوة الإسلامية .
ونحن نقول هذا لأننا نرى جميعاً أننا نرتكب أخطاءً باسم علاج الخطأ وباسم التصحيح وربما كان هذا الخطأ أكثر شناعةً وأكثر خطأً من الخطأ الأول وذلك راجع إلى افتقاد المنهج.
إن من يسعى إلى تصحيح الخطأ قد يتصور أن حسن مقصده، وسلامة نيته كاف في انضباط منهجه فيرى أنه مادام يريد الإصلاح و النصح والعلاج فهذا وحده كاف في أن يرفع عنه اللوم والمحاسبة ويؤهله أن يقول ما يشاء وأن يفعل ما يريد وأن يرتكب ما يحلو له باسم تصحيح الخطأ، لأنه ناصح ويريد الإصلاح ويريد الخير، ولئن كانت النية الحسنة وحدها ليست كافية في سلامة أي عمل وأي قول فهي أيضاً كذلك في تصحيح الخطأ . والنصيحة ليست مناط السلامة ولا النية وحدها ومن ثمّ كنا بحاجة إلى الحديث عن منهج تصحيح الأخطاء والوقوف عند بعض أخطائنا التي نقع فيها ونحن نعالج الأخطاء وربما كانت أكثر خطأً وأشد نتاجاً من الخطأ نفسه الذي حاولنا علاجه وإزالته، وسنطوف وإياكم في هذه القضايا أمام ميدان واسع رحب.
فسنتحدث تارة عن أخطاء أنفسنا، وتارة عن علاج الأخطاء التي تقع في المؤسسة التربوية الأولى - الأسرة -، وتارة في الأخطاء التي تقع في المؤسسات التربوية الأخرى ـ المدرسة وغيرها ـ، وتارة نتحدث عن المجتمعات وعن الصحوة، ولا جامع لهذا الحديث إلا أنه حديث عن الأخطاء في معالجة الأخطاء.
ومن هذه الأخطاء التي نرتكبها في التعامل مع الأخطاء :
الخطأ الأول: إهمال علاج الخطأ والتهرب من التصحيح:
وهو أسلوب قد يسلكه المرء مع نفسه، فيمارس حيلاً لا شعورية يتهرب فيها من المسؤولية ومن تحميل النفس بالخطأ، ويرفض أن يواجه بخطئه أو أن يقال له أخطأت، فهو يرفض النقد جملةً وتفصيلاً تصريحاً وتلميحاً، إشارةً أو عبارةً .
إننا لابد أن نقع في الخطأ في ذوات أنفسنا أو في أعمالنا في مؤسساتنا التربوية، أو على مستوى مجتمعاتنا ككل أياً كانت أعمالنا وجهودنا.
وحينئذٍ لابد من المصارحة والوضوح والاعتراف بالخطأ. ورفض الحديث عن الأخطاء أوالنقد إنما هو استسلام للخطأ وإصرار عليه، إنه لا يليق بالمرء أن يرفض المصارحة مع نفسه ومناقشة أخطائه ونقدها، أو يتّهم النقد الموجه له من الآخرين، وكذلك لا يسوغ لنا داخل مؤسساتنا التربوية أن نرفض المراجعة والتصحيح.(175/1)
إن من حقنا بل من واجبنا أن نتحدث عن الأخطاء - ولابد أن تقع أخطاء - التي يقع فيها الأب تجاه تربيته لأبنائه حديثاً واضحاً صريحاً، وعن الأخطاء التي تقع فيها الأم في تربيتها لأبنائها وبناتها.
ومن حقنا بل ومن واجبنا أن نطلب المراجعة لمناهجنا التربوية، سواءً كانت في المؤسسات التعليمية أوالتربوية. ومن حق أي ناقد مخلص أن يطالب بالتصحيح وأن ينتقد وأن يبدي وجهة نظره في مناهج التربية وبرامجها داخل المؤسسات التربوية الرسمية أو غيرها.ومن حقنا داخل قطاع الصحوة أيضاً أن نرفع أصواتنا وأن نطالب بإعادة النظر والتصحيح ومراجعة البرامج التربوية تارة بعد أخرى.
والتهرب من النقد ومن المراجعة، واتهام من ينتقد إنما يعني الإصرار على الخطأ واعتقاد العصمة للنفس . فلابد أن نتربى ونربي غيرنا، وأن تتربى مجتمعاتنا على أن تكون لغة النقد البناء لغة سائدةً بين الجميع، وعلى أن يكون الحديث عن الأخطاء حديثاً لا تقف دونه الحواجز ولا العوائق، مادام ذلك داخل إطار النصيحة وداخل إطار النقد البناء.
الخطأ الثاني : ردة الفعل وعلاج الخطأ بخطأ آخر:
وهذا غالباً ما ينشأ عند زيادة الحماس لمواجهة هذا الخطأ ولنضرب على ذلك أمثلة في الواقع الشخصي:
أولاً: في واقع الإنسان نفسه فقد يكتشف الإنسان خطأً في نفسه وحينئذٍ يدعوه الحماس إلى تصحيح هذا الخطأ؛ فيتعامل مع نفسه بردة فعل، ويتعامل مع هذا الخطأ بخطأ آخر ربما كلف نفسه مالا يطيق، وربما وقع في خطأ آخر مقابل لهذا الخطأ فعلى سبيل المثال :
حين يكتشف المرء مثلاً أنه مقصر في طلب العلم الشرعي ويرى أن أقرانه قد فاقوه وسبقوه، فيسعى إلى تصحيح هذا الخطأ، ويرسم لنفسه برنامجاً طموحاً برنامجاً لا يطيق أن يصبر على بعضه فضلاً عن أن يطيقه كله، وحين يبدأ التنفيذ ويخوض الميدان يصطدم بالواقع، ويرى أن ثمة مسافة هائلة بين المثال والواقع، بين تلك الصورة التي رسمها لنفسه والتي كان يتطلع إليها، وبين ما كان يمكن أن يصل إليه من قدر من التصحيح، وحين يصل إلى هذه الحال فإنه في الأغلب لا يعود إلى التوازن مرة أخرى حتى وهو يصحح هذا الخطأ . إذاً فيجب أن نحذر الحذر الشديد حين نحاول تصحيح أخطاء أنفسنا من الوقوع في ردة الفعل التي قد توقعنا في الغلو والمبالغة، أو قد توقعنا في خطأ آخر في الطرف المقابل كإهمال واجبات وحقوق أخرى، وما أكثر ما نقع في ذلك وكل هذا ناشئ عن ردة الفعل، وربما يكون هذا الخطأ الذي وقعنا فيه أشد من خطئنا الأول وقد يكون أيضاً تجاه أعمال الآخرين.
ويدل لذلك حديث الأعرابي المعروف الذي بال في المسجد فهو هنا قد وقع في خطأ، فأراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعالجوا هذا الخطأ لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يعالجوا الخطأ بخطأ آخر .
بل القضية تتعدى ذلك حين تكون ردة الفعل مسؤولة عن رسم المناهج أصلاً فكم نرى من مناهج للتغيير يراهن أصحابها عليها ويرون أنه لا منهج لتغيير الأمة إلا هذا ولا طريق إلا هذا الطريق وأي امرئ يسلك غير هذا الطريق بل أي امرئ لا يتطرف هذا التطرف الذي يتطرف به أصحابه فهو ضال منحرف زائغ لا يملك التأهل لإنقاذ الأمة والتغيير.
وحين تتأمل في هذا المنهج كله تراه لا يعدو أن يكون ردة فعل تجاه خطأ آخر ولا نريد أن نضرب الأمثلة فهي واضحة، لأن ضرب الأمثلة قد يثير بعض الحساسية خاصة في الحديث عن مناهج التغيير والمناهج الدعوية لكن أنت لو تأملت الواقع ووضعت أمامك قائمة من مناهج التغيير المطروحة في الساحة لرأيت أن عدداً منها لا يعدو أن يكون ردة فعل لعلاج خطأ في مناهج أخرى.
وحينئذٍ فالموقف الذي تتحكم فيه ردة الفعل بشكل واضح الغالب أن يقع في خطأ آخر مقابل الخطأ الأول وربما كان أشد خطأً منه.
الخطأ الثالث : رفض التصحيح العلني للأخطاء جملةً:
هناك أخطاء ينبغي أن تصحح من خلال قنوات خاصة وطرق شخصية وسرية، لكن ثمة أخطاء ومنكرات وقضايا لابد أن يُتحدث عنها وتعالج تحت ضوء الشمس وبوضوح.
ومناط الأمر في ذلك كله إنما يعود أولاً وأخيراً إلى المصلحة الشرعية، فحيث تقتضي المصلحة الشرعية علاج هذا الخطأ سراً وبطريقة شخصية فإنه ينبغي أن يعالج كذلك.
وحيث تقتضي المصلحة الشرعية علاج هذا الخطأ بصوره علنية واضحة فحينئذٍ الطريقة المثلى هي هذه الطريقة، والأمر يدور مع المصلحة الشرعية ولاشك أننا قد نجد داخل هذه الدائرة مجال اجتهاد في بعض الجوانب لكن أن نرفض التصحيح العلني للأخطاء جملة فهذا منهج مرفوض، وهو ناشئ أصلاً من عقدة رفض النقد ابتداءً .حيث قد تربينا على رفض النقد، وتربينا على اعتبار أن النقد والحديث عن الأخطاء يعني في الضرورة الضلال والتأثيم والفشل والعداوة إلى غير ذلك من اللوازم التي نربطها بتصحيح الخطأ.(175/2)
لكن لو كنا تربينا على أنه يمكن أن ننتقد وأن نتحدث عن الخطأ بوضوح، وأن هذا لا يعني الفشل ولا يعني الإثم ولا يعني أن تكون لنا مقاصد مغرضة، و أنه يمكن أن يكون هناك حديث ونقد بناء عن الخطأ مع حسن النية وسلامة المقصد؛ لاستطعنا أن نبني منهجاً سليماً للنقد يمكن أن يستفيد منه الجميع.
ونحن نرى ونقرأ مثلاً في الصحف كثيراً من المقترحات ونقد بعض الأوضاع في المجتمع والمطالبة في التصحيح، فنرى من يطالب بزيادة اليوم الدراسي، ونرى من يطالب بإضافة مادة من المواد أو بتقليص أخرى، والجميع يتحدثون ولا أحد يرى أن في مثل هذا الحديث طعناً في المناهج التربوية واتهاماً لها بالفشل والقصور وعدم الوفاء بمتطلبات العصر، بل الجميع يرون أنه يمكن أن نتحدث ونقترح وليس بالضرورة أن يكون حديث كل امرئ حديثاً صواباً صحيحاً، ثم ليس بالضرورة أن يكون كل حديث عن الخطأ إنما هو حديث مقرون بسوء النية والمقصد، لكن حين يتحدث المصلحون عن المطالبة بالتصحيح يواجهون بألوان من الإرهاب الفكري، والمحاصرة للكلمة، من الصادقين ابتداءً قبل غيرهم فيقال : إن في هذا الكلام طعناً واتهاماً وإثارةً للبلبلة إلى غير ذلك من تلك الأوصاف التي يوصف بها الناصحون.
إن مجتمعات المسلمين تعاني من أزمات ومشكلات أياً كانت هذه الأزمات وهذه المشكلات، ولنأخذ مثلاً مشكلة ( المخدرات ) مشكلة تعاني منها مجتمعات المسلمين أجمع، والدليل على هذا أنك لا ترى دولة من دول المسلمين إلا وفيها جهاز أمني متكامل لمكافحة المخدرات، وهذا يعني بالضرورة أن هناك مشكلة اسمها (مشكلة المخدرات ) ويتحدث عنها في الصحف، ووسائل الإعلام، ويكتب عنها تحذيراً من الوقوع فيها، ومحاولات حثيثة لعلاج من وقع فيها إلى آخر المقاصد التي تدفع للحديث عن هذه المشكلة، ونرى أن باقي مشكلات مجتمعات المسلمين هي الأخرى شأنها شأن هذه المشكلة، ينبغي أن نتحدث عنها بوضوح وأن نتحدث عن حجم هذه الظواهر وعن انتشارها في المجتمعات فلماذا تكون عندنا حساسية مفرطة عندما نتحدث عن انتشار بعض المشكلات في مجتمعات ما ؟
قد يقال : إن في هذا تشكيكاً في المجتمع، وإثارة للبلبلة، وطعناً في المجتمع إلى غير ذلك، ولم يقل أحد من الناس إن تخصيص أجهزة خاصة في مكافحة المخدرات ومواجهتها أن هذا يعني اتهام المجتمع في أنه غارق في ظاهرة المخدرات.
وحين نعود إلى تاريخ الأمة نرى أنها بنت منهجاً واضحاً للنقد الواضح العلني، ولم تر أن ذلك يعني الطعن ولا التشكيك، خذ مثالاً رائعاً من تاريخنا عندما قام أحد الرعية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يخطب الناس على المنبرـ وقد كان خليفة ـ فيواجهه في الحديث عن الخطأ علانية، و عمر رضي الله عنه يناقشه حتى يقتنع الجميع وتحصل الحادثة نفسها مع معاوية رضي الله عنه ـ وهو خليفة ـ ونرى تلك الاختيارات الفقهية التي اختارها ـ مثلا ـً عمر رضي الله عنه أو اختارها عثمان، أو علي، أو غيرهم حول جمع المصاحف أو حول متعة الحج، أو حول الإتمام في الحج، أن كل هذه الاختيارات واجهت انتقاداً وواجهت حديثاً علنياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يرون أنهم لا يزالون إخوة، والجميع - المنتقِد والمنتقَد، المتحدث عن ما يرى أنه خطأ، والآخر الذي يقع فيما يرى أنه خطأ - يرون أنهم لم يتجاوزوا سياج الأخوة .
ونرى مثلاً أبا سعيد الخدري رضي الله عنه ينكر على مروان ؛ حين كان والياً على المدينة وقد قدّم خطبة العيد على الصلاة فيقول له ـ في محضر من الناس ـ : ( خالفت السنة يا مروان ).
ونرى من ينكر على بشر بن مروان، حين حرك يديه في الخطبة، ويخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يزيد على أن يشير بالسبابة ).
وحين ندعو إلى إهمال هذا التصحيح، وإهمال الحديث عن التصحيح العلني، والحديث عن الأخطاء؛ فإن هذه دعوة إلى إلغاء كل التراث الذي حفظ لنا، التراث الذي يتحدث عن انتقاد المبتدعة، وأسمائهم، وأخطائهم، وانتقاد مناهجهم، وهذا يدعو إلى أن نصادر كل حدث، أو رواية أو موقف قام فيه أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو قام به سلف الأمة، أو من تلاهم بعد ذلك من الناصحين، أن نصادر هذه الروايات، وأن نغض طرفاً عنها، وأن لا نخرجها للناس؛ لأن هذه تربي الناس على الحديث العلني عن الخطأ ؛ بل لعل هذا المنهج أن يدعونا إلى التعسف في تأويل نصوص صحت عنه صلى الله عليه وسلم واضحةً وضوح الشمس، فقد بايع صلى الله عليه وسلم أصحابه على السمع، والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أن يقولوا بالحق حيث كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه واجب على كل مسلم أن يقول بالحق حيث رآه، أو علمه، وأن ينكر المنكر حيث رآه، ونهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تمنع هيبة الناس آمراً أن يقول بحق رآه، أو علمه.(175/3)
إذاً فنحن حين نكون واقعيين ومنطقيين، فإنه خير لنا أن نبني منهجاً سليماً للنقد يتحدث عن الأخطاء تحت ضوء الشمس، ويتحدث عن الأخطاء علانيةً لكن يكون هذا محاطاً بسياج المصلحة والحكمة بعيداً عن مقصد الإثارة والتشكيك واتهام النوايا.
الخطأ الرابع: المثالية:
وذلك أن نكون مثاليين؛ فنطلب من أنفسنا، أومن أبنائنا، أو بناتنا أو حتى من مجتمعاتنا أو من جيل الصحوة صورة مثالية.
ونحن حين نرسم هذه الصورة نحاسبهم عليها، فالأم ـ مثلاً ـ كثيراً ما تعاتب أطفالها وربما تعاقبهم على أخطاء لابد أن يقع فيها الطفل مادام طفلاً، فحين يأتي الطفل ويعبث ببعض أثاث المنزل، أو يعمد إلى آنية فيكسرها، أو يسيء إلى أحد إخوانه الصغار، تعاتبه الأم وتعاقبه وربما كانت العقوبة شديدة وهي تطلب منه أن يكون منضبطاً مثالياً فلا يسيء إلى إخوانه الصغار ولا يعبث بالتراب ولا يعبث بالأثاث، ولا يرفع صوتاً ولا يبكي ولا، ولا… إلى آخر هذه القائمة ولو راجعنا بحق تعاملنا مع أبنائنا وبخاصة الصغار لرأينا أننا مثاليون كثيراً فنطلب منهم صورة مثالية لا يمكن أن يصلوا إليها، وبناءً على هذه الصورة التي نرسمها نحاسبهم عليها .
وقل مثل ذلك في الدعاة إلى الله عز وجل وطلبة العلم والشباب الأخيار، فالمجتمع ينظر إليهم ويطلب منهم صورة مثالية، بل إننا كثيراً ما نطلب منهم أن يكونوا معصومين، فنطلب منهم التجرد عن ذواتهم، والارتفاع عن كل ما يقع فيه بشر، وحين نرسم في أذهاننا صورة للعامي وأخرى لطالب العلم، وأنه ينبغي أن يكون على هذه المواصفات، وصورة ثالثة للشاب المسلم وهي صورة مثالية، صورة نظرية أخذناها بعيداً عن الواقع الذي نعيشه، وبعيداً عن الواقع البشري، حين نرسم هذه الصور فإننا سنحاسبهم عليه، ويترتب على هذا أن نعتبر من الأخطاء ما ليس كذلك، وأن نرى أن الأخطاء التي هي طبيعية أصلاً، أو نرى أن التصرفات الطبيعية التي لابد أن تصدر من البشر نراها أخطاءً، وقل مثل ذلك في الطالب، فالأستاذ قد يرسم صورة مثالية للطالب فيرى أنه ذاك الطالب الذي يلتزم بالأدب التام فلا يسيء الأدب مع أستاذه، في استئذانه، وحديثه، ولا يسيء الأدب مع زملائه، ولا يمكن أن يتأخر عن أداء الواجب يوماً من الأيام ولابد أن يفهم ما يلقى عليه فهماً سليماً، ولا يسوغ له أن ينشغل عن الدرس، ولا أن يلهو، أو يتأخر عن الحضور إلى الفصل، أو يغيب، أو تصيبه عوارض، إلى آخر تلك المثاليات...
ثم يرسم هذه الصورة ويحاسب تلميذه بناءً عليها ويطلب من التلميذ أن يعيش في جوٍ مثالي ، والأستاذ نفسه ربما وقت الطلب لم يصل إلى جزء مما يطالب تلامذته أن يصلوا إليه، وحين يكون الأستاذ والمربي واقعياً في التعامل مع من يربيه فهو حينئذٍ لابد أن يأخذ في الذهن أنه يتعامل مع بشر تعتريهم عوارض النقص والغفلة والنسيان والهوى، عندئذٍ سيضع الأخطاء في إطارها الطبيعي وحجمها المعقول .
الخطأ الخامس : التعذر بالبشرية:
وهذا أمر صحيح، فإن البشر لابد أن يقعوا في الخطأ لكن ليس هذا عذراً نضرب به في وجه كل من يطالب بالتصحيح، وحين نقول هذا العذر فإننا ينبغي أن نقوله ونحن أولاً :نحمل العزيمة والإرادة الجادة والاستعداد للتصحيح ، ثم ثانياً : نحن على استعداد لأن نتحمل تبعة هذا الخطأ .
ولو أن إنساناً يسير في الطريق فسنطالبه بأنظمة المرور وأن يكون منتبهاً، وأن يترك مسافة بينه وبين السيارة التي أمامه، لكن الإنسان بشر قد ينشغل مثلاً فتقف السيارة أمامه فجأةً فيصطدم بها، وحين يطالبه ذلك الشخص بأن يتحمل مسؤولية الخطأ الذي وقع فيه وأن يقوم بإصلاح سيارته فإنه لا يقبل منه بحال أن يعتذر عنه بأنه بشر والبشر قد ينسى وقد يسهو وقد يغفل…
نعم قد يفعل ذلك كله لكن عليه أن يتحمل تبعة الخطأ الذي وقع فيه؛ فيقوم بإصلاح ما أفسد ولهذا فإن الخطأ الذي يقع من الإنسان ويترتب عليه تلف في أموال الآخرين أو أبدانهم لا يعذر فيه أبداً بالخطأ، فقتل الخطأ مثلاً يطالب الإنسان فيه أن يدفع الدية، وقل مثل ذلك في الإتلاف لو أتلف مال غيره خطأ فهو مطالب بالضمان مع أنه بشر، وقيمة الخطأ هنا أنه رفع عنه الإثم لكن بقي أن يتحمل تبعة الخطأ .
المقصود أننا يجب أن نتوازن فلا نطلب من الناس المثالية، ولا ندافع عن أخطائهم ونسوغ أخطاءهم بحجة أنهم بشر، فقد نرى –على سبيل المثال- الأب كثيراً ما يعتذر عن ابنه بأنه مراهق وأن هذا شأن الشباب، وقد نرى مثلا أيضاً أستاذاً يعتذر عن حال طلابه بأنهم مراهقون، وهكذا نعتذر عن الخطأ، وربما نعتذر عن الكبائر بحجة أن من يفعلها بشر وبحجة أنهم يعيشون في عصر مليء بالفتن والمغريات إلى غير ذلك.
الخطأ السادس : الإسقاط والتبرير وغيرها:(175/4)
قد نعترف بالخطأ؛ لكننا لا نحمل أنفسنا مسؤولية الخطأ فنحاول مثلاً أن نحمل غيرنا الخطأ أو نحاول أن نبحث عن أسباب وعوامل وهمية نعلق عليها مسؤولية الخطأ وقد تحدثنا عن هذه القضية في درس بعنوان ( دعوة للمصارحة) فلا نريد أن نطيل فيها.
الخطأ السابع : الخطأ في مقاييس تحديد الخطأ:
عندما نقول إن هذا الأمر خطأ فعلى أي أساس اعتبرنا أن هذا الأمر خطأ ؟ فمثلاً قد نعتبر الخروج عن المألوف خطأ، فمن يأتي بشيء جديد مخطئ لا لشيء إلا لأنه جاء بأمر جديد لم نألفه وأظن أن هذا المنطق منطق مرفوض من الجميع، وهذا منطق عقلية الذين يرفضون التجديد، والمنطق نفسه هو الذي قاد قوماً من الناس إلى أن قالوا (إنا وجدنا آباءنا على أمة).
أيضاً أن يكون المقياس مثلاً قول فلان من الناس ؛ فنعتبر أن من خالف قول فلان من الناس أياً كان شأنه ومكانته فهذا خطأ، ونعتبر أن فلاناً هذا هو الحاكم على أقوال الناس، وعلى أعمال الناس، فإذا قال أحد قولاً يخالف قوله فهذا يعني أنه خطأ، وحين يقول قولاً فمن أقرّ به صوبناه، ومن خالفه خطأناه بل وحاسبناه على ذلك، وهذا منهج مرفوض تحدث عنه أئمة الإسلام، وممن تحدث عن ذلك شيخ الإسلام في مواضع كثيرة ومما قاله في ذلك :
" وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد أنت أعلم أم الإمام الفلاني ؟ كانت هذه معارضةً فاسدةً؛ لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، ولست أعلم من هذا ولا من هذا ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة كنسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأُبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم..." إلى آخر كلامه.
يعني أنه عندما يقول فلان من الناس قولاً يخالف قول هذا الرجل الذي جعلته حكماً فإنه وإن خالف قول هذا الرجل الذي هو أعلم منه وأتقى منه، إلا أنه قد وافق غيره ممن هو أعلم من هذا العالم الذي نصبته حاكماً على أقوال الناس وعلى آرائهم.
وقال أيضاً : " قال الله تعالى: ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)، وقال: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول) فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم، ولا أمير، ولا شيخ، ولا ملك، فالحكم فيها للكتاب والسنة" .
وهذا منطق المقلد ومنطق الإرهاب الفكري، حين نحتج على الناس بأن هذا القول يخالف قول فلان أو يخالف ما قرره فلان ؛ فليس من أحد كائناً من كان حجةٌ على هذه الأمة ؛ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يجادل ويحاج ويخطِّئ الناس ينبغي أن يجادل ويحاج بالمنطق والدليل والبرهان الشرعي.
الخطأ الثامن : الخطأ في التعامل مع مسائل الاجتهاد:
وذلك أن هناك مسائل هي مسائل اجتهاد، الأمر فيها سائغ وقد اختلفت الأمة فيها ولا يزال الخلاف فيها إلى أن تقوم الساعة، وحين نعمد إلى تخطئة الناس في هذه المسائل، وربما التشنيع و الإغلاظ عليهم فإن هذا منهج مرفوض وقد تحدث الأئمة عن ذلك في باب الإنكار.
قال ابن قدامة : "لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العملَ بغير مذهبه فإنه لا إنكار في المجتهدات ".
وقال الإمام النووي :" ثم العلماء لا ينكرون إلا ما اجتمعت عليه الأمة، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه " .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين " فما بالكم بما هو أعلى من الذم كالاتهام بالضلال والانحراف والخلل في المنهج إلى غير ذلك بحجة أنه خالف في مسألة من مسائل الاجتهاد ـ
وقال أيضاً : " مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه " .
والأقوال عند الأئمة في ذلك محفوظة مشهورة مدونة . إن مسائل الاجتهاد -وهي التي ليس فيها دليل صريح من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم -لا يسوغ أن ينكر على الناس فيها ونخطئهم ونؤثمهم، خاصةً إذا انطلقوا من خلال اجتهادهم أياً كان هذا الاجتهاد، بل إننا نرى مثلاً أن هناك من يحول بعض مسائل الاجتهاد إلى أصول وإلى منهج، فيقيم الناس من خلاله ويضللهم ويخطئهم ويؤثمهم عليه.
ولنضرب على ذلك مثالاً حتى تكون الصورة واضحة : بعض الأخوة العاملين في المراكز الصيفية يقوم ببعض الأنشطة المستحدثة المعاصرة والتي اختلف أهل العلم في حلها وحرمتها، أو مشروعيتها أو عدم مشروعيتها وعل سبيل المثال ( قضية التمثيل وغيرها.. ).
ولا نريد أن نخوض في هذه المسائل، لكن أياً كان الرأي الذي نصل إليه فهي مسائل اجتهاد ليس فيها نصٌ صريح، واضح، يقطع بحرمتها، وعدم مشروعيتها، أو يقطع بالعكس.(175/5)
ولئن كان الأمركذلك وتوصلت أنت إلى قناعة تامة أدت بك أن تتيقن في أن قولك حق، فيجب أن تضع في ذهنك وتتصور أن هناك من أهل العلم الذين لا يقلون عنك علماً وورعاً قد قالوا بخلاف ذلك، وهذا لا يعني بالضرورة أن قولهم أصوب منك، لكنه يعني أن القضية دائرة في مجال الاجتهاد، فلماذا تقام معارك حول هذه القضية ونجعلها قضية منهج؟ بل إنك ترى وتجد بعض الناس يجعل أن من منهج الدعوة تحريم التمثيل، أو يقول إن بعض الناس عندهم خلل في منهج الدعوة، ذلك أنهم يقعون في التمثيل إلى غير ذلك، وبناءً على ذلك فلا يمكن لهؤلاء أن يصلحوا الأمة أو يفعلوا خيراً وأنهم آثمون .
والحق أنه لا يأثم ما دام قد استند إلى اجتهاد أو فتوى للمعتبرين من العلماء، وغاية ما يقال فيهم أنهم اجتهدوا فأخطأوا وهكذا يكون تحديد مقياس الخطأ .
بل هناك من يشن حرباً مثلاً على بعض هذه الأنشطة، ولو ناقشته وجدت أن السبب هو هذه القضية، وقل مثل ذلك في قضايا أخرى، وكلها ناشئة عن ضيق العطن حول مسائل الاجتهاد، وحول التعامل معها.
وقد يبحث البعض مسألة من مسائل الاجتهاد ويستقصي أدلتها ؛ فيتضح له أن الأدلة الشرعية تدل على هذا القول، فمن حقه أن يصل إلى هذه القناعة، أو يتبنى هذا الرأي أو يعلنه للناس، لكن ليس من حقه أن يصادر اجتهادات الآخرين ويسفه قناعتهم بحجة أن هذا هو مقتضى الكتاب والسنة، وهذا هو ما تؤيده الأدلة الشرعية فالمعرض عنه معرض عن الكتاب والسنة، والرافض له رافض لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهو إما مقلد أو صاحب هوى.
وكم تقذف لنا المطابع ودور النشر من كتاب يبحث مسألة من مسائل الاجتهاد اختلف السلف فيها ولكلِ قولٍ مرجحٌ من الأئمة المعتبرين، فتقرأ في مقدمة الكتاب أو البحث الذي استقصى فيه صاحبه أن هذا البحث جاء ليضع النقاط على الحروف في هذه المسألة المعضلة التي كثر الجدل حولها وطال، ويبحث صاحبنا فيجيّر كل القواعد الحديثية، والفقهية، والأصولية لصالح ما توصل إليه.
ونحن لا نعترض أبداً على بحث هذه المسائل والاستقصاء فيها ونقاشها، لكن أن يصور الباحث للناس أن هذا البحث جاء ليقطع في هذه المسألة ويضع النقاط على الحروف، فأظن أن هذا منهج مرفوض.
من حقك أن تقضي ساعات طويلة لتقرير قولك؛ بل تؤلف وتناظر عليه، لكن ينبغي أن تحترم اجتهادات الآخرين، وينبغي أن ترى أنه مع ذلك لا تزال هذه المسألة مسألة اجتهاد.
وقد نرى الصورة تتكرر في مجال آخر فقد يأتي ـ مثلاً ـ بعض الناس إلى تحقيق كتاب لأحد الأئمة ويرجح مثلاً هذا الإمام ـ كابن القيم ـ قولاً في مسألة اجتهادية تخالف ما يراه الأخ المحقق فيضع حاشية صفحات طويلة يسرد فيها الأدلة ويقرر فيها أن المؤلف وهم رحمه الله باختيار هذا القول، وأنه خالف الصواب، والقضية قضية اجتهاد.
وليس من حق المحقق أبداً الاعتراض على هذا الإمام في ترجيحه، والقارئ إنما اشترى هذا الكتاب لأنه من تأليف ابن القيم لا أنه من تأليف فلان من الناس، واقرؤوا الكتب المحققة لتروا مثلاً الكثير ممن يحقق يملأ لك صفحات هائلة في الحواشي في مناقشة المؤلف والإمام في مسألة اجتهادية ربما كان الحق فيها مع المؤلف.
وأظن أنه ليس من التوازن العلمي ولا الترشيد في التأليف والكتابة أن تجد في المكتبات الإسلامية عشرات الكتب حول مسألة اجتهادية وربما كانت سنة من السنن، في حين أن هناك قضايا أهم منها تستحق التأليف والجدل والمناظرة ولكنها تهمل وتطوى.
الخطأ التاسع : افتراض التلازم بين الخطأ والإثم والضلال:
وذلك أننا قد نتصور أن الخطأ يعني في الضرورة الإثم، وأننا حينما نقول أخطأ فلان فذلك يعني أنه آثم، وحينما نقول أخطأ فلان فهذا يعني أنه غير مؤهل.. إلى غير ذلك.
وهذه من أكبر العقد في مواجهة النقد، وأظن أننا لو قضينا على هذه الإشكالية لاستطعنا أن نبني منهجاً سليماً للنقد ؛ حين نستوعب هذه القضية وتكون واضحة عندنا يهون عندنا النقد ونتقبله؛ لكن المشكلة أننا نتصور أنه عندما نقول إن فلاناً أخطأ فهذا يعني اتهامه بالجهل والحطّ من شأنه وعلمه ومكانته، ولهذا عندما تتحدث مثلاً عن قضية وتخالف اجتهاد غيرك يشغّب عليك في الحديث عن مكانة العالم أو مكانة فلان .. إلى غير ذلك.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله : "فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة ـ يعني في القضايا التي يعلم أنها ذنب حقاً ـ وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا ما اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا فأخطؤوا فلهم أجرٌ على اجتهادهم وخطؤهم مغفورٌ لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغلون فيهم ويقولون إنهم معصومون، وتارة يجحفون فيهم ويقولون إنهم باغون في الخطأ، وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يؤثمون، ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلالة ".(175/6)
وقال أيضاً : " وإذا ثبت في الكتاب المفسر بالسنة أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان فهذا عام عموماً محفوظاً، وليس في الأدلة الشرعية ما يوجب أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئاً على خطئه ".
وهذا الخطأ ينشأ عنه خطآن :
الخطأ الأول : رفض التصحيح ورفض النقد لأنه بالضرورة يعني التأثيم والضلال.
وينشأ عنه أيضاً : الطعن في الشخص الذي يقع في الخطأ واعتقاد زيغه .
الخطأ العاشر: إهمال البعد الزمني في تصحيح الخطأ:
حين نكتشف الخطأ فإننا ينبغي أن نكون واقعيين، وأن نرى أن هذا الخطأ كان نتيجة تراكم عوامل عدة، وحين نسعى إلى تصحيحه فإن هذا يعني بالضرورة أن نعطيه المدى الزمني الكافي في تصحيحه حتى يمكن أن نصححه، فلو أن إنساناً اكتشف بنفسه أنه حادّ وسريع الغضب وأراد أن يصحح هذا الجانب في نفسه، فإنه ينبغي أن يعلم أنه لا يمكن أن يتحول من إنسان سريع الغضب سريع الانفعال إلى إنسان حليم بين يوم وليلة، بل لابد أن يتدرج في ذلك و عندما تكتشف عند ابنك أو عند من تربيه خطأ أياً كان ذلك الخطأ فمن الظلم أن تطالبه بتصحيح الخطأ في وقت يسير.
وقل مثل ذلك في الصحوة، إن عمر الصحوة لا يزال قصيراً، وهذا الجيل المتوافد على الخير والهداية جيل نتاج تربية المجتمع، ولا يسوغ أبداً بحال بل ومن الظلم أن نحمّل جيل الصحوة الأخطاء التربوية، لأن هذا جيل نتاج تربية آباء وأمهات ومؤسسات تربوية عامة، وهذا جيل من إفراز مجتمع يعيشه وليس بالضرورة أن يكون مسؤولاً عنه من يربيه ولا أن تكون مسؤولة عنه الصحوة ذاتها، وحين نسعى إلى تصحيح الأخطاء في هذا الجيل ( جيل الصحوة ) ونسعى إلى منهج من النضج فإننا ينبغي أن نعطيه المدى الزمني الذي يمكن أن يؤهله لحل هذه المشكلة إذا أردنا أن نكون واقعيين.
الخطأ الحادي عشر :إحراج الواقع في الخطأ :
حين نريد أن نصحح الخطأ عند إنسان يقع في الخطأ فلا يسوغ أ ن نحرجه، ومن ذلك مثلاً أن لا نعطيه فرصة للتفكير، حتى يفكر في خطئه ويراجع نفسه؛ فمن طبيعة النفس أنه يصعب عليها الاعتراف بالخطأ، فحين تحاصر صاحبك في زاوية ضيقة وترى أنه لابد أن يعترف لك ويقول إنني أخطأت، فهذا منطق غير معقول، لكن لو أعطيته فرصة للتراجع، وبحثت له عن المسوغات والمبررات التي أوقعته في هذا الخطأ، كأن تقول له إنني أعرف أنك قد وقعت في هذا الخطأ بسبب كذا وكذا، وأن هناك عوامل أدت بك إلى الوقوع فيه، ولسنا نريد اتهامك ولكن نريد أن تصحح هذا الخطأ، فعندما تسلك معه هذا المنهج فإنك يمكن أن تعينه على الاعتراف فعلاً بالخطأ.
كذلك فان اختيار الوقت والمكان المناسبين لعلاج الخطأ أمر مهم، عندما يأتي الأب أو الأم مثلاً فيلوم الطفل أمام إخوته فهذا بلا شك إحراج له، ومدعاة لرفضه ما يقال له.
وعندما تأتي لإنسان وذهنه مشغول أو في طور الحماس لرأيه والحديث عنه وتبريره، فهو في موقف غير مناسب أن تفاجئه بالحديث عن الخطأ، لكن عندما تنتظر إلى أن يهدأ حماسه وتناقشه في الخطأ فإنك حينئذٍ تعطيه فرصة مناسبة ولا تحرجه.
إننا حين نسلك هذا المنهج فإننا سنفشل كثيراً في تصحيح كان من الممكن أن ننجح فيها لو سلكنا منهجاً أكثر اعتدالاً وتوازناً.
الخطأ الثاني عشر : أن نفترض المخطئ خصماً :
وهذا كثير ما ينشأ في الردود، فتفترض أنه خصم وتكشف عن عواره وتظهر خطأه وتحسسه بمخالفة قوله أو فعله للإجماع والقياس والاستحسان و … . هذا الأسلوب قطعاً سيولد لديه ردة فعل فيبدأ في البحث عن مسوغات وقد يتعصب لرأيه ويبحث عمّا يبرره .
حين تكون جاداً في تصحيح الخطأ فلا تجعل المخطئ خصماً لك، وأما إن عاملته بالخصومة فاعرف حينئذٍ أنك لم تزد على أن أثرت الحماس عنده وعند أتباعه لخطئه الذي وقع فيه.
الخطأ الثالث عشر :المبالغة في تصوير الخطأ:
قد يقع الإنسان في خطأ عن اجتهاد أو هوى فنضخم الخطأ، ونعطيه أكبر من حجمه، ومنطق الحق والاعتدال أن نضع الخطأ في إطاره الطبيعي وحجمه المعقول، وقل مثل ذلك مثلاً في أسلوب الإنسان مع نفسه حين يضخم الأخطاء التي يقع فيها ويعطيها أكبر من حجمها فيتولد عنده شعور بأنه فاشل، وأنه غير مؤهل للنجاح، فيجب أن نضع الخطأ في إطاره الطبيعي ولا نضخمه .
الخطأ الرابع عشر :الحديث عن طرف واحد من المخطئين:
قد يأتي أحد المسلمين الغيورين ويسلك أسلوباً في إنكار منكرٍ من المنكرات التي ابتليت بها مجتمعات المسلمين، أسلوباً نرى أنه خاطئٌ، وحينئذٍ يعامل بعنجهية وقسوة وظلم، فيعتقل ويقتل و.. ما الذي يحصل ؟ الذي يحصل للأسف أننا كثيراً ما نتحدث عن خطأ هذا الشخص ونقول إنه جر على نفسه وجر على الصحوة وفعل وفعل، وأما الشخص الآخر فكأنه أقل إساءة أو غير مسيء أصلاً، وكم يدركك الأسف حينما ترى بعض الناصحين يتحدثون عن صراعٍ يدور بين بعض الدعاة -ولنفترض أنهم مخطئون فعلاً-، فهل هذا يسُوِّغ للأخيار من طلاب العلم أن يتحدثوا عن خطأ هؤلاء وأنهم تعجلوا وجروا وفعلوا وفعلوا ..(175/7)
فلماذا لا نكون واقعيين ومنطقيين ونضع كل خطأ في حجمه الطبيعي . ولنفترض أن الداعية أخطأ في منهجه نعم من الممكن أن نتحدث عن الخطأ الحاصل لكن الآخر الظالم المجرم لماذا لا نتحدث عن خطئه ؟ !
وإذا ادعينا مثلاً أن ظروفاً معينة قد لا تمكننا من الحديث عن خطأ هذا الظالم المتجبر، ومن المتوقع أن نصل إلى هذه النتيجة فلنترك القضية كلها جملةً وتفصيلاً ؛لأننا حين نتحدث عن طرف واحد ضعيف فإننا نصور للناس أن هذا الشخص بريء، وأنه حين أراق الدماء وحين فعل وفعل فهو غير مسؤول، والمسؤول الأول والأخير هو ذاك الذي وقع في الخطأ، وكثيراً ما نقع في هذا الخطأ في التعامل خاصة مع القضايا التي تحصل في العالم الإسلامي من الدعاة إلى الله عز وجل والعاملين للإسلام.
الخطأ الخامس عشر :البحث عن الخطأ والفرح به:
حينما يقرأ الإنسان ويسمع ويفتش عن الخطأ وإذا وقع على خطأ فرح به وكأنه حصل على كنز ثمين، وصار يخبر الناس ويدلهم على هذا الخطأ فهذا خطأ فادح في معالجة الخطأ، وإذا عرفت هذا في نفسك أو عرفته في غيرك فاعلم أن هذا غير جادٍ في النصيحة وأن هذا غير جاد في تصحيح الخطأ وأنه رجل إنما يفتش عن الأخطاء.
الخطأ السادس عشر : التمحل في إثبات الخطأ :
وهذا قد يكون من خلال القول باللازم فيقول يلزم من كلامك كذا وكذا، ولعلك تقصد كذا، أوتريد كذا، ويبدأ الحديث عن النوايا . إنك حينما قلت كذا تريد فلاناً وحينما قلت كذا تريد كذا، وإلى غير ذلك وهذا كله ناشئ عن التمحّل والسعي إلى إثبات الخطأ، ولو كنا نجري الناس على ظاهرهم لسلمنا من كثير من مثل هذه المواقف، وغالباً ما يظهر هذا في الردود .
ولنضرب على ذلك مثلاً : فهذا أحد علماء أهل السنة المعاصرين الذين يشهدٌ لهم بالخير والتجديد قال كلمة حول القرآن بغض النظر أهي صحيحة أو غير صحيحة فماذا قال الذي يرد عليه؟
قال عنه: هذا دليل على أنه يرى خلق القرآن، وهو يعرف أن الشيخ لا يقول بخلق القرآن، لكن تمحل وحرَّف، ومثال آخر ما قيل عن بعض الدعاة من أنه يرى وحدة الوجود، مع أن ذلك الداعية صرح في مواطن من كتبه بالرد الصريح على دعاة وحدة الوجود وأولئك يعرفون هذا القول فلماذا ننسبه إلى هذه العقيدة الكفرية لأجل عبارة موهمة ؟
قد نقول إن هذه العبارة غير منضبطة ينبغي إبدالها ؛ لكن أن نتهمه بأنه يقول بوحدة الوجود هذا منطق خالٍ من العدل والإنصاف والمصلحة.
الخطأ السابع عشر:إهمال محاسن الرجل:
نحن حين نتحدث عن خطأ إنسان فينبغي أن لا نهمل محاسنه وأن ننظر باعتدال
قال سعيد بن المسيب ( رحمه الله ) :" ليس بشريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبهم فمن كان فضله أكثر من نقصه ؛ وهب نقصه لفضله".
وقال محمد بن سيرين :"ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره".
وقال شيخ الإسلام :"ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة و التابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، وأهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن ونوع من الهوى الخفي فيحصل بسبب ذلك مالا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه وتجعل ذلك قدحاً في ولايته وتقواه بل في بره وكونه من أهل الجنة بل في إيمانه بل حتى تخرجه من الإيمان وكلا هذين الطرفين فاسد والخوارج والروافض وغيرهم من أهل الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه ويبغض من آخَر، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم".
وقال ابن القيم رحمه الله :"فلو أن كل من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملة وأُهدِرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها".
وهذا لا يعني بالضرورة عدم الحديث عن الأخطاء، لكن حين نتحدث عن الأخطاء فينبغي أن لا نهمل المحاسن، وينبغي أن نتحدث بتوازن .
الخطأ الثامن عشر : الحديث عن الخطأ ومظاهره دون الحديث عن الأسباب والعلاج:
قد نتحدث عن خطأ من الأخطاء أومشكلة من المشكلات ونفصل فيها، ثم لا نتحدث عن الأسباب والعلاج ، وكثيراً ما يقع هذا من خطباء الجمعة، إلا إذا كان في حالة ظاهرة ومقصد المتحدث هو التنبيه عليها فحينئذٍ قد نكتفي بمثل هذا العرض، لكن ينبغي حينما نتحدث عن الأخطاء بصفة عامه نحاول أن نتلمس الأسباب ومكمن الداء وأن نبحث عن بعض الخطوات التي يمكن أن نوصي بها لعلاج مثل هذا الخطأ.
الخطأ التاسع عشر :اعتبار تصحيح الأخطاء وحده هو منهج التربية:(175/8)
ذلك أن البعض من الآباء أو المربين قد يعتبر أن التربية ورفع مستوى هذا الشخص إنما يتم فقط من خلال إيقافه على أخطائه، ومن خلال الحديث عن أخطائه وحدها، وهذا منهج غير صحيح فحين لا نتحدث إلا عن الأخطاء فغاية ما نحققه إذا نجحنا أن نحافظ على الإنسان على موقف معين، لكننا ينبغي أن نتبنى منهج البناء والرفع من المستوى مع الحديث عن الخطأ وفق المنهج المنضبط، وحين لا نتحدث مثلاً عن الصحوة وعن الشباب إلا من خلال أخطائهم وما يقعون فيها فإننا لن نراوح مكاننا ونصور للناس من حولنا أنهم أهل فشل وتأخر وأن الخطأ أصبح صفة ملازمةً لهم.
أكتفي بهذا القدر من الحديث عن الأخطاء في علاج الأخطاء، وأرجو أن لا أكون قد وقعت في أخطاء وأنا أعالج مثل هذه الأخطاء.
والله تعالى أعلم.(175/9)
أخطاء ومحاذير تقع للشباب والفتيات
ثمة أخطاء ومحاذير تقع للشاب والفتاة في التعامل مع مشكلة الشهوة، ومنها:
1- الاستجابة للضغوط:
يمارس بعض أصدقاء الماضي ضغطا على من يهمّ بالتوبة من الشباب أو الفتيات؛ فهم يملكون رصيدا من أخبار صاحبهم أو صاحبتهم، وربما يملكون صورا أو وثائق تدينه بالسوء، فيستخدمون هذه الوسائل ورقة للضغط عليه وصده عن طريق التوبة.
إنهم يسخرون منه مذكرين إياه بالماضي السيء ، أو يهددونه بكشف أوراقه وإفشاء أخباره أمام الآخرين.
إن النجاة من ذلك تبدأ باجتناب الرفقة السيئة ومجافاة طريق الرذيلة، لكن حين يلم المرء بشيء من ذلك فلا ينبغي أن يعوقه ويصرفه عن التوبة والسير في طريق العفة.
إن تنفيذ ما يهدد به هؤلاء الفجرة نادرا ما يحدث؛ ففضيحتهم لهؤلاء فضيحة لأنفسهم، وما يقولونه يصعب إثباته، وهم إنما يسلكون ذلك مساومة واستثمارا لنقطة الضعف ليس إلا ، وأعرف طائفة من الشباب والفتيات أنقذهم الله تبارك وتعالى من الرذيلة ولم يستجيبوا لتلك الضغوط، وكان الأمر بردا وسلاماً.
وهب أن الأمر تحول إلى جد، فالشاب والفتاة أمام خيارين:
الأول: أن يتخذ قراره بالتوبة وسلوك طريق العفة، ويتحمل ما يصيبه؛ فمن يقع في الرذيلة ثم يقلع عنها خير عند الله وعند الناس ممن يستمريء الفساد ويتجرع مزيدا من كؤوس الرذيلة. إنها برهة من الوقت سرعان ما يتجاوزها إلى طريق السعادة والاطمئنان، وينسى الناس عنه كل شيء ولا يعرفون عنه إلا الطهارة والنزاهة، بل إن ما يصيبه في طريق التوبة إنما هو من الابتلاء ورفعة الدرجات بإذن الله تعالى.
الثاني: أن يرضخ للضغوط، ويستمر في طريق الرذيلة؛ فيجني خزي الدنيا، وإن فاتته الفضيحة في هذه الدار فهي مرصدة له يوم القيامة يوم لا تخفى خافية.
ومما يعين على تجاوز هذه العقبة أمران:
الأول: اللجوء إلى الله تبارك وتعالى، وسؤاله الإعانة والتوفيق؛ فهو رحيم بعباده، قريب منهم، يسمع سرهم ونجواهم، فإن علم من عبده الصدق أعانه ويسر له كل عسير.
الثاني: أن يستعين بمن يثق به، فيفتح الشاب مشكلته لأستاذه أو والده، وتفتح الفتاة مشكلتها لمعلمتها أو والدتها. مع الحذر من استشارة غير الناصح والأمين. وسيجد بإذن الله عند هؤلاء حلاَّ لما كان يعتقد أنه مستحيل، ومخرجا لما يعاني منه مشكلة.
2- التحديث بما كنت تمارس:
تساهل بعض الشباب والفتيات بتحديث أصحابهم عن بعض ما مارسوه وعملوه، وهذا فيه مخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم القائل :"كل أمتي معافى إلا المجاهرين و إن من الجهار أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح و قد ستره الله تعالى فيقول : عملت البارحة كذا و كذا و قد بات يستره ربه و يصبح يكشف ستر الله عنه " (رواه البخاري (6069) ومسلم (2990)).
وعلاوة على ما في هذا المسلك من مخالفة، فهو يولد نتائج، منها:
تهوين المعصية لدى الشخص، ولدى من حدثه عنها، ومنها أنها قد تجريء الطرفين فيما بعد على الوقوع فيها، ومنها أنها تفتح الباب لحديث أوسع في مثل هذه الرذائل وتزيل حاجز الحياء.
فليستتر الشاب والفتاة، فهذا مما يعينه على التوبة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:"اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله، و ليتب إلى الله؛ فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله"( رواه الحاكم والبيهقي).
التهاون بالمعصية:
ومع أهمية الحذر من اليأس من التوبة، وضرورة البعد عن فقد الأمل في التغيير، فلا بد من الحذر من أن يؤدي ذلك إلى الاستهانة بشأن المعصية فالاعتدال مطلوب، فالشعور بعظمة الذنب، وإدراك حقيقته له أثره البالغ في تقوية الدافع نحو التوبة، وله أثره في دفع المرء إلى الاجتهاد في الأعمال الصالحة بعد التوبة علّها أن تكفر عنه ما اقترف من سيئات.
3- التخلي عن الصالحين:
حين يكون الشاب أو الفتاة مصاحبا للصالحين ومجالسا لهم ، وتهوي به نفسه في خطيئة من الخطايا ، يسمع صوتا يهزه في داخله قائلا له : كيف تصاحب الصالحين الأطهار الأخيار وأنت على هذه الحال؟ إنك منافق ، غير جاد… إلخ ، حينها قد يقوده الشيطان إلى أن يفارق الصالحين.
إن مقارفة الرذيلة ممقوت بلا شك ، ومن يجالس الصالحين الأخيار فهو أولى الناس باجتنابها ومفارقتها ، ولكن : هل مفارقته للصالحين ستزيده قربا من الرذيلة أم بعدا عنها ؟ وحين يفارقهم فهل سيزداد إيمانه أم ينقص ؟ بل هل سيبقى ذاك الصوت الذي يلومه من داخله ويدفعه نحو التوبة أم لا ؟
إن الشرع القويم ، يدعو إلى خلاف ذلك ، فالمقصر المذنب حين يصاحب الصالحين يحشره الله معهم يوم القيامة ؛ فحين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل يحب القوم ولما يلحق بهم قال : " المرء مع من أحب " ، وهذا ليس دعوة إلى الاتكاء على هذا الحب وإهمال حظ النفس من صالح العمل ؛ فالحب الصادق يدفع المرء إلى التأسي بمن يحب ، والسير في طريقة.(176/1)
والمنطق السليم يقول لصاحبه بقاؤك مصاحبا للصالحين حتى لو وقعت في التقصير خير من مفارقتك إياهم ، وحين تفارقهم فلن يؤدي بك ذلك إلى التوبة والإقلاع ، بل سيؤدي بك إلى استمراء السوء ، وإلى مزيد من الارتكاس حمانا الله وإياك.(176/2)
أخطاءٌ لغويَّة في ضَبط ألفاظ السنَّة النبويَّة
أيمن بن أحمد ذوالغنى 27/1/1426
08/03/2005
أجمع العربُ قديمًا وحديثًا على أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم - أفصحُ من نطق بالضَّاد، وأنه أُوتيَ جوامعَ الكَلِم، وأن كلامَه أبلغُ كلامٍ بعد كلام الله المعجِز؛ القرآن الكريم. ومن هنا كانت سنَّته القَوليَّة مصدرًا رئيسًا من مصادر العربيَّة، وميزانًا دقيقًا للفَصيح من القَول، ومثالاً يُحْتَذى لطالب البيان وناشِد التبيين.
وإن تعجَبْ فعَجَبٌ أن يتطرَّقَ اللحنُ والخَطَلُ إلى أحاديثِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، على ألسنتنا وأقلامنا؛ لأنها - على ما ألْمَعْنا - ميزانٌ، وإذا اختلَّ الميزان وقعَ من الفساد ما يَهول.
فالحِرصُ على أداء ألفاظ السنَّة النبويَّة على الوَجْه الصحيح الذي انتهَت به إلينا واجبٌ شرعيٌّ وعلميٌّ، لا يُقبَل التهاونُ به بحال.
ومما يلحَنون فيه - كتابةً ونُطقًا - من حديث النبيِّ – صلى الله عليه وسلم-:
قولُه في الحثِّ على إكرام الزوجة وحُسن عِشرتها: (( لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ )) [ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ]، فيَضبِطونَه: (يفرُك) بضم الراء، وهو خطأٌ مُفسِد للمعنى، والصَّواب في ضبطه: (يَفْرَك) بفتح الراء، ومعناه: يُبْغِض، يقال: فَرِكَ الرجلُ امرأتَه يَفْرَكُها: إذا أبغَضَها. وأكثرُ ما يُستعمَل هذا الفعلُ في بِغْضَة الزوجين، أي: بُغْض الرجل زوجتَه، أو بُغْضها إياه. وأما (يَفْرُك) فمعناه: يدلُك ويَحُتُّ، يقال: فَرَكَ الرجلُ السنبلَ والثوبَ ونحوَهما يَفْرُكُه: إذا دَلَكَه وحَتَّه بيده.
ومن ذلك أيضًا: ما يقعُ في ضبط الحديث: (( الحبَّةُ السوداءُ شِفاءٌ من كلِّ داءٍ إلا السَّامَ )) [ متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة ]، فيَضبِطونه: (إلا السَّامَّ) بتشديد الميم؛ ظنًّا منهم أن المُرادَ بها: ما فيه السَّمُّ، وجذرَها (س م م)، وليس بذاك، والصَّواب فيها أنها مخفَّفةُ الميم، أي: (إلا السَّامَ) وهو: الموت، من الجذر (س و م)، والألفُ فيها منقلبةٌ عن واو.
ومما يلحَن فيه بعض الناس ويُخطِئون في ضَبطه من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
قولُه مبيِّنًا أن الله سبحانه قد كتب لكلِّ مخلوق أجلاً، وقدَّر له رزقًا، وما على العبد إلا أن يسعى لتحصيل الرِّزق من الطُّرق الحلال، قال – صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوْعي؛ أن نَفْسًا لن تموتَ حتى تَسْتكمِلَ رزقَها؛ فاتَّقوا الله، وأَجْمِلوا في الطَّلَب )) [ أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، والبيهقي في شُعَب الإيمان، من حديث ابن مسعود ]، فيَضبِطونَه: (في رَوْعي) بفتح الراء، وهو ضبطٌ مفسدٌ للمعنى، والصواب: ضمُّ الراء ( في رُوْعي )؛ لأن الرُّوْع هو: القلبُ والنفْسُ، والذِّهنُ والعَقلُ. والمراد: أن رُوحَ القُدُس - وهو: جبريلُ عليه السلام – نَفَثَ، أي: نفخَ - وَحْيًا وإلهامًا - في قلب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم - ونفْسِه بالأمر المذكور.
وأما الرَّوْع بالفتح فهو: الفَزَعُ والخَوفُ، وهو غيرُ مرادٍ هنا.
ومن ذلك أيضًا: قولُه – صلى الله عليه وسلم -في بيان أهميَّة الدعوة إلى الله، وعِظَم أجر من يَهدي اللهُ به الشاردينَ الضالِّين، مخاطبًا خَتَنَه (زوج ابنته) وابنَ عمِّه عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (( فَوَاللهِ، لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رجُلاً واحِدًا خَيرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ )) [ متفقٌ عليه من حديث سهل بن سعد ]، فيَضبِطونَه: (النِّعَم) بكسر النون؛ لتوهُّمِهم أنها جمعُ نِعْمَة، والحقُّ أنها (النَّعَم) بفتح النون، وهو جمعٌ لا واحدَ له من لفظِه، يُطلَق على جماعة الإبِلِ والبَقَر والغَنَم، وأكثرُ ما يُطلَق على الإبِلِ خاصَّة، والمراد بحُمْر النَّعَم: كرائمُها وخِيارُها، قال الفيُّومي: وهو مَثَلٌ في كلِّ نفيس (( المصباح المنير )) ( ح م ر ). والعربُ تقول: خيرُ الإبِلِ حُمْرُها وصُهْبُها ( الناقة الصَّهْباء هي: الشَّقْراء أو الحَمْراء ).
إذا اعترضَت طريقَ العبد عَقَبةٌ كَؤودٌ، أو استَعصى عليه أمرٌ من أمور الدُّنيا، فسبيلُه الصَّبرُ والالتجاءُ إلى الله بالدعاء، وقد علَّمَنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم- دعاءً تُذلَّل به الصِّعابُ، وتيسَّر به المشاقُّ، وهو قوله: (( اللهُمَّ لا سَهْلَ إلا ما جَعَلتَهُ سَهْلاً، وأنت تَجعَلُ الحَزْنَ إذا شئتَ سَهْلاً )) [ أخرجه ابن حبان من حديث أنس ]، فالله وَحدَه القادرُ على تَفريج الكُروب، وتيسير العَسير. والحَزْنُ ( بفتح الحاء، وسكون الزاي ): ما غَلُظَ من الأرض وخَشُنَ وارتَفَع. ومعناهُ في هذا الحديث: كلُّ أمر شاقٍّ وَعْر مُتَصَعِّب، وهو عكسُ السَّهْل الهيِّن.(177/1)
وما أكثرَ ما يُخطئ الخطباءُ والكَتَبَةُ فيضبطونها: الحَزَن ( بفتح الحاء والزاي )، فيُحيلون المعنى عن وجهه المراد؛ لأن الحَزَن كالحُزْن، وهو: الهَمُّ والغَمُّ، ومنه قوله تعالى: } الحَمدُ لله الَّذي أذْهَبَ عنَّا الحَزَن { [ فاطر / 34 ].
ومما يقعُ الوَهَمُ في ضبطه من حديث النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: قولُه: (( مَطْلُ الغَنيِّ ظُلمٌ )) [ متفق عليه من حديث أبي هريرة ]، فيقولون: مُطْل ( بضم الميم )، والصواب: مَطْل ( بفتحها )، والمَطْلُ: هو تأجيلُ مَوعِد الوَفاء بالحقِّ وتَسويفُه مرَّة بعد أُخرى. وقد عدَّ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -فاعلَ ذلك - مع قُدرته على أداء الحقِّ ( من دَيْن، أو أُجْرة، أو مُكافَأة ... ) - ظالمًا، وقد حرَّم الله سبحانه الظُّلمَ على نفسه، وجعَلَه بين الناس مُحرَّمًا، فيا لسوء عاقبة الظَّلَمة من الأثرياء المُوسِرين الذين يَمطُلونَ عمَّالهم وموظَّفيهم حقوقَهم !!
ومنه أيضًا: قولُه – صلى الله عليه وسلم -: (( لا رُقْيَةَ إلاَّ مِن عَينٍ أو حُمَة )) [ أخرجه أحمد من حديث عِمرانَ بن حُصَين ] فيضبطونها: حُمَّة ( بتشديد الميم )، والحُمَّةُ والحُمَّى بمعنًى واحد، وهو: ارتفاعُ حرارة الجسم من مَرَضٍ وعِلَّة [ من الجذر (ح م م) ]، وليس هذا المرادَ في حديثنا، والصوابُ فيها: تخفيفُ الميم، حُمَة [ من الجذر (ح م ي) ]، وهي: سَمُّ كلِّ ما يَلدَغُ ويَلسَعُ، وتُطلَق أيضًا على الإبْرَة التي بها يُلدَغ ويُلسَع.
تقدَّم في الحَلَقات السابقة التنبيهُ على مجموعة من الأخطاء والأوهام التي تقعُ في ضبط بعض ألفاظ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وبيَّنَّا خطورةَ الخطأ فيها، وما قد يترتَّب على ذلك من خَلط في المعنى وفساد.
ونَعرضُ في هذه الحَلْقَة لخطأ يقعُ فيه خواصُّ طلبة العلم، بَلْهَ العامَّة، وهو: ضبطُ الفعل (تعجز) في قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : (( المؤمنُ القَويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله منَ المؤمن الضَّعيف، وفي كُلٍّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفَعُك، واستعِنْ بالله ولا تَعْجِز، وإن أصابَكَ شيءٌ فلا تقُل: لو أنِّي فعَلتُ كان كذا وكذا، ولكنْ قُل: قَدَرُ الله وما شاءَ فعَل؛ فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطان )) [ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ].
وقلَّما يُضبَط هذا الفعلُ على الصَّواب، وأكثرُ ما يُضبَط في الكتب رَسمًا، ويَنطِقُ به الخطباءُ والمتكلِّمون لفظًا: (تَعْجَز) بفتح الجيم، وهو خطأٌ مخالفٌ لما نصَّ عليه غيرُ إمام من شُرَّاح كتب السنَّة؛ من أنها: بكسر الجيم؛ لأن الفعلَ (عجز) هنا من العَجْز الذي هو: الضَّعفُ وانقطاعُ الحيلَة دونَ الأمر، فهو بوزن ضَرَبَ، أي: عَجَزَ يَعْجِزُ ( بفتح الجيم في الماضي، وكسرها في المضارع ).
وأما إذا كان بوزن فَرِحَ، أي: عَجِزَ يَعْجَزُ ( بكسر الجيم في الماضي، وفتحها في المضارع ) فيكون من العَجيزَة، وهي: مُؤخَّرُ المرأة، يقال: عَجِزَت المرأةُ تَعْجَزُ: إذا عَظُمَت عَجيزَتُها.
وذهب الفرَّاء إلى أن الفعلَ عَجِزَ ( بالكسر ) من العَجْز: لغةٌ لبعض قَيْس عَيْلان ( قبيلة عربية )، وذهب غيرُه إلى أنها لغةٌ رديئةٌ. قال الفيُّومي: وهذه اللغةُ غيرُ معروفة عند قَيْس عَيْلان، ونقل عن ابن الأعرابيِّ ( وهو أحدُ أئمَّة العربيَّة ورواتها المتقدِّمين ) قولَه: لا يُقال عَجِزَ الإنسانُ بالكسر: إلا إذا عَظُمَت عَجيزَتُه .
لم يدَعْ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم - من حقٍّ وخيرٍ إلا وهَدانا إليه ورغَّبَنا فيه، ولم يَترُك من باطلٍ وشرٍّ إلا ونَهانا عنه وحذَّرَنا منه.
ومن الخير الذي حثَّنا عليه: بناءُ المساجدِ وتشييدُها؛ لِما أعدَّ الله سبحانَه لبانيها من الأجر العَظيم والثَّواب الجَزيل في الآخرَة، قال – صلى الله عليه وسلم-: (( مَنْ بَنى للهِ مَسْجِدًا، ولو كمَفْحَص قَطاةٍ لِبَيْضِها، بَنى اللهُ له بيتًا في الجنَّة )) [ أخرجه أحمد من حديث ابن عباس ].
ومعنى ( مَفْحَص القَطاة ): المكانُ الذي تَبيضُ فيه القَطاةُ وتُفَرِّخ. والقَطاةُ: نوعٌ من الحمام يُضرَب به المثلُ في الاهتِداء. يُقال: فَحَصَت القَطاةُ فَحْصًا: حَفَرَت في الأرض مَوضِعًا تَبيضُ فيه، واسمُ ذلك الموضِع: ( مَفْحَص ) بفتح الميم والحاء، وجَمعُه: مَفاحِص.
وخُصَّت القَطاةُ بهذا: لأنَّها لا تبيضُ في شجَر، ولا على رأس جبَل، إنما تجعَلُ مَجْثِمَها على بَسيط الأرض، دون سائر الطَّير.
هذا وقد حَمَل أكثرُ العلماء قولَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: (( ولو كمَفْحَص قَطاة )) على أنه تمثيلٌ على جهَة المبالغَة؛ لأن مِقدارَ مَفْحَص القَطاة لا يكفي للصَّلاة فيه، ويُمكن أن يُحملَ على أنه حَضٌّ على التعاون والتعاضُد في بناء بُيوت الله، وبَيانٌ لعِظَم الأجر على ذلك، حتى لو كانَ نصيبُ الفَرد المشترِك صغيرًا كمَفْحَص القَطاة.(177/2)
ويخطئُ بعضُ الكتَّاب والخُطَباء فيَضبطونها: ( مِفْحَص ) بكسر الميم، بوزن ( مِفْعَل )، والصَّواب أنها كما تقدم: بفتح الميم ( مَفْحَص )، بوزن ( مَفْعَل )؛ لأنها اسمُ مكانٍ من الفعل الثلاثيِّ: فَحَصَ، ومضارعُه: يَفحَصُ ( مفتوح العين )، وما كان كذلكَ فإن اسم المكان منه يُصاغُ على وزن مَفْعَل.
أما ( مِفْعَل ): فوزنٌ من أوزان اسم الآلَة، ومنه: مِبْرَد، ومِقْوَد، ومِنْجَل، ومِقَصّ.(177/3)
أخلاق العلماء
د. زينب بيره جكلي
كلية الآداب والعلوم - قسم اللغة العربية وآدابها
الجامعات إحدى قطاعات التربية ، بل هي أهم القطاعات وأخطرها ، لما لها من تأثير كبير في تنشئة الأجيال الذين يمثلون البنية الأساس في الدولة ، والقائمون عايها يفترض أن يكونوا خيرة شعوبهم ، وأن تصطبغ أخلاقهم بالصبغة الإسلامية ليكونوا قدوة حسنة لمن معهم زملاء كانوا أم طلابا .
وإذا كانت المهن الأخرى تتعامل مع المادة فإن مهنة التعليم يتعامل ذووها من العقول والقلوب ، ولهذا ربط المولى تعالى بين العلم والعقل والقلب في قوله " هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون ، إنما يتذكر أولو الألباب" .، ولذلك فإن من سمات العالم أن يتعالى على الدنيا ومغرياتها ، وأن يكون هدفه توعية الأجيال ، والسمو بها نحو تحقيق أهدافها الرفيعة ، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسعى إلى الناس ليرشدهم ، ويتحمل السفر والمشقات ليدعوهم ، وكثيرا ما كان يلقى منهم الأذى فيصبر عليهم ليواصل مسيرته ومواعظه ، ورحلته إلى الطائف خير دليل على ذلك .
لقد جاء المعلم إلى المؤسسة التربوية ليعلم لا ليشهر ، وقد يكون تشهيره افتراء وزورا ، ليحصل على منفعة دنيوية ، ومغريات لاتسمن ولا تغني ، إن ذلك ليس من أخلاق العلماء ، لأن العالم من جمع إلى العلم المكين سمو النفس ، ورقي الفعال ، وصحة السريرة والنيه ، وليس من حصل على شهادة عالية فاغتنم بها دنيا ، إن التعليم رسالة سامية ، وخشية من الله سبحانه خشية تصده عما لايليق ، قال تعالى " إنما يخشى الله من عباده العلماء " ، وإذا كان المولى سبحانه قد فطر النفوس على حب المال والسعي في مناكب الأرض فإنما كان ذلك ليعمر بجهوده الكون طبقا لما أراده مولاه الذي سخر له ما في السماوات وما في الأرض ، ولقد سن له الطريق المستقيم حين حذره من التكالب على الدنيا فقال جل وعلا " إن الإنسان لربه لكنود ، وإنه على ذلك لشهيد ، وإنه لحب الخير لشديد ، أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، إن ربهم بهم يومئذ لخبير " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " ولذا فإن على العالم أن يترفع عن التراب ، وألا يجعل دنياه في قلبه بل في يده، لئلا تتملكه فتسير تصرفاته وسلوكياته ، وأن يهذب فعاله لتكون طبقا لما يرضي الله لا طبقا لما تريده أهواؤه ، وأن يحد من طغيان نفسه الأمارة بالسوء ، وأن يتدبر آيات الله الرقيب الحسيب الذي ندد بالتكالب على الدنيا بقوله " كلا بل لاتكرمون اليتيم ، ولا تحاضون على طعام المسكين ، وتأكلون التراث أكلا لما ، وتحبون المال حبا جما ، كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ، وجاء ربك والملك صفا صفا ، وجيء يومئذ بجهنم ، يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي " ، ويومئذ سيأتي كل ذي حق ليأخذ حقه ولو كان كلمة تجريح تعرض لها أو انتقاصا من شأن أو000
إن العالم من اهتدى بهدي ربه ، وسعى لمرضاة خالقه ،وعمارة كونه بما يرضيه ، وعمل على هداية الإنسان إلى رشده ، ولقد سخر الله سبحانه له كل ما يحتاجه لتحقيق مهمته الجليلة ، رسالته في حياته بإخلاص وتفان ، وكفل له رزقه ، ويسره له ، وما من نسمة تموت حتى تستوفي رزقها ، حتى من نسمات الهواء ، " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " ، ولهذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتقللون من الدنيا ويقنعون باليسير ، ويدعون المغريات من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ، فإن جاءتهم ، وهي رزقهم اتخذوها سبيلا إلى شكر المنعم عليهم ، وقد يتنافسون في الخير ،والطريق أمامهم مفتوح ، ولكنه التنافس البريء الخالي من الإيذاء والتعريض ، والمسخر لصالح الأمة لا لإشباع الأنانية .
إن العفة والتعفف من أخلاق العلماء ، و"من لم يشكر الناس لم يشكر الله " كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ، ولقد نفذ السلف الصالح وصاياه ، قال الحسن " كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه ، وهديه ولسانه ، وبصره ويده " ، وإن أقل ما يطلب من العالم أن يدرك حقارة الدنيا إلى جانب عظمة الآخرة ، وأن يعنى بتحصيل علمه لا ليزداد رفاهية ، مطعما ومسكنا ، لأن هذه أخلاق الجهلاء لا العلماء ، قال الحطيئة في هجاء له :
دع المكارم لاترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فالمطعم والمشرب هم من لاهم له إلا الدنيا وزينتها ، وحينئذ لا يكون أهلا لأن يرتفع إلى مصاف العلماء من عباد الله لأنه ارتضى أن يكون في صنف الجهلاء ، قال تعالى " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ، فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون " .
وما أعظم العز بن عبد السلام يوم جاء إلى سلطانه ليعظه ، فأعطاه السلطان ألف دينار فردها وقال " هذه اجتماعة لله لا أكدرها بشيء من الدنيا " :(178/1)
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
واذكروا قوله تعالى " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "(178/2)
أخلاق مهمة مغيبة بيننا -1 -
أولا - خلق الاعتذار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نعم خلق الاعتذار بضم الخاء واللام , قضية لانعرف الكثير للتعامل معها بل نجد كثر يتعاملون معها بسلبية , فهلا تعلمنا هذا الخلق .
الاعتذار أدب اجتماعي في التعامل الاسلامي , ينفي منك شعور الكبرياء , وينفي من قلب أخيك الحقد والبغضاء , ويدفع عنك الاعتراض عليك, أو اساءة الظن بك, حين يصدر منك ما ظاهره الخطأ .
ومع أن الاعتذار بهذا المعنى حسن فالأحسن منه أن تحذر من الوقع فيما يجعلك مضطرا للاعتذار .
*فقد جاء في الوصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه :ولاتكلم بكلام تعتذر منه غدا . رواه أحمد وابن ماجة *
فان زلت قدمك مرة فتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم
* لاحليم الا ذو عثرة ولا حكيم الا ذو تجربة . رواه احمد وحسنه الترمذي *
فان من التواضع ألا تكابر في الدفاع عن نفسك , بل ان الاعتراف بالخطأ أطيب للقلب , وأدعى للعفو .
*ولنا في توبة الصحابي الجليل كعب بن مالك انما أنجاه فيها الصدق فقد كان يقول : يارسول الله اني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا , لرأيت أني أخرج من سخطته بعذر , والله ماكان لي عذر . رواه أحمد وأصل الحديث في الصحيحين *
لاينقص من منزلتك أن تعترف بخطئك .
* هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يظن أنه لاضرورة لتأبير النخل أشار بعدم تأبيرها , ثم قال بعد ذلك : ان كان ينفعهم ذلك فليصنعوه , فاني انما ظننت ظنا , فلا تؤاخذوني بالظن .رواه مسلم*
فلا تنتظر من نفسك أن تسئ لتعتذر , بل يمكن أن يكون الاعتذار توضيحا للموقف أو بيانا للقصد .
* هاهم الأنصار عند فتح مكة قد توقعوا ميل النبي صلى الله عليه وسلم للاقامة مع قومه في مكة بعد الفتح فقالوا : أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلا اني عبد الله ورسوله هاجرت اليكم فالمحيا محياكم والممات مماتكم , فأقبلوا اليه يبكون ويعتذرون بأنهم قالوا ماقالوه لحرصهم على اقامته معهم في المدينة فقالوا : والله ماقلنا الذي قلنا الا لضن بالله ورسوله , فقال صلى الله عليه وسلم :فان الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم . رواه مسلم وأحمد *
ان صاحب خلق الاعتذار ليستحي من افتضاح تقصيره حين يظن من نفسه التقصير .
* فهاهو ابن عمر يروي أنه كان في سرية فانهزموا ومن حيائهم رجعوا الى المدينة خفية في الليل واختفوا في المدينة ثم قالوا لو خرجنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذرنا اليه , فخرجوا لبيان عذرهم وقالوا له : نحن الفرارون يارسول الله , قال بل أنتم العكارون وأنا فئتكم .
رواه أحمد وأبو داود والترمذي *
فهون عليهم ووصفهم بالعكارين الذين يغزون كرة بعد كرة ولا يتوقفون عن الغزو .
فان جاءك من يأمرك بالمعروف فاقبل منه ووضح عذرك ان كان لك عذر .
*وعظ سالم بن عبد الله شابا مسترخي الازار فقال له ارفع ازارك فاخذ الشاب يعتذر وقال انه استرخى وانه من كتان . رواه أحمد *
فالشاب هنا يوضح أنه لم يرخي الازار كبرا وانما استرخى بنفسه بسبب طبيعة قماشه , وهكذا شأن المسلم في دفع سوء الظن واثبات براءته حين يكون بريئا بحق .
وبعض الأحيان يصطحبك أحدهم لشخص آخر ويظهر لك أنه يريد أمرا خاصا به وقد يكون محرجا بالنسبة لك وهنا يجب تقديم عذرك لهذا الشخص وتوضيح موقفك .
* جاء ناس من الأشعريين وطلبوا من أبي موسى الأشعري مرافقتهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن يعرف ماذا يريدون واذا بهم جاؤوا يطلبون التولية على أعمال المسلمين , فظهر أبو موسى وكأنه جاء يشفع لمن طلب الامارة فشعر بالحرج الشديد , فاعتذر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعذره . رواه أحمد والنسائي *
لذلك فان الاعتذار يدفع الاعتراض ويزيل الشبهات ويزيل الأوهام ويسد المنافذ على الشيطان .
وهناك أمر يتعلق في أمر الاعتذار وهو بعض مواقف الشدة التي قد تظهر على البعض ازاء موقف معين لذلك لابد عند استخدام الشدة من توضيح أسباب ذلك .
* يروى أن حذيفة طلب ماء من رجل من أهل الكتاب فجاءه بالماء في اناء من فضة فرماه حذيفة بالاناء , ثم أقبل على القوم معتذرا وقال اني انما فعلت ذلك عمدا لاني نبهته مرات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن لبس الديباج والحرير وآنية الذهب والفضة *
فالشدة هنا كانت بسبب أن الرجل كرر أمرا قد نبه اليه عدة مرات وهو يعود له فكان لابد من الشدة حتى ينتهي , وفي نفس الوقت وضح حذيفة سبب شدته حتى لايعتبر تصرفه غلظة دونما سبب ومبرر .
ان خلق الاعتذار وقبول العذر وقاية للمجتمع من تفشي سوء الظن وتقاذف التهم والتي ان استقرت في القلوب فلن يفيد معها اعتذار .(179/1)
* يقول ابن القيم الجوزية في كتاب تهذيب مدارج السالكين : من اساء اليك ثم جاء يعتذر عن اساءته فان التواضع يوجب عليك قبول معذرته , وعلامة الكرم والتواضع أنك اذا رأيت الخلل في عذره لاتوقفه عليه ولاتحاجه *
فعلينا تلقي الأعذار بطيب نفس , والمبادرة الى الصفح والعفو يشجع الناس على الاعتذار , أما سوء المقابلة للمعتذر وتشديد اللائمة عليه يجعل النفوس تصر على الخطأ وتأبى الاعتراف بالزلل وترفض تقديم المعاذير , فان بادر المسئ بالاعتذار فبادر أنت بقبول العذر والعفو عما مضى لئلا ينقطع المعروف .
والحمد لله رب العالمين
===========
ثانيا - خلق النصيحة
-------------------
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخوة الأحباب لاشك أن هناك قضايا أجتماعية مهمة يجب على كل منا التعرف عليها ومن ثم جعلها واقعا حيا في حياتنا , وقد نشرنا موضوعا سابقا حول خلق الاعتذار واليوم نتحدث عن خلق آخر لايقل أهمية عن الأعتذار وهو خلق وأهمية النصيحة .
أولا - مقدمة :
- النصيحة مبدأ مهم وعظيم من مبادئ الاسلام , وهي علامة رئيسية من علامات الأخوة الحقيقية , واذا غابت النصيحة بين المسلمين فان هذه الأخوة تكون سطحية .
- ان النصيحة أداة جوهرية للاثراء الحقيقي والنهوض بالمجتمع , وهي حق المسلم على المسلم , فالمسلم مرآة أخيه .
- ومهما تنوعت وسائل الاتصال والتأثير فستبقى النصيحة بالكلمة الطيبة تحتل المكانة الأولى في التأثير .
ثانيا - معنى النصيحة :
- تعرف النصيحة على أنها الصدق والاخلاص والنقاء والصراحة والصفاء , وهي مشتقة من الفعل نصح أي خلص , والناصح هو النقي الخالص من كل شئ , والنصح نقيض الغش , ويقال نصحت له أي أخلصت وصدقت .
- قال أبن الأثير رحمه الله تعالى : النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة , هي ارادة الخير للمنصوح له , فليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تجمع معناها غيرها .
ثالثا - حكم النصيحة :
- قال الامام النووي نقلا عن الامام ابن بطال رحمهما الله تعالى : ان النصيحة تسمى دينا واسلاما , وان الدين يقع على العمل كما يقع على القول , والنصيحة فرض يجزي فيه من قام به ويسقط عن الباقين , والنصيحة لازمة على قدر الطاقة اذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه , فان خشي على نفسه أذى فهو في سعة .
أما ان كان المقصود منها الذم والانتقاص والاستفزاز والطعن والاتهام والتجريح والسخرية والاستهزاء فانها تصبح محرمة .
رابعا - النصيحة رسالة الأنبياء :
- قال تعالى على لسان نوح عليه السلام * أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله مالا تعلمون * الأعراف 62
- وقال تعالى على لسان هود عليه السلام * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين * الأعراف 68
- وقال تعالى على لسان صالح عليه السلام * ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم * الأعراف 79
- وقال تعالى على لسان شعيب عليه السلام * لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم * الأعراف 93
- * وفي الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم : الدين النصيحة . قيل لمن يارسول الله ؟قال : لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم *
خامسا - لمن تكون النصيحة :
- بالرجوع الى نصوص الفقرة السابقة نجد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد لنا لمن تكون النصيحة, ولكن ينبغي معرفة كيف تكون تلك النصيحة .
- النصيحة لله تكون بصحة الأعتقاد في وحدانيته , واخلاص النية في عبادته , وترك الالحاد في صفاته , ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها , وتنزيهه عن جميع النقائص , والقيام بطاعته وأجتناب معصيته , والحب فيه والبغض فيه , وموالاة من والاه وأطاعه , والاعتراف بنعمته وشكره عليها .
- وتكون النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم بالتصديق بنبوته ورسالته , والانقياد لما أمربه ونهى عنه , ونصرته حيا وميتا , ومعاداة من عاداه , وموالاة من والاه , واعظام حقه وتوقيره واحياء طريقته وسنته , وبث دعوته ونشر شريعته ونفي التهم عنها , والامساك عن الكلام فيها بغير علم , واجلال أهلها لانتسابهم اليها , والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه , ومحبة أهل بيته وأصحابه , ومجانبة الابتداع في سنته وأهل ذلك البدع , وعدم التعرض بسوء لأحد أصحابه .
- وتكون النصيحة لكتاب الله تعالى بالتصديق به والعمل بمافيه قدر الاستطاعة , وتعظيمه وتلاوته حق التلاوة , والذب عنه , والوقوف عند أحكامه وتفهمها , والاعتبار بمواعظه والتفكر في عجائبه , والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه , ونشر علومه .
- والنصيحة لأئمة المسلمين تكون بنصرتهم ومعاونتهم على الحق , وطاعتهم فيه وأمرهم به , وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف , واعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين والعباد , والا يغروا بالثناء الكاذب عليهم , والدعاء لهم بالصلاح .(179/2)
- أما النصيحة لعامة المسلمين فتكون بارشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم , وكف الأذى عنهم , وتعليمهم مايجهلونه من دينهم , واعانتهم عليه بالقول والفعل , وستر عوراتهم , ودفع المضار عنهم , وجلب المنافع لهم , وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق ولين , والشفقة عليهم , وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم , وتخولهم بالموعظة الحسنة , وترك غشهم وحسدهم , وتنشيط هممهم الى الطاعات .
سادسا - أمور يجب أن يراعيها الناصح :
- الاخلاص لله تعالى وأن تكون النصيحة لوجهه تعالى وحده لاشريك له وليس لأي غرض آخر .
- التأكد أن القضية التي يريد النصح لأجلها فيها مخالفة شرعية قطعية مجمع على حرمتها , أما ان كانت من الأمور الخلافية فالأصل فيها أنه لا انكار في مسائل الخلاف .
- تخير الوقت والجو النفسي المناسب .
- استخدام العبارات الطيبة والمناسبة والمحببة الى النفس وتجنب كل العبارات التي يفهم منها الاستفزاز والسخرية والأستهزاء والطعن والتجريح والاتهام .
- اظهار الحب وابداء الود واستحضار نية الصدق والاخلاص قبل الشروع في النصيحة .
- أن تكون في السر * قال الامام الشافعي رحمه الله : من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه , ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه *
- تجنب كل مظاهر ومعاني التعالي والأستعلاء والاستكبار .
- اشعار المنصوح بتقديرك لظروفه ووضعه وأنك تلتمس له المعاذير .
- تجنب تحول النصيحة الى جدال ولدد وخصومة , واذا شعرت بأنها ستتحول الى ذلك فتوقف عن النصح فورا .
- أن يتحلى بالصبر ولا يتذمر ويتخذ موقف سلبي لمجرد أنه لم يرى تغير ايجابي سريع لدى المنصوح .
- أن يكون الهدف من النصيحة التقويم والتعديل لا الكسر والتهديم والفضح وكشف العورات وتسجيل المواقف .
سابعا - أمور يجب مراعاتها في المنصوح :
- أن يرحب بالنصيحة بقلب واسع وعقل منفتح ووجه مبتسم تعبيرا عن الامتنان للناصح .
- التصميم والعزم على العمل بالنصيحة .
- أن يتجنب تقديم التبرير الغير منطقي ولا يحول النصيحة الى خصومة وفجور وجدل .
- أن يتقبل النصيحة كما يتقبل الهدية * قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه : رحم الله أمرأ أهدى الي عيوبي *
ثامنا - أمور عامة حول النصيحة :
- النصيحة عبادة فلنؤديها كما نؤدي باقي العبادات .
- النصيحة وعظ وأرشاد وحب للخير فلانجعل من أنفسنا قضاة وجلادين وسجانين على البشر .
- اذا قابلك المنصوح بردقاس وغلظة فتحمل واصبر ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة فلقد أوذي وكذب وأتهم ومع ذلك صبر واحتسب ومضى في طريق الدعوة داعيا بالهداية لقومه .
* فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لاتحبون الناصحين * الأعراف 79
- يجب أن تكون النصيحة من قبل من يعلم ولديه حد أدنى من العلم وأن لايتعالى على المنصوح بعلمه , فالعلم المطلق هو لله تعالى وحده لاشريك له * يقول الامام الشافعي رحمه الله : والله لا أبالي أظهر الحق على لساني أم على لسان غيري *
* تكلم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في مهور النساء , فردت عليه أمرأة بقول الله تعالى - وآتيتم احداهن قنطارا - فرجع عمر عن قوله ثم قال أصابت امرأة ورجل أخطأ وروي أنه قال كل أحد أفقه من عمر *
- اذا جاءت النصيحة من محب عرف عنه المودة والصدق فتؤخذ النصيحة منه , أما ان جاءت من كاره مبغض عرف عنه كرهه للاسلام وأهله وعرف عنه الأستهزاء والطعن والاتهام فيكون نصحه تشكيك وارجاف وهؤلاء يدخلون في قوله تعالى * ومن يكسب خطيئة أو أثما ثم يرم به بريئا فقد أحتمل بهتانا واثما مبينا *
- يجب ان تكون النصيحة في السر وهذه من علامات الصدق والاخلاص في النصيحة * قال الفضيل رحمه الله : المؤمن يستر وينصح , والفاجر يهتك ويعير *
فكل من يفضح الناس بدعوى النصيحة فهو يدخل في قول الله تعالى * ان الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا *
أما المؤمن المحب والناصح فهو يدخل في قول الله تعالى * محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم *
- ان فضح الناس والتشهير والطعن والاتهام والسخرية والستهزاء بهم والتنقيب عن زلاتهم وملاحقة أخطائهم والتفتيش عن نواياهم أنما كل ذلك من صفات المنافقين الذين لايريدون بالمؤمنين خيرا , وهؤلاء سيقعون في نفس الأخطاء التي وقع بها غيرهم .
* روى الترمذي مرفوعا من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه : من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله *
* وعن النبي صلى الله عليه وسلم : لاتظهر الشماتة في أخيك فيعافيه الله ويبتليك *
* والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وارصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن ان أردنا الا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون . لاتقم فيه أبدا .... *(179/3)
- فليعرض كل منا نفسه على ماقدمنا ليرى هل هو ممن تتحقق فيه الصفات الايجابية أثناء النصيحة فان كان كذلك فليحمد الله تعالى وليحافظ على ذلك وان لم تتوفر فيه هذه الصفات فمطلوب منه أن يعمل جاهدا للتخلق بها وان لم يستطع فليتوقف عن النصح لأنه سوف يخرب ويدمر أكثر مما يعمر .
* ومايلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد *
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(179/4)
أخلاقيات الأخطاء
د. سلمان العودة / الإسلام اليوم ...
واعجباً ..!
وهل للأخطاء أخلاق؟
في حديث أبي داود "كل ابن آدم خطاء.. وخير الخطّائين التوابون"، وفي صحيح مسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له"، ويروى عن المسيح أن بغياً جاءت إليه، فجعل أصحابه ينظرون إليها باشمئزاز فقال: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمهابحجر".
بهذه المرونة العذبة والتسامح النموذجي يتعامل التشريع الرباني مع البشر وأخطائهم ومن أجل ذلك فرّق هذا التشريع بين صغائر الذنوب وكبائرها فقال: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ)، فطريقته المنهجية هي اعتبار الخطأ طبيعة بشرية، فهو ليس شراً محضاً؛ ليمنحنا بذلك فرصة كبيرة للتناصح والنقد والمراجعة والتصحيح والتواضع، ويعزّز بهذا المفهوم جانب الإخاء والتكافل بين المؤمنين في بذل النصح فيما بينهم، ليس فقط على الصعيد الفردي، بل على صعيد المجموعات والدول، والأمم.
وبهذه المنهجية المعتدلة في قراءة "الخطأ" نتعلم من الأخطاء دوام المراجعة وعدم الترفع عن التصحيح والنقد والخطأ - بهذه القراءة- جزء طبيعي من الحياة، وكونه كذلك لا يعني أبداً أن نستسلم له أو نكسل عن تصحيحه بحجة أنه طبيعة جبلّية، بل علينا أن نعمل جاهدين على تصحيح هذا الخطأ متى وُجد ومحاولة اكتشافه في كل شيء: في ذواتنا وأنفسنا ونوايانا وأعمالنا وسياساتنا وأفكارنا ومؤسساتنا.. لأجل أن نتحرر من هذا الخطأ، وهذا العمل التصحيحي يعطي فرصة لفئات عديدة أن تعمل لهذا الدين من خلال ممارستها لنقد الأخطاء التي يقع فيها الفرد أوالجماعة، ويكون نقده محسوباً في دائرة العمل الإيجابي، لما فيه من كشف الأخطاء، والدعوة للتصحيح، دون تتبّع لعورة أو تجنِّ على أحد، أو مبالغة في شيء.
وعلينا أن نفر من قَدَر الأخطاء إلى قَدَر التصحيح والمراجعة والنقد والتقويم؛ بغية الوصول للأفضل؛ نفعاً لأنفسنا وأمتنا وديننا، علينا أن نقوم بهذا العمل بطريقة أخلاقية؛ فإن مراجعة الأخطاء وتصحيحها تحتاج إلى اعتدال وموضوعية، في كافة المستويات، و الإلحاح على ملاحقة الخطأ يصنع مشكلة جديدة وخطأ آخرَ فطفلك الصغير حينما تكثر عتابه وتوبيخه، وتؤنّبه باستمرار ربما تحطّم نفسيّته وشخصيّته، وهكذا هو أمر المدير مع الموظفين والزوج مع زوجته.
ومن أخلاقيات الخطأ، امتلاك الوضوح والشفافية والجرأة في المعالجة، و هذه من أهم النقائص التي يعاني منها المسلمون؛ إذ تفتقد معظم الدوائر والجهات والجماعات الجرأة في الاعتراف بالخطأ، والتصريح به، بيد أن العالم الغربي قد اعتاد على عكس ذلك، فبمجرد أن توجد ظاهرة قد انتشرت، كسرقة السيارات –مثلاً- ترى وسائل الإعلام والبرلمانات والندوات تُدار حول هذه الظاهرة وأسبابها وطرق معالجتها .. الخ.
بينما العالم الإسلامي يميل إلى نوع من التكتم؛ فالاعتقاد السائد يقول بأن وأد المشكلات هو في التكتم عليها لمساعدتها على الزوال بحجة أن الزمن كفيل بحلها، لكن الزمن عنصر محايد قد يضاعف المشكلة، وقد يساعدعلى حلها بحسب ما نقدّمه نحن، والشفافية تحتاج إلى مناخ من الحرية يسمح بطرح المشكلة والتعامل معها بوضوح.
ومن أخلاقيات الأخطاء: الصبر على التصحيح، والدأب في ذلك، وفي المقابل الصبر على الأخطاء التي تحتاج إلى زمن طويل قد لا يكفي عمر الفرد فيها على تصحيحها لمساعدة الأجيال القادمة على حلها، ومن كانت في يده فسيلة فليغرسها للناس والمستقبل والأجيال، وإن من أدوائنا حرص الفرد على انفراده بالتصحيح دون السماح للشركاء، أو مساعدة الآخرين للقيام بالحلول والتصحيح، فالأخطاء لا يمكن أن تزول بين عشية وضحاها، ولا يمكن أن تزول بقرار، وإن كان القرار مؤثراً؛ لأن جزءاً من تربية الناس وشخصياتهم وعاداتهم تتطلب توافر الجهود والدأب على المراجعة،وتحتاج إلى قرارات ذاتية بتجاوز الخطأ والتفوق عليه.
والخطأ يحتاج لأسلوب حكيم لبثّ الإصلاح، و يحتاج للنظر الإيجابي حتى للأخطاء، والكأس نصف الممتلئ تستطيع أن تقول عنه ذلك، وتستطيع أن تقول إن نصفه فارغ، ولما قال بعض الصحابة في الذي شرب الخمر: لعنه الله ما أكثر ما يُؤتى به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يحب الله ورسوله". أخرجه البخاري، فانظر كيف استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرى ويُري أصحابه الوجه الآخر.
ومن أخلاقيات الأخطاء تفهّم دوافع الآخرين، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة حينما أرسل خطاباً للمشركين فحماه النبي -صلى الله عليه وسلم- وتفهّم دوافعه في حرصه على أهله بمكة، فإنّ تفهّم دوافع الآخرين يعطي الإنسان اعتدالاً وجرعة من حسن الظن بهم، حتى مع حصول الخطأ منهم، مما يهيئ الجو لتجاوز الأخطاء وتداركها، والتعامل بذكاء معها.(180/1)
ولكي نعالج الأخطاء بذكاء وأخلاقية يجب أن نتذكر أخطاءنا تجاه الآخرين، وأن نتحلّى بالصبر على الناس وعلى أخطائهم وعلى أنفسنا قبل ذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"، وأن نغضي ونتغافل عن بعض ما لا يضر تجنباً للضرر الأكبر لفقه أولويات المراجعة والتصحيح، وعلينا ألاّ نجعل من أنفسنا معايير للخطأ والصواب، وأن نرى الآخرين بإيجابية وحسن ظن، وأن نتسامح معهم ونعوّد أنفسنا على ذلك، والرفق الرفق .. فـ"الرفق لا يكون في شيء إلا زانه". رواه مسلم.
وأخيراً: لنبدأ بأنفسنا وذواتنا، وننشغل بها، ولنراجع حساباتنا قبل أن ننشغل بالآخرين؛ فإن الطريق إلى التصحيح العام يمر عبر التصحيح الفردي الخاص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ). ... ... ... ... ...(180/2)
أخلاقُ أهل القرآن ... ... ...
قال الله تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } .
سئلت أم المؤمنين السيدة عائشة الصديقة بنت الصديق ـ رضي الله عنها وعن أبيها ـ عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ( كان خلقه القرآن ) .
قال بشر بن الحارث : سمعت عيسى بن يونس ( ت 187 هـ ) يقول :
" إذا ختمَ العبدُ قبّل الملَك بين عينيه ، فينبغي له أن يجعلَ القرآن ربيعاً لقلبه ، يَعْمُرُ ماخرِبَ من قلبِهِ ، يتأدبُ بآدابِ القرآن ،ويتخلّقُ بأخلاقٍ شريفةٍ يتميّز بها عن سائرِ النّاس ممن لا يقرأ القرآن " .
فأول ما ينبغي له أن يستعملَ تقوى الله في السّرّ والعلانية :
باستعمال الورع في مطعمه ومشربه ومكسبه ، وأن يكونَ بصيراً بزمانه وفساد أهله ، فهو يحذرهم على دينه ؛ مقبلاً على شأنه ، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره ، حافظاً للسانه ، مميِّزاً لكلامه ؛ إن تكلّم تكلّم بعلم إذا رأى الكلامَ صواباً ، وإن سكت سكت بعلم إذا كان السكوت صواباً ، قليلَ الخوض فيما لا يعنيه ..
يخاف من لسانه أشدّ مما يخاف من عدوّه ، يحبس لسانه كحبسه لعدوّه ، ليأمن شرّه وسوءَ عاقبتِه ؛ قليلَ الضّحك فيما يضحك منه النّاس لسوء عاقبة الضّحك ، إن سُرَّ بشيءٍ مما يوافقُ الحقَّ تبسَّم ، يكره المزاح خوفاً من اللعب ، فإن مزح قال حقاً ، باسطَ الوجه ، طيّب الكلام ، لا يمدحُ نفسه بما فيه ، فكيف بما ليس فيه ، يحذر من نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يُسخط مولاه ، ولا يغتابُ أحداً ولا يحقر أحداً ، ولا يشمت بمصيبة ، ولا يبغي على أحد ، ولا يحسده ، ولا يسيءُ الظنّ بأحدٍ إلا بمن يستحق ؛ وأن يكون حافظاً لجميع جوارحه عمّا نُهي عنه ، يجتهد ليسلمَ النّاسُ من لسانه ويده ، لا يظلم وإن ظُلم عفا ، لا يبغي على أحد ، وإن بُغي عليه صبر ، يكظم غيظه ليرضي ربّه ، ويغيظَ عدوّه . وأن يكون متواضعاً في نفسه ، إذا قيل له الحق قَبِله من صغيرٍ أو كبير ، يطلب الرفعة من الله تعالى لا من المخلوقين .
وينبغي أن لا يتأكلَ بالقرآن ولا يحبّ أن تُقضى له به الحوائج ، ولا يسعى به إلى أبناء الملوك ، ولا يجالس الأغنياء ليكرموه ، إن وُسِّع عليه وسَّع ، وإن أمسِك عليه أمسَك .
وأن يُلزم نفسه بِرَّ والديه :
فيخفضُ لهما جناحه ، ويخفصُ لصوتهما صوته ، ويبذل لهما ماله ، ويشكر لهما عند الكبر .
وأن يصلَ الرحم ويكره القطيعة ، مَن قطعه لم يقطعه ، ومن عصى الله فيه أطاع الله فيه ، مَن صحِبه نفعه ، وأن يكون حسن المجالسة لمن جالس ، إن علّم غيره رفق به ، لا يعنّف من أخطأ ولايخجله ، وهو رفيقٌ في أموره ، صبورٌ على تعليم الخير ، يأنس به المتعلم ، ويفرح به المجالس ، مجالسته تفيد خيراً .
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " كنّا صدرَ هذه الأمّة ، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما معه إلا السّورة من القرآن أو شبه ذلك ؛ وكان القرآن ثقيلاً عليهم ، ورُزقوا العمل به . وإنّ آخر هذه الأمّة يُخفّف عليهم القرآن حتّى يقرأ الصّبيّ والأعجميّ ، فلا يعملون به " .
وعن مجاهد رحمه الله ، في قوله تعالى { يتلونه حقّ تلاوته } قال : " يعملون به حقَّ عمله " .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناسُ نائمون ، وبنهاره إذا الناسُ مُفطرون ، وبورعه إذا الناس يخلطون ، وبتواضعه إذا الناسُ يختالون ، وبحزنه إذا الناسُ يفرحون ، وببكائه إذا الناسُ يضحكون ، وبصمته إذا الناسُ يخوضون " .
وعن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : " حامل القرآن حامل رايةِ الإسلام .. لا ينبغي له أن يلغو مع من يلغو ، ولا يسهو مع من يسهو ، ولا يلهو مع مَن يلهو " .
جعلنا الله تعالى ممن يتأدب بآداب القرآن ، ويتخلق بأخلاقه ... ...(181/1)
... أخي .. أنت .. يا من أحبك في الله
مهداة إلى جميع الأحبة
... بقلم: محب في الله
فاضت نفس الكاتب وروحه بهذه الخواطر وانهمرت كلمات تخطها أنامله بعد أن اعتملت بداخله إثر موقف مفعم بالعطاء الروحي والتوقد الرباني شعر فيه بنعمة الأخوة وفضل الاجتماع على حب الله ومن أجل خدمة دينه والوفاء لمنهج نبيه عليه الصلاة والسلام فكانت هذه الكلمات.
أخي الحبيب في الله حفظك الله ورعاك
يا من جمعنا طريق السير إلى الله ووحد بين أرواحنا، وألف بين قلوبنا، وربط بين عقولنا، ولو تفرقت أجسادنا، وتباعدت مواطننا، وتغايرت الواننا، وتعددت مشاربنا، واختلفت اعراقنا، وتنوعت مواقعنا.
أيها الأخ الذي يعلم الله كم أنت لك في سويداء القلب من محبة وود واحترام وتقدير وشوق.
أيها الحبيب في الله، إني أفتقدكم كثيرا، أفتقد نصحكم، وأفتقد أخوتكم، وأفتقد نقدكم، وأفتقد عقلكم النير، وأفتقد قلبكم الكبير، وأفتقد إبمانكم الغامر، وأفتقد النظر إليكم أيها الحبيب في الله.
يا أخي، يا من أسأل الله ان يجعلنا عنده من المتحابين فيه سبحانه وتعالى.
إن الدنيا لا تساوي شيئا بدون إخوة نحبهم، كما أنها حلوة محببة لما أتذكر أن لي فيها امثالكم.
أنا لا أقول هذا الكلام بعبرات ميتة على صفحة إلكترونية باهته، ولكن انقل إليكم مشاعر القلب، وعنفوان المشاعر، وصدق المحبة، وإخلاص الصحبة، والوفاء للذكرى، والعزم على العهد، والولاء للفكرة.
كم يعرف الانسان في دنياه القصيرة في حساب المنجزات، الطويلة في حساب المعاصي والمقترفات، كم يعرف الانسان منا من أناس ولكن سرعان ما ينساهم بمجرد أن يغيبوا عن عينيه.
ولكنك يا حبيبي في الله من القلائل الذين سكنوا سويداء الفؤاد، واستيقنت من محبتهم، لأننا إن غابت الأشكال، تجلت الأرواح في سماء الأخوة والود والوصال في طريق الله، واشرأبت النفوس إلى اللقيا، وتطلعت الأفئدة إلى إشراقات الأخوة ونفحاتها، ألم تعلم أن قد تصافت وتآلفت أرواحنا وقلوبنا.
وكلما تذكرتك والقلة من أحبتي في هذه الدنيا شعرت أني شخص مهم في هذه الدنبا، وأني كريم عند الله، لأنه وفقني إلى معرفتكم، وإلى صحبتكم، وإلى تقاسمكم الأفكار التي هي مناراتنا في دجى الهوى والتيه، كما أنه هدداني سبحانه وجعلني من الصفوة التي تتحاب فيه سبحانه وتعالى.
إني لا أدعي أني من الصالحين، ولا أدعي أني من المقربين، ولكن عندي يقين كبير بأن الله يحبني عندما وهب لي إخوة مثلكم، لا يجمعنا إلا حبه تعالى، والولاء له سبحانه، والسير على نهجه، واتباع صراطه.
أيها الحبيب في الله، قد تتعب اجسادنا في هذه الدنيا؛ دنيا العبيد، وقد يمسنا القرح كما مس خير الناس، صلى الله عليه وسلم ورضي عن صحبه، ذات يوم في الوادي غير ذي الزرع هناك عند البيت الحرام، ولكن نحن نمثل المستقبل المشرق الذي لن تطفئه تهريجات المهرجين، ونحن عصا موسى التي ستبطل السحر المبين الذي غلب على أعين الناس وعقولهم في هذا الزمان، ونحن الفئة التي –بإذن الله- تحمل هذا الدين فتنفي عنه التحريف والإبطال والانتحال.
أقول لك يا أخي، يا حبيبي في الله
لا تحزن فمهما افترقنا فنحن معا، ومهما خذلنا الناس فإن الله لن يخذلنا، ولن يترنا اعمالنا، ومهما ظلمنا الظلمة فإن الله يدافع عنا، أليس الله يدافع عن الذين آمنوا.
أصدقك القول يا أخي الحبيب، أني كلما تذكرتكم ازددت حبا لكم، وثقة في نصر الله، وقوة في العزيمة، ووضوحا في الرؤية، وتصميما على تفعيل الأداء، وطمأنينة بأني سأموت لو مت في أي لحظة وأنا مطمئن القلب بالإيمان.
أخوك المحب في الله(182/1)
أخي الحبيب
يتناول الدرس شبهة تعوق دون بذل المسلم لدينه ألا وهي بعض الذنوب التي قد يقع فيها المسلم، فتصبح هذه الذنوب خندقا تحاصر صاحبها وتمنعه من البذل لدينه والتضحية في سبيله، مع ضرب أمثلة ممن وقع في الذنوب ولكن هذه الذنوب لم تمنعه من تقديم الولاء لدينه ونصرته لاسيما وقت الشدة، مع لفت الأنظار إلى خطر الذنوب ولكن مع هذا لا ينبغي أن تعوق المسلم عن البذل لدينه ونصرته لاسيما وقد اشتد المكر للدين والعداء السافر له.
الحمد لله، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد،،، حديث خاص إلى أخ لي قد أراه بين كل اثنين، أخ لي لم يسلم من أخطاء سلوكية وكلنا خطاء، لم ينج من تقصير بالعبادة وكلنا مقصر، ربما رأيته حليق اللحية، طويل الثوب، بل ربما أسر ذنوباً أخرى ونحن المذنبون أبناء المذنبين.
أخي ! هل تفتح لي أبواب قلبك الطيب، ونوافذ ذهنك النير، فو الله الذي لا إله غيره إني لأحبك حباً يجعلني أشعر بالزهو كلما رأيتك تمشي خطوة إلى الأمام، وأشعر والله بالحسرة إذا رأيتك تراوح مكانك، أو تتقهقر وراءك .
أخي وحبيبي، هل تظن أن أخطاءنا أمر تفردنا به ولم نسبق إليه ؟
كلا.. فما كنا في يوم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون، ولكن نحن بشر يذنبون، فيستغفرون الله؛ فيغفر لهم، وكل من نرى من عباد الله الصالحين لهم ذنوب وخطايا، قال ابن مسعود لأصحابه وتلاميذه وقد تبعوه: [لو علمتم بذنوبي لرجمتموني بالحجارة ]..[لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ] رواه مسلم وأحمد. لقد أحرقتنا الذنوب، وآلمتنا المعاصي، ولكن أيها الحبيب المحب:
إن هذه الخطايا ما سلمنا منها ولن نسلم: ولكن الخطر أن تسمح للشيطان أن يستثمر ذنبك، ويرابي في خطيئتك، أتدري كيف ذلك؟ يلقي في روعك أن هذه الذنوب خندق يحاصرك فيه، لا تستطيع الخروج منه.. يلقي في روعك أن هذه الذنوب تسلبك أهلية العمل لهذا الدين، أو الاهتمام به.. ولا يزال يوحي إليك: دع أمر الدين والدعوة لأصحاب اللحى الطويلة والثياب القصيرة..وهكذا يضخم هذا الوهم في نفسك حتى يشعرك أنك فئة والمتدينين فئة أخرى.
وهذه حيلة إبليسية ينبغي أن يكون عقلك أكبر وأوعى من أن تمرر عليه، فأنت يا أخي متدين من المتدينين.. أنت تتعبد لله بأعظم عبادة تعبد بها بشر لله: بالتوحيد.. أنت الذي حملك إيمانك، فطهرت أطرافك بالوضوء، وعظمت إلهك بالركوع، وخضعت له بالسجود..أنت صاحب الفم المعطر بذكر الله ودعائه، والقلب المنور بتعظيم الله وإجلاله.
فهنيئاً لك توحيدك، وهنيئاً لك إيمانك.
إنك يا أخي صاحب قضية، أنت أكبر من أن تكون قضيتك فريقا كرويا يفوز أو يخسر..أنت أكبر من أن تنتهي آمالك عند زوجة وبيت وولد..أنت أكبر من أن تدور همومك حول شريط غنائي، أو سفر للخارج..أنت أكبر من أن تدور همومك حول المتعة والأكل، فذلك ليس شأنك، هذا شأن غيرك ممن قال الله فيهم:}وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ[12]{ [سورة محمد] .
أخي: أنت من تعيش لقضية أخطر وأكبر، إنها قضية هذا الدين الذي تتعبد الله به، هذا الدين الذي هو سبب لوجودك في هذه الدنيا، وقدومك إلى هذا الكون: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [56]{ [سورة الذاريات]
وأذكرك مرة أخرى: أن تقصيري وإياك في طاعة ربنا، أو خطأي وإياك في سلوكنا لا يحلنا من هذه المسئولية الكبرى، ولا يعفينا من هذه القضية الخطيرة.
انظر إلى هذين الموقفين، وأرجو أن تنظر إليهما بمجهر بصيرتك نظرة فاحصة:
هذا الصحابي الجليل كعب بن مالك: أذنب ذنباً، وتخلف عن الخروج مع المسلمين إلى غزوة تبوك، وعندما عاد المسلمون عوتب على خطئه، بل عوقب وهجر فلم يعد أحد يكلمه، فتغيرت عليه الأرض فما هي بالأرض التي يعرف.(183/1)
وتغير عليه الناس فما هم بالناس الذي كان يعرف، ذلك جعل كعباً رضي الله عنه ينظر في لهفة، وقد تنكرت له الأرض والناس فهو يلتمس حركة من بين شفة، أو نظرة يحيي بها الأمل.. بينما هو كذلك لايلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة، أو يحييه بابتسامة، أو يواسيه بنظرة وهو الشاب الجلد الموفور الحماس، بينما هو كذلك إذا به يتلقى كتاباً ممن؟ مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ! وفض الرسالة، فإذا فيها التالي: ' أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ- يَعْنِي: رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ '. فانظر: إن هذا الذنب وهذا العقاب لم يحلل كعباً من ولائه لدينه..لعقيدته، لم يحلله من قضيته الكبرى، لقد نظر إلى هذا الكتاب على أنه جزء من الابتلاء. فحمل الكتاب ثم أوقد التنور وقال:' وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْبَلَاءِ' فأحرق الكتاب في التنور وبقي يعاني ألم القطيعة.
ثم انظر أخرى إلى أبي محجن الثقفي رضي الله عنه: ابتلي بشرب الخمر فأدمنها ولم يستطع التخلص منها، فكان يجاء به فيجلد، وفي معركة القادسية كان هذا الشارب الخمر جندياً يقاتل، ولم تكن خطيئته قيداً يصده عن الجهاد.
وشرب الخمر وهو في نفير الجهاد فأتي به إلى سعد بن أبي قاص رضي الله عنه، فأمر أن يجعل القيد في رجله ويحبس، ويحرم من فرصة المشاركة في المعركة.. أهذا عقاب المخطئين؟ نعم، هكذا يعاقب المخطئ ما دام قلبه يستشعر الولاء للدين، عوقب بأن تفوت عليه فرصة الاشتراك في القتال.وكانت تجربة قاسية آلمت أبا محجن أشد الألم حتى إذا سمع صليل السيوف، ووقع الرماح، وهزيم الخيل؛ جعلت نفسه تجيش حسرات وجعل يُنشد:
كفى حزنا أن تلتقي الخيل بالقنى وأترك مشدودا وثاقي
إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصارع دوني قد تصم المنادي.
ألم وحسرة يشعر بها السكير شارب الخمر ! الذي لا يحول شربه الخمر بينه وبين ولائه لدينه!
وكان سعد رضي الله عنه قد أصابته القروح، فلم يستطع الاشتراك في المعركة، فدعا أبو محجن زوجة سعد، وقال لها:
'يا سلمى فكي وثاقي وأعطيني فرس سعد البلقاء أقاتل عليها، ووالله الذي لا إله إلا هو لئن أنجاني الله لأعودن حتى أضع رجلي في القيد، وإن أنا قتلت استرحتم مني' فأشفقت عليه ورحمته وحلت قيده, وأعطته الفرس، فركبها وأخذ رمح سعد فأخذ يجول بين الكتائب، فلا يفر على كتيبة إلا كسرها، ولا على جمع إلا فرقه، وسعد ينظر بعين العجب ويقول:'
الضرب ضرب أبي محجن، والكرّ كرّ البلقاء، وأبو محجن في القيد' حتى إذا انتهي النهار عاد أبو محجن رضي الله عنه وجعل رجليه في القيد، فلم تحتمل سلمى رضي الله عنها هذا الموقف، وذهبت إلى سعد تخبره الخبر، فما ملك سعد خال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نفسه إلا أن قام إلى هذا الشارب للخمر يحل قيوده بيديه ويقول:'والله لا أجلدك على الخمر أبدًا' فقال أبو محجن:' وأنا والله الذي لا إله إلا هو لا أشرب الخمر بعد اليوم أبداً، أما إني كنت أشربها يوم كنت أطهر بالجلد، أما الآن فلا' .
أخي أشعر نفسك هذا الموقف، ثم اعلم أن الخطايا ليست عذراً للتحلل من الولاء للدين، ولا من العمل له، ولا من نصرته، ولا من الغيرة عليه، ولولا ذلك لما انتصر للدين منتصر، ولما قام للدين قائم.
أيها الحبيب:إن الولاء للدين والغيرة عليه؛ مسئولية المسلم من حيث هو مسلم مهما كان عليه من تقصير، ومهما قارف من إثم مادام أن له بهذا الدين سببا واصلا، وكل مسلم من المسلمين يتحمل مسئوليته في تأييد الدين ونصره:}فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [157]{ [سورة الأعراف].
هل تذكرت أخي: أنك جزء من هذه الأمة التي ينبغي أن تكون في المقدمة في عصر تتسابق فيه الأمم لصنع المستقبل، عصر ينبغي أن نقتحمه متحدين، فهل فكرت في إسهام حقيقي منك في ذلك ؟
هل تذكرت أخي: أن دينك هذا الذي تدين الله به مستهدف بعداء مرير وكيد طويل، واقرأ إن شئت عن قادة الغرب ماذا يقولون؛ لتقف على طرف من هذا العداء. فهل فكرت في المواجهة ؟
هل آلمتك مجازر المسلمين ورخص دمائهم، ومدن المسلمين تباد، ودولهم تبتلع، فهل تحركت فينا أخي روح الجسد الواحد؟
هل فتشتُ في نفسي، وفتشت في نفسك، وتساءلنا كم تبلغ مساحة الإسلام من خارطة اهتماماتنا ؟
كم نبذل للدين؟ كم نجهد للدين؟ كم نهتم للدين؟ هل هو قضية في حياتنا؟ أم قد رضينا بعبادات تحولت إلى عادات؟!(183/2)
إننا إذا لم ننفر لهذا الدين بكليتنا فإنا - ورب البيت- نخشى أن ينالنا ذاك الوعيد الشديد- الذي تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هداً- في قول ربك جل جلاله:} إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [39]{ [سورة التوبة]
لنعد السؤال على أنفسنا مرة أخرى:كم يعيش الدين في حياتنا ؟ كم يشغل من مساحة اهتماماتنا ؟
هل أخذت يومًا كتاب الله فقرأته مستشعراً أن الله جل جلاله يخاطبك ويتحدث إليك، أنت العبد الصغير القليل؟ أخي أي تكريم لك ذلك التكريم العلوي الجليل! أي رفعة لك يرفعها هذا التنزيل! أي مقام يتفضل به عليك خالقك الكريم!
هل جلست يوماً تربي نفسك بقراءة سيرة نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم الذي تحبه، والذي أحبكَ واشتاق إلى لقائك، نعم نبيك اشتاق إلى لقائك وقال: [ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا] قَالُوا أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: [ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ] رواه مسلم . فهل اشتقت إلى نبي اشتاق إليك ؟
هل نظرت وإياك إلى إخواننا الصالحين السابقين في الخيرات، الذين هم أكثر منّا جداً في الطاعة، و نشاطاً في الدعوة، وتوقيراً للسنة، هل نظرت إليه، فكيف كانت نظرتك؟
أما إني لا أتوقع منك أن تزدريهم، ولا أن تخذلهم، ولكن أحبهم تكن منهم، فالمرء مع من أحب، وذلك يستلزم نصرتهم والذب عن أعراضهم والتعاون معهم
أخي: هل بذلت جهدا في الدعوة ولو قليلا ؟ هل أهديت لقريب أو زميل شريطاً بعد أن سمعته؟ أو كتيباً بعد أن قرأته؟
أخي: هذه المنكرات التي في مجتمعنا قد غص بها لم تنتشر في يوم وليلة، ولكن انتشرت لأن واحداً فعل، وواحداً سكت، وهما شريكان في صنع ذلك المنكر. فهل استشعرت وجوب مشاركتك في إزالة المنكر، وعلمت أنه لابد أن تكون مساهماً في الإنكار.
أخي: إن في مجالسنا ومجتمعاتنا من يشوه على الناس مفاهيمهم، ويلبس عليهم دينهم، وينتقص أهل الصلاح منهم،
فهل وقفت منافحاً ومدافعاً بالتي هي أحسن؛ لأنك تعلم أن السكوت حينئذٍ خيانة للمبدأ، وجُبن في الدفاع عن الحق الذي تعتقده؟
أخي:لا تكتفي بالتعاطف مع الأخيار الأبرار، وترى ذلك فضلاً منك، بل يجب عليك أن تكون متعاطفاً ومتعاوناً أيضاً لأنك تعلم أن ذلك من مسئوليتك.
أخي: تذكر أنك بإيمانك ذو نسبٍ عريق ضارب في عمق الزمن، وأنك واحد من ذلك الموكب المبارك الذي يقوده ذلك الركب الطيب: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام:} إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [92] { [سورة الأنبياء] ..إن الظن بك حينئذ أن تكون معتزاً بإيمانك، واثقاً من نفسك، باذلاً لدينك ما يمكنك بذله، داعياً لمبدئك وقضيتك، متميزاًَ عن غيرك ممن لايهتم بهذا كله، متميزاً عن السلبيين الذين نقول لهم:كفوا أذاكم عن الناس فهو صدقة منكم على أنفسكم.
قد اختارنا الله في دعوته وإنا سنمضي على سنته
فمنا الذين قضوا نحبهم ومنا الحفيظ على ذمته
أخي:
ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروحك إشراقها ترى الفجر يرمقنا من بعيد
أخي: لا أريد أن أهون الذنوب، فإنها إذا اجتمعت على الرجل أهلكته..لا أريد أن أهون الخطايا، فرب خطيئة كان عقابها طمس البصيرة.. ولكن أقول: لاينبغي أن تكون الذنوب خندقاً يحاصرنا عن العمل لهذا الدين.
أخي: هذا شجن من شجون أهاتف به قلبك الطيب، بنصح المحب، ومحبة الناصح.. وإن في إيمانك، ونقاء أعماقك ما يقنع فيك كل مريد الخير لك..والله أسأل أن يكلأك برعايته، ويحوطك بعنايته، ويهديك ويسددك.
من خطبة :' أخي الحبيب' للشيخ : عبد الوهاب الطريري(183/3)
أخي الشاب دع الفراغ وابدأ العمل
دار الوطن
الحمد لله حمداً يبلغ رضاه، وصلى الله على نبيه ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه الى يوم الدين.
أما بعد:
هل تأملت هذا الرجل الذي احدودب ظهره، وابيض شعره، وتثاقلت خطاه، وخارت قواه، وسقط حاجبيه، وتناثرت أسنانه؟ فهو يقوم بصعوبة، ويقعد بصعوبة، وينام بصعوبة، ويصلي بصعوبة، ويصوم بصعوبة، ويأكل بصعوبة، ويشرب بصعوبة، ويقضي حاجته بصعوبة.
هل تأملت هذا الرجل؟ ألم يكن شاباً مثلك..؟ يعيش حياة الشباب.. ويسير سيرهم.. ويلهو لهوهم.. ويلعب لعبهم..، لقد ظن هذا الرجل أن أيام الشباب طويلة.. وأن قوة الشباب قاهرة.. وأن نضرة الشباب تزهو على الليالي والأيام !!
واليوم.. وبعد أن كبرت سنه.. وضعف بنيانه.. وتنوعت أسقامه.. يبكي على ما ضاع من عمره في اللهو واللعب.. يبكي على قوة الشباب التي ولت، وعلى نضرة الشباب التي استبدلت بالكبر والشيخوخة.. ويتمنى أن يعود إليه شبابه وقوته ليصرفها في طاعة الله ورضوانه. ولكن هيهات هيهات.. فكل يوم انشق فجره ينادي ابن آدم ويقول: يا ابن آدم ! أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لن أعود الى يوم القيامة.
إن هذا الرجل يعيش اليوم في ندم وحسرة.. لماذا؟ لأنه لا يقوى على عبادة الله في زمن العجز والضعف والوهن.. يريد الصلاة فلا يستطيع.. يريد الصيام فلا يستطيع.. يريد الحج والاعتمار فلا يستطيع.. يريد زيارة القبور وتشييع الجنائز فلا يستطيع.. قد هدّه المرض.. وتكاثرت عليه الأوجاع.. ولذلك فإنه يبكي.
بكيت على الشباب بدمع عيني *** فلم يغن البكاء ولا النحيب
فيا أسفاً أسفت على شباب *** نعاه الشيب والرأس الخضيب
عريت من الشباب وكنت غصناً *** كما يعرى من الورق القضيب
فيا ليت الشباب يعود يوماً *** فأخبره بما فعل المشيب
احذر طول الأمل !!
أخي الشاب: قد تقول: وما الذي يجعلني أنتظر حتى أصل الى هذا الحد من الضعف والوهن.. إني سأتوب قبل ذلك العمر.. ربما في الأربعين أو بعد ذلك بقليل، وهي سن يكون الإنسان فيها متمتعاً بكامل صحته وقواه، وحينئذ أجمع بين الأمرين: متعة الشباب، وعبادة الله بعد ذلك.. والله تعالى غفور رحيم.. يتوب على العبد متى تاب، ولو في الخمسين من عمره أو الستين أو السبعين ما لم يغرغر على الموت.
ولبيان زيف هذا التصور – أخي الشاب – أحب أن أسألك هذا السؤال: من يضمن لك أن تصل الى الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين؟ بل من يضمن لك البقاء الى غد؟ بل من يضمن لك أن تقوم من مقامك؟ أما تعلم أن الموت يأتي بغتة؟ وأنه ينزل بالشباب كما ينزل بغيرهم؟ أما رأيت كثيراً من أقرانك أخذهم الموت فأصبحوا من سكان القبور؟
هل تمكن هؤلاء من التوبة؟ وهل تمتعوا بالمهلة؟ وهل استفادوا في قبورهم من تضييع الأوقات في الملاهي والمنكرات؟ وهل وصلوا السن التي تريد أن تصل إليها ثم تتوب بعدها؟ فلماذا تؤمل البقاء في هذه الدار، وطريقك محفوف بالمكاره والأخطار؟
ولماذا التسويف والغفلة؟ وأنت تعلم أن الموت يأتي بغتة وتوبوا الى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون [النور:31].
قال ابن الجوزي: يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً، ولا يغتر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت من الشباب، ولهذا يندر من يكبر وقد أنشدوا:
يُعمّر واحد فيغرّ قوماً *** ويُنسى من يموت من الشباب
ومن الاغترار: طول الأمل، وما من آفة أعظم منه، فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً، وإنما تتُقدّم المعاصي وتُؤخر التوبة لطول الأمل وتبادر الشهوات.
تؤمل في الدنيا قليلاً ولا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش الى الفجر
فكم من صحيح مات بغير علة! *** وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
شباب عاجز:
وكذلك – أخي الشاب- إذا وصلت الى سن الأربعين فما يدريك أنك ستكون متمتعاً بقواك في هذه السن كما زعمت؟ قادراً على عبادة الله على أكمل وجه؟
أما يمكن أن يصاب ابن العشرين أو الثلاثين أو الأربعين بالأمراض التي تزلزل أركانه؟ وتجعله طريح الفراش حبيس الأسرّة البيضاء؟ أما يمكن أن يبتلى ابن العشرين أو الثلاثين أو الأربعين بالحوادث المروعة التي لا يستطيع بعدها حراكاً؟
فالله الله في تجديد التوبة، عساها تكف كف الجزاء، والحذر الحذر من الذنوب، فإن المبارزة لله تسقط العبد من عينه، ومتى سقط العبد من عين الله في أي أودية الدنيا هلك !
عاقبة التسويف:
أخي الشاب: هناك أمر آخر قد خفي عليك، وهو أن التسويف لا يقف عند حدّ، بل هو بحر لا ساحل له، والأماني لا تنقطع بصاحبها، ولا يزال العبد يسوف حتى يصير مجندلاً في قبره.. فإذا بلغ الثلاثين قال: سوف أتوب غداً.. وإذا جاوز الأربعين قال: سأتوب غداً.. وإذا بلغ الخمسين قال: غداً.. وإذا بلغ الستين قال: غداً غداً.. وكل يوم يمر عليه يزداد فيه بعداً من الله، ونفوراً من التوبة وسبيلها.. فالحازم من عزم على التوبة من ساعته، وترك سبل الغواية الآن قبل غده.(184/1)
قال الحسن رحمه الله: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي وكذب.. لو أحسن الظن لأحسن العمل.
خذ من شبابك قبل الموت والهرم ** وبادر التوب قبل الفوت والندم
واعلم بأنك مجزئ ومرتهن *** وراقب الله واحذر زلة القدم
فيا أيها الشاب: إياك والتسويف بالتوبة، والاتكال على العفو والمغفرة، فالله تعالى كما أنه غفور رحيم، فإنه أيضاً شديد العقاب، ذو بطش شديد، وأخذ أليم. قال تعالى: إن بطش ربك لشديد [البروج:12]. وقال سبحانه: إن أخذه أليم شديد [هود:102]. وقال النبي : { إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} [متفق عليه].
وهناك ثلاثة أسباب للتراخي والميل الى اللذات:
أحدها: رؤية الهوى العاجل، فإن رؤيته تشغل عن الفكر فيما يجنيه، لأن عين الهوى عمياء !
الثاني: التسويف بالتوبة، فلو حضر العقل لحذر من آفات التأخير، فربما هجم الموت قبل أن تحصل التوبة.
الثالث: رجاء الرحمة فيقول العاصي: ربي رحيم، وينسى أنه شديد العقاب.
قل للمفرط يستعد *** ما من ورود الموت بد
قد أخلق الدهر الشباب *** وما مضى لا يسترد
أو ما يخاف أخو المعاصي *** من له البطش الأشد
يوماً يعاين موقفاً *** فيه خطوب لا تحد
فإلام يشتغل الفتى *** في لهوه والأمر جد
شاب نشأ في عبادة الله:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله عز وجل، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه } [متفق عليه].
أخي الشاب:
ألا تريد أن يظلك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؟
ألا تريد أن تأخذ كتابك بيمينك فتقول فرحاً مسروراً: هاؤم اقرءوا كتابيه، إني ظننت أني ملاق حسابيه [الحاقة:19-20].
ألا تريد لقيا الأنبياء والمرسلين في جنات عدن؟
ألا تريد التمتع بالحور العين والجواري الحسان؟
ألا تريد النظر الى وجه الله الكريم؟ وجوه يومئذ ناضرة، الى ربها ناظرة [القيامة:22-23].
ألا تريد نعيماً لا ينفذ وقرة عين لا تنقطع؟
إن كنت تريد ذلك فـ:
شمر عسى أن ينفع التشمير *** وانظر بفكرك ما إليه تصير
طولت آمالاً تكنفها الهوى *** ونسيت أن العمر منك قصير
وكن كما كان هذا الشاب الذي حكى عنه بكر العابد، فقال تعبّد شاب صغير من أهل الشام فبالغ بالعبادة والاجتهاد، فقالت له أمه: يا بني ! لماذا لا تلهو مع الشباب الذين هم في مثل سنك؟ فقال لها الشاب الطائع: يا أماه ! ليتك كنت بي عقيماً.. ليتك لم تلديني يا أماه.. إن لابنك في القبر رقاداً طويلاً، وفي عرصات القيامة موقفاً مهولاً.. فقالت له: يا بني ! لولا أني أعرفك صغيراً وكبيراً لظننت أنك أحدثت حدثاً موبقاً، أو أذنبت ذنباً مهلكاً لما أراك تصنع بنفسك، فقال لها: يا أماه ! وما يدريني أن يكون الله عز وجل قد اطلع علي وأنا في ذنوبي فمقتني، وقال: اذهب فلن أغفر لك.
هكذا كان شباب الأمس، يعبدون الله تعالى، ويخافون ألا يتقبل الله منهم، أما شباب اليوم – إلا من رحم الله – فقد جمع بين التقصير بل التفريط والغفلة، ومع ذلك يظن كل واحد منهم النجاة يوم القيامة.
وصية نبوية:
عن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: { اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك } [الحاكم والبيهقي وصححه الألباني].
الإسلام وحظوظ النفس:
أخي الشاب: يخطئ من يظن أن طريق الاستقامة يمنع المتعة ويحرم البسمة، وينهى عن المزحة، ويحظر الشهوات على الإطلاق بل إنه ضبط هذه الأمور وفق حدود شرعية حتى لا يكون الإنسان عبداً لهواه وشهواته، فهناك انواع من المتع المباحة التي أقرها الإسلام وحث عليها، ومن ذلك:
أولاً: النكاح: فالنكاح حث عليه الإسلام، وجعله سبيلاً لضبط الشهوة، وطريقاً للمودة والرحمة بين الزوجين، قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم:21].
ونظراً لقوة داعي الشهوة لدى الشباب خصهم النبي بالأمر به، فقال عليه الصلاة والسلام: { يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء } [متفق عليه].
وفي النكاح فوائد عظيمة منها:
1- أنه تنفيذ لأمر الله تعالى في كتابه.
2- أن اتباع لسنن الأنبياء والمرسلين وبخاصة سنة نبينا محمد .
3- به تحصيل المودة والرحمة والتعاون والألفة بين الزوجين.
4- به يتم التعارف والتآخي بين الأسر والعائلات.
5- به تحفظ الأنساب ولا تختلط.
6- به تحصن الفروج وتضبط الغرائز ولا يعتدي الناس بعضهم على بعض.
7- به يكثر النسل وتقوى شوكة الأمة ويهاب جانبها.(184/2)
8- به يحصل الأجر لكلا الزوجين إذا عاشر كل منهما الآخر بالمعروف.
9- به تحفظ المجتمعات من الفساد والانحلال.
10- به يحفظ الزوجان من الأمراض الفتاكة التي تصيب من يقضي وطره بالطرق المحرمة.
أخي الشاب: وحرم الإسلام الزنى لما فيه من الأضرار الجسيمة على الأفراد والأسر والمجتمعات، فبالزنى تختلط الأنساب وتنتشر العداوة والبغضاء، ويظهر القحط ويعم البلاء، والزنى يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين، وذهاب الورع وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تجد زانياً معه ورع، ولا وفاء بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله.
ومن نتائج الزنى:
1- غضب الرب سبحانه لانتهاك محارمه.
2- سواد الوجه وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت.
3- ظلمة القلب وطمس نوره والوحشة وضيق الصدر.
4- الفقر اللازم للزناة ولو بعد حين.
5- السقوط من عين الله وأعين العباد.
6- الاتصاف بأخبث الأوصاف كالفاجر والزاني والخائن والفاسق.
7- نزع الإيمان من القلب، لقول النبي : { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } [متفق عليه].
8- التعرض للعذاب في جهنم مع الزناة والزواني.
9- الإصابة بالأمراض الفتاكة كالإيدز والهربز والسيلان.
10- فوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن.
ثانياً: الأكل والشرب: قال تعالى: فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه [الملك:15].
1- أن يكون الطعام والشراب من الطيبات كما قال تعالى: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [الأعراف:157]. فالدخان والحشيشة والخمر كلها من الخبائث المحرمة.
2- أن يكون بقدر الحاجة كما قال تعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا [الأعراف:31].
3- أن يكون في غير الأوقات التي حرم الله فيها الأكل والشرب كنهار رمضان، قال تعالى: ثم أتموا الصيام الى الليل [البقرة:187].
4- أن يكون الطعام والشراب من مال حلال، فإن كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به.
ثالثاً: الضحك والمزاح: فقد كان النبي يضحك، وكان يمزح، ولكن لا يقول إلا الصدق، فليس في الإسلام مكان لباطل ولو عن طريق المزاح والتفكه، وليس هناك نكات تروج للكذب، وتتخذ من السخرية مادة للضحك وتضييع الأوقات قال النبي : { ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له } [أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه الألباني].
رابعاً: الرحلات والزيارات: وهذه أيضاً من المتع المباحة شريطة ألا يتخللها معصية، من شرب للدخان أو استماع للملاهي أو التحدث بالرفث من القول وغير ذلك.
وفي ذلك يقول الشيخ ابن عثيمين: "أحث الشباب على إقامة الزيارات فيما بينهم، حتى تتوطد الألفة والمحبة بين القلوب، وعليهم أن يدرسوا أحوالهم وأحوال أمتهم، ليكونوا كقلب واحد، ورجل واحد، وما أعظم ثمرة الزيارات إذا قرنت برحلات قريبة أو بعيدة، فإن لها أثراً كبيراً، وعلى المربين من الأساتذة والمديرين قسط كبير من هذا التوجيه".
خامساً: الرياضة وتقوية الأبدان: فالمؤمن القوي خير واحب الى الله تعالى من المؤمن الضعيف، ويروى عن عمر أنه قال: "علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل"، ولكن ينبغي للشاب أن يكون له نية صالحة في ذلك وهي الجهاد في سبيل الله والذب عن الشريعة والدفاع عن الدين والنفس والعرض والأرض والمال.
دع الفراغ وابدأ العمل:
أخي الشاب: ها نحن قد أخذنا الحديث وتكلمنا كثيراً، فلماذا لا نبدأ من الآن؟ أعترف أن البدايات قد تكون صعبة ولكن..
"عند الصباح يحمد القوم السرى".
وأذكرك بقول النبي : { نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ } [ البخاري]. فكأنك المقصود بهذا الحديث أيها الشاب، فأنت في الزمان الصحة والقوة، وعندك كثير من الأوقات التي انشغل فيها غيرك بتدبير معاشهم والسعي في أرزاقهم، فلماذا لا تستثمر هذه الأوقات فيما يقربك الى الله، وفيما يكون ذخراً لك يوم القيامة؟
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: إني لأبغض الرجل أراه فارغاً، لا في أمر دنياه، ولا في أمر آخرته.
وقال أبو العباس الدينوري: ليس في الدنيا أعز وألطف من الوقت والقلب، وأنت مضيع لهما !!
وقال يحيى بن معاذ الرازي: المغبون من عطل أيامه بالبطالات، وسلط جوارحه على الهلكات، ومات قبل إفاقته من الجنايات.
وقال أحد السلف: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما.
وقال عيسى عليه السلام: إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما. وكان يقول: اعملوا لليل لما خُلق له، واعملوا للنهار لما خلق له.
وقال أبو زيد: إن الليل والنهار رأس مال المؤمنين، وربحهما الجنة، وخسرانها النار..
إنما الدنيا الى الجنة والنار طريق *** والليالي متجر الإنسان والأيام سوق!!
وقال إبراهيم بن شيبان: من حفظ على نفسه أوقاته فلا يضيعها بما لا رضى لله فيه، حفظ الله عليه دينه ودنياه.(184/3)
وقال عمر بن ذر أنه كان يقول في مواعظه: لو علم أهل العافية ما تضمنته القبور من الأجساد البالية، لجدّوا في أيامهم الخالية، خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب الأبصار.
اغتنم في الفراغ فضل ركوع *** فعسى أن يكون موتك بغتة
كم من صحيح رأيت من غير سقم *** ذهبت نفسه الصحيحة فلتة
قال الإمام ابن رجب: "فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة، وقبل أن لا يقدر عليها، ويحال بينه وبينها، إما بمرض أو موت، أو بأن يدركه بعض الآيات التي لا يُقبل معها عمل".
وقال ابن الجوزي: واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة، ففي الصحيح عن رسول الله أنه قال: { من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة } [الترمذي، وصححه الألباني]. فكم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل ! وهذه الأيام مثل المزرعة، فكأنه قيل للإنسان: كلما بذرت حبة أخرجنا لك ألف كرّ – والكرّ: مكيال يقدر بأربعين أردباً – فهل يجوز للعاقل أن يتوقف في البذر ويتوانى؟!
قال تعالى: وأنيبوا الى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين [الزمر:54- 58]. وقال تعالى: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ الى يوم يبعثون [المؤمنون:99-100].
وختاماً أخي الشاب:
1- اعلم أن عمرك رأس مالك فلا تضيعه فيما لا يفيد.
2- تخير أصدقاءك، واجتنب صحبة الأشرار ومجالسهم.
3- حافظ على الصلاة فإنها سبيل النجاة، ولا تنم عن صلاة الفجر.
4- أسبغ الوضوء على المكاره، وأكثر الخطا الى المساجد وانتظر الصلاة بعد الصلاة.
5- بادر الى المسجد عند سماع الأذان فالله أكبر من كل شئ.
6- أكثر من الصيام فإنه دواء لكثير من أدواء الشباب.
7- عوّد نفسك الصدقة والبذل والعطاء، فإنه سبب لرفع كثير من البلاء.
8- بادر بأداء فريضة الحج ولا تؤخرها، والعمرة الى العمرة كفارة لما بينهما.
9- اجعل لك ورداً من القرآن كل يوم وحافظ عليه فخيركم من تعلم القرآن وعلمه.
10- أكثر من الذكر والدعاء في الليل والنهار، فإن الله تعالى يحب الذاكرين ويجيب دعاء الداعين.
11- طالع في سيرة النبي وسير أصحابه، لعلك تكتسب بعض صفاتهم.
12- داوم على حضور مجالس العلم، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم.
13- عليك بالتواضع وإياك والكبر، فإنه لا يدخل الجنة متكبر.
14- إياك والحسد فإنه ذنب إبليس الذي طرد به من الجنة.
15- أطع والديك ولا تغضبهما فإنه لا يدخل الجنة عاق.
16- عيادة المريض وتشييع الجنائز وزيارة القبور من وسائل زيادة الإيمان والتذكير بالآخرة فلا تغفل عنها.
17- تبسمك في وجه أخيك صدقة فأحسن لقاء إخوانك.
18- إياك والغناء فإنه لا يجتمع في قلب عبد محبة الغناء ومحبة القرآن، فانظر أيها تختار.
19- تعوّد غض البصر عبادة المتقين.
20- كن في حاجة إخوانك، فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(184/4)
أخيتي.. كفى عجزاً
يتناول الدرس وقفات مع المؤامرات التي تحاك للمرأة المسلمة كي تتخلى عن دورها ، وهو دعوة للأخت المسلمة أن تتقدم في طريق الإصلاح وإلا فإن أولئك القوم لنا بالمرصاد، وبقدر تقصيرها يكون إقدامهم، ومن أيقنتْ بعظيم مسئولياتها؛ هانت عليها كل العقبات التي تواجهها.
المرأة المسلمة قلعة من قلاع الإسلام، وحصن من حصونه المنيعة: لها دور عظيم في صيانة الأمة وتربيتها، وحمايتها من كل ألوان الفساد والرذيلة. استقامتها على الحق صيانة للمجتمع كله، وصلاحها وعفتها؛ رعاية للأمة من الانحدار والتردي في دروب الهوى.
لذا حرص أعداء الله تعالى: من المستغربين والعلمانيين على:
? انتهاك هذا الحمى الكريم، واستباحة هذه البيضة العفيفة.
?وأجلبوا بخيلهم ورجلهم؛ لانتزاع البقية الباقية من ديانة المرأة وتقواها.
? وسعوا إلى اختراق إعلامي واسع النطاق يقوم على تزيين الفواحش، ونشر ثقافة الرذيلة، والمتاجرة بالأعراض، ويهدف إلى تغيير البنية الاجتماعية والفكرية للأمة المسلمة.
وذلك كله ليس بغريب على الإطلاق؛ فذلك ديدنهم وهجِّيراهم، ولكن: ألا يحق لنا أن نتساءل بكل صدق:
أين دعاتنا من هذا الحِمَى الكريم؟! وأخص بالذكر هاهنا نساءنا الصالحات؛ فهن أوْلى بذلك من غيرهن.
إنَّ علينا أن نعترف بأن واقعنا الاجتماعي والدعوي أدى إلى إهمال جلي واضح للدعوة في أوساط النساء، فغلب على صالحاتنا - فضلاً عن عامة نسائنا- العجز والقعود، وأصبحن يتعذرن بمعاذير واهية؛ يُسوِّغن بها قصورهن وتفريطهن.
نعم.. أُدرك أن العوائق الدعوية التي تواجه المرأة أضخم من تلك التي تواجه أخاها الرجل، ولكن:
? أيصح أن يكون ذلك حابساً للمرأة عن الإقدام والنهوض؟!
? أيصح أن تغفل المرأة الداعية وتصاب بالوهن والفتور..؟!
دعينا نتأمل خبر أبي هريرة حينما يحدثنا: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَفَقَدَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:[ مَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ الَّذِي كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ] قَالَ فَقِيلَ لَهُ مَاتَ قَالَ:[ فَهَلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ] فَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ لَيْلًا قَالَ:[فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا] فَأَتَى الْقَبْرَ فَصَلَّى عَلَيْهَا. رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد .
سبحان الله .. امرأة ربما كان بعض الناس يزدريها وينظر إليها نظرة لا مبالاة.. ولكنها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عزيزة كريمة، يسأل عنها، ويصلي عليها.
قامت هذه المرأة بعمل - قد نظنه يسيراً - ولكنه عند الله - تعالى - عمل عظيم يستحق تقدير النبي صلى الله عليه وسلم واهتمامه.
إنها الفاعلية التي دفعت هذه المرأة لخدمة المسلمين والسعي في حاجتهم.. صورة عظيمة تتجلى فيها صورة المرأة المستضعَفة عند الناس، لكن قلبها عامر بالطاعة، حفَّزها على البذل والعطاء دون أن تهن أو تضعف.
إنها الفاعلية التي اطمأنت بها ذوات القلوب المرهفة الحية، فقدَّمْنَ ما يَقْوَيْنَ عليه ابتغاء وجه الله - تعالى - دون أن يشعرن بالاتكالية، والاعتماد على الآخرين.
وكم يحز في النفس أن يرى المرء ذلك التمرد الأخلاقي الذي يعصف بنا من كل صوب، ثم يجد من بعض صالحاتنا عزوفاً أو انشغالاً عن تلك المسؤولية العظيمة؟!
? فيا - سبحان الله - لمن تتركن الميدان؟! ومن تنتظرن أن يقوم بهذا الدور..؟!
? ألا يكتوي قلبك حين ترين تلك الوحوش الكاسرة التي كشرت عن أنيابها الفضائية ومخالبها الصحفية، وراحت تعبث في أخواتك، وتنتهك عفتهن وكرامتهن؟!
? ألا يتفطر فؤادك، وأنت ترين التفسخ والانحلال يستشري في نسائنا، وينتشر في بيوتنا انتشار النار في الهشيم؟!
? أيطيب لك طعام أو شراب وأنت ترين الفتاة تلو الفتاة وقد رمت بحجابها، وراحت تركض هنا وهناك ملبية نداء تلك الأبواق الخاسئة التي ملئت بكل ألوان الدهاء والفتنة...؟!
? يا الله...!! كيف تقوى نفسك على القعود وأنت تملكين - بفضل الله - القدرة على تحصين أخواتك من حبائل المفسدين ومكائد العابثين...؟!
? أيرقأ لك دمع؟ أم هل يسكن لك قلب؟ آلله - تعالى - يرضى لك بذلك..؟!
أخيتي في الله:
إما أن تتقدمي أنت.. وإلا فإن أولئك القوم لنا بالمرصاد، وبقدر تقصيرك يكون إقدامهم، ومن أيقنتْ بعظيم مسئولياتها؛ هانت عليها كل العقبات التي تواجهها.. ومن صدق الله صدقه.
ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها تولى رَعْيَها الأسَدُ
من رسالة:'في البناء الدعوي' للشيخ/ أحمد عبد الرحمن الصويان(185/1)
أداء الأمانة
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء : 1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
? إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ? [الأحزاب:72 ].
الحديث عن الأمانة حديث ذو شجون.. والأمانة بمعناها الواسع تعم جميع وظائف الدين، فهي تنظم كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولاً وفعلاً.
وحين تختفي الأمانة من حياة الناس تفسد حياتهم وتسوء معاملاتهم.. ويعيشون حياة الغدر والغش والخيانة وواقع الناس اليوم خير دليل على ذلك.. حيث عم التعامل بالغدر والخيانة والغش والخداع والكذب سائر أحوالهم ومعاملاتهم إلا من رحم الله.
وحين يعم التعامل بالأمانة حياة الأمة، يؤدي الذي أؤتمن أمانته، سواء أؤتمن على قنطار أو دينار، لأن الله أمر بأداء الأمانات إلى أهلها، ونهى عن خيانة الله والرسول فقال سبحانه: ? إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ?[النساء:58] وقال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ?[الأنفال:27]. وجعل الله من صفات المفلحين أنهم يرعون عهودهم وأماناتهم فقال سبحانه في معرض المدح والثناء ? وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ?[المؤمنون:8].
والنفوس البشرية بفطرتها تميل إلى الناصح الأمين، وتثق بالقوي الأمين، حتى غير المسلمين يؤثرون الأمين ويحبونه فنصارى أهل نجران حين تفاوضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفقوا معه على دفع الجزية قالوا: "إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال لأبعثن معكم رجلاً أميناً، حق أمين. وأرسل معهم أبا عبيدة"().
إن من أغلى ما يرزقه الله للعبد، بحيث لا يحزن بعده على أي عرض من الدنيا ما جاء في الحديث الذي خرجه الإمام أحمد والطبراني وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم"(). فالأمانة ركن من الأركان الخلقية الأربعة التي لا يعدلها شيء في الدنيا ، بل تكون سبباً في إقبال الدنيا على العبد لما يجده الناس فيه.
وإذا تمكنت الأمانة من صاحبها تعامل بها مع القريب والبعيد، والمسلم والكافر، فالمؤمن لا يتعامل بالغدر حتى مع من عرف بالخيانة واشتهر بالغدر كما جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داؤود والترمذي وغيرهما. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك"()
وذلك لأن خطورة السقوط في الخيانة ، وفساد الفطرة بنقض العهد أشد من مجرد مقابلة الخائن بمثل فعله، ولأن السقوط مرة يقود إلى منحدر الخيانة وتستمرئ النفس الغدر والخيانة.
الخيانة سيئة وقبيحة حين تصدر من إنسان ولكنها حين تقع من الزعماء والمسئولين تكون أفحش وأقبح من غيرهم من العامة وذلك لما يترتب على غدر وخيانة المسئولين من مفاسد وشرور كبيرة وإذا كانت الخيانة من الوضيع مذمومة فإنها من الوجيه أكثر قبحاً وجرماً.
إن من الدناءة والخسة أن يكون الإنسان خائناً فاسداً وقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخائن من أهل النار فقال كما جاء في صحيح مسلم: "وأهل النار خمسة الضعيف الذي لا زبر له ـ أي لاعقل له يمنعه عن المحرمات والقبائح ـ الذين هم فيكم تبعاً لا يتبعون أهلاً ولا مالاً والخائن الذي لا يخفى له طمع ـ يعني لا يظهر لك غدره ـ وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك"()(186/1)
كم تتألم وتتفطر قلوبنا حين نرى هذه الأوصاف في بعض المسلمين، الذين يهرعون إلى كل مطمع يلوح لهم، ويخونون في سبيله كل وعد مقدس، وكل عهد مصون وأبرز ما تكون هذه الأخلاقيات في بعض الساسة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أمتهم وبلدانهم وما أكثرهم في هذا الزمن زمن الغدر والخيانة.
ويكفي فاقد الأمانة ما يلقاه في الدنيا من مهانة وصغار حين ينكشف أمره ويهتك ستره.. وإنما يجد الأمانة التي ضيعها وخانها متمثلة له يوم القيامة عند الصراط، لتهوي به من فوق الصراط إلى قعر جهنم والعياذ بالله تعالى جزاء ما ضيع منها وفرط فيها.
كما جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة العظمى "وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً.. إلى أن يقول وبينكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم.. قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة، مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار" قال أبو هريرة راوي الحديث: والذي نفس أبي هريرة بيده: إن قعر جهنم لسبعون خريفاً().
فهنيئاً لمن قام بحق الأمانة فجرى على الصراط ونجى من عذاب جهنم .. والحسرة والندامة على من تساهل فخان أمانته وضيع وسقط في الغدر، والشهوة العارضة أو الحقد الأعمى الذي يحمله على الخيانة والغدر والنكث.
من صور الأمانة العملية: أن تنصح من استشارك وأن تصدق من وثق برأيك، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي وأبو داؤود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المستشار مؤتمن"() ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه.
وماذا يكون قد بقى فيه من الخير من أشار على أخيه بما لا ينفعه بل ربما يضره.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد على خلق الأمانة ويوصي بها أصحابه فقد كان يودع من أراد سفراً من أصحابه ويقول له: "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك"().
وأمر المجاهدين وهم في أرض المعركة بالأمانة ونهاهم عن الغدر والخيانة والغلول ويقول لهم: "لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا "() وأمر القاعدين الذين يخلفون المجاهدين في أهلهم بخير أمرهم بالأمانة وحذرهم من الخيانة فقال عليه الصلاة والسلام كما جاء في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم: "وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخون فيهم إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء فما ظنكم؟"() يعني هل تظنون أنه يُبقي من حسناته شيئاً؟ ومن الأمانات الواجب حفظها والحرص عليها حفظ أسرار الناس ، وستر عوراتهم وكتمان أحاديث مجالسهم فقد ورد في الحديث "المجالس بالأمانة"() وإن لم يوصِ المتحدث بكتمان حديثه الخاص إليك اعتماداً على ثقته بك، فإنه لا يجوز لك أن تشيع حديثه إلا بإذنه وعلمه لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي: "إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة"() والمعنى إذا حدثك ثم غادر المجلس والتفت يميناً وشمالاً حرصاً على أن لا يسمعه إلا من يتحدث إليه ، فكل ذلك أمانة لا يجوز التفريط فيها. قال الإمام الغزالي رحمه الله: وإفشاء السر خيانة وهو حرام، إذا كان فيه إضرار وإن من صور الخيانة التصنت على الناس والتجسس عليهم والإطلاع على أسرارهم وعوراتهم وهم آمنون في بيوتهم..
ومما ابتدعه الكفار وصدروه إلينا مراقبة المكالمات الهاتفية والاستماع إليها وتصيد العثرات والإطلاع على أسرار البيوت واقتحام لحرماتها.. ولا يفعل ذلك إلا فاسد الفطرة ساقط الهمة محاد لله ولرسوله وللمؤمنين.
ولا يجوز لمسلم أن يفعل ذلك وعلى من ابتلي بشيء من ذلك أن يتوب إلى الله عز وجل وأن يقلع فوراً عن هذه الخيانات والغدرات.. قبل أن ينزل به الموت وينقله من هذه الدار إلى الدار الآخرة فيندم حيث لا ينفع الندم. يقول الله عز وجل موجهاً عباده المؤمنين ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ?[الحجرات:12].
الخطبة الثانية:
إن ضياع الأمانة من حياة الناس وفشو الغدر والخيانة من علامات الساعة وأشراطها. حيث تتقلب الموازين وتضطرب المقاييس وتفسد الأخلاق والقيم والتعاليم كما في صحيح سنن ابن ماجة وغيره "سيأتي على الناس سنوات خداعات ، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة في أمر العامة ، قيل وما الرويبضة قال: الرجل التافه"()(186/2)
إن الأمة الإسلامية ومنذ زمن تعيش مسلسل السقوط والانحدار في إقصاء الأمناء والنصحاء من الحياة وتملأ الفراغات في القيادات بالخائنين .. وأصبح الناس يرون بأم أعينتهم في كثير من بقاع العالم الإسلامي أن الأمور توسد إلى غير أهلها ، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين. ويغدوا الأمناء غرباء.. نادرين يشار إليهم كما جاء في الحديث الصحيح الطويل عن الأمانة ومما جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم "فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان"() ومع ندرة هؤلاء الأمناء يستبعدون ويولى غيرهم. وذلك من أسباب إضاعة الأمانة وظهور الخيانة، وهو من علامات الساعة . جاء في الحديث الصحيح في البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاء أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه، قال: "أين أراه السائل عن الساعة؟" قال: ها أنا يا رسول الله. قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"() قال العلماء رحمهم الله في بيان معنى هذا الحديث الشريف: معنى وسد الأمر إلى غير أهله ، أن الأئمة والحكام قد ائتمنهم الله على عباده ، وفرض عليهم النصيحة لهم. فيجب عليهم تولية الأمناء أهل الكفاءة والدين والأمانة والعلم. فإذا قلدوا غير هؤلاء وقدموا عليهم أهل الفسق والفجور والجهالة فقد ضيعوا الأمانة التي حملهم الله إياها. وفي سنن أبي داؤود وابن ماجة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بكم ، وبزمان يوشك أن يأتي يغربل الناس فيه غربلة ـ يعني يذهب خيارهم ويبقى شرارهم ـ ثم تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأمانتهم، فاختلفوا هكذا ـ وشبك بين أصابعه ـ فقالوا كيف بنا يا رسول الله إذا كان ذلك؟ قال تأخذون بما تعرفون ، وتدعون ما تنكرون وتقبلون على خاصتكم وتذرون عوامكم"()
أيها المؤمنون شأن الأمانة عظيم عند الله وإن القيام بحقوقها والوفاء بها من صفات المؤمنين ، والإخلال بشيء منها من علامات النفاق وصفات المنافقين، وقد جاء في صفات المنافقين أنه: "إذا ائتمن خان"() كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال أيضاً: "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له"().
أيها المؤمنون إن أبنائكم أمانة في أعناقكم فاحرصوا على حفظ هذه الأمانة ورعايتها وذلك بتربيتهم وتوجيههم والمحافظة عليهم من الانحراف والفساد وملء الفراغ بالنافع والمفيد والأبناء وهم يعيشون هذه الأيام فراغاً بسبب العطلة الدراسية عليكم أن تهتموا بهم وتدفعوا بهم إلى المراكز الصيفية التي تحفظ عليهم أوقاتهم وتفيدهم بكل نافع ومفيد.
راجعه:عبد الحميد أحمد مرشد.
صحيح البخاري: كتاب المغازي: باب: قصة أهل نجران: الحديث رقم: ( 4120) .
الجامع الصغير للسيوطي: باب: حرف الألف: الحديث رقم: (912) ، وقال: رواه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر الطبراني في الكبير عن ابن عمرو ابن عدي في الكامل وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
سنن أبي داؤود2/312،حديث رقم: 3534 ، وصححه الألباني.
صحيح مسلم: باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار.الحديث رقم: (2865) .
صحيح مسلم: كتاب الإيمان:باب أدني أهل الجنة منزلة فيها:الحديث رقم: (195) عن حذيفة رضي الله تعالى عنه.
سنن الترمذي 2/755 ، حديث رقم : 5128، وصححه الألباني.
سنن أبي داؤود 2/ 39، حديث رقم: 2900، وصححه الألباني .
المعجم الكبير 8/70، حديث رقم: 7397.
صحيح مسلم : كتاب الإمارة. باب حرمة نساء المجاهدين، وإثم من خانهن فيهن: الحديث رقم: (1897) عن سليمان بن بريدة، عن أبيه .
سنن أبي داؤود 2/684، حديث رقم: 4869، وضعفه الألباني.
الجامع الصغير للإمام السيوطي: باب: حرف الألف: الحديث رقم: (561) وقال: رواه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي والضياء عن جابر أبو يعلى في مسنده عن أنس .
سنن ابن ماجة2/1339 ، حديث رقم: 4036، وصححه الألباني .
صحيح البخاري: باب: رفع الأمانة: الحديث رقم: (6132) عن حذيفة رضي الله تعالى عنه . وصحيح مسلم في الإيمان، باب: رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب، رقم:( 143) .
صحيح البخاري: كتاب العلم: باب: من سئل علما وهو مشتغل في حديثه، فأتم الحديث ثم أجاب السائل: الحديث رقم:(59) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
سنن ابن ماجة2/1307، حديث رقم: 3957، وصححه الألباني.
صحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب بيان خصال المنافق: الحديث رقم: (59) . عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .(186/3)
مسند أحمد 3/157، حديث رقم: 12406، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن ، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي هلال فقد روى له أصحاب السنن.(186/4)
أداء الجمارك و المكوس و قبضها
السؤال :
ذهب أبواي إلى الحج ، و قاموا بشراء بعض الأجهزة التي يتم دفع الجمارك عليها ، و في المطار بعد العودة ساعدهم أحدُ أقربائنا المسؤولين في المطار على العبور بدون دفع الضرائب الجمركيّة عن البضائع التي جلبوها ، فما حكم الدين في ذلك ؟
الجواب :
التحايل للتهرّب من أداء مالٍ واجبٍ أداؤه شرعاً لا يجوز ، بل هو من الحِيَل المحرّمة شرعاً .
و الجمارك إن قرّرها وليّ الأمر المسلم لمقصدٍ شرعيٍ ؛ كدفعِ ضررٍ عام عن الأمّة ( من قبيل المجاعة و نحوها ) وجب الالتزام بأدائها عملاً بالقاعدة الفقهيّة ( يُتحمّل الضرر الخاصّ لدفع ضرر عام ) ، و أثِمَ المتهرّب من ذلك بالحيل أو الوساطة ( الوجاهة ) أو غير ذلك .
أمّا ما يُؤخذ عنوةً بغير وجه حقٍّ ، كما هو عليه الحال في نظام الجمارك المعمول به في الغرب و الدوَل التي تجاريه في قوانينها و أنظمتها ، فهو من المكوس المحرّمة ، و هي من أكبر الذنوب .
روى أبو داود و أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ » . و في رواية : ( إنّ صاحب المَكْسِ في النار ) .
و روى مسلم و أبو داود و أحمد عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم قال عن الغامديّة رضي الله عنها بعد أن تابت و رَجمها في الزنا : ( وَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ ) .
قال النووي : في هذا الحديث أن المَكس من أقبح المعاصي و الذنوب الموبقات و ذلك لكثرة مطالبات الناس له و ظلاماتهم عنده , و تكرر ذلك منه و انتهاكه للناس أخذ أموالهم بغير حقها و صرفها في غير و جهها .
فإذا كانت الضريبة المقرّرة من قبيل المكس المحرّم ( و هو كلّ ضريبةٍ لم يأذن بها الله ) فليس لأحد أن يُلزِم العباد بأدائها ، و من قدِرَ على دَفعها و التخلّص منها بطريقٍ لا تؤدّي إلى مفسدةٍ أكبر ، فله ذلك ، و لا بأس فيه إن شاء الله ، و العلم عند الله .(187/1)
أداء السنن الرواتب وصلاة التطوع
السؤال :
أداوم على صلاة السنن في المنزل ، و لكن حينما أكون في الكلية يحين وقت صلاة الظهر في فترة الراحة ، فأقوم بالاقتصار على أداء الفرض ، و أدَعُ سنته الراتبة فهل أنا مقصرة بفعل ذلك ؟ مع العلم بأني لا أجد فرصة للجلوس مع صديقاتي إلا في أثناء فترة الراحة تلك ، و أقوم بتذكيرهن بأمور دينهن أثناءها ، فهل يغني عملي هدا عن أداء الراتبة ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لا يجب على المسلم المكلف بالصلاة في اليوم و الليلة إلا الصلوات الخمس ، كما هو المعتمد عند جمهور العلماء ، و إن روي عن الإمام أبي حنيفة و غيره القول بإيجاب صلاة الوتر أيضاً ، و هذا القول ضعيف مرجوح ، فقد روى الشيخان و غيرهما و اللفظ للبخاري عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثائر الرأس فقال : يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة ) فقال : ( الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئاً ) فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة . قال : ( فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم بشرائع الإسلام ، قال : و الذي أكرمك لا أتطوع شيئاً و لا أنقص مما فرض الله علي شيئاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أفلَحَ إن صَدَق ) أو ( دَخَلَ الجنة إن صَدق ) .
و لو كان على المكلف بالصلاة صلاةٌ واجبة غير الصلوات الخمس لذكرها النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث ، لأن المقام يقتضي البيان ، و تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو مقرر عند أهل العلم ، و لما عذر الأعرابي في الاقتصار عليها ، و لما بشره بالفلاح أو دخول الجنة إن صدق في أداء الصلوات الخمس فقط و سائر الفرائض دون زيادة أو نقصان .
و لا يعني هذا التهوين من شأن النوافل عموماً ، و الرواتب ( و هي سنن الصلوات القبلية و البعدية ) خصوصاً ، بل هي مما يُندَبُ إليه و يحث عليه ، لما وعدَ الله على أدائها من الأجر الجزيل ، فقد روى مسلم و غيره عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة ) أو ( إلا بُنيَ له بيتٌ في الجنة ) .
كما أن النافلة تجبر النقص في الفريضة ، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاتُهُ ؛ فإن صلحت فقد أفلَح و أنجَح ، و إن فسَدَت فقد خاب و خسر ، فإن انتقص من فريضته شيءٌ قال الرب عز و جل : انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك ) [ رواه أصحاب السنن غير أبي داود بإسناد صحيح ] .
و عليه فيجدر بالمسلم الحفاظ على الصلوات فرائضَ و نوافلَ راتبةً و غير راتبة ، غير أنه إن فاته شيء من السنن عمداً أو بغير عمد فلا يعتبر مقصراً ، و لا يأثم بذلك ، لأنها غير مفروضة على المكلف بالصلاة ، و لكن يفوته أجرُها .
أما جلوسك إلى صديقاتك في فترة الاستراحة فهو من المباحات ، و لا شك في تقديم المستحبات من الصلاة و غيرها على المباحات ، إلا أن يكون القصد من جلوسك إليهن معمور بذكر الله و التذكير به و الدعوة إليه فهذه فضيلة يُحتَسَب الأحر عليها عند الله ، و لكن لا ينبغي أن تتخذ ذريعة لترك النوافل بالكلية ، بل أرى أن الأولى و الأجدر هو التوفيق بين الفضيلتين ، فإن تعذر التوفيق بينهما لضيق الوقت مثلاً فيحسُنُ ترجيح هذا العمل تارة و ذاك تارةً أخرى ، و الله الموفق .(188/1)
أداء القسم لمنح الجنسية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ ... 04/07/1427هـ
السؤال
أنا طالب وأعيش في كندا والحمد لله أتمتع بكامل حريتي الدينية.
ما وجدت عليه المسلمين هنا أنهم لا يتأخرون عن أداء القسم الخاص بالجنسية والذي ما معناه:
أقسم (بما تؤمن به) بأن تكون وفيًّا أو وليًّا لجلالة الملكة اليزابيث الثانية أو من ينوب عنها وأن تكون مطيعا للقانون الكندي.
على المتقدمين للجنسية (وعادة ما يكونوا مجموعة) أن يقفوا ويرفعوا أيديهم ويرددوا ما معناه خلف الموظف المسؤول.
وآخر يقول ما هو إلا ترديد شفهي إذا كان القلب مطمئناً بألا يعصي الله فيما يتعارض مع شرع الله. واستدل بفعل بعض الصحابة تقبيل رأس أحد الحكام لتخليص بعض أسرى المسلمين.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإذا كان طلبك الجنسية الكندية ضرورة لا تجد ما تصلح به ديناك إلا بها –فيجوز حينئذ أخذك هذه الجنسية، لا سيما وأنك تستطيع إظهار شعائر دينك معها، بل ربما قد تجد ما يحميك عندما يتعرض لك أحد في دينك، أو عرضك، أو مالك ما دام القانون ينص على حرية الاعتقاد. وكونك غير مجبر أن تقسم بغير الله. أما قسمك أن تكون وفيًّا للملك أو الملكة التي تحكمهم، وأن تكون مطيعاً للقانون الذي يتحاكمون إليه فإن اخترت ذلك بطوعك واختيارك فيتعين عليك حينئذ أمور منها:
1- أن تقصد في قلبك الوفاء للحاكم إذا حكم بالحق، وكذلك طاعتك للقانون بما يوافق الشرع؛ لأن معظم أوامر الحاكم ومواد القانون الوضعي ليست كلها مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية ففيها: الصدق والوفاء وإتقان العمل وعدم الاعتداء على الآخرين بغير حق والعدل والمساواة بين الناس في أمور الحياة. فهذه الأمور ونحوها كثير هي في شرعنا وتنص عليها جميع القوانين.
2- الوفاء بالعهد والبر بالقسم –وفق ما ذكر سابقاً يأمر به الدين، بل يحرم نقض العهد، ويوجب البر بالحلف ما دام في الخير وعلى الخير. قال تعالى مثنياً على الموفين بالعهد آمرًا به عامة المؤمنين أن يتعاملوا به مع الناس قاطبة مسلمهم وكافرهم فقال: " وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ..." [المعارج:32-33]. وقوله "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا" [النحل:91]. وقوله تعالى: "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا" [الإسراء:34]. وعاب الله على المنافقين أن يظهروا ما لا يبطنون "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" [الصف:2-3] ولما أسر المشركون يوم (بدر) حذيفة بن اليمان ووالده، ثم أطلقوهما بعد أن أخذوا منهما عهداً ألا يقاتلا مع محمد -صلى الله عليه وسلم- جاءا، فأخبرا- الرسول –صلى الله عليه وسلم- فقال مانعاً لهما أن يقاتلا معه؛ وفاءً بما عاهدا عليه. فقال: "نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم" صحيح مسلم (1787) وفي لفظ: "أوفوا لهم بالعهد واستعينوا الله عليهم".
وقصة أبي جندل يوم الحديبية بين الرسول –صلى الله عليه وسلم- وسهيل بن عمرو -مندوب المشركين- واضحة وصريحة حيث قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهداً، وإنا لن نغدر بهم". انظر مسند أحمد (18152)، وصحيح البخاري (2734).
3- وبناء على هذا يجوز لك القسم ما دمت معتقداً في قلبك بطلان عقيدة الكفر، وقلبك مطمئن بالإيمان. ويتعين عليك في مثل هذا الحال أن تحلف بالله، لا بالمسيح، ولا بأحد من المخلوقين. وفي وسعك أن تصمت أثناء أداء القسم ما دام جماعياً –إن كان ذلك في مكنتك. والله أعلم.(189/1)
أدب الأطفال
بقلم: محمد الحسناوي
hisnawi@odabasham.org
هل عندنا أدب للأطفال ؟ الجواب بأمانة : ليس عندنا أدب للأطفال . وفي البحث عن السبب تواجهنا
حقيقتان . أولاهما : جهلنا أو تجاهلنا لأهمية ( الطفولة ) . ثانيتهما : استخفافنا بأدب الأطفال أولاً وأخيراً .
أما أهمية الطفولة فقد أكدها الإسلام الحنيف ، وكشف عنها العلم الحديث ، لا سيما علم النفس ، حيث تُرسى أسس الشخصية للإنسان في طفولته المبكرة .. يتلقى عفوياً قيم الأخلاق والعادات والمعتقدات عن والديه وعن البيئة الصغيرة المحيطة به .. كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه . وفي حديث شريف آخر : تخيروا لنطفكم ، فإن العرق دسَاس .
ومن علامات الاستخفاف بأدب الأطفال خلوّ أدبنا القديم من أدب الأطفال إلا ما ندر أو جاء في سياق ( ترقيص الأطفال ) من أراجيز جاهلية وإسلامية ، وما زال هذا الاستخفاف ساري المفعول حتى يومنا هذا .
ربما كان أمير الشعراء أحمد شوقي أول من افتتح هذا الباب حين نظم عدداً من القصائد عن الحيوانات ، وربما كان الأديبان كامل كيلاني وعبد التواب يوسف أبرز الأدباء الذين تفرغوا كلية لأدب الأطفال لاسيما الفن القصصي ، ولكن هل بلغت شهرة هؤلاء وتفوقهم مبلغ ما وصلت إليه شهرة كل من ( لافونتين) و( الأخوين غرين ) في الأدب الغربي و( طاغور ) في الأدب الشرقي ؟
نحن نشهد اليوم إقبالاً على إنتاج أدب الأطفال في ظهور مجلات الأطفال وتخصيص برامج لهم في الإذاعة والتلفاز والأشرطة السمعية والمرئية على حدّ سواء ، بل نشهد توجه أدباء كبار إلى هذا الفن الخطير المفقود ، فقد كتب الشهيد سيد قطب وزميله عبد الحميد جودت السحار ( سلسلة القصص الديني ) للأطفال ، ثم ازداد هذا الإقبال مؤخراً حجماً ونوعاً .
بقي أن نقول كلمة أخيرة في أدب الأطفال ، وهي أن هذا الأدب ليس بالسهولة التي يظنها( المتعجلون ) .
إن لكل مرحلة من عمر الإنسان خصائصها النفسية والاجتماعية ، وإن عالم ( الطفولة ) .. عالم زاخر بما يشبه السحر والألغاز والأخيلة العجيبة في بواكيره ، وبروح البطولة والمغامرة في أواخره ، هذا من حيث الإجمال ، أما من حيث التفصيل ، فإن الثراء والتنوع يبلغان في حياة الطفل وخياله حدّاً لا يدركه إلا الموهوبون ، والمستفيدون من معطيات علم النفس الحديث ومن الثقافة الإسلامية الصافية .
فلنرحب بأدب الأطفال ، ولنشكر أدباءه الموهوبين في مضماره ، ولنطمئن إلى أن ساحة من الساحات سوف تستكمل حاجاتها الجميلة المنشودة في أمد نرجو ألاّ يطول انتظاره ..(190/1)
أدب الاختلاف
الشيخ /عبد الله بن بيه وزير العدل الموريتاني سابقاً عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز–جدة 23/7/1424
20/09/2003
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ، وبعد
فهذه ورقة عن أدب الاختلاف مقدمة إلى المؤتمر لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة جمادى الآخرة 1422هـ. تشتمل هذه الورقة على مقدمة عن معنى الاختلاف والخلاف ،والباعث على تقديم هذه الورقة ، نتعرض فيها للعناوين التالية :-
1 – تأصيل الألفة والجماعة .
2- تأصيل الاختلاف بين أهل الحق وتسويغه .
3- أقوال العلماء في الاختلاف.
4- آداب الاختلاف .
5- أسباب الاختلاف .
-خاتمة .
مقدمة:
الاختلاف هو التباين في الرأي والمغايرة في الطرح وقد ورد فعل الاختلاف كثيراً في القرآن الكريم قتا تعالى:{ فاختلف الأحزاب من بينهم } (مريم) ،وقال تعالى:{ يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون }(البقرة) ،وقال تعالى:{ و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات }(البقرة) ،وقال تعالى:{ وما اختلفتم فيه من شيء... } (الجاثية).
أما الخلاف فهو مصدر من خالف إذا عارضه ،قال تعالى:{ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } (هود) ،وقال تعالى:{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره }(النور).
وجاء بصيغة المصدر قال تعالى{ لا يلبثون خلافك إلا قليلاً } (الإسراء) ،وقال تعالى{ وأرجلهم من خلاف} (المائدة).
والاختلاف قد يوحي بشيء من التكامل والتناغم كما في قوله تعالى { فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها } (فاطر).
وأما الخلاف فإنه لا يوحي بذلك وينصب الاختلاف غالباً على الرأي اختلف فلان مع فلان في كذا والخلاف ينصب على الشخص.
ثم إن الاختلاف لا يدل على القطيعة بل قد يدل على بداية الحوار فإن ابن مسعود اختلف مع أمير المؤمنين عثمان في مسألة إتمام الصلاة في سفر الحج ولكنه لم يخالف بل أتم معه وقال : الخلاف شر.
قد يدل الخلاف على القطيعة.
هذا الإيحاءات والظلال جعلتنا نفضل كلمة الاختلاف التي قد تكون مقدمة للتفاهم والتكامل على كلمة الخلاف وإن كان العلماء يستعملون كلتا الكلمتين لتأدية نفس المعنى باعتبارهما من المترادف فتتعاوران وتتعاقبان .
الكلمات ذات العلاقة :
هناك كلمات قوية في دلالتها على اشتداد الخلاف كالنزاع والشقاق وهو الوقوف في شق أي في جانب يقابل ويضاد الجانب الآخر.
الاختلاف ظاهرة لا يمكن تحاشيها باعتبارها مظهراً من مظاهر الإرادة التي ركبت في الإنسان إذ الإرادة بالضرورة يؤديان إلى وقوع الاختلاف والتفاوت في الرأي.
وقد انتبه لذلك العلامة ابن القيم عندما يقول : "وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بغضهم على بغض وعدوانه" ( إعلام الموقعين)
فإن الشقاق يمكن تفاديه بالحوار الذي من شأنه أن يقدم البدائل العديدة لتجنب مأزق الاصطدام في زاوية الشقاق.
ونحن في ورقتنا هذه إنما نبحث عن البدائل انطلاقاً من الشريعة الإسلامية نصوصاً ومقاصد وأصولاً وفروعاً وتطبيقات بنماذج تاريخية .
الباعث : إن الباعث على هذه الورقة هو ملاحظة لا تعزب عن بال أحد بل لا تغرب عن حواسه تتمثل في اختلاف كثير تصديقا لقوله عليه الصلاة والسلام { وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً } .
وهو اختلاف انتشر في الأمة أفقيًا وعمودياً في كل الفئات وعلى مختلف المستويات. تعددت أسبابه وتنوعت ألوانه واستعلمت فيه كل الوسائل من تكفير وتفسيق وتبديع وتشويه وتسفيه وما شئت من مصدر على وزن تفعيل.
وأستعمل فيه الخصوم كل أدوات الدفاع والهجوم وضاقت بالحياد فيه الأرض بما رحبت فالكل متهم والكل براء وأعجز داء الأمة الدواء فحضر الشهود إلا شاهد العقل واستحضرت الحجج إلا حجة الإنصاف ( وما أبرئ نفسي ).
ونحن هنا لا نحاول إصدار فتاوى في مسائل الاختلاف ولا تحضير بلسم سحري يبرء الأوصاب لأن ذلك ليس في مقدورنا ولا في طاقتنا فقد نتكلف شططاً ونكلفكم عناء وعنتا لو حاولنا ذلك ، وقد يكون من المفارقات أن أطلب من الآخرين التواضع والنسبية في الحكم ، وفي الوقت نفسه أصدر أحكامه باتة في قضاياهم.
إن محاولتنا تعنى بحثاً عن كيفية تعقيل أو عقلنة جدلنا وتنظيم اختلافاتنا وترتيب درجات سلم أولوياتنا وتحسين نياتنا وإرادتنا على ضوء ما يستخلص من نصوص شرعية حاكمة وآثار عن السلف شارحة وممارسات رشيدة هادية. إذ من شأن ذلك أن يقلل من الخلاف أو ينزع فتيل ناره لتصبح بردًا وسلاماً.(191/1)
يقول العلامة ابن القيم : " فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباس والتحري وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية لأنه إذا كان الأصل واحدا والغاية المطلوبة واحدة والطريقة المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف وإن وقع كان اختلافًا لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة ) (الصواعق المرسلة ج 2 ص 519 )
كيف نجعل اختلافنا من هذا النوع الذي أشار إليه ابن القيم ؟ فإذا ذلك غرضنا فلننتقل إلى تأصيل أهمية الألفة وإصلاح ذات البين.
#
تأصيل الألفة والاعتصام بحبل الجماعة :
#
إنه من المعلوم ضرورة من الذين قال تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}،{ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم }.قوتكم وجماعتكم ونصركم.
{ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البيانات}،{أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}.
أوامر بالاعتصام بحبل الله تعالى وإقامة دينه مقرونة بنواه عن التفرق والنزاع مع التنبيه إلى النتائج الحتمية المتمثلة في الفشل الذي يعنى العجز عن الوصول إلى غاية معينة وهنا فشل الأمة وعجزها عن القيام بوظيفتها في هداية البشر والخلافة الراشدة في الأرض { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم }.
وقد بين عليه الصلاة والسلام ذلك خير بيان ، وهو المبين للذكر المبلغ للوحي في نواه صريحة " لا تقاطعوا وتدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً "
إصلاح ذات البين :
{ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } ،{ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا ذات بينهما } ، { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم } وحديث " ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله تعالى " أخرجه مسلم من حديث أنس وفي حديث أبي هريرة " لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا " وخرج أحمد وأبوداود والترمذي من حديث أبي الدرداء عنه عليه السلام { ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة { والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا }.
وفي ثاني خطبة له بالمدينة بعد الهجرة كما يروى ابن إسحاق دعا إلى حب الله تعالى قائلاً : أحبوا ما أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم " ثم دعا المسلمين إلى الحب فيما بينهم قائلاً : وتحابوا بروح الله بينكم "
استخلص العلماء رحمهم الله تعالى من ذلك أن الجماعة والألفة أصل من أصول الدين يضحى في سبيله بالفروع.
عبر عنه خير تعبير ابن تيمية حيث يقول : "الاعتصام بالجماعة والألفة أصل من أصول الدين والفرع المتنازع من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع"( 22 ص 254 ).وهو كلام صحيح فيه فقه وبصر بأحكام الشرع ولقد اعتذر نبي الله هارون لأخيه موسى عليهما السلام- في عدم اتباعه له عندما عبد بنو إسرائيل العجل بالمحافظة على وحدة بني إسرائيل فلو تفرقوا لحملتني مسئولية ذلك:{ يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري قال يابنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي }.
تسويغ الاختلاف :
إن الاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع ، وما دام في حدود الشريعة وضوابطها فإنه لا يكون مذموماً بل يكون ممدوحاً ومصدراً من مصادر الإثراء الفكري ووسيلة للوصول إلى القرار الصائب ، وما مبدأ الشورى الذي قرره الإسلام إلا تشريعاً لهذا الاختلاف الحميد { وشاورهم في الأمر } فكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشيروا أصحابه ويستمع إلى آرائهم وتختلف وجهات نظرهم في تقرير المضي في حملة بدر ونتائج المعركة وكان الاختلاف من الموقف من الأسرى.
فعندما استشار في المضي فدماً لنزال المشركين بعد أن تبين كثرة جيوشهم بالنسبة للمسلمين وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينصت إليهم وما ليم أحد على رأي أبداه أو موقف تبناه وما تعصب منهم أحد ولا تحزب بل كان الحق غايتهم والمصلحة رائدهم.
وقد يقر النبي صلى الله عليه وسلم كلاً من المختلفين على رأيه الخاص ، وبدون أن يبدي أي اعتراض أو ترجيح.
كما في مسألة أمره عليه الصلاة والسلام بصلاة العصر في بني قريظة فقد صلاها بعضهم بالمدينة ولم يصلها العض الآخر إلا وقت صلاة العشاء ، ولم يعنف أحداً منهم كما جاء في الصحيحين.
وفي السفر كان منهم المفطر والصائم . وما عاب أحد على أحد كما جاء في الصحيح حتى في الاختلاف في القراءة في حديث ابن مسعود
إنها التربية النبوية للصحابة ليتصرفوا داخل دائرة الشريعة حسب جهدهم طبقاً لاجتهادهم.
وبعده عليه الصلاة والسلام كانت بينهم اختلافات حسمت أحيانا كثيرة بالاتفاق كما في اختلافهم حول الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم.(191/2)
وكما في اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة وحول جمع القرآن الكريم ورجوع عمر إلى قل علي مسألة المنكوحة في العدة
وتارة يبقى الطرفان على موقفهما وهما في غاية الاحترام لبعضهما البعض.
قصة عمر مع ربيعة بن عياش
قصة الأرض الخراجية
قصة عائشة وابن عباس في رؤيته عليه الصلاة والسلام للباري جل وعلا.
وبين عائشة وبين الصحابة في سماع الموتى
وبين عمر وبين فاطمة بنت قيس في مسألة سكنى المبتوتة ونفقتها وابن مسعود وأبي موسى الأشعري في مسألة إرضاع الكبير.
وأبو هريرة وابن عباس في الوضوء مما مست النار.
واختلاف عمر مع أبي عبيدة في دخول الأرض التي بها وباء.
ويدخل التابعون في بعض الأحيان في حلبة الخلاف كأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مع ابن عباس في عدة الحامل المتوفى عنها.
وتقف عائشة إلى جانب ابن عباس قائلة لأبي سلمة إنما أنت فروج – رأى الديكة تصيح فصاح – معتبرة أنه لم يبلع بعد درجة الاجتهاد ولكن الأمر لا يتجاوز ذلك.
وموضوعات الخلاف كثيرة جداً ولكنها تحسم بالتراضي إما بالرجوع إلى رأي البعض ، ويسجل لعمر رضي الله عنه كثرة رجوعه إلى آراء أخوته من الصحابة واعترافه أمام الملأ وتأصيله القاعدة الذهبية وهي : " أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد " وهي قاعدة تبناها العلماء فيما بعد فأمضوا أحكام القضاة التي تخالف رأيهم واجتهادهم حرصاً على مصلحة إنهاء الخصومات وحسم المنازعات وهي مصلحة مقدمة في سلم الأوليات على الرأي المخالف الذي قد يكون صاحبه مقتنعا به.
أقوال العلماء في الاختلاف :-
يقول الحافظ بن رجب : (ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم وكل منهم يظن أنه يبغض لله وقد يكون في نفس الأمر معذوراً وقد لا يكون معذوراً بل يكون متبعاً لهواه مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض فإن كثيراً كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق وهذا الظن قد يخطئ ويصيب وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة أو العادة وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله فالواجب على المسلم أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم.
وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيراً من أئمة الدين قد يقول قولاً مرجوحاً ويكون فيه مجتهداً مأجوراً على اجتهاده فيه موضوعاً عنه خطؤه فيه ولا يكون المنتصر لمقاتلته تلك بمنزلته في هذه الدرجة لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك فإن متبوعه إنما كان قصد الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده.
وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظن أنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه لا ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصده الانتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. )
انتهى كلام الحافظ وهم كلام في غاية الفضل.
قال الشافعي : " ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة "
وقال : "ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته" – قواعد الأحكام
رفض مالك حمل الناس على الموطأ !
قال مالك للخليفة العباسي – حينما أرد حمل الناس على الموطأ وهو كتاب مالك وخلاصة اختياره في الحديث والفقه – لا تفعل يا أمير المؤمنين معتبراً أن لكل قطر علماءه وآراءه الفقهية فرجع الخليفة عن موقفه بسبب هذا الموقف الرفيع من مالك في احترام رأي المخالف وإفساح المجال له.
قالت عائشة عن بعض الصحابة وقد اختلفت معه : أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ.
كان الذهبي مثل العالم المتفتح المنصف .
فقد قال الذهبي عن الشيخ عبد الستار المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى : "أنه قل من سمع منه لأنه كان فيه زعارة وكان فيه غلو في السنة " وقال عنه : "وعني بالسنة وجمع فيها وناظر الخصوم وكفرهم وكان صاحب حزبية وتحرق على الأشعرية فرموه بالتجسيم ثم كان منابذاً لأصحابه الحنابلة وفيه شراسة أخلاق مع صلاح ودين يابس."
اعتبر الذهبي ذلك حزبية.
وقال الذهبي عن القاضي أبي بكر بن العربي : "لم ينصف القاضي أبو بكر رحمه الله شيخ أبيه في العلم ولا تكلم فيه بالقسط وبالغ في الاستخفاف به وأبو بكر على عظمته في العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد ولا يكاد فرحمهما الله وغفر لهما".
وكان الذهبي يثني ثناء عاطراً على تقي الدين السبكي مع أنه شيخ الأشاعرة الذي كان بينه وبين شيخه الشيخ تقي الدين بن تيمية من الخلاف ما هو معروف. ثم يتعذر الذهبي عن الظاهرية قائلاً : " ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني وتندر مخالفتهم الإجماع القطعي ".
ثم ذكر أنهم ليسوا خارجين عن الدين.(191/3)
وقال عنهم : "وفي الجملة فداود بن علي بصير بالفقه عالم بالقرآن حافظ للأثر رأس المعرفة من أوعية العلم له ذكاء خارق وفيه دين متين وكذلك فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر وذكاء قوي فالكمال عزيز والله الموفق".
ويقول الذهبي :"ونحن نحكي قول ابن عباس في المتعة وفي الصرف وفي إنكار العول وقول طائفة من الصحابة في ترك الغسل من الإيلاج بغير إنزال وأشباه ذلك ولا يجوز تقليدهم في ذلك ".
وقال : " كل فرقة تتعجب من الأخرى ونرجو لكل من بذل جهده في تطلب الحق أن يغفر له من هذه الأمة المرحومة ".
ويقول ابن تيمية : " وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا علن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله ".
وقال أيضاً : " الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع ". ( الفتاوى 22 – 254 )
المعاداة بين المختلفين في الاجتهاد اتباع للهوى :
يدخل الخلل في الموالاة والمعاداة حين يكون الاتباع للهوى وحيثما وجد التفرق كان مبعثه الهوى لأن أصل الاختلاف الاجتهادي لا يقتضي الفرقة والعداوة وقد جعل الشاطبي هذا الأصل مقياساً لضبط ما هو من أمر الدين وما ليس منه فقال : ( فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلفت الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في في شيء وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها.. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك بحدث أحدثوه من اتباع الهوى وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين ).
ووصف الشيخ تقي الدين بن تيمية من يوالى موافقه ويعادي مخالفه ويكفر ويفسق مخالفه دون موافقة في مسائل الآراء والاجتهادات ويستحل قتال مخالفة بأنه من أهل التفرق والاختلاف ( الفتاوى 7- 349 )
ويرى ابن تيمية ترك بعض المستحبات تأليفاً قائلاً : " لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب ".
وأنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متماً وقال الخلاف شر. ( الفتاوى 22 – 407 )
رأي النووي في الطائفة المتصورة : " ويحتمل أن هذه الطائفة تفرقت بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من أهل الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض في أقطار الأرض ".
ويقول الذهبي في ميزان الاعتدال من ترجمة الحافظ أبي نعيم الأصفهاني : "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيما إذا لا ح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله وما عملت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين".
قال أحمد: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفان في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا ".
آداب عامة ينبغي للمختلفين أن يراعوها ليعذر بعضهم بعضاً :-
1-العذر بالجهل !
يقول ابن تيمية : وكثير من المؤمنين قد يجهل هذا فلا يكون كافرا ( 11-411 )
وفي حديث ابن ماجة عن حذيفة " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها فيقول صلة بن زفر لحذيفة راوي الحديث ما تغنى عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة ؟ فأعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال يا صلة تنجيهم من النار. ثلاثاً " رواه الحاكم
وقد وقع في الديار الشيوعية وأيام سقوط الأندلس أشياء من هذا القبيل والله المستعان.
2 – العذر بالاجتهاد :
يقول ابن تيمية أعذار الأئمة في الاجتهاد فليس أحد منهم يخالف حديثاً صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عمدا فلا بد له من عذر في تركه مضيفا : وجميع الأعذار ثلاثة أصناف أحدها : عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله والثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك والثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ ( 20- 232 )
وعذر المقلد من نوع عذر الجاهل يقول ابن عبد البر : ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ( جامع بيان العلم وفضله )
ويقول ابن تيمية : وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور 19 – 262 )(191/4)
ويقول ابن القيم : فالعامي لا مذهب له لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال.
3- العذر باختلاف العلماء :
عدم الإنكار في مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد يقول ابن القيم : إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلدا. ( إعلام الموقعين 3 – 365 )
ويقول العز بن عبد السلام : من أتى شيئاً مختلفاً في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا ( قواعد الأحكام 1-109 ) قال إمام الحرمين : ثم ليس للمجتهد أن يعترض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موقع الخلاف إذ كل مجتهد في الفروع مصيب عندنا ومن قال إن المصيب واحد فهو غير متعين عنده فيمتنع زجر أحد المجتهدين الآخر على المذهبين ( الإرشاد ص 312 )
4- الرفق في التعامل :-
والرفق أصل من أصول الدعوة ومبدأ من مبادئ الشريعة ففي حديث الرجل الذي بال في المسجد وزجره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم عليه الصلاة والسلام قائلاً : لا تزمروه – أي لا تقطعوا بوله – وأتبعوه ذنوبا من ماء وقال للرجل إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذه القاذورات.
وحديث خوات بن جبير رضي الله عنه حين راءاه مع نسوة فقال ماذا تبغي هاهنا قال التمس بعيراً لي شاردا . ثم حسن إسلامه وخلصت توبته فمازحه عليه الصلاة والسلام قائلا : ماذا فعل بعيرك الشارد قال : قيده الإسلام يا رسول الله .
وحديث الأعرابي الذي أعطاه فقال له أحسنت عليك فقال كلاما غير لائق فهم به الصحابة فنهاهم عليه الصلاة والسلام وأدخله في البيت فأعطاه ثم خرج به وقال هل أحسنت فقال أحسنت علي وفعلت وفعلت فضحك عليه الصلاة والسلام وضرب مثلاً بصاحب الراحلة الشاردة.
5- أن لا يتكلم بغير علم قال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } لا بد من الإحاطة بما في المسألة قبل أن تخالف .
قل للذي يدعى علما ومعرفة ... ...
علمت شيئا وغابت عنك أشياء
فالعلم ذو كثرة في الصحف منتشر ... ...
وأنت يا خل لم تستكمل الصحفا
6-أدب مراعاة المصالح الشرعية في الإنكار فإذا كان النهي سيؤدي إلى مفسدة أكبر أو سيضيع مصلحة أعظم فلا نهي ولا أمر ويفصل ابن تيمية ذلك في الفتاوى (20/58)
ولو كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ولم يمكن منعهم منه ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه ( 14/472)
فحيث كانت المفسدة للأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجبا وفعل محرما إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباد الله وليس عليه هداهم . الاستقامة (2/211)
وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون فيكون ذلك من ذنوبهم وينكر عليه آخرون إنكاراً منهياً عنه فيكون ذلك من ذنوبهم فيحصل التفرق والاختلاف والشر وهذا من أعظم الفتن والشرور قديماً وحديثاً إذ الإنسان ظلوم جهول (26/142)
ولكن ما هي أسباب هذا الاختلاف؟
إنها أسباب موضوعية ترجع إلى بلوغ الأخبار والآثار إلى العلماء والقواعد التي يلتزم بها العالم في تصحيح وتضعيف الأخبار وبالتالي مسألة اختيار معايير التعامل مع السنة وقرائن نسخ الأخبار وإحكامها.
وإلى اللغة وضوحا وجلاء وغموضا وخفاء كما هو مفصل في كتب أصول الفقه في أبواب دلالات الألفاظ كعموم النصوص وخصوصها وظهورها وتأويلها ومجملها ومبينها .
كما يرجع الاختلاف إلى الأدلة المتعلقة بمعقول النص ومقاصد الأحكام كأنواع القياس والمصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع.
كما يرجع الاختلاف إلى الأعراف المعتبرة وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والموازنة بين المصالح والمفاسد.
فهذه العناوين الأربعة يرجع إليها اختلاف العلماء.
وفي الختام
فإنه لا بد من إحياء روح التسامح في الأمة فتتجنب التباغض وبث روح الأخوة والمودة بين المسلمين في أنحاء العالم
ولا بد من تأكيد أدب الاختلاف وتجنب سلبيات الخلاف .
-لا بد من التأكيد على أن للاختلاف أسباباً موضوعية مشروعة ووجيهة يجب إبرازها واستثمارها لرأب الصدع وإصلاح ذات البين.
والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.(191/5)
أدب الخلاف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد :
فإن الناظر الآن لحال الصفوة من هذه الأمة؛ من علماء وطلبة علم ومشايخ ودعاة وقصاص وواعظين؛ يرى أن القاسم المشترك بين الجميع إلا ما رحم ربي هو الخلاف, وأصبح الأصل هو الدعوة إلى الخلاف والتنديد والتحذير من المخالف.
حتى أصبح هَمُّ كثير من الشباب المتعثر في أول الطريق البحث عن العثرات, يخال أو يظن أن هتك ستر المخالف أصل؛ فإن لم يلتزم به الطالب المبتدئ فهو من المفرطين, وقد يتراءى للبعض أنه من الضالين, فأصبحت المجالس عامرة بذكر المخالف, قل أن يخلو مجلس إلا وفيه ذكر سقطة, أو إشارة إلى كبوة, أو تعريض بكلمة أو غمزة !!!
وهذا كله مع المخالف وقد يكون المخالف من أهل السنة والجماعة, ومن أهل العلم العاملين, وقد يكون من العُبَّاد الصالحين, بينما لا يبدي المتكلم مجرد نصيحة للموافق؛ حتى ولو أتى بكل منقصة وتعدى كل حد! حتى أن البعض بعد فترة من الزمان يشعر بملل من كثرة الكلام, أو سماع الكلام الذي يجلب على القلب الران, فينحرف عن الطريق.
ويجب أن نعلم أن الأصل هو الاتفاق لا الافتراق, والاتحاد لا التفكك , والاعتصام لا التشرذم.
قال تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 92] .
وقال تعالى :{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 105]
وقد حذرنا سبحانه وتعالى من متابعة الأمم الماضية في أسباب اختلافهم وهو نسيان حظ مما ذكروا به.
كما قال تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة: 213]
فقال تعالى عن اليهود : {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة : 13]
وقال تعالى عن النصارى :{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [المائدة: 14]
وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ . (رواه مسلم)
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخلاف والنزاع هو سبب الهلاك ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ . (رواه مسلم)
ولكن مشيئة الله - سبحانه وتعالى - قد اقتضت أن تتفاوت العقول ، وتتباين المدارك ؛ مما يؤدي إلى تعدد الآراء والاجتهادات ، وإن كان الخلاف من سنن الله الكونية كما قال تعالى : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [هود: 118 - 119].
إلا أن الإرادة الشرعية في الاتفاق والاتحاد كما قال تعالى : {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران: 103]
ويجب أن نعلم أن الخلاف الذي يقع بين الأمة ينقسم إلى قسمين :(192/1)
الأول : اختلافٌ الأصل فيه حسن النية وعدم قصد الخلاف, ولكنه وقع عن تتبع وتحري للنصوص, فاجتهد فأخطأ, وهذا لا يكون في الأصول, ولكن في الفروع والجزئيات التي يسوغ فيها الاجتهاد والخلاف .... فهذا قد يعذر ما لم يكن أصل الخلاف الهوى والحيدة عن الدليل, أو لي النصوص بما لا يحتمل التأويل .
والثاني : اختلافٌ الأصل فيه الهوى وعدم إتباع الدليل’ وإخراج النصوص على غير مجراها واستعمالها في غير مواضعها, والإتيان بفهم لم يسبق إليه أو جارى فيه أهل الأهواء على مختلف الزمان أو المكان, فهذا الذي يجب الإنكار عليه ورده إلى الحق والصواب لمن كانت له منعة, أو البعد والأعراض عنه مع التحذير وبيان مسالكه التي ساقه فيها الهوى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وربما البعض يخلط في الخلاف بين الصورتين وعمم الأمر على الطائفتين وهذا مخالف لنهج السلف رضي الله عنهم في التحذير من أهل الأهواء .
فقد ورد من الوعيد والتنديد بأصحاب الأهواء مالا يحصى كما قال تعالى : {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } [آل عمران: 7]
بل قد حذر الله رسله من الهوى كما قال تعالى {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [ص: 26]
وقال تعالى عن مسالكهم في اتباع النصوص : { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 48 - 50]
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع الهوى.
عَنْ أَبِي عَامِرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لُحَيٍّ قَالَ حَجَجْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَامَ حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الظُّهْرِ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً يَعْنِي الْأَهْوَاءَ كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَغَيْرُكُمْ مِنْ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ لَا يَقُومَ بِهِ. (رواه أبو داود وأحمد)
عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ . (رواه الترمذي)
وما ورد عن الصحابة والتابعين
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ وَقَبْضُهُ أَنْ يَذْهَبَ أَهْلُهُ أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ وَالتَّعَمُّقَ وَالْبِدَعَ وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ. (رواه الدارمي)(192/2)
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ إِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ أَهْلُ الضَّلَالَةِ وَلَا أَرَى مَصِيرَهُمْ إِلَّا النَّارَ فَجَرِّبْهُمْ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَنْتَحِلُ قَوْلًا أَوْ قَالَ حَدِيثًا فَيَتَنَاهَى بِهِ الْأَمْرُ دُونَ السَّيْفِ وَإِنَّ النِّفَاقَ كَانَ ضُرُوبًا ثُمَّ تَلَا { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ } فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ وَاجْتَمَعُوا فِي الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ وَاجْتَمَعُوا فِي السَّيْفِ وَلَا أَرَى مَصِيرَهُمْ إِلَّا النَّارَ قَالَ حَمَّادٌ ثُمَّ قَالَ أَيُّوبُ عِنْدَ ذَا الْحَدِيثِ وَكَانَ وَاللَّهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ ذَوِي الْأَلْبَابِ يَعْنِي أَبَا قِلَابَةَ. (رواه الدارمي)
ولكن كيف يعالج هذا الخلاف الذي دب واستشرى بين خواص الأمة ؟ وكيف نتعامل معه ؟ فهذا أمر خطير جدير بالبحث والمناقشة لإيجاد الحلول لا لنزيد المصيبة إلى أكبر ، وذلك أن الأمة قد ابتليت على مدار التاريخ بصور من الخلاف وكان لأهل السنة وعلمائهم السبق في فض النزاع وبيان أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف .
فقد وصل الحال ببعض الحنفية أن يأبوا أن يزوجوا بناتهم من الشافعية أو يتزوجوا هم من نسائهم ؛ وذلك لأن الشافعية يُجوّزون أن يستثنى المرء في إيمانه ، فيقول : أنا مؤمن - إن شاء الله - ، وهذا عند الحنفية غير جائز ، ثم تساهل بعضهم فقالوا : لا بأس أن نعامل الشافعية معاملة أهل الكتاب فنتزوج نساءهم ولا نزوجهم نساءنا .
أما العامة فحدّث عن تعصبهم لأئمتهم ولا حرج ، وقد ذكر الشيخ رضا في تقدمته لكتاب ( المغني ) : " أنه علم أن أفغانياً حنفياً كسر سبابة رجل كان يصلي إلى جواره ؛ لأنه وجده يُشير بها في التشهد " ، ولقد كان الناس في بعض البلدان إلى عهد قريب يصلون في المسجد الواحد أربع جماعات ، لكل مذهب جماعة وإمام .
وهذا قطرة من فيض, والذي ينظر إلى ابتلاء الأئمة على يدي المخالف يرى العجب العجاب.
فهذا الإمام ابن جرير الطبري-صاحب التفسير- لما خالف مذهب الإمام أحمد في بغداد قام عليه الحنابلة, ورشقوا داره بالحجارة حتى امتلأ فناء البيت, ولما مات رحمه الله حالوا بينه وبين دفنه وما دفن إلا في ساحة بيته, وقد يسر الله من يصلي عليه بعد موته شهورا ليلا ونهارا من أنحاء الدنيا.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قام عليه متعصبة الأحناف فما زالوا يغرون بالحكام حتى حبس ومات في حبسه رحمه الله ..وكانت جنازته يضرب بها المثل في العدد والكثرة.
وهذا ابن الوزير علامة اليمن ما زالت متعصبي الشيعة يغرون به حتى اعتزل في شعف الجبال وبطون الأودية.
ومن شعره في ذلك:
فَحِينًا بِطَوْدٍ تُمْطِرُ السُّحْبُ iiدُونَهُ
أَشَمَّ مَنيفٍ بالغمامِ iiمُؤزَّرُ
وحِينًا بِشِعْبِ بَطْنِ وَادٍ iiكَأَنَّهُ
حَشَا قَلَمٍ تُمْسِي بِهِ الطَّيرُ iiتَصْفِرُ
أُجَاوِرُ فِي أَرْجَائِهِ البُومُ iiوالقَطَا
فَجِيرَتُها لِلمَرءِ أَوْلَى iiوَأَجْدَرُ
هُنَالِك يَصْفو لِي مِن العَيشِ iiوِرْدُهُ
وَإِلَّا فَورْدُ العَيْشِ رَنْقٌ iiمُكَدَّرُ
فَإِنْ يَبِستْ ثَمَّ المراعِي وَأجْدَبَتْ
فَرَوضُ العُلا والعِلْم والدِّين أَخْضَرُ
والقضية إلى الآن لم تنته بعد ، بل نكاد نقول : إنه يوشك أن يحل محل هذا التعصب المذهبي تعصب من نوع آخر ، ذلك أن الكثيرين من أبناء هذه الصفوة لما نبذوا التقليد المذهبي الأعمى ، فإنهم يعتبرون ما وصلوا إليه من آراء في مسائل الفقه والأحكام والاجتهاد وغيره، يعتبرونه الحق الذي ما بعده إلا الضّلال, وعلى سبيل المثال: "العمل الجماعي" ومفهومه عند الطوائف المختلفة, قد تراه أصل في الخلاف حتى يسأل السائل عن شيخ هل يرى العمل الجماعي أم لا وربما المسئول لا يعرف ما هو المراد!! فقد لا يعرف ما هو العمل الجماعي أو العمل الفردي !! وقد ينكرون على من خالفهم في ذلك, بل ربما أتباعهم ومحبيهم يروجون هذه المسائل وهذه الاجتهادات على أنها أصول لا تخالف ، وما نُريد هنا أن نسلك مسلك المغالين في رفض الأقوال أو قبولها وهل هذا محق أم هذا مخطأ!! ولكن نريد أن نوضح لإخواننا كيف كان السلف يختلفون وكيف كانوا مع المخالف يتعاملون وأعنى هنا الخلاف الذي يعذر صاحبه .
وأريد أن أوجه سؤالاً: هل هذه المسائل الخلافية التي لم يُسبق إليها، هل دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم؟! أو دعا إليها الصحابة رضي الله عنهم؟! أو دعا إليها العلماء؟! فما وقف عنده الأول نقف وما عبروه وتعدوه لا نتحجر عنده.
أدب الخلاف من خلال كتاب الله(192/3)
ففي قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الحجرات: 2]
وتفصيل ذلك ما رواه البخاري :
عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ وَأَشَارَ الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِعٌ لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي قَالَ مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ } الْآيَةَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ.
فإننا نلمح في كتاب الله - عز وجل - إشارات إلى أدب الخلاف وهذا النص يوضّح لنا كيف نختلف في الرأي ومع ذلك لا يعتدي بعضنا على بعض ، ولا ترتفع أصواتنا عند الخلاف فكيف بمن بدع وجدع -والله المستعان.
وفي قوله تعالى:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5]
وكانوا قد اختلفوا في قطع الأشجار ، فقطع قوم وترك آخرون ، فجاء القرآن مُقراً لكليهما غير مُعنف لأي منهما .
ومن ذلك قوله تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [الأنبياء: 78 - 79] . . فخص سليمان بالفهم ، وأثنى عليهما بالحكم والعلم ، ومن هذين النصين نستخلص : أن القرآن الكريم يذكر طائفتين اختلفا ، ومع ذلك لا يذمّ واحدة منهما ؛ ليعلّمنا أنه في مثل هذه الأمور ينبغي أن يقرّ بعضنا بعضاً . وفي قصة سليمان وداود ما يشير - والله أعلم - إلى أن الرأيين ليسا متساويين ، بل حكم سليمان أصوب ؛ لأنه خص بالفهم ، ومع ذلك أثنى عليهما جميعاً بالحكم والعلم .
أدب الخلاف في السنة النبوية
وقد نجد في سنة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ما يعلّمنا أدب الخلاف - أيضاً - ، فمن ذلك رواه البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ.
فها هنا فريقان فريق تمسك بظاهر النص فأبى أن يصلي إلا في بني قريظة ، حتى لو خرج وقت الصلاة ، وفريق استنبط من النص معنى خصّصَه به ، ففهموا أن المقصود هو الإسراع فصلوا في الطريق وأسرعوا ، ومع ذلك لم يعنف رسول الله أياً منهما ، وقد ذكر ابن القيم - يرحمه الله - في زاد المعاد : أن كلاًّ من الفريقين مأجور بقصده ، إلا أن من صلى حاز الفضيلتين : امتثال الأمر في الإسراع ، وامتثال الأمر في المحافظة على الوقت . . إنما لم يعنف الذين أخروها ؛ لقيام عذرهم للتمسك بظاهر الأمر ، ولأنهم اجتهدوا . . لكنهم لم يصلوا إلى أن يكون اجتهادهم أصوب من الطائفة الأخرى . ونود التركيز هنا على كون إحدى الطائفتين أصوب من الأخرى ، لأن معنى ذلك أن ترك الإنكار لا يكون فقط ، إذا كان القولان متساويين ، بل حتى لو كنت ترى قولك أصوب من الآخر .
ومن ذلك ما روي عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ. (رواه البخاري)
أي رغم عظم أجر قراءة القرآن, إلا أنها تترك عند الخلاف حتى لا يعظم الشقاق والنزاع .
فأي بيان لمراعاة أدب الخلاف أفضل من هذا ؟
وعلى هذا فترك الطوائف المتصارعة والمتنازعة بالهوى, والإعراض عنهم أولى من المجاراة أو الردود وغيرها, فالانشغال بالنفس والإقبال على الموافق للحق أولى.(192/4)
عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ أَيَّةُ آيَةٍ قُلْتُ قَوْلُهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ . (رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة وفيه مقال وله شواهد تقويه) .
كيف يكون الخلاف
مما سبق يمكننا أن نستخلص بعض الآداب التي يجب أن نتحلى بها عند الخلاف .
أولاً : الأصل الأصيل والنبع الوثيق الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون أن لا يختلفوا ما أمكنهم ذلك ، لأن الخلاف شرّ والفرقة عذاب .
ثانياً : فإذا ما وقع الخلاف فإن القاعدة في ذلك هي قوله تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [الشورى: 10] . فلا بدّ من الردّ إلى كتاب الله وسنة رسوله .
ثالثاً : فإن حدث نتيجة اختلاف الأفهام أن بقي خلاف بعد ذلك ، فإن الخلاف في مسائل الفروع لا يُوجد فرقة ولا شقاقاً !! ويمكننا أن نستخلص من سيرة السلف الصالح ما يلي :
1- أنهم كانوا يختلفون ومع ذلك كانوا متحابين متآخين ، فعلى سبيل المثال اختلف أبو بكر وعمر في مسائل مثل سبي المرتدين ، وقسمة الأراضي المفتوحة ، والمفاضلة في العطاء ، ومع ذلك لم يكن بينهما إلا الود والمحبة ، وحينما استخلف أبو بكر عمر وأخذ بعض الناس يخوفونه بالله ، وأنه ولى عليهم فظاً غليظاً ، ويقولون له : ماذا تقول لربك غداً فيقول - رضي الله عنه - " أقول اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك " .
2- كان يُقر بعضهم بعضاً ، ولا يُنكر بعضهم على بعض . يقول ابن أبي العز في شرح الطحاوية بعد كلام له حول هذا الموضوع : " فإن - يرحمهم الله - أقر بعضهم بعضاً ، ولم يبغ بعضهم على بعض ، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد ، فيقر بعضهم بعضاً ، ولا يعتدي عليه ، وإن لم يرحموا ، وقع بينهم خلاف مذموم فيبغي بغضهم على بعض إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه ، وإما بالفعل مثل حبسه وقتله .
3- أنهم كان يعذر بعضهم بعضاً في هذه المسائل ، ويقول : لعل له تأويلاً في المسألة ، أو لعلّ الحديث لم يصله ، ولذلك يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في ( رفع الملام ) : " أننا إن وجدنا لواحد من الأئمة المقبولين قولاً يُخالف حديثاً صحيحاً فلابدّ له من عذر في تركه " . ويقول : إن جميع الأعذار ثلاثة :
أحدها : عدم اعتقاده أن النبي قاله .
الثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول .
الثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ .
صور مضيئة من أدب الخلاف عند السلف
وإليك - أخي القارئ - بعض الأمثلة التطبيقية من سيرة علمائنا الأجلاء ؛ لتعرف كيف كان السلف يختلفون :
(أ) لما كتب الإمام مالك الموطأ أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس جميعاً عليه ، فأبى مالك - يرحمه الله - فقال : يا أمير المؤمنين أن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار ، ومع كل منهم علم ، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم .
(ب) وكان الإمام أحمد يرى أن خروج الدم ينقض الوضوء ، ولكنه سئل : أتصلي خلف رجل احتجم ولم يتوضأ ؟ قال : سبحان الله ! كيف لا أصلي خلف مالك ابن أنس وسعيد بن المسيب .
(ج) وورد عن الشافعي - يرحمه الله - أنه صلى مع جماعة من الأحناف في مكان قرب قبر أبي حنيفة فترك القنوت في صلاة الصبح مع أنه سنة مؤكدة عنده .
(د) وصلى أبو يوسف خلف هارون الرشيد ، وقد احتجم ، وأفتاه مالك بعدم وجوب الوضوء ، فصلى خلفه أبو يوسف ، ولم يعد الصلاة مع أن مذهبه أي أبي يوسف أن الحجامة تنقض الوضوء .
(هـ) الشيخ الألباني رحمه الله الذي يرى أن وضع اليد بعد القيام من الركوع على الصدر بدعة, فسُئل لو صليت خلف الشيخ عبد العزيز ابن باز ماذا تفعل؟ قال : أتابعه وأضع يدي على صدري.
أخي الحبيب(192/5)
إن الأمر خطير ويحتاج إلى وقفة من العلماء والمشايخ والدعاة, ونطلب منهم الحلول الشرعية لهذا الخلاف, مع تجريد الهوى وبيان الحق, حتى لا يتصدع الجدر ويهتز الأساس, وقد رأينا كثيرا من الشباب يوالون ويعادون على بعض المشايخ هذا يحذر من هذا وهذا يحذر من ذاك, وهم جميعا من أهل العلم والفضل, فأنصح إخواني أن نراجع علمائنا ومشايخنا ومن نثق فيهم بأوجه الخلاف المحمود والمذموم, ومن الذي يهجر ويعادى ومن الذي يحب ويوالى, وهل الحكم هو الشرع أم الهوى- نسأل الله أن يقينا الفتن وأن يعصمنا من الزلل.(192/6)
أدب المسلم
رئيسي :آداب :الثلاثاء 26 ربيع الآخر 1425هـ - 15 يونيو 2004 م
الْحَمْدُ لله ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ الله . أَمَّا بَعْدُ،،،
فقد قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[24]}[سورة السجدة] .
وَقَالَ رَسُولُ الْهُدَى صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ وَالاِقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءً مِنْ النُّبُوَّة]رواه أبوداود وأحمد.
والأَدَبُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ سِيَادَةِ الْعَبْد، وَزِينَةٌ يَتَزَيَّنُ بِهَا بَيْنَ الأَنَام، وَجَمَالٌ يُحِبُّهُ اللهُ مِنْ عَبْدِه.
وَالأَدَبُ دَلِيْلُ كَمَالِ الْعَقْل، وَخَيْرٌ مِنْ كَثِيْرٍ مِنَ الْعَمَل، وَعَلاَمَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى تَوْفِيقِ اللهِ لِعَبْدِه، وَفَقْدُهُ
دَلِيْلُ خُذْلاَنٍ وَخَسَارَةٍ، وَالنَّاسُ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْ كَثِيْرٍ مِنَ الْعُلُوم.
وَالأَدَبُ يَدْعُو صَاحِبَهُ إِلَى الْمَحَامِدِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ الْقَبَائِح؛ لِذَلِكَ عَرَّفَهُ العَلاَّمَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ بِقَولِه:
الأَدَبُ:'اسْتِعْمَالُ الْخُلُقِ الْجَمِيْل'.. فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْخُلُقَ مَادَةً تَحْتَاجُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَى اسْتِعْمَالٍ لِتَظْهَرَ ثِمَارُهَا، وَثِمَارُ الْخُلُقِ: الأَدَب. وَهَذِهِ نُبَذٌ مِنْ الآدَاب:
أولًا: أدب المسلم مع الله تعالى:
1- تَوْحِيْدُهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِه، وَإِفْرَادُهُ بِجَمِيْعِ أَنْوَاعِ الطَّاعَة، وَالإِتْيَانُ بِرُوحِ التَّوْحِيدِ؛ وَهُوَ التَّوَكُلُ عَلَى اللهِ حَقَّ التَّوَكُل؛ وَيَكُونُ بِإِيْمَانِ العَبْدِ بِكُلِّ مَا قَدَّرَ اللهُ وَقَضَى، وَحَمْدِ اللهِ عَلَى السَّرَاء، وَالصَّبْرِ عَلَى الضَّرَّاء، وَاتِّخَاذِ الأَسْبَابِ الَّتِي أَذِنَ اللهُ بِالأَخْذِ بِهَا.
2- أَدَاءُ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ جَمِيْعِ أَنْوَاعِ العِبَادَة، وَاجْتِنَابُ جَمِيْعِ الْمَعَاصِي.
3- مُرَاقَبَةُ اللهِ فِي السِّرِّ كَمَا يُرَاقِبَهُ فِي الْعَلَن.
ثانيًا: أدب المسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هُوَ ضَمِيْمُ الأَدَبِ مَعَ اللهِ، فَلاَ يَصِحُّ الأَدَبُ مَعَ اللهِ مَعَ تَفْرِيْطٍ فِي الأَدَبِ مَعَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالأَدَبُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَضَمَّنُ الآتِي:
1- تَقْدِيْمُ مَحَبَّتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَحَبَّةِ النَّفْسِ وَكُلِّ النَّاس.
2- وَإِطَاعَتُهُ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِه.
3- وَاجْتِنَابُ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم .
4- وَتَصْدِّيْقُهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم .
5- وَأَنْ لاَ يُعْبَدَ اللهُ إِلاَّ بِمَا شَرَعَ صلى الله عليه وسلم .
6- وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ كُلَّمَا ذُكِرَ صلى الله عليه وسلم .
7- وَتَعْظِيْمُهُ إِذَا ذُكِرَ أَوْ ذُكِرَتْ سُنَّتُه صلى الله عليه وسلم .
فَإِذَا جَاءَ الْمُسْلِمُ بِهَذِهِ الآدَاب، فَهُوَ الْمُتَأَدِّبُ حَقّاً مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا:أدب المسلم مع القرآن العظيم:
كِتَابُ اللهِ الْعَظِيْمُ هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِين، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم.وَقَدْ جَعَلَ الشَّرْعُ لِلْمُسْلِمِ مَعَ هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيْمِ آدَاباً؛ فَمِنْ أَهَمِّهَا:
1- أَنْ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ وَهُوَ طَاهِرٌ، وَيُسْتَحَبُ أَلاَّ يَقْرَأَهُ إِلاَّ عَلَى طَهَارَة.
2- أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ حَالَ قِرَاءَتِه.
3- أَنْ يَفْتَتِحَ قِرَاءتَهُ بِالاِسْتِعَاذَةِ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْم، وَبِالْبَسْمَلَةِ فِي ابْتِدَاءِ السُّوَرِ إِلاَّ بَرَاءة.
4- أَنْ يَسْتَاكَ خَاصَّةً عِنْدَ اسْتِيْقَاظِهِ مِنْ نَوْمِه.
5- أَنْ يُمْسِكَ عَنِ التِلاَوَةِ حَالَ التَثَاؤب.
6- أَلاَّ يُقَطِّعَ التِلاَوَةَ بِالْحَدِيْثِ الدُّنْيَوِّيّ.
7- أَنْ يَقِفَ عَلَى آيِّ الرَّحْمَةِ لِيَسْأَلَ اللهَ مِنْ فَضْلِه، وَآيِّ العَذَابِ لِيَسْتَعِيْذَ بِاللهِ مِنَ النَّار.
8- أَنْ يُرَتِّلَ القُرْءَانَ تَرْتِيلاً، وَلاَ يَهُذَّهُ هَذّاً كَالشِّعر.
9- أَنْ يَسْجُدَ عِنْدَ آيَاتِ السُّجُود، وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَة.
10- أَنْ يَتَدَبَّرَ وَيَتَفَكَّرَ فِي الآيَاتِ الَّتِي يَقْرَؤُهَا.
11- أَنْ يُحَسِّنَ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَة.
12- أَنْ لاَ يَقْرَأَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَتَشَهُدِه، وَلاَ حَالَ قَضَائِهِ الْحَاجَة، وَلاَ النُّعَاس،
وَلاَ خُطْبَةِ الْجُمُعَة.
13- إِذَا مَرَّ بِقَومٍ وَهُوَ يَقْرَأُ فَلْيَقْطَعْ قِرَاءتَهُ للسَّلاَم.(193/1)
14- إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِنَ فَلْيَقْطَعْ قِرَاءتَهُ لِيُرَدِّدَ خَلْفَه.
رابعًا:أدب المسلم مع نفسه:
الْمُسْلِمُ يَحْرَصُ دَائِماً عَلَى اسْتِعْمَالِ خُلُقِهِ فِيْمَا يُزَيِّنَهُ أَمَامَ اللهِ، وَأَمَامَ خَلْقِه، وَيَتَرَقَّى فِي دَرَجَاتِ الْمَحَامِد، وَيَتَنَزَّهُ عَنْ كُلِّ الْقَبَائِحِ مُسْتَعْمِلاً خُلُقَهُ الْحَسَن.فَتَرَاهُ حَرِيْصاً عَلَى تَحْقِيْقِ تَوْحِيْدِه، وَإِخْلاَصِ عِبَادَتِه، وَمُرَاقَبَةِ رَبِّه، وَتَعْظِيْمِ نَبِيّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِيْفَائِهِ حُقُوقَه، وَعَدَمِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَقِيْقِ الأُمُورِ وَجَلِيْلِهَا. حَرِيْصاً عَلَى اسْتِعْمَالِ كَرِيْمِ خُلُقِهِ مَعَ جَمِيْعِ الْخَلْقِ؛ بَدْءً بِوَالِدَيْهِ، وَمُرُوراً بِكُلِّ مَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، وَانْتِهَاءً بِكُلِّ الْخَلْقِ حَتَّى الْكُفَّارِ وَالْجَمَادَات. وَكَيْفَ يَكُونُ مُتَأَدِّباً فِي حِلِّهِ وَسَفَرِه ، وَفَرَحِهِ وَتَرَحِه، وَجِدِّهِ وَمَرَحِه، وَفِي جَمِيْعِ أَحْوَالِه.
خامسًا:أدب المسلم مع والديه:
أَعْظَمُ حَقٍّ لِلْوَالِدَيْن: الإِحْسَانُ إِلَيْهِمَا، وَالإِحْسَانُ هُوَ الإِخْلاَصُ وَالإِتْقَان، وَالْمَقْصُودُ بِهِ هُنَا: بِرُّ الْوَالِدَيْن، وَفِيْهِ عِدَّةُ مَرَاتِب؛ وَهِيَ:
1- كَفُّ الأَذَى عَنْهُمَا.
2- وَإِيْصَالُ الْخَيْرِ الَّذِي يَحْتَاجَانِهِ إِلَيْهِمَا، مَادَامَ هَذَا الْخَيْرُ مَقْدُوراً لِلْوَلَد.
3- وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِمَا بِلِيْنِ الْجَانِبِ وَخَفْضِ الْجَنَاح.
4- وَتَحَسُّسُ مَوَاطِنِ رِضَاهُمَا، فَيَأْتِيْهَا الْوَلَد، وَمَوَاطِنِ سَخَطِهِمَا، فَيَبْتَعِد عَنْهَا.
5- وَالْدُّعَاءُ لَهُمَا بِظَهْرِ الْغَيْب.
6- وَالاعْتِرَافُ بِحَقِّهِمَا بِالْقَلْبِ وَبِالّلسَان.
7- وَالسَّعْيُّ الْجَادُّ لِنَيْلِ رِضَاهُمَا.
قَالَ اللهُ تَعَالَى:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا[23]وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[24]}[سورة الإسراء] .
سادسًا:أدب الزوجين مع بعضهما: قَالَ اللهُ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا...[189]}[سورة الأعراف]. وَحَتَّى تَكُونَ الْحَيَاةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَكَناً فَلا بُدَّ مِن التِزَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا هَذِهِ الآدَابِ؛ وَهِيَ:
1- الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوف: قَالَ تَعَالَى:{...وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...[19]}[سورة النساء]. وَهَذَا يَشْمَلُ جَمِيْعَ أَنْوَاعِ الْمَعْرُوف.
2- غَضُّ الطَّرْفِ عَنْ هَفَوَاتِ الآخَر، وَتَذَكُّرُ الْمَحَاسِنِ قَبْلَ الْمَسَاوِيء، قَالَ صلى الله عليه وسلم: [لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ]رواه مسلم.
3- النَّصِيحَةُ لِلآخَر: وَالنَّصِيحَةُ تَكُونُ فِي أُمُور: مِنْهَا: تَعْلِيمُ كل منهما الآخر مَا يَجْهَل ، إِنْ كَانَ التَّعْلِيْمُ فِي مَقْدُورِهما، وَالْغَيْرَةُ الْمَحْمُودَةُ الَّتِي بِهَا يَتَجَنَّبُ الْوقُوعَ فِي الْحَرَام، وَذَلِكَ بِحِرْصِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى إِعْفَافِ الآخَرِ حَتَّى لاَ يَتَطَلَّع إِلَى الْحَرَام، وَأَخْذُ الاحتِيَاطَاتِ الّلازِمَةِ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: إِلْتِزَامُ الْمَرْأَةِ لبْسَ الْحِجَابِ الشَّرْعِيّ، وَعَدَمُ اخْتِلاَطِ الرَّجُلِ بِالأَجْنَبِيَّات، وَعَدَمُ اخْتِلاَطِ الْمَرْأَةِ بِالرِّجَالِ الأَجَانِب، وَأنْ لاَ يُصَاحِبَ أَحَدُهُمَا مَنْ هُوَ مُنْحَرِفٌ فِي خُلُقِه، وَأَنْ لاَ يُفْشِي أَحَدُهُمَا سِرَّ الآخَر.
وَأَنْ يُنْفِقَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِه، وَأَنْ تُطِيْعَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا بِالْمَعْرُوف.
فَإِنْ الْتَزَمَ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ هَذِهِ الآدَابَ عَاشَا فِي سَعَادَة، وَأَصْبَحَ زَوَاجُهُمَا سَكَناً وَمَوَدَّةً وَرَحْمَة.
سابعًا: أدب المسلم مع أبنائه:
وَمِنْ أَعْظَمِ أَدَبِ الْمُسْلِمِ مَعَ أَبْنَائِه:
1- الدُّعَاءُ لَهُمْ بِالصَلاَح.
2- النَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوف.
3- حِفْظُهُمْ وَالْعِنَايَةُ بِهِم، وَتَهْيئتُهُمْ لِمَا خُلِقُوا لَه.
4- الْعَدْلُ فِي مُعَامَلَتِهِم.
5- مُلاَطَفَتُهُمْ حَالَ صِغَرِهِم وَتَوجِيهُهُمْ لِصَلاَحِهِم، وَالأَخْذُ بِأَيْدِيْهِمْ إِلَى فَلاَحِهِم.
ثامنًا:أدب المسلم مع معلمه:(193/2)
الْمُعَلِّمُ صَاحِبُ فَضْلٍ عَظِيْمٍ عَلَى تِلْمِيذِه؛ لِذَلِكَ رَفَعَ اللهُ مِنْ شَأَنِ مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْر، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: [إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْر]رواه الترمذي والدارمي . لِذَلِكَ كَانَ عَلَى كُلِّ تِلْمِيْذٍ أَلاَّ يَتَصَوَّرَ فِي مُعَلِّمِهِ العِصْمَةَ مِنْ الْخَطأ، وَمَعَ ذَلِكَ يَتَأَدَّبَ مَعَهُ بِالآتِي:
1- تَبْجِيْلُهُ وَتَوقِيْرُه، امتِثَالاً لِقَولِ رَسُولِ الْهُدَى صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيْرَنَا
وَيَرْحَمْ صَغِيرَنا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّه] رواه أحمد . وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى احتِرَامِ الْعَالِمِ وَتَقْدِيْرِه.
2- الْكَفُّ عَنْ تَتَبُّعِ زَلاَّتِهِ وَأَخطَائِه، بَلْ وَسُؤَالُ اللهِ سَتْرَهَا، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَتَصَدَّقُونَ وَيَسْأَلُونَ اللهَ أَنْ يَسْتُرَ عَنْهُمْ عَورَاتِ مُعَلِّمِيْهِم؛ لأَنَّ الْبَحْثَ فِي أَخْطَاءِ الْمُعَلِّمِ يَحْرِمُ الطَّالِبَ الاستِفَادَةَ مِنْه.
3- الْكَفُّ عَنْ غِيْبَةِ الْمُعَلِّم، وَنُصْرَتُهُ عِنْدَ مَنْ يَغْتَابُه.
4- الدُّعَاءُ لَهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ أَنْ يَجْزِيهِ اللهُ خَيْراً لِقَاءَ مَا عَلَّمَ وَأَفَادَ طُلاَّبَه.
5- الْحِرْصُ عَلَى الاسْتِفَادَةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي عِنْدَه، وَعَدَمِ الاقْتِدَاءِ بِهِ فِي مَا أَخطأَ فِيْه.
6- نِسْبَةُ العِلْمِ الَّذِي تَعَلَّمَهُ الطَالِبُ مِنْ أُسْتَاذِهِ إِلَيْه، وَلاَ يَسْتَنْكِفْ مِنْ ذَلِك، فَإِنَّ مِنْ بَرَكَةِ العِلْمِ نِسْبَتُهُ
إِلَى مَنْ استُفِيدَ مِنْه؛ فَيَقُولُ الطَّالِبُ: تَعَلَّمْتُ مَسْأَلَةَ كَذَا مِنْ أُسْتَاذِي فُلان، فَإِنَّ هَذَا يَرْفَعُ قَدْرَهُ عِنْدَ النَّاس.
تاسعًا:أدب المسلم مع جيرانه:
قال صلى الله عليه وسلم: [...أَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً...]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد. وَمِنْ مَرَاتِبِ أَدَبِ الإِحْسَانِ إِلَى الْجَار:
1- كَفُّ الأَذَى عَنْه، وقد حَذَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم من أذى الجار، فقال: [لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَه] رواه مسلم.
2- إِيْصَالُ الْخَيْرِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيه إِلَى جِيْرَانِهِ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْه: وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : [خَيْرُ الْجِيرَانِ عِندَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِه] رواه الترمذي والدارمي وأحمد.
3- التَّقَرُّبُ إِلَى الْجَارِ بِلِيْنِ الْجَانِب، واللّطْفِ فِي الْمُعَامَلَة، وَتَقْدِيْمِ الْهَدِيَّةِ إِلَيْه.
4- تَحَسُّسُ مَوَاطِنِ حَاجَتِهِ لِسَدِّهَا.
5- إِجَابَةُ دَعْوَتِه، وَعِيَادَتُه، وَتَشْييعُ جَنَازَتِه، وَصُنْعُ الطَّعَامِ لَه، وَتَشْمِيتُهُ إِذَا عَطَس، وَنُصْحُهُ إِذَا استَنْصَح.
6- الدَّفْعُ عَنْ عِرْضِهِ حَالَ غَيْبَتِه.
7- غَضُّ البَصَرِ عَنْ عَورَاتِه.
8- الصَبْرُ عَلَى أَذَاه.
عاشرًا: أدب المسلم مع المسلمين:
مَتَى تَأَدَّبَ الْمُسْلِمُ مَعَ أَخِيْهِ الْمُسْلِمِ عَاشَتْ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَنَاءٍ وَسَعَادَة، وَبُعْدٍ عَنْ كُلِّ مَا يُكَدِّرُ صَفْوَ حَيَاتِهَا، وَلاَ نَجِدُ هَذِهِ الآدَابَ فِي أَكْمَلِ وَأَجْمَلِ صُوَرِهَا إِلاَّ فِي الإِسْلاَم، وَمِنْ أَعْظَمِ أَدَبِ الْمُسْلِمِ مَعَ أَخِيْهِ الْمُسْلِم:
1- مُبَادَرَتُهُ بِالسَّلاَمِ عِنْدَ اللِّقَاء، وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَة، وَرَدُّهُ وَاجِب، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَآلُفِ الْمُسْلِمِين، قَالَ صلى الله عليه وسلم: [أَفَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُم] رواه مسلم.
2- إِجَابَةُ دَعْوَتِهِ: وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَة، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي الدَّعْوَةِ مُنْكَرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الْمَدْعُوّ إِزَالَتَه،فَلاَ يُجِب.
3- تَقْدِيْمُ النُّصْحِ لَهُ إِذَا طَلَبَه، لأَنَّ الدِّيْنَ النَّصِيْحَة.
4- تَشْمِيْتُهُ إِذَا عَطَسَ وَحَمِدَ الله: وَهُوَ فَرض، فَيُقَالُ لَهُ: يَرْحَمُكَ الله، فَيُجِيْبُ: يَهْدِيْكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم.
5- عِيَادَتُهُ إِذَا مَرِض: وَهِيَ سُنَّة، تَتَأَكَّدُ كُلَّمَا كَانَ الْمَرِيْضُ ذَا قَرَابَةٍ أَوْ صُحْبَة.
6- تَشْيّيعُ جَنَازَتِهِ إِذَا مَات: وَفِيْهَا أَجْرٌ عَظِيْم، وَهِيَ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيْهِ الْمُسْلِمِ بَعْدَ وَفَاتِه،(193/3)
قَالَ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيْرَاط، وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيْرَاطَان] قِيْلَ: وَمَا الْقِيْرَاطَان؟ قَالَ: [مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيْمَيْن] رواه البخاري ومسلم.
وقَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْه،وَإِذَا دَعَاكَ
فَأَجِبْه، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَه، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْه، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْه، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْه] رَوَاهُ مُسْلِم.
من كتاب:'أدب المسلم' للشيخ/ أحمد بن عبد العزيز الحمدان(193/4)
أدبر .. وطغى ... فعقره الله
دكتور جابر قميحة
كثيرون يعتقدون أن "الردة عن الإسلام" لم تبدأ إلا بعد أن انتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى. وهذا الاعتقاد في صورته العامة لا يتفق مع الواقع التاريخي، وهذه المقولة تقتضينا شيئًا من التحديد، فنقرر في هذا المقام أننا في معالجتنا العلمية للردة يجب أن نفرق بين صورتين لها:
الأولى: الردة في صورتها العَقَدية التي تعني الانسلاخ من الإسلام أو بعض أركانه وخصوصًا الزكاة.
والثانية: الردة في صورتها العسكرية التي تمثلت في جيوش خرجت وتمردت على السلطة المركزية في المدينة.
وتفريقنا بين الصورتين إنما يعتمد على "العنصر الزمني المرحلي" لا على "صبغة كيفية أو مذهبية"، بمعنى أن الردة في صورتها الثانية تحركت ـ من الناحية المذهبية العقدية ـ اعتمادًا على الانسلاخية الكلية أو الجزئية من الإسلام، وإن تأخرت عنها زمنيًا.
وبشيء من التفصيل نقرر أن بوادر الردة "بمفهومها العقدي" ظهرت في العامين الأخيرين، أو العام الأخير من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وربما كان أول من كشف عنها "مسيلمة بن حبيب الحنفي" ـ الذي أطلق عليه بعد ذلك "مسيلمة الكذاب".
ففي العام التاسع من الهجرة جاء "مسيلمة" هذا مع وفد بني حنيفة إلى المدينة، وقادته وقاحته وسوء أدبه إلى أن يردد أمام المسلمين قوله "لو جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته"، ونقل بعض المسلمين للنبي ما يردده مسيلمة، فأشار النبي بيده إلى قطعة من جريد النخل، وقال "اسمع يا مسيلمة: والله لو سألتني هذه القطعة من جريد ما أعطيتكها، ولن أتعدى أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله".
وأمام هذه المواجهة الصريحة لم ينطق "مسيلمة" بكلمة، وعاد مع قومه بني حينفة إلى بلادهم.. اليمامة وما حولها، وكانوا من أمنع الناس وأقواهم وأغناهم، وأكثرهم خيلاً ورجالاً، وسلاحًا، وزراعة، وأعلن "مسيلمة" على رءوس الأشهاد من قومه أنه "نبي مرسل" وأن الوحي بدأ في النزول عليه.
ويروى ابن هشام في السيرة النبوية أنه أرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابًا نصه:
"من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: سلام عليك، أما بعد: فإني قد أُشرِكْتُ في الأمر معك، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون".
ورد عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - بكتاب نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين".
وبالنظر في سلوك "مسيلمة" وهو في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالنظر كذلك في كتابه إليه تواجهنا "شخصية منحرفة"، تحكمها "عقدة التعاظم" التي تفهم النبوة والرسالة على أنهما ملك وسلطان، وسيادة وهيمنة على الأرض، وفي سبيل ذلك تكون التضحية بالأخلاقيات النبيلة والقيم العليا أمرًا لا غبار عليه.
بينما نرى في مواجهة الرسول - عليه السلام - لمسيلمة وهو في المدينة، ومواجهته له بعد ذلك في رده المكتوب إليه عدة معان وقيم عليا أهمها اثنتان:
الأولى: الصراحة في الحق، ومواجهة المنحرفين والطامعين، والجبارين، دون مواربة أو مصانعة، أو تفريط في دين الله.
الثانية: تجنب اللجاج والجدل، وخصوصًا إذا تعلق الأمر بقضايا أو حقائق جوهرية واضحة لا تحتمل النقاش مثل: سمو النبوة والرسالة، وما هيأه الله للإنسان في الكون، وجزاء التقوى. وجزاء الكفران والطغيان والجحود.
وينتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، وتتحول الردة العقدية إلى جيوش وسلاح، وينهض أبو بكر - رضي الله عنه - بالأمر، وينطلق خالد بن الوليد إلى مسيلمة، وتدور معارك من أشرس وأدمى ما عرف التاريخ، وينهزم بنو حنيفة، ويصرع مسيلمة، وترتفع راية الإسلام من جديد، وتصدق في مسيلمة كلمة الرسول - عليه السلام -:"ولئن أدبرت ليعقرنك الله".
http://www.alshaab.com المصدر:(194/1)
أدبَرَ..وطغَى ... فعقره الله
أ.د/
جابر قميحة
komeha@menanet.net
كثيرون يعتقدون أن "الردة عن الإسلام" لم تبدأ إلا بعد أن انتقل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الرفيق الأعلى. وهذا الاعتقاد في صورته العامة لا يتفق مع الواقع التاريخي، وهذه المقولة تقتضينا شيئًا من التحديد، فنقرر في هذا المقام أننا في معالجتنا العلمية للردة يجب أن نفرق بين صورتين لها:
الأولى: الردة في صورتها العَقَدية التي تعني الانسلاخ من الإسلام أو بعض أركانه وخصوصًا الزكاة.
والثانية: الردة في صورتها العسكرية التي تمثلت في جيوش خرجت وتمردت على السلطة المركزية في المدينة.
وتفريقنا بين الصورتين إنما يعتمد على "العنصر الزمني المرحلي" لا على "صبغة كيفية أو مذهبية", بمعنى أن الردة في صورتها الثانية تحركت ـ من الناحية المذهبية العقدية ـ اعتمادًا على الانسلاخية الكلية أو الجزئية من الإسلام، وإن تأخرت عنها زمنيًا.
وبشيء من التفصيل نقرر أن بوادر الردة "بمفهومها العقدي" ظهرت في العامين الأخيرين, أو العام الأخير من حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وربما كان أول من كشف عنها "مسيلمة بن حبيب الحنفي" ـ الذي أطلق عليه بعد ذلك "مسيلمة الكذاب".
ففي العام التاسع من الهجرة جاء "مسيلمة" هذا مع وفد بني حنيفة إلى المدينة، وقادته وقاحته وسوء أدبه إلى أن يردد أمام المسلمين قوله "لو جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته" , ونقل بعض المسلمين للنبي ما يردده مسيلمة، فأشار النبي بيده إلى قطعة من جريد النخل , وقال "اسمع يا مسيلمة: والله لو سألتني هذه القطعة من جريد ما أعطيتكها، ولن أتعدى أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله".
وأمام هذه المواجهة الصريحة لم ينطق "مسيلمة" بكلمة، وعاد مع قومه بني حينفة إلى بلادهم.. اليمامة وما حولها، وكانوا من أمنع الناس وأقواهم وأغناهم، وأكثرهم خيلاً ورجالاً، وسلاحًا، وزراعة، وأعلن "مسيلمة" على رءوس الأشهاد من قومه أنه "نبي مرسل" وأن الوحي بدأ في النزول عليه.
ويروى ابن هشام في السيرة النبوية أنه أرسل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتابًا نصه:
"من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون".
ورد عليه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكتاب نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين".
وبالنظر في سلوك "مسيلمة" وهو في مدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبالنظر كذلك في كتابه إليه تواجهنا "شخصية منحرفة" , تحكمها "عقدة التعاظم" التي تفهم النبوة والرسالة على أنهما ملك وسلطان , وسيادة وهيمنة على الأرض، وفي سبيل ذلك تكون التضحية بالأخلاقيات النبيلة والقيم العليا أمرًا لا غبار عليه.
بينما نرى في مواجهة الرسول ـ عليه السلام ـ لمسيلمة وهو في المدينة , ومواجهته له بعد ذلك في رده المكتوب إليه عدة معان وقيم عليا أهمها اثنتان:
الأولى: الصراحة في الحق , ومواجهة المنحرفين والطامعين، والجبارين، دون مواربة أو مصانعة، أو تفريط في دين الله.
الثانية: تجنب اللجاج والجدل، وخصوصًا إذا تعلق الأمر بقضايا أو حقائق جوهرية واضحة لا تحتمل النقاش مثل: سمو النبوة والرسالة , وما هيأه الله للإنسان في الكون، وجزاء التقوى. وجزاء الكفران والطغيان والجحود .
وينتقل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الرفيق الأعلى , وتتحول الردة العقدية إلى جيوش وسلاح، وينهض أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بالأمر، وينطلق خالد بن الوليد إلى مسيلمة، وتدور معارك من أشرس وأدمى ما عرف التاريخ , وينهزم بنو حنيفة , ويصرع مسيلمة، وترتفع راية الإسلام من جديد , وتصدق في مسيلمة كلمة الرسول عليه السلام: "ولئن أدبرت ليعقرنك الله"(195/1)
أدرك القافلة!
الكاتب: الشيخ د.عائض بن عبدالله القرني
هبَّ أهل الإيمان على بريد التوفيق مجيبين بلال العزم في سحر الأيام ، فأما قلوبهم فمطمئنة بذكر ربهم ، وأما ألسنتهم ففي زجل بمدح ربهم ، وأما عيونهم فجارية بماء الحب ، باعوا دماءهم من الله ، فهم ينتظرون الذبح في سبيله ، وأرخصوا أنفسهم في خدمته ، فكل تعب في مرضاته راحة ، وكل سهر في عبادته أنس ، وكل جوع لأجله غنيمة .
إذا رأيت خدام الدنيا يلوحون بالدنانير الملس ، ويتهافتون كالذئاب العلس، فراجع نفسك .
وإذا دعاك الناكثون في السهرات ، الغافلون في الخلوات ، المتثاقلون عن الطاعات، المتفلتون عن صلاة الجماعة، فراجع نفسك .!
إذا سمعت نغمة الوتر ، وصولة أهل البطر ، وجموح المترفين ، واستفزاز المرجفين فالتوبةَ التوبةَ .
عندنا خير مما عندهم ، حياتنا جد ، وحياتهم هزل ، ولايتهم في اضطراب ،وولايتنا لا تقبل العزل ، كلما كدنا نرضخ ، صاح النذير : توبوا إلى الله .
أيها الأحبة ، هل شممتم مسكاً أزكى من أنفاس التائبين ؟ هل سمعتم بماء أعذب من دموع النادمين؟ هل رأيتم لباساً أجمل من لباس المحرومين ؟ هل رأيتم زحفاً أقدس من زحف الطائفين ؟
يا ساري البرق خذ بالله من خلدي...دمع المحبة مجتازاً إلى أضمِ
فالعين ساكبة والطرف مكتمل...من السهاد وذو الأشواق لم ينم
يا مسلماً هل من ركعتين ودمعتين ؟ فالحياة بلا ركوع دمار ، والعمر بلا دموع خسار.
الحق الركب . . أدرك القافلة . . اركب معنا في سفينة النجاة ..، حث الخطى ، أسرع في السير علَّك أن تنجو من الهلاك.
منذ أن تستيقظ من النوم وأنت في مصارعة مع الشيطان ، ومطاردة مع قرناء السوء من الدنيا ، والهوى ، والأمل الكاذب ، والخيال المجنح .
افتح دفترك بعد الفجر ، ونظم ساعات يومك الزم الصف الأول فهو رمز العهد والميثاق احفظ آية من القرآن أو آيتين أو ثلاث أو أكثر فذلك دليل الحب والرغبة، جدد التوبة والاستغفار فهما بريد القبول والدخول ، واطلب علماً نافعاً تهتدي به إلى عمل صالح فذلك علامة الحظ السعيد ، وصدقةُ لمسكينٍ ،وركعتان في السحر ، وركعتان في الضحى زلفى إلى علام الغيوب ، والزهد في الحطام الفاني ، وطلب الباقي ، شاهد على علو الهمة ( أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب )
إشارات على الجسور
ما أحوجنا إلى جسور محبة تصل قلوب بعضنا ببعض ، لنكون أمة واحدة ، صادقة التوجه ، قوية الإرادة ، عالية الهمة ، ولعلني أذكر إشارات على هذه الجسور :
1-اعتصامنا جميعا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،وأن يكون مقصد الجميع نصرة الدين وحماية الملة .
2-التسامح والعفو والغفران عن كل زلة ندت من أخ أو حصلت من
صديق ، كما قال بعض السلف لأخيه : غدا نتعاتب ، فقال أخوه : بل غدا نتسامح .
3-احترام القدرات والتخصصات والمواهب ، وعدم مصادرة جهود
الآخرين والتهوين من شأنهم ( قد علم كل أناس مشربهم ) .
4-توحيد عداوتنا وخصومتنا ضد أعداء الإسلام وقتلة الأنبياء، ومغتصبي المقدسات ، ومن والاهم .
5-النظر إلى المسائل بربانية وعالمية ، وإلغاء النظرة الضيقة المحدودة والاهتمام الصغير والهم التافه
6-العمل لله وليس للنفس والذات والأسرة والعشيرة والقبيلة ،
فلا يثيب ولايعاقب إلا الواحد الأحد ( كل شيء هالك إلا وجهه ) .
7-النظر إلى الجانب المشرق في الفرد والجماعة ، والتغاضي عن الزلات :
ليس الغبي بسيد في قومه...لكن سيد قومه المتغابي
8-التحاكم إلى الشرع عند الخلاف ، وتحكيم الدليل عند التنازع ، ونبذ الهوى والجور والانتصار للنفس .
9-الحذر من البغي الذي وقع فيه أهل الكتاب قبلنا ؛ فقد بغى بعضهم على بعض ، وحسد بعضهم بعضا ، فأهلكهم عز وجل .
10-إهمال من قصده برده التشفي لنفسه الأمارة ،وهواه المطاع،وشيطانه المريد ، وليس قصده الحق ، فمثله يغفل ويتجاهل ويهمل .
أستغفر الله
طلب الله من المكلَّفين أن يستغفروه بعد كل عمل صالح، فقال للرسول صلى الله
عليه وسلم في آخر عمره: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) [النصر:1-3].
وقال سبحانه وتعالى للحجيج بعد أن قضوا مناسكهم وانتهوا من أعمال حجهم: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) [البقرة:199]. فواجبك، أخي المسلم: أن تعود إلى الملك العلاَّم، وأن تختم هذه الساعات القريبة الوجيزة التي بقيت من عمرك بالاستغفار والتوبة، لعل الله أن يقبلك فيمن قبل، وأن يعفو عنك فيمن عفا عنه، وأن يردَّك سبحانه وتعالى إليه. فإن الأنبياء، عليهم السلام، سلفاً وخلفاً، استغفروا الله عزّ وجل على حسناتهم وبرّهم وعلى صلاحهم.
قال تعالى على لسان نوح عليه السلام أنه قال لقومه: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)[نوح:10-12].(196/1)
وقال آدم وزوجه لما أذنبا: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف:23].
وقال هود عليه السلام لقومه: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجلٍ مسمىً ويؤتِ كل ذي فضلٍ فضله) [هود:3].
وقال سليمان عليه السلام، وقد رأى ملكه، وجيشه: (رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي) [ص:35].
وقال إبراهيم –عليه السلام-، في آخر عمره: (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) [الشعراء:82].
والله –عز وجل- وعد المستغفرين، أن لا يأخذهم بنقمته في الدنيا إذا استغفروا الله فقال: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) [الأنفال:33].
ونادى الله الناس جميعاً فقال: (قل ياعبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) [الزمر:53].
وقال مادحاً سبحانه وتعالى من استغفر يوم يذنب، ومن تاب يوم يسيء، ومن راجع حسابه من الحي القيوم فقال: (والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) [آل عمران: 135-136].
ومن صفات الله عز وجل الحسنى أنه (تواب رحيم) [الحجرات:12]، (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون) [الشورى:25].
وقال لبني إسرائيل: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم)[المائدة:74].
وقال سبحانه وتعالى مخبراً أن من اجتنب الكبائر، غفر الله له الصغائر فقال: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً)[النساء: 31].
وقال جلَّ ذكره: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً) [النساء:64].
وقال سبحانه وتعالى: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً) [النساء:110].
فسبحان من بسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وسبحان من بسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها.
والله يقول في الحديث القدسي: "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم".
متى يتوب من لا يتوب الآن ؟
ومتى يعود إلى الرحمن من لا يعود الآن ؟
ومتى يراجع حسابه مع الواحد الديَّان من لا يراجع حسابه الآن ؟ ينسلخ الشهر تلو الشهر، ولا يُنسى الذنب، ولا تسارع في فكاك رقبتك من النار.أليس من الحسرة والندامة أن يعفو الله عن مئات الألوف، ثم لا تكون منهم ؟
فسارع، أخي، بفكاك رقبتك من النار، واغتنم كثرة الصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكثرة التوبة والاستغفار، وبادر بالحسنات.
إذا عُلم ذلك، عباد الله، فأوصي نفسي، وإياكم بالتوبة النصوص وكثرة الاستغفار ورفع يد الضراعة إلى الحي القيوم، لعلَّ الله أن يغفر.
فوالله، ليس لنا من الأعمال ما نتقدَّم به إلى الله، فكل أعمالنا خطيئة وذنب،وكلنا فقر ومسكنة، وكلنا عجز وتقصير.
فنحن نخشى من أعمالنا أن يشوبها الرياء والسمعة فيبطلها الله.إن فعلنا من الحسنات فقد قابلها، سبحانه وتعالى، بنِعمٍ مدرارة غزيرة لا نقوم بشكرها أبداً.
يظن بعضنا يوم يصلي ساعة، أو يقرأ ساعة، أو يذكر الله ساعة أنه فعل شيئاً عظيماً.
فأين ساعات النعيم ؟ وأين ساعات الأكل والشرب ؟ وأين ساعات اللهو واللعب ؟
وأين ساعات الفرح، والمرح، والذهاب، والمجيء ؟فيا من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً.. الله، الله، في استغلال الأوقات بما ينفع عند علاّم الغيوب، لعل الله أن يختم لك بخير.فسبحان من بسط ميزان العدل للعادلين، وسبحان من نشر القبول للمقبولين، وسبحان من فتح باب التوبة للتائبين. فمن مُقبل ومُدبر، ومن سعيد وشقي، ومن تائب وخائب. فنسأل الذي بيده مفاتيح القلوب أن يفتح على قلوبنا وقلوبكم، وأن يعتق رقابنا
ورقابكم من النار، وأن ينقذنا من عذاب جهنم، وأن يجعلنا ممن قَبِل صلاته، وصيامه، وقيامه، وذكره، وتلاوته.
ربَّنا وتقبَّل منَّا أحسن ما عملنا وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(196/2)
أدرك القافلة . . ! ...
هبَّ أهل الإيمان على بريد التوفيق مجيبين بلال العزم في سحر الأيام ، فأما قلوبهم فمطمئنة بذكر ربهم ، وأما ألسنتهم ففي زجل بمدح ربهم ، وأما عيونهم فجارية بماء الحب ، باعوا دماءهم من الله ، فهم ينتظرون الذبح في سبيله ، وأرخصوا أنفسهم في خدمته ، فكل تعب في مرضاته راحة ، وكل سهر في عبادته أنس ، وكل جوع لأجله غنيمة .
إذا رأيت خدام الدنيا يلوحون بالدنانير الملس ، ويتهافتون كالذئاب العلس ، فراجع نفسك .
وإذا دعاك الناكثون في السهرات ، الغافلون في الخلوات ، المتثاقلون عن الطاعات، المتفلتون عن صلاة الجماعة ، فراجع نفسك .!
إذا سمعت نغمة الوتر ، وصولة أهل البطر ، وجموح المترفين ، واستفزاز المرجفين فالتوبةَ التوبةَ .
عندنا خير مما عندهم ، حياتنا جد ، وحياتهم هزل ، ولايتهم في اضطراب ، وولايتنا لا تقبل العزل ، كلما كدنا نرضخ ، صاح النذير : توبوا إلى الله .
أيها الأحبة ، هل شممتم مسكاً أزكى من أنفاس التائبين ؟ هل سمعتم بماء أعذب من دموع النادمين ؟ هل رأيتم لباساً أجمل من لباس المحرومين ؟ هل رأيتم زحفاً أقدس من زحف الطائفين ؟
يا ساري البرق خذ بالله من خلدي دمع المحبة مجتازاً إلى أضمِ
فالعين ساكبة والطرف مكتمل من السهاد وذو الأشواق لم ينم يا مسلماً هل من ركعتين ودمعتين ؟ فالحياة بلا ركوع دمار ، والعمر بلا دموع خسار. الحق الركب . . أدرك القافلة . . اركب معنا في سفينة النجاة ..، حث الخطى ، أسرع في السير علَّك أن تنجو من الهلاك .
منذ أن تستيقظ من النوم وأنت في مصارعة مع الشيطان ، ومطاردة مع قرناء السوء من الدنيا ، والهوى ، والأمل الكاذب ، والخيال المجنح .
افتح دفترك بعد الفجر ، ونظم ساعات يومك الزم الصف الأول فهو رمز العهد والميثاق احفظ آية من القرآن أو آيتين أو ثلاث أو أكثر فذلك دليل الحب والرغبة، جدد التوبة والاستغفار فهما بريد القبول والدخول ، واطلب علماً نافعاً تهتدي به إلى عمل صالح فذلك علامة الحظ السعيد ، وصدقةُ لمسكينٍ ، وركعتان في السحر ، وركعتان في الضحى زلفى إلى علام الغيوب ، والزهد في الحطام الفاني ، وطلب الباقي ، شاهد على علو الهمة ( أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ) ...(197/1)
أدعياء السلفية ...
بسم الله الرحمن الرحيم
شيخنا الفاضل ظهرت في الآونة الأخيرة في مجتمعنا ( فلسطين ) فرقة تطلق على نفسها ( السلفية )، تعتبر الحكام الحاليين أولي أمر تجب مبايعتهم ، ويحرم الخروج عليهم تحت أي ظرف، إلا إن استحلوا ترك الحكم بما أنزل الله استحلالاً قلبياً ، وينسبون هذا القول إلى أهل السنة والجماعة ، وإن كل من يخالف هذا القول يعتبر خارجياً تكفيرياً تجب معاداته والتحذير منه ،فما صحة ما يدعون إليه مع بيان حكم التعامل معهم أو تكثير سوادهم ؟حفظك الله تعالى ، ونفع بعلمك آمين .
الحمد لله رب العالمين ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فهذه جماعة بدأت بالانتشار فعلاً في مجتمعنا ، وقد سمعنا عنها العجب العجاب ،وقد نقل لنا كثير من طلاب العلم بعض ما يدعون إليه أبرزه ما تضمنه في سؤالك حفظك الله تعالى : وكنت أود الرد على بعض شبهاتهم التي يلبسون بها على العامة بشكل مفصل ، ولكن سؤالك دفعني للرد على هذه المسألة بشكل خاص وهأنذا أرد على سؤالك رداً موجزاً ألقي الضوء على أهم ما قعّدوا عليه قولهم مستعيناً بالله سبحانه راجياً الأجر والمثوبة منه .
أولاً : هذا القول بناء على مذهبهم الفاسد الذي يقضي بإخراج العمل من الإيمان ، وجعل الإيمان يقوم على تصديق القلب ، وإقرار اللسان ، وأما العمل عندهم فهو شرط كمال وهو مذهب المرجئة الضالين المخالفين لأهل السنة والجماعة ، إذ الإيمان عند أهل السنة هو قول وعمل يزيد وينقص قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في العقيدة الواسطية : ( ومن أصول أهل السنة والجماعة : أن الدين والإيمان قول وعمل ، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح ، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ) . فانظر يرحمك الله تعالى كيف جعل ابن تيمية رحمه الله هذا التعريف من أصول أهل السنة والجماعة ، أي من القواعد التي يقوم عليها دينهم ، وكما هو معروف في الأصول أن الشيء يعرف بما يبينه ويحده ، وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن حقيقة الإيمان عند أهل السنة تقوم على ثلاثة أركان وهي عمل القلب ، عمل اللسان ، عمل الجوارح ، فعمل الجوارح من أركان الإيمان ، والركن كما هو معلوم ، الجانب الأقوى الذي إذا ترك عدم الأصل وإن أتي بسائر الأركان ، مثال ذلك الصلاة ، فلو صلى رجل من غير ركوع مع إتيانه بسائر أركان الصلاة ، لا يعتبر قد صلى لمَ ؟ لأنه ترك ركناً من أركان الصلاة ، وهكذا من لم يأت بعمل الجوارح لا يعتبر مؤمناً وإن أقر بلسانه ، وصدق بقلبه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول ، ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان ، وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنباً كافراً ، ويعلم أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك ونقر بألسنتنا بالشهادتين ، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نصدق الحديث ولا نؤدي الأمانة ولا نفي بالعهد ولا نصل الرحم ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به ، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم ، بل نقتلك أيضاً ونقاتلك مع أعدائك ، هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم : أنتم مؤمنون كاملو الإيمان ، وأنتم أهل شفاعتي يوم القيامة ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار ، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم : أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك – أهـ
والمتأمل في قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يجده يرد على طائفتين من الناس ، الأولى الخوارج الذين يكفرون الناس بالكبائر ، الثانية المرجئة الذين يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان ، بل ويجعل ضلال هؤلاء معلوماً من الدين بالضرورة ، أي لا يخفى على عوام أهل السنة ناهيك عن أن يخفى على خواصهم ، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال: هل كان يتوهم عاقل ؟! أي لا يخفى هذا الأمر إلا على من سلب الله منه العقل نعوذ بالله سبحانه من الضلال بعد الهدى .(198/1)
وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه الله تعالى ، هو عين مذهب أهل السنة والجماعة ، بل كل من يخالف ذلك يعتبر خارجاً عن مذهب أهل السنة بقدر مخالفته لهم، خاصة إن كان خلافه لهم يتعلق بأصل من أصولهم ،كالمسألة التي نحن بصددها .ومن الأدلة الشرعية على دخول الأعمال في مسمى الإيمان قول الله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) . (4) الأنفال وإنما أداة حصر تدل على القصر ، أي يبين الله سبحانه أن الإيمان مشتمل على عمل الباطن وعمل الظاهر ، فقوله : (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) عمل الباطن وهو القلب ، وقوله:(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) . عمل الجوارح ثم قال سبحانه : ( أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ) . فالمؤمنون الحق ، أي الذين تحققوا على حقيقة الإيمان ، أي هم الذين يجمعون بين عمل الباطن وعمل الظاهر ، وقال سبحانه : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) . (65) النساء ففي هذه الآية الكريمة يقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه لرسوله صلى الله عليه وسلم نافياً الإيمان عن الزاعمين له حتى ينقادوا ظاهراً وباطناً إلى حكم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقوله سبحانه : (حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) . دليل على انقياد الظاهر . وقوله سبحانه : (ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ ) . دليل على انقياد الباطن . والفرق بين الآيتين ، أن الآية الأولى دلت على إثبات الإيمان لمن جمع بين عمل الظاهر وعمل الباطن ، والآية الثانية ،دلت على نفي الإيمان عن الذين لا ينقادون إلى حكم الله ظاهراً وباطناً ، ولكن قد يقول البعض :إن نفي الإيمان هنا يدل على نفي الكمال وليس الحقيقة ، أقول : هذا أيضاً بناء على أصل مذهبهم القائم على إخراج العمل عن مسمى الإيمان ،وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة ولنأخذ على سبيل المثال هاتين الآيتين : (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ) . (89) جاء في سبب نزول هاتين الآيتين في تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الدلائل عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم . وفرقة تقول : لا . فأنزل الله ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) الآية كلها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة " . وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن سعد بن معاذ الأنصاري أن هذه الآية أنزلت فينا ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : " من لي بمن يؤذيني ويجمع لي في بيته من يؤذيني ؟ فقام سعد بن معاذ فقال : إن كان منا يا رسول الله قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا فأطعناك . فقام سعد بن عبادة فقال : ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عرفت ما هو منك . فقام أسيد بن حضير فقال : إنك يا ابن عبادة منافق تحب المنافقين . فقام محمد بن مسلمة فقال : اسكتوا أيها الناس، فإن فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأمرنا فننفذ لأمره . فأنزل الله ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) الآية " . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال :(198/2)
" إن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا فيهم بأس، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله . . . ! تقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم، فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء . فنزلت( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) إلى قوله . ( حتى يهاجروا في سبيل الله ) .يقول : حتى يصنعوا كما صنعتم ( فإن تولوا ) . قال : عن الهجرة " . وأخرج أحمد بسند فيه انقطاع عن عبد الرحمن بن عوف " أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأسلموا وأصابهم وباء المدينة حماها فأركسوا، خرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم : ما لكم رجعتم ؟ قالوا : أصابنا وباء المدينة فقالوا : ما لكم في رسول الله أسوة حسنة . فقال بعضهم : نافقوا . وقال بعضهم : لم ينافقوا، إنهم مسلمون . فأنزل الله ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ )وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سلمة عن عبد الرحمن أن نفرا من طوائف العرب هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكثوا معه ما شاء الله أن يمكثوا، ثم ارتكسوا فرجعوا إلى قومهم، فلقوا سرية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفوهم فسألوهم : ما ردكم ؟ فاعتلوا لهم فقال بعض القوم لهم : نافقتم، فلم يزل بعض ذلك حتى فشا فيهم القول، فنزلت هذه الآية ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) قال : قوم خرجوا من مكة حتى جاؤوا المدينة، يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول : هم منافقون . وقائل يقول : هم مؤمنون، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتلهم، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي وبينه وبين محمد عليه السلام حلف، وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه، فدفع عنهم بأنهم يؤمون هلالا وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) قال : ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش، كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد تكلما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيهما ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما مقبلان إلى مكة، فقال بعضهم : إن دماءهما وأموالهما حلال . وقال بعضهم : لا يحل ذلك لكم . فتشاجروا فيهما، فأنزل الله( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) حتى بلغ ( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم ) . وأخرج ابن جرير عن معمر بن راشد قال : بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا، أو كان ذلك منهم كذبا، فلقوهم فاختلف فيهم المسلمون فقالت طائفة : دماؤهم حلال . وطائفة قالت : دماؤهم حرام . فأنزل الله ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) وأخرج ابن جرير عن الضحاك في الآية قال : هم ناس تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا فسماهم الله منافقين، وبرأ المؤمنين من ولايتهم، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا . وأخرج ابن جرير عن السدي قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتخمناها، فلعلنا أن نخرج إلى الظهر حتى نتماثل ثم نرجع، فإنا كنا أصحاب برية . فانطلقوا واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت طائفة : أعداء الله منافقون، وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم . وقالت طائفة : لا، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتخموها، فخرجوا إلى الظهر يتنزهون فإذا برئوا رجعوا . فأنزل الله في ذلك ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : أخذ ناس من المسلمين أموالا من المشركين فانطلقوا بها تجارا إلى اليمامة، فاختلف المسلمون فيهم، فقالت طائفة : لو لقيناهم قتلناهم وأخذنا ما في أيديهم . وقال بعضهم : لا يصلح لكم ذلك، إخوانكم انطلقوا تجارا . فنزلت هذه الآية ((198/3)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) .
وما نستفيده من هاتين الآيتين ، أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في الحكم على طائفة تخلفت عن نصر المؤمنين مع إظهارها للإسلام ، فقالت طائفة من المسلمين :هم مسلمون لأنهم يشهدون شهادة الحق ، وقالت الطائفة الأخرى :هم منافقون خارجون عن الإسلام بسبب تخاذلهم وعدم نصرهم للمؤمنين وتوليهم للكافرين ، فأنكر الله سبحانه على المؤمنين هذا الخلاف الذي الأصل فيه أن لا يكون ، ثم بين حكمه في هؤلاء المتخلفين بأنهم منافقون ظاهرو النفاق ، ودليل أن هؤلاء مظهرون للإسلام وقوع الخلاف في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فلو أنهم كفروا كفراً صريحاً بأن أعلنوا الردة لما وقع الخلاف بين الصحابة ، ولكنهم لما أظهروا الإسلام ، وجاءوا بما يناقضه اختلف الصحابة فيهم على قولين ، فمنهم من اعتبرهم لم يخرجوا عن الإسلام بسبب إتيانهم بالشهادتين ، ومنهم من حكم عليهم بالكفر وهم الذين أيدهم الله بقوله ، وهذا التأييد من الله تضمن معنى الإنكار إذ جاء بصيغة الاستفهام الإنكاري وهو قوله سبحانه : ( فما لكم ) ، وهذا القول هو أن العمل من الإيمان وأنه من أتى بما يناقضه يحكم عليه بالكفر، إلا أن يكون معذوراً شرعاً ، كأن يكون جاهلاً أو متأولاً أو مكرهاً ،أو مخطأً ، وهذا ما قرره علماء أهل السنة والجماعة خلافاً للمرجئة الذين لا يكفرون إلا بالاعتقاد والاستحلال القلبي ولكن قد يستدرك علينا بقولهم : إننا نقول : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة . فأقول : هذا القول صحيح وأنتم تقولونه ، ولكن ما يهمنا هو ، هل تقولون كما يقول أهل السنة والجماعة : إن العمل شرط صحة في الإيمان ، أم هو شرط كمال ، فإن قالوا : هو شرط كمال ، وهذا هو قولهم . قلنا هذا هو معتقد المرجئة ،لأن ما كان شرط كمال لا يكون جزء الشيء ، بل هو مكمل له ، وعليه فلا يزول الشيء بزوال كماله ، بل يزول بزوال موجبه ، وعليه يكون قولهم مجرد لفظ يلبسون به على العامة ، وهو غير مراد في مسألة التحقيق فافهم ذلك وكن منه على ثبت ، والله يتولاك برعايته .
ثانياً : لقد وصف الله سبحانه المتحاكمين إلى غير شرعه بصفات عديدة كلها تدل على الكفر والزندقة والردة والعياذ بالله منها :
1 : الكفر قال تعالى : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) . (44) المائدة
2 : الظلم قال تعالى : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) . (45) المائدة
3 : الفسق قال تعالى : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) . (47) المائدة .
هذه كلها ألفاظ تدل على الكفر الأكبر، إذ الخطاب بها موجه إلى اليهود والنصارى وسيأتي تفصيل لذلك إن شاء الله تعالى .
4 : النفاق قال تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ) . (61) النساء
5 : عدم الإيمان قال تعالى : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) . (65) النساء
6 : الجاهلية قال تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُون ) .َ (50) المائدة
7 : الطاغوت قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً) . (60) النساء(198/4)
فهذه ألفاظ تدل كلها على الكفر الصراح ، ولكن قد يستدرك علينا بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ( كفر دون كفر ) . أقول هذا الأثر إما أن يراد به الحكم ، وإما أن يراد به الحاكم فأما الحكم فغير مراد قطعاً إذ وصفه الله سبحانه بالطاغوت والجاهلية ولا يقال طاغوت أصغر وطاغوت أكبر ، أو جاهلية صغرى وجاهلية كبرى ، فالطاغوت هو شرك محض ، إذن فلا يبقى إلا الحكم على الحاكم ، والقول بإطلاق عدم كفر الحاكم غير مراد ،إذ ليس كل حاكم كفره أصغر إذ هنالك تفصيل ، ولا يحصر الكفر بالاستحلال ،وهذا القول كما سبق من معتقد المرجئة وليس من معتقد أهل السنة والجماعة ، بل القول بأن الحاكم لا يكفر إلا إذا أعتقد بقلبه صحة الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه يخرج من هذه القاعدة اليهود الذين نزلت الآيات بحقهم لأنهم لا يعتقدون في قلوبهم صحة ما يحكمون به بل يعتقدون الحق وذلك من عموم الأدلة الدالة على معرفتهم التامة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وأن ما جاء به هو من عند الله تعالى قال تعالى : ( كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) . (86) آل عمران وقال سبحانه : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) . (146) البقرة فاليهود لم يعتقدوا صحة دينهم وما يتحاكمون إليه ، بل اعتقدوا الحق ومع ذلك فهم كافرون الكفر الأكبر ولا يخالف مسلم ذلك ، وعليه فلا يشترط في تكفير الحاكم الذي لا يحكم بالإسلام أن يكون معتقداً ذلك بقلبه ، بل نحكم بكفره لمجرد تركه لحكم الله سبحانه إلا أن يكون معذوراً كأن يكون جاهلاً ، أو مكرهاً ، أو مخطأ ، أو متأولاً ، وأما من حكم بغير شرع الله عالماً بذلك مصراً عليه مظهراً العداوة للمؤمنين ، والموالاة للكافرين ، وأرغم الناس على ذلك طواعية غير مكره فما يمنعنا من تكفيره ؟ إلا أن نكون معتقدين معتقد المرجئة الذين لا يكفرون بالنواقض حتى يعتقد الإنسان ذلك بقلبه ، عصمنا الله سبحانه من الفتن ما ظهر منها وما بطن . وأما الأثر الوارد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، فلا يؤخذ على عمومه ، إنما هو خاص بحكام معينين حملهم على ذلك ما استثنى من الأعذار ، وما يؤكد أن مظهر الكفر كافر إلا أن يكون مكرهاً قوله تعالى : ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . (106) النحل فهذه الآية صريحة الدلالة بأن الذين يظهرون الكفر يكفرون إلا أن يكونوا مكرهين على الكفر وقلوبهم مطمئنة بالإيمان ، وهذا بلا شك ينص على الكفر الظاهر دون الباطن ، أي من أظهر الكفر ويكون حال إظهاره للكفر مكرهاً عليه مبغضاَ في الباطن له فهذا ليس بكافر ، وأما من أظهر الكفر غير مكره فهذا من شرح بالكفر صدراً فيحكم بكفره ، وإظهار الكفر لا يكون باللسان فحسب بل يكون بالعمل كذلك ، ودليل على أن المقصود بالكفر كفر الظاهر أن الآية نزلت كما نقل أهل التفسير بحق عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه ، إذ أظهر الكفر لقومه بسبب ما لقي من الأذى وكان قلبه مطمئناً بالإيمان .(198/5)
ثالثاً : قد سبق القول بأن الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه كفر ، وثمة قضية ثانية ، وهي التفريق بين ترك الحكم واستبداله ، فإنه من استبدل الحكم بما أنزل الله سبحانه بقوانين وضعية يكون قد نصب نفسه شريكاً لله سبحانه إذ التشريع يختص الله به قال تعالى : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) . (40) يوسف فليس الحكم إلا لله وقد قرن الله سبحانه بين الحكم والعبادة ، أي من يتحاكم إلى غير شرع الله سبحانه يكون عابداً لما يتحاكم إليه ، إذ العبادة هي التذلل والخضوع ، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه ، لذا جعل الله سبحانه الحكم بغير ما شرع طاغوتاً إذ قال سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً) . (60) النساء والواجب على أهل الإيمان هو الكفر بالطاغوت قال تعالى : ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) . (256) البقرة وفي الآية التي قبلها قال سبحانه : ( وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ) . ومع هذه الآيات لنا وقفات :
1 : أن الكفر بالطاغوت من شرط الإيمان ، ويوضح ذلك تقديم الله سبحانه للكفر بالطاغوت على الإيمان به إذ قال : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ ) . فالكفر بالطاغوت نتيجة الإيمان بالله سبحانه ، إذ لا يكون الكفر بالطاغوت ، إلا من خلال الإيمان بالله .
2 : أن مما أوجبه الله سبحانه علينا الكفر بالطاغوت قال سبحانه : ( وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ). أي أمروا أن يكفروا به ، ولازم الكفر بالطاغوت بغضه وإظهار المعاداة لأهله كما قال سبحانه حاكياً عن إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين ، قال تعالى : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) . (4) الممتحنة وعليه فالواجب على المسلم الكفر بالطاغوت لا موالاته والمنافحة عنه وإظهار العداوة لأعدائه كما يفعل أولئك المجرمون الذين يقيمون الولاء والبراء في الطواغيت .
3 : أن الله سبحانه جعل الناس قسمين ، إما متحاكمين لشرعه وهم عباده وأولياؤه ، وإما متحاكمين للطاغوت وهم عباد الشيطان والعياذ بالله قال تعالى : ( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً) . أي يضلهم بسبب بعدهم عن التحاكم إلى شرع الله ، إذن فالتحاكم إلى الطاغوت إرادة الشيطان المخالفة لإرادة الرحمن ولا عجب في ذلك فالله سبحانه يقول : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) .(60) ياسين وقال سبحانه حاكياً عن إبراهيم : ( يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً ) . (44) مريم . وعليه فالإنسان إن كان معرضاَ عن عبادة الله سبحانه ، فهو خاضع لعبادة الشيطان ، فإن كل من خرج عن طاعة الله فهو داخل في طاعة الشيطان وذلك لأن الشيطان يأمر بمعصية الله ولا شك بأن الخروج عن حكم الله هو دخول في حكم غيره وهذا هو ما قصدت ، وهو أن المتحاكم إلى غير شرع الله معرض عن عبادته سبحانه ، ومن هذه حاله فهو عدو لله و لرسوله وللمؤمنين ، وهذا من تجب معاداته حتى يؤمن بالله وحده .(198/6)
4 : أن التشريع شرك لأنه مما أختص به الله سبحانه نفسه إذ قال : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) . وقال سبحانه:( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) . (21) الشورى والحكام المتحاكمين إلى غير شرع الله قد شرعوا لنا من الدين ما لم يأذن به الله سبحانه ، فهم مشرعون تشريعات مناهضة لتشريع الله سبحانه ، ومن أصول أهل السنة والجماعة نبذ الشرك والتبرؤ منه وتحذير الناس من خطورته وما يترتب عليه من مصائب جمة ، وهذه قضية تساهل فيها كثير من أهل العلم ، إذ نرى كثيراً منهم يركز على شرك القبور والمقامات وقد يكون في كثير من أحواله غير موجود ، في الوقت الذي يقللون فيه من شرك الحاكمية ، بل من المفجع أن بعضهم ذهب إلى أن القول بتوحيد الحاكمية بدعة ضلالة ، ولا أدري ماذا يريدون بذلك ، هل يريدون أن الله قد يشاركه في الحكم غيره ، أم أن هذا التقسيم مخالف لأصول أهل السنة والجماعة ، فإن كان الأول فهذا الكفر بالله الصراح ، وإن كان الثاني ، فنقول :ما هو الدليل على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، ؟ بل أين الدليل على القول بتوحيد الأسماء والصفات ؟ فإن قالوا : النصوص تدل على ذلك . قلت : كذلك النصوص تدل على توحيد الحاكمية ، فإن قالوا : لم يثبت عن العلماء أنهم قالوا بتوحيد الحاكمية . قلت : فالقول بتوحيد الحاكمية كالقول في توحيد الأسماء والصفات ، فإن التوحيد إما أن يكون متعلقاً بالله سبحانه وأسمائه وصفاته ، وهذا توحيد الربوبية ، وإما أن يكون متعلقاً بتوحيد العبادة ، وهذا ما يسمى بتوحيد الألوهية ، ولا قسم ثالث ، فالأسماء والصفات أما أن تندرج تحت توحيد الربوبية ، وإما أن تندرج تحت توحيد الألوهية وليست قسماً ثالثاً ، وأما إفراد العلماء لها قسماً مستقلاً فبسبب وقوع الخلاف فيها ، فأراد العلماء أن يبينوا أن القول في الأسماء والصفات كالقول في الذات ، وأن هذا من الإيمان بالله سبحانه ، وهكذا اليوم غاب عن كثير من الناس أن الحكم لا يكون إلا لله وأن الانقياد إلى غير حكم الله سبحانه شرك ، وعليه ، فلا يكون الحكم إلا لله الذي هو الحق والعدل البعيد عن الجاهلية والكفر والظلم والفسق .
رابعاً : الأصل في تنصيب الإمام ، إقامة الدين ، والذود عن الإسلام وأهله فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه). رواه مسلم وأبو داود وغيرهما فالإمام جنة يتقى به ويقاتل من ورائه ، فهو يعمل على إعلاء كلمة التوحيد ونشرها في الأمم ، ويقاتل الناس عليها ،كما في الحديث الصحيح الذي رواه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) . فالإمام مسؤول عن تبليغ الدين ونشره والذود عنه ، والمسلمون على ذلك بايعوه ، ومن مستلزمات البيعة الحفاظ على معتقد المسلمين ودمائهم وأموالهم وأعراضهم ، وهذه كلها تدخل ضمن مسؤولية الإمام ، بل إن من أعظم ما أنيط بالحاكم من أعمال الحفاظ على وحدة المسلمين كما في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا بويع للخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ). رواه مسلم وهذا من باب الحفاظ على وحدة المسلمين ، وما نستفيده من الحديث من الناحية المسلكية ما يلي :(198/7)
1 : أنه لا يجوز أن يكون للمسلمين إمامان ، وذلك حفاظاً على وحدتهم التي فيها قوتهم ، فإن تعدد الأئمة في الأمة الواحدة يوجب خلافها المؤدي إلى هلاكها قال تعالى : ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) . (46) الأنفال وهذا واضح لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، فإذا كان وجود إمامين في الأمة يؤدي إلى هلاكها بسبب عوامل اختلافها ، فكيف بحال الأمة اليوم ؟ نسأل الله سبحانه العافية ، فقد أصبحت الأمة تعيش في دويلات متفرقة تفتقر إلى أبسط شؤون الحياة ، والظاهر فيها السلطنة وخروج بعضها على بعض ، فهي تجتمع على موالاة الكافرين والعمل على تمرير مخططاتهم في الوقت الذي يعادي فيه بعضها بعضاً عصبية ابتغاء نيل متاع الحياة الدنيا وزينتها ، بل أصبح الولاء والبراء قائماً في هذه الدول التي لا صلة لها بالدين اللهم إلا بالتسمية ، وغالب أهلها يقومون على أساس التقوقع في هذه الدول دون الرابط الشرعي ، فهذا فلسطيني وذاك أردني ، وهذا ، وهذا، وهذا ، فلا يحق للفلسطيني العيش في غير الأرض التي يولد فيها إلا بإذن الدولة التي يقيم فيها مع مراعاة عدم التمتع بحقوق المواطنة ، والحق للدولة بإخراجه في أي وقت ، وهذا عام في عامة المسلمين . فأي فرقة أعظم من هذه الفرقة ؟ وأي اختلاف أعظم من هذا الاختلاف ؟ وأي جاهلية أعظم من هذه الجاهلية ؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح ( إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه و لا تكنوا ) . صححه الألباني في الصحيح الجامع . وقال صلى الله عليه وسلم : ( من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فقتلة جاهلية ) . رواه مسلم . فأين المسلمون المتعصبون لقومياتهم من هذه الأحاديث ؟ هل رضي أولئك أن يموتوا ميتة جاهلية ؟ هل رضوا بأن يكونوا من الجاهلين ؟ فإن كل من اتصف بهذه الصفات ففيه جاهلية أجل فيه صفات من الجاهلية الأولى ويخشى على دينه ، ثم ماذا نقول بمن تزّيا بزي أهل العلم ،وادعى ظلماً بأنه على نهج السلف ،وقد أخذ يزين للظالمين ظلمهم ويبارك لهم طغيانهم ويتفنن بإصدار الفتاوى الهالكة ضد من أنكر أعمالهم ، ولو كان ذلك بالكلمة العابرة ، فهم عنده أولو الأمر والنهي الذين لا أمر فوق أمرهم ، ولا نهي مع نهيهم وبعد ذلك كله يقول متنطعاً هذه ليست فرقة ولا اختلاف ، بل هذا عين الحق . فلا حول ولا قوة إلا بالله .
2 : جواز قتل المسلم المبايع من قبل المسلمين إذا بويع وكان للمسلمين إمام غيره ، وهذا واضح من قوله صلى الله عليه وسلم : ( فاقتلوا الآخر منهما ) . ومن المعلوم أن الآخر حصلت له الخلافة بمبايعة بعض الناس له وهذا مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم ( بويع ) وهذا لا يتم إلا من خلال فعل المبايعة وهي لا تكون إلا من خلال أناس يبايعونه على الخلافة . إذن فالإسلام يجيز قتل الخليفة الثاني ومن بايعه وذلك حماية لوحدة الأمة ، ومن تبدر هذا الأمر علم يقيناً بأن المسألة عظيمة للغاية وذلك ،أن الله سبحانه عظم قتل المسلم بغير الحق وتوعد كل من فعل ذلك بجهنم وبالغضب واللعنة والعذاب الأليم قال تعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) . (93) النساء وقد دلت الأحاديث على تعظيم قتل المؤمن بغير حق ، وما يتعلق بالقاتل من أحكام في الدنيا والآخرة من ذلك ما رواه ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والله للدينا وما فيها أهون على الله من قتل مسلم بغير حق ) . رواه النسائي والترمذي وغيرهما وصححه الألباني ، وفي حديث آخر عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قلت : يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه). رواه البخاري . وفي هذا الحديث يأمر صلى الله عليه والسلم المسلمين بأن يقتل بعضهم بعضاً ، وهو واضح من قوله : (فاقتلوا الآخر منهما ) وهذا يعني قتل الآخر ومن معه من المسلمين ، ولولا أن وحدة المسلمين أعظم من أن يقتل بعضهم بعضاً لما أمر صلى الله عليه وسلم بقتل الخليفة الآخر وقد جاء في الحديث الصحيح عن عرفجة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ) . رواه مسلم وبهذا يعلم خطورة الأمر وحرمة تعدد الخلفاء في الأمة الواحدة .(198/8)
3 : لا يشترط من القول بوجوب الخروج على الخليفة الثاني أن يكون كافراً ، فقوله صلى الله عليه وسلم : ( فاقتلوا الآخر منهما ) . لا يدل على كفره ،و إنما القتل بسبب إتيانه بفعل يستحق عليه القتل وذلك من خلال قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة). رواه البخاري ومسلم وغيرهما ، فبين صلى الله عليه وسلم أن التارك لدينه المفارق للجماعة مهدور الدم وإن كان من المسلمين ، وهذا رد على من يشترط بالخروج على الحاكم تحقق خروجه من الملة وسيأتي زيادة تفصيل لذلك في النقطة التالية إن شاء الله تعالى .
4 : إن الخليفة الثاني لا تنعقد له البيعة وإن بويع له من قبل بعض المسلمين ، فلا تجب طاعته ، بل تجب منابذته والخروج عليه ، ولا يصح السكوت عليه إلا لعذر شرعي ،أو مصلحة شرعية راجحة ، وأما القول بأن تعدد الخلفاء جائز وطاعتهم واجبة ما استلموا زمام الحكم وإن أتوا بكل ناقض من نواقض الإيمان ، وتركوا شروطه حتى يستحلوا ذلك بقلوبهم ، فهذا قول فاسد يؤدي إلى هدم الدين وطمس معالمه ، ونشر الفساد والانحلال في الأمة التي جعلها الله سبحانه خير أمة أخرجت للناس، ،بل يهدم أبسط قواعد الدين وهو القيام بالعدل ونشره في الناس كآفة ، ولكن من يضلل الله فما له من هاد ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
والشاهد في هذه القضية أن الحاكم يبايع من قبل الأمة لإقامة دين الله سبحانه ، والذود عنه ، والدفاع عن المسلمين وأعراضهم وأموالهم ، فإن تخلف الحاكم عن ذلك فلا عبرة من وجوده ، ولا يخالف الأمراء في دول الكفر بل الأمراء في دول الكفر خير منه ، فهم يخلصون لبلدانهم ، ويعملون على حماية شعوبهم . بل يجعلون ولاءهم وبراءهم في مصلحة شعوبهم ، وأما هؤلاء الحكام فهم يعملون على قطع كل صلة تربطهم بشعوبهم إلا ما كان يصب في مصالحهم الشخصية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
خامساً : طاعة الحكام منوطة بطاعتهم لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك التزامهم بأحكام الله سبحانه وهذا واضح من قوله سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) . (59) النساء وفي الحديث الصحيح : (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) صححه الألباني في الصحيح الجامع . فطاعة الحكام منوطة بطاعتهم لله ورسوله ، فإن خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلا طاعة لهم ، ويؤكد ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة ، ويعملون بالبدعة ، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها ، فقلت : يا رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل ؟ قال : تسألني يا ابن أم عبد ماذا تفعل ؟! لا طاعة لمن عصى الله ) . رواه أحمد ، وابن ماجه ، وغيرهما ، وصححه الألباني وهذا الحديث يدلنا على أمور عدة وهي:
1 : أنهم لا يلتزمون السنة ، بل يبتدعون البدع في الدين ، والبدعة هي التقرب إلى الله سبحانه بعبادة لا دليل عليها لا من الكتاب ولا من السنة ، إذن فهم عابدون لله ولكن على غير ما شرع .
2 : أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها ، أي أنهم يصلون ، ولكن يتساهلون في أدائها .
3 : أن من فعل ذلك فلا طاعة له ، ولفظ طاعة ، هنا يقع اسماً للا النافية للجنس ، فدل ذلك على العموم ،أي لا طاعة في كبير ولا صغير ، فقد نفى صلى الله عليه وسلم عنهم جنس الطاعة ولا استثناء في ذلك هنا .
4 : إذا كان لا طاعة لمن خالف السنة وأظهر البدعة ، وأخر الصلاة عن وقتها ، فكيف بمن بدل دين الله سبحانه ، أحل ما حرم الله ، وحرم ما أحل الله ، ووالى الكافرين ، وعادى المؤمنين ، وأشاع الفساد في الأرض ؟!
وبذلك يتبين دجل الذين يقولون بوجوب طاعة أولي الأمر مطلقاً وإن أتوا بكل ما يناقض الإسلام ،ما لم يعتقدوا صحة ذلك بقلوبهم .(198/9)
سادساً : دلت الأحاديث الصحيحة على وجوب الخروج على الحاكم إن أظهر الكفر البواح من ذلك ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه ، قال : ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وقال : إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان ) . رواه مسلم . وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم : ( سيكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون ، فمن نابذهم نجا ، ومن اعتزلهم سلم ، ومن خالطهم هلك ) . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع . قيل : يا رسول الله ألا ننابذهم بالسيف ؟ قال : لا ، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان ) . فبين الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب طاعة الحكام إلا أن يظهروا الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان ، ومن الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان ، استبدال شرع الله سبحانه ،وقد سبق ذكر المسألة مع ذكر الأدلة عليها ولا يشترط في إظهار الحاكم للكفر البواح أن يكون كافراً في الباطن ، بل قد يكون مسلماً ومع ذلك يكون مظهراً للكفر البواح ، فقد ينتفي عنه الكفر لوجود معارض كالجهل ، أو التأويل وما إلى ذلك ولكن لا نستطيع أن ننفي عنه الكفر ظاهراً ، فكل من أتى كفراً يعتبر مظهراً للكفر وإن لم يعتقد صحته ، وهذا فيما يتعلق بالحكم على المسألة أما حكمنا عليه بالكفر فينظر ، فإن انتفت موانع التكفير وثبتت شروطه حكمنا عليه بالكفر ، والشاهد هنا قوله صلى الله عليه وسلم : ( إلا أن تروا ) والرؤية هنا الرؤيا العينية ، وليست القلبية ، إذ لو كانت الرؤيا القلبية لما استطعنا الحكم عليه بالكفر حتى يصرح هو أو نشق عن قلبه ، وهذا يرجع إلى أصول المرجئة الذين يجعلون للإيمان ركنين ، التصديق بالقلب ، والنطق باللسان ، على خلاف أهل السنة الذين يجعلون العمل من الإيمان ، وأنه من أتى ناقضاً من نواقضه يكفر إلا أن يكون معذوراً وقد بينا الأمور التي يعذر بها المسلم ، والشاهد من هذه المسألة أنه إذا ظهر من الحاكم الكفر البواح وجب الخروج عليه وإن لم يعتقد ذلك بقلبه ، وما ينبني على هذه المسألة أنه من وجب الخروج عليه سقطت ولايته ، ومن سقطت ولايته فلا يعتبر أميراً للمسلمين تجب طاعته ، بل من يقول بذلك فعليه أن يراجع حساباته بنفسه قبل أن يحاسب عليها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
ولكن هنالك مسألة لا بد من ذكرها وهي : أن الحاكم ، وإن وجب الخروج عليه لإظهاره للكفر البواح ، فلا يخرج عليه حتى تتحقق شروط الخروج وهي :
1 : إظهار الكفر البواح ، وقد مضى القول فيه .
2 : المقدرة العلمية والعملية ، فأما الأولى فهي مبنية على النقطة قبلها وهي تحقق الكفر البواح ، وهذا لا يكون إلا من خلال أهل العلم الذين يفرقون بين الكفر البواح وغيره ، حتى لا يقول في دين الله من ليسوا من أهله فتفسد البلاد والعباد . وأما الثانية فهي مبنية على القواعد العامة منها قوله تعالى : ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) 286 البقرة وقوله صلى الله عليه وسلم : (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) . مسلم .
3 : أن لا تكون فتنة الخروج على الحاكم أعظم من فتنة الحاكم ، وذلك أن الهدف من الخروج عليه تحقيق المصلحة الشرعية ، وهي إقامة دين الله ، فإن غلب على الظن أن الخروج على الحاكم سيؤدي إلى نتائج سلبية فلا يصح الخروج عليه ، ويجب الصبر .
4 : أن تقام الحجة على الحاكم وذلك من منطلق قوله تعالى : ( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) . (165) النساء وقوله سبحانه : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) . (15) الإسراء
إلا أنه لا يعني عدم تحقق هذه الشروط القعود والتخاذل بل الواجب العمل على تحقيق الاستطاعة ضمن الضوابط الشرعية وهذا من منطلق القاعدة الشرعية التي تنص على: ( الوسائل لها حكم المقاصد ) . وقاعدة : ( ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ) .(198/10)
سابعاً : وهنالك دليل آخر على عدم صحة ولاية هؤلاء الحكام وهو دليل متضمن وإن كان بعيداً عن الواقع ، ومفاده أن من معتقد أهل السنة والجماعة خروج المهدي ، وهو الإمام الذي يقيم الله سبحانه على يديه الخلافة على منهاج النبوة ، وهذا ما نرجحه من عموم الأدلة ،منها ما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء إن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت ) . صححه الألباني في السلسلة الصحيحة فقد بشر الله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة ، وهذه الخلافة حتماً ستلغي تلك الإمارات المتناثرة وتجمعها تحت إمرة الخليفة الراشد وهذا يدل على عدم مشروعية تلك الإمارات ، وإلا لكان المهدي من الخوارج كما يزعمون ، ومن كان هذا وصفه فلا يكون خليفة راشداً ،ومن باب آخر فإنه يجب على كل مسلم أن يكون تحت إمرة هذا الخليفة ومن خرج عن إمارته فمات فميتة جاهلية كما دل على ذلك ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة، لا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية ) رواه مسلم . وعليه فإن هذه الإمارات ليست على هدي النبوة ، فهي إمارات ساقطة لا يجوز مناصرتها أو الذود عنها ، أو الولاء والبراء فيها ، والواجب على كل مسلم أن يكون مع الحق ، وأن ينصر الحق .
ثامناُ : نقول لهؤلاء ، أي الذين يعتبرون الحكام ولاة أمور شرعيين ، إذ يوجبون على الناس طاعتهم ويحرمون الخروج عليهم ، بل يذهبون إلى أبعد من هذا الحد ، إلى عدم جواز الإنكار عليهم إلا سراً ومن خلال أهل العلم ( المقربين من الأمراء ) ، ما هو الواجب على المسلمين أمام هذه الفتن التي تعترفون بوجودها وأهوالها ؟ بل ما هو دور العلماء في المجتمع ؟ وما هو دور طلبة العلم ؟ كيف السبيل إلى القضاء على مظاهر الشرك التي لا يخلو درس من دروسكم إلا وأشرتم إلى خطورته وأخذتم تقسمونه وتبينون أنواعه ؟ ما هو السبيل إلى تحكيم شرع الله إذا رفض حكامكم المسلمون ولاة أموركم ذلك ؟ ما هو سبيل النجاة ؟ فلن يجد هؤلاء جواباً على هذه الأسئلة ، بل ما الذي يحملهم على التغيير وهم يعتبرون الحكام حكاماً شرعيين ؟ فهم لا يعملون على تغيير الحكام لأن ذلك خروج عليهم فهم يصفون من ينادي بذلك بالتكفيري والخارجي ، أي خارج عن طاعة أولي الأمر ، ولا يتورعون عن وصفهم بكلاب أهل النار ، إذن فمن يخرج على الحاكم فهو من كلاب أهل النار وهم بلا ريب لا يريدون أن يتصفوا بهذا الوصف ، بل هم يفرون منه أيما فرار ، ويظهرون العداوة والبغضاء لكل من خالفهم ، ويحذرون منه ومن علمه ، بل يعتبرون تنفير الناس عنه من أعظم القربات التي يتقربون بها إلى الله سبحانه ، فمن كان هذا حاله فهو حتماً لا يعمل للتغيير اللهم إلا أن يعمل على تغيير الناس وذلك من خلال دعوتهم للتبرئ من الخوارج ( كلاب أهل النار ) الذين يطالبون بالخروج على الحكام واستبدالهم بحاكم شرعي ،وإعطاء الولاء والطاعة لأولي الأمر ومباركة أعمالهم ، أجل هذا هو واقعهم ، وهذه هي دعوتهم ، وهذا ما يريدونه ويعملون على تحقيقه نسأل الله العافية والثبات على الحق حتى الممات .
تاسعاً : وهذه النقطة تتعلق بالشق الثاني من السؤال وهو ما يتعلق بالتعامل معهم وتكثير سوادهم ، والجواب عليها يكون من عدة نقاط هي :
1 : هم أناس يجترئون الكذب على منهج السلف الصالح ، إذ ينسبون القول بأن العمل شرط كمال إلى مذهب أهل السنة والجماعة ، ويريدون بذلك ، إخراج العمل عن مسمى الإيمان ، فهم لا يكفرون إلا بالاستحلال القلبي ، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة ، فأهل السنة والجماعة يجعلون العمل من الإيمان ، ولذا ثبت عن كثير منهم كالإمام أحمد في أحد القولين عنه أنه كفر تارك الصلاة الكفر الناقل عن الملة ، وإن كان تركه للصلاة كسلاً ،وإلى هذا ذهب في العصر الحاضر كثير من أهل السنة منهم سماحة الشيخ ابن باز وفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمها الله تعالى ، والصلاة من أعمال الجوارح ، بل من قرأ حكم تارك الصلاة لفضيلة الشيخ ابن عثيمين يجد أن الأدلة التي استدل بها على كفر تارك الصلاة أقل قوة من الأدلة الدالة على كفر مستبدل حكم الله سبحانه ، وعليه ، فإن نسبة قولهم هذا الذي هو في حقيقة الأمر مذهب المرجئة إلى أهل السنة والجماعة ( السلف الصالح ) كذب وافتراء .(198/11)
2 : هؤلاء قوم يفصلون الدين عن الدولة ، أي يجعلون الدين لأولي الأمر وليس للمسلمين عامة ، فلا يجوز لأي إنسان أن يتدخل في الدين أو يعترض على أولي الأمر ، لأن ذلك يعد خروجاً عليهم ، ومن فعل ذلك فهو ( من كلاب أهل النار ) . ولذا نجدهم يشتد نكيرهم على المخالفين لهم خاصة في هذه المسألة ، ومن هذه حالهم فلا ريب أنهم لا يعملون لإصلاح المجتمع أو تغييره ،بل قد يعملون لمصلحة الحكام أعاذنا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن .
3 : هؤلاء قوم ظالمون لأنهم راكنون إلى الظالمين قال تعالى : ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ) . (113) هود . والحكام ظالمون بلا ريب لقوله تعالى : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) . (45) المائدة والركون إلى الظالمين ظلم ، بل توعد الله سبحانه من فعل ذلك بالعذاب الأليم ، ودليل ركونهم إلى الظالمين مدافعتهم عنهم وإقامة الولاء والبراء فيهم ، فمن قال عن الحكام : هم ألوا أمر ،فهذا سلفي على منهج أهل السنة ، ومن قال : إنهم ظالمون فاسقون ، فهذا تكفيري خارجي لا بد من التحذير منه والتشهير به، فأي ركون بعد هذا ؟!
4 : وعليه فإن كل من أعانهم على ظلمهم ، أو عمل على تكثير سوادهم ، أو ترك الإنكار عليهم فحكمه حكمهم ، بل هو شريك لهم في ظلمهم وتطاولهم على عباد الله الصالحين ، ولا أرى سبباً يجعل الناس يلتفون حولهم إلا المصالح الدنيوية ، فهم تجمعهم المصالح ، وتفرقهم الأهواء ، وكثير منهم يقول سراً ، نعلم أنهم على غير الحق ولكن نريد ... وهذا والله هو النفاق بعينه ، كيف يكثر سوادهم على ما هم عليه من الآثام والظلم ومعاداة الناس بغير الحق ، والحكم الفصل الذي ليس بالهزل أن كل من ناصرهم أو عمل على تكثير سوادهم متهم ، متهم، متهم ؟ والله سبحانه أعلى واعلم وصلِ اللهم على محمد بن عبد الله النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين .
وكتب : إبراهيم بن عبد العزيز
الأربعاء 9 /ربيع أول /1425 هـ
الموافق 28 /4/ 2004 م(198/12)
أدعياء التنوير والعيش في الظلام
عبدالله الزايدي 24/4/1427
22/05/2006
يصف دعاة التنوير ذواتهم بالتقدمية ومواكبة العصر والتطورية، وينعون على غيرهم -خصوصاً خصومهم التقليديين (الإسلاميين )- تعلقهم بالقديم وارتباطهم التراثي، وانشدادهم للماضي، وخصومتهم للمجتمع، وفي ذات الوقت نجد هؤلاء الدعاة يقعون -وبصورة أشد- فيما يتهمون به خصومهم.
وحتى لايكون الأمر دعاوى لا تستند إلى البرهان، نقف مع أحد أبرز دعاة التنوير في بلادنا المملكة العربية السعودية، الذي يعده العديد من المتابعين أبرز وأعمق منظري الفكر التنويري كما يصفونه، وهو أكثر من كتب عن التنوير محبذاً وداعياً، ومنافحاً من خلال مقالات عدة في إحدى أبرز الصحف السعودية:
فنجد أبرز سمات فكره التنويري واضحة في كتاباته، وهي سمات تتناقض مع دعاوى التقدمية التي يبشر بها، ويمكن إيجازها على النحو التالي، مستندة إلى شواهدها من مقالاته المنشورة:
أولاً: الانشداد للماضي الأوروبي الذي مضى عليه أربعة قرون، وتجاوزه الواقع الأوروبي بمراحل، ولا يزال التنويري الكبير يحلم بتلك الفترة، ويعمّم أثرها على كل الإنسانية، حتى على المجتمع المسلم الذي لم يخرج من الظلمات إلى النور في رؤية التنويري إلاّ بفكر التنوير الأوروبي؟! فيقول:
1 -لم ينهض التنوير الأوروبي المجيد، الذي أخرج الإنسانية من ظلمات الجهل والتخلف والانحطاط، إلى نور العلم والتقدم والمدنية الإنسانية، إلاّ على إيمان راسخ وعميق بهذا الإنسان، إيمان متفائل، يتكئ على فعاليات عقلية، ومعطيات تجريبية من عالم الوقائع المادية، ولكنه - قبل ذلك وبعده - يكاد يكون عقيدة كلية، تستولي على مشاعر أولئك الفلاسفة العظام، في عصر النهضة الأوروبية.
2 - كما لم يأت التنوير الأوروبي من فراغ؛ فإنه - كذلك - لم يقم في فراغ. لقد كان الوقع المظلم لأوروبا في القرون الوسطى هو الباعث أو المسوّغ لطرح سؤال التنوير الذي أخرج أوروبا من الظلمات إلى النور. ولا يزال التراث التنويري، يمد العالم أجمع بنفحات من الحياة، يصعب أن تعيش بدونها؛ على الرغم من بعض صور العقوق له، حتى من أبنائه، وعلى الرغم من القراءات التي المتجاوزة من جهة، والمضادة لنهائيات القيم التنويرية من جهة أخرى.
3- اجترار مصطلحات الفكر الماركسي ومفرداته الخطابية نحو الخصوم: الظلامية، الرجعية.
على الرغم من مزاعم التنويري بالحداثة والتقدم إلاّ أنه موغل في التخلف واجترار مفردات الخطاب الشيوعي أيام الستينيات؛ فهو يصف مخالفيه بالرجعية والتخلف فيقول: هناك - أيضاً - من يستفيد معنوياً من هيمنة الوعي التقليدي الرجعي. القيمة المعنوية لسدنة الرجعية مرتبطة ببقائها - ومن المعلوم أن مصطلح سدنة الرجعية أحد أبرز المصطلحات الشيوعية شيوعاً في الأوساط العربية في فترة الستينيات.
4- العداء المطلق للآخر (الإسلامي) وثقافته؛ ففي كتابات هذا الكاتب عداء شديد للثقافة الإسلامية، يتضح جلياً في مفردات السباب التي يوجهها لهذه الثقافة؛ فهو يصف ثقافة المجتمع المسلم الذي يعيش فيه بأبشع الأوصاف، فهي(ثقافة الغباء)، و (ثقافة الموت)، و (الثقافة الآتية من عصور الانحطاط)، و (الثقافة البائسة).
وهذه الشتائم لثقافة المجتمع المسلم الذي يعيش الكاتب فيه بجسده، ويغترب عنه بفكره تتكرر في أكثر من مقال، بل تتردّد أحياناً في المقال الواحد.
5 - تأكيد حالة الصراع الدائم مع المجتمع والاغتراب عنه، والاستعلاء عليه، ووصفه بالجهل والظلامية والخصومة معه ومع ثقافته، والدعوة للصراع مع المجتمع والقوى النافذة فيه، والتي تقف موقف التوجّس من دعوته، في نفس الوقت الذي يهاجم فيه أعلام الدعاة بأوصافهم بزعم أنهم يثيرون ثقافة الصراع في المجتمع، فمن أقواله الغريبة في هذا السياق:
أ ) وكلّما تكشف الواقع عن روح ظلامية رجعية كان إحساس الفاعل التنويري بأهمية دوره التاريخي إحساساً عميقاً؛ يدعوه إلى (الجهاد) في سبيل التنوير، حتى النفس الأخير.
ب) هناك من لا يريد أن تظهر العلاقة بين التقليدي والتنويري على أنها علاقة صراع، وإنما يريدها علاقة حوار وتكامل. هذا حلم جميل. لكن طبيعة الوعي التنويري التقدمي، لا يمكن أن تكون في علاقة سلام مع الوعي التقليدي الرجعي الذي يحاول الرجوع بالأمة إلى الوراء. كل مفردة من مفردات التنوير الإنساني، ستجد لها ما يضادها من مفردات السلفية التقليدية التي تقف على الضدّ من الإنسان.
ج) التحوّلات الاجتماعية لا تسير بمنطق الأحلام الجميلة، بل هي إلى منطق الصراع أقرب. لن يرضى التنويري بالانسياق إلى غياهب الظلامية التقليدية، وكلّما تكشّف الواقع عن روح ظلامية رجعية؛ كلما كان إحساس الفاعل التنويري بأهمية دوره التاريخي إحساساً عميقاً يدعوه إلى (الجهاد في سبيل التنوير، حتى النفس الأخير).(199/1)
4 -التيار التقليدي قادر على الإضرار بنا مادياً ومعنوياً. لكن يجب أن تكون هذه القدرة حافزاً لنا للقيام بأي شيء لمواجهة هذه الظلامية القاهرة. والواجب أن تكون علاقتنا بقوة التيار التقليدي غير تقليدية. أي كلّما أحسسنا بتنامي قدرته على الإضرار بنا، فلا بد أن نكون أشد صراحة وجذرية في مواجهته، وليس أن نخضع لهيمنته ونفوذه.
6- التحامل على المخالفين له، وتشويه حقيقة موقفهم، وافتعال أسباب غير حقيقية للخلاف.
7- استبعاد البعد العقدي الديني لخصومهم الفكريين وقصر الأسباب على السبب المادي (التفسير المادي للتاريخ)، ويتضح ذلك في النصوص التالية:
1 - هناك من يستفيد مادياً من ضمور الفاعلية التنويرية وتضخم النفوذ التقليدي. أي أن موقعه في بنية المجتمع، وامتدادات المصالح الخاصة، تجبره على الوقوف في الصف التقليدي.
2 - هناك - أيضاً - من يستفيد معنوياً من هيمنة الوعي التقليدي الرجعي. القيمة المعنوية لسدنة الرجعية مرتبطة ببقائها. نحن نعرف أن هناك مؤسسات قائمة على ترويج هذا الخطاب، بل وأقسام (علمية!) جامعية، تمنح الشهادات العليا، بدرجة الولاء لهذا الخطاب التقليدي، وهؤلاء سيكونون في المهمش الاجتماعي في حال تنامي المد التنويري، وستصل قيمتهم الاعتبارية إلى درجة الصفر، بل ربما كانت المراجعة المعرفية التنويرية كفيلة بمحاكمتهم - معرفياً - على جنايتهم في حق الأمة.
8- اجترار مقولات ثبت بطلانها:
من المزاعم التي كان يلوكها دعاة التغريب من العلمانيين والشيوعيين في أواسط القرن الماضي، دعوى التشابه بين وضع علماء الشريعة ورجال الدين في أوروبا، وأن علماء الدين الإسلامي يتماثلون في مسؤولياتهم وأعمالهم مع رجال الكهنوت الأوروبي، وهذه مزاعم فجة وغير علمية، ومع ذلك يأبى داعية التنوير الكبير إلا أن يلوكها في ترداد ساذج لمقولة مزورة للحقيقة، فيقول:
"لقد أدرك رواد التنوير العربي منذ أيام الطهطاوي وإلى هذه الساعة، أن التشابه كبير جداً - على الرغم من الفروقات الثانوية - بين الحالة الأوروبية في القرون الوسطى وحالة المسلمين اليوم. أدرك رواد التنوير العربي أن المسلمين لم يخرجوا - بعد - من قرونهم الوسطى التي تمتد لما يناهز عشرة القرون، وأن عصور الظلام الإسلامية لم تكن أحسن حالاً - بمعيار الوعي الكلي - من عصور أوروبا المظلمة ذات النفس الكنسي".
9- الاعتراف بأن للتنوير أهدافاً غير التقدم المادي، وهو الهدف التغريبي.
على الرغم من إلحاح التنويريين -كما يسمون أنفسهم- بأن التنوير يستهدف النهوض بالأمة، والانبعاث الحضاري، وتحقيق التقدم المادي، فإن داعية التنوير يعترف بأن بلادنا استطاعت أن تحقق إنجازاً تنموياً مادياً لايُستهان به، ولذلك لم تكن هناك حاجة للتنوير في بعده الثقافي في الرأي العام المحلي، ومع ذلك يصر على الحاجة إليه؟! مما يؤكد أن هدفهم من التنوير ليس التقدم المادي الذي يمكن حدوثه بمعزل عن هذا الفكر، بل يريدون نقل الفكر التنويري الغربي المعادي للثقافة المهيمنة على المجتمع وهي الثقافة الإسلامية، يقول الكاتب:
"لهذا لم يكن المجال للتنوير - في بعده الثقافي - مفتوحاً، بالقدر الذي يكفي لصناعة وعي حديث، يستطيع أن يعمل بالتوازي مع الحركة التنموية في بعدها المادي، وشبه المادي، وساعد على الزهد في التنوير ما أتت به الطفرة المادية من قدرة كبيرة على تحقيق منجزات تنموية لا يُستهان بها. وهذا المنجز المادي أوهم الوعي العام أن لا حاجة إلى التنوير، وأن الانبعاث الحضاري يتحقق، على الرغم من التمسك بالوعي التقليدي".
وحسب هذا الوهم فلا مسوّغ للمغامرة بتبني المشروع التنويري في أبعاده الثقافية(199/2)
أدعياء التنوير( من اللبراليين) والعيش في الظلام
الكاتب: الشيخ د.عبدالله بن عبدالعزيز الزايدي
يصف دعاة التنوير ذواتهم بالتقدمية ومواكبة العصر والتطورية، وينعون على غيرهم -خصوصاً خصومهم التقليديين (الإسلاميين )- تعلقهم بالقديم وارتباطهم التراثي، وانشدادهم للماضي، وخصومتهم للمجتمع، وفي ذات الوقت نجد هؤلاء الدعاة يقعون -وبصورة أشد- فيما يتهمون به خصومهم.
وحتى لايكون الأمر دعاوى لا تستند إلى البرهان، نقف مع أحد أبرز دعاة التنوير في بلادنا المملكة العربية السعودية، الذي يعده العديد من المتابعين أبرز وأعمق منظري الفكر التنويري كما يصفونه، وهو أكثر من كتب عن التنوير محبذاً وداعياً، ومنافحاً من خلال مقالات عدة في إحدى أبرز الصحف السعودية:
فنجد أبرز سمات فكره التنويري واضحة في كتاباته، وهي سمات تتناقض مع دعاوى التقدمية التي يبشر بها، ويمكن إيجازها على النحو التالي، مستندة إلى شواهدها من مقالاته المنشورة:
أولاً: الانشداد للماضي الأوروبي الذي مضى عليه أربعة قرون، وتجاوزه الواقع الأوروبي بمراحل، ولا يزال التنويري الكبير يحلم بتلك الفترة، ويعمّم أثرها على كل الإنسانية، حتى على المجتمع المسلم الذي لم يخرج من الظلمات إلى النور في رؤية التنويري إلاّ بفكر التنوير الأوروبي؟! فيقول:
1 -لم ينهض التنوير الأوروبي المجيد، الذي أخرج الإنسانية من ظلمات الجهل والتخلف والانحطاط، إلى نور العلم والتقدم والمدنية الإنسانية، إلاّ على إيمان راسخ وعميق بهذا الإنسان، إيمان متفائل، يتكئ على فعاليات عقلية، ومعطيات تجريبية من عالم الوقائع المادية، ولكنه - قبل ذلك وبعده - يكاد يكون عقيدة كلية، تستولي على مشاعر أولئك الفلاسفة العظام، في عصر النهضة الأوروبية.
2 - كما لم يأت التنوير الأوروبي من فراغ؛ فإنه - كذلك - لم يقم في فراغ. لقد كان الواقع المظلم لأوروبا في القرون الوسطى هو الباعث أو المسوّغ لطرح سؤال التنوير الذي أخرج أوروبا من الظلمات إلى النور. ولا يزال التراث التنويري، يمد العالم أجمع بنفحات من الحياة، يصعب أن تعيش بدونها؛ على الرغم من بعض صور العقوق له، حتى من أبنائه، على الرغم من القراءات المتجاوزة من جهة، والمضادة لنهائيات القيم التنويرية من جهة أخرى.
3- اجترار مصطلحات الفكر الماركسي ومفرداته الخطابية نحو الخصوم: الظلامية، الرجعية.
على الرغم من مزاعم التنويري بالحداثة والتقدم إلاّ أنه موغل في التخلف واجترار مفردات الخطاب الشيوعي أيام الستينيات؛ فهو يصف مخالفيه بالرجعية والتخلف فيقول:
هناك - أيضاً - من يستفيد معنوياً من هيمنة الوعي التقليدي الرجعي. القيمة المعنوية لسدنة الرجعية مرتبطة ببقائها - ومن المعلوم أن مصطلح سدنة الرجعية أحد أبرز المصطلحات الشيوعية شيوعاً في الأوساط العربية في فترة الستينيات.
4- العداء المطلق للآخر (الإسلامي) وثقافته؛ ففي كتابات هذا الكاتب عداء شديد للثقافة الإسلامية، يتضح جلياً في مفردات السباب التي يوجهها لهذه الثقافة؛ فهو يصف ثقافة المجتمع المسلم الذي يعيش فيه بأبشع الأوصاف، فهي(ثقافة الغباء)، و (ثقافة الموت)، و (الثقافة الآتية من عصور الانحطاط)، و (الثقافة البائسة).
وهذه الشتائم لثقافة المجتمع المسلم الذي يعيش الكاتب فيه بجسده، ويغترب عنه بفكره تتكرر في أكثر من مقال، بل تتردّد أحياناً في المقال الواحد.
5 - تأكيد حالة الصراع الدائم مع المجتمع والاغتراب عنه، والاستعلاء عليه، ووصفه بالجهل والظلامية والخصومة معه ومع ثقافته، والدعوة للصراع مع المجتمع والقوى النافذة فيه، والتي تقف موقف التوجّس من دعوته، في نفس الوقت الذي يهاجم فيه أعلام الدعاة بأوصافهم بزعم أنهم يثيرون ثقافة الصراع في المجتمع، فمن أقواله الغريبة في هذا السياق:
1 -وكلّما تكشف الواقع عن روح ظلامية رجعية كان إحساس الفاعل التنويري بأهمية دوره التاريخي إحساساً عميقاً؛ يدعوه إلى (الجهاد) في سبيل التنوير، حتى النفس الأخير.
2 -هناك من لا يريد أن تظهر العلاقة بين التقليدي والتنويري على أنها علاقة صراع، وإنما يريدها علاقة حوار وتكامل. هذا حلم جميل. لكن طبيعة الوعي التنويري التقدمي، لا يمكن أن تكون في علاقة سلام مع الوعي التقليدي الرجعي الذي يحاول الرجوع بالأمة إلى الوراء. كل مفردة من مفردات التنوير الإنساني، ستجد لها ما يضادها من مفردات السلفية التقليدية التي تقف على الضدّ من الإنسان.
3 - التحوّلات الاجتماعية لا تسير بمنطق الأحلام الجميلة، بل هي إلى منطق الصراع أقرب. لن يرضى التنويري بالانسياق إلى غياهب الظلامية التقليدية، وكلّما تكشّف الواقع عن روح ظلامية رجعية؛ كلما كان إحساس الفاعل التنويري بأهمية دوره التاريخي إحساساً عميقاً يدعوه إلى (الجهاد في سبيل التنوير، حتى النفس الأخير).(200/1)
4 -التيار التقليدي قادر على الإضرار بنا مادياً ومعنوياً. لكن يجب أن تكون هذه القدرة حافزاً لنا للقيام بأي شيء لمواجهة هذه الظلامية القاهرة. والواجب أن تكون علاقتنا بقوة التيار التقليدي غير تقليدية. أي كلّما أحسسنا بتنامي قدرته على الإضرار بنا، فلا بد أن نكون أشد صراحة وجذرية في مواجهته، وليس أن نخضع لهيمنته ونفوذه.
6- التحامل على المخالفين له، وتشويه حقيقة موقفهم، وافتعال أسباب غير حقيقية للخلاف.
7- استبعاد البعد العقدي الديني لخصومهم الفكريين وقصر الأسباب على السبب المادي (التفسير المادي للتاريخ)، ويتضح ذلك في النصوص التالية:
1 - هناك من يستفيد مادياً من ضمور الفاعلية التنويرية وتضخم النفوذ التقليدي. أي أن موقعه في بنية المجتمع، وامتدادات المصالح الخاصة، تجبره على الوقوف في الصف التقليدي.
2 - هناك - أيضاً - من يستفيد معنوياً من هيمنة الوعي التقليدي الرجعي. القيمة المعنوية لسدنة الرجعية مرتبطة ببقائها. نحن نعرف أن هناك مؤسسات قائمة على ترويج هذا الخطاب، بل وأقسام (علمية!) جامعية، تمنح الشهادات العليا، بدرجة الولاء لهذا الخطاب التقليدي، وهؤلاء سيكونون في المهمش الاجتماعي في حال تنامي المد التنويري، وستصل قيمتهم الاعتبارية إلى درجة الصفر، بل ربما كانت المراجعة المعرفية التنويرية كفيلة بمحاكمتهم - معرفياً - على جنايتهم في حق الأمة.
8- اجترار مقولات ثبت بطلانها
من المزاعم التي كان يلوكها دعاة التغريب من العلمانيين والشيوعيين في أواسط القرن الماضي، دعوى التشابه بين وضع علماء الشريعة ورجال الدين في أوروبا، وأن علماء الدين الإسلامي يتماثلون في مسؤولياتهم وأعمالهم مع رجال الكهنوت الأوروبي، وهذه مزاعم فجة وغير علمية، ومع ذلك يأبى داعية التنوير الكبير إلا أن يلوكها في ترداد ساذج لمقولة مزورة للحقيقة، فيقول:
"لقد أدرك رواد التنوير العربي منذ أيام الطهطاوي وإلى هذه الساعة، أن التشابه كبير جداً - على الرغم من الفروقات الثانوية - بين الحالة الأوروبية في القرون الوسطى وحالة المسلمين اليوم. أدرك رواد التنوير العربي أن المسلمين لم يخرجوا - بعد - من قرونهم الوسطى التي تمتد لما يناهز عشرة القرون، وأن عصور الظلام الإسلامية لم تكن أحسن حالاً - بمعيار الوعي الكلي - من عصور أوروبا المظلمة ذات النفس الكنسي".
10- الاعتراف بأن للتنوير أهدافاً غير التقدم المادي، وهو الهدف التغريبي.
على الرغم من إلحاح التنويريين -كما يسمون أنفسهم- بأن التنوير يستهدف النهوض بالأمة، والانبعاث الحضاري، وتحقيق التقدم المادي، فإن داعية التنوير يعترف بأن بلادنا استطاعت أن تحقق إنجازاً تنموياً مادياً لايُستهان به، ولذلك لم تكن هناك حاجة للتنوير في بعده الثقافي في الرأي العام المحلي، ومع ذلك يصر على الحاجة إليه؟! مما يؤكد أن هدفهم من التنوير ليس التقدم المادي الذي يمكن حدوثه بمعزل عن هذا الفكر، بل يريدون نقل الفكر التنويري الغربي المعادي للثقافة المهيمنة على المجتمع وهي الثقافة الإسلامية، يقول الكاتب:
"لهذا لم يكن المجال للتنوير - في بعده الثقافي - مفتوحاً، بالقدر الذي يكفي لصناعة وعي حديث، يستطيع أن يعمل بالتوازي مع الحركة التنموية في بعدها المادي، وشبه المادي، وساعد على الزهد في التنوير ما أتت به الطفرة المادية من قدرة كبيرة على تحقيق منجزات تنموية لا يُستهان بها. وهذا المنجز المادي أوهم الوعي العام أن لا حاجة إلى التنوير، وأن الانبعاث الحضاري يتحقق، على الرغم من التمسك بالوعي التقليدي.
وحسب هذا الوهم فلا مسوّغ للمغامرة بتبني المشروع التنويري في أبعاده الثقافية.(200/2)
أدعياء السلفية
بقلم؛ إبراهيم بن عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
شيخنا الفاضل ظهرت في الآونة الأخيرة في مجتمعنا (فلسطين) فرقة تطلق على نفسها (السلفية) تعتبر الحكام الحاليين أولي أمر تجب مبايعتهم، ويحرم الخروج عليهم تحت أي ظرف، إلا إن استحلوا ترك الحكم بما أنزل الله استحلالاً قلبياً، وينسبون هذا القول إلى أهل السنة والجماعة، وإن كل من يخالف هذا القول يعتبر خارجياً تكفيرياً تجب معاداته والتحذير منه،فما صحة ما يدعون إليه مع بيان حكم التعامل معهم أو تكثير سوادهم؟حفظك الله تعالى، ونفع بعلمك آمين.
* * *
الحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه جماعة بدأت بالانتشار فعلاً في مجتمعنا، وقد سمعنا عنها العجب العجاب،وقد نقل لنا كثير من طلاب العلم بعض ما يدعون إليه أبرزه ما تضمنه في سؤالك حفظك الله تعالى.
وكنت أود الرد على بعض شبهاتهم التي يلبسون بها على العامة بشكل مفصل، ولكن سؤالك دفعني للرد على هذه المسألة بشكل خاص وهأنذا أرد على سؤالك رداً موجزاً ألقي الضوء على أهم ما قعّدوا عليه قولهم مستعيناً بالله سبحانه راجياً الأجر والمثوبة منه.
أولاً:
هذا القول بناء على مذهبهم الفاسد الذي يقضي بإخراج العمل من الإيمان، وجعل الإيمان يقوم على تصديق القلب، وإقرار اللسان، وأما العمل عندهم فهو شرط كمال وهو مذهب المرجئة الضالين المخالفين لأهل السنة والجماعة، إذ الإيمان عند أهل السنة هو قول وعمل يزيد وينقص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في العقيدة الواسطية: (ومن أصول أهل السنة والجماعة : أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية).
فانظر يرحمك الله تعالى كيف جعل ابن تيمية رحمه الله هذا التعريف من أصول أهل السنة والجماعة، أي من القواعد التي يقوم عليها دينهم، وكما هو معروف في الأصول أن الشيء يعرف بما يبينه ويحده، وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن حقيقة الإيمان عند أهل السنة تقوم على ثلاثة أركان وهي عمل القلب، عمل اللسان، عمل الجوارح، فعمل الجوارح من أركان الإيمان، والركن كما هو معلوم، الجانب الأقوى الذي إذا ترك عدم الأصل وإن أتي بسائر الأركان، مثال ذلك الصلاة، فلو صلى رجل من غير ركوع مع إتيانه بسائر أركان الصلاة، لا يعتبر قد صلى لمَ؟ لأنه ترك ركناً من أركان الصلاة، وهكذا من لم يأت بعمل الجوارح لا يعتبر مؤمناً وإن أقر بلسانه، وصدق بقلبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول، ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان، وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنباً كافراً، ويعلم أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نصدق الحديث ولا نؤدي الأمانة ولا نفي بالعهد ولا نصل الرحم ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضاً ونقاتلك مع أعدائك، هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم؛ أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم أهل شفاعتي يوم القيامة ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك) أهـ
والمتأمل في قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يجده يرد على طائفتين من الناس، الأولى الخوارج الذين يكفرون الناس بالكبائر، الثانية المرجئة الذين يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، بل ويجعل ضلال هؤلاء معلوماً من الدين بالضرورة، أي لا يخفى على عوام أهل السنة ناهيك عن أن يخفى على خواصهم، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال: هل كان يتوهم عاقل؟! أي لا يخفى هذا الأمر إلا على من سلب الله منه العقل نعوذ بالله سبحانه من الضلال بعد الهدى.(201/1)
وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، هو عين مذهب أهل السنة والجماعة، بل كل من يخالف ذلك يعتبر خارجاً عن مذهب أهل السنة بقدر مخالفته لهم، خاصة إن كان خلافه لهم يتعلق بأصل من أصولهم،كالمسألة التي نحن بصددها.ومن الأدلة الشرعية على دخول الأعمال في مسمى الإيمان قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
وإنما أداة حصر تدل على القصر، أي يبين الله سبحانه أن الإيمان مشتمل على عمل الباطن وعمل الظاهر، فقوله: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} عمل الباطن وهو القلب، وقوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} عمل الجوارح، ثم قال سبحانه: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً}. فالمؤمنون الحق، أي الذين تحققوا على حقيقة الإيمان، أي هم الذين يجمعون بين عمل الباطن وعمل الظاهر، وقال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}، ففي هذه الآية الكريمة يقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه لرسوله صلى الله عليه وسلم نافياً الإيمان عن الزاعمين له حتى ينقادوا ظاهراً وباطناً إلى حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقوله سبحانه: {حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}. دليل على انقياد الظاهر. وقوله سبحانه: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ}. دليل على انقياد الباطن. والفرق بين الآيتين، أن الآية الأولى دلت على إثبات الإيمان لمن جمع بين عمل الظاهر وعمل الباطن، والآية الثانية،دلت على نفي الإيمان عن الذين لا ينقادون إلى حكم الله ظاهراً وباطناً.
ولكن قد يقول البعض: إن نفي الإيمان هنا يدل على نفي الكمال وليس الحقيقة.
أقول: هذا أيضاً بناء على أصل مذهبهم القائم على إخراج العمل عن مسمى الإيمان،وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة ولنأخذ على سبيل المثال هاتين الآيتين: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}.
جاء في سبب نزول هاتين الآيتين في تفسير "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"؛ أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الدلائل عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم . وفرقة تقول : لا . فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ..} الآية كلها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة) .
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن سعد بن معاذ الأنصاري أن هذه الآية أنزلت فينا {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}؛ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : (من لي بمن يؤذيني ويجمع لي في بيته من يؤذيني ؟ فقام سعد بن معاذ فقال : إن كان منا يا رسول الله قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا فأطعناك . فقام سعد بن عبادة فقال : ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عرفت ما هو منك . فقام أسيد بن حضير فقال : إنك يا ابن عبادة منافق تحب المنافقين . فقام محمد بن مسلمة فقال : اسكتوا أيها الناس، فإن فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأمرنا فننفذ لأمره . فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} الآية) .(201/2)
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : ( إن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا فيهم بأس، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله . . . ! تقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم، فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء . فنزلت {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} إلى قوله { حتى يهاجروا في سبيل الله } يقول : حتى يصنعوا كما صنعتم، {فإن تولوا } قال : عن الهجرة " ).
وأخرج أحمد بسند فيه انقطاع عن عبد الرحمن بن عوف " أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأسلموا وأصابهم وباء المدينة حماها فأركسوا، خرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم : ما لكم رجعتم ؟ قالوا : أصابنا وباء المدينة فقالوا : ما لكم في رسول الله أسوة حسنة . فقال بعضهم : نافقوا . وقال بعضهم : لم ينافقوا، إنهم مسلمون . فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سلمة عن عبد الرحمن: أن نفرا من طوائف العرب هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكثوا معه ما شاء الله أن يمكثوا، ثم ارتكسوا فرجعوا إلى قومهم، فلقوا سرية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفوهم فسألوهم : ما ردكم ؟ فاعتلوا لهم فقال بعض القوم لهم : نافقتم، فلم يزل بعض ذلك حتى فشا فيهم القول، فنزلت هذه الآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، قال : قوم خرجوا من مكة حتى جاؤوا المدينة، يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول : هم منافقون . وقائل يقول : هم مؤمنون، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتلهم، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي وبينه وبين محمد عليه السلام حلف، وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه، فدفع عنهم بأنهم يؤمون هلالا وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، قال : ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش، كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد تكلما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيهما ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما مقبلان إلى مكة، فقال بعضهم : إن دماءهما وأموالهما حلال . وقال بعضهم : لا يحل ذلك لكم . فتشاجروا فيهما، فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِؤ حتى بلغ { ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم}.
وأخرج ابن جرير عن معمر بن راشد قال : بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا، أو كان ذلك منهم كذبا، فلقوهم فاختلف فيهم المسلمون فقالت طائفة : دماؤهم حلال . وطائفة قالت : دماؤهم حرام . فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في الآية قال : هم ناس تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا فسماهم الله منافقين، وبرأ المؤمنين من ولايتهم، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا .
وأخرج ابن جرير عن السدي قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتخمناها، فلعلنا أن نخرج إلى الظهر حتى نتماثل ثم نرجع، فإنا كنا أصحاب برية . فانطلقوا واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت طائفة : أعداء الله منافقون، وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم . وقالت طائفة : لا، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتخموها، فخرجوا إلى الظهر يتنزهون فإذا برئوا رجعوا . فأنزل الله في ذلك {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.(201/3)
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : أخذ ناس من المسلمين أموالا من المشركين فانطلقوا بها تجارا إلى اليمامة، فاختلف المسلمون فيهم، فقالت طائفة : لو لقيناهم قتلناهم وأخذنا ما في أيديهم . وقال بعضهم : لا يصلح لكم ذلك، إخوانكم انطلقوا تجارا . فنزلت هذه الآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وما نستفيده من هاتين الآيتين، أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في الحكم على طائفة تخلفت عن نصر المؤمنين مع إظهارها للإسلام، فقالت طائفة من المسلمين: هم مسلمون لأنهم يشهدون شهادة الحق، وقالت الطائفة الأخرى:هم منافقون خارجون عن الإسلام بسبب تخاذلهم وعدم نصرهم للمؤمنين وتوليهم للكافرين، فأنكر الله سبحانه على المؤمنين هذا الخلاف الذي الأصل فيه أن لا يكون، ثم بين حكمه في هؤلاء المتخلفين بأنهم منافقون ظاهرو النفاق.
ودليل أن هؤلاء مظهرون للإسلام وقوع الخلاف في الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فلو أنهم كفروا كفراً صريحاً بأن أعلنوا الردة لما وقع الخلاف بين الصحابة، ولكنهم لما أظهروا الإسلام، وجاءوا بما يناقضه اختلف الصحابة فيهم على قولين، فمنهم من اعتبرهم لم يخرجوا عن الإسلام بسبب إتيانهم بالشهادتين، ومنهم من حكم عليهم بالكفر وهم الذين أيدهم الله بقوله، وهذا التأييد من الله تضمن معنى الإنكار إذ جاء بصيغة الاستفهام الإنكاري وهو قوله سبحانه: {فما لكم}، وهذا القول هو أن العمل من الإيمان وأنه من أتى بما يناقضه يحكم عليه بالكفر، إلا أن يكون معذوراً شرعاً، كأن يكون جاهلاً أو متأولاً أو مكرهاً،أو مخطأً، وهذا ما قرره علماء أهل السنة والجماعة خلافاً للمرجئة الذين لا يكفرون إلا بالاعتقاد والاستحلال القلبي.
ولكن قد يستدرك علينا بقولهم: إننا نقول؛ الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
فأقول: هذا القول صحيح وأنتم تقولونه، ولكن ما يهمنا هو، هل تقولون كما يقول أهل السنة والجماعة: إن العمل شرط صحة في الإيمان، أم هو شرط كمال، فإن قالوا: هو شرط كمال، وهذا هو قولهم. قلنا هذا هو معتقد المرجئة،لأن ما كان شرط كمال لا يكون جزء الشيء، بل هو مكمل له، وعليه فلا يزول الشيء بزوال كماله، بل يزول بزوال موجبه، وعليه يكون قولهم مجرد لفظ يلبسون به على العامة، وهو غير مراد في مسألة التحقيق فافهم ذلك وكن منه على ثبت، والله يتولاك برعايته.
ثانياً:
لقد وصف الله سبحانه المتحاكمين إلى غير شرعه بصفات عديدة كلها تدل على الكفر والزندقة والردة والعياذ بالله، منها:
1) الكفر: قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
2) الظلم: قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
3) الفسق: قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
هذه كلها ألفاظ تدل على الكفر الأكبر، إذ الخطاب بها موجه إلى اليهود والنصارى وسيأتي تفصيل لذلك إن شاء الله تعالى.
4) النفاق: قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً}.
5) عدم الإيمان: قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}.
6) الجاهلية: قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُون}.
7) الطاغوت: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}.
فهذه ألفاظ تدل كلها على الكفر الصراح.
ولكن قد يستدرك علينا بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (كفر دون كفر).
أقول: هذا الأثر إما أن يراد به الحكم، وإما أن يراد به الحاكم فأما الحكم فغير مراد قطعاً إذ وصفه الله سبحانه بالطاغوت والجاهلية ولا يقال طاغوت أصغر وطاغوت أكبر، أو جاهلية صغرى وجاهلية كبرى، فالطاغوت هو شرك محض، إذن فلا يبقى إلا الحكم على الحاكم ، والقول بإطلاق عدم كفر الحاكم غير مراد،إذ ليس كل حاكم كفره أصغر إذ هنالك تفصيل، ولا يحصر الكفر بالاستحلال،وهذا القول كما سبق من معتقد المرجئة وليس من معتقد أهل السنة والجماعة.(201/4)
بل القول بأن الحاكم لا يكفر إلا إذا أعتقد بقلبه صحة الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه، يخرج من هذه القاعدة اليهود الذين نزلت الآيات بحقهم لأنهم لا يعتقدون في قلوبهم صحة ما يحكمون به بل يعتقدون الحق وذلك من عموم الأدلة الدالة على معرفتهم التامة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وأن ما جاء به هو من عند الله تعالى قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فاليهود لم يعتقدوا صحة دينهم وما يتحاكمون إليه، بل اعتقدوا الحق ومع ذلك فهم كافرون الكفر الأكبر ولا يخالف مسلم ذلك.
وعليه: فلا يشترط في تكفير الحاكم الذي لا يحكم بالإسلام أن يكون معتقداً ذلك بقلبه، بل نحكم بكفره لمجرد تركه لحكم الله سبحانه إلا أن يكون معذوراً كأن يكون جاهلاً، أو مكرهاً، أو مخطأ، أو متأولاً، وأما من حكم بغير شرع الله عالماً بذلك مصراً عليه مظهراً العداوة للمؤمنين، والموالاة للكافرين، وأرغم الناس على ذلك طواعية غير مكره فما يمنعنا من تكفيره؟ إلا أن نكون معتقدين معتقد المرجئة الذين لا يكفرون بالنواقض حتى يعتقد الإنسان ذلك بقلبه، عصمنا الله سبحانه من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وأما الأثر الوارد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فلا يؤخذ على عمومه، إنما هو خاص بحكام معينين حملهم على ذلك ما استثنى من الأعذار.
وما يؤكد أن مظهر الكفر كافر إلا أن يكون مكرهاً قوله تعالى: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، فهذه الآية صريحة الدلالة بأن الذين يظهرون الكفر يكفرون إلا أن يكونوا مكرهين على الكفر وقلوبهم مطمئنة بالإيمان ، وهذا بلا شك ينص على الكفر الظاهر دون الباطن، أي من أظهر الكفر ويكون حال إظهاره للكفر مكرهاً عليه مبغضاَ في الباطن له فهذا ليس بكافر.
وأما من أظهر الكفر غير مكره فهذا من شرح بالكفر صدراً فيحكم بكفره، وإظهار الكفر لا يكون باللسان فحسب بل يكون بالعمل كذلك، ودليل على أن المقصود بالكفر كفر الظاهر أن الآية نزلت كما نقل أهل التفسير بحق عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، إذ أظهر الكفر لقومه بسبب ما لقي من الأذى وكان قلبه مطمئناً بالإيمان .
ثالثاً:
قد سبق القول بأن الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه كفر، وثمة قضية ثانية، وهي التفريق بين ترك الحكم واستبداله، فإنه من استبدل الحكم بما أنزل الله سبحانه بقوانين وضعية يكون قد نصب نفسه شريكاً لله سبحانه إذ التشريع يختص الله به قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، فليس الحكم إلا لله وقد قرن الله سبحانه بين الحكم والعبادة، أي من يتحاكم إلى غير شرع الله سبحانه يكون عابداً لما يتحاكم إليه، إذ العبادة هي التذلل والخضوع، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه، لذا جعل الله سبحانه الحكم بغير ما شرع طاغوتاً إذ قال سبحانه: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}، والواجب على أهل الإيمان هو الكفر بالطاغوت قال تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وفي الآية التي قبلها قال سبحانه: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}.
ومع هذه الآيات لنا وقفات:
1) أن الكفر بالطاغوت من شرط الإيمان، ويوضح ذلك تقديم الله سبحانه للكفر بالطاغوت على الإيمان به إذ قال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ}. فالكفر بالطاغوت نتيجة الإيمان بالله سبحانه، إذ لا يكون الكفر بالطاغوت، إلا من خلال الإيمان بالله.(201/5)
2) أن مما أوجبه الله سبحانه علينا الكفر بالطاغوت قال سبحانه: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}، أي أمروا أن يكفروا به، ولازم الكفر بالطاغوت بغضه وإظهار المعاداة لأهله كما قال سبحانه حاكياً عن إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
وعليه فالواجب على المسلم الكفر بالطاغوت لا موالاته والمنافحة عنه وإظهار العداوة لأعدائه كما يفعل أولئك المجرمون الذين يقيمون الولاء والبراء في الطواغيت .
3) أن الله سبحانه جعل الناس قسمين، إما متحاكمين لشرعه وهم عباده وأولياؤه، وإما متحاكمين للطاغوت وهم عباد الشيطان والعياذ بالله قال تعالى: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً). أي يضلهم بسبب بعدهم عن التحاكم إلى شرع الله، إذن فالتحاكم إلى الطاغوت إرادة الشيطان المخالفة لإرادة الرحمن ولا عجب في ذلك فالله سبحانه يقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، وقال سبحانه حاكياً عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً}.
وعليه فالإنسان إن كان معرضاَ عن عبادة الله سبحانه، فهو خاضع لعبادة الشيطان، فإن كل من خرج عن طاعة الله فهو داخل في طاعة الشيطان وذلك لأن الشيطان يأمر بمعصية الله ولا شك بأن الخروج عن حكم الله هو دخول في حكم غيره وهذا هو ما قصدت، وهو أن المتحاكم إلى غير شرع الله معرض عن عبادته سبحانه، ومن هذه حاله فهو عدو لله و لرسوله وللمؤمنين، وهذا من تجب معاداته حتى يؤمن بالله وحده.
4) أن التشريع شرك لأنه مما أختص به الله سبحانه نفسه إذ قال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، وقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
والحكام المتحاكمين إلى غير شرع الله قد شرعوا لنا من الدين ما لم يأذن به الله سبحانه، فهم مشرعون تشريعات مناهضة لتشريع الله سبحانه، ومن أصول أهل السنة والجماعة نبذ الشرك والتبرؤ منه وتحذير الناس من خطورته وما يترتب عليه من مصائب جمة، وهذه قضية تساهل فيها كثير من أهل العلم، إذ نرى كثيراً منهم يركز على شرك القبور والمقامات وقد يكون في كثير من أحواله غير موجود، في الوقت الذي يقللون فيه من شرك الحاكمية.
بل من المفجع أن بعضهم ذهب إلى أن القول بتوحيد الحاكمية بدعة ضلالة، ولا أدري ماذا يريدون بذلك، هل يريدون أن الله قد يشاركه في الحكم غيره، أم أن هذا التقسيم مخالف لأصول أهل السنة والجماعة.
فإن كان الأول فهذا الكفر بالله الصراح .
وإن كان الثاني، فنقول: ما هو الدليل على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات،؟ بل أين الدليل على القول بتوحيد الأسماء والصفات؟
فإن قالوا: النصوص تدل على ذلك.
قلت: كذلك النصوص تدل على توحيد الحاكمية.
فإن قالوا: لم يثبت عن العلماء أنهم قالوا بتوحيد الحاكمية.
قلت: فالقول بتوحيد الحاكمية كالقول في توحيد الأسماء والصفات، فإن التوحيد إما أن يكون متعلقاً بالله سبحانه وأسمائه وصفاته، وهذا توحيد الربوبية، وإما أن يكون متعلقاً بتوحيد العبادة، وهذا ما يسمى بتوحيد الألوهية، ولا قسم ثالث، فالأسماء والصفات أما أن تندرج تحت توحيد الربوبية، وإما أن تندرج تحت توحيد الألوهية وليست قسماً ثالثاً، وأما إفراد العلماء لها قسماً مستقلاً فبسبب وقوع الخلاف فيها، فأراد العلماء أن يبينوا أن القول في الأسماء والصفات كالقول في الذات، وأن هذا من الإيمان بالله سبحانه، وهكذا اليوم غاب عن كثير من الناس أن الحكم لا يكون إلا لله وأن الانقياد إلى غير حكم الله سبحانه شرك، وعليه، فلا يكون الحكم إلا لله الذي هو الحق والعدل البعيد عن الجاهلية والكفر والظلم والفسق .
رابعاً:
الأصل في تنصيب الإمام، إقامة الدين، والذود عن الإسلام وأهله.(201/6)
فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه). رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
فالإمام جنة يتقى به ويقاتل من ورائه، فهو يعمل على إعلاء كلمة التوحيد ونشرها في الأمم، ويقاتل الناس عليها، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله).
فالإمام مسؤول عن تبليغ الدين ونشره والذود عنه، والمسلمون على ذلك بايعوه، ومن مستلزمات البيعة الحفاظ على معتقد المسلمين ودمائهم وأموالهم وأعراضهم ، وهذه كلها تدخل ضمن مسؤولية الإمام، بل إن من أعظم ما أنيط بالحاكم من أعمال الحفاظ على وحدة المسلمين كما في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع للخليفتين فاقتلوا الآخر منهما). رواه مسلم.
وهذا من باب الحفاظ على وحدة المسلمين، وما نستفيده من الحديث من الناحية المسلكية ما يلي:
1) أنه لا يجوز أن يكون للمسلمين إمامان، وذلك حفاظاً على وحدتهم التي فيها قوتهم، فإن تعدد الأئمة في الأمة الواحدة يوجب خلافها المؤدي إلى هلاكها قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وهذا واضح لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، فإذا كان وجود إمامين في الأمة يؤدي إلى هلاكها بسبب عوامل اختلافها.
فكيف بحال الأمة اليوم؟ نسأل الله سبحانه العافية، فقد أصبحت الأمة تعيش في دويلات متفرقة تفتقر إلى أبسط شؤون الحياة، والظاهر فيها السلطنة وخروج بعضها على بعض، فهي تجتمع على موالاة الكافرين والعمل على تمرير مخططاتهم في الوقت الذي يعادي فيه بعضها بعضاً عصبية ابتغاء نيل متاع الحياة الدنيا وزينتها، بل أصبح الولاء والبراء قائماً في هذه الدول التي لا صلة لها بالدين اللهم إلا بالتسمية، وغالب أهلها يقومون على أساس التقوقع في هذه الدول دون الرابط الشرعي، فهذا فلسطيني وذاك أردني، وهذا، وهذا، وهذا، فلا يحق للفلسطيني العيش في غير الأرض التي يولد فيها إلا بإذن الدولة التي يقيم فيها مع مراعاة عدم التمتع بحقوق المواطنة، والحق للدولة بإخراجه في أي وقت، وهذا عام في عامة المسلمين.
فأي فرقة أعظم من هذه الفرقة؟ وأي اختلاف أعظم من هذا الاختلاف؟ وأي جاهلية أعظم من هذه الجاهلية؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح (إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه و لا تكنوا) صححه الألباني في الصحيح الجامع.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فقتلة جاهلية) رواه مسلم .
فأين المسلمون المتعصبون لقومياتهم من هذه الأحاديث؟ هل رضي أولئك أن يموتوا ميتة جاهلية؟ هل رضوا بأن يكونوا من الجاهلين؟ فإن كل من اتصف بهذه الصفات ففيه جاهلية أجل فيه صفات من الجاهلية الأولى ويخشى على دينه، ثم ماذا نقول بمن تزّيا بزي أهل العلم،وادعى ظلماً بأنه على نهج السلف،وقد أخذ يزين للظالمين ظلمهم ويبارك لهم طغيانهم ويتفنن بإصدار الفتاوى الهالكة ضد من أنكر أعمالهم، ولو كان ذلك بالكلمة العابرة، فهم عنده أولو الأمر والنهي الذين لا أمر فوق أمرهم، ولا نهي مع نهيهم وبعد ذلك كله يقول متنطعاً هذه ليست فرقة ولا اختلاف، بل هذا عين الحق. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
2) جواز قتل المسلم المبايع من قبل المسلمين إذا بويع وكان للمسلمين إمام غيره، وهذا واضح من قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقتلوا الآخر منهما).
ومن المعلوم أن الآخر حصلت له الخلافة بمبايعة بعض الناس له وهذا مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم (بويع) وهذا لا يتم إلا من خلال فعل المبايعة وهي لا تكون إلا من خلال أناس يبايعونه على الخلافة.
إذن فالإسلام يجيز قتل الخليفة الثاني ومن بايعه وذلك حماية لوحدة الأمة، ومن تبدر هذا الأمر علم يقيناً بأن المسألة عظيمة للغاية وذلك،أن الله سبحانه عظم قتل المسلم بغير الحق وتوعد كل من فعل ذلك بجهنم وبالغضب واللعنة والعذاب الأليم قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}، وقد دلت الأحاديث على تعظيم قتل المؤمن بغير حق، وما يتعلق بالقاتل من أحكام في الدنيا والآخرة.(201/7)
من ذلك ما رواه ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله للدينا وما فيها أهون على الله من قتل مسلم بغير حق). رواه النسائي والترمذي وغيرهما وصححه الألباني .
وفي حديث آخر عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه). رواه البخاري.
وفي هذا الحديث يأمر صلى الله عليه والسلم المسلمين بأن يقتل بعضهم بعضاً، وهو واضح من قوله: (فاقتلوا الآخر منهما) وهذا يعني قتل الآخر ومن معه من المسلمين، ولولا أن وحدة المسلمين أعظم من أن يقتل بعضهم بعضاً لما أمر صلى الله عليه وسلم بقتل الخليفة الآخر.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن عرفجة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان). رواه مسلم.
وبهذا يعلم خطورة الأمر وحرمة تعدد الخلفاء في الأمة الواحدة.
3) لا يشترط من القول بوجوب الخروج على الخليفة الثاني أن يكون كافراً، فقوله صلى الله عليه وسلم: (فاقتلوا الآخر منهما). لا يدل على كفره، و إنما القتل بسبب إتيانه بفعل يستحق عليه القتل وذلك من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة). رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
فبين صلى الله عليه وسلم أن التارك لدينه المفارق للجماعة مهدور الدم وإن كان من المسلمين، وهذا رد على من يشترط بالخروج على الحاكم تحقق خروجه من الملة وسيأتي زيادة تفصيل لذلك في النقطة التالية إن شاء الله تعالى.
4) إن الخليفة الثاني لا تنعقد له البيعة وإن بويع له من قبل بعض المسلمين ، فلا تجب طاعته، بل تجب منابذته والخروج عليه، ولا يصح السكوت عليه إلا لعذر شرعي،أو مصلحة شرعية راجحة، وأما القول بأن تعدد الخلفاء جائز وطاعتهم واجبة ما استلموا زمام الحكم وإن أتوا بكل ناقض من نواقض الإيمان، وتركوا شروطه حتى يستحلوا ذلك بقلوبهم، فهذا قول فاسد يؤدي إلى هدم الدين وطمس معالمه، ونشر الفساد والانحلال في الأمة التي جعلها الله سبحانه خير أمة أخرجت للناس،،بل يهدم أبسط قواعد الدين وهو القيام بالعدل ونشره في الناس كآفة، ولكن من يضلل الله فما له من هاد، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
والشاهد في هذه القضية أن الحاكم يبايع من قبل الأمة لإقامة دين الله سبحانه، والذود عنه، والدفاع عن المسلمين وأعراضهم وأموالهم، فإن تخلف الحاكم عن ذلك فلا عبرة من وجوده، ولا يخالف الأمراء في دول الكفر بل الأمراء في دول الكفر خير منه، فهم يخلصون لبلدانهم، ويعملون على حماية شعوبهم. بل يجعلون ولاءهم وبراءهم في مصلحة شعوبهم، وأما هؤلاء الحكام فهم يعملون على قطع كل صلة تربطهم بشعوبهم إلا ما كان يصب في مصالحهم الشخصية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
خامساً:
طاعة الحكام منوطة بطاعتهم لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك التزامهم بأحكام الله سبحانه وهذا واضح من قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، وفي الحديث الصحيح : (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) صححه الألباني في الصحيح الجامع .
فطاعة الحكام منوطة بطاعتهم لله ورسوله، فإن خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلا طاعة لهم، ويؤكد ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد ماذا تفعل؟! لا طاعة لمن عصى الله). رواه أحمد، وابن ماجه، وغيرهما، وصححه الألباني.
وهذا الحديث يدلنا على أمور عدة وهي:
1) أنهم لا يلتزمون السنة، بل يبتدعون البدع في الدين، والبدعة هي التقرب إلى الله سبحانه بعبادة لا دليل عليها لا من الكتاب ولا من السنة، إذن فهم عابدون لله ولكن على غير ما شرع .
2) أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها، أي أنهم يصلون ، ولكن يتساهلون في أدائها.
3) أن من فعل ذلك فلا طاعة له، ولفظ طاعة، هنا يقع اسماً للا النافية للجنس ، فدل ذلك على العموم،أي لا طاعة في كبير ولا صغير، فقد نفى صلى الله عليه وسلم عنهم جنس الطاعة ولا استثناء في ذلك هنا.(201/8)
4) إذا كان لا طاعة لمن خالف السنة وأظهر البدعة، وأخر الصلاة عن وقتها، فكيف بمن بدل دين الله سبحانه، أحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله، ووالى الكافرين، وعادى المؤمنين، وأشاع الفساد في الأرض؟!
وبذلك يتبين دجل الذين يقولون بوجوب طاعة أولي الأمر مطلقاً وإن أتوا بكل ما يناقض الإسلام،ما لم يعتقدوا صحة ذلك بقلوبهم.
سادساً:
دلت الأحاديث الصحيحة على وجوب الخروج على الحاكم إن أظهر الكفر البواح من ذلك ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وقال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان). رواه مسلم .
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (سيكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، ومن خالطهم هلك).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قيل : يا رسول الله ألا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).
فبين الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب طاعة الحكام إلا أن يظهروا الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، ومن الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، استبدال شرع الله سبحانه،وقد سبق ذكر المسألة مع ذكر الأدلة عليها ولا يشترط في إظهار الحاكم للكفر البواح أن يكون كافراً في الباطن، بل قد يكون مسلماً ومع ذلك يكون مظهراً للكفر البواح، فقد ينتفي عنه الكفر لوجود معارض كالجهل، أو التأويل وما إلى ذلك ولكن لا نستطيع أن ننفي عنه الكفر ظاهراً، فكل من أتى كفراً يعتبر مظهراً للكفر وإن لم يعتقد صحته، وهذا فيما يتعلق بالحكم على المسألة أما حكمنا عليه بالكفر فينظر، فإن انتفت موانع التكفير وثبتت شروطه حكمنا عليه بالكفر.
والشاهد هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا) والرؤية هنا الرؤيا العينية، وليست القلبية، إذ لو كانت الرؤيا القلبية لما استطعنا الحكم عليه بالكفر حتى يصرح هو أو نشق عن قلبه، وهذا يرجع إلى أصول المرجئة الذين يجعلون للإيمان ركنين، التصديق بالقلب، والنطق باللسان، على خلاف أهل السنة الذين يجعلون العمل من الإيمان، وأنه من أتى ناقضاً من نواقضه يكفر إلا أن يكون معذوراً وقد بينا الأمور التي يعذر بها المسلم، والشاهد من هذه المسألة أنه إذا ظهر من الحاكم الكفر البواح وجب الخروج عليه وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وما ينبني على هذه المسألة أنه من وجب الخروج عليه سقطت ولايته، ومن سقطت ولايته فلا يعتبر أميراً للمسلمين تجب طاعته، بل من يقول بذلك فعليه أن يراجع حساباته بنفسه قبل أن يحاسب عليها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولكن هنالك مسألة لا بد من ذكرها وهي: أن الحاكم، وإن وجب الخروج عليه لإظهاره للكفر البواح، فلا يخرج عليه حتى تتحقق شروط الخروج وهي:
1) إظهار الكفر البواح، وقد مضى القول فيه.
2) المقدرة العلمية والعملية، فأما الأولى فهي مبنية على النقطة قبلها وهي تحقق الكفر البواح، وهذا لا يكون إلا من خلال أهل العلم الذين يفرقون بين الكفر البواح وغيره، حتى لا يقول في دين الله من ليسوا من أهله فتفسد البلاد والعباد. وأما الثانية فهي مبنية على القواعد العامة منها قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه). مسلم .
3) أن لا تكون فتنة الخروج على الحاكم أعظم من فتنة الحاكم، وذلك أن الهدف من الخروج عليه تحقيق المصلحة الشرعية، وهي إقامة دين الله، فإن غلب على الظن أن الخروج على الحاكم سيؤدي إلى نتائج سلبية فلا يصح الخروج عليه، ويجب الصبر.
4) أن تقام الحجة على الحاكم وذلك من منطلق قوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}، وقوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).
إلا أنه لا يعني عدم تحقق هذه الشروط القعود والتخاذل بل الواجب العمل على تحقيق الاستطاعة ضمن الضوابط الشرعية وهذا من منطلق القاعدة الشرعية التي تنص على: (الوسائل لها حكم المقاصد). وقاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
سابعاً:(201/9)
وهنالك دليل آخر على عدم صحة ولاية هؤلاء الحكام وهو دليل متضمن وإن كان بعيداً عن الواقع، ومفاده أن من معتقد أهل السنة والجماعة خروج المهدي ، وهو الإمام الذي يقيم الله سبحانه على يديه الخلافة على منهاج النبوة، وهذا ما نرجحه من عموم الأدلة، منها ما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء إن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فقد بشر الله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وهذه الخلافة حتماً ستلغي تلك الإمارات المتناثرة وتجمعها تحت إمرة الخليفة الراشد وهذا يدل على عدم مشروعية تلك الإمارات، وإلا لكان المهدي من الخوارج كما يزعمون، ومن كان هذا وصفه فلا يكون خليفة راشداً،ومن باب آخر فإنه يجب على كل مسلم أن يكون تحت إمرة هذا الخليفة ومن خرج عن إمارته فمات فميتة جاهلية.
كما دل على ذلك ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة، لا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية) رواه مسلم .
وعليه فإن هذه الإمارات ليست على هدي النبوة، فهي إمارات ساقطة لا يجوز مناصرتها أو الذود عنها، أو الولاء والبراء فيها، والواجب على كل مسلم أن يكون مع الحق، وأن ينصر الحق.
ثامناُ:
نقول لهؤلاء، أي الذين يعتبرون الحكام ولاة أمور شرعيين، إذ يوجبون على الناس طاعتهم ويحرمون الخروج عليهم، بل يذهبون إلى أبعد من هذا الحد، إلى عدم جواز الإنكار عليهم إلا سراً ومن خلال أهل العلم (المقربين من الأمراء)، ما هو الواجب على المسلمين أمام هذه الفتن التي تعترفون بوجودها وأهوالها؟ بل ما هو دور العلماء في المجتمع؟ وما هو دور طلبة العلم؟ كيف السبيل إلى القضاء على مظاهر الشرك التي لا يخلو درس من دروسكم إلا وأشرتم إلى خطورته وأخذتم تقسمونه وتبينون أنواعه؟ ما هو السبيل إلى تحكيم شرع الله إذا رفض حكامكم المسلمون ولاة أموركم ذلك؟ ما هو سبيل النجاة؟
فلن يجد هؤلاء جواباً على هذه الأسئلة.
بل ما الذي يحملهم على التغيير وهم يعتبرون الحكام حكاماً شرعيين؟ فهم لا يعملون على تغيير الحكام لأن ذلك خروج عليهم فهم يصفون من ينادي بذلك بالتكفيري والخارجي، أي خارج عن طاعة أولي الأمر، ولا يتورعون عن وصفهم بكلاب أهل النار، إذن فمن يخرج على الحاكم فهو من كلاب أهل النار وهم بلا ريب لا يريدون أن يتصفوا بهذا الوصف، بل هم يفرون منه أيما فرار، ويظهرون العداوة والبغضاء لكل من خالفهم، ويحذرون منه ومن علمه، بل يعتبرون تنفير الناس عنه من أعظم القربات التي يتقربون بها إلى الله سبحانه، فمن كان هذا حاله فهو حتماً لا يعمل للتغيير اللهم إلا أن يعمل على تغيير الناس وذلك من خلال دعوتهم للتبرئ من الخوارج (كلاب أهل النار) الذين يطالبون بالخروج على الحكام واستبدالهم بحاكم شرعي،وإعطاء الولاء والطاعة لأولي الأمر ومباركة أعمالهم ، أجل هذا هو واقعهم، وهذه هي دعوتهم، وهذا ما يريدونه ويعملون على تحقيقه نسأل الله العافية والثبات على الحق حتى الممات.
تاسعاً:
وهذه النقطة تتعلق بالشق الثاني من السؤال وهو ما يتعلق بالتعامل معهم وتكثير سوادهم، والجواب عليها يكون من عدة نقاط هي :
1) هم أناس يجترئون الكذب على منهج السلف الصالح، إذ ينسبون القول بأن العمل شرط كمال إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ويريدون بذلك، إخراج العمل عن مسمى الإيمان، فهم لا يكفرون إلا بالاستحلال القلبي، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة يجعلون العمل من الإيمان، ولذا ثبت عن كثير منهم كالإمام أحمد في أحد القولين عنه أنه كفر تارك الصلاة الكفر الناقل عن الملة، وإن كان تركه للصلاة كسلاً، وإلى هذا ذهب في العصر الحاضر كثير من أهل السنة منهم سماحة الشيخ ابن باز وفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمها الله تعالى، والصلاة من أعمال الجوارح، بل من قرأ حكم تارك الصلاة لفضيلة الشيخ ابن عثيمين يجد أن الأدلة التي استدل بها على كفر تارك الصلاة أقل قوة من الأدلة الدالة على كفر مستبدل حكم الله سبحانه، وعليه، فإن نسبة قولهم هذا الذي هو في حقيقة الأمر مذهب المرجئة إلى أهل السنة والجماعة (السلف الصالح) كذب وافتراء.(201/10)
2) هؤلاء قوم يفصلون الدين عن الدولة، أي يجعلون الدين لأولي الأمر وليس للمسلمين عامة، فلا يجوز لأي إنسان أن يتدخل في الدين أو يعترض على أولي الأمر، لأن ذلك يعد خروجاً عليهم، ومن فعل ذلك فهو (من كلاب أهل النار). ولذا نجدهم يشتد نكيرهم على المخالفين لهم خاصة في هذه المسألة ، ومن هذه حالهم فلا ريب أنهم لا يعملون لإصلاح المجتمع أو تغييره،بل قد يعملون لمصلحة الحكام أعاذنا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
3) هؤلاء قوم ظالمون لأنهم راكنون إلى الظالمين قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}، والحكام ظالمون بلا ريب لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، والركون إلى الظالمين ظلم، بل توعد الله سبحانه من فعل ذلك بالعذاب الأليم، ودليل ركونهم إلى الظالمين مدافعتهم عنهم وإقامة الولاء والبراء فيهم، فمن قال عن الحكام: هم ألوا أمر،فهذا سلفي على منهج أهل السنة، ومن قال: إنهم ظالمون فاسقون، فهذا تكفيري خارجي لا بد من التحذير منه والتشهير به، فأي ركون بعد هذا؟!
4) وعليه فإن كل من أعانهم على ظلمهم، أو عمل على تكثير سوادهم، أو ترك الإنكار عليهم فحكمه حكمهم، بل هو شريك لهم في ظلمهم وتطاولهم على عباد الله الصالحين، ولا أرى سبباً يجعل الناس يلتفون حولهم إلا المصالح الدنيوية، فهم تجمعهم المصالح، وتفرقهم الأهواء، وكثير منهم يقول سراً، نعلم أنهم على غير الحق ولكن نريد... وهذا والله هو النفاق بعينه، كيف يكثر سوادهم على ما هم عليه من الآثام والظلم ومعاداة الناس بغير الحق، والحكم الفصل الذي ليس بالهزل أن كل من ناصرهم أو عمل على تكثير سوادهم متهم، متهم، متهم.
والله سبحانه أعلى واعلم
وصلِ اللهم على محمد بن عبد الله النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين
وكتب: إبراهيم بن عبد العزيز
الأربعاء 9 /ربيع أول /1425 هـ
الموافق 28 /4/ 2004 م
تم تنزيل هذه المادة من
شبكة أهل السنة الإسلامية
http://www.asunnah.net(201/11)
أدلة اثبات المعبود لمن يبحث عنه
* محمد الأديب
لاثبات وجود المعبود الذي هو خليق وجدير بأن يكون معبوداً لهذه الانسانية، ومصدراً للهداية السماوية، ومنبعاً لكل فضيلة، ووسيلة لكل خير وحسنة، ومرشداً لكل ما فيه الخير والرفاه والسعادة الأزلية الأبدية، نورد بعض الأدلة والبراهين العقلية والعلمية التي لا يمكن أن يرفضها ذوو العقول، وأولوا الألباب وهي:
1 ـ أن كل نفس لا تخلو من جهتين:
إما أن تكون هي التي صنعت نفسها وكانت موجودة، أو صنعتها وكانت معدومة، فإن كانت صنعتها وهي موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة فانك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئاً فلابد من وجود صانع صنع الأشياء ولم يصنع.
2 ـ لابد لكل مصنوع من صانع:
فكيف يمكن أن تخلق السماوات بما فيها، من النجوم والكواكب والأقمار والشموس، والأرض وما عليها من الحيوانات والنباتات وما في باطنها من الماء والمعادن فلا بد من وجود من خلقها وسواها وهو الله تعالى.
3 ـ كيف تكونت أجسام الحيوانات بهذه الصناعة البديعة؟ ولأي المقاصد وضعت أجزاؤها المختفة؟
هل يعقل أن تصنع العين الباصرة بدون علم بأصول الأبصار ونواميسه والأذن بدون المام بقوانين الصوت؟
كيف يحدث أن حركات الحيوانات تتجدد بارادتها؟
ومن أين هذا الالهام الفطري في نفوس الحيوانات؟
فان هذه الكائنات كلها في قيامها على أبدع الأشكال وأكملها، ألا تدل على وجود مَن هو منزه عن الجسمانية، حي حكيم، موجود في كل مكان، يرى حقيقة كل شيء في ذاته، فطبعاً ذلك هو الله جل شأنه.
4 ـ من الجلي الواضح بأنه لا يوجد أي سبب طبيعي استطاع أن يوجه جميع الكواكب وتوابعها للدوران في جهة واحدة وعلى مستوى واحد بدون حدوث أي تغيير يذكر، كما يصرح بهذا جميع العلماء والفلكيين بالنظر لهذا الترتيب يدل وجود حكمة سيطرت عليه وتلك هي (الله تعالى).
5 ـ ان في تكوين الأجرام السماوية التي استطاعت الذرات المبعثرة أن تنقسم إلى قسمين:
القسم المضيء منها انحاز إلى جهة لتكوين الأجرام المضيئة بذاتها كالشمس والنجوم.
والقسم المعتم تجمع في جهة أخرى لتكوين الأجرام المعتمة كالكواكب المعتمة وتوابعها (الثابت في علم الفلك) لا يعقل حصوله كما هو الظاهر إلا بفعل عقل لا حد له وهو الله عظمت قدرته.
6 ـ في مثل هذا العصر العلمي الذي وصلت درجة العلوم والمكتشفات والمخترعات إلى أعلى مراتبها، وبلغت أقصى حدودها، بما أوجدتها تلك العلوم من الأشياء والأدوات والآلات التي تحير العقول، فانها لم تتوصل ولن تتوصل إلى خلق انسان أو حيوان أو نبات بتركيبه الحقيقي قادر على القيام بميمزات الاحياء أو لاكتشاف ما يدفع عن الانسان خطر الموت.
فينظر من هذا كله انه لابد لوجود قوة جبارة قادرة فوق القوة البشرية المتصورة متصفة بصفات أرقى مما يمكن أن يتوصل البشر إلى معرفتها والتي أحدثت هذا العالم وهي (الله جل شأنه).
7 ـ من المحقق أن الحركات الحالية للكواكب لا يمكن أن تنشأ من مجرد فعل الجاذبية العامة، لأن هذه القوة تدفع الكواكب نحو الشمس فيجب لأجل أن تدور هذه الكواكب حول الشمس أن توجد يد إلهية تدفعها على الخط المماس لمداراتها.
8 ـ أن الممكنات الموجودة سواء أكانت متناهية أو غير متناهية قائمةب وجود، فذلك الوجود إما أن تكون مصدره ذات الامكان وماهيات الممكنات وهو باطل لأنه من الماهيات الممكنة بمقتضى الوجود.
فتعين أن يكون مصدره سواها وهو الواجب بالضرورة وهو الله سبحانه وتعالى.
9 ـ ان جملة الممكنات الموجودة ممكنة بداهة وكل ممكن محتاج إلى سبب يعطيه الوجود.
فثبت ان للممكنات الموجودة موجداً واجب الوجود وهو الباري جلت قدرته.
10 ـ لما كان العالم حادثاً وانه لم يوجد من ذاته لأن الحصول على الوجود حدث يقتضي له الفعل، فمن الضرورة أن يكون موجوداً أو لا أو غير العالم أخرجه من العدم إلى الوجود.
ومن استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية له يحكم العقل على أن هذا الوجود الذي اوجد العالم وما فيه هو موجود أول واجب الوجود بذاته وهو مبدأ كل موجود وهذا الموجود الأول هو الذي ندعوه (بالله تعالى).
11 ـ ان أول انسان نشأ في حضن الطبيعة ومتع النظر في هذا الكون الفسيح أذعن لأول وهلة إلى أن له مبدعاً أبدعه وموجوداً أوجده وذلك الفجر الذي يطرأ عليه عند اهتمامه بأمر نفعه الذاتي ودرأ الكوارث الطبيعية عن نفسه مهما توسعت لديه الحيلة وحصوله على ما لم يكن بحسبانه من غير داع وسقوط ما في يده بعد أشد الحرص عليه بالرغم عنه وإخضاعه لمن هو أشد منه قوة فمن هذه النقائض وفسخ العزائم ونقض الهمم ونظائرها علم بأن لهذه الارادات الخفية، والالهامات الغريبة مريداً يصرفها بمشيئته.
وذلك المريد الفعال هو الله الخالق.(202/1)
12 ـ ان نشوة الأزهار الجميلة الزاهية بألوانها ذات العطور الشذية من تلك المادة الجامدة التي لا حس لها ولا حراك وحدوث الأثمار اللذيذة الشهية من ذات هذه الجامدة على ما فيها من أريج فوّاح والتي حيرت عقول علماء الطبيعة، إذ لا يدرون كيف تستحيل هذه المواد الأرضية إلى أجزاء حية صالحة، لأن تكون أجزاء النباتات العفنة كيف لا يأخذ كل نبات إلا المواد الضرورية له دون سواه، مع ان المواد كلها موجودة في التربة على السواء.
فهل جاءت كلها على سبيل الصدفة العمياء؟
كلا! بل لابد أن يكون لها من يدبرها وهو الله المدبر الحكيم.
13 ـ لو دققنا بنظر الاختبار والتفحص بيضة طير من الطيور ولاحظنا الطبقات التي تحتوي عليها تلك البيضة من قشرة كلسية خارجية صلبة لحفظها من الطوارئ الخارجية وقشرة خفيفة هلامية ثابتة ثم طبقتي الأح والمح اللذين لا يختلطان ولا يمتزجان معاً مهما اهتزت البيضة ورجت ومهما بقيت وفي أي مكان وضعت.
فما هي يا ترى تلك القوة التي تحول دون امتزاجهما التي سببت تركيبهما على هذا الترتيب والتنسيق والنظام؟
وما هي تلك القوة التي تخرج من هذه البيضة البسيطة التي لا يمكن رؤية أي شيء منها بأية آلة كانت سوى ما ذكر من طبقاتها الملونة البيضاء والصفراء ذلك الطائر الجميل الريش كالطاووس مثلاً أو ذلك الطائر المغرد الجميل كالببغاء.
أهي الطبيعة أو الصدفة؟
كلا! ثم كلا! إذاً لو فكر ملياً لوجد أنها هي: (الله القادر البارئ المصور).
14 ـ لو وضعت قطرة من (المني) تحت المجهر لما ظهرت فيها إلا تلك الحيوانات الصغيرة.
فلو فكر الانسان في تلك القوة الجبارة التي تجعل من هذه القطرة المنوية التي ليس فيها إلا ما هو أشبه بالعلق الصغير ذلك الطفل ذو اليدين والرجلين وذو الحواس الخمس الذي تحير خلقته العقول ثم يبدأ هذا الطفل رويداً رويداً بالنمو والتكامل حتى يصبح انساناً.
أيمكن العقل أن يصدق بأنها صارت على سبيل الصدفة وعلى منهاج الطبيعة؟
أليس هناك ما يجب أن يصدقه العقل من القوة الكامنة في ما وراء هذه الطبيعة التي خلقت منها الانسان؟ والتي تدبر أموره وتسير شؤونه في الحياة؟
فان تلك القوة العظيمة الحكيمة المدبرة الخالقة هي (الله تعالى) جلت قدرته.
15 ـ ان سعة حيلة الحياة في تحقيق أغراضها يدل على تدبير عقل منبث في خلالها جميعاً.
فلم يستطع انسان ما أن يدرك كنه هذه الحياة فهي لا وزن لها ولا طول ولا عرض ولا كثافة، ولكنها تنطوي على قوة فالجذر النامي مثلاً يشق الصخر شقاً، وقد تغلبت الحياة على الماء واليابسة والجو، وسيطرت على العناصر.
فمن الذي أوجدها في الأرض (غير الله تعالى)؟
16 ـ ان حكمة الحيوان تنطق بلسان لا تردد حجته بأن لها خالقاً كريماً بث الغريزة في حيوانات صغيرةك انت ولولا هذه الغريزة لكانت أحياء عاجزة.
ان سمك السلمون الصغير، يقضي سنوات في البحر، ثم يعود إلى نهره، ويشق طريقه في النهر على الجانب الذي يصب فيه الجدول الذي ولد فيه.
فمن يرجعه إلى مسقط رأسه بمثل هذه الدقة العجيبة؟
وإذا نقلته إلى جدول آخر غير جدوله أدرك من فوره انه ضل طريقه فيكافح لكي يعود إلى مجرد النهر الكبير ثم ينقلب مواجهاً تياره ويمضي حتى ينتهي إلى غايته على أدق وجه.
والزنبور يقهر الجدجد ثم يحفر حفرة صغيرة في الأرض ويلدغ الجدجد حيث ينبغي له أن يلدغه حتى يموت بل لكي يفقد وعيه ويظل حياً يصلح للأكل، فكأنه لحم محفوظ، ثم تضع أنثى الزنابير في المكان الصالح حتى اذا انفلقت عن صغار الزنابير استطاعت أن تأكل من الجدجد دون أن تميته فان لحم الجدجد الميت يقتلها ثم تطير الأم وتموت فلا تقع عينها على صغارها أبداً ولابد أن تكون أنثى الزنابير قد أتمت كل هذا على أوفى وجه وأدقه منذ المرة الأولى وفي كل مرة، ولو لم تفعل ذلك لما كان في الدنيا زنابير.
ولا يسعنا أن تعلل هذه الأساليب الغامضة بالتكيف والملائمة بل هي ممنوحة منه سبحانه وتعالى.
17 ـ في الانسان شيء أكثر من غريزة الحيوان ذلك هو قدرة العقل التي تبرهن للانسان أنها لم تخلق صدفة بل خلقها خالق عظيم الشأن وهو الله. فبفضل العقل البشري نستطيع أن نتأمل في الرأي القائل بأننا بلغنا ما بلغنا، لأننا تلقينا قبساً من ذلك العقل الشامل.
18 ـ ان ما نراه في الطبيعةم ن أساليب التدبير يقسرنا على أن نرى أن حكمة لا حدود لها هي وحدها القادرة على أن تنفذ الغيب وتدبر الأمر بمثل هذه القدرة والرشد.
19 ـ ان قدرة الانسان على أن يتصور فكرة وجود الله هي نفسها برهان فذ على وجوده تعالى.(202/2)
فان هذا التصور ينبثق من قدرة علوية في الانسان، لا يشاركه فيها سائر الأحياء ـ هي قدرة التخيل، وبها يستطيع الانسان دون غيره من الأحياء، أن يجد الدليل على أشياء لا يراها، وان الآفاق التي تفتحها هذه القدرة أمام عينيه لهي آفاق لا حدود لها، والحق أن تخيل الانسان إذا ما دنا من مراتب الكمال، وصار حقيقة روحية، استطاع أن يتبين به من خلال دلائل النظام والقصد في الكون تلك الحقيقة العظيمة إن قدرة السماء في كل مكان وكل شيء وإن الله في كل مكان وعند كل شيء ولكنه أدنى ما يكون إلينا في قلوبنا.
المصدر :الايمان والعلم الحديث(202/3)
أدلة نبوة المسيح عليه السلام من الإنجيل
ـ إنجيل متى الإصحاح 5: 17 من أقوال المسيح (عليه السلام):
ـ " ما جئت لأنقض بل لأكمل " أي أن الهدف من بعثته هو إتمام ما سبق من الشرائع كغيره من الأنبياء
ـ إنجيل متى الإصحاح 10: 5 أرشد المسيح (عليه السلام) أتباعه أن لا يدعو غير اليهود ولكنه بعد قيامته أمرهم بدعوة العالم كما في إنجيل مرقس الإصحاح 16: 15 إنجيل متى الإصحاح 28: 19 إذا قال هذا حقاً فلم الاختلاف بين بطرس وبولس كما في سفر أعمال الرسل الإصحاح 15: 6 ـ 30 وجاء مثل ذلك في إنجيل متى الإصحاح 15: 24 ـ 26 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ " لم أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة…. يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب " أي أنه رسول من عند الله سبحانه وتعالى ولكنه عنصري! لماذا بقي في فلسطين حيث سكن فقط فرعان من القبائل اليهودية ولم ينتقل إلى المناطق المجاورة حيث سكنت بقية قبائل اليهود؟ هل يعني هذا أنه فشل في إبلاغ رسالته؟
ـ إنجيل متى الإصحاح 7: 6 وصف البعض بالكلاب والخنازير
1 ـ إنجيل متى الإصحاح 10: 34 ـ 38 جاء للقتل والكراهية
2 ـ إنجيل متى الإصحاح 12: 39 وصف اليهود بأنهم شريرون وفاسقون
3 ـ إنجيل متى الإصحاح 12: 47 ـ 50 يتبرأ من أمه وإخوته
4 ـ إنجيل متى الإصحاح 16: 18 وفي إنجيل يوحنا الإصحاح 1: 42 أعطى بطرس هذا الاسم بدلاً من اسمه السابق" سمعان " ولكنه قال له " اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي" في من إنجيل متى الإصحاح 16: 23
5 ـ إنجيل متى الإصحاح 21: 31 قال أن الزواني يدخلون الجنة قبلهم
6 ـ إنجيل متى الإصحاح 23: 24 ـ 34 وصفهم بأنهم مراءون، جهال،عميان، قتلة أنبياء، أولاد أفاعي
7 ـ إنجيل لوقا الإصحاح 12: 49 ـ 53 جاء ليلقي ناراً ويفسد علاقات الناس مع بعضهم البعض
8 ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 2: 4 يخاطب أمه بنفس اللفظ الذي كلم به زانية كما في إنجيل يوحنا الإصحاح 8: 10
9 ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 8: 44 قال " أنتم من أب هو إبليس " هذه ألفاظ ادعى كتبة الإنجيل أنها صدرت عن المسيح (عليه السلام).
كيف يقول ذلك وهو القائل في إنجيل متى الإصحاح 5: 22 " ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم "
ـ إنجيل متى الإصحاح 21: 11 " هذا يسوع النبي"
ـ إنجيل متى الإصحاح 21: 43 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ "إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره" ملكوت الله تعني النبوة وهذا دليل عل أن المسيح (عليه السلام) ليس خاتم الأنبياء
ـ إنجيل متى الإصحاح 21: 46 "كان عندهم مثل نبي"
ـ إنجيل مرقس الإصحاح 6: 4 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ " ليس نبي بلا كرامة " كرامة تعني معجزة وقد أيد الله سبحانه وتعالى أنبياءه بمن فيهم المسيح (عليه السلام) بمعجزات كدليل على صدقهم
ـ إنجيل مرقس الإصحاح 10: 20 "وقال له يا معلم " أليس كل نبي معلم؟
ـ إنجيل لوقا الإصحاح 3: 23 ـ 38 "ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة " أي أن نبوته بدأت في سن الثلاثين
ـ إنجيل لوقا الإصحاح 7: 16 "قد قام فينا نبي عظيم"
ـ إنجيل لوقا الإصحاح 13: 33 قال المسيح (عليه السلام) عن نفسه: ـ " لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أورشليم "
ـ إنجيل لوقا الإصحاح 24: 19 " يسوع الناصري الذي كان إنسانًا نبياً مقتدراً في الفعل والقول "
ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 5: 30 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ " الآب الذي أرسلني " أطلق لفظ الأب على غير المفهوم الجسمي المتداول بين الناس في مواضع منها:
ـ سفر التكوين الإصحاح 45: 8 " وهو قد جعلني أباً لفرعون " المتكلم يوسف (عليه السلام) عن الله عز وجل
ـ سفر أيوب الإصحاح 29: 16 " أب أنا للفقراء " المتكلم أيوب (عليه السلام)
ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 9: 17 " فقال إنه نبي "
ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 12: 44 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ " الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني"
ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 12: 49 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ " الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم "
ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 14: 2 ـ 3 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ " في بيت أبي منازل كثيرة … أنا أمضي لأعد لكم مكاناً….حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً " يقول المسيح (عليه السلام) أن أنه سيعد لأتباعه مكاناً من هذه المنازل فماذا عن بقية المنازل؟ هل ستبقى غير مسكونة؟ إن المقصود هو أن المسيح (عليه السلام) نبي كسائر الأنبياء ويتكلم عن نصيب أتباعه في الجنة أما المنازل الباقية فهي لأتباع أنبياء الله الآخرين
ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 14: 6 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ "أنا هو الطريق والحق والحيوة " أليس إتباع أي نبي طريق موصل لرضا الله سبحانه وتعالى لأنه يقول الحق وأن جزاء من يطيعه الحياة الأبدية في الجنة؟
ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 14: 16 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر"(203/1)
ألا تدل "معزي آخر" على تشابهه مع المسيح (عليه السلام) أي أنه نبي آخر؟ وإلا فمن المعزي الأول؟
ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 14: 24 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ "والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني" فهو كسائر رسل الله سبحانه وتعالى ينقل رسالة الله سبحانه وتعالى للبشر ولا شيء من عنده
ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 14: 28 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ " أنا ذاهب ثم آتي إليكم " ألم يتم مهمته فيعود ليتمها؟ ثم إنه لم يعد
ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 17: 3 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ " أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته " يسوع رسول من عند الله سبحانه وتعالى أما كلمة المسيح فتعني تعيين شخص لأداء مهمة كما في صموئيل الثاني الإصحاح 2: 4 & 7 مسح الله سبحانه وتعالى آخرين كما جاء في المزمور 89: 20 "وجدت داود عبدي. بدهن قدسي مسحته "
ـ إنجيل يوحنا الإصحاح 18: 33 ـ 36 من أقوال المسيح (عليه السلام): ـ " مملكتي ليست من هذا العالم " ذلك لأن أنبياء الله سبحانه وتعالى لا تهمهم الدنيا بل رضا الله والآخرة
ـ رؤيا يوحنا الإصحاح 1: 1 " إعلان يسوع المسيح الذي أعطاه إياه الله " أي أن المسيح (عليه السلام) تلقى التعاليم من الله سبحانه وتعالى كسائر الأنبياء
ـ رؤيا يوحنا الإصحاح 1: 3 " طوبى للذي يقرأ وللذين يسمعون أقوال النبوة " هذا كلام يوحنا عن المسيح (عليه السلام)(203/2)
أدومه وإن قل أيضاً
حين يتمثل الدعاة إلى الله تبارك وتعالى معنى المداومة في دعوتهم، فإن هذا يؤمل أن يولد نتائج عدة، منها:
1 – حصول التأسي بالنبي صلى الله عليه و سلم ، وهذا عبادة بحد ذاته يؤجر عليه المسلم، ويحصل به بركة متابعة النبي صلى الله عليه و سلم .
2 - أن العمل قد أعد له إعداداً جيداً، وأخذ نصيبه من الدراسة والمراجعة، ولم يكن نتاج فكره طائشة أو خاطرة لم تأخذ حقها من التفكير.
3 - المداومة تعني التخصص، الذي ينشأ عنه سد للثغرات التي قد لا تجد لها مكاناً بين الأفكار الطارئة، وينشأ عنه التوزيع المعتدل للطاقات تدون أن تسهم التفاعلات الفكرية والثقافية في تفتيتها أو تركزها في ميدان دون آخر؛ ذلك أن الحديث عن نجاح ميدان أو تجربة دعوية، أو الحديث عن أهمية ميدان ومجال مهمل، أو عن خطورة تحد يواجه الأمة والدعوة، ربما أسهم ذلك كله في توجه غير معتدل للطاقات نحو هذا الميدان مما ينشأ عنه إخلاء ثغور ومواقع لم تجد من يجيد الاستنفار لها .
4 - المداومة تعني عمق القناعة بالعمل وأنه لم يكن ناشئاً نتيجة ظرف معين أو خاطر سريع، وهو يعني أن تكون ردة الفعل تجاه الأحداث متزنة؛ إذ طالما أسهم الانسياق وراء حدث أو ظاهرة مفاجئة في ردة الفعل تولد تطرفاً وغلواً في الاتجاه المقابل.
5 - المداومة على العمل تقضي على ظاهرة استعجال قطف الثمرة، والإجهاظ الفكري للمشروعات والبرامج الدعوية والتغيرية، وتلك إنما تنشأ عند أولئك الذين لم يستقر لهم قرار في ميدان دعوي، أو لم يحققوا مبدأ المداومة في الدعوة.
6 - المداومة تعني انضباط أهداف العمل؛ إذ هي نتاج تفكير هاديء، وممارسة وتجارب طويلة، وعمل متخصص، وليست مجرد حماسة أو ردة فعل تجاه انحراف أو موقف معين.
7 - المداومة تعني التدرج في العمل، والسير فيه بخطوات هادئة ثابتة متزنة، تنظر إلى المستقبل بعين واسعة، وأفق رحب، أما أولئك الذين تحركهم العواطف والمواقف فلا يجيدون العمل المتدرج الهاديء، بل حين يقتنعون بأهميته وضرورته فلن يطيقوا الاستمرار فيه.
8 - المداومة تعني صعوبة وصول الوصوليين، أو حدثاء العهد بالاهتمامات الدعوية إلى مراكز الريادة والقيادة في العمل الإسلامي الذي أصبح يملك قدراً من الاستمرار وثبات الأهداف، ويفرض على الطارئين أن ينموا بصورة طبيعية في ميدان العمل، وإلا لن يجدوا لهم مكاناً رحباً.
ولقد أسهم فقد هذا الجانب في تصدر بعض من ليس أهلاً للتصدر في ساحة العمل الإسلامي ولدى جماهير الصحوة، سواء أكان حسن النية والطوية لكنه لم تنضج خبرته وتجربته الدعوية، أو كان سيئ النية.
والعناية بمبدأ المداومة في العمل الدعوي وأهميته لا يعني :-
1 - احتقار البرامج الطارئة والابتكارات السريعة، والتي ربما استفادت منها الدعوة دفعة جديدة، وفُتِحت فيها آفاق لم تكن قبل كذلك.
وكما أن العابد لربه الذي له هدي راتب من العمل حين تتاح له فرصة للخير وتتجه نفسه نحو باب من أبواب العبادة فإنه يستثمر ذلك، فكذلك الداعي إلى الله تبارك وتعالى، ينبغي ألا تحول عنايته بالعمل الدائم عن اغتنام الفرص، لكن فرق بين أن يكون ذلك هو الأصل وهو المسير للعمل، وبين أن يكون ميداناً يستثمر حين يتاح.
2 - الجمود في الأعمال الدعوية والبرامج والوسائل؛ إذ التجديد والتطوير لا يعني إلغاء الأصل، والاستمرار والمداومة لا تعني المحافظة على الرسوم وتحول الوسائل إلى غايات.
3 - عدم التكيف مع الظروف والتعامل معها؛ إذ هي تفرض نوعاً من المراجعة لأهداف العمل وبرامجه، بما يضمن لها استمرار البقاء والتأثير.
4 - ترك توظيف الطاقات الأقل جدية والتي لا تجيد العمل الدائم، والبرامج بعيدة المدى، بل على الدعاة إلى الله أن يعنوا بتوظيف كل طاقة خيرة، وألا يحتقروا جهداً أو فرداً يمكن أن يقدم عملاً مثمراً، لكن يبقى أولئك في موقعهم الطبيعي، ولا يتحول هذا إلى قاعدة ينطلق منها الجميع.(204/1)
أدومه وإن قل
ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وأخبر صلى الله عليه و سلم :"أن أحب الدين إلى الله ماداوم عليه صاحبه"([1]) وكان هديه صلى الله عليه و سلم المداومة على العمل، وكان صلى الله عليه و سلم إذا عمل عملاً أثبته([2])، وحين سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن عمله صلى الله عليه و سلم قالت:كان عمله ديمه ([3])
والعمل الذي يداوم عليه صاحبه، مع أنه أحب إلى الله تبارك وتعالى، وأنه هدي النبي صلى الله عليه و سلم ففيه ما أخبر عنه صلى الله عليه و سلم بقوله:" إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا"([4])، وهذا إنما يتأتى لمن له عمل يداوم عليه
ويتحدث أرباب السلوك عن هذا الحديث ومعانيه، ويمثلون له كثيراً بالصلاة والذكر والصيام والصدقة، ولاشك أن هذه الأعمال أولى ماتدخل فيه، بل هي تدخل فيه بالنص
لكن ألا يمكن أن يستضيء الدعاة إلى الله تبارك وتعالى في دعوتهم بمعاني هذا الحديث ويتمثلونها؟ ويعلمون أنه ما دام أن أحب العمل إلى الله أدومه، فالدعوة إليه تبارك وتعالى وهي من أفضل الأعمال، ينبغي أن تسلك هذا المسلك
والمداومة في الدعوة تعني معاني عدة، منها
أن يكون للدعوة عموماً أهدافٌ واضحة محددة، لا أن تكون خطوات مرتجلة مبعثرة
أن لاتكون الدعوة مجرد ردود فعل لمواقف معينة، وأن تأخذ ردود الأفعال موقعها الطبيعي؛ فلا تكون مصدراً لرسم برامج الدعوة وأهدافها
أن لاتكون الدعوة دعوة موسمية ومناسبات، أو تكون متعلقة بأوقات فراغ الداعية وإجازاته، بل تكون جزءاً أساساً من وقته، ويسمع الناس داعي الخير في كل زمان ومكان
لزوم الداعية موقعه والمحافظة عليه؛ ذلك أنه تبدو أمامه كل وقت مجالات وفرص متعددة هنا وهناك، وحين يتاح له موقع من المواقع، يسد فيه ثغرة، فينبغي أن يحافظ عليه، ولايجاوزه إلا لمصلحة ظاهرة، أما أولئك الذين ينتقلون كل يوم من ميدان إلى آخر فما أقل إنتاجهم
عدم احتقار الميادين المهمة التي لها أثر عميق لكنه غير عاجل الثمرة، كميادين التربية والبناء، فهي وإن قل أثرها القريب الظاهر، إلا أنها ضرورة لاغنى للدعوة عنها، والذي يعي مفهوم المداومة يرى أنه ليس بالضرورة أن تكون الأعمال ذات الأثر العاجل السريع خيراً منها وأولى.
ومما يتأكد على الدعاة إلى سبيل الله تبارك وتعالى في ميدان المداومة أن يكون لأحدهم نصيب وقدر من العمل الصالح، من الصلاة والذكر والتلاوة والصيام والصدقة-وإن كان قليلاً- لايخل به، وهم أحوج الناس للصلة بالله تبارك وتعالى، ولهم في ذلك أسوة بنبيهم محمد صلى الله عليه و سلم
([1]) رواه مسلم (785)
([2]) رواه مسلم (746)
([3]) رواه البخاري (1987)
([4]) رواه البخاري (2996)
للشيخ محمد الدويش(205/1)
أدومه وإن قل1
ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وأخبر صلى الله عليه و سلم :"أن أحب الدين إلى الله ماداوم عليه صاحبه"([1]) وكان هديه صلى الله عليه و سلم المداومة على العمل، وكان صلى الله عليه و سلم إذا عمل عملاً أثبته([2])، وحين سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن عمله صلى الله عليه و سلم قالت:كان عمله ديمه ([3]).
والعمل الذي يداوم عليه صاحبه، مع أنه أحب إلى الله تبارك وتعالى، وأنه هدي النبي صلى الله عليه و سلم ففيه ما أخبر عنه صلى الله عليه و سلم بقوله:" إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا"([4])، وهذا إنما يتأتى لمن له عمل يداوم عليه.
ويتحدث أرباب السلوك عن هذا الحديث ومعانيه، ويمثلون له كثيراً بالصلاة والذكر والصيام والصدقة، ولاشك أن هذه الأعمال أولى ماتدخل فيه، بل هي تدخل فيه بالنص.
لكن ألا يمكن أن يستضيء الدعاة إلى الله تبارك وتعالى في دعوتهم بمعاني هذا الحديث ويتمثلونها؟ ويعلمون أنه ما دام أن أحب العمل إلى الله أدومه، فالدعوة إليه تبارك وتعالى وهي من أفضل الأعمال، ينبغي أن تسلك هذا المسلك.
والمداومة في الدعوة تعني معاني عدة، منها:
1- أن يكون للدعوة عموماً أهدافٌ واضحة محددة، لا أن تكون خطوات مرتجلة مبعثرة.
2- أن لاتكون الدعوة مجرد ردود فعل لمواقف معينة، وأن تأخذ ردود الأفعال موقعها الطبيعي؛ فلا تكون مصدراً لرسم برامج الدعوة وأهدافها.
3- أن لاتكون الدعوة دعوة موسمية ومناسبات، أو تكون متعلقة بأوقات فراغ الداعية وإجازاته، بل تكون جزءاً أساساً من وقته، ويسمع الناس داعي الخير في كل زمان ومكان.
4- لزوم الداعية موقعه والمحافظة عليه؛ ذلك أنه تبدو أمامه كل وقت مجالات وفرص متعددة هنا وهناك، وحين يتاح له موقع من المواقع، يسد فيه ثغرة، فينبغي أن يحافظ عليه، ولايجاوزه إلا لمصلحة ظاهرة، أما أولئك الذين ينتقلون كل يوم من ميدان إلى آخر فما أقل إنتاجهم.
5- عدم احتقار الميادين المهمة التي لها أثر عميق لكنه غير عاجل الثمرة، كميادين التربية والبناء، فهي وإن قل أثرها القريب الظاهر، إلا أنها ضرورة لاغنى للدعوة عنها، والذي يعي مفهوم المداومة يرى أنه ليس بالضرورة أن تكون الأعمال ذات الأثر العاجل السريع خيراً منها وأولى.
ومما يتأكد على الدعاة إلى سبيل الله تبارك وتعالى في ميدان المداومة أن يكون لأحدهم نصيب وقدر من العمل الصالح، من الصلاة والذكر والتلاوة والصيام والصدقة-وإن كان قليلاً- لايخل به، وهم أحوج الناس للصلة بالله تبارك وتعالى، ولهم في ذلك أسوة بنبيهم محمد صلى الله عليه و سلم.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه مسلم (785)
([2]) رواه مسلم (746)
([3]) رواه البخاري (1987)
([4]) رواه البخاري (2996)(206/1)
أذكار وأدعية الصلاة ...
أولاً : دعاء الاستفتاح :
1- « اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالمَاءِ وَالبَرَدِ » متفق عليه
2- « سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ » رواه مسلم وأحمد والترمذي وأبو داود .
3- « الْحَمْدُ للّهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ » رواه مسلم وأحمد .
4- « اللّهُ أَكْبَرُ كَبِيراً. وَالْحَمْدُ للّهِ كَثِيراً. وَسُبْحَانَ اللّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً » رواه مسلم وأحمد والترمذي
5- « اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ. فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ » رواه مسلم ، وابن خزيمة .
6- « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين . إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِك أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ. أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ. ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعاً. إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ. وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ. لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ. وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا. لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْت . لَبَّيْكَ. وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ. وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ. أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ. تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ. أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ » رواه مسلم وأحمد والترمذي وأبوداود .
ثانياً : في الركوع :
1- « سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ » ثلاث مراتٍ – وكان أحياناً يكررها أكثر من ذلك . رواه مسلم وأحمد والترمذي
2- « سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ » ثلاث مراتٍ . رواه أحمد وأبوداود ، والنسائي .
3- « سُبحانَكَ اللّهمَّ ربَّنا وَبِحمدِكَ، اللّهمَّ اغفِرْ لي » متفق عليه .
4- « سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلاَئِكَةِ وَالرُّوح ِ». رواه مسلم وأحمد وأبوداود والنسائي .
5- « سُبْحَانَ ذِي الْجَبْرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ » رواه وأحمد وأبوداود والنسائي . 6- « اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ. وَبِكَ آمَنْتُ. وَلَكَ أَسْلَمْتُ. خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي. وَمُخِّي وَعَظْمِي (وفي رواية : وَعِظَامِي ) وَعَصَبِي » رواه مسلم وأحمد وأبوداود والترمذي والنسائي .
ثالثاً : في الرفع من الركوع (حال الاعتدال) :
1- « رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» متفق عليه . ومن الخطأ : قول: « رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ والشُكْر»
2- « رَبَّنَا لَكَ الْحَمْد» متفق عليه .
3- « اللهمَّ ربَّنا ولك الحمدُ» متفق عليه .
4- « اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» متفق عليه .
5- « رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ » رواه البخاري ومالك وأبوداود .
6- « رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ. أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ. وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ. اللَّهُمَّ! لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ » رواه مسلم والنسائي .
رابعاً : في السجود :
1- « سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى » ثلاث مرات – وكان أحياناً يكررها أكثر من ذلك . رواه مسلم وأحمد وأبوداود .
2- « سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى وَبِحَمْدِهِ (ثَلاَثاً) » حديث صحيح – رواه أبوداود ، والبيهقي ، والدار قطني .
3- « سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ » رواه مسلم .
4- « سُبحانَكَ اللّهمَّ ربَّنا وَبِحمدِكَ، اللّهمَّ اغفِرْ لي » متفق عليه .
5- « سُبْحَانَ ذِي الْجَبْرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ » رواه أحمد وأبوداود والنسائي .
6- « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلاَنِيَتَهُ وَسِرَّهُ » رواه مسلم وأبوداود .(207/1)
7- « اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ. وَبِكَ آمَنْتُ. وَلَكَ أَسْلَمْتُ. سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ. تَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ » رواه مسلم وأحمد والترمذي .
* بعد أن يختار أحد أدعية السجود ، يسن له أن يدعوا بما شاء ،لأن «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ».
خامساً : في الجلسة بين السجدتين :
1- « رَبِّ اغْفِرْ لِي رَبِّ اغْفِرْ لِي » رواه أحمد وأبو داود والنسائي .
2- « ربِ اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني وارزقني واهدني » رواه أحمد .
سادساً : في التشهد :
« التَّحِيَّاتُ لله والصَّلَوَاتُ والطَّيِّبَاتُ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبيُّ وَرَحْمَةُ الله وبَرَكَاتُهُ. السَّلاَمُ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ. أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ. اللّهُمَّ صَلّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحمَّدٍ كمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيم وَعَلَى آلِ إبْرَاهيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحمَّدٍ وعَلَى آلِ مُحمَّدٍ كمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهيمَ في العالمينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » رواه البخاري والترمذي .
وردت صيغ أخرى للتشهد قريبة من هذا .
سابعاً : الأدعية التي تقال بعد التشهد و قبيل السلام :
1- « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَم ِ» متفق عليه .
2- « اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً ، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ. فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » متفق عليه .
3- « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ. وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ. وَمَا أَسْرَفْتُ. وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ. لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ » رواه مسلم .
4- « رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ». متفق عليه .
5- « اللَّهُمَّ حَاسِبْنِيْ حِسَابَاً يَسِيراً » رواه أحمد والحاكم وابن حبان وابن خزيمة .
تنبيه :
* وردت أدعية أخرى يمكن الرجوع إليها في كتب الصحاح .
* على المصلي التقيد بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي».
المراجع : 1- ( صفة صلاة النبي) الشيخ/عبد العزيز بن باز 2- (صفة صلاة النبي من التكبير إلى التسليم كأنك تراها) الشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني .
* أنشرها ولك الأجر والثواب ، فهي من الصدقات الجارية إنشاء الله ، قال تعالى : « إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ».
لا تنسونا من دعاءكم الصالح ...
أخوكم في الله .. والفقير إلى الله تعالى / ( أبو عبد الله )(207/2)
أربع فتاوى في أحكام الإمام و المأموم
س1: ما حكم الصلاة خلف إمام لا يعرف أحكام التلاوة مطلقاً مع أننا نعلم أنّ اللحن الجلي حرام بالإجماع ؟
الجواب :
إذا كان الإمام المقصود في السؤال لا يطبّق أحكام التجويد كالغنن و المدود ، أو يخطئ في تطبيقها ، فهذا لا يُبطل الصلاة ، لأنّ الصحيح أن أحكام التجويد اصطلاحيّة و ليس الالتزام بها شرطاً لصحّة القراءة .
أمّا إن كان المقصود بعدَم معرفته أحكامَ التلاوة وُقوعه في اللحن أثناء تلاوة القرآن الكريم ففيه تفصيل ، بيّنَه شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في ردّه على سؤال مماثل لما وَردَ أعلاه فقال :
( أما كونه لا يصحح الفاتحة فهذا بعيد جداً ، فإن عامة الخلق من العامة و الخاصة يقرأون الفاتحة قراءة تجزيء بها الصلاة ، فإن اللحن الخفي و اللحن الذي لا يحيل المعنى لا يبطل الصلاة ، و في الفاتحة قراءات كثيرة قد قرئ بها فلو قرأ ( عليهِم ) و ( عليهُم ) و ( عليهُمُ ) ، أو قرأ ( الصراط ) أو ( السراط ) أو ( الزراط ) ، فهذه قراءات مشهورة ، و لو قرأ ( الحمد لِلّه ) ، أو ( الحمد لُلّّّّه ) ، أو قرأ ( ربُّ العالمين ) ، أو ( ربَّ العالمين ) أو قرأ بالكسر ، أو نحو ذلك لكانت قراءاتٍ قد قُرِئ بها ، و تَصِحُّ الصلاةُ خلفَ من قرأ بها ، و لو قرأ ( ربُ العالمين ) بالضم ، أو قرأ ( مالكَ يوم الدين ) بالفتح لكان هذا لحناً لا يُحيل المعنى ، و لا يُبطِل الصلاة ، و إن كان إماماً راتباً ، و في البَلَد من هو أقرأ منه صلَّّى خلفه ) [ الفتاوى الكبرى : 2 / 214 ] .
قلتُ : أمّا إذا كان اللحن جليّاً يُحيل المعنى عن حقيقته كقوله ( أنعمتُ ) بالضمّ بَدَل الفتح في قوله تعالى : ( صراط الذين أنعمتَ عليهم ) فهذا ممّا يُبطِل الصلاة .
و بالجُملة ؛ إن كان اللحنُ في القراءة يغيّر المعنى فالصلاة باطلة ، و إن لم يكن كذلك فالصلاة صحيحة في حقّ المنفرد و الإمام و المأموم على حدٍ سواء ، و بالله التوفيق .
س2: ما الحكم في الصلاة وراء إمام أشك في صلاته ( السرية ) هل يطبقها بأركانها و شروطها جميعاً أم لا ، و هل أقوم بإعادة الصلاة أم لا ؟
الجواب :
اليقين لا يزول بالشك ، فإذا كان ما حاك في صدرك نحو الإمام مجرّد ظنون لا بيّنة عليها ، فلا تتّبع الظن ، لأنّه أكذبُ الحديث ، و صلّ خلف الإمام باستصحاب الأصل و هو السلامة .
أمّا إن ثبَت أن الإمام مُخِلٌّ بصلاته ، بزيادةٍ أو نقصانٍ يبطلانها ، أو غير ذلك ممّا يجعل صلاته باطلة ، فصلاة غيره بصلاته مع علمه ببطلانها باطلةٌ أيضاً ، و تجب إعادتها ، و الله أعلم .
س3: هل يجوز الصلاة في السيارة و أنا مسافر إذا جاء وقت الصلاة ، و إذا كان يجوز فكيف يمكنني ذلك ؟
الجواب :
الصلاة في السيّارة أو غيرها من وسائل النقل المعاصرة صحيحةٌ و جائزةٌ للمسافر ، قياساً على مشروعيّة الصلاة على الراحلة ، و لكن يجب على من صلّى راكباً أن يستقبلَ القِبلةَ في صلاة الفريضة ، لأنّ استقبال القبلة من شروط الصلاة ، و هو مقدورٌ عليه أثناء الركوب ؛ سواء كان ذلك بإدارة السيّارة أو الاستدارة على المقعد أو الصلاة في الفُسَح المتاحة في القطارات ، و نحوها ، و هذا ما ذهب إليه الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم ، حيث رخّص في عدم استقبال القبلة لقائد السفينة و لم يُرخّص في ذلك لسائر الركّاب .
فإن عَجزَ عن استقبال القبلةِ صلّى راكباً إلى أيّ جهةٍ اضطراراً ، هذا بالنسبة للصلاة المكتوبة ، أمّا النافلة فلا يٌشتَرط فيها استقبال القبلة للصلاة على الراحلة على مذهب الجمهور ، و هو الراجح .
روى الشيخان و أبوداود و النسائي و أحمد عن عبد الله بنُ عُمَرَ رضي الله عنهما ، قَالَ : ( َكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَبِّحُ – أي يُصلّي - عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَلَ أَىِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ ، و َيُوتِرُ عَلَيْهَا ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّى عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ ) .
و روى البخاري و غيره من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم كان يصلي على راحلته حيث توجهت، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة .
و في سنن الترمذي بإسنادٍ قال عنه : ( حسن صحيح ) عن جابر قال : بعثني النبي صلى الله عليه و سلم في حاجة، فجئت و هو يصلي على راحلته نحو المشرق، و السجودُ أخفَض من الركوع .
قال الإمام الترمذي رحمه الله بعد أن روى هذا الحديث : و العمل على هذا عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافاً ، لا يرون بأسا أن يصلي الرجل على راحلته تطوعاً ، حيث ما كان و جهه إلى القبلة أو غيرها .اهـ .(208/1)
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( اشترط للفرض ما لم يشترط للنفل من القيام و الاستقبال مع القدرة ، و جاز التطوع على الراحلة في السفر كما مضت به سنة النبي ... و هذا مما اتفق العلماء على جوازه ، و هو صلاةٌ بلا قيامٍ ، و لا استقبالٍ للقبلة ، فإنه لا يمكن المتطوعَ على الراحلة أن يُصلِّي إلا كذلك ، فلو نُهيَ عن التطوع أفضى إلى تفويت عبادة الله ، التي لا يقدر عليها إلا كذلك ، بخلاف الفرض ، فإنه شيء مُقَدَّرٌ يُمكنه أن ينزل له ، و لا يقطعه ذلك عن سفره ، و مَن لم يُمكِنه النزولُ لقتالٍ أو مرضٍ أو وَحْلٍ صلى على الدابة أيضاً ) [ مجموع الفتاوى : 21 / 285 ] .
و قال ابن القيّم : ( استقبال القبلة شرطٌ إلا في النافلة على الراحلة للمسافر ، فانه يُصلي حيث كان وجهه ، و العاجز عن الاستقبال لخوفٍ أو غيرِه ، فإنه يصلي كيف ما أمكَنَه ، و من عداهُما لا تصح صلاته إلا مستقبِلَ الكعبة ) [ شرح العمدة : 4 / 521 ] .
فصلَّ – أخي المسلم – حيث أدركتك الصلاة راكباً ، بحسب طاقتك ، و استقبل القبلة في الفريضة دون النافلة إن استطعت ، فإن الدين يسرٌ / و ما جعل الله علينا في الدين من حرَج ، و الحمد لله .
س4: ما الحكم في إمام صلي بالناس صلاة رباعيةً و نسي و نهض ليقوم بالركعة الخامسة فماذا يفعل المصلون ؟ و ما الذي يجب أن يفعله الإمام لكي لا تبطل الصلاة ؟
الجواب :
إذا قام الإمام لأداء ركعة زائدة في المكتوبة كالثالثة في الفجر ، و الرابعة في المغرب ، و الخامسة في الرباعيّة ، وجب على المأمومين تنبيهه ، و يكون التنبيه بالصفة الشرعيّة لا غير ، و هي التكبير للرجال ، و التصفيق للنساء ؛ لما رواه البخاري و أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَ التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ » .
و في الصحيحين و سنن أبي داود و النسائي و الموطّأ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ نَابَهُ شيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ وَ إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ » .
فإذا نُبِّه الإمام إذا قام إلى ركعةٍ زائدةٍ ، وجب عليه أن يقعد فيتشهّد و يُسلّم ثمّ يسجُد للسهو ، لحديث عبد الله ابن مسعود الأتي ، أمّا إن كانَ قد أتى بالتشهّد الأخير قبل قيامه إلى الركعة الزائدة فيقعد و يسلّم مباشرةً ، و لا يُعيد التشهّد ، فإن لم يَقعُد بَطَلت صلاته ، و صلاة من تابَعه في زيادة الركعة ، و هو على يقينٍ أنّها زائدةٌ .
بل الواجب على المأموم في هذه الحال أنْ يظلّ جالساً ، و ينشغل بالذكر و الدعاء ( و هو فضيل دُبُرَ الصلوات ) حتى يفرغ الإمام من أداء الركعة الزائدةِ ، فيقعد و يُسلّم فيسلّم المأموم بتسليم إمامه ، و لا يسبقه فيه ؛ لأنّ متابعة الإمام واجبةٌ ، و ليس للمأموم أن ينصرف من الصلاة قبل انصراف الإمام .(208/2)
و من تيقّن وقوع الإمام في خطأ تفسد به الصلاة ( كزيادة أو نُقصان رُكنٍ ) و لم ينبّهه ، بَطلت صلاته دون أن يؤثّر ذلك على صلاة الإمام و بقيّة المصلّين لعدَم علمهم بالزيادة أو النقصان ، فإن نُبِّهَ الإمام أو تنبّه من تلقاء نفسه بعد انقضاء الصلاة ، لزِمَه أن يعود فيُحرِم بالصلاة و يسجد سجدتين للسهو ، و إن كان الفاصل طويلاً ، أو تخلّله كلامٌ أو فعلٌ في أمور الدنيا ، ما دام في المسجد لم يَبرَحه ؛ لما رواه الشيخان و أصحاب السنن - و هذا لفظ البخاري - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم إِحْدَى صَلاَتَىِ الْعَشِيِّ ، رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِى الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا ، كَأَنَّهُ غَضْبَانُ ، وَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ، وَ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، وَ وَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى ، وَ خَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا : قَصُرَتِ الصَّلاَةُ ، وَ فِى الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَ عُمَرُ ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ ، وَ فِى الْقَوْمِ رَجُلٌ فِى يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاَةُ ؟ قَالَ : « لَمْ أَنْسَ ، وَ لَمْ تُقْصَرْ » . فَقَالَ : « أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ » ، فَقَالُوا : نَعَمْ ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَ سَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَ كَبَّرَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَ سَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَ كَبَّرَ . فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ – أي سألوا الراوي - ثُمَّ سَلَّمَ ؟ فَيَقُولُ : نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ ثُمَّ سَلَّمَ .
و روى البخاري و أصحاب السنن إلا ابن ماجة و أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّه بن مسعود رضى الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْساً فَقِيلَ لَهُ أَزِيدَ فِى الصَّلاَةِ ؟ فَقَالَ : « وَ مَا ذَاكَ ؟ » ، قَالَ : صَلَّيْتَ خَمْساً ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ .
و الراجح أن سجود السهو عن الزيادة في الصلاة محلّه بعدَ التسليم ، لهذا الحديث ، و الله أعلم ، و صلى الله و سلّم على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين .(208/3)
أربعون حديثاً قدسياً وأربعون حديثاً في الأذكار
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه.
أما بعد: فها نحن بعرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة لعام 1419هـ، الساعة السادسة قبل الغروب ليوم الجمعة ، وعسي أن تكون ساعة إجابة ، وهذا أوان الشروع في إعداد هذا الكتاب، وقد اخترت فيه الأحاديث الجامعة البليغة الصحيحة الكافية الشافية؛ يتذاكرونها ويروونها ، ويعملون بها، ويتواصلون بما دلت عليه، وأرشدت إليه من علم نافع، وعمل صالح، وخير عاجل ، وثواب آجل.
ويلي ذلك أربعون حديثاً قدسياً، كلها عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ جمعتها رجاء الانتفاع بها، جعلها الله مباركة، ونفع بها جامعها، وقارئها، وسامعها، إنه سميع مجيب.
أسال الله العظيم ، في هذا الموقف العظيم، والساعة العظيمة ، باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطي وإذا دعي به أجاب، أن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه ، وقارئه وسامعه، وأن يكون خالصاً لوجهه الكريم، سائقاً إلى رضوانه ، مستوجباً عفوه وغفرانه، وسبباً إلى رحمته وإحسانه، وداعياً إلى دار كرامته وامتنانه.
وصلي الله على صفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ورسوله إلى عباده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
الحديث الأول:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : (أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً ، وإن تقرب إلى ذراعاً، تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)). رواه البخاري.
الحديث الثاني:
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال كان أكثر دعاء النبي صلي الله عليه وسلم : ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)رواه البخاري.
الحديث الثالث :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (( من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك )). متفق عليه.
الحديث الرابع:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر)). متفق عليه.
الحديث الخامس:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم )). متفق عليه.
الحديث السادس:
عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه قال لرسول الله صلي الله عليه وسلم : علمني دعاء أدعو به في صلاتي . قال : (( قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم. متفق عليه.
الحديث السابع:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : (( لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم )). متفق عليه .
الحديث الثامن :
عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أخذ بيده، وقال : ((يا معاذ والله إني لأحبك ))، فقال : أوصيك يا معاذ ، لا تدعن في دبر كل صلاة تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)). رواه أوب داود والنسائي وأحمد وابن حبان والحاكم وهو حديث صحيح.
الحديث التاسع:
عن شداد بن أوس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: (( اللهم إني أسالك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسالك شكر نعمتك، وحسن عبادتك ، وأسالك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، وأسالك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم)). رواه النسائي وأحمد وهو حديث صحيح.
الحديث العاشر :
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا كر به أمر ، قال (( يا حي يا قيوم برحمتك استغيث )) رواه الترمذي وهو حديث حسن.
الحديث الحادي عشر:
عن أسماء بنت عميس ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم : ألا أعلمك كلمات تقولينها عن الكرب ـ أو في الكرب ـ؟ : (( الله ، الله ربي لا أشرك به شيئاً)). رواه النسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد وهو حديث صحيح.
الحديث الثاني عشر :(209/1)
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : (( من كثر همه فليقل : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، وجلاء همي وغمي، ما قالها عبد قط إلا اذهب الله غمه ، وأبدله به فرجاً)). رواه أحمد وابن حبان وهو حديث صحيح.
الحديث الثالث عشر :
عن العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت ك يا رسول الله ، علمني شيئاً أسأل الله عز وجل ، قال ((سل الله العافية )) فمكث أياماً ثم جئت فقلت يا رسول الله علمني شيئاً أسأل الله عز وجل ، فقال لي : (( يا عباس ، يا عم رسول الله ، سل الله العافية في الدنيا والآخرة)). رواه الترمذي ، وله شاهد من حديث أبي بكر الصديق عن أحمد ، وابن ماجة.
الحديث الرابع عشر :
عن الأعز المزني ـ رضي الله عنه ـ قال ك سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : (( إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في إليوم مائة مرة )). رواه مسلم .
الحديث الخامس عشر :
عن شداد بن أوس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : (( سيد الاستغفار : أن يقول العبد : (( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، وأبوء لك بنعمتك على ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . من قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي ، فهو من أهل الجنة ، ومن قالها من الليل وهو موقن بها ، فمات قبل أن يصبح ، فهو من أهل الجنة )). رواه البخاري.
الحديث السادس :
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : (( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)). رواه أبو داود ، والنسائي, وابن ماجة ، وصحح الحاكم.
الحديث السابع عشر :
عن جويرية ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي صلي الله عليه وسلم أن رسول الله صلي الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة، حين صلي الصبح وهي في مسجدها ن ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة ، فقال : (( ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت : نعم ، فقال النبي صلي الله عليه وسلم : لقد قلت بعدك أربع كلمات ، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ إليوم لوزنتهن : سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه، ومداد كلماته)). رواه مسلم.
الحديث الثامن عشر :
عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال ك كنا عند رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال : (( أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة ؟ )) فسأله سائل من جلسائه : كيف يكسب أحدنا ألف حسنة ؟ قال (( يسبح مائة تسبيحه ، فيكتب له ألف حسنة ، أو يحط عنه ألف خطيئة )). رواه مسلم .
الحديث التاسع عشر:
عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال ك قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم : يا عبد الله بن قيس ، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ فقلت : بلي يا رسول الله ، قال : قل (( لا حول ولا قوة إلا بالله )) متفق عليه .
الحديث العشرون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من صلي على واحدة صلي الله عليه عشرا)). رواه مسلم.
الحديث الحادي والعشرون :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( لأن أقول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر : أحب إلى مما طلعت عليه الشمس )). رواه مسلم .
الحديث الثاني والعشرون:
عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : (( دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين: فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استحاب الله له)). رواه الترمذي ، والنسائي ، واحمد والحاكم ، وهو حديث صحيح.
الحديث الثالث والعشرون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : (( اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي ديني ، واصلح لي آخرتي التي فيها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر )). رواه مسلم.
الحديث الرابع والعشرون :
عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان فقال : (( سيروا هذا جمدان سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)). رواه مسلم .
الحديث الخامس والعشرون :(209/2)
عن عبد الله بن بسر ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً قال : يا رسول الله : إن شرائع الإسلام قد كثرت على فأخبرني بشيء أتشبث به ، قال : (( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله )). رواه الترمذي ، وابن ماجه وأحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم.
الحديث السادس والعشرون:
عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( ألا أنبئكم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ، وخيرك لكم من أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا بلي : قال : ذكر الله تعالى )) رواه الترمذي ، وابن ماجه واحمد ، والحاكم، وهو صحيح.
الحديث السابع والعشرون:
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه : (( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا ، ومتعنا بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا اكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)). رواه الترمذي، والحاكم، وسنده حسن .
الحديث الثامن والعشرون :
عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء : (( ربي أغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري كله ، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شي قدير)). متفق عليه .
الحديث التاسع والعشرون :
عن عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق ، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي . اللهم وأسالك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسالك القصد في الفقر والغني، وأسألك نعيماً لا ينفذ، وأسالك قرة عين لا تنقطع، وأسالك الرضا ، وأسالك برد العيش بعد الموت ، وأسالك لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك ، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)). رواه النسائي، والحاكم ، وسنده صحيح.
الحديث الثلاثون:
عن عائشة ـ رضي الله عنهماـ قالت : كان من دعائه صلي الله عليه وسلم قوله : (( اللهم إني أسالك من الخير كله ، عاجله وآجله ، ما علمت منه وما لم أعلم ، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ، ما علمت منه وما لم أعلم ، اللهم إني أسالك من خير ما سألك عبدك ونبيك ، وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك. اللهم إني أسالك الجنة ، وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسالك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً)) رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وهو حديث صحيح.
الحديث الحادي والثلاثون:
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (( اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ، وتحول عافيتك ، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك)). رواه مسلم .
الحديث الثاني والثلاثون:
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من قال رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلي الله عليه وسلم رسولاً ، وجبت له الجنة)) رواه أبو داود ، وابن حبان ، والحاكم وهو حديث صحيح.
الحديث الثالث والثلاثون :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال ك قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من سبح الله في كل دبر صلاة ثلاثاً وثلاثين ، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين ،فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شي قدير ، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)). رواه مسلم.
الحديث الرابع والثلاثون:
عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( الدعاء هو العبادة)). رواه الأربعة، وهو حديث صحيح.
الحديث الخامس والثلاثون:
عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( دعوات المكروب : اللهم رحمتك أرجو ، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، أصلح لي شأني كله ، لا إله إلا أنت )). احمد، وابن حبان ، وهو حديث صحيح.
الحديث السادس والثلاثون :
عن أبي مالك الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ( أو تملأ) ما بين السموات والأرض ، والصلاة نور، والصدقة برهان والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها)). رواه مسلم.
الحديث السابع والثلاثون:(209/3)
عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت)) رواه البخاري.
الحديث الثامن والثلاثون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (( لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده)). رواه مسلم.
الحديث التاسع والثلاثون:
عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( ما عمل ابن آدم عملاً أنجي له من عذاب الله من ذكر الله ، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا أن يضرب بسيفه حتى يتقطع. رواه أحمد ، والطبراني وابن شيبه ، وهو حديث صحيح.
الحديث الأربعون :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك ، اشهد أن لا إله أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ؛ إلا غفر له كان في مجلسه ذلك )) رواه الترمذي .
وهذه أربعون حديثاً قدسياً يرويها الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه عن المصطفي صلي الله عليه وسلم عن رب العزة جلا وعلا:
الحديث الأول:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( قال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار)). رواه البخاري.
الحديث الثاني :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( ألم تروا إلى ما قال ربكم ؟ قال : ما نعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم كافرين، يقولن : الكواكب ، وبالكواكب)). رواه مسلم.
الحديث الثالث:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول : (( قال الله عز وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو ليخلفوا حبة ، أو شعيرة ، رواه البخاري.
الحديث الرابع:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : (( إن الله يقول يوم القيامة أين المتحابون في جلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي )). رواه مسلم.
الحديث الخامس:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : (( يقول الله : إذا أراد عبدي سيئة : فلا تكتبوها عليه حتى يعلمها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة . وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها؛ فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة )). رواه البخاري.
الحديث السادس:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال النبي صلي الله عليه وسلم (( يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ؛ ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرب إلى شبراً ، تقربت إليه ذراعاً ، وإن تقرب إلى ذراعاً ؛ تقربت إليه باعاً ، وإن أتاني يمشي؛ أتيته هرولة)). رواه البخاري وأخرجه مسلم.
الحديث السابع :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فأقرؤوا إن شئتم: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(السجدة: 17) رواه البخاري.
الحديث الثامن:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ((يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقي ثلث الليل الآخر ، فيقول : من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فاغفر له؟ )). رواه البخاري.
الحديث التاسع:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (( إذا أحب الله العبد ، نادي جبريل : إن الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل ، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض )). رواه البخاري.
الحديث العاشر:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( إن الله قال: من عادي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي تبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته)). رواه البخاري.
الحديث الحادي عشر:(209/4)
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (( كان رجل يسرف على نفسه ، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر على ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً . فلما مات فعل به ذلك ، فأمر الله الأرض فقال : أجمعي ما فيك منه ، ففعلت فإذا هو قائم ، فقال: ما حملك على ما صنعت ؟ قال : يا رب خشيتك . فغفر له)) وقال غيره : (( مخافتك يا رب )). رواه البخاري.
الحديث الثاني عشر:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (( خلق الله آدم، وطول ستون ذراعاً، ثم قال: أذهب؛ فسلم على أولئك من الملائكة ؛ فاستمع ما يحيونك ، تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم ، فقالوا : السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)). رواه البخاري.
الحديث الثالث عشر:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (0 لما خلق الله آدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمه هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم ، فقال ك أي رب، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك. فرأي رجلاً منهم ، فأعجبه وبيص ما بين عينه، فقال : أي رب من هذا؟. قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك ، يقال له داود. قال : رب، وكم جعلت عمره؟ قال ستين سنة . قال أي رب. زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضي عمر آدم جاءه ملك الموت ، فقال : أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال : أو لم تعطها ابنك داود؟. قال: فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم، فنسيت ذريته، وخطئ آدم ، فخطئت ذريته)). رواه الترمذي.
الحديث الرابع عشر:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (( خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم؛ فأخذت بحقو الرحمن ، فقال لها: مه، قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قالت ألا ترضين أن أصل من وصلك ، واقطع من قطعك ؟ قالت : بلي يا رب ، قال: فذاك)). قال أبو هريرة : أقرؤوا إن شئتم : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (محمد:22) رواه البخاري.
الحديث الخامس عشر:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : (( قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل )). فإذا قال العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال الله تعالى: أثني على عبدي ، وإذا قال : قال : مجدني عبدي، ( وقال مرة: فوض إلى عبدي ) فإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل )) . رواه مسلم.
الحديث السادس عشر:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( الملائكة يتعاقبون: ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر، وفي صلاة العصر ، ثم يعرج الذين كانوا فيكم، فيسألهم ـ وهو أعلم ـ فيقول : كيف تركتم عبادي؟ فقالوا : تركناهم يصلون ، وأتيناهم يصلون)). رواه البخاري.
الحديث السابع عشر:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلي الله عليه وسلم (( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن وجدت تامة، كتبت تامة ، وإن كان انتقص منها شئ قال : انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل له ما ضيع من فريضة من تطوعه، ثم سائر الأعمال تجري على حسب ذلك)). رواه النسائي.
الحديث الثامن عشر:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (( قال الله عز وجل : أنفق عليك. وقال ك يد الله ملأى ، لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال : أريتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء ، وبيده الميزان يخفض ويرفع)). رواه البخاري.
الحديث التاسع عشر:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (( الصيام جنة، فلا يرفث، ولا يجهل. وإن امرؤ قالته، أو شاتمه فليق : إني صائم ـ مرتين ـ . والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها)). رواه البخاري.
الحديث العشرون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( قال الله عز وجل: أحب عبادي إلى أعجلهم فطراً)). رواه أحمد والترمذي.
الحديث الحادي والعشرون :(209/5)
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال (( انتدب الله عز وجل لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة ، أو أدخله الجنة. ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ، ثم أقتل، ثم أحيا ، ثم أقتل)). رواه البخاري.
الحديث الثاني والعشرون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ يقول ك سمعت أبا القاسم صلي الله عليه وسلم يقول(( عجب ربنا( عز وجل) من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل)). رواه أحمد وأبو داود.
الحديث الثالث والعشرون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول صلي الله عليه وسلم قال: (( يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفية من أهل الدنيا: ثم احتسبه، إلا الجنة)). رواه البخاري.
الحديث الخامس والعشرون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة أولاد ،لم يبلغوا الحنث، إلا أدخلهما الله بفضل رحمته إياهم الجنة النبي صلي الله عليه وسلم قال : يقال لهم: ادخلوا الجنة فيقولون : حتى يدخل آباؤنا ، فيقال : أدخلوا الجنة أنتم وآباؤكم)). رواه النسائي.
الحديث السادس والعشرون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه عاد مريضاً ، ومعه أبو هريرة ، من وعك كان به ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((أبشر، فإن الله يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا، لتكون حظه من النار في الآخرة)). رواه ابن ماجه.
الحديث السابع والعشرون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال(( نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة ، فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ، ثم أمر بيتها فأحرق بالنار ، فأوحي الله إليه : فهلاً نملة واحدة؟)). رواه البخاري.
الحديث الثامن والعشرون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( لما خلق الله الخلق كتب في كتابه ـ وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش: عن رحمتي تغلب غضبي)). رواه البخاري.
الحديث التاسع والعشرون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال ك سمعت النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( إن عبداً أصاب ذنباًـ وربما قال : أذنب ذنباً ـ فقال ك رب أذنبت ـ وربما قال: أصبت ، فاغفر لي . فقال ربه: أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء اللهم ثم أصاب ذنباًـ أو: أذنب ذنباً فقال: رب، أذنبت ـ أو أصبت آخر ، فاغفره. فقال : أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ثلاثاً ، فليعمل ما شاء)). رواه البخاري.
الحديث الثلاثون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمنه ثم يقول : سمعت أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ )). رواه البخاري.
الحديث الحادي والثلاثون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قد قدرته، ولكن يلقيه القدر ، وقد قدرته له ، أستخرج به من البخيل)). رواه البخاري .
الحديث الثاني والثلاثون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه : ((قال :ـ يعني الله تبارك وتعالى ـ لا ينبغي لعبد لي ( وقال ابن المثني : لعبدي ) أن يقول : أنا خير من يونس بن متي عليه السلام)). رواه مسلم.
الحديث الثالث والثلاثون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (( إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس ، فيقول لرسوله: خذ ما تيسر ، وأترك ما عسر ، وتجاوز ؛ لعل الله تعالى أن يتجاوز عنا. فلما هلك، قال الله عز وجل ، وكنت أداين الناس ، فإذا بعثته ليتقاضي قلت له: خذ ما تيسر ، وأترك ما عسر ، وتجاوز؛ لعل الله يتجاوز عنا. قال الله تعالى: قد عسر ، وتجاوز؛ لعل الله يتجاوز عنا. قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك)). رواه أحمد والنسائي.
الحديث الرابع والثلاثون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : (( تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ، ويوم الخميس ، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا)). رواه مسلم.
الحديث الخامس والثلاثون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال ك قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( عن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول : يا رب أني لي هذه؟ فيقول باستغفار ولدك لك)). رواه أحمد.
الحديث السادس والثلاثون:(209/6)
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم (( أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخري، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً فلما أتي عليه قال: أين تريد؟ قال : أريد أخاً لي في هذه القرية. قال : هل لك عليه من نعمة تربها؟. قال: لا ، غير أني أحببته في الله عز وجل. قال : فإني رسول الله إليك ، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)). رواه مسلم.
الحديث السابع والثلاثون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا بن آدم، مرضت فلم تعدني. قال يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت انك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا بن آدم النبي ، استطعمتك فلم تطعمني . قال ك يا رب ، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟. قال : أما علمت انك لو استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ز يا ين آدم ، استسقيتك فلم تسقني. قال : يا رب ، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟. قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه ، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي)) رواه مسلم .
الحديث الثامن والثلاثون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( بينا أيوب يغتسل عرياناً ، فخر عليه جراد من ذهب ، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه ، فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما تري؟ قال بلي وعزتك، ولكن لا غني بي عن بركتك)). رواه البخاري.
الحديث التاسع والثلاثون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( قال الله تبارك وتعالى: أنا أغني الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه)). رواه مسلم.
الحديث الأربعون:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (( قال الله : إذا أحب عبدي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي، كرهت لقاءه)). رواه البخاري.
والحمد لله أولاً وآخراً ، وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(209/7)
أربعون نصيحة لإصلاح البيوت
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ... أما بعد :
البيت نعمة
قال الله تعالى : " والله جعل لكم من بيوتكم سكناً " . سورة النحل الآية 80 .
قال ابن كثير – رحمه الله - : " يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده ، بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها ويستترون وينتفعون بها سائر وجوه الانتفاع " .
ماذا يمثل البيت لأحدنا ؟ أليس هو مكان أكله ونكاحه ونومه وراحته ؟ أليس هو مكان خلوته واجتماعه بأهله وأولاده ؟
أليس هو مكان ستر المرأة وصيانتها ؟! قال تعالى : " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " سورة الأحزاب الآية : 33
وإذا تأملت أحوال الناس ممن لا بيوت لهم ممن يعيشون في الملاجئ ، أو على أرصفة الشوارع ، واللاجئين المشردين في المخيمات المؤقتة ، عرفت نعمة البيت ، وإذا سمعت مضطربا يقول ليس لي مستقر ، ولا مكان ثابت ، أنام أحيانا في بيت فلان ، وأحيانا في المقهى ، أو الحديقة أو على شاطئ البحر ، ومستودع ثيابي في سيارتي ؛ إذن لعرفت معنى التشتت الناجم عن حرمان نعمة البيت .
ولما انتقم الله من يهود بني النضير سلبهم هذه النعمة وشردهم من ديارهم فقال تعالى :
" هو الذي أخرج الذين كفروا من ديارهم لأول الحشر " . ثم قال : " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار " . سورة الحشر ، الآية : 2
والدافع عند المؤمن للاهتمام بإصلاح بيته عدة أمور :
أولا : وقاية النفس والأهل نار جهنم ، والسلامة من عذاب الحريق : " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " سورة التحريم ، الآية : 6
ثانيا : عظم المسئولية الملقاة على راعي البيت أمام الله يوم الحساب :
قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه ، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته " .
ثالثا : أنه المكان لحفظ النفس ، والسلامة من الشرور وكفها عن الناس ، وهو الملجأ الشرعي عند الفتنة :
قال صلى الله عليه وسلم : " طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " خمس من فعل واحد منهن كان على الله ، من عاد مريضا ، أو خرج غازيا ، أو دخل على إمامه يريد تعزيره وتوقيره ، أو قعد في بيته فسلم الناس منه وسلم من الناس " .
وقال صلى الله عليه و سلم : " سلامة الرجل من الفتنة أن يلزم بيته " .
ويستطيع المسلم أن يلمس فائدة هذا الأمر في حال الغربة عندما لا يستطيع لكثير من المنكرات تغييرا ، فيكون لديه ملجأ إذا دخل فيه يحمي نفسه من العمل المحرم والنظر المحرم ، ويحمي أهله من التبرج والسفور ، ويحمي أولاده من قرناء السوء .
رابعا : أن الناس يقضون أكثر أوقاتهم في الغالب داخل بيوتهم ، وخصوصا في الحر الشديد والبرد الشديد والأمطار وأول النهار وآخره ، وعند الفراغ من العمل والدراسة ، ولا بد من صرف الأوقات في الطاعات ، وإلا ستضيع في المحرمات .
خامسا : وهو أهمها ، أن الاهتمام بالبيت هو الوسيلة الكبيرة لبناء المجتمع المسلم ، فإن المجتمع يتكون من بيوت هي لبناته ، والبيوت أحياء ، والأحياء مجتمع ، فلو صلحت اللبنة لكان مجتمعا قويا بأحكام الله ، صامدا في وجه أعداء الله ، يشع الخير ولا ينفذ إليه شر .
فيخرج من البيت المسلم إلى المجتمع أركان الإصلاح فيه ؛ من الداعية القدوة ، وطالب العلم، والمجاهد الصادق ، والزوجة الصالحة ، والأم المربية ، وبقية المصلحين .
فإذا كان الموضوع بهذه الأهمية ، وبيوتنا فيها منكرات كثيرة ، وتقصير كبير ، وإهمال وتفريط ؛ فهنا يأتي السؤال الكبير :
ما هي وسائل إصلاح البيوت
وإليك أيها القارئ الكريم الجواب ، نصائح في هذا المجال عسى الله أن ينفع بها ، وأن يوجه جهود أبناء الإسلام لبعث رسالة البيت المسلم من جديد .
وهذه النصائح تدور على أمرين : إما تحصيل مصالح ، وهو قيام بالمعروف ، أو درء مفاسد وهو إزالة للمنكر .
وهذا أوان الشروع في المقصود .
تكوين البيت
نصيحة "1" : حسن اختيار الزوجة
" وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم " سورة النور الآية 32
ينبغي على صاحب البيت انتقاء الزوجة الصالحة بالشروط التالية :
" تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجملها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك " متفق عليه .
"الدنيا كلها متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " رواه مسلم 1468(210/1)
" ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة " رواه أحمد " 5/282" والترمذي وابن ماجه عن ثوبان صحيح الجامع 5231
وفي رواية " وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك خير ما اكتنز الناس " رواه البيهقي صحيح الجامع 4285
" تزوجوا الودود الولود إني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة " رواه أحمد و هو صحيح الإرواء 6/ 195
" عليكم بالأبكار فإنهن أنتق رحما ، وأعذب أفواها ، وأرضى باليسير " . وفي رواية " وأقل خبا " أي : خداعا رواه ابن ماجة السلسلة الصحيحة 623
وكما أن المرأة الصالحة واحدة من أربع من السعادة ، فالمرأة السوء واحدة من أربع من الشقاء ، كما جاء في الحديث الصحيح و فيه قوله : " فمن السعادة : المرأة الصالحة تراها فتعجبك ، وتغيب عنا فتأمنها على نفسها ومالك ، ومن السقاء : المرأة التي تراها فتسوؤك ، وتحمل لسانها عليك ، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها و مالك " رواه ابن حبان وهو في السلسلة الصحيحة 282
وفي المقابل لابد من التبصر في حال الخاطب الذي يتقدم للمرأة المسلمة ، والموافقة عليه حسب الشروط التالية :
" إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض".
ولابد في كل ما سبق من حسن السؤال وتدقيق البحث وجمع المعلومات والتوثق من المصادر والأخبار حتى لا يفسد البيت أو ينهدم .
والرجل الصالح مع المرأة الصالحة يبنيان بيتا صالحا لأن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا .
نصيحة " 2 " السعي في إصلاح الزوجة
إذا كانت الزوجة صالحة فبها ونعمت وهذا من فضل الله ، وإن لم تكن بذاك الصلاح ، فإن من واجبات رب البيت السعي في إصلاحها . وقد يحدث هذا في حالات منها :
أن يتزوج الرجل امرأة غير متدينة أصلا ؛ لكونه لم يكن مهتما بموضوع التدين هو نفسه في مبدأ أمره ، أو أنه تزوجها على أمل أن يصلحها ، أو تحت ضغط أقربائه مثلا ، فهنا لابد من التشمير في عملية الإصلاح .
ولابد أن يعلم الرجل أولا أن الهداية من الله ، والله هو الذي يصلح ، ومن منه على عبده زكريا قوله فيه : " وأصلحنا له زوجه " سورة الأنبياء ، الآية 90
سواء كان إصلاحا بدنيا أو دينيا ، قال ابن عباس : كانت عاقرا لا تلد فولدت ، وقال عطاء : كان في لسانها طول فأصلحها الله ولاستصلاح الزوجة وسائل منها :
الاعتناء بتصحيح عبادتها لله بأنواعها على ما سيأتي تفصيله .
السعي لرفع إيمانها في مثل :
حضها على قيام الليل .
وتلاوة الكتاب العزيز .
وحفظ الأذكار والتذكير بأوقاتها ومناسباتها .
وحثها على الصدقة .
قراءة الكتب الإسلامية النافعة .
سماع الأشرطة الإسلامية المفيدة ؛ العلمية منها والإيمانية ومتابعة إمدادها بها .
اختيار صاحبات لها من أهل الدين تعقد معهن أواصر الاخوة ، وتتبادل معهن الأحاديث الطيبة والزيارات الهادفة .
درء الشر عنها وسد منافذه غليها ، بإبعادها عن قرينات السوء وأماكن السوء .
الإيمانيات في البيت
نصيحة " 3 " : اجعل البيت مكانا لذكر الله
قال صلى الله عليه وسلم : " مثل البيت الذي يذكر الله فيه ، والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت " .
فلابد من جعل البيت مكانا للذكر بأنواعه ؛ سواء ذكر القلب ، وذكر اللسان ، أو الصلوات وقراءة القرآن ، أو مذاكرة العلم الشرعي وقراءة كتبه المتنوعة .
وكم من بيوت المسلمين اليوم هي ميتة بعدم ذكر الله فيها ، كما جاء في الحديث ، بل ما هو حالها إذا كان ما يذكر فيها هو ألحان الشيطان من المزامير والغناء ، والغيبة والبهتان والنميمة ؟! …
وكيف حالها وهي مليئة بالمعاصي والمنكرات ، كالاختلاط المحرم والتبرج بين الأقارب من غير المحارم ، أو الجيران الذين يدخلون البيت ؟!
كيف تدخل الملائكة بيتا هذا حاله ؟! فأحيوا بيوتكم رحمكم الله بأنواع الذكر .
نصيحة " 4 " : اجعلوا بيوتكم قبلة
والمقصود اتخاذ البيت مكانا للعبادة .
قال الله – عز وجل - : " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين " سورة يونس الآية 87
قال ابن عباس : أمروا أن يتخذوها مساجد .
قال ابن كثير : " وكان هذا - والله أعلم – لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه ، وضيقوا عليهم ، أمروا بكثرة الصلاة كما قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " سورة البقرة الآية 153 . وفي الحديث : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى " " .
وهذا يبين أهمية العبادة في البيوت وخصوصا في أوقات الاستضعاف ، وكذلك ما يحصل في بعض الأوضاع عندما لا يستطيع المسلمون إظهار صلاتهم أمام الكفار . ونتذكر في هذا المقام أيضا محراب مريم وهو مكان عبادتها الذي قال الله فيه : " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " سورة آل عمران الآية 37(210/2)
وكان الصحابة – رضي الله عنهم – يحرصون على الصلاة في البيوت – في غير الفريضة – وهذه قصة معبرة في ذلك : عن محمود بن الربيع الأنصاري ، أن عتبان بن مالك – وهو من أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم ، وهو ممن شهدوا بدرا من الأنصار- أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ! قد أنكرت بصري وأنا اصلي لقومي ، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم ، وددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سأفعل – إن شاء الله - " . قال عتبان : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر حين ارتفع النهار فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذنت له ، فلم يجلس حتى دخل البيت ، ثم قال : " أين تحب أن أصلي في بيتك ؟ " قال : فأشرت له إلى ناحية من البيت ، فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فكبر ، فقمنا فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم . رواه البخاري الفتح 1/519
نصيحة " 5 " : التربية الإيمانية لأهل البيت
عن عائشة – رضي الله عنها - قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يصلي من الليل فإذا أوتر قال قومي فأوتري يا عائشة " . رواه مسلم ، مسلم بشرح النووي 6/23
وقال صلى الله عليه وسلم : " رحم الله رجلا قام من الليل فصلى فأيقظ امرأته فصلت ، فإن أبت نضح في وجهها الماء " . رواه أحمد وأبو داود ، صحيح الجامع 3488
وترغيب النساء في البيت بالصدقة مما يزيد الإيمان ، وهو أمر عظيم حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، بقوله : " يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار " . رواه البخاري ، الفتح 1/405
ومن الأفكار المبتكرة وضع صندوق للتبرعات في البيت للفقراء والمساكين ، فيكون كل ما دخل فيه ملكا للمحتاجين ؛ لأنه وعاؤهم في بيت المسلم . وإذا رأى أهل البيت قدوة بينهم يصوم أيام البيض ، والاثنين والخميس ، وتاسوعاء ، وعاشوراء ، وعرفة ، وكثيرا من المحرم وشعبان ، فسيكون دافعا لهم على الاقتداء به .
نصيحة " 6 " : الاهتمام بالأذكار الشرعية والسنن المتعلقة بالبيوت
ومن أمثلة ذلك :
أذكار دخول المنزل
روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله تعالى حين يدخل وحين يطعم ، قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء هاهنا ، وإن دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال : أدركتم المبيت ، وإن لم يذكر اسم الله عند مطعمه قال : أدركتم المبيت والعشاء " . رواه الإمام احمد ، المسند 346:3 ، و مسلم 1599:3
أذكار الخروج من المنزل
روى أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا خرج الرجل من بيته فقال : بسم الله ، توكلت على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، فيقال له : حسبك قد هديت ، وكفيت ووقيت ، فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر : كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي ؟ " . رواه أبو داود والترمذي ، وهو في صحيح الجامع رقم 499
السواك
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ، إذا دخل بيته بدأ بالسواك " رواه مسلم كتاب الطهارة باب 15 رقم 44
نصيحة " 7 " : مواصلة قراءة سورة البقرة في البيت لطرد الشيطان منه
وفي هذا عدة أحاديث ومنها :
فال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تجعلوا بيوتكم قبورا ، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة " رواه مسلم 1/539
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " اقروا سورة البقرة في بيوتكم ، فإن الشيطان لا يدخل بيتا يقرأ فيه سورة البقرة " . رواه الحاكم في المستدرك 1/561 و هو في صحيح الجامع 1170
وعن فضل الآيتين الأخيرتين منها ، وأثر تلاوتهما في البيت قال عليه الصلاة والسلام : " إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام ، وهو عند العرش ، وأنه أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها الشيطان " رواه الإمام أحمد في المسند 4/274 و غيره و هو في صحيح الجامع 1799
العلم الشرعي في البيت
نصيحة " 8 " : تعليم أهل البيت
فريضة شرعية لابد أن يقوم بها رب الأسرة إنفاذا لأمره تعالى في الآية الكريمة : " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " سورة التحريم ، الآية :6 وهذه الآية أصل في تعليم أهل البيت وتربيتهم ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وإليك أيها القارئ الكريم بعضا مما قاله المفسرون في هذه الآية ، بشأن ما يجب على رب الأسرة :
قال قتادة : يأمرهم بطاعة الله ، وينهاهم عن معصيته ، وأن يقوم عليهم بأمر الله يأمرهم به ، ويساعدهم عليه .
وقال الضحاك ومقاتل : حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه .
وقال علي – رضي الله عنه - : علموهم وأدبوهم .(210/3)
و قال الكيا الطبري –رحمه الله - : فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير ، وما لا يستغنى عنه من الأدب . وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على تعليم الإماء وهن أرقاء ؛ فما بالك بأولادك وأهلك الأحرار .
قال البخاري – رحمه الله تعالى – في صحيحه : باب تعليم الرجل أمته وأهله . ثم ساق حديثه صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لهم أجران .. ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها ، وعلمها فأحسن تعليمها ، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران "
قال ابن حجر – رحمه الله – في شرح الحديث : مطابقة الحديث للترجمة – أي عنوان الباب – في الأمة بالنص ، وفي الأهل بالقياس ، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسوله آكد من الاعتناء بالإماء .
وفي غمرة مشاغل الرجل ووظيفته وارتباطاته قد يغفل عن تفريغ نفسه لتعليم أهله ، فمن الحلول لهذا أن يخصص يما يجعله موعدا عاما لأهل البيت ، وحتى غيرهم من الأقرباء لعقد مجلس علم في البيت ، ويعلم الجميع بهذا الموعد ، فينضبط حضورهم فيه ، ويتشجعوا لإتيانه ، ويصبح ملزما أمامهم ، وعند نفسه بالحضور ، وإليك ما حصل منه صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن .
قال البخاري – رحمه الله - : باب هل يجعل للنساء يوم على حده في العلم ، وساق حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : " غلبنا عليك الرجال ، فاجعل لنا يوما من نفسك ، فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن "
قال ابن حجر : ووقع في رواية سهل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بنحو هذه القصة فقال : " موعدكن بيت فلانة ، فأتاهن فحدثهن " . فتح الباري 1/195
ويؤخذ من الحديث تعليم النساء في البيوت ، وحرص نساء الصحابة على التعلم ، وأن توجيه الجهود إلى الرجال فقط دون النساء تقصير كبير من الدعاة وأرباب البيوت .
وقد يقول بعض القراء : هب أننا خصصنا يوما ، وأخبرنا أهلينا بذلك ، فما الذي يقدم في هذه الجلسات ؟ وكيف نبدأ ؟
وجواباً لذلك أعرض عليك أخي القارئ الكريم اقتراحا في هذا الشأن يكون منهجا مبسطا ، لتدريس أهل البيت عموما ، وللنساء خصوصا .
تفسير العلامة ابن سعدي المسمى : " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " . ويقع في سبعة مجلدات مفصل بأسلوب ميسر ، تقرا أو تقدم منه سور ومقاطع .
رياض الصالحين مع تناول أحاديثه بشيء من التعليقات والعظات ، والفوائد المستنبطة منها ، ويمكن الرجوع في هذا إلى كتاب : نزهة المتقين .
" حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة " للعلامة صديق حسن خان .
كما أن من المهم أن تعلم المرأة بعض الأحكام الفقهية ، كأحكام الطهارة ، والدماء الطبيعية ، وأحكام الصلاة والزكاة ، والصيام والحج إذا استطاعته ، وبعض أحكام الأطعمة والأشربة ، واللباس والزينة ، وسنن الفطرة والمحارم ، وحكم الغناء والتصوير وغيرها ، ومن المصادر المهمة في هذا : فتاوى أهل العلم كمجموعة فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز ( رحمه الله ) ، والشيخ محمد بن صالح العثيمين ، و غيرهما من أهل العلم ، سواء المكتوب منها أو المسجل في الأشرطة .
ومما يتضمن جدول تعليم المرأة وأهل البيت تذكيرهم بالدروس والمحاضرات العامة التي يستطيعون حضورها للعلماء ، أو طلبة العلم الثقات ، لإيجاد عدة مصادر جيدة ومتنوعة للتعليم ، ولا ينسى في هذا المجال الاستماع إلى كثير من أنشطة إذاعة القرآن الكريم ، وتوجيه الاهتمام إليها ، ويدخل في إطار توفير وسائل التعليم أيضا : تذكير أهل البيت بالأيام المخصصة لحضور النساء في معارض الكتاب الإسلامي ، والذهاب بهن إليها بالشروط الشرعية .
نصيحة " 9 " : اصنع نواة لمكتبة إسلامية في بيتك
مما يساعد في تعليم أهل البيت ، وإتاحة المجال لتفقههم في الدين وإعانتهم على الالتزام بأحكام الشريعة ؛ عمل مكتبة إسلامية في البيت . ليس بالضرورة أن تكون كبيرة ، ولكن العبرة بانتقاء الكتب المهمة ، ووضعها في مكان يسهل تناولها وحث أهل البيت على قراءتها.
ركن في مجلس البيت الداخلي نظيف ومرتب ، ومكان مناسب لشيء من الكتب ، في غرفة نوم ، وفي مجلس الضيوف ، يتيح المجال للفرد في البيت كي يقرأ باستمرار .(210/4)
ومن إتقان المكتبة – والله يحب الإتقان – أن تحتوي على مراجع تصلح لبحث المسائل المختلفة ، وتنفع الأولاد في المدارس ، وأن تحتوي على كتب ذات مستويات مختلفة ، تصلح للكبار والصغار ، والرجال والنساء ، وكتب من أجل الإهداء للضيوف وأصدقاء الأولاد ، وزوار العائلة مع الحرص على الطبعات الجذابة المحققة والمخرجة الأحاديث ، ويمكن الاستفادة من معارض الكتاب لإنشاء مكتبة البيت بعد استشارة أهل الخبرة بالكتب . ومما يساعد في العثور على الكتاب ترتيب المكتبة حسب الموضوعات ، فكتب التفسير على رف ، والحديث على آخر .. والفقه على ثالث .. وهكذا ، ويقوم أحد أفراد العائلة بعمل فهرس ألف بائي وموضوعي ، لتسهيل البحث عن الكتب . وقد يتساءل كثير من الحريصين عن أسماء كتب إسلامية لمكتبة البيت .
وهاك أخي القارئ اقتراحات بهذا الشأن :
التفسير : تفسير ابن كثير ، تفسير ابن سعدي ، زبدة التفسير للأشقر ، بدائع التفسير لابن القيم ، أصول التفسير لابن عثيمين ، لمحات في علوم القرآن لمحمد الصباغ .
الحديث : صحيح الكلم الطيب ، عمل المسلم في اليوم والليلة " أو الصحيح المسند من أذكار اليوم والليلة " ، رياض الصالحين وشرحه نزهة المتقين ، مختصر صحيح البخاري للزبيدي ، مختصر صحيح مسلم للمنذري والألباني ، صحيح الجامع الصغير ، وضعيف الجامع الصغير ، صحيح الترغيب والترهيب ، السنة ومكانتها في التشريع ، قواعد وفوائد من الأربعين النووية لناظمسلطان .
العقيدة : فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " تحقيق الأرناؤوط " ، أعلام السنة المنشورة للحكمي " محقق " ، شرح العقيدة الطحاوية تحقيق الألباني ، سلسلة العقيدة لعمر سليمان الأشقر "8" أجزاء ، أشراط الساعة د. يوسف الوابل .
الفقه : منار السبيل لابن ضويان مع إرواء الغليل للألباني ، زاد المعاد ، المغني لابن قدامة ، فقه السنة ، الملخص الفقهي لصالح الفوزان ، مجموعة فتاوى العلماء " عبد العزيز بن باز ، محمد صالح العثيمين ، عبد الله بن جبرين " ، صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني والشيخ عبد العزيز بن باز ، ومختصر أحكام الجنائز للألباني .
الأخلاق وتزكية النفوس : تهذيب مدارج السالكين ، الفوائد ، الجواب الكافي ، طريق الهجرتين وباب السعادتين ، الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لابن القيم ، لطائف المعارف لابن رجب ، تهذيب موعظة المؤمنين ، غذاء الألباب .
السير والتراجم : البداية و النهاية لابن كثير ، مختصر الشمائل المحمدية للترمذي اختصار الألباني ، الرحيق المختوم للمباركفوري ، العواصم من القواصم لابن العربي تحقيق الخطيب والاستانبولي ، المجتمع المدني 1-2 للشيخ أكرم العمري ، سير أعلام النبلاء ، منهج كتابة التاريخ الإسلامي لمحمد بن صامل السلمي .
كما أن هناك عدد من الكتب الجيدة في المجالات المختلفة ، فمنها : كتب الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وكتب العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، وكتب الشيخ عمر بن سليمان الأشقر ، وكتب الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم ، وكتب الأستاذ محمد محمد حسين ، وكتب الشيخ محمد جميل زينو ، وكتب الأستاذ حسين العوايشة في الرقائق ، و كتاب الإيمان لمحمد نعيم ياسين ، والولاء والبراء للشيخ محمد سعيد القحطاني ، والنحرافات العقدية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر لعلي بن بخيت الزهراني ، المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية لعبد الله الشبانة ، المرأة بين الفقه والقانون لمصطفى السباعي ، الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتليفزيون لمروان كجك ، المرأة المسلمة إعداداتها ومسئولياتها لأحمد أبا بطين ، مسئولية الأب المسلم في تربية ولده لعدنان باحارث ، وحجاب المسلمة لأحمد البرازي ، وكتاب وجاء دور المجوس لعبد الله محمد الغريب ، وكتب الشيخ بكر أبو زيد ، وأبحاث الشيخ مشور حسن سلمان .
وغير هذا كثير من النافع الطيب ، وما ذكرناه على سبيل المثال لا الحصر ، وهناك في عالم الكتيبات أشياء كثيرة نافعة ، سيطول بنا المقام إذا أردنا السرد ، فعلى المسلم الاستشارة والتمعن للانتقاء . ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين .
نصيحة " 10 " : المكتبات الصوتية في البيت
المسجل في كل بيت ممكن أن يعمل في الخير أو في الشر ، فكيف نؤثر في استخدامه ليكون مرضيا لله ؟
من الوسائل لتحقيق ذلك : عمل مكتبة صوتية في البيت تحوي طائفة من الأشرطة الإسلامية الجيدة ، للعلماء والقراء والمحاضرين ، والخطباء والوعّاظ .
إن سماع أشرطة التلاوة الخاشعة من أصوات بعض أئمة صلاة التراويح مثلا ، له تأثير عظيم على الأهل في البيت ، من جهة تأثرهم بمعاني التنزيل ، أو حفظهم من جراء تكرار ما يسمعون ، وكذلك من جهة حمايتهم بالسماع القرآني عن السماع الشيطاني من الألحان والأغاني ، لأن الآذان والصدور لا يصلح أن يختلط فيها كلام الرحمن بمزمار الشيطان .(210/5)
وكم لأشرطة الفتاوى من أثر في تفقيه أهل البيت بالأحكام المختلفة ، التي يتعرضون لها يوميا في حياتهم ، ومما يقترح في هذا الجانب سماع الفتاوى المسجلة للعلماء أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز ، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، والشيخ محمد العثيمين والشيخ صالح الفوزان ، وغيرهم من الثقات في العلم والدين .
ولابد أن يعتني المسلمون بالجهة التي يأخذون عنها الفتوى ، لأن هذا دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم ، فالأخذ عمن عُلم بصلاحه وتقواه ، وورعه واعتماده على الأحاديث الصحيحة ، وعدم تعصّبه المذهبي ، وسيره مع الدليل ، والتزامه بالمذهب الوسط فلا تشدد ولا تساهل ، هو الخبير الذي نسأله " الرحمن فاسأل به خبيرا " سورة الفرقان الآية : 59 .
والسماع للمحاضرين الذين يعملون على توعية الأمة ، وإقامة الحجة ، وإنكار المنكر ، أمر مهم في بناء شخصية الفرد في البيت المسلم .
والأشرطة كثيرة والمحاضرين كثر والمهم أن يعرف المسلم سمات المنهج الصحيح للمحاضر حتى يحرص على أشرطته ويطمئن لسماعها . ومن تلك السمات :
أن يكون على عقيدة الفرقة الناجية ، أهل السنة والجماعة ، ملتزما بالسنة مفارقا للبدعة ، وسطا في منهجه لا من الغالين ولا من المفرطين المتساهلين .
أن يعتمد الأحاديث الصحيحة ويحذر من الأحاديث الضعيفة والموضوعة .
أن يكون على بصيرة بحال الناس وواقع الأمّة ، يضع الدواء على موضع الداء ، ويقدّم للناس ما يحتاجون إليه .
أن يكون قوّالا للحق ما أمكنه ، لا يتكلم بالباطل ولا يرضي الناس بسخط الله
وكم وجدنا في أشرطة الأطفال من تأثير كبير عليهم ، سواء في حفظهم لسور متعددة من قارئ صغير يتلو ، أو أذكار اليوم والليلة وآداب إسلامية ، وأناشيد هادفة ، ونحو ذلك .
إن وضع الأشرطة في أدراج بطريقة مرتبة تُسهّل الوصول إليها من ناحية ، وتحافظ على الأشرطة من التلف وعبث الأطفال من ناحية أخرى ، ولابد أن نسعى في نشر الشريط الجيد إهدائه أو إعارته للغير بعد سماعه . ووجود مسجل في المطبخ يفيد ربة البيت كثيرا ، وكذا في غرفة النوم يساعد على الاستفادة من الوقت لآخر لحظة .
نصيحة " 11 " : دعوة الصالحين والأخيار وطلبة العلم للزيارة في البيت
" رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا للمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً " سورة نوح الآية : 28
إن دخول أهل الإيمان بيتك يزيده نورا ، ويحصل بسبب أحاديثهم وسؤالهم والنقاش معهم من الفائدة أمور كثرة ، فحامل المسك إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، وجلوس الأولاد والإخوان والآباء وسماع النساء من وراء حجاب لما يُقال فيه تربية للجميع ، وإذا أدخلت خيّرا منعت سيّئا من الدخول والتخريب .
نصيحة " 12 " : تعلم الأحكام الشرعية للبيوت
ومن ذلك :
الصلاة في البيت :
أما الرجل فيقول صلى الله عليه و سلم في شأنه : " أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " رواه البخاري ، الفتح رقم 731
فالواجب أن تصلي في المسجد إلا من عذر ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا : " تطوع الرجل في بيته يزيد على تطوعه عند الناس ، كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده " رواه ابن أبي شيبة ، صحيح الجامع 2953 . وأما المرأة كلما كان مكان صلاتها أعمق كان أفضل ، لقوله صلى الله عليه و سلم " خير صلاة النساء في قعر بيوتهن" رواه الطبراني، صحيح الجامع 3311 .
أن لا يؤم غيره في بيته ، ولا يقعد في مكان صاحب البيت إلا بإذن : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " لا يُؤَمُّ الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه " رواه الترمذي رقم 2772 . أي لا يتقدم عليه بالإمامة ولو كان غيره أقرأ منه في مكان يملكه ، أو له فيه سلطة كصاحب البيت في بيته أو إمام المسجد ، وكذلك لا يجوز لأحد أن يجلس في الموضع الخاص بصاحب البيت من فراش أو سرير إلا بإذنه .
الاستئذان :
" يا أيها الذي آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون "27" فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم " سورة النور الآيتين 27،28
" وأتوا البيوت من أبوابها " سورة البقرة الآية : 189
جواز دخول البيوت التي ليس فيها أحد بغير استئذان إذا كان للداخل فيها متاع كالبيت المعد للضيف : " ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون ما تكتمون " سورة النور الآية 29(210/6)
عدم التحرج في الأكل من بيوت الأقرباء والأصدقاء ، وما ملك المرء مفتاحه من بيوت الأقرباء والأصدقاء من بيوت الآخرين إذا كانوا لا يكرهون ذلك : " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو من بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً " سورة النور الآية 61
أمر الأطفال والخدم بعدم اقتحام غرفة نوم الأبوين بغير استئذان في أوقات النوم المعتادة : قبل صلاة الفجر ، ووقت القيلولة ، وبعد صلاة العشاء ، خشية أن تقع أعينهم على ما لا يناسب ، ولو رأوا شيئاً عرضاً في غير هذه الأوقات فيغتفر ، لأنهم من الطوافين الذين يشق منعهم ، قال تعالى : " يا آيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " سورة النور الآية 58 .
تحريم الاطلاع في بيوت الآخرين بغير إذنهم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اطلع في بيت قوم بغير إذن ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص " رواه أحمد ، المسند 2/385 وهو في صحيح الجامع 6046
عدم خروج ولا إخراج المطلقة الرجعية من بيتها طيلة وقت العدة مع الإنفاق عليها : قال تعالى : " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " سورة الطلاق الآية 1 .
جواز هجر الرجل لامرأته الناشز في البيت أو في خارج البيت حسب المصلحة الشرعية : فأما هجرها في البيت فدليله قول الله تعالى : " واهجرهن في المضاجع " سورة النساء الآية 34 ، وأما هجرها خارج البيت فكما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما هجر نسائه في حُجرهن ، وأعتزل في مشربة خارج بيوت نسائه رواه البخاري ، كتاب الطلاق باب في الإيلاء .
ولا يبيت وحيداً في البيت : عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوحدة ، أن يبيت الرجل وحده أو أن يسافر وحده رواه أحمد في المسند 2/91 وهذا النهي لما في الوحدة من الوحشة ونحوها ، كهجوم عدو أو لص أو مرض ، فوجود الرفيق معه يدفع عنه طمع العدو واللص ويسعفه عند المرض انظر الفتح الرباني 5/64 .
لا ينام على ظهر بيت ليس له سور حتى لا يسقط : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بات على ظهر بيت ليس له حجار ، فقد برئت منه الذمة " رواه أبو دود ، السنن رقم 5041 ، وهو في صحيح الجامع 6113 وشرحه في عون المعبود 13/384 وذلك أن النائم قد يتقلب في نومه فإذا كان على سطح ليس له حجار أو حجاب يحجب الإنسان عن الوقوع ويمنعه من التردي والسقوط ، فقد يسقط فيموت ، فعند ذلك لا يؤاخذ أحد بموته فتبرأ منه الذمة ، أو أنه قد تسبب بإهماله في عدم كلاءة الله له وحفظه إياه ، لأنه لم يأخذ بالأسباب .
قطط البيوت لا تنجس الإناء إذا شربت منه ولا الطعام إذا أكلت منه : عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه وُضع له وضوءه فولغ فيه السنور " الهر " ، فأخذ يتوضأ ، فقالوا : يا أبا قتادة ! قد ولغ فيه السنور ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " السنور من أهل البيت ، وأنه من الطوافين ، والطوافات عليكم " رواه أحمد في المسند 5/309 وهو في صحيح الجامع 3694 ، وفي رواية : " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين والطوافات عليكم " رواه أحمد في المسند 5/309 وهو في صحيح الجامع 2437
الاجتماعات في البيوت(210/7)
نصيحة 13 : إتاحة الفرصة لاجتماعات تناقش أمور العائلة : " وأمروهم شورى بينهم " سورة الشورى الآية 38 . عندما تتاح الفرصة لأفراد العائلة بالجلوس سوياً في وضع مناسب لمناقشة أمور داخلية أو خارجية تتعلق بالعائلة ، فإن ذلك يعد علامة على تماسك الأسرة وتفاعلها وتعاونها ، ولا شك أن الرجل الذي ولاه الله أمور رعيته في بيته هو المسئول الأول ، وصاحب القرار ولكن إتاحة المجال للآخرين - وخصوصاً عندما يكبر الأولاد - يكون فيه تربية لهم على تحمل المسئولية بالإضافة إلى ارتياح الجميع لإحساسهم بأن آراءهم ذات قيمة عندما يُسألون إبداءها ، ومن الأمثلة على ذلك مناقشة الأمور التي تتعلق بالحج أو عمرة رمضان وغير ذلك من الإجازات ، والسفر لصلة رحم ، أو ترويح مباح ، وتنظيم الأعراس ووليمة الزفاف ، أو عقيقة المولود ، أو الانتقال من بيت لآخر ، ومشروعات خيرية ، كإحصاء فقراء الحي ، وتقديم المساعدات ، أو إرسال الطعام لهم ، وكذلك مناقشة أوضاع العائلة ومشكلات الأقارب وكيفية الإسهام في حلها وهكذا .. ، تجدر الإشارة هنا إلى نوع آخر مهم من أنواع الاجتماعات ، وهو جلسات المصارحة بين الأبوين وأولادهما ، فإن بعض المشكلات التي تعرض لبعض البالغين لا يمكن حلها إلا بجلسات انفرادية ، يخلو الأب بابنه يناجيه في مسائل تتعلق بمشكلات الشباب ، وسن المراهقة ، وأحكام البلوغ ، وكذلك تخلو الأم بابنتها لتلقنها ما تحتاج إليه من الأحكام الشرعية ، وتساعدها في حل المشكلات التي تعرض في مثل هذه السن ، واستهلال الأب والأم الكلام بمثل عبارة " عندما كنت في مثل سنك .. " له أثر كبير في التقبل ، وانعدام مثل هذه المصارحات هو الذي يقود هؤلاء لمفاتحة قرناء السوء وقرينات السوء ، فينتج عن ذلك شر عظيم .
نصيحة 14 : عدم إظهار الخلافات العائلية أمام الأولاد :
يندر أن يعيش جماعة في بيت دون نوع من الخصومات ، والصلح خير والرجوع إلى الحق فضيلة . ولكن مما يزعزع تماسك البيت ، ويضر بسلامة البناء الداخلي هو ظهور الصراعات أمام أهل البيت ، فينقسمون إلى معسكرين أو أكثر ، ويتشتت الشمل ، بالإضافة إلى الأضرار النفسية على الأولاد وعلى الصغار بالذات ، فتأمل حال بيت يقول الأب فيه للوالد : لا تكلم أمك ، وتقول الأم له : لا تكلم أباك ، والولد في دوامة وتمزق نفسي ، والجميع يعيشون في نكد . فلنحرص على عدم وقوع الخلافات ، ولنحاول إخفاءها إذا حصلت ، ونسأل الله أن يؤلف بين القلوب .
نصيحة 15 : عدم إدخال من لا يُرضى دينه إلى البيت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير " قطعة من رواية أبي داود " 4829 " . وفي رواية البخاري : " وكير الحداد يُحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحاً خبيثة " رواه البخاري الفتح 4/323 . أي والله يحرق بيتك بأنواع الفساد والإفساد ، كم كان دخول المفسدين والمشبوهين سبباً لعداوات بين أهل البيت ، وتفريق بين الرجل وزوجته ، ولعن الله من خبّب امرأة على زوجها ، أو زوجاً على امرأته ، وسبب عداوة بين الأب وأولاده ، وما أسباب وضع السحر في البيوت أو حدوث السرقات أحياناً وفساد الخلق كثيراً إلا بعد إدخال من لا يُرضى دينه ، فيجب عدم الإذن بدخوله ، ولو كان من الجيران ، رجالاً ونساءً ، أو من المتظاهرين بالمصادقة رجالاً ونساءً ، وبعض الناس يسكتون تحت وطأة الإحراج ، فإذا رآه على الباب أذن له ، وهو يعلم أنه من المفسدين . وتتحمل المرأة في البيت جزءاً عظيماً من هذه المسئولية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس أي يوم أحرم ؟ أي يوم أحرم ؟ أي يوم أحرم ؟ ؟ " قالوا : يوم الحج الأكبر ، ثم قال عليه الصلاة والسلام ، في ثنايا خطبته الجامعة في ذلك اليوم : " فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون " رواه الترمذي 1163 وغيره عن عمرو بن الأحوص وهو في صحيح الجامع 7880 . فلا تجدي في نفسك أيتها المرأة المسلمة إذا منع زوجك أو أبوك دخول إحدى الجارات إلى البيت ، لما يرى من أثرها في الإفساد ، وكوني لبيبة حازمة إذا عقدت لك مقارنات بين زوجها وزوجك ، تنتهي بدفعك لمطالبة زوجك بأمور لا يطيقها . والنصح عليك واجب لزوجك إذا لاحظت أن من ندمائه في بيته أناساً يزينون له المنكر .(210/8)
هدية : حاول أن تكون موجوداً في البيت كلما استطعت ، فوجود ولي الأمر في بيته يضبط الأمور ، ويمكنه من الإشراف على التربية وإصلاح الأحوال بالمراقبة والمتابعة ، وعند بعض الناس أن الأصل هو الخروج من البيت ، فإذا لم يجد مكاناً يذهب إليه رجع إلى البيت ، وهذا مبدأ خاطئ ، فإذا كان خروج المرء من بيته لأجل طاعات ، فعليه الموازنة ، وإذا كان خروجه للمعاصي وضياع الأوقات أو الانشغال الزائد بالدنيا ، فعليه أن يخفف من المشاغل والتجارات ، ويحسم اللقاءات الفارغة . بئس القوم يضيعون أهليهم ، ويسهرون في الملاهي .. ، ونحن لا نريد الانسياق وراء مخططات أعداء الله ، وهذه فقرة فيها عبرة : جاء في نشرة المشرق الأعظم الماسوني الفرنسي المنعقدة عام 1923م ما يلي : " وبغية التفريق بين الفرد وأسرته ، عليكم أن تنتزعوا الأخلاق من أسسها ، لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة والاقتراب من الأمور المحرمة ، لأنها تفضل الثرثرة في المقاهي على القيام بتبعات الأسرة " .
نصيحة 16 : الدقة في ملاحظة أحوال أهل البيت
من هم أصدقاء أولادك ؟
هل سبق أن قابلتهم أو تعرفت عليهم ؟
ماذا يجلب أولادك معهم من خارج البيت ؟
إلى أين تذهب ابنتك ومع من ؟
بعض الآباء لا يدري أن في حوزة أولاده صوراً سيئة ، وأفلاماً خالعة ، وربما مخدرات ، وبعضهم لا يدري أن ابنته تذهب مع الخادمة إلى السوق ، وتطلب منها أن تنتظر مع السائق ثم تذهب لموعدها مع أحد الشياطين ، والأخرى تذهب لتشرب الدخان عند قرينة سوء تعبث معها ، وهؤلاء الذين يفتلون أولادهم لن يفلتوا من مشهد يوم عظيم ، ولن يستطيعوا الهرب من أهوال يوم الدين : " إن الله سائل كل راع عما استرعاه ، أحفظ ذلك أم ضيعه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته " حسن رواه النسائي 292 ، وابن حبان عن أنس وهو في صحيح الجامع 1775 ، السلسة الصحيحة 1636 .
وهنا نقاط مهمة :
يجب أن تكون المراقبة خفية .
لا لأجواء الإرهاب .
يجب أن لا يحس الأولاد بفقدان الثقة .
ينبغي أن يراعى في النصح أو العقاب أعمار الأولاد ومداركهم ودرجة الخطأ .
حذار من التدقيق السلبي وإحصاء الأنفاس . روى لي شخص أن أحد الآباء عنده كمبيوتر يخزن فيه أخطاء أولاده بالتفصيل ، فإذا حصل خطأ أرسل إليه استدعاء وفتح الخانة الخاصة بالولد في الجهاز ، وسرد عليه أخطاء الماضي مع الحاضر .
التعليق : لسنا في شركة ، وليس الأب هو الملك الموكل بكتابة السيئات ، وليقرأ هذا الأب المزيد في أصول التربية الإسلامية .
وأعرف في المقابل أناساً يرفضون التدخل في شئون أولادهم بتاتاً بحجة أن الولد لن يقتنع بأن الخطأ خطأ والذنب ذنب إلا بأن يقع فيه ، ثم يكتشف خطأه بنفسه ، وهذا الاعتقاد المنحرف ناتج عن رضاع من لبن الفلسفة الغربية ، وفطام على مبدأ إطلاق الحريات المذموم فتعست المرضعة ، وبئست الفاطمة ، ومنهم من يفلت الزمام لولده خشية أن يكرهه بزعمه ، ويقول : أكسب حبه مهما فعل ، وبعضهم يطلق العنان لولده كردة فعل عما حصل له مع أبيه في السابق من نوع شدة خاطئة ، فيظن أنه يجب أن يعمل العكس تماماً مع ولده ، وبعضهم يبلغ به السفول لدرجة أن يقول : دع الابن والبنت يتمتعان بشبابهما كما يريدان ، فهل يفكر مثل هؤلاء بأن أبناءهم قد يأخذون بتلابيبهم يوم القيامة فيقول الولد : لِمَ تركتني يا أبي على المعصية ؟!
نصيحة 17 الاهتمام بالأطفال في البيت
ولهذا جوانب عديدة منها :
تحفيظ القرآن والقصص الإسلامية : لا أجمل من جمع الأب أولاده ليقرئهم القرآن مع شرح مبسط ، ويقدم المكافآت لحفظه ، وقد حفظ صغار سورة الكهف من تكرار تلاوة الأب لها كل جمعة ، وتعليم الولد من أصول العقيدة الإسلامية كمثل التي وردت في حديث : " احفظ الله يحفظك " ، وتعليمه الآداب والأذكار الشرعية ، كأذكار الأكل والنوم ، والعطاس والسلام ، والاستئذان ، ولا أشد تنبيهاً وأقوى تأثيراً في الطفل من سرد القصص الإسلامية على مسامعه .
ومن هذه القصص : قصة نوح عليه السلام ، والطوفان ، وقصة إبراهيم عليه السلام ، في تكسير الأصنام وإلقائه في النار ، وقصة موسى عليه السلام في نجاته من فرعون وإغراقه ، وقصة يونس عليه السلام في بطن الحوت ، ومختصر قصة يوسف عليه السلام ، وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم مثل البعثة والهجرة ، وشيء من الغزوات كبدر والخندق ، وغيرها كقصته صلى الله عليه وسلم مع الرجل والجمل الذي كان يُجيعه ويُجهده ، وقصص الصالحين ، كقصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المرأة وأولادها الجياع في الخيمة ، وقصة أصحاب الأخدود ، وقصة أصحاب الجنة في سورة "ن" ، والثلاثة أصحاب الغار ، وغيرها كثير طيب ، يلخص ويبسط مع تعليقات ووقفات خفيفة ، يغنينا عن كثير من القصص المخالفة للعقيدة والخرافية أو المخيفة التي تفسد واقعية الطفل ، وتورث فيه الجبن والخوف .(210/9)
حذار من خروج الأولاد مع من هب ودب : فيرجعون إلى البيت بالألفاظ والأخلاق السيئة ، بل يُنتقى ويُدعى من أولاد الأقرباء والجيران من يلعب معهم في المنزل .
الاهتمام بلعب الأولاد المسلية والهادفة : وعمل غرفة ألعاب أو خزانة خاصة ، يرتب فيها الأولاد ألعابهم ، وتجنب الألعاب المخالفة للشريعة : كالأدوات الموسيقية وما فيه صلبان أو نرد .
ومن الجيد توفير ركن هوايات للفتيان كالنجارة والإلكترونيات ، والميكانيكا ، وبعض ألعاب الكمبيوتر المباحة ، وبهذه المناسبة ننبه إلى خطورة بعض أشرطة الكمبيوتر المصممة لتعرض صور النساء في غاية السوء على شاشة الجهاز ، أو ألعاب فيها صلبان ، حتى ذكر أحدهم أن إحدى الألعاب هي لعبة قمار مع الكمبيوتر ، وينتقي اللاعب صورة فتاة من أربع فتيات يظهرن على الشاشة تمثل الطرف الآخر ، فإذا فاز في اللعبة خرجت له صورة الفتاة في أسوأ منظر جائزة الفوز .
التفريق بين الذكور والإناث في المضاجع : وهذا من الفروق في ترتيب بيوت أهل الدين وغيرهم ممن لا يهتمون بهذا .
الممازحة والملاطفة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداعب الأطفال يمسح رؤوسهم ، ويتلطف في مناداتهم ، ويعطي أصغرهم أول الثمرة ، وربما ارتحله بعضهم . وفيما يلي مثالان على مداعبته صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدلع لسانه لحسن بن علي ، فيرى الصبي حُمرة لسانه فيبهش له " أي أعجبه وجذبه فأسرع إليه . رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه ، انظر السلسلة الصحيحة رقم 70 . وعن يعلى بن مرة أنه قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ودعينا إلى طعام ، فإذا حسين يلعب في الطريق ، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم ثم بسط يديه فجعل الغلام يفر هاهنا وهاهنا ، ويضاحكه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه ، والأخرى في فأس رأسه فقبله . رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 364 وهو في صحيح ابن ماجه 1/29 .
نصيحة 18 الحزم في تنظيم أوقات النوم والوجبات :
بعض البيوت حالها كالفنادق لا يكاد قاطنوها يعرف بعضهم بعضاً ، وقلما يلتقون .
بعض الأولاد يأكل متى شاء وينام متى شاء ، ويتسبب في السهر ومضيعة الوقت ، وإدخال الطعام على الطعام ، وهذه الفوضوية تتسبب في تفكك الروابط ، واستهلاك الجهود والأوقات ، وتنمي عدم الانضباط في النفوس ، قد تعذر أصحاب الأعذار ، فالطلاب يتفاوتون في مواعيد الخروج من المدارس والجامعات ، ذكوراً وإناثاً ، والموظفون والعمال وأصحاب المحلات ليسوا سواء ، ولكن ليست هذه الحالة عند الجميع ، ولا أحلى من اجتماع العائلة الواحدة على الطعام ، واستغلال الفرصة لمعرفة الأحوال والنقاشات المفيدة ، وعلى رب الأسرة الحزم في ضبط مواعيد الرجوع إلى المنزل ، والاستئذان عند الخروج ، خصوصاً للصغار - صغار السن أو صغار العقل - الذين يُخشى عليهم .
نصيحة 19 : تقويم عمل المرأة خارج البيت
شرائع الإسلام يكمل بعضها بعضاً ، وعندما أمر الله النساء بقوله : " وقرن في بيوتكن " الأحزاب /33 ، جعل لهن من ينفق عليهن وجوباً كالأب والزوج .
والأصل أن المرأة لا تعمل خارج البيت إلا لحاجة ، كما رأى موسى عليه السلام ، بنتي الرجل الصالح على الماء تذودان غنمهما تنتظران ، فسألهما : " ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يُصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير " القصص الآية 23 ، فاعتذرتا حالاً عن خروجهما لسقي الغنم ، لأن الولي لا يستطيع العمل لكبر سنه ، لذا صار الحرص على التخلص من العمل خارج البيت حالما تسنح الفرصة " قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " القصص الآية 26 .
فبينت هذه المرأة بعبارتها رغبتها في الرجوع إلى بيتها لحماية نفسها ، من التبذل والذي قد تتعرض له بالعمل خارج البيت .
وعندما احتاج الكفار في العصر الحديث لعمل النساء بعد الحربين العالميتين ، لتعويض النقص الحاصل في الرجال ، وصار الوضع حرجاً من أجل إعادة إعمار ما خربته الحرب ، وواكب ذلك المخطط اليهودي في تحرير المرأة ، والمناداة بحقوقها بقصد إفساد المرأة ، وبالتالي إفساد المجتمع تسربت مسألة خروج المرأة للعمل .
وعلى الرغم من أن الدوافع عندنا ليست كما هي عندهم ، والفرد المسلم يحمي حريمه وينفق عليهن ، إلا أن حركة تحرير المرأة نشطت ، ووصل الأمر إلى المطالبة بابتعاثها إلى الخارج ، ومن ثم المطالبة بعملها حتى لا تذهب هذه الشهادات هدراً وهكذا ، وإلا فالمجتمعات الإسلامية ليست بحاجة لهذا الأمر على هذا النطاق الواسع الحاصل ، ومن الأدلة على ذلك وجود رجال بغير وظائف مع استمرار فتح مجالات العمل للنساء .(210/10)
وعندما نقول : " على هذا النطاق الواسع " ، فإننا نعني ذلك لأن الحاجة إلى عمل المرأة في بعض القطاعات كالتعليم والتمريض والتطبيب بالشروط الشرعية حاجة قائمة ، وإنما قدمنا تلك المقدمة لأننا لاحظنا أن بعض النساء يخرجن للعمل دون حاجة ، وأحياناً براتب زهيد جداً ، لأنها تحس أنها لا بد أن تخرج لتعمل حتى ولو كانت غير محتاجة ، ولو في مكان غير لائق بها ، فوقعت فتن عظيمة .
ومن الفروق الرئيسية بين المنهج الإسلامي لقضية عمل المرأة ، والنهج العلماني أن التصور الإسلامي للقضية يعتبر أن الأصل هو " وقرن في بيوتكن " والخروج للحاجة " أُذن لكن أن تخرجن في حوائجكن " والنهج العلماني يقوم على أن الخروج هو الأصل في جميع الحالات .
ولأجل العدل في القول نقول : إن عمل المرأة قد يكون حاجة فعلاً ، كأن تكون المرأة هي المعيل للأسرة بعد زوج ميت ، أو أب عاجز ، ونحو ذلك ، بل إنه في بعض البلدان نتيجة لعدم قيام المجتمع على أسس إسلامية تضطر الزوجة إلى العمل لتغطي مصروف البيت مع زوجها ، ولا يخطب الرجل إلا موظفة ، بل اشترط بعضهم على زوجته في العقد أن تعمل !!
والخلاصة : فقد يكون عمل المرأة للحاجة أو لأجل هدف إسلامي ، كالدعوة إلى الله في مجال التعليم ، أو تسلية كما يقع لبعض من ليس لها أولاد .
وأما سلبيات عمل المرأة خارج البيت فمنها :
ما يقع كثيراً من أنواع المنكرات الشرعية ، كالاختلاط بالرجال ، والتعرف بهم والخلوة المحرمة ، والتعطر لهم ، وإبداء الزينة للأجانب ، وقد تكون النهاية هي الفاحشة .
عدم إعطاء الزوج حقه ، وإهمال أمر البيت ، والتقصير في حق الأولاد " وهذا موضوعنا الأصلي " .
نقصان المعنى الحقيقي للشعور بقوامة الرجل في نفوس بعض النساء فلنتصور امرأة تحمل شهادة مثل شهادة زوجها ، أو أعلى " وهذا ليس عيباً في ذاته " ، وتعمل براتب قد يفوق راتب زوجها ، فهل ستشعر هذه المرأة بشكل كاف بحاجتها إلى زوجها وتتكامل لديها طاعة الزوج ، أم أن الإحساس بالاستغناء قد يسبب مشكلات تزلزل كيان البيت من أساسه ، إلا من أراد الله بها خيراً ، وهذه مشكلات النفقة على الزوجة الموظفة والإنفاق على البيت لا تنتهي .
الإرهاق الجسدي والضغط النفسي والعصبي الذي لا يناسب طبيعة المرأة .
وبعد هذه العرض السريع لمصالح ومفاسد عمل المرأة نقول : لا بد من تقوى الله ، ووزن المسألة بميزان الشريعة ، ومعرفة الحالات التي يجوز فيها للمرأة أن تخرج للعمل ، من التي لا تجوز ، وأن لا تعمينا المكاسب الدنيوية عن سلوك سبيل الحق ، والوصية للمرأة لأجل مصلحتها ، ومصلحة البيت ، وعلى الزوج ترك الإجراءات الانتقامية وألا يأكل مال زوجته بغير حق .
نصيحة 20 : حفظ أسرار البيوت :
وهذا يشمل أموراً منها :
عدم نشر أسرار الاستمتاع .
عدم تسريب الخلافات الزوجية .
عدم البوح بأي خصوصية يكون إظهارها ضرر بالبيت أو أحد أفراده .
فأما المسألة الأولى فدليل تحريمها : قوله صلى الله عليه وسلم : " إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها " رواه مسلم 4/157 . ومعنى يفضي : أي يصل إليها بالمباشرة والمجامعة كما في قوله تعالى : " وقد أفضى بعضكم إلى بعض " سورة النساء الآية 21 .
ومن أدلة التحريم أيضاً حديث أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والرجال والنساء قعود فقال : " لعل رجلاً يقول ما يفعله بأهله ، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها " فأرم القوم " أي سكتوا " فقلت : إي والله يا رسول الله ، إنهن ليفعلن ! وإنهم ليفعلون !! قال : " فلا تفعلوا فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون " رواه الإمام أحمد 6/457 وهو مخرج في آداب الزفاف للألباني ص 144 . وفي رواية لأبي داود : " هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه ، وألقى عليه ستره ، واستتر بستر الله ؟ قالوا : نعم ، قال : ثم يجلس بعد ذلك فيقول فعلت كذا ، فعلت كذا ، فسكتوا ، ثم أقبل على النساء ، فقال : هل منكن من تحدث ؟ فسكتن ، فجثت فتاة كعاب على إحدى ركبتها ، وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها ، فقالت : يا رسول الله إنهم ليحدثون ، وإنهن ليحدثن ، فقال : هل تدرون ما مثل ذلك ؟ إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة ، فقضى حاجته والناس ينظرون إليه " سنن أبى داود 2/627 وهو في صحيح الجامع 7037 .(210/11)
وأما الأمر الثاني ، وهو تسريب الخلافات الزوجية خارج محيط البيت ، فإنه في كثير من الأحيان يزيد المشكلة تعقيداً ، وتدخل الأطراف الخارجية في الخلافات الزوجية يؤدي إلى مزيد من الجفاء في الغالب ، ويُصبح الحل بالمراسلة بين اثنين هما أقرب الناس لبعضهما ، فلا يلجأ إليه إلا عند تعذر الإصلاح المباشر المشترك وعند ذلك نفعل كما أمر الله : "فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما " سورة النساء الآية 35.
والأمر الثالث : وهو الإضرار بالبيت أو أحد أفراده - بنشر خصوصياته - وهذا لا يجوز لأنه داخل في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " رواه الإمام أحمد 1/313 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 250 . ومن أمثلة ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى : "ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما " التحريم الآية10 ، فقد نقل ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما يلي : " فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح ، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحداً أخبرت أهل المدينة ممن يعمل السوء " تفسير ابن كثير 8/198 . أي ليأتوا فيعملوا بهم الفاحشة .
الأخلاق في البيت
نصيحة 21 : إشاعة خلق الرفق في البيت : عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله - عز وجل - بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق " رواه الإمام أحمد في المسند 6/71 وهو في صحيح الجامع 303 وفي رواية أخرى : " إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق " رواه ابن أبى الدنيا وغيره وهو في صحيح الجامع رقم 1704 . أي صار بعضهم يرفق ببعض ، وهذا من أسباب السعادة في البيت ، فالرفق نافع جداً بين الزوجين ، ومع الأولاد ، ويأتي بنتائج لا يأتي بها العنف كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي على سواه " رواه مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب رقم 2593 .
نصيحة 22 : معاونة أهل البيت في عمل البيت
كثير من الرجال يأنفون من العمل البيتي ، وبعضهم يعتقد أن مما ينقص من قدره ومنزلته أن يخوض مع أهل البيت في مهنتهم .
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان " يخيط ثوبه ، ويخصف نعله ، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم " رواه الإمام أحمد في المسند 6/121 وهو في صحيح الجامع 4927 .
قالت ذلك زوجته عائشة رضي الله عنها لما سُئلت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته فأجابت بما شاهدته بنفسها وفي رواية : كان بشراً من البشر يفلي " يُنقي " ثوبه ، ويحلب شاته ويخدم نفسه . رواه الإمام أحمد في المسند 6/256 وهو في السلسلة الصحيحة 671 . وسُئلت رضي الله عنها أيضاً ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ، قالت : كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة . رواه البخاري ، الفتح 2/162
فإذا فعلنا ذلك نحن اليوم نكون قد حققنا عدة مصالح :
اقتدينا برسول الله صلى الله عليه وسلم .
ساعدنا أهلينا .
شعرنا بالتواضع وعدم الكبر .
وبعض الرجال يطالب زوجته بالطعام فوراً ، والقدر فوق النار ، والولد يصرخ يريد الرضاع ، فلا هو يمسك الولد ، ولا هو ينتظر الطعام قليلاً ، فلتكن هذه الأحاديث تذكرة وعبرة .
نصيحة 23 : الملاطفة والممازحة لأهل البيت
ملاطفة الزوجة والأولاد من الأسباب المؤدية إلى إشاعة أجواء السعادة والألفة في البيت ، ولذلك نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم جابراً أن يتزوج بكراً ، وحثه بقوله : " فهلا بكراً تُلاعبها وتُلاعبك وتضاحكها وتضاحكك " الحديث في عدة مواضع في الصحيحين ومنها البخاري مع الفتح 9/121 وقال صلى الله عليه وسلم : " كل شيء ليس فيه ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أربع ، ملاعبة الرجل امرأته .. " رواه النسائي في عشرة النساء ص 87 وهو في صحيح الجامع . وكان صلى الله عليه وسلم يلاطف زوجته عائشة وهو يغتسل معها ، كما قالت رضي الله عنها : " كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء بيني وبينه واحد ، فيبادرني حتى أقول : دع لي دع لي ، قالت : وهما جنبان " مسلم بشرح النووي 4/6 .(210/12)
وأما ملاطفته صلى الله عليه وسلم للصبيان فأشهر أن تذكر ، وكان كثيراً ما يلاطف الحسن والحسين كما تقدم ، ولعل هذا من الأسباب التي تجعل الصبيان يفرحون بمقدمه صلى الله عليه وسلم من السفر فيُهرعون لاستقباله كما جاء في الحديث الصحيح : " كان إذا قدم من سفر تُلقي بصبيان أهل بيته " صحيح مسلم 4/1885-2772 وانظر الشرح في تحفة الأحوذي 8/56 وكان صلى الله عليه وسلم يضمهم إليه كما قال عبد الله بن جعفر : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تُلقي بنا ، فتُلقي بي وبالحسن أو بالحسين ، قال: فحمل أحدنا بين يديه والآخر خلفه حتى دخلنا المدينة " صحيح مسلم 4/1885-2772 ، وانظر الشرح في تحفة الأحوذي 8/56 .
قارن بين هذا وبين حال بعض البيوت الكئيبة لا فيها مزاح بالحق ، وملاطفة ولا رحمة . ومن ظن أن تقبيل الأولاد يتنافى مع هيبة الأب فليقرأ هذا الحديث ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً ، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحداً ، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : " من لا يرحم لا يُرحم " .
نصيحة 24 : مقاومة الأخلاق الرديئة في البيت :
لا يخلو فرد من الأفراد في البيت من خلق غير سوي كالكذب أو الغيبة والنميمة ونحوها ، ولابد من مقاومة هذه الأخلاق الرديئة .
وبعض الناس يظن أن العقوبة البدينة هي العلاج الوحيد في مثل هذه الحالات ، وفيما يلي حديث صحيح تربوي في هذا الموضوع ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطّلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة " انظر مسند الإمام أحمد 6/152 ونص الحديث في صحيح الجامع رقم 4675 .
ويتبين من الحديث أن الأعراض والهجر بترك الكلام والالتفات من العقوبات البليغة في مثل هذا الحال ، وربما كان أبلغ أثراً من العقاب البدني ، فليتأمله المربون في البيوت .
نصيحة 25 : علقوا السوط حيث يراه أهل البيت أخرجه أبو نعيم في الحلية 7/332 وهو في السلسلة الصحيحة برقم 1446 .
التلويح بالعقوبة من وسائل التأديب الراقية ، ولذلك جاء بيان السبب من تعليق السوط أو العصا في البيت ، وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علقوا السوط حيث يراه أهل البيت ، فإنه آدب لهم " أخرجه الطبراني 10/344-345 وهو في السلسلة الصحيحة برقم 1447 .
ورؤية أداة العقاب معلقة يجعل أصحاب النوايا السيئة يرتدعون عن ملابسة الرذائل خوفاً أن ينالهم منه نائل ، ويكون باعثاً لهم على التأدب والتخلق بالأخلاق الفاضلة ، قال ابن الأنباري : " لم يرد به الضرب به لأنه لم يأمر بذلك أحداً ، وإنما أراد لا ترفع أدبك عنهم". انظر فيض القدير للمناوي 4/325 .
والضرب ليس هو الأصل أبداً ، ولا يلجأ إليه إلا عند استنفاد الوسائل الأخرى للتأديب ، أو الحمل على الطاعات الواجبة ، كمل قوله تعالى : " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجرهن في المضاجع واضربوهن " النساء الآية 34 . على الترتيب ومثل حديث : " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر " سنن أبي داود 1/334 وانظر إرواء الغليل 1/266 .
أما استعمال الضرب دون الحاجة فإنه اعتداء ورسول الله صلى الله عليه وسلم نصح امرأة أن لا تتزوج من رجل لأنه لا يضع العصا عن عاتقه أي ضراب النساء ، أما من يرى عدم استخدام الضرب مطلقاً تقليداً لبعض نظريات الكفار في التربية ، فرأيه خاطئ يخالف النصوص الشرعية .
المنكرات في البيت
نصيحة 26 : الحذر من دخول الأقارب غير المحارم على المرأة في البيت عند غياب زوجها .
نصيحة 27 : فصل النساء عن الرجال في الزيارات العائلية .
نصيحة 28 : الانتباه لخطورة السائقين والخادمات في البيوت .
نصيحة 29 : اخرجوا المخنثين من بيوتكم .
نصيحة 30 : احذر أخطار الشاشة .
نصيحة 31 : الحذر من شر الهاتف .
نصيحة 32 : يجب إزالة كل ما فيه رمز لأديان الكفار الباطلة أو معبوداتهم وآلهتهم .
نصيحة 33 : إزالة صور ذوات الأرواح .
نصيحة 34 : امنعوا التدخين في بيوتكم .
نصيحة 35 : إياك واقتناء الكلاب في البيوت .
نصيحة 36 : الابتعاد عن تزويق البيوت .
البيت من الداخل والخارج
نصيحة 37 : حسن اختيار موقع البيت وتصميمه : لا شك أن المسلم الحق يراعي في اختيار بيته وتصميمه أمراً لا يراعيها غيره .
فمن جهة الموقع مثلاً :
أن يكون البيت قريباً من مسجد وفي هذا فوائد عظيمة لا تخفى ، فالنداء يذكر ويوقظ للصلاة ، والقرب يمكن الرجل من إدراك الجماعة ، والنساء من سماع التلاوة والذكر من مكبر المسجد ، والصغار من إتيان حلقة تحفيظ القرآن وهكذا ..
أن لا يكون في عمارة فيها فساق أو مجمعات سكنية فيها كفار يتوسطها مسبح مختلط ونحو ذلك .
أن لا يكشف ولا يُكشف ، ولو حصل يستعان بالسواتر وتعلية الجدر .(210/13)
ومن جهة التصميم مثلاً :
أن يراعى فيه فصل الرجال عن النساء من الزوار الأجانب من ناحية المدخل ، وصالات الجلوس ، وإن لم يحصل فيستعين بالستائر والحواجز .
ستر الشبابيك : بحيث لا يظهر من في الغرف للجار ، أو لرجل الشارع ، وخصوصاً في الليل عندما تضاء الأنوار .
أن لا تكون المراحيض باتجاه القبلة عند استخدامها .
أن يختار المسكن الواسع والدار كثيرة المرافق ، وذلك لأمور منها :
" إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " حديث رواه الترمذي رقم 2819 وقال : هذا حديث حسن .
" ثلاثة من السعادة وثلاثة من الشقاء ، فمن السعادة : المرأة الصالحة تراها فتعجبك ، وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك ، والدابة تكون وطيئة فتلحقك بأصحابك ، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق ، ومن الشقاء : المرأة تراها فتسوؤك ، وتحمل لسانها عليك ، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك ، والدابة تكون قطوف ، فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحقك بأصحابك ، والدار قليلة المرافق " حديث رواه الحاكم 3/262 وهو في صحيح الجامع برقم 3056 .
الحرص على الأمور الصحية كالتهوية ودخول الشمس ، وهذه وغيرها مقيدة بالقدرة المادية والإمكانات المتاحة .
نصيحة 38 : اختيار الجار قبل الدار
وهذه مسألة تحتاج إلى إفراد لأهميتها .
فالجار في عصرنا له مزيد من التأثير على جاره ، بفعل تقارب المساكن ، وتجمع الناس في البنايات والشقق ، والمجمعات الكنية .
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع من السعادة وذكر منها : الجار الصالح، وأخبر عن أربع من الشقاء وذكر منها : الجار السوء رواه أبو نعيم في الحلية 8/388 وهو في صحيح الجامع 887 . ولخطر هذا الأخير كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ منه في دعائه فيقول: " اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة " أي الذي يجاورك في مكان ثابت " فإن جار البادية يتحول " رواه الحاكم 1/532 وهو في صحيح الجامع 1290 .
وأمر المسلمين أن يتعوذوا من ذلك فقال : " تعوّذوا بالله من جار السوء في دار المقام ، فإن الجار البادي يتحول عنك " رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 117 واللفظ في صحيح الجامع 2967 .
ويضيق المجال للحديث عن أثر جار السوء على الزوجين والأولاد ، وأنواع الإيذاء التي تصدر عنه ، ومنغصات العيش بجانبه ، ولكن في تطبيق الأحاديث السابقة على الواقع كفاية للمعتبر ، ولعل من الحلول العلمية ما ينفذه بعض الطيبين من استئجار السكن المتجاور لعائلاتهم ، لحل مشكلة الجيرة ولو على حساب بعض الماديات ، فإن الجيرة الصالحة لا تقدر بمال .
نصيحة 39 : الاهتمام بالإصلاحات اللازمة وتوفير وسائل الراحة
من نعم الله علينا في هذا الزمان ما وهبنا من وسائل الراحة التي تسهل أمور المعيشة في هذه الدنيا ، وتوفر الأوقات كالمكيف والثلاجة والغسالة .. إلخ ، فيكون من الحكمة توفيرها في البيت بالجودة التي يستطيعها صاحب البيت من غير إسراف ولا مشقة ، ولابد من التفريق بين الأمور التحسينية المفيدة والكماليات الزائفة التي لا قيمة لها .
ومن الاهتمام بالبيت إصلاح ما فسد من مرافقه وأجهزته ، وبعض الناس يهملون ، وتشتكي زوجاتهم من بيوت تعج فيها الحشرات ، وتفيض فيها البلاعات ، وتفوح القمامة بالروائح الكريهة ، وتتناثر فيه قطع الأثاث المكسور والتالف .
ولا شك أن هذا مما يمنع حصول السعادة في البيت ، ويسبب مشكلات زوجية وصحية ، فالعاقل من عالج ذلك .
نصيحة 40 : الاعتناء بصحة أهل البيت وإجراءات السلامة
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات " رواه مسلم رقم 2192 . " وكان صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك " المرض " أمر بالحساء " المرقة المعروفة " فصنع ، ثم أمرهم فحسوا ، وكان بقول : " إنه ليرتق " يشد " فؤاد الحزين ، ويسرو " يكشف " عن فؤاد السقيم ، كما تسرو إحداكن الوسخ عن وجهها " رواه الترمذي رقم 2039 وهو في صحيح الجامع رقم 4646 ،
وعن بعض إجراءات الوقاية والسلامة :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمسيتم فكفوا صبيانكم ، فإن الشياطين تنتشر حينئذ ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم ، فغلقوا الأبواب ، واذكروا اسم الله ، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله ، ولو أن تعرضوا عليها شيئاً " مثل العود ونحوها " وأطفئوا مصابيحكم " رواه البخاري الفتح 10/88-89 . وفي رواية لمسلم : " أغلقوا أبوابكم ، وخمروا آنيتكم ، وأطفئوها سرجكم ، وأوكئوا أسقيتكم " شدوا رباطها على أفواها " فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً ، ولا يكشف غطاء ، ولا يحل وكاء ، وإن الفويسقة تضرم البيت على أهله " " أي تسحب فتيل السراج فيشتعل البيت " رواه الإمام أحمد في المسند 3/301 وهو في صحيح الجامع 1080 .
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون " رواه البخاري ، الفتح 11/85 .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(210/14)
أربعون وسيلة لاستغلال الإجازة
يتناول الدرس الإجابة على أسئلة تدور في الأذهان وهي: كيف أقضي الإجازة؟ كيف أستفيد من الفراغ الطويل؟ أين أقضي الإجازة؟ ما هي البرامج المناسبة في هذه الإجازة؟ ويتناول الكثير من المشاريع، والأفكار التي تكفل الاستفادة هذه الإجازة .
كيف أقضي الإجازة؟ كيف أستفيد من الفراغ الطويل؟ أين أقضي الإجازة؟ ما هي البرامج المناسبة في هذه الإجازة؟ أسئلة كثيرة تدور في أذهان الكثير من الناس، ولعل هذا الموضوع يكون مفتاحاً لكثير من المشاريع، والأفكار التي تقضى فيها هذه الإجازة .
وسائل وتوجيهات لطلاب العلم:
ضرورة التركيز في طلب العلم : إن كثرة القراءة الثقافية العامة، والتصفح السريع للمطولات والشروح، بل ربما للرسائل والكتيبات؛ لا تنتج طالب علم، وإنما صاحب ثقافة عامة، وهذا مما نقع فيه كثيراً، ولو تنبه طلاب العلم في مثل هذه الأوقات إلى التركيز، أو القراءة على شيخ، أو طالب علم متخصص في فن من الفنون، والتركيز عليه في مثل هذه الإجازة الصيفية كحفظ متن فيه، ثم الاستماع إلى شرحه والتعليق عليه، ثم قراءة بعض الشروح فيه.. وهكذا في كل إجازة تمر عليك لأثمرت ثمرة عظيمة بدلا من هذا التخليط، وعدم الاستقرار على فن معين مما يدفع الطالب إلى الملل، ثم الانقطاع، والترك .
احذر من البطالين ولصوص الأوقات : فإنهم من أعظم الأسباب لضياع العمر، وقتل الأوقات، وهم ينشطون ويكثرون في الإجازات الصيفية، وهم معك في كل شيء إلا الحرص على الوقت، والاستفادة منه . وهؤلاء قد شكى منهم ابن الجوزي، فقال في 'صيد الخاطر':' أعوذ بالله من صحبة البطالين لقد رأيت خلقا كثيراً يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس، وما لا يعني، ويتخلله غيبة، وهذا يفعله في زماننا كثير من الناس...' ابن الجوزي رحمة الله عليه في القرن السادس الهجري، فماذا لو رأى ابن الجوزي أهل هذا الزمن، وكيف يتعاملون، وكيف يضيع عليهم كثير من الأوقات؟! لكن كيف تعامل ابن الجوزي مع أمثال هؤلاء البطالين؟ استفد من خبرة هذا العالم الجليل، قال يقول رحمه الله:' إن أنكرت عليهم؛ وقعت وحشة لموضوع قطع المألوف، وإن تقبلت منهم؛ ضاع الزمان! فصرت أدفع اللقاء جهدي، فإذا غلب قصرت في الكلام؛ لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالًا لاتمنع من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لئلا يمضي الزمان فارغاً، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي' . فنسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر وأن يوفقنا لاغتنامه.
الرحلة في طلب العلم : بعض الشباب في بعض المناطق قد لا يجد الفرصة للقراءة على بعض المشائخ ؛ لعدم وجودهم في منطقته، أو لعدم إقامة دورات علمية قريبة منه، ولمثل هؤلاء نقول: الرحلة في طلب العلم منهج لسلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم، فلماذا لا يرحل بعض طلاب العلم من منطقتهم إلى مناطق آهلة بالعلماء، وطلاب العلم، وعقد الدورات العلمية في مثل هذه الإجازة الصيفية للطلب، وفي ذلك مكاسب عدة، منها:حلاوة الإخلاص، وحقيقته في الطلب، وثمرة العلم وأثره على النفس، والتعرف واللقيا ببعض المشائخ والجلوس معهم. فإن ثقل ذلك على البعض فأمامك إذاً الأشرطة العلمية النافعة استماعاً، وتفريغاً، وتقييداً للفوائد والشوارد، وهذا أمر مغفول عنه، فالأشرطة العلمية كنز في هذا الزمان، قد أضعناه وغفلنا عنه، فالشيخ في بيتك معك في كل لحظة، ومتى أردت؛ يحدثك، ويعيد عليك، ويعقد لك مجالس الإملاء، فأين الراغبون في طلب العلم حقيقة؟!
التنسيق في طلب العلم : فمثلاً:إذا قدم عشرة من كل منطقة، فمن المناسب أن يتوزعوا إلى خمس مجموعات، وكل اثنين يأخذان فناً من الفنون: فمجموعة تأخذ المصطلح، وأخرى تأخذ الأصول، وأخرى تأخذ النحو، والرابعة التوحيد، والخامسة القواعد الفقهية، فإذا رجعوا إلى بلدهم استفادت كل مجموعة من الأخرى، وحصل لهم النفع جميعاً . أما إذا حضروا كلهم عند واحد من العلماء ورجعوا جميعا، فإنهم يضطرون إلى الرجوع في العام القادم، ولو أشكل عليهم شيء في غير ما تعلموه؛ ما استطاعوا معرفته، فهذه الطريقة تسهل لهم أخذ العلم، ونشره في منطقتهم .(211/1)