وجعل من شروط الدعوة إليه وأساسياتها: الرفق، واللين، والسماحة، ولم يُقصر الدين كله على ذلك، هذا إذا علمت أن الرفق واللين عند من سلف غير ما نحن بصدده- وهو عند المتلاينين يعني الترويح والتنفيس إلى أجل غير محدود ووقت غير معلوم، واستخدام وسائل في ذلك لا تخلو من شبه وتحامل وانحراف ومناكر؛ وفي بعضها التحريم ظاهر؛- فتخرج جيلاً عاطفياً متماوتاً، ألِفَ الدعة والراحة، والليونة والدعابة لا يحمل همّ دينه وأمته والأمانة التي في عنقه؛ فلا يطيق الحياة الجادة، ولا يحتمل التربية السامية؛ إذ يسأم من العلم، ويملّ الحزم، ويخاف داعي الجهاد، ويفر من المسؤولية، ويُهزَم بالخوف مسيرة شهر.
إن هؤلاء ينظرون للعلم الشرعي (نظرة تآمرية) تتجسد في أنّه صعب شديد، لا يلائم أكثر الطبقات ولا يحتملون نوعه ومادته. ولا يملكون أدوات استماعه والنظر فيه، ولا امتلاك الفائدة منها؛ فمثلاً هم يعتقدون أن العلم عقيدة وتوحيد، والعلم شروط الصلاة، وشروط النكاح والبيع، وأغفلوا جوانب واسعة في العلم، جراء هذه النظرة الشانئة. والله المستعان.
لذا فإنهم يرون إقصاءه وعزله عن أكثر المؤسسات الدعوية، وتبقى الدعوة تساق في إطار التلاين والهزال الموصوف سلفاً.
وإننا نقول لهؤلاء: إن مثل هذا التصور جناية فادحة تعكس الصورة التي يعيشها هؤلاء عقلاً ودعوة وثقافة، وينبغي أن يعلم هؤلاء أن العلم الشرعي يأخذ صوراً شتى ويتنوع إلى فنون عديدة، يمكن أن يستفاد من جوانب عديدة في دعوة هؤلاء، تحقق اللين الشرعي الصحيح لا التلاين السيئ الجديد.
فعلى سبيل المثال سوق الآيات الكريمات بأصوات حسنة خاشعة، والأحاديث النبوية الشريفة المسوقة في جانب الوعظ والرقائق. وعندنا قصص تربوية ومواقف بطولية قد زخرت بها كتب الفضائل والمغازي والمناقب، كما في الصحيحين والسنن الأربعة، يمكن سوقها وعرضها لهؤلاء بديلاً نفيساً بهيجاً عن الغثاء الهزلي والركام السقيم الذي تعج به هذه المؤسسات والمحطات؛ وفي ذلك من الفوائد للمدعوين ما لا يخفى، ومنها:
1 - عرض دعوة جادة، مبنية على أصول شرعية صحيحة.
2 - ربطهم بالعلم الشرعي المفيد.
3 - تجسيد معاني الجد والتضحية والعلاء في حياتهم.
4 - توثيق صلتهم بتراثهم المجيد، وما يجب عليهم تجاهه.
5 - تحقيق الصفاء الدعوي المنشود.
6 - إلغاء جوانب السفه والترويح المبالغ فيها.
وإني لأعتقد أن قصة من السيرة النبوية تشع بمعاني النور والعلم والصبر والبسالة، أوسيرة لإمام أو عالم من كتب التراجم والسير لهي خير كثير من التشويش والتزوير المخترع المصنوع.
ويستطيع المشرفون الأمناء إذا امتلكوا (الثقافة الشرعية) و (السعة الفكرية) أن يسهلوا كثيراً من أبواب العلم ومسائله وقضاياه، ويمكنهم الإفادة في جوانب الاعتقاد والفقه بأساليب تربوية ميسرة يغشاها الرفق السديد، واللين الصحيح، واليسر المحمود.
أما أن يتعمد هؤلاء قصر مؤسساتهم وتنظيماتهم على جوانب الترفيه والمرح دون حساب.
كيف يحمدون دعوة نابذت العلم، وأهدرت الفائدة، وحطّمت الجد والعزة والمصابرة؟!!
إن هؤلاء ما هُدُوا لأحسن الطرق، ولا أصابوا قصد السبيل.
ولَكُم أن تتصوروا برنامجاً دعوياً يمكث سنين طوالاً على هذا المسلك مع طبقة غزيرة من الشباب ـ تبحث عما ينفعها ويهديها ويشبع رغباتها ـ كيف يكون حالهم؛ وكيف تكون نهايتهم ومصيرهم؟!! ثم يُراد منهم بعد ذلك العمل للدين، ورفع رايته، والتضحية من أجله والثبات عليه!
ثم إن حصلت استجابة صار تلاميذ الأمس شيوخ اليوم، ومضوا على طريقة مربيهم ومعلميهم حذو القذة بالقذة.
إن هذا المسلك المحدَث الغريب ذريعة لتغييب وتجهيل المدعوين، وإيقاعهم في متاهات الجهل والشُّبه والتخلف، فينشأ هذا الجيل وقد حيل بينهم وبين التعلق بحياة الجادين البارزين، وذوي الهمم الصامدين الذين عزت بهم الدعوة الإسلامية وكبرت مجالاتها، واتسعت آفاقها.
قال ـ تعالى ـ:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )-النحل-<125>
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ:[ يقول ـ تعالى ـ آمراً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة].
قال ابن جرير:( الحكمة هى ما أنزله الله عليه من الكتاب والسنة، والموعظة الحسنة، أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس، وذكرهم بها ليحذروا بأس الله ـ تعالى ـ، وقوله: وجادلهم بالتي هي أحسن أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله ـ تعالى ـ:( وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [العنكبوت: 46].
كيف تصح دعوة وتربية وهي خالية من العلم والرشاد، ومجردة من العلو والحزم، وقائمة على اللهو والتسلية إلى مدى لا ينتهي (بدعوى) اللين والرفق والحكمة؟ والله المستعان.
وأستطيع أن ألخص هُزال هذا المنهج وضعفه في الأمور الآتية:(46/2)
أولاً: أنه منهج محدث مخترع، ليس له حظ من الأثر ولا النظر ولا الخبرة ولاالتجربة.
ثانياً: مجانبته لدعوات الرسل والأنبياء والمصلحين، فلا يعرف له سالف من أهل العلم والفقه والأثر الذين حفظ التاريخ سِيَرهم وأخبارهم.
ثالثاً: أنه سبيل لفصل العلم عن الدعوة وتجريدها من الوعي والفقه والهدى؛ فتصبح مظاناً للجهل والتيه والتذبذب.
رابعاً: أنه تغييب لحياة العلم الوارفة، وآفاقه النيرة البهية؛ وفي هذا تقليل لشأن العلم لا يخفى.
خامساً: أنه قضاء على أصول التربية الجادة، وإضعاف لأركانها ومناهجها.
سادساً: يثمر جيلاً مترفاً استروح نعومة العيش وليونة العمل؛ فلا يحتمل بعدها أدنى قوة ولا جهاد أو مثابرة.
سابعاً: الواقع يشهد بفساد ثمراته وتكدر منابعه؛ إذ قد أسهم في قلب صورة الدعوة الصحيحة ونال من مواهبها وطاقاتها، وأكسبها ضعفاً متيناً، وفتوراً رخواً هزيلاً، والله المستعان.
ثامناً: فيه قلب لمعنى اللين الشرعي الصحيح، وإدراج ما لا يصح منه، واستغلاله لمقاصد غير جادة.
تاسعاً: التلطخ بمخالفات شديدة وحمل شبهات أقل أحكامها الكراهة.
عاشراً: أنه يعالج خلاف الهَدْي النبوي السديد.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (3) كتاب العلم، (49) باب: من خص بالعلم قوماً دون قوم.
(2) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه.(46/3)
آخر الدواء الكي
وصلنا إلى طريق مسدود فلا بد من .. الطلاق
هناك وراء كل الأبواب المغلقة توجد هموم بين الرجل والمرأة، تصل هذه الهموم في بعض الأحيان إلى النقاش الحاد والذي يؤدي إلى مشاحنة أو مشاجرة، ويضطر أحد الطرفين في بعض الأحيان إلى فقدان أعصابه، ويتفوه بكلمات لا يقصدها لأنه في ساعة غضب، وفي ساعة الغضب تعمى البصيرة، ويفقد العقل اتزانه، وفي هذه اللحظة على الطرف الآخر أن يكون متزنًا مستقيمًا؛ لأن تلك اللحظة هي خيط رفيع إذا شد من طرفين تقطع.
ولدينا عزيزي القارئ القاعدة الأصل في العلاقة بين الزوجين ليس من وهي خيالنا، بل من لدن حكيم خبير، وهذه القاعدة هي قول المولى عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19].
وفي هذا أمر بحسن معاشرة الزوجات والصبر على طباعهن، وهذه لمسة قرآنية لطيفة تهدئ من فورة الغضب، وحتى يعاود الإنسان نفسه في هدوء، وحتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهب الرياح.
والإسلام الذي ينظر إلى البيت بوصفه سكنًا وأمنًا، وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنسًا ويقيم هذه الآصرة على الاختيار المطلق، كي تقوم على التجاوب والتعاطف والتجارب .. هو الإسلام ذاته الذي يقول للأزواج: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].
كي يستأنى بعقدة الزوجية فلا تنفصم لأول خاطر، وكي يستمسك بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة، وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة، وحماقة الميل الطائر هنا وهناك.
ـ فإذا تبين بعد الصبر والتجمل والمحاولة والرجاء أن الحياة غير مستطاعة فلابد من الانفصال.
الطلاق:
ومن رحمة الله بعباده أن أباح لهم في الشريعة الإسلامية الطلاق، ودين الإسلام دين اليسر وليس دين العسر، وقد أبيح الطلاق عند انسداد جميع أبواب الأخرى، وانغلاق كافة طرق الإصلاح بين الزوجين، وحين تستحيل الحياة بينهما ويصلا إلى طريق مسدود. فإباحة الإسلام للطلاق جاءت لرفع الحرج عن المسلمين وجاءت كدواء لما ليس له دواء من المشكلات الزوجية المستمرة والمتفاقمة وكما يقال: 'آخر الدواء الكي'. ولقد قال الشاعر:
والعيش ليس يطيب من إلفين من غير اتفاق
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان} [البقرة:229].
يقول صاحب كتاب 'في ظلال القرآن':
إن الطلقة الأولى محك وتجربة، فأما الثانية فهي تجربة وامتحان أخير، فإن صلحت الحياة بعدها فذاك، وإلا فالطلقة الثالثة دليل على فساد أصيل في حياة الزوجية لا تصلح معه حياة. وعلى أية حال فما يجوز أن يكون الطلاق إلا علاجًا أخيرًا لعلة لا يجدي فيما سواه، فإذا وقعت الطلقتان فإما إمساك للزوجة بالمعروف، واستئناف حياة رضية رخية، وإما تسريح لها بإحسان لا عنت فيه ولا إيذاء، وهو الطلقة الثالثة التي تمضي بعدها الزوجة إلى خط في الحياة جديد.
وهذا هو التشريع الواقعي الذي يواجه الحالات الواقعة بالحلول العملية، ولا يستنكرها حيث لا يجدي الاستنكار، ولا يعيد خلق بني الإنسان على نحو آخر غير الذي فطرهم الله عليه ولا يهملها كذلك حيث لا يجدي الإهمال.
ـ إن المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جو هذه الحياة سواء اتصلت حبالها أو انفصمت عراها .. ولا يجوز أن تكون نية الإيذاء والإعنات عنصرًا من عناصرها .. ولا يحقق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة الانفصال والطلاق التي تتأزم فيها النفوس إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة الأرضية، عنصر يرفع النفوس من الضعف، ويوسع من آفاق الحياة ويمدها وراء الحاضر الواقع الصغير .. هو عنصر الإيمان بالله واليوم الآخر .. وتذكر نعمة الله في شتى صورها ابتداء من نعمة الإيمان ـ أرفع النعم ـ إلى نعمة الصحة والرزق واستحضار تقوى الله والرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة والنفقة الضائعة.
ـ وهذا العنصر الذي تستحضره الآيتان اللتان تتحدثان عن إيثار المعروف والجميل والحسنى سواء اتصلت حبال الزوجية أو انفصمت عراها.
إذن فهمنا من ظلال هذه الآية أن المعاملة بالمعروف هي الإمساك بالمعروف، والتسريح بالإحسان أي بدون إيذاء أو تجريح، وهذا ما نرجوه من كل زوجين قررا الانفصال وفك عرى الزوجية.
واقعية الإسلام:
وبعين فاحصة نجد واقعية الإسلام في تشريع الطلاق.(47/1)
وفي ذلك يقول الدكتور عبد الستار حامد في كتابه 'واقعية الإسلام بين العزوبة والطلاق': 'إن الإسلام لما كان دينًا واقعيًا فإن أسس نظام الطلاق على أنه علاج لا عقوبة، وإصلاح لا تخريب؛ لأن الغاية التي يهدف إليها من الزواج في تشريع ضمان بقاء الحياة الزوجية بعيدة عن رياح الفرقة ما أمكن، بغية التناسل وبقاء النوع الإنساني، فإن استحال ذلك كان الفراق هو العلاج الوحيد، حيث لا علاج بسواه، ولا إصلاح يتم بدونه عند استحكام النفرة ـ أي بين الزوجين ـ حيث لم يكن بد أمام هذه المشكلة الاجتماعية ـ إذا تحدد موطن الداء ـ إلا أن يصف له الدواء، فيصبح الطلاق في هذه الحالة ضرورة لا بد منها.
ومن المعلوم لدينا أن حالة الضرورة إذا قيست بالحالات الاعتيادية كانت نسبتها ضئيلة جدًا لا تساوي 1% وهكذا فالطلاق في واقعية الإسلام ـ إذن ـ ضرورة توجبها الحياة الزوجية إن لم يستقم أمرها وغدت نقمة بعد أن كانت نعمة، وتأكد الزوجان وذووا الإصلاح أنه لا سبيل لاستمرارها لاستحكام الشقاق، وتنافر القلوب إلا بارتكاب الآثام، ومعصية أوامر الله، والخروج عن نواهيه'.
دواء مر المذاق:
ويبقى الطلاق دواء مر المذاق وجراحه موجعة ولكن من الذي يلغي التداوي كراهة المرارة؟
أو يحرم الجراحات كراهة الآلام؟
لا بد في شريعة العقل من الدواء ومن الجراحة، وما دمنا نعيش في عالم فيه فساد وصواب وخطأ، وصحة ومرض، وحكمة وحماقة، وحيث لا عصمة لبشر، فكان لا بد في الإسلام ـ بمنهجه التوافقي ـ من وسيلة لتدارك الأخطاء، وإعطاء الفرصة لبني آدم وبنات حواء كي يبدأو من جديد بناء سعادتهم في الدنيا فإقامة أركان أسرات سليمة الصرح، يعمرها الأمن والمودة والرحمة.
والإسلام يضع رخصة الطلاق في موضع الدواء الكريه المذاق أو مشرط الجراح، ثم إن الطلاق ـ بعد كل شيء ـ أبغض الحلال عند الل(47/2)
آخر كلمات القَرَّاء الضرير
بقلم أ.د/ جابر قميحة
komeha@menanet.net
في منطقة (تل الخرابنة) بجنوب مصر عُثِر سنة 1928م في قبوٍ على مجموعة من الأوراق البردية، وعددها 52 مكتوبة بلغةٍ مركَّبة من الهيروغليوفية والآرامية القديمة، منسوبة إلى (حاموتاب) القَرَّاء الضرير، وأقدِّم ترجمةً شعرية للورقة رقم 52.
(1)
يا أفق الوطن المسكين
ماذا في غدك المكنون؟
دعني أهتك عنك
ضباب كتابك حتى أشهد
يا لله!
إني لا أشهد غير سوادٍ ملعون
وشبابٍ مهزوم النخوة
مهتوك العزم
وحطامٍ كالعصف الذاوي
من شجر التين المحروق
وغصونِ الزيتون البالي
وبقايا راكدةٍ من ماءٍ وعيون
وقوافلَ من فلكٍ مشحون
تحمل للشعب المحروم
شحنة "بانجو" وهيروين
(2)
إني أسمع عصف الريح الصَّرصرْ
تعوي في الوطن المفجوع
وتزأر
يَهْدم ويدمر
يجتاحُ اليابسَ والأخضر
(3)
ما كانت هذي بالرؤيا
بل أشهدُ ذلك رأيَ العين
وأرى أيضًا بقرات سبعًا
عجفاوات سودًا
ينزفن دماءً وصديدًا
يأكلن سمينات من
أبقارٍ.. ألفٍ.. بل مليونْ
وأرى كل سنابل أرض النهر
تجف.. وتيْبَسُ ثم تَهاوَى
لتكون طعامًا للدود المنكود
(4)
وأرى الطوفانَ العارِم قادمْ
بسيول عاتيةٍ سوداء
ليست من ماء
بل من قَيءٍ.. وصديدٍ
ودماءْ..
فإذا ما حُمَّ اليومُ الأسودُ
فاحذر أن تسأل- يا
ولدي الطيب- عن نوح
وسفينة نوحْ
أو عن جبلٍ يحميك
ويعْصمكَ من اللُّجَجِ
السوداءِ.. الحمراءْ
أو عن قطعة ضوءٍ
تستهديها في الظلماء
أو عن نوحٍ وسفينته
فسفينة نوحٍ..
صادرها "الأمنُ الليلي"
وزوارُ الفَجرْ
في صمت.. فكوها..
باعوها لَوْحًا لوحا
مسمارًا.. مسمارا
للملِك "اليأجوج"
باعوها بالدولار.. وبالدينار
وبالويسكي المستورد والكفيار
وأجوس خلال الجوديّ..
فيا بؤس الجوديِّ الأخضر
مَرسى نوحٍ.. وسفينته
وحمائمه.. وصحابته
جعلوه "منطقة حرة"
"منطقة الجودي الحرة
للتهليب.. وللتهريبْ"
(5)
فلتلزم تابوت الصمت
ولتحذر أن تهتف
في غدك المفجوع العاني
"يا يوسف فلتأت إلينا..
يا يوسف لا تبعد عنا"
يوسف صدِّيقٌ يا ولدي
ولذلك يأبى أن يتولى
أمرَ خزائنِ وطنٍ منهوبٍ
مطحونْ..
ليكون عليها خيرَ أمينْ
يوسف هاجر للصحراءْ
آثر أن يرجع للجبِّ المعزول
هناكْ
فخزائن هذا الوطنِ المطحونِ
تولاها حرَّاس الوطن
من العسكر
شطارِ المنسر
(6)
وأرى في سِفْر الوطنِ المكنونِ
الطفلَ الأخضرَ
نَبْتَ الوطنِ العاني
إما مفقودًا.. أو مغتصبا
أو موْءودا
إذ يأتي يومٌ يا ولدي..
يتشبث فيه بثدي الأم
يعتصر بفكيه الحلَمة
يستجديها نقطةَ لبنٍ
هاربةً في أعماق الصدر
لكي تنقذه
من جوع ساعرْ
لكنَّ الحلمةَ لا تسعفه
إلا بنقاط من دمْ
يتلوها قيْءٌ وعدمْ
فالعسكر- في نهم كافر-
امتصوا حتى لبن الأمِّ
فلما شبعوا
خنقوها في ليلٍ دامٍ
أما الطفل..
فقد وأدوه بقاعِ النهرْ
(7)
وأرى ألسنة الصفوة
من أحرار الناس ستُقطعْ
وعيون الأطهار ستُقلعْ
لتكون قلائد وعقودا
وأساور تُهدَى
"لِسالومى"
راقصةِ الملكِ اليأجوجْ
(8)
والكلمةْ..
يا ويلَ الكلمة
ستُراق دماها ليل نهارْ
كي تَروي بستان "سالومى"
ولِتَروِيَ أرض "اليأجوج"
المنهوبة من "أرض النهرْ"
(9)
وستشهد كل فجاج الأرض
تضيقُ.. تضيقُ بما رحُبت
حتى يتخذ الأحياءُ
قبورَ الأمواتِ مساكنْ
بل يغدو الموت- بلا ألمٍ-
حلمَ الأحلامْ..
يطلبه الناس صباح مساء
"بحق البؤس
وحق الذل
تعالَ.. تعال"
فلا يأتي
حتى الأيام- وصدقني-
ستحاول أن تنتحر فلا تقدرْ
تنتحر لتخلص من عارٍ
موهومٍ.. كاذبْ
ألصقه فيها الأفاقون
الأفاكون
إذ قالوا:
"عار الأيام
ظلم الأيام
غدر الأيام"
مع أن الأيام من العار بريئةْ
والحقَّ أقول:
العار الداعر فيمن سبوا الأيام
فيمن شحنوا الزمن الناصعَ
بمخازيهم.. هربًا منها
فيمن قالوا:
ليس العدل أساس الملك
فيمن قالوا:
"إن الملكَ بديلُ العدل.. وفوق العدل"
فيمن تخذوا الجبن فضيلة
فيمن جعلوا الطهر جريمة
أما الصدق فشر رذيلة
فيمن قصفوا عنق الكلمة
وبغدر قد غالوا الشمس
وانتزعوا روح المستقبل
وانتهكوا الحاضر والأمسْ
(10)
وأرى "سالومَى" والمنسرْ
في رقصة عُهْر مجنون
تسكرهم أنخابٌ شتَّى
من خمر ضارٍ.. ودماءْ
في مأتم شعب مطحونْ
في أرض النهر المحزونْ
(11)
يا ولدي الطيب معذرةً
فالرؤية قد تاهتْ مني
والسحب الدامية السوداءْ
تمطر جمرًا وسكاكينْ
تطوى كل حطام باقٍ
من ماء وعيونْ
وجذور التين أو الزيتون
وأحسُّ بنبضي الذاوي
في قلبي المطعونْ
يأسره الصمت الأبديُّ
فأعجزُ عن أن استقرئ
باقية باكية
من سِفْر الوطن المكنونْ(48/1)
آداب الرسالة في الإسلام
الكاتب: الشيخ د.عائض بن عبدالله القرني
تقييم:
الرسالة وسيلة مهمة من وسائل الدعوة، وقد استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته في الدعوة إلى الله.
لكن لكتابة الرسالة أحكام وآداب، لابد من معرفتها، وفي هذه المادة تعرض لتلك الآداب والأحكام.
حديث رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فنسأل الله تعالى أن يجمعنا بكم وبكل مؤمن يريد الله والدار الآخرة في دار الكرامة، فإنه لا جمع في هذه الدار، وإنما هي دار الهم والحزن والغم، وما فيها أنس إلا بمثل هذه الوجوه الصالحة النيرة، وما هناك أنس إلا بسماع قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أنزل نور مع هذا النور الوهاج الذي أرسله محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا.
نور الهداية ونور الوحي ونور الرسالة، وكل أرض لا تشرق عليها شمس الرسالة فهي أرض ملعونة، وكل قلب لم يشرق بهذا الدين فهو قلب مغضوب ومسخوط عليه.
يحدثنا الإمام البخاري فيقول: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أن عبد الله بن عباس أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلاً، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: "فدعا عليهم صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق".
هذا الحديث ذكره الإمام البخاري تحت (باب ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان).
في هذا الحديث مسائل:
أولاً: ترجمة بعض الرجال الذين روى لهم البخاري ولا نأخذ رجال السند كله، لأننا أعفينا أنفسنا وأعفيناكم من طول السند، ولكن نذكر بعضهم، وأنتم تعرفون أن المقصد من عرض تراجم السلف الصالح هو التربية، وإثارة الحمية فينا أن نقتدي بآبائنا وأجدادنا الذين سلفوا.......
عبيد الله بن عتبة وطرف من أخباره
عبيد الله هو أمة من الأمم التي أوجدها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لحفظ العلم، وهو من الفقهاء السبعة من أهل المدينة ، بكى من قيام الليل حتى عمي، مر به أحد التلاميذ، قال: يا أبا عتبة أين العينان الجميلتان؟ قال: "ذهب بهما بكاء الأسحار" هو أستاذ عمر بن عبد العزيز ، وكلكم يعرف عمر بن عبد العزيز ، والذي لا يعرفه فالواجب أن يعرفه من الليلة، لأن اتصال سندنا بعمر بن عبد العزيز اتصال لا بد منه لمن أراد الله والدار الآخرة، فإن هؤلاء الأئمة جعلهم الله يهدون بأمره لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون.
فعمر بن عبد العزيز الذي تقلد أمر الأمة، هو حسنة من حسنات عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، فقد كان شيخه في التدريس، وكان عمر شاباً يطلب العلم في المدينة المنورة ، لأن أباه عبد العزيز بن مروان الذي كان والي مصر ، أرسل ابنه ليتعلم العلم في المدينة ، فكان عمر بن عبد العزيز وهو في ريعان الشباب يصلي العصر بحلة -أي: بلباس- ويصلي المغرب بلباس ثانٍ، ويصلي العشاء بلباس ثالث، هكذا لأن حياته وبيئتة سمحت له بذلك، وسنتعرض لموضوع اللباس -إن شاء الله- في صحيح البخاري ، ونذكر ما يحمد وما يذم منه، وإنما الأعمال بالنيات.
سمع عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عمر بن عبد العزيز يتنقص علياً رضي الله عن علي ، فاستدعاه، وأجلسه أمامه وهو يحاسبه حساباً عسيراً، فقال عبيد الله : يا عمر بن عبد العزيز ! متى سمعت أن الله غضب على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ متى سمعت أن الله غضب على أهل بيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم؟
فبكى عمر وانكسر يبكي أمام عبيد الله ، وقال: أعاهد الله ثم أعاهدك ألا أعود إلى ذلك، فلما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كانت كلمات أستاذه مغروسة في ذهنه أبد الدهر، يقول وهو يبكي بعد صلاة العشاء في ليلة من الليالي: "والله لوددت أن لي ليلة من ليالي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بالدنيا وما فيها".
والصحيح أنه تولى الخلافة وعبيد الله ما زال حياً.
أدرك ستة أشهر من الخلافة، فارتاح أن يتولى تلميذه العالم الإسلامي، فقادهم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقد كان بنو أمية يسبون علياً رضي الله عنه على المنابر، فجعل عمر بن عبد العزيز مكان هذا إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90].
دخل عليه مرزوق مولى علي بن أبي طالب في عيد الفطر، فقال عمر : مولى من أنت؟ قال: فخفض صوته وقال: مولى علي حتى لا يسمع بنو أمية، فدمعت عينا عمر بن عبد العزيز وقال: ارفع صوتك وقل: مولى علي ، وأنا مولى علي ، لا تولى الله من لا يتولى علياً ! ولا قبل منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً يوم القيامة! ثم قال: لك عندي مائتا درهم، أما مائة فلأنك مولى، وأما المائة الثانية فلأنك مولى علي .(49/1)
لأنه استفاده من ذلك الأستاذ العظيم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود .
بكى عبيد الله حتى عمي -كما قلت لكم- وكان يقول الشعر الإسلامي الذي يحرك به القلوب، توفي عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ابن الخليفة وهو شاب، فاجتمع أهل المدينة ، قالوا: نريد أن نعزي عمر بن عبد العزيز ، قال: أتريدون شعراً أم نثراً؟ قالوا: نريد شعراً:
باسم الذي أنزلت من عنده السور الحمد لله أمَّا بَعْد يا عمر
إن كنت تعلم ما تأتي وما تذر فكن على حذر قد ينفع الحذر
واصبر على القدر المحتوم وارض به وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئ عيش يسر به إلا سيتبع يوماً صفوه كدر
ويقول:
اتخذني خليلاً أو تخذ لك صاحباً خليلاً فإني مبتغٍ صاحباً مثلي
عزيز منالي لا ينال مودتي من الناس إلا مسلم كامل العقلِ
ولا يلبث الأخدان أن يتفرقوا إذا لم يؤلف روح شكل إلى شكل
توفي وبقي عمله وحديثه، وبقي اسمه يضوع في مساجد المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أما عبد الله بن عباس فهو الحبر الإمام المعتبر، بحر الأمة وترجمان القرآن، والخاشع المبتهل لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك كان الصحابة يقولون: [[إذا حدثكم البحر فحسبكم بالبحر ]] أي: ابن عباس .
يقول عطاء : "رأيته في الحرم قبل العشاء، ثم مكث يصلي ويبكي حتى الفجر، فوالله لقد خشيت أن تختلف أضلاعه".
وكان إذا قرأ قول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123] يبكي حتى يرثي له جلساؤه، وإذا تكلم قال: يوم الخميس، فيذكر موت الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الخميس فيبكي، كان يلبس مما آتاه الله، كان يلبس الحلة بألف دينار؛ ليظهر نعمة الله عز وجل، وليقدر العلم والصالحين، وليستقبل الناس، فرضي الله عنه وأرضاه وأكرم مثواه، وألحقنا به مع المؤمنين في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
عبد الله بن حذافة حامل الرسالة
أخبر ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلاً، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين -والبحرين هي الأحساء - فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فدعا عليهم صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق.
وبعد وصول هذه الرسالة إلى كسرى أرسل كسرى إلى واليه في اليمن ، وأمره أن يرسل رجلين يأتيان بمحمد صلى الله عليه وسلم مقيداً، فذهب الرجلان هذان حتى وصلا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ماذا جاء بكما؟ قالا: أتينا نأخذك ونوصلك إلى كسرى.
بهذه البساطة يأخذون رسول البشرية صلى الله عليه وسلم، ويشاء الله أن يسحب آل كسرى من على كراسيهم، ويداسون بخيول المسلمين بعد أقل من خمسة عشر عاماً من هذه الرسالة، فيقول صلى الله عليه وسلم: {من أمركما بحلق لحاكما؟ قالا: ربنا أمرنا بذلك، قال: فإن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي } ثم مكثا عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: {إن ربي قتل ربكم البارحة }.
فأرخوا من تلك الليلة، فوجدوا أن كسرى قتل في تلك الليلة، وقاتله هو ابنه.
ومزق الله ملك الأكاسرة بدخول سعد المدائن ، فدخل سعد إيوان كسرى وهو يتلو قول الله عز وجل: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِين َ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان:25-29].
وهذا الرجل الذي بعثه صلى الله عليه وسلم بالكتاب هو عبد الله بن حذافة ، الرجل الدعوب المرح، القرشي المهاجري الكبير، الإمام الأمير، ولاه صلى الله عليه وسلم على بعض السرايا، وكان فيه دعابة لما ودع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله! مرهم أن يطيعوني، فقال صلى الله عليه وسلم: أطيعوه ولا تعصوه، فأخذها فرصة رضي الله عنه، فقال لهم: اجمعوا حطباً، فجمعوه، قال: أشعلوا الحطب، فأشعلوه، قال: ادخلوا في النار! هكذا قال، فتهيبوا، قال: أما قال لكم الرسول صلى الله عليه وسلم: أطيعوني، وهو صلى الله عليه وسلم يريد الطاعة بالمعروف، لا على إطلاقها، قال: فَهَمَّ بعضهم أن يلقي بنفسه في النار، وأحجم بعضهم، فتم أمرهم بالإجماع الأخير أن يعرضوا الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن أمرهم بذلك اقتحموا النار، فلما وصلوا المدينة ، قالوا: يا رسول الله! أمرنا عبد الله بن حذافة الذي أمرته، فجمعنا حطباً وأشعلنا ناراً وهممنا أن نقع في النار، ولكن قلنا: نعرض الأمر عليك فما عصيناه، فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق } ثم قال: {لو دخلوها ما خرجوا منها } وذلك جزاء لهم لأنها معصية، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يريد من الإنسان أن يهلك نفسه، لكن كان عبد الله بن حذافة يمزح.(49/2)
كان من مواقفه المشهودة أنه وقع أسيراً في الروم، وكان معه بعض الأسرى، فقال ملك الروم: أخرجوا لي أعقلهم وأذكاهم كي أكلمه فخرج عبد الله بن حذافة فقال له: يا عبد الله ! أتريد أن أعطيك نصف ملكي وآبائي وأجدادي وتعود عن ملة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: [[والله لو أعطيتني ملكك وملك آبائك وأجدادك على أن أعود عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت ]] قال: خذوه وألقوه في قدر يغلي، فلما ذهبوا به ووجد بعض الأسارى قد تفسخت لحومهم عن عظامهم، وهي تغلي بهم، بكى رضي الله عنه.
فأعاده الجنود إلى العظيم، وقالوا: إنه بكى قال: لماذا بكيت؟ قال: [[أبكي على أنه ليس لي إلا نفس واحدة تُعذب؛ فليت لي بعدد شعر رأسي أنفساً تعذب في سبيل الله ]] قال: والله لا أطلقك حتى تُقبِّل رأسي، فقبل رأسه وتفل عليه، فأطلقه وأطلق الأسارى معه، فلما وصل عبد الله بن حذافة إلى المدينة ، ودخل المسجد، قال عمر : [[حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ]] فاجتمع عليه المسلمون في المسجد يقبلون رأسه، فكان يفر في ميمنة المسجد فيلحقونه إلى الميمنة، فيأخذ الميسرة، فيلحقونه إلى الميسرة ليقبلوا رأسه، فيمزح يقول: تريد يا أمير المؤمنين أن تجعل رأسي من التقبيل أصلع كرأسك؛ لأن عمر رضي الله عنه ليس في رأسه شعر، رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد مات عبد الله شهيداً ورفع الله درجته عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، نسأل الله أن يجمعنا بهم في مستقر رحمته.
آداب الرسائل
وقبل أن ندخل شرح رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، أحب أن أبين آداب الرسالة أو الكتابة في الإسلام.......
البسملة
ومن أدبها البسملة، أن تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، وأما الحمدلة فليست واردة في الرسائل، بل واردة في الخطب، فمن السنة أن تكتب بسم الله، فتبتدئ بها ولا تبتدئ بالحمدلة، وفي الخطب تبدأ بالحمدلة ولا تبتدئ بالبسملة، والدليل على ذلك أنه ليس في رسائله صلى الله عليه وسلم حمدلة، ولما أرسل إلى هرقل عظيم الروم، قال: {بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله }.
كتابة اسم المرسل
الأمر الثاني: أن تبدأ باسمك أنت، فلو كان اسمك محمد بن علي، فتقول: من محمد بن علي إلى فلان بن فلان، ولا تقل: حضرة جناب المكرم الأخ العزيز الموقر الإمام المجتهد الصائم القائم الزاهد، فهذه الألقاب لا تذكرها حتى تأتي على اسمك أولاً في أول الرسالة، قال ابن عمر : إلا الابن فإني أرى أن يقدم أباه في الرسالة
وكذلك إذا أرسلت إلى عالم كبير، فتقول مثلاً: إلى فلان بن فلان من فلان بن فلان، فأجازه ابن عمر ، وذكره ابن حجر وكأنه رجَّح هذا.
و ابن عمر أراد أن يكتب لعبد الملك بن مروان ، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن عمر ، إلى عبد الملك بن مروان ، فاجتمع أبناؤه في البيت، وقالوا: لا بد أن تبدأ باسمه هو قبله، لأننا نخاف عليك منه؛ لأنه خليفة، فما زالوا به حتى كتب إلى عبد الملك بن مروان ، من عبد الله بن عمر .
الإيجاز والوضوح
ومن آداب الرسائل في الإسلام الإيجاز:
أرسل صلى الله عليه وسلم إلى هرقل رسالة فجعلها في أربعة أسطر، وأما الإسهاب فهو ضياع للوقت، يسأل الإنسان ويريد من أخيه أن يأتي من الرياض أو من جدة ، فيكتب له كتيباً صغيراً يصلح أن يكون تأليفاً، يقرؤه في ساعة ونصف، وأخبارنا تسركم، وأمطارنا وأسعارنا، ثم يخبره بأسعار الهيل، وأسعار الموز، وأسعار البيبسي، وما حدث في المنطقة، ومن تزوج، ومن طلق، ومن مات، ومن عاش، فهذه مشغلة وضياع لوقت المسلمين.
إذا أراد الإنسان أن يكتب رسالة فليكتب أربعة أسطر أو خمسة أسطر وتكفي، يدعو له ولا يدعو عليه، ويختم الرسالة.
ومن آدابها -أيضاً- كما يقول أهل العلم: الوضوح، أي أن تكون واضحة المعاني والأساليب، فلا يكتب بالإنجليزي ليظهر للناس أنه يفهم الإنجليزي، لأن بعض الناس إذا تكلم معك يتكلم معك بها لتقول: هذا شاب متنورٌ متطور، ويظن أنه فهم وأنه تثقف، ويقول ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم : المداومة على التحدث بلغة غير لغة العرب، والاسترواح بها من علامات النفاق -نعوذ بالله من ذلك- ولا أجمل ولا أفصح من لغة العرب أبداً.
الحذر من التصحيف
ومن آداب الرسائل: رفع التصحيف، والتصحيف ثلاثة أقسام:
رفع التصحيف بأن توضح الخط حتى لا يتصحف، وإذا كتبت كتيباً صغيراً، أو رسالة، أو مذكرة، أو أردت أن تكتب شيئاً فعليك بتكبير الخط وبتوضيحه؛ لأن الخط الرديء يخونك يوماً ما، تقرؤه بعد فترة من الفترات فلا تفهم الخط، فلذلك يقول الأول في وصف طالب:
تقول له زيداً فيسمعه عمراً ويكتبه بكراً ويقرؤه فهرا
فهو يجمع تصحيف السماع وتصحيف الكتابة وتصحيف الفهم.
فتملي عليه في الفصل: اكتبْ زيداً، فيسمعه عمراً، ثم يكتبه بكراً، وبعد أن يكتب يفهمه فهراً.
والتصحيف كما قال أهل العلم من المحدثين على ثلاثة أقسام:(49/3)
تصحيف القراءة: أن تقرأ شيئاً ليس بوارد، وأورد منه ابن الجوزي والعسكري والسيوطي أمراً عجيباً، حتى إن بعضهم كان يقرأ حديثاً قدسياً، يقول: عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الله عز وجل أي: حديثاً قدسياً فيما يرويه عن ربه، فقرأه محدث من المحدثين هكذا: عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه سلم، عن الله، عن رجل، فقال العسكري : من هذا الذي جعل لله شيخاً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أي: أنه أوصل السند إلى الله ثم رده إلى رجل، فهذا تصحيف القراءة.
وأما تصحيف السماع: فهو كما قلت لكم، أن يقول الأستاذ في الفصل: حدثنا أبو هريرة ، فيكتب الطالب حدثنا أبو ذر ، أو تقول: كان عمر بن الخطاب ، فيكتب: كان أبو بكر الصديق ، وتقول: خرج إلى السوق، فيكتب دخل المسجد، فهذا تصحيف السماع.
وأما تصحيف الفهم: فإنه أخطر الأمور، أن يفهم الإنسان عبارة فيصحفها ثم يلقيها على الناس، ووجدنا في كتب التفسير، أموراً عجيبة، وفي بعض التفاسير، ما أورده على سبيل التنبيه: سئل أحد أهل العلم من المصحفين، ما هو اسم أخي يوسف الذي طلبه إلى مصر ؟ قال: اسمه نكتل، قالوا: ما هو الدليل؟ قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ [يوسف:63].
ونكتل: فعل مضارع، أي: نكتال من الحب، لكنه جزمه لأنه جواب الطلب، فسماه باسم أخيه، فقال: أخانا نكتل.
وأفادني أحد المشايخ أن أحد الأساتذة صحف على نوح عليه السلام، فسمى ابنه عاصم، قال: والدليل على ذلك قول نوح: قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود:43].
من فوائد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل
من فوائد الحديث أيضاً:
الأخذ بكتابة الكاتب وعمل القاضي بها، والشهود، وأخذ الوصاية منها، دل على ذلك كلام أهل العلم، قال الإمام مالك : "أقبل كتابة الصك يقرأ على الناس فيقر".
وأخذ أهل العلم بذلك، وأورده صاحب المغني في باب القضاء وأدب القضاء، قال: أخذ أهل العلم على أن الكتاب يؤخذ به، والدليل على ذلك أن سليمان عليه السلام كتب إلى بلقيس عظيمة سبأ ، فقال: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30].
وفي الآية كذلك: البدء بالمرسل، فأخذت بلقيس بكتابته وعرفتها، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر في الصحيح: {ما حق امرئ له شيء يوصي به يبيت إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه } فكان ابن عمر دائماً يكتب وصيته عند رأسه، فمن السنة أن تكتب وصيتك وتجعلها عند رأسك، هذا إذا كان عليك دين أو شيء يحتاج، وإذا لم يحتج الأمر إلى كتابة فأخبر أهلك وتقول: الحمد لله ما علي من الدين إلا خمسون ألفاً، فيحفظونها ويعونها وينقلونها إلى الناس.
ومن الفوائد آداب الكتابة.
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس إلى الله بالرسائل، ويدعوهم بالكلام، ويدعوهم بالخطب، ويدعوهم بالوفود، وإذا لم تجد الرسائل والخطب والوفود، دعاهم بالسيف عليه أفضل الصلاة والسلام، ولذلك لما مزق كسرى رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب سعد بن أبي وقاص في ثلاثين ألفاً إلى القادسية ، فمزق ملك هؤلاء تمزيقاً لا يرتقع أبد الدهر.
حديث سرية عبد الله بن جحش
يقول البخاري : واحتج بعض أهل البخاري في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث وكتب لأمير السرية، وقال: {لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا } فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومفاد هذه القصة: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل رجلاً من الصحابة، فقال: اذهب إلى وادي نخلة ، وائتني بخبر قريش، فذهب هذا الرجل، فلما جاع في الطريق عاد بالسرية، ودخل المدينة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أرسلتك؟ قال: يا رسول الله! ذهبت فأصابني جوع وظمأ فعدت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والله لأرسلن معكم رجلاً يصبر على الجوع والظمأ، أين عبد الله بن جحش ؟ } القرشي الكبير الخطيب الذي قتل في أحد رضي الله عنه وأرضاه، وهو أول أمير سمي في الإسلام، فأرسله صلى الله عليه وسلم، وكتب له كتاباً، وقال: {لا تقرأ هذا الكتاب إلا بعد يومين، واقرأه على أصحابك ولا تُكره أحداً } أي: بعد أن تقرأ الكتاب لا تكره أحداً على المضي معك، فلما ذهب ليومين يريد وادي نخلة جهة مكة ، قرأ الرسالة وفضها، وقرأها على الناس، فعاد رجلان ممن كانا معه، وذهب الجميع معه رضي الله عنه وأرضاه، فلما وصولوا إلى وادي نخلة ، عرضت له قافلة لقريش فيها عمرو بن الحضرمي فقتلوه في رجب، وهو من الأشهر الحرم، فقالت قريش: كيف يستبيح محمد القتل في الأشهر الحرم؟(49/4)
انظر ما أحسن ورعهم! يخرجون الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة ، ويطردونه، ويبيعون أملاكه، ويفتون بالورع والزهد، يقولون: كيف تقتلون ابن الحضرمي في الأشهر الحرم؟ فأنزل الله عز وجل: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:217].
أي: تخرجون الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكفرون بالله، وتبصقون في المسجد الحرام، وتطردون أهل المسجد الحرام، وتستفتون الآن، أتى عندكم الورع؟ عجيب هذه الفتوى وهذا الذكاء، ويشبه هذا قول ابن عمر حين أتاه رجل من أهل العراق في الحج، قال: يا أبا عبد الرحمن ما حكم قتل البعوضة للمحرم؟ قال: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق ، قال: [[قاتلكم الله يا أهل العراق ! لطختم أصابعكم بدم الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم بعوضة ]] يقتلون الحسين ويسألون عن البعوضة.
هذا مثل من يحافظ على الإبرة ويُضِّيع الجمل، فلما قتلوه رضوان الله عليهم وأرضاهم وعادوا، كانت معركة بدر بعدها، لأن هذا القتل كان في السنة الثانية، هذا مفاد هذا الحديث، وما هناك شيء يستوجب الإطالة والوقوف عنده، ولكن ننتقل إلى قضايا أخرى تمر بنا في السند.
حديث نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم
قال البخاري رحمه الله: وعن قتادة عن أنس بن مالك ، قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً، أو أراد أن يكتب، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة نقشه محمد رسول الله كأني أنظر إلى بياضه في يده، فقلت: لقتادة ، من قال: نقشه محمد رسول الله؟ قال: أنس .......
الكتابة صفة كمال في غير النبي صلى الله عليه وسلم
أولاً: في هذا الحديث قضايا:
الأولى: هل كتب الرسول صلى الله عليه وسلم بيده؟ أو هل يقرأ أو يخط؟
لأهل العلم في هذا نظرات، والصحيح أنه ما كتب عليه الصلاة والسلام ولا قرأ، وأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] وقال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48].
فالصحيح عند أهل العلم والجماهير، أنه ما كتب عليه الصلاة والسلام.
يقول القرطبي : صفة الكتابة صفة كمال في غير الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي فيه صفة نقص، لوكان يكتب عليه الصلاة والسلام لقالوا: اكتتب هذه الصحف وأتى علينا بصحف. ولذا قالوا: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5] كيف يكتتبها صلى الله عليه وسلم وهو لا يكتب؟! والمعجزة فيه أن يكون أمياً، ولذلك يقول جولد زيهر هذا المستشرق الكلب، يقول: ليس العجب أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فإن عيسى وموسى عليهم السلام أنبياء، لكن العجب أن يبقى أربعين سنة في مكة ، وليس فيها مدرسة، ولا كلية، ولا جامعة، ولا كتاتيب، ولا عنده شيخ، ثم يظهر بعد الأربعين فإذا هو أعظم مفتٍ في الدنيا، وأعظم خطيب في المعمورة، وأعظم فصيح، وأعظم قائد، وأعظم مربٍّ، وأعظم إداري، وأعظم سائس، هذه هي العظمة، فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب لقالوا: أنت اكتتبتها.
يقول الكفار بعضهم لبعض: الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم الصحف هو مولى آل فلان، كان قيناً يشحذ لهم السيوف (يصقلها) فيذهب صلى الله عليه وسلم يصقل بعض السيوف، قالوا: يذهب إليه يتعلم منه القرآن، عجيب! هذا المولى فارسي، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103].
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أمة أمية)
فالرسول صلى الله عليه وسلم على الصحيح لا يكتب ولا يقرأ، وهو أمي، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب } ولذلك علق ابن تيمية في الفتاوى بما يقارب خمسين صفحة على هذا الحديث: {نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب } وقال: نحن لا نتعامل بالحساب ولا بعلم الفلك في مسألة رؤية الهلال، أو مسألة تقدم منازل الهلال، فإذا رأى الناس الهلال أفطرنا أو صمنا.
أما أن يأتي أهل الهيئة فيقولون: رأيناه في منزلة كذا، بمقياس كذا إلى كذا ليفطر الناس؛ فلا إفطار على مقياسهم، لأنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، إذا شهد الشهود أفطرنا، وإذا شهدوا صمنا، فهذا مفاده (أنَّا أمة أمية).
دليل أبي الوليد الباجي على أن النبي كان يكتب(49/5)
أما الذي أثار أن النبي صلى الله عليه وسلم يكتب فهو أبو الوليد الباجي المالكي الأندلسي ، وألف في ذلك كتاباً، وادعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب، والسبب في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في معركة الحديبية يفاوض كفار قريش، فلما أراد صلى الله عليه وسلم أن يفتح مكة ، تمركز بجيشه العرمرم في الحديبية ، فسمعت قريش أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يفتح مكة غصباً، فحلفوا باللات والعزى لا يفتحها، فخرجوا بسيوفهم، وقالوا: قبل أن نخرج نرسل إليه رجلاً يفاوضه، فأرسلوا مكرز بن حفص ، فلما أتاه قال صلى الله عليه وسلم: { رجل فاجر } فنزل فما تم الصلح، فأتى الحليس بن علقمة ، فقال صلى الله عليه وسلم: {هذا رجل من أناس يعظمون النسك أو الهدي فابعثوا الهدي أمامه } فبعثوا الغنم التي يريد صلى الله عليه وسلم أن يهديها للبيت، فلما رآها ذاك قال: ما كان لهؤلاء أن يُصدون عن البيت وعاد.
فأرسلوا سهيل بن عمرو خطيب العرب، فوفد عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم، قال: { قد سهل لكم أمركم }.
وقبل أن يأتي سهيل أرسل الرسول صلى الله عليه مفوضاً، قال لعمر : يا عمر ! قم واذهب إلى هؤلاء النفر ففاوضهم على الصلح، فقال عمر : يا رسول الله! تعلم أني من أعدى قريش إلى قريش، أي: أكره رجل في قريش إلى قريش.
ولذلك يقول أبو سفيان لما عاد إليه: وجدت محمداً صلى الله عليه وسلم قريباً، وأبا بكر وعلياً ، وأما أعدى العدو فهو عمر ، والله لو لم يجد إلا الذر ليقاتلكم به لقاتلكم بالذر.
فقال عمر : يا رسول الله: أنا ليس عندي أسرة تحميني -هو من بني عدي بن كعب- عشيرته تأتي في المرتبة الخامسة أو السادسة بعد بني هاشم، وبني أمية بن عبد شمس، وبعد بني مخزوم، وبني سهم، لكن أرسل عثمان يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: عليَّ بعثمان فأرسل عثمان .
فلما وصل عثمان أتاه أخوه أو قريب له، وقال: لا تذهب حتى نغديك، فأكرموه، فلما حبسوه، أتت الشائعة بين المسلمين قالوا: قتل عثمان ، فانتفض صلى الله عليه وسلم وغضب، وجمع الناس، وبايعهم على الموت تحت الشجرة، فبايعوه صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] إلا رجلاً واحداً من المنافقين خرج معهم من المدينة في ظاهره أنه مسلم، فلما أراد صلى الله عليه وسلم أن يبايعه، قال: أما أنا فوالله -يقول للمسلمين- لأن ألقى جملي الأحمر خيرٌ من أن أبايع محمداً، فقال صلى الله عليه وسلم: {كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر } واسمه الجد بن قيس ، فذهبوا إليه، فقالوا: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه، وقال: ألقى جملي قبل أن يستغفر لي، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون:5].
وأتى سهيل بن عمرو فقال صلى الله عليه وسلم: {قد سهل لكم أمركم } فنزل وجلس، وأخرج صلى الله عليه وسلم الصحابة يحضرون المفاوضة، بين الرسول صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو ، فأخذ سهيل بن عمرو بلحية رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسها ويفاوضه، فقال المغيرة وكان مدججاً بالسلاح على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم: اترك يدك فوالله لأن مددتها لا تعود إليك أبداً.
فأخذ سهيل بن عمرو يتكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سهيل بن عمرو : اكتب بيننا وبينك كتاباً على الصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب ؟ فأتى، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل : لا نعرف بسم الله الرحمن الرحيم، لا نعرف إلا رحمان اليمامة ، اكتب باسمك اللهم، ورحمان اليمامة قيل: رئي من الجن.
وقلت لرحمان اليمامة عالجنْ مصابي فإني بالمصاب عليل(49/6)
سمته العرب رحماناً، ليس مسيلمة ؛ لأن مسيلمة ما أتى إلا متأخراً، فقال صلى الله عليه وسلم لعلي : { اكتب باسمك اللهم } ثم قال صلى الله عليه وسلم لعلي ، {اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله } فكتب، قال سهيل بن عمرو : لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب محمد بن عبد الله، قال صلى الله عليه وسلم: {أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله } اكتب يا علي وامح، قال علي : والله لا أمحو اسمك من الصحيفة أبداً، فأخذها صلى الله عليه وسلم، فتفل على الكتابة، ومحاها صلى الله عليه وسلم؛ ثم أعاد الكتاب إلى علي ، فقالأبو الوليد الباجي : ما دام أنه صلى الله عليه وسلم غيَّر اسمه، فقد عرف مكان (رسول الله) في الصحيفة، فكيف عرفه وميزه؟ وليس في الحديث أن علياً أشار له، وقال: (هذا رسول الله، وهذا باسمك اللهم) قال ابن حجر : والذهبي وابن تيمية وهو الصحيح: الرجل الأمي من كثرة الكتابة يعرف اسمه، ولذلك بعض الناس الآن يعرف أن اسمه محمد مكتوب، من كثرة ما رأى اسمه، وبعضهم يوقع اسمه وهو لا يقرأ ولا يكتب، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى موقعها من الكلام فمحاها.
فالشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا قرأ ولا كتب، وإنما محا ما عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرسالة.(49/7)
آداب الصيام وسننه
طريق القرآن
ينبغي على الصائم أن يتأدب بالأدب الشرعي في صومه ..
وسنذكر بإذن الله تعالى جملة من الآداب والسنن والواجبات التي ينبغي على الصائم أن يأتي بها :
أ- السحور :
وهو من السنن ، فيسن الحرص عليه ، وتأخيره ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أنه قال : ( تسحروا فإن في السحور بركة ) ..
فهو غداء مبارك ؛ بشهادة النبي _ صلى الله عليه وسلم _ ، وفيه مخالفة لأهل الكتاب ، وقد شرع لنا مخالفتهم ..
ب- ومن السنن : تعجيل الفطر لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر ) رواه البخاري ..
ويسن للصائم أن يفطر على رطب ، فإن لم يجد فتميرات ، فإن لم يجد فيفطر على ماء ،
وقد جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يُفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء . ) رواه الترمذي 3/79 وغيره وقال حديث حسن غريب وصححه في الإرواء برقم 922 ،
ولقد ثبت طبياً أثر البداية على الرطب أو التميرات ومن ثم الماء ... ؛ لأن الإفطار على التمر والماء يحقق الهدفين : وهما دفع الجوع والعطش .
وتستطيع المعدة والأمعاء الخالية امتصاص المواد السكرية بسرعة كبيرة ، كما يحتوي الرطب والتمر على كمية من الألياف مما يقي من الإمساك ، ويعطي الإنسان شعورا بالامتلاء فلا يكثر الصائم من تناول مختلف أنواع الطعام .
جـ- ويسن له أن يقول بعد إفطاره ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ كان إذا أفطر قال : ( ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله ) رواه أبو داود ، وحسنه الدارقطني إسناده 2/185 .، وفي الباب أحاديث لا تثبت .
د- ومما يجب على الصائم : البعد عن الرفث لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ ( .. إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث .. ) رواه البخاري ..
والرفث : هو الوقوع في المعاصي ..
وقال النبي _ صلى الله عليه وسلم _ : ( من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) ، البخاري .
وينبغي أن يجتنب الصائم جميع المحرمات كالغيبة والفحش والكذب ، فربما ذهبت بأجر صيامه كله ، وقد روي : ( رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ) . رواه ابن ماجه ، وفيه اختلاف في رفعه ووقفه .
هـ- وينبغي على الصائم أن لا يصخَب ؛ لما ثبت عنه _ صلى الله عليه وسلم _ : ( وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ، إني صائم ) ، فواحدة تذكيراً لنفسه ، والأخرى تذكيرا لخصمه .
إن الناظر في أخلاق بعضنا في الصيام يجد خلاف هذا الخُلق الكريم ، وانظر في ذلك مثلاً حال الناس أثناء السير بسياراتهم في الشوارع، فما إن تتأخر لحيظة عند الإشارة وقد أصبحت خضراء إلا وأرتال المنبهات تنهال عليك من السيارات حولك ، وكأنك قد ارتكبت منكراً عظيماً .. بل لربما سمعت الشتائم من هنا وهناك ، وكأننا في ضغط نفسي ... بل بعضهم يتهجَّم ويتكتَّم ( يتنرفز ) ؛ لأتفه الأسباب ، بل تراه مستعداً متحفزاً للشجار مع أي أحد حتى مع نفسه ، ولو كلمته لقال : ( تراها واصلة ، تراني صايم ) !! ،
فالواجب ضبط النفس ، والصوم راحة وجنة ووقاية ... ، والأحرى بكل واحد منا أن يهذبه صومه وأن يتبع فيه هدي النبي _ صلى الله عليه وسلم _ ...
وعليه فلا بد من السكينة والهدوء وحسن الخلق والبشاشة ..
و- ويكره الإكثار من الطعام ، لحديث ( ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنٍ .. ) رواه الترمذي رقم 2380 وقال هذا حديث حسن صحيح .. وكثرة الأكل تجلب النعاس والخمول ، الشهر شهر عبادة وطاعة .. بل إن الفائدة التي تحققت بالصوم من راحة الجسم ، تزول بكثرة الأكل ، بل لربما أدى ذلك إلى عسر الهضم وآلام المعدة ، فحيث كانت المعدة في أثناء النهار في راحة ، إذا بأرتال اللحوم والشحوم والمشارب وألوان الطعام تنهال عليها !! ..
أضف إلى ذلك الثقل الذي يراه أحدنا إذا أكثر من الأكل وقت صلاة التروايح ، بل بعضهم يكثر من أكل ما به رائحة فيؤذي المصلين ..
ولعل ما ينبغي التنبيه عليه أننا نجد كثيرين يستعدون لشهر الصوم بأنواع من المآكل والمشارب !! فتراهم يتزاحمون على أماكن التموين وبيع المواد الغذائية وكأنهم مقدمون على مجاعة !!
ومع ما بيناه من أثر سلبي من كثرة الأكل ... فإن له مضرة أخرى ألا وهي إشغال وقت النساء بالطبخ وإعداد أصناف وألوان الطعام ، مما يفوت عليهن الأوقات الشريفة واستغلالها بالطاعة ..
ز- ومما يندب له ويستحب في هذا الشهر بالذات :
الجود بأنواعه .. بالعلم والمال والجاه والبدن والخُلُق ..
فقد مرَّ بنا ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ) .(50/1)
فكيف بأناس استبدلوا الجود بالبخل والنشاط في الطاعات بالكسل والخمول فلا يتقنون الأعمال ولا يحسنون المعاملة متذرِّعين بالصيام .
بل إن مما يرجى أن يكون من أسباب دخول الجنة الجمعَ بين الصيام والإطعام ؛ كما جاء في الحديث : ( إن في الجنة غرفا يُرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام ) رواه أحمد 5/343 وابن خزيمة رقم 2137 وقال : إن صح الخبر ، وقال الألباني في تعليقه : إسناده حسن لغيره ، والحديث جاء من وجهين ضعيفين ، والله تعالى أعلم .
ومن أوجه الجود في هذا الشهر الكريم تفطير الصائمين ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من فطّر صائماً كان له مثل أجره ، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء . ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : والمراد بتفطيره أن يُشبعه . الاختيارات الفقهية ص : 109
وقد آثر عدد من السلف ـ رحمهم الله ـ الفقراءَ على أنفسهم بطعام إفطارهم ، منهم : عبد الله بن عمر ، ومالك بن دينار ، وأحمد بن حنبل وغيرهم . وكان عبد الله بن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين .
ح- ويسن في رمضان أداء صلاة التراويح جماعة في المساجد :
وهنا يجب التنبيه على الحرص على الصلوات في وقتها ، وأنه يجب على الرجال صلاة الجماعة في المساجد وأنه لا يسعهم التخلف عنها .
وأذكر فضل قيام رمضان ؛ فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
وجاء في قيام ليلة القدر بخصوصها أن فضلها غفران ما تقدم من الذنوب ، وقد تقدم الحديث في ذلك .ولذا فلا بد لنا من أن نستغل هذا الأجر العظيم والفضل الكبير ، وأن نحرص على أداء التروايح مطمئنين خاشعين ...
وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(50/2)
آداب النية(*)
أخي الكريم :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه رسالة من أخ ناصح لك مشفق عليك يتمنى لك الفلاح في الدنيا والآخرة ، يحب لك الخير أينما كنت
أخي :
المسلم يؤمن بخطر شأن النية ، وأهميتها لسائر أعماله الدينية والدنيوية ، إذ جميع الأعمال تتكيف بها ، وتكون بحسبها فتقوى وتضعف ، وتصح وتفسد تبعاً لها ، وإيمان المسلم هذا بضرورة النية لكل الأعمال ووجوب إصلاحها ، مستمدّ أولاً من قول الله تعالى : {وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين}(1) .وقوله سبحانه : {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين}(2) . وثانياً من قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- :((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى))(3) .وقوله :((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))(4) . فالنظر إلى القلوب نظر إلى النيات ، إذ النية هي الباعث على العمل والدافع إليه ، ومن قوله -صلى الله عليه وسلم- : ((من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة))(5) . فبمجرد الهم الصالح كان العمل صالحاً يثبت به الأجر وتحصل به المثوبة وذلك لفضيلة النية الصالحة ، وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- :((الناس أربعة : رجل آتاه الله عز وجل علماً ومالاً فهو يعمل بعلمه في ماله ، فيقول رجل لو آتاني الله تعالى مثل ما آتاه الله لعملت كما عمل ، فهما في الأجر سواء ، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله ، فيقول رجل لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت كما يعمل ، فهما في الوزر سواء))(6) . فأثيب ذو النية الصالحة بثواب العمل الصالح ، ووزر صاحب النية الفاسدة بوزر صاحب العمل الفاسد ، وكان مردّ هذا إلى النية وحدها . ومن قوله -صلى الله عليه وسلم- وهو بتبوك :((إن بالمدينة أقواماً ما قطعنا وادياً ولا وطئنا موطئاً يغيظ الكفار ، ولا أنفقنا نفقة ، ولا أصابتنا مخمصة إلاّ شركونا في ذلك وهم بالمدينة)). فقيل له : كيف ذلك يا رسول الله ؟ فقال : ((حبسهم العذر ، فشركوا بحسن النية)) (7) . فحسن النية إذا هو الذي جعل غير الغازي في الأجر كالغازي ، وجعل غير المجاهد يحصل على أجر كأجر المجاهد ، ومن قوله –صلى الله عليه وسلم- : ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) . فقيل : يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ فقال : ((لأنه أراد قتل صاحبه))(8) . فسوت النية الفاسدة والإرادة السيئة بين قاتل مستوجب للنار وبين مقتول لولا نيته الفاسدة لكان من أهل الجنة ، ومن قوله -صلى الله عليه وسلم- : ((من تزوج بصداق لا ينوي أداءه فهو زان ، ومن أدان ديناً وهو لا ينوي قضاءه فهو سارق))(9) . فبالنية السيئة انقلب المباح حراماً ، والجائز ممنوعاً ، وما كان خالياً من الحرج أصبح ذا حرج .
كل هذا يؤكد ما يعتقده المسلم في خطر النية ، وعظم شأنها ، وكبير أهميتها فلذا هو يبني سائر أعماله على صالح النيات ، كما يبذل جهده في أن لا يعمل عملاً بدون نية ، أو نية غير صالحة ، إذ النية روح العمل وقوامه ، صحته من صحتها وفساده من فسادها، والعمل بدون نية صاحبه مراء متكلف ممقوت .
وكما يعتقد المسلم أن النية ركن(10) الأعمال وشرطها ، فإنه يرى أن النية ليست مجرد لفظ باللسان (اللهم نويت كذا ) ولا هي حديث نفس فحسب ، بل هي انبعاث القلب نحول العمل الموافق لغرض صحيح من جلب نفع ، أو دفع ضر حالا ، أو مآلا ، كما هي الإرادة المتوجهة تجاه الفعل لابتغاء رضا الله ، أو امتثال أمره .
والمسلم إذ يعتقد أن العمل المباح ينقلب بحسن النية طاعة ذات أجر ومثوبة وأن الطاعة إذا خلت من نية صالحة تنقلب معصية ذات وزر وعقوبة ، لا يرى أن المعاصي تؤثر فيها النية الحسنة فتنقلب طاعة ، فالذي يغتاب شخصاً لتطييب خاطر شخص آخر هو عاص لله تعالى آثم لا تنفعه نيته الحسنة في نظره ، والذي يبني مسجداً بمال حرام لا يثاب عليه، والذي يحضر حفلات الرقص والمجون ، أو يشتري أوراق اليانصيب بنية تشجيع المشاريع الخيرية ، أو لفائدة جهاد ونحوه ، هو عاص لله تعالى آثم مأزور غير مأجور ، والذي يبني القباب على قبور الصالحين ، أو يذبح لهم الذبائح ، أو ينذر لهم النذور بنية محبة الصالحين هو عاص لله تعالى آثم على عمله ، ولو كانت نيته صالحة كما يراها ، إذ لا ينقلب بالنية الصالحة طاعة إلاّ ما كان مباحاً مأذوناً في فعله فقط ، أما المحرم فلا ينقلب طاعة بحال من الأحوال .
__________________________________________
(*) من كتاب منهاج المسلم لأبي بكر الجزائري صـ 80 ط 2 ( بتصرف ) .
(1) البينة .
(2) الزمر .
(3) متفق عليه .
(4) متفق عليه .
(5) مسلم .
(6) ابن ماجة بسند جيد .
(7) أبو داود والبخاري مختصراً .
(8) متفق عليه .
(9) رواه أحمد ، ورواه ابن ماجة مقتصراً على الدين دون الصداق .
(10) النية ركن باعتبار البداية ، وشرط باعتبار الاستمرار0.(51/1)
آداب تعين على التأثر بالقرآن ... ... ... وهذه الآداب منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب بالنص، ومنها ما هو مرغب فيه عند بعض العلماء وليس فيه نص..
أولا: آداب قلبية:
1) أن يخلص لله في قراءته بأن يقصد بها رضا الله وثوابه، ويستحضر عظمة منزلة القرآن في القلب، فكلما عظم الله في قلبك، وخافه قلبك وأحبه، كلما عظم القرآن لديك، وأن يتنبه إلى أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر، وأن لا يطلب بالقرآن شرف المنزلة عند أبناء الدنيا. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله.
2) التوبة والابتعاد عن المعاصي عموماً فهي تذهب بنور الإيمان في القلب والوجه، وتوهن القلب وتمرضه وتضعفه، فالقلب المريض أبعد الناس عن التأثر بالقرآن، وعلى وجه الخصوص ينبغي على العبد أن يبتعد عن معاصي أدوات التأثر بالقرآن وهي: القلب، والسمع، واللسان، والبصر، فاستخدام هذه الأدوات في الحرام يعرضها لعدم الانتفاع بها في الحق.
ومن أخطر المعاصي وأعظمها صداً عن التأثر بالقرآن وتدبره، سماع الغناء والموسيقى وآلات الطرب واللهو التي تصد القلوب عن القرآن، وهذه من أعظم مكائد عدو الله إبليس التي كاد بها كثير من الناس فأبعدهم عن القرآن وتفهمه والتأثر به.
3) أن يحضر القلب ويطرد حديث النفس أثناء التلاوة، ويصون يديه عن العبث، وعينيه عن تفريق نظرهما من غير حاجة.
4) التدبر ومحاولة استيعاب المعنى لأنها أوامر رب العالمين التي يجب أن ينشط العبد إلى تنفيذها بعد فهمها وتدبرها.
5) أن يتفاعل قلبه مع كل آية بما يليق بها فيتأمل في معاني أسماء الله وصفاته حسب فهم السلف، ويتأسى بأحوال الأنبياء والصالحين، ويعتبر بأحوال المكذبين.. وهكذا.
6) أن يستشعر القارئ بأن كل خطاب في القرآن موجه إليه شخصياً.
7) التأثر فيتجاوب مع كل آية يتلوها فعند الوعيد يتضاءل خيفة، وعند الوعد يستبشر فرحاً، وعند ذكر الله وصفاته وأسماءه يتطأطأ خضوعاً، وعند ذكر الكفار وقلة أدبهم ودعاويهم يخفض صوته، وينكسر في باطنه حياءاً من قبح مقالتهم، ويشتاق للجنة عند وصفها، ويرتعد من النار عند ذكرها.
8) أن يتبرأ من حوله وقوته إذ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويتحاشى النظر إلى نفسه بعين الرضا والتزكية.
9) تحاشي موانع الفهم مثل: أن يصرف همه كله إلى تجويد الحروف وغير ذلك، ويجب عليه أيضاً حصر معاني آيات القرآن فيما تلقنه من تفسير.
ثانيا: آداب ظاهرية:
1) يستحب أن يتطهر ويتوضأ قبل القراءة لما روي أن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لا يمس القرآن إلا طاهر )) صحيح الجامع 7657.
2) أن يستاك فيطيب وينظف فمه بالسواك لأنه طريق القرآن.
3) الأفضل أن يستقبل القبلة عند قراءته لأنها أشرف الجهات، وإن لم يستقبل القبلة فلا حرج في ذلك.
4) أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إذا بدأ من أول السورة.
5) أن يتعاهد القراءة بالمواظبة على قراءته، وعدم تعريضه للنسيان، وينبغي أن لا يمضي عليه يوم إلا ويقرأ فيه شيئاً من القرآن حتى لا ينساه ولا يهجر المصحف.
6) عدم قطع القراءة بكلام لا فائدة فيه، واجتناب الضحك واللغط والحديث إلا كلاماً يضطر إليه، وليقتد بما رواه البخاري عن نافع قال: كان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه.
7) أن يحسن صوته بالقرآن ما استطاع: (زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسناً) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الجامع 3580.
وأن يرتل قراءته، وقد اتفق العلماء على استحباب الترتيل{ورتل القرآن ترتيلا }. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله. وعن مجاهد أنه سئل عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وآل عمران، والآخر البقرة وحدها وزمنهما وركوعهما وسجودهما وجلوسهما واحد سواء؟ فقال: الذي قرأ البقرة وحدها أفضل.
8) أن يحترم المصحف فلا يضعه في الأرض، ولا يضع فوقه شيئاً، ولا يرمي به لصاحبه إذا أراد أن يناوله إياه، ولا يمسه إلا وهو طاهر.
9) اختيار المكان المناسب مثل: المسجد أو مكاناً في بيته بعيداً عن الموانع والشواغل والتشويش، أو حديقة أو غير ذلك... ويجب أن يكون المكان بعيداً عن ما يبعد الملائكة من صور معلقة وأجراس....الخ.
10) اختيار الوقت المناسب والذي يتجلى الله فيه على عباده وتتنزل فيه فيوضات رحمته، وأفضل القراءة ما كان في الصلاة، وأما القراءة في غير الصلاة فأفضلها قراءة الليل، والنصف الأخير من الليل أفضل من الأول، وأما قراءة النهار فأفضلها بعد صلاة الفجر.(52/1)
11) ترديد الآية للتدبر والتأثر بها، وقد ثبت عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: (قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية يرددها حتى أصبح) والآية:{ إن تعذبهم فإنهم عبادك}[المائدة 78]. رواه النسائي وابن ماجة. وقد ثبت عن كثير من الصحابة والسلف أيضاً ترديد آيات معينة لتدبرها والتأثر بها.
12) البكاء أثناء التلاوة وبخاصة عند قراءة آيات العذاب، أو المرور بمشاهده، وذلك عندما يستحضر مشاهد القيامة وأحداث الآخرة، ومظاهر الهول فيها ثم يلاحظ تقصيره وتفريطه، فإذا لم يستطع البكاء فليحاول التباكي، والتباكي هو استجلاب البكاء فإن عجز عن البكاء والتباكي فليحاول أن يبكي على نفسه هو وعلى قلبه وروحه لكونه محروماً من هذه النعم الربانية، مريضاً بقسوة القلب، وجحود العين. اللهم إنا نعوذ بك من عين لا تدمع، وقلب لا يخشع.
13) على المستمع للقرآن أن يتأدب بالآداب السابقة كلها، ويزيد عليها حسن السماع، وحسن الإنصات والتدببر، وحسن التلقي، وأن لا يفتح أذنيه فقط بل كل مشاعره وأحاسيسه، قال – تعالى-:{وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} الأعراف 204. ... ...(52/2)
آداب تلاوة القرآن الكريم
1-أن يخلص القارئ لله تعالى في كل عمل يعمله ، ومن ذلك تلاوة القرآن.
2-أن يقرأ بفهم و تدبر وقلب حاضر غير غافل ولا لاه.
3-أن يتطهر و يستاك قبل القراءة.
4-ألا يقرأ القرآن في الأماكن المستقذرة كدورات المياه ، ولا يقرأ شيئاً من القرآن وهو على جنب
5-أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند بدء القراءة.
6-أن يقرأ البسملة في بداية كل سورة ماعدا سورة التوبة.
7-أن يحسن صوته بالقرآن ما استطاع ، وأن يقرأ بحزن وخشوع وبكاء.
8-أن يسجد كلما مر بآية فيها سجدة.
9-أن يمسك عن القراءة عند خروج الريح ، وعند التثاؤب ، وعند غلبة النعاس.
10-أن يقرأ القرآن بترتيل مع الالتزام بأحكام التجويد.
11-أن يقرأه بنية العمل به ، و أن يتصور أن الله تعالى يخاطبه بهذا الكلام.
12-يستحب للقارئ إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله من فضله ، و إذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من النار ويسأله العافية.(53/1)
آداب شبكة الإنترنت ولياقات التواصل عبرها
من يحضر جلسات النقاش والدردشة التي تجري عبر مواقع إنترنت عالمية وعربية ، يخال أن " الدنيا سايبة " ، لكنه يطمئن إلى أن الكم الهائل من اللغو المنتشر في الشبكة ، لا أثر فعليًا له في الحياة العامة ، غير تأجيج الكبت الذاتي ، فالكلام مهما بلغ يبقى كلامًا هباءًا في فضاء إلكتروني غير ملموس ، ما لم يكن معقولاً بمرساة الواقع .
وفيما عدا الحلقات المحصورة بذوي اهتمامات مشتركة ، والتي تفرض على الدخلاء أنماط تعامل صارمة - يقتدون بها أو يُنبَذون - تخلو الشبكة من أي وازع .
حتى أن " نيتيكات"Netiquette مجموعة النصح والإرشادات السلوكية التي تحدد آداب التعامل ولياقاته في ملتقيات الشبكة المختلفة ، والتي تراكمت اصطلاحاتها بالممارسة ، ليست ملزمة في أي شكل من أشكال ، ويستحيل أن تكون كذلك .
وللحد من الابتذال الواضح ، لا تكفي الدعوة إلى " الاحترام المتبادل والابتعاد عن التشهير والتجريح " التي توضع عند " مداخل " المنتديات وغرف الدردشة ، فمنذ ظهورها ، سهّلت الإنترنت على كثيرين انتحال صفة " مجهول " (لا يُحاسب على شيء ) ، فاتخذوا من خفاياها " غرفًا مظلمة صماء " يبوحون فيها بما لا يجرءون عليه علانية .
ولعل نظرة سريعة إلى بعض الدردشات والنقاشات الدائرة وإلى بعض الرسائل الإلكترونية تؤكد هذا القول .
وهناك تطفو على السطح ركاكة اللغة ، واستسهال الكتابة ، وتفكك المضمون ، وزيغ التوجه ، أما في العمق فسخف وابتذال وجهالة وادعاء ، وحقد ، وازدراء لـ " لآخر" .
ولا يطاول هذا الكلام من لم يُقم في الإنترنت ساترًا يُخفي وراء فصامة فصرح عن نفسه ومكانه ، وأعلن أفعاله وأقواله وكثيرة هي الأمثلة على تلاقي أشخاص عبر الشبكة على أفكار ومشاريع وشركات ، وحتى على زواج عام على الشبكة المتبادلة مع الأخرى ، وعلى عدم الخوف من الاحتكاك بذاك الغريب المختلف ثقافة وموطنًا ، وقبوله مثلما هو - بقي زعمه صحيحًا - إلا أن تلك الأمثلة غيض ضئيل من فيض الترّهات .
وفي كل هذا ، يبدو أن " نيتيكات " لا تعدو كونها محاولة لتضييق رقعة الاختلاف في الثقافة واللغة والطباع ، بين البشر المشبوكين من خلال اقتراح أساليب للتعبير والتعاطي مع الآخرين ، كتابةً - أي غيابًا - بما يجنّب المستخدمين الجديين الوقوع في شرك تباينات ، قد يجهلونها .
ومن هنا تشجع " نيتيكات " على التحلّي بحسن الأخلاق - من خلال الاعتدال ورحابة الصدر - وبالحكمة - من خلال التمهّل في الإجابة - وبالإدلاء بما قلّ ودلّ - وتحاشي الإيجاز الشديد - .
وقد توصل جامعوها إلى رصد بعض الممارسات غير المحبّذة ، وتتلخّص بالآتي :
- عدم البعث برسالة تطالب مستلمها بإرسالها إلى عدد من الأشخاص .
- عدم نشر الأخبار الكاذبة .
- وعدم نشر رسالة ذات طابع شخصي - من دون إذن مرسلها - .
- وعدم اشتراك في نقاشات حامية ، أو إثارة الفتن ، أو التحريض .
- فضلاً عن عدم الكتابة بأحرف - لاتينية - كبيرة ، لئلاً يُفسر بأنها صريخ ، ويقابل ذلك بالعربية عدم الإكثار من النقاط الثلاث (…) ، لئلا يحار القارئ ، إذ يظن أن عليه ملء الفراغات كذلك ، رفعوا بعض التوصيات منها : ألا يتجاوز السطر (65) حرفًا ، وأن يضاف التوقيع مع الاسم ، والإحداثيات ، وأن يعكس سطر الموضوع مضمون الرسالة ، في وضوح ، وفي ملتقيات النقاش ، ينبغي إلقاء التحية عند الدخول والخروج ، ومتابعة ما سبق من آراء قبل التدخل ، وقراءة أصول التعامل التي تتقيد بها مجموعة معينة ويُفضل الاطلاع على المحتويات المنشورة سابقًا ، تفاديًا للوقوع في التكرار .(54/1)
آذار
شعر: أنور العطار
هلمي انظري قبلات الربيع
سَرَتْ في السموات iiأنفاسُه
وآذار يلعب فوق iiالمروج
يعانقها وهو جمُّ iiالحنين
ويلقي عليها وشاح iiالخلود
ويبعث فيها شعاع iiالهوى
تألقت الأرض من iiوشيه
وقد زين الروض iiأفياءه
خمائله من نسيج iiالنعيم
جواء من الطير iiطفاحة
كأن النسيم أخو iiسكرة
* * ii*
تعاشيب ناهلة بالطيوب
كأن على الأرض عرساً يقام
تعالت إلى الله iiأفراحه
وهَبَّتْ مواكبه الضاحكات
رياحينها قد ملأن iiالفضاء
ففي الجو ذابت أغاني iiالطيور
وفي الحقل ثار ضجيج iiالقطيع
تذوب من الحب iiأنغامها
براها الهوى وطوت سره
فيالك عرساً بهيَّ iiالإطار
* * ii*
هلمي افتحي كوة iiللربيع
فقد ملت الروح عبء iiالظلام
أكان سجوك غير iiالرقاد
وأغفل بين شعاب iiالجفون
يبين على صفحتيها iiالأنين
توهّج من ماسها في iiالعيون
هلمي اقرئي خافيات الحظوظ
ونوحي على حلم iiمورق
سيمضي الشباب كأن لم يكن
تجدد أحلامه iiالغابرات
كأن له ملعباً iiساحراً
تموج بأفيائه iiالنعميات
بدا والحياة على iiجانبيه
محفة آذار تلقي iiعليه
* * ii*
تعالي نوثق عهود iiالهوى
ونوقظ لياليها iiالغاليات
أقاصيص ملء الربا والوهاد
أرجن وعطرن هذا iiالفضاء
ولقنّ منه معاني iiالحياة
رويدك ولنستمع iiسره
وإن له سيراً iiجمة
تعالي إلى الصدر تلقي iiبه
وأوجاع خافقه iiالمستهام
فلا البثُّ يهدئ iiتحتانه
ولا الحب يوليه بعض المنى
ويرسل أنغامه iiحلوة
* * ii*
ولما اقتسمنا دموع iiالعيون
فلا هي تسكن شعب iiالجفون
* * ii*
أطلت رنوك نحو iiالسماء
فهل تبحثين عن iiالغائبين
فرابتك ضفة هذي iiالحياة
فنحت وصحت النجاة iiالنجاة
هنالك لا النور ضافي iiالجناح
خلت من بهارج هذا iiالوجود
سوى موجة من بنات iiالسماء
يشع على جانبيها الخلود
كأن عليها إطار iiالنعيم
حنانيك لا تسبحي في iiالدموع
فما إن تقي من إسار iiالردى
وليس ترد عليك iiالدموع
ورُبَّتَ أمسية iiبرّة
جلست على جنبات iiالغدير
أردد أشعاريَ iiالنائيات
وتشدو الطيور iiأغاريدها
وددت من الغيب كل iiالوداد
ويوحي المساء إلى iiخاطري
موشحة بطيوف iiالعفاء
فأصغي إلى همسه iiالمستطاب
أعب لذاذاته iiالطافحات
وأنسى متاعب هذا الوجود
* * ii*
وغيبوبة مثل كهف iiالنسور
توشحها مائجات iiالغيوم
رقيت أعاليها iiمفرداً
وخلفت جسميَ في iiالهامدات
وأطللت من فرجات iiالضباب
تجردت من صفة iiالهالكين
وقد غبت عني كأن لم iiأكن
وأنسيت أني ابن هذا iiالتراب
بكاء على أمل iiلامع
وغلغل في عالم iiغامض
* * ii*
هلمي افتحي كوة iiللضياء
فليس لنا أمل iiبالربيع
وما العمر غير ربيع الشباب
تجوس به الذكريات العذاب
إذا طاح طاحت مسالي الوجود
وصار إلى عالمٍ iiموحش
* * ii*
أسيت لعمر تولى iiسناه
فيالك من عمر iiضائع
هوى النجم من شرفات الحياة
* * ii*
أفاتك أني جمّ iiالجروح
فوليت عني iiوخلفتني
* * ii*
أموت وقيثارتي ما iiتزال ... على معطف السهل iiوالرابيهْ
فعطَّرتِ الحقلَ iiوالساقيهِ
كما تلعب الطفلة iiاللاهيه
فتغريه بالمقلة iiالرانيه
وألوانه العذبة iiالسابيه
فتهتز من وجهه iiصابيه
فلم تبق زاوية iiخاليه
بأحلى مطارفه iiالكاسيه
تأرج بالنفحة iiالذاكيه
تنغِّمَ رائحةً iiغاديه
تعايا من الخمرة iiالهانيه
* * ii*
مفضضة الثوب iiوالحاشيه
فتمشي إليه الدنا iiحابيه
تمايد حافلة iiحانيه
تجدد أعيادها الباهيه
ولم تخل من عطرها iiناحيه
بهينمة النسمة iiالساليه
حنيناً لشبّابة الراعيه
فتخفت من ناره iiالصاليه
فبان من النغمة iiالفاشيه
جديد الرؤى والمنى iiالهانيه
* * ii*
لنشرب فرحته iiثانيه
وحنت إلى البسمة الضاحيه
تغلغل في المقلة iiالساهيه
تصاوير من مهجة iiباكيه
وتخشع فيها الرؤى جاثيه
روايات أحزانها iiالطاغيه
وما تضمر العيشة iiالباغيه
تبدد في السكرة iiالغاشيه
سوى ذكرة حلوة iiساجيه
وترجع نشوته iiالماضيه
تناسته أيامه الخاليه
وتلمع فيه المنى iiالغانيه
تنيه بأحلامها iiالغاويه
أزاهيرها الغضة iiالناديه
* * ii*
ونسرد حكاياتها iiالنائيه
ولولا الهوى لم تكن iiغاليه
تناثرن من أكبد iiشاكيه
كما تأرج الزهرة iiالناميه
وأدركن من دائه iiماهيه
فإن له ألسناً iiحاكيه
تناقلها الأنفس iiالصاغيه
شكايات أضلاعه الحانيه
وإرنان أفيائه iiالواهيه
فيرتاح من شجوه iiثانيه
فيفرح بالمنحة iiالراضيه
فتحيا بها المهج iiالداميه
* * ii*
تفردت بالدمعة iiالقاسيه
فتخفى ولا هي iiبالهاميه
* * ii*
وأطرقت راهبة iiخاشيه
ومن غاص في اللجة iiالطاميه
وخفت من الضفة iiالتاليه
وأين المفرّ من iiالهاويه
ولا الطير صادحة iiشاديه
وأحلامه الحلوة iiالزاهيه
تحوم بأرجائها iiعاريه
وما ضم من صور iiساميه
وغبطته اللذة iiالشافيه
ولا ترهبي الراحة iiالناجيه
إذا حُمَّ يوم النَّوى iiواقيه
سوى حرقة مُرَّة iiواريه
ترفّ بها الذِّكَر iiالقاصيه
أشيع أمواهه iiالجاريه
وأستقبل الفكر الآتيه
فأختار من فمها iiالقافيه
لو اني لأشعارها iiراويه(55/1)
هواجس غامضة iiخابيه
كأن بها جنة iiباديه
وأسمع ألحانه iiالخافيه
وأكرع سكرته iiالصافيه
وعيشته الوحشة iiالجافيه
* * ii*
تضيع بها الأنفس iiالرائيه
وأطياف أجنحها iiالضافيه
وروحيَ سباقة iiحاديه
تطيف به الصور iiالفانيه
على عالم الرمم iiالباليه
ومتعت بالصفة iiالباقيه
سوى نفحة سمحة iiعاليه
وضجعته المرة iiالباغيه
تطاير في الفينة iiالصاحيه
أمانيه ساخرة هاذيه
* * ii*
لننسى بها الكوة الداجيه
ونفحته العذبة iiالساريه
ربيع الهوى والرؤى iiالوافيه
ويغمره الحبّ iiوالعافيه
وغابت مفاتنه iiالحاليه
كصحراء خالية iiخاويه
* * ii*
كإيماضة الشعلة iiالوانيه
كما تنثر الباقة iiالذاويه
فأمست على إثره iiهاويه
* * ii*
أعيش على يدك iiالآسيه
أحن إلى الساعة iiالقاضيه
* * ii*
تنوح على مهجتي iiالصاديه(55/2)
آراء المفسرين في عقيدة التثليث
دراسة في تفاسير الرازي وابن عاشور وسيد قطب (1/4)
د. بدران بن الحسن 24/12/1424
15/02/2004
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من دعا بدعوته إلى يوم الدين، وبعد؛
فإن مسألة العقيدة في الله من أهم القضايا التي لقيت عناية بالغة من القرآن الكريم، ولقد أكد القرآن ذاته أن رسالة الأنبياء جميعا كان محورها الدعوة إلى إخلاص العبودية لله تعالى بتوحيده ونفي الشركاء عنه {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، وما من نبي إلا ودعا قومه إلى عبادة الله وحده {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.
غير أن الإنسان، الذي {كان ظلوما جهولا}، وكان {أكثر شيء جدلاً}، سرعان ما ينسى هذه الحقيقة التي هي أم الحقائق التي تحتاج إلى كبير عناية، فحدث الانحراف من أول وهلة ترك الإنسان يواجه مصيره، كما حدثت التوبة من الله على هذا الإنسان لما تاب وأناب ورجع إلى ربه، {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}، ولهذا كانت سلسلة النبوة مستمرة مع الإنسان تعمل على تربيته، ولقد أحاط الأنبياء عليهم السلام البشرية برعايتهم، وأرشدوا الناس إلى سواء السبيل، وارتقى الوحي بالبشرية إلى أن اقتضت الحكمة الإلهية أن ترسل إلى الناس بالرسالة الخاتمة التي تستمر مع الإنسان إلى يوم الساعة، هذا اليوم الذي جاءت الرسالة الخاتمة وهو يسابقها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {بعثت أنا والساعة كهاتين}، ولهذا تضمن القرآن الكريم الأدلة القاطعة على وحدانية الله تعالى، وفصل في انحرافات الأمم السابقة في عقيدتها، وكان القرآن قد فصل في انحرافات أهل الكتاب بشكل كلي، حيث تناول نقض اعتقادات اليهود، كما نقض اعتقادات النصارى القائمة على التثليث.
وهذا البحث محاولة لتناول آراء بعض المفسرين فيما يتعلق بتفسيرهم لآيات القرآن التي تتحدث عن عقيدة النصارى في الله تعالى وفي عيسى عليه السلام. وقد وقع الاختيار على كل من فخر الدين الرازي، ومحمد الطاهر بن عاشور، وسيد قطب، على اختلاف أزمانهم وخلفياتهم، والقصد من ذلك محاولة استخراج بعض القواعد المنهجية التي استعملوها في الرد على هذه العقيدة الضالة، من خلال النظر في القرآن الكريم.
ومن أجل إنجاز هذا البحث فإني قد قمت بتقسيمه إلى تمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة، تناولت في التمهيد عقيدة التثليث عند النصارى؛ ماهيتها، وجذورها، وتطورها، وفي المبحث الأول تناولت الفخر الرازي؛ موجز عن حياته، ومنهجه في رد اعتقادات النصارى، وقواعد هذا المنهج، أما المبحث الثاني فتناولت فيه ابن عاشور؛ موجز عن حياته، ومنهجه، وقواعد منهجه في الرد على النصارى، وأما المبحث الثالث فتناولت سيد قطب؛ في موجز عن حياته أيضا، ومنهجه، وقواعد منهجه، ثم الخاتمة، ومراجع البحث.
أسأل الله العلي القدير أن يجعل عملي متقبلا عنده، وأن يكرمنا بالتحقق بالتوحيد، والالتزام بحقيقته، والسير على نهجه، فهو نعم المولى ونعم المجيب.
تمهيد:
أ- عقيدة التثليث عند النصارى:
بُعث عيسى بن مريم عليهما السلام إلى بني إسرائيل داعيا إلى الهدى والحكمة، ومناديا بإتباع شريعة موسى عليه السلام … وابتداءً إلى عبادة الله الواحد الأحد، ولم يرد ذكر التثليث البتة، لا في العهد القديم ولا في العهد الجديد، ولا حتى الأناجيل المحرَّفة.
غير أنه بظهور شخص بولص تحولت مفاهيم التوحيد عند بني إسرائيل من التوحيد الخالص المطلق الذي عرفوه في العهد النوحي والعهد الإبراهيمي والعهد الموسوي، وانحرفت إلى الدعوة إلى القول ببنوة النبي عيسى عليه السلام (أي أنه ابن الله في زعمهم) كما ورد في أعمال الرسل: "كان شاول مع التلاميذ … وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح أن هذا هو ابن الله" (1). وكما أورد الرازي أيضا، "قال بولص: ما كان عيسى إنسانا ولا جسدا ولكنه الله" (2). وذلك لأسباب تاريخية بحتة مثل الاضطهاد الذي كان يلاقيه اليهود آنذاك على أيدي الرومان، الأمر الذي أدى بهم إلى أن يزعموا أنهم أبناء الله المخلصين، لأن المسيح فيهم هو ابن الله الوحيد.
وتطور القول بالتثليث أكثر فأكثر بدخول الوثنيين -في هذه الدعوة العالم (3). - في النصرانية؛ من رومان، ويونانيين، ومصريين. فنقلوا معهم عقيدة التثليث المتأصلة في نفوسهم. فتطور الأمر من القول بالبنوة إلى التأليه، ومن ثمة كان التثليث ثمرة الاحتكاك بالعقائد الوثنية، والاتصال بها، بغية أن تكون الدعوة العيسوية دعوة عالمية حيث حاول أصحابها التأكيد على ما في العقائد الوثنية المعروفة آنذاك، لئلا يحدث التصادم.(56/1)
دخل بولص المسيحية، وادعى أنه أحد رسل وحواريي عيسى المسيح، "بعد ذهاب المسيح عن العالم، انضم إلى تلاميذه وحوارييه بحيلة ابتكرها، ثم زعم أنه رسول مثلهم (4)، بالرغم من أنه وكما كتب عن نفسه بقوله "أنا يهودي فريسي ابن فريسي على رجاء قيامة الأموات". ثم بادعائه أنه المعلم كانت له مجموعة رسائل، و "راح يقول في صراحة أنه الوحيد الذي أؤتمن على المسيحية الصحيحة وعلى إنجيل مجد الله المبارك"(5).
فعزل بولص المسيح عن اليهود وجعله مسيحيا، وذلك ليستطيع أن يجعل من الإله الذي تجسد ثم صلب فادياً من أجل خلاص العالم (6).
وفي هذه العبارات دعوة إلى العالم كله، ومناداة بعالمية دعوة المسيح، ونقل بذلك التوحيد في ديانة بني إسرائيل إلى التثليث، وقال بألوهية المسيح وألوهية الروح القدس … واخترع قصة الفداء للتكفير عن خطايا البشر.
ب- جذور فكرة التثليث:
كما سبقت الإشارة، فإن الاعتقاد بالثالوث الإلهي، أو فكرة التثليث، أو ما يسمى تجسيد الإله في ثلاثة أقانيم، فكرة قديمة كانت موجودة في الوثنيات التي سبقت ظهور النصرانية، وكما هو موجود في الكتب التي أرخت للأديان، فإن كلا من المصريين واليونان، والرومان، والهنود، والصينيين، عرفوا هذه الفكرة بشكل واضح. وتحقيقا للأمر، نورد موجزا عنها في هذه الديانات.
1. في مصر: نجد في أسطورة "أوزيرس" التي قدمت فكرة الإنسان المؤله وفكرة الإله المجسد في هيئة إنسان، وهي فكرة تقديس الآباء، هؤلاء الأباء الثلاثة هم أوزيرس، وإزيس، وحورس، الذين يمثلون الثالوث المصري المقدس (7). فالعقيدة المصرية القديمة كانت قائمة على تقديس ثالوث مكون من أوزيرس (الأب) وحورس (الإبن) وإيزيس (الأم)، كما يعتقدون أن الجميع يرجع إلى واحد (8). كما أن هذه الآلهة تجمع في الغالب في مراكز عبادتها في تساعيات، لكن هناك تصنيف آخر تجمع فيه الآلهة على هيئة ثالوث يرتبط فيه الإله المحلي الرئيسي بزوجته وابنه. ومن الواضح أننا نجد هنا استباقا للعقيدة المسيحية (9).
2. الديانة البرهمية الهندوسية في الهند: انحصرت آلهتهم في ثلاثة أقانيم، وذلك أنهم توهموا أن للعالم آلهة ثلاثة، وهي؛
أ- براهما: الإله الخالق مانح الحياة.
ب- سيفا أو سيوا: الإله المخرب المفني.
ج- ويشنو أو بشن: وهو الذي حل في المخلوقات ليقي العالم من الفناء التام.
وهذه الآلهة الثلاثة أقانيم لأله واحد في زعمهم، والإله الواحد هو الروح الأعظم، واسمه (آتما). كما أن بعض الآلهة حل في (كريشنا)، فحل اللاهوت في الناسوت (كريشنا)، كما يعبر المسيحيون في المسيح حيث يرون أن اللاهوت حل في عيسى.، ولهذا نجد أقوال المسيحيين تقارب الاعتقاد الذي يعتقده الهندوس في كريشنا حتى أوشكا أن يتطابقا، وإذا كانت البرهمية أسبق من النصرانية المحرفة، فإن اللاحق عادة ما يتأثر بالسابق (10). وفي حوالي القرن التاسع قبل الميلاد وصل فكر الكهنة الهنود إلى الاقتراب من فكرة الحلول ووحدة الوجود، فقد جمعوا الآلهة في إله واحد يصدر منه العالم (11). فهو الذي أخرج العالم من ذاته، وهو الذي يحفظه، ثم يهلكه ويرده إليه، وأطلقوا عليه ثلاثة أسماء؛ براهما: من حيث هو موجد، وفنشو: من حيث هو حافظ، وسيفا: من حيث هو مهلك (12). وهكذا فتح الكهنة الهنود الباب أما النصارى ليقولوا بالثلاثة في واحد، وواحد في ثلاثة، أي بالتثليث.
3- البوذية والتاوية في الصين؛ بالرغم من أن بوذا كان هنديا إلا أن معظم أتباع البوذية هم من غير الهنود، بل من الصينيين واليابانيين والكوريين وغيرهم، ويعتبر بوذا مؤسس الديانة البوذية، وقد أحيطت حياته بالقصص والأساطير، مثلما فعل النصارى بحياة عيسى عليه السلام فيما بعد، إذ زعم البوذيون أن أم بوذا بشّرت به في منامها، وأن ولادته سبقتها معجزات، وأن الإله حل فيه (13). وتعتبر فكرة الحلول أهم فكرة وأكثرها مركزية في البوذية، وهذه أدت إلى ما يسمى بفكرة التناسخ، أو الميلاد المتكرر للروح، لتحل في الروح الأعظم، الذي هو بوذا.
أما التاوية التي تأسست على يد (لاو تسي-Lao-tse) فإن "أهلها يعتقدون أن العالم خلق من إله السماء (الإله الأب) وإله الأرض (الإله الأم)، أما (تاو) الذي يعني الطريق، فإنه المظهر الذي تتجسد فيه الحقيقة العظمى، و(تاو) تصدر عنه الوحدانية، والوحدانية يصدر عنها الثنائية، والثنائية يصدر عنها التثليث، ومن التثليث يُخلق كل شيء"(14).
ومما سبق يتضح أن فكرة التثليث كانت سائدة عند أهل كل الديانات الوثنية القديمة، وكما يذكر الأستاذ أحمد شلبي "أن عقيدة الثالوث ترجع إلى أكثر من خمسة عشر قرنا قبل مولد المسيح" (15).
جـ- ماهية التثليث عند النصارى:(56/2)
بعد ذهاب المسيح عليه السلام، لاقى المسيحيون أو النصارى (اليهود المتنصرون أساساً) ألوانا شتى من العذاب والمقاساة على يد اليهود المناهضين لدعوة المسيح، بعد أن كانوا ينتظرون مقدم المسيح المنتظر المنقذ الذي بشرت به التوراة، وبعد أن باشر المسيح دعوته ناهضوه، وادعوا بأنه خذلهم. وعلى يد الرومان أيضا كانت معاناة النصارى الأوائل، وطيلة ثلاثة قرون من وقوف الرومان الوثنيين في وجه الدعوة المسيحية ومقاومتهم لها بشتى الطرق، انمحت من المسيحية ملامح صفاتها الأولى، ليختلف النصارى بعد ذلك في طبيعة رسولهم؛
- هل هو الرب تجسد في الإبن وحلّ في جسد.
- أم أنه الابن الذي ظهر في صورة بشر ليصلب تكفيراً عن الخطيئة الأولى.
-أم القول بالتثليث: الرب، والابن، والروح القدس.
هذه الاختلافات دامت عقودا من الزمن حتى انعقد مؤتمر نيقية سنة 325 ميلادية، ليفصل في الخلاف، ويقول كلمة الفصل بأمر من الإمبراطور قسطنطين من حدوث اضطرابات بين أقاليم إمبراطوريته في أمر العقيدة، وذلك بعد الإقرار بمرسوم (ميلان) الذي جعل النصرانية ديانة مرخصة في الإمبراطورية الرومانية.
فصدر قانون الإيمان بقراراته الثلاثة:
1. إثبات ألوهية المسيح وتقرير عقيدة التثليث.
2. تكفير آريوس (16). وطرده، وهو من كان ينادي ببشرية السيد المسيح عليه السلام.
3. إحراق جميع الرسائل والكتب التي لا تؤمن بالتثليث، أو التي تقر بشرية المسيح (17).
ثم انعقد ثاني مؤتمر - وهو مؤتمر القسطنطينية 381 ميلادية انتهى فيه إلى تقرير ألوهية روح القدس وأنه الرب المحيي (18). وإذا أجملنا عقائد النصارى في عيسى عليه السلام فإنها لا تخرج عن آراء محورها التثليث، حيث يعتقد النصارى:
أ- أن الله ثلاثة في واحد، أو واحد في ثلاثة، هم:
الله، وعيسى، والروح القدس. أو الأب، والابن، والروح القدس (19).
وفي الأناجيل نصوص كثيرة وردت فيها ألفاظ الأب والابن والروح القدس؛ ففيما يخص الأب والابن فقد ورد في إنجيل متى: "فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتيا عليه، وصوت من السماوات قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (20). وفي إنجيل يوحنا: "أنا والأب واحد" (21). و"أيها الأب القدوس احفظهم في اسمك الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن" (22) ، و "وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحدا، كما نحن واحد" (23). أما الروح القدس فقد جاء في إنجيل متى: "أضع روحي فيه" (24). أما في إنجيل لوقا فقد ورد: "ونزل عليه الروح القدس" (25). وفي متى أيضاً: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس" (26).
ب- كما يعتقدون أن الجميع إله واحد؛ الأب إله واحد، والابن إله واحد، والروح القدس إله واحد (27).
وقد ورد في الأناجيل أيضا نصوص كثيرة تذكر هذا الاعتقاد، ففي أحد رسائل بولص يقول: "نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم آمين" (28) ويستخلص النصارى منها برهاناً دالاًّ على صحة التثليث وتساوي الأقانيم الثلاثة (29).
أما في إنجيل لوقا فورد: "وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة إلى عذراء … واسم العذراء مريم … فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟ فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك" (30). وفي إنجيل مرقس: "وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلا عليه" (31). و "كلكم ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم" (32).
ج- أن الله تعالى: جوهر واحد، وهو مجموع ثلاثة أقانيم:
أقنوم الذات، وأقنوم العلم، وأقنوم الحياة (33). أو أقنوم الوجود، وأقنوم العلم، وأقنوم الحياة (34). والملاحظ أن أقنوم الذات (الله)، وأقنوم العلم (كلمة الله)، وأقنوم الحياة (الروح القدس) لها صلة بالفلسفة الإغريقية (35). كما سنرى فيما يأتي. والألفاظ الدالة عليها في واردة في الأناجيل، ففي سفر رؤيا يوحنا: "ويدعى اسمه كلمة الله" (36). وفي يوحنا أيضا: "في البدء كان الكلمة والكلمة عند الله -وكان الكلمة الله" (37). وكذلك: "والكلمة صارت جسدا وحلّ بيننا" (38). وفي سفر الخروج: "هكذا نقول لبني إسرائيل - يهوه إله آبائكم- إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم" (39). ، وفي سفر التكوين: "وروح الله يرف على وجه الحياة" (40).
فهذه مجمل اعتقادات النصارى التي رويت عن مذاهبهم المتفرقة بين قائل ببنوة عيسى المسيح لله تعالى ومن ثم حلوله واتحاده به. وبين قائل بانفراده بالألوهية مقابل ألوهية الله تعالى، وفريق ثالث قائل بوحدة الجوهر وثلاثية الأقانيم.(56/3)
هذه الاعتقادات كلها، وجدت من المفسرين المسلمين من يتولى مناقشتها، والرد عليها، وإبطالها، مستعملين في ذلك أدلة مختلفة، تنوعت بين النقلية والعقلية والمنطقية والفلسفية غايتها نقض ما يعتقد به النصارى اعتقادا راسخا لا يسهل تحرير العقل منه. وبين دعوة إلى التبصر والنظر في فطرة الإنسان وما ترنو إليه نفسه من توحيد فطري خالص خالٍ من الأباطيل والأوهام.
وغاية هذا البحث هي دراسة آراء المفسرين المسلمين في مسألة عقيدة التثليث عند النصارى، ولذلك وقع الاختيار على ثلاثة مفسرين؛ هم الرازي وابن عاشور وسيد قطب، إذ يمثلون ثلاثة مناهج تكاد تكون مختلفة -كما سنرى- في التفسير، وفي مناقشة عقيدة النصارى، حيث يستند كل واحد منهم في ذلك إلى بنيته الفكرية، والإطار الثقافي الذي ينتمي إليه، والمنهجية التي ينتهجها، والمجال التاريخي الذي عاشه بكل ملابساته وعوامله المختلفة.
ولعل البحث حين يسعى إلى استكناه هذه الآراء، وكيفية تعاملها مع قضية واحدة، من خلال مناهج مختلفة، فإن ذلك يؤدي إلى نتائج على مستوى تقييم التجربة الفكرية الإسلامية في مجال منهجية الرد على النصارى وأصحاب الاعتقادات الباطلة، وكيفية تطورها وارتباطها بالتطور التاريخي، وفي نفس الوقت نتعرف على كيفية تغير الفهوم وتطورها فيما يتعلق بفهم النصوص القرآنية ارتباطا بإحداثيات الزمان والمكان، أي ارتباطا وتأكيدا على مدى صلة فهم النص القرآني بما يكتسبه الإنسان من خبرة علمية ومعرفية ومنهجية.
وهذا أيضا يؤدي بنا إلى بناء منهج علمي منفتح على الخبرة البشرية، ومرتكز على الوحي، ويهدف إلى تأكيد مركزية الحقيقة القرآنية، ونقض غيرها من الأباطيل في حق الله تعالى، مثلما هو في عقيدة التثليث عند النصارى.
(1) (1) أعمال الرسل، إصحاح عدد19-20.
(2) التفسير، ج8/ ص35.
(3) كان بولص يهدف إلى جعل المسيحية دعوة عالمية، فاتجه بها إلى التوفيق بينها وبين العقائد الوثنية حتى يستميل الوثنيين إلى دعوته ويقبلونها.
(4) محمد عزت الطهطاوي، النصرانية في الميزان، الطبعة الأولى، (دمشق: دار القلم، 1995)، ص144.
(5) أعمال الرسل؛ 23/6.
(6) رسالة ثيموثاوس الأولى؛ 1/11 نقلا عن: أحمد شلبي، المسيحية، الطبعة الثامنة، ( القاهرة: مكتبة النهضة ، 1984)، ص114.
(7) حسن نعمة، ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة، دار الفكر اللبناني، ص99.
(8) محمد أبو زهرة، مقارنة الأديان؛ الديانات القديمة، دار الفكر العربي، ص12
(9) بارندر جنفري، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة عالم المعرفة (173)، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1993)، ص52.
(10) أبو زهرة، الديانات القديمة، ص ص23-25.
(11) هذه الفكرة يعبر عنها بنظرية الفيض، كما هي عند المتصوفة الغنوصيين، أتباع الأفلاطونية المحدثة، مثل أفلوطين، والفارابي، وابن سينا. وهي أيضا جوهر العقيدة الهندوسية. انظر Margaret Smith, An Introduction To History Of Mysticism, (Amsterdam: Philo Press), PP55-62.
(12) أحمد شلبي، أديان الهند الكبرى، ط8، (القاهرة: 1986)، ص52.
(13) أبو زهرة، الديانات القديمة، ص47.
(14) An Introduction to History of Mysticim, PP55-56.
(15) أديان الهند الكبرى، ص224.
(16) آريوس: كان شيخا لكنيسة بوكاليس بمدينة الأسكندرية، وتزعم العوة إلى التوحيد والمنادة ببشرية عيسى عليه السلام، مما أدى إلى تكفيره وطرده من قبل الامبراطور قسطنطين وأنصاره من الذين حضروا مؤتمر نيقية.
(17) محمد عزت الطهطاوي، الميزان في مقارنة الأديان، الطبعة الأولى، (دمشق: دار القلم، 1993)، ص148؛ شلبي، المسيحية، ص148.
(18) الميزان في مقارنة الأديان، ص148، ص168؛ شلبي، المسيحية، ص156.
(19) محمد علي الخولي، حقيقة عيسى المسيح، الطبعة الأولى، ( الأردن: دار الفلاح، 1990)،ص23؛ سيد قطب، في ظلال القرآن، ج5/ ص2664.
(20) متى، ص3 عدد 17.
(21) يوحنا، ص20 عدد 30.
(22) يوحنا، ص17 عدد11.
(23) يوحنا، ص17 عدد 22.
(24) متى، ص12 عدد 18.
(25) لوقا، ص3 عدد23.
(26) متى، ص28 عدد 19.
(27) أبو البقاء الجعفري، الرد على النصارى، تحقيق: محمد محمد حسانين، الطبعة الأولى، ( القاهرة: دار التوفيق، 1988)، ص ص78-79.
(28) رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس، ص13 عدد14.
(29) النصرانية في الميزان، ص299.
(30) لوقا، إصحاح1 عدد 26-35.
(31) مرقس، إصحاح1 عدد 9-10.
(32) أعمال الرسل، إصحاح 1 عدد8.
(33) ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج6/ ص153.
(34) الرد على النصارى، ص77.
(35) النصرانية في الميزان، ص29.
(36) يوحنا، سفر الرؤيا، ص19 عدد13.
(37) يوحنا، إصحاح1 عدد1.
(38) يوحنا، 1 عدد 14.
(39) سفر الخروج، 1 عدد 15.
(40) سفر التكوين، ص1 عدد 2.
آراء المفسرين في عقيدة التثليث
دراسة في تفاسير الرازي وابن عاشور وسيد قطب 2/4
د. بدران بن الحسن 28/12/1424
19/02/2004(56/4)
المبحث الأول: الفخر الرازي
موجز عن الرازي :
يعتبر الإمام فخر الدين الرازي (543-606هـ) علما من أعلام الفكر الإسلامي الذين كانت لهم منجزات علمية معتبرة خلال النصف الثاني من القرن السادس الهجري، هذا القرن الذي شهد انقسامات سياسية كثيرة داخل الخلافة العباسية، وكذلك تصاعد الخطر الخارجي على أرض الإسلام، من الغرب على يد الصليبيين، ومن الشرق على يد التتار الزاحفة من الشرق الأقصى(1). بالإضافة إلى الجانب السياسي، فإن هذا القرن والذي سبقه كانا قرني أسلمة المنطق والنظر الفلسفي -إن صحّ التعبير - بعد أن بدأ هذا الجهد على أيدي شيوخ المعتزلة من أمثال العلاف والنظام في القرن الثالث، ومن بعدهما الأشعري والباقلاني والجويني، ثم الغزالي وتلاميذه، بعد أن كان الفلاسفة الإسلاميون أمثال الفارابي وابن سينا وغيرهما، اتبعوا الفلسفة اليونانية في كل ما ذهبت إليه، مما أدى بالغزالي إلى ما يمكن تسميته بالثورة الفلسفية التصحيحية (2). ثم تابعه الرازي في الأمر، ولم يقتصر تصديه للفلسفة اليونانية فقط، بل تعداه إلى مناظرة النصارى واليهود ومختلف النحل الباطلة، كما أنه تصدى لمناقشة كثير من الفرق الإسلامية في وقته من كرامية ومعتزلة وحشوية وباطنية وغيرهم، ورد على المبتدعة وأفحمهم. فنقمت عليه كثير من الفرق، مما جعلها تطلق ألسنتها باتهامه بمختلف التهم التي تسقط من قيمته في أعين الناس بعد أن أعياهم الرد عليه بمنطق الحجة والبرهان (3).
اشتهر الرازي بابن الخطيب، والإمام، وشيخ الإسلام، وكان مبرزا في كثير من العلوم؛ في الفلسفة والكلام، وأصول الفقه، والفقه، والخلاف، واللغة، والتفسير، وله في كل هذه الحقول المعرفية مؤلفات تنبئ عن قدرته العلمية الواسعة، وتحكمه في أدواتها بشكل جعله أحد الأئمة المشهود لهم بالقدر الأوفر من التأثير فيمن لحقهم من أجيال الإسلام. ومن مؤلفاته: "المحصول" في أصول الفقه"، و"مفاتيح الغيب" أو "التفسير الكبير" في التفسير، وله "أساس التقديس" في العقائد وغيرها (4).
يقول عنه ابن خلدون: "ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة وقرأه الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة … فسبروا قواعد ومقدمات فن الكلام بمعيار المنطق… فكان أول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي، وتبعه ابن الخطيب" (5)، وكأن ابن خلدون يشير إلى كتاب (معيار العلم) للغزالي، الذي احتفى فيه بالمنطق وجعله القسطاس الذي توزن به مدارك العقول، وكذلك مقدمة المستصفى (للغزالي أيضاً)، والتي هي مقدمة منطقية في مراتب الإدراك واليقين، واشتراط العلم بالمنطق.
منهجه في الرد على اعتقادات النصارى:
كما سبقت الإشارة في تمهيد هذا البحث، فإن مجمل اعتقادات النصارى ثلاث، ولهذا كانت مناقشات الإمام فخر الدين الرازي للنصارى تدور في ثلاثة محاور، ومن خلال دراسة تفسيره للآيات المتعلقة بالتثليث، فإنه كان يميز بين هذه الاعتقادات الثلاثة. وفي هذا البحث فإني اخترت بعض الآيات التي لها صلة بالموضوع، وكان للإمام الرازي فيها رأي مميز، ورد على عقيدة النصارى، ومن هذه الآيات نجد ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [البقرة 116-177]، فمن هذه الآية يتوجه الرازي إلى نقض بنوة المسيح عليه السلام لله تعالى، وإثبات عبوديته مثل بقية المخلوقات التي ذكرتها الآية، فهو يستعمل الدليل العقلي للبرهان على استحالة أن يكون عيسى ابنا لله تعالى، وذلك من أوجه؛
1. دليل الوجوب والإمكان: وذلك "أن كل ما سوى الموجود الواجب بذاته ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته محدث، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود، والمخلوق لا يكون ولداً" (6)، ولتحديد هذا المفهوم أكثر فإن الرازي ذهب إلى الحديث عن استحالة اجتماع موجودين واجبين لذاتهما، فهذا يؤدي إلى اشتراكهما في وجوب الوجود، وهذا يؤدي إلى التركيب، لكن التركيب بينهما يؤدي إلى نقض وجوب الوجود والتحول إلى إمكانية الوجود، وهذا خلف، فالمصير إلى أن كل ما يحتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محتاج إلى المؤثر، وهذا يقود إلى القول بأن ممكن الوجود محدث، فهو مخلوق.
2. دليل القدم والحدوث: فالولد المضاف إما أن يكون أزليا وإما محدثا، فإن كان أزليا "لم يكن حكمنا يجعل أحدهما ولداً والآخر والداً أولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكما مجرداً من غير دليل" (7)، والحكم من غير دليل هو محض الهوى والتقول، ولا يعتد به. وإن كان الولد محدثا "كان مخلوقا لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له" (8). وبهذا فإن عيسى محدث باعتراف النصارى أنفسهم، من خلال قولهم بميلاده وموته، فهو مخلوق ولا أزلية له، وبطلت مقولة البنوة لله كما يزعمون.(56/5)
3. دليل المجانسة: ومضمون هذا الدليل أن "الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد" (9)، فلو كان لله ولد، لكان مشاركاً له من بعض الوجوه، وممتازا عنه من وجوه أخرى، وهذا يقود إلى القول بأن كل واحد منهما مركب ومحدث وذلك محال، لأن الله غير محدث، والنصارى لا تقول بذلك، بينما عيسى محدث من خلال ميلاده، إذ لم يكن فكان، ومن هنا فإن المجانسة ممتنعة، إذن فالولدية ممتنعة بالتبع.
4. دليل الكمال وعدم العجز: ومعناه "أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه، ورجاء الانتفاع به، فعلى هذا كان إيجاد الولد إنما يصح على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة"(10)، غير أن العجز والحاجة والفقر محال في حق الله تعالى، فهو المستغني عن العالمين، والمتصف بصفات الجلال والكمال، ولهذا يورد الرازي الآيات التي احتج به الله سبحانه وتعالى على استغنائه عن الولد، وذلك في قوله تعالى: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} [مريم:34]، وقوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إداًّ تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداًّ، أن دعوا للرحمن ولداً، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم:88-93]. فالله سبحانه وتعالى يشنع على الذين نسبوا له الولد، ويحاججهم بأنه مستغن عن الولد، وأن ذلك محال، ولا ينبغي في حقه جل جلاله، لأنه مالك السموات والأرض وما بينهما، وكل من فيهما وكل ما فيهما ملك له سبحانه، فما حاجته للولد، فالأمر أمر ملك وأمر خلق، ولله القدرة على أن يخلق ما يشاء وكيف يشاء، بأن يقول له كن فيكون.
ثانياً: قوله تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 171-172].
ففي هذه الآيات يبدو أن الرازي -عليه الرحمة والرضوان- يتجه إلى استعمال أدلته التي ذكرناها في الآيات السابقة، بالإضافة إلى استعمال دليل آخر، وهو الاستدلال بالقرآن ذاته، حيث فسر كلمة (كلمة منه)، و(روح منه) بآيات أخرى من القرآن، وفي رأي الرازي فإن هذه الآيات ردت اعتقادات النصارى الثلاث في المسيح؛(56/6)
1. رفض القول بالحلول: فالنصارى بالغوا في تعظيم عيسى عليه السلام فجعلوه إلهاً، "فلهذا قال للنصارى {لا تغلوا في دينكم} و{ولا تقولوا على الله إلا الحق}، يعني لا تصفوا الله بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان وروحه" (11)، بل المسيح عيسى بن مريم عبد من عباد الله ورسله، و{كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء من الآية 171]، ويستشعر الرازي الإشكال الذي وقع فيه النصارى، وهو تأليههم لعيسى من خلال قولهم بأنه كلمة الله وروحه فيدفعهم ذلك إلى القول بالحلول والاتحاد بين اللاهوت والناسوت، غير أن القرآن أكد القول بأن عيسى كلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم. ويلجأ الإمام الرازي إلى البحث عن معنى "الكلمة" وفي هذه المرة لا يستعمل الأدلة الفلسفية بقدر ما يلجأ إلى المنطق القرآني ذاته، من خلال إجابة القرآن على هذا الإشكال، وهو قوله تعالى: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}[ آل عمران: 59]، فلماذا لا يستغرب النصارى خلق آدم، ويستغربون ولادة عيسى، والآية في خلق آدم أدعى إلى تأليهه من تأليه عيسى، فما داموا لا يؤلهون آدم فمن باب أولى عدم تأليه عيسى، ولعلنا نقول أن في هذه الآية دليلا عقليا هو قياس الأولى، أو بتعبير آخر هو الاستواء في طريقة الخلق. وكما قال الرازي: "والمعنى أنه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة" (12) كما أشارت الآية. وينتقل بنا الإمام إلى الحديث عن (الروح)، ويرى أن في هذه المسألة عدة وجوه؛ الأول: أنها تشريف، لأن عيسى خلق من غير نطفة الأب بل من نفخة جبريل عليه السلام، فهي علامة تشريف، أما (منه) فهي إضافة إلى الله تعالى، والمراد منها إضافة نسبة وتشريف، أي أن الله شرّفه وأعلى من شأنه. والثاني: أنه كان سببا لحياة الخلق في أديانهم، ولذلك قال الله تعالى في شأن القرآن: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} [الشورى: 52]، لأن القرآن أحي الناس لما أخرجهم من الظلمات إلى النور (13). الثالث: روح منه أي رحمة منه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: { إنما أنا رحمة مهداة} فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث كان يرشدهم ويهديهم فإنه سماه روحا منه. والرابع: أن الروح بمعنى النفخ في كلام العرب، فالروح عبارة عن نفخة جبريل، وقوله (منه) أي أن النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه، ومثله قوله تعالى {فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: 12]. أما الخامس: فإن قوله (روح) أدخل التنكير في لفظ (روح) وذلك يفيد التعظيم، بمعنى أن من الأرواح الشريفة القدسية العالية (14).
2. نقض القول بالأقانيم الثلاثة: فمن قوله تعالى {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} يتوجه الرازي إلى الحديث عن مسألتين؛ الأولى: أن الله تعالى ينهى النصارى عن القول بأن الله سبحانه واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم، فرغم أن النصارى يزعمون بأنهم يثبتون ثلاث صفات لذات واحدة، فإنهم يجوزون عليها الحلول في عيسى وفي مريم بأنفسها، إذ أنهم يجوزون الحلول في الغير والمفارقة لذلك الغير مرة أخرى، فهم في حقيقة الأمر يثبتون ذوات متعددة قائمة بنفسها، رغم أنهم يسمونها صفات. إذ لو اقتصروا على مفهوم الصفات لكان الأمر مقبولا، ولذا قال تعالى: {ولا تقوا ثلاثة انتهوا}، فلو كانت صفات فقط لما نهى الله عنها، ونحن نقول أن الله هو الملك القدوس السلام العالم الحي القادر المريد… الخ. فالصفات غير الأقانيم التي هي ذوات متعددة. أما الثانية: فقوله (ثلاثة) خبر لمبتدأ محذوف، ويرى الرازي أن هناك اختلاف بين اللغويين والمفسرين في تعيين المبتدأ المحذوف، فمنهم من يرى أن المقصود ولا تقولوا الأقانيم ثلاثة، ومنهم من يرى أن المقصود ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة، ويحتج الرازي بالقرآن لتحديد المقصود، فيرى أنه يتضح من قوله تعالى: { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116]، فنفهم من القرآن أن النصارى يقولون: أن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة (15). فالرازي هنا يرجع إلى الاستعمال اللغوي للفظ لتحديد المقصود من الآية، والرد على النصارى، من خلال الجواب القرآني عليهم.
3. إثبات عبودية المسيح لله تعالى: فمن قوله تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} يتناول الرازي مسائل ، ومن هذه المسائل؛ أن الله تعالى بعدما أقام الحجة -كما سبق في الآيات الأولى- على أن عيسى عبد الله، ولا ينبغي أن يكون ولداً له، فإن القرآن أجاب عن شبهة دفعت بالنصارى إلى اعتقاد بنوة عيسى لله، وذلك أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويخبر عن الغيب، ويحي الموتى، فأجابهم القرآن بأن هذا ليس مدعاة لرفض عبادة الله من قبل عيسى، فإن الملائكة أيضا تأتي بالمعجزات، وبالرغم من ذلك فإنها تأتي إلى الله طائعة خاشعة، فكيف يستنكف المسيح عن عبادة الله بهذا القدر من العلم والقدرة، والملائكة تفوقه في القدرة والعلم، بل كلاهما عبد لله (16).(56/7)
ثالثاً: قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} [المائدة: 16-17]، ويثر الإمام الرازي سؤالاً مهما، وهو أن أحدا من النصارى لا يقول: إن الله هو المسيح بن مريم، فكيف حكى الله عنهم ذلك مع أنهم لا يقولون به (17). ويرى الرازي جوابا لهذا السؤال المهم الذي طرحه، بأن هنا يكمن مذهب الحلول، فإن النصارى لا يقولون صراحة بأن الله هو المسيح بن مريم، ولكن حينما يقولون بأن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام، فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتا أو صفة، فإن كان ذاتاً فمعنى هذا أن ذات الله تعالى حلّت في عيسى واتحدت به، فيكون عيسى هو الإله الحقيقي على هذا القول. وإن كان أقنوم الكلمة صفة، فإن انتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول، وبفرض انتقالهن فإن انتقال أقنوم العلم مثلا عن ذات الله تعالى إلى عيسى يلزم منه خلو ذات الله عن العلم، ومن لم يكن عالماً لم يكن إلهاً، فحينئذ يكون الإله هو عيسى على قولهم، ولذلك قال القرآن { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم} فإنهم وإن لم يصرحوا بهذا، فإن حاصل مذهبهم لا يحتمل غير هذا (18).
رابعاً: قوله تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدِّيقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراًّ ولا نفعاً والله هو السميع العليم} [المائدة: 74-76]. هذه الآية تخاطب النصارى الذين اعتقدوا بنوة أو ألوهية عيسى بن مريم، لنه أتى بالمعجزات، وولد من غير أب، وفي نفس الوقت لا يقولون بألوهية موسى عليه السلام بالغم من أن الله أجرى على يديه معجزات مثل معجزات عيسى أو أبلغ، كما أن النصارى ادعت البنوة لعيسى ولم تدعيه لآدم، بالرغم من أن عيسى خلق من غير أب فقط، بين آدم خلق من غير أم ولا أب، كما أن الرازي بالإضافة إلى استعماله لهذه المقايسة بين عيسى من جهة وبين آدم وموسى من جهة أخرى، وهي قياس الأولى، فإنه يتجه إلى دليل الحدوث ودليل العجز، فيستخرج من قوله تعالى: { كانا يأكلان الطعام} على أن عيسى يسري عليه العجز وأمه، كما أنه محدث، فالقرآن يجعله ابن مريم، وأنه ولد بعد أن لم يكن موجوداً، "فكل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن، وكل من كان كذلك كان مخلوقاً لا إلهاً" (19)، كما أنهما كانا محتاجين لأنهما كانا يحتاجان إلى الطعام ليتقوتا، و"الإله هو الذي يكون غنياً عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون إلهاً" من كان يحتاج إلى غيره. ثم أن الإله "هو القادر على الخلق والإيجاد، فلو كان إلهاً لقدر على دفع الجوع عن نفسه بغير طعام وشراب، فلما لم يقدر فكيف يكون إلهاً للعالمين" (20).
خامساً: قوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون}[التوبة:30]، من هذه الآية يناقش الرازي عدة مسائل؛ أولها: أن الله وصفهم بالكفر مثل المشركين لأنهم ينسبون لله الولد، وبها فهم "يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح جداًّ" (21)، ، وثانيها أن القرآن حكى عن النصارى قولهم بأن المسيح ابن الله، ويرى الرازي "أن هذه المسألة ظاهرة لكن فيها إشكال قوي" (22)، فما هو هذا الإشكال القوي الذي يراه الرازي؟، فكيف تكون القضية ظاهرة من جهة ومن جهة أخرى فيها إشكال؟(56/8)
الإشكال الذي يراه الرازي هو أن "المسيح صلوات الله عليه وأصحابه كانوا مبرئين من دعوة الناس إلى الأبوة والبنوة … وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعقل إطباق جملة محبي عيسى من النصارى على هذا الكفر؟ ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسد، وكيف قدر على نسبته إلى المسيح عليه السلام (23)، يورد الرازي جوابا عن هذا من خلال نقله عن المفسرين قولهم بأن السبب في هذا الانحراف يرجع إلى بولص وإلى الضغوط والمضايقات التي تعرض لها النصارى الأوائل على يد أعدائهم، غير أن الرازي لا يذكر من هؤلاء المفسرين الذين قالوا بهذا الرأي إلا الواحدي، كما أن الرازي يتفق مع كثير من مؤرخة النصرانية في نسبتهم هذه التطورات من التوحيد إلى التثليث إلى بولص (24)، وبشيء من الاختصار غير الدقيق يشير إلى التطورات التي حدثت في النصرانية وأبعدتها عن ما كان عليه عيسى وحواريوه، إذ رأى "أن لفظ الابن لعله ورد في الإنجيل على سبيل التشريف كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف، ثم أن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطرف الثاني، فبالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية، والجهال قبلوا ذلك، وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام، والله أعلم بحقيقة الحال"(25)، ومع العلم بأن الرازي كان على إطلاع على مذاهب النصارى، وعلى أناجيلهم، إلا أنه لم يذكر ذلك هنا، وكأنه لم يحفل بها، واكتفى بإيراد أقوال ليست من صميم ما جرى من تطورات في عقيدة النصارى كما سبق وأن ذكرنا في تمهيد هذا البحث، والله أعلم.
سادساً: قوله تعالى: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} [مريم: 30-33]. من هذه الآيات يثير الرازي مسائل عدة يعمل من خلالها على "بطال مذهبهم من جميع الوجوه" ، ولقد تطرق إلى عدة مسائل، هي؛ نقض ألوهية عيسى عليه السلام، والإجابة على شبهات النصارى، ورد مبدأ الحلول وبيان فساد القول به عقلا، وهو في ذلك يستعمل أدلة منطقية عقلية يمكن إدراكها لذوي العقول مهما كانت عقيدتهم، إذا اعملوا عقولهم، وتفصيل هذه المسائل كما يلي:
1. نقض ألوهية المسيح: ينطلق الرازي من مبدأ متفق عليه بيننا وبين النصارى وهو أن "الله سبحانه ليس بجسم ولا متحيز" (27). وذلك من وجوه؛ أولها إن اعتقدوا كونه متحيزا، بطل قولهم بإقامة الدلالة على حدوث الأجسام وحينئذ يبطل كل ما فرعوا عليه. والثاني إن اعتقدوا أنه ليس بمتحيز فحينئذ يبطل ما يقوله بعضهم من أن الكلمة اختلطت بالناسوت كاختلاط الماء بالخمر وامتزاج النار بالفحم لأن ذلك لا يعقل إلا في الأجسام، كما يبطل قول النصارى من أن الله أو صفة من صفاته اتحد ببدن المسيح أو بنفسه أو أن الله أو صفة من صفاته حل في بدن المسيح أو نفسه. لأن المسيح جسم ومتحيز والله تعالى لا هو بالجسم ولا هو بالمتحيز حسب القول الذي صدرنا به هذا الكلام.(56/9)
2. إبطال القول بالحلول والاتحاد: أما إبطال الحلول فإن الرازي ذهب إلى استعمال المنهج الفلسفي والطريقة الجدلية في نفي هذا الحلول، فالقول بالاتحاد" باطل قطعا، لأن الشيئين إذا اتحدا فهما حال الاتحاد، إما أن يكونا موجودين أو معدومين أو يكون أحدهما موجوداً والآخر معدوماً، فإن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد فالاتحاد باطل، وإن عدما وحصل ثالث فهو أيضا لا يكون اتحاداً بل يكون قولاً بعدم ذينك الشيئين، وحصول شيء ثالث، وإن بقي أحدهما وعُدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتحد بالموجود لأنه يستحيل أن يقال المعدوم بعينه هو الموجود فظهر بهذا البرهان أن الاتحاد محال" (28). ، ومع هذا فإن الرازي يذهب إلى تمييز مقامين للحلول؛ المقام الأول: ماهية الحلول، وهي سواء كانت ككون الشيء في غيره مثل كون ماء الورد في الورد أو حلول السمسم في النار، أو كانت حصول الشيء في غيره على مثال اللون في الجسم فإن كلاهما لا يكون إلا في الجسم والله ليس بجسم، أو كان الحلول بمعنى حصول الصفات الإضافية للذوات فإن هذا أيضا باطل لأن المعقول من هذه التبعية الاحتياج، والله مغني عن الحاجة، فبطل معنى الحلول. أما المقام الثاني: فهو نفي الحلول مطلقا سواء مع وجوب أن يحل أو مع جواز أن يحل، فالقسمان باطلان (29)، كما يرى الرازي. فالقول بالحلول ذاته باطل كما مرّ، وإنما القول بأنه لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يحل أو مع جواز أن يحل لأن ذلك يقتضي إما حدوث الله تعالى، أو قدم المحل وكلاهما باطل، فالأدلة التي سبقت في الآيات المذكورة سابقا تثبت أن الله قديم باتفاق مع النصارى، كما أن الجسم (عيسى) محدث، كما أن لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجا إلى المحل والمحتاج إلى الغير ممكن لذاته لا يكون واجبا لذاته، وهذا الذي ذكره الرازي وأسميناه دليل الكمال وعدم العجز. ويسترسل في الاستدلال بأدلة كلامية وفلسفية متعددة، لإبطال مسألة الحلول، مستعملا في ذلك أدلة الدور، والتسلسل، وغيرها مما يجعل من نقاشه صعبا على من ليس له خلفية عن المناهج الجدلية والعقلية التي يستعملها المتكلمون، وهي أدلة عقلية غاية في التجريد والتعقيد، وغير متيسرة لأي واحد أن يتابع تسلسلها وفهم مراميها، خاصة مع البعد عن الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه الرازي وهو حقل الكلام والفلسفة، ويبدو الرازي في كل هذا غزالي النهج.
ثم يذكر الرازي - وهو في سبيل إيراده الأدلة على إبطال قول النصارى- ما جرى بينه وبين بعض النصارى، فيورد إشكالا طرحه على النصارى وهو قوله: "هل تسلم بأن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول أم لا؟ فإن أنكرت لزمك أن لا يكون الله تعالى قديما لأن دليل وجوده هو العالم فإذا لزم من عدم الدليل عدم المدلول لزم عدم العالم في الأزل عدم الصانع (الله تعالى) في الأزل، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فنقول إذا جوزت اتحاد كلمة الله تعالى بعيسى أو حلولها فيه فكيف عرفت أن كلمة الله تعالى ما دخلت في زيد أو عمرو بل كيف أنها ما حلت في الهرة أو في الكل (30)، ، ولما احتج النصراني لقوله بالأفعال العجيبة التي جاء بها عيسى، احتكم الرازي إلى تسليم النصراني بأنه (لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول)، كما أنه احتكم إلى ما ثبت من معجزات بقية الأنبياء الذين يؤمن بهم النصارى، ومنهم موسى عليه السلام، ومع ذلك لم يقولوا بأنه إله أو حل فيه الله.
3. إثبات عبودية المسيح عليه السلام لله تعالى: ثم أن أحوال عيسى عليه السلام تدل على عبوديته لا على ألوهيته، ذلك "أنه كان مجتهدا في العبادة والعبادة لا تليق إلا بالعبيد فإنه كان في نهاية البعد عن الدنيا والاحتراز عن أهلها حتى قالت النصارى إن اليهود قتلوه ومن كان في الضعف هكذا فكيف تليق به الربوبية" (31)، كما أن المسيح إما يكون قديما وإما محدثا، لكن من المعلوم بالضرورة أنه ولد وكان طفلا ثم صار شاباً وكان يأكل الطعام ويشرب ويعرض له ما يعرض لسائر البشر، وإن كان محدثا كان مخلوقا ولا معنى للعبودية إلا ذلك (32).
قواعد المنهج عند الرازي: من خلال ما أوردناه من تفسير الرازي للآيات المتعلقة باعتقادات النصارى في المسيح، فإنه يمكننا أن نخرج بمجموعة من القواعد التي - في رأيي المتواضع- تمثل محددات لمنهج الرازي، استعملها في مناظراته للنصارى، وإبطاله لمذهبهم، ومن أهم هذه القواعد ما يلي:(56/10)
3. البرهان العقلي: حيث احتفى الرازي بالمنطق كثيرا، فكل الآيات التي استعرضناها، كان الرازي يناقش النصارى من خلالها، بأدلة عقلية قائمة على النظر العقلي، وهو يمزج في ذلك بين منهج الكلام ومنهج الإلهيات، وفي ذلك يقول ابن خلدون: "ثم خلط المتأخرون من المتكلمين علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها فصارت كأنها فن واحد… كما فعله الإمام ابن الخطيب" (33)، والفرق بين العلمين أن علم الإلهيات "علم ينظر في الوجود المطلق من الأمور العامة للجسمانيات والروحانيات، من الماهيات والوحدة والكثرة" (34)، أما علم الكلام فهو "علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين .." (35).
2. الاعتماد على المنهج الجدلي: وذلك من حيث استدراج الخصم إلى القول ثم محاكمته من خلال قوله، بإبطاله وإظهار تناقضه، كما يتبين ذلك من خلال ذكره لمناظرته لأحد النصارى الذي ناقشه في الدليل والمدلول وارتباط أحدهما بالآخر. إذ أنه حاججه من خلال قوله فألزمه.
3. تفسير القرآن بالقرآن: وتبين ذلك من خلال الآيات التي وردت في البحث، إذ أنه يورد الآية، ثم يورد ما يفسرها من القرآن ذاته، مثل تفسيره لقوله تعالى: { إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح} فقد فسرها بقوله تعالى: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}، وذلك لنفي البنوة ونفي الحلول، لما استغرب النصارى ميلاد المسيح من غير أب ونسوا آدم، وفي آدم الاستغراب أولى بمنطقهم.
4. عدم إيراد أي نص من الإنجيل: فرغم أن الرازي عرف عنه اطلاعه على كل الفرق والمذاهب في وقته، إلا أنه في تفسيره للآيات المتعلقة بعقيدة النصارى، لم يورد قولا من الإنجيل، ولعله في ذلك يهدف إلى الاكتفاء بالقرآن، الذي أورد كل أقوال النصارى في عيسى، ولا حاجة له في الأناجيل.
5. الميل إلى التجريد: الملاحظ على الرازي أنه يميل إلى التجريد ما أمكن، واستعمال أرقى مستويات النقاش العقلي المحض، ولم يتطرق في ذلك إلى المسائل العملية، ولا إلى واقع النصارى، وبالرغم من أنه أورد بعض الملاحظات المتصلة بتطور عقيدة النصارى من التوحيد إلى التثليث، إلا أنها كانت إشارة عابرة، ولا تعطي أولوية للتطور التاريخي للفكرة، وهذا اتساقا مع منهجه القائم على البرهان العقلي المجرد، والله أعلم.
(1) محمد العريبي، المنطلقات الفكرية عند الإمام الرازي، الطبعة الأولى، (بيروت: دار الفكر اللبناني، 1992)، ص17.
(2) الأستاذ عرفان عبد الحميد فتاح، "منهج المتكلمين: دراسة وتقويم"، إسلامية المعرفة، السنة الثانية/ العدد الثامن، ذو الحجة 1417هـ/ أبريل 1997م، ص97 وما بعدها.
(3) انظر: تاج الدين بن السبكي، طبقات الشافعية، الطبعة الأولى، مطبعة عيسى البابي الحلبي، ج8/ ص81.
(4) محمد صالح الزركان، فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية، دار الفكر، ص ص3-22.
(5)ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، الطبعة الثالثة، (القاهرة: دار نهضة مصر)، ج3/ ص1082.
(6)مفاتيح الغيب، ج2/ ص25.
(7)مفاتيح الغيب، ج2/25.
(8) مفاتيح الغيب، ج2/ ص ص25-26.
(9) مفاتيح الغيب، ج2/ ص26.
(10) مفاتيح الغيب، ج2/ ص26.
(11) مفاتيح الغيب، ج6/ ص117.
(12) مفاتيح الغيب، ج6/ ص117.
(13) مفاتيح الغيب، ج6/ ص117.
(14) مفاتيح الغيب، ج6/ ص ص 117-118.
(15) مفاتيح الغيب، ج6/ ص ص118-119.
(16) مفاتيح الغيب، ج6/ ص ص119-120.
(17) مفاتيح الغيب، ج6/ ص195.
(18) مفاتيح الغيب، ج6/ ص195.
(19) مفاتيح الغيب، ج6/ ص64.
(20) مفاتيح الغيب، ج6/ ص64.
(21) مفاتيح الغيب، ج8/ ص34.
(22) مفاتيح الغيب، ج8/ ص35.
(23) مفاتيح الغيب، ج8/ ص35.
(24) الطهطاوي، الميزان في مقارنة الأديان، ص144 ؛ وانظر، أعمال الرسل: 23/6 ؛ وكذلك رسالة ثيموثاوس الأولى؛ 1/11 نقلا عن: أحمد شلبي، المسيحية، ص114.
(25) مفاتيح الغيب، ج8/ ص36.
(26) مفاتيح الغيب، ج11/ ص210.
(27) مفاتيح الغيب، ج11/ ص210.
(28) مفاتيح الغيب، ج11/ ص211.
(29) مفاتيح الغيب، ج11/ ص211.
(30) مفاتيح الغيب، ج11/ ص213؛ وانظر: الرازي، مناظرة في الرد على النصارى، تقديم وتحقيق: عبد المجيد النجار، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1986)، ص ص26-27.
(31) مفاتيح الغيب، ج11/ ص213.
(32) مفاتيح الغيب، ج11/ ص214
(33) المقدمة، ج3/ ص1146.
(34) المقدمة، ج3/ ص1145.
(35) المقدمة، ج3/ ص1069.
آراء المفسرين في عقيدة التثليث
دراسة في تفاسير الرازي وابن عاشور وسيد قطب 3/4
د. بدران بن الحسن 6/1/1425
26/02/2004
المبحث الثاني: ابن عاشور
موجز عن ابن عاشور:(56/11)
إذا كان الرازي عاش في زمن تطور فيه النظر الفلسفي، وكثرت فيه الردود على الفرق المختلفة، بمنهج المتكلمين الذي اختطه المعتزلة وطوره الأشاعرة، وزاد عليه الرازي حين دمج الكلام بالإلهيات، فإن ابن عاشور عاش في زمن يختلف تماماً عن العصر السابق، وفي جميع مناحيه، سواء في جوانبه السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، إذ أن زمن ابن عاشور شهد سقوط الخلافة الإسلامية، وبروز ظاهرة الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي، وما انجر عن ذلك من تمزق ثقافي دام قرابة القرنين، إضافة إلى ركام التخلف الذي تراكم عبر القرون، غير أن ما يميز عصر ابن عاشور أيضا ذلك الجانب المضيء منه؛ والمتمثل في جهود التجديد التي انطلقت على أيدي الأفغاني وعبده وتلاميذهما منذ نهاية القرن الميلادي الماضي، ويعتبر ابن عاشور أحد تلاميذ هذا الخط التجديدي، الذي حاول بعث بذور الوعي في الأمة على مختلف المستويات، فأفرز الاستقلال السياسي، إلا أن الاستقلال الثقافي والحضاري عموما، ما زال مطلبا وأملا تعمل له جهود المخلصين.
في ظروف مثل هذه، وبتأثير عوامل متعددة، نشأ ابن عاشور وتكونت شخصيته، واشتهر بمنهجه الأصولي التجديدي، الذي اتبع فيه خطى الشاطبي، واعتمد فيه على علم المقاصد بديلا منهجيا لقضايا الاجتهاد خلفا للمنهج التقليدي القائم على النظر في الجزئيات دون مراعاة الكليات التي جاءت الشريعة لتحقيقها(1) .
ومن بين أعماله التي تدل على هذا، تفسيره المسمى (التحرير والتنوير) الذي ألفه في خمسين عام (2)، وكذا كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية)، و(أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)، وغيرها من المؤلفات التي تبين عن شخصية ذات إطلاع واسع، واهتمامات متنوعة في مجال العربية والفقه والأصول والكلام والاجتماع وغيرها.
كما أنه تولى مناصب إدارية متعددة، ووصل إلى مرتبة المفتي المالكي في تونس، وإمام الجامع الأعظم (الزيتونة)، وباشر خطط إصلاح متعددة تناولت مناهج التربية في الزيتونة وفي غيرها من بلاد الإسلام، كما تناولت مناهج تفسير القرآن، والنظر الأصولي. مما يمكن الخلوص منه إلى القول أن ابن عاشور كان يجمع بين العلم والعمل، فهو شخصية علمية واجتماعية.
منهج ابن عاشور في الرد على اعتقادات النصارى:
كما سبق عند الحديث عن الرازي ومنهجه في الرد على اعتقادات النصارى، وتفسيره للآيات المتعلقة بذلك، فإن الحديث عن منهج ابن عاشور في الرد على هذه الاعتقادات يستلزم النظر في الآيات التي تتعلق بالموضوع وكيفية تفسيره لها، وما استخرج منها من أدلة وردود، وهي كما يلي:
أولاً: قوله تعالى: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين" [آل عمران: 59-60]، من هاتين الآيتين يرى ابن عاشور أن فيهما بيان ما به نشأ التوهم عند النصارى "عن وصف عيسى بأنه كلمة الله فضلوا بتوهمهم أنه ليس خالص الناسوت" (3). وذلك بقولهم أنه نشأ عن اتحاد اللاهوت بالناسوت، فهو له طبيعة إلهية، ولهذا يتجه ابن عاشور إلى إبطال هذه الألوهية، وذلك كما يلي؛
1. التمثيل بين آدم وعيسى: فالنصارى "قالوا بإلهية عيسى من أجل أنه خلق بكلمة من الله وليس له أب، فقالوا هو ابن الله، فأراهم الله أن آدم أولى بأن يدعى له ذلك، فإذا لم يكن آدم إلهاً مع أنه خلق بدون أبوين فعيسى أولى بالمخلوقية من آدم" (4)، ومحل التمثيل كما يرى ابن عاشور هو أن كليهما خلق من غير أب، ويزيد آدم بكونه خلق من دون أم.
2. الخلق متعلق بـ(كن): فسواء آدم الذي خلق من تراب، أو عيسى الذي خلق من دون أب، فإن كليهما خلق بكلمة (كن)، وذلك "لتعلق القدرة بتكوينه حيا ذا روح ليعلم السامعون أن التكوين ليس بصنع يد، ولا نحت بآلة، ولكنه بإرادة وتعلق قدرة وتسخير الكائنات التي لها أثر في تكوين المراد"(5).
ثانياً: قوله تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" [النساء:171]، ينطلق ابن عاشور من هذه الآية للتأكيد على أن الانحراف في اعتقادات النصارى سببه الغلو، إذ أنهم "غلوا في تعظيم عيسى، فادعوا بنوته لله، وجعلوه ثالث الآلهة" (6)، ونرى ابن عاشور يستعمل أساليب العربية في محاجة النصارى، والرد على معتقداتهم، وهو في ذلك يبدو شاطبي المنهج، إذ أن خلفيته المقاصدية الأصولية وجهته إلى اعتماد أساليب العربية محورا لتفسير القرآن، كما هو شيخه الشاطبي، ويذهب ابن عاشور من هذه الآية إلى الحديث عن صفات عيسى، والأقانيم، والعبودية، والتطور التاريخي للتثليث، وغيرها كما يلي؛(56/12)
1. صفات عيسى الرسول: فقوله تعالى: "إنما المسيح عيسى ابن مريم" فهذه "الجملة أفادت قصر المسيح على صفات ثلاث: صفة الرسالة، وصفة كونه كلمة الله ألقيت إلى مريم، وصفة كونه روحا من عند الله"(7)، فالقصر قصر موصوف على صفة، والقصد من هذا القصر كما يرى ابن عاشور هو إبطال ما أحدثه غلوهم في هذه الصفات حتى أخرجوها عن حقيقتها. والقرآن لم ينكر الصفات التي ادعاها النصارى لعيسى، وهي أنه رسول وأنه كلمة من الله وروح منه، وإنما أنكر ما ذهبوا إليه من غلوا، فحولوا الرسالة إلى بنوة، وجعلوا الكلمة اتحاد اللاهوت بالناسوت، وجعلوا معنى الروح على أن عيسى ذو طبيعة إلهية. كما أن "هذا القصر قصر إضافي، وهو قصر إفراد، أي أن عيسى مقصور على صفة الرسالة والكلمة والروح، لا يتجاوز ذلك إلى ما يزاد على تلك الصفات من كون المسيح ابنا لله واتحاد الإلهية به وكون مريم صاحبة" (8).
2. تفسير الكلمة: في تفسيره لمعنى (الكلمة) فإن ابن عاشور يرجع إلى الأناجيل، مثل إنجيل يوحنا، الذي فيه "في البدء كان الكلمة …"، ثم يبين ابن عاشور أن القرآن حكى هذا، مما يدل على أن هذا من الكلمات الإنجيلية، ومعناه أثر كلمة الله، والكلمة هي التكوين، وهو المعبر عنه في الاصطلاح بـ(كن)، فإطلاق الكلمة على التكوين مجاز، وليس هو بكلمة، ولكنه تعلق القدرة (9).
3. معنى الروح: أما الروح فإن ابن عاشور يرجع إلى العربية وإلى الأناجيل أيضا لتحديد معناها. فمن وجهة اللغة العربية، فإن الروح بمعنى النفخة، والعرب تسمي النفس روحا والنفخ روحا، أما الأناجيل -فكما يقول- فقد طفحت بذكر هذا اللقب لعيسى بأنه روح منه (10). ويتساءل ابن عاشور: ما السر أو الحكمة في إيراد القرآن لهذين الوصفين (الكلمة والروح) على ما فيهما من شبهة ضلت بها النصارى؟ ويجيب عن ذلك بأن هذين الوصفين وقعا في الإنجيل أو في كلام الحواريين وصفا لعيسى عليه السلام، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذ، غير أنه مع الزمن وقع التحريف في فهمهما، والقرآن بذكرهما يؤكد بأنهما لا يؤديان إلى القول بأن عيسى ابن الله أو أن الله حل فيه، ولكن النصارى بضلالهم غلوا في التأويل، وغيروا المعاني (11).
ثالثاً: قوله تعالى: "فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا" [النساء: 172]. وفي تفسيره لهذه الآية يذهب ابن عاشور إلى نقض التثليث ومناقشة النصارى في المفاهيم المختلفة التي أعطوها للتثليث.
1. معاني التثليث: ويرى أن "التثليث أصل في عقيدة النصارى كلهم، ولكنهم مختلفون في كيفيته" (12)، ولذلك جاء في القرآن "ثلاثة" في صيغة خبر مبتدأ محذوف ليصلح لكل ما يصلح تقديره من مذاهبهم في التثليث، سواء أن الآلهة ثلاثة {لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة}، أو أن عيسى وأمه إلهين مع الله {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله}، فالمجموع ثلاثة: "كل واحد منهم إله، ولكنهم يقولون: إن مجموع الثلاثة إله واحد أو اتحدت الثلاثة فصار إلها واحدا" (13)، فمعاني التثليث إذن مختلفة، فمنهم من يرى أن هناك ثلاثة آلهة، ومنهم من يرى أن الثلاثة إله واحد، ومنهم من يرى أن الله جوهر واحد بثلاثة أقانيم.
2. تطور التثليث: يرى ابن عاشور التأثير اليوناني على مفهوم التثليث، حيث أنه نشأ من اعتقاد قدماء الإلهيين من نصارى اليونان أن الله تعالى (ثالوث)، أي أنه جوهر واحد، وهذا الجوهر مجموع في ثلاثة أقانيم … أقنوم الأب (الوجود أو الذات)، وأقنوم الابن (العلم)، وأقنوم الروح القدس (الحياة). فأقنوم الذات هو أصل الموجودات، ومن أقنوم العلم كان تدبير القوى العقلية، ومن أقنوم الحياة كان إيجاد عالم المحسوسات (14)، غير أن ذكر ثلاث صفات وإهمال الباقي على تقدير اعتبارهم لها صفات، يؤدي إلى التشابه مع ما كان يقول به الأفلاطونيون الجدد من فكرة التولد والفيض، إذ وكأن الأقنومين الآخرين فيض من الأقنوم الأول.(56/13)
ثم أن النصارى -كما يرى ابن عاشور- فسروا هذه الصفات تفسيرات أخرى، إذ سموا أقنوم العلم بالكلمة باعتبار أن الأناجيل أطلقت لفظ الكلمة على المسيح، فأرادوا أن المسيح مظهر علم الله، غير أنهم زادوا غلواًّ "فتوهموا أن علم الله اتحد بالمسيح فقالوا: أن المسيح صار ناسوته لاهوتا، باتحاد أقنوم العلم به، فالمسيح جوهران وأقنوم واحد، ثم نشأت فيهم عقيدة الحلول. أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوعة، ثم اعتقدوا اتحاد الله بالمسيح، فقالوا: الله هو المسيح" (15).كما أن ابن عاشور يورد الصراع الذي حدث بين دعاة التوحيد (آريوس) وأتباعه، وبين دعاة التثليث خلال القرن الرابع الميلادي، ثم مؤتمر نيقية الذي جمع فيه قسطنطين الرهبان، وأصدروا قانون الإيمان المسيحي الذي قرر: "أن كلمة الله اتحدت بجسد عيسى، وتقمصت ناسوته؛ أي إنسانيته، فصارت الكلمة ذاتا في بطن مريم، وصارت تلك الذات ابنا لله تعالى، فالإله مجموع ثلاثة أشياء: الأول الأب ذو الوجود، والثاني الابن ذو الكلمة، أي العلم، والثالث روح القدس" (16).
بعد ذلك تطورت النصرانية وتشعبت إلى فرق اليعقوبية وهم الأرثوذكس الآن، والنسطورية، والجاثلقية وهم الكاثوليك (17)، بناء على اختلاف مذاهبهم في التثليث، مع اتفاقهم بالقول به.
3. نقض البنوة: ينطلق من قوله تعالى: "سبحانه أن يكون له ولد"، لنقض شبهة النصارى في أن المسيح ابن لله، "فالبنوة منتفاة، لاستحالة الفناء، والاحتياج، والانفصال، والمماثلة للمخلوقات عن الله تعالى. والبنوة تستلزم هذه المستحيلات لأن النسل قانون كوني للموجودات لحكمة استبقاء النوع، والناس يطلبونها لذلك، وللإعانة على لوازم الحياة، وفيها انفصال المولود عن أبيه، وفيها أن الابن مماثل لأبيه فأبوه مماثل له لا محالة" (18).
وهذا الدليل الذي تحدثنا عنه عند الرازي؛ وهو دليل الكمال وعدم العجز، ودليل عدم المجانسة، كما أن ابن عاشور يوظف مفهوما آخر في نقض هذا الاعتقاد، وهو مفهوم السنن الكونية، التي تحكم المخلوقات كلها، كما أنه جعل من مقاصد البنوة بقاء النوع أو ما يسمى بلغة علم المقاصد كلية حفظ النسل التي هي من المقاصد الضرورية.
رابعاً: قوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إذا أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير" [المائدة: 17]، وقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرّم عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد..} [المائدة: 72-74].في هذه الآيات رد لادعاء النصارى بألوهية المسيح، وذلك أنهم "جعلوا حقيقة الإله الحق المعلوم متحدة بحقيقة عيسى -عليه السلام- بمنزلة اتحاد الاسمين للمسمى الواحد، ومرادهم امتزاج الحقيقة الإلهية في ذات عيسى" (19). وفي سبيل إثبات فساد هذه المقولة وانصرافها إلى معنى الحلول والاتحاد، فإن ابن عاشور يرجع في ذلك إلى العربية وإلى صلة المسند بالمسند إليه، وإلى استعمال المنطق من خلال مفهوم "حمل (هو هو)، وذلك حين يكون المسند إليه والمسند معلوما للمخاطب ويراد بيان أنها شيء واحد" (20)، ويرجع ابن عاشور أصل ادعائهم ألوهية عيسى إلى قولهم بالأقانيم الثلاثة؛ أقنوم الذات وأقنوم العلم وأقنوم الحياة.(56/14)
خامساً: قوله تعالى: "ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبيّن لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون" [المائدة: 75]، وفي هذه الآية أيضا تأكيد لنبوة عيسى ونفي لألوهيته أو ألوهية أمه، والدليل أنهما كانا يأكلان الطعام، كما أن عيسى هذا متولد من أم فهو مفتقر لأم، والمفتقر إلى غيره لا يصلح أن يكون إلهاً. ولهذا يرجع ابن عاشور إلى أساليب العربية لاستخراج الحجج التي جاء بها القرآن على بشرية عيسى ومساواته لبقية الرسل، "وأنه ليس بدعا في هذا الوصف ولا هو مختص فيه بخصوصية لم تكن لغيره في وصف الرسالة. فلا شبهة للذين ادّعوا له الإلهية، إذ لم يجئ بشيء زائد على ما جاءت به الرسل، وما جرت على يديه إلا معجزات كما جرت على أيدي رسل قبله" (21)، فإذا كان عيسى -عليه السلام- أحي الموتى من الحيوان، فإن موسى -عليه السلام- أحي العصا وهي جماد فصارت حية. فأين العجيب في عيسى، ولم يكن في غيره من الرسل. فإن اختلفت صفات هذه الأعاجيب أو المعجزات فقد تساوت في أنها خوارق عادات وليس بعضها بأعجب من بعض (22)، أما أمه فقد حدد القرآن مرتبتها بأنها {صدّيقة} والقصد من وصفها بأنها صدّيقة نفيٌ أن يكون لها وصف آخر أعلى من ذلك. وهو وصف الإلهية. ونفي إلهية عيسى وأمه يمكن أن يعقله أي إنسان ذلك أنهما كانا يأكلان الطعام، وهي صفة من صفات البشر، وهي صفة واضحة يراها كل الناس. ويرجع ابن عاشور في تأكيد هذا الأمر إلى الأناجيل نفسها، إذ أنها " أثبتت أن مريم أكلت ثمر النخلة حين مخاضها، وأن عيسى أكل مع الحواريين يوم الفصح خبزاً وشرب خمراً، فيذكر ابن عاشور ما ورد في إنجيل لوقا الإصحاح 22:{وقال لهم اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم لأني لا أكل منه بعدُ، وفي الصبح إذ كان راجعا في المدينة جاع}" (23)، وكما مرّ معنا عند الحديث عن الرازي بأنه جعل من هذه الآية دليلا على أن عيسى محدث لأنه مفتقر ومحتاج، وينتابه الجوع والحاجة والشهوة، وهذه ليست صفات الله تعالى بل هي صفات ممكن الوجود، الذي هو بالضرورة ليس بإله، والله أعلم.
قواعد المنهج عند ابن عاشور: هذا عن أهم القضايا التي ناقشها ابن عاشور في سياق تفسيره لآيات القرآن المتعلقة بالمسيح عليه السلام والرد على معتقدات التثليث النصرانية، ويمكن أن نكتشف أهم القواعد التي كان ابن عاشور يتبعها في رده على النصارى، ويعتمد عليها في نقض معتقدهم، وهي -حسب رأيي المتواضع- كما يلي؛
1. اعتماد البيان العربي: حيث أنه في تفسيره للألفاظ أو المعاني أو الآيات فإنه يرجع إلى معهود العرب في الاستعمال لاستخراج مدلول الكلمات، وتحديد معاني الجمل، ولقد لاحظنا ذلك عند تفسيرها لمعاني (الكلمة)، و(الروح)، وقوله تعالى: {ولا تقولوا ثلاثة}، و{إنما المسيح ابن مريم رسول الله}، حيث اعتمد على أساليب القصر (إفراداً أو قلباً)، والتمثيل، والمجاز، والحذف والتقدير، وغيرها، كما هو مبين أعلاه. والسبب في ذلك على ما يبدو يتضح من مقدماته التفسيرية العشرة التي ذكرها في مقدمة (التحرير والتنوير)، والتي من بينها الرجوع إلى معهود العرب في الاستعمال، كما يبدو منهجه المقاصدي واضحا في سبب اختياره الاعتماد على أساليب العربية أو"منطق اللغة العربية"، حيث أنه وشيخه الشاطبي يجعلان المبدأ الأول للتعامل مع القرآن هو الرجوع إلى العربية، فبمقدار إحاطة المرء بالعربية فهو ملم بالشرع (24).
2. تفسير القرآن بالقرآن:
وهذا أيضا أحد مبادئ المدرسة التفسيرية الحديثة، التي دعا إليها محمد عبده وتلاميذه، وهو ما صار يعرف بالتفسير الموضوعي، أو التفسير النسقي لآيات القرآن الكريم، وذلك من خلال محاولة جمع آيات الموضوع الواحد وتفسيرها ببعضها، وبالرغم من أن هذا ليس جديداً عند المفسرين، فقد رأيناه عند الرازي، فإن المدرسة الحديثة جعلت منه مبدأ وأعلنته صراحة، وذلك لتفادي تضارب النصوص في ذهن المفسر، والنظر إلى البناء القرآني نظرة متكاملة.
3. الرجوع إلى الأناجيل: وهو ما لم نجده عند الرازي، الذي اعتمد على البرهان العقلي المجرد، فابن عاشور في تفسيره للآيات التي تعرضت لعقيدة النصارى يرجع إلى الأناجيل، وقد تبين ذلك من خلال ذكره لعبارات الإنجيل المتعلقة بالروح، والكلمة، والبنوة، وهي عبارات يحكيها القرآن ولا ينفيها، غير أن القرآن يبيّن غلوهم فيها، وتحريفهم لمعانيها. وهذا الرجوع إلى الأناجيل أيضا كان ابن عاشور يهدف منه إلى تتبع التطور التاريخي الذي حدث في العقيدة المسيحية.
(1) ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، الطبعة الثالثة، (تونس: الشركة التونسية للتوزيع، 1988)، ص5.
(2) - اسماعيل الحسني، نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، الطبعة الأولى، (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1416هـ/ 1995م)، ص ص90-91.
(3) ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج3/ ص263.(56/15)
(4) التحرير والتنوير، ج3/ ص263.
(5)التحرير والتنوير، ج3/ ص263.
(6)التحرير والتنوير، ج6/ ص50.
(7) التحرير والتنوير، ج6/ ص51.
(8) التحرير والتنوير، ج6/ ص52.
(9) التحرير والتنوير، ج6/ ص52.
(10) التحرير والتنوير، ج6/ ص53.
(11) التحرير والتنوير، ج6/ ص53.
(12) التحرير والتنوير، ج6/ ص54.
(13) التحرير والتنوير، ج6/ ص54.
(14) التحرير والتنوير، ج6/ ص55.
(15) التحرير والتنوير، ج6/ ص56.
(16) التحرير والتنوير، ج6/ ص56.
(17) التحرير والتنوير، ج7/ ص153.
(18) التحرير والتنوير، ج6/ ص58.
(19) التحرير والتنويرج7/ ص153.
(20) التحرير والتنوير، ج7/ ص152.
(21) التحرير والتنوير، ج7/ ص285.
(22) التحرير والتنوير، ج7/ ص285.
(23) التحرير والتنوير، ج7/ ص286.
(24) للمزيد انظر: الشطبي، الموافقات، تحقيق وتعليق: عبد الله دراز ومحمد عبد الله دراز، (بيروت: دار الفكر)، ج4/ ص115.
آراء المفسرين في عقيدة التثليث
دراسة في تفاسير الرازي وابن عاشور وسيد قطب 4/4
د. بدران بن الحسن 15/1/1425
06/03/2004
المبحث الثالث: سيد قطب:
موجز عن سيد قطب:
إذا كان الرازي قد عاش في القرن السادس الهجري، في ظل هيمنة الحضارة الإسلامية، رغم بعض مظاهر الصراع السياسي، إلا أن الأمة كانت ذات غلبة على كثير من التحديات التي تواجهها، وخاصة في الميدان الفكري على أيدي الغزالي وتلاميذه وأقرانه من العلماء، وإذا كان ابن عاشور يعتبر امتدادا للمدرسة الأصولية التي وضع لبناتها الشاطبي، فإن سيد قطب يعتبر حالة خاصة تتميز عن السابقتين، ولو كان بينهما نوع من التشابه.
فلقد عاش سيد قطب خلال الثلثين الأولين من هذا القرن العشرين الميلادي، ويعتبر من الناحية الفكرية ثمرة مدرسة محمد عبده، إذ هو خريج دار العل(1). غير أنه من الناحية الحركية الاجتماعية ميلاد العمل الرائد الذي قام به الإمام البنا عليه الرحمة، الذي أسس جماعة "الإخوان المسلمون" في 1928م، هذه الجماعة التي أرادت أن تواجه عملية التغيير من منظور جديد هو منظور إحياء معاني الإسلام والإيمان في نفوس الناس ليعيشوها عمليا في واقع حياتهم.
كان سيد قطب أديبا، وبالتحاقه بدعوة الإمام البنا، تحولت جهوده كلها إلى العمل الإسلامي، فكريا وحركيا وسياسيا، وبالرغم من أن إسلاميته كانت واضحة قبل انضمامه لجماعة الإخوان، وخاصة في كتابه "مشاهد القيامة في القرآن الكريم"، فإن وعيه بالعمل للإسلام، وإخلاص حياته له قد تكرّس بعد انضمامه إلى الجماعة.
ويعتبر سيد قطب المنظر الحقيقي لهذه الحركة في بداياتها، وخاصة في مواجهة العلمانية الناصرية، وتسلطها وطغيانها باسم القومية العربية، وما لاقاه الدعاة من تعذيب وتشريد على أيدي زبانية الناصرية من قيام الثورة الناصرية في 1952 وحتى السبعينيات. وفي ظل هذه التحديات؛ الديكتاتورية، والعلمانية، والماركسية، فإن سيد قطب توجه إلى صياغة معالم الفكر الإسلامي الذي يضمن مسيرة الحركة الدعوية لتحقيق أهداف الإسلام في هذه الحياة، فكان أن توجه إلى تفسير القرآن الكريم تفسيراً يستخرج منه المعالم الفكرية الضرورية، والتصورات اللازمة، والرؤى السديدة، بالإضافة إلى تأكيده على تميز المنهج الإسلامي عن غيره من المناهج الجاهلية والمنحرفة، وكان من أهم كتبه التي تعتبر مؤسسة لفكره؛ تفسير "في ظلال القرآن"، وكتاب "معالم في الطريق"، و"خصائص التصور الإسلامي ومقوماته"، و"المستقبل لهذا الدين"، وغيرها، مما كان له أبعد الأثر في فكر الحركة الإسلامية المعاصرة، وترك جدلا علميا واسعا بين متقبل لما كتب وبين رافض.
منهج سيد قطب في الرد على اعتقادات النصارى:
لقد تناول سيد قطب اعتقادات النصارى بالمناقشة في مواضع متعددة من تفسيره "في ظلال القرآن"، ولذا نحاول أن نركز على بعض الآيات التي فسرها، وتبين منهجه، وذلك في عدة سور مختلفة؛ البقرة وآل عمران، والنساء، والمائدة، والنمل، والزخرف.
أولاً: قوله تعالى: "وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون" [البقرة: 116-118]. ينطلق سيد قطب من هذه الآيات لنقض دعوى البنوة التي ادعاها النصارى وغيرهم على الله تعالى، وكذا مسألة الخلق بالإرادة، ثم تحديد الخطأ المنهجي الذي وقع فيه النصارى.(56/16)
1. نقض البنوة وإثبات الخلق بالإرادة: يرى سيد قطب أن "هذه المقولة ليست مقولة النصارى وحدهم في المسيح، فهي كذلك مقولة اليهود في العزير، كما كانت مقولة المشركين في الملائكة" (2) لذلك لم تفصل الآية هنا هذه المقولات، بل أجملتها لأن هذه الفرق هي المناهضة للإسلام قديما وحديثا، ولها نفس الموقف من الإشراك بالله بادعاء البنوة على الله تعالى. ولهذا القرآن يبادر إلى تنزيه الله تعالى عن هذا القول الفاسد، وهنا كما يقول سيد -رحمه الله - نصل إلى فكرة الإسلام التجريدية الكاملة عن الله سبحانه، وعن نوع العلاقة بين الخالق وخلقه، وعن طريقة صدور الخلق عن الخالق، وهي أرفع وأوضح تصور عن هذه الحقائق جميعاً… لقد صدر الكون عن خالقه، عن طريق توجه الإرادة المطلقة القادرة: (كن، فيكون)"(3)، فتوجه الإرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده بوجود هذا الكائن، على صورته المقدرة، أما "كيف تتصل الإرادة التي لا نعرف كنهها بذلك الكائن المراد صدوره فذلك هو السر الذي لم يكشف للإدراك البشري عنه، لأن الطاقة البشرية غير مهيأة لإدراكه"(4)، وذلك لأنه غير لازم لأداء وظيفة الإنسان في هذه الحياة، أي وظيفة الاستخلاف في الأرض.
2. تحديد الخطأ المنهجي: ومن هنا يرى سيد قطب أن الفلسفات اللاهوتية التي ذهبت بعيدا في تفسير هذه الغيبيات، أدخلت الإنسان في متاهات، وهذا هو الخطأ المنهجي الأساس الذي أنتج تصورات ومقولات منحرفة عن الله تعالى، ومن بينها مقولة البنوة. وهذا بالأساس من تأثير الفلسفات الإغريقية. بينما "في النظرية الإسلامية: الخالق غير المخلوق، والخالق ليس كمثله شيء، ومن هنا تنتفي من التصور الإسلامي فكرة (وحدة الوجود)، .. بل الوجود وحدة واحدة في نظر المسلم على معنى آخر: وحدة صدوره عن الإرادة الواحدة الخالقة، ووحدة ناموسه الذي يسير به، ووحدة تكوينه وتناسقه واتجاهه إلى ربه في عبادة وخشوع"(5) كما قال تعالى: "بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون". فالمشكلة التي أنتجت هذه الانحرافات هي فساد التصور عن الله.
ثانياً: قوله تعالى: "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم اللهُ ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس…" [البقرة:253]، هذه الآية التي تلخص قصة الرسل والرسالات -كما يرى سيد قطب- أفردت للرسل مكانة مميزة بين الناس، وقررت أن الله فضل بعض الرسل على بعض، كما ذكرت بعض أمارات التفضيل، وذكرت الآية عيسى بن مريم - وهكذا يرد اسمه منسوبا إلى أمه في أغلب المواضع القرآنية(6). والحكمة في ذلك أن القرآن نزل وهناك حشد من الأساطير الشائعة حول عيسى -عليه السلام- بين قائل بالبنوة، وبين قائل بازدواجية طبيعته من اللاهوت والناسوت، وبين قائل بالحلول، إلى غيرها من التصورات الأسطورية التي غرقت فيها الكنائس والمجامع في الجدل حولها؛ وجرت حولها الدماء أنهاراً في الدولة الرومانية، ولهذا فالقرآن جاء بالتأكيد على بشرية المسيح وذكره في معظم المواضع منسوبا إلى أمه مريم.
أما "روح القدس فالقرآن يعني به جبريل - عليه السلام - فهو حامل الوحي إلى الرسل"(7)، وبدون التفات إلى آراء النصارى في روح القدس، فإن سيد قطب يثبت المعنى القرآني، الذي يراد به جبريل عليه السلام، ويكتفي بإيراد اعتقادات النصارى في عيسى، والتي سيأتي على تفصيلها في تفسيره للآيات اللاحقة.
ثالثاً: قوله تعالى: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" [آل عمران: 59]، يرى سيد قطب أن ولادة عيسى عجيبة حقاً بالقياس إلى مألوف البشر. ولكن أية غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أب البشر؟" (8)، والنصارى الذين كانوا يجادلون حول عيسى بسبب مولده يقرون بنشأة آدم من التراب، وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني، دون أن يصوغوا حوله الأساطير التي صاغوها حول ميلاد المسيح، في حين أن العنصر الذي به صار آدم إنساناً هو العنصر ذاته الذي ولد به عيسى من غير أب، "عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك وإن هي إلا الكلمة: (كن) تنشئ ما تراد له النشأة (فيكون)" (9)، وبالقرآن تتجلى بساطة الحقيقة؛ حقيقة عيسى وآدم، وحقيقة الخلق كله، وتدخل إلى النفس بكل يسر وفي وضوح، وكما يقول سيد قطب: "حتى ليتعجب الإنسان: كيف ثار الجدل حول هذا الحادث، وهو جار وفق السنة الكبرى. سنة الخلق والنشأة جميعا. وهذه هي طريقة الذكر الحكيم في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري الواقعي البسيط"(10)، فسيد يؤكد أن المنطق الفطري هو الطريق السوي الذي استعمله القرآن في الإجابة عن هذه الإشكالات التي أغرق النصارى في تعقيدها وهي واضحة لمن يستعمل نظره وبصره في سنن الله الحاكمة، فالسنة التي أخرجت آدم هي نفسها التي أخرجت عيسى إلى الوجود أيضاً، فلمَ يقبل النصارى تطبيقها على آدم، ويرفضون تطبيقها على عيسى؟ !(56/17)
رابعاً: قوله تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا.." [النساء: 171-172] في تفسيره لهاتين الآيتين يبسط سيد قطب الحديث عن كيفية دخول فكرة التثليث على فترات متفاوتة من التاريخ، ثم تفسير بنوة عيسى ونقض ألوهيته، ونقض ألوهية روح القدس، ثم إيضاح ماهية الألوهية وماهية العبودية.
1. التطور التاريخي لفكرة التثليث: يرى سيد قطب أن التثليث فكرة وثنية "تسربت إلى النصرانية السمحة من شتى الأقوام والملل، التي احتكت بها النصرانية؛ سواء في ذلك أساطير الإغريق والرومان، وأساطير قدماء المصريين وأساطير الهنود" (11) وتولى القرآن تصحيح هذه العقائد التي يتجلى فيها تأثير آراء أرسطو وأفلوطين، وغيرهما من تخبطات الفلاسفة(12)، كما أن الإسلام جاء والنصارى على عقيدة التثليث- على اختلاف مذاهبها- هذه العقيدة ترى "أن الإله واحد في أقانيم ثلاثة: الأب، والابن، والروح القدس. والمسيح هو الابن .. ثم تختلف المذاهب بعد ذلك في المسيح" (13) بين قائل بازدواجية طبيعته، أو أنه ذو طبيعة لاهوتية فقط، وهل له مشيئة واحدة أم مشيئتين؟ وهل هو قديم أم مخلوق؟ إلى غيرها من الاختلافات. غير أن هذه المقولات لم تكن زمن المسيح عليه السلام، وإنما دخلت عبر فترات متتابعة من التاريخ المسيحي، عن طريق الوثنيين الذين اعتنقوا النصرانية، وعن طريق الاتصال بالديانات الوثنية التي كانت فكرة التثليث راسخة فيها، مثل قدماء المصريين -كما أشرنا في التمهيد- ثم مع الاضطهاد الروماني، وتدخل الأباطرة في ترسيم عقيدة التثليث، والمجامع التي أقيمت لهذا الأمر (14).
2. تفسير البنوة: يرى سيد قطب أنه "تطورت فكرة البنوة، وفكرة التثليث، حسب رقي التفكير وانحطاطه ولكنهم اضطروا أمام الاشمئزاز الفطري من نسبة الولد إلى الله، والذي تزيده الثقافة العقلية، أن يفسروا البنوة بأنها ليست عن ولادة كولادة البشر. ولكن عن محبة بين الأب والابن"(15) غير أن القرآن يؤكد بشرية المسيح، "إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"، شأنه في ذلك شأن بقية الرسل -كما سبق في سورة البقرة- أم تفسير قوله تعالى {وكلمته ألقاها إلى مريم} فإن المسألة تتعلق "بالأمر الكوني المباشر، الذي يقول عنه في مواضع شتى من القرآن: إنه (كن .. فيكون).. والكلمة التي تخلق كل شيء من العدم، لا عجب في أن تخلق عيسى -عليه السلام- في بطن مريم من النفخة التي يعبر عنها بقوله: {وروح منه}"(16)، ويرى سيد قطب أن النصارى انحرفوا بفعل الهوى، إذ أن القضية واضحة وبسيطة، غير أن فعل الهوى ورواسب الوثنية التي عقدت قضية عيسى عليه السلام هذا التعقيد كله. وهذا الذي ذكره سيد هو الذي يؤكد عليه القرآن بأنه الهوى، والولاء للآباء ولو كانوا على غير هدى، أي الهوى وتسرب أفكار الوثنية السابقة على النصرانية. فالمنهج القرآني في نظر سيد قطب واضح وبسيط في هذه المسائل التي ثارت حولها الأساطير، ولذلك كان التصور الإسلامي عن الله في غاية الوضوح. أما الولادة "فهي امتداد للفاني ومحاولة للبقاء في صورة النسل .. والله الباقي غني عن الامتداد في صورة الفانين وكل ما في السموات وما في الأرض ملك له سبحانه"(17)، ونلاحظ هنا أن سيد قطب يحاول استعمال دليل الواجب والممكن، ودليل عدم العجز الذي ذكرناه عند الرازي وابن عاشور، ولكن بأقل تفصيل.
3. ماهية الألوهية والعبودية: ويصحح القرآن العلاقة بين الله تعالى وبين عيسى عليه السلام وبقية المخلوقات بأنها علاقة قائمة على ألوهية وعبودية، فالألوهية لله وحده، والعبودية لسائر المخلوقات تتوجه بها إلى الله تعالى طوعا أو كرها. {سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً}، ولا شيء غير هذه الحقيقة، ولا صلة إلا صلة الألوهية بالعبودية، وصلة العبودية بالألوهية(18) حتى روح القدس (جبريل) فإنه تحكمه نفس العلاقة بأنه عبد لله ولو كان من الملائكة المقربين مثله مثل عيسى ومثل أي مخلوق من مخلوقات الله تعالى. فالألوهية والعبودية "ماهيتان مختلفتان لا تمتزجان" (19)(56/18)
خامساً: قوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد .." [المائدة: 72-73]، فالوصف بالكفر جاء في القرآن سواء لمن قال بأن الله هو المسيح ابن مريم أو أن الله ثالث ثلاثة(20) وينقل سيد قطب عن أبي زهرة ما انتهت إليه المجامع النصرانية من الاتفاق على التثليث وألوهية المسيح والخلاف فيما بينها بعد ذلك، كما أنه ينقل أقوالاً عن بعض الكتاب النصارى أمثال (نوفل بن نعمة الله بن جرجس النصراني)، و(الدكتور بوست)، هذه الأقوال تحاول تفسير عقيدة التثليث، والقول بأن البرهان العقلي عليها مؤجل وليس هذا أوانه (21) والقرآن يرد على هذه التقولات بمنطقه، إذ "يواجههم بالمنطق الواقعي القويم، لعله يرد فطرتهم إلى الإدراك السليم، مع التعجيب من أمرهم في الانصراف عن هذا المنطق بعد البيان والإيضاح"، حيث أجابهم القرآن بقوله تعالى:{ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون}، واكل الطعام مسألة واقعية في حياة المسيح وأمه ولا ينكرها النصارى، وأمه صديقة ليس أكثر، وهذا دليل على أنهما من الحياء الحادثين، ودليل بشريتهما، فالكل تلبية لحاجة جسدية، والله حي بذاته، قائم بذاته، باق بذاته، لا يحتاج.. ونظرا لوضوح هذا المنطق الواقعي ونصاعته التي لا يجادل فيها إنسان يعقل، فإن القرآن يعقب عليه باستنكار موقفهم والتعجيب من انصرافهم عن ذلك المنطق (22).
سادساً: قوله تعالى: "وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون" [التوبة:30]،يرى سيد قطب أن القول ببنوة المسيح لله قول مشهور، وأول من ادعاه هو (بولص)، ثم ما تلاه من مجامع مقدسة(23)، ثم ينقل عن تفسير المنار معنى (الثالوث-Trinity)، حيث يورد صاحب المنار معانيها عند الكاثوليك والبروتستانت، ثم كيفية نشأتها في العهد الرسولي، وتأثير الفلاسفة اليونان، والأساقفة الهيلانيين، كما يورد تعريف ديكارت للتثليث الذي حاول هو وغيره من العقلانيين إسباغ تفسير عقلي للتثليث(24). أما التعقيب القرآني {ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل}، فهو يثبت أن القول صادر منهم، وليس مقولا عنهم، ثم أن النص القرآني بإعجازه يشير إلى أصل فكرة التثليث، ولم يتضح مداه الدلالي إلا مع دراسة العقائد الوثنية حديثا في الهند ومصر القديمة والإغريق، مما اتضح معه أصل العقائد المحرفة عند أهل الكتاب - وبخاصة النصارى- وتسربها من هذه الوثنيات إلى تعاليم (بولص الرسول) أولاً، ثم إلى تعاليم المجامع المقدسة أخيراً .. (25).وأشار سيد إلى الثالوث المصري، (أوزوريس وإيزيس وحوريس)، والهندي (برهما وفشنو وسيفا)، والآشوريون والإغريق، فمراجعة العقائد الوثنية القديمة تثبت النص القرآني {يضاهون قول الذين كفروا من قبل} (26).
قواعد المنهج عند سيد قطب: في ختام هذا العرض الموجز لأهم تفسيرات سيد قطب للآيات التي تعرض لعقيدة التثليث النصرانية، ورده عليهم، نحاول تحديد بعض معالم هذا المنهج الذي استخدمه سيد في تفسيره لهذه الآيات.
1. التركيز على توضيح التصور الإسلامي: لا يبدو سيد قطب عند تفسيره لهذه الآيات منشغلا كثيرا بالرد على النصارى بقدر ما كان يهدف إلى توضيح التصور الإسلامي عن الله تعالى، القائم على التوحيد بخصائصه التي بينها سيد قطب في كتابه (خصائص التصور الإسلامي ومقوماته)، فالتصور الإسلامي القائم على الوضوح والبساطة، يؤدي إلى حل كثير من التعقيدات التي وقع فيها النصارى وغيرهم، لما انطلقوا من النظرة الفلسفية في عالم الغيبيات، ولما لم يتخلوا عن الرواسب الوثنية، فالبديل لهذه النظرة الفلسفية المغرقة في الإغراب هي النظرة العقيدية التي تتوقف بالعقل البشري عند حدود إدراكهن وعند متطلبات إنجاز وظيفة الاستخلاف، التي أنيطت بالإنسان ليؤديها في هذه الأرض.
2. الاعتماد على الفطرة والمنطق الواقعي: لم يدخل سيد قطب في كثير من الجدل العقلي المجرد، ولم يتجه إلى المناقشات الكلامية التي لاحظناها عند الرازي، بل استعمل منطق الفطرة الذي يفهمه كل إنسان، وحاول من خلاله تزييف آراء الشرك، وإثبات الوحدانية في صورتها الإسلامية النقية، ولعل هذا يرجع إلى تأثير المحيط الذي يعيشه سيد قطب، وإلى العصر الذي عاشه، إذ كان الأمر يغلب عليه الجانب العملي والعلوم التطبيقية وليس منهج المتكلمين أو مجادلات الفلسفة التجريدية.(56/19)
3. الربط التاريخي: إذ نرى أن سيد قطب يتحرك من خلال محورين أحدهما محور النبوة والتوحيد الذي ابتدأ مع أول نبي واستمر إلى خاتم الأنبياء، ليصل إلى نضجه واكتماله مع الوحي الخاتم، والمحور الثاني هو محور الوثنيات والجاهليات على اختلاف مظاهرها. ولهذا فهو حينما تحدث عن الفرق التي كانت تواجه الرسالة في زمن التنزيل؛ اليهود والنصارى والمشركين، حاول استصحاب هذه الفرق وأسقطها على الصهيونية العالمية والصليبية العالمية والشيوعية العالمية، مع ما لحقها من تطور. ويبدو عليه الجانب الحركي الذي يعل من المفاهيم واقعا متحركا من خلال ربطها بالواقع، وهذا ما لم نجده عند ابن عاشور مثلا ولو كان ابن عاشور معاصرا له تقريبا. وهذا من تأثير المنهج الجديد الذي انبثق عن جهد الحركة الإسلامية المعاصرة التي فعّلت المفاهيم في الواقع.
4.عدم النقل عن الأناجيل: بل وجدناه ينقل عن كثير من المفكرين المسلمين وغير المسلمين، وبالأساس أبي زهرة فيما يتعلق بتاريخ النصرانية، ورشيد رضا فيما يتعلق بأقوال المفكرين النصارى المعاصرين. كما نراه يرجع إلى كثير من الكتب النصرانية للنصارى المصريين وغيرهم.
الخاتمة
بعد أن تم بحمد الله وفضله إتمام هذا البحث المتواضع، أود أن أختمه بنتيجة أحسب أنها مهمة، وهي أنه باستعراضنا الموجز لتفسير كل من الرازي وابن عاشور وسيد قطب، فيما يتعلق بالرد على عقيدة التثليث عند النصارى، بعد هذا الاستعراض الذي حاولت من خلالها استخراج الكيفية التي نظر بها هؤلاء العلماء الأعلام إلى مسألة الرد على العقائد الباطلة، فإن النتيجة التي أخلص إليها هي؛ أن كل واحد منهم كان له منهج يختلف عن الآخر في قواعد ويتفق في أخرى، ولعل أهم اتفاق بين كل الثلاثة هو أنهم كانوا يناقشون النصارى باعتبار النصرانية محرفة، وأن الحق كله في القرآن الكريم، ولذلك كان عندهم نوع من التمركز حول النص القرآني، وبعبارة أخرى أنهم كان يحكمهم مبدأ وجود الحقيقة في القرآن وليس في غيره من العقائد، وهو المبدأ أو المنهج الذي سار عليه كل علماء الإسلام من قبل في "الرد على الفرق المخالفة"، وهو منهج يولي أولية مطلقة للقرآن دون غيره من مصادر الديانات الأخرى، وهو ليس كالمنهج الحديث الذي يسمونه "منهج مقارنة الأديان"، والذي حسب رأيي ينظر إلى الحقيقة على أنها موزعة بين الأديان، وهذا يخالف قوله تعالى: { إن الدين عند الله الإسلام} و{ من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}، بحيث صار يُسوى بين الإسلام وغيره في كفة واحدة.
أما ما تختلف فيه مناهج هؤلاء الأعلام، فهو أن كل واحد منهم قد طور منهجه بناء على الإطار التاريخي والثقافي الذي عاشه، وبناء على معطيات الواقع الذي كان يواجهه، والخلفية العلمية والفكرية التي تشكلت وفقها شخصيته. ومن هنا رأينا الإمام الرازي يركز على المنهج الكلامي القائم على الجدل العقلي والبراهين المنطقية في مواجهة موجة الفلسفة والإشراق. أما ابن عاشور فإنه كان بالإضافة إلى بعض الحجج الكلامية، فإنه كان يركز كثيرا على اللغة وفهم مقاصد القرآن من الحديث عن عقائد هذه الفرق، باعتبار أن ابن عاشور من المنادين بالإهتمام بالعربية كأصل أساس لفهم كتاب الله تعالى. أما في حالة سيد قطب، فإن الاعتماد على منطق الفطرة، والاسقاط التاريخي والربط بين هذه المقولات قديما وحديثا كان بارزا في منهجه.
ومن هنا القول بأن كل منهج كان مرتبطا في قواعده وصياغته بالتحديات العقدية والفكرية التي كان يواجهها، وبالتالي يمكن الاستفادة من هذه المناهج والقواعد حسب الحالة التي نكون فيها، فإذا واجهتنا حالة شبيهة بالرازي وهي مواجهة أصحاب اللاهوت والكلام من النصارى فإن منهج الرازي أولى، وفي حالة المواجهة مع أصحاب النظر اللغوي والمضموني فإننا نتجه إلى الاستفادة من ابن عاشور، اما في حالة مناقشة أصحاب الفطر السليمة، وعامة الناس فإن سيد قطب يكون أقرب لما ركز عليه من دلائل فطرية ومنطق واقعي بسيط يفهمه كل الناس. والله أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وأمرنا لنسلم لرب العالمين.
(1) في الحقيقة يعتبر سيد إنتاج هذه المدرسة، غير أن ذلك لا يعني أنه تابع لها في كل ما ذهبت إليه، وبخاصة فيما يتعلق بآرائها في العلاقة بالغرب وكيفة التعامل معه، حيث أن سيد قطب ينتقد محمد عبده وتلاميذه في هذه النقطة، ويرى بأن "هذه المدرسة متأثرة بمناهج تفكير وبأفكار غربية غريبة على منهج التفكير الإسلامي الخالص" انظر: في ظلال القرآن، ج3/ ص1637، الهامش رقم 1.
(2) في ظلال القرآن، ج1/ ص105.
(3) في ظلال القرآن، ج1/ ص106.
(4) في ظلال القرآن، ج1/ ص106.
(5) في ظلال القرآن، ج1/ 106.
(6) في ظلال القرآن، ج1/ ص282.
(7) في ظلال القرآن، ج1/ ص282.
(8) في ظلال القرآن، ج1/ ص404.
(9) في ظلال القرآن، ج1/ ص405.
(10) في ظلال القرآن، ج1/ ص405.(56/20)
(11) في ظلال القرآن، ج2/ ص815.
(12) سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، الطبعة الثالثة، (ميونيخ: الإتحاد الإسلامي للمنظمات الطلابية، 1983)،ص ص46-54، 79.
(13) في ظلال القرآن، ج2/ ص815.
(14) في ظلال القرآن، ج2/ ص ص815-816.
(15) في ظلال القرآن، ج2/ ص816، 864-865.
(16) في ظلال القرآن، ج2/ ص817.
(17) في ظلال القرآن، ج2/ ص817.
(18) في ظلال القرآن، ج2/ ص818.
(19) في ظلال القرآن، ج2/ ص820.
(20) في ظلال القرآن، ج2/ ص943.
(21) في ظلال القرآن، ج2/ ص944.
(22) في ظلال القرآن، ج2/ ص945.
(23) في ظلال القرآن، ج3/ ص1635.
(24) في ظلال القرآن، ج3/ ص ص1638-1639.
(25) في ظلال القرآن، ج3/ ص1640.
(26) في ظلال القرآن، ج3/ ص1641 وما بعدها.(56/21)
آراء صريحة في قضايا الشباب المعاصرة (1/2)
د. خالد الحليبي 19/6/1426
25/07/2005
شريحة الشباب في البلاد المسلمة تعيش مرحلة تحديات عنيفة في إطار التغيرات الساخنة والمتتابعة محلياً وإقليمياً ودولياً. مما يتطلب مبادرات حيوية لتحديد مواقف صريحة من كل ما يجري أو يستجد؛ لتوجيه هذه الطاقات، بما يلائم بين ثوابتنا واحتياجات البناء الحضاري الجديد.
وسوف أقف خلال مقالتين أو ثلاث بين يدي عدد من التساؤلات والقضايا الشبابية المعاصرة أجملها في التالي:
1ـ الشباب والثوابت.. مفهوماً وتطبيقاً.
2ـ الشباب وإشكالية الانفتاح.
3ـ الشباب .. والخوف .. وبناء المستقبل.
4ـ الشباب.. والمسؤولية..!
5ـ الشباب والحوار.
1ـ الثوابت.. مفهوماً وتطبيقاً
إننا ـ أيها الشباب ـ في لحظات مريبة من عمر الزمن، جعلت بعض الأقلام تجترئ على ما لم تكن تجترئ عليه من قبل، وأرعبت أقلاماً أخرى فسكنت حتى جفّ حبرها، فقُبرت غير مأسوف عليها.
وبقيت أقلام واعية، تعيش تحت الشمس، ولا تقبل أن تتلفع بالغبار الذي يُهال عليها من سفيف الرياح الهائجة، بل تحمل من الإيمان بدينها ما يبهر الأبصار، ومن الحب لأمتها ووطنها الغالي ما يعمر قلوبها، ومن الإبداع والتجدّد ما يجعلها قادرة على صناعة النجاح أنى جرت، وفي أي زمن سعت، هذه الأقلام هي التي تعرف الثوابت كما هي دون تزيّد أو تميّع.
ويمكنتعريف الثوابت: بأنها تلك القضايا الكلية والتفصيلية التي جاءت بها شريعتنا السمحة، والتي تُبنى على ثلاث قواعد:
الأولى: أن لها المرجعية الكلية، فلا تحاكم لغيرها في أي شأن من شؤون الحياة، وأن نؤمن بأن لها كمالاً مطلقاً لا نقص معه، ولا شيء يشذّ عنه، ولا أمر يخرج من دائرت ، يقول الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، قال ابن القيم: "أصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل .. وكل من له مسكة من عقل، يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على الشرع، وما استحكم الأمران- أي الرأي أو الهوى - في أمة إلا فسد أمرهم تمام الفساد. فلا إله إلا الله كم نُفي بهذه الآراء من حق، وأُثبت بها من باطل، وأُميت بها من هدى، وأُحيي بها من ضلالة".
وثانية ثوابتنا:الحرمة العظيمة لهذا الدين العظيم، ولكتاب الله الكريم، ولرسول الهدى -عليه الصلاة والسلام-، بل والحرمة العظيمة للمسلم المؤمن الذي يؤمن بالله، في دمه وماله وعرضه، بل حتى فيما هو أقل من ذلكأليس قد قال رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - : " لا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإن ذلك يُحزنه".
وثالثة ثوابتنا:المنزلة العظيمة لأمة الإسلام، وأنها لابد أن تكون الأعلى والأسمى، وألاّ تُعطي الدنية في دينها، وألا تخالف أمر ربها، وأن يكون ولاؤها وبراؤها مربوطين بدينها.
تلك ثوابت كلية، وليس المجال مجال تفصيل، وللثوابت أحكام وقداسة لا ينبغي تعريضها لأي تغيير، وإنما التغيير ينال ما يسع الخلاف فيه من تفصيلات فقهية يسوغ فيها اجتهاد الأئمة والعلماء، على أن يدلل كل مجتهد على ما يقول.
وربما يرد تساؤل: ما علاقة هذه الثوابت بالمتغيرات الراهنة؟
فأقول: إن ثوابتنا ينبغي أن تحكم كل التغيرات الراهنة، حتى يبقى لنا كياننا، وتتمحض لنا شخصيتنا، وينجو لنا تميزنا من محاولات التذويب التي تكتنفه من كل مكان، على أن هذا لا يعني عدم الانفتاح على العالم، والاستفادة من مستجدات العصر.
وسؤال آخر يفرزه الواقع: إلى أية أرضية يستند جيل الشباب في فهم حقيقة الثوابت؟ فالشباب في بلادنا تتوزعهم عدة أطروحات، فهناك من لا يحمل هم الثوابت ولا المتغيرات؛ إذ يعيش حالة من اللامبالاة المرضية (بفتح الميم والراء) ، وهناك من يستند ـ في فهمه للثوابت ـ إلى ظلاميين، ليست لهم مرجعية علمية، بل هي مرجعية تشددية، ذات منهج متطرف، رمت كل العلماء بتهم تتفاوت بين العمالة، إلى المداهنة إلى الجبن، إلى ضعف فهم الواقع، إلى الخوف على الرزق، حتى تقطع على هؤلاء الأتباع كل رؤية معتدلة، وكل خط مستقيم يوصلهم إلى العلماء العاملين الواعين، وهناك شباب عرفوا الحق من أهله، فالتفوا حول علماء الشريعة، يفهمون كتاب ربهم وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- من خلال الحوار معهم، دون أن يلغوا عقولهم، ولا يغلقوا أبواب الخصوصية في الفهم أمام وجوههم، وضعوا أيديهم في أيدي ولاة أمورهم، فما خرجوا عليهم بل حفظوا لهم حقوقهم، وساروا بتوجيهاتهم فيما يرضي الله تعالى، والجميع تحت حكم الله الواحد الأحد، أولئك هم مستقبل الوطن الواعد، وغد الأمة المنتظر.(57/1)
2ـ إشكالية الانفتاح:أمام فهم الثوابت تبرز إشكالية مقابلة اسمها "الانفتاح". وهو مفهوم خطير إذا ما التفتنا إلى واقع ما يجري في عالم اليوم. فكثير مما يدعونا إليه العالم يتعارض ـ أحياناً بشدة ـ مع ثوابتنا. فأين يقف الجيل الشاب من متطلبات الانفتاح على العالم بكل ما يعنيه من تعدد قد يؤثر سلباً في عقيدته وسلوكه وقيادته لمجتمعه؟
الانفتاح سمة العصر، وهو من طبيعة عقيدتنا، فديننا لا يقبل الجمود ، ولا التقوقع، وكلما امتدت آفاقنا إلى مكتسبات بشرية كنا أكثر جدارة بخلافة الأرض وعمارتها التي وردت في كتاب الله، وذم الانفتاح على إطلاقه دليل على قصور الفهم، ولكن الانفتاح قرين الحرية، والحرية على إطلاقها لا تقول بها كل شرائع الإنسانية، ومثلها الانفتاح، لا يمكن قمعه ولا يحسن ذلك، ولكن لابد من ضبطه بمهارة فائقة، تتضافر في ذلك التربية والتعليم والبيئة والبرامج الإعلامية، حتى لا نقطع شبابنا عن عالمه ودنياه وعصره، وفي الوقت نفسه حتى لا نضيع أكبر ثروة في الأمة، وهم الشباب، فقد نصبت لهم الشباك في كل مكان يهوونه، حتى في البعثات العلمية المحضة، وفي البرامج الترفيهية التي ظاهرها بريء.
أسس البناء
السؤال: ما هي أسس البناء التي نتمنى على الشباب وعيها من أجل بناء المستقبل..؟
من أبرز الأسس التي نتمنى من شبابنا أن يعيها التالي:
أولاً: تقديسه لثوابته التي بينتها في مطلع اللقاء، والإيمان بها، والدفاع عنها، والالتزام بها عقيدة وتقوى، وسلوكاً وعملاً، ودعوة وإصلاحاً.
ثانياً: دراسة الماضي المجيد الذي عزت فيه أمته، ثم دراسة التحوّل الذي حدث .. لماذا حدث؟ وكيف تكون العودة المبدعة، التي لا تعني التراجع، ولكنها تعني تثبيت الأقدام والتبصر بالطريق، ثم الانطلاقة على هدى وعلم وتربية.
ثالثاً: تكوين الشخصية المتكاملة، ذات السلوك الرفيع، والمهارة في اختصاص معين يخدم من خلاله وطنه وأمته.
رابعاً: الولاء لله تعالى ولدينه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم لوطنه وولاة أمره، حتى يحس الشاب بالانتماء المتوازن، الذي يملأ عليه جوانب نفسه، فلا يبقى مكان فارغ يمكن أن يكون فرصة للآخرين أن يملؤوه بما يعكّر صفوه، ويغير طعمه ولونه وريحه.
خامساً: أن تكون أهدافهم من حياتهم واضحة تمام الوضوح، لا غبش في الرؤية، ولا تقاطع بين الرغبات الخاصة والمصالح العامة للوطن والأمة، بل تكامل وتضافر.
في المقالة القادمة بإذن الله أستكمل هذه الآراء التي أرجو أن يكون لها نصيب في نشر الوعي بين شبابنا بواقعهم وقضاياهم الراهنة.
آراء صريحة في قضايا الشباب المعاصرة (2/2)
د. خالد الحليبي 3/7/1426
08/08/2005
شريحة الشباب في البلاد المسلمة تعيش مرحلة تحدّيات عنيفة في إطار التغيرات الساخنة والمتتابعة محلياً وإقليمياً ودولياً. مما يتطلب مبادرات حيوية لتحديد مواقف صريحة من كل ما يجري أو يستجد؛ لتوجيه هذه الطاقات، بما يلائم بين ثوابتنا واحتياجات البناء الحضاري الجديد.
وقد وقفت في المقالة السابقة مع عدد من التساؤلات والقضايا الشبابية المعاصرة أكملها في المقالة التالية بعون الله وتوفيقه:
3ـ الشباب .. والخوف .. وبناء المستقبل :
لا بد أن أقرر حقيقة تربوية، تشير إلى أن نفسيات الشباب ينبغي ألاّ تُبنى على التقهقر، والتردّد، والخوف والقلق المرضيين، فكل هذه مدمّرات نفسيّة يُخشى منها بلا شك أن تؤدي إلى هدم النفسية المقدمة الباذلة المنافسة المسابقة، وهنا ندعو الآباء والمعلمين أن يتجنبوا توريث المخوفات العتيقة، التي جعلت كثيراً من الجيل القريب من جيل الشباب جيلاً تنقصه كثير من الجرأة، ويتسم بالانغلاق، وقلة الإبداع؛ لكثرة ما عاش في وسط (خوّاف)، ولكن المخاوف هي منا نحن المربين على نشئنا الناهض، وشبابنا المتوقد، من أن تُستغل رغباته واندفاعاته الفطرية في تحقيق مآرب أخرى، سواء أكانت ذات علاقة بالعمالة للأعداء، أم لتنفيذ مخططات الإرهاب، أم لمجرد تكسير مجاديف القوة الشبابية في أجنحتهم، مثل نشر المخدرات والتفسّخ الجنسي، والاستهتار بالقيم، والانكباب على دعارة التلفاز والإنترنت، حتى تُستهلك طاقته فيما لا ينفع.
ودفعاً للدعوى الشائعة بين الجيل الماضي المدرك لجيلنا، فإني لا أرى أن شباب الأمس أفضل من شباب اليوم، بل شباب اليوم أفضل من شباب الأمس بلا شك، ودليلي هو ارتفاع منسوب التأهيل النفسي والعلمي والعملي لجيل اليوم، وارتفاع تطلعات كثير من أفراده، على أن لكل جيل من يعثر فيه، ومن يقع، وفيه من يرتفع فيكون في سمائه نجماً لا يُضاهى.(57/2)
وأتوقع أن شباب الغد سيكونون -بإذن الله- أفضل من شباب اليوم؛ لكثرة الإمكانات المتاحة أمامهم، ذلك إذا سرنا بطريقة صحيحة في حمايتهم من مخططات التدمير، ومن غوائل التخويف، ووجّهناهم بعناية وتقدير لملكاتهم وشخصياتهم، واحترمنا شخصياتهم، ثم وجّهناهم ليكونوا في الطريق الذي يتميزون فيه، فكل ميسر لما خُلِق له، وأظن أن كثيراً من البرامج تُقام الآن وستُقام بإذن الله؛ لنصل إلى هذا الهدف الأسمى.
ودعوني ـ أيها الإخوة ـ أصحح مفهوماً آخر، يرى أن الانكباب على العلوم الأدبية بما فيها الشرعية، يمثل تياراً مضاداً لما ينبغي الانكباب عليه، وهو العلوم التجريبية، فإن كل من يستقري التاريخ سيجد أن العلوم الإنسانية هي أساس النهضات، حتى الثورة الصناعية كان أساسها نظرياً، وفلسفاتها إنسانية بحتة، ولكنها اتكأت على الصناعة ، إذن فإنه ـ في المقابل ـ الالتفات إلى الاختصاصات العلمية البحتة، على حساب الروحانية أو الأدبيّات هو جهل بحقيقة نهضة الشعوب، وفي العصر الحديث يحتل علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ منزلة عظمى في الدول الكبرى، وقد عاد إلى تصحيح الوضع مع المقررات التشريعية الدينية لترجع أقوى مما كانت عليه؛ لمواجهة الانحلال الخلقي الذي وصلت إليه، فيما تندفع أقلام اليوم لهجاء أي تعليم ديني أو إنساني، وهو من طبيعة المتعجلين الذين يركبون الموجات دون تأمل أو مراجعة أو توسط، أو حتى تفكير في مستقبل الوطن الذي يعرفون خصوصيته فيتجاهلونها عمداً، لتحقيق مآرب شخصية، مبناها على الهوى والرغبة الحادة.
أيها الإخوة المربون .. إن أي مؤسسة حديثة تُعنى بأمر الشباب مطلوب منها على وجه السرعة أن تنفض عنها غبار الأمس، وتعاود الكرة لتجديد كل أساليبها، وإلا فلن يصغي الشباب إليها، بل سيلتف عنها إلى من سيشوه فكره، ويمسخ معتقده. إذن إذا أردنا أن نحتفظ بشبابنا فيجب علينا أن نوفر له البرامج التي تشبع نهمه للتطور، دون أن نسيء إلى تربيته، أو نسمح له أن يجرّب الانحراف عن طريق برامجنا نحن، وهنا تكمن إشكالية التعامل مع الشباب، وصعوبة وضع البرامج لهم.
ثم حتى متى سيبقى شبابنا بعيدين عن الأيدي التي تستثمر مواهبهم، وتدفع إبداعه إلى الإنجاز؟ لماذا لا نكون محاضن تربوية مختصة في توجيه الشباب إلى الإبداع فيما يحسن، بدلاً من التعامل مع الأكوام؛ حيث يزدحم أكثر من أربعين طالباً في فصل واحد، وأكثر من مئة في قاعة جامعية واحدة .. متى سيظهر الإبداع في جو كهذا؟
ثم إن الأحداث التي شهدتها عدد من البلاد الإسلامية في السنوات القليلة الأخيرة؛ لفتت النظر إلى ظهور تناقضات حادة في واقع الشباب؛ فمن جهة هناك الغارقون في اللامبالاة، ومن جهة أخرى هناك الواقعون في شرك أفكار مدمّرة. ولا شك بأن هناك من هم ذوو منهج وسطي رائع هم الذين يمثلون معظم الوسط الملتزم باستقامته على شريعة الله، وفي الوقت نفسه المبدع في كل التخصصات التي اختارها؛ لتكون سفينته في لجّة الحياة، ولكن لماذا يستمر الطرفان الأولان (غير المبالين وأصحاب المناهج التكفيريّة) في النمو؟ وأين يكمن الخلل؟
يكمن الخلل في نوع التربية والعلاقة الممتدة بالشباب، فالطفل يلقى عناية فائقة من الأهل والمدرسة، وعلاقة وثيقة؛ ولكن بالطرق الموروثة التي تقوم على مجموعة من الأسس البعيدة عن أسس التربية النبوية، والتي أكّدها علم النفس التربوي الحديث؛ تلك الطرق ولدت الكبت والقهر والشعور بالإحباط والدونية، وما أن يبلغ مبلغ الشّباب حتى ينفطم من كل صلة، ويُلقى في الشارع ليتغذى كما شاء ممن شاء، فقسم يغرقون في اللامبالاة، وآخر يتأثر بالأفكار المدمّرة؛ تبعاً لمن يلقاهم أو يلقونه في أجواء قد تكون سافرة وقد تكون تحت الأرض.
4ـ الشباب.. والمسؤولية..!
والسؤال الذي يُطرح على الشباب مباشرة: إذا افترضنا أن مؤسسة الأسرة تتحمل جزءاً من التقصير، إلى جانب تحمّل المؤسسات التنموية جانباً آخر.. فما الذي يتحمّله الشباب أنفسهم من التقصير؟ بمعنى:الذي يتعين على الشباب النهوض بمسؤوليته إزاء حاضرهم ومستقبلهم؟
نعم ..ينبغي أن يتحمل الشاب مسؤولية مستقبله، بالجدية في الأخذ بزمام المبادرة في جميع ما يوكل إليه، بدءًا بدراسته؛ فقد تعبنا من هذه النتائج الهرمة، والتي لا تجد في كل مئة اسم منها ممتازاً واحداً، وهذا الإخفاق في سوق العمل، بسبب الميوعة، ورفض أنواع من العمل بحجج تدل على نعومة لا تليق بالرجال، لا بد من تأهيل الذات لخوض خشونة الحياة.
5ـ الشباب والحوار(57/3)
إن الشباب في أمس الحاجة اليوم إلى الحوار، معهم في البيت والمدرسة وساحات المجتمع كله، والحوار الوطني والشباب في بلادنا المملكة العربية السعودية تجربة جديدة، ومن حقّها أن تأخذ مداها لنستطيع أن نقف أمامها منتقدين، وفي نظري أننا يجب أن نشيد بها، فالتجربة غنية بالإيجابيات، يكفيها أنها استمعت إلى الشباب مباشرة، وجمعت بين شيوخ الوطن وفتيانه في إضمامة واحدة، ووضعت كثيراً من القضايا التي يتحرج منها كثيرون على مائدة الحوار بكل أريحية، كلنا نعلم كم يشتاق الشباب إلى من يفهمهم، فقد تعبوا من الأسْتذة الممارسة عليهم في المنزل والمدرسة والنادي والمركز والشارع، ملّوا .. وجاءت الفرصة لكي يتحدثوا هم ونحن نستمع. أيا كانت النتائج، وأيا كانت التطبيقات بعد ذلك.. ولو لم نجن إلا ثمرة واحدة هي أننا بدأنا نتحاور لكفانا. ولذلك لابد من أن نسعى لتدريبهم على تقنيات الحوار التي ينبغي أن نتعاون جميعاً على فقهها؛ لكي تكون مائدة تلاقينا مع بعضنا، ومع المجتمع الذي نحن جزء منه.
مثل قضايا الشباب المعاصرة لها تداعيات لا تنتهي من هموم الفكر حين يشتبك بالواقع.
شكراً لك أخي القارئ .. وأنتظر رأيك وتعليقك، وصلى الله على نبينا محمد وآله.(57/4)
آراء معاصرة عن تغير الأحكام بتغير الزمان (1/3) د. بسطامي محمد خير*
مقدمة
لا يشك مسلم في صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان ، وحيويته لمعالجة مشكلات كل عصر وقطر . ولقد كان من آثار الصحوة الإسلامية المعاصرة ، السعي الجاد لتجديد الفقه وبعث الاجتهاد ، ليقدم الحلول لمشكلات العصر الحاضر ، ومواجهة التطور والتغير الذي حدث في كثير من نواحي الحياة ونظمها . ومن القواعد الهامة التي شاعت عند كثير من المعاصرين ، دليلا على قابلية الإسلام لاستيعاب التطور ، قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان . وهي قاعدة هامة صاغها الفقهاء قبل العصر الحاضر وتناولها عدد منهم بالشرح والتوضيح . ولكن من يتأمل في استعمالات المعاصرين لها ، يجد اضطرابا في فهمها وخلطا في ضبطها ، بين موسع ومضيق لدائرة الأحكام التي تتغير بتغير الظروف والعصور .
وتسعى هذه الورقة لإلقاء الضوء على هذه القاعدة ، وبحث معناها وتحقيق محتواها ، وتحرير فهم الأولين لها ، وعرض أراء المعاصرين عنها ، للخلوص من ذلك كله إلى تعريف دقيق لها ، يعين في تحديد تأثير اختلاف الزمان والمكان في تغير الأحكام ، والإجابة على السؤال الهام ما الثابت والمتغير من الإسلام .
تحرير القاعدة
قرر كثير من الفقهاء قديما وحديثا قاعدة تغير الأحكام تبعا لتغير الأحوال والظروف والأوضاع والعادات ، منهم على سبيل المثال ابن القيم والشوكانى ومصطفى الزرقاء والقرضاوي . ولقد عقد الإمام ابن القيم لها فصلا قيما في كتابه "إعلام الموقعين" واستدل عليها ونصرها أتم نصر ، ومثل لها بأمثلة كثيرة . ومما استدل به الشيخ القرضاوي[1] على هذه القاعدة من القرآن قول الله تعالى: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) (الأنفال: 65)، ثم قال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين). (الأنفال: 66). فقد قال بعض المفسرين أن هذا نسخ ، ولكن نقل القرطبي وغيره أن هذا تخفيف وليس بنسخ[2] ، فالآية الأولي حكم في حالة القوة والثانية حكم آخر في حالة الضعف . ومن السنة استدل على قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان الأحاديث الصحيحة في ادخار لحوم الأضاحي من مثل ما رواه مسلم[3] عن عائشة قالت: دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ادخروا لثلاث وتصدقوا بما بقى فلما كان بعد ذلك قيل يا رسول الله لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم فقال:(إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وتصدقوا وادخروا) . فالنهي عن الادخار كان في وقت الحاجة وجاءت الرخصة بزوال هذه الحاجة ، ولهذا يقول القرطبي: لو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم[4] .
والظاهر أن هذه الأدلة من القرآن والسنة مجرد أمثلة للاستدلال على هذه القاعدة الهامة ، وإلا فإن هناك شواهد كثيرة لأحكام ثابتة بالقرآن والسنة قد بينت النصوص نفسها الأحوال التى تتغير فيها . والواضح أنه ليس هناك اشكال في ثبوت القاعدة لكن قد أشكل بعض المعاصرين فهمها وتطبيقها و تعيين ما الثابت من الأحكام وما المتغير . فمن المعروف أن أحكام الشريعة تنقسم إلي قسمين رئيسيين : أحكام مصدرها نصوص القرآن والسنة مباشرة ، وأحكام مصدرها الاجتهاد دون أن تستند مباشرة علي النصوص مثل أن تكون مبنية علي مصلحة سكتت عنها النصوص أو عرف أو عادة لم ينشئها نص شرعي .
ولا يختلف اثنان أن الأحكام في كلا القسمين إنما ترمي إلي تحقيق مصالح الناس ومراعاة منافعهم . ومما لا ريب فيه أن بعض هذه المصالح والمنافع يتبدل ويتغير بتغير الزمان أو المكان ، أو لأي عامل من العوامل التي تؤثر في تغير المصالح.
ففي القسم الثاني من الأحكام الذي لم يكن مصدره النص مباشرة ، لم يجد عامة الفقهاء صعوبة تذكر في تقرير أن المصلحة التي لم يأت بها نص أصلا يمكن أن تتغير وتصبح في حين من الأحيان مفسدة ، أو أن العادة والعرف الذي لم يتكون نتيجة نص شرعي أصلا ، يمكن أن يتبدل ويتغير ، وحينئذ قرروا بلا تحفظ أن الأحكام في هذا القسم تتغير بتغير الزمان ، لأن الأصل الذي تبني عليه أصل متغير ، وتغيره سواء كان مصلحة أو عرفا متصور عقلا وواقع ملموس .(58/1)
أما القسم الثاني من الأحكام وهي الأحكام التي تقررها النصوص مباشرة فكل أحد يقر أن النص مقصود منه تحقيق المصلحة للناس ومقصود منه منفعتهم ، فغاية النص وهدفه وحكمته هي المصلحة . حينئذ لم يستطع ذهن عامة الفقهاء أن يتصور أن هذه المصلحة التي يثبتها النص يمكن أن تتغير وتصبح في زمن من الأزمان مفسدة . ذلك أن من المتفق عليه أن المصلحة ليست تابعة للهوي أو المزاج الشخصي ، وأن المصالح التي تقررها النصوص هي المصالح حقيقة . وأن من التناقض الواضح أن يقال أن مصلحة ما عارضت النص . فالنص هو عدل كله ورحمة كله وحكمة كله ومصلحة كله ، فأي مصلحة تلك التي تعارض النص ، إلا إذا كانت نابعة من هوي أو مصدرها مزاج سقيم . حينئذ قرر عامة الفقهاء أن الحكم الذي مصدره النص حكم ثابت إلي يوم الدين لا يتغير بتغير الزمان .
يقول الإمام ابن حزم مؤكدا هذه الحقيقة :
( إذا ورد النص من القرآن أو السنة الثابتة في أمر ما علي حكم ما .. فصح أنه لا معني لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان ولا لتغير الأحوال ، وأن ما ثبت فهو ثابت أبدا ، في كل زمان وفي كل مكان وعلي كل حال ، حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى)[5] .
وعلي هذا فإن القاعدة الفقهية ( لا ينكر تغير الأحكام بتدل الزمان ) قد وضعها الفقهاء للقسم الثاني من الأحكام ، وهي الأحكام التي لا تستند مباشرة علي نص شرعي ، بل مصدرها عرف أو مصلحة سكتت عنها النصوص . وهذه القاعدة هي إحدى قواعد المجلة وقررتها المادة 39، وقد جاء شرح هذه القاعدة بقصرها علي الأحكام التي لم تستنبط من النصوص [6] ، وعلي هذا استقر فهم الفقهاء .
يقول ابن القيم: (الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها ، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة ، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك ، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه . والنوع الثاني ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة .)[7]
ويقول الدكتور مصطفي الزرقاء من المعاصرين في بحثه لهذا الموضوع :
( من المقرر في فقه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيرا كبيرا في كثير من الأحكام الشرعية الاجتهادية ، وعلي هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان ) وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب علي أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان واختلاف الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحيه وهي المعنية بالقاعدة الآنفة الذكر ، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال )[8] .
أثر العرف في تغير الأحكام :
ويزيد الإمام الشاطبي أحد علماء أصول الفقه المتمكنين مسألة تأثير العرف في تغير الأحكام شرحا وتوضيحا ، فيبين أن العادات والأعراف المتبدلة هي الأعراف التي لم تنشئها الشريعة أصلا ، ولم تتعرض لها إطلاقا لا بمدح ولا ذم ، إنما أنشأاها الناس بأنفسهم نتيجة العلاقات الاجتماعية بينهم . فهذه هي التي يؤثر تغيرها في أحكامها الشرعية فيتغير حكمها تبعا لتغيرها . وضرب بعض الأمثلة علي ذلك منها علي سبيل المثال العبارات التي يكون لها تأثير في إنشاء أو إنهاء عقود المعاملات المالية ، مثل البيع أو ألفاظ الطلاق ، فهذه يراعي فيها العبارات التي يعتادها الناس والاصطلاحات التي يستعملونها في كل عصر . ومن الأمثلة أيضا للعوائد التي تتغير ويكون لها تأثير العادات الخاصة بالزواج مثلا ، فهذه قد تختلف من عصر إلي عصر ، أو من بلد إلي بلد ، فإذا كانت العادة مثلا أن يدفع المهر كاملا قبل الزواج ، أو الهدايا التي تدفع للعروس تكون من ضمن المهر ، فلهذه العادات تأثير في الأحكام الشرعية .
أما العادات والأعراف التي تنشئها الشريعة وتعتبرها من المحاسن أو تذمها وتعدها من القبائح ، فهذه لا تتبدل ولا تتغير بل هي ثابتة ، وفيما يلي عبارة الإمام الشاطبي التي شرح فيها هذه القضية [9] :
يقول ( العوائد المستمرة ضربان ، أحدهما : العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ، ومعني ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا ، أو نهي عنها كراهة أو تحريما ، أو أذن فيها فعلا وتركا . والثانية : هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه وإثباته دليل شرعي .
فأما الأول : فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية .. فهي أما حسنة عند الشارع أو قبيحة .. فلا تبديل لها .. فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحا ولا القبيح حسنا .. إذ لو صح مثل هذا لكان نسخا للأحكام المستقرة المستمرة والنسخ بعد موت النبي (ص) باطل . فرفع العوائد الشرعية باطل )(58/2)
أما الثانية فهي عند الشاطبي المتبدلة ثم ضرب لها أمثلة كما سقناها .
آراء معاصرة
ومع استقرار هذا الفهم لقاعدة تغير الأحكام بتغير الفتوى ، فقد توسع بعض المعاصرين في استعمالهم لها ، ومن الأمثلة على ذلك رأي الدكتور معروف الدواليبي الذي يشرحه في مقال له بعنوان ( النصوص وتغيير الأحكام بتغيير الزمان ) فيقول :
( إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه فهل يصح في الاجتهاد تغيير ما لم ينسخه الشارع من الأحكام وذلك تبعا لتغير الأزمان؟
إن جميع الشرائع من قديمة وحديثة قد أخذت بمبدأ جواز النسخ لما في الشريعة من بعض الأحكام ، تبعا لتغير المصلحة في الأزمان . غير أنها لم تأخذ بمبدأ السماح للمجتهدين بتغير حكم من الأحكام ما دام ذلك الحكم باقيا في الشريعة ولم ينسخ من قبل من له سلطة الاشتراع . وقد تفردت الشريعة الإسلامية من بين جميع تلك الشرائع من قديمة وحديثة ، بالتمييز ما بين المبدأين أولا وبالأخذ بهما ثانيا .
فلقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقا خاصا بمن له سلطة الاشتراع وأخذت به . أما التغيير لحكم لم ينسخ نصه من قبل الشارع فقد أجازته للمجتهدين ، من قضاة ومفتين تبعا لتغير المصالح في الأزمان أيضا ، وامتازت بذلك علي غيرها من الشرائع ، وأعطت فيه درسا بليغ عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد ، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام . وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع افسلامي ، تعلن بأنه ( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان )[10] .
فعلي رأي الكاتب الفاضل أن الشريعة الإسلامية تمتاز بالمرونة والطواعية في هذه الناحية علي غيرها من التشريعات ، فتجيز للقاضي أو المفتي تغيير حكم من الأحكام ، ولو كان هذا الحكم ثابتا بنص القرآن أو السنة ، تبعا لتغير المصالح بتغير الأزمان ، مع أن كثيرا من القوانين قديما وحديثا لا تتميز بهذه المرونة ، فلا يمكن لقانون وضعه مجلس تشريعي أن ينقضه أحد كائنا من كان ولو أحد قضاة المحاكم العليا أو رئيس الوزراء . ويقول أن ذلك أصبح في الإسلام قاعدة فقهية مقررة وهي أنه ( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ) .
وقد شذ بعض المعاصرين وتطرفوا في توسيع قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان ، فألبسوا بسببها العلمانية ثوبا إسلاميا ، فجعلوا العبادات وحدها هي الثابتة في الإسلام التي يلتزم بها بالنصوص ، أما في غير دائرة العبادات فالباب مفتوح علي مصراعيه لتعديل النصوص وتغييرها ، وحذفها وإضافة غيرها . يقول الدكتور النويهي في مقاله بعنوان ( نحو ثورة الفكر الديني )[11] .
( إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية بين الناس والتي يحتويها القرآن والسنة لم يقصد بها الدوام وعدم التغير ولم تكن إلا حلولا مؤقتة ، احتاج لها المسلمون الأوائل وكانت صالحة وكافية لزمانهم ، فليست بالضرورة ملزمة لنا ، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغير ، ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه).
ويعتمد هؤلاء المعاصرين لتأييدا رأيهم في تغير الأحكام الثابتة بالنص تبعا لتغير المصالح بتغير الزمان على بعض الحجج: منها رأي الطوفي في المصلحة ، ومنها اجتهادات عمر بن الخطاب ، التي يرون أنه لم يتمسك فيها بالتطبيق الحرفي للنصوص ، ومنها استبدال الشافعي لمذهبه العراقي القديم بمذهبه المصري الجديد[12]. ونتناول هذه الحجج فيما يلي بالمناقشة والنقد .
------------------------------
[1] انظر عوامل السعة والمرونة للشيخ يوسف القرضاوي .
[2] تفسير القرطبي ج /1 ص /45 ، دار الشعب القاهرة .
[3] انظر شرح النووي على صحيح مسلم ج/13 ص/129 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 1392 .
[4] تفسير القرطبي ج/12 ص 48 .
[5] الأحكام في أصول الأحكام – ابن حزم ج/5 ص 771 - 774
[6] أنظر شرح المجلة – محمد خالد الأتاسي ج/1 ص 91
[7] إغاثة اللهفان لابن القيم ، دار المعرفة بيروت ن 1975 ، ج/1 ص 330 .
[8] ( تغيير الأحكام بتغير الزمان ) د. مصطفي الزرقاء – مجلة المسلمون ع/8 ص 891 ( 1373)
[9] أنظر الموافقات – للشاطبي ج/2 ص 283 وما بعدها
[10] مجلة المسلمون ع/6 اسنة الأولي ص 553
[11] مجلة الآداب ( بيروت ) عدد مايو 1970 ص 101
[12] راجع مقال معروف الدواليبي ( النصوص وتغير الأحكام ) – مجلة المسلمون ع/6 السنة الأولي ص 553 ومقدمة في إحياء الشريعة المحمصاني ص 67
رأي الطوفي في أثر المصلحة في تغير الأحكام :(58/3)
لقد سبق القول إن الحكم الذي جاء به نص حكم ثابت لا يتغير لأن المصلحة التي يحققها مصلحة ثابتة لا تتغير، وقد ظل هذا هو الرأي السائد الوحيد بين الدوائر العلمية، لا يشذ عنه فقيه ولا يعرف أحد رأيا غيره، حتى نشرت مجلة المنار في أوائل هذا القرن رأيا مهجورا لأحد فقهاء القرن السابع الهجري، وهو نجم الدين الطوفي ذكرت المجلة أنه تحدث عن المصلحة بما لم تر مثله لغيره من الفقهاء [1]
فمن هو الطوفي هذا ؟ وما رأيه الذي شذ به عن بقية الفقهاء ؟
تذكر المصادر التي ترجمت لحياة الطوفي أنه كان من فقهاء الحنابلة ، وتصفه بالصلاح والفضل ، ولكن هذه المصادر ذاتها تلقي ظلالا علي انحراف منهجه في التفكير ، وتتهمه بالتشيع والرفض وسب الصحابة ، وتجعل ذلك سببا للثائرة التي ثارت عليه حين كان في القاهرة ، ومنها نفي إلي بلدة صغيرة . وإذا كان البعض يشكك في صحة ما اتهم به ويبرئ ساحته ، إلا أن كل الكتابات قديما وحديثا تتفق علي أن رأيه في المصلحة رأي شاذ ، لم يعرف قبله ولم يتابعه فيه أحد بعده إلا بعض المعاصرين[2] ، وقد يكون الشذوذ وحده ليس عيبا وإن كان في الغالب دليل الخطأ ، فهل كان رأي الطوفي في المصلحة مع كل تلك الظلال القاتمة في حياته ومع ذلك الشذوذ رأيا صائبا أم كان رأيا لا وزن له ؟
أوضح الطوفي رأيه في المصلحة في ثنايا شرحه لأحد الأحاديث الأربعينية وهو حديث لا ضرر ولا ضرار[3] وخلاصة رأيه أن المصلحة أقوى مصادر التشريع ، بل هي أقوى من النص والإجماع ، وأنه في غير دائرة العبادات والمقدرات فإن المصلحة تقدم علي النص والإجماع إذا عارضتهما .
يقول ( واعلم أن هذه الطريقة التي ذكرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور – حديث لا ضرر ولا ضرار – ليست هي القول بالمصالح المرسلة علي ما ذهب إليه مالك ، بل هي أبلغ من ذلك ، وهي التعويل علي النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات ، وعلي اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام .. فالمصلحة وباقي أدلة الشرع أما أن يتفقا أو يختلفا ، فإن اتفقا فيها ونعمت ، وأن اختلفا وتعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة علي غيرها .. وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها ، لأن العبادات حق للشرع خاص به ، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا وزمانا ومكانا إلا من جهته ، فيأتي به العبد علي ما رسم له .. وهذا بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسية شرعية ، وضعت لمصالحهم فكانت هي المعتبرة وعلي تحصيلها المعول .. ولا يقال أن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته ، لأنا قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل النافع )[4] .
ويسوق لرأيه هذا عددا من الأدلة منها[5]
1- أن النصوص إجمالا وتفصيلا قد بينت أن مقصود الله عز وجل من تشريع أحكامه تحقيق المصلحة ورفع الحرج . من ذلك مثلا قوله تعالي { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}- البقرة : 185 ، وقوله { ما جعل عليكم في الدين من حرج } الحج – 78 ، وقال عليه السلام (الدين يسر ) وقال ( بعثت بالحنيفية السمحة ) .
2- حديث لا ضرر ولا ضرار وهو واضح الدلالة في نفس الضرر والمفسدة وتقديم المصلحة علي جميع أدلة الشرع ، فإذا تضمنت بعض أدلة الشرع ضررا كان لا بد عملا بهذا الحديث من إزالة ذلك الضرر .
3- أن النصوص متعارضة مختلفة فلهذا تكون سببا للخلاف والتفرق ، أما المصلحة فأمر حقيقي لا يختلف فيه ، ولهذا فهي أولي بالتقديم علي النصوص .
4- أن المصلحة دليل متفق عليه أما الإجماع فدليل مختلف حوله فالتمسك بالمتفق عليه أولي من التمسك بما اختلف فيه .
وهذا مجمل ما عند الطوفي من أدلة علي رأيه ، ولكن تحليل هذه الأدلة بكل روية وتمعن يظهر فيها ضعفا وتناقضا لا يخطئه من له أدني إدراك بالأدلة وطرق مناقشتها .
1- فمما لا يختلف فيه اثنا أن النصوص دلت عموما وتفصيلا أن أحكام الشريعة غايتها المصلحة ، ولكن هذا دليل إثبات أنه حيثما وجد النص فثم المصلحة ، والله أراد من النصوص اليسر ولم يرد بها العسر ، وكل نصوص الدين ما جعل الله فيها من حرج وهي سمحة سهلة ، فكل أدلة الطوفي في أن المصلحة واليسر ورفع الحرج هي مقصود الشارع ، فهي دليل علي ضرورة التزام النص وتقديمه ، لأنه الذي يحقق المصلحة في كل الظروف .
2- وحديث لا ضرر ولا ضرار هو أحد الأدلة أيضا علي أن كل نصوص الشرع لا ضرر فيها ، وأن المصلحة متحققة منها دائما ، إذ كيف يقرر الرسول أنه لا ضرر وتكون بعض النصوص التي جاء بها سببا في الضرر . إن من يظن وقوع الضرر من تطبيق النص يقع في تناقض بين .
3- والاختلاف في تقدير المصلحة أمر واقع ، وهو اختلاف كبير واسع ، فالمصلحة ليست أمرا منضبطا يتفق عليه الناس وإلا لو كان الأمر كذلك لا تفق الناس في شرائعهم ونظمهم وطرق حياتهم وكل هذا ينقض ما قاله الطوفي من أن المصلحة أمر حقيقي متفق عليه .(58/4)
4- والطوفي في عبارته عن تقديم المصلحة علي الإجماع متناقض جدا ، فهو يقول أن المصلحة متفق عليها والإجماع مختلف حوله ، فتقدم المصلحة لأنها متفق عليها ( فأصبح معني كلامه : الإجماع أضعف من رعاية المصلحة لأن رعاية المصلحة مجمع عليها والإجماع غير مجمع عليه )[6] .
5- ومن الملاحظ أن الطوفي لم يأت بمثال واحد يرينا فيه كيف أن المصلحة عارضت النص وكيف تقدم عليها ، حتى نستيقن مما يقول ، وما ذلك إلا لأنه لم يجد مطلقا بعد طول الاستقراء والبحث حالة واحدة تعارض فيها المصلحة النص لأن ذلك التعارض أمر متوهم[7]
ولضعف أدلة الطوفي وشناعة رأيه حمل عليه كثير من المعاصرين حملة قوية . فيقول الشيخ أبو زهرة عن رأيه أنه ( رأي شاذ بين علماء الجماعة الإسلامية ) ويقول ( .. إن مهاجمته للنصوص ونشر فكرة نسخها أو تخصيصها بالمصالح هي أسلوب شيعي ، أريد به تهوين القدسية التي يعطيها الجماعة الإسلامية لنصوص الشارع . والشيعة الأمامية يرون أن باب النسخ والتخصيص لم يغلق لأن الشارع الحكيم جاء بشرعه لمصالح الناس في الدنيا والآخرة ، وأدري الناس بذلك الإمام فله أن يخصص كما خصص النبي (ص) لأنه وصى أوصيائه . وقد أتي الطوفي بالفكرة كلها وإن لم يذكر كلمة الإمام ليروج القول وتنتشر الفكرة )[8] .
ويقول الشيخ عبد الوهاب خلاف : ( .. وإن الطوفي الذي يحتج بالمصلحة المرسلة إطلاقا فيما لا نص فيه وفيما فيه نص، فتح بابا للقضاء علي النصوص وجعل حكم النص أو الإجماع عرضة للنسخ بالرأي، لأن اعتبار المصلحة ما هو إلا مجرد رأي وتقدير، وربما قدر العقل مصلحة وبالروية والبحث يقدرها مفسدة. فتعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء وتقدير العقول خطر علي الشرائع وعلي كل القوانين )[9] .
----------
[1] المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي – مصطفي زيد ص 194 .
[2] راجع في ذلك المصدر نفسه ص 67 – 88 وضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية محمد سعيد رمضان البوطي – ص 202 – 206 وأنظر ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب ج/2 ص 366.
[3] أنظر النص الكامل لهذا الشرح في ملحق كتاب المصلحة في التشريع الإسلامي لمصطفي زيد .
[4] ملحق كتاب المصلحة في التشريع الإسلامي – مصطفي زيد ص 235 و 238 و 240
[5] أنظر نفس المصدر ص 235 وما بعدها
[6] أنظر ( ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية ) – محمد سعيد رمضان البوطي ص 212
[7] أنظر ( ابن حنبل ) لأبو زهرة ص 359
[8] نفس المصدر ص 363
[9] مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه – عبد الوهاب خلاف – ص 101
اجتهادات عمر بن الخطاب
يقال أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلتزم بحرفيه النصوص في عدد من اجتهاداته وفيما يلي اثنان من أشهرها :
1- ( اجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلفة قلوبهم ، كان في مقدمة الأحكام التي قال بها عمر تبعا لتغير المصلحة بتغير الأزمان ، رغم أن النص القرآني لا يزال ثابتا )[1] .
ويقول النويهي عن ذلك :
( فأي شئ هذا إن لم يكن إلغاء تشريع قرآني حين اعتقد أن الظروف المتغيرة لم تعد تجيزه ؟ لكن هل يجرؤ علماؤنا وكتابنا علي مواجهة هذه الحقيقة الصريحة ؟ )[2].
ولكن هل صحيح أن عمر في هذه القضية غير حكما ثابتا بالقرآن ؟ إن سؤالا واحدا كفيل بوضع هذه القضية في موضعها الصحيح ، وهو هل وجد مؤلفة قلوبهم في عهد عمر أم لا ؟
فمن المعلوم أن مصارف الزكاة محدودة لأصناف ثمانية معروفة أوصافهم ، فإذا لم يوجد صنف منهم في أي عصر من العصور ، مثل عدم وجود صنف الرقيق ( في الرقاب ) في هذا العصر ، فكل ما يمكن أن يقال أن مصرفا من مصارف الزكاة موقوف حتى يوجد من يستحقه . فكل ما فعله عمر رضي الله عنه هو أنه حكم بعدم وجود صنف المؤلفة قلوبهم في عصره ، وليس ذلك إلغاء لتشريع قرآني ، وليس فيه تغيير لحكم ثابت بالقرآن لتغير الزمان ، فإذا وجد المؤلفة قلوبهم في أي عصر أعطوا وإذا لم يوجدوا لم يعطوا [3] .
2- ( ..اجتهاد عمر رضي الله عنه عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة علي السارقين وهو قطع اليد ... وفي هذا تغيير لحكم السرقة الثابت بنص القرآن عملا بتغير الظروف التي أحاطت بالسرقة )[4].
ولكن من الواضح أن عمر هنا إنما درأ الحد بالشبهة ، ودرأ الحدود بالشبهات أمر مشروع وروي عن غير واحد من الصحابة [5] . ويقول ابن القيم عن ذلك : ( فإن السَنة إذا كانت سَنة مجاعة وشدة ، غلب علي الناس الحاجة والضرورة ، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلي ما يسد به رمقه – وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج وهي أقوي من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء )[6] .
فليس في اجتهاد عمر تغيير للنص الثابت بالقرآن استجابة للظروف .
فقه الشافعي القديم والجديد :(58/5)
ومن الأمثلة التي تساق لتغير الأحكام بتغير الظروف ما ثبت من تغير فقه الشافعي القديم حين كان بالعراق إلي فقهه الجديد حين انتقل إلي مصر[7]. وتغير فقه الشافع من القديم إلي الجديد أمر ثابت ، أما تعليل هذا التغير بتغير الظروف فهو يحتاج إلي نظر . فمن المعلوم أن الشافعي قد جمع فقهه في كتبه وهو قد ألف أكثر هذه الكتب في القديم ، ثم حين أعاد تأليفها في الجديد كان يأمر بتمزيق الأولي التي حوت اجتهاداته القديمة والتي تغير رأيه فيه[8] ، وفوق ذلك فقد روي البيهقي عنه أنه كان يقول : لا أجعل في حل من روي عني كتابي البغدادي ) وكتابه البغدادي هو المشتمل علي مذهبه القديم [9]، فلماذا هذا التشدد في نسخ آرائه القديمة وسعيه لإماتتها ؟ .
لا يبدو من ذلك أن السبب في تغير اجتهاداته تغير ظروف مصر عن ظروف العراق ، لأن الأمر لو كان كذلك لأجاز للناس رواية ونقل مذهبه العراقي ، ولكن تشدده في نسخه وسعيه لإماتته كأنه لم يقله ، دليل علي أنه أعاد النظر في آرائه الماضية ، فاستبان له وجه جديد أصح وأقوى ، أو ربما اكتشف أخطاء في اجتهاده القديم ، لهذا أحب ألا ينقل عنه رأي خطأ . وإعادته النظر في آرائه القديمة وتغير اجتهاده فيها أمر عادي بسبب زيادة علمه وخبرته لا بسبب تغير الظروف . ويقول أحد أشهر تلامذته وهو الإمام أحمد بن حنبل عن كتبه القديمة والجديدة التي حوت ( فقهه القديم والجديد ): " .. عليك بالكتب التي وضعها بمصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها ثم رجع إلي مصر فأحكم تلك )[10]
ولعل استقراء المسائل التي تغير اجتهاده فيها هي أفضل وسيلة لمعرفة ما إذا كانت للظروف أثر في ذلك ، ولا أعلم مسألة واحدة يمكن أن يقال أن لتغير الظروف بين مصر والعراق أثر في تغير رأيه فيها .
رأي الإمام ابن القيم في تغير الأحكام :
عقد الإمام ابن القيم في كتابه ( أعلام الموقعين ) فصلا عن ( تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والنيات والعوائد ) . وقد حمل سوء الفهم لهذا الفصل بعض الناس فجعل رأي ابن القيم ورأي الطوفي سواء [11]، ولكن الدارس لرأي ابن القيم من الأمثلة التي ساقها يتضح له أنه لا فرق بينه وبين رأي سائر الفقهاء في إثبات تغير الأحكام في دائرة المسائل التي سكتت عنها النصوص ، أما في دائرة النصوص فالأحكام ثابتة إلا إذا دل النص نفسه علي تغيرها .
وقد أورد ابن القيم عددا من الأمثلة لتغير الحكم وكل أمثلته تدور علي الحالات الآتية[12] :
1- الحالة التي يثبت تغير النص فيها نص آخر ، مثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع الأيدي في الغزو ، فتعطيل الحد هنا في هذا الظرف ثابت في نص آخر . ويشبه ذلك أيضا سقوط حد السرقة أيام المجاعة كما هو منقول عن عمر بن الخطاب عملا بنص درء الحد بالشبهة .
2- الحالة التي تتعارض فيها المصالح التي تثبتها النصوص ، ومثالها ترك إنكار المنكر إذا كان يستلزم ما هو أنكر منه . يقول: " فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى أن يزول ويخلفه ضده ، الثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته ، الثالثة أن يخلفه ما هو مثله ، الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه . فالدرجتان الأوليان مشروعتان ، والثالثة موضع اجتهاد ، والرابعة محرمة ."[13]
3- حالة يستعمل فيها القياس وإلحاق الأشباه والنظائر بأمثالها التي تثبتها النصوص ، ومن أمثلة ذلك أن النص جعل صدقة الفطر في أصناف مخصوصة ، فيقاس عليها أمثالها من الأصناف التي تصلح أن تكون قوتا ، في البلاد التي لا يوجد فيها الأصناف التي حددها النص . ويضيف ابن القيم قائلا: " وكذلك حكم ما نص عليه الشارع من الاعيان ، التي يقوم غيرها مقامها من كل وجه أو يكون أولى منها ، كنصه على الأحجار في الاستجمار ، ومن المعلوم أن الخرق والقطن والصوف أولى منها بالجواز ، وكذلك نصه على التراب في الغسل من ولوغ الكلب والاشنان أولى منه ، هذا فيما علم مقصود الشارع منه وحصول ذلك المقصود على أتم الوجوه بنظيره وما هو أولى منه ."[14]
4- حالة استثنائية قاهرة خاصة بحالة العجز والضرورة ، ومثالها صحة طواف الحائض إذا خشيت أن تفوتها رفقتها في الحج ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف وقال: " اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" ، وهو نص واضح في عدم صحة ذلك في الأحوال العادية . يقول ابن القيم: " وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها له ، بأعظم من اشتراطها للصلاة ، فإذا سقطت بالعجز عنها فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحرى ."[15]
5- الحالات التي تتغير فيها عبارات العقود والأيمان والطلاق والنذور تبعا لتغير العرف والعادة في ذلك .
وليس من أمثلة ابن القيم مثال واحد لتقديم المصلحة علي النص .
ألخاتمة: أحكام النصوص ثابتة :(58/6)
ومن هذه المناقشات كلها لا نجد دليلا واحدا ، يؤيد رأي العصرانين فيما يحاولونه من فتح الباب لتغيير النصوص ، بل إن الأحكام في دائرة النصوص أحكام ثابتة لا تقبل التحريف والتبديل.
----------
[1] مقال الدوليبي المصدر السابق ص 555
[2] مقال النويهي – مجلة الآداب ( بيروت ) ص 100 عدد مايو 1970
[3] راجع منهج عمر بن الخطاب في التشريع – محمد بلتاجي ص 175- 191 والكتاب كله مناقشة قيمة لاجتهادات عمر .
[4] مقال الدواليبي ص 555
[5] راجع نيل الأوطار الشوكاني ج/7 ص 118
[6] أعلام الموقعين ج/3 ص14
[7] مقدمة في إحياء الشريعة – المحمصاني ص 67
[8] مناقب الشافعي – البيهقي ج/1 ص 256
[9] الشافعي – أبو زهرة ص 192 - 395
[10] مناقب الشافعي – البيهقي : 1/263 ومناقب الشافعي – ابن أبي حاتم ص 60
[11] أنظر المصلحة في التشريع الإسلامي – مصطفي زيد ص 161
[12] أعلام الموقعين – ابن القيم – ج 3، ص 3 - 50
[13] نفس المصدر ج 3، ص 4 .
[14] نفس المصدر ج 3، ص 14.
[15] نفس المصدر ج 3، ص 15.(58/7)
آفات الرياء
والرياء من أعظم آفات العبودية إذ هو محبط للأعمال , هادم للأركان لو دخلت منه ذَرَّةٌ في العمل أفسدته , فهو من صفات المكذبين بالدين .
كما وصف الله حالهم منها :{الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)} [سورة الماعون : 6 ]
وهو أصل عند المنافقين فلا يعمل عملا إلا والأصل فيه الرياء , قال تعالى : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا (142) } [ سورة النساء : 142 ]
وفي حديث الشفاعة الطويل [فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا ] .( 1)
فآفة الرياء محبطة للأعمال , فربما يأتي العبد بطاعات , ويتعنى في عبادات من خير العبادات , فلما دخلها الرياء جعلها الله هباء منثورا , قال تعالى : {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [ سورة الفرقان : 23 ]
وانظر إلى هؤلاء الأصناف الثلاثة الذين أتوا بأفضل الأعمال , ورغم ذلك دخلوا النار بل أول من يُقضى عليهم يوم القيامة ؛ فلمّا لم تكن لله عُذِّبوا بها .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ , فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا , قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ , قَالَ : كَذَبْتَ , وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ , فَقَدْ قِيلَ , ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ . وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ , وَقَرَأَ الْقُرْآنَ , فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا , قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ , وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ , قَالَ : كَذَبْتَ , وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ , وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ , فَقَدْ قِيلَ , ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ . وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ , فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا , قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ , قَالَ : كَذَبْتَ , وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ , فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ؛ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ . (2)
إن في مصير هؤلاء الثلاثة الأشقياء , لعبرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد , ما بالهم وما الذي دهاهم ؟! أليس الجهاد في سبيل الله أفضل الأعمال ؟! أليس هو ذروة سنام الإسلام ؟! أليس للمجاهد في سبيل الله مائة درجة ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ؟! أليس الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ؟! ويسرحون في الجنة حيث شاءوا ؟!.
أليس العلماء ورثة الأنبياء ؟ ألم يقل الله : { يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [سورة المجادلة : 11]
وهذا المتصدق المحسن الذي لا يترك سبيلًا يحبها الله إلا أنفق فيها , أليس الله يثيب على الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ؟.
فما الذي أصابهم وجعلهم أول من يقضى عليه ويقذف به في نار جنهم – أعاذنا الله من هذا المصير -.
لقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب مصيرهم هذا , وهو أنهم لم يخلصوا لله في هذه الأعمال التي تبدو للناس أنها عظمية ، ولم يريدوا بها وجه الله. بل كانت مقاصدهم سيئة وأغراضهم فاسدة , هو حب الثناء من الناس والمدح والإطراء.
فلم يرد ذلك المجاهد وجه الله , ولا إعلاء كلمة الله , إنما أراد بذلك نفسه , وأحب أن يعلو صيته , ويشتهر بين الناس بالشجاعة والإقدام , وقد حصل ذلك فكان جزاؤه في الدنيا ، أما في الآخرة فكان جزاؤه أن يفضح , وتكشف سريرته ثم يقذف في النار .
وأما العالم فلم يطلب العلم لله ليتفقه في دينه , ويعلم ما يجب لله ولكتابه ولرسوله وللناس فيؤديه ، ولم يُعَلِّم الناس لوجه الله يرجو ثواب نشر العلم والدعوة إلى الله , إنما ليقال : فلانٌ عالمٌ أو قارئٌ , فكان جزاؤه أن تفضح نواياه , ويهتك ستره يوم القيامة جزاء سوء قصده ؛ ثم يلقى في النار.(59/1)
وأما صاحب المال فلم يشكر الله الذي أسبغ عليه تلك النعم , ولم يكن من الذين قال فيه : {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [سورة المعارج : 24-25]
ولم يدرك أن المال مال الله استخلفه فيه لينظر كيف يعمل ، لذلك فهو لا يريد بما ينفقه وجه الله , ولا يعرف طريقًا إلى الإخلاص لوجه الله , إنما يريد أن يتغنى الناس بمجده , ويلهج الشعراء بمدحه , وأن يطير في الناس أخبار جوده وسخائه فكان له ذلك , ونال ما قصده في الحياة الدنيا ، وأما الآخرة التي لم يردها فإن جزاءه فيها أن الحساب الدقيق , والجزاء العادل , والملائكة الغلاظ الشِّداد , لا يعصون الله ما أمرهم , ويفعلون ما يؤمرون ؛ تنتظره ليسحب على وجهه ثم يقذف في النار.
وإن في هذا لعبرة عظيمة , وعظة بالغة للمجاهدين والعلماء , والأثرياء المنفقين , علَّهم يتعظون فيخلصون أعمالهم لله , فيظفرون بوعد الله , وينجون من عقاب الله النازل بالمرائين والمنافقين .
ولذلك سد النبي صلى الله عليه وسلم الأبواب على جميع الأعمال ؛ ما لم تدخل من باب الإخلاص .
عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً , وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً , وَيُقَاتِلُ رِيَاءً , فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , قَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .( 3)
ألا فلا يتعنى المراؤن فقد هتك الله أستارهم , وأبان عوارهم , وأحبط أعمالهم .
عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا , فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ! قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا , جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ , قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ , وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ , وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ , وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا .( 4)
وربما يحاول العبد إخفاء العمل فيظهره الله عز وجل , فيفرح رجاء أن يعمل بعمله فيكون ممن سن سنة حسنة , أو يفرح بشهادة الناس له بالخير فيكون له أجران .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيُسِرُّهُ , فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ .
قَالَ أَبُو عِيسَى : وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ : إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ ؛ أَنْ يُعْجِبَهُ ثَنَاءُ النَّاسِ عَلَيْهِ بِالْخَيْرِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ , فَيُعْجِبُهُ ثَنَاءُ النَّاسِ عَلَيْهِ لِهَذَا لِمَا يَرْجُو بِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ , فَأَمَّا إِذَا أَعْجَبَهُ لِيَعْلَمَ النَّاسُ مِنْهُ الْخَيْرَ لِيُكْرَمَ عَلَى ذَلِكَ وَيُعَظَّمَ عَلَيْهِ , فَهَذَا رِيَاءٌ وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ رَجَاءَ أَنْ يَعْمَلَ بِعَمَلِهِ ؛ فَيَكُونُ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ . فَهَذَا لَهُ مَذْهَبٌ أَيْضًا .( 5)
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الإفراط في إظهار العمل , حتى لا يقع العبد في الرياء فيحبط عمله .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْوَلِيمَةُ أَوَّلَ يَوْمٍ حَقٌّ , وَالثَّانِيَ مَعْرُوفٌ , وَالثَّالِثَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ .( 6)
تنقية الأعمال من الرياء
ولذلك وجب على العبد التحري في الأقوال والأفعال , والحركات والسَّكنات , وأن ينزع منها ذرات الرياء , وأن ينظر في كل عمله فما خلص يتقرب به , وما اختلط بغيره ينقيه أو يتركه .(59/2)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ الْكِنَانِيِّ - وَكَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الرَّمْلَةِ - أَنَّهُ شَهِدَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَالَ لِبَشِيرِ بْنِ عَقْرَبَةَ الْجُهَنِيِّ يَوْمَ قُتِلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ : يَا أَبَا الْيَمَانِ إِنِّي قَدْ احْتَجْتُ الْيَوْمَ إِلَى كَلَامِكَ , فَقُمْ فَتَكَلَّمْ قَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ قَامَ يَخْطُبُ لَا يَلْتَمِسُ بِهَا إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً , أَوْقَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَوْقِفَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ .( 7)
وقَالَ أَبُو هِنْدٍ الدَّارِيُّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ رَاءَى اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَمَّعَ .(8 )
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على تنقية أعماله من الرياء لما فيه من خطورة الخفاء وعدم الظهور , ويسأل ربه المعونة على ذلك .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ لَا تُسَاوِي , ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ .(9 )
خَطَبَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ , فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَزْنٍ وَقَيْسُ بْنُ المُضَارِبِ , فَقَالَا : وَاللَّهِ لَتَخْرُجَنَّ مِمَّا قُلْتَ أَوْ لَنَأْتِيَنَّ عُمَرَ , مَأْذُونٌ لَنَا أَوْ غَيْرُ مَأْذُونٍ , قَالَ : بَلْ أَخْرُجُ مِمَّا قُلْتُ , خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ . فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ : وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟! قَالَ : قُولُوا اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ , وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ .( 10)
وقد يهتك الله أستار المرائين , ويفضح أمرهم , ويبين عوارهم في الدنيا والآخرة .
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا , فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي , فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ : يَا أَبَا إِسْحَاقَ ! إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لَا تُحْسِنُ تُصَلِّي! قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا , أُصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الْأُولَيَيْنِ , وَأُخِفُّ فِي الْأُخْرَيَيْنِ . قَالَ : ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ , فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الْكُوفَةِ , فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلَّا سَأَلَ عَنْهُ , وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا , حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ ؛ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ - يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ - قَالَ : أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لَا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ , وَلَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ , وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ . قَالَ سَعْدٌ : أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً , فَأَطِلْ عُمْرَهُ , وَأَطِلْ فَقْرَهُ , وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ , وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ : شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ , أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ . قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَرِ , وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ .(11 )
ويجب على العبد أن يحقر عمله ويراعيه ويحفظه أن يسرق منه فلا هو استراح ولا استمتع به , ولقد كان للسلف حظٌ عظيم من خوف الرياء أشد من خوفهم من الذنوب خشية محو الطاعات .
عن ابن مهدي قال : بات سفيان عندي ؛ فجعل يبكي , فقيل له : بكاؤك هذا خوفًا من الذنوب ؟ فقال : لذنوبي عندي أهون من ذا - ورفع شيئًا من الأرض - إني أخاف أن أُسلب الإيمان قبل أن أموت .(12 )(59/3)
قال شعيب بن حرب : بينا أنا أطوف إذ لكزني رجل بمرفقه فالتفت فإذا أنا بالفضيل بن عياض فقال : يا أبا صالح ! فقلت : لبيك يا أبا علي , قال : إن كنت تظن أنه قد شهد الموسم شر مني ومنك ؛ فبئس ما ظننت .( 13)
وعن بشر بن الحارث قال : قال رجل لمالك بن دينار : يا مرائي , فقال : متى عرفت اسمي ؟! ما عرف اسمي غيرك .( 14)
قال ابن القيم رحمه الله (15 ): يا طالبي العلم قد كتبتم ودرستم ؛ فلو طلبكم العلم في بيت العمل فلستم , وإن ناقشكم على الإخلاص أفلستم , شجرة الإخلاص أصلها ثابت لا يضرها زعازع { أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ سورة القصص: 62 ] وأما شجرة الدُّباء فإنها تجتث عند نسمة [مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ]( 16) رياء المرائين صير مسجد الضرار مزبلة وخربة {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } [سورة التوبة : 108] وإخلاص المخلصين رفع قدر الأشعث الذي لا يعبأ به الناس [رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ](17 ) قلب من ترائيه بيد من أعرضت عنه , يصرفه عنك إلى غيرك ؛ فلا على ثواب المخلصين حصلت , ولا إلى ما قصدته بالرياء وصلت , وفات الأجر والمدح فلا هذا ولا ذاك , لا تنقش على الدرهم الزائف اسم الملك , فإنه لا يدخل الخزانة إلا بعد النقد , المخْلِصُ يتبهرج على الخلق بستر حاله , وببهرجته يصح له النقد , والمرائي يتبرطل على باب الملك يوهم أنه من الخواص وهو غريب , فسله عن أسرار الملك يفتضح , فإن خفي عليك فانظر حاله مع خاصة الملك , يا من لم يصبر عن الهوى صبر يوسف ؛ يتعين عليه بكاء يعقوب , فإن لم يطق فذل إخوته يوم قالوا { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [ سورة يوسف : 88 ] . أهـ
________________________________________
(1 ) رواه البخاري (7440) مسلم (182)
(2) رواه مسلم (1905)
(3 ) رواه البخاري (7458) مسلم (1904)
( 4) رواه ابن ماجة (4235)
( 5) رواه الترمذي (2384)
(6 ) رواه ابن ماجة (1915)
(7 ) رواه أحمد (15643)
( 8) صحيح الإسناد : الدارمي (2748) أحمد (5/270)
(9 ) رواه ابن ماجة (2890)
( 10) رواه أحمد (19109)
(11 ) رواه البخاري (755) مسلم (453)
(12 ) الذهبي"سير أعلام النبلاء"(7/259)
( 13) رواه البيهقي "شعب الإيمان"(6/303)
(14 ) حلية الأولياء (8/339)
( 15) بدائع الفوائد (3/758)
( 16) رواه البخاري (7438)
(17 ) رواه مسلم (2854)(59/4)
آفات اللِّسان
عبادة اللِّسان من أجلِّ العبادات وأعظمها , لِيُسْرِها وسهولتها على العباد ؛ ولكن قد يعرض لها من الآفات ما يهدم العبادة كلها , ويهوي العبد على أُمِّ رأسه في النار .
ولذلك أُمر العبد أولا بالإمساك عن الكلام إذ لا خطر من سَطْوَةِ اللِّسان وشَرِّهِ إلا بالصَّمت , وإلجامه عن الخوض في الكلام دُربة له , وتخلية عما تعوَّد عليه .
فنتيجة إطلاق اللِّسان : هي بَثُّ الوهن والفرقة والخصام والتنازع بين المسلمين , وقطع الطريق على العاملين , وإخماد العزائم بالقيل والقال , إنك ما إن ترى الرَّجل حسن المظهر ؛ عليه علامات الخير , قد تمسك بالسُّنةِ في ظاهره إلا وتقع الهيبة في قلبك , والاحترام والتقدير في نفسك له , وما إن يتكلم فيُجَرِّح فلانًا , ويُعرِّض بعلان , و ينتقص هذا ويغمز ذا , إلا وَتُنْزَعُ مهابته من قلبك , ويسقط من عينك ؛ وإن كان حقًا ما يقول , وإن كان صادقًا فيه , فلا حاجة شرعية دعت لذلك , وإن دعت الحاجة فبالضوابط الشَّرعية , والقواعد الحديثية التي وضعها العلماء .
فإن لم تعلمها أخي المسلم !! فلا أستطيع أن أقول إلا "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَك"
وذلك لأن علم ما يُحْمَد في اللِّسان أو يُذم غامض عزيز , والعمل بمقتضاه على من عرفه ثقيل عسير , إذ أعصى الأعضاءِ على الإنسان اللِّسان , فإنه لا تعب في إطلاقه , ولا مؤنة في تحريكه , وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله , والحذر من مصايده وحبائله , وإنه أعظم آلة الشيطان في استغواء الإنسان .
عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ .
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي : يَا عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ : أَمْلِكْ لِسَانَكَ , ًوَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ , وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ .
وَكَانَ فَرْوَةُ بْنُ مُجَاهِدٍ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ : أَلَا فَرُبَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ لِسَانَهُ , أَوْ لَا يَبْكِي عَلَى خَطِيئَتِهِ , وَلَا يَسَعُهُ بَيْتُهُ .
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ , وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ , أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ .
بل كان للسَّلف في شأن اللِّسان أمر عجيب , دَخَلَ عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَهْ ! غَفَرَ اللَّهُ لَكَ , فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ .
وآفات اللِّسان كثيرة إذ هو أسهل الأعضاء حركة , وأيسرها مؤنه فإنه لا تعب في إطلاقه , ولا مؤنة في تحريكه , وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته , والحذر من مصائده وحبائله .
فمنها فضول الكلام , والخوض في الباطل , والمراء , والخصومة , والتقعر في الكلام بالتشدق , والفحش , والسَّب , واللعن , والسُّخرية , والكذب , والبهتان , وغيرها من الآفات , وأشدها خطرًا وأعظمها جرمًا ؛ آفة الغِيبة !! ومن ثم أفردتها ببعض بيان .
ومن آفات اللسان :
1- القول على الله بغير علم
فمن أعظم الآفات وأخطرها على الإطلاق القول على الله بغير علم , وهي جَرْأة عجيبة وبغي بغير حق , وقد عَدَّه سبحانه وتعالى من عظائم الأمور , فقال عز وجل : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33)} [سورة الأعراف : 33]
وغالبًا يحدث هذا من الأحداث الذين لم يخوضوا غِمار طلب العلم , أو ممن تصدَّر قبل أوانه فيحتاج إلى الفُتيا لتكثير أتباعه , وإبقاء مكانته بينهم فَيَنْسِبُ إلى الشَّرع مالا يعلم .
ويكثر هذا عند غَيْبة العُلماء , وتطاول السُّفهاء , وإسداء الأمر لغير أهله .(60/1)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ , فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ , فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ , وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ لَمْ يَسْمَعْ , حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ : أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ ؟! قَالَ : هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ : فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ . قَالَ : كَيْفَ إِضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاس سِنُونَ خَدَّاعَةٌ , يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ , وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ , وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ , وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ , وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ , قِيلَ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ .
ولقد كان السَّلف رضي الله عنهم يفزعون لعلمهم أن شخصًا أفتى أو يفتي بغير علم .
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ فِي كِنْدَةَ , فَقَالَ : يَجِيءُ دُخَانٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ , يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ ! فَفَزِعْنَا , فَأَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ - وَكَانَ مُتَّكِئًا - فَغَضِبَ فَجَلَسَ , فَقَالَ : مَنْ عَلِمَ فَلْيَقُلْ , وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ , فَإِنَّ من الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ لَا أَعْلَمُ , فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ من أَجْرٍ وَمَا أَنَا من الْمُتَكَلِّفِينَ} .
قَالَ مَالِكٌ : وَجَدْتُ رَبِيعَةَ يَوْمًا يَبْكِي ! فَقِيلَ لَهُ : مَا الَّذِي أَبْكَاكَ ؟ أَمُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِكَ ؟! فَقَالَ : لَا , وَلَكِنْ أَبْكَانِي أَنَّهُ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ , وَقَالَ : لَبَعْضُ مَنْ يُفْتِى هَا هُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ من السَّارِقِ .
فالحذر الحذر من شهوة التَّصدُّر بغير علم ومن التَّقول على الله مالم يقل ؛ أو أن تنسب لدين الله ما ليس منه .
قَالَ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ : إِنَّ الْعَالِمَ يَدْخُلُ فِيمَا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ , فَلْيَطْلُبْ لِنَفْسِهِ الْمَخْرَجَ .
ولذلك ليس بعجيب أن تَسْمَع عَنْ إمام من الأئمة الكبار إن سُئل عَمّا لا يعلم يقول : لا أعلم .
قَالَ أَبُو عَقِيلٍ صَاحِبُ بُهَيَّةَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ , فَقَالَ : يَحْيَى لِلْقَاسِمِ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّهُ قَبِيحٌ عَلَى مِثْلِكَ عَظِيمٌ أَنْ تُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ من أَمْرِ هَذَا الدِّينِ , فَلَا يُوجَدَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ وَلَا فَرَجٌ أَوْ عِلْمٌ وَلَا مَخْرَجٌ , فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ : وَعَمَّ ذَاكَ ؟! قَالَ : لِأَنَّكَ ابْنُ إِمَامَيْ هُدًى !! ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ! قَالَ يَقُولُ لَهُ الْقَاسِمُ : أَقْبَحُ من ذَاكَ عِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ ؛ أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ , أَوْ آخُذَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ . قَالَ : فَسَكَتَ فَمَا أَجَابَهُ .
عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ : مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ : لَا عِلْمَ لِي بِهِ , من الشَّعْبِيِّ .
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ : لَقَدْ أَدْرَكْتُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ عِشْرِينَ وَمِائَةً من الْأَنْصَارِ , وَمَا مِنْهُمْ من أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ , وَلَا يُسْأَلُ عَنْ فُتْيَا إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا.
فاحذر أخي الحبيب أن تُعَرِّض نفسك للهلكة فتكون جسرا إلى نار جهنم .
فَعَنْ الرَّبِيعِ قَالَ : قَالَ الشّافِعي : مَنْ طَلَبَ الرِّيَاسَةَ فَرَّتْ مِنْهُ , وَإِذَا تَصَدَّرَ الْحَدَثُ فَاتَهُ عِلْمٌ كَثِير .
قَالَ ابن القيم رحمه الله : وأمّا القَوْلُ عَلَى الله بلا علم فهو أشد هذه المحرمات تحريمًا , وأعظمها إثمًا , ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان , ولا تباح بحالٍ بل لا تكون إلا محرمة وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير الذي يباح في حالٍ دون حال , فإن المحرمات نوعان :
محرم لذاته لا يباح بحال .(60/2)
ومحرم تحريمًا عارضًا في وقت دون وقت .
قَالَ الله تَعَالَى في المحرَّم لذاته : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال { وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[سورة الأعراف : 33]
فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثما , فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق به , وتغيير دينه وتبديله , ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه , وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه , وعداوة من والاه وموالاة من عاداه , وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه , ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله , فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه , ولا أشد إثما . وهو أصل الشرك والكفر , وعليه أسست البدع والضلالات , فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم , ولهذا اشتد نكير السَّلف والأئمة لها , وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض , وحذروا فتنتهم أشد التحذير , وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان , إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد , وقد أنكر تَعَالَى على من نسب إلى دينه تحليل شيء أو تحريمه من عنده بلا برهان من الله فقال : {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [سورة النحل : 116]
فكيف بمن نسب إلى أوصافه سبحانه وتعالى ما لم يصف به نفسه , أو نفى عنه منها ما وصف به نفسه , قَالَ بعض السَّلف : ليحذر أحدكم أن يقول أحل الله كذا وحرم الله كذا , فيقول الله : كذبت , لم أحل هذا ولم أحرم هذا , يعني التحليل والتحريم بالرأي المجرد بلا برهان من الله ورسوله .
وأصل الشرك والكفر هو القول على الله بلا علم , فإن المشرك يزعم أن من اتخذه معبودًا من دون الله يقر به إلى الله , ويشفع له عنده ويقضى حاجته بواسطته كما تكون الوسائط عند الملوك , فكل مشرك قائل على الله بلا علم دون العكس , إذ القول على الله بلا علم قد يتضمن التعطيل والابتداع في دين الله . فهو أعم من الشرك , والشرك فرد من أفراده , ولهذا كان الكذب على رسول الله موجبا لدخول النار , واتخاذ منزلة منها مبوءا , وهو المنزل اللازم لا يفارقه صاحبه , لأنه متضمن للقول على الله بلا علم , كصريح الكذب عليه لأن ما انضاف إلى الرسول فهو مضاف إلى المرسل , والقول على الله بلا علم صريح افتراء الكذب عليه , ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا .
ومن آفات اللسان :
الغِيبة
وهي مرضٌ خطير وداءٌ دفين يفسد القلب , ويمحو الحب , ويقطع روابط الأخوة , ويجتث العبادة من أُصولها ؛ يَهدم الحسنات , ويُعَظِّم السيئات , ويُعمي البصر والبصيرة , والصبر على هجرانه صعب , والتَّخلص منه أصعب .
وقد قُرن بين الدَّم والعرض في أكثر من موضع , لما لحرمة المسلم عند الله سبحانه وتعالى .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ , دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ .
فكلُّ ما يؤذي المسلم حرام , ومن أعظم الإيذاء ذكره بما يكره .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا الغِيبة ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ , قَالَ : ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ , قِيلَ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ! قَالَ : إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ .
وهذه عائشة رضا الله عنها تذكر أمام النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفةً لإحدى أمهات المؤمنين ؛ فيغضب عليها .
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَسْبُكَ من صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا - تَعْنِي قَصِيرَةً - فَقَالَ : لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ .
وكتب رجل إلى ابن عمر أن اكتب إلي بالعلم كُلِّه , فكتب إليه إن العلم كثير , ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء النَّاس , خميص البطن من أموالهم , كاف اللِّسان عن أعراضهم , لازمًا لأمر جماعتهم فافعل .
وقال سفيان الثوري : لأن أرمي إنسانًا بسهم ؛ أحب إلي من أن أرميه بلساني .
وقال مالك بن دينار : كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينًا للخونة , وكفى بالمرء شرًا أن لا يكون صالحًا ويقع في الصالحين .
قَالَ الأصمعي : وقال الشاعر :
كُلُّ العَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إِمَاتَتُهَا
إِلَا عَدَاوَة مَنْ عَادَاكَ iiبِالْحَسَدِ
وقال أبو العباس بن محمد بن يزيد المعروف بالمبرد :
عَيْنُ الحَسُودِ عَلَيْكَ الدَّهْرَ حَارِسَةٌ(60/3)
تُبْدِي الْمَسَاوِئَ وَالإِحْسَانُ iiتُخْفِيهِ
يَلْقَاكَ بِالْشَّرِّ تُبْدِيهِ iiمَكَاشِرُهُ
وَالْقَلْبُ مُنْكَتِمٌ فِيهِ الَّذِي iiفِيهِ
إِنَّ الْحَسُودَ بِلَا جُرْمٍ iiعَدَاوَتُهُ
وَلَيْسَ يَقْبَلُ عُذْرًا فِي iiتَجَنِّيهِ
وقال علي بن محمد العلوي الجمّال الشّافِعي رحمه الله :
وَذِي حَسَدٍ يَغْتَابُنِي حَيْثُ لَا iiيَرَى
مَكَانِي وَيُثْنِي صَالِحًا حَيْثُ أَسْمَعُ
تَوَرَّعْتُ أَنْ أَغْتَابَهُ من iiوَرَائِهِ
وَهَا هُو ذَا يَغْتَابُنِي مُتَوَرِّعُ
وما أحسن ما قيل :
وَتَرَى الكَرِيمَ إِذَا تَصَرَّمَ وَصْلُهُ
يُخْفِي القَبِيحَ وَيُظْهِرُ iiالإِحْسَانَا
وَتَرَى اللَّئِيمَ إِذَا تَقَضَّى وَصْلُهُ
يُخْفِي الجَمِيلَ وَيُظْهِرُ iiالبُهْتَانَا
أنواع الغِيبة
وأنواع الغِيبة كثيرة ..وإليك هذا الكلام النفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذكر أنواع الغِيبة .
قَالَ شيخ الإسلام رحمه الله : فمن النَّاس من يغتاب موافقةً لجلسائه وأصحابه وعشائره , مع علمه أن المغتاب برئ مما يقولون , أو فيه بعض ما يقولون , لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس , واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه , فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة , وطيب المصاحبة , وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم .
ومنهم من يُخرج الغِيبة في قوالب شتى تارة في قالب ديانة وصلاح , فيقول : ليس لي عادة أن أذكر أحدًا إلا بخير , ولا أحب الغِيبة ولا الكذب , وإنما أخبركم بأحواله . يقول : والله إنه مسكين , أو رجل جيد ؛ ولكن فيه كيت وكيت . وربما يقول : دعونا منه الله يغفر لنا وله , وإنما قصده استنقاصه وهضمًا لجنابه , ويخرجون الغِيبة في قوالب صلاحٍ وديانة , يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقًا , وقد رأينا منهم ألوانًا كثيرة من هذا وأشباهه .
ومنهم من يرفع غيره رياء , فيرفع نفسه فيقول : لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان ؛ لما بلغني عنه كيت وكيت , ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده , أو يقول : فلان بليد الذِّهن , قليل الفهم , وقصده مدح نفسه وإثبات معرفته , وانه أفضل منه .
ومنهم من يحمله الحسد على الغِيبة , فيجمع بين أمرين قبيحين الغِيبة والحسد , وإذا أثنى على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تَنقُّصِهِ في قالب دين وصلاح , أو في قالب حسد وفجور وقدح , ليسقط ذلك عنه .
ومنهم من يخرج الغِيبة في قالب تمسخرٍ ولعبٍ , ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به .
ومنهم من يخرج الغِيبة في قالبِ التَّعجب فيقول : تعجبت من فلان ! كيف لا يفعل كيت وكيت , ومن فلان ! وقع منه كيت وكيت , وكيف فعل كيت وكيت ! فيخرج اسمه في معرض تعجبه .
ومنهم من يخرجها بالاغتمام فيقول : مسكين فلان غمَّني ما جرى له , وما تَمَّ له , فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف , وقلبه منطوٍ على التشفي به , ولو قدر لزاد على ما به , وربما يذكره عند أعدائه ليشتفوا به , وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه .
ومنهم من يُظهر الغِيبة في قالبِ غضب وإنكار منكر , فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول , وقصده غير ما أظهر والله المستعان. أهـ
قَالَ الفُضَيْل : حسناتك من عدوك أكثر منها من صديقك . قيل : وكيف ذاك يا أبا علي ! قَالَ : إِنَّ صديقك إذا ذُكِرت بين يديه قَالَ : عافاه الله , وعدوك إذا ذُكِرت بين يديه , يغتابك الليل والنهار , وإنما يدفع المسكين حسناته إليك , فلا ترض إذا ذُكر بين يديك أن تقول : اللهم أهلكه , لا بل أدع الله , اللهم أصلحه , اللهم راجع به , ويكون الله يُعطيك أجر ما دعوت به , فإنَّه من قَالَ لرجلٍ : اللهم أهلكه فقد أعطى الشَّيطان سؤاله , لأن الشَّيطان إنما يدور على هلاك الخلق .
صيانة عهد الإخوة
ولذلك فإنه يجب لصيانة عهد الأخوة أن لا تدع أحدًا يغتاب أمامك مسلمًا , فإن له عليك حقوقًا سيطالبك بها يوم القيامة .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ , لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ , وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ , وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً ؛ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً من كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .(60/4)
وَعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ , وَأَبَي طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا من امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ , وَيُنْتَقَصُ فِيهِ من عِرْضِهِ , إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ , وَمَا من امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ من عِرْضِهِ , وَيُنْتَهَكُ فِيهِ من حُرْمَتِهِ , إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ .
فإذا أسلمه لخصم أو غريم فهذا من الخذلان , فإن إهماله لتمزيق عرضه كإهماله لتمزيق لحمه , فأخسس بأخٍ يراك والكلابُ تفترسك , وتمزق لحومك , وهو ساكتٌ لا تحركه المحبة , والحمية للدفاع عنك ! وتمزيق الأعراض أشد على النفوس من تمزيق اللحوم , وقد شبهه سبحانه وتعالى بآكل لحوم الميتة قَالَ تَعَالَى : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } [ سورة الحجرات : 12 ]
فحماية الأخوة وتوثيق رباط المحبة بدفع ذم الأعداء , وتعنت المتعنتين ؛ واجب في عقد المحبة .
وفي قصة كعب بن مالك , حينما تخلَّف عن غزوةِ تبوك ؛ فذكره رجل في غيبته , فقام إليه معاذ بن جبل منافحًا , ورد غيبة كعب ؛ حتى أن كعبًا ظلَّ يذكرها لمعاذ رضي الله عنه .
قَالَ كَعْبٌ : وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ , فَقَالَ : وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ , مَا فَعَلَ كَعْبٌ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ من بَنِي سَلِمَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! حَبَسَهُ بُرْدَاهُ , وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ , فَقَالَ : مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِئْسَ مَا قُلْتَ , وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا .
وكان بين خالد وسعد كلامًا , فذهب رجل يقع في خالد عند سعد , فقال : مه !! إن ما بيننا لم يبلغ ديننا .
وعن عامرٍ الشعبي عن ابن عباس قَالَ : قَالَ لي أبي : يا بني أرى أمير المؤمنين يُقربك ويخلو بك , ويستشيرك مع ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فاحفظ عني ثلاثًا : اتق الله لا تَفْشِيَنَّ له سرًا , ولا يجربنَّ عليك كذبة , ولا تغتابن عنده أحدًا . قَالَ عامر : فقلت لابن عباس يا ابن عباس : كُلُّ واحدةٍ خير من ألف , قَالَ : نَعَمْ وَمِنْ عَشْرَةِ آلاف .
فأعظمُ المحبة إظهارها في غيبته ؛ فهي الدَّليل على صدق دعواك , فمهما قُصِدَ بسوء , أو تُعُرِّض لعرضه بكلامٍ صريحٍ أو تعريض , فحق الأخوة التشميرُ في الحماية والنُّصرة , وتبكيت المتعنت , وتغليظ القول عليه . والسُّكوت عن ذلك مُوغر للصَّدر , ومنفر للقلب , وتقصير في حق الأخوة , فواجب عليك إذا ذُكِر في غيبته بالسُّوء أن تنصره , وترد عنه , وإذا رأيت من يريد أذاه في غيبته فَرُدَّهُ عن ذلك , فَإِنَّ النُّصح في الغيب يدل على صدق الناصح , فإن المرء قد يظهر النصح في حضوره تملقًا , ويغُشُّه في غِيبَتِهِ .
عُيوب النَّفس أولا
فهذا المتهتك الذي لا يدع لأحدٍ حُرْمه , بل نصَّب نفسه جاسوسًا لأعراض المسلمين , يعرف أخبارهم ويهتك أستارهم , فعنده في كُلِّ يوم جديد , وفي كل مجلس خبر , فلو أنه انشغل بنفسه , وفتش عن عُيوبه وداواها ؛ لكان خيرًا له في الدنيا والآخرة , فإنه لا يجتمع مغتاب وسامع ؛ إلا وهما على شاكلةٍ واحدة .
قيل للربيع : ما نراك تعيب أحدًا ولا تذمه ؟! فقال : ما أنا عن نفسي براضٍ فأتفرغ من ذنبي إلى حديث غيري , إن النَّاس خافوا الله تَعَالَى على ذنوب النَّاس ؛ وأمنوه على نفوسهم .
قَالَ بَكّار بن محمد : ما سمعت ابن عون ذاكرًا بلال بن أبي بردة بشيء قط , ولقد بلغني أن قومًا قالوا : يا ابن عون بلال فعل بك كذا وكذا , فقال : إن الرجل يكون مظلومًا ؛ فلا يزال يقول : حتى يكون ظالِمًا , ما أظن أحدًا منكم أشد على بلال مني . قَالَ : وكان بلال قد ضربه بالسِّياط , لأنه كان تزوج امرأة عربية .
وعن الحسن قَالَ : ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه .(60/5)
وعن عُروة أن المسور بن مخرمة أخبره : أنه وفد على معاوية فقضى حاجته , ثم خلا به , فقال : يا مسور ! ما فعل طعنُك على الأئمة ؟ قَالَ : دَعْنا من هذا وأَحْسِن , قَالَ : لا والله لتكلِّمني بذات نفسك بالذي تعيب عَلَيَّ , قَالَ مِسْور : فلم أترك شيئًا أعيبه عليه إلا بيَّنت له , فقال : لا أبرأ من الذنب , فهل تَعُدُّ لنا يا مسور مانلي من الإصلاح في أمر العامة ؛ فإن الحسنةَ بِعَشْرِ أمثالها , أم تعد الذنوب وتترك المحاسن ؟ قَالَ : ما تُذْكَرُ إلا الذُّنوب , قَالَ معاوية : فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه , فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تُهْلِكك إن لم تُغفر ؟ قَالَ : نعم , قَالَ : فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحقَّ مني !! فوالله ما ألي من الإصلاح أكثرُ مما تلي , ولكن والله لا أُخَيَّر بين أمرين ؛ بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه , وإني لعلى دِينٍ يُقبل فيه العمل , ويُجزى فيه بالحسنات , ويُجزى فيه بالذّنوب , إلا أن يعفو الله عنها , قَالَ : فخصمني . قَالَ عروة : فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صَلّى عليه .
وقال ابن مهدي : لولا أني أكره أن يعصى الله , لتمنيت أن لا يبقى أحد في المصر إلا اغتابني , أيُّ شيءٍ أهنأ من حسنةٍ يجدها الرَّجل في صحيفته لم يعملها .
سمع ابن سيرين رجلًا يسب الحجّاج , فأقبل عليه فقال : مه أيها الرجل ! فإنك لو قد وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قط ؛ أعظم عليك من أعظم ذنب عَمِله الحجّاج , واعلم أن الله تَعَالَى حَكَمٌ عَدْلٌ , إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه , فسوف يأخذ للحجاج ممن ظلمه , فلا تشغلن نفسك بسبِّ أحد .
وقيل لمحمد بن سيرين : يا أبا بكر إن رجلًا قد اغتابك فَتُحِلَّه , قَالَ : مَا كُنْتُ لِأُحِلَّ شيئًا حرَّمه الله .
قَالَ رجل للإمام أحمد : قد اغتبتك فاجعلني في حِلِّ , قَالَ : أنت في حِلِّ إن لم تعد , فقيل له : أتجعله في حِلِّ يا أبا عبد الله وقد اغتابك ؟! قَالَ ألم ترني اشترطت عليه ؟ .
قَالَ ابن عون : أحب لكم يا معشر إخواني ثلاثا : هذا القرآن تتلونه آناء الليل والنهار , ولزوم الجماعة , والكف عن أعراض المسلمين .
عن جعفر بن برقان قَالَ : بلغني عن يونس بن عبيد فضل وصلاح , فأحببت أن أكتب إليه أسأله , فكتب إليه : أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه ؟! فأخبرك : أني عرضت علي نفسي أن تحب للناس ما تحب لها , وتكره لهم ما تكره لها , فإذا هي من ذاك بعيدة , ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير , فوجدت الصوم في اليوم الحار أيسر عليها من ذلك , هذا أمري يا أخي والسلام .
وقال مورق العجلي : أَمرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة , لم أقدر عليه ؛ ولست بتارك طلبه أبدا , قالوا : وما هو ؟! قَالَ : الكف عما لا يعنيني .
وإذا عُلم من المغتاب نية في التوبة فالعفو أقرب وأفضل , وخاصة إن كان له سابقة فضل , فعن حفص بن حميد قَالَ : إذا عرفت الرجل بالمودة ؛ فسيئاته كلها مغفورة , وإذا عرفته بالعداوة ؛ فحسناته كلها مردودة عليه .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاس مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -زَوْجِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا إِلَى قَوْلِهِ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي , فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ .
ومن كلام أمير المؤمنين المنتصر - وقد عفا عن بعض خصومه - لذة العفو أعذب من لذة التشفي وأقبح فعال المقتدر الانتقام .
موضع اللِّسان عند تغير الزمان
أتدري أين موضع لسانك عند تغير زمانك ؟!
إن استطعت أن تضع عليه قفلا , فلا تفتحه إلا من خير ؛ فافعل , فعند تغير الزمان , وفساد الخلان , وقلة الأعوان , فالحبس أولى للسان .(60/6)
مَرَّ رَجُلٌ على رجل فسلَّم عليه , فقال له الرَّجل الذي سَلَّم عليه : يا أخي لو كَشَفْتُ لك عن حالي ما سَلَّمْت علي ! فقال له الرجل الذي سَلَّم عليه : يا أخي لو كشفت لي عُيوبك ؛ لكان في عُيوبي ما يشغلني عن جميع عُيوبك .
فهذه الخلال يندر وجودها لتغير الزَّمان , وندرة الإخوان , وضعف الدِّين - فإلى الله المشتكى .
وهذا لا يعني التشاؤم من جميع النَّاس ؛ فهذا ينافي الإيمان , فإن الحب جوهرة نفيسة , والطَّريق إليها سهلٌ ميسرة , ولكن الكل في هذا الزَّمان إلا من مَنَّ عليه الرحمن ؛ قد وضع على عينيه عصابةً سوداء ؛ فلا يرى إلا ما تحسه اليدان , بينما لو رفع العصابة لرأى الجوهرة أمامه ؛ لأنها الفطرة الكامنة في نفس كل إنسان , ولكن لتغير الزمان وقلة الخلان وضعف الدِّين , قد تطفو بعض الخصال على ما كان عليه الأُول , فيغتر بها ضعيف الإيمان , فيجاري أهل زمانه سلامة من أذى كل لسان .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاس سِنُونَ خَدَّاعَةٌ : يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ , وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ , وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ , وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ , وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ , قِيلَ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ .
قَالَ سهل بن عبد الله : تظهر في النَّاس أشياء : يُنْزَع منهم الخشوع بتركهم الورع , ويذهب منهم العلم بإظهار الكلام , ويضيعون الفرائض باجتهادهم في النَّوافل , ويصير نقض العهود وتضييع الأمانة وارتفاعها من بينهم عَلَمًا , ويرفع من بين المنسوبين إلى الصلاح في آخر الزمان عِلْمُ الخشية وعِلْمُ الورع وعِلْمُ المراقبة ؛ فيكون بدل عِلْمِ الخشية وساوس الدنيا , وبدل عِلْمِ الورع وساوس العدو , وبدل عِلْمِ المراقبة حديث النفس ووساوسها , قيل : ولم ذلك يا أبا محمد ؟! قَالَ : تظهر في القرّاء دعوى التوكل والحب والمقامات , ترى أحدهم يصوم ويصلي عشرين سنة , وهو يأكل الربا ولا يحفظ لسانه من الغِيبة , ولا عينه وجوارحه مما نهى الله عنه .
ولذلك كان الفضل العظيم , والثَّواب الجزيل لمن حفظ لسانه , فإن سأل سائل ما سبب هذا الفضل الكبير في الصَّمت ؟
فالجواب : أن سببه كثرة آفات اللِّسان من الخطأ , والكذب , والغيبة والنميمة , والرياء , والنفاق , والفحش , والمراء , وتزكية النفس , والخوض في الباطل , والخصومة , والفضول , والتحريف والزيادة والنقصان , وإيذاء الخلق , وهتك العورات .
قَالَ أحمد بن الحواري : قَالَ أبو سليمان الداراني : لا تعاتب أحدا من الخلق في زماننا , فإنك إن عاتبته أعقبك بأشد مما عاتبته , دعه بالأمر الأول فهو خير له - أي السكوت . قَالَ أحمد : فجربت فوجدته على ما قَالَ.
فهذه الآفات لا تثقل على اللِّسان , وربما لها حلاوة في القلب وهوى في الطَّبع , والخائض فيها قل أن ينضبط , فالصَّمت أولى وحبس اللِّسان أسلم , فإن عقل وتكلم ؛ فيوجه اللِّسان إلى العبادة التي خُلق لها .
[من كتاب "العبادة واجتهاد السلف فيها" للشيخ](60/7)
آفات الهوى
الكاتب: الشيخ د.عبدالرحمن بن أحمد علوش
اسم المدينة : أبوعريش
اسم المسجد : جامع التقوى
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوكل عليه ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخاتم رسله بلغ الرسالة وأدى الأمان ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده فعليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم وجزاه الله خير ما جزى به نبياً عن أمته ، اللهم لك الحمد كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " .
أما بعد أيها المؤمنون أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما "(61/1)
عباد الله يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم : " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " إنه اتباع الهوى الذي حذرنا منه المولى عز وجل وحذرنا منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبين خطره علماء الأمة إنه الهوى الذي يغير الأمور فيجعل المعروف منكراً والمنكر معروفاً ويصبح المسلم بل المتبع لهواه لا يميز بين خير أو شر ولا بين حسن أو قبيح إلا ما أشرب من هواه يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم : " تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه " ( 1 ) فأصبح هواه هو الذي يسيره فأصبح هواه هو الذي يقوده فأصبح هوى النفس هو الذي يقود الإنسان الذي اتبع هواه . فاتباع الهوى يا عباد الله أن تكون النفس هي القائدة للإنسان تحسن له القبيح وتقبح له الحسن وتقوده إلى المهالك فيطيعها في كل صغيرة وكبيرة دون أن يبحث عن دين أو عن شرع أو عن خلق أو عن قيم أو عن مبادئ وإنما يتبع هواه " افرأيت من اتخذ إلهه هواه " لقد أصبح الهوى عند ذاك الإنسان الذي قادته نفسه الأمارة بالسوء وقاده الهوى والشيطان أصبح الهوى إلهاً يعبده يحلل له ويحرم له فيتبعه عند كل صغيرة وكبيرة ، إن الهوى يا عباد الله من أخطر الأمور التي يصاب بها الإنسان ولنعلم أيها المؤمنون أن الفرق بين الإنسان وبين الحيوان هو هذا العقل الذي ميز الله به الإنسان فجعله يميز بين الحسن والقبيح وبين الضار والنافع وبين ما ينفعه في دينه ودنياه وبين ما يضره بيد أن الحيوان لا يعلم شيئاً من ذلك لأنه لا عقل له لكن النتيجة مختلفة فالحيوان يكون تراباً يوم القيامة لأنه غير مكلف بينما الإنسان إما أن يكون إلى جنة وإما إلى نار بحسب حاله الذي كان عليه في الحياة الدنيا وينبغي أن نعلم أن الفرق بين منهج الله سبحانه وتعالى وبين مناهج البشر أن مناهج البشر تتبع الهوى وتسير وفق الأهواء ووفق الرغبات والشهوات بينما منهج الله سبحانه وتعالى لا خطأ فيه ولا ميل لأنه منزل من قبل رب الأرض والسماوات " وان احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم " إن من يتحاكم إلى غير شرع الله قد اتبع الهوى ، والهوى يختلف بحسب اختلاف الرغبات والشهوات ومحال أن يتفق الناس أصحاب الأهواء على منهج واحد لأن الأهواء تختلف ولأن الرغبات تختلف بينما حكم الله واحد لا يتغير ، لما سرقت المخزومية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يدها حز هذا الأمر في نفوس أصحاب الهوى من كفار قريش الذين يتحاكمون إلى العادات وإلى المبادئ الأرضية فأرسلوا أسامة بن زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع لتلك المرأة فلا تقطع يدها فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال يا أسامه أتشفع في حد من حدود الله إنما اهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " (2 ) إنه منهج الله الذي لا يعرف المحاباة ولا يعرف المداهنة ولا يعرف الفرق بين الكبير والصغير ولا بين الرئيس والمرؤوس ولا بين الغني والفقير فالناس أمام شرع الله سواسية كأسنان المشط هكذا هو منهج الله منهج ثابت دائم لا يتغير ولا يتبدل ولا يزول ولا يحول هكذا هو المنهج الشرعي الذي أنعم الله به على هذه الأمة وينبغي أن نعلم يا عباد الله أن العبد في هذه الحياة بين إجابتين لا ثالث لهما إما أن يستجيب لشرع الله وإما أن يستجيب لهواه لا ثالث للأمرين إن لم يستجب لشرع الله فهو مستجيب لهواه لا محالة يقول الله سبحانه وتعالى : " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم " إذا لم يستجيبوا لك يا محمد فإنما يتبعون أهواءهم ورغباتهم هذا هو المنهج الواضح أن الإنسان إذا لم يستجب لشرع الله سبحانه وتعالى فإنه متبع لهواه رضي بذلك أم لم يرض . لماذا يا عباد الله جاءت الشريعة واضحة في هذا الأمر وجاءت النصوص الشرعية متواترة في التحذير من الهوى وفي بيان عاقبته وفي بيان أنه من أعظم الأمور التي ينهى عنها . إن الهوى يا عباد الله من أعظم الآفات ومن أعظم المصائب ومن أعظم السيئات التي يبتلى بها العباد في هذه الحياة الدنيا لأن من يتبع هواه قد جعل هواه إلهاً يعبد من دون الله " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " لأنه جعل هواه مشرعاً يشرع له ما يريد ويقبح له ما يريد لما دخل عدي بن حاتم رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه يتلو قول الله تعالى : " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله " قال يا رسول الله لم نعبدهم قال(61/2)
أليسوا يحلون لكم الحرام ويحرمون لكم الحلال فتطيعوهم قال بلى يا رسول الله قال فتلك عبادتهم " ( 3 ) إن من اتخذ إلهه هواه قد عبد هذا الهوى ومن جعل نفسه هي التي تحلل أو تحرم فقد جعل نفسه إلهاً من دون الله من اتخذ العادة منهجاً يرجع إليه في التحليل والتحريم فقد اتخذ العادة إلهاً تعبد من دون الله من اتخذ التقاليد الأرضية أو البشرية أو القبلية منهجاً يتحاكم إليها دون شرع الله فقد اتخذها إلهاً من دون الله تُعبد ، هذا منهج واضح لا غبش فيه ولا غموض قد بينه المولى عز وجل بقوله : " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم " في اتباع الهوى يا عباد الله استهانة بالذنوب والمعاصي فتصبح المعصية عند الإنسان لا شيء لأنه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يوشك أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار " ( 4 ) يستهين بالمعصية لا يرى لها شدة المؤمن الذي يخشى الله سبحانه وتعالى ويخاف من عقوبته ويفكر فيما أعده الله تعالى للعصاة " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " قال بعض الصالحين إذا همت نفسك بالمعصية فذكرها بمراقبة الله سبحانه وتعالى وأن الله يراك ومطلع عليك فإن لم ترتدع عن المعصية فذكرها بالفضيحة فإن لم ترتدع فذكرها بأخلاق الرجال فإن ترتدع فاعلم أنك قد انقلبت في تلك الساعة إلى حمار . إذا لم يردع الإنسان خوف الله ومراقبته ولم تردعه الفضيحة ولم تردعه أخلاق الرجال فما الفرق بينه وبين البهيمة ما الفرق بينه وبين العجماوات هكذا يحذرنا المولى عز وجل من هذه المصيبة من هذه الآفة التي ابتلي بها كثير من الناس حذرنا المولى عز وجل من اتباع الهوى لأن اتباع الهوى يقود صاحبه إلى النار والعياذ بالله تعالى يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " ( 5 ) فكل الشهوات التي تشتهيها النفس الأمارة بالسوء هي قائدة إلى النار والعياذ بالله وأما الجنة فهي محفوفة بما تكره النفس فإن المسلم يجاهد نفسه في هذه الحياة الدنيا وينهاها عن الهوى " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " إن اتباع الهوى يا عباد الله له صور كثيرة وله مجالات عدة ينبغي أن يتنبه لها المسلم حتى لا يقع في اتباع الهوى من حيث لا يشعر فيكون ممن سخط الله عليه والعياذ بالله .
من ذلك أن يلهث وراء لذة عاجلة من الحرام دون أن يبحث عن الحكم الشرعي في ذلك أن يبحث عن اللذة العاجلة من الحرام من شهوة مال أو فرج أو منصب أو دنيا أو نحو ذلك دون أن يبحث عن الحكم الشرعي وإنما همه أن يشبع رغبته أن يشبع هوى نفسه أن يشبع شهوته سواء كان ذلك حلالاً أو حراماً يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " تعس عبد الدينار وعبد الرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش " ( 6 ) فسمى النبي صلى الله عليه وسلم من يسعى وراء الدرهم والدينار بدون أن يسأل عن الحكم الشرعي في هذه المسألة بأنه عابد له تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم .
ومن صور اتباع الهوى يا عباد الله أن يكون الإنسان المتبع لهواه فاقداً للغيرة فلا غيرة عنده أبداً يرى الحرام فلا يتحرك يرى المنكرات فلا يتمعر وجهه الغيرة من صفات الإيمان ، إن الله يغار وغيرة الله أن تنتهك حرماته كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه أبداً فإذا انتهكت حرمات الله غضب لله غضب لحرمات الله أن تنتهك " لا يدخل الجنة ديوث " قيل من الديوث يا رسول الله قال الذي لا يبالي من دخل على أهله " ( 7 ) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فالرجل المتبع لهواه لا غيرة عنده ثبت في الحديث الصحيح أن شاباً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في الزنا فأوشك الصحابة أن يقعوا فيه وأن ينالوا منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوه ثم قال ادنوا أيها الشاب فأدناه إليه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم فقال أيها الشاب هل ترضى الزنا لأمك قال لا جعلني الله فداك قال فكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم قال أترضاه لأختك قال لا جعلني الله فداك قال فكذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم ومازال النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أترضاه لعمتك أترضاه لخالتك وهو يقول لا يا رسول الله عند هذا وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال اللهم اغفر ذنبه وحصن فرجه وطهر قلبه قال فوالله لقد خرجت وما من شيء أبغض إلى في الدنيا من الزنا " ( 8 ) . لقد فهم من هذا الحديث أن أصحاب الهوى يرضون الزنا لأمهاتهم ولأخواتهم ولخلاتهم ولعماتهم بينما المؤمن الذي لا يتبع هواه يغار ولا يرضى الهوى ولا يرضى الخنا ولا يرضى الزنا ولا يرضى الجرائم لأهله وأقاربه لا يرضاه للمسلمين كلهم .(61/3)
من صور اتباع الهوى يا عباد الله أن صاحب الهوى عنده استعداد أن يبيع دينه من أجل لذة عاجلة من متاع الدنيا فهو لا يجد غضاضة أن يسرق أو يزني أو أن يشهد الزور أو أن يفعل الحرام من أجل لذة عابرة من أجل أن يشبع هوى نفسه والعياذ بالله . ذكر ابن الجوزي في كتاب ذم الهوى أن مؤذناً في بغداد ـ وأنصتوا يا رعاكم الله لهذه القصة المؤثرة التي تبين عاقبة اتباع الهوى أعاذنا الله وأياكم منه ـ أن مؤذناً في بغداد كان يسمى صالح المؤذن يؤذن أكثر من أربعين سنة فصعد ذات ليلة على مأذنة المسجد فنظر في بيت مجاور فرأى امرأة فهويها فلم يكمل الأذان والعياذ بالله فنزل إلى ذلك الدار وطرق بابه فخرجت تلك الفتاة فقال أريد أن أتزوجك قالت لا يحل لك ذلك قال ولما قالت لأنك مسلم وأنا نصرانية قال أدع ديني وأدخل في النصرانية وترك دينه قالت إنك إذا وصلت إلى رغبتك تركتني ولكن لا بد أن أتوثق منك قال بم قالت هذا لحم الخنزير فكل منه وهذا الخمر فاشربه فأكل لحم الخنزير وشرب الخمر قالت له إن أبي غائب فاصعد إلى سطح الدار حتى يأتي أبي فيكمل الأمر فصعد وبينما هو صاعد على السلم أخذت به نشوة الخمر فترنح فسقط فمات والعياذ بالله مات نصرانياً بعد أن كان يؤذن أكثر من أربعين سنة فلما بلغ شأنه للمسلمين ألقوه في زبالة هناك فأكلته الحيوانات والكلاب والعياذ بالله من سوء الخاتمة " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " عندما يجعل الإنسان هواه قائداً لا يدري قد يفاجئه ملك الموت وهو في تلك اللذة العابرة وهو في تلك الشهوة والعياذ بالله فليتصور كل إنسان أن ملك الموت ربما ينزل به في أي لحظة فلا تدعوه نفسه الأمارة بالسوء لشهوة عابرة والعياذ بالله وينسى جنة عرضها السماوات والأرض .
من صور اتباع الهوى يا عباد الله أن يحرص العبد على الدنيا وعلى المال وعلى الربح بدون أن يبحث عن الحكم الشرعي في ذلك " أيما جسد نما من سحت فالنار أولى به " ( 9 ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الذين يبحثون عن المال بدون أن يبحثوا عن الحكم الشرعي في ذلك هم الرأسماليون أعداء الله الذين همهم الدرهم والدينار والذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم " إن من يبحث عن الربح بدون أن يبحث عن الحكم الشرعي فهو متبع لهواه لذا يا عباد الله ينبغي أن ننتبه لهذه القضية حتى لا نكون عباداً للهوى من حيث لا نشعر كم هي المشاريع الربحية التي تخرج بين الناس في كل يوم ومنها ما هو مخالف لشرع الله سواء في البيع والشراء أو في صور من صور الاستثمار الجديدة التي بدأت تغزو أسواقنا وبدأت تغزو منتدياتنا من منا قبل أن يساهم في مؤسسة ما أو في اكتتاب معين أو في بيع سلعة معينة سأل أهل العلم هل يجوز لي ذلك هل بيع هذه السلعة موافق لشرع الله أم لا هل المساهمة في هذه المؤسسة أو في هذه الشركة موافق لشرع الله أم لا أم كان هم الإنسان الدرهم والدينار همه الريال همه الربح فيكون عبداً للدرهم وعبداً للدينار والعياذ بالله تعالى هذه من صور الحرام من صور اتباع الهوى والعياذ بالله .
ومن صور اتباع الهوى يا عباد الله سقوط العالم وطالب العلم عندما يبيع دينه بسبب منصب أو وظيفة أو بسبب اتباع شيء من متاع الدنيا الزائل والعياذ بالله " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه " كم من الناس عندهم علم ولكنهم يتبعون أهواءهم والعياذ بالله من أجل دنيا زائلة والعياذ بالله . مر أبو حنيفة رحمه الله ذات يوم بغلام يلعب في الطين فقال له يا بني انتبه لا تسقط في الطين فأجرى الله الحق على لسان هذا الفتى الصغير فقال له بل أنت يا إمام انتبه لا تسقط فإن سقوط العالم سقوط للعالم هكذا يجري الله الحق على لسان فتى صغير يقول له بل أنت أيها العالم انتبه لا تسقط فإن سقوطك سقوط للأمة كلها سقوط للعالم فكان الإمام أبوحنيفة رحمه الله تعالى بعد ذلك لا يفتي في أي مسألة حتى يستشير أصحابة ويستشير أهل العلم خشية أن يقع فيما يسخط الله سبحانه وتعالى .(61/4)
ومن صور اتباع الهوي يا عباد الله الجور في الحكم أن يحكم الإنسان بغير شرع الله تعالى يقول الله تعالى : " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " فمن يحكم بغير شرع الله فقد اتبع الهوى واتبع النفس الأمارة بالسوء واتبع المصلحة والعياذ بالله تعالى من يجور في الحكم وهو يعلم أنه مخالف لحكم الله فهو متبع لهواه رضي بذلك أم لم يرض . تحاكم علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو ورجل من اليهود سرق درعه تحاكما إلى شريح القاضي فقال القاضي شريح لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه اجلس هاهنا يا أبا الحسن وقال لليهودي اجلس هاهنا يا فلان فغضب علي رضي الله عنه غضباً شديداً وقال يا شريح لقد أخطأت في الحكم قال ولم ؟ قال فضلتني على خصمي كنيتني وقلت يا أبا الحسن وفضلتني عليه وناديته باسمه ثم طلب من كل منهما أن يبين حجته وبينته فعلي رضي الله عنه لم يكن عنده بينه اليهودي لم يكن عنده بينه قال يا علي هل عندك شهود قال نعم يشهد معي ابني الحسن أن هذا درعي اشتريته بمالي ـ الحسن بن علي المشهود له بالجنة ـ قال لا أرضى شهادة الابن لأبيه لا أقر شهادة الابن لأبيه هل معك شهادة أخرى قال لا فحكم القاضي بالدرع لذلك اليهودي عند هذا قال ذلك اليهودي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله أمير المؤمنين يحاكمني إلى قاضيه فيحكم قاضيه عليه والله ما هذا بدين بشر أبداً . أقول ما تسمعون وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد ألا لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ، ورضي عن أصحابه وأتباعه وإخوانه إلى يوم الدين ، أما بعد أيها المؤمنون : لقد ظهر لنا خطر اتباع الهوى وأن الهوى إله يعبد من دون الله تعالى وأن من وقع في عبادة الهوى فهو على شفا جرف هار عليه أن يراجع نفسه وأن يعود إلى ربه عز وجل وأن لا يكون ممن أضلهم الشيطان من حيث لا يشعر إن ثمة أمور ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى تحول بين الإنسان وبين اتباع الهوى فمن ذلك :
أن يتأمل الإنسان في العاقبة في عاقبة هذه الحياة وفي نهايتها ويتأمل في الآخرة وما أعد الله فيها للمحسنين وما أعد فيها للعصاة والعياذ بالله وأن هذه الدنيا لا تسوى شيئاً أمام الآخرة التي فيها كل شيء وأمام الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مهما ملك الإنسان من أموال ومهما ملك من متاع فإنه شيء يسير في جنب ما أعده الله تعالى للمؤمنين ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يؤتى بأنعم أهل الدنيا ـ ممن تبع هواه ـ من أهل النار فيغمس فيها غمسة واحدة فيقال له بعد ذلك يا ابن آدم هل مر بك نعيم قط هل رأيت نعيماً قط فيقول لا يارب هذا أنعم أهل الدنيا لما غمس في النار غمسة واحدة نسي ذلك النعيم ويؤتى بأبئس أهل الدنيا من أهل الجنة ممن لم يعرف نعيماً قط ولكنه من الصالحين فيغمس في الجنة غمسة واحدة فيقال له بعد ذلك يا ابن آدم هل مر بك بؤس قط هل رأيت شقاءً قط فيقول لا يارب " ( 10 ) لقد أنسته تلك الغمسة كل شيء الجنة والنار ينبغي أن يتفكر فيها المسلم فينسيه ذلك عن اتباع الهوى .
من ذلك أن يتأمل في فضيلة الصبر وأن الجنة حفت بالمكاره وأن النار حفت بالشهوات وأن الصبر هو عاقبة المتعففين فماذا كان يوسف عليه السلام ماذا كان سيكون لو أنه اتبع هواه لكن لما خالف هواه واتبع منهج الله تعالى كان إماماً للمتعففين كان إماماً للصابرين كان إماماً للمتبعين لمنهج الله تعالى " قال رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه " هكذا ينبغي أن يفكر الإنسان في الآخرة .
من ذلك يا عباد الله أن يتأمل المسلم أن الهوى لا يدخل في شيء إلا أفسده فلا يدخل في عبادة إلا أفسدها وأبطلها وأخرج الإخلاص منها وأدخل الرياء فيها ولا يدخل في مال إلا أدخل فيه الحرام ولا يدخل في علم إلا أدخل فيه الجهل ولا يدخل في شيء إلا أفسده كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فصاحب الهوى لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه .
وأخيراً ينبغي أن نفهم يا عباد الله أنه لا يستقيم إيمان العبد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " ( 11 ) فهوى المؤمن متبع لهوي النبي صلى الله عليه وسلم ولما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يسقيم إيمان العبد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يكفينا ذلك .(61/5)
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً " اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن بقية أصحاب محمد أجمعين وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء هذا الدين ، اللهم من أراد هذا الدين وأهله بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدميره في تدبيره . اللهم من كادنا فكده . ومن دبر الدسائس والمكائد لأمة الإسلام فاهتك ستره وافضحه على رؤوس الأشهاد واجعله عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين يارب العالمين . اللهم عليك باليهود أعداء الملة والدين وعليك بالصلبيين الحاقدين اللهم من أرادنا وديننا وأمننا وأمتنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدميره في تدبيره يارب العالمين . اللهم وفق إمامنا بتوفيقك وأيده بتأييدك وهيئ له البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين ووفق جميع أئمة المسلمين لما تحب وترضى . عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه وآلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
الهوامش :
( 1 ) رواه مسلم .
( 2 ) رواه أبو داود وأحمد ومسلم بمعناه .
( 3 ) رواه الطبراني في الكبير وحسنه الألباني في كتابه غاية المرام .
( 4 ) رواه الترمذي وصححه الألباني .
( 5 ) رواه مسلم وأحمد والترمذي .
( 6 ) رواه البخاري .
( 7 ) رواه عبدالرزاق في مصنفه والطبراني في الكبير ، قال الهيثمي في المجمع ( 4 / 327 ) : فيه مساتير وليس فيهم من قيل إنه ضعيف .
( 8 ) رواه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة .
( 9 ) رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير .
( 10 ) رواه ابن ماجه وصححه الألباني .
( 11 ) رواه ابن أبي عاصم في السنة وابن بطة في الإبانة وضعفه الألباني في تخريج كتاب السنة .(61/6)
آفاق إيمانية لإصحاح البيئة أبو صرة عبيد علي أحمد*
استقر في أذهان الكثيرين - عند سماعهم ما يسمى بـ (إصحاح البيئة) - مفهوم لا يكاد يتجاوز القيام بحملات التوعية، وردم البرك والمستنقعات المائية الآسنة، ومكافحة الأوبئة والأمراض المعدية والمستوطنة كالملاريا وغيرها؛ ذلك مع الأخذ ببعض الأساليب للتخلص من النفايات والمخلفات البشرية والحيوانية والصناعية التي تلّوث البيئة!!..
هذا وإذا اتسع الأفق الفكري للحملة لأضاف إلى ما ذكر: الأخذ بالمحافظة على جمال الطبيعة، والمساحات الخضراء كالغابات والحدائق والمنتزهات.. ودعا لاستحداث الأساليب المتطورة لوفرة الإنتاج الزراعي والحيواني.. وربما يعود على الإنسان بالصحة والعافية في دنياه الفانية!!..
وهكذا! وكأن الإنسان مجرد جسد.. لا فكر له ولا رسالة في هذه الحياة!!.. فهو كالأنعام يأكل وينام؟!..
ومن ثم انحصر مفهوم البيئة وإصحاحها عند الكثيرين على ما يقوم به الجسد الفاني وحسب؛ ليقدم وجبة شهية ودسمة لدود اللحوم!!.. وكأن الإنسان لم يكن ذاك الكائن الحي المكرم في الوجود من عند الله تعالى الذي ميّزه عن سائر المخلوقات بالعقل والفكر، بل وبالخلافة في الأرض!!..
* معالجة متخلفة:
نتج عن هذا الفهم للبيئة وإصحاحها تخلّف واضح وظاهر؛ حتى في مجال معالجات الملوّثات البيئية كالنفايات والأوساخ؛ فنجد أنه ومع ما بذل من مجهودات وطرح من أفكار فلا زالت شوارعنا ومياديننا تعج بها؛ حتى أصبحت سمة ملازمة.. وما ذلك إلا لأننا قصرنا أسلوب المعالجة ليكون عائده (ماديّا) أكثر من أن يكون العائد: تربية وسلوكاً أخلاقياً؛ يتتطبع به المواطن، أو يكون توعية تتجاوب مع تعاليم ومثل دينه وعقيدته..
فأثقلنا كاهله بما يسمى برسوم النفايات، ومع ذلك عجزنا أن نقدم له عائداً يحس به ويجده في طريقه وشارعه؛ ذلك: لأننا جرينا وراء تحقق العائد الفاني، وأهملنا فعالية شحذ همّته بالمثل والقيم الإيمانية التي خاطبت وجدانه وفطرته؛ فصاغت له البيئة وإصحاحها قيمة ضمن قيم إيمانه، بل شعبة وشريحة (مبرمجة) له يومياً في سلك القُرَب التي ينال بها الثواب والرضا من عند الله تعالى الوهاب.. وكفى بنا في هذا الشأن بمقولة واحدة وبضع كلمات منيرات خالدات سنجد فيها أس إصحاح البيئة لا لولاية الخرطوم فحسب بل وللعالم أجمع: (الإيمان بضع وستون - أو وسبعون – شعبة؛ أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة).. وهو الشوكة والحجر والعظمة.. وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يعدد في حديثه أصنافاً مما ينال بها المؤمن الثواب والجزاء من عند الله تعالى الملك الوهاب.. وكلها إذا دققنا النظر فيها فسنجد فيها إصحاحا للبيئة وتطهيرا لها من ملوّثاتها..
* بهذا الفهم، وبمثل تلك القيم الإيمانية يكون خطاب إصحاح البيئة للمواطن؛ يحرك وجدانه وعاطفته الإيمانية، وبذلك ستكون الاستجابة سريعة وفعّالة، والانفعال بها صادقاً؛ فيصدر عن ذلك عمل نابع من إخلاص الضمير وصدق النية؛ لصدوره من داخل الذات وقناعتها؛ لا من إجبار بسخرة أو جباية.
* ترى لو نجحنا بهذا المفهوم وبتلكم القيم في دفع ربع سكان العاصمة لأن يزيل كل واحد منهم حجراً أو ورقة أو كيس نايلون عند خروجه في الصباح من منزله، ويضعه في سلّة معدّة لذلك فكيف سيكون حال شوارعنا؟!.. لا شك أننا سنجد أن العاصمة قد تبدّل حالها، وغدت مشرقة بنور إيمان أهلها، وأصبح أهلها من أصحاب القرية التي آمنت فنفعها إيمانها في عصر الماديات.. ونسأل الله تعالى أن يكشف عنها وعن أهلها الأذى والخزي في الحياة الدنيا وفي الآخرة.. آمين.
* وبإذن الله تعالى وتوفيقه سنتابع موضوعات إصحاح البيئة فيما يتصل بمعالجة الأوبئة الاجتماعية، وأمراض النفوس والقلوب إن شاء الله تعالى.. وبه التوفيق.(62/1)
آفاق العدوان المتجدد على الأمة في لبنان وفلسطين
"من أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، عبارة ردّدها السلف، وعملوا بمقتضاها، ولم يكن فيهم من يتصرف كالنعامة، تدسّ رأسها في التراب، ظانّةً أن الصياد لا يراها لأنها لا تراه!!! وها إن الأمة في أمس الحاجة إلى أن يتقدّمها السائرون على نهج واضح، ممّن بصّرهم الله، بسوابغ النور، في زمن الظلمات المتكاتفة، والأزمات المتلاحقة.
وإن حديثنا هذا، في زماننا هذا، أمر يفرضه الشعور العارم بالمسؤولية، والرغبة في أن نتدارس شأن الأمة، ولا سيما في محيطنا القريب، وإن كان لا يمكن فصله عن التأثيرات الإقليمية. نعم، لا بد أن نتعرض للتجربة التي مر بها لبنان، منذ 12 تموز، حتى بلوغ القرار 1701، حتى نعلم ما الذي أفرزته هذه التجربة، من خير للأمة، وما جرته عليهم من بلوى، وحتى نعلم ما قيمة هذه التجربة في سياق مشروع الأمة الكبير، الذي أصبحت تعي أنه أولوية في قاموسها السياسي، إنه مشروع توحيد بلاد المسلمين في كيان واحد، يرتكز على أساس شريعة الإسلام.
لقد أثبتت الوقائع العسكرية هشاشة العقيدة القتالية في جيش يهود، وأعطت العالم من أقصاه إلى أقصاه، التكذيب الفاضح لكل مقولات التفوق الميداني لذلك الجيش الذي أصبحت أسطورة أنه لا يقهر، طرائف يتسلّى بها أطفالنا، حين تنقطع الكهرباء، ولا يجدون رسوماً متحركة، تشبع نهمهم إلى الخرافات، أو تثير ضحكهم.
وثمة أمور عديدة ولّدت هذه الهزيمة الميدانية.
قد يكون أبرزها أن شخصية المقاتل هذه المرة، قد دخلت في تركيبتها العقيدة الإسلامية، وإن كان لنا رأي مخالفٌ في بعض فروعها. وقد يكون أن أجهزة الأمن العربية لم تكن حاضرة بوسائل تنصّتها، في أرض المعركة، حتى تؤدي دورها المعهود في تسليم ما تملكه من معلومات، إلى "الأسياد"، حتى يظلوا هم "الأسياد"!
كان من ثمار هذه التجربة إذاً، أنها زادت من تعرية الأنظمة المتخاذلة، وهو وصف شامل، لكل ما تقع عليه عينك من دويلات كثيرة العدد، قليلة البركة، على خارطة العالم الإسلامي. لقد أشبعتنا دوائر الأبحاث الإستراتيجية، وأبواق الإعلام العربية، حديثاً عن الواقعية والتسليم بالأمر المفروض على الأمة، داعية إلى الانبطاح وهجر التوق إلى السلاح، زاعمة أن الجيوش العربية جربت أن تحارب كيان يهود، وعجزت، فعلينا أن نتعامل بإيجابية مع هذا التفوق، ونعترف بإسرائيل، وكأن أحداً يشك في أن الحروب المصطنعة تلك كانت مسرحيات هابطة، قدّروا لها الفشل سلفاً، حتى يسوّغوا بعدها للزاحفين أذلاّء، أن يقوموا بعملهم وحولهم بعض المصفقين!!!
وقد فضحت الأيام الغابرة، ولها أن تفضح أكثر، الأنظمة المتحكمة برقاب المسلمين، في لبنان وغير لبنان، التي تستهتر بجراحات الأمة، وتتنحى بعيداً عن ساحة الصراع، ساحة التلاحم مع العدو، وتنتظر أن ينجلي الغبار، لتتبرع بالمال اللازم لإعادة الإعمار، وهذا يعني أن هذه الأنظمة تشبه الأب الثري الذي يرى ولده المدلّل، يحطم سيارات الجيران، وزجاج نوافذهم، ثم يقول مبتسماً، نافشاً ريشه: لا تأبهوا! أنا أتكفّل بإصلاح ما خرّب. إن الطفل المدلّل هنا، ونقولها بخجل، هو كيان يهود، الذي لا تستطيع، أو لا تريد، دولة قائمة في عالمنا الإسلامي، أن تزعجها بإفساد هوسها في التدمير.
وكان في وجدان الشريحة الأكثر انتشاراً، على امتداد بلاد الإسلام، انتقادات محقّة توجّهها إلى قيادة المقاومة، في لبنان، لأنها كانت لا تأخذ موقفاً واضحاً من السياسة المبهمة التي تمارسها إيران، إزاء احتلال أميركا لأفغانستان والعراق. ومع هذا وذاك، تجاوزت الأمة، بمعظمها، كل السدود، حين وقع عدوان يهود، ووقفت بخالص مشاعرها، ترجو النصر أن يحالف "إخوة العقيدة".
إلاّ أن هذا الإنجاز العسكري، الذي طال انتظاره عقوداً، تراجعت مفاعيله في عيون المراقبين، وخبا جزء بالغ من أثره في الأمة، عندما لم يجد قيادة سياسية تحتضنه، أو مظلة سياسية تحميه. وهكذا كان القرار 1701، الذي مكّن ليهود في حلبة السياسة، وفي أروقة المنتديات الدولية، ما أزال كثيراً من مغبّات الفشل الذي ذاقوا مرارته. فقد ساوى هذا القرار بين الجلاد والضحية، بين المعتدي والمعتدى عليه، وجعل الخطر متأتياً من إمكان قيام أطراف لبنانية بعمل يستفزّ يهود، ولذلك كان التركيز على نشر قوات طوارئ في الجانب اللبناني، يحول دون استعمال السلاح المناوئ لذلك الكيان الغاصب. ولم نجد إجراءات تمنع ذلك الكيان، ممّا تسميه الدوائر الغربية "الاستخدام المفرط للقوة"، ولا أدنى إشارة إلى وجود قوات دولية في الجانب الذي يحتله! ولقد كان من العدل أن يُحمَّل كيان يهود تبعات التدمير الهمجي، الذي هو في كل المقاييس غير مسوَّغ، فليس من قانون دولي يجيز شن حرب واسعة النطاق، من أجل أسيرين!(63/1)
ولنا أن نتبصّر في القدرة العسكرية على إحباط زحف يهود، تلك القدرة التي تلقّفتها "دول الممانعة" الحليفة، والدول المنبطحة في طابور التفاوض، وأفرغتها هذه الدول، وتلك، من بعض مضمونها الجميل، ودفعت بالذين وقفوا في وجه قوة يهود العاتية، إلى الرضوخ، والقبول بدخول قوات أجنبية، هي في حقيقة الأمر، غازية، وكان المنطق السليم أن يُتّخَذ منها موقف العداء نفسه! وهكذا كان يطرح الكثيرون بحسرة: ما الفائدة المرتجاة من منع يهود أن يدخلوا، إذا أعطيت "الشرعية" لجنود أوروبا، مثلاً، أن يدخلوا، وينتزعوا السلاح؟! وكيف يُستَقبل حليف يهود في العدوان، السفّاح بلير، في لبنان، البلد الذي طرد شراذم اليهود، وأرغمهم على أن يصرخوا متأوّهين!؟ وها هي غداً وزيرة الدفاع الفرنسية، أي المسؤولة عن الحرب، تصل إلى بيروت، وتُستَقبَل، بدل أن تقول لها الحكومة: لا مكان لك في الأرض التي دمّرتها أسلحة حلفائك، وكبّلتها القرارات التي دبّرتها!
لماذا كان القرار 1701، على هذا الحد من الإجحاف؟؟
إن الإناء ينضح بالذي فيه، وهذه الأندية الدولية- ولو قالوا "أندية ليلية"، لما عابهم أحد- قامت على أساس الظلم، ودوْس الشعوب الصغيرة، ومصادرة لقمها، وإهدار قرارها، واستنزاف طاقاتها، فمن الغباء أن ننتظر من الهرّة أن تتبرع بقلبها إلى فأرة! ومن التهور الذي لا يليه تهوّر، أن تعمد الحكومة في لبنان، وسائر الأطراف السياسية، إلى وضع البيض في سلة كونداليزارايس!!
وإن أصحاب القرار في البلاد الإسلامية، لا يكلفون أنفسهم مشقة الذهاب إلى حيث منفعة الأمة. هم محكومون بأجهزة التحكم عن بعد، ويريدون، أو يُرادُ لهم أن يهيئوا الطاولة للتفاوض مع كيان يهود، ولذلك لا بد من إخماد جذوة من يجابه مشاريع التسوية، وهم ما كانوا ليستطيعوا ذلك لو أن الأيادي التي كانت تتحكم بالزناد، في هذه المواجهة الرادعة، تجرأت أن تشير بوضوح إلى المتاجرين بورقة المقاومة، في دمشق وطهران، كما كانت لها الجرأة أن تطال ألسنتها قوماً آخرين، لا نأسف أن طالتهم. فهل عوّض على المقاومة، هذان النظامان، ما فقدته؟ هل كانا فعلاً، إلى جانب مشروع المقاومة، و"الممانعة"، في اعتداء 12 تموز؟؟
وأمر آخر لا بد من التطرّق إليه، وهو أبعاد ما يجري في بلاد المقدس، من تخبّط سياسي، وحصار اقتصادي، وارتباك أمني داخلي، علاوة على الاحتلال اليهودي السافر منذ عقود.
إن الصحوة الإسلامية قاربت النُّضج في الآونة الأخيرة، وباتت الأمة ترغب في أن تسودها مفاهيم الإسلام، ولذلك هي تختار الإسلام، حين يكون المنافس أي طرح آخر، ولا سيما إذا كان هذا الآخر قد أفلس في إقامة ما سمّاه حلم الجماهير: الدولة الفلسطينية، رغم الاستجداءات الرخيصة، على مذابح معبدي أوسلو ومدريد! إن "خارطة الطريق" اهترأت، وأسقطت كل من يتعلّق بها، أو بأي وثيقة سياسية، أو بأي صفقة مشبوهة، ثمنها الاعتراف بدولة إسرائيل. إلا أن البديل الذي وصل إلى الحكم، بثياب الإسلام، لم يكن بالمستوى اللائق بالأمة وأحلامها، رغم التضحيات الشديدة لأصحاب هذا البديل، وإخلاص شبابه، وأرى أن ثمة عدة أسباب لهذا الفشل:
1. تخلّي هذه القيادات عن التبنّي العلني لمشروع الدولة الإسلامية، فقد تسلّمت مقاليد الحكم، ولم تقم بأي خطوة ملموسة نحو إعادة الحاكمية لله عزّ وجلّ، في مرافق الدولة.
2. التراخي في اتخاذ المواقف الصريحة من الأندية الدولية، التي لا يشك إنسان في أنها الغطاء القانوني لكل جدار عزل ينصبه يهود، ولكل مجزرة يرتكبها يهود، ولكل بيت يهدمه يهود، ولكل حقل يغتصبه يهود.
3. ركون قيادات هذا العمل الإسلامي، إلى دول هي في أذهان مئات ملايين المسلمين، دول أبادت آلاف المسلمين، كالنظام السوري، أو عملت على بذر الفتن المذهبية، كالنظام الإيراني، أو حافظت على العلاقات الآثمة بكيان يهود، كالنظام المصري. بل إن هذه الأنظمة الثلاثة يطرح الكثيرون تساؤلات عن مدى صدق ما تعلنه من ممانعة للمشروع الأميركي، وهي تبارك وجوده في العراق وأفغانستان، فكيف نستعين بها للقضاء على الاحتلال في فلسطين، وهو حليف الاحتلال الأميركي!!؟ ولنا أن نسأل عن رأي النظام الإيراني في زيارة خاتمي إلى وكر الإجرام الولايات المتحدة، التي ساندت يهود في العدوان على لبنان؟؟ هل حوسب؟ هل انتُقِد كما انتُقد من استقبل بلير في لبنان؟؟
4. قبول هذه القيادات أن تشكِّل هي والأطراف الراضية بكل التنازلات، والأطراف الحاوية لكل ألوان الفساد المالي، وفاقاً لتصريحات هذه القيادات الإسلامية، حكومة واحدة، ما يعني القعود الفعلي عن تغييرهم أو محاسبتهم.
5. عجز هذه القيادات عن الوفاء بالالتزامات المعيشية للناس، بفعل الحصار المضروب على السلطة الفلسطينية، قبل تشكيل حكومة حماس عامة، وبعد تشكيلها خاصة. وهكذا كان لأطراف عديدة أن تعلن فشل تجربة الحكم الإسلامية في فلسطين.(63/2)
من هنا نقول: إن الأنظمة التي تحتفظ بسقف أوسلو لن تشكل رديفاً حقيقياً لمن يريد إزالة كيان إسرائيل. وإن المشاريع الجهادية لا ينبغي أن تنفصل عن مشروع سياسي متكامل واضح، يفصّل الخطوات التي تلي أي عمل مسلّح، حتى لا يتطفّل المتطفّلون، ويمدوا أياديهم العابثة إلى ما أحرزه غيرهم، ويتصرفوا كأنه حق مكتسب لهم، يستغلونه في إنعاش "وديعة رابين"!! وحتى لا يتهافت أصحاب نزوات خاصة، ويحاولوا الإمساك بورقة المقاومة، للمطالبة بتعديلات داخلية، تكون فيها قطعة الجبن الكبرى في صحنهم، لا في صحن الخصم. نعم، على المقاومة أن تكون صريحة، في البراءة من دعاة "سلام الشجعان"، وفي البراءة ممّن لا يرى في المقاومة إنجازاً، إلا أنه سيطيح بالحكومة الحالية، ولسنا في وارد البحث عن مدى صلاحية البديل المرتقب!
من هذا المنبر نرجو أن تتمسك الأمة بإرادة المواجهة، وأن تعلم أن اللقاء الوحيد المشروع، مع أعداء الأمة، هو في ميادين العزة والشرف، في الساحات التي يتكلم فيها الدم، وتصرخ فيها القذائف، وتزأر فيها الدبابات. ومن هذا المنبر نرجو أن تحافظ الأمة، ونخبها، وقياداتها، على إنجازاتها التاريخية المعاصرة، وذلك بإدراجها في المشروع الحضاري الشامل، بعيداً عن قمقم المذهبية، المشروع الذي لا بد أن تتضافر الجهود، في الدعوة إليه، إنه مشروع الخلافة الراشدة، على منهاج النبوة، الذي يحمي الحدود، ويصون الكرامات، ويقتلع العين المتربصة بالأمة شراً، ويدمر الباغي. ألا إن اليوم الذي يؤذن الله فيه بهذا الفجر المشعشِع، هو يوم النصر الصادق، الذي لا تشوبه شائبة، ولا تهزه نائبة.
اللهم يسّر لنا أن نكون من الثلة المؤمنة التي ترتفع على أكتافها دولة الحق المبارك، دولة الجهاد الذي تلتف الأمة تحت لوائه، دولة العدل القرآني. اللهم اجعلنا من جنود دولة الخلافة التي تحرر بيت المقدس من رجس يهود، وتطهر عاصمة الرشيد من أحفاد الإيدز. اللهم أيدنا بنصرك، وأعل كلمة الحق والدين، واجمعنا على أمر رشد، في كتائب تستعذب الشهادة، يا ألله.(63/3)
آفة الخيانة
بقلم الشيخ عبد الكريم الحمداوي/الشبيبة الإسلامية المغربية
alhamdaoui@hotmail.com
يقول الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون ) الأنفال27
يتساءل كثير من الشباب عن سبب التركيز على الجانبين العقدي والأخلاقي، مع أن الساحة الإسلامية بنظرهم في أشد الحاجة إلى الوعي الحركي والتنظير السياسي. ونحن لا ننكر دعواهم أو نتنكر لها، وإنما نؤثر أن يبنى هذا الوعي على أرض صلبة من الأخلاق السوية صدقا وعدلا ووفاء وإنكارا للذات وإيثارا. لأن الإسلام لابد أن يتسق فيه الاعتقاد والسلوك، والنظر والعمل، ينتقل فيه المرء من قواعد الإيمان إلى سوي المعاملة، حيث النصوص تضبط التصرف، والنظر السديد ليس ترفا عقليا أو تهويمات جدلية، ولا خير في فكر لا يثمر رشدا أو علم لا يخصب النفس، وهو ما يشير إليه قوله عز وجل ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُون كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(الصف 2-3
إن قضايا تصفية العقيدة وإخلاص الإيمان وتطهيره من شوائب الانحراف، وتنقية العبادات من رديء البدع والعادات، تواكبها قضايا أخرى متعلقة بالسلوك الفردي والجماعي داخل الأمة لابد من بحثها ووضع الحلول الناجعة لها، حتى لا تبقى الدراسات الدينية عقدية كانت أو شرعية أو أخلاقية، ترفا ثقافيا أو وسيلة للكسب المادي وصعود درجات الجاه لدى الحكام وأرباب السلطة. ذلك أن كل فعل يعد انبثاقا عن نية فاعله، وأعمال الجوارح آثار لما يخطر في القلب من مقاصد وما يحرك السلوك من قواعد، والفعل لا يكون فاضلا إلا إذا تطهر صاحبه من شرور النوايا وآفات التسيب، والنفس البشرية إن لم يكن التزامها بالسلوك السوي طوعيا إراديا وبدون إكراه، لا تدع شهوتها الخفية المستورة في طلب ما تحب من متاع الحياة الدنيا وزينتها مالا ولذة وجاها؛ وهي مطالب ظاهرها يظن خيرا ولكن باطنها شر مستطير. ولئن كنا نركز أحيانا على الوجه المضيء للأخلاق السوية ووجوب الالتزام بها، باعتبار أن مفهوم المخالفة يقتضي تحريم ما يضادها، إذ وجوب الحياء والعدل والصدق يقابله تحريم الوقاحة والظلم والكذب، فإننا حاليا نركز على وجه مظلم من السلوك البشري عسى أن ينتبه له الدعاة ويجتنبوه ويطهروا صفهم من أربابه، عملا بقوله تعالى:( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) الأنعام55، واقتداء بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حذيفة رضي الله عنه إذ قال في الحديث المتفق عليه: ( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني....).
هذا السلوك المظلم، هو آفة " الخيانة " بدناءتها وأرجاسها التي تأباها النفوس الشريفة، وترفضها العقول السوية وتمجها الطباع النظيفة، من أي دين وأي مذهب وأي قوم وأي عرق، لاسيما وقد تنزلت في شجبها مع أربابها الآيات البينات:
- (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) النساء107
- (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ) الأنفال 58
- (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) الحج38
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يحذر منها بقوله: ( لا تخن من خانك ) أبوداود/ بيوع ، ويستعيذ بالله منها في دعائه: ( ... وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة...) النسائي/ استعاذة.
لقد كانت " الخيانة " في معناها اللغوي تصرفا غير واضح السمات، إلى أن جاء الإسلام فنقلها إلى معنى أعم وأشمل، يحدد معالم المدسوسين في الصف المسلم، ويبين مخاطرهم وطرق التعامل معهم.
ذلك أن الجذر اللغوي لها هو مادة " خان" بمعنى انتقص، يخون خونا وخيانة وخانة ومخانة. فالخاء والواو والنون أصل واحد معناه التنقص والضعف، يقال: في ظهره خون أي ضعف، والخون أن يؤتمن المرء فلا ينصح، والخيانة التفريط في الأمانة، وخانه إذا لم يف له، وخان السيف إذا نبا عن الضربة، وخانه الدهر إذا تغير حاله إلى الشر، وناقض العهد خائن لأنه كان ينتظر منه الوفاء فغدر، ومنه قوله تعالى: ( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم ) الأنفال71.
واختانه فهو خائن وخؤون وخوَّان وخائنة ( الهاء للمبالغة مثل نسابة )، ومنه قوله تعالى:( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) غافر19، أي ما يسارق المرء من النظر نظر ريبة إلى ما لا يحل له، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ) أخرجه أبو داود والحاكم في مستدركه. والخيانة والنفاق شيء واحد، لكن الخيانة تقال باعتبار العهد والأمانة، والنفاق باعتبار الدين، وإن كانا يتداخلان في مواطن كثيرة.(64/1)
فلما نزل القرآن نقل اللفظ " الخيانة " إلى معناها المصطلحي المتضمن للغدر والكذب وتزييف الحق وتزوير الوقائع والتجسس وكشف عورات المسلمين والمجتمع الإسلامي بالقول والعمل والإشارة والعبارة، هذا المعنى الذي يحدد معالم شخصية مريضة حاقدة مضطربة، دنيئة لئيمة، تُطْرَدُ من الصف المسلم إن تعذر تقويمها وإصلاحها.
لقد شمل لفظ " الخيانة " بذلك معاني واضحة تحدد معالم الأشرار، لا تركن إليها النفوس الحرة، ولا ترتضع ألبانها الأفواه النظيفة، معاني تركس الأخلاق الفردية والجماعية في الخلل والفساد، من أقصى المعاملات الذاتية والفردية إلى أقصى نظم الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع:
- فمن لم يهذب نفسه ولم ينتفع بعقله فقد خان نفسه.
- ومن استسلم لحلاوة المال أوالجاه أو القوة فقد خان نفسه.
- ومن عشي بصره عن عيوبه، ومَِرضَ قلبه بالهوى فقد خان نفسه.
- ومن غرته المطامع وأعمته الأماني فقد خان نفسه.
- ومن غُلَّ عقله بالغضب والشهوة فقد خان نفسه.
- ومن مدحك بما ليس فيك فقد خانك.
- ومن ستر عنك الرشد اتباعا لما تهوى فقد خانك.
- ومن ساترك عيبك فقد خانك.
- ومن كان معك في أمر جامع واستبد برأيه عليك فقد خانك
إن أعمال الخيانة متعددة ومتنوعة، ولكنها باعتبار من وجهت ضده أربعة أصناف حددتها آيتان كريمتان هما:
- ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون ) الأنفال27
- (وَلَا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) النساء107.
إن الخيانة بهذا الاعتبار أربعة أصناف: خيانة لله عز وجل، وخيانة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وخيانة للأمانة، وخيانة للنفس.
ولئن كانت الخيانة في هذه الأصناف الأربعة خيانة واحدة، لأنها كالأواني المستطرقة، يصب بعضها في بعض، إذ خيانة النفس خيانة لله وللرسول وللأمانة، وكذلك خيانة الله وخيانة الرسول وخيانة الأمانة، فإن ورودها مفصلة في القرآن ومبينة في السنة النبوية يراد به زيادة التوضيح والتحذير والتنبيه والحث على اجتنابها والبعد عن أهلها.
فخيانة المرء لله تعالى تتمثل أول ما تتمثل في الكفر والشرك لأنهما رأس الموبقات، وداخل الصف المسلم يجسدها النفاقان العقدي والعملي بوضوح، وهما إظهار الإيمان والعمل الصالح، وإسرار الشرك والرياء وعدم الوفاء بعهد الله تعالى.
وخيانة المرء للرسول صلى الله عليه وسلم هي عدم الامتثال لأمره ونهيه، وعدم الاقتداء والتأسي بهديه، وإدخال البدعة في سنته.
أما الأمانة وهي كل ما تعبد به، فتدخل فيها عقيدة الإسلام وشرائعه؛ وبما أن الخون معناه التنقص فإن خيانة الأمانة هي الانتقاص من الشريعة أو تحريف العقيدة، ومن فعل ذلك فقد خان الأمانة، وخان الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم.
أما خيانة المرء نفسه فإن معناها العام المطلق يشمل أمرين:
- الخيانة الذاتية بأن يرتكب المرء من المعاصي والأفعال ما يضر به نفسه في الدنيا والآخرة.
خيانة المرء أمته، باعتبار أنها من نفس واحدة كما قرر ذلك القرآن الكريم (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) النساء1، وأن جماعة المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وتكون خيانتهم بانتقاص حقوقهم المادية كأكل أموالهم بالباطل، أو انتهاك أعراضهم أو سفك دمائهم، أو التجسس عليهم وكشف عوراتهم لأعدائهم، أو بانتقاص حقوقهم المعنوية بالامتناع عن الدفاع عنهم أو عن بذل النصيحة لهم أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر، أو بخذلانهم في ساعات الضيق والعسرة، أو عدم دعوة الخلق إلى دين الإسلام ؛ وقد جاء في الأثر : (المؤمنون بعضهم لبعض نَصَحَة وادُّون، وإن بَعُدت منازلهم وأبدانهم، والفَجَرَة بعضهم لبعض غَشَشَة مُتَخاِونون، وإن اقتربت منازلهم وأبدانهم ) (نسب القول للإمام علي رضي الله عنه،كما رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أبو الشيخ بن حبان في كتاب التوبيخ، وكنز العمال ح 757 ، والترغيب والترهيب 2/575، ولا تصح نسبته للرسول عليه الصلاة والسلام)(64/2)
وتتضح لنا المعاني وتستنير المعالم من تتبعنا لسياق قوله تعالى (وَلَا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) النساء107، فقد تلاها مباشرة قوله عز وجل ( يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ) النساء108، ثم تلاه مباشرة قوله سبحانه (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ) النساء109، والجدال لغة شدة المخاصمة، من جدل الحبل إذا فتله، وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يميل صاحبه عما هو عليه من رأي ويصرفه عنه.
وبمفهوم هذه الآيات الكريمة يعد خونة أنفسهم منافقين، نفاقا عقديا لأنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، ونفاقا عمليا لأن تصرفاتهم تناقض تعاليم الإسلام وإن تظاهروا بالإيمان، وهم بذلك محط غضب الله تعالى وبغضه (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) النساء107، وما أعظمه من ذنب يجلب على صاحبه بغض الله له، ومن أبغضه الله فقد لعن، ومن الإيمان أن تحب من يحبه الله وتبغض من يبغضه الله، ( وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ - كنز العمال 7504 -.
ونظرا لخطورة الخيانة بارتكازها على الغدر والمكر الخفي فقد تكفل الله تعالى رحمة منه ولطفا، بدفع شرها عن المؤمنين إن هم التزموا بالتوجيهات القرآنية والنبوية في تعاملهم مع هذه الظاهرة وأربابها، فقال عز وجل: ( وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) يوسف52، أي أن صاحب الخيانة لابد أن يفتضح ويفشل مكره ويرد كيده في نحره، وقال أيضا: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور) الحج38، وفي هذه الآية إشارة لطيفة بترك المدفوع عن المؤمنين عاما مطلقا، وجعل سياقها يشير إلى الخيانة، وذلك بشارة عظيمة للمؤمنين الذين يتعرضون للخيانة، بأنه عز وجل متكفل بالدفاع عنهم.
إن الخيانة تفوق خطورتها جل الكبائر المرتكبة، لأنها تضمها كلها، ولها تعلق بالنفاق والغش والخداع وترك النصيحة وارتكاب الفواحش والنميمة والكفر والشرك وسفك الدم الحرام...الخ
فالنفاق خيانة كله، وآية المنافق كما وردت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ) البخاري ومسلم، فالكذب بذلك خيانة لأنه تزوير وقلب للحقائق، وإخلاف الوعد خيانة، وانتقاص الأمانة خيانة؛
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عد الكذب على المؤمنين أكبر خيانة بقوله ( كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت له به كاذب ) البخاري في كتاب الأدب ، وأبو داود في كتاب الأدب.
والغش والمكر والخديعة خيانة لأن فيها انتقاصا لحقوق المسلمين وإضرارا بهم وغدرا لهم، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم:
- ( المكر والخديعة والخيانة في النار) أبو داود في مراسيله عن الحسن.
- ( من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار ) الطبراني في الكبير والصغير وابن حبان في صحيحه.
- ( من غش المسلمين فليس منهم ) الطبراني في الكبير ورواته ثقات.
وترك النصيحة للمؤمن خيانة، لأن في ذلك غمطا لحق المؤمنين فيها وخيانة لهم، قال صلى الله عليه وسلم: ( من أشار على أخيه بأمر يعلم الرشد في غيره فقد خانه ) أبو داود/ كتاب العلم.
والغلول خيانة، لأنه بمثابة سرقة المال العام، وهو من الكبائر بإجماع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة) أحمد والنسائي وصححه ابن حبان، وقال: ( بئس العبد يختل الدنيا بالدين ) الترمذي والحاكم في مستدركه والطبراني في الكبير.
وترك الالتزام بأمر الجماعة خيانة، سواء كان اشتراكها في تجارة أو فلاحة أو صناعة، أو كان في الدعوة والجهاد، لأن في ذلك نقضا للعهد وطعنا في الظهر ومدعاة لتخلي الله تعالى عن الخائن، وهو ما يشير إليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله عز وجل: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت من بينهما ) أبو داود والدا رقطني والحاكم بإسناد صحيح، أي حجبت مدافعة الله تعالى عن الاثنين معا، واختصت بالصادق المظلوم منهما.
وارتكاب الفواحش خيانة، فالسارق خائن لأنه ينتقص أموال الناس بغير حق، والزاني خائن لأنه ينتهك أعراض الخلق وينتقصها، والقاتل خائن لأنه يسلب المقتول حق الحياة، والجاسوس خائن... والمغتاب خائن... والنمام خائن...الخ(64/3)
إن الخيانة رأس كل خطيئة وعنوان كل جريمة مهما دقت أو جلت، والأمين لا يخون أبدا، لا يخون مسلما ولا كافرا ولا خائنا، وفي الحديث ( لا تخن من خانك )أبو داود/بيوع، ولذلك قال بعض السلف الصالح: ( لم يخنك الأمين ولكن ائتمنت الخائن)، وقال الإمام علي رضي الله عنه: ( أد الأمانة إلى البر والفاجر فيما جل أو قل ).
لقد حذر سبحانه وتعالى رسوله الكريم من أهل الخيانة تحذيرا صريحا لا لبس فيه فقال: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) النساء 105، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( كل خصلة يطبع عليها أو يطوى عليها المسلم إلا الخيانة والكذب ) ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي الدنيا في الصمت مرفوعا وموقوفا.
ولئن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد كفاه الله تعالى مكر الخائنين وغدرهم فقال: ( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) الأنفال71، وأرشده عز وجل إلى خير أسلوب للتعامل مع الخونة بعد أن شبههم بشر
الدواب بقوله في سورة الأنفال: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(55)الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ(56)فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(57)وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ )، فإنه صلى الله عليه وسلم تعليما لنا وإرشادا وتحذيرا، كان لا يستعين مطلقا بمن يتوسم فيهم ملامح الخيانة؛ وقد روى أبو داود في سننه- كتاب الخراج والإمارة والفيء – عن أبي موسى قال: انطلقت مع رجلين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتشهد أحدهما ثم قال: جئنا لتستعين بنا، وقال الآخر مثل قول صاحبه، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إن أخونكم عندنا من طلبه )، فاعتذر أبو موسى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لم أكن أعلم لما جاءا له، فلم يستعن بهما على شيء حتى مات.
وبما أن الدعوة الإسلامية شهادة على الناس ( لتكونوا شهداء على الناس ) فلا يجوز أن ينضم إليها خائن ولا خائنة، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه ) أبو داود/أقضية.
إن علاج الصف المسلم من هذه الآفة هو المناصحة والمودة بين جميع أعضائه، مهما تباعدت ديارهم وأبدانهم، والحذر من أن يتحول أعضاؤه إلى مجموعة من الغششة المتخاونين، يتنافسون على المال والجاه والمنصب، ولا يرعون في مؤمن إلا ولا ذمة.(64/4)
آفة العصر
الذي ينظر لحال الغالب من الملتزمين في هذا الزمان يرى أنهم بحاجة إلى رعاية ومتابعة من العلماء والدعاة الربانيين، فقد عظم العدد ومنَّ الله على الأمة بالأنس بمظاهر الإسلام والعود إلى صور الالتزام. ولكن كما يقال اتسع الرتق على الراتق والثوب بحاجة إلى تغيير، فالعلل كثيرة والأمراض فتاكة وقد تبدوا عوارض المرض وظواهره؛ وقد تختفي و تظهر بين حين وآخر.
وهناك ظاهرة خطيرة وداء عضال ضرب أسمى علاقة ربانية في مقتل، وأظنها أصابت الهدف، وهي معاملة بعض الملتزمين بعضا معاملة المنافق لغيره، مما أوهن رباط الأخوة، وقطع حبل التواصل، وهدم جدران المودة.
فبعد أن يئس الشيطان أن يُعبد من دون الله عند الملتزمين وأهل السبق، إذ به يضرب بين القلوب، بعد التهاون في أمر الله عز وجل، ومخالفة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فتآلف القلوب دلالة على صحة المنهج وسلامة الطريق قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:63]
فما عليه كثير من الملتزمين من إبطان العداء لإخوانهم، وإظهار البشر لهم؛ فتراهم إخوة في العلانية يضحك بعضهم مع بعض ويتبادلون أطراف الحديث كما لو أنهم يعيشون حالة من الصفاء التي ليس لها نظير، وربما يلقى بعضهم بعضا بالأعناق والقبلات, وحينما يتوارى البعض عن الآخر تبدأ بعض الممارسات التي لا تليق بعامة الناس فضلاً عن أناس يحملون رسالة سامية، وقد يكون سبب هذه العداوة شيء حقير أو خلاف شخصي أو خلاف حزبي أو خلاف طائفي أو..؟!! والله تعالى عليم بذات الصدور.
لقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن التشبه باليهود والنصارى في أمور كثيرة، ومنها التشبه بهم في الخلاف، ولهذا قال سبحانه وتعالى ـ لما ذكر اليهود وما جرى لهم ـ {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}[الحشر: من الآية14]، فأشار إلى أن الخلاف الذي يصل إلى هذا الحد لا يقع إلا من قوم ضعف عليهم الدين وضعف عليهم العقل؛ لأن العقل يقتضي أن يكون بينهم نوع من التناصر والتلاحم والتقارب يستطيعون أن يتغلبوا به على ما يواجههم فالمرء بأخيه وما أعنيه أبناء العقيدة الصحيحة والمنهج السليم.
فمن العجيب أنك ترى أنه كلما زاد القرب والتلاقي مع بعض من ينتسبون إلى هذه الدعوة ترى بونا شاسعا بين ما تسمعه عن هذا الدين من قيم وأخلاق, وعبادات ومعاملات, وأصول راسخات, فترى نفسك في ازدواجية وقلب للمعايير وبخس للموازين!! فأين الذين يعقلون؟ وأين الذين هم لهذا الدين قائمون؟
فهذا يمكر بهذا وهذا يحارب وعند التلاقي يداهن بعضهم بعضا ويتأولون القول: نبش في وجوه القوم وقلوبنا تلعنهم، ومن شر الناس منزلة من تركه الناس خشية فحشه، فأنزل بعضهم بعضا هذه المنزلة وأسقط بعضهم بعضا هذه السقطة.
وهذا أعاذنا الله منه ضرب من النفاق، ولما هالني أمره أردت أن أجمع عن النفاق كلمات تكون عبرة وذكرى لي ولإخواني-ونسأل الله أن يعيذنا من النفاق.
والنفاق معناه: إظهارُ الإسلام وَالخير، وَإبطانُ الكفر وَالشر؛ سمي بذلك لأنه يدخل في الشرع من باب، وَيخرج منه من باب آخر، وَعلى ذلك نبه الله تَعَالَى بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التوبة: من الآية67]، أي: الخارجون من الشرع.
وجعل الله المنافقين شرًا من الكافرين فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}[النساء: من الآية145]
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}[النساء: من الآية142].
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(10)} [البقرة:9 – 10]
أنواع النفاق
النفاق نوعان:(65/1)
النوع الأول: النفاقُ الاعتقادي: وَهو النفاق الأكبر الذي يُظهر صاحبه الإسلام، وَيُبطن الكفر، وَهذا النوع مخرج من الدين بالكلية، وَصاحبه فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ، وَقد وَصف الله أهله بصفات الشر كلها: من الكفر وَعدم الإيمان، وَالاستهزاء بالدين وَأهله، وَالسخرية منهم، وَالميل بالكلية إلى أعداء الدين؛ لمشاركتهم لهم في عدواة الإسلام. وَهؤلاء موجودون في كل زمان، وَلا سيما عندما تظهر قوة الإسلام وَلا يستطيعون مقاومتَه في الظاهر، فإنهم يُظْهرون الدخول فيه؛ لأجل الكيد له وَلأهله في الباطن؛ وَلأجل أن يعيشوا مع المسلمين وَيَأمنوا على دمائهم وَأموالهم؛ فيظهر المنافق إيمانه بالله وَملائكته وَكتبه وَرسله وَاليوم الآخر؛ وَهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به، لا يؤمن بالله، وَلا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولًا للناس يهديهم بإذنه، وَينذرهم بأسه وَيخوفهم عقابه، وَقد هتك الله أستار هؤلاء المنافين، وَكشف أسرارهم في القرآن الكريم، وَجلى لعباده أمورهم؛ ليكونوا منها وَمن أهلها على حذر. وَذكر طوائف العالم الثلاث في أول البقرة: المؤمنين، وَالكفار، وَالمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وَفي الكفار آيتين، وَفي المنافقين ثلاث عشرة آية؛ لكثرتهم وَعموم الابتلاء بهم، وَشدة فتنتهم على الإسلام وَأهله، فَإِنَّ بلية الإسلام بهم شديدة جدًا، لأنهم منسوبون إليه وَإلى نصرته وَموالاته، وَهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وَإصلاح، وَهو غاية الجهل وَالفساد.
النوع الثاني: النفاق العملي: وَهو عمل شيء من أعمال المنافقين؛ مع بقاء الإيمان في القلب، وَهذا لا يُخرج من الملة، لكنه وَسيلة إلى ذلك، وَصاحبه يكونُ فيه إيمان وَنفاق، وَإِذَا كثر؛ صارَ بسببه منافقًا خالصًا، وَالدليل عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ).[رواه البخاري(34)، مسلم(58)]
فمن اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع، فقد اجتمع فيه الشر، وَخلصت فيه نعوت المنافقين، وَمن كانت فيه وَاحدة منها صار فيه خصلة من النفاق، فَإِنَّهُ قد يجتمع في العبد خصال خير، وَخصال شر، وَخصال إيمان، وَخصال كفر وَنفاق، وَيستحق من الثواب وَالعقاب بحسب ما قام به من موجبات ذلك.
ومنه: التكاسل عَنْ الصلاة مع الجماعة في المسجد؛ فَإِنَّهُ من صفات المنافقين، فالنفاق شر، وَخطير جدًا، وَكان الصحابة يتخوفون من الوقوع فيه.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: "أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ".<رواه البخاري تعليقاً>
قَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثيرًا ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق، ثم يتوبُ الله عليه، وَقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق، وَيدفعه الله عنه، وَالمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وَبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالْحَدِيثِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: (ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ).<رواه أحمد(2/397)>
وَفي رواية: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: (وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ) قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: (ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ).<رواه مسلم(132)>
وفي رواية: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ).<رواه أبو داود(5112)>
أي حصول هذا الوسواس، مع هذه الكراهة العظيمة، وَدفعه عَنْ القلب، هو من صريح الإيمان.<كتاب «الإيمان» صـ(238)>
وأما أهل النفاق الأكبر، فقَالَ اللهُ فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}[البقرة:18]. أي: إلى الإسلام في الباطن.(65/2)
وَقَالَ تَعَالَى فيهم: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}[التوبة:126].
والنفاق لم ينته بل هو الآن أخطر منه في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تميز عصرنا الحاضر بارتفاع أصوات المنافقين والمنافقات في أنحاء العالم الإسلامي، فأُفردت لهم الصفحات، ودُعوا إلى التحدث في المنتديات، واحتفلت بهم التجمعات، وسيطروا على كثير من وسائل الإعلام كما يلاحظه القاصي والداني لفشو الأمر وظهوره.
وحالُ المنافقين ليست بجديدة على أمة الإسلام .. فهم أعداء ألِدّاء لهذا الدين منذ بعثة محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم يكيدون ويدبرون ويخططون وينفذون، وقد وصفهم الله عز وجل في سبعة وثلاثين موضعاً من القرآن، وسميت سورة كاملة باسم المنافقين, وأفاضت السنة النبوية المطهرة في ذلك الأمر العظيم وتوضيحه وجلائه.
ولأن الصراع بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة؛ فإننا لا نزال نرى الصفات نفسها تتوارثها الأجيال المنافقة زمناً بعد زمن حتى وقتنا الحاضر. يقول الله عن صفة من صفاتهم: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}[المنافقون: من الآية4].
فما أكثر المستمعين لحديثهم المنصتين لهرائهم المتابعين لإنتاجهم.
وهم يلبّسون على الناس ويدّعون فيهم الإصلاح والفلاح كما كان فرعون يقول لقومه عن موسى نبي الله عليه الصلاة والسلام: {إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ}[غافر: 26].
ومن العجب أن يتولى نفر من المنافقين والمنافقات، إفساد الأمة ومسخها عن دينها ودعوتها إلى التحرر والإباحية والرذيلة, وهكذا هم المنافقون في كل أمة وفي كل قطر يتحينون الفرص، ويقطعون الطريق, وها هم يسيرون متكاتفين متماسكين يتواصون بالباطل ولهم جَلَد وصبر عجيب {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَاًمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ}[التوبة: 67] .
والعجب ليس من حرص هؤلاء وجدهم واجتهادهم لهدم صروح العفة والفضيلة؛ بل ومحاولة تقويض ركائز الدين بعامة، إنما العجب كيف يرضى بذلك عقلاء القوم وكبارهم، وكيف تترك سموم هؤلاء تنتشر في الفضاء وتنفذ إلى القلوب؟
وَتجد البعض من النَّاسِ يقع في صفة من صفات المنافقين من حيث يشعر, أَوْ لا يشعر، كأن يكون تحاكمه مخالف لشرع الله عز وجل لا يرضى من الحكم إلا ما وافق الهوى كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[النساء: من الآية65]
وقد أجمل ابن القيم وصفهم وبين أحوالهم بما لا يوجد في كتاب مثله.
قَالَ ابن القيم رحمه الله: النفاق هو الداء العضال الباطن الذي يكون الرجل ممتلئًا منه وهو لا يشعر، فَإِنَّهُ أمر خفي على النَّاسِ، وَكثيرًا ما يخفى على من تلبس به، فيزعم أنه مصلح وَهو مفسد، وَهو نوعان: أكبر، وَأصغر.
فالأكبر: يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل، وَهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله، وَملائكته، وَكتبه، وَرسله، وَاليوم الآخر، وَهو في الباطن منسلخ من ذلك كله، مكذب به، لا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولًا للناس، يهديهم بإذنه، وَينذرهم بأسه، وَيخوفهم عقابه، وَقد هتك الله سُبْحَانَهُ أستار المنافقين، وَكشف أسرارهم في القرآن، وَجلَّى لعباده أمورهم ليكونوا منها وَمن أهلها على حذر، وَذكر طوائف العالم الثلاثة فى أول سورة البقرة: المؤمنين وَالكفار وَالمنافقين؛ فذكر في المؤمنين أربع آيات، وَفي الكفار آيتين، وَفي المنافقين ثلاث عشرة آية لكثرتهم، وَعموم الابتلاء بهم، وَشدة فتنتهم على الإسلام وَأهله، فَإِنَّ بلية الإسلام بهم شديدة جدًا لأنهم منسوبون إليه، وَإلى نصرته وَموالاته، وَهم أعداؤه في الحقيقة يخرجون عداوته في كل قالب، يظن الجاهل أنه علم وَإصلاح، وَهو غاية الجهل وَالإفساد.
فلله!! كم من معقل للإسلام قد هدموه!.
وَكم من حصن له قد قلعوا أساسه وَخربوه!.
وَكم من علم له قد طمسوه!.
وَكم من لواء له مرفوع قد وَضعوه!.
وَكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوه!.
وَكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوه وَيقطعوه!.
فلا يزال الإسلام وَأهله منهم في محنة وَبلية، وَلا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، وَيزعمون أنهم بذلك مصلحون، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}[البقرة:12].
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8].
فيما اتفقوا؟؟؟(65/3)
اتفقوا على مفارقة الوحي، فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون:53].
{يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}[الأنعام: من الآية112].
وَلأجل ذلك{اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}[الفرقان: من الآية30]، درستْ معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها، وَدثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، وَأفلت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها، وَكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وَأفكارهم فليسوا يبصرونها، لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله، وَلم يرفعوا به رأسًا، وَلم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وَأفكارهم بأسًا، خلعوا نصوص الوحي عَنْ سلطنة الحقيقة، وَعزلوها عَنْ وَلاية اليقين، وَشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة، فلا يزال يخرج عليها منهم كمين بعد كمين، نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام، فقابلوها بغير ما ينبغي لها من القبول وَالإكرام، وَتلقوها من بعيد وَلكن بالدفع في الصدور منها وَالأعجاز، وَقالوا: ما لك عندنا من عبور، وَإن كان لا بد فعلى سبيل الاجتياز، أعدوا لدفعها أصناف العدد وَضروب القوانين. وَقالوا لما حلت بساحتهم: ما لنا وَلظواهر لفظية لا تفيدنا شيئًا من اليقين. وَعوامهم قالوا: حسبنا ما وَجدنا عليه خلفنا من المتأخرين، فإنهم أعلم بها من السلف الماضين، وَأقوم بطرائق الحجج وَالبراهين، وَأولئك غلبت عليهم السذاجة، وَسلامة الصدور، وَلم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر وَلكن صرفوا هممهم إلى فعل المأمور وَترك المحظور، فطريقة المتأخرين: أعلم وَأحكم، وَطريقة السلف الماضين: أجهل لكنها أسلم، أنزلوا نصوص السنة وَالقرآن منزلة الخليفة في هذا الزمان؛ اسمه على السكة، وَفي الخطبة، فوق المنابر مرفوع، وَالحكم النافذ لغيره<يريد ما قام به الأمراء من المماليك بالفرد بالملك والسلطان وجعل أمر الخليفة هامشي فلا حجة له ولا برهان>، فحكمه غير مقبول وَلا مسموع، لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ وَالخسران، وَالغل وَالكفران، فالظواهر ظواهر الأنصار، وَالبواطن قد تحيزت إلى الكفار، فألسنتهم ألسنة المسالمين، وَقلوبهم قلوب المحاربين، وَيقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة: من الآية8].
رأس مالهم الخديعة وَالمكر، وَبضاعتهم الكذب وَالختر، وَعندهم العقل المعيشي؛ أن الفريقين عَنْهُم راضون وَهم بينهم آمنون {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[البقرة:9].
عللهم وأمراضهم!!
قد نهكت أمراض الشبهات وَالشهوات قلوبهم فأهلكتها، وَغلبت القصود السيئة على إراداتهم وَنياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة:10].
مَنْ علقت مخالب شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق، وَمَنْ تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق، وَمَنْ دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وَبين التصديق، ففسادهم في الأرض كثير، وَأكثر النَّاسِ عنه غافلون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ(12)}[البقرة:11-12].
المتمسك عندهم بالكتاب وَالسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول، وَالدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمل أسفارا، فهمه في حمل المنقول، وَبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة، وَما هو عندهم بمقبول، وَأهل الإتباع عندهم سفهاء، فهم في خلواتهم وَمجالسهم بهم يتطيرون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}[البقرة:13].
لكل منهم وَجهان: وَجه يلقى به المؤمنين، وَوجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين، وَله لسانان: أحدهما يُقَبِّل بظاهره المسلمون، وَالآخر يترجم به عَنْ سره المكنون، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة:14].
قد أعرضوا عَنْ الكتاب وَالسنة استهزاءً بأهلهما وَاستحقارًا، وَأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحًا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه أشرًا وَاستكبارًا، فتراهم أبدًا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[البقرة:15].(65/4)
خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات؛ فركبوا مراكب الشبه وَالشكوك، تجري بهم في موج الخيالات، فلعبت بسفنهم الريح العاصف فألقتها بين سفن الهالكين، {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[البقرة:16].
أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى وَالضلال، ثم طفأ ذلك النور وَبقيت نارًا تأجج ذات لهب وَاشتعال، فهم بتلك النار معذبون، وَفي تلك الظلمات يعمهون، {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}[البقرة:17].
أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر<الوَقْرُ: ثِقَلٌ في الأُذن بالفتح وقيل هو أَن يذهب السمع كله والثِّقَلُ أَخَفُّ من ذلك وقد وَقِرَتْ أُذنه بالكسر تَوْقَرُ وقْراً أَي صَمَّتْ ووَقَرَتْ وَقْراً.. «لسان العرب»(باب: «وقر»)>، فهي لا تسمع منادي الإيمان، وَعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى، فهي لا تبصر حقائق القرآن، وَألسنتهم بها خرس عَنْ الحق، فهم به لا ينطقون {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}[البقرة:18]
أثر الهدى على قلوبهم
صاب عليهم صيب الوحي وَفيه حياة القلوب وَالأرواح، فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد وَالوعيد؛ وَالتكاليف التي وَظفت عليهم في المساء وَالصباح، فَجَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ، وَجَدُّوا في الهرب وَالطلب في آثارهم وَالصياح، فنودي عليهم على رءوس الأشهاد، وَكشفت حالهم للمستبصرين وَضرب لهم مثلان بحسب حال الطائفتين منهم: المناظرين وَالمقلدين فقيل:, {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}[البقرة:19].
ضعفت أبصار بصائرهم عَنْ احتمال ما في الصيب من بروق أنواره وَضياء معانيه، وَعجزت أسماعهم عَنْ تلقي وَعوده ووَعيده وَأوامره وَنواهيه، فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه، لا ينتفع بسمعه السامع، وَلا يهتدي ببصره البصير، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: من الآية20].
علاماتهم ودلائل معرفتهم
لهم علامات يُعرفون بها مبينة في السنة وَالقرآن، بادية لمن تدبرها من أهل بصائر الإيمان، قام بهم وَالله الرياء، وَهو أقبح مقام قامه الإنسان، وَقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن، فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلًا، {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً}[النساء: من الآية142]، أحدهم كالشاة العائرة بين الغنمين تيعر إلى هذه مرة وَإلى هذه مرة وَلا تستقر مع إحدى الفئتين، فهم وَاقفون بين الجمعين ينظرون أيهم أقوى وَأعز قبيلا {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}[النساء:143]، يتربصون الدوائر بأهل السنة وَالقرآن، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ. وَأقسموا على ذلك بالله جهد أيمانهم، وَإن كان لأعداء الكتاب وَالسنة من النصرة نصيب قالوا: ألم تعلموا أن عقد الإخاء بيننا محكم وَأن النسب بيننا قريب. فيا من يريد معرفتهم، خذ صفتهم من كلام رب العالمين فلا تحتاج بعده دليلا: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}[النساء:141].(65/5)
يعجب السامع قول أحدهم لحلاوته وَلينه، وَيشهد الله على ما في قلبه من كذبه وَمينه، فتراه عند الحق نائمًا، وَفي الباطل على الأقدام قائما، فخذ وَصفهم من قول القدوس السلام: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}[البقرة:204]، أوامرهم التي يأمرون بها أتباعهم متضمنة لفساد البلاد وَالعباد، وَنواهيهم عما فيه صلاحهم في المعاش وَالمعاد، وَأحدهم تلقاه بين جماعة أهل الإيمان في الصلاة، وَالذكر، وَالزهد، وَالاجتهاد، {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}[البقرة:205]، فهم جنس بعضه يشبه بعضًا يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه، وَينهون عَنْ المعروف بعد أن يتركوه، وَيبخلون بالمال في سبيل الله وَمرضاته أن ينفقوه، كم ذكَّرهم الله بنعمه فأعرضوا عَنْ ذكره وَنسوه، وَكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليجتنبوه، فاسمعوا أيها المؤمنون {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التوبة:67]، إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وَجدتهم عنه نافرين، وَإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وَسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رأيتهم عنه معرضين، فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وَبين الهدى أمدًا بعيدًا، وَرأيتها معرضة عَنْ الوحي إعراضًا شديدًا، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}[النساء:61].
فكيف لهم بالفلاح وَالهدى بعد ما أصيبوا في عقولهم وَأديانهم، وَأنى لهم التخلص من الضلال وَالردى! وَقد اشتروا الكفر بإيمانهم فما أخسر تجارتهم البائرة! وَقد استبدلوا بالرحيق المختوم حريقًا، {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}[النساء:62].
نشب زقوم الشبه وَالشكوك في قلوبهم فلا يجدون له مسيغًا، {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}[النساء:63].
تبًا لهم!! ما أبعدهم عَنْ حقيقة الإيمان، وَما أكذب دعواهم للتحقيق وَالعرفَانِ، فالقوم في شأن وَأتباع الرسول في شأن، لقد أقسم الله جل جلاله في كتابه بنفسه المقدسة قسمًا عظيمًا يعرف مضمونه أولو البصائر، فقلوبهم منه على حذر إجلالًا له وَتعظيمًا، فقَالَ تَعَالَى تحذيرا لأوليائه وَتنبيهًا على حال هؤلاء وَتفهيمًا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[النساء:65].
وصف المنافقين
تسبق يمين أحدهم كلامه من غير أن يعترض عليه لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به وَكشف ما لديه، وَكذلك أهل الريبة يكذبون وَيحلفون؛ ليحسب السامع أنهم صادقون، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المنافقون:2].
تبًا لهم برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان، فلما رأوا طول الطريق وَبعد الشقة نكصوا على أعقابهم وَرجعوا، وَظنوا أنهم يتمتعون بطيب العيش وَلذة المنام في ديارهم فما متعوا به، وَلا بتلك الهجعة انتفعوا، فما هو إلا أن صاح بهم الصائح فقاموا عَنْ موائد أطعمتهم، وَالقوم جياع ما شبعوا، فكيف حالهم عند اللقاء وَقد عرفوا ثم أنكروا؛ وَعموا بعد ما عاينوا الحق وَأبصروا، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}[المنافقون:3](65/6)
أحسن النَّاسِ أجسامًا، وَأخلبهم لسانًا، وَألطفهم بيانًا، وَأخبثهم قلوبًا، وَأضعفهم جنانًا، فهم كالخشب المسندة التي لا ثمر لها قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها لئلا يطأها السالكون، {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون:4]، يؤخرون الصلاة عَنْ وَقتها الأول إلى شرق الموتى، فالصبح عند طلوع الشمس، وَالعصر عند الغروب، وَينقرونها نقر الغراب، إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، وَيلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتيقن أنه مطرود مطلوب، وَلا يشهدون الجماعة، بل إن صلى أحدهم ففي البيت أَوْ الدكان، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، هذه معاملتهم للخلق، وَتلك معاملتهم للخالق، فخذ وَصفهم من أول المطففين وَآخر وَالسماء وَالطارق فلا يُنَبِّئُكَ عَنْ أوصافهم مِثْلُ خَبِيرٍ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التوبة:73].
بينهم وبين أهل السنة والإيمان
فما أكثرهم! وَهم الأقلون، وَما أجبرهم! وَهم الأذلون، وَما أجهلهم! وَهم المتعالمون، وَما أغرهم بالله! إذ هم بعظمته جاهلون، {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}[التوبة:56].
إن أصاب أهل الكتاب وَالسنة عافية وَنصر وَظهور، ساءهم ذلك وَغمهم، وَإن أصابهم ابتلاء من الله وَامتحان يمحص به ذنوبهم وَيكفر به عَنْهُم سيئاتهم أفرحهم ذلك وَسرهم، وَهذا يحقق إرثهم وَإرث من عداهم، وَلا يستوي من موروثه الرسول وَمن موروثهم المنافقون، {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ(50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(51)}[التوبة:50-51]، وَقَالَ تَعَالَى في شأن السلفين المختلفين وَالحق لا يندفع بمكابرة أهل الزيغ وَالتخليط: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[آل عمران:120] ، كره الله طاعاتهم لخبث قلوبهم وَفساد نياتهم فثبطهم عنها، وَأقعدهم، وَأبغض قربهم منه وَجواره لميلهم إلى أعدائه، فطردهم عنه وَأبعدهم، وَأعرضوا عَنْ وَحيه فأعرض عَنْهُم، وَأشقاهم وَما أسعدهم، وَحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين، فقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة:46]، ثم ذكر حكمته في تثبيطهم، وَإقعادهم، وَطردهم عَنْ بابه، وَإبعادهم وَأن ذلك من لطفه بأوليائه وَإسعادهم، فقال وَهو أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[التوبة:47]، ثقلت عليهم النصوص فكرهوها، وَأعياهم حملها فألقوها عَنْ أكتافهم وَوضعوها، وَتفلتت منهم السنن أن يحفظوها فأهملوها وَصالت عليهم نصوص الكتاب وَالسنة فوضعوا لها قوانين ردوها بها وَدفعوها، وَلقد هتك الله أستارهم، وَكشف أسرارهم، وَضرب لعباده أمثالهم، وَأعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم، فذكر أوصافهم لأوليائه ليكونوا منها على حذر، وَبينها لهم فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:9](65/7)
هذا شأن من ثقلت عليه النصوص فرآها حائلة بينه وَبين بدعته وَهواه، فهي في وَجهه كالبنيان المرصوص فباعها بمحصل من الكلام الباطل، وَاستبدل منها بالفصوص، فأعقبهم ذلك أن أفسد عليهم إعلانهم وَإسرارهم، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ(26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ(27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ(28)}[محمد:26-28]، أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم وَفلتات اللسان، وَوسمهم لأجلها بسيماء لا يخفون بها على أهل البصائر وَالإيمان، وَظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وَأظهروا إيمانهم راجوا على الصيارف وَالنقاد، كيف وَالناقد البصير قد كشفها لكم، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ(29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ(30)}[محمد:29-30].
عاقبة النفاق والمنافقين
فكيف إذا جمعوا ليوم التلاق وَتجلى الله جل جلاله للعباد، وَقد كُشِفَ عَنْ سَاقٍ {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ(42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(43)}[القلم:42-43]، أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وَهو أدق من الشعرة وَأحد من الحسام، وَهو دحض مزلة، مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطأ الأقدام، فقسمت بين النَّاسِ الأنوار وَهم على قدر تفاوتها في المرور وَالذهاب، وَأعطوا نورًا ظاهرًا مع أهل الإسلام، كما كانوا بينهم في هذه الدار يأتون بالصلاة، وَالزكاة، وَالحج، وَالصيام، فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح، فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبين أهل الإيمان بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، وَلكن قد حيل بين القوم وَبين المفاتيح، بَاطِنُهُ الذي يلي المؤمنين فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَما يليهم مِنْ قِبَلِهِم الْعَذَابُ وَالنقمة، ينادون من تقدمهم من وَفد الإيمان، وَمشاعل الركب تلوح على بعد كالنجوم تبدو لناظر الإنسان، انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ لنتمكن في هذا المضيق من العبور فقد طفئت أنوارنا، وَلا جواز اليوم إلا بمصباح من النور قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً، حيث قسمت الأنوار فهيهات الوقوف لأحدٍ في مثل هذا المضمار، كيف نلتمس الوقوف في هذا المضيق، فهل يلوي اليوم أحدٌ على أحدٍ في هذا الطريق؟ وَهل يلتفت اليوم رفيق إلى رفيق؟ فذكروهم باجتماعهم معهم وَصحبتهم لهم في هذه الدار، كما يذكر الغريب صاحب الوطن بصحبته له في الأسفار "أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ" نصوم كما تصومون، وَنصلي كما تصلون، وَنقرأ كما تقرؤون، وَنتصدق كما تصدقون، وَنحج كما تحجون، فما الذي فرق بيننا اليوم حتى انفردتم دوننا بالمرور؟ قَالُوا: بَلَى وَلَكِنَّكُمْ كانت ظواهركم معنا، وَبواطنكم مع كل ملحدٍ وَكل ظلومٍ كفورٍ، {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(15)}[الحديد:14-15].
لا تستطل أوصاف القوم فالمتروك وَالله أكثر من المذكور، كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم لكثرتهم على ظهر الأرض، وَفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، وَتتعطل بهم أسباب المعايش، وَتخطفهم الوحوش وَالسباع في الفلوات، سمع حذيفة رضي الله عنه رجلا يقول: اللهم أهلك المنافقين فقال: يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك.
خوف السلف من النفاق
تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين لعلمهم بدقه وَجله، وَتفاصيله وَجمله، ساءت ظنونهم بنفوسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين، قَالَ عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما يا حذيفة نشدتك بالله هل سماني لك رَسُول اللَّهِ منهم قَالَ لا وَلا أزكي بعدك أحدا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.<رواه البخاري تعليقًا>(65/8)
وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ: «مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ»<ذكره البُخَارِي>
وَلقد ذكر عَنْ عن أبي الدرداء قال: ((استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع)).<«شعب الإيمان» للبيهقي>
تالله لقد ملئت قلوب القوم إيمانًا وَيقينًا، وَخوفهم من النفاق شديد، وَهمهم لذلك ثقيل، وَسواهم كثير منهم، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، وَهم يدعون أن إيمانهم كإيمان جبريل وَميكائيل، زرع النفاق ينبت على ساقيتين: ساقية الكذب وَساقية الرياء، وَمخرجهما من عينين: عين ضعف البصيرة وَعين ضعف العزيمة، فإذا تمت هذه الأركان الأربع استحكم نبات النفاق وَبنيانه، وَلكنه بمدارج السيول عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فإذا شاهدوا سيل الحقائق يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، وَكشف المستور، وَبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق أن حواصله التي حصلها كانت كَالسَرَابِ{يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[النور: من الآية39]، قلوبهم عَنْ الخيرات لاهية، وَأجسادهم إليها ساعية، وَالفاحشة في فجاجهم فاشية، وَإِذَا سمعوا الحق كانت قلوبهم عَنْ سماعه قاسية، وَإِذَا حضروا الباطل وَشهدوا الزور انفتحت أبصار قلوبهم، وَكانت آذانهم وَاعية.
فهذه وَالله أمارات النفاق فاحذرها أيها الرجل، قبل أن تنزل بك القاضية إذا عاهدوا لم يفوا، وَإن وَعدوا أخلفوا، وَإن قالوا لم ينصفوا، وَإن دُعُوا إلى الطاعة وَقفوا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ صدفوا، وَإِذَا دعتهم أهواؤهم إلى أغراضهم أسرعوا إليها وَانصرفوا، فذرهم وَما اختاروا لأنفسهم من الهوان وَالخزي وَالخسران، فلا تثق بعهودهم، وَلا تطمئن إلى وعودهم فإنهم فيها كاذبون، وَهم لما سواها مخالفون، {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ(77)}[التوبة:75-77].<«مدارج السالكين»(1/347)>
فنسأل الله أن يصلح قلوبنا ويعصمنا من الزلل وينجينا من النفاق - اللهم آمين.(65/9)
آفات اللسان
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتنَّ إلا و أنتم مسلمون } [ آل عمران : 102 ] .
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بثَّ منهما رجالاً كثيراً و نساء ، و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم - و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } [ الأحزاب :70،71 ] .
أمّا بعد عبادَ الله :
فإنَّ الإسلام حثَّ على الخلق الكريم و أعلى قَدره ، و حذَّر من الخلق الذميم و أكفَأَ قِدْره ، حتى قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم و ما من خير إلا دلّنا عليه ، و لا شر إلا حذّرنا منه و أخذ بِحُجَزِنا فصرفنا عنه .
و المرءُ – يا عبادَ اللهِ - بأصغَرَيه : قلبِهِ و لسانِه [ كما قال عمرو بن معد يكرُب ] و على صلاحهما و فسادهما يكون صلاح الإنسان أو فساده ، و قد تناولنا في خطبةٍ سابقةٍ أمراضَ القلوب تشخيصاً و علاجاً ، و تتميماً للفائدة و تعميماً للذكرى نتناول اليومَ بالذِكرِ آفات اللسان و نقف على بعض أمراضها و أخطارها ، علَّ الله تعالى يوفقنا لتوقّي الوقوعَ فيها ، و تحاشي أضرارها .
روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنّه قال : ( من يضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه أضمن له الجنة ) .
و قال عليه الصلاة و السلام لمعاذ بن جبل : ( و هل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) [ رواه الترمذي ، و قال : هذا حديث حسن صحيح ] .
و قد أحسن من قال في التحذير من آفات اللسان :
اِحفَظ لسانَكَ أيُّها الإنسانُ *** لا يَلدغَنَّكَ إنَّه ثُعبانُ
كم في المقابِرِ من لديغِ لِسانِه *** كانت تهابُ نِزالَهُ الشُجعانُ
عبادَ الله !
آفات اللسان كثيرة ، و مدارُها جميعاً على الاسترسال في القيل و القال ، و بَسطِ الكلام ، و إرسال المقال ، و هذه آفةٌ مُوبِقةٌ ، حذَّر منها خير الخلق صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يرضى لكم ثلاثاً و يكره لكم ثلاثاً فيرضى لكم أن تعبدوه و لا تشركوا به شيئاً و أن تعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا و يكره لكم قيل و قال ، و كثرة السؤال ، و إضاعة المال ) .
و من أشنَع آفات اللسان الاستطالة في أعراض المؤمنين بغير حقٍّ ، و مَن عَرَفَ حقيقة الإسلام و مبادِئه وَقَفَ على نكيره على من استطال في عرض أخيه المسلم ، فأوسعه استنكاراً ، و توعَّدَه ناراً…
قال تعالى : ( وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَ إِثْمًا مُبِينًا ) [ الأحزاب : 58 ] .
روى الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية عن قتادة قوله : ( فإياكم و أذى المؤمن , فإن الله يحوطُه , و يغضب له . و قوله : " فقد احتملوا بهتاناً و إثماً مبيناً " يقول : فقد احتملوا زوراً و كذباً و فِريةًَ شنيعةً ; و البهتان : أفحش الكذب ، و " إثماً مبيناً " يقول : و إثما يبين لسامعه أنه إثم و زور .اهـ .
و قال سبحانه و تعالى : ( وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رحيمٌ ) [ الحجرات : 12 ] .
و روى مسلم و الترمذي و أبو داود و أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ ) قَالُوا : اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : ( ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ ) قِيلَ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ ، وَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ ) .
و في الإحياء أن الحسن رحمه الله قال : ( ذِكرُ الغير ثلاثة : الغيبة ، و البهتان ، و الإفك ، و كلٌ في كتاب الله عز و جل ؛ فالغيبة أن تقول ما فيه ، و البهتان أن تقول ما ليس فيه ، و الإفك أن تقول ما بلغك ) .
و روى الشيخان عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة حجة الوداع : ( إنّ دماءكم و أموالكم و أعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا هل بَلَّغت ) .
و صحّ أيضاً قوله عليه الصلاة و السلام : ( إن أربى الربا استطالة الرجل في عِرْض أخيه ) [ الصحيحة : 1433 ] .(66/1)
و ليت شعري ، أيُّ استطالة في عرض المسلم أشنع ، من أن يُذْكر بما يكره في غَيْبته فَيُحَطّ من قدره ، و يُنْقَص من شأنه ؟!
لقد حرم الإسلام الغيبة ، و ما كان تحريمها عبثاًً في دين قدَّم دَرْء المفاسد على جلب المصالح ، و جعل التخلية أولى من التحلية ؛ بل حُرِّمت بعد أن ثبت لذوي الألباب كونها ذريعة إلى تفكيك المجتمع ، و تمزيق شمله ، و حَلِّ عُراه .
فبالغيبة تنتعش الأحقاد ، و على مائدتها تتوالد الخصومات ، و من أفواه لائكيها تتطاير الجراثيم و تنتشر الأَرَضة ، و تتسلط على جسد الأمة فتنخره و تُحيله كعصفٍ مأكول ٍ.
و داءٌ كداء الغيبة ، لا يُنجعه دواء ، و لا يُدْرِكُ صاحبَه شفاء ، الأمر الذي من أجله انعقد الإجماع على استئصاله من جذوره و اقتلاعه من عروشه ، فكان الحُكم الفصل تحريمَ الغيبة إجماعاً كما حُرِّمَتْ كتاباً و سنةًً ، و حكى الإجماعَ على تحريمها أئمّة أعلام كابن حزم و النووي و ابن حجر و الغزالي و القرطبي و غيرهم ، و لم يرخّصوا في شيءٍ منها سوى ستّة صُوَرٍ مستثناةٍ من التحريم للحاجة إليها في جلب المصالح و درء المفاسد ، و قد أحسَن من نظَمَها في قوله :
القدْحُ ليس بغيبة في ستة *** متظلمٍ و معرف و محذر
و مجاهرٍ فسقاً و مستفتٍ ومن *** طلب الإعانة في إزالة مُنكرٍ
و لتفصيل الكلام في هذه الأمور الستّة مقام آخر عسى أن يكونَ قريباً .
عبادَ الله !
لا يقل في الخطورة و التحريم عن داء الغيبة داءٌ عضال آخر ، و آفة آخرى من آفات اللسان هي آفة السعي بين الناس بالنميمة ، و هي كالغيبة في التحريم بالنصّ و الإجماع .
روى الشيخان و غيرهما عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يدخل الجنّة نمّام ) و في رواية : ( قتات ) ، و المعنى واحد ، و قيل [ كما في فتح الباري ] : الفرق بين القتات و النمام أن النمام الذي يحضر فينقلها و القتات الذي يتسمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل ما سمعه .
و النميمة من الأسباب الموجبة لعذاب القبر ، فقد روى الشيخان و أصحاب السنن و غيرهم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على قبرين فقال : ( أما إنهما ليعذبان ، و ما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، و أما الآخر فكان لا يستتر من بوله ) .
عبادَ الله !
من آفات الألسُن أيضاً تتبّع زلاّت العلماء ، و التذرّع بها إلى الطعن في بعضهم ، و النيل من آخرين ، و اتّخاذُهم عَرَضاً ، بدعوى أنّ ذلك من النصيحة لله و لرسوله ، و من الذبّ عن شريعته الغراء المطهّرة .
رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويلٌ للأتباع من عثرات العالِم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] . و عنه رضي الله عنه ، أنّه قال : ( ويلٌ للعالم من الأتباع ) ؛ أي لما يتابعونه فيه و يتناقلونه عنه من الزلات .
و مِن آفات اللسان إساءةُ الأتباع إلى العلماء بإشاعة أقوالهم في أقرانهم ، مع أنّ المقرّر عند أهل العلم أنَّ كَلامَ الأَقْرَانِ يُطْوَى وَ لاَ يُرْوَى كما قال الإمام الذهبي رحمه الله [ في السير : 5 / 275 ] .
و ما أجمل قول الإمام السبكي رحمه الله : ( ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين ، و أن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض ، إلا ببرهان واضح ، ثم إن قدرت على التأويل و تحسين الظن فدونك و إلا فأضرب صفحاً عما جرى بينهم ، فإنك لم تخلق لهذا ، فاشتغل بما يعنيك و دع مالا يعنيك ) [ طبقات الشافعية : 2 / 39 ] .
فليتّق الله أقوام مثلهم كمَثَل الذباب لا يقعون إلا على الجِراح كما جاء في وصف شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله بعضَ من عاشوا في زمنه .
يا ناطحَ الجبلِ العالي لتَكْلِمَهُ *** أشفِق على الرأسِ لا تُشفِق على الجَبَلِ
عباد الله !
إنّ لما ذكرناه و ما لم نذكره من آفات اللسان مرتعٌ خصبٌ في حياةٍ ملؤها الفراغ و الدعة ، كحياة الكثيرين منّا ؛ إذْ كُفلتْ أقواتُهم ، و ما ضُبِطَت أقوالُهم ، فاستشرَت آفاتُ ألسنتهم عن علمٍ تارةً ، و عن جهالةٍ تاراتٍ أُخَر .
إنَّ الفراغ و الشبابَ و الجِدة مفسدةٌ للمرءِ أيُّ مَفسدة
فاتقوا الله ياعباد الله ، و اشغلوا أوقاتكم و عطّروا مجالسكم بما يرضي الله ، و يكفُّ عن الوقوع في محارمه ، و اعلموا أنّ الحرام للبركة مُمحِقة ، و أن المعاصي لأسباب السعادة مُسحقة ، و الندامة بمقترفها لاحقة .
وفّقني الله و إيّاكم لخيرَيْ القول و العمَل ، و عصمنا من الضلالة و الزلل
و صلّى الله و سلّم و بارك على نبيّّّه محمّد و آله و صحبه أجمعين
===========================================
الخطبة الثانية(66/2)
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عِوَجاً ، فصَّلَ و بيَّنَ و قرَّر صراطاً مستقيماً و منهجاً ، و نَََصَبَ و وضَّح من براهين معرفته و توحيده سلطاناً مبيناً و حُجَجاً .
أحمده سبحانه حمدَ عبدٍ جَعلَ له من كلِّ همٍّ فَرَجاً ، و من كلِّّّ ضيقٍ مَخرَجاً .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادةً ترفَعُ الصادقين إلى منازل المقرّبين دَرَجاً .
و أشهد أنَّ محمّداً عبدُه و رسوله الذي وَضَعَ الله برسالته آصاراً و أغلالاً و حَرَجاً.
و بعد فيا أمّةَ الإسلام !
إذا تبيّن عِظَم الداء فلا بدّ من التماس الدواء ، و دواء من ابتليَ بشيءٍ من آفات اللسان أن يبادر إلى الإقلاع و التوبة إلى الله تعالى قبل أن لا يكون درهم و لا دينار .
روى مسلم و الترمذي و أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ ) قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ و لا مَتَاعَ ، فَقَالَ : ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَ صِيَامٍ وَ زَكَاةٍ وَ يَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَ قَذَفَ هَذَا ، وَ أَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَ سَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَ ضَرَبَ هَذَا ؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْه ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) .
فليبادر من ابتلي بآفات اللسان ، و بخاصةٍ الغيبة إلى التوبة ، و ليعلَم أنّ للتوبة من ذنبٍ كهذا لا بدّ من توفّر شروط التوبة العامّة الثلاثة ، و هي :
1. الإقلاع عن الذنب .
2. الندم على ما فات من فعله .
3. العزم على عدم العودة إليه مستقبلاً .
و يضاف إلى هذه الشروط أن يتحلّل ممّن أساء إليه .
و على التائب منها أن يراعي المصلحة و المفسدة قبل أن يعتذر ممّن أساء إليهم ، فإن لم تكن الغيبة قد بَلَغت المغتاب فالأولى عدم طلب السماح منه ، و الاكتفاء بالرجوع عن الغيبة أمام من سمعها ، و تبرئة ساحة من طالته بالرجوع عنها ، و التعريف محاسنه و الثناء عليه بما فيه .
أمّا إذا كانت الغيبة قد بلغت المقصود بها ، فإن غَلَب على ظنّ الواقع في الغيبة أنّ من سيعتذر منهم يقبلون اعتذاره بادرهم به ، و إن رأى أنّ إصلاح ذات البين يمكن تحقيقها بالتلطّف و تقديم الهدايا إليهم فعَل ، و دَرَءَ سيئاته بحسنات مثلها أو أكبر منها .
و إن غلَب على ظنّه أن اعتذاره لن يُجديَ معهم نفعاً ، أو أنّه قد يؤدي إلى زيادة الفرقة و الضغينة في النفوس ، فليلجأ إلى الإحسان إليهم بالدعاء ، و ذكر محاسنهم ، و الكفّ عمّا يسوؤهم أو يسيء إليهم ، لعلّ الله يلهم الصفح ، و يقيل عثرةَ صاحبهم فيغفر له ، و هو أهل التقوى و أهل المغفرة .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الحجرات : ( قال الجمهور من العلماء : طريق المغتاب للناس في توبته أن يُقلع عن ذلك ، و يعزم على أن لا يعود ، و هل يشترط الندم على ما فات ؟ فيه نزاع ، و أن يتحلل من الذي اغتابه .
و قال آخرون : لا يُشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربّما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه ، فطريقه إذاً أن يُثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها ، و أن يرد عنه الغيبة بحسبه و طاقته لتكون تلك بتلك ) .
فلنبادر يا عباد الله إلى التوبّة ، إذ كلُّنا خطّاء ، و خير الخطّائين التوّابون .
ألا و صلّوا و سلّّموا على نبيكم الأمين ، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم ، فقال ربّ العالمين : ( إنّ الله و ملائكته يصلُّون على النبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليماً ) اللهم صلِّ و سلّم و بارك على عبدك و نبيّك محمّدٍ ، و على آله و صحبه أجمعين .
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad-A-Najeeb
alhaisam@msn.com
http://www.saaid.net/Doat/Najeeb(66/3)
آل البيت و مكانتهم عند أهل السنة
قال ابن منظور صاحب لسان العرب: أهل البيت سكانه وأهل الرجل أخص الناس به وأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أزواجه وبناته وصهره، أعني عليا - عليه السلام - وقيل نساء النبي والرجال الذين هم آله.
وقال الراغب الأصفهاني: أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وولد. وقيل إن أصل كلمة آل: أهل، ثم قُلبت الهاء إلى همزة فصارت أأل ثم خففت بعد ذلك إلى آل. اهـ. فآل وأهل واحد، وآل الرجل هم أزواجه وذريته وأقرباؤه كما ذكر أهل اللغة. قال- تبارك وتعالى -عن امرأة العزيز أنها قالت لزوجها: ( ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ) يوسف 25 تريد نفسها وقال الله- تبارك وتعالى -عن موسى: (إذ قال موسى لأهله إني آنست ناراً سآتيكم منها بخبر ). وأهله زوجته التي كانت معه. وقال عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وزوجته (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد )هود 73 أما الأهل والآل في الشرع فعلى أربعة أقوال مشهورة.
القول الأول: إن الآل هم الأزواج والذرية:
واستدلوا على ذلك بآية التطهير، التي ذكرت نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في قول الله تباك وتعالى( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفا، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً، واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً )[الأحزاب 33-34]
فالآيات في أولها تتكلم عن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك في آخرها عن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لهن في وسط هذه الآية(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )، وهنا لا مدخل ولا كلام لمن قال بأن الآل هنا أو الأهل هنا هم غير نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا يخالف سياق الآية كما ترون فالآية ابتدأت بالنساء وختمت بالكلام عن النساء.
وأما قول من يقول: فلمَ أعرض عن نون النسوة وجاء بدلها بميم الجمع؟
فقال في بداية الآيات: ( يا نساء النبي لستن )، ثم قال: ( وقرن في بيوتكن )، ثم قال: ( واذكرن )، ثم قال( إنما يريد ليذهب عنكم )ولم يقل عنكن، والجواب هو أن الأوامر في البداية هي للنساء خاصة، ثم جاء بميم الجمع لدخول رجل مع النساء وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو سيد البيت صلوات الله وسلامه عليه، فإذا دخل الرجل مع مجموع النساء انقلبت نون النسوة إلى ميم الجمع وهذا معلوم ظاهر في اللغة، ولذلك قال بعدها مباشرة: ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ).
الدليل الثاني: التشهد، وذلك أننا نقول في تشهدنا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. وجاء في بعض صيغ التشهد عند البخاري تفسير الآل في قوله: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته. فهذه الصيغة هي تفسير لقوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد فحذف الآل، وجاء بدلها بالأزواج والذرية.
وكذلك جاء عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: ما شبع آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبز بُرٍّ. أخرجه الإمامان البخاري ومسلم. وقول عائشة ما شبع آل رسول الله. تريد نفسها وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما تريد أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللاتي هن تبع له شرعاً.
القول الثاني: هم من حرمت عليهم الزكاة.
وفيمن حرمت عليهم الزكاة قولان:
1) أن الذين حرمت عليهم الزكاة: بنو هاشم وبنو المطلب، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجع نسبه إلى هاشم. فهو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم. والمطلب أخو هاشم وهو عم عبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
بل إن عبد المطلب نسبوه إلى عمه وذلك أن اسمه شيبة الحمد ولكنه تربى عند أخواله من بني النجار من أهل المدينة، ولذلك ليقال لهم أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي هاشم وولده شيبة عند أخواله فذهب عمه المطلب فأخذه إلى مكة فظن الناس أن شيبة الحمد عبدٌ للمطلب، فقالوا: هذا عبد المطلب، فقال لهم المطلب: لا، هذا شيبة ابن أخي هاشم، ولكن غلب عليه اللقب حتى ما صار يعرف في مكة إلا بعبد المطلب. الشاهد أن الذين حرمت عليهم الزكاة على القول الأول بنو هاشم وبنو المطلب.
2): أن الذين حرمت عليهم الزكاة بنو هاشم فقط:
وأما الدليل على أن هؤلاء هم أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فحديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أذكركم الله أهل بيتي أذكركم الله أهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي، فقيل لزيد من أهل بيته؟ قال أهل بيته من حرم الصدقة. وهم آل علي وآل عقيل وآل العباس وآل جعفر، فعد هؤلاء الأربعة أي أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم -أخرجه مسلم(67/1)
وكذلك استدلوا بحديث الحسن بن علي - رضي الله عنه - أنه أخذ تمرة من الصدقة. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد. متفق عليه
واستدلوا بحديث عبد المطلب أو المطلب بن ربيعة على اختلاف في اسمه والفضل بن العباس أنهما ذهبا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسألاه أن يستعملهما على الصدقة حتى ينالا الأجر يعني الأجر المادي لأنه من الأصناف الذين يستحقون الزكاة. ] والعاملين عليها [[التوبة 60] فأراد الفضل بن العباس، وعبد المطلب بن ربيعة أن يكونا من العاملين عليها. فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد. ومنعهما من ذلك. أخرجه مسلم.
فدل هذا على أن الفضل بن العباس بن عبد المطلب وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب لا تحل لهما الزكاة. لأنهما من آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -.
القول الثالث: أن آل النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع أمة الاستجابة:
يعني كل مسلم يعتبر من آل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي من أتباعه. فآل الرجل أتباعه، فكل من تبع رجلا صار من آله. كما قال الله تبارك وتعالى] أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [[غافر 46]. أي فرعون ومن تبعه على دينه وكفره والعياذ بالله،
القول الرابع: علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهما دون غيرهما:
واستدلوا بحديث الكساء وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روت عائشة - رضي الله عنها - دخل عليه علي بن أبي طالب فأدخله تحت كسائه {عبائته} ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم جَلَّلَهم{أي غطاهم} ثم قرأ: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " أخرجه مسلم.
فدل على أن هؤلاء أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واستدلوا كذلك بآية المباهلة وهي قوله تبارك وتعالى] فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين [. [آل عمران 61]، فقالوا: دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرب الناس إليه وهم آله فكانوا عليا وفاطمة والحسن والحسين. أخرجه البخاري ومسلم. والصحيح من هذه الأقوال أن آل النبي - صلى الله عليه وسلم - هم من حرموا الصدقة. والصحيح أن الذين تحرم عليهم هم بنو هاشم فقط، أما بنو المطلب فالصحيح أنه لا تحرم عليهم الزكاة. والله أعلم
وأما نساء النبي فهن من آل البيت بالتبعية لا بالأصالة، وذلك أنهن قبل اقترانهن بالنبي لم يكنَّ من آل البيت.
من هم بنو هاشم بن عبد مناف:
عبد مناف جد النبي - صلى الله عليه وسلم - الخامس له أربعة من الولد كما ذكر أهل العلم. وهم هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل.
عبد شمس ولد له الحكم وأمية والحكم والد مروان وجد عبد الملك مؤسس الدولة المروانية.
وأمية والد بني أمية: ومنهم عثمان بن عفان وأبو سفيان والد معاوية.
ونوفل من نسله مطعم بن عدي وعبد الله بن جبير بن مطعم بن عدي كان قائد الرماة الذين تركوا مكانهم في غزوة أحد.
عبد المطلب من نسله: ركانة الذي اشتهر أنه صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - فصرعه النبي.
ومن نسله كذلك: مسطح بن أثاثة الذي تكلم في عائشة - رضي الله عنها - في حادثة الإفك. فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن نسله الإمام الشافعي، ولذلك يقال للإمام الشافعي الأمام المطلبي. ولذلك لما تكلم رجل في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عند معاوية - رضي الله عنه -، رد معاوية على الرجل ودافع عن علي. فاستغرب أحد الحاضرين، خاصة مع القتال الذي كان بين معاوية وعلى، فسافر إلى الكوفة وأخبر عليا - رضي الله عنه - بما وقع فقال له علي: أتدري لم فعل معاوية ذلك؟ قال: لا أدري. قال: لأجل المنافية..يعني لأجل أنه ابن عمي.يلتقي معي في عبد مناف.
وكذا لما خرج أبو سفيان بعد صلح الحديبية إلى الشام والتقى بهرقل هو والذين معه سألهم هرقل: أيكم أقرب الناس نسبا بمحمد؟ قال أبو سفيان: أنا. لأنه كما قلنا يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف.
أما هاشم فله ولدان: عبد المطلب الذي هو شيبة الحمد. وأسد وهو والد فاطمة أم علي بن أبي طالب. وله أولاد ذكور ولكن لا يذكر لهم ذرية. والله أعلم
أما عبد المطلب، فقد ذكر أهل التاريخ أن الله رزقه عشرة من الولد. أولاد عبد المطلب:
1) عبد الله: والد النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس له غير النبي - صلى الله عليه وسلم -
2) حمزة: ولا عقب له.
3) العباس: وهو أكثرهم ذرية، له ثمانية من الولد: عبد الله البحر الحبر وعبيد الله، وعبد الرحمن، وكثير، وتمام، وقثم، ومعبد، والفضل وبه كان يكنى. وهذان اللذان أسلما من أعمام النبي - صلى الله عليه وسلم -.
4) أبو طالب: وله أربعة من الولد: علي، وعقيل، وجعفر، وطالب الذي كان به يكنى.
5) الزبير: ولم يعقب.(67/2)
6) أبو لهب. وأبو لهب اسمه: عبد العزى: له ثلاثة من الولد: عتبة، وعتيبة، ومعتب.
7) الحارث: وله أربعة من الولد: ربيعة، وعبد الله، وأمية، وأبو سفيان وأبو سفيان بن الحارث هو الذي هجا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم بعد ذلك تاب وتابع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي لا يكلمه حتى بعد إسلامه حتى اشتكى إلى علي بن أبي طالب ابن عمه فقال: ما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكلمني؟ قال: أو ما علمت ما قد فعلت. يعني هجوت النبي صلوات الله وسلامه عليه وأنت ابن عمه. ثم قال له: اذهب إليه فقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف صلوات الله وسلامه عليه (تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا لخاطئين)"يوسف91" فجاء أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقال للنبي: (تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا الخاطئين)فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أخوه يوسف صلوات الله وسلامه عليه: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).
8) المقوم
9) الغيداق
10) صفار فهؤلاء ومن جاء من بعدهم من الذرية كلهم آل النبي - صلى الله عليه وسلم -
فضل آل البيت ومكانتهم وحقهم الذي لهم:
أولا: نستطيع أن نقسم فضائل أهل البيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قسمين:
فضائل عامة، وفضائل خاصة
أما الفضائل العامة فمنها حديث زيد وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أذكركم الله أهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي. وهذا عام في كل أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -
ومن الفضائل ما جاء في آية النساء] إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا[وذلك أن نساء النبي من آل البيت كما قدمنا، ودخل علي وفاطمة والحسن والحسين في هذا الفضل بحديث الكساء.
وكذلك حديث الصلاة عليهم في التشهد نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. وهذا لفضلهم ومكانتهم عند الله تبارك وتعالى.
وكذلك مما يدل على فضلهم حديث زيد بن أرقم، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - تركت فيكم ما إن تمسكتم فيه فلن تضلوا بعده أبدا كتاب الله وعترتي وفي رواية عترتي أهل بيتي" وهذا الحديث كنت أقول بحسنه فترة من الزمن ولكن بعد سبر أسانيده وإمعان النظر فيها تبين لي أنه ضعيف والله أعلم.
الفضائل الخاصة:
ـ فرأسهم وسيدهم وأفضلهم علي بن أبي طالب رضي الله وتبارك وتعالى عنه وشهرته أكبر وأظهر من أن ننبه عليها ويكفيه فخرًا قول البني - صلى الله عليه وسلم -: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق. متفق عليه
ـ العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: عم الرجل صنو أبيه. أي بمكانة أبيه. أخرجه الترمذي
ـ أزواجه وفيهن قول الله تبارك وتعالى]وأزواجه أمهاتهم[. أي أمهات المؤمنين.
ـ فاطمة - رضي الله عنها - وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها. متفق عليه
- الحسن والحسين وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهما: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ". أخرجه الترمذي وهو حديث صحيح.
ـ عبد الله بن العباس - رضي الله عنهما - ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له: اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين. رواه أحمد بإسناد صحيح.
ـ المهدي وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: المهدي من عترتي من ولد فاطمة "، وهذا رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
. فهذه بعض فضائلهم - رضي الله عنهم - وأرضاهم.
موقف السلف من آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -:
أما موقف السلف الصالح، من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين من آل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتعظيمهم لهم وتوقيرهم إياهم، فمن أمثلة ذلك:
ـ قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: ارقبوا محمدًا في أهل بيته. رواه البخاري في صحيحه.
وقال - رضي الله عنه -: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليَّ من أن أصل من قرابتي. أخرجه البخاري كذلك في صحيحه.
ـ وقال الشعبي: صلى زيد بن أرقم على جنازة أمه ثم قربت إليه بغلة ليركبها، فجاء عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - فأخذ بركابه أي يمسك ركاب البغلة لزيد بن ثابت - رضي الله عنه -، فقال له زيد: خلِّ عنه يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال عبد الله بن عباس: هكذا نفعل بعلمائنا، فنزل زيد من على بغلته وقبل يد عبد الله بن العباس، وقال هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ـ عن شريك بن عبد الله وهو من أتباع التابعين قال: لو جاءني أبو بكر وعمر وعلي وسألني كل حاجته لقدمت حاجة علي لقربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر أفضل من علي عند الله، ولكن قرابة علي من النبي - صلى الله عليه وسلم - توجب تقديم حاجته على حاجة غيره.(67/3)
ـ وهذا مالك بن أنس إمام دار الهجرة لما آذاه أبو جعفر المنصور وضربه، قيل له: ألا تدعو عليه. فقال: والله إني لأستحيي أن آتى يوم القيامة فيُعذَّب به هذا الرجل من قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - بسببي، فتركه لقرابته من النبي - صلى الله عليه وسلم -
ـ وذكر أن هارون الرشيد جاء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -، فجاء هارون الرشيد عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتخر على الناس، فقال السلام عليك يا ابن عم. لأنه من نسل العباس بن عبد المطلب. فجاء موسى بن جعفر فقال السلام عليك يا أبت. فالتفت إليه هارون الرشيد وقال: هذا والله الفخر.
وما نقل يبطل قول الجهلة والمغرضين الذين يقولون: إن أهل السنة لا يقومون بحق آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه فرية قديمة اتهم بها الشيخ / محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، حتى قال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الرسالة التي بعثها عام 1218هـ، ورد فيها على من افترى عليه في أنه لا يرى حقاً لأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فأجاب: سبحانك هذا بهتان عظيم. فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى.
فهذه هي مكانة آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشكل عام عند أهل السنة والجماعة.
وسأقتصر على ذكر بعض آل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهم الأئمة الإثنا عشر عند الشيعة. وهم:
1- علي بن أبي طالب
2- الحسن
3 - الحسين
4- علي بن الحسين{زين العابدين}
5 - ولده محمد {الباقر}
6- ولده جعفر{الصادق}
7- ولده موسى {الكاظم}
8- ولده علي {الرضا}
9- ولده محمد {الجواد}
10ـ ولده علي {الهادي}
11- ولده الحسن {العسكري}
12- ولده محمد {المنتظر}
وهؤلاء يمكن أن نقسمهم إلى أربعة أقسام:
القسم الثاني: وهم علماء أتقياء من جملة علماء أهل السنة والجماعة وهم ستة: -
1ـ علي بن الحسين
2ـ محمد الباقر
3ـ جعفر الصادق
4ـ موسى الكاظم
5ـ علي الرضا
6ـ محمد الجواد.
القسم الثالث: من جملة المسلمين لم يُعرف له كبير علم ولا طُعن في دينهم فهم مستورون ويكفيهم فخراً نسبهم إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهما اثنان:
1- علي الهادي
2- الحسن العسكري.
وأنهما ممن يحق لهما أن يأتيا عند قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وأن يقولا: السلام عليك يا أبت.
القسم الرابع: معدوم لم يخلق: وهو واحد وهو المنتظر، محمد بن الحسن.
أما مكانتهم عند أهل السنة والجماعة، أعني القسمين الأول والثاني:
القسم الأول:
ورأسهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فهو ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوج سيدة نساء العالمين فاطمة بن محمد - رضي الله عنها -، وهو رابع الخلفاء الراشدين وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة.
قال الحسن البصري: قُتل أمير المؤمنين {يعني عثمان بن عفان} مظلوماً، فعمد الناس إلى خيرهم فبايعوه {يعني علي بن أبي طالب}. قال أحمد بن حنبل: من لم يُرَبِّع بعلي {أي بعد أبي بكر وعمر وعثمان} فهو أضل من حمار أهله.
الثاني: الحسن بن علي السبط السيد الإمام ابن الإمام أبو محمد سيد شباب أهل الجنة. قال مساور السعدي: رأيت أبا هريرة قائماً على مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات الحسن يبكي وينادي بأعلى صوته ويقول: يأيها الناس مات اليوم حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابكوا.
الثالث: الحسين بن علي الشهيد السعيد الإمام ابن الإمام أبو عبد الله سيد شباب أهل الجنة مع أخيه - رضي الله عنهما -.
القسم الثاني:
أولهم: علي بن الحسين ولقبه زيد العابدين، قال ابن سعد: كان ثقة مأمونا كثير الحديث عالياً ورفيعاً ورعاً. قال الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل من علي بن الحسين.
قال يحي بن سعيد: سمعت على بن الحسين وكان أفضل هاشمي أدركته. قال الذهبي: كان له جلالة عظيمة وحق له والله ذلك، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه وكمال عقله.
وقد حج هشام بن عبد الملك قبيل ولايته للخلافة فكان إذا أراد استلام الحجر زحم عليه الناس، فإذا جاء علي بن الحسين ابتعد الناس عن الحجر حتى يأتي ويقبل ثم يكمل باقي الأشواط فغضب هاشم بن عبد الملك نائب الخليفة، وقال: من هذا فما أعرفه؟ وكان بجانبه الشاعر الفرزدق فقال الشاعر:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم *** هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضي حياءً ويغضى من مهابته *** فما يكلم إلا حين يبتسم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله *** بجده أنبياء الله قد ختموا
الثاني: محمد بن علي بن الحسين وهو الذي يلقب بالباقر.(67/4)
قال الإمام الذهبي: شهر بالباقر من بَقَر العلم {أي شقه} فعَرَف أصله وخفيه. ولقد كان أبو جعفر هذه كنيته إماما مجتهداً تالياً لكتاب الله كبير الشأن لا نُحابيْه ولا نَحِيف عليه، نُحِبُّه في الله لِما تجَمَّع فيه من صفات الكمال.
وقال ابن كثير: أحد أعلام هذه الأمة علماً وعملاً وسيادةً وشرفاً.
الثالث: جعفر بن محمد، ويلقب بالصادق.
قال الذهبي: الإمام الصادق شيخ بني هاشم أبو عبد الله القرشي الهاشمي العلوي النبوي المدني أحد الأعلام. وقال أبو حاتم الرازي: لا يُسأل عن مثله.
الرابع: موسى بن جعفر، ويلقب بالكاظم.
قال ابن تيمية: مشهور بالعبادة والنسك. وقال أبو حاتم الرازي: ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين.
وقال ابن كثير: كان كثير العبادة والمروءة.
الخامس: علي بن موسى ويلقب بالرضا.
قال ابن حِبَّان: من سادات أهل البيت وعقلائهم، وأجل الهاشمين ونبلائهم وقال الذهبي: كان كبير الشأن أهلاً للخلافة.
السادس: محمد بن علي بن موسى، ويلقب بالجواد.
قال ابن تيمية: كان من أعيان بني هاشم وهو معروف بالسخاء والسؤدد ولهذا سُمي بالجواد.
ومما يدل على محبة أهل السنة لآل البيت ومحبتهم لأهل السنة ما وقع بينهم من المصاهرات وتسمية الأولاد.
المصاهرات:
أولهم رسول الله صلى الله عليه وآلة وسلم:
تزوج عائشة بنت أبي بكر الصديق، وهي من تيم.
وتزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب، وهي من بني عدي.
وتزوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وهي من بني أمية.
وزوَّج ابنته رقية من عثمان بن عفان، وهو من بني أمية.
فلما توفيت زوجه أختها أم كلثوم.
وزوج ابنته زينب للعاص بن الربيع وهو من بني عبد شمس بن عبد مناف.
وعلي بن أبي طالب زوج ابنته أم كلثوم لعمر بن الخطاب.
وتزوج علي أرملة أبي بكر الصديق أسماء بنت عميس.
وتزوج علي أيضًا أمامة بنت العاص بن الربيع، بعد أن توفيت خالتها فاطمة.
ومحمد بن علي بن الحسين {الباقر} تزوج أم فروة بنت القاسم بن محمد ابن أبي بكر الصديق، وكان جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الصادق يقول: ولدني أبو بكر مرتين،
وأمه أم فروه بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وجدته أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
وأبان بن عثمان بن عفان تزوج أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب..
وسكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب تزوجها مصعب بن الزبير بن العوام. طبقات ابن سعد5/183. وغير هذا كثير.
تسمية الأولاد:
لعلى بن أبي طالب من الأولاد: أبو بكر وعمر وعثمان. كشف الغمة في معرفة الأئمة 2/67.
وللحسن بن علي من الأولاد: أبو بكر. كشف الغمة2/198.
ولعلي بن الحسن من الأولاد: عمر. كشف الغمة 2/302.
ولموسى بن جعفر من الأولاد: عمر وعائشة. كشف الغمة3/29.
وخلاصة القول أن لهم محبة خاصة وإكرام خاص لقرابتهم من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.
هذا ونسأل الله- تبارك وتعالى -أن يحشرنا وإياكم في زمرة نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وآل بيته الكرام رضي الله- تبارك وتعالى -عنهم، والله- تبارك وتعالى -أعلى وأعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://www.islamword.com(67/5)
آلامٌ وآمال بين أيدي قادتنا في اجتماعهم الاستثنائي هذا ما تنتظره الأمة من قادتها
حرره : خالد بن عبدالرحمن الشايع
الباحث والمشرف والمستشار الشرعي والتربوي والإعلامي
عضو لجنة تأليف المناهج بوزارة التربية والتعليم بالسعودية
</TD
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد :
يلتئم شمل قادةُ الأمة الإسلامية في الخامس من ذي القعدة هذا العام 1426هـ بمكة المكرمة في قمة استثنائية دعا إليها إمام المسلمين وخادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود ، ملك المملكة العربية السعودية وفقه الله ، بعد أن أُثخنت الأمةُ بجراحاتها ، فحملَتهُ غيرتُه الدينية ومشاعرُ المسئولية على أن يدعو الأمة لمناقشة أوضاعنا ، والسعي للخروج من مضائقنا .
اليوم وهذا الجمع الكبير ـ وزراءَ وقادةً ـ يتقاطرون على المملكة في الرياض ثم مكة المكرمة ، فإن أنظار ما يزيد على مليار وثلاثمائة مليون من المسلمين محدقة نحوهم ، بعد أن تلوَّعُوا في مجتمعاتهم بأنواع الرزايا والمشكلات ، التي حلَّت بهم وبإخوانهم ، لعله أن تلوح لهم بارقة أمل .
بل إنهم ـ وإلى الله المشتكى ـ هم أعظم أهل الأرض كسافة في العيش وأعظمهم مكابدة للمضائق .
فهاهي الدماء النازفة قد أخضَلَت ربوع أوطاننا ، والأرواحُ المزهقة تملأ فضاءاتنا ، والمُهَج المعذبة تنتشر في أصقاعنا ، يُصنع ذلك بأيدي أعدائنا ، ويُصنع مثله وأمثاله على أيدي بعض أبنائنا وبني جلدتنا ، فيالعظم المفارقة : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) [الأنعام : 65] .
فما الذي سبب كل ذلك ؟.
وكيف الخروج من هذه الأوضاع المزرية ؟.
ذلكم هو ـ باختصار ـ ما تنتظره الأمة من قادتها ، وهو الذي ينبغي أن يكون هاجس كل قائد من قادة أمتنا .
فبتشخيص الداء ومسبباته ، والسعي للعلاج يكون الخلاص بإذن الله .
وبحسب ما أعلمه من دلالات نصوص كتاب الله تعالى وسُنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فإن جواب ما تقدم مجملٌ ومفصل .
أما المجمل :
فهو ما أوضحه سيد ولد آدم وخاتم رسل الله محمد صلى الله عليه وسلم حين قال : " يا معشر المهاجرين ، خمسٌ إذا ابتليتم بهن ، وأعوذ بالله أن تدركوهن :
1ـ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُعلنوا بها إلا فَشَا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مَضَتْ في أسلافهم الذين مَضَوا .
2ـ ولم ينقصوا المكيال والميزان ، إلا أُخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم .
3ـ ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعُوا القَطْر من السماء ، ولولا البهائم لم يُمطروا .
4ـ ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدواً من غيرهم،فأخذوا بعض ما في أيديهم.
5ـ وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله ، إلا جعل الله بأسهم بينهم " .
رواه ابن ماجة وحسَّنه العلامة الألباني .
أما المفصَّل :
أولاً : الواجب على قادة الأمة ـ مجتمعين ومتفرقين ـ المبادرةُ بوضع خطة عمل تنتظم جميع أفراد الأمة ، بحيث يتم التركز فيها على معالجة أعظم ثلاث مصائب تنخر في جسد الأمة ؛ ألا وهي :
1ـ الجهل .
2ـ والفقر.
3ـ والمرض .
فهذه الثلاث ، وخاصةً الجهل ، لم تَعُد سيوفاً مُسْلَطَةً على رقاب أفرادٍ أو مجموعاتٍ فحسب ، بل باتت سمةً ملازمةً لشعوب عالمنا الإسلامي ، علاوة ما فاقم هذه الرزايا من تسلط قوى الشر والاحتلال والاعتداء في مجتمعات المسلمين بغزوها فكرياً وعسكرياً واقتصادياً ، حتى بات هذا الثالوث جاثماً بتهديده ـ بحسب الإحصاءات ـ على صدور ما يزيد عن ( 600 ) مليون طفل في العالم الإسلامي ، بخلاف غيرهم من البالغين .
ففي جانب ضعف التعليم وتنامي سطوة الأُمية وبرغم مرور ( 15 ) عاماً على "الإعلان العالمي حول التربية للجميع 1990" الذي ينص على ضرورة إتمام الأطفال لمرحلة التعليم الابتدائي (6 – 11 عاماً)، فإن التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع 2005 ، الصادر عن منظمة (اليونسكو) يؤكد على وجود (7.4) ملايين طفل عربي غير ملتحقين بالمدارس ، فيما يعاني أطفال المدارس من تدني مستوى التعليم، بجانب وجود (70) مليون عربي يعانون من الأمية.
وبحسب تقرير مشترك تحت عنوان : "الاستثمار في أطفال العالم الإسلامي" صادر عن منظمة المؤتمر الإسلامي ، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) تبين أن دول منظمة المؤتمر الإسلامي تضم (11) من بين أعلى (16) دولة من حيث معدلات وفيات الأطفال في العالم.(68/1)
ويموت في دول المنظمة (4.3) مليون طفل دون سن الخامسة سنوياً ، نتيجة أمراض يمكن الوقاية منها، وأكثر من (60) في المائة من هؤلاء يموتون بسبب سوء التغذية قبل أن يكملوا عامهم الأول.
وفي تقرير آخر أعده المكتب الإقليمي "لليونيسيف" (صندوق الأمم المتحدة للطفولة) بالتعاون مع الجامعة العربية تبين أن الأوضاع السياسية والاجتماعية المضطربة تسببت بإصابة (25) مليون طفل عربي في أكثر من نصف الدول الأعضاء بجامعة الدول العربية (22 عضوًا) بأضرار على مستويات مختلفة، وكان النصيب الأكبر لأطفال فلسطين والعراق المحتلين .
كما رصد التقرير ارتفاع معدل ظاهرة التسرب من التعليم، مشيرًا إلى أن (7.4) ملايين طفل عربي ما زالوا محرومين من حق التعليم.
وحذر التقرير أيضًا من ظاهرة عمالة الأطفال، مشيراً إلى أن (13.4) مليون طفل عربي تتراوح أعمارهم بين (5- 14) عامًا يمارسون أعمالاً تشكل خطرًا على حياتهم.
ثانياً : ينبغي ألا يغيب عن الذهن أن الحالة الراهنة المحزنة في عالمنا الإسلامي كانت نتيجة رعونات وسفاهات من بعض الأنظمة الحاكمة في بعض بلدان عالمنا الإسلامي ، والتي أوجدت فُرقةً وانقسامات بين عدد من الدول الإسلامية ، بل وللأسف الشديد أوجدت عداوات وحروباً مدمرةً ، أنهكت الأمة واستَنْزَفَتْ قواها وثرواتها البشرية والمادية .
بل إنَّ ما فقدته الدولُ الإسلامية من أفرادها وثرواتها في الحروب فيما بينها خلال ربع قرنٍ مضى أعظم وأكثر مما فقدته في مواجهة أعدائها .
حتى باتت كثيرٌ من الدول الإسلامية منهكةً ومهشَّمة ، بل ومطمعاً لكل غازٍ وباغٍ ومحتلّ .
وبأبي هو وأمي ونفسي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ما أعظم نصحه ، وما أبلغ وصفه حين حذر أُمَّتَة من تواطئ الأمم الأخرى عليها ، ومن اتحادها للتسلط والبغي .
فقد روى أحمد وأبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك الأممُ أن تَدَاعَى عليكم ، كما تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها " ، فقال قائل : ومِنْ قِلَّةٍ نحن يومئذ؟! قال : " بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنَّكم غُثَاءٌ كَغُثَاء السَّيل ، ولَيَنْزِعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذِفَنَّ الله في قلوبكم الوَهن " .
فقال قائل : يا رسول الله ، وما الوهن ؟ قال : " حُبُّ الدُّنيا ، وكراهية الموت " .
والمعنى : يقرب قيام فرق الكفر وأمم الضلالة بدعوة بعضهم بعضا لمقاتلتكم ، وكسر شوكتكم وسلب ما ملكتموه من الديار والأموال ، كما يدعو أكلة الطعام بعضُهم بعضاً إلى الأكلة أي التي يتناولون منها ، بلا مانع ولا منازع ، فيأكلونها عفواً وصفواً .
إذاً : من المسئول اليوم عن تفتيت وحدة عالمنا الإسلامي ، ولماذا نسمح بطروحات تريد اختراق وحدتنا؟.
وكيف تراخت دولنا بكامل مؤسساتها وبكل نسيجها الاجتماعي حتى سمحت بإثارة النعرات المتنوعة ، وبالتخلي وبالتهاون في ثوابتنا .
إنَّ الرابطة الأصلية في عالمنا الإسلامي هي رابطة الإسلام ، والذي استطاع في تاريخه الأثير أن يكوِّن أعظم لُحمةٍ وترابطٍ عرفه التاريخ، بل إنه احتوى كلِّ الأقليات الأخرى ، بما فرض لها من حقوق تكفل لها العيش الإنساني الكريم ، وفرض عليها واجبات تلتزم بها ، كي تنال من خير هذا المجتمع الإسلامي الكبير ، وإن لم تندمج في عقيدته ، فالأمر كما قال الله تعالى : ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [البقرة : 256] .
فالإسلام ظاهرٌ حاكم ، فمن أراد بحبوحته وهناءته من تلك الأقليات دخل في كنفه ، ومن أبى إلا الصغار ورفض الإسلام تُرك وشأنه، والتزم بواجبات تُكْفَلُ له بها حقوق العيش الكريم في المجتمع الإسلامي.
وعلى هذه المبادئ ـ مع ملاحظة خصوصية الجزيرة العربية ـ كان سلوك المسلمين رعاةً ورعية، مع بعضهم ، أو مع غيرهم ، مما وفَّر بيئةً سمحةً تعايشت فيها الأقليات مع المسلمين في كنف المجتمع المسلم في استقرار واطمئنان ، وقد نشأ عن هذا التسامح تعايشٌ سلميٌّ ساد كل العناصر في العالم الإسلامي .
فلماذا نتساهل بالنخر في مجتمعاتنا الإسلامية بتهييج الأقليات ، والخضوع لمخططاتها المدعومة من أعداء أمتنا ، والمثارة من قبل من لا خلاق لهم .
ثالثاً : إنه لا هوية لأمة تعتمد على غيرها في توفير مقومات بقائها وعزها ، فما هو موقع دولنا الإسلامية من هذا المبدأ الجليل .
أليست مقومات الاقتصاد المتنوعة مستوردة من دول تنابذ ثقافتنا الإسلامية وتسعى لكبتها ؟.
أليس في عالمنا الإسلامي كل مقومات الاستقلال الذاتي ، البشرية والمادية ؟.
فأين مشاريع أمتنا المشتركة ؟.
لماذا لا تتكامل بلداننا الإسلامية في إنتاج أراضيها المتنوع ، والذي باتت العوالم الأخرى مستفيدةً منه أكثر من استفادة الشعوب الإسلامية .(68/2)
ولماذا نلاحظ إجهاض كثيرٍ من المشاريع الرائدة الساعية لفك ربقة التبعية للأمم الأخرى ، حتى باتت البطالة سمةً ملازمةً للمجتمعات الإسلامية ، وصار الشباب يعيشون على هامش الحياة ، بل أمسوا معاول هدمٍ في مجتمعاتنا ، يقتاتون على أنواع الانحراف ، أو التعلق بالثقافات المعادية ، أو يُشغلوا بتوافه الأمور ، أو يتركوا كلأً مستباحاً لأصحاب المناهج المنحرفة ، إلا من رحم الله منهم ، بدلاً من أن يكونوا جسر سعادة الأمة ورقيِّها وسُؤدَدِها ، مع أنَّ مجالات إشغالهم وتوجيههم لمعالي الأمور متوافرةٌ لو وُجدت الهمم الصادقة .
ولماذا صارت العقول الموهوبة تهجر العالم الإسلامي بلا رجعة ، تاركةً نفعَه والرقيَّ به ، لتحط في دول الغرب الذي يستقبلها استقبال الأبطال ، فيغريها ويحتويها ويوفر لها ألوان العيش الرغيد ، ليجعلها رصيداً ثرَّاً في بقائه وقوته .
أليست بلاد المسلمين هي الأَولى بنتاج تلك العقول الموهوبة ؟ فلماذا تجبر على الهجرة ؟ ولماذا لا تؤسس لهم برامج خاصة في رعايتهم وعنايتهم وتمكينهم من توجهاتهم البحثية .
رابعاً : لماذا تُركت المرأة المسلمة في أوطاننا نَهْباً لمن لا خلاق لهم ، ممن سعوا لإجبارها على خوض تجربة المرأة الغربية بكل آلامها وكوارثها التي تنوء بها كواهل المجتمعات الغربية .
أليس في تراثنا وتاريخنا الإسلامي من الصفحات الوضيئة لتميز المرأة ما يجعله مصدر استلهام للمجتمعات الإسلامية في التعامل مع المرأة وتكريمها .
فلماذا الإصرار على الارتكاس والانهزام ؟.
ولماذا يصر الإعلام في عالمنا الإسلامي على تشويه رسالة المرأة ويجرها إلى الوأد والاستعباد الذي حررتها منه شريعة الإسلام ؟.
خامساً : إن الشعوب الإسلامية اليوم لتتلهف لإصلاح التعليم والإعلام ، الذي عانت من انحرافاته منذ انجلاء حقبة الاستعمار ، فلم تزل معانية من بعده في عقيدتها وهويتها .
ففي التعليم : من حق الشعوب الإسلامية أن تتلقى أجيالُها الناشئة تعليماً يفي بحاجات الروح والجسد ، وخاصة التعليم الديني المستمد من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي يوضح روح الشريعة السمحة ووسطيتها ، فدين الإسلام ما كان ولن يكون سبباً لضررٍ ولا لبغيٍ ولا لظلم ، ولا لما شابه هذه المفردات ، ولكن عندما يغيب العقل الرشيد والفهم السديد ويُحال بين الناس وبين تعلُّم دينهم تنشأ الأفكار المنحرفة ، وتتوالى ردود الأفعال غير المنضبطة .
فكان حتماً ألا تخلو مرحلة ولا سنة من سني التعليم من مقررات دينية يدرس فيها الطلاب والطالبات من كتاب ربهم وسنة نبيهم ما يعرفون به دين الإسلام الحق عن علم وبينة .
وإن في تجربة المملكة العربية السعودية في هذا المجال لخير أسوة ، لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد .
وهكذا الشأن في الإعلام بكل وسائله : مقروءاً أو مرئياً أو مسموعاً ، فإن الإعلام الذي يضج به فضاء عالمنا الإسلامي وأثيره ، وتسوَّد به الصحف ، إنه لا يعبر عن أمةٍ شأنها الريادة والقيادة ، وإنما هو شأن الغفلة والعبث واللامسئولية .
إن شعوبنا الإسلامية ومن ورائها الشعوب الأخرى تنتظر الكلمة الطاهرة الصادقة في كل قوالبها ، لتترقى بهم في معارج العبودية لله ، والعمارة الحقيقية لهذا الكون .
فالعالم اليوم ، كل العالم يئن من سطوة الإعلام العابثة ، العابثة بأخلاق الإنسان ، المسفِّهة لمشاعره ، المدنِّسة لكرامته ، فإذا لم يتصدَّ إعلامُ المسلمين لهذه المسئولية ؛ فمن ذا يكون ؟.
سادساً : إلى متى يحال بين الشعوب الإسلامية وبين دين الله الحق ، تلك الشعوب التي تتعطش متلهفة لأحكام الشرع المطهر .
لقد سئمت الشعوب الإسلامية استجرار الأنظمة المستوردة المخالفة لشريعة الرحمن ، فلماذا الإصرار على مخالفة إرادتها ؟.
وقبل ذلك لماذا الاستنكاف عن التعبد لله بهذا الواجب العظيم ؟.
لقد وصل العالم اليوم إلى طريق مسدود بعد أن شاهدت الشعوب إفلاس النظم والتوجهات المتنوعة ، والتي تتشدق بالشعارات البراقة ، فاكتشفت حقيقتها من خلال اقترافها أبشع الجرائم في حق الإنسانية ، ولأجل هذا فالعالم اليوم بحاجة ماسة ، بل لضرورة شديدة إلى النبع الصافي والمنهل العذب ـ القرآن والسنة ـ لإعادة الإنسانية إلى مسارها الصحيح ، وهذه مسئولية الدول الإسلامية وقادتها .
هاهي الشعوب الإسلامية تفرض إرادتها في جوانب عديدة من التعاملات المالية ، حيث رفضت المعاملات المحرمة من ربا وقمار وغيرهما ، حتى اضطرت البنوك لتأسيس المعاملات المصرفية الإسلامية ، فشهدت من أنواع النجاحات ما جعل معظم البنوك متوجهة لهذا النظام الإسلامي .
أليس في هذه التجربة ما يبين كم من الخير ينتظر الحكومات والشعوب الإسلامية إن هي عادت لتحكيم القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وقد قال الله تعالى ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) [المائدة : 50] .(68/3)
سابعاً : يقول الله تعالى : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ . ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) [الزمر : 30 ، 31] فهذه هي نهاية كل مخلوق ، والمتعين على كل المكلفين أن يستجيبوا لما فرض الله عليهم ، وإن قادة الدول عليهم من المسئولية ولهم من الشأن ما ليس لغيرهم ، بما جعل الله لهم من السلطان ، ولذا قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مخاطباً ملك الروم : "فإني أدعوك بِدِعَايةِ الإسلام ، أَسلِمْ ؛ تَسْلَمْ ، يُؤتِكَ اللهُ أجرَكَ مَرَّتَين ، فإن توليتَ فإنَّ عليك إثم الأريسيين " رواه البخاري ومسلم.
وهكذا كل قادة الأمة إن صلحوا وأصلحوا كانت لهم الأجور المضاعفة ، كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ً " ، وإن انحرفوا
وأضلوا الناس باؤوا بآثامهم ( لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ) [النحل : 25].
وليتأملوا في أسلافهم ، عاشوا أعمارهم ، ثم خلَّفوا الدنيا من ورائهم ، وبقيت الأعمال ، فالثناء والتمجيد لأصحاب المآثر والمكرُمات ، والذم والسخط لأصحاب النقائص والمذمَّات .
وإني لآمل لأمتنا منقلباً حميداً وفق هذه المنظومات الشرعية والعلمية والثقافية والاقتصادية ، مع الاستثمار والتخطيط في كل سانحة حتى ننهض من وهدتنا الحالية ، وما ذلك على الله بعزيز . وهو المسئول سبحانه أن يصلح قادة المسلمين ، وأن يوفقهم لما فيه عزُّ الإسلام والمسلمين ، وأن يجعلهم رحمةً على رعاياهم ، وأن يعينهم على مهامهم ومسئولياتهم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
حرر أمام الكعبة المشرفة في 29 شوال 1426هـ
khalidshaya@hotmail.com
نشر المقال في جريدة الحياة مختصراً في عددها
الصادر الاثنين3/11/1426هـ رقم 15587
وهو هنا بكامله(68/4)
آمنة ودود وجحر ضبّ الفيمينزم
(Feminism)
د. بدران بن الحسن 24/2/1426
03/04/2005
مشهد من أحد فصول المسرحية:
في سابقة هي الأولى من نوعها أمّت امرأة أميركية من أصل افريقي صلاة الجمعة التي اختلط فيها النساء بالرجال مما أثار احتجاجات واتهامات بالاساءة الى الدين من مسلمين آخرين أكّدوا على أنه لا إمامة إلا للرجال.
نظمت الصلاة المثيرة للجدل منظمة تدعى "جولة حرية المرأة المسلمة" والموقع الإلكتروني "صحوة الإسلام". وأصبحت آمنة ودود، أستاذة الدراسات الإسلامية في جامعة فيرجينيا، أول امرأة تؤم صلاة جمعة مختلطة، حضرها نحو مائة من الجنسين، جلسوا متقاربين، في قاعة "ساينوت هاوس" في "كتدرائية سانت جون ذا ديفايد"، بعد أن رفض المسؤولون عن بعض المساجد السماح لها بإمامة الصلاة. وحاولت في خطبتها تبرير موقفها من إمامة الصلاة، وقالت: إن الدين الإسلامي يساوي بين الرجل والمرأة وأن لها الحق في إمامة الصلاة.
أقيمت الصلاة وسط إجراءات أمن مشددة بكنيسة سينود هاوس التابعة لإحدى الكاتدرائيات بمدينة مانهاتن. وكانت أماكن أخرى رفضت استضافة الحدث بعد تلقي تهديدات.
وقالت ودود في مؤتمر صحفي حاشد قبل الصلاة: "لا أريد أن أغير من طبيعة المساجد. أريد أن أشجع قلوب المسلمين على الإيمان بأنهم متساوون" مضيفة أنها تتمنى المساعدة في إزالة "القيود المصطنعة والمزعجة" التي تستهدف المرأة المسلمة.
وكانت إسراء النعماني منظمة الحدث أثارت جدلاً العام الماضي عندما دخلت مسجداً بمنطقة مورجانتاون بولاية وست فرجينيا من الباب الأمامي المخصص للرجال.
وقالت النعماني: "اليوم تنتقل النساء المسلمات من خلفية المسجد الى الأمام. إنه حدث تاريخي".
وتؤكد أمينة ودود مؤلفة كتاب " القرآن والنساء إعادة قراءة النص المقدس من وجهة نظر المرأة" حق النساء في إمامة الصلاة مشدّدة على أن قيام الرجال بهذا العمل "هو أمر مجحف".
وقال بيان صادر عن منظمة " مسلمون استيقظوا" و" حرية النساء المسلمات": إن النساء المسلمات سيحصلن اليوم على حقوقهن الروحية مضيفاً أن النساء سينتقلن من مكانهن التقليدي في آخر المسجد إلى الصفوف الإمامية.
وقال محمد شمسي علي نائب إمام المركز الثقافي الإسلامي في نيويورك: إنه «لا مانع لدينا في أن تؤم ودود بمصلين من النساء فقط، فهذا حق منحها إياه الله، ولكن إذا كانت ستؤم بالرجال أيضاً فهذا غير مسموح في الإسلام لأنه يتعارض مع الشعائر الدينية المتبعة».
واستنكر مجمع فقهاء الشريعة بأميركا إمامة المرأة لصلاة الجمعة. وأصدر المجمع، ومقره ولاية ميرلاند، بياناً استبشع فيه إمامة المرأة للصلاة، ووصفه بالموقف البدعي الضالّ، وحذّر المجمع من الافتتان بمثل «هذه الدعوات الضالة المارقة من الدين، والمتبعة لغير سبيل المؤمنين»، ودعاهم إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، والنظر عمن يأخذون دينهم.
وقال منظمو الحدث: إنه يأتي ضمن حملة أوسع لتشكيل مجتمع جديد يعتمد على مبادئ وتعاليم الإسلام وخاصة العدل والمساواة.
وأضافوا في بيان أن النبي محمد أقام نموذجاً للمجتمع في المدينة المنورة في القرن السابع، وفي القرن الحادي والعشرين "نحن ملزمون بأقامة مجتمع حديث يعتمد القيم الدينية وكذلك على حقوق المرأة".
جحر الضب يبتلع مئات المسلمين
ولعل المشهد السابق يذكرنا بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي حذرنا فيه من تتبع كل ما يرد إلينا من أهل الكتاب أو بالأحرى اليهود والنصارى، حيث جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لتتبعُنّ سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن؟" (البخاري/ الاعتصام بالكتاب والسنة/ قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لتتبعن سنن من كان قبلكم).
وجاء في مسند أحمد قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سنن من كان قبلكم باعاً بباع وذراعاً بذراع وشبراً بشبر حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم معهم قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى. قال: فمن إذا" (مسند أحمد/ مسند المكثرين).
فالتقليد الأعمى الذي درج عليه كثير من أبناء المسلمين حذّر منه الحديث الشريف، وهو حالة من الاتباع النفسي والفكري الذي يأسر صاحبه ويجعله لا يرى الحق إلا كما يراه هؤلاء اليهود والنصارى. وخاصة في وضعنا الحاضر الذي يشهد الغلبة الحضارية والعسكرية والاقتصادي والتكنولوجية من قبل الغرب النصراني اليهودي وسيطرته على مجريات أمور العالم بما فيه العالم الاسلامي.
وقد عبر عن هذه الحالة ابن خلدون -رحمه الله - مستشفاً ذلك من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن تجربته في دراسة تقلبات الامم والشعوب بقوله : "المغلوب مولع بتقليد الغالب"، وهي كما قلنا حالة مرضية نفسية وفكرية تؤثر على تصورات الناس وإدراكهم لحقائق الأشياء.(69/1)
ولعل من أهم ما أثر على صاحبة المشهد المذكور سابقاً وأدخلها جحر الضب النصراني في نيويورك هو هذه الحالة من الامتهان والذل النفسي والانبهار بمفردات الحياة الغربية ذات المرتكز النصراني المحرّف، فكانت أن لجأت إلى التقليد الأعمى الذي جرها إليه "حركة الفيمينزم" أو الحركة النسوية الغربية ذات الامتداد في التاريخ الحضاري الغربي الذي طالما اضطهد المرأة وحرمها من كثير مما منحها الله لها، سواء في ذلك الحرمان الكنسي أو الحرمان الاجتماعي بفعل هيمنة المفاهيم الكنسية أو العلمانية التي تحتقر المرأة تارة وتنظر إليها بعين المتعة تارة أخرى.
فكانت الفيمينزم هي حجر الضب الذي وقعت فيه كثير من بنات المسلمين ومنهم آمنة ودود.
حجر الفيمينزم feminism: الأيديولوجيا الجديدة
قد يجد الكثيرون من المتابعين صعوبة في استيعاب ما ترمز إليه الخطوة التي قامت بها آمنة عبد الودود، ولذلك أثير نقاش فقهي حاد بين مختلف المتتبعين في مدى جواز إمامة المرأة لصلاة الجماعة، والجملة على وجه الخصوص.
ولكن ما ينبغي ان ننتبه إليه هو تلك العبارات التي تلفظت بها آمنة ودود من خلال تأكيدها على المساواة، وحق المرأة الديني في العدل والمساواة، ومحاولة إشارتها للمؤنث والمذكر في حق الذات الإلهية عند تفسيرها لبعض الآيات التي ذكر فيها اسم الله تعالى، وهو ما يعرف بالاتجاه الانثوي لفهم النص الديني (الفيمينزم).
فمنذ نشوء حركة فيمينزم في أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت مفاهيم حقوق المرأة ووجوب مساواتها بالرجل في كل شيء؛ في حق الملكية، والنشاط الاجتماعي، والممارسة السياسية، والتمثيل النيابي والانتخاب وغيرها، ووصل الأمر إلى ما يُعرف باللاهوت الأنثوي الذي حاول تأنيث كل العبارات المذكرة في الإنجيل.
وبمعنى آخر فإن حركة الفيمينزم نفسها مرت بمراحل تاريخية تأثراً وتأثيراً بمحيطها الفكري والاجتماعي والسياسي، وتبعاً للتطور الحضاري الغربي خاصة، وأهم التيارات الفكرية الموجودة به، والفاعلة على ساحته في كل مرحلة تاريخية.
تطور حركة الفيمينزم
1. مرحلة المشاركة الاجتماعية على قدم المساواة:
من الثابت في التقاليد الكنسية القديمة أن المرأة ذات وجود أقل قيمة من وجود الرجل، بل إنها مستبعدة من كثير من الطقوس الكنسية، والشعائر الدينية، والمسؤوليات لأنها إما "نجس" أو أنها "شيطان جميل" كما وصل إلى ذلك أحد المجامع الكنسية.
ومنذ بدايات حركة النهضة في أوروبا بدأت حركة تحرير المرأة تأخذ طريقها للتشكل والتهيكل. وقد شهدت هذه الحركة مرحلتين مهمتين من تطورها؛ أولها تمثلت في المطالبة بتحقيق المساواة من خلال تحسين واقع المرأة الاجتماعي والاقتصادي، حيث كانت المطالب تشمل تحقيق المساواة من خلال توفير فرص متساوية في مجالات التعليم والعمل والتدريب وأجور متساوية. وأعطى هذا التيار اهتماما أساسياً بخصوصية المرأة البيولوجية، وما يترتب عليها من حقوق أساسية؛ منها حق الاختيار واتخاذ القرار فيما يتعلق بالإنجاب، وحق التمتع بالأمومة ورعاية الأطفال والعمل خارج المنزل.
وركزت هذه المرحلة ورموزها على المناداة بتحسين واقع المرأة من خلال الأبنية والمؤسسات القائمة في المجتمع؛ حيث تم تعريف المساواة في أواخر القرن التاسع عشر بأنها عبارة عن المساواة بين الرجل والمرأة أمام القانون القائم، وكذلك التمثيل المتساوي في المؤسسات القائمة، إن إستراتيجية الليبرال فيمينزم بُنيت على أساس أن المساواة يمكن تحقيقها من خلال العلاقات الاجتماعية والوسائل القانونية والمؤسسات السياسية والاقتصادية القائمة في المجتمع.
وما يترتب عليها من إجازة الأمومة من العمل والضمان الاجتماعي، والمطالبة بتوفير مراكز رعاية الأطفال من دور الحضانة ورياض الأطفال، والمطالبة بحق المرأة في التحكم في حياتها الإنجابية يعتبر جزءًا لا يتجزأ من مطالب هذه المرحلة.
2. مرحلة المساواة المطلقة أو العبثية
بدأت المرحلة الثانية من تطور مفهوم المساواة لدى التيار الليبرالي من الفيمينزم نتيجة لتأثرها بالتيارات الراديكالية والماركسية التي بدأت تنادي بالمساواة المطلقة من بداية النصف الثاني من القرن العشرين. حيث ظل الخطاب السياسي يطالب بالإصلاح في إطار المؤسسات المختلفة القائمة داخل المجتمع، وحصل التغيير فقط في جانب تناول المجالات التي تتعلق بالمرأة. وأصبح خطاب التيار الليبرالي يتناول قضايا الخاص والعام وأثرهما في نيل المرأة لحقوقها، ودور الحكومات في تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في المجال العام، وأثر ذلك في تحقيق المساواة في المجال الخاص. وكذلك الحرية الشخصية للمرأة، وقضايا أخرى شخصية ومتعلقة بالمرأة.(69/2)
وبدأ النظر إلى علاقة المرأة بالرجل من منظور الصراع بين جنسين وتمت الدعوة إلى القضاء على مفاهيم الذكورة والأنوثة، وظهرت حركات الشواذ والعاملين على إيجاد نموذج جنسي بديل لا هو بالذكر ولا هو بالأنثى، كما تمت الدعوة إلى القضاء على مفهوم الزواج المعتاد ودعت إلى الزواج بين المثليين، وبدأت الدعوة إلى فصل احتياجات المرأة عن احتياجات الرجل، ورفض إشباع احتياجات المرأة العاطفية والجنسية من الرجل، والتوجه بدل ذلك نحو المرأة (المثلية الجنسية)، وأدى ذلك إلى ظهور التيار السّحاقي ليشكل ليس تياراً انحرافياً في السلوك فقط، بل تياراً فكرياً وسياسياً ترفده مؤسسات ومراكز وجمعيات وأعضاء في البرلمانات. بل ولجأت هذه التيارات النسوية إلى الأمم المتحدة في مؤتمراتها المختلفة وخاصة مؤتمر القاهرة للسكان سنة 1994، ومؤتمر بكين سنة 1995، وما تلاها من مؤتمرات المرأة والسكان وغيرها.
أتباع للفيمينزم وتبرّم بما شرع الله
في الحقيقة أن حركة الفيمينزم في جوهرها تعتبر الدين من وضع الرجال، وترى فيه محاولة رجالية لضمان سيطرة الرجال على مقاليد الأمور، ولذلك يستوى عند حركة الفيمينزم الاعتراض على أفكار البشر والاعتراض على شرائع الكتاب الحكيم، وأظن أن الكثير من المسلمات ممن دخل جحر الفيمينزم نسي قوله تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً). [الأحزاب:36]، وإلا كيف نفسر تبرمهم مما ثبت من شرائع وشعائر.
فإذا كان من حقهن منازعة الرجال في حقوقهن والمطالبة بهن، فإن من الشعائر التعبدية ما لا صلة له بحقوق الإنسان سواء أكان هذا الإنسان رجلاً أو امرأة، وإنما هي حقوق رب الإنسان، الذي شرع من الشعائر ما هو أدرى بحكمتها.
ونختم قولنا بالتأكيد على أن الأمر لا يتعلق بالدفاع عن حق إمامة المرأة من منظور إيماني، بقدر ما يتعلق بعمل يتفق مع رؤية الفيمينزم التي ترى أحقيّة المرأة في منازعة الرجل ومغالبته في كل جبهة، وفي كل موضع وإظهار تماثلها بل وتفوقها على الرجل في كل شيء، ويستوى في ذلك الأمر الديني بالأمر الدنيوي.
ولذلك فإنه لا اعتبار لتلك الشعائر في ذاتها، وإنما محاولة اقتحام أي ميدان وطرق أي موضوع يثير الجدل ويثبت للمرأة حقها.
ولو كان الأمر يتعلق بحق المرأة الشرعي في الإمامة لكانت المشاركات في تلك الصلاة الكنسية التزمن بالزي الشرعي وبآداب الصلاة، ولما كان كل واحد يجلس بقرب صويحبته ويلوك العلكة، وهو يستمع إلى تلك المؤذنة التي أسدلت شعرها، وبدأت تصيح بكلمات الأذان، وكأنها في نادي للرقص الشعبي أو في حفلة تدريب على الأداء الصوتي أمام مرأى الناس، وفي موقع نجس لا تصح فيه الصلا(69/3)
آنستي الصوم بين الصحة والرشاقة والجمال
لماذا تصبح البدينة أكثر بدانة في رمضان؟
ولماذا النحيلة فرصتها للسمنة في رمضان؟
ولماذا يتزاحم الناس لشراء كل ما هو دسم وثقيل؟
ولماذا تزداد حمى التهام السكريات والحلويات بلا حساب؟
أليس غريبًا أن يتحول شهر رمضان إلى نوم نهاري، وأكل وسهر مسائي؟
وهل يمكن اعتبار صيام رمضان برنامجًا للصحة والرشاقة والجمال إضافة إلى كونه عبادة؟
عزيزتي الفتاة المسلمة:
بداية نسأل أنفسنا: لماذا نأكل؟
لقد جعل الله الأكل للإنسان بمثابة الوقود للسيارة وحاجة بيولوجية طبيعية للبقاء على جسم الإنسان وحفظه من الهلاك.
وليس معنى ذلك أن يكون الطعام في حد ذاته غاية وهدفًا أحيا من أجله؟
فالعقلاء يأكلون ليعيشوا من أجل تحقيق أهدافهم السامية, فالطعام لديهم وسيلة لا غاية، أما الشهوانيون فإنهم يعيشون ليأكلوا فقط، فكوني عاقلة ولا تكوني شهوانية. لا تأكلي إلا عند الإحساس بالجوع, فإدخال الطعام على الطعام والوصول إلى حد التخمة داء قاتل، فوق أنه يقعد الإنسان عن النشاط والاجتهاد، قال لقمان الحكيم: 'إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وقعدت الأعضاء عن العبادة'.
الصوم صحة:
كيف يكون الصوم صحة؟
يقول دكتور/ فاك فادون ـ وهو من الأطباء العالميين الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره: 'إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم وإن لم يكن مريضًا، لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض وتثقله فيقل نشاطه. فإذا صام الإنسان تخلص من أعباء هذه السموم وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بها من قبل'.
ـ ومن هنا يعتبر الصيام القاعدة الطبية الوحيدة التي لا يمكن أن يشكك بضرورتها أحد، وقد استعان بها الأطباء منذ القدم في معالجة الكثير من الحالات، ولا يزالون إلى يومنا هذا ينصحون به لتحقيق هدفين أساسيين:
أولها: العمل على إزالة السموم من الجسم.
وثانيهما: تحفيز حرق السعرات الحرارية.
حيث يمكن لهذين الهدفين أن يعملا على إبقاء الجسم في حالة توازن غذائي وهضمي.
وهذا ما يؤكده حديث رسولنا الكريم منذ أكثر من 1400 سنة: 'صوموا تصحوا'.
والإفطار أيضًا صحة:
وهنا نقف ونتساءل:
كيف يمكنك أن تأكلي بطريقة صحيحة خلال الإفطار لتتميم فائدة الصيام الروحية والجسدية، ولتحافظي على ما أنجزته خلال فترة الصيام من حرق مخزون الدهون عندك؟
إليك فتاتي الصائمة برنامجًا إفطاريًا صحيًا:
1ـ الإفطار على تمرات وقليل من الماء كما جاء في سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم.
2ـ صلاة المغرب.
3ـ يلي ذلك احتساء طبق الحساء الدافئ مهما كانت مكوناته.
4ـ يأتي بعد ذلك طبق السلطة الطازجة لملأ المعدة بسعرات حرارية حفاظًا على الوزن المعقول.
5ـ ثم يأتي الطبق الرئيس على الإفطار الذي يحتوي على اللحوم والنشويات أو الأسماك.
6ـ من الأفضل تناول الحلويات بعد ساعتين أو ثلاث من الإفطار.
وفي وجبة الإفطار ينصح الأطباء بالابتعاد عن:
ـ المأكولات المقلية والدسمة.
ـ القهوة والشاي والمياه الغازية.
ـ المأكولات المحتوية على نسبة كبيرة من السكر.
وفي المقابل ينصح الأطباء بالإكثار من:
ـ شرب الماء 'من 6ـ8 أكواب' وعصير الفواكه الطبيعية خلال فترة المساء.
ـ شرب الحليب ومنتجات الألبان.
ـ المحليات الطبيعية كالعسل، واللبن ومشتقاته، الفواكه الطازجة، الفواكه المجففة.
السحور بركة:
تكمن أهمية السحور في جعل الجسم يتجهز لتخزين الطاقة اللازمة لصيام النهار ومن هنا يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية السحور فيقول: 'تسحروا فإن في السحور بركة'.
الصوم والصحة النفسية
إن الصوم أفضل وسيلة لتخفيف القلق والتوتر والثورة النفسية وهنا الأثر يرجع لسببين:
الأول: أنه يرفع المستوى الفكري للإنسان فوق مجال المادة والحياة.
والثاني: أنه يخفف ضغط الدم ويخفف اندفاع الإنسان نحو القلق والتوتر.
كما أن الصوم هو رياضة الهدوء والاسترخاء، والثورة النفسية لا دواء لها إلا الرضى والاستسلام لمشيئة الله والتسامح مع الناس.
الصوم والرشاقة
لا يوجد أفضل من الصيام كعلاج للسمنة إذا اتبعنا فيه السنة النبوية فأفطرنا على تمرات وقليل من الماء وأخرنا الإفطار لما بعد الصلاة. فالتمر كفيل بإشعارنا بالشبع وتقليل كمية الطعام التي نأخذها، والصوم يخلص الجسم من كميات الشحوم المختزنة فتحافظي بذلك على رشاقتك.
ولا يفوتنا هنا ونحن بصدد الرشاقة الحديث عن الرياضة، فمن الأهمية بمكان ممارسة رياضة المشي لمدة ربع ساعة يوميًا بعد الإفطار بساعتين على الأقل، وذلك من أجل هضم الطعام بشكل جيد وهو الأمر الذي يفيد الجسم عامة والوجه بشكل خاص، والرياضة تساعد على تنشيط الدورة الدموية في الوجه وتخلص من تراكم الدهون والأتربة مما يجعل البشرة أكثر جمالاً.
ـ تذكري دائمًا أن رياضة المشي خصوصًا في رمضان سوف تحافظ على وزنك من الزيادة وتقيك الإحراج من ارتداء الملابس الضيقة للزوج، وهي وسيلة لحفظ الصحة وتقوية البدن.
الصوم والجمال(70/1)
يقول د/ أحمد عادل نور الدين أستاذ جراحة التجميل بالقصر العيني:
'إن كثرة الوضوء في الشهر الكريم يجعل الوجه أكثر نضارة لأنه يعمل على إزالة الأتربة والدهون الزائدة من البشرة مع مراعاة تناول الأطعمة الغنية بالفيتامين 'أ' الموجود في الخس والجرجير والجزر.
رمضان شهر القرآن وتقوية المناعة الطبيعية
من المعروف أن التوتر والقلق يؤديان إلى نقص مناعة الجسم ضد الأمراض، ومن العجيب أن قراءة القرآن سبب في السكينة والهدوء والطمأنينة {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
ولا يقتصر أثر تلاوة القرآن على تقوية المناعة فحسب, بل إن تنظيم النفس المصاحب للتلاوة وحركة الفم المصاحبة لها تعد من أسباب إزالة التوتر وتقليل الشعور بالإرهاق كما أنها تعمل على تجديد حيوية العقل.
عزيزتي الفتاة الصائمة لا تنسي احتساب النية في جميع أعمالك في الأكل والنوم والرياضة وقراءة القرآن, فلتنوي بكل ذلك حفظ صحتك لتقويْ على طاعة الله فتحصلي خيري الدنيا والآخرة وتعيشي في ظلال قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].(70/2)
آهِ يا قِبيَة؟..
(تجربة فنية تحتفظ بالنغم والقافية مع الانطلاق الأوسع)
محمد المجذوب
أيّ حلم مرَّ كالنار على قلبي فما يهدأ ذُعرا
أيقظ الأشباحَ في أعماقيَ اللهفى وأغفى
فأثار الكامنَ المحجوب من دائي
ومن ماضي شقائي!!..
* * *
ليت شعري.. ما دهى قِبيةَ؟.. ماذا قد عراها!..
ما الذي اجتاحَ حِماها فمحاها!..
عَصف الغدرُ بها تحتَ الدجى
فَهي رُكامٌ من حُطامٍ ودماء
* * *
لَهفَ أحشائي على تلك الصبايا
وصغارٍ كالأزاهيرِ تَفَتَّحنَ لأنداءِ الصباح
وشبابٍ عاقه الدهر عن المجدِ المرجَّى
زُلزِلتْ تحتهم الأرضُ فراحوا كالهباء
* * *
مَزَّقوا الليلَ بأصوات الحيارى
واستغاثات العذارى
وحماةُ الدار، يا لَلعارِ، في نومِ السُّكارى
لم تَفُتْ أسماعَهم تلك النداءاتُ ولكنْ
شاء (جنبولُ) فصمّوا عن صريخِ الأبرياءِ
هذه الأشلاءُ.. يا ويلي عليها..
مَن بكاها؟. مَن رثاها؟!..
لم تجدْ قلباً يناجيها، ولا قبراً يواريها
ولا شَيَّعها لحنُ صلاةِ
ذهبتْ كالحُلُم العابر لم يترك من الأصداءِ
غيرَ الصُّعَداء
* * *
أين أشبالُ الميامينِ هُداةِ العالمينا؟
أين أحفادُ عليٍّ والمثنَّى؟.
وبقايا العزِّ والنخوةِ منا؟..
مسخ الجبنُ سُلالاتِ الأُسودِ
فاستساغوا الصفعَ من أيدي اليهودِ
واستهانوا بمواريثِ الإباءِ
* * *
بُحّ صوت الحق، والآذانُ دونَ الحقّ صمُّ
وتلاشتْ أَنَّةُ الأشلاءِ في سمعِ الرمالِ
وتوارى أملُ الثأر فلا خيرَ بأشباهِ الرجالِ
عَجَزوا إلا عن التمثيل والقولِ الهُراء
* * *
آه يا قبيةُ.. لو تنفعُ آهُ
آه لو تكشفُ عن مكنونِ روحي شفتايهْ
دمُك المهدورُ يا قبيةُ قد فتَّق في الصدر الجراحا
ردَّ طيف اللدِّ والرملةِ للقلب وحيفا
وضحايا ديرِ ياسينَ ودنيا الشهداءِ
* * *
لستِ يا قبيةُ في الأيتام بِدعا
كلنا في وَحشة اليتمِ وفي الثُّكلِ سواءُ
سبق السهمُ فأرداكِ..
وها نحنُ على إثر خطاكِ..
غير أنا نجهل الموعدَ، والمجهولُ يا قبيةُ سلوى الضعفاء
فاعذرينا ودعينا نرتقب يومَ اللقاء
لستُ يا قبيةُ باليائسِ، لكني حزين
تنهش الآلام قلبي
حنقاً من زيغ شعبي
قد نسوا الله فهانوا، واستكانوا
وسيبقون طعاما
للرزايا وحطاما
أبدا حتى يثوبوا
لسبيل الرشد من هدي السماء(71/1)
آيات الكون دعوة للتأمل مالك إبراهيم بابكر*
قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)..
آية بينة من كتاب الله عز وجل توجه العقل الإنساني إلى عجائب هذا الكون في الخلق، والتصريف، والتدبير؛ فينظر الإنسان مشاهد هذا الكون بحسٍّ متجدد، ونظرة مستطلعة؛ فيشرق قلبه بالإيمان.
فتعالوا معا لنقف عند هذه الآية وقفة تدبر لكي نغوص في غمار معانيها وهي تصور لنا معالم قدرة الله في الكون، وتنبئنا ببديع صنعه جل وعلا الذي أتقن كل شيء خلقه؛ لتقود الجميع للاعتراف الحقيقي بوحدانية الله، والخضوع له، والإقرار الكامل بأن لهذا الكون إله مدبر، ورب مسخر.. فيزداد الذين آمنوا إيمانا وهدىً ويقينا، أما الذين طبع داء الاستكبار غشاء الغفلة على قلوبهم فعميت أبصارهم فهم لا يبصرون.
فالكون كتاب مفتوح؛ فالمتأمل فيه بعين البصيرة وقلب الحقيقة يكفيه عبرة وموعظة، ولكن لا يدرك حقيقة ذلك إلا العاقلون المتدبرون، وصدق الله عز وجل القائل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، أيْ يدركون بتفكيرهم وإيمانهم أن هذا الكون وما فيه من آيات لم يخلق عبثاً؛ وإنما خلق ليدل دلالة لا لبس فيها على قدرة الله ووحدانيته؛ فلو كان فيهما آلهة أخرى لفسدتا كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)..
فالعاقلون أولو الأبصار هم الذين أدركوا ذلك حقاً؛ لأنهم اتخذوا من التفكير عبادة، ومن النظر إلى الكون طاعة؛ قال تعالى واصفا إياهم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
فميدان التفكير - من خلال النظر إلى الكون - الذي فتحه القرآن أمام الإنسان بكل أبعاده، وما فيه لهو دعوة للتأمل للوصول للحق.
فخلق السموات بغير عمد نراها، وما فيها من معالم، وعالم علوي، والأرض التي بسطها الله، وما فيها من جبال راسيات، وأنهار، وبحار؛ هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج، وما بينهما من السحاب مسخر تحمله الرياح بتصريف الله وعظيم قدرته نعمة للعباد ليمطر عليهم رحمة، ونماءًا، وغيرهما من الآيات الكونية، التي لا تحصى ولا تعد؛ كل ذلك دلالة كبرى، وآيات عظمى، وحجة قاطعة على وحدانية الله وقدرته؛ العزيز العليم، بديع الصنع، الحكيم الخبير.
لا تنكرها الأبصار، ولا يحد العقل عن إدراك حقيقتها مهما تكبر، واستكبر بالجحود، والإنكار لوحدانية الله، وقد أجاب الأعرابي بلسان الفطرة السليمة، وعقل المتدبر عندما سئل: كيف عرفت الله؟؛ فقال: (البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج أفلا يدل ذلك على الحكيم الخبير؟!).
نعم إنها فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ تقود الناس بفكر ثاقب، ونظرة فاحصة إلى أن لهذا الكون خالقا خلقه بالحق وهو الله جل في علاه، وتبارك في سماه؛ فلا أحد سواه.. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
وتقود الفطرة الإلهية إلى الإقرار بوحدانية الله، والاعتراف بأنه هو الخالق كما ذكر الله عن ملة عن ملة الكفر وغيرهم عندما يسألون عن خالق الكون فلا يجدون إلا أن يقولوا الحق قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).
وهكذا تراهم عندما تحل بهم الأهوال، وينزل بهم الضرُّ يعودون إلى فطرتهم مقرّين بقدرة الله، وأنه هو وحده الذي يكشف عنهم الضرّ؛ تاركين آلهتهم، ومعتقداتهم الباطلة؛ قال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ).(72/1)
تلك طبيعة أولئك الذين لم يؤمنوا حقاً فكانوا من الخاسرين.. فالإيمان هو الذي يقود الإنسان إلى التأمل والتفكير، ويدفعه للنظر في آيات الكون بعين البصيرة والتدبر؛ ليكون من الموقنين حقا؛ الذين قال الله فيهم: ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً).
فالتأمل في الكون، والوقوف عند آياته، وما حوله لا تحيط به حدود، ولا تحصره الأقلام، ولا يدرك خبايا أسراره إلا الله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى.
إلهي يا رب:
ما في الوجود سواك رب يُعبَدُ ** كلا ولا مَولى هناك فيُقصَدُ
يا من له عَنَتِ الوجوه بأسرها ** رَهباً وكلُّ الكائنات تُوَحّدُ(72/2)
آيات الكون دعوة للتأمل مالك إبراهيم بابكر*
قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)..
آية بينة من كتاب الله عز وجل توجه العقل الإنساني إلى عجائب هذا الكون في الخلق، والتصريف، والتدبير؛ فينظر الإنسان مشاهد هذا الكون بحسٍّ متجدد، ونظرة مستطلعة؛ فيشرق قلبه بالإيمان.
فتعالوا معا لنقف عند هذه الآية وقفة تدبر لكي نغوص في غمار معانيها وهي تصور لنا معالم قدرة الله في الكون، وتنبئنا ببديع صنعه جل وعلا الذي أتقن كل شيء خلقه؛ لتقود الجميع للاعتراف الحقيقي بوحدانية الله، والخضوع له، والإقرار الكامل بأن لهذا الكون إله مدبر، ورب مسخر.. فيزداد الذين آمنوا إيمانا وهدىً ويقينا، أما الذين طبع داء الاستكبار غشاء الغفلة على قلوبهم فعميت أبصارهم فهم لا يبصرون.
فالكون كتاب مفتوح؛ فالمتأمل فيه بعين البصيرة وقلب الحقيقة يكفيه عبرة وموعظة، ولكن لا يدرك حقيقة ذلك إلا العاقلون المتدبرون، وصدق الله عز وجل القائل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، أيْ يدركون بتفكيرهم وإيمانهم أن هذا الكون وما فيه من آيات لم يخلق عبثاً؛ وإنما خلق ليدل دلالة لا لبس فيها على قدرة الله ووحدانيته؛ فلو كان فيهما آلهة أخرى لفسدتا كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)..
فالعاقلون أولو الأبصار هم الذين أدركوا ذلك حقاً؛ لأنهم اتخذوا من التفكير عبادة، ومن النظر إلى الكون طاعة؛ قال تعالى واصفا إياهم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
فميدان التفكير - من خلال النظر إلى الكون - الذي فتحه القرآن أمام الإنسان بكل أبعاده، وما فيه لهو دعوة للتأمل للوصول للحق.
فخلق السموات بغير عمد نراها، وما فيها من معالم، وعالم علوي، والأرض التي بسطها الله، وما فيها من جبال راسيات، وأنهار، وبحار؛ هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج، وما بينهما من السحاب مسخر تحمله الرياح بتصريف الله وعظيم قدرته نعمة للعباد ليمطر عليهم رحمة، ونماءًا، وغيرهما من الآيات الكونية، التي لا تحصى ولا تعد؛ كل ذلك دلالة كبرى، وآيات عظمى، وحجة قاطعة على وحدانية الله وقدرته؛ العزيز العليم، بديع الصنع، الحكيم الخبير.
لا تنكرها الأبصار، ولا يحد العقل عن إدراك حقيقتها مهما تكبر، واستكبر بالجحود، والإنكار لوحدانية الله، وقد أجاب الأعرابي بلسان الفطرة السليمة، وعقل المتدبر عندما سئل: كيف عرفت الله؟؛ فقال: (البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج أفلا يدل ذلك على الحكيم الخبير؟!).
نعم إنها فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ تقود الناس بفكر ثاقب، ونظرة فاحصة إلى أن لهذا الكون خالقا خلقه بالحق وهو الله جل في علاه، وتبارك في سماه؛ فلا أحد سواه.. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
وتقود الفطرة الإلهية إلى الإقرار بوحدانية الله، والاعتراف بأنه هو الخالق كما ذكر الله عن ملة عن ملة الكفر وغيرهم عندما يسألون عن خالق الكون فلا يجدون إلا أن يقولوا الحق قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).
وهكذا تراهم عندما تحل بهم الأهوال، وينزل بهم الضرُّ يعودون إلى فطرتهم مقرّين بقدرة الله، وأنه هو وحده الذي يكشف عنهم الضرّ؛ تاركين آلهتهم، ومعتقداتهم الباطلة؛ قال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ).(73/1)
تلك طبيعة أولئك الذين لم يؤمنوا حقاً فكانوا من الخاسرين.. فالإيمان هو الذي يقود الإنسان إلى التأمل والتفكير، ويدفعه للنظر في آيات الكون بعين البصيرة والتدبر؛ ليكون من الموقنين حقا؛ الذين قال الله فيهم: ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً).
فالتأمل في الكون، والوقوف عند آياته، وما حوله لا تحيط به حدود، ولا تحصره الأقلام، ولا يدرك خبايا أسراره إلا الله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى.
إلهي يا رب:
ما في الوجود سواك رب يُعبَدُ ** كلا ولا مَولى هناك فيُقصَدُ
يا من له عَنَتِ الوجوه بأسرها ** رَهباً وكلُّ الكائنات تُوَحّدُ(73/2)
آيات الكون دعوة للتأمل
مالك إبراهيم بابكر*
قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)..
آية بينة من كتاب الله عز وجل توجه العقل الإنساني إلى عجائب هذا الكون في الخلق، والتصريف، والتدبير؛ فينظر الإنسان مشاهد هذا الكون بحسٍّ متجدد، ونظرة مستطلعة؛ فيشرق قلبه بالإيمان.
فتعالوا معا لنقف عند هذه الآية وقفة تدبر لكي نغوص في غمار معانيها وهي تصور لنا معالم قدرة الله في الكون، وتنبئنا ببديع صنعه جل وعلا الذي أتقن كل شيء خلقه؛ لتقود الجميع للاعتراف الحقيقي بوحدانية الله، والخضوع له، والإقرار الكامل بأن لهذا الكون إله مدبر، ورب مسخر.. فيزداد الذين آمنوا إيمانا وهدىً ويقينا، أما الذين طبع داء الاستكبار غشاء الغفلة على قلوبهم فعميت أبصارهم فهم لا يبصرون.
فالكون كتاب مفتوح؛ فالمتأمل فيه بعين البصيرة وقلب الحقيقة يكفيه عبرة وموعظة، ولكن لا يدرك حقيقة ذلك إلا العاقلون المتدبرون، وصدق الله عز وجل القائل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، أيْ يدركون بتفكيرهم وإيمانهم أن هذا الكون وما فيه من آيات لم يخلق عبثاً؛ وإنما خلق ليدل دلالة لا لبس فيها على قدرة الله ووحدانيته؛ فلو كان فيهما آلهة أخرى لفسدتا كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)..
فالعاقلون أولو الأبصار هم الذين أدركوا ذلك حقاً؛ لأنهم اتخذوا من التفكير عبادة، ومن النظر إلى الكون طاعة؛ قال تعالى واصفا إياهم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
فميدان التفكير - من خلال النظر إلى الكون - الذي فتحه القرآن أمام الإنسان بكل أبعاده، وما فيه لهو دعوة للتأمل للوصول للحق.
فخلق السموات بغير عمد نراها، وما فيها من معالم، وعالم علوي، والأرض التي بسطها الله، وما فيها من جبال راسيات، وأنهار، وبحار؛ هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج، وما بينهما من السحاب مسخر تحمله الرياح بتصريف الله وعظيم قدرته نعمة للعباد ليمطر عليهم رحمة، ونماءًا، وغيرهما من الآيات الكونية، التي لا تحصى ولا تعد؛ كل ذلك دلالة كبرى، وآيات عظمى، وحجة قاطعة على وحدانية الله وقدرته؛ العزيز العليم، بديع الصنع، الحكيم الخبير.
لا تنكرها الأبصار، ولا يحد العقل عن إدراك حقيقتها مهما تكبر، واستكبر بالجحود، والإنكار لوحدانية الله، وقد أجاب الأعرابي بلسان الفطرة السليمة، وعقل المتدبر عندما سئل: كيف عرفت الله؟؛ فقال: (البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج أفلا يدل ذلك على الحكيم الخبير؟!).
نعم إنها فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ تقود الناس بفكر ثاقب، ونظرة فاحصة إلى أن لهذا الكون خالقا خلقه بالحق وهو الله جل في علاه، وتبارك في سماه؛ فلا أحد سواه.. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
وتقود الفطرة الإلهية إلى الإقرار بوحدانية الله، والاعتراف بأنه هو الخالق كما ذكر الله عن ملة عن ملة الكفر وغيرهم عندما يسألون عن خالق الكون فلا يجدون إلا أن يقولوا الحق قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).
وهكذا تراهم عندما تحل بهم الأهوال، وينزل بهم الضرُّ يعودون إلى فطرتهم مقرّين بقدرة الله، وأنه هو وحده الذي يكشف عنهم الضرّ؛ تاركين آلهتهم، ومعتقداتهم الباطلة؛ قال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ).(74/1)
تلك طبيعة أولئك الذين لم يؤمنوا حقاً فكانوا من الخاسرين.. فالإيمان هو الذي يقود الإنسان إلى التأمل والتفكير، ويدفعه للنظر في آيات الكون بعين البصيرة والتدبر؛ ليكون من الموقنين حقا؛ الذين قال الله فيهم: ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً).
فالتأمل في الكون، والوقوف عند آياته، وما حوله لا تحيط به حدود، ولا تحصره الأقلام، ولا يدرك خبايا أسراره إلا الله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى.
إلهي يا رب:
ما في الوجود سواك رب يُعبَدُ ** كلا ولا مَولى هناك فيُقصَدُ
يا من له عَنَتِ الوجوه بأسرها ** رَهباً وكلُّ الكائنات تُوَحّدُ(74/2)
آيات الله في الآفاق
لله في الآفاق آيات لعل * * * أقلها هو ما إليه هداكا
ولعل ما في النفس من آياته * * * عجبٌ عجابٌ لو ترى عيناكا
والكون مشحون بأسرار إذا * * * حاولت تفسيراً لها أعياكا
قل للطبيب تخطفته يد الردى * * * من يا طبيب بطبه ارداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما * * * عجزت فنون الطب من عافاكا
قل للصحيح يموت لا من علة * * * من بالمنايا ياصحيح دهاكا
قل للبصير وكان يحذر حفرة * * * فهوى بها من ذا الذي أهواكا
بل سآئل الأعمى مشى بين الزحام * * * بلا إصطدام من يقود خطاكا
قل للجنين يعيش معزولا بلا * * * راع ومرعى مالذي يرعاكا
قل للوليد بكى وأجهش بالبكا * * * عند الولادة مالذي أبكاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه * * * فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو * * * تحيا وهذا السم يملأ فاكا
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت * * * شهداً وقل للشهد من حلاكا
بل سائل اللبن المصفى كان بين * * * دم وفرث مالذي صفاكا
وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا * * * ميت فاسأله من ياحي قد أحياكا
قل للنبات يجف بعد تعهد * * * ورعاية من بالجفاف رماكا
وإذا رأيت النبت في الصحراء يربو * * * وحده فاساله من أرباكا
وإذا رايت البدر يسري ناشراً * * * أنواره فاساله من أسراكا
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي * * * أبعد كل شيء مالذي أدناكا
قل للمرير من الثمار من الذي * * * بالمر من دون الثمار غذاكا
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى * * * فاسأله من يا نخل شق نواكا
وإذا رأيت النار شب لهيبها * * * فاسأل لهيب النار من أوراكا
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحا * * * قمم السحاب فسله من أرساكا
وإذا ترى صخرا تفجر بالمياه * * * فسله من بالماء شق صفاكا
وإذا رأيت النهر بالعذب الزلال * * * سرى فسله من الذي أجراكا
وإذا رايت البحر بالماء الأجاج * * * طغى فسله من الذي اطغاكا
وإذا رأيت الليل يغشى داجياً * * * فاسأله من ياليل حاك دجاكا
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحكاً * * * فاسأله من يا صبح صاغ ضحاكا
ستجيب ما في الكون من آياته * * * عجبٌ عجابٌ لوترى عيناكا
ربي لك الحمد العظيم لذاتك * * * حمداً وليس لواحد إلاكا
يا منبت الأزهار عاطرة الشذى * * * ما خاب يوماً من دعا ورجاكا
يا مجري النهار عاذبة الندى * * * ما خاب يوماً من دعا ورجاكا
يا أيها الإنسان مهلاً ماالذي * * * بالله جل جلاله أغراكا(75/1)
آيات الله في خلق الإنسان
الشيخ عبد المجيد الزندانى
في نهاية القرن السابع عشر عندما اكتشف الميكرسكوب المكبر .. المجهر .. تصوروا بعد أن شاهدوا الحيوانات المنوية .. مع أن المجهر كان صغيرا في ذلك الوقت .. تصوروا أن الإنسان بذرة مثل الشجرة الصغيرة .. فتصوروا أن الإنسان مختزل في الحبة المنوية فرسم له العلماء صورة وتخيلوا الإنسان يوجد كاملا في النطفة المنوية غير أنه ينمو .. ومنذ 60 عاما تأكدوا من أن الإنسان لا يوجد إنسان دفعة واحدة إنما يمر بأطوار ومراحل طورا بعد طور ومرحلة بعد مرحلة وشكلا بعد شكل منذ 60 عاما وصل العلم إلى إحدى الحقائق القرآنية.
يقول الشيخ الزنداني التقينا مرة مع أحد الأساتذة الأمريكان بروفيسور أمريكى من أكبر علماء أمريكا اسمه بروفيسور مارشال جونسون فقلنا له : ذكر في القرآن أن الإنسان خلق أطوارا فلما سمع هذا كان قاعدا فوقف وقال : أطوارا ؟! قلنا له : وكان ذلك في القرن السابع الميلادى ! جاء هذا الكتاب ليقول : الإنسان خلق أطوارا !! فقال : هذا غير ممكن .. غير ممكن .. قلنا له : لماذا تحكم عليه بهذا ؟ هذا الكتاب يقول " يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ") الزمر "( مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا" / نوح . فقعد على الكرسى وهو يقول : بعد أن تأمل : أنا عندى الجواب : ليس هناك إلا ثلاث احتمالات : الأول : أن يكون عند محمد ميكروسكوبات ضخمة .. تمكن بها من دراسة هذه الأشياء وعلم بها ما لم يعلمه الناس فذكر هذا الكلام ! الثاني : أن تكون وقعت صدفة .. وهذه جاءت صدفة الثالث : أنه رسول من عند الله.
قلنا : نأخذ الأول : أما القول بأنه كان عنده ميكرسكوب وآلات أنت تعرف أن الميكرسكوب يحتاج إلى عدسات وهي تحتاج للزجاج وخبرة فنية وتحتاج إلى آلات وهذه معلومات بعضها لا تأتي إلا بالميكرسكوبات الألكترونية وتحتاج كهرباء والكهرباء تحتاج إلى علم وهذه العلوم لا تأتي إلا من جيل سابق ولا يستطيع جيل أن يحدث هذا دفعة فلا بد أن للجيل الذي قبله كان له اشتغال بالعلوم ثم بعد ذلك انتقل إلى الجيل الذي بعده ثم هكذا ...أما أن يكون ليس هناك غير واحد فقط .. لا أحد من قبله ولا من بعده ولا في بلده ولا في البلاد المجاورة والرومان كذلك كانوا جهلة ما عندهم هذه الأجهزة والفرس والعرب كذلك ! واحد فقط لا غير هو الذي عنده كل هذه الأجهزة وعنده كل هذه الصناعات وبعد ذلك ما أعطاها لأحد من بعده .. هذا كلام ما هو معقول ! قال : هذا صحيح صعب نقول : صدفة ..ما رأيك لو قلنا لم يذكر القرآن هذه الحقيقة في آية بل ذكرها في آيات ولم يذكرها في آية وآيات إجمالا بل أخذ يفصل كل طور : قال : الطور الأول يحدث فيه وفيه والطور الثاني كذا وكذا والطور الثالث .. أيكون هذا صدفة ؟! فلما عرضنا التفاصيل والأطوار وما في كل طور قال : الصدفة كلام غلط !! هذا علم مقصود قلنا : ما في تفسير عندك : قال : لا تفسير إلا وحي من فوق .
هذه النطفة هذا المنى .. منى الرجل ومنى المرأة .. هذا كله فيه ماء المرأة وماء الرجل ومن بين هذا المنى هذه النطفة قطرة كبيرة .. في داخل النطفة بويضة المرأة أغلقت الأبواب ! ممنوع دخول حيوان منوى ثان قضى الأمر فإذا انتهى .. بدأت تتخلق وهذا أول طور من أطوار الإنسان " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ " . هذه النطفة في لغة العرب معناها القطرة .. نطف الإناء يعنى قطر الإناء إحداها نطفة .. يعنى قطرة من سائل هذاالسائل وهذه القطرة .. هذه النطفةيتقرر فيها كل شيء بالنسبة للإنسان .. كل صفات الإنسان تتقرر وهو نطفة وتتقدر وهو نطفة ولذلك قال تعالى " قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ " (عبس) من قال لسيدنا محمد : إن الإنسان مقدر في داخل النطفة بكل تفاصيله التي سيكون عليها ثم من ضمن ما سيقدر به هذا الإنسان كونه ذكرا أم أنثى ؟.(76/1)
فهمنا أن في هذه النطفة يتقرر ما إذا كان هذا المخلوق ذكرا أم أنثى .. هل تصور أحد من البشر أن نطفة الماء حال الإمناء يتقرر مصيرها وما يخرج منها ذكرا وأنثى ؟! هل يخطر هذا بالبال ؟! لكن القرآن يقول "وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىِ * من نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى " النجم 45 46 حال إمنائة إذا تمنى .. وقد قدر ما سيكون عليه ذكرا أو أنثى قد تحددت !! من أخبر محمدا بذلك صلى الله عليه وسلم إلا الله هذه حاملات الوراثة داخل النطفة تلك .. هذه لم تعرف إلا بعد إكتشاف الميكروسكوب الألكتروني والميكروسكوب الألكتروني من الأربعينيات .. يعني له نصف قرن تقريبا منذ أن عرف .. عرفوا أن الذكورة والأنوثة تتقرر في النطفة .. يعني كنا في أوائل القرن العشرين وكانت البشرية بأجمعها لا تعلم أن الذكورة والأنوثة مقررة في النطفة لكن الكتاب الذي نزل قبل أربعة عشر قرنا يقرر هذا في غاية الوضوح وارجعوا إلى كتب التفاسير كلها تقرر هذا إيمانا بما جاء في هذا الكتاب .
هناك حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن النطفة أين تستقر ؟ وكيف يكون حالها قبل الاستقرار ؟ قال عليه الصلاة والسلام :( يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم ) - أخرجه أحمد في المسند - أي أن النطفة هذه تستقر في الرحم معناه أنهاكانت قبل الاستقرار .. أنها كانت متحركة .. صحيح كانت متحركة .. هذه البويضة خرجت من الأنثى وهذه الحيوانات جاءت من الرجل من هنا .. فحيوانات الرجل جاءت من هنا وتركت إلى هنا وكان هذا مكان اللقاء ونطفة المرأة جاءت من هنا وتم اللقاء هنا وتم التلقيح وتركت هذا المكان وتحركت حتى وصلت إلى الرحم فاستقرت يعنى ما كانت في حالة غير مستقرة ثم استقرت قال عليه الصلاة والسلام : يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين فمن أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم : أن النطفة تأتي عليها فترة لا تكون فيها مستقرة ثم تستقر ؟!
هذه النطفة .. وهذا جدار الرحم .. هذه النطفة شقت جدار الرحم من هنا ودخلت كما تشق التربة وتوضع البذرة وتدفن بالضبط هذه النطفة شقت الرحم وبعد ذلك دفنت فغارت في لحم الرحم وغطى عليها ولذلك نجد جميع كتب الطب والتشريح والأجنة تذكر هذه المرحلة وتسميها مرحلة الغرس .. ويشبهون الرحم بالتربة التي وضعت فيه البذرة وهم بتشبيههم هذا يظنون أنهم يأتون بالوصف الدقيق المتلائم مع الواقع ولكنهم سيفاجئون عندما يرون آية تصف المرأة وتقول " نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ " البقرة 223 أي أنها موضع الحرث ويكون فيها حرث لاحظوا أيها الإخوة هذه النطفة وهي تدخل إلى هنا أول علاقة لها بالرحم قالوا : ماذا يحدث ؟ قلنا : تغور .. تدخل .. يحدث هنا شيئان : الشئ الأول : أن الرحم يأخذ من النطفة غلافها .. الغلاف يؤخذ منها والجنين ينفذ من هذا الغلاف وهذه المكونات ثم المسألة الثانية : أنها تغور إلى الداخل فهناك شيئان : نقص للنطفة وغور لها هناك لفظ عربي لا يوجد لفظ مثل هذا اللفظ يحقق المعنيين .. هذا للفظ ذكره الله في كتابه واصفا لعلاقة الإنسان برحم أمة ولكنى سأذكر معناه .. هذا اللفظ هو غاض .. الغيض.
قال تعالى " وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء " هود 44 فغاض تأتي بمعنيين تأتي بمعنى غار وتأتى بمعنى نقص أو تأتى بالمعنيين معا : وغيض الماء أو غار وتأتي بمعنى نقص أو تأتي بالمعنيين معا : وغيض الماء أو غار الماء ونقص .. فغاضت النطفة هنا تأتي بالمعنيين غار في جدار الرحم ونقص منه جداره وجزء منه لتتكون منه المشيمة في الرحم ويبقى شئ آخر الله يقول " اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ " الرعد 8 وغيض الرحم هنا مفتاح من مفاتيح الغيب وهنا افتحوا أذهانكم هذه النقطة ميدان معركة ما بين طلاب المدارس الدينية وطلاب المدارس العلمية حول معرفة أنه ذكر أو أنثى .(76/2)
أنتم لا تؤمنون أن العلم اكتشف أنه ذكرا أو أنثى .. لا نؤمن خذ بطاقة الرجعيين .. وهذا يأخذ بطاقة الكفر هذا العلم السطحى يوصل إلى هذه النتائج لكن التعمق في العلم يوصل إلى غير هذا وما أقوله لكم - سبحان الله - كنت أحسب أنى قد وصلت إلى هذا بعد طول عناء فإذا بابن كثير رحمه الله يسبقنا إليه ويقرر المعنى الأمر الأول تقول " إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ " لقمان 34 فهمها الناس على عمومها فلا يمكن لأحدأن يعلم أن في الرحم شيئا ومن قال إنه عليم شيئا فقد كفر كل ما في الرحم ((ابن كثير )) جمع النصوص فكر فيها تأمل .. كيف يكون هناك مفتاح للغيب لا يعلمه إلا الله وقد ورد في الأحاديث الصحيحة : ( أن الملائكة تعلم ما سيكون عليه المخلوق في بطن أمه تعلم رزقه وأجله شقيا أو سعيدا ذكرا أو أنثى ) تعلم عنه كل هذه التفاصيل بل ما سيكون فكيف يقال بعد ذلك : إن هذا العلم لا يعلمه إلا الله هذا ابن كثير شيخ السادة المتكلمين ..
هذا ابن كثير المرجع في التفسير يقول : كيف نجمع بين النصوص هل يكذب نص نصا ؟ هل النبي صلى الله عليه وسلم يكذب نفسه بنفسه يقول : ( لا يعلم إلا الله ) ثم يقول : ( الملائكة تعلم ) .. لا والله إنه الجهل بفهم النصوص نعم . الجهل فقرر ابن كثير وجمع بين النصوص وهذا منهج العلماء قال : لا يعلم أحد من أمرالجنين شيئا من العلم إلى ما قبل علم الملك فإذا علم الملك علمنا أن غير الله قد علم وهو الملك ومن شاء الله من خلقه ..
وإذا هذه النصوص الخاصة خصصت العموم وهذه الألفاظ المقيدة قيدت الإطلاق فعلمنا الأمر المحجوب عن علم غير الله إنما هو في مرحة من مراحل الجنين وتجلى الأمر بوضوح لا بكلام ابن كثير بل بكلام سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه سلم حيث قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذى رواه البخارىعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال : ( مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله - ( ما تغيض لا ما تزداد ) ففرق بين أمرين : الآية قالت ( اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ) الرعد 8 فالأرحام لها حالتان حالة تعلق بالجنين والله يعلم الحالتين بالتمام والكمال والمحجوب عن علم غير الله هو الغيض الذى يعلمه هو وحده (
مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم ما تغيض الأرحام ) فهذا قيد لنا المرحلة من العلم هذا الأمر الأول أما الأمر الثاني : أن ما تغيض الأرحام يسميه الرسول صلى الله عليه سلم مفتاحا من مفاتيح الغيب يفتح على أبواب علم قادمة .. على أحوال قادمة فالذين ذهبوا إلى أن الغيض هو دم الحيض هو فهم في الحقيقة لا يكون بهذا مفتاحا للغيب دم الحيض ما هو مفتاح للغيب فالرسول صلى الله عليه سلم يقول مفتاح الغيب : ما تغيض الأرحام - دم الحيض ليس مفتاحا للغيب لأنه لن ينشأ منه جنين أو إنسان أو مخلوق وبإجماع علماء المسلمين مفتاح الغيب متعلق بالأجنة وبالإنسان الذى سيخلق فإذا مفتاح الغيب هذا متعلق بالأجنة التي ستخلق ومعلوم أن دم الحيض لا يخلق منه إنسان ومن ذهب إلى هذا التفسير غير المقصود فهذا لا يستقيم مع المعنى أنه مفتاح من مفاتيح الغيب والله أعلم .. إذا ما تغيض الأرحام هذه مرحلة الغيض تأتي بعد هذا مرحلة الازدياد ..
في مرحلة الغيض هذه يستحيل على إنسان أن يعرف صفات الجنين . في هذه المرحلة مستحيل .. أتدرون لماذا ؟ لأنه إذا صففنا صفين .. لوجئت بصفين من الأحجار ووضعت الصفين بجوار بعض وقلت لإنسان : أنا سأصنع من هذا بناء هل سيعلم أيكون من الصفين مدرسة أم مستشفى ؟ هل سيعلم أيكن منها فيلا أم عمارة ؟ صفين فقط هكذا الإنسان في هذه المرحلة فلو أراد الإنسان أن يمتحن شيئا من صفات هذا الجنين وأخذ خلية واحدة فلو نزع الجهاز التنفسى لأن الجهاز التنفسى يكون هنا ممثلا بخلية واحدة فلا يستطيع الإنسان أن يكتشف ما يكون أمر هذا المخلوق في مرحلة الغيض بينما هو مقدر تقديرا كاملا ما سيكون عليه هذا الإنسان.(76/3)
والتقيت بأحدهم فهذا المرشال جونسون الذى قام وقعد وهو من كبار المختصين بعلم الوراثة والدارسين لعلم ( الكروموزمات ) في أمريكا .. قلت له : هل حاولتم أن تعرفوا صفات الإنسان التي ستكون في المستقبل في مرحلة الغيض هذه ؟ قال : نعم حاولت لقد قمت بتجربة على بعض كروموزمات بعنى حاملات الوراثة واستمر بحثى عليها عشر سنوات وأنا أحاول أن أفهم كيف سينشأ مخلوق من هذا ؟! وماذا سينشأ من هذا الجزء الذى بين يدى في المستقبل ؟! وقلت له : ماذا كانت النتيجة ؟ قال : بكيت !! قلت : لماذا ؟ قال : لأني فشلت ولم أستطع أن أعرف شيئا قلت له : أحسنت !! هذا عندنا موجود إنك لن تستطيع أن تعرف وإن هذه المرحلة لا تستطيع أن تعلم عنها شيئا ولا تستطيع أن تفهم عنها شيئا.
إذا أيها الإخوة نقول : معرفة ما في الجنين ) أحوال وصفات الجنين ( كما قال ابن كثير من قبل هي في فترة زمنية محددة يكون الجهل أما إذا علم الملك انتهى أما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فهو يفيد هذه المرحلة مرحلة الغيض ويجعلها هي مفتاح الغيب فإذا نقول : إن مرحلة الازدياد مرحلة مفتوحة ممكن للإنسان أن يعلم وإذا رأينا متى علم الملك جاء في مرحلة الازدياد والله أعلم .. مفهوم هذا يا إخوان هذه صورة الجنين بعد أن يتحول من نطفة يتحول إلى هذه الصورة .. هذا الجنين وهذه صورة للعلق الذى يوجد في الماء .. الذي يتعلق في أفواه الأغنام والأبقار فيمتص منها الدماء .. هذا هو الطور الثاني وهذه هي العلقة وهذا هو الجنين يكون محاطا بالماء والعلقة تكون محاطة بالماء العلقة هذه تتعلق لتمص الدماء الجنين أيضا يتعلق ليمص الدماء
كيب مور هذا العالم الذي قلت لكم عنه من كبار علماء الأجنة .. أخذ قطعة من الطين ومضغها بأسنانه ووضع هذه بجوار هذه وقال : هذه مضغة جنين وهذه مضغة بأسنان وهذه مرحلة ما بعد العلقة ولذلك قال تعالى "فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً " المضغة من صفاتها .. أول ما تأخذ المضغة تمضغها تستطيل .. ثم تمضغها ثانية فيتغير شكلها ثم تمضغها ثالثة فتأخذ شكلا ثالثا وتمضغها مرة أخرى فتأخذ شكلا آخر ومع كل مضغة هي تدور الجنين في هذه المرحلة بالضبط هكذا الجنين في هذه المرحلة تظهر فيه نقاط وكأنها أمكان المضغ ثم يدور .. فالمضغة هنا في الحقيقة أصدق وصف لها أن فيها شيئا قد تخلق وفيها جزء لم يتخلق فأصدق وصف لها أنها مخلقة وغير مخلقة ولذلك جاء وصفها في القرآن بهذا الوصف ( ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ) من قال لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ هل كان عنده أجهزة تشريح وقياسات ؟!
هذه عبارة عما وصل الجنين في هذه المرحلة واحد سم .. يعنى قريب من واحد سم .. انظروا واخد سم يعنى ماذا ؟ .. هذا الكلام داخل واحد سم . الآن العظام تبدأ في الزحف على الجمجمة .. هذه العين . هذه الجمجمة "فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا "المؤمنون 14 وفي كثير من النقاش مع الدكاترة كنا نسألهم : أيهما الأول العظام أم اللحم ؟ فكانوا يقولون لنا : هما معا في وقت واحد .. فلما كنا نطلب منهم مراجعة كتبهم فيعودون فيقولون : لا العظام ثم بسرعة يأتي بعده اللحم وفي ذلك قوله تعالى : ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ) فكسونا العظام لحما .
هذا عندما ينتهى كساء العظام باللحم تبدأ مرحلة من المراحل .. أهم ما في هذه المرحلة أن الجنين ينمو ... ينشأ ... يترعرع جسمة وبدنه ويكون أهلا لكي تسكن الروح هذه المرحلة .. فإذا توقفنا عن قوله سبحانه : أنشأناه وجدنا أن ينشأ بمعنى أسكنت فيه الروح وينشأ بمعنى نما الجسد وترعرع وإذا بحثت في لغة العرب عن لفظ يدل على المعنيين : يدل على النمو ويدل على النشأة المحدثة لا تجد لفظا غير ينشأ فإن نشأ يدل على النمو"إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء "الواقعة ويدل على الخلق وعلى الإيجاد من العدم وفي هذه المرحلة يحدث شيئان : أما البدن فينمو ويترعرع وأما الروح فتنفخ وبهذا تتم النشأة الكاملة للإنسان" ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَر" المؤمنون 14 بعد خلق هذه المرحلة لا يوجد مخلوق في الوجود يشابه هذا الإنسان لا يوجد حيوان ولا نبات ولا ملاك ولا جنى ولا أرض ولاسماء ولاشهب ولاشيء في الكون مثل هذا الإنسان المكون من مادة وروح ثم لا توجد صورة من بنى آدم تشبه هذه الصورة لهذا المخلوق صورة خلق آخر"ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ"(76/4)
أرأيتم الأطورا ؟! أرأيتم المضغة ؟! أرأيتم العظام ؟! أرأيتم كساء اللحم للعظام ؟! أرأيتم الإنشاء ليصبح خلقا آخر ؟! أرأيتم هذه الأطوار التي كانت محجوبة . اقرءوا معي بقية الأطوار في نفس الأية" ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ" المؤمنون ..
-------------------------------------------
المصدر " العلم طريق الإيمان "(76/5)
آية الكرسي
آية جليلة القدر، عظيمة الشأن، رفيعة المنزلة، بعيدة المكانة، بيِّنة المهابة، لها حلاوة وعليها طلاوة، تنزل على القلب برداً سلاماً، يسعد بها الفؤاد، وتأنس لها النفس، وتستروح بها الروح، حبيبة إلى الرحمن، حافظة للإنسان، طاردة للشيطان، حفظها أمن وأمان، وقراءتها روح وريحان، والترنم بها النعيم والسلوان. وهي أعظم وأجل آية في القرآن.
سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُبيّ بن كعب: ( أي آية كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم. فرددها مراراً، ثم قال أُبيّ: آية الكرسي. قال: ليهنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين، تقدس الملك عن ساق العرش ).
أية الكرسي بعيدة أسرارها، عظيمة أخبارها، حتى الشياطين عرفت مقدارها، يقول أبو هريرة ـ رضي الله عنه: ( وكلني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه. فأصبحت، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم. قال: دعني، فإني محتاج، وعلى عيال، لا أعود. فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، شكا حاجة وعيالاً فرحمتُه فخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود، ثم تعود. فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت ماهن. قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: { اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }... [البقرة:255]، حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله. قال: ما هي؟ قلت: قال لي، إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: { اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }، وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب مُذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قلت لا، قال: ذاك الشطان).
{ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }: الله علم الأعلام، وأعرف المعارف، الله الذي له جميع معاني الألوهية ولا يستحق العبودية إلا هو، فهو المتفرد بالإلهية على جميع الخلائق، وهذه الوحدانية الحاسمة التي لا مجال فيها لأي انحراف أو لبس مما طرأ على الديانات السابقة بعد الرسل، هذه هي الوحدانية الناصعة، فالعبودية لله، والطاعة لله، والحاكمية لله.
{ اللهُ} بداية مشرقة، وكلمة مؤنسة، جاءت في أول الآية كالتاج على الرأس، والفجر في الأفق، والبسمة في الشفاه، ثم أتى بعدها مباشرة بالصفة الأسمى، والقضية العظمى، جاءت كلمة التقوى، وعنوان الدين، وأساس الملة، الكلمة التي من أجلها أنزلت الكتب، وأرسل الرسل، وأقيم سوق الجنة والنار وهي: { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }.
{ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }: الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، المقيم لغيره، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو الغني عنها، ولا قوام لها بدون فضله، والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق، فالله جل وعلا يتفرد بالحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية، { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } ... [الحديد: 3]، ولذلك كان دعائه ـ صلى الله عليه وسلم: ( يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث ).
والقيوم بمعنى قيامه سبحانه على كل موجود، وقيام كل موجود به، فلا قيام لشيء إلا مرتكناً إلى وجوده وتدبيره، فالمسلم يعلم أن ضميره وحياته ووجوده وكل شيء من حوله مرتبط بالله الواحد الأحد.(77/1)
{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } ... [البقرة: 255]: أي لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عن شيء، ولا يخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم، فقوله: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } أي لا تغلبه سِنَة ،وهي الوسن والنعاس؛ ولهذا قال: { وَلاَ نَوْمٌ }؛ لأنه أقوى من السِّنَة. وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأربع كلمات فقال: ( إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حاجبه النور ـ أو النارـ لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ).
{ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ... [البقرة: 255]: إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه ولا يخرج أحد منهم عن هذا الطور { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً { 93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً } ... [مريم: 93 ، 94]، وهو الذي له الملك والتصرف والسلطان والكبرياء.
{ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ... [البقرة:255] وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا أن يأذن له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة: ( آتي تحت العرش فأخر ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال :ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع ) قال: ( فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ).
إن كل الوجهاء والشفعاء عبيد له مماليك، لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم: { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ... [ الزمر: 44].
والله لا يأذن لأحد أن يشفع إلا فيمن ارتضى، ولا يرتضي إلا توحيده واتباع رسله. وقد جاء الكلام في ثوب من الاستفهام المقصود به النفي، أي لا أحد يملك الشفاعة عنده إلا بإذنه جل وعلا.
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ... [البقرة: 255] دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات: ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كقوله إخباراً عن الملائكة: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } ... [مريم:64].
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } ... [البقرة:255]. أي: لا يطلع أحد على شيء من علم الله إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد: لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه، كقوله تعالى: { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } ... [طه:110].
فالله جل وعلا يعلم ما بين أيدي الخلائق من الأمور المستقبلية التي لا نهاية لها، ويعلم ما خلفهم من الأمور الماضية التي لا عد لها، وأنه لا تخفى عليه خافية: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } ... [غافر:19]، وأن الخلق مهما أوتوا من علم وقدرة فلا يحيط أحد بشي من علم الله أو معلوماته إلا بما شاء منها، وهو ما أطلعهم عليه من الأمور الشرعية والقدرية، وهو جزء يسير جداً مضمحل في علوم الباري ومعلوماته: { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } ... [الإسراء:85]، وقد قال أعلمُ الخلق به وهم الرسل والملائكة: { سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } ... [البقرة:32].
{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } ... [البقرة:255]: يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وأن كرسيه وسع السماوات والأرض، وأنه قد حفظهما ومن فيهما من العوالم بالأسباب والأنظمة التي جعلها في المخلوقات.
{ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } ... [البقرة:255] أي: لا يثقله ولا يُكرثُهُ حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه، يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه.
{ وَهُوَ الْعَلِيُّ } ... [البقرة:255] بذاته على جميع مخلوقاته، وهو العلي بعظمة صفاته، وهو العلي الذي قهر المخلوقات، ودانت له الموجودات، وخضعت له الصعاب، وذلت له الرقاب.
{ الْعَظِيمُ } ... [البقرة:255] الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء، والمجد والبهاء، الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء ـ وإن جلت عن الصفة ـ فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم.(77/2)
وبعد هذا التأمل في رحاب هذه الآية يجد المُتأمِّل الحق هذه الآية أن تكون أعظم آيات القرآن لما احتوته من المعاني، ويحق لمن قرأها متدبراً متفهماً أن يمتلئ قلبه من اليقين والعرفان والإيمان، وأن يكون محفوظاً بذلك من شرور الشيطان.
يجب أن ننقش هذه الآية الكريمة في أذهاننا، ونزرعها في وجداننا، وتسري مع دمائنا، يجب أن نربي أبناءنا على حفظها، ونأمرهم بتعلمها وقراءتها في كل أوقاتهم وأحوالهم ولا سيما عند نومهم، فهي بعد الله جل وعلا من خير ما يحفظهم به، وهي خير لهم مما تُحشى به أذهانهم وتُصم به آذانهم مما لا فائدة فيه.(77/3)
آية جمعت أحرف اللغة العربية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد : فإن كتاب الله تعالى لا تنقضي عجائبه ولا ينتهي إعجازه ، ومن نماذج إعجازه هذه الآية التي جمعت أحرف اللغة العربية .
إنها آية كريمة جمعت الحروف العربية كلها ، وهى الآية 29 من سورة الفتح ، وسورة الفتح مدنية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق عند انصرافه صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، وآياتها 29 آية . نزلت بعد الجمعة، وهي في الجزء السادس والعشرين. ولما نزلت هذه السورة قال صلوات الله عليه : لقد أُنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلى من الدنيا وما فيها ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ) ، أخرجه الإمام أحمد.
أما الآية فهي قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُعَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) الفتح آية (29). فسبحان منزل الكتاب(78/1)
أب
من ديوان: "أبوة... وبنوة"
للأستاذ عمر بهاء الأميري
"كان الشاعر مع أولاده الثمانية، وعدد كبير من أفراد أسرته في مصيف "قرنايل" في لبنان، ثم سافروا جميعاً، بسبب افتتاح المدارس، وبقي وحده، في خلوةٍ شعريةٍ خصبةٍ، كانت طليعتها القصيدة التصويرية الوجدانية التالية، التي لا نعرف لها نظيراً في الأدب العربي"
أين الضجيج العذبُ والشغبُ؟ أين التدارسُ شابَهُ اللعبُ ؟
أين الطفولةُ في توقُّدِها؟ أين الدُّمى في الأرضِ والكُتُبُ ؟
أين التشاكُسُ دونَما غَرَضٍ ؟ أين التشاكي ما لهُ سَبَبُ ؟
أين التباكي والتضاحُكُ، في وَقْتٍ معاً ، والحُزنُ والطَرَبُ ؟
أين التسابُقِ في مُجاورَتي شَغَفَاً ، إذا أكلوا وإنْ شربوا ؟
يَتَزاحمونَ على مُجالستِي والقُربِ مِنِّي حيثُما انقَلَبوا
يتوَجَّهونَ بسَوقِ فِطْرتِهم نَحْوي إذا رَهبوا وإن رَغبوا
فنشيدُهُم "بابا" إذا فَرحوا ووعيدُهُم "بابا" إذا غَضِبوا
وهتافُهُم "بابا" إذا ابتَعدُوا ونَجِيُّهُم "بابا" إذا اقتَرَبُوا
* * *
بالأمس كانوا مِلءَ منزِلِنا واليومَ - ويح اليوم - قدْ ذهبُوا
وكأنَّما الصمتُ الذي هَبَطتْ أثقالُه في الدارِ إذ غَرَبُوا
إغفاءةَ المَحْمُومِ هَدْأتُها فيها يَشيعُ الهَمُّ والتَّعَبُ
ذهَبُوا، أجَلْ ذهبوا ، ومَسْكنُهم في القَلبِ، ما شطُّوا وما قَربوا
إني أراهم أينما التفتتْ نفسي وقد سكنوا ، وقد وثبوا
وأحِسُّ في خَلَدي تلاعُبَهُمْ في الدَّار ، يصبيهم نَصَب
وبَريقَ أعيُنِهم ، إذا ظَفِروا ودُموعَ حُرقتِهم إذا غُلِبوا
في كلِّ رُكنٍ مِنهُمُ أثَرٌ وبكلِّ زاويةٍ لَهُم صَخَبُ :
في النافِذات ، زجاجها حَطموا في الحائِط المَدْهونِ ، قد ثَقَبُوا
في البابِ، قد كسروا مَزَالجَهُ ، وعليه قد رَسَمُوا وقد كتَبُوا
في الصحنِ فيه بعضُ ما أكلُوا في عُلبةِ الحلوى التي نَهبُوا
في الشَطرِ مِن تُفاحة قضموا في فَضلة المَاءِ التي سَكَبُوا
إني أراهُمْ حَيثُما اتجَهَتْ عيني كأسرَاب القَطَا سَرَبوا
بالأمْسِ في "قرنايلٍٍ" نَزَلُوا واليوم قد ضمَّتْهمُ "حَلَبُ"
* * *
دمْعي الذي كتَّمْتُهُ جَلَدَاً لمَّا تباكَوا عندما ركِبوا
حتَّى إذا سارُوا وقد نَزَعُوا من أضلُعي قلباً بِهمْ يَجِبُ
ألفَيتُني كالطِفْل عاطِفَةً فإذا بِه كالغيثِ ينسكِبُ
قد يَعجَبُ العُذَّال من رجُلٍ يَبْكي، ولو لم أبكِ فالعَجَبُ
هَيهْاتَ ما كلُّ البُكا خَوَرٌ إنِّي وَبِي عَزْمُ الرجالِ ، أبُ
قرنايل في 27 أيلول 1957(79/1)
أبان بن عثمان بن عفان
المصدر: البداية والنهاية لابن كثير+سيرأعلام النبلاء
أبان بن عثمان بن عفان:
هو أبان بن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي، وأمه أم عمرو بنت جندب بن عمرو الدوسية، كنيته أبو سعيد، وهو من كبار التابعين من أهل المدينة وثقاتهم وأحد الفقهاء العشرة منهم، وأحد رواة الحديث ولكنه مقل فيه
قال عمرو بن شعيب: ما رأيت أعلم منه بالحديث والفقه.
قال يحيى بن سعيد القطان: فقهاء المدينة عشرة فذكر أبان بن عثمان أحدهم، وخارجة بن زيد، وسالم بن عبدالله، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة، وعروة، والقاسم، وقبيصة بن ذؤيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
تولى إمارة المدينة المنورة لعبد الملك بن مروان سنة 76هـ حيث كان مقرباً من الخلفاء الأمويين كونه ابن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وكان محبوباً من أهل المدينة ويذكرون له موقفه من مسلم بن عقبة القائد الأموي الذي أرسله يزيد بن معاوية بن أبي سفيان لمواجهة التمرد الذي قام في المدينة فقد لقيه مسلم بعد أن أخرجه المتمردون من المدينة وطلب منه أن يدله على عورات المدينة والثغرات التي يمكن أن يقتحم منها، فرفض أبان ذلك.
كان أبان رجل علم وثقافة وأدب، وهو أول من ألف في السيرة النبوية، وكانت فترة إمارته فترة نشاط علمي وثقافي جم، وكان يجتمع في مجلسه العلماء والمحدثون والظرفاء، وروي عنه أنه كان يحب الدعابة والمرح دون أن يقلل ذلك من مكانته وقوة شخصيته، وقد عاشت المدينة في عهده حياة الهدوء والاستقرار.
عزل عن ولاية المدينة سنة 83 هـ، وولي مكانه هشام بن إسماعيل المخزومي، خال الخليفة، فعاش بقية حياته في المدينة بعيداً عن الإدارة والسياسة، متفرغاً للعلم إلى أن توفي سنة 105هـ بعد إصابته بالفالج.
قال محمد بن سعد: كان به صمم ووضح، وأصابه الفالج قبل أن يموت بسنة.(80/1)
أبتاه
أين الفجر .. ! كم راقبته .. !
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
ألْقَيْتُ مِنْ ذكْرَى الحنانِ ظِلاَلاَ
وَرَأَيْتُ مِنْ بَيْنَ الطُّيُوفِ خَيَالاَ
أَغْمَضْتُ أَجفَانِي لأَطْوِيَ بَيْنَهَا
طُوْلَ المَدَى وأُقَرِّبَ الأَجْيَالا
وَمَدَدْتُ مِنْ كَفّيَّ رَعْشَةَ وَامِقٍ
بَيْنَ الرُّؤى تتلَمَّسَانِ مِثَالاَ
وَمَدَدْتُ مِنْ نَظَريْ إِليْهِ صَبَابَةً
وَمَدَدْتُ مِنْ شَوْقِي إِليْهِ وِصَالاَ
يَا طِيْبَ طَلْعَتِهِ وَطيبَ وَقَارِه
جُمِعَا فَكَانَا زِيْنَةً وَخِلاَلاَ
طَيْفاً أَلَّم عَلى الدُّجَى فَعَرفْتُهُ
إِشرَاقَةَ القَسماتِ والإِقْبَالاَ
أَبَتَاهُ ..! يا طُولَ السُّرى دَفَعَ الخُطَى
يَتَقَحَّم السَّاحاتِ والأَدْغالاَ
تتَنَاثَرُ الأَشْوَاكُ تَدْمَى دُوْنَهُ
لِيَشُقَّ بَيْنَ دُرُوِبِهِ الآمَالاَ
أَبَتاهُ ..! يا طُوْلَ السِّنِينَ حمَلْنني
وَرَجَعْنَ بي الأَزْمَانَ والتَّرْحَالاَ
***
*
***
أَعَلَى رُبى " أسْتَانْبُولَ " أَمْ بضفَافِها
لَوَّحْتَ " قاصِمَةً " (1) وخُضْتَ نِضَالاَ
وَمَعَ " الشَّبَابِ المُؤْمِنِينَ "(2) دَفَعْتُمُ
دُونَ الحِمَى الآسَادَ والأَشْبَالاَ
دَارُ الخِلاَفَةِ وَالمَكائِدُ حَوْلَها
قِطَعٌ تُحَرِّكُ في الظَّلاَمِ حبَالاَ
تَلْتَفُّ حَوْلَ ضُلُوعِهَا فَتَشُدُّهَا
وَتُمَزِّقُ الأَعْضَاءَ و الأَوْصَالاَ
وَإذَا " شعار الجاهليَّة " (3)رايةٌ
خَفَقَتْ لتَحْشُدَ فِتْنَةً وَضَلالاَ
وَإِذَا " بطَائِفَةٍ " (4) تَشُدُّ علىالمُدَى
طَعْناً يُدَمِّى الكَفَّ و الأَنْصَالاَ
نَظَرَتْ عَلَى الظّلْمَاءِ تَحْسَبُ أَنَّهَّا
هَاجَتْ عَلَى نَحْرِ العُدَاةِ قِتالاَ
فَإذَا النَّصَالُ جميْعُهَا بِنُحُورهَا
بِقُلُوْبِهَا ..! وَدَمٌ هُنَالِكَ سَالاَ
مَاتَتْ مُرُوءاتُ الرِّجَال فَلَمْ تَعُدْ
تَلْقَى عَلَى أَلَمِ الشِّفَارِ رِجالاَ
أَبَتَاهُ ..! ما زلْنَا عَلى طَعَنَاتِهمْ
نَدْمَى ..! وَيَنْزفُ جُرْحُنَا الأَهْوَلا
***
*
***
أَبَتَاه.! يَا طُوْلَ السُّرَى ، لَمَّ الدُّجَى النْـ
نَظَرَاتِ والخُطُوَاتِ والأَثْقَالاَ
أَبَتَاهُ ..! أَيْنَ الفَجْرُ ..! كَمْ رَاقَبْتَهُ
فَي الأُفْق ..! لَمْ نَلْمَحْ لَهُ إِطْلاَلاَ
مَاتَتْ عَليْهِ جُفُونُنَا تَطْوِي المُنَى
تَهْوِيْ عَلَى خَدَرِ الزَّمَانِ كَلاَلا
سَنَظَلُّ ، مَهْمَا طَالَ هَذا اللَّيْلُ ، نُشْـ
عِلُهُ بِوَمْضِ قَنَاتِنَا إِشْعَالاَ
***
*
***
أَبتَاهُ ..! كَمْ طَوَّفْتَ بَيْنَ دِيَارها
أَنّى اتَّجَهْتَ رَأَيْتَ فِيْهَا الآلاَ
وَصَلَتْ مَغَارِبُها بِطيب وُرُوِدِها
شَرْقاً وَوَثَّقَتِ العُرَى وَحِبَالاَ
وَكَأَنَّمَا البَيْتُ الحَرَامُ وَطيْبَةٌ
والمَسْجِدُ الأَقْصَى يَفِضْنَ نَوَالاَ
قَلْباً يَمُدُّ هُدَّى عَلَى خَفَقَانِهِ
يَرْوِيْ العُرُوقَ وَيَدْفَعُ الأَوْصَالاَ
نُوْراً يَمُوجُ مِنَ النُّبُوَّةِ عِندَهَا
يَسْكُبْنَهُ مِلءَ الرُّبَى شَلاَّلاَ
***
*
***
حَالَتْ مَنازِلُهْا وَجَفَّ بهَا النَّدَى
عَصْفَ الرِّيَاحِ وأَعْوَلَتْ إِعوَالاَ
الحَادِثَاتُ تَمُورُ في أَحْشَائِهَا
وَتَثُوُرَ بَيْنَ رُبُوعِهَا زِلْزَالاَ
فَتَمَزَّقَتْ مِنْهَا القُلُوبُ وَقُطِّعَتْ
مِنْهَا الكُبُودُ وَبَدَّلَتْ أحْوَالاَ
***
*
***
عَاصَرْتَهَا ..! واللَّيْلُ يَدْفَعُ مَوجَهُ
وَيَمُدُّ خَلْفَ حُدُودِها الأَذْيَالاَ
أَدِمَشْقُ أَمْ عَمَّانُ كَانَتْ مَوْئِلاً
أَرْعَدْتَ في سَاحَاتِهَا رِئبَالاَ
لَمْ تَرْضَ يَا أَبَتَاهُ أَنْ تَبْقَى كَمَا
بَقيَ العبيْدُ تُعَانِقُ الأَغْلاَلاَ
حَطَّمْتَهَا ..! وَمَضَيْتَ لاَ تَلْوي عَلَى
كِبْرٍ يُذِلُّ وَزُخْرفٍ قَدْ زَالاَ
وَطَرَحْتَ أَلْقَاباً وَقُمْتَ لِهِمَّةٍ
جَعَلَتْ مَرَامِيَهَا أَعزَّ مَنَالاَ
الشامخاتُ مِنَ العُلاَ أَدْنَيْتَهَا
بِيَدٍ فَكَانَ لَهَا نَدَاكَ مَآلاَ
وَنَزَلْتَ " كَنْعَانَ"(5) النَّديَّ وَسَاحَةً(6)
نَفَحَتْ مِنَ الدَّمِ طِيبَهَا أرْسَالاَ
دَفَعَتْ عَلَى مَوْجَ الرَّدَى أَكبَادَها
تَصِلُ الزَّمَانَ وَتُنْبِتُ الأَبْطَالاَ
بَيْنَ انْتِدَابٍ (7) مَدَّ سُمَّ نُيُوِبهِ
شَرَكاً وَألقَى بَيْنَنَا الأَحْبَالاَ
يَبْنِي " لِصِهْيَوْنَ" الخَيَالَ حَقِيْقَةٍ
قَهْراً يُحِلُّ ضَلاَلُهمْ إِحلاَلاَ
عَجَباً لَهُمْ ..! باسْمِ "الحَضَارةِ" قَطَّعُوا
دَاراً وَخَطُّوا للحُدُودِ مَجَالاَ
سَتَظَلُّ هَاتِيكَ الحُدُودُ عَلى المَدَى
جَرْحاً يَئنُّ وَصَيْحَةً تَتَعَالَى
سَتَظَلُّ تُطْلِقُّ مِنْ نَزيف دِمائِهَا
شِيْباً تَقُوْدُ إِلى الفِدا أَنجَالاَ
***
*
***
يَا لَلْجَريمَةِ ..! لَمْ تَرَ الدُّنْيَا لَهَا
سَبْقاً وَلَمْ تَشْهَدْ لها أَمثَالاَ
هِيَ مَعْرَكُ الإِسْلاَمِ مَدَّتْ سَاحَهَا
لِتَخُوضَ فَوْقَ مَدَى الظُّنُونُ مَجَالاَ
كّمْ سَاوَمُوكَ لِكَيْ تَبيْعَ تُرَابَهَا(81/1)
بالتِّبْرِ ، كمْ نَثَرُوا لَهَا الأَمْوَالاَ
عَظُمَتْ نُفُوسُ المُؤْمِنِينَ فَأَرْخَصَتْ
مَا فَتَّحُوا بِبَرِيْقهِ الأَقْفَالاَ
وَسَمَا بِكَ الإِيْمَانُ حَتَّى أَبَصَرَتْ
عَيْنَاكَ بَيْنَ تُرَابِهَا الأَجْيَالاَ
جَبَلَتْ عَلَى طِيْب الدِّمَاءِ جِهَادَهَا
مَجْداً تأَلَّقَ بَيْنَهُ وَجَلاَلاَ
وَرَأّتْ بِهِ التَّارِيْخَ يَصْنَعُ أُمَّةً
وَعَقِيدَةً تَبْني بِهِ الآمَالاَ
فَإِذَا بأَصْغَر حَبَّةٍ فْي أَرْضِهَا
دُرُّ يَشِعُّ وَجَوْهَرٌ يَتَلاَلاَ
وَصَلَتْ عَلَى نَفْحِ السَّماءِ مَرَابعاً
خَشَعَ الزَّمَانُ أَمَامَهَا إِجْلاَلاَ
وَسَمَوْتَ بالشَّمَمَ الأَبِّي : رُوَيْدَكُمْ
تَلْقَوْا عَلَى هذا التُّرَابِ مَقَالاَ
إِنَّا لَنَغْرسُهُ وَتَرْوِيْهِ الدِّمَا
كَي نُنْبِتَ الأَقْوَالَ والأَفْعَالاَ
***
*
***
" الثَّوْرَةُ الكُبْرَى "(8) نَزَلْتَ غِمَارَها
حِمَماً تَصُبُّ عَلَيْهمُ وَنكَالاَ
مَعْ عُصْبَةٍ تُوْرُوْنَ وَقْدَ عَزيْمَةٍ
صَنَعَتْ لِمَلْحَمَةِ الحيَاةِ رِجَالاَ
يَلْقَى البَيَانَ عَلَى ذُرَى رَبَوَاتِها
مَنْ كَانَ يَطْمَعُ أَنْ يُعِيْدَ سؤُالاَ
شُعَلاً تُضِيءُ لَهَا لَيَالِيَ عُرْسِهَا
وُدْيَانَها وَسُهُولها وَجِبالاَ
مَهْمَا أَصابَ " الإنجليزُ " ببَطْشِهِمْ
أو جَاوَزُوا التَّشْريدَ والإِقْلاَلاَ
أَوْ هَدَّمُوا دَاراً وَسَامُوْا عُجَّزاً
أَوْ رَوَّعُوا بَيْنَ الحِمَى الأَطْفَالاَ
عَزَّتْ نُفُوسُ المُؤْمِنِينَ فَلَمْ يكُنْ
يَقْوَى لِيَبْلُغَ مِنْهُمُ الإذْلاَلاَ
خَفَّتْ رُبَى " بَيْرُوت " تَلْقَى فِيْكُمُ
زَهْوَ المُنَى والبِشرَ والإقْبَالاَ
وَ دِمَشْقُ .! يَا طِيْبَ اللِّقَاءِ وَقَدْ جرَى
بَرَدَى يُعِيْدُ صَدًى وَيَشْكُو حَالاَ
" الإِنْتِدَابُ " جَثَا هُنَالِكَ فَالْتَقَتْ
أحْقَادُه ُ السَّوْدَاءُ حَيْثُ أَجَالاَ
ذَبُلَتْ عَلَى زُهْر الرِّيَاضِ وُرُودُها
وَشَكَتْ لِتَلْقَى قَطْرَةً وَبَلاَلاَ
مَا نَامَ أَبْطَالُ الشَّآم عَن الفِدَا
فالنَّصْلُ يُحْجَزُ إِنْ أَرَدْتَ صِقَالاَ
نَهضُوا ..! جُفُونُهُمُ تُطِلُّ عَلَى الرَّدَى
شَوْقاً لِيَلْقَوْا جَنَّةً وَظِلالاَ
***
*
***
أَبَتَاهُ ..! أَيْنَ المُشْرَعَاتُ عَلى الرُّبَى
طُوِيَتْ ...! وَأَيْنَ المُرْعِداتُ ثِقَالاَ ..!
المُعْطِيَاتُ إِلى السَّحَاتِ بَوَارِقاً
الآخِذاتُ مِنَ اليَقِيِن نِصَالاَ ...!
سكَنَتْ ..! فَمَنْ رَدَّ السيوف لِغِمْدِها
طُوِيَتْ ..! فَمَنْ خَنَقَ النِّداءَ فَزَالاَ
الأَهْلُ ..! وَالجيرانُ ..! والرَّحِمُ الَّذِي
نَاشَدْتُمُوهُ مَوَدَّةً وَوِصَالاَ ...!
وَرُؤى مِنَ الأَشْبَاحِ فَوْقَ مَسَارِحٍ
هَتَفَ القَطيُع لَهَا وَشَدَّ عِقَالاَ ..!
وَمَضَيْتَ لَمْ تُسْلِمْ زِمَامَكَ لِلْعِدَى
صَبْراً عَلى مُرِّ الطِّرَادِ تَوَالى
وَمضَيْتَ في دَرْبٍ تَشُقُّ صُخُورَهُ
شَقَّاً وتَخْضُدُ شَوْكَهُ القَتَّالاَ
لَمْ يُحْنِ " إقلالٌ " جَبِيْنَكَ مَرَّةً
وَنَثَرْتَ مِنْ عِظَمَ النُّفُوسِ النَّالاَ (9)
لَمْ تَرْضَ مِنْ دُنْيَاكَ شَهْوَةَ طَامِعٍ
تُرْدِي البِلاَدَ وَتُسْلِمُ الأطْفَالاَ
لَمْ تَرْضَ زَخْرُفَهَا يُرَاقُ أَمَامَهُ
عِرْضٌ وَيَطْوِي القَهْرَ و الأَغْلاَلاَ
فَحَنَا لَكَ الأَعدَاءُ هَامَةَ صَاغِرٍ
وَعَلَوْتَ تَنْفَحُ للحَيَاةِ جَماَلاَ
***
*
***
وَرَجَعْتَ ..! أَنَّى طُفْتَ في ساحَاتِهَا
عَانَقْتَ أَعْمَامَاً بِهَا أَوْ خَالاَ
هِيَ أُمَّةٌ جَمَعَتْ عَلَى أَرْحَامِهَا
نَسَباً مِنَ الإِسلام طَابَ فِعَالاَ
وَحَمَلْتَ مِنْ نَفْحِ الجُدُودِ ، مِنَ التُّقَى
عَزْماً يَزُفُّ مِنَ البشَائِرِ فَالاَ
مَهْمَا يَطُلْ لَيْلٌ فإِنَّ صَبَاحَهُ
سَيُطلُّ يُوْقِظُ نُوَّماً وَكُسَالى
وَغَداً مِنَ الرَّحْمنِ تَلْقَى عِنْدَهُ
أَمْناً لِتُشْرِقَ بالسَّعَادَةِ بَالاَ
***
*
***
أَبَتَاهُ ..! يَا يَوْمَ النُّزُوحِ كَأَنَّهُ
يَوْمٌ تُرِيْدُ بِهِ الجِبَالُ زَوَالاَ
كَمْ مَرَّةٍ جُزْتَ الحُدُودَ وَكَمْ مَضَتْ
عَبْرَ الحُدُودِ خُطى تَخُوْضُ نِزَالاَ
واليَوْمَ أَمْوَاجٌ تُسَاقُ لِمهْمَهٍ
يَطْوِي عَلَى زُهْرِ الرَّغَابِ رِمَالاَ
***
*
***
أَبَتَاهُ ..! هَذِي الشَّامُ فانْزِلْ رَوْضَهَا
حُرّاً لِتَلْقَى شِيْمَةً وَخِلاَلاَ
المؤمنون مِنَ المَنابِرِ أَطْلَقُوا
مَدَدَ الجِهَادِ وأَقْبَلُوا أَرْتَالاَ
زَحَفَتْ ضِفَافُ النِّيلِ يَدْفُقُ مَوْجُهَا
وَضِفَافُ دِجْلَةَ والفُرَاتِ قِتَالاَ
وَتَلَفَّتَتْ مِنْكَ الضُّلُوعُ لِكيْ تَرَى
مَكْراً يُحَاكُ وخِدْعَةً وَخِتَالاَ
سَكَتَتْ بَنَادِقُنَا وَغَابَ دَوِيُّهَا
وَمَضَوْا عَلَى سَاحَاتِها قُفّالاَ
ضاعَتْ فِلَسْطِينُ النَّديَّةُ فَانْدُبي
يا نَفْسُ مِنْ حُلُمِ الجُفُونِ خَيَالاَ
وَنَهْضْتَ ...! لَكنَّ القَضَاءَ إِذَا أَتى
أَخَذَ النُّفُوسَ وَحَدَّدَ الآجاَلاَ(81/2)
وَنَزَلْتَ ..! والقَبْرُ النَّدِيُّ كَأَنَّهُ
يَرْوي عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ فِعَالاَ
***
*
***
يَا قَبْرُ أوِدعُكَ الأُبوَّةَ ، وَ الحَنَا
نَ وَدَمْعةً ، ورُؤى مَضَيْنَ عِجَالاَ
يَا رَوْضَةً ..! وَكَأَنَّني أَبْكِي بِهَا
صَفْوَ الحَنَانِ وَأنْدُبُ الأَطْلاَلاَ
وَكَأنَّني أَلْقَى عَلَى زَهَرَاتِهَا
حُلْوَ النَّدَى وَالبِشْرَ والآمَالاَ
بِالأمسِ أَوْدَعْتُ الأُمُومَةَ رَوْضَةً
وَسَقَيْتُهَا دَمْعاً هُنَالِكَ سَالاَ
يَا رَوْضَتَينَ ...! وَتِلْكَ دَعْوَةُ مُهْجَتي
لله ...! أُلْقِي ذلَّتي وسُؤَالاَ
أَنْ يَسْتَجِيْبَ وَأَنْ يُفِيْضَ بِرَحْمَةٍ
وَسِعَتْ تُنَدِّي العُمْرَ وَ الآجَالاَ
يا " غُوْطَةَ الشَّامِ " النَّديَّة رَفْرِفي
بِالطِّيْبِ مِنْ عُوْدَيْنِ عِنْدَكِ مَالاَ
مُدِّي غُصُونَكِ ، أَوْ أَطِلِّي بالنَّدَى
بَيْنَ النَّسِيمَ سَرَى هُنَاكَ وَجَالاَ
***
*
***
4/5/1398هـ
11/4/1978م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حين وثب بعصاه يضرب أحد دعاة القومية التركية .
(2) الذين يدعون إلى الخلافة .
(3) القومية .
(4) الفئة التي كانت تدعُو إلى الإقليمية والقومية لتمزيق ديار المسلمين .
(5) كنعان : جبل في مدينة صفد .
(6) ساحة : أي فلسطين وبلاد الشام .
(7) الانتداب الإنكليزي على فلسطين .
(8) ثورة 1936م .
(9) العطاء .(81/3)
أبجديّات حول خُرافة فصل الدّين عن الدّولة
أ. د. عماد الدين خليل 26/5/1426
03/07/2005
(1)
إن معنى أن يكون الله في السماء إله وفي الأرض إله هو أن يكون صاحب الكلمة الأولى هنا وهناك .. الحاكم والمشرّع هنا وهناك .. المالك والمدبر هنا وهناك .. المقدّر والمصرّف هنا وهناك..
إن القرآن يقولها صراحة (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ) .. والذين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة .. أو إعادة الدين إلى سماواته العليا ورفض تدنيسه بأوحال السياسة، كما يقولون، أو تحييد الدين وعدم تسييسه أو زجه بالسياسة، كما يشتهون، الذين يعلنون بأن ما لله لله وما لقيصر لقيصر.. إنما يقفون، شاؤوا أم أبَوْا، بمواجهة هذه القاعدة القرآنية الصارمة.. الواضحة .. وكأنهم يطلبون من الله سبحانه أن يسحب يديه من العالم، وأن يكتفي بحكم ما وراءه .. وحاشاه!!
ألا يدري هؤلاء بأن كلمة (ألوهيّة) لغة واصطلاحاً تعني الربوبيّة والحاكميّة، وأن من يكون إلهاً في أي مكان من الكون والعالم، يكون ربه وحاكمه بالضرورة؟
أفيكون الله إلهاً حاكماً في الكون.. وإلهاً غير حاكم في العالم، لا لشيء إلا ليفسح الطريق أمام الطواغيت والأرباب والفراعنة والكهنة لكي يستعبدوا الناس (لحسابهم) من
دون الله؟!
وما هي مصلحة جماهير الناس في أن يتنازلوا عن حريتهم وكرامتهم ومكانتهم في العالم لصالح حفنة من المتألهين في الأرض؟ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(1)..
(2)
إن آيات الحكم بدين الله في الأرض .. أي بمنهجه وتشريعه وقوانينه ونظمه.. واضحة، صريحة، بيّنة: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(2) ، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(3) ، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(4) ، (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ)(5)، وإن ألف محاولة للتعتيم عليها لن تزيدها إلا وضوحاً بحكم حقيقة الدين نفسه باعتباره طريقاً للخلاص، ورؤية شاملة للكون والحياة والإنسان، وبرنامجاً لصياغة الوجود البشري والتحقق بالوفاق مع المصير.. وإن أي شريعة أخرى يضعها هذا الطاغية أو ذاك، ويصنعها هذا الفرعون أو ذاك، ويخطط لها هذا الإله أو ذاك.. لن تزيد الإنسان إلا تفتّتاً وتمزقاً .. ولن تزيد الجماعة إلا تعاسة وشقاء .. ولن تتمخض إلا عن ارتطام محزن بين الوجود والمصير..
ثم إن هؤلاء الطواغيت كثيرون جداً، ومناهجهم وأديانهم كثيرة جداً، وكل منهم يدّعي- لسفهه وغروره وتألّهه- أنه هو صاحب الكلمة النهائية في هذا العالم، وأن طريقه هو الطريق .. فأي من هؤلاء تتبع حشود الناس، وكيف سيكون الناس ـ وهذا ما كان فعلاًـ لو أن كل جماعة منهم انتموا لهذا الطاغوت أو ذاك، وقاتلوا عنه، ورفضوا دعوة الفراعنة الآخرين؟
إن معضلة التاريخ البشري هي هذه، وإن الحل الأوحد هو هذا: الانتماء لدين الله الواحد.. لصراطه المستقيم الذي لا صراط غيره (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(6) .
(3)
فمن تريدون أن يشرّع لكم: الله المنزّه عن الميل والظن والهوى، أم العباد المترعون ميلاً وهوًى ، الممتلئون ظناً والذين تبين لكم في رحلة التاريخ البشري كم هم حريصون على عدم تجاوز مصالحهم الخاصة إلى مصلحة الإنسان، والتنازل عن مواقعهم المتفردة من أجل جماهير الناس؟
إن الدين يريدها أن تكون للناس جميعاً؛ لأن الله هو خالق الناس جميعاً، وربهم وإلههم .. والطواغيت يريدونها لهم أولاً، ولحفنة ممن يسبحون بحمدهم ويعززون سلطتهم في الأرض ثانياً.. ولا شيء وراء هذا وذاك ..
إما أن يكون الدين لله حيث يتساوى الناس جميعاً وتفتح أمامهم سبل الحياة الحرة العادلة، المتوحدة، الكريمة.. وإما أن يكون للطاغوت حيث الفتنة التي لن ينجو من ذيولها أحد .. الطاغوت ومن يسكت على حكم الطاغوت (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(7) .
(4)
إن المسألة في جوهرها صراع بين تحرير الإنسان من تألّه الطواغيت وبين خضوعه لألوهيتهم وطغيانهم .. ليس ثمة تفسير آخر للدين .. وما كان الله سبحانه وتعالى ليدع عباده يضربون بغير هدى، ويندفعون عبر رحلة التاريخ فوضى ذات اليمين وذات الشمال لكي ما يلبثوا أن يقعوا في مصيدة الاستعباد والإذلال ..(82/1)
إن الفراعنة ينتظرون في كل زمان ومكان لكي يضربوا ضربتهم، ولكي يبنوا على تيه الجماعات والأمم والشعوب مجدهم المدَّعى وتجبّرهم المرتجى.. إن الدين هو التحذير الذي يضرب به الله سبحانه وجوه هؤلاء الطواغيت على أيدي رسله كي لا يسترسلوا في طغيانهم، ويعمهوا في غيّهم .. وهو التحرير لجماهير الناس من كل ما يمسّ كرامتها ومكانتها وتفرّدها على العالمين .. وهو منهج حياة وبرنامج عمل لن يضل من ينتمي إليه ويعمل من خلاله.. إنه يوصد الأبواب أمام لعبة الطغيان ومأساتها.. فإن لم يدخل الدين ساحة الفعل والتحقق والمجابهة والصراع .. فمن يوقف الفراعنة عند حدهم؟ من يردهم على أعقابهم ؟ من يجردهم من سلاحهم ويكشف كيدهم؟
إنه ليس ثمة حل وسط .. فإما أن يكون الدين فاعلاً في التاريخ، معتمداً كل الأدوات التي تمكنه من أداء مهمته بما فيها (السياسة) و (الدولة)، وإما ألاّ يكون على الإطلاق .. فليس ثمة معنى لأن يُعبد الله في هذا المبنى أو ذاك .. في هذا الجامع أو الكنيسة، بينما عباد الله في الخارج يُستعبدون ويُستضعفون، ويُعبَّدون بالقسر والإكراه لمدعي الألوهيّة من الطواغيت والأرباب ..
لقد قالها الفاتحون الأجداد مراراً وسيقولها أحفادهم تكراراً: "جئنا لكي نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.." إن الدين هو حركة خروج في قلب الواقع من حال إلى حال، ولن يتحقق ذلك إلا بأن يمارس المنتمون للدين حقهم في تنفيذ هذا العمل التاريخي الدائم.. ما دام هنالك أبداً مَن تحدثه نفسه بأن يتسلط على رقاب الجماهير، ويكون
فرعونها المطاع..
هل يخلو التاريخ من هؤلاء؟
(5)
إننا إما أن نقبل الدين كاملاً أو أن نرفضه مزقاً وتفاريق .. وإلا أعدنا لعبة بني إسرائيل التي دمغها القرآن بالظلم والكفر والخزي (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(8) .
إن أي منهج أو قانون وضعي لا يمكن إلا أن يُقبل كاملاً، وليس من المعقول أن يقول مواطن ما في أية دولة: إنه ليعجبني هذا الجانب من القانون وسألتزم به، وينفرني ذلك الجانب ولن ألتزم به .. إنه حينذاك يعرض نفسه لعقاب السلطة التي تقوم مهمتها على حماية التنفيذ الكامل للقانون .. لماذا؟ لأن الانتقاء الكيفي سوف يعرض سياسة الدولة وبرنامج عملها للتمييع والتناقض، وسوف يقودها إلى التفكك والدمار..
أفيكون هذا شأن القوانين والنظم الوضعية، ولا يكون شأن القوانين والنظم الصادرة من عند الله.. لماذا؟ وكيف يُفسَّر هذا إن لم يكن في رغبة الطاغوت الحثيثة في تدمير الموقف الديني أساساً بكونه برنامج عمل شامل، وتفتيته وتمزيقه لكي يخلو له الجو فيفرض قانونه الذي لا رادّ له، والذي لن يسمح لأحد بأن ينتقي منه ويختار؟
لقد حذّر القرآن الكريم مراراً وتكراراً من أنه ليس ثمة أي مجال لممارسة لعبة الانتقاء هذه إزاء معطيات الدين، ووصف من يحاول ذلك بالكفر والمروق .. فالإنسان إما أن يكون مؤمناً بحق، منتمياً لمنهج الله، وإما ألاّ يكون على الإطلاق.. ذلك أن الانتماء لسلطتين في وقت واحد يعني بصراحة ووضوح: الشرك بالله واتخاذ أنداد من دونه.. وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلاً .. هذا إلى ما يحدثه الازدواج في الانتماء من تمزّق خطير على مستوى الإنسان الفرد والجماعة البشرية على السواء..
إن التاريخ البشري كله هو مصداق لهذا التفتت والدمار الذي يتمخّض أبداً عن الشرك بالله، بهذا المعنى، وإن دعاة خرافة الفصل يريدونها انتقاء كيفياً وازدواجاً في الانتماء، وشركاً بالله في نهاية المطاف ..
إنه إما انتماء لمنهج الله، وإما رفض له.. ويتهافت ـ من ثمّ ـ موقف أولئك الدعاة من أساسه، فليس ثمة موقف وسط على الإطلاق..
(6)(82/2)
إن (الإسلام) هو الالتزام الديني الأخير والنهائي، وهو ـ لذلك ـ يتميز بالشموليّة والامتداد، ويتضمن جوهر الأديان السماوية التي سبقته على الطريق ومهدت له، ومعطياتها الحيوية (الدايناميكيّة) بعد اطّراح سائر النسبيات التاريخية، وبعد هضم هذه المعطيات وتمثلها وصبغها (بصبغة) الدين الأخير.. وأي تصور، بعد هذا، أو محاولة لتصوّر نوع من التوازي أو التساوي الرياضي المطلق بين الإسلام وبين الأديان التي سبقته، إنما هو نكران صريح، ومرفوض، لتميّز هذا الدين (الإسلام)، وخصوصيته، وتفرده، ولـ(إلزامه).. وهو بالأحرى (لعبة) قد تكون دوافعها ساذجة بليدة أو ماكرة خبيثة لتجميد هذا الدين أو عزله أو شل فاعليته باسم موازاته مع الأديان السابقة وعدم التفريق بين ما أنزل الله .. وإنها للعبة يمارسها أدعياء خرافة فصل الدين عن الدولة لكي يوحوا للناس عامة وللمسلمين على وجه الخصوص بأن الأديان السابقة ما دامت ـ في تصورهم الخاطئ المستمد من انحرافات هذه الأديان، وليس جوهرها الأصيل ـ قد فصلت بين الدين والحياة، وأعطت ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، فإن موازاة الإسلام بها ومساواته معها يمنح القناعة بأن شقيقها هذا يتوجب أن يترك ـ هو الآخر ـ ما لله لله وما لقيصر لقيصر .. هكذا بهذا المنطق الساذج الماكر في الوقت نفسه .. على طريقة: إذا كانت الرياح الموسمية تسقط أمطارها في اليمن والصومال، وإذا كانت الهند تتلقى رياحاً موسمية.. فمعنى هذا أن اليمن والصومال تلتقيان مع الهند في مناخها جملة.. وربما في نظمها وعاداتها وتقاليدها!!
وإذا كان الله سبحانه، صاحب الشأن الأول والأخير في الدين، قد أصدر حكمه الحاسم الجازم بالتفريق المطلق الذي لا يقبل لجاجة ومناقشة وإنكاراً .. بين الإسلام وبين سائر الأديان السماوية الأخرى التي سبقته، رغم صدورها من منبع واحد .. فما شأن الإنسان؟
أجل .. ما شأن الإنسان؟!
(7)
قد نفهم تشبّث الطواغيت بخرافة الفصل بين الدين والدولة؛ لأنها الباب الوحيد الذي يمكّنهم من أن يظلوا هناك فوق الناس .. فوق الرقاب .. فوق القرناء والمنافسين.. آلهة متفردة تحكم بما تشتهي وما تريد، وتعطي ما تشتهي وما تريد، وتمنع ما تشتهي وما تريد.. ولكننا لا نفهم موقف هذا الحشد الكبير من الناس البسطاء المساكين الذين يُصرّون على التشبث بالخرافة فلا يزيدهم الإصرار والحماس إلا خضوعاً وعبودية واستسلاماً..
أهو الجهل والحماقة أن يختار الإنسان بمحض إرادته الدخول إلى حظائر الأغنام والنعاج ليكون واحداً من القطيع؟ أم هو الإرهاب الذي يُرغم المساكين، بالتلويح بالذبح، على التشبث بهذا التصور الخاطئ الذي لا يحقق لهم مصلحة ولا يضمن كرامة؟
أم ماذا؟
أما الكُتّاب والمثقّفون الذي يسخرون أقلامهم لتأكيد الخرافة والدفاع عنها، فهم ولا ريب بين ضالٍّ أو جاحد تدفعه نفسه المظلمة، لا عقله المضيء، إلى مواقع الباطل، وهم قلة على كل حال، وبين صنيعة أو مأجور تغريه (النقود) فيمارس بيع الأفكار بالمزاد، ويمنحها لمن يدفع أكثر .. هنالك حيث يستوي ـ كما يقول أحد الشعراء المعاصرين ـ الفكر بالحذاء .. وما أكثرهم!!
(8)
إذا استخدمنا التعابير المعاصرة فإن الدين (إستراتيجية) والسياسة (تكنيك) يخدم (الإستراتيجية) ويذلل الصعاب أمام أهدافها الكبرى..
الدين حركة والسياسة أداة ..
الدين منهج عمل شامل والسياسة طرائق للتنفيذ ..
وفي كل الأحوال لا نجد ثمة ما يدعو للفصل بين القطبين، بل على العكس، تحتم ضرورات التنفيذ والفعل والتحقق، التكامل بينهما..
إن (الدولة) ضرورة محتومة للدين إذا ما أُريد له أن يقول كلمته في العالم وينفذ برنامجه في الأرض..
وإن (الدين) ضرورة محتومة للدولة إذا ما أريد لها أن تكون في صالح الإنسان من أجل عالم أفضل وغد سعيد.. هنالك حيث يتحرر الإنسان ويتحقق الوفاق المرتجى بينه وبين سنن الحياة والعالم والكون..
وإن الذين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة لا يفهمون في الدين ولا في الدولة (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(9) .
________________________________________
(1) محمد 24 .
(2) المائدة 44 .
(3) المائدة 45 .
(4) المائدة 47 .
(5) المائدة 49 .
(6) الأنعام 156 .
(7) الأنفال 25 .
(8) البقرة 85 .
(9) المائدة 49ـ50 .(82/3)
أبحاث طبية في الحج
الدكتور حسان شمسي باشا
الحج موسم إسلامي فريد ، يتجمع فيه على بقعة واحدة ولعدة أسابيع أكثر من مليوني مسلم من جميع أنحاء العالم .. ولا شك أن الحج يفرض على الحاج عددا من الأمور ، فهناك مصاعب السفر ، والمشي أثناء تأدية الشعائر الدينية . وتقلبات الجو في مكة المكرمة والمدينة المنورة أثناء فصل الصيف ..
ولا غرابة إذن أن يشعر العديد من الحجيج بالتعب والإرهاق نتيجة التعرض لطارئ التغيرات ، كما أن ذلك قد يزيد الأعباء الملقاة على القلب والصدر أو الكليتين عند المصابين بمرض في هذه الأعضاء .
ولما كانت تأدية مشاعر الحج تتم في وقت محدد ، فإن العديد منهم يتردد في طلب الاستشارة الطبية ، رغم ما وفرته حكومة المملكة العربية السعودية من خدمات صحية مجانية للحجيج ، كما أن هناك عددا منهم يتعجل في طلب الخروج من المستشفى كي لا تفوته إحدى شعائر الحج .
ومما يسعد النفس أن نجد عددا من الدراسات الطبية قد نشرت حديثا في بعض المجلات الطبية . فكانت من بينها دراسة عن ضربات الشمس التي يتعرض لها الحجاج ، وأخرى عن المشاكل الطبية والجراحية التي تحدث عندهم بشكل عام ، ودراسات عن المشاكل الكلوية وأخرى عن التهاب السحايا وغيرها ..
التهاب الأمعاء أكثر الأمراض انتشار في الحج . نشر الدكتور حسن الغزنوي من جامعة الملك عبد العزيز بجدة عام 1988 م دراسة نشرت في مجلة Saudi Medical Journal قد أجريت على عدد من الحجيج ، وأظهرت الدراسة أن لتهاب المعدة والأمعاء كان أكثر الأمراض شيوعا بين الحجيج ، وخاصة عند المصريين والسوريين . وكان المسنون أكثر عرضة للإصابة به . أما السبب الثاني فكان التهاب الرئة حيث ترافق بنسبة عالية من الوفيات عند من هم فوق الخمسين .
ولكن السبب الرئيس للوفيات عند الحجاج كان ( ضربة الشمس Heat Stroke ) حيث كان مسؤولة عن 28% من الوفيات عند الحجاج . وكان المسنون والنساء أكثر عرضة للوفاة من الاختناق بسبب الازدحام أثناء رمي الجمرات .
أمراض القلب عند الحجيج
لا شك أن هناك العديد من مرضى القلب الذين يأتون إلى الحج كل عام . وقد قام الدكتور محمد يوسف من مستشفى الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة بإجراء دراسة في موسم حج عام 1413 هـ ، وخلال ذلك الموسم أدخل 754 حاجا إلى المستشفى مصابا بمشاكل طبية باطنية . وكانت نسبة المصابين بالأمراض الصدرية 73 % من الحالات ، في حين كان نسبة المصابين بمرض قلبي 61 % . وكان ربع مرضى القلب مصابا بمرض في شرايين القلب التاجية ، أما الربع الآخر فكان مصابا بارتفاع ضغط الدم
وبلغت نسبة الذين أصيبوا بجلطة في القلب Myocardial Infarction 16 % من الحالات . وللأسف فقد كان معظم المرضى مصابا بأكثر من مرض واحد .. وقد توفي خلال تلك الفترة 57 حاجا ، وكانت جلطة القلب مسؤولة عن نصف هذه الوفيات .
وأكد الباحث في بحثه الذي قدم في اجتماع جمعية أمراض القلب عام 1995 م أن توقف المرضى عن تناول الدواء كان السبب وراء دخول الكثيرين منهم إلى المستشفيات .. ومن المشاكل التي يواجهها الأطباء في معالجة الحجاج صعوبة التفاهم مع المريض بسبب عائق اللغة ، وعدم وجود تقارير طبية لدى المرضى تنبئ عن حالتهم الصحية قبل مجيئهم إلى الحج .
ضربة الشمس عند الحجيج
ضربة الشمس حالة طبية إسعافية تتميز بارتفاع درجة حرارة الجسم إلى ما فوق 40ْ م ، وانعدام التعرق ، وحدوث اضطرابات في الجهاز العصبي تتراوح ما بين الاختلاط الذهني وفقدان الوعي ( السبات ) . وفي المملكة العربية السعودية ، وحيث الحرارة أثناء فصل الصيف قد تصل إلى 48ْ م ، إن حالات ضربة الشمس عادة قليلة عند السكان المحليين نظرا لاعتيادهم على تحمل مثل تلك الدرجات . ولكن حدوث ضربة الشمس يزداد بشكل واضح أثناء موسم الحج ، حينما يأتي فصل الصيف ، عند الوافدين من الحجاج .
وتحدث حالات ضربة الشمس عادة في الأسبوعين الأولين من شهر ذي الحجة على الطريق المؤدية من مكة المكرمة إلى عرفات فمنى فمكة المكرمة ، بسبب الزحام والجو الحار وعوامل أخرى عديدة .. وقد وضعت حكومة خادم الحرمين الشريفين ترتيبات خاصة للوقاية ، ولعلاج حالات ضربات الشمس في مراكز متخصصة في مكة المكرمة ومنى وعرفات .. وتحتوي هذه المراكز على وحدات خاصة لتبريد الجسم أطلق اسم ( وحدات مكة المكرمة لتبريد الجسم )(83/1)
وقد نشرت المجلة الطبية السعودية عام 1986 م دراسة قورنت فيها طريقتان من طرق التبريد ، الأولى : وهي طريقة التبريد السريع بواسطة ( وحدة مكة المكرمة لتبريد الجسم) وأما الثانية : فكانت الطريقة التقليدية البسيطة للتبريد ، وذلك بتغطية جسم المريض بصفائح من الشاش المرطب مع رذاذ الماء العادي في درجة حرارة الغرفة على المريض ، وتعريضه لتيار هوائي من جميع الاتجاهات بمراوح كهربائية . ولم يكن هناك أي اختلاف يذكر في زمن التبريد ، أو النتائج النهائية بين المجموعتين ، مما يوحي بأن الطريقة العادية والبسيطة ما زالت وسيلة فعالة في علاج هذه الحالات .
ويعزو الباحثون سبب كثرة حدوث ضربة الشمس عند الحجيج إلى عدة عوامل منها :
1. ارتفاع حرارة الجو والرطوبة أثناء الليل عندما يكوم موسم الحج في الصيف .
2. ازدحام الحجيج وما ينجم عنه من قلة حركة الهواء .
3. عدم التعود على الجو الحار .
4. الأعمال المجهدة التي يقوم بها الحجاج كالمشي ، وخاصة في منتصف النهار وإصرار بعض الحجاج على صعود جبل الرحمة يوم عرفات ، والمسير لعدة كيلومترات .
5. ازدحام السيارات والباصات ، وعدم وجود مكيفات هوائية في العديد منها .
6. الإصابة السابقة للعديد من هؤلاء المرضى بأمراض مختلة كمرض السكري والأمراض القلبية وغيرها .
7. البدانة
8. الجفاف
9. الشيخوخة .
التغيرات القلبية في ضربة الشمس
نشرت مجلة Journal of Saudi Heart Association عام 1994 م عددا من الدراسات التي قدمها الباحثون في مؤتمر أمراض القلب الذي عقد في مدينة الدمام في شهر كانون الثاني يناير 1994 م . ومن هذه الأبحاث بحث قدمه الدكتور ليث ميمش من مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض ، حيث قام وزملاؤه بدراسة التغيرات التي تحدث في تخطيط القلب عند 28 مريضا أصيب بالإعياء الحراري Heart Exhanstion و 34 مريضا أصيبوا بضربة الشمس . وتبين أن تخطيط القلب كان غير طبيعي عند 29 من أصل 34 مريضا .
وكان تسرع القلب الجيبي Sinus Tachycardio هو الصفة الغالبة عند كثير من المرضى . كما كانت هناك تبدلات في تخطيط القلب توحي بوجود نقص في تروية العضلة القلبية .
وقدم الأستاذ الدكتور محمد نوح من مستشفى جامعة الملك خالد بالرياض دراسة أجريت على 51 حاجا مصابا بضربة الشمس بواسطة تخطيط القلب بالأمواج فوق الصوتية . فتبين أن 17 % من هؤلاء كان مصابا باضطراب موضعي في حركية عضلة القلب . كما حدث انصباب في التامور ( الغشاء المغلف لعضلة القلب ) في ربع الحالات .
الأمراض الطفيلية في الحج
أجرى الدكتور سروات من مستشفى النور بمكة المكرمة دراسة نشرت في مجلة J.Egypt Soc . Parasitology عام 1993 م حول نسبة حدوث الأمراض الطفيلية عند الحجاج . فكان من أكثرها شيوعا حدوث الاسهالات نتيجة الإصابات بطفيلي الجيارديا . وهو مرض شائع الحدوث في البلدان النامية ، ويمكن التعرف على هذا المرض بواسطة فحص البراز . كما يمكن معالجته بسهولة بواسطة عقار يدعى ( Flagyl ) Metronidazole كما شوهدت بعض حالات من الملاريا والبلهارسيا . وأكد الباحثون أن فحص البول والبراز يظل وسيلة فعالة جدا في تشخيص هذه الأمراض .
ينصح الحاج قبل مجيئه بمراجعة طبيبه ، والحصول على تقرير طبي بالحالة المرضية كما ينصح بالتزود بكمية كافية من الدواء كي لا ينقطع عن تناول أدويته الموصوفة له من قبل. وهناك عدد من الوصايا العامة للحجاج أهمها :
1. الاعتناء بنظافة الطعام والشراب ، وغسل الخضراوات والفواكه جيدا .
2. تجنب التعرض للشمس لفترات طويلة ، والابتعاد عن أماكن الازدحام قدر الإمكان
3. أخذ قسط كاف من الراحة والنوم .
4. ارتداء الملابس القطنية الخفيفة الواسعة والفاتحة اللون .
5. الإكثار من السوائل في الأيام الحارة وخاصة في يوم عرفات .
6. الإقلال من المجهود العضلي كالمشي في الأسواق عند اشتداد حرارة الجو
7. استشارة الطبيب فور الشعور بأي توعك أو مرض .
العودة إلى الصفحة الرئيسة(83/2)
أبشر أيها المريض
محمد الركبان
دار القاسم
الحمد لله مقد ر الأقدار، وكاشف الأسفام ودافع الأكدار.. والصلاة والسلام على نبيه المختار، وآله الكرام وصحبه الأخيار.. أما بعد:
فإلى من شاء الله ابتلاءهم بالشدائد والكروب..
وإلى من أراد تمحيصهم بالأسقام علام الغيوب..
فذاك مريض فقد صحته..
وآخر حار في معرفة سقمه وفهم علته..
وثالث خارت قواه وزالت بشاشته..
وهم - مع ذلك - ذاكرون شاكرون، وصابرون محتسبون.. تأملوا قول النبي { عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لاحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له } [رواه مسلم].
فوعوا الخطاب، وأعدوا له محكم الجواب..
فكم من نعمة لو أعطيها العبد كانت داءه، وكم من محروم من نعمة حرمانه شفاؤه.. وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم [البقرة:216].
أخي المريض، شفاك الله وعافاك!
ومن كل سقم وبلاء حماك..
قلب طرفك في هذه العجالة، وجل ببصرك بما فيها من عبارة ومقالة..
فهي وقفات مطعمة بنور الوحي، ومعطرة بعبير الرسالة..
أسأل الله تعالى أن يجعل في ذكرها عزاء، وفي دعائها شفاء، وفي أحكامها غناء.
الوقفة الأولى.. المتاع الزا ئل..
تلكم هي الدنيا التي اغتر بها كثير من الناس فجعلها منتهى أمله، و أكبر همه.. وصفها ربها بقوله: وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب [العنكبوت:640]، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [الحدبد:121].
وبين خليله حاله معها بقوله: { ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها } [رواه الترمذي].
ذلك أنه عرف منزلتها؟ وتبين له دنوها وحقارتها..
قال : { لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء } [رواه الترمذي]،
وهي مع ذلك لا يدوم لها حال، إن أضحكت قليلا أبكت كثير و إن سرت يوما أبكت أياما ودهورا..
لا يسلم العبد فيها من سقم يكدر صفو حياته، أو مرض يوهن قوته ويعكر مبا ته..
ومن يحمد الدنيا لعيش يسره *** فسوف لعمري عن قليل يلومها
ولذلك كانت وصية من عرف قدرها : { كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل } [رواه البخاري].
وهكذا.. من عرف حقيقة الدنيا زهد فيها.. ومن زهد فيها هانت عليه أكدارها ومصائبها..
الوقفة الثانية.. البلاء عنوان المحبة..
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : { إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما إبتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط } [رواه الترمذي].
فالبلاء والأسقام إذا كانت فيمن أحسن ما بينه وبين ربه ورزقه صبرا عليها كانت علامة خير ومحبه..
قال : { إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا.. } [رواه الترمذي].
ومن تأمل سير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة السلام - وهم من أحب الخلق إلى الله - وجد البلاء طريقهم، والشدة والمرض ديدنهم.. { دخل عبدالله بن مسعود على الرسول وهو يوعك، فقال: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا، قال : أجل، إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم.. } [متفق عليه]، وسأله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أي الناس أشد بلاء؟ قال : { أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا إشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، وما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة } [رواه الترمذي].
لقد تأمل السلف هذه العبارة، وأدركوا ما فيها من إشارة..
* فعدرا البلاء نعمة، والمرض والشدة بشارة..
ولهذا لما مر وهب بمبتلى، أعمى مجذوم، مقعد عريان، به وضح، كان يقول: الحمد لله على نعمه، فقال رجل كان مع وهب: أي شيء بقي عليك من النعمة تحمد الله عليها؟، فقال له المبتلى: إرم ببصرك إلى أهل المدينة، فانظر إلى أكثر أهلها، أفلا أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيري.
الوقفة الثالثة.. البلاء طريق الجنة..
إن الأمراض والأسقام من جملة ما يبتلي الله به عباده، امتحانا لصبرهم، وتمحيصا لإيمانهم.. بل هي - لمن وفق لحسن التأمل والتدبر - نعمة عظيمة توجب الشكر..
قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ .
الله أكبر.. أي فضل بعد صلوات الرب ورحمته وهداه؟
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : { يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقارض } [رواه الترمذي].
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : { ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها } [رواه مسلم].(84/1)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة } [رواه الترمذي].
{ وأتت امرأة إلى النبي ، فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي، فقال : إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، فقالت: أصبر } [متفق عليه]، { ودخل على أم السائب، فقال: ما لك يا أم السائب تزفزفين؟، قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد } [رواه مسلم].
قال ابن أبي الدنيا: كانوا يرجون في حمى ليلة كفارة ما مضى من الذنوب.
أخي الحبيب.. لعل لك عند الله تعالى منزلة لا تبلغها بعملك، فما يزال الله تعالى يبتليك بحكمته بما تكره ويصبرك على ما ابتلاك به، حتى تبلع تلك المنزلة.. فلم الحزن إذا؟!
الوقفة الرابعة.. الأجر الجاري..
من لطف الله تعالى ورحمته أنه لا يغلق بابا من أبواب الخير إلا فتح لصاحبه أبوابا.. فعلاوة على ما يكتب للمرضى من الأجر جزاء ما أصابهم من شدة ومرض وصبرهم عليه؛ لا يحرمهم ثواب ما إعتادوا فعله من الطاعات إذا قصروا عنها بسبب المرض.
فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : { إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما } [رواه البخاري].
فأي كرم بعد هذا الكرم، وأي فضل أوسع من فضل مسدي النعم..؟
راحة العبد من العمل، وكتابة أجر ما كان يعمل..
الوقفة الخامسة.. لا بد للعسر من يسر..
هذه سنة الله تعالى في خلقه.. ما جعل عسرا إلا جعل بعده يسرا.. والأمراض مهما طالت وعظمت لا بد لأيامها أن تنتهي، ولا بد لساعاتها - باذن الله - أن تنجلي.
ولرب نازلة يضيق بها الفتى*** ذرعا و عند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكان يظنها لا تفرج
قال وهب بن منبه: لا يكون الرجل فقيها كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة ويعد الرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب البلا ينتظرالرخاء وصاحب الرخاء ينتظر البلاء..
قال تعالى: فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا [الشرح:5-6].
الوقفة السادسة.. غنيمة المرض..
لو تأمل المريض فوائد مرضه وحسناته ما تمنى زواله..
فبالرغم مما فيه من تكفير للسيئات، ورفع للدرجات، وكتابة أجر ما كان يعمل من الصالحات، فيه أيضا فرصة عظيمة لمن وفق لاستغلال الأوقات..
فالمريض يحصل له في حال مرضه من أوقات الافراغ ما لا يحصل له فيما سواه.
فاحرص - رعاك الله - على استغلال أوقاتك في ما يقربك من الله، من قراءة للقرآن وحفظه. وطلب للعلم واستزادة من النوافل، وأمر بالمعروف ونهي عى المنكر، ودعوة الى الله... واعلم - شفاك الله وعافاك - أن المسلم مأمور باتباع أوامر الله تعالى في سرائه وضرائه، وفي حال صحته وبلائه..
الوقفة السابعة.. النعم المغبونة..
لا يقدر نعم الله تعالى إلا من فقدها..
وكأني بك وقد أنهك المرض جسدك، وأذهب السقم فرحك، أدركت قوله : { نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ } [رواه البخارى].
فالصحة من أجل النعم التي أنعم الله بها علينا، لا يقدرها إلا المرضى..
وهكذا.. فكم من النعم قد غفلنا عنها، وكم من النعم قد قصرنا بواجب شكرها..
وأجل تلك النعم وأعظمها.. نعمة الايمان والهداية..
فكم من الناس قد غبنها، فلم يقوموا بواجب شكرها، وتكاسلوا عن الاستقامة عليها..
وحين تلوح لك بوادر الشفاء، وتسعد ببدء زوال البلاء، اقدر لهذه النعم قدرها، واعرف فضل وكرم منعمها، وتدبر حالك عند فقدها أو نقصها، فأعلن بذلك توبة نصوحا من تقصيرك في شكر كل نعمة، وتفريطك في استعمالها فيما يرضي ذا الفضل والمنة..
اجعل توبتك الآن.. نعم، الآن.. عل هذه التوبة أن تكون سببا في رفع ما أنت فيه من كربة، ودفع ما تعانيه من شدة.. قال علي رضي الله عنه: "ما نزل بلاء إلا بذنب ولارفع إلا بتوبة"..
وإن لم يكتب لك من مرضك شفاء، فنعم يختم العمر به توبه صادقة..
الوقفة الثامنة.. لكل داء دواء..
من رحمة الله تعالى أن المرض مهما بلغ من الشدة والعناء، وشاء الله للعبد الشفاء، يسر له دواء ناجحاً، وعلاجا نافعاً..
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء } [متفق عليه]،
لكن الشفاء - بعد توفيق الله - لا بد له من أمور:
منها.. حسن التوكل على الله والالتجاء إليه وحسن الظن به.. فهذا خليل الرحمن يصدع في يقين الواثق: وإذا مرضت فهو يشفين [الشعراء:80].
فلا شافي إلا الله، ولا رافع للبلوى إلا هو سبحانه..
والراقي والرقية والطبيب والدواء أسباب قد يسر الله تعالى بها الشفاء..
فاجعل توكلك على الله وتعلقك به لتظفر بالصحة والعافية في الدنيا، والسلامة والفوز في الآخرة..
فإذا ابتليت فثق بالله وارض به *** إن الذي يكشف البلوى هو الله(84/2)
وهوسبحانه حكيم عليم لايفعل شيثا عبثا، ورحيم تنوعت رحماته، لا يقفي قضاء إلا كان خيرا للعبد، قال : { عجبت للمؤمن!! إن الله عز وجل لم يقض له قضاء إلا كان خيرا له } [رواه أحمد].
ومنها.. التدواي بالرقى الشرعية من الكتاب والسنة..
قال تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [:82].
فاحرص - شفاك الله - على رقية نفسك بالقرآن وما ورد في السنة النبوية، فهي من أنفع الأسباب لزوال العلة، وكشف الكربة.. وذلك كقراءة سورة الفاتحة، والبقرة، والإخلاص، والمعوذتين.. وغيرها، والقرآن كله شفاء ورحمة..
ومما ورد من الأدعية والأذكار ما جاء عن عائشة رضي الله عنها: { أن رسول الله كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي بأصبعه هكذا - ووضع سفيان بن عيينة - أحد الرواة - سبابته بالأرض ثم رفعها - وقال: "بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا، بإذن ربنا"} [متفق عليه]، وعنها رضي الله عنها: { أن النبي كان يعود بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس أذهب الباس، واشف، أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما" } [متفق عليه].
وعن عثمان بن العاص رضي الله عنه: { أنه شكا إلى رسول الله وجعا يجده في جسده، فقال : "ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثاً وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"} [رواه مسلم].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي قال: { من عاد مريضا لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات: أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا عافاه الله من ذلك المرض } [رواه ابو داود والترمذي].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه،{ أن جبريل أتى النبي فقال: يا محمد اشتكيت؟ قال: نعما، قال: "بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك" } [رواه مسلم].
وعن ابن عباس رضي الله عنه، { أن النبي كان يدعو عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم" } [متفق عليه].
وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله : { دعوة ذي النون، إذ دعا وهو في بطن الحوت "لا إله إلا انت سبحانك إني كنت من الظالمين" فانه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له } [رواه الترمذي].
لكن هده الأدعية والرقى تريد قلبا خاشعا، وذلا صادق، ويقينا خالصا، لا ترديدا على سبيل التجربة والاختبار..
ومنها... الد عاء..
علاوة على ذكر من الأدعية والرقى فإن دعاء الله تعالى والألتجاء إليه من أعظم ما ينفع.. بل قد يكون هدف الكربة ومقصدها، قال تعالى: فأخذناهم بالباساء والضراء لعلهم يتضرعون [الأنعام:42].
أما خطر ببالك أنه سبحانه ابتلاك بهذا المرض ليسمع صوتك وأنت تدعوه، ويرى تضرعك وأنت ترجوه..
فارفع يديك وأسل دمع عينيك، وأظهر فقرك وعجزك، واعترف بذلك وضعفك، تفز برضى ربك وتفريج كربك..
ومنها.. ا لاستعانة بالصلاة..
قال تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة
{ وكان رسول الله إذا حزبه أمر صلى } [رواه أحمد].
ومنها.. الإكثار من الصدقة..
فعن اي أمامة رضي الله عنه، { أن النبي قال: "داووا مرضاكم بالصدقة" } [صحيع الجامع]
ومنها.. التداوي بما ورد أنه شفاء..
كالعسل والحبة السوداء وماء زمزم والحجامة...
ومنها.. التداوي بما أحله الله من الأدوية المباحة..
الوقفة التاسعة.. احذر مزالق الشيطان..
فهو لا يفتأ يتربص بالمسلم في حال قوته وضعفه..
فاحذر - رعاك الله - من مزالقه.. ومنها:
- إساءة الظن بالله أو التسخط والجزع..
قال : { إن الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن بي خيرا فله، وإن ظن شرا فله } [رواه أحمد وبن حبان]، يعني ما كان في ظنه فإني فاعله به.
- إشاعة المرض، أو استطالة زمنه..
فاحرص على كتم آلامك وأحزانك، واحذر من إشاعة مرضك، والتحدث به على سبيل الشكوى والاعتراض.. لا على سبيل الاعلام والإخبار..
قال معروف الكرخي: إن الله ليبتلي عبده المؤمن بالأسقام والأوجاع، فيشكو الى أصحابه فيقول الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي ما ابتليتك بهذه الأوجاع والأسقام الا لأغسلك من الذنوب فلا تشكني..
- إضاعة الأوقات فيما لا ينفع، أو فيما يسخط الله من إستماع أو نظر أو فعل محرم..
- التهاون في ستر العورات..
- التداوي بالمحرمات..
قال : { إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام } [رواه أبو داود].
ومن أشد هذه المحرمات.. إتيان السحرة والكهنة، قال : { من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بها أنزل على محمد } [رراه أحمد والحاكم].
وهو طريق الخزي والمحق في الدنيا، والخسارة والذلة في الآخرة.. ولئن يصبر العبد على مرارة المرض وشدته خير له من أن يسلك طريقأ يفضي به إلى النار..
الوقفة العاشرة.. من أحكام المرضى..
الطهارة..(84/3)
- يجب على المريض أن يتطهر بالماء بأن يتوضأ من الحدث الأصغر، ويغتسل من الحدث الأكبر، فإن لم يستطع ذلك لعجزه أو لخوفه من زيادة المرض أو تأخر برئه تيمم، وذلك بأن يضرب بيده على تراب طاهر له غبار ضربة واحدة، ثم يمسح وجهه بباطن أصابعه، وكفيه براحتيه.
والعاجز عن استعمال الماء حكمه حكم من لم يجد الماء لقوله تعالى: فاتقوا الله ما اسطعتم [التغابن:16].
- إن كان مرضه يسيرلا يخاف من استعمال الماء معه تلفا، ولا مرضا مخوفا، ولا إبطاء برىء، ولا زيادة ألم، ولا شيئا فاحشا، كصداع وألم ضرس، ونحوهما، أو كان بإمكانه استعمال الماء الدافيء ولا ضرر عليه فلا يجوز له التيمم.
- إن كان لا يقدر على الحركة ولا يجد من يناوله الماء جاز له التيمم. فإن كان لا يستطيع التيمم يممه غيره.
- إذا كان المريض في محل لم يجد ماء ولا ترابا ولا من يحضر له الموجود منهما، فإنه يصلي على حسب حاله.
- إن تلوث بدنه أو ملابسه او فراشه بالنجاسة ولم يستطع إزالتها أو التطهر منها، جاز له الصلاة على حالته التي هو عليها ولا إعادة عليه.
- لا يجوز له تأخير الصلاة عن وقتها بأي حال من الاحوال بسبب عجزه عن الطاهرة أو إزالة النجاسة أو عدم توفر الماء أو التراب.
- من به جروح أو حروق أو كسر او مرض يضره استعمال الماء فأجنب جار له التيمم، وإن أمكنه غسل الصحيح من جسده وجب عليه ذلك، وتيمم للباقي.
- المريض المصاب بسلس البول أو استمرار خروج الدم او الريح، ولم يبرأ بمعالجته، عليه أن يتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها، ويغسل ما يصيب بدنه وثوبه، أو يجعل للصلاة ثوبا طاهرا إن تيسر، ويحتاط لنفسه احتياطا يمنع انتشار البول أو الدم في ثوبه أو جسمه أو مكان صلاته. وما خرج في الوقت من البول فلا يضره بعد وضوءه إذا دخل الوقت.
وله أن يفعل في الوقت ما تيسر من صلاة وقراءة في مصحف حتى يخرج الوقت فإذا خرج الوقت وجب عليه أن يعيد الوضوء، أو تيمم إن كان لا يستطيع الوضوء.
- إن كان عليه جبيرة يحتاج إلى بقائها مسح عليها في الوضوء والغسل، وغسل بقية العضو، وإن كان المسح على الجبيرة أو غسل ما يليها من العضو يضره كفاه التيمم عن محلها وعن المحل الذي يضره غسله.
- يبطل التيمم بكل ما يبطل الوضوء وبالقدرة على استعمال الماء أو وجوده إن كان معدوما.. والله أعلم.
الصلاة..
- أجمع أهل العلم على أن من لا يستطيع القيام له أن يصلي جالسا، فإن عجز عن الصلاة جالسا صلى على جنبه مستقبلا القبلة بوجهه، والمستحب أن يكون على جنبه الأيمن، فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى مستلقيا.
- من قدر على القيام وعجز عن الركوع أو السجود لم يسقط عنه القيام، بل يصلي قائما فيومىء بالركوع، ئم يجلس ويومىء بالسجود.
- إن كان بعينه مرض، فقال ثقات من الأطباء: إن صليت مستلقيا أمكن مداواتك وإلا فلا، فله أن يصلي مستلقيا.
- من عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل السجود أخفض من الركوع، وإن عجز عن السجود وحده ركع وأومأ بالسجود.
- إن لم يمكنه أن يحني ظهره حنى رقبته، وإن كان ظهره متقوسا فصار كأنه راكع، فمتى أراد الركوع زاد في إنحنائه قليلا، ويقرب وجهه إلى الأرض في السجود أكثر من الركع ما أمكنه ذلك.
- من لم يقدر على الإيماء برأسه كفاه النية والقول.
- متى قدر المريض قي أثناء الصلاة على ما كان عاجزا عنه، من قيام أو قعود أو ركوع أو سجود أو إيماء، انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلانه.
- إذا نام عن صلاة أو نسيها وجب عليه أن يصليها متى اسيقظ أو ذكر.
- لا يجوز ترك الصلاة بأي حال من الأحوال، بل يحرص عليها أيام مرضه أكثرمن أيام صحته، فلا يجور له نرك الصلاة المفروضة حتى يفوت وقتها ولو كان مريضا ما دام عقله ثابتا، بل عليه أن يؤديها في وقتها حسب استطاعته، فإذا تركها عامدا وهو عاقل مكلف يقوى على أدائها أو إيماء بها فهوآثم. وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى كفره بذلك.. وهو الصحيح.
- إن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، جمع تقديم أو جمع تأخير، حسبما تيسر له.. والله أعلم.
الصيام..
- للمريض مع الصوم ثلاث حالات.
1- أن لا يشق عليه الصوم ولا يضره فيجب عليه الصوم.
2- ان يشق عليه الصوم فيكره له أن يصوم.
3- أن يضره الصوم فيحرم عليه أن يصوم.
- إذا كان لا يمكنه القضاء لكون مرضه مما لا يرجى برؤه أطعم عن كل يوم مسكينا. أما إن كان يمكنه القضاء فيصوم بعدد الأيام التي أفطرها بسبب المرض.
- يفسد صومه إذا صام بكل ما في معنى الأكل والشرب كحقن الإبر المغذية، وحقن الدم..، أما الإبر التي لا تغذي فلا تفطر سواء استعملها في العضلات أم الوريد، وسواء وجد طعمها في حلقه أم لم يجده.
- يفسد صومه- على الراجح- بالحجامة ونحوها، فأما خروج الدم بنفسه كالرعاف أو خروجه بقلع سن ونحوه فلا يفطر.
- القيء إن قصده أفطر، وإن قاء من غير قصده لم يفطر.(84/4)
- يجوز للصائم قلع ضرسه أو مداواة جرحه، والتقطير في عينه أو أذنيه، أو أن يبخ في فمه ما يخفف عنه ضيق التنفس، ولا يفطر بذلك.. والله أعلم.
أخي المريض..
شفى الله سقمك، وعظم أجرك، وكفر ذنبك، ورزقك العافية في دينك وبدنك..(84/5)
أبشري
مفكرة الإسلام: سوف تقولي وما البشرى خاصة بعدما سمعناه من قبل عن سوء الخاتمة؟
لابد أخيتي أن تعرفي أن سوء الخاتمة هو نهاية من حادت عن الصراط وعصت الرحمن واتبعت الشيطان فنالت جزاءها من العقاب وأما من أطاعت ربها وحفظت دينها فهي المبشرة بكل خير ويختم لها على خير حال.
علامات حسن الخاتمة:
المبشرات:
1- نطقها بالشهادة عند الموت:
قال رسول صلى الله عليه وسلم: 'من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة' رواه أبو داود وحسنه الألباني.
2-الموت برشح الجبين:
لحديث بريدة الخطيب رضي الله عنه: أنه كان بخراسان فعاد أخًا له وهو مريض فوجده بالموت، وإذا هو يعرق جبينه فقال الله أكبر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: 'موت المؤمن بعرق الجبين' رواه أحمد وحسنه الحاكم.
3- الموت ليلة الجمعة أو نهارها:
لقوله صلى الله عليه وسلم: 'ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر .... ' رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني.
4- من سأل الله الشهادة بصدق ومات على ذلك:
قال صلى الله عليه وسلم 'من سأل الله الشهادة بصدق, بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه' أخرجه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي.
5- القابض على دينه في وقت الفتن:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'إن من روائكم زمانَ صبرٍ، للمتمسك فيه أجرُ خمسين شهيدًا منكم' رواه الطبراني، وصححه الألباني.
6-الموت على عمل صالح:
قال صلى الله عليه وسلم: 'من خُتم له بصيام يومٍ دخل الجنة' بإسناد صحيح
وقال صلى الله عليه وسلم: ' ... ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخل الجنة'
وقال صلى الله عليه وسلم: 'إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا استعمله'، قيل: كيف يستعمله؟ قال: 'يوفقه لعمل صالح قبل الموت، ثم يقبضه عليه' رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
أسباب حسن الخاتمة:
1- إقامة التوحيد لله جل وعلا:
إن أمر العقيدة ليس أمرًا ثانويًا حتى نؤجله أو نؤخره، بل هو الأساس الذي يقوم عليه الدين كله... فالإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة وتلك الشريعة تنظم شئون الحياة ولا يقبل الله من قوم شريعتهم حتى تصحُّ عقيدتهم.
قال صلى الله عليه وسلم: 'من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، وأن عيسى عبدُ الله ورسوله وكلمتُهُ ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنة حقُ والنارَ حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ' أخرجه مسلم وأحمد
2-التقوى
فالتقوى من أعظم الأسباب التي تقودنا إلى حُسن الخاتمة
فهي سبب لتكفير السيئات ومغفرة الذنوب
قال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]
وهي سبب لقبول الأعمال ..
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]
سبب لتيسير السكرات على العبد المؤمن .. قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4]
سبب للنجاة من المهالك ..
قال تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً [71] ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [72]} [مريم: 71، 72]
وجاء سائل لأبي هريرة رضي الله عنه يسأله عن التقوى فقال أبو هريرة: 'هل أخذت طريقًا ذا شوك؟ قال السائل: نعم، قال أبو هريرة: فكيف صنعت؟ قال السائل: إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه.
قال أبو هريرة : ذاك التقوى'
فأخذ ابن المعتز هذا المعنى الكبير وترجمه في هذه الأبيات المعبرة فقال:
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التُّقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
3- الاستقامة:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [30] نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [31] نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [ فصلت: 30ـ 32 ]
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سئل عن الاستقامة: 'أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب'.
فالاستقامة تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات، فالاستقامة فيها: ووقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله .(85/1)
عن عبد الله بن المبارك قال: قيل لوهيب بن الورد: أيجد طعم العبادة من يعصي الله؟ قال: لا، ولا من هم بمعصية.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقتٍ وهكذا تكون الاستقامة على الطاعة .
4-الإكثار من ذكر الموت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'أكثروا من ذكر هادم الذات: الموت' فنجده يردع عن المعاصي ويُلين َّ القلب القاسي, ومن أكثر من ذكر الموت أُكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة وقناعة القلب ونشاط العبادة ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة وترك الرضا بالكفاف والتكاسل في العبادة.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، وكان يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذاكرون الموت والقيامة ثم يبكون، حتى كأن بين أيديهم جنازة.
5- الصدق:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]
قال صلى الله عليه وسلم: 'وما زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا' أخرجه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم: 'من سأل الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه' أخرجه مسلم
6- حسن الظن بالله:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر' رواه الطبراني
فيا أخيتي أحسني الظن بالله ولا تموتن إلا وأنتِ تحسنين الظن به فهو حبيبكِ وهو راحمكِ وهو رازقكِ.
7- التوبة:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم : 8]
وقال صلى الله عليه وسلم: 'إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر' رواه الترمذي وحسنه الألباني
8- الدعاء:
فتوجهي إلى الله عز وجل بالدعاء وابكي وتذللي بين يديه سبحانه بأن يثبت قلبك ويرزقك حُسن الخاتمة.
9- قصر الأمل والتفكر في حقارة الدنيا:
وقال عمر رضي الله عنه: التؤدة في كل شيء خير، إلا ما كان من أمر الآخرة.
فاغتنمي أخيتي فرصتك فمن انشغلت بآخرتها عن دنياها كانت همتها في الطاعة عالية, وهذا من أعظم السبل إلى حسن الخاتمة.
10- البعد عن أسباب سوء الخاتمة:
وقد سبق وردها في المقالة السابقة
خاتمة الصالحات ... فهنيئًا لهن
ماتت ساجدة
ها هي عجوز بلغت الثمانين اعتزلت النساء لما وجدت في جلساتهن من تضيع الأوقات إن لم يكن غيبة ونميمة، فجلست في بيتها تذكر الله عز وجل أناء الليل وأطراف النهار ووضعت لها سجادة في البيت تقوم من الليل أكثره.
وفي ليلة قامت لتصلي وفي آخر الليل أخذت تنادي على ابنها الوحيد وكان بارًا بها فقدم إليها فإذا هي على هيئة السجود وتقول: يا بني ما يتحرك الآن سوى لساني فأصر أن يذهب بها إلى المستشفى ولكن لا ينجي حذر من قدر فلم يستطع الأطباء فعل شيء فطلبت من ولدها أن يعود بها إلى البيت ويوضئها ويعود بها إلى سجادتها ففعل فقامت تصلي: وقبل الفجر بوقت قليل إذا بها تنادي ابنها: يا بني استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله لتلفظ نفسها إلى بارئها سبحانه وتعالى فقام ولدها فغسلها وهي ساجدة وكفنها وهي ساجدة وصلوا عليها وهي ساجدة وذادوا في عرض القبر ودفنت وهي ساجدة ومن مات على شيء بعث عليه.
الرحيل:
ها هي فتاة في مقتبل العمر يومها صيام وقرآن وقيام ولها مصلى خاص بالمنزل وهذا قبل أن يصبها المرض الخبيث وتسقط طريحة الفراش. تروي لنا أختها الصغرى والتي كانت على العكس فلا تنتظم في الصلاة ولا تترك الفيديو والمسلسلات تقول كثرت أختي لنصحي وفي يوم جلست معي وذكرتني بالموت وأن العمر ليس طويلا وأننا محاسبون على كل صغيرة وكبيرة وأخذت تذكرني بفلانة وفلانة اللاتي متن رغم صغر سنهن قلت لها ظننت أنك توافقيني على السفر هذه الإجازة فقالت: وهي تتفجر بالبكاء ربما أسافر سفر آخر سفر بعيد .. سكت فإذا بها تنظر إلي وتقول لا تظني أني أقول هذا لأني مريضة، لا ربما أعيش أكثر من الأصحاء، وأنت إلى متى ستعيشين؟ ربما 20 سنة أو40 ثم ماذا؟ فلا فرق بيننا كلنا سنرحل وسنغادر هذه الدنيا إما إلى الجنة أو إلى النار وفي اليوم التالي وفي ساعة مبكرة طرق على الباب وبكاء وأصوات .. ماذا جرى؟ لقد ترديت حالة أختي وذهب بها أبي إلى المستشفى أخبرتني أمي أن حديث أبي في الهاتف غير مطمئن وأن صوته متغير(85/2)
وذهبت أنا وأمي إلى المستشفى إنها بغرفة العناية المركزة دخلت أمي أولاً وخرجت وهي لا تستطيع إخفاء دموعها ثم دخلت وسلمت عليها وجلست على حافة السرير ولامست ساقها فأبعدته عني قلت آسفة إذا ضايقتك قالت: كلا ولكني تفكرت في قول الله تعالى: 'والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق'
عليك بالدعاء لي ربما استقبل عما قريب أول أيام الآخرة سفري بعيد وزادي قليل سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت لم أنتبه أين أنا استمرت عيناي في البكاء وانطويت في غرفتي بعدها ... دخلت عليّها ابنة خالتي ابنة عمتي أحداث سريعة .. كثر القادمون اختلطت الأصوات .. شيء واحد عرفته أختي ماتت لم أعد أميز من جاء ولا أعرف ماذا قالوا تذكرت من دعت لي بالهداية من ذرفت دموعها ليالي طويلة وهي تحدثني عن الموت والحساب ... هذه أول ليلة لها في قبرها
اللهم ارحمها ونور لها قبرها هذا مصلاها .. هذا مصحفها .. هذه سجادتها تذكرتها وبكيت على أيامي الضائعة ودعوت الله أن يتوب علي ويعفو عني .. ويثبتها في قبرها.
زفاف إلى الجنان:
الليلة موعد زفافها .. كل الترتيبات قد اتخذت.. الكل مهتم بها أمها وأخواتها وجميع أقاربها بعد العصر ستأتي الكوافيره لتقوم بتزيينها. الوقت يمضي لقد تأخرت الكوافيره ها هي تأتي ومعها كامل عدتها .. وتبدأ عملها بهمة ونشاط والوقت يمضي سريعًا وينطلق صوت الحق إنه آذان المغرب. العروس تقول بسرعة فوقت المغرب قصير. الكوافيره تقول نحتاج لبعض الوقت اصبري فلم يبق إلا القليل ويمضي الوقت ويكاد وقت المغرب أن ينتهي تصر العروس على الصلاة والجميع يحاول أن يثنيها على عزمها .. إنك إذًا توضئتي فتهدمي كل ما عملناه في ساعات وتأتيها الفتاوى بأنواعها فتارة اجمعي المغرب مع العشاء وتارة تيممي لكنها تعقد العزم وتتوكل على الله فما عند الله خير وأبقى وتقوم بشموخ المسلم لتتوضأ ضاربة بعرض الحائط نصائح أهلها وتبدأ الوضوء وتفرش سجادتها لتبدأ الصلاة 'الله أكبر' نعم الله أكبر مهما كلف الأمر . وها هي في التشهد الأخير من صلاتها وهذه ليلة لقائها مع عريسها قد أنهت صلاتها وما أن سلمت على يسارها حتى أسلمت روحها إلى بارئها ورحلت طائعة لربها عاصية لشيطانها.
أسأل الله أن تكون زفت إلى جنانها
أخيتي هؤلاء الفتيات لم يكن في كوكب ونحن في كوكب آخر ولكنهن كن على نفس الأرض تحت نفس السماء في نفس ظروفها فهيا نسلك دربهن ولا تتردد(85/3)
أبطال الإسلام في موكب النبوة الخالد
د. منير محمد الغضبان(* المؤلِّف: هو أستاذنا محمد فاروق بطل الداعية الإسلامية السوري، والأستاذ الجامعي بجامعة الملك عبد العزيز لمادة فقه السيرة بقسم الدراسات الإسلامية.
ونتحدث عنه أستاذاً في الدعوة قبل أن نتحدث عنه أستاذاً في الجامعة، فقد كان في عيونناً رمزاً من رموز الدعوة الإسلامية وقائداً من قياداتها قرابة خمسين عاماً، حين كنت فتى مراهقاً في الصف الثالث الإعدادي، وآتي من قريتي لسماع حديث الثلاثاء بالمركز العام للإخوان المسلمين بدمشق كان محمد يستقبلنا بابتسامته المعهودة، وتشجيعه اللطيف، وهو لا يزال طالباً جامعياً حيث كان مديراً للمركز، ومن توجيهاته وتوجيهات إخوانه وتشجيعاتهم وهم الشباب الأقرب لقلوبنا أحببنا هذه الدعوة وسرنا قدماً فيها.
لقد أمضى حياته جندياً في هذه الدعوة منذ أكثر من نصف قرن، ووصل إلى أعلى مواقع المسؤولية فيها، حيث كلف بمهمة المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية حين كان رئيساً لمجلس الشورى فيها.
عمر مديد بالعطاء والعمل، لا يعرف الوهن ولا الكلل تراه دائماً يدفع بالقاعدين إلى العمل ولا يتحدث إلا عن المستقبل المشرق لهذا الدين، لم تعقه إعاقته في يده. بل أدخلته في سلك العظماء المعاقين أمثال شيخنا أحمد ياسين، لا تجد مجالاً لا ينشط فيه، يضع الهدف بين عينيه، ويمضي بكل قوته إليه، متحدياً الصعاب، ومذللاً لها حتى يحقق الهدف، ولا ينتظر غيره ليعمل، يسعى لأن يكون المبادر الأول والمغامر الرائد ليقيم الحجة على القاعدين وعلى العاملين ، وتعجب من أين يأتي بهذه الطاقة، وكيف يوفق بين التدريس في الجامعة، والحديث في الإذاعة، والدعوة إلى الله في صفوف الشباب ومهمة إدارة دفة العمل وتذليل الصعاب، والسفر إلى أصقاع الأرض داعياً إلى الله في الشرق والغرب؟.
تعريف بالمؤلَّف
اسم الكتاب: أبطال الإسلام في موكب النبوة الخالد طباعة دار نور المكتبات بجدة، ويتكون من خمسة مجلدات، وقدم الأخ فاروق تمهيداً عن حاجة الصحوة الإسلامية إلى القدوة، وأن صحابة رسول الله { هم القمم العليا للبشرية التي تربت على يد سيد البشرية محمد {. ومن أجل هذا جاء هذا الكتاب.
استعرض الجزء الأول حياة عشرة من سادات الأنصار، على رأسهم سعد بن معاذ رضي الله عنه.. من اهتز عرش الرحمن لوفاته في عشر حلقات، ومعاذ بن جبل في ثماني حلقات وهو إمام العلماء ومن أقسم رسول الله { إنه يحبه، وكانت لفتة كريمة من الأخ أبي عمار أنه أعطى المرأة المسلمة حقها في الوقت الذي يغفل فيه الكثير من الباحثين عن ذلك، فكانت الترجمة لصحابيتين من هؤلاء العشرة في أسلوب أدبي مؤثر دون أن يكون على حساب المادة العلمية.
بينما تناول حياة عشرين صحابياً في الجزء الثاني بينهم أم هانئ رضي الله عنها موزعين بين المهاجرين والنصار، وكان عمق علمه في هذا الاختيار أنه أحسن التنويع عندما ذكر المهاجرين من قبائل العرب عامة.
فتميم الداري مثلاً رضي الله عنه من أواخر الصحابة إسلاماً قدم له بذكر حديث النبي { به "نوَرت الإسلام، نور الله عليك في الدنيا والآخرة، أما إني لو كان لي ابنة لزوجتها لك".
وقدم الصحابي العظيم سعيد بن عامر، والذي يكاد يكون مجهولاً عند عامة المسلمين، حين قدم وصية لأمير المؤمنين عمر: أوصيك يا عمر أن تخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله.
لقد كان أستاذنا فاروق غواصاً يستخرج هذه اللآلئ من أعماق بحور التراجم والسير.
وحين ننتقل إلى الجزء الثالث من هذا السفر القيم تكثر التراجم ويزيد عددها على الجزأين السابقين إذ يترجم لخمس وعشرين صحابياً بينهم صحابيتان، وينوع في الاختيار بين المشاهير والمجهولين بدون أن يغمط أحداً حقه، فأمثال أسيد بن حضير من سادة الأوس وسهيل بن عمرو من سادة الصحابة في مكة يتحدث عنهم في عديد من الحلقات، بينما يعرض للمجهولين في حلقة واحدة وهذا الأمر محكوم فيه بطبيعة المعلومات التي ذكرت عن الصحابي في كتب التراجم، فبعضهم لا يتجاوز الحديث عنهم بضعة أسطر.(86/1)
وحين ننتقل إلى الجزء الرابع نجده حافلاً بترجمة قرابة أربعين صحابياً موزعين على القبائل والمواقع من قادة الفتوح إلى سادة العلماء إلى الأبطال العظام إلى زعماء القبائل ويكتفي بالحديث عن صحابيتين عظيمتين هما أسماء بنت عميس رضي الله عنها وفاطمة بنت الخطاب التي هدى الله تعالى أخاها عمر على يديها. ويحاول دائماً أن يصل القرين بالقرين. فالحديث عن أسماء رضي الله عنها عقب الحديث عن زوجها جعفر الطيار رضي الله عنه. وحين يتحدث عن أبي أيوب الأنصاري خادم رسول { وسلم وشهيد القسطنطينية، يعقبه بالحديث عن عبد الله بن حذافة السهمي وافد كسرى ووافد ملك الروم حين أُسر في معركة من المعارك عنده وقدم أعظم معاني الصبر كما قال عنه أستاذنا البطل "وأخيراً فإن التاريخ يذكر لعبد الله بن حذافة رضي الله عنه محنته القاسية التي اجتازها بصبر وجلد، فخرج منها بشرف وإباء، وباء معذبوه بالخزي والعار".. حيث يسوق قصته بعد ذلك.
أما الجزء الخامس الذي تناول الحديث عن قرابة خمسة وأربعين صحابياً فيشبه الجزء الرابع في تنويعه وشموله، حيث يبحث عما بين الأشخاص من وشيجة ورحم.. فمغيث وزوجته بريرة، وحارثة بن سراقة وأمه الربيع بنت النضر، وكناز بن حصين وولده مرثد وحفيده أنس، وأسرة أم عمار، وبنو محصن الأسدي.
ويجول أستاذنا حفظه الله في عوالم هؤلاء الصحب يبرز أهم ما اشتُهر عنهم، ويتابع أدق ما ذكر عنهم فإذا أنت في حديقة غناء، تحمل كل أنواع الفواكه والثمار، يجمع بينها الطعم الطيب الشهي، مع اختلاف المذاق والأُكل. لتتحقق القدوة لنا بهم في كل جوانب الحياة.
جزى الله أستاذنا وأخانا أبا عمار خير الجزاء على هذا الجهد المبارك.(86/2)
أبناء يهوذا
شعر: محمد المجذوب
قالوا "استباحت حمى السودان iiشرذمةٌ
أودَوا بمجلسه في ساعةٍ وعلى
فالأُلعبانُ وشيخ الحُمْر قد iiغدَوا
قد فوجئا بانقلاب ثَلَ iiعرشَهما
زَجُّوا به الوطنَ المنكوبَ في فِتَنٍ
وفجّروا الحِقدَ في الأوغاد iiفانطلقت
فانظر تَرَ الشعبَ في شحناءَ iiماحقةٍ
رزيةٌ شَبَّها غلمانُ iiمشأمةٍ
فقلت إن تعجبوا مما ترون iiفإني
تلك الكوارث.. مَنْ جرَّ البلادَ iiلها
لولا انحرافهم الفضاح ما عَرَفتْ
تجنبوا المنهج الأهدى iiبحكمهمُ
ومكنوا الوبأ (المحجوبَ) من iiعنق
فحاربوا الله في تعطيل iiشرعته
وكلما مُرِّغوا في حمأة iiبحثوا
وجربوا كلَّ غيّ في iiمسالكهم
ومن أبى الحق منهاجاً iiلأمته
..لا لا.. فلست براث للذين iiعلى
لولاهمو ما تخطى الحُمْرُ iiجُحْرَهمو
عصائب احترفت قتل الشعوب iiفما
ويحلفون لنا أن لا قرار iiلهم
وهل أتيح لصهيون iiوشيعته
يحاربون يهوذا في iiإذاعتهم
ويلعبون، وفي موسكو iiوإخوتها
ومن تأمل في ما مر من حدث
ولن يرجى سوى التخريب من iiنفر
وكل همته تسليم iiأمته
فكيف آسى على قوم ii–بزيغهم
وكيف لا يضرب القهار iiأرؤسهم
ومن يغالبُ دينَ الله لا iiعجبٌ
ولست أخشى على السودان نكبته
أما انقلابهمو فلا بقاء iiله
وفي إباء بنيه الصيد ما عرف iiالـ
سيسمع الكون عنها في غد iiنبأ
ويومذاك سيدري كل ذي iiرشد ... من العساكرِ للشيطان iiتنتسب
(أُولي السيادة) فيه بَغتةً iiوثبوا
رهنَ المَطابق حيثُ الويلُ والحرَبُ
لم ينج من شرهِ رأسٌ ولا iiذَنَبُ
طاشَ الحليمُ بها واستحوذ iiالرُّعب
فعلَ الذئابِ التي استشرى بها iiالكَلَب
بعد الإخاء، فمغصوبٌ iiومغتصِب
من مصر أو جِلَّقٍ وافاهمُ "الجَرَبُ"
من تعجبكم يعرونيَ العجب
سوى الألى عن صراط الله قد iiنكَبوا
إلى العرين طريقاً هذه النُّوبُ
فراح في ظُلَم الإخفاق يضطرب
الشعب الذي حرموه كل ما iiيجب
وهي التي عز فيها العجم iiوالعرب
عن أختها، وإليها رأسَهم iiركبوا
فإن دعوا لسبيل المؤمنين iiأبوا
أفضى بها لهوان ليس iiيرتقب
أيديهمو دهمتنا هذه iiالكرب
ولا استطال على ذي حرمة iiشغب
لها سوى الهدم في أوطاننا iiأرب
دون ارتجاع حمى (الأقصى) وقد كذبوا
، لولا تآمرهم، تحقيق ما iiكسبوا!
وهم –على رغمهم- أبناؤه iiالنُّجُبُ
وفي وشنطنَ، خُطَّ الدَّورُ iiواللعبُ
رأت بصيرتُه ما وارت iiالحجب
أعدى أعاديه دين الله iiوالحسب
لجازريها، وإن لم يدر ما طلبوا
قد ضيّعوا الدين والدنيا- إذا iiنُكبوا!
بمعول طالما كانوا به iiضربوا!
إذا تلاقى عليه الذلُّ iiوالغَلَبُ
بزمرة اليوم، فالأيام تنقلب
إلا إذا بقي التضليل iiوالكذب
باغون من عزماتٍ دونها iiاللهبُ
تروي روائعَه الأقلامُ iiوالقُضُبُ
أن الألى سُلبوه الأمن قد iiسلبوا(87/1)
أبهذا أمرتم ؟
د/ خالد سعد النجار
</TD
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان فقال ( أبهذا أمرتم ؟ أم بهذا أرسلت إليكم ؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر ، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه ) (1)
الإيمان بالقدر فرض لازم ، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد خيرها وشرها وكتبها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم ، والكل بقضائه وقدره وإرادته ، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة ووعد عليهما الثواب ولا يرضى الكفر والمعصية وأوعد عليهما العقاب . والقدر سر من أسرار الله تعالى لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ، ولا يجوز الخوض فيه والبحث عنه بطريق العقل ، بل يجب أن يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق فجعلهم فرقتين فرقة خلقهم للنعيم فضلا وفرقة للجحيم عدلا ، وسأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال أخبرني عن القدر قال : طريق مظلم لا تسلكه ، وأعاد السؤال فقال : بحر عميق لا تلجه ، وأعاد السؤال فقال سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه (2)
والقدر لغة بمعنى التقدير ، ويُعَرف بأنه : علم الله تعالى بما تكون عليه المخلوقات في المستقبل ، أما القضاء فهو بمعنى الحكم ، ويُعَرف بأنه : إيجاد الله تعالى الأشياء حسب علمه وقدرته ، وما أجمل جواب الإمام أحمد عندما سئل عن القدر فقال : القدر قدرة الرحمن . والإيمان بالقدر يشمل درجتين :( الدرجة الأولى ) الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا ، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال ، ثم كتب الله تلك المقادير في اللوح المحفوظ قال تعالى ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) الطلاق 12 وقال صلى الله عليه وسلم ( كتب الله تعالى مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات و الأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء ) (3) ،( الدرجة الثانية ) فهي الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة ، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئته سبحانه ، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته ، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولا يحب الكافرين ، ولا يرضى عن القوم الفاسقين ، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد والمفسدين ، والعباد فاعلون حقيقة والله خلق أفعالهم وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم (4)
هذا وقد أراد المشركون أن يحتجوا بقدر الله ومشيئته على شركهم ، وأنه لو لم يشأ الله تعالى لهم الشرك لما وقعوا فيه ، فأبطل الله حجتهم ودحضها بقوله عز وجل ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ، قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) الأنعام 148-149 وجوابه سبحانه للمحتجين بالقدر واضح كل الوضوح لقيامه على أمرين بديهيين :( الأول ) أنه تعالى أذاق الكافرين الأول بأسه وأنزل بهم عقابه فلو لم يكونوا مختارين لما ارتكبوه من الجرائم والآثام والكفر لما عذبهم الله ، لأنه عادل لا يظلم أحدا ، ولا شك في أن عقاب المكره على الفعل ظلم والاحتجاج بقدر الله على معصيته مع ظهور عقابه سبحانه للعصاة فيه نسبة الظلم إليه وهو أمر يتنافى مع الإيمان بالله تعالى ، فالظلم نقص لا يليق بالخالق جل وعلا ،( الثاني ) أن المحتج بالقدر على كفره ومعصيته متقول على الله بغير علم ، إذ كيف يصح للكافر أو العاصي أن يحتج بأن الله كتب عليه الكفر أو المعصية قبل صدور ذلك منه ، وقدر الله قبل وقوعه غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل مع أنه مخاطب قبل إقدامه على طاعة ربه والتزام أمره ، وبعبارة أقرب : كيف يصح لأحد أن يقول : كتب علي ربي أن أسرق فأنا ذاهب لتنفيذ قدره ، فهل اطلع على اللوح المحفوظ فقرأ ما فيه حتى يعلم ما كتب الله عليه في وقت كان مخاطبا بالامتناع عن معصية الله (5)(88/1)
ذاك ما يحتاج إليه المؤمن في القضاء والقدر ، فيكفيه أن يعلم معناه ودرجاته وأن يؤمن به ، وأن الله عليم بكل شيء وخالق كل شيء ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه عادل لا يظلم أحدا ، وأنه حكيم منزه من العبث ، ولا يحتاج هذا الموضع إلى أكثر من ذلك وما علم الله حاجتنا إليه بينه لنا وما طواه عنا لا يجوز أن نتكلف البحث عنه فنختلف ونهلك ، فإن عقولنا محدودة خلقها الله للإسهام في عمارة الدنيا وليست وظيفتها اكتشاف الغيب الذي استأثر بعلمه خالقها ، وليس أمامنا إلا التسليم والإيمان بما يعرفنا الله عليه من أمور الغيب وقضاياه ومن هذه القضايا : الصلة بين خلق الله للأفعال وإرادة الإنسان وفعله لهذه الأفعال ، وليست هذه هي القضية الغيبية الوحيدة التي لا يدرك العقل كنهها ، فصفات الله عز وجل ندرك آثارها ولا ندرك كيفيتها شأنها شأن الذات الإلهية التي لا يستطيع العقل البشري إدراكها (6) ، ولهذا نهي النبي في هذا الحديث الجليل عن الخوض في القدر والعمق فيه
وللإيمان بالقدر فوائد منها :
(أولا) أنه من تمام الإيمان ولا يتم الإيمان إلا بذلك
( ثانيا) أنه من تمام الإيمان بالربوبية لأن قدر الله من أفعاله
(ثالثا) رد الإنسان أموره إلى ربه لأنه إذا علم أن كل شيء بقضائه وقدره فإنه سيرجع إلى الله في دفع الضراء ورفعها ، ويضيف السراء إلى الله ، ويعرف أنها من فضل الله عليه
(رابعا) أن الإنسان يعرف قدر نفسه ولا يفخر إذا فعل الخير
(خامسا) هون المصائب على العبد لأن الإنسان إذا علم أنها من عند الله هانت عليه المصيبة كما قال تعالى ( وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) التغابن 11 قال علقمة رحمه الله : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم (7)
(سادسا) إضافة النعم إلى مسديها ، لأنك إذا لم تؤمن بالقدر أضفت النعم إلى من باشر الإنعام ، وهذا يوجد كثيرا في الذين يتزلفون إلى الملوك والأمراء والوزراء فإذا أصابوا منهم ما يريدون جعلوا الفضل إليهم ونسوا فضل الخالق ، صحيح أنه يجب على الإنسان أن يشكر الناس لكن يعلم أن الأصل كل الأصل هو فضل الله عز وجل جعله على يد هذا الرجل
(سابعا) أن الإنسان يعرف به حكمة الله عز وجل لأنه إذا نظر في هذا الكون وما يحدث فيه من تغييرات باهرة عرف بهذا حكمة الله عز وجل بخلاف من نسي القضاء والقدر فإنه لا يستفيد هذه الفائدة (8)
alnaggar66@hotmail.com
------------------------------
الهوامش
(1) رواه الترمذي ــ كتاب القدر رقم 2133 ، والحديث حسنه الألباني في صحيح الترمذي رقم 1732
(2) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي نقلا عن شرح السنة ــ ج 6 ص 278 ط دار الفكر
(3) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو
(4) انظر الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية ص 352 ، 353 بتصرف
(5) الإيمان لمحمد نعيم ياسين ــ مكتبة التراث ــ القاهرة ص 136-137
(6) تبسيط العقائد الإسلامية
(7) أخرجه الطبري 28/80 ، وعزاه السيوطي لعبد بن حميد وابن المنذر ، والبيهقي في شعب الإيمان 6/227 ، كما عزاه ابن كثير لابن أبي حاتم 8/163
(8) شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية / شرحه سماحة الشيخ محمد بن الصالح العثيمين ج2 ص 191 / العلمية للنشر والتوزيع(88/2)
أبو الدرداء رضي الله عنه
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
إنه لأمر أثير لديّ، أن يكون حديثي اليوم حديثاً عن واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ذلكم هو الصحابي الجليل أبو الدرداء (رضي الله عنه) قاضي دمشق، الذي كان –إلى علمه وفضله وأخذه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام- ذا قدم راسخة في التفكر والتدبر، والنظر إلى أفعال الله جل جلاله، بعين العبد الخاشع الذي يرى في كل فعل منها عين الحكمة الإلهية والعدالة الربانية.
وأبو الدرداء مشهور بكنيته، مختلف في اسمه: فقيل: عويمر بن زيد بن قيس، وقيل: عويمر بن عامر، وقيل: ابن عبد الله، وقيل: ابن ثعلبة ابن عبد الله الأنصاري الخزرجي، حكيم هذه الأمة وسيد القراء بدمشق وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث.
أسلم يوم بدر، وشهد أحداً وأبلى فيها(1) وعن شريح بن عبيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه يوم أحد: "نعم الفارس، وقال: هو حكيم أمين"
ولقد اشتهر –رضوان الله عليه- بالعزوف عن الدنيا، حتى ترك التجارة والربح الدنيوي، إلى العبادة والتفرغ للتجارة التي تنجي من العذاب الأليم، انقطاعاً للعلم والعمل وتفرغاً للعبادة. دعاه إلى ذلك خوف أن يأتي يوم الحساب، وقد أثقلت كاهله بأسباب المسؤولية والحساب، وهو يريد أن يلقى الله متخففاً من كل أثقال الدنيا وأعبائها، لعله يفوز برحمته سبحانه في يوم يشتد هوله، حتى تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
وفي شأن التفكر في آلاء الله تعالى وتدبر حكمه في ملكه وملكوته، قال رضي الله عنه: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة".
وقد سئلت زوجه: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء.
فقالت: "التفكر".
وهذا منه رضي الله عنه دليل فقهه لكتاب الله، ووقوفه عند مدلول آياته البينات، ففي العديد من الآيات نجد الدعوة إلى التفكر، وثناء الله جلت حكمته على أولئك الذين سعدوا بالتفكر الصحيح، فكان سبيلهم إلى رفيع المراتب، وعظيم المثوبة عنده سبحانه، وذلك في مثل قوله عز وجل: "قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون(1)" "إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكرون(2)" "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب". "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا منادياًَ ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا. ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار(3)".
وانظر إلى هذا الدعاء الذي يخترق الحجب "ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار" ولقد كانت الاستجابة، وكان الفضل العظيم والخير العميم، ذلك ما يحسه قلب المؤمن في ندى قوله –وهو الرحمن الرحيم "فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب(4)".
وكأني بالآيات الكريمة توحي أن مقام التفكر ليس بالأمر السهل، فقد اقترن –كما نرى- بعزائم الرجال، وصبر المؤمنين المجاهدين الصابرين. وسبحان الذي من بعض فضله، ما يكون من العطاء والنماء.
وفي شأن الخوف من يوم الحساب، وإيثار الآجلة الباقية على العاجلة الفانية، والورع من أن تثقله المسؤولية في ذلك اليوم، قال رضي الله عنه: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر، فأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة، فلم يجتمعا، فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة. والذي نفس أبي الدرداء بيده ما أحب أن لي اليوم حانوتاً على باب المسجد لا تخطئني فيه صلاة، أربح منه كل يوم أربعين ديناراً، وأتصدق بها كلها في سبيل الله. قيل له: يا أبا الدرداء، وما تكره من ذلك؟ قال: شدة الحساب".
وفي إزاحة الستار عن شعور صادق بهذه الحقيقة وتذوق لآثار الأخذ بها نرى كلماته تحمل –مع صادق النصح للآخرين- صورة الوعيد المرعب لأولئك الذين لا هم لهم إلا جمع الدنيا من هنا وهناك، ناسين ما يثقل الكواهل من المسؤولية عما يجمعون قال في ذلك رضي الله عنه: "ويل لكل جماع فاغر فاه، كأنه مجنون، يرى ما عند الناس، ولا يرى ما عنده، ولو يستطيع لوصل الليل بالنهار، ويله من حساب غليظٍ شديد".
وإذا كانت الخشية على قدر المعرفة، فجدير بأبي الدرداء رضي الله عنه أن يكون على هذا القدر من خشية الله، وأن يكون في حسبانه دائماً شدة الحساب.. وكان دليل الصدق في ذلك صون نفسه عما يخلف ذلك.(89/1)
على أنه رحمه الله ورضي عنه، قد أزال من النفوس ما يمكن أن يداخلها من اللبس، بسبب موقفه هذا، ويظن أنه يحرم على نفسه ما أحل الله في كتابه فأماط اللثام عن ذلك، مبيناً أنه يحب أن يكون من الذين لا تلهيهم التجارة والبيع عن ذكر الله وذلك قوله: "ما أقول: إن الله عز وجل لم يحل البيع ويحرم الربا، ولكن أحب أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله".
ذلك ما ارتضاه لنفسه، وقدر أن يصبر عليه، وهو طريق التزمه وتحمل تبعاته، ولئن كان الإسلام لا يوجبه على الناس: إن أبا الدرداء رضي الله عنه لم يلزم به أحداً غيره. ولقد اختار لنفسه –بعد أن خبر قدرته- أن يستبرئ لدينه وعرضه بالإعراض عن الاستكثار من الدنيا بالتجارة وغيرها، والرضا بالقليل الذي يقوم بالإود ويحفظ الكرامة، حيطةً وحذراً من مزالق الأقدام، وما أكثرها، بل وما أوفر مداخل النفس والهوى إليها، ولم يدع يستثمر الوقت في طاعة الله، والتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والنصح للمسلمين.
وسبحان خالق الإنسان، فلكل أهليته واستعداده، وكلٌّ ميسر لما خلق له..
أقول هذا: لأن أبا الدرداء رضي الله عنه يعلم أن الأمة مكلفة بإعداد القوة التي ترهب عدو الله وعدو المسلمين، والمال عنصر مهم على ساحة الإعداد، مضموماً إليه الطاقات العلمية والجسدية والنفسية وغير ذلك بعد الإيمان وصدق التوكل على الله: فمن كان قادراً مع الإسلام –من الناحية المالية والاقتصادية وعنده الأهلية لذلك- لا يجوز له أن يتخلف عن القيام بواجبه في إعداد القوة المستطاعة امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى بذلك؛ فالأمر واجب كفائي، إلا إذا توافرت أسباب الواجب العيني. ولم يتوافر ذلك في عصر أبي الدرداء رضي الله عنه، فكان صنيعه تضحية منه؛ إذ آثر العزوف عن جمع المال للثراء والمتعة ورضي قانعاً بالقليل الذي يكفي ولا يلجئ إلى التكفف لأن اليد العليا خير من اليد السفلى.
وما أقل ما تجد أولئك الناس القادرين على اقتحام غريزة حب المال والتملك، والله تعالى يصف الإنسان بقوله جل شأنه: "وإنه لحب الخير لشديد(1)".
ومهما يكن من أمر: فإن هذا ما يحسن تذكره –والله أعلم- عند قراءة تعليق الإمام الذهبي على مسلك أبي الدرداء عليه الرحمة والرضوان في هذه النقطة.
فقد أورد في "السير" ما أشرت إليه سابقاً وهو ما روى الأعشى عن خيثمة: قال أبو الدرداء: "كنت تاجراً قبل المبعث، فلما جاء الإسلام، جمعت التجارة والعبادة فلم يجتمعا، فتركت التجارة ولزمت العبادة" وهو ما أخرجه ابن سعد في "الطبقات" ورواه الطبراني وأورده الحافظ في "الإصابة" ورجاله رجال الصحيح.
ثم قال الذهبي تعقيباً على ذلك: (قلت: الأفضل جمع الأمرين مع الجهاد، وهذا الذي قال هو طريق جماعة من السلف والصوفية، ولا ريب أن أمزجة الناس مختلفة في ذلك، فبعضهم يقوى على الجمع، كالصدّيق وعبد الرحمن بن عوف، وكما كان ابن المبارك، وبعضهم يعجز ويقتصر على العبادة، وبعضهم يقوى في بدايته ثم يعجز، وبالعكس: وكل سائغ ولكن لابد من النهضة بحقوق الزوجة والعيال)(2).
وما من ريب في أن من ذاق لذة التفكر في آلاء الله –وفي الأرض والأنفس آيات للموقنين- واستشعر عظمة الله ومخافته، وكان على ذكر أن الآجال والأرزاق بيده سبحانه، وأنس بالعبادة الخالصة والخضوع الخاشع بين يدي رب العالمين.. هانت عليه الدنيا، ورأى في ملذاتها وخيراتها الزائلة معوقاً مما هو خير وأبقى، وصدق ربنا جل شأنه إذ يقول في محكم تنزيله: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً"(3) ويقول سبحانه: "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون".
ولا شك أن من توفيق الله أن يجمع المؤمن المال، ويؤدي فيه حق الله ثم حق الأمة، وتكون الدنيا في كفيه لا في قلبه، وعندها تكون دنياه في عاجل أمره، مطيعة إلى الآخرة في أجلّ أمره، لأنه سخّر المال للخير، ولم يتجاوز حدود الله في جمعه، ولا ألهاه ذلك عن عبادة الله، وكما ذكر الإمام الذهبي كان عبد الله بن المبارك رحمه الله وأعلى مقامه في الآخرين نموذجاً رائعاً في وضع المال موضعه مع ساحة المعونة للفقراء والمعوزين وتيسير العيش وعبادة الحج لهم، مضافاً إلى ذلك، البذل العظيم على ساحة الجهاد في سبيل الله، فكان يجاهد بنفسه وماله، وكم وجّه القرآن الكريم إلى الجهاد بالأموال والأنفس!!(89/2)
على أن أبا الدرداء رضي الله عنه –وقد أسلم يوم بدر- لم يفته أن يشهد مقارعة أعداء الله في "أحد" وقد أبلى البلاء الحسن في ذلك، قال شريح بن عبيد الحمصي: لما هزم أصحاب رسول الله يوم أحد، كان أبو الدرداء يومئذ فيمن فاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فلما أظلهم المشركون من فوقهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ليس لهم أن يَعلونا" فثاب إليه ناس وانتدبوا وفيهم عويمر أبو الدرداء حتى أدحضوهم عن مكانهم، وكان أبو الدرداء يومئذ حسن البلاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الفارس عويمر" وهو مرسل، لما أن شريح بن عبيد الحمصي لم يدرك أبا الدرداء(4)
(انتدبوا: أسرعوا - أدحضوهم: أزالوهم.)
هذا: ولم يعتزل الصحابي الجليل جماعة المسلمين ولا تقاعس عن واجب أو أداء حق من حقوق الأهل والأمة، وكان حريصاً على النصح، والإرشاد إلى ما هو الأقوم والأصلح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، الأمر الذي يذكر بما أورد الحافظ في "الإصابة" من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هو حكيم أمتي"(5).
انظر إليه يقول مرشداً ناصحاً، بكلمات هي من ظلال كلام النبوة: "لا تزالون بخير ما أمّرتم خياركم، وما قيل فيكم بالحق، فعرفتموه، فإن عارف الحق كعامله" وهذا دليل يؤكد أن انصرافه-جزاه الله خير الجزاء- عن الانخراط في صفوف المكثرين، لم يحل دونه ودون أن يكون اللبنة الصالحة دائماً في بناء المجتمع المسلم، يعمل على التذكير بأخلاق الإسلام، ومعايير الشريعة، ويقوم بواجب النصح أداءً للأمانة، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فهو من الجماعة المسلمة وإليها، ويد الله مع الجماعة.
جزى الله أبا الدرداء صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، وتقبّل منه صالح العمل، وما كان من الجهاد ونصرة الدين، والزهادة في الدنيا، والنصح للمسلمين، ورزقنا الله حسن الانتفاع بسيرة الصحابة عليهم الرضوان، ومن تبعهم بإحسان عبر تاريخنا الطويل، وصلى الله وسلم وبارك على إمام الهداة المجاهدين الزاهدين، وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهديه، علماً وعملاً، وجهاداً، واستعلاءً على حطام الدنيا في تطلع صادق إلى حسن العاقبة يوم الدين، وعلى آله وصحابته البررة الأخيار، ومن اهتدى بهديه إلى يوم المعاد.
(1) انظر "طبقات ابن سعد" (7/391) "المعارف لابن قتيبة" ص: 259-268 "الاستيعاب لابن عبد البر".
-2-
القضاء
حدَّث يحيى بن سعيد قال: استعمل أبو الدرداء (عويمر) رضي الله عنه على القضاء فأصبح الناس يهنئونه، فقال: أتهنونني بالقضاء، وقد جعلت على رأس مهواة منزلتها أبعد من عدن أبين، ولو علم الناس ما في القضاء لأخذوه بالدول رغبةً عنه وكراهية له، ولو يعلم الناس ما في الأذان لأخذوه بالدول رغبةً فيه وحرصاً عليه.
وعن معاوية بن قرة أن أبا الدرداء اشتكى (مرض) فدخل عليه أصحابه. فقالوا: يا أبا الدرداء ما تشتكي؟
قال: أشتكي ذنوبي.
قالوا: فما تشتهي؟
قال: أشتهي الجنة..
قالوا: أفلا ندعو لك طبيباً؟
قال: هو الذي أضجعني.. جزاك الله خيراً
وحدث أبو معشر القرظي قال: لما حضر أبا الدرداء الموت جاءه حبيب بن مسلمة فقال: كيف تجدك يا أبا الدرداء؟
قال: أجدني ثقيلاً.
قال: ما أراه إلا الموت.
قال: أجل.
قال: جزاك الله خيراً.
أحب..
وعن عمرو بن مرة قال: سمعت شيخاً يتحدث عن أبي الدرداء أنه قال:
أحب الفقر تواضعاً لربي، وأحب الموت اشتياقاً إلى ربي، وأحب المرض تكفيراً لخطيئتي.
ومن وصاياه الجامعة التي تحس فيها أثر مدرسة الوحي، وترى من خلالها ما كان من صدق الأخذ عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وحبه أكثر من الوالد والولد والنفس، ووعي مقالاته ووصاياه وعياً أميناً يدل على صدق التمثل والانطباع، قوله رضي الله عنه: "اعبدوا الله كأنكم ترونه، وعدوا أنفسكم من الموتى، واعلموا أن قليلاً يغنيكم خير من كثير يلهيكم. واعلموا أن البر لا يبلى، وأن الإثم لا ينسى".
ويقول في موعظة لأهل دمشق: "..
مالي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون؟ وأراكم قد أقبلتم على ما تكفل لكم به، وتركتم ما أمرتم به. ألا إن قوماً بنوا شديداً، وجمعوا كثيراً، وأملوا بعيداً، فأصبح بنيانهم قبوراً، وأملهم غروراً، وجمعهم بوراً. ألا فتعلموا وعلموا؛ فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء، ولا خير في الناس بعدهما".
إنها موعظة جاءت بالدعوة الحارة الصادقة إلى العلم والتعليم –وذلك خصلة من أوليات خصال الإسلام؛ فلا خير في الناس بعد العالم والمتعلم، كما دعت إلى الزهادة الصادقة في الدنيا، ولفت النظر إلى العبرة بالماضين ماذا صنعوا. وما الذي آلوا إليه. فنعم الواعظ ونعمت الموعظة، وطوبى لأولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(89/3)
ولما كان أبو الدرداء دائم التفكر والتذكر، تملأ قلبه خشية الله، ويخاف أن يدركه الموت وهو مفرط في جنب الله.. رأيناه كثيراً ما يسائل نفسه عن العمل بما علم، وبماذا يجيب رب العزة حين يسأله عن ذلك يوم الحشر ويبدي خوفه الشديد من ذلك؛
فمن كلامه رضي الله عنه "أخوف ما أخاف أن يقال لي يوم القيامة: يا عويمر أعلمت أم جهلت؟ فإن قلت علمت! لا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا أخذت بفريضتها، الآمرة هل ائتمرت؟ والزاجرة هل ازدجرت؟ وأعوذ بالله من علم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع".
ألا يا ليت لمن يدعون العلم والمعرفة آذاناً تسمع وقلوباً تعي، ولكن الدنيا بزخرفها وبهرجها تلهي وتلهي، والنفس بشهواتها وغرورها تشغل وتشغل، حتى كأن بعضنا لا يؤمن بيوم الحساب، اليوم الذي يكشف الله عما ذا يكون فيه، من انقطاع الحيلة، وتعطل وسائل التمويه التي كانت في الدنيا فيقول: "اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون(11)".
وفي كلمة أخرى يقول: "إنما أخشى على نفسي أن يقال لي على رؤوس الخلائق: يا عويمر هل علمت؟ فأقول: نعم!! فيقال: ماذا عملت فيما علمت؟".
اللهم عفوك وسترك، إذا كان أبو الدرداء صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، يخاف على نفسه هذه المخافة ويراقب هذه المراقبة؟ فماذا نحن فاعلون، وما الذي أعده أولئك الحمقى الذين يأكلون الدنيا بالدين، بل ماذا سيصير إليه أحمق الحمقى الذين يبيعون دينهم بدنيا غيرهم.
اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك واجعلنا برحمتك –ونحن المقرون بالتقصير- في عداد أولئك الذين يعملون بما يعلمون ولا حول ولا قوة إلا بالله..
* * *
ومن القواعد الذهبية للسلوك الذي يكون انعكاس العقيدة ما نراه في هذه الكلمات "ذروة الإيمان الصبر للحكم، والرضى بالقدر، والإخلاص في التوكل، والاستسلام للرب عز وجل".
وما نراه أيضاً في الذي كان يقوله إذا رأى جنازة؛ فعن شرحبيل أن أبا الدرداء كان إذا رأى جنازة قال: "اغدوا فإنا رائحون، أو روحوا فإنا غادون، موعظة بليغة، وغفلة سريعة، كفى بالموت واعظاً، يذهب الأول فالأول، ويبقى الآخر لا حلم له".
رضي الله عنك يا أبا الدرداء وأجزل لك المثوبة بما علمت العلم، وذكرت بالآخرة، ووعظت الناس بحالك قبل أن تعظهم بقالك؛ فكنت القدوة الصالحة في أقوالك وأفعالك. وصلى الله وسلم على معلم الناس الخير، والله المأمول أن يجمعنا مع قرائنا مرة أخرى على شذرات طيبة من حياة هذا الصحابي الجليل. وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) سورة الأنعام: 50
(2) سورة الرعد: 3
(3) سورة آل عمران: 190-193
(4) سورة العاديات: 8
(5) سير أعلام النبلاء: 2/338
(6) سورة الكهف: 46
(7) سورة العنكبوت: 64
(8) انظر "طبقات ابن سعد": (7/392) "المستدرك" للحاكم: (3/337)
(9) انظر "الإصابة": 3/45.
(11) سورة يس: 65(89/4)
أبو الدرداء
بقلم: مصطفى محمد الطحان
soutahhan@hotmail.com
هو عويمر بن عامر بن مالك الأنصاري الخزرجي... المكنى بأبي الدرداء.
الإمام القدوة.. وحكيم هذه الأمة.. وسيد القراء.
صديق عبد الله بن رواحة في الجاهلية والإسلام.
آخى رسول الله بينه وبين سلمان الفارسي رضي الله عنهما..
قصة إسلامه
عندما همّ بالإسلام، وأراد أن يدخل في دين الله مؤمناً: قال لزوجته: أعدي لي ماءً من المغتسل، فأغتسل، ولبس ملابسَ جيدة نظيفة. ثم ذهب إلى الرسول ، فنظر إليه ابن رواحة مقبلاً. فتبسم وقال: يا رسول الله هذا أبو الدرداء وما أراه إلا جاء في طلبنا؟
فقال عليه السلام: (إنما جاء ليسلم.. إن ربي وعدني بأبي الدرداء أن يسلم).
ترى لماذا تساءل ابن رواحة..؟ لقد كان لهذا التساؤل قصة..
لقد تأخر إسلام أبي الدرداء.. فقد كان له صنم يعبده.. وضعه في أشرف مكان في بيته..يضمخه كل يوم بالطيب, ويلقي عليه أفخر الثياب وأغلاها.. وذات يوم عزم عبد الله بن رواحة على أن يفعل شيئاً من أجل أخيه أبي الدرداء وليكن ما يكون.
انطلق ابن رواحة قاصداً بيت أبي الدرداء.. أخيه وصاحبه وصديق عمره في الجاهلية.. فلماذا لا يجعله أخاً له في الإسلام..؟
فلما جاء بيته حيا زوجته واستأذن للدخول. فاستغربت زوجة أبي الدرداء الأمر، ولكنها لا تعلم عن صديق زوجها إلا خيراً. فأذنت له..
ودخل ابن رواحة على صنم أبي الدرداء وأخرج فأساً كانت معه وجعل يضرب الصنم وهو يردد:
ألا كل ما يدعى مع الله باطل..
ألا كل ما يدعى مع الله باطل..
حتى حطم الصنم.. وخرج متسللاً مع فأسه، وقد استراحت نفسه بما فعل.
وجاء أبو الدرداء إلى بيته عائداً من عمله.. ولما دخل على زوجته وجدها تبكي، فقال: ما بك؟ فقالت: عبد الله بن رواحة.. قال: ماذا حدث منه..؟
قالت: جاء في غيابك، وحطّم صنمك.. وجعله قطعاً متناثرة..
وغضب أبو الدرداء.. وازداد غضبه عندما رأى صنمه في هذه الحالة المزرية.. وقف طويلاً.. أمام صنم كان يعبده.. ولكنه لم يستطع أن يردّ عن نفسه ضربات فأس..
ترى هل يستحق هذا الصنم كل هذا الاهتمام والتبجيل.. وهو لا يتجاوز أن يكون قطعة خشب.. لا تضر ولا تنفع؟!
ويحتاج العقل البشري أحياناً إلى حادثة صغيرة أو كبيرة يستيقظ بعدها.. كأنها مفتاح المصباح.. ما أن يحركه حتى يملأ النور المكان.. وكذلك كان الأمر بصاحبنا أبي الدرداء.. فقد ملأ النور كيانه.. وبدأ يراجع نفسه.. ويسترجع شريط حياته.. ولكنه تاجر ناضج.. يستطيع أن يدير عمله وتجارته بمنتهى الإتقان.. فلماذا لم يفكر قبل اليوم بهذا الموضوع..؟!
وفهمها أبو الدرداء.. أنه الانشغال بالدنيا والاستغراق فيها إلى حدّ التشبع، لم يترك له فرصة للتفكير.. فما جعل الله لامرئ من قلبين في جوفه..
ولكن التجارة هي مصدر رزقه.. وتساءل: ولكن متى كان الرزق وسيلة للاستغراق في الدنيا.. حتى ينسى عقله.. ونفسه.. وتفكيره.. وربه..؟!
وعزم أبو الدرداء على تصحيح الخطأ..
فاغتسل.. لعل هذا الماء يذهب عنه أدران الشرك.. ورجس الغفلة.. وتوجه إلى رسول الله لينطق أمامه بالشهادة ويبايعه..
جاء إسلامه متأخراُ.. ولكنه كان حاراً متدفقاً.. ومع الكلمات التي نطق بها الصحابي الجليل أبو الدرداء وهو يردد كلمات الشهادة أمام رسول الله .. كانت من الجانب الآخر تبتعد عنه كل وساوس الدنيا وشياطينها.. وفهم يومها أن الاستغراق في التجارة هو واحدٌ من هذه الشياطين!!
وإذا كان اليوم سعيداً بما فعل.. سعيداً بإيمانه.. سعيداً بطاعة ربه.. سعيداً بتفقهه في دينه.. سعيداً بحفظه للقرآن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار.. ولكن سعادته لن تكتمل حتى ينقل أحاسيسه إلى الآخرين.. ماذا فعل مفتاح النور بأبي الدرداء..
كيف أعاد له تشكيل عقله.. كيف أعاد له ترتيب أولوياته.. ليخبر إخوانه المؤمنين بهذه الأحاسيس.. فخيركم خيركم لأهله وإخوانه.
يعيد ترتيب أولوياته
جاءه رجل يسأل عن تجارته وأحوال ماله فقال:
(لقد كنت تاجراً قبل عهدي برسول الله ، فلما أسلمت أردت أن أجمع بين التجارة والعبادة فلم يستقم لي ما أردت، فتركت التجارة وأقبلت على العبادة، والذي نفسي بيده، ما أحب أن يكون لي اليوم حانوت على باب المسجد فلا تفوتني صلاة مع الجماعة، ثم أبيع واشترى فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار..!! ثم استدرك قائلاً: إني لا أقول: أن الله عز وجل حرّم البيع، ولكني أحب أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله).
التفكر والاعتبار
لقد غدا إنساناً يتملكه شوق عارم إلى رؤية الحقيقية واللقاء بها.. سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجابت: التفكر والاعتبار.. لقد وعى تماماً قول الله تعالى: )فاعتبروا يا أولي الألباب(..
فكان يحض نفسه وإخوانه على ذلك.. ولطالما ذكرهم فيقول: (تفكُرُ ساعة خيرٌ من عبادة ليلة)..
ذلكم هو أبو الدرداء المتعبد.. الحكيم..(90/1)
رجل عكف على نفسه حتى صقلها وزكاها، وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة، والصواب، والخير، ما جعل من أبي الدرداء معلماً عظيماً وحكيماً قويماً..
اللهم إني أعوذ بك من شتات القلب
ويسمع أبو الدرداء قول رسول الله : (تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فإنه من كانت الدنيا أكبر همه، فرّق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه.. ومن كانت الآخرة أكبر همّه، جمع شمله، وجعل غناه في قلبه، وكان الله إليه بكل خير أسرع).. من أجل ذلك كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من شتات القلب.. ويسألونه: وما شتات القلب يا أبا الدرداء..؟
فيجيب: (أن يكون لي في كل واد مال.. فمن لم يكن غنياً عن الدنيا، فلا دنيا له)..
وعندما سأله بعض قومه.. أين متاعكم؟!
فقال: لنا دار هناك نرسل إليها تباعاً كل ما نحصل عليه من متاع, وإن في طريقنا الذي سنسلكه إلى تلك الدار عقبة كؤوداً المخفّ فيها خير من المثقل, فأردنا أن نتخفف من أثقالنا علنا نصل.
لقد تبدلت أولويات أبي الدرداء.. فهو يقول:
لولا ثلاثة ما أحببت البقاء:
• ساعة ظمأ الهواجر..
• والسجود بالليل..
• ومجالسة أقوام ينتقون جيد الكلام، كما ينتقي أطايب الثمر.
يوم أحد
شهد أبو الدرداء يوم أحد فقد أسلم يوم بدر.
ولما ترك الرماة الجبل، أمره الرسول أن يرد من على الجبل.. وكان هو ممن جاء إلى رسول الله عندما اشتد بأس الكفار حوله، فلما وقف المشركون فوق الجبل يرمون الرسول والمسلمين قال عليه السلام: (اللهم، ليس لهم أن يعلونا).
سمع أبو الدرداء هذه الكلمات وانطلق في جماعة من الأنصار وراح يضرب المشركين حتى طردهم من مكانهم. وقد أثنى رسول الله على صنيعه فقال: (نعم الفارس عويمر).
في فتح قبرص
يوم غزوة أحد كان فارساً مغواراً وبعد سنوات طويلة كان شيخاً عجوزاً بالمدينة.. وجاءت الأخبار بفتح قبرص.
فرح الناس بما أتاهم من فضله، بينما جلس أبو الدرداء يبكي.. فقال له جبير بن نفير أحد أصحابه في المدينة. ما يبكيك يا أبا الدرداء في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟
فقال أبو الدرداء: ويحك يا جبير.. ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره.. بينما هي أمة قاهرة، ظاهرة، لها الملك، تركت أمر الله، فصارت إلى ما ترى.
لقد كان يخشى على أمة الإسلام أن تنحل فيها عرى الإيمان، وتضعف روابطهم بالله، وبالحق، وبالصلاح، فتنتقل العارية من أيديهم، بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل إليهم..!!
مع الفاروق عمر
ويقول له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبا الدرداء أريدك والياً على مدينة في الشام.. فقال: إذا رضيت مني أن أذهب إلى القوم لأعلمهم كتاب ربهم وسنة نبيهم وأصلي بهم ذهبت مطيعاً راضياً أما ولاية أو أمارة فدعني منها..
ويوافق عمر بن الخطاب على طلبه.. ويقول له: اذهب إلى دمشق وأنجز ما اخترت لنفسك من عمل..
وفي دمشق.. وجد أبو الدرداء قوماً انغمسوا في اللهو والترف.. وانشغلوا بالقصور والمال.. فجاء إلى المسجد.. ووقف في الناس خطيباً.. وقال لهم: أيها الناس! ما الذي يمنعكم من مودتي والاستجابة لنصيحتي وأنا لا أبتغي منكم شيئاً، فنصيحتي لكم، وأجري على غيركم.
ما لي أرى علماءكم يذهبون.. وجهّالكم لا يتعلمون؟
ما لي أراكم تجمعون ما لا تأكلون..
وتبنون ما لا تسكنون..
وتُؤملون ما لا تبلغون..؟!
لقد جمعت الأقوام التي قبلكم وأمّلت..
هذه عادٌ يا أهل دمشق، قد ملأت الأرض مالاً وولداً، فمن يشتري مني تركتهم بدرهمين.. من يشتري..؟
وصرخ فيهم.. من يشتري..؟
فجعل الناس يبكون حتى سُمع نشيجهم من خارج المسجد.
رجل باهر، رائع مضيء، حكمته مؤمنة، ومشاعره ورعة، ومنطقه سديد ورشيد..!!
ويظل أبو الدرداء ناصحاً لأهل دمشق، إماماً لهم.. يدعوهم إلى عبادة الله وحده.
يقول ناصحاً لأحد الشباب:
•يا بني أذكر الله في السراء يذكرك في الضراء.
•يا بني كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن جاهلاً فتهلك.
•يا بني ليكن المسجد بيتك، فإني سمعت رسول الله يقول: (المسجد بيت كل تقي).
•يا بني صومعة الرجل المسلم بيته, يكف فيه نفسه وبصره, وإياكم والجلوس في الأسواق فإنه يلهي ويُلغي.
مع سلمان الفارسي
آخى رسول الله بين أبي الدرداء وسلمان، وذات يوم جاءه سلمان يزوره، فإذا بزوجته تبدو شاكية منه لهجره لها..
فقال سلمان لأم الدرداء: ما شانك؟
قالت: إن أخاك لا حاجة له في الدنيا.. يقوم الليل، ويصوم النهار.
فجاء أبو الدرداء مرحباً بسلمان، وقرب إليه طعاماً، فقال سلمان كُلْ معي.
قال: إني صائم.
قال سلمان: أقسمت عليك لتفطرنّ.. فأكل أبو الدرداء مع صاحبه ثم بات سلمان عنده، فلما كان الليل، أراد أبو الدرداء أن يقوم فيتهدج ويصلي.. فمنعه سلمان وقال: إن لجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً. صُمْ وأفطر، وصل وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه.
فلما أصبح سلمان.. قال لصاحبه قم الآن إن شئت: فقاما معاً وتوضأ ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة.(90/2)
فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله بالذي أمره سلمان فقال له عليه السلام: (يا أبا الدرداء، إن لجسدك عليك حقاً، مثل ما قال لك سلمان)(1).
يزيد بن معاوية يخطب الدرداء
خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء فردّه، ولم يقبل خطبته.. ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم، فزوجها أبو الدرداء منه.. وعجب الناس لهذا التصرف، فعلمهم أبو الدرداء قائلاً:
(ما ظنكم بالدرداء إذا قام على رأسها الخدم والخصيان وبهرها زُخرف القصور.. أين دينها منها يومئذ)؟
وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل يهرب إليها..
فالسعادة الحقة عنده هي أن تمتلك الدنيا، لا أن تمتلكك الدنيا.. ولطالما قال: (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى).
عمر بن الخطاب يزور أبي الدرداء في الشام
وعندما زار الخليفة الفاروق بلاد الشام.. ذهب لزيارة أخيه أبي الدرداء ليلاً.. فدفع الباب فإذا هو بغير غَلَق, فدخل في بيت مظلم لا ضوء فيه, فلما سمع أبو الدرداء حسه قام إليه, ورحب به وأجلسه. فجسّ عمر وسادَ أبي الدرداء فإذا هو بردعة, وجسّ فراشه فإذا هو حصىً.. وجسّ دثاره فإذا هو كساء رقيق لا يفعل شيئا في برد دمشق الشديد..
فقال له: رحمك الله ألمْ أوسع عليك؟ ألم أبعثْ إليك؟!
فقال له أبو الدرداء: أتذكر-ياعمر- حديثا حدثناه رسول الله ؟
قال وما هو؟
قال ألم يقل: )ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب( ؟
قال: بلى.
قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟!
فبكى عمر, وبكى أبو الدرداء..
أمة بعضها من بعض.. استغنت عن الدنيا فدانت لها الدنيا.. وطلبت الآخرة.. تعدّ لها عدتها!
وجاء الموت على شوق
وفي الشام مرض أبو الدرداء, ودخل عليه أصحابه, فقالوا ما تشتكي؟ قال: ذنوبي, قالوا: وما تشتهي؟ قال: عفو ربي.
ثم قال لمن حوله لقنوني: لا إله إلا الله محمد رسول الله, فما زال يرددها حتى فارق الحياة.
في سنة اثنتين وثلاثين مات سيد القراء وحكيم الأمة..
الذين كانوا في حلقة اقرائه يزيدوا عن ألف رجل.. ولكل عشرة منهم ملقن، كان يطوف عليهم قائماً، فإذا احتاج الرجل منهم إلى شورته تحول إليه..
وداعاً حكيم الأمة فقد قلت وأحكمت القول:
من أكثر ذكر الموت قلّ فرحُه، وقلّ حسدّه..
ها هو الموت قد جاء على شوق.. نعم إنه حبيب أبي الدرداء جاء على شوق.. شوق إلى الجنة.. إلى لقاء ربه.. إلى جنة النعيم..
فماذا يتعلم الدعاة من أبي الدرداء..؟
• يتعلمون منه أن يكون نظرهم فكرة.. يستفيدون من الأحداث التي تمر بهم.. يتفكرون بها.. ويحولونها إلى عبرة يغيرون بها مجرى حياتهم. وكما كان يقول أبو الدرداء: (تفكُر ساعة خير من عبادة ليلة).
• ويتعلمون منه أن لا تستغرقهم الدنيا إلى درجة التشبع.. فتنسيهم ذكر ربهم.. وكما كان يقول أبو الدرداء: (ولكني أحب أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله).
• ويتعلمون منه أن لا يأكلوا إلا طيباً.. كما كان يقول أبو الدرداء: (لا تأكل إلا طيباً، ولا تكسب إلا طيباً، ولا تدخل بيتك إلا طيباً).
• ونتعلم من أبي الدرداء الحلم.. (كان يقول: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك.. ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى).
• ونتعلم منه أن عظمة الحياة مرتبطة بالعلم.. كان أبو الدرداء يقول: (لا يكون أحدكم تقياً حتى يكون عالماً.. ولن يكون بالعلم جميلاً، حتى يكون به عاملاً).
• ونتعلم منه أن نحافظ على إخواننا.. كان يقول: (أعط أخاك ولِن له.. ولا تطع فيه حاسداً، فتكون مثله.. غداً يأتيك الموت، فيكفيك فقده.. وكيف تبكيه بعد الموت، وفي الحياة ما كنت أديت حقه)..؟
رحم الله أبا الدرداء رحمة واسعة.
مراجع البحث
1- أنصار رسول الله – عبد المنعم الهاشمي.
2- رجال حول الرسول- خالد محمد خالد.
3- صور من حياة الصحابة- د. عبد الرحمن رأفت الباشا.
الهوامش:
(1) البخاري.(90/3)
أبو بكر الصديق أحد العشرة المبشرين بالجنة )
هو عبد الله بن أبي قحافة، من قبيلة قريش، ولد بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بثلاث سنين ، أمه أم الخير سلمى بنت صخر التيمية بنت عم أبيه ، كان يعمل بالتجارة ومن أغنياء مكة المعروفين ، وكان أنسب قريشاً لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر وكان ذا خلق ومعروف يأتونه الرجال ويألفونه اعتنق الاسلام دون تردد فهو أول من أسلم من الرجال الأحرار ثم أخذ يدعو لدين الله فاستجاب له عدد من قريش من بينهم عثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وعبدالرحمن بن عوف ، والأرقم ابن أبي الأرقم.
إسلامه
لقي أبو بكر -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال :( أحقّ ما تقول قريش يا محمد من تركِكَ آلهتنا ، وتسفيهك عقولنا وتكفيرك آباءَنا ؟!) فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( إني رسول الله يا أبا بكر ، ونبّيه بعثني لأبلغ رسالته ، وأدعوك الى الله بالحق ، فوالله إنه للحق أدعوك الى الله يا أبا بكر ، وحده لا شريك له ، ولا نعبد غيره ، والموالاة على طاعته أهل طاعته ) وقرأ عليه القرآن فلم ينكر ، فأسلم وكفر بالأصنام وخلع الأنداد ، وأقرّ بحقّ الإسلام ورجع أبو بكر وهو مؤمن مُصَدّق يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كَبْوَة وتردد ونظر إلا أبا بكر ما عَتّم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه ).
أول خطيب
عندما بلغ عدد المسلمين تسعة وثلاثين رجلاً ، ألح أبو بكر على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الظهور فقال الرسول :( يا أبا بكر إنّا قليل ) فلم يزل يلح حتى ظهر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتفرّق المسلمون في نواحي المسجد ، وكل رجل معه ، وقام أبو بكر خطيباً ورسول الله جالس ، وكان أول خطيب دعا الى الله عزّ وجل والى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين ، فضربوهم ضربا شديدا ، ووُطىءَ أبو بكر ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة ، فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ، وأثّر على وجه أبي بكر حتى لا يعرف أنفه من وجهه ، وجاء بنو تيم تتعادى ، فأجلوا المشركين عن أبي بكر ، وحملوا أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه ولا يشكون في موته ، ورجعوا بيوتهم و قالوا :( والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عُتبة ) ورجعوا الى أبي بكر وأخذوا يكلمونه حتى أجابهم فتكلم آخر النهار فقال :( ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟) فنالوه بألسنتهم وقامو .
أم الخير
ولمّا خلت أم الخير ( والدة أبي بكر ) به جعل يقول :( ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟) قالت :( والله ما لي علم بصاحبك ) قال :( فاذهبي الى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه ) فخرجت حتى جاءت أم جميل ، فقالت :( إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ؟) قالت :( ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن تحبي أن أمضي معك الى ابنك فعلت ؟) قالت :( نعم ) فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا ، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت :( إنّ قوما نالوا منك هذا لأهل فسق ؟! وإنّي لأرجو أن ينتقم الله لك ) .
قال :( فما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟) قالت :( هذه أمك تسمع ؟) قال :( فلا عين عليك منها ) قالت :( سالم صالح ) قال :( فأين هو ؟) قالت :( في دار الأرقم ) قال :( فإن لله عليّ ألِيّة ألا أذوق طعاما أو شرابا أو آتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ) فأمهَلَتا حتى إذا هدأت الرِّجْل وسكن الناس خرجتا به يتكىء عليهما حتى دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانكب عليه يقبله وانكبّ عليه المسلمون ورقّ رسول الله فقال أبو بكر :( بأبي أنت وأمي ليس بي إلاّ ما نال الفاسق من وجهي ، وهذه أمي بَرّة بوالديها ، وأنت مبارك فادعها الى الله ، وادع الله لها عسى أن يستنقذها بك من النار ) فدعا لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم دعاها الى الله عزّ وجل ، فأسلمت فأقاموا مع رسول الله في الدار شهراً ، وكان حمزة يوم ضُرِب أبو بكر قد أسلم.
جهاده بماله
أنفق أبوبكر معظم ماله في شراء من أسلم من العبيد ليحررهم من العبودية ويخلصهم من العذاب الذي كان يلحقه بهم ساداتهم من مشركي قريش ، فأعتق بلال بن رباح وستة آخرين من بينهم عامر بن فهيرة وأم عبيس
فنزل فيه قوله تعالى :"( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ").
منزلته من الرسول
كان -رضي الله عنه- من أقرب الناس الى قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعظمهم منزلة عنده حتى قال فيه :( ان من أمَنِّ الناس علي في صحبته وماله أبوبكر ، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخوة الاسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدّ إلا باب أبي بكر ).(91/1)
كما أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن أبا بكر أرحم الأمة للأمة ، وأنه أول من يدخل معه الجنة فقد قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي ) وأنه صاحبه على الحوض فقد قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( أنت صاحبي على الحوض ، وصاحبي في الغار ).
كما أن أبو بكر الصديق هو والد أم المؤمنين عائشة لذا كان عظيم الإفتخار بقرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومصاهرته له وفي ذلك يقول :( والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبُّ إليّ من أن أصل قرابتي ).
الإسراء والمعراج
وحينما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة الى بيت المقدس ذهب الناس الى أبي بكر فقالوا له :( هل لك يا أبا بكر في صاحبك ، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع الى مكة !) فقال لهم أبو بكر :( إنكم تكذبون عليه ) فقالوا :( بلى ، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس ) فقال أبو بكر :( والله لئن كان قاله لقد صدق ، فما يعجّبكم من ذلك ! فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء الى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ! فهذا أبعد مما تعجبون منه ).
ثم أقبل حتى انتهى الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال :( يا نبي الله ، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة ؟) قال :( نعم ) قال :( يا نبي الله فاصفه لي ، فإني قد جئته ) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :( فرفع لي حتى نظرت إليه) فجعل الرسول الكريم يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر :( صدقت ، أشهد أنك رسول الله ) حتى إذا انتهى قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر :( وأنت يا أبا بكر الصديق ) فيومئذ سماه الصديق.
الصحبة
ولقد سجل له القرآن الكريم شرف الصحبة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثناء الهجرة الى المدينةالمنورة.
فقال تعالى :"( ثاني اثنين اذ هما في الغار ، اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا )"
كان أبو بكر رجلا ذا مال ، فاستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في الهجرة فقال له الرسول :( لا تعْجل لعل الله يجعل لك صاحباً ) فطمع بأن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما يعني نفسه حين قال له ذلك ، فابتاع راحلتين فاحتبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك ، وفي يوم الهجرة ، أتى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيت أبي بكر بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها ، فلما رآه أبو بكر قال :( ما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-هذه الساعة إلا لأمر حدث ).
فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره ، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس عند أبي بكر إلا أسماء وعائشة ، فقال الرسول :( أخرج عني من عندك ) فقال أبو بكر :( يا رسول الله ، إنما هما ابنتاي ، وما ذاك ؟ فداك أبي وأمي !) فقال :( إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة ) فقال أبو بكر :( الصُّحبة يا رسول الله ؟) قال :( الصُّحبة ) تقول السيدة عائشة :( فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ ) ثم قال أبو بكر :( يا نبيّ الله إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا ) فاستأجرا عبد الله بن أرْقَط ، وكان مشركاً يدلهما على الطريق ، فدفعا إليه راحلتيهما ، فكانت عنده يرعاهما لميعادهم.
أبواب الجنة
عن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول :( من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب -يعني الجنة- يا عبد الله هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد ، دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان ) فقال أبو بكر :( ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة ) وقال :( هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله ) قال :( نعم ، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر ).
مناقبه وكراماته
مناقب أبو بكر -رضي الله عنه- كثيرة ومتعددة فمن مناقبه السبق الى أنواع الخيرات والعبادات حتى قال عمر بن الخطاب :( ما سبقت أبا بكر الى خير إلاّ سبقني ) وكان أبو بكر الصديق يفهم إشارات الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي تخفى على غيره كحديث :( أن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عنده ) ، ففهم أنه عليه الصلاة والسلام ينعي نفسه ، ومن ذلك أيضا فتواه في حضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإقراره على ذلك.
وهو أول خليفة في الإسلام ، وأول من جمع المصحف الشريف ، وأول من أقام للناس حجّهم في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعده وكان في الجاهلية قد حرم على نفسه شرب الخمر ، وفي الإسلام امتنع عن قول الشعر كما أنه -رضي الله عنه- لم يفته أي مشهد مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( أنت عتيق الله من النار ) ، فسمّي عتيق.(91/2)
وقد بلغ بلال بن رباح أن ناساً يفضلونه على أبي بكر فقال :( كيف تفضِّلوني عليه ، وإنما أنا حسنة من حسناته !!).
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال : كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-:( أما صاحبكم فقد غامر ) فسلم وقال :( إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء ، فأسرعت إليه ثم ندمت ، فسألته أن يغفر لي ، فأبى علي فأقبلت إليك ) فقال :( يغفر الله لك يا أبا بكر )000 ثلاثا ، ثم إن عمر ندم ، فأتى منزل أبي بكر ، فسأل :( أثم أبو بكر ) فقالوا :( لا ) فأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فسلم ، فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم- يتمعر ، حتى أشفق أبو بكر ، فجثا على ركبتيه فقال :( يا رسول الله ، والله أنا كنت أظلم مرتين ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-:( إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت ، وقال أبو بكر صدق ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي ) مرتين فما أوذي بعده.
خلافته
وفي أثناء مرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يصلي بالمسلمين ، وبعد وفاة الرسول الكريم بويع أبوبكر بالخلافة في سقيفة بني ساعدة ، وكان زاهدا فيها ولم يسع اليها ، اذ دخل عليه ذات يوم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فوجده يبكي ، فساله عن ذلك فقال له :( يا عمر لا حاجة لي في امارتكم !!) فرد عليه عمر :( أين المفر ؟ والله لا نقيلك ولا نستقيلك).
جيش أسامة
وجَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد في سبعمائة الى الشام ، فلمّا نزل بذي خُشُب -واد على مسيرة ليلة من المدينة- قُبِض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وارتدّت العرب حول المدينة ، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله فقالوا :( يا أبا بكر رُدَّ هؤلاء ، تُوجِّه هؤلاء الى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة ؟!) فقال :( والذي لا إله إلا هو لو جرّت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما رَدَدْت جيشاً وجَّهه رسول الله ولا حللت عقدَهُ رسول الله ) فوجّه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا :( لولا أن لهؤلاء قوّة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم ) فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام.
حروب الردة
بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ارتدت العرب ومنعت الزكاة ، واختلف رأي الصحابة في قتالهم مع تكلمهم بالتوحيد ، قال عمر بن الخطاب :( كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :( أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منّي دماءَهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله )؟!) فقال أبو بكر :( الزكاة حقُّ المال ) وقال :( والله لأقاتلن من فرّق الصلاة والزكاة ، والله لو منعوني عَنَاقاً كانوا يُؤدّونها الى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها ) ونصب أبو بكر الصديق وجهه وقام وحده حاسراً مشمِّراً حتى رجع الكل الى رأيه ، ولم يمت حتى استقام الدين ، وانتهى أمر المرتدين.
جيوش العراق والشام
ولمّا فرغ أبو بكر -رضي الله عنه- من قتال المرتدين بعث أبا عبيدة الى الشام وخالد بن الوليد الى العراق ، وكان لا يعتمد في حروب الفتوحات على أحد ممن ارتدَّ من العرب ، فلم يدخل في الفتوح إلا من كان ثابتا على الإسلام.
استخلاف عمر
لمّا أراد أبو بكر أن يستخلف عمر بن الخطاب بعث إليه وقال :( إني أدعوك إلى أمر متعب لمن وليه ،فاتق الله يا عمر بطاعته ، وأطعه بتقواه ، فإن المتقي آمن محفوظ ، ثم إن الأمر معروض لا يستوجبه إلا من عمل به ، فمن أمر بالحق وعمل بالباطل ، وأمر بالمعروف وعمل بالمنكر يوشك أن تنقطع أمنيتُهُ ، وأن يحبط عمله ، فإن أنت وليت عليهم أمرهم فإن استطعت أن تخفّ يدك من دمائهم ، وأن تصم بطنك من أموالهم ، وأن يخف لسانك عن أعراضهم ، فافعل ولا حول ولا قوة إلا بالله ).
وفاته
ولد أبو بكر في مكة عام ( 51 قبل الهجرة ) ومات بالمدينة بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسنتين وثلاثة أشهر وبضع ليال سنة ( 13 هـ ) ولمّا كان اليوم الذي قُبض فيه أبو بكر رجّت المدينة بالبكاء ، ودهش الناس كيوم قُبض الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وجاء علي بن أبي طالب باكيا مسرعا وهو يقول :( اليوم انقطعت خلافة النبوة) حتى وقف على البيت الذي فيه أبو بكر مسجّىً فقال :( رحمك الله يا أبا بكر ، كنت أول القوم إسلاما ، وأكملهم إيمانا ، وأخوفهم لله ، وأشدهم يقينا ، وأعظمهم عناءً ، وأحوطهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وأحدبهم على الإسلام ، وآمنهم على أصحابه ، وأحسنهم صُحْبة ، وأفضلهم مناقب ، وأكثرهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأشبههم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- به هدياً وخُلُقاً وسمتاً وفعل.
(* ثاني اثنين اذ هما في الغار ، اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا *) قرآن كريم(91/3)
أبو بكر الصديق رضي الله عنه )
نسبه: هو عبد اللّه بن عثمان بن عامر بن عَمْرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّة بن كعب بن لؤيّ القرشيّ التيميّ. يلتقي مع رسول اللّه في مُرَّة بن كعب.
وهو عبد الله بن أبي قحافة، من قبيلة قريش، ولد بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بثلاث سنين، أي سنة 573 م بعد الفيل بثلاث سنين تقريباً.
أمه أم الخير سلمى بنت صخر التيمية بنت عم أبيه، أسلم أبو بكر ثم أسلمت أمه بعده، وصحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
كان أبو بكر رضي الله عنه يسمَّى أيضًا: عتيقًا؛ لعتقه من النار. وقيل إن سبب هذه التسمية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "أنت عتيق من النار"، وعن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "أبو بكر عتيق اللّه من النار" فمن يومئذ سمي "عتيقاً".
واشتهر بلقب الصديق: قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: "إن اللّه تعالى هو الذي سمى أبا بكر على لسان رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، صدِّيقاً". وسبب تسميته أنه بادر إلى تصديق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ولازم الصدق فلم تقع منه هِنات ولا كذبة في حال من الأحوال. وعن عائشة أنها قالت: "لما أسري بالنبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدِّث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان آمن وصدق به وفتنوا به. فقال أبو بكر: إني لأصدقه في ما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبا بكر الصديق".
كان يعمل بالتجارة ومن أغنياء مكة المعروفين، وكان أنسب قريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر، وكان ذا خلق ومعروف؛ يأتونه الرجال ويألفونه. اعتنق الإسلام دون تردد فهو أول من أسلم من الرجال الأحرار.
إسلامه
وكان أبو بكر رضي اللّه عنه صديقاً لرسول اللّه قبل البعث، وكان يكثر غشيانه في منزله ومحادثته. لقي -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه و سلم- فقال:( أحقّ ما تقول قريش يا محمد من تركِكَ آلهتنا، وتسفيهك عقولنا وتكفيرك آباءَنا ؟!). فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:( إني رسول الله يا أبا بكر، ونبّيه بعثني لأبلغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق أدعوك إلى الله يا أبا بكر، وحده لا شريك له، ولا نعبد غيره، والموالاة على طاعته أهل طاعته) وقرأ عليه القرآن فلم ينكر، فأسلم وكفر بالأصنام وخلع الأنداد، و أقرّ بحقّ الإسلام ورجع أبو بكر وهو مؤمن مُصَدّق. يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-:( ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كَبْوَة وتردد ونظر إلا أبا بكر ما عَتّم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه) أي أنه بادر به.
فلما أسلم آزر النبي صلى اللّه عليه وسلم في نصر دين اللّه تعالى بنفسه وماله.
كان أبو بكر رضي اللّه عنه من رؤساء قريش في الجاهلية محبباً فيهم مُؤلفاً لهم، وكان إذا عمل شيئاً صدقته قريش فلما جاء الإسلام سبق إليه. وكان تاجراً ذا ثروة طائلة، حسن المجالسة، عالماً بتعبير الرؤيا، وقد حرم الخمر على نفسه في الجاهلية هو وعثمان بن عفان. ولما أسلم جعل يدعو الناس إلى الإسلام وأسلم من الصحابة على يديه فممن أسلم بدعوته: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد اللّه، وأبو عبيده وأبو سلمة ابن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون وخلق. واشترى كثيراً من المستضعفين وأعتقهم لله، منهم: بلال بن رباح وغيره.
ودفع أبو بكر عقبة بن أبي معيط عن رسول اللّه لما خنق رسول اللّه وهو يصلي عند الكعبة خنقاً شديداً. وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}.
الإسراء والمعراج
وحينما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى بيت المقدس ذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا له:( هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع الى مكة !)فقال لهم أبو بكر:( إنكم تكذبون عليه)فقالوا:
(بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس ) فقال أبو بكر:( والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجّبكم من ذلك ! فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ! فهذا أبعد مما تعجبون منه )
ثم أقبل حتى انتهى إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال:( يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة ؟)قال:( نعم )قال:( يا نبي الله فصفه لي، فإني قد جئته )فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:( فرفع لي حتى نظرت إليه)فجعل الرسول الكريم يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر:( صدقت، أشهد أنك رسول الله )حتى إذا انتهى قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر:( وأنت يا أبا بكر الصديق )فيومئذ سماه الصديق
أول خطيب في الإسلام(92/1)
كان أبو بكر ذا مكانة ومنعة في قريش، فلم ينله من أذاهم ما نال المستضعفين، ولكن ذلك لم يمنع أبا بكر من أن يأخذ حظه وقسطه من الأذى، فقد دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- الكعبة واجتمع المشركون عليه وسألوه عن آلهتهم وهو لا يكذب، فأخبرهم فاجتمعوا عليه يضربونه، وجاء الصريخ أبا بكر يقول له: أدرك صاحبك فأسرع أبو بكر إليه وجعل يخلصه من أيديهم وهو يقول: "ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله"، فتركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعلوا يضربونه حتى حمل أبا بكر أهل بيته وقد غابت ملامحه من شدة الأذى.
وقد أصاب أبا بكر من إيذاء قريش شيء كثير. فمن ذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما دخل دار الأرقم ليعبد اللّه ومن معه من أصحابه سراً ألح أبو بكر رضي اللّه عنه في الظهور، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: يا أبا بكر إنا قليل. فلم يزل به حتى خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن معه من الصحابة رضي اللّه عنهم وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس ودعا إلى رسول اللّه، فهو أول خطيب دعا إلى اللّه تعالى. فثار المشركون على أبي بكر رضي اللّه عنه وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضرباً شديداً. ووُطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضرباً شديداً. وصار عُتْبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت بنو تيم يتعادَون فأجْلت المشركين عن أبي بكر إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكُّون في موته، ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا: واللّه لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى آخر النهار،
ثم تكلم وقال: ما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟
فعذلوه فصار يكرر ذلك
فقالت أمه: واللّه ما لي علم بصاحبك.
فقال: اذهبي إلى أم جميل فاسأليها عنه فخرجت إليها وسألتها عن محمد بن عبد اللّه،
فقالت: لا أعرف محمداً ولا أبا بكر ثم قالت: تريدين أن أخرج معك؟
قالت: نعم. فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر فوجدته صريعاً
فصاحت وقالت: إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وإني لأرجو أن ينتقم اللّه منهم،
فقال لها أبو بكر رضي اللّه عنه: ما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟
فقالت: هذه أمك، قال: فلا عليك منها أي أنها لا تفشي سرك.
قالت: سالم هو في دار الأرقم.
فقال: واللّه لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
قالت أمه: فأمهلناه حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس خرجنا به يتكئ عليَّ حتى دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرقَّ له رقة شديدة وأكب عليه يقبله وأكب عليه المسلمون كذلك فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي، وهذه أمي برة بولدها فعسى اللّه أن يستنقذها من النار، فدعا لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودعاها إلى الإسلام فأسلمت.
ولما اشتد أذى كفار قريش لم يهاجر أبو بكر إلى الحبشة مع المسلمين بل بقي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تاركاً عياله وأولاده
هجرته مع رسول الله صلى الله عليه و سلم
كان أبو بكر رجلا ذا مال، فاستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في الهجرة فقال له الرسول:( لا تعْجل لعل الله يجعل لك صاحباً )فطمع بأن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما يعني نفسه حين قال له ذلك، فابتاع راحلتين فاحتبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك، وفي يوم الهجرة، أتى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيت أبي بكر بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، فلما رآه أبو بكر قال:( ما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-هذه الساعة إلا لأمر حدث فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس عند أبي بكر إلا أسماء وعائشة، فقال الرسول:( أخرج عني من عندك )فقال أبو بكر:( يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك ؟ فداك أبي وأمي !)فقال:( إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة )فقال أبو بكر:( الصُّحبة يا رسول الله ؟)قال:( الصُّحبة )تقول السيدة عائشة:( فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ )ثم قال أبو بكر:( يا نبيّ الله إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا )فاستأجرا عبد الله بن أرْيقَط، وكان مشركاً يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما، فكانت عنده يرعاهما لميعادهما واجتهد المشركون في طلبهما حتى دخلا الغار، فأقام مع رسول الله في الغار ثلاثة أيام؛ قال اللّه تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا. وقال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-:"ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!"،
ولولا ثقة رسول اللّه التامة بأبي بكر لما صاحبه في هجرته فاستخلصه لنفسه.(92/2)
وكان أبو بكر أعرف بالطريق، وكان الناس يلقونهما فيسألون أبا بكر عن رفيقه فيقول: "إنه رجل يهديني الطريق"، وبينما هما في طريقهما إذ أدركهما سراقة بن مالك، وكان قد طمع في النياق المائة التي رصدتها قريش لمن يأتيها بمحمد، ولما اقترب سراقة رآه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، ودنا سراقة حتى ما كان بينه وبينهما إلا مقدار رمح أو رمحين فكرر أبو بكر مقولته على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبكى، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لِمَ تبكي؟)، فقال أبو بكر: "يا رسول الله والله ما على نفسي أبكي ولكني أبكي عليك"، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "اللهم أكفناه بما شئت"؛ فساخت قوائم الفرس ووقع سراقة وقال: "يا محمد إن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمّينَّ على مَن ورائي"، فأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى طلبه، ودعاه إلى الإسلام ووعده إن أسلم بسواري كسرى، واستمرا في طريقهما حتى بلغا المدينة،
جهاده بنفسه و ماله
شهد مع رسول اللّه بدراً وأُحداً والخندق وبيعة الرضوان بالحُدَيبية وخيبر وفتح مكة وحُنَيناً والطائف وتَبوك وحَجة الوداع. ودفع رسول اللّه رايته العظمى يوم تبوك إلى أبي بكر وكانت سوداء، وكان فيمن ثبت معه يوم أُحد وحين ولَّى الناس يوم حنين. وهو من كبار الصحابة الذين حفظوا القرآن كله.
وأعتق أبو بكر سبعة ممن كانوا يعذبون في اللّه تعالى وهم: بلال، وعامر بن فهيرة، وزِنِّيرة، والنَّهديَّة، وابنتها، وجارية بني مؤمّل، وأم عُبيس. فنزل فيه قوله تعالى:"(وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ")
وكان أبو بكر إذا مُدح قال: "اللّهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم. اللّهم اجعلني خيراً مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون".
قال عمر رضي اللّه عنه: أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مالاً عندي. فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، فجئت بنصف مالي.
فقال: ما أبقيت لأهلك؟
قلت: مثله.
وجاء أبو بكر بكل ما عنده.
فقال: يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟
قال: أبقيت لهم اللّه ورسوله. قلت: لا أسبقه إلى شيء أبداً.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "ما نفعني مال أحد قطُّ ما نفعني مال أبي بكر"
فبكى أبو بكر وقال: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول اللّه.
ونزل فيه وفي عمر: {وَشَاوِرْهم في الأمر} فكان أبو بكر بمنزلة الوزير من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان يشاوره في أموره كلها.
مكانته عند رسول الله صلى الله عليه و سلم
كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يكرمه ويجله ويثني عليه في وجهه واستخلفه في الصلاة، قال رسول صلى اللّه عليه وسلم لحسان بن ثابت: "هل قلت في أبي بكر شيئاً؟" فقال: نعم.
فقال: "قل وأنا أسمع".
فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العدوّ به إذ صعَّد الجبلا
وكان حِبِّ رسول اللّه قد علموا * من البرية لم يعدل به رجلاً
فضحك رسول اللّه حتى بدت نواجذه، ثم قال: "صدقت يا حسان هو كما قلت".
* قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً". رواه البخاري ومسلم.
عن عمرو بن العاص: أن النبي عليه السلام بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ فقال: عائشة. فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها.
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: أما صاحبكم فقد غامر. فسلم وقال:( إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي فأقبلت إليك. فقال:( يغفر الله لك يا أبا بكر ) ثلاثا،
ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر ، فسأل:( أثم أبو بكر ) فقالوا:( لا )
فأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فسلم، فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم- يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال:( يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم مرتين) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-:( إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي) مرتين فما أوذي بعدها.
فضائله رضي الله عنه
أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن أبا بكر أرحم الأمة للأمة، وأنه أول من يدخل معه الجنة فقد قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-:( أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي )000وأنه صاحبه على الحوض فقد قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-:(أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار )000
كما أن أبو بكر الصديق هو والد أم المؤمنين عائشة لذا كان عظيم الافتخار بقرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومصاهرته له وفي ذلك يقول:( والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبُّ إليّ من أن أصل قرابتي )000
أبواب الجنة(92/3)
عن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:( من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب -يعني الجنة- يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان )000فقال أبو بكر :( ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة )000وقال:( هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله )000قال:( نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر )000
قال عمر بن الخطاب:( ما سبقت أبا بكر إلى خير إلاّ سبقني ) 0وكان أبو بكر الصديق يفهم إشارات الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي تخفى على غيره كحديث:( أن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده )، ففهم أنه عليه الصلاة والسلام ينعي نفسه، ومن ذلك أيضا فتواه في حضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإقراره على ذلك000
وهو أول خليفة في الإسلام، وأول من جمع المصحف الشريف، وأول من أقام للناس حجّهم في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد بلغ بلال بن رباح أن ناساً يفضلونه على أبي بكر فقال:( كيف تفضِّلوني عليه، وإنما أنا حسنة من حسناته !!)000
عن أبي هريرة: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة"
وعن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان على أحد هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان. فتحرك فقال النبي عليه السلام: "اثبت أحد فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان" رواه مسلم.
وعن حذيفة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "اقتدوا باللذَين من بعدي أبي بكر وعمر" رواه الترمذي.
وعن ابن عمر: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي بكر: "أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار" رواه الترمذي.
ومن فضائله رضي اللّه عنه:
أن عمر بن الخطاب كان يتعاهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل فيستقي لها ويقوم بأمرها. فكان إذا جاء وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت. فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها فرصده عمر، فإذا الذي يأتيها هو أبو بكر الصديق، وهو خليفة. فقال عمر: أنت هو لعمري.
خلافته
وفي أثناء مرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يصلي بالمسلمين، وبعد وفاة الرسول الكريم بويع أبو بكر بالخلافة في سقيفة بني ساعدة، وكان زاهدا فيها ولم يسع اليها، وبعد أن تمت بيعة أبي بكر بيعة عامة، صعد المنبر وقال بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه:
"أيها الناس قد وُلِّيت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكَذِب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء اللّه تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم اللّه بالذل، أطيعوني ما أطعت اللّه ورسوله فإذا عصيت اللّه ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم اللّه".
فيا لها من كلمات جامعة حوت الصراحة والعدل، مع التواضع والفضل، والحث على الجهاد لنصرة الدين، وإعلاء شأن المسلمين.
يصاب عمر بالدهشة وهو يرى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمضحي بكل ما يملك في سبيل الله ومن تسلم له الأمة قيادتها اختياراً لا إجباراً ولا تزويراً ولا تهديداً ينظر إليه وقد حمل أمتعته إلى سوقه يطلب الرزق مع الطالبين، ويوجه له سؤالاً على جهة التعجب والاستغراب إلى أين يا أبا بكر؟ فيجيب ذلك العملاق بكل صراحة وثبات إلى السوق لأبحث عن رزق أسرتي وأولادي، ويسقط في يد عمر وهو يرى إصرار القائد العظيم على الذهاب إلى السوق للقيام بواجبه نحو أسرته وتحت إلحاح عمر وشدته يعود أبو بكر إلى منزله، ويجتمع عمر بقيادة المسلمين وتتخذ القيادة قراراً يعطى بموجبها أبو بكر كفايته وكفاية أسرته، حتى يتفرغ لقيادة الأمة ويستجيب أبو بكر.
دخل عليه ذات يوم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فوجده يبكي، فسأله عن ذلك فقال له:( يا عمر لا حاجة لي في إمارتكم فرد عليه عمر:( أين المفر ؟ والله لا نقيلك ولا نستقيلك)
جيش أسامة(92/4)
وجَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلمّا نزل بذي خُشُب -واد على مسيرة ليلة من المدينة- قُبِض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وارتدّت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله فقالوا: يا أبا بكر رُدَّ هؤلاء، تُوجِّه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة ؟! فإذا هو يقول: [[لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت من أمره شيئاً أن أزيغ ] فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. والله لو أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة ، وأن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين؛ ما رددتُ جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللتُ لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو لم يبقَ في القُرَى غيري لأنفذته، أفأطيعه حياً وأعصيه ميتاً!". فأنفذه.
.................... فانقاد كُرهاً من أبى واستكبرا
فوجّه أسامة وجيشه وأبو بكر يودعه ماشيا حافيا، فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا:( لولا أن لهؤلاء قوّة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم)
فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام.
إنه الصدِّيق اتخذ الله معبوده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم دليله وإمامه، فرجح إيمانه.
فحفت به العلياء من كل جانبٍ كما حف أرجاءَ العيون المحاجرُ
حروب الردة
بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ارتدت العرب ومنعت الزكاة، واختلف رأي الصحابة في قتالهم مع تكلمهم بالتوحيد، قال عمر بن الخطاب: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءَهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ؟!
فقال أبو بكر: الزكاة حقُّ المال، ووالله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عَنَاقاً أو عِقالاً كانوا يُؤدّونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها ".
ونصب أبو بكر الصديق وجهه وقام وحده حاسراً مشمِّراً حتى رجع الكل إلى رأيه، ولم يمت حتى استقام الدين، وانتهى أمر المرتدين فنصر الله به دين الله:
قاد السفينَ بجرأة ومهارة كالطَّود نحو مسيرة لا تُهْزَمُ
وارتدت العرب الغلاظ فأشفقتْ همم الرجال فصاح: هل مَن يفهمُ؟
والله لو منعوا عِقال نويقةٍ أدَّوه نحو المصطفى لن يَسلَموا
ومضى أبو بكر لغايته إلى أن أخضع المرتد وهو مرغمُ
هذا هو الإسلام في عليائه مُثُلٌ وأعلامٌ ودينٌ قَيِّمُ
جهز أبو بكر الجيش، وقرّر حرب المرتدين جميعًا، واعتزم أن يخرج بنفسه على قيادة الجيش غير أن علىّ بن أبى طالب لقيه وقد تجهز للخروج فقال له: "إلى أين يا خليفة رسول الله؟ ضم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك ما يكون للإسلام بعدك نظام أبدًا، فرجع أبو بكر، وولى خالدًا على الجيش، وسار خالد فقضى على ردة طليحة الأسديّ ومن معه من بني أسد وفزارة، ثم توجه إلى اليمامة لحرب مسيلمة بن خسر ومن معه من بني حنيفة، وكان يوم اليمامة يومًا خالدًا كتب الله فيه النصر لدينه وقتل مسيلمة وتفرق جنوده ومضى المسلمون يخمدون نار الفتنة والردة حتى أطفأها الله تعالى، ثم استمر جيش خالد في زحفه حتى حقق نصرًا عظيمًا على الروم في معركة اليرموك.
جيوش العراق والشام
ولمّا فرغ أبو بكر -رضي الله عنه- من قتال المرتدين بعث أبا عبيدة إلى الشام وخالد بن الوليد إلى العراق، وكان لا يعتمد في حروب الفتوحات على أحد ممن ارتدَّ من العرب، فلم يدخل في الفتوح إلا من كان ثابتا على الإسلام
استخلاف عمر
عقد أبو بكر في مرضه الذي توفي فيه لعمر بن الخطاب عقد الخلافة من بعده، ولما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بن عوف. فقال: أخبرني عن عمر.
فقال: يا خليفة رسول اللّه هو واللّه أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة.
فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه. ويا أبا محمد قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء، أراني الرضا عنه، وإذا لنت أراني الشدة عليه، لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئاً. قال: نعم.
ودخل على أبي بكر طلحة بن عبيد اللّه. فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم، وأنت لاق ربك فسائلك عن رعيتك؟
فقال أبو بكر وكان مضطجعاً: أجلسوني. فأجلسوه. فقال لطلحة: "أباللّه تفرقني أو باللّه تخوفني، إذا لقيت اللّه ربي فساءلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك"؟.
وأشرف أبو بكر على الناس من حظيرته وأسماء بنت عميس ممسكته موشومة اليدين وهو يقول: "أترضون بمن أستخلف عليكم فإني واللّه ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا(92/5)
فقالوا: "سمعنا وأطعنا".
دعا أبو بكر عثمان خالياً. فقال له: اكتب: "بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به أبو بكر ابن أبي قحافة إلى المسلمين. أما بعد" ثم أغمي عليه فذهب عنه. فكتب عثمان: "أما بعد فإني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً"
ثم أفاق أبو بكر فقال: "اقرأ عليَّ فقرأ عليه فكبَّر أبو بكر وقال:
"أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي".
قال: نعم. قال: "جزاك اللّه خيراً عن الإسلام وأهله" وأقرها أبو بكر رضي اللّه عنه من هذا الموضع. فأبو بكر كان يرى ويعتقد أن عمر بن الخطاب خير من يتولى الخلافة بعده مع شدته. والحقيقة أنه كان كذلك. وقيل إنه لمّا أراد أبو بكر أن يستخلف عمر بن الخطاب بعث إليه وقال:( إني أدعوك إلى أمر متعب لمن وليه، فاتق الله يا عمر بطاعته، وأطعه بتقواه، فإن المتقي آمن محفوظ، ثم إن الأمر معروض لا يستوجبه إلا من عمل به، فمن أمر بالحق وعمل بالباطل، وأمر بالمعروف وعمل بالمنكر يوشك أن تنقطع أمنيتُهُ، وأن يحبط عمله، فإن أنت وليت عليهم أمرهم فإن استطعت أن تخفّ يدك من دمائهم، وأن تصم بطنك من أموالهم، وأن يخف لسانك عن أعراضهم، فافعل ولا حول ولا قوة إلا بالله )000
وفاته
قيل: إنه اغتسل وكان يوماً بارداً فأصابته الحمى خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة فأمر عمر أن يصلي بالناس. ولما مرض قال له الناس: ألا ندعو الطبيب؟ فقال: أتاني وقال لي: أنا فاعل ما أريد، فعلموا مراده وسكتوا عنه ثم مات.
وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس وابنه عبد الرحمن، وأن يكفن في ثوبيه ويشتري معهما ثوب ثالث. وقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت إنما هو للمهلة والصَّديد..
ومات بالمدينة بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسنتين وثلاثة أشهر وبضع ليال سنة (13 هـ )000ولمّا كان اليوم الذي قُبض فيه أبو بكر رجّت المدينة بالبكاء، ودهش الناس كيوم قُبض الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وجاء علي بن أبي طالب باكيا بكاء عظيمًا مسرعا وهو يقول:( اليوم انقطعت خلافة النبوة)000حتى وقف على البيت الذي فيه أبو بكر مسجّىً فقال:( رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنيسه ومكان راحته، وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلاما، وأكملهم إيمانا، وأخوفهم لله، وأشدهم يقينا، وأعظمهم عناءً، وأحوطهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحدبهم على الإسلام، وآمنهم على أصحابه، وأحسنهم صُحْبة، وأفضلهم مناقب، وأكثرهم سوابق، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم درجة، وأشبههم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- به هدياً وخُلُقاً وسمتاً وفعلاً00سمّاك الله في تنزيله صدِّيقًا فقال: "والذي جاء بالصدق وصدق به..."، فالذي جاء بالصدق محمد -صلى الله عليه وسلم- والذي صدق به أبو بكر، واسيته حين بخل الناس، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم صحبة، وخلفته في دينه أحسن الخلافة، وقمت بالأمر كما لم يقم به خليفة نبي...".
- عندما مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمن حوله: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فقالت عائشة: يا رسول الله لو أمرت غيره، فقال: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره"، وقال عليّ بن أبي طالب: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر فصلى بالناس وإني لشاهد غير غائب، وإني لصحيح غير مريض ولو شاء أن يقدمني لقدمني فرضينا لدنيانا من رضيه الله ورسوله لديننا".
- عندما قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- فتن الناس حتى أن عمر بن الخطاب قال: "إن رسول الله لم يمت ولا يتكلم أحد بهذا إلا ضربته بسيفي هذا"، فدخل أبو بكر وسمع مقالة عمر فوقف وقال قولته الشهيرة: "أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت...".
من مواعظه:
- "إن العبد إذا دخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة".
- "وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد".
- "اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه فصدقوا قوله، وانصحوا كتابته، واستضيئوا منه ليوم الظلمة".(92/6)
- قبل موته دعا عمر بن الخطاب وقال له: "إني مستخلفك على أصحاب رسول الله، يا عمر: إن لله حقًّا في الليل لا يقبله في النهار، وحقًّا في النهار لا يقبله في الليل، وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقله عليه، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق غدًا أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفًا، يا عمر إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا، فلا ترغب رغبة فتتمنى على الله ما ليس لك، ولا ترهب رهبة تلقي فيها ما بيديك، يا عمر إنما ذكر الله أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم ما كان من حسن فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون من هؤلاء، وإنما ذكر الله أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم ما كان من سيئ فإذا ذكرتهم قلت: أي عمل من أعمالهم أعمل؟، فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت وهو نازل بك، وإن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أكره إليك من الموت ولست تعجزه".
وقال عمر في حقه: "رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا".
وأخرج البخاري عن محمد بن علي بن أبي طالب - المعروف بابن الحنفية- رحمه الله، أنه سأل أباه رضي الله عنه: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر...". وقد أوجب علي- رضي الله عنه- حد الفرية على من فضله على أبي بكر رضي الله عنه.
وصدق حسان بن ثابت الأنصاري- رضي الله عنه- يوم أن قال:
إذا تذكّرْتَ شجواً من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها بعد النبيّ وأوفاها بما حملا
الثانيَ التاليَ المحمودَ مشهده وأول الناس منهم صَدَّق الرُسلا
وقال أبو محجن عمرو بن حبيب بن عمرو الثقفي:
وسُمِّيتَ صِدِّيقا وكلُّ مهاجرٍ سواك يسمى باسمه غير منكر ِ
وبالغار إذ سُمِّيتَ بالغار صاحبا وكنت رفيقا للنبي المطهَّر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد وكنت جليسا في العريش المشهّرِ
ومن روائع ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/9)، والإمام البخاري في الأدب المفرد (611) والترمذي في السنن(5/467) والطيالسي في مسنده (336) وغيرهم بإسناد صحيح،عن أبي هريرة قال، قال أبو بكر: يا رسول الله علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعي، قال: (قل اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السماوات والأرض رب كل شيء ومليكه اشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك)(92/7)
أبو بكر يوصي عمر
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
* لما حضرت أبا بكر الوفاة أرسل إلى عمر رضي الله عنه قال: إني أوصيك بوصية إن أنت قبلت عني:
إن لله عز وجل حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه في الآخرة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقُل ذلك عليهم، وحقَّ لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلاً. وإنما خفَتْ موازين مَنْ خفَّتْ موازينه في الآخرة باتباعهم الباطل، وخفّته عليهم في الدنيا، وحُقَّ لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً. ألم تر أن الله أنزل آية الرجاء عند آية الشدة وآية الشدة، عند آية الرجاء، ليكون العبد راغباً راهباً، لا يلقي بيديه إلى التهلكة، ولا يتمنى على الله غير الحق.
فإن أنت حفظتَ وصيتي هذه، فلا يكونن غائب أحبَّ إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن أنت ضيَّعْتَ وصيتي هذه، فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت، ولا بد لك منه، ولستَ تعجزه.
لذات أهل الدنيا
* قال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة فلما نظر إلى القبور بكى، ثم أقبل علي فقال:
يا ميمون هذه قبور آبائي "بني أمية" كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصاب الهدام مقبلاً في أبدانهم.
ثم بكى وقال: والله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله تعالى.
نصيحة لمعاوية
* دخل شيخ من الأزد على معاوية فقال له:
اتق الله يا معاوية، واعلم أنك في كل يوم يخرج عنك وفي كل ليلة تأتي عليك، لا تزداد من الدنيا إلا بعداً، ومن الآخرة إلا قرباً، وعلى أثرك طالب لا تفوته، وقد نصب لك علم لا تجوزه، فما أسرع ما تبلغ العلم، وما أوشك أن يلحقك الطالب، وإنا وما نحن فيه وأنت زائل، والذي صائرون إليه باقٍ، إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر.
الهوامش
* مجلة حضارة الإسلام –السنة 5 –العدد 1 –ربيع الأول 1384هـ -تموز 1964م.
المصنف: لابن أبي شيبة: 91/7 – 92، 434 طبعة دار التاج الأول – بيروت 1409هـ.(93/1)
أبو حيان الأندلسي والبحر المحيط
أبو حيان الأندلسي الغرناطي من كبار علماء القرن السابع الهجري، تلقى العلم عن كبار علماء الأندلس، ثم قَدِم مصر فأخذ عن علمائها...فكان على علم جمٍّ بالعربية؛ لغة، ونحوًا، وصرفًا، وشعرًا.وكان فوق ذلك صاحب يد طولى في التفسير، والحديث، وتراجم الرجال، والقراءات القرآنية.
صنفَّ أبو حيان العديد من المؤلفات، التي انتشرت في حياته قبل مماته، وتلقاها الناس بالقبول والرضى... وكان من أهم تلك المؤلفات كتابه "التفسير المحيط" والحديث عنه هو موضوع هذا المقال.
وكتابه المشار إليه مطبوع ومتداول، وهو محط أنظار أهل العلم عامة، وأهل العربية خاصة؛ إذ يُعدُّ - هذا التفسير - المرجع الأهم لمن يريد الوقوف على وجوه الإعراب لألفاظ القرآن ودقائق مسائله النحوية.
فالجانب النحوي هو أبرز ما في هذا التفسير، إذ إن المؤلف - رحمه الله - قد أكثر من ذكر مسائل النحو، وتوسع فيها غاية التوسع، وذكر مسائل الخلاف فيها، حتى كاد الكتاب أقرب ما يكون كتاب نَحْوٍ منه كتاب تفسير!!
بَيْدَ أن أبا حيان - رحمه الله - لم يهمل الجوانب التفسيرية الأخرى في كتابه، بل كان يتعرض لغير مسائل النحو؛ كذكره المعاني اللغوية للآيات، والأسباب الواردة في نزولها، ويتعرض أيضًا لذكر الناسخ والمنسوخ، وأوجه القراءات القرآنية، والأحكام الفقيهة المتعلقة بآيات الأحكام.
وقد ذكر أبو حيان في مقدمة كتابه منهجه في تفسير القرآن الكريم، وحاصل منهجه نستعرضه وفق الآتي:
- يبدأ الكلام على مفردات الآية القرآنية، فيشرحها كلمة كلمة، ويبين معانيها.
- وبعد أن يذكر سبب نزول الآية، إن كان ثمة سبب لنزولها، يشرع في تفسير الآية كاملة..
- ثم يذكر تناسب الآية مع ما قبلها من الآيات.
- وكان من منهج أبي حيان ذِكْرِ أوجه القراءات القرآنية الواردة في الآية، مع توجيهه لتلك القراءات وفق مقتضيات اللغة العربية.
- ثم إن أبا حيان ينقل أقوال السلف والخلف الواردة في معاني الآيات، ويختار منها ما يراه الأقوى دليلاً، والأصح ثبوتاً.
- وكان لأبي حيان - وهو فارس اللغة - اهتمام خاص ببيان النواحي البلاغية في الآية التي يريد تفسيرها... إذ نجده يبين أوجه البلاغة فيها غاية البيان.
- أما معالجته لآيات الأحكام فهذا من منهجه أيضًا، فكان ينقل أقوال الفقهاء في المسألة موضع البحث، ويرجح منها ما يرى أن الدليل يؤيده، والعقل يصوبه.
- ويُلاحظ من منهج أبي حيان في تفسيره أنه لا يُحمِّل النص القرآني ما لا يحتمل، ولا يخرج به عن ظاهره إلا لدليل يقتضي هذا الخروج، ولذلك وجدناه لا يعرض في تفسيره لأقوال أهل الفلسفة، ولا يُعرِّج - لا من قريب ولا بعيد - على أقوال الفرق الباطنية، التي تعتمد التأويل المرجوح لآيات القرآن الكريم.
والمتأمل في هذا التفسير، يلمس أن أبا حيان - رحمه الله - كان في منهجه بعيداً عن أقوال أهل الفلسفة، وبريئاً من مذهب أهل الاعتزال؛ غير أنه - في المقابل - لم يلتزم مذهب أهل السنة والجماعة في مسائل الأسماء والصفات، وإن ظهرت عنده بعض اللمسات التي تدل على تمسكه بمنهج أهل السنة والجماعة في ذلك.
هذا... وقد اعتمد أبو حيان في جمع مادة تفسيره على كتاب "التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير" لـ ابن النقيب، كما أنه كان كثيراً ما ينقل عن الزمخشري، و ابن عطية، خاصة في مسائل النحو، ويتعقبهما في كثير من المسائل، مع اعترافه لهما بمنزلتهما العلمية.
وحاصل القول فيما تقدم: إن هذا التفسير يُعدُّ من التفاسير المدرجة ضمن التفاسير بالرأي؛ وقد عرفنا أن مؤلِّفه اعتمد أساساً على جانب اللغة العربية، نحوًا وصرفًا، في تفسير القرآن الكريم، وهذا للعقل فيه مدخل - أي مدخل - كما لا يخفى على القارئ. نسأل الله التوفيق والسداد والرشاد في الأمر كله، والحمد لله رب العالمين.
12/08/2004
http://www.islamweb.net المصدر :(94/1)
أبو ذر في عصر الكمبيوتر
عرض الشيخ حفظه الله مواقف رائعة من حياة أبي ذر، وذكر أن من صنعوا الكمبيوتر وغيره من الأجهزة، لم يعيشوا عيشة أبي ذر؛ لأنهم عاشوا هذه الحضارة بالكفر والجهل، وأما أبو ذر فمع فقره عاش حياة أحسن وأسعد منهم؛ ومنهج هؤلاء يقوم على الكفر والطغيان فلا بد أن ينتهي ويزول، ولا يشك في ذلك عاقل.
وقد تطرق إلى سيرته العظيمة، من بداية كيفية إسلامه وبحثه عن الدين الحق ثم إلى مناقبه وفضائله ودعوته وجراءته في الحق وحتى وفاته رضي الله عنه.
علاقة أبي ذر بجهاز الكمبيوتر
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
دمعة الزهد فوق خدك خرسا ووجيب الفؤاد يحدث جرسا
أنت من أنت يا محب وماذا في حناياك هل تحملت مسا
ما لهذي الدموع مالك صبٌ حالكم مأتمٌ وقد كان عرسا
شامة الزهد في مُحيَّاك صارت قصةً تطمس الحكايات طمسا
لاطفوني هددتهم هددوني بالمنايا لاطفت حتى أُحَسَُا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت في الحق نفسا
أطرد الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى
قد بكت غربتي الرمال وقالت يا أبا ذر لا تخف وتأسا
قلت لا خوف لم أزل في شباب من يقيني ما مت حتى أدسا
أنا عاهدت صاحبي وخليلي وتلقنت من أماليه درسا
لوحوا بالكنوز راموا محالاً وأروني تلك الدنانير ملسا
كلها لا أريد فكوا عناني أطلقوا مهجتي فرأسي أقسى
واتركوني أذوب في كل قلب أغرس الحب في حناياه غرسا
أجتلي كل روضة بدموعي وأبث الأزهار في الروض همسا
هذه مقطوعة من قصيدة: أبو ذر في القرن الخامس عشر، وهو صاحبنا هذه الليلة، وهو ربان الرحلة، وهو أستاذ القصة وبطلها، وسوف نجلس معه أكثر من ساعة، لنسمع أخباره، ولننثر عليكم أسراره، ولنربط بينه وبين حياتنا الآن في عصر الكمبيوتر، فما علاقة هذا الرجل الصحابي المجاهد الزاهد الذي مات في الصحراء بهذا الجهاز الذي اكتشف في هذا العصر؟
ثلاث مسائل:
أولها: هل تثقف الإنسان يوم اكتشف الكمبيوتر؟
هل تثقفت روحه؟
هل أشرقت نفسه؟
هل تجلى خاطره؟
هل زاد نوره؛ لأنه اكتشف الكمبيوتر والمكبر والكهرباء والطائرة والصاروخ والثلاجة والبرادة؟
والجواب: لا.
إن الذين اكتشفوا هذه الأمور يَشْكُون من ضيق الصدر والقلق والاضطراب والمرض، والتشنج، والانتحار، نشرت صحيفة الظهيرة في الافتتاحية: طبيب يعالج من السرطان قتل نفسه، يقولون: كان يداوي الناس، ثم أخذ الخنجر وذبح نفسه، لأنه ضاق خاطره، فمع هذا العلم والاكتشاف أتى الانتحار، وأتى القلق، وأتى الضيق، قلقٌ وضيق لم يعشه أبو ذر ، ولم يجده أبو ذر ، بل كان صدره فسيحاً على خبز، وعلى خيمة، ومع قطيعٍ من الماعز، وهو عنده أثمن من الطائرة، ومن الصاروخ، ومن الكمبيوتر.
إذن يقول الله سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126] يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
هل خطر لمن اكتشف الكمبيوتر أن الله سوف يجمع الأولين والآخرين إلى يوم لا ريب فيه؟
هل خطر له أن هناك جنةً وحساباً وميزاناً وكوثراً؟
هل سمع في حياته أن هناك نعيماً ورؤيةً لله؟
إنما أسعد البشرية، وأشقى نفسه!
وهل تذكر من اكتشف الكهرباء أن الله عز وجل سوف يبرز للناس يوم القيامة؟
قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94] ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].
هذا إيمان بالمادة، وهو إيمان مقطوع مبتور، ولذلكم ظهر بعض الناس ممن اكتشف هذه الاكتشافات، ونسوا أنهم نسوا مصيرهم: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66].
ثانياً: كان من الوسائل التي أريد أن أربط بينها وبين عنوان المحاضرة، وقد سبقت في محاضرة الأسبوع الماضي من باب التنبيه، بعنوانها "الممتاز في مناقب الشيخ عبد العزيز بن باز " وعشنا مع هذا الرجل العصري الذي نور الله قلبه يوم فقدَ بصره.
المسألة الثانية: هل تغير الإنسان باكتشافه؟
هل أكل أكثر مما يأكل؟
هل رأى في الحياة متعاً أكثر مما رآها أبو ذر ؟
أما عاش ذاك ستين وهذا ستين؟!
أما مات ذاك ومات هذا؟!
أما ذاق هذا الماء وذاك الماء؟!
ولكن المصير عند الله.
ثالثاً: هل السعادة التي بحث عنها الإنسان وجدها؟(95/1)
أنا قلت: هل يمر بالصحابي مثلما يمر الآن بالمكتشف أو المخترع الأوروبي، أو الفرنسي، أو الأمريكي، أو الياباني من القلق والاضطراب والحيرة والضيق، والأمراض النفسية، هل وجد هذا؟
لا، كان أبو ذر سعيداً، وما هو أكْلُ أبي ذر ؟
لم يسكن قصراً، ولم يركب سيارةً، ولم يمتط طائرةً، وما كان عنده ثلاجة ولا برادة ولا سخانة، ولا كهرباء ولا ماء مبرد أو مثلج، إنما كان متاعه شملة، وكسرة خبز، وقربة معلقة، وصحفة وعصا؛ دخلوا عليه، وهو في مرض الموت، قالوا: أين متاعك؟
قال: هذا، فوجدوا شملة يكتسي بشيء منها، ويفرش لضيفه، ويرتديها في المنام، ووجدوا صحفة يغتسل فيها، ويأكل فيها طعامه، يقرب فيها ماءه، وقربة، وعصا، قالوا: وأين بقية المتاع؟
قال: {إن رسولي وحبيبي صلى الله عليه وسلم أخبرني أن أمامي عقبةً كئوداً، وأنه لا يجتازها إلا المخف }.
أمامنا عقبة المخف فيها يصعد، وهي عقبة الآخرة والحساب، يقول الشيخ حافظ الحكمي :
هم المقلون الذين أكثروا إلا إذا لم يسرفوا أو يقتروا
والمال والأولاد فتنة وما للمرء نافع سوى ما قدما
وإنما الغنى غنى النفس ولا عبرة بالتراث بل هو ابتلا
لو كان في المال افتخار لم يرا آل الرسول والصحاب فقرا
فهذا الشيخ حافظ يدبج لك كلاماً بديعاً، وهو زاهد جيزان وعالم جيزان ، يقول:
خذ واضح الحل ودع مكسبها مخافة المحذور يا من فقها
وازهد بدنياك وأقصر الأمل واجعل لوجه الله أجمع العمل
وزهرة الدنيا بها لا تفتتن ولا تغرنك وكن ممن فطن
تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا
......
قصص عن السعادة
أعرف رجلاً عابداً زاهداً في قرية في جهة نجد له مزرعة، وله بعض الغنم، ومن مسجده إلى بيته، عنده المصحف، ويتنفل، ويصوم، ويعبد الله في سعادة ما سمع بها الناس، وفي نور من الله، كلامه يقودك إلى الجنة، يقولون: يقوم قبل الفجر بساعتين وهمه القرآن، إن مات فإلى جنة - إن شاء الله- وإن عاش عاش سعيداً، لم يصبه القلق من الحشود على الحدود، ولا من التهديدات الدولية، ولا من القوات في الخليج ، وإنما يعيش القرآن، وطريق الجنة والصيام والاستغفار، وهو قليل الخلطة بالناس، لا يسمع غيبة، ولا تمر به الشيكات السياحية، ولا كلمة الدولار، ولا التضخم المالي، ولا قلة الموارد الغذائية، ولا مشكلة تلوث البيئة، ولا غير ذلك.
وعندنا تاجر شهير في البلاد، عمل عملية في مستشفى في جدة - وجد الأطباء أن عنده سوء تغذية، ووجدوا أن أمعاءه التصقت، وسئل أنه كان يتغدى غداءً خفيفاً، كان يتغدى فولاً وجبناً، والناس يتغدون لحماً وأرزاً، الفقراء الآن الواحد منهم ربما ضحى بدجاجتين في الغداءً سمطاً، ولكن أهل رءوس الأموال أكثر الناس قلقاً، كارنيجي يقول: إن أكثر الناس قلقاً هم أهل رءوس الأموال، لأنه لا يفتأ يفتح السجلات، وعنده تلفونان يتصل بهما، ولا يأتي أهله إلا في ظلام، أو بعد الواحدة، أو الثانية فينام، ثم يصحو متأخراً، فكأنه مبرمج يجمع ويحسب ويسجل ويكتب ويتصل، ونسي نفسه حتى أصيب بسوء التغذية، ولو علم أن المال القليل.
ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكن التقيَّ هو السعيدُ
وكان أحد الصالحين يقول:
ماءٌ وخبزٌ وظلُّ ذاك النعيم الأجلُّ
كفرت نعمة ربي إن قلت أني مقلُّ
ودخلوا على عالم من علماء العراق فوجدوه يفطر في الصباح، ثم لا يبقى عنده في البيت شيء، عنده خبز وزيتون وماء، قالوا: هذا طعامك الدهر؟!
قال: الحمد لله، زيتون من زيتون الشام -انظر شكر النعمة- وماء من ماء دجلة ، وخبز من خبز العراق ، فمن أنعم مني في الناس؟!
إن السعادة ليست في هذا التطور الذي يعيشه الإنسان.
وكم رأينا من الناس من باستطاعته أن يغير كل يوم سيارة، باستطاعته أن يركب كل يوم سيارة غير الأخرى، ولكن تجد على وجهه من الغضب والحزن ما الله به عليم، وعلمنا وتيقنا أنه -والله- من أراد السعادة، فلن يجدها إلا في طاعة المولى، وفي العمل الصالح، وفي النور الذي أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام.
بحثوا عن السعادة في المنصب، وكان أعظم منصب في الدنيا منصب فرعون، ولكن قتله منصبه، فالذي أدخله البحر منصبه، والذي دكدكه تحت الماء منصبه.
وقارون بحث عن المال، وجمع المال، وأصبح أغنى رجل في العالم، ومهما حاول الناس -الآن- أن يتقدموا في جمع الأموال، فلا يستطيعون أن يصلوا إلى ما وصل إليه قارون : مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76] أي: المجموعة من الرجال لا يحملون المفاتيح، فكيف بالخزينة، إذا أرادوا أن يفتحوا الباب، أتى ثمانية يحملون المفاتيح، فكيف بما وراء الباب؟
كان كالجبال من الذهب، وهذا لا تملكه الدول ولا الشعوب، ومع ذلك كان ماله سبب فقره وخزيه، ولما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ [القصص:81] فالميزانية وبيت المال معه، والشرف رد أبا جهل وألحقه بالخاسرين.(95/2)
صاحبنا هذه الليلة عجيب، وفي حياته طرف وغرائب، وفيها ما يدهش، وأنا اخترته عمداً، لنعيش معه قليلاً، ونسمع لآرائه في الحياة.......
أبو ذر والمال المدخر
قبل ما يقارب عشرين سنة جاء أتباع المجرم استالين -كما تعرفون- وقد كون دولته من قبل في عهد لينين ، وأتوا بحثوا ونقروا في الإسلام ليجدوا ولو رأي عالم يوافقهم في رأيهم الاشتراكي في الاقتصاد، فوجدوا أن أبا ذر يوافقهم، فألفوا كتاباً روسياً، وعليه أبو ذر على الكتاب المجلد: شيخ كبير، باللغة الروسية ويحمل عصا، وما على رأسه شيء، وقالوا: زعيم الاشتراكية في العالم: أبو ذر ، والسبب في ذلك أنه رضي الله عنه وأرضاه فهم قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34] قال: ما دام أن الله تهدد من كنز الذهب والفضة، إذن فلا يحل لك، ولا يجوز لك أن تدخر شيئاً من المال أبداً، يعني على رأي أبي ذر إذا جاءك آخر الشهر راتب، وأنفقت وأعطيت أطفالك للمدرسة، واشتريت لهم الدفاتر والخبز والطعام، فما بقي فوزعه في الناس، وهذا مذهب الاشتراكية وهو خطأ وقد خطأه الصحابة، وقالوا: لا، المقصد زك مالك زك ذهبك، زك فضتك، لأنك إذا زكيته فليس بكنز، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول مرة: {أتؤدين زكاته؟ قالت: نعم، قال: فليس بكنز } فالمال الذي تزكيه ليس بكنز، ففهم أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه أن المال يوم يُدَّخَر سواء زُكِّي، أو لم يزك أنه حرام، بل يشاع في الناس، فتلقفوا هذه الكلمة، وحيوا أبا ذر ، وترى خالد محمد خالد في كتاب: رجال حول الرسول ، وهو لا يزال حياً، وهو مفكر مصري -كما تعرفون- وفيه خير كثير، لكنه كان يؤمن بالمادية الجدلية ، وكان فيه لوثة، ثم هداه الله، وكتبت عنه مجلة المجتمع قبل أكثر من اثني عشرة سنة، ومجدته بعودته إلى الله، لكنه لدغ بكلمة في ترجمة أبي ذر في كتاب" رجال حول الرسول " حتى يقول: أظن الكادحين يؤيدون أبا ذر -كلمة الكادحين أتت من موسكو - في بعض البلاد العربية دخلت الشيوعية ، كان الناس مسترزقين، وكانوا يقطفون الأعناب، ويصيدون الأسماك، ويشتغلون، والشعب يتحرك، وكانوا في رخاء، فأتت الشيوعية تحت مظلة نصرة المستضعفين والكادحين فنادت: يا شعوب الأرض، يا مستضعفي الأرض توحدوا، فلما أتوا سلخوا أموال الأغنياء، وتركوا الفقراء بلا عمل، وأغلقت دور الرعاية، ودور الأيدي العاملة، وما وجد الناس حقولاً للعمل، فجلسوا في بيوتهم.
حج أحدهم في مكة ، فقابله أحد العلماء، قال: كيف وضع الكادحين في بلادكم؟ قال: القائم بطحوه، والتاجر كدحوه، وهذا هو المنهج، فإنها تفلس، ولذلك لما أتى جرباتشوف قال: أفلست الشيوعية أصبحت فقيرة، فصارت الدول العربية تعطيها الأموال وروسيا دولة عظمى في عالم العسكرية عندها قوات تدمر العالم، لكنها في عالم الاقتصاد منهارة تماماً، أصبحت الدول العربية تمد روسيا الآن بالملايين، وأوروبا أرسلت لها ما يقارب ألف مليون دولار غير الحقوق لتنقذ الشعب، نظامهم: أنا أشتغل إلى آخر الشهر وأنت نائم في البيت ثم تأخذ راتبي، أعمل في البطاطس، فإذا أنتجت قاسمتني الثمرة، ففي أي شريعة أو أي عقل، وفي أي منهج في الحياة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] فأتى الآن جرباتشوف وعارضهم.
وفي كتاب: البروسترويكا يعني: إعادة بناء الاشتراكية ، أعاد بناءه، وقال: هذه الاشتراكية لا تصلح، ولكن ما عنده وقت، ويخاف أن يزحزحوه، وبدأت الجمهوريات الإسلامية تنفصل كما علمت، وسوف تبقى الجمهورية الأصل روسيا فحسب، وبعد سنوات سوف تصبح روسيا مثل بقية الدول ليست عظمى، والآن ألمانيا تجتازها بخطوات وفرنسا ، وهذا لا يهمنا في شيء، ولكن صاحبنا أتى بنظرية أخطأ فيها، ونقول: غفر الله له، وما نقصت من قدره، وليس معصوماً، والصحابي قد يخطئ، والعالم قد يزل في مسألة، ومع ذلك يبقى محترماً شريفاً.......
كيف عرف أبو ذر الإسلام؟
كان في الصحراء في غفار وغفار قبيلة فدائية مهاجمة، تهاجم الحجاج وتختلس ما عندهم من أموال، وتقتحم المنازل، فهم بمفهوم العصر، كانوا إرهابيين.
ولا يمشي ماش من مكة إلى الشام إلا اعترضته غفار ، حتى كانت المرأة تدس طفلها، فإذا بكى عليها، قالت: خذوه يا غفار -أي: اسرقوه وكلوه- هذا مقصودها، من هذه القبيلة كان ذاك الرجل الذي سمع أن هناك في مكة رجلاً يدعو إلى لا إله إلا الله.
فشقت الصمت والأنسام تحملها تحت السكينة من غار إلى غار
تطوي الدياجير مثل الفجر في ألقٍ تروي الفيافي كمثل السلسل الجاري(95/3)
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار
هذا الرجل أتى من الغار يقول: لا إله إلا الله، وبعد خمسة وعشرين سنة، وإذا أسبانيا تدخل معه في الغار والسند ، وتركستان وبخارى ، وثلاثة أرباع الدنيا، فأبو ذر كان يرعى في الصحراء، فهو بدوي رضي الله عنه وأرضاه، فسمع بالنبي وهو كإنسان يحب الاطلاع، طفلك الآن إذا أتيت له بآلة، وأصبح يتحدث، قال: ما اسم هذا المسمار، كذا، وتبقى معه ليلة كاملة، وأنت تسمي له كل غرض، من اتصل بك؟ ما اسمه؟ ما اسم هذا؟ ما اسم ذاك؟
فيحب الاطلاع. قال لأخيه: اذهب إلى هذا الرجل الذي في مكة ، وانظر ماذا يدعو إليه حتى نرى، فركب أخوه، ويسمى أنيس حتى وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن يظهر أن أنيساً كان مستعجلاً يريد أن يأخذ رءوس الأخبار، من دون تفصيل، جاء وكفار قريش هيئوا وزارة إعلام متنقلة في أنحاء مكة ، كلما أتى داخل قالوا: عم صباحاً يا أخا العرب، ماذا تريد؟
قال: أريد محمداً، قالوا: مجنون ساحر، قال: في أمان الله، رجع، قالوا: مجنون ساحر، وكانوا يرشون الناس، أتى الأعشى شاعر نجد يريد أن يسلم، ويدخل في دين الله، أتى بقصيدة رنانة طنانة يقول فيها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم مسهدا
شباب وشيب وافتقار وثروة فلله هذا الدهر كيف ترددا
فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تزور محمدا
يقول: أقسمت أن أترك الناقة تمشي إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم تراحي وتلقي من فواضله يدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
هو من الشعراء العالميين، واقترب بهذه القصيدة يريد أن يحيي عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليته لقيه، لكن قضاء الله، فلقيه أبو سفيان وهو مشرك، قال أبو سفيان : إلى أين يا أعشى ، قال: إلى محمد، قال: ما عندك؟
قال: أمتدحه بقصيدة، قال: كم تظن أنه يعطيك من المال؟
قال: مائة ناقة، أي أنه سمى الجائزة، قال: خذ مائة ناقة، فأخذها فعاد، فلما وصل إلى جراب وقصته ناقةٌ فمات كافراً.
كان كفار قريش يرصدون الطرق، يسمى هذا الحظر الإعلامي، لا يصل إنسان إلا وقد غزوه، حتى يقول أحدهم خائفاً وهو الطفيل بن عمرو الدوسي ، قال: وضعت القطن في أذني حتى لا أسمع شيئاً -وقصته أخرى- فوصل أخو أبي ذر إلى مكة ، فقالوا: احذر الساحر، احذر الكاهن، احذر المجنون، فرجع.
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [ الطور:15] فرجع إلى أخيه قال: رجل يقولون إنه مجنون، أو ساحر، أو كاهن يدعو إلى شيء، وردوه قومه، قال أبو ذر : ما قضيت ما في نفسي، والمثل العامي يقول: "ما قضى حاجة مثل ساقي" فقال: عليك بالغنم، أي: أنا سآتيك بخبره، فركب الناقة، ودخل مكة ، وكان ذكياً يسمى الباحث عن الحقيقة، يريد أن يصل إلى الرجل، يريد أن يسمع، ولذلك احذروا من (وكالة أنباء يقولون) فبعض الناس يأتيك بقصة، قلت: من أخبرك حفظك الله؟ قال: يقولون فتصنيف الآراء على هذه المنقولات خطأ: {بئس مطية الإنسان زعموا } يقولها عليه الصلاة والسلام، (قالوا وقلنا) ليست كلمة (قيل وقال) ممنوعة في الشرع، وبعض الإخوة يأتيك يقول: حدثني شاب أنه وقعت قصة مريبة مدهشة، فنذهب إلى ذاك: من حدثك؟
قال: حدثني شاب، ونذهب إلى الشاب، قال: حدثني شاب، حتى يضيع السند ويتبين أنه معضل وهذا لا يصح، فلابد أن يكون السند قوياً: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [ الإسراء:36].
دخل أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه مكة ، ولما وصل الحرم وفقه الله بعلي بن أبي طالب -حياه الله، حيا الله علياً - وسوف يكون لنا ليلة مع أبي الحسن لا تغرب نجومها، علي هذا محبوب، لكن نحبه الحب القدسي الطاهر الذي يقربنا منه إلى الله، ويجلسنا معه في الجنة، كان علي ذاك الوقت شاباً يتوقد، أبوه شيخ هو أبو طالب ، لكنه رفض الإسلام، لكن هذا الشاب الحي، يقول العقاد في كلمة معناها، قال: إن في قصة علي سلوة، سلوة للمنكوبين في الحياة، وسلوة للصابرين على طريق الجهاد، وسلوة للعلماء المضطهدين، وسلوة للمجاهدين الذين يريدون الحق، وسلوة للمستضعفين في الأرض.
وجد أبا ذر ، فحياه، قال: من أين أتيت يا أخا العرب؟ قال: جئت ألتمس هذا الرجل، قال: تعال معي، فأدخله عنده، فأعطاه زبيباً، ولم يكن عندهم طعام جاهز إذ ذاك، بل عندهم خبز وزبيب وماء.
قال: كل، فأكل، قال: أين هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي؟(95/4)
قال: أنا أنزل أنا وإياك إلى الحرم، فإذا صادفت أو وافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف أتظاهر أني أخصف نعلي، فهو الرجل الذي أمامي فسلم عليه، والرسول عليه الصلاة والسلام يظهر بين الناس، ليس شخصاً عادياً حتى في مظهره، يقول أنس : {والله الذي لا إله إلا هو، لقد نظرت إلى البدر ليلة أربعة عشر وإلى وجهه صلى الله عليه وسلم فلوجهه أجمل من القمر ليلة أربعة عشر } وقال أبو هريرة : {كأن الشمس تجري في وجهه } ويقول سيد قطب : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مهياً جسمانياً ليقود العالم.
يقول ابن رواحة : لما رأى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فعليه المهابة والجلابة والملاحة والنور والجمال، فسبحان من صوره فأحسن تصويره، جميل، أدعج العينين، بياضه مشوب بحمرة، يؤثر فيها أدنى شيء حتى إذا وضع أصابعه أثرت في وجهه، كأنه يخرج من ديماس، ما كأنه خرج من مكة أرض القحط والجفاف والجدب، لأنه مهيأ ليقود العالم.
قال: إذا نزلت ووافقته فسوف أتظاهر بإصلاح نعلي، فتقدم وسلم عليه، فنزل علي ، وفعل علي ذلك؛ لأنه يخاف من الاستخبارات، فكفار قريش يلاحقونه بالعيون، يقولون: هذا الذي يدل الناس على محمد، وهناك فرقة للضرب، وفرقة للعض وفرقة للمصارعة، وفرقة للملاكمة،والرسول صلى الله عليه وسلم يشهد هذه المناظر كل يوم، يرى الأصنام ما كسرها؛ لأنه يريد أن يكسرها من العقول أولاً، ويأتون إليه صلى الله عليه وسلم يريدون اغتياله، ويحميه الله عز وجل، يأتي ملك الجبال يقول: أأطبق عليهم الأخشبين؟
قال: { لا، إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً } يدمون قدمه، ويسيل الدم، فيمسح الدم صابراً، ويقول: {اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون } فيقول الله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
كيف تمسك أعصابك أمام هذا الهيجان؟
الإنسان منا الآن من أجل متر من الأرض قد يقاتل، أنا أعرف بعض الناس يحمل مسدسه ويقول: أقتله أو يقتلني هذا اليوم، وتجد إما ميزاباً أو غصناً أو سكة ولو أتى اليهود، فر من أمامهم إلى تهامة .
وقف علي رضي الله عنه يخصف نعله، فتقدم ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما عرف أنه هو، قال: عم صباحاً يا أخا العرب، وهذه تحية الجاهلية، فما كانوا يعرفون السلام عليكم، الذي أتى بالسلام محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أتى ببسم الله محمد، الذي أتى بالحمد لله الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أتى بالله أكبر محمد صلى الله عليه وسلم، وكما قال تعالى في رسوله: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ [النساء:113].
يقول امرؤ القيس :
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيد مخلد قليل الهموم ما يبيت بأوجال
قال: عم صباحاً يا أخا العرب، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم، وهو جالس، قال: إن الله أبدلني تحية خير من تحيتك، قال: ما هي؟
قال: السلام عليكم ورحمة الله، قال: السلام عليكم ورحمة الله، قال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فجلس، فكان هذا اللقاء الحار.
فابتدأ صلى الله عليه وسلم، وهذا من لطفه، ومن حسن خلقه البديع، يقول سُبحَانَهُ تَعَالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] يقول: كيف دخلت إلى قلوب العرب؟
العربي قبل الإسلام عقله جاف خشب، من يكلم الخشب؟
سيفه معه يذبح أخاه، لا يفهم، لا طهارة، لا فكر، لا أدب، لا رقي، لا احترام.
كيف ألفت بين قلوب الناس؟
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63] فكان من هديه أن يسأل القادم، وهذا من حسن الكرم.
إذا أتاك ضيف وجلس، فاسأله: كيف حالكم؟ كيف أهلكم؟ جاءكم أمطار؟
أما أن تسكت، وتضرب عن الكلام لهذه المصيبة التي ألمت بك، فلن يفاتحك وسوف يستأذن منك، أو يتوب فلا يعود لك مرة ثانية.
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
فقال: من الرجل؟
قال: أبو ذر ، قال: ممن؟(95/5)
قال: من غفار ، فتبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الطموح للمستقبل، والنظر إلى هذا الرجل وإلى هذه الأمة، يحاصر في مكة لا جندي ولا حارس، ولا معه مؤيدون، معه شيخ هو أبو بكر ، ومعه غلام هو علي ، ومعه مولى هوزيد بن حارثة ، ومعه امرأته خديجة وهؤلاء أربعة هم حصيلة الدعوة، وينزل عليه وهو على الصفا وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فيضحك كفار قريش، ويبتسم بعضهم إلى بعض، قالوا: رحمة للعالمين وهو ما استطاع أن يمنع نفسه! ولكن والله اجتاحهم، وبعد عشر سنوات أو أكثر دخل والسيف بيده، وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، فنكس الأصنام وفتح الدنيا: إِِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً [الفتح:1-2].
قال صلى الله عليه وسلم: ممن الرجل؟
قال: من غفار، فتبسم صلى الله عليه وسلم، ونظر في السماء، وكفار قريش يلحدون عند البيت، سامراً يهجرون، يشربون الخمر عند الحجر الأسود، يكفرون بالله، يحاربون لا إله إلا الله، ويأتي هذا من غفار سلبة الحجاج، وسرقة العرب، يأتي ليسلم، قال صلى الله عليه وسلم وهو يتلفت: إن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ثم قال أبو ذر : من أنت؟
قال: أنا رسول الله قال: من أرسلك؟
قال: الله، قال: إلى من أرسلك؟
قال: إلى الناس، قال: بماذا أرسلك؟
انظر الأسئلة الحية الرائعة البديعة، لم يسأله عن نسبه، ولا متى ولد، ولا بطاقتك الشخصية لو سمحت، ولا متى تزوجت، ولا كم عندك من طفل، أربعة أسئلة: من أنت؟ رسول الله.
من أرسلك؟ الله. إلى من أرسلك؟ إلى الناس.
وبماذا أرسلك؟ بأن يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيء.
قال: أسمعني من هذا الكلام الذي عندك -هذه العرب أمة ذكية تحفظ الشعر، تعرف الخطب، يعرفون السحر والكهانة، يعرفون كل شيء- قال: أسمعني من الكلام الذي عندك، فابتدأ صلى الله عليه وسلم ينطلق، وأتى عليه بسورة، وهي مختلفة عند أهل العلم، منهم من يقول: إنه ابتدأ يرتل عليه بصوته الجميل الأخَّاذ، وإذا كان المرتل عليه الصلاة والسلام هو الرسول فكفى به: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق:1-2].
أبو ذر يعزف الكلام فيدخل في قلبه، ويطارد نفسه، ويدخل في كل ذرة من جسمه، ووصل النور إلى عقله، ويستمر صلى الله عليه وسلم، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو ذر : والله لأقومن منادياً بها عند الصفا ، قال صلى الله عليه وسلم: لا تقم؛ لأنه يخاف عليه فهم متهيئون حول الحرم، لكنه قام وقال: يا معشر قريش، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فما انتهى من كلامه إلا وهم يطوقونه، فضربوه حتى أصبح مبطوحاً في الأرض، هذه هي النتيجة، لكن في سبيل الله، وإذا دمه يسيل، وأغمي عليه، ورش بالماء، قال العباس لكفار قريش: ويلكم، هذا من غفار وهم على طريق التجارة إلى الشام ، بإمكانه وقومه أن يعطلوا قافلتكم، فتورعوا خوفاً من الحصار الاقتصادي، ومن الحظر البحري الذي تعرفونه، وتوقفوا، ولما توقفوا رجع أبو ذر ، فعاد إلى غفار ، فجمع قومه، وكان شديداً في ذات الله، قوياً، متحمساً، مندفعاً، عنده عاطفة جياشة، أحياناً تنضبط، وأحياناً لا تنضبط، فجمع امرأته قال: جسمي من جسمك حرام، وهدمي من هدمك حرام، ودمي من دمك حرام، حتى تؤمني بالله، قالت: كيف أومن؟
فعلمها، فآمنت، وعلم أهله، فآمنوا، وجمع قومه تحت شجرة كبيرة، فأخبرهم بهذا فآمنوا جميعاً، ثم أتى بموكب من النور، شق الظلام كمثل السلسل الجاري، يمر بهم إلى المدينة ، وقد انتقل صلى الله عليه وسلم بدعوته، وكون العاصمة إلى المدينة ، يرسل النور من المدينة حياً على هواء المحبين مباشرة، فحياه صلى الله عليه وسلم ورحب به.......
موقف الصحابة من أبي ذر عندما وصل إلى المدينة
يقول خالد محمد خالد : قام الصحابة يظنون أن هناك جيشاً يريد أن يغزو المدينة ، الغبار في السماء، وهي قبيلة غفار أتى يقودها أبو ذر ليدخلوا في الدين.
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3].
قام صلى الله عليه وسلم، وقام الصحابة بعضهم خاف وفزع، وبعضهم لبس السلاح.
حياه عليه الصلاة والسلام، وكان بعض أهل السير، يقول: كان أبو ذر يلتفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعيونه تدمع، ويقول: عرفتني يا رسول الله؟
قال: نعم عرفتك؛ لأنه لم يلتق به إلا لقاءً واحداً عرف فيه الدين.
قال: نعم عرفتك، وماله لا يعرف محبيه؟! وماله لا يعرف تلاميذه عليه الصلاة والسلام؟!(95/6)
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعبٌ من الأموات أحياه
يقول خالد محمد خالد : قام الصحابة يظنون أن هناك جيشاً يريد أن يغزو المدينة ، الغبار في السماء، وهي قبيلة غفار أتى يقودها أبو ذر ليدخلوا في الدين.
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3].
قام صلى الله عليه وسلم، وقام الصحابة بعضهم خاف وفزع، وبعضهم لبس السلاح.
حياه عليه الصلاة والسلام، وكان بعض أهل السير، يقول: كان أبو ذر يلتفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعيونه تدمع، ويقول: عرفتني يا رسول الله؟
قال: نعم عرفتك؛ لأنه لم يلتق به إلا لقاءً واحداً عرف فيه الدين.
قال: نعم عرفتك، وماله لا يعرف محبيه؟! وماله لا يعرف تلاميذه عليه الصلاة والسلام؟!
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعبٌ من الأموات أحياه
مواقف أبي ذر
ويدخل أبو ذر الدين، وله مواقف أذكر بعضها :.....
أبو ذر والحديث
أعظم حديث لأهل الشام يرويه أبو ذر ، وما أعلم في الأحاديث النبوية أكثر تأثيراً من هذا الحديث، رواه مسلم والإمام أحمد والترمذي ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يا عبادي! إني حرمت على نفسي الظلم وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه } يكفينا شرفاً أن راوي هذا الحديث أبو ذر ، كان إذا حدث يقوم على ركبه، من جلالة الحديث، هذا الحديث حديث قدسي رائع يصل إلى القلوب، وكان الراوي عنه أبو مسلم الخولاني ، أو أبو إدريس وهو الصحيح؛ يجثو على ركبتيه إذا أراد أن يحدث.
قال الإمام أحمد : ليس لأهل الشام أشرف من هذا الحديث، حديث شريف عظيم، يرويه أبو ذر للناس، وكان إذا أراد أن يستفتح خطبته يقوم على ركبه , ويذكره للناس، ويرسله للقلوب، ويحيي به الأرواح.أعظم حديث لأهل الشام يرويه أبو ذر ، وما أعلم في الأحاديث النبوية أكثر تأثيراً من هذا الحديث، رواه مسلم والإمام أحمد والترمذي ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يا عبادي! إني حرمت على نفسي الظلم وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه } يكفينا شرفاً أن راوي هذا الحديث أبو ذر ، كان إذا حدث يقوم على ركبه، من جلالة الحديث، هذا الحديث حديث قدسي رائع يصل إلى القلوب، وكان الراوي عنه أبو مسلم الخولاني ، أو أبو إدريس وهو الصحيح؛ يجثو على ركبتيه إذا أراد أن يحدث.
قال الإمام أحمد : ليس لأهل الشام أشرف من هذا الحديث، حديث شريف عظيم، يرويه أبو ذر للناس، وكان إذا أراد أن يستفتح خطبته يقوم على ركبه , ويذكره للناس، ويرسله للقلوب، ويحيي به الأرواح.
أبو ذر وبلال(95/7)
هناك قصة وقعت لأبي ذر مع بلال : جلس الصحابة يتشاورون، وقائدهم خالد بن الوليد في معركة، فتكلم بلال رضي الله عنه وتعرفون أنه أسود، لكنه منادي السماء، بلال حبيبنا، وكان عمر يقول: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ]] يعني بلالاً الذي رفع الصوت الخالد الله أكبر الله أكبر، والله جعله سيداً من السادات، وله قصر في الجنة، فتكلم أبو ذر فقاطعة بلال ، فقال أبو ذر : تقاطعني يابن السوداء، سبحان الله! هل ضل فكره؟
هل ضاع عقله رضي الله عنه؟
لماذا هذا الكلام؟
وهل الله عز وجل يحاسب الناس على الألوان؟
وهل عندنا تمييز عنصري؟
وهل نحن نعود إلى الأنساب؟
وأقول عند هذه المسألة كلمة هي كلمة أهل العلم، وهي ما يوافق كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الطبقية حرام في المجتمع، وإنها تخالف الكتاب والسنة، قضية قبيلي وغير قبيلي، قضية الذين يقولون: هذا خط كذا، وهذا خط كذا، هؤلاء يتزوجون من هؤلاء، وهؤلاء لا يتزوجون من هؤلاء؛ هذا حرام ومنكر، وهذه الطبقية مما يخدش وجه ديننا، وهي تزري بنا أمام الأمم، وأمام الشعوب، وأمام الدول الأخرى، وأمام الديانات، وهذه موجودة في المناطق عندنا كأن الناس مجمعون عليها وراضون بها، وصنفوا الأسر، أسرة قبيلة، وأسرة غير قبيلة، موالي وأشراف، ويسمونها بالمفهوم الساذج الرخيص الحقير: هذا خط مائة وعشرة، وهذا خط مائتين وعشرين، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
بلال هذا تزوج أخت عبد الرحمن بن عوف "هالة " رضي الله عنها، والشرف لعبد الرحمن بن عوف ، ويقول عمر : وددت أني زوجت بلالاً إحدى بناتي -لله درك يا فاروق الدنيا، ويا فاروق التاريخ- يقول: ما زال في قلبي حسرة، وودت أني تشرفت وزوجت هذا الرجل العظيم، صاحب التاريخ الأجل.
يقول خالد محمد خالد : بلال يعرفه مسلمو الصين ، ومسلمو اليابان , ومسلمو السودان ، ومسلمو العراق والمغرب ، وكل مسلم على وجه الأرض، الأطفال يعرفون بلالاً ، فيقول: يا بن السوداء، قال بلال : والله لأرفعنك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام لماذا؟
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]
{المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره } لماذا انتهاك الأعراض؟
لماذا ذكر الألوان؟
أنحن في جنوب أفريقيا أو في إسرائيل؟
نحن في المدينة ، فذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأخبره، فامتقع وجهه عليه الصلاة والسلام، واحمر وتأثر كثيراً، ودخل أبو ذر وهو خائف، دخل يسلم على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: فسلمت عليه، فوالله ما علمت هل رد علي السلام أم لا من الغضب، والتفت إليه صلى الله عليه وسلم مؤنباً ومؤدباً وغضوباً، قال: {أعيرته بأمه؟ إنك امروءٌ فيك جاهلية } أي: بقي فيك رواسب من الجاهلية، فهو صلى الله عليه وسلم يقول بلسان الحال: أنا أتيت لأطمس الجاهلية، أتيت أمحو هذه الوثنية وهذا التخلف، أتيت لأقصم رأس الرجعية، أتيت أنور العقول، وأحرر الأبدان والأفكار، أتيت أدعو إلى تحرير الإنسان، وإخاء الإنسان مع الإنسان، لا طبقية، ولا تمييز عنصري، ولا دم ولا لغة ولا لون، أتيت بلافتة لا إله إلا الله، فبلال يدخل الجنة، وأبو جهل سيد قريش يدخل النار، وصهيب الرومي المولى يدخل الجنة، وفرعون في النار، فلا فخر.
إذا افتخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا
فندم أبو ذر وبكى، وقال: يا رسول الله، أعلى كبر سني؟ أي أفي جاهلية على كبر سني؟ قال: نعم، ثم خرج أبو ذر ، فمر بلال ، فوضع أبو ذر رأسه على التراب، وقال: لا أرفع رأسي حتى تطأه بقدمك؛ أنت الكريم، فبكى بلال واحتضن أبا ذر من فوق التراب وعانقه وتباكيا، وقال: والله، لا أطؤك برجلي.
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:100-101]
اسمع لأبي تمام ، شاعر الإبداع، يقول في الإخاء:
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد(95/8)
ما هناك سوداني ومصري وسعودي ويمني وكويتي ومغربي وباكستاني، لا، فما دمنا رفعنا لا إله إلا الله، ولافتة "إياك نعبد وإياك نستعين" فكلنا سواسية، وأعظمنا المتقي.
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
هناك قصة وقعت لأبي ذر مع بلال : جلس الصحابة يتشاورون، وقائدهم خالد بن الوليد في معركة، فتكلم بلال رضي الله عنه وتعرفون أنه أسود، لكنه منادي السماء، بلال حبيبنا، وكان عمر يقول: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ]] يعني بلالاً الذي رفع الصوت الخالد الله أكبر الله أكبر، والله جعله سيداً من السادات، وله قصر في الجنة، فتكلم أبو ذر فقاطعة بلال ، فقال أبو ذر : تقاطعني يابن السوداء، سبحان الله! هل ضل فكره؟
هل ضاع عقله رضي الله عنه؟
لماذا هذا الكلام؟
وهل الله عز وجل يحاسب الناس على الألوان؟
وهل عندنا تمييز عنصري؟
وهل نحن نعود إلى الأنساب؟
وأقول عند هذه المسألة كلمة هي كلمة أهل العلم، وهي ما يوافق كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الطبقية حرام في المجتمع، وإنها تخالف الكتاب والسنة، قضية قبيلي وغير قبيلي، قضية الذين يقولون: هذا خط كذا، وهذا خط كذا، هؤلاء يتزوجون من هؤلاء، وهؤلاء لا يتزوجون من هؤلاء؛ هذا حرام ومنكر، وهذه الطبقية مما يخدش وجه ديننا، وهي تزري بنا أمام الأمم، وأمام الشعوب، وأمام الدول الأخرى، وأمام الديانات، وهذه موجودة في المناطق عندنا كأن الناس مجمعون عليها وراضون بها، وصنفوا الأسر، أسرة قبيلة، وأسرة غير قبيلة، موالي وأشراف، ويسمونها بالمفهوم الساذج الرخيص الحقير: هذا خط مائة وعشرة، وهذا خط مائتين وعشرين، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
بلال هذا تزوج أخت عبد الرحمن بن عوف "هالة " رضي الله عنها، والشرف لعبد الرحمن بن عوف ، ويقول عمر : وددت أني زوجت بلالاً إحدى بناتي -لله درك يا فاروق الدنيا، ويا فاروق التاريخ- يقول: ما زال في قلبي حسرة، وودت أني تشرفت وزوجت هذا الرجل العظيم، صاحب التاريخ الأجل.
يقول خالد محمد خالد : بلال يعرفه مسلمو الصين ، ومسلمو اليابان , ومسلمو السودان ، ومسلمو العراق والمغرب ، وكل مسلم على وجه الأرض، الأطفال يعرفون بلالاً ، فيقول: يا بن السوداء، قال بلال : والله لأرفعنك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام لماذا؟
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]
{المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره } لماذا انتهاك الأعراض؟
لماذا ذكر الألوان؟
أنحن في جنوب أفريقيا أو في إسرائيل؟
نحن في المدينة ، فذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأخبره، فامتقع وجهه عليه الصلاة والسلام، واحمر وتأثر كثيراً، ودخل أبو ذر وهو خائف، دخل يسلم على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: فسلمت عليه، فوالله ما علمت هل رد علي السلام أم لا من الغضب، والتفت إليه صلى الله عليه وسلم مؤنباً ومؤدباً وغضوباً، قال: {أعيرته بأمه؟ إنك امروءٌ فيك جاهلية } أي: بقي فيك رواسب من الجاهلية، فهو صلى الله عليه وسلم يقول بلسان الحال: أنا أتيت لأطمس الجاهلية، أتيت أمحو هذه الوثنية وهذا التخلف، أتيت لأقصم رأس الرجعية، أتيت أنور العقول، وأحرر الأبدان والأفكار، أتيت أدعو إلى تحرير الإنسان، وإخاء الإنسان مع الإنسان، لا طبقية، ولا تمييز عنصري، ولا دم ولا لغة ولا لون، أتيت بلافتة لا إله إلا الله، فبلال يدخل الجنة، وأبو جهل سيد قريش يدخل النار، وصهيب الرومي المولى يدخل الجنة، وفرعون في النار، فلا فخر.
إذا افتخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا
فندم أبو ذر وبكى، وقال: يا رسول الله، أعلى كبر سني؟ أي أفي جاهلية على كبر سني؟ قال: نعم، ثم خرج أبو ذر ، فمر بلال ، فوضع أبو ذر رأسه على التراب، وقال: لا أرفع رأسي حتى تطأه بقدمك؛ أنت الكريم، فبكى بلال واحتضن أبا ذر من فوق التراب وعانقه وتباكيا، وقال: والله، لا أطؤك برجلي.
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها(95/9)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:100-101]
اسمع لأبي تمام ، شاعر الإبداع، يقول في الإخاء:
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
ما هناك سوداني ومصري وسعودي ويمني وكويتي ومغربي وباكستاني، لا، فما دمنا رفعنا لا إله إلا الله، ولافتة "إياك نعبد وإياك نستعين" فكلنا سواسية، وأعظمنا المتقي.
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
أبو ذر والإمارة
ويصلح أبو ذر رضي الله عنه، وتستمر به الحياة، ويولي الرسول عليه الصلاة والسلام بعض الصحابة الإمارة والمنصب، وبعض الناس ولو كان صالحاً لو رعى شاتين ضيعها، حتى الدبابيس ربما تضيع من مكتبه، ويقول عمر : [[اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة ]].
فلابد مع الصلاح من القوة والفهم والإدراك، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعين الناس حسب طاقاتهم فهو الذي ربى الصحابة، ويعرف أين يصلح كل واحد منهم، فهذا خالد بن الوليد لو جعله صلى الله عليه وسلم فرضياً فلن يعرف كيف يقسم ما سمعنا أن خالد بن الوليد يقسم الفرائض، فهو لا يعرف نصيب الجدة ولا الخالة ولا العمة، هو لا يعرف إلا قطع الرءوس، وزيد يقسم للموتى. إذا قطع الرأس يقول: خالد : أنتم تصرفوا في الميراث، أنا علي أقطع لكم الرءوس، وأنتم تصرفوا في المواريث حفظكم الله، فهو رئيس قسم الجهاد، وهو متخصص في ضرب الأعناق في سبيل الله.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
هذا خالد .
حسان بن ثابت ، ماذا يجيد؟
هو لا يفسر القرآن، لكن عنده قوافي، فهو في قسم الأدب، يدخل الجنة بالأدب، يقرب إليه صلى الله عليه وسلم المنبر، يقول: {اهجهم وروح القدس معك }.
زيد بن ثابت {أفرضكم زيد }.. { معاذ : أعلم أمتي بالحلال والحرام } أبي {أقرأ أمتي أبي } سيد القراء أبي ، هكذا التخصصات، هذا يجب أن يعيه المربون والأساتذة، لا تجعل طالباً خطيباً، وهو لا يستطيع أن يقول كلمتين، فلما رأى أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يولي بعض الصحابة ولا يوليه ظن أن الأمر حسب الأفضلية، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله، وليت فلاناً، ووليت فلاناً، أريد أن توليني، أي يريد مرسوماً في الصباح يصدر مبكراً أنه: قد وليناه كذا وكذا، فتبسم صلى الله عليه وسلم، فهو يعرف الطاقات، ويعرف الاستعدادات، ويعرف الناس، ونعرف أن أبا ذر أمين وصادق، لكن المسألة يراد لها تخصصات، فتبسم صلى الله عليه وسلم وضرب على كتفه، قال: {إنك امرؤ ضعيف، وإنها أمانة، وإنها خزي وندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة }.
هذه الإمارة دائماً: (نعمت المرضعة، وبئست الفاطمة).. كيف؟
أول ما يتولى الإنسان، وأول ما يأتيه مرسوم التعيين، يكون في عيد، والحارات تشتبك باللمبات الكهربائية، والبرقيات: (نهنئكم بمنصبكم الجديد، فسيروا على بركة الله باليمن والمسرات) وبعد سنة يأتي مرسوم العزل، فيجلس يبكي في غرفة، والوالدة في غرفة، وزوجته في غرفة، والأطفال في غرفة والأصدقاء تفرقوا، بئست الفاطمة، هذه مناصب الدنيا، لأن الذي يؤتيها بشر، وينزعها بشر، لكن الله عز وجل إذا آتى الإنسان لا ينزعه إلا هو.
يقول إبراهيم بن أدهم : إنا في عيش لو علم به الملوك لجالدونا عليه بالسيوف.
كان إبراهيم بن أدهم ينام على الرصيف، لكن عنده إيمان وقوة واتصال بالله عز وجل، مثلما فعل ابن تيمية : يوم دخل على ابن قطلوبك -السلطان السلجوقي- قال: أعلن الجهاد، وكان سلطاناً مسلماً لكن يشرب الخمر، اجتاح التتار العالم الإسلامي فدخل ابن تيمية على السلطان السلجوقي، يقول له: أعلن الجهاد الآن.
قال: والله لتعلننَّ الجهاد، قاتلهم بالسيوف الشرعية المحمدية، أعلن الجهاد.
قال: يهزموننا.
قال: والله لننتصرن.
قال: قل إن شاء الله.
قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
قال: يابن تيمية سامحنا وددنا لو زرناك في بيتك.
قال: دعنا من كدراتك يابن قطلوبك ، كان موسى يزور فرعون في اليوم مراراً، ثم قال: سمعنا أنك تريد ملكنا، فضحك ابن تيمية وقال: ملكك؟!
قال: نعم.
قال: والله ما ملكك وملك أجدادك يساوي عندي فلساً، إني أريد جنة عرضها السماوات والأرض.
خذوا كل دنياكم واتركوا لي فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ولاه منصباً، وقال له: أنت ضعيف.(95/10)
قالوا: ضعيف الرأي رضي الله عنه، قد يكون الإنسان صالحاً، لكن تختلط عليه الأمور، أحياناً قد تغيب من مكتبك وتأتي بأحد الموظفين، وإن كان صالحاً يصوم ثلاثة من كل شهر، يصلي الضحى، لكن يضيع عليك المعاملات، يجعلها حيص بيص وهو صالح، لكن الأمور لابد أن تعطى إلى أهلها الذين يدركونها، وهذا أمر معلوم في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
في نص الحديث عند مسلم وأحمد : {يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم }.
كان أبو ذر حتى في الإمامة لا يتقدم، يقول: لا يتولى على اثنين، وما كان يتولى في السفر، يكره الإمارة؛ لأنها كُلفة ولأنها تكثر أوجاع الرأس، ولأنها حمل للمغرم.
كان عمر بن عبد العزيز وهو أمير المؤمنين لا ينام بعض الليالي، فتقول زوجته فاطمة : لم لا تنام يا أمير المؤمنين؟
قال: كيف أنام وأمة محمد في عليه الصلاة والسلام في عنقي.
أي ففيهم الفقير، والمسكين، والأرملة، والمحتاج فكيف أنام والله يسألني يوم القيامة عنهم؟
وكان عمر يبكي ويقول: يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت شجرة، يا ليتني ما عرفت الحياة، يا ليتني ما توليت الخلافة.
وعند أحمد في المسند : {ما من والٍ يلي إلا غُل يوم القيامة، فإن عدل أطلق، وإن لم يعدل دهده على وجهه في النار } فالرسول صلى الله عليه وسلم حذر أبا ذر بأنه لا يصلح لهذا ونهاه , وأبعده عن هذا، فرضي الله عنه وأرضاه.ويصلح أبو ذر رضي الله عنه، وتستمر به الحياة، ويولي الرسول عليه الصلاة والسلام بعض الصحابة الإمارة والمنصب، وبعض الناس ولو كان صالحاً لو رعى شاتين ضيعها، حتى الدبابيس ربما تضيع من مكتبه، ويقول عمر : [[اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة ]].
فلابد مع الصلاح من القوة والفهم والإدراك، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعين الناس حسب طاقاتهم فهو الذي ربى الصحابة، ويعرف أين يصلح كل واحد منهم، فهذا خالد بن الوليد لو جعله صلى الله عليه وسلم فرضياً فلن يعرف كيف يقسم ما سمعنا أن خالد بن الوليد يقسم الفرائض، فهو لا يعرف نصيب الجدة ولا الخالة ولا العمة، هو لا يعرف إلا قطع الرءوس، وزيد يقسم للموتى. إذا قطع الرأس يقول: خالد : أنتم تصرفوا في الميراث، أنا علي أقطع لكم الرءوس، وأنتم تصرفوا في المواريث حفظكم الله، فهو رئيس قسم الجهاد، وهو متخصص في ضرب الأعناق في سبيل الله.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
هذا خالد .
حسان بن ثابت ، ماذا يجيد؟
هو لا يفسر القرآن، لكن عنده قوافي، فهو في قسم الأدب، يدخل الجنة بالأدب، يقرب إليه صلى الله عليه وسلم المنبر، يقول: {اهجهم وروح القدس معك }.
زيد بن ثابت {أفرضكم زيد }.. { معاذ : أعلم أمتي بالحلال والحرام } أبي {أقرأ أمتي أبي } سيد القراء أبي ، هكذا التخصصات، هذا يجب أن يعيه المربون والأساتذة، لا تجعل طالباً خطيباً، وهو لا يستطيع أن يقول كلمتين، فلما رأى أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يولي بعض الصحابة ولا يوليه ظن أن الأمر حسب الأفضلية، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله، وليت فلاناً، ووليت فلاناً، أريد أن توليني، أي يريد مرسوماً في الصباح يصدر مبكراً أنه: قد وليناه كذا وكذا، فتبسم صلى الله عليه وسلم، فهو يعرف الطاقات، ويعرف الاستعدادات، ويعرف الناس، ونعرف أن أبا ذر أمين وصادق، لكن المسألة يراد لها تخصصات، فتبسم صلى الله عليه وسلم وضرب على كتفه، قال: {إنك امرؤ ضعيف، وإنها أمانة، وإنها خزي وندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة }.
هذه الإمارة دائماً: (نعمت المرضعة، وبئست الفاطمة).. كيف؟
أول ما يتولى الإنسان، وأول ما يأتيه مرسوم التعيين، يكون في عيد، والحارات تشتبك باللمبات الكهربائية، والبرقيات: (نهنئكم بمنصبكم الجديد، فسيروا على بركة الله باليمن والمسرات) وبعد سنة يأتي مرسوم العزل، فيجلس يبكي في غرفة، والوالدة في غرفة، وزوجته في غرفة، والأطفال في غرفة والأصدقاء تفرقوا، بئست الفاطمة، هذه مناصب الدنيا، لأن الذي يؤتيها بشر، وينزعها بشر، لكن الله عز وجل إذا آتى الإنسان لا ينزعه إلا هو.
يقول إبراهيم بن أدهم : إنا في عيش لو علم به الملوك لجالدونا عليه بالسيوف.
كان إبراهيم بن أدهم ينام على الرصيف، لكن عنده إيمان وقوة واتصال بالله عز وجل، مثلما فعل ابن تيمية : يوم دخل على ابن قطلوبك -السلطان السلجوقي- قال: أعلن الجهاد، وكان سلطاناً مسلماً لكن يشرب الخمر، اجتاح التتار العالم الإسلامي فدخل ابن تيمية على السلطان السلجوقي، يقول له: أعلن الجهاد الآن.
قال: والله لتعلننَّ الجهاد، قاتلهم بالسيوف الشرعية المحمدية، أعلن الجهاد.
قال: يهزموننا.
قال: والله لننتصرن.
قال: قل إن شاء الله.(95/11)
قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
قال: يابن تيمية سامحنا وددنا لو زرناك في بيتك.
قال: دعنا من كدراتك يابن قطلوبك ، كان موسى يزور فرعون في اليوم مراراً، ثم قال: سمعنا أنك تريد ملكنا، فضحك ابن تيمية وقال: ملكك؟!
قال: نعم.
قال: والله ما ملكك وملك أجدادك يساوي عندي فلساً، إني أريد جنة عرضها السماوات والأرض.
خذوا كل دنياكم واتركوا لي فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ولاه منصباً، وقال له: أنت ضعيف.
قالوا: ضعيف الرأي رضي الله عنه، قد يكون الإنسان صالحاً، لكن تختلط عليه الأمور، أحياناً قد تغيب من مكتبك وتأتي بأحد الموظفين، وإن كان صالحاً يصوم ثلاثة من كل شهر، يصلي الضحى، لكن يضيع عليك المعاملات، يجعلها حيص بيص وهو صالح، لكن الأمور لابد أن تعطى إلى أهلها الذين يدركونها، وهذا أمر معلوم في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
في نص الحديث عند مسلم وأحمد : {يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم }.
كان أبو ذر حتى في الإمامة لا يتقدم، يقول: لا يتولى على اثنين، وما كان يتولى في السفر، يكره الإمارة؛ لأنها كُلفة ولأنها تكثر أوجاع الرأس، ولأنها حمل للمغرم.
كان عمر بن عبد العزيز وهو أمير المؤمنين لا ينام بعض الليالي، فتقول زوجته فاطمة : لم لا تنام يا أمير المؤمنين؟
قال: كيف أنام وأمة محمد في عليه الصلاة والسلام في عنقي.
أي ففيهم الفقير، والمسكين، والأرملة، والمحتاج فكيف أنام والله يسألني يوم القيامة عنهم؟
وكان عمر يبكي ويقول: يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت شجرة، يا ليتني ما عرفت الحياة، يا ليتني ما توليت الخلافة.
وعند أحمد في المسند : {ما من والٍ يلي إلا غُل يوم القيامة، فإن عدل أطلق، وإن لم يعدل دهده على وجهه في النار } فالرسول صلى الله عليه وسلم حذر أبا ذر بأنه لا يصلح لهذا ونهاه , وأبعده عن هذا، فرضي الله عنه وأرضاه.
شخصية أبي ذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو ذر يقول: {بايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً -يعني خمس بيعات- وواثقني سبعاً، وأشهد الله علي تسعاً، ألا أخاف في الله لومة لائم } رواه أحمد بسند جيد.
ولذلك كان يقول الحق، وأحياناً يكاد رأسه أن يطير، لكن مثلما يقول الشعر النبطي:
في سوق جاتك ما هي في سوق هونا
فهو من الله عز وجل على بصيرة، فقد بايع على ذلك.
يذهب في دمشق ينهى عن المنكر يذهب في عهد عثمان فيرى أهل الأموال: فيتكلم معهم، ما يقف موقفاً إلا ويتكلم، لأنه دائماً يقول: ألا أخاف في الله لومة لائم، ويقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فجلست إليه، فقال: أصليت؟
قلت: لا، فقام فصلى، ثم جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي الرواية الأخرى أنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدني منجدلاً في المسجد، وهذا عند أحمد والطبراني وفيه شهر بن حوشب ، وهو ضعيف، فقال: فاستويت جالساً، فقال صلى الله عليه وسلم: أتنام في المسجد؟ -وهو جائز النوم في المسجد، لكن يسأله صلى الله عليه وسلم: هل أنت دائماً تنام هنا في المسجد- قال: يا رسول الله! وهل لي بيت غير المسجد؟!
يقول: أين أنام -لا فندق ولا بيت- يقول: كيف بك إذا أخرجوك من المسجد؟ -يخبره عن المستقبل- يقول: كيف بك أنت إذا مر يوم يقول: اخرج من المدينة ؟
قال: يا رسول الله، أخرج إلى الشام أرض الغزو وأرض الأنبياء، وبيت المقدس ، قال: فكيف إذا أخرجوك من الشام ؟ قال: أعود إلى هذا المسجد.
قال: كيف إذا أخرجوك من المدينة ؟ آخذ سيفي فأقاتلهم، فتبسم عليه الصلاة والسلام، قال: لا. تصبر وتحتسب، قال: فأنا صابر محتسب، وأتى ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.أبو ذر يقول: {بايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً -يعني خمس بيعات- وواثقني سبعاً، وأشهد الله علي تسعاً، ألا أخاف في الله لومة لائم } رواه أحمد بسند جيد.
ولذلك كان يقول الحق، وأحياناً يكاد رأسه أن يطير، لكن مثلما يقول الشعر النبطي:
في سوق جاتك ما هي في سوق هونا
فهو من الله عز وجل على بصيرة، فقد بايع على ذلك.
يذهب في دمشق ينهى عن المنكر يذهب في عهد عثمان فيرى أهل الأموال: فيتكلم معهم، ما يقف موقفاً إلا ويتكلم، لأنه دائماً يقول: ألا أخاف في الله لومة لائم، ويقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فجلست إليه، فقال: أصليت؟
قلت: لا، فقام فصلى، ثم جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم.(95/12)
وفي الرواية الأخرى أنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدني منجدلاً في المسجد، وهذا عند أحمد والطبراني وفيه شهر بن حوشب ، وهو ضعيف، فقال: فاستويت جالساً، فقال صلى الله عليه وسلم: أتنام في المسجد؟ -وهو جائز النوم في المسجد، لكن يسأله صلى الله عليه وسلم: هل أنت دائماً تنام هنا في المسجد- قال: يا رسول الله! وهل لي بيت غير المسجد؟!
يقول: أين أنام -لا فندق ولا بيت- يقول: كيف بك إذا أخرجوك من المسجد؟ -يخبره عن المستقبل- يقول: كيف بك أنت إذا مر يوم يقول: اخرج من المدينة ؟
قال: يا رسول الله، أخرج إلى الشام أرض الغزو وأرض الأنبياء، وبيت المقدس ، قال: فكيف إذا أخرجوك من الشام ؟ قال: أعود إلى هذا المسجد.
قال: كيف إذا أخرجوك من المدينة ؟ آخذ سيفي فأقاتلهم، فتبسم عليه الصلاة والسلام، قال: لا. تصبر وتحتسب، قال: فأنا صابر محتسب، وأتى ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
أبو ذر في خلافة عثمان
تولى عثمان رضي الله عنه، وقام أبو ذر يناشد الناس بألا يدخروا الأموال، وهو رأي خطأ، وكلما أتى إلى مجلس في المسجد صاح فيه، وصاح في التجار، وفي السوق، فأراد عثمان رضي الله عنه أن يسيره للشام ليْعلِّم الناس، ولتهدأ المدينة نسبياً، فذهب إلى الشام ، فجلس في المجالس في الشام يقول: لا تكنزوا، وكلما رأى منكراً عدا عليه، وعنده سكين كلما رأى جرة خمر في دمشق شقها، وكلما رأى نصرانياً لا يتقيد بأحكام الإسلام ضربه، فكتب معاوية إلى عثمان : إن كان لك حاجة في الشام ، فخذ أبا ذر إليك، فكتب عثمان إلى أبي ذر أن تعال. فأتى فدخل على عثمان ، فلما أجلسه شاوره الصحابة، فقال أبو ذر : يا أمير المؤمنين -يقصد عثمان - إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لي: {إذا بلغ البناء سلعاً ، فاخرج منها } سلع جبل في المدينة - يقول: إذا امتدت البيوت والسكنى إلى سلع فاخرج من المدينة ، قد تغير الحال، حتى تبقى صافياً نقياً طاهراً، وأنا خارج، قال: اذهب، فأخذ غنمه، وأخذ خيمته، وأخذ زوجته، وذهب إلى الربذة على ثلاثة أميال من المدينة ، فنصب خيمته هناك.
لوحوا بالكنوز راموا محالاً وأروني تلك الدنانير ملسا
كلها لا أريد فكوا عناني أطلقوا مهجتي فرأسي أقسى
واتركوني أذوب في كل قلبٍ أغرس الحب في حناياه غرسا
أجتلي كل روضةٍ بدموعي وأبث الأزهار في الروض همسا
هذه خيمتي وهذا نشيدي ونشيدي الرياح لحناً وهمسا
إلى آخر ما قال.
ذهب إلى الربذة وكان يأتي عند الجمرات في الحج فيعظ الناس، فيقول له أحد الناس: لا تتكلم، أمير المؤمنين ينهاك، فيقول أبو ذر ، وهي في صحيح البخاري : [[أأنت رقيب علي؟!
والله لو وضعتم الصمصام على هذه وظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا على لأنقذتها ]] يقول: والله لو وضعتم السيف على هذه، وبقي عندي كلمة من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لأطلقتها، يقول: لا تخوفني بالموت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بايعه ألا يخاف في الله لومة لائم، وجلس في الربذة ، وكان يزوره الصحابة هناك، وكان يأتي أحياناً يحضر صلاة الجمعة أحياناً، وأحياناً يزور عثمان .
وعند الذهبي في السير أن ابن عباس كان حارساً على باب عثمان رضي الله عنه، فإذا أبو ذر يستأذن، وكان الناس يخافون من أبي ذر فهو ساطٍ قوي حار.
فطرق الباب، فقال: من؟ قال: أبو ذر .
قال ابن عباس لعثمان ، والصحابة جلوس: أبو ذر يستأذن، قال: ائذن له إن شئت أن تحزننا هذه الليلة، وتهممنا وتبرح بنا، وهذه موجود في السير، يقول: إن شئت أن تدخل علينا الهم هذا اليوم، لأن هناك تجاراً جالسون، وسوف يهاجمهم، وهناك أناس ما عدلوا سوف يخاصمهم، وهو يعطي كل إنسان حقه، قال: إن شئت أن تهممنا هذا اليوم فائذن له، لكن الله المستعان يرد أبا ذر ، ائذن له، فدخل ومعه العصا.
- سلام عليكم.
- وعليكم السلام.
- تفضل.
- جلس، سكت المجلس، وبدأ عثمان رضي الله عنه يتكلم في مسألة فرضية مالها علاقة بالتجارة ولا بالصناعة ولا بالزراعة ولا بالبلديات، قال: ما رأيك يا كعب -هذا كعب الأحبار يقسم فرائض- ما رأيك يا كعب في عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، مات وترك مالاً، ما رأيك في هذا المال؟
أتى كعب الآن يقسم، وهو صحيح، قال: تقضى ديونه، وتقسم في ورثته، فقام أبو ذر : فضربه في رأسه -هكذا في السير ، وهي والله موجودة بنصها في السير المجلد الثاني- فضربه في رأسه بالعصا، قال: تضلل الناس، لا بل يوزعه في الناس. على مبدأ الاشتراكية ، وأجله الله، وأعزه الله عن الاشتراكية ، ورفعه الله وكرمه.(95/13)
لكن دخل منها استالين فيقول: لا بل يوزع كله، قال عثمان : هذا ما تحرينا منك منذ اليوم، يعني هذا الذي انتظرناك، وبدأ يحاج رضي الله عنه، ويقول: كذا وكذا وكذا، كلما تكلم أحد قام أبو ذر ، يرد عليه، وفي الأخير هدأ عثمان رضي الله عنه المسألة.تولى عثمان رضي الله عنه، وقام أبو ذر يناشد الناس بألا يدخروا الأموال، وهو رأي خطأ، وكلما أتى إلى مجلس في المسجد صاح فيه، وصاح في التجار، وفي السوق، فأراد عثمان رضي الله عنه أن يسيره للشام ليْعلِّم الناس، ولتهدأ المدينة نسبياً، فذهب إلى الشام ، فجلس في المجالس في الشام يقول: لا تكنزوا، وكلما رأى منكراً عدا عليه، وعنده سكين كلما رأى جرة خمر في دمشق شقها، وكلما رأى نصرانياً لا يتقيد بأحكام الإسلام ضربه، فكتب معاوية إلى عثمان : إن كان لك حاجة في الشام ، فخذ أبا ذر إليك، فكتب عثمان إلى أبي ذر أن تعال. فأتى فدخل على عثمان ، فلما أجلسه شاوره الصحابة، فقال أبو ذر : يا أمير المؤمنين -يقصد عثمان - إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لي: {إذا بلغ البناء سلعاً ، فاخرج منها } سلع جبل في المدينة - يقول: إذا امتدت البيوت والسكنى إلى سلع فاخرج من المدينة ، قد تغير الحال، حتى تبقى صافياً نقياً طاهراً، وأنا خارج، قال: اذهب، فأخذ غنمه، وأخذ خيمته، وأخذ زوجته، وذهب إلى الربذة على ثلاثة أميال من المدينة ، فنصب خيمته هناك.
لوحوا بالكنوز راموا محالاً وأروني تلك الدنانير ملسا
كلها لا أريد فكوا عناني أطلقوا مهجتي فرأسي أقسى
واتركوني أذوب في كل قلبٍ أغرس الحب في حناياه غرسا
أجتلي كل روضةٍ بدموعي وأبث الأزهار في الروض همسا
هذه خيمتي وهذا نشيدي ونشيدي الرياح لحناً وهمسا
إلى آخر ما قال.
ذهب إلى الربذة وكان يأتي عند الجمرات في الحج فيعظ الناس، فيقول له أحد الناس: لا تتكلم، أمير المؤمنين ينهاك، فيقول أبو ذر ، وهي في صحيح البخاري : [[أأنت رقيب علي؟!
والله لو وضعتم الصمصام على هذه وظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا على لأنقذتها ]] يقول: والله لو وضعتم السيف على هذه، وبقي عندي كلمة من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لأطلقتها، يقول: لا تخوفني بالموت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بايعه ألا يخاف في الله لومة لائم، وجلس في الربذة ، وكان يزوره الصحابة هناك، وكان يأتي أحياناً يحضر صلاة الجمعة أحياناً، وأحياناً يزور عثمان .
وعند الذهبي في السير أن ابن عباس كان حارساً على باب عثمان رضي الله عنه، فإذا أبو ذر يستأذن، وكان الناس يخافون من أبي ذر فهو ساطٍ قوي حار.
فطرق الباب، فقال: من؟ قال: أبو ذر .
قال ابن عباس لعثمان ، والصحابة جلوس: أبو ذر يستأذن، قال: ائذن له إن شئت أن تحزننا هذه الليلة، وتهممنا وتبرح بنا، وهذه موجود في السير، يقول: إن شئت أن تدخل علينا الهم هذا اليوم، لأن هناك تجاراً جالسون، وسوف يهاجمهم، وهناك أناس ما عدلوا سوف يخاصمهم، وهو يعطي كل إنسان حقه، قال: إن شئت أن تهممنا هذا اليوم فائذن له، لكن الله المستعان يرد أبا ذر ، ائذن له، فدخل ومعه العصا.
- سلام عليكم.
- وعليكم السلام.
- تفضل.
- جلس، سكت المجلس، وبدأ عثمان رضي الله عنه يتكلم في مسألة فرضية مالها علاقة بالتجارة ولا بالصناعة ولا بالزراعة ولا بالبلديات، قال: ما رأيك يا كعب -هذا كعب الأحبار يقسم فرائض- ما رأيك يا كعب في عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، مات وترك مالاً، ما رأيك في هذا المال؟
أتى كعب الآن يقسم، وهو صحيح، قال: تقضى ديونه، وتقسم في ورثته، فقام أبو ذر : فضربه في رأسه -هكذا في السير ، وهي والله موجودة بنصها في السير المجلد الثاني- فضربه في رأسه بالعصا، قال: تضلل الناس، لا بل يوزعه في الناس. على مبدأ الاشتراكية ، وأجله الله، وأعزه الله عن الاشتراكية ، ورفعه الله وكرمه.
لكن دخل منها استالين فيقول: لا بل يوزع كله، قال عثمان : هذا ما تحرينا منك منذ اليوم، يعني هذا الذي انتظرناك، وبدأ يحاج رضي الله عنه، ويقول: كذا وكذا وكذا، كلما تكلم أحد قام أبو ذر ، يرد عليه، وفي الأخير هدأ عثمان رضي الله عنه المسألة.
موت أبي ذر رضي الله عنه
ثم عاد إلى الربذة ، وأتاه الموت: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [العنكبوت:57].(95/14)
لكنه كان صافياً لم يتعلق من الدنيا بشيء، ما تولى إمارة ولا جمع مالاً، ولا عنده ذهب ولا كنوز، مثلما أخبرتكم هذا رأس المال عنده، وأتته سكرات الموت، فبكت امرأته، قالت: يا أبا ذر : بعد صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبتك لأبي بكر وعمر تموت وحدك في الصحراء، فالتفت إليها، قال: لا عليك، أن أموت وحدي، إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أني أموت في الصحراء، وسوف يشهدني عصابة من المؤمنين، وهذا أمر الله، ثم أوصى وودع الحياة باسماً راضياً عن الله، وهو يحمل المنهج الرباني: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].
وفي حديث الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {رحمك الله يا أبا ذر تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك } وذكر ابن حجر هذا الحديث في الإصابة ورواه البخاري في الكبير وغيره، ولكنه ضعيف، لأن في سنده بريدة بن سفيان ضعفه أهل العلم.
وسياق الحديث أن أبا ذر رضي الله عنه تخلف في معركة تبوك ، وأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يحمل متاعه وحده، قال: {رحم الله أبا ذر ، يعيش وحده ويموت وحده ويبعث وحده } أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والحديث كما قلت ضعيف.
مات وحده في الصحراء، وأتاه عصابة من المؤمنين، يقول الذهبي وأمثاله: كان منهم ابن مسعود ، فلما مات وغسل وطيب وكفن وضعه أهله على قارعة الطريق، وأتىابن مسعود من العراق يريد المدينة ، فرأى الجنازة على الطريق، فأخذ يولول ويبكي، ويقول: واحبيباه! ووا أبا ذراه! ثم قال: صدق حبيبي صلى الله عليه وسلم: تموت وحدك، وتعيش وحدك، وتبعث وحدك.
شيعوه، وصلوا عليه، ودعوا له، وذهب إلى الله، ولكنه بقي في أرواحنا، وبقي في قلوبنا، وبقي في تاريخنا، بزهده، بصدقه مع الله، بإخلاصه في الدعوة، بجهره بالحق، بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، بحمله للقرآن، بتشرفه بحمله للسنة، بثباته، بصبره، بكل خصلة جميلة.
إنه قدوة للجيل، إنه أستاذ في هذا الفن، ولعله يكون كتاب فيه يتكلم عن نظرياته في الاقتصاد، وفي العلم، وفي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي الحياة والتربية، غفر الله له، وجمعنا به، وسلام عليه يوم أسلم، وسلام عليه يوم جاهد، ويوم مات، ويوم يبعث حياً.......
الأسئلة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.......
سبب تكنيته بأبي ذر
السؤال: ما سبب تكنيته بأبي ذر ؟
الجواب: لا ندري والله: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف:81-82].السؤال: ما سبب تكنيته بأبي ذر ؟
الجواب: لا ندري والله: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف:81-82].
اسم زوجة أبي ذر
السؤال: من هي زوجة أبي ذر ؟
الجواب: هي أم ذر.السؤال: من هي زوجة أبي ذر ؟
الجواب: هي أم ذر.
تولي أبي ذر الإمارة
السؤال: هل تولى أبو ذر رضي الله عنه الإمارة؟
الجواب: لا، أخبرناك أنه ما تولى، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوله.السؤال: هل تولى أبو ذر رضي الله عنه الإمارة؟
الجواب: لا، أخبرناك أنه ما تولى، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوله.
الشيخ حافظ الحكمي في سطور
السؤال: نريد نبذة عن الشيخ الحكمي ؟
الجواب: من العلماء الفضلاء، وعسى أن يكون هناك فرصة لأتكلم في سلسلة علمائنا، وأتكلم عنه بإذن الله، رحمه الله، وأسكنه فسيح الجنات.السؤال: نريد نبذة عن الشيخ الحكمي ؟
الجواب: من العلماء الفضلاء، وعسى أن يكون هناك فرصة لأتكلم في سلسلة علمائنا، وأتكلم عنه بإذن الله، رحمه الله، وأسكنه فسيح الجنات.
الصحابة هم القدوة
السؤال: لماذا تركز على الصحابة في المحاضرات؟
الجواب: لأنهم صحابة، أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لنتعلم منهم: الأدب، والحكمة، والعلم، والتربية، لنعيش معهم، والمرء يحشر مع من أحب، أتريد أن أتكلم عن هتلر أو استالين أو لينين !السؤال: لماذا تركز على الصحابة في المحاضرات؟
الجواب: لأنهم صحابة، أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لنتعلم منهم: الأدب، والحكمة، والعلم، والتربية، لنعيش معهم، والمرء يحشر مع من أحب، أتريد أن أتكلم عن هتلر أو استالين أو لينين !
فهم الزهد عند البعض خاطئ
السؤال: تكلمت عن الزهد، فتاقت أنفسنا إلى ذلك، ولكن نظام حياتنا يمنعنا من ذلك فما هو العمل لذلك؟(95/15)
الجواب: ظهر لي أنه تقصد أن العصر متطور، وأن الزهد قد لا يتحقق مثل زهد أبي ذر ، وهذا صحيح، والزهد كلمة نسبية، وأحسن من عرف الزهد هو ابن تيمية قال: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، أما ما ينفع فلا تزهد فيه، هل تظن أني أريد منك في هذا التطور المادي: البنايات، الكهرباء، الماء، الهاتف، أطلب منك أن تذهب إلى الصحراء وتسكن في خيمة أو بيت من طين، وإذا ركب الناس سيارات، كذلك أن تركب حماراً، لكنك تعيش بزهد لا يعطلك عن الآخرة، وإلا فاسكن في عمارة، وخذ ماء وكهرباء.
وسمعنا أن أناساً عندهم سوء فهم للزهد في بعض المناطق، يقولون: هذه كلها جاءت من الكفار، وهي محرمة، فسكنوا في بيوت طين، وهذا أمر معلوم، أنا لا أنقله عن فراغ، سكنوا في بيوت طين، وحتى طريقة النوافذ لم تكن مثل نوافذنا، والكهرباء ما دخلت إليهم، عندهم فوانيس بدل من هذه اللمبات، إلا أحدهم أخذ ماسورة مرة، ووصل ماء بالصنبور إلى داخل البيت، فقال له أحد الشباب: هذه الماسورة صنعها الكفار، نرى أن تتركها، قال: للضرورة، قال: خذ الكهرباء للضرورة والسيارة للضرورة، فالمقصد أنا لا أطالب بهذا، ولكن يعيش الإنسان بنسبية عصره، ويكون زاهداً فإننا نعرف بعض الناس عنده عشرة أثواب، يفطر في ثوب، ويتغدى في ثوب، والنوم في ثوب، والنهار في ثوب، وكثرة سيارات، وكثرة شهوات، وما عنده من علم الله، ولا من الفقه في دين الله، ولا من الخوف من الله ولو ذرة.السؤال: تكلمت عن الزهد، فتاقت أنفسنا إلى ذلك، ولكن نظام حياتنا يمنعنا من ذلك فما هو العمل لذلك؟
الجواب: ظهر لي أنه تقصد أن العصر متطور، وأن الزهد قد لا يتحقق مثل زهد أبي ذر ، وهذا صحيح، والزهد كلمة نسبية، وأحسن من عرف الزهد هو ابن تيمية قال: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، أما ما ينفع فلا تزهد فيه، هل تظن أني أريد منك في هذا التطور المادي: البنايات، الكهرباء، الماء، الهاتف، أطلب منك أن تذهب إلى الصحراء وتسكن في خيمة أو بيت من طين، وإذا ركب الناس سيارات، كذلك أن تركب حماراً، لكنك تعيش بزهد لا يعطلك عن الآخرة، وإلا فاسكن في عمارة، وخذ ماء وكهرباء.
وسمعنا أن أناساً عندهم سوء فهم للزهد في بعض المناطق، يقولون: هذه كلها جاءت من الكفار، وهي محرمة، فسكنوا في بيوت طين، وهذا أمر معلوم، أنا لا أنقله عن فراغ، سكنوا في بيوت طين، وحتى طريقة النوافذ لم تكن مثل نوافذنا، والكهرباء ما دخلت إليهم، عندهم فوانيس بدل من هذه اللمبات، إلا أحدهم أخذ ماسورة مرة، ووصل ماء بالصنبور إلى داخل البيت، فقال له أحد الشباب: هذه الماسورة صنعها الكفار، نرى أن تتركها، قال: للضرورة، قال: خذ الكهرباء للضرورة والسيارة للضرورة، فالمقصد أنا لا أطالب بهذا، ولكن يعيش الإنسان بنسبية عصره، ويكون زاهداً فإننا نعرف بعض الناس عنده عشرة أثواب، يفطر في ثوب، ويتغدى في ثوب، والنوم في ثوب، والنهار في ثوب، وكثرة سيارات، وكثرة شهوات، وما عنده من علم الله، ولا من الفقه في دين الله، ولا من الخوف من الله ولو ذرة.
تخصيص درس لشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
السؤال: أوقفتنا أمام الذكريات، فأين شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام، أبو الذكريات، وقدوة السالكين صلى الله عليه وسلم، نرجو أن تخصص له محاضرة؟
الجواب:
نشير إلى التنوفة وهي قفرٌ ومن بالسفح يعرف من عنينا
هؤلاء الذين أتحدث لكم عنهم إنما هم قطرات من بحره صلى الله عليه وسلم، أنا تحدثت الليلة عن أبي ذر ، لكني أتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحدثت عن عمر ، وتحدثت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، القرآن يتحدث عنه والسنة ومرت خطب ومحاضرات- الله أعلم بها- كثرة كاثرة، هل سمعتم قصة لم تربط بالرسول صلى الله عليه وسلم؟
هل سمعتم تعليماً ما كان المؤثر الأول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الله؟
هل سمعتم أدباً، أو خطأ لم ينبه عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؟
بلى، فجلوسنا مع الصحابة هو جلوس مع الرسول صلى الله عليه وسلم.السؤال: أوقفتنا أمام الذكريات، فأين شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام، أبو الذكريات، وقدوة السالكين صلى الله عليه وسلم، نرجو أن تخصص له محاضرة؟
الجواب:
نشير إلى التنوفة وهي قفرٌ ومن بالسفح يعرف من عنينا
هؤلاء الذين أتحدث لكم عنهم إنما هم قطرات من بحره صلى الله عليه وسلم، أنا تحدثت الليلة عن أبي ذر ، لكني أتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحدثت عن عمر ، وتحدثت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، القرآن يتحدث عنه والسنة ومرت خطب ومحاضرات- الله أعلم بها- كثرة كاثرة، هل سمعتم قصة لم تربط بالرسول صلى الله عليه وسلم؟
هل سمعتم تعليماً ما كان المؤثر الأول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الله؟
هل سمعتم أدباً، أو خطأ لم ينبه عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؟
بلى، فجلوسنا مع الصحابة هو جلوس مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
دعوة الآخرين لحضور المحاضرات(95/16)
السؤال: أما ترى أن من الأحق للشباب أن يدعو الشباب لحضور هذه المجالس؟
الجواب: بلى، وقد كرر هذا، وإني أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنهم، فمن دل على خير، فله أجر مثل أجر فاعله و{لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم } فادعوا زملاءكم وهي كلها ساعة، اصبر من المغرب إلى العشاء، ثم تنال كرامات من الله، لا ينالها أحد من السلاطين، ولا من التجار، ولا من أهل الدنيا، لا ينالها إلا أنتم، هذه المدينة، أو المدينة المجاورة، أو المقاطعة صفوتها أنتم، هذا أمر معلوم أقوله من النقل والعقل والحس والعادة، صفوة المجتمع هم الذين أمامي.السؤال: أما ترى أن من الأحق للشباب أن يدعو الشباب لحضور هذه المجالس؟
الجواب: بلى، وقد كرر هذا، وإني أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنهم، فمن دل على خير، فله أجر مثل أجر فاعله و{لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم } فادعوا زملاءكم وهي كلها ساعة، اصبر من المغرب إلى العشاء، ثم تنال كرامات من الله، لا ينالها أحد من السلاطين، ولا من التجار، ولا من أهل الدنيا، لا ينالها إلا أنتم، هذه المدينة، أو المدينة المجاورة، أو المقاطعة صفوتها أنتم، هذا أمر معلوم أقوله من النقل والعقل والحس والعادة، صفوة المجتمع هم الذين أمامي.
تخصيص محاضرة في الأدب
السؤال: كأن الأخ يريد محاضرة في الأدب؟
الجواب: سبق هناك يا إخوة "دور الأدب في معايشة النكبات" كان في نادي الرياض الأدبي، وهناك" رسالة الأدب وهموم الأمة" في نادي المنطقة الشرقية الأدبي كان مساء الأربعاء الماضي، فعسى أن يحصل على هذه الأشرطة، لأن الأدب مهم في هذه الفترة، ليكون هناك أدب مؤصل إسلامي وإيماني.السؤال: كأن الأخ يريد محاضرة في الأدب؟
الجواب: سبق هناك يا إخوة "دور الأدب في معايشة النكبات" كان في نادي الرياض الأدبي، وهناك" رسالة الأدب وهموم الأمة" في نادي المنطقة الشرقية الأدبي كان مساء الأربعاء الماضي، فعسى أن يحصل على هذه الأشرطة، لأن الأدب مهم في هذه الفترة، ليكون هناك أدب مؤصل إسلامي وإيماني.
مهاجمة الجاهلية مع ما فيها من أخلاق طيبة
السؤال: أنت هاجمت الجاهلية مع أن في الجاهلية أخلاق طيبة كالكرم والجود والحمية وغيرها؟
الجواب: أتريد مني ألا أهاجم الجاهلية، الله ذمها في القرآن، ووصف كل عمل شين بالجاهلية، هناك أخلاق حسنة أيدها الإسلام، لكن تبقى الجاهلية جاهلية، والجاهلية حقيرة وذليلة ووثنية، لا بد أن نهاجمها، كما هاجمها القرآن، وألا ندافع عن الجاهلية، بل من عقيدة ومن أصل قول لا إله إلا الله، أن نهاجم الجاهلية، وأن نغير عليها، والذي يمجد الجاهلية لا بد أن يؤدب ويوقف عند حده، مثل بعض الناس يدعو إلى القومية العربية ويفصل بقية المسلمين عن العرب، لأن قضيتنا كبرى، هي قضية لا إله إلا الله، قضية المعمورة، أو بعضهم يدعو إلى الوطنية، وليس هناك وطنية في الإسلام، ندعو إلى لا إله إلا الله، لينتصر دين الله في الأرض، هذا هو الصحيح.السؤال: أنت هاجمت الجاهلية مع أن في الجاهلية أخلاق طيبة كالكرم والجود والحمية وغيرها؟
الجواب: أتريد مني ألا أهاجم الجاهلية، الله ذمها في القرآن، ووصف كل عمل شين بالجاهلية، هناك أخلاق حسنة أيدها الإسلام، لكن تبقى الجاهلية جاهلية، والجاهلية حقيرة وذليلة ووثنية، لا بد أن نهاجمها، كما هاجمها القرآن، وألا ندافع عن الجاهلية، بل من عقيدة ومن أصل قول لا إله إلا الله، أن نهاجم الجاهلية، وأن نغير عليها، والذي يمجد الجاهلية لا بد أن يؤدب ويوقف عند حده، مثل بعض الناس يدعو إلى القومية العربية ويفصل بقية المسلمين عن العرب، لأن قضيتنا كبرى، هي قضية لا إله إلا الله، قضية المعمورة، أو بعضهم يدعو إلى الوطنية، وليس هناك وطنية في الإسلام، ندعو إلى لا إله إلا الله، لينتصر دين الله في الأرض، هذا هو الصحيح.
تخصيص درس للصحوة وأهميتها
السؤال: نريد درساً يهم الصحوة؟
الجواب: هو درس الشباب القادم هم والصحوة إن شاء الله يتحدث عن طلب العلم عندهم، عن الأدب عندهم، عن مسلك الدعوة، عن مسلك الأمر بالمعروف، اتصالهم بالعلماء، السكينة في حياتهم، الغيرة التي يحملونها، العواطف الجياشة، كل هذه سوف نتكلم عنها إن شاء الله بحول الله الواحد الأحد.السؤال: نريد درساً يهم الصحوة؟
الجواب: هو درس الشباب القادم هم والصحوة إن شاء الله يتحدث عن طلب العلم عندهم، عن الأدب عندهم، عن مسلك الدعوة، عن مسلك الأمر بالمعروف، اتصالهم بالعلماء، السكينة في حياتهم، الغيرة التي يحملونها، العواطف الجياشة، كل هذه سوف نتكلم عنها إن شاء الله بحول الله الواحد الأحد.
أهم النصائح
السؤال: ماذا تنصحني به؟
الجواب: بتقوى الله عز وجل.السؤال: ماذا تنصحني به؟
الجواب: بتقوى الله عز وجل.
حكم من ادخر من ماله قسطاً شهرياً
السؤال: أنا أدخر كل شهر ستين ريالاً فما حكمها؟(95/17)
الجواب: أحد الناس من الأخيار قام يعظ الناس، فأتى يتحدث عن حديث تسعة وتسعين، يقول: من سبح لله ثلاثة وثلاثين دبر الصلاة، وحمد الله ثلاثة وثلاثين , وكبر الله ثلاثة وثلاثين، قال: هذه كلها تسعة وتسعين ريال؛ لأن قلبه معلق بالريالات، هذا فيه زكاة يا أيها الإخوة إذا حال عليه الحول، وبلغ النصاب وحال عليه الحول تزكيه.السؤال: أنا أدخر كل شهر ستين ريالاً فما حكمها؟
الجواب: أحد الناس من الأخيار قام يعظ الناس، فأتى يتحدث عن حديث تسعة وتسعين، يقول: من سبح لله ثلاثة وثلاثين دبر الصلاة، وحمد الله ثلاثة وثلاثين , وكبر الله ثلاثة وثلاثين، قال: هذه كلها تسعة وتسعين ريال؛ لأن قلبه معلق بالريالات، هذا فيه زكاة يا أيها الإخوة إذا حال عليه الحول، وبلغ النصاب وحال عليه الحول تزكيه.
حكم تخصص الفيزياء
السؤال: ما حكم تخصص الفيزياء؟
الجواب: لا بأس به، ونرحب بك إذا كنت مصلياً مؤمناً تحمل" إياك نعبد، وإياك نستعين" وتحمل لا إله إلا الله، أنت تكون محبوباً وقريباً من الله، إذا درست الفيزياء، ونفعت المسلمين من الفيزياء؛ لأن الإسلام ليس فتوى فقط، الإسلام فيزياء وكيمياء، وتكون طياراً وطبيباً ومهندساً لكن موحداً، كثير من الأطباء والفيزيائيين والكيمائيين والمهندسين والأساتذة الأخيار والنابغين هؤلاء نقبل رءوسهم، وندعو لهم في السجود، ونسأل الله أن ينصر بهم الدين، فزد من طلبك للعلم، وأنت مأجور، وأنت مشكور على ما فعلت.
وأحد الإخوة سامحه الله هاجمني برسالة في الأسبوع الماضي، يقول: إنك تهجمت على الجغرافيا بدون حق، وأظن أنه نقل له الخبر وما حضر، لكنه حضر في الأسبوع الماضي ينتقم، وجاء معه برسالة حارة، فغفر الله له، والواجب أنه يتلطف، أو يسأل ماذا أريد، أو يسمع الشريط، وأنا لا أهاجم الجغرافيا، فإنها لا تنقض الوضوء إن شاء الله، أنا رأيت بعض الذين يدرسون الجغرافيا يصلون الجمعة.السؤال: ما حكم تخصص الفيزياء؟
الجواب: لا بأس به، ونرحب بك إذا كنت مصلياً مؤمناً تحمل" إياك نعبد، وإياك نستعين" وتحمل لا إله إلا الله، أنت تكون محبوباً وقريباً من الله، إذا درست الفيزياء، ونفعت المسلمين من الفيزياء؛ لأن الإسلام ليس فتوى فقط، الإسلام فيزياء وكيمياء، وتكون طياراً وطبيباً ومهندساً لكن موحداً، كثير من الأطباء والفيزيائيين والكيمائيين والمهندسين والأساتذة الأخيار والنابغين هؤلاء نقبل رءوسهم، وندعو لهم في السجود، ونسأل الله أن ينصر بهم الدين، فزد من طلبك للعلم، وأنت مأجور، وأنت مشكور على ما فعلت.
وأحد الإخوة سامحه الله هاجمني برسالة في الأسبوع الماضي، يقول: إنك تهجمت على الجغرافيا بدون حق، وأظن أنه نقل له الخبر وما حضر، لكنه حضر في الأسبوع الماضي ينتقم، وجاء معه برسالة حارة، فغفر الله له، والواجب أنه يتلطف، أو يسأل ماذا أريد، أو يسمع الشريط، وأنا لا أهاجم الجغرافيا، فإنها لا تنقض الوضوء إن شاء الله، أنا رأيت بعض الذين يدرسون الجغرافيا يصلون الجمعة.
أفضل الدعاء
السؤال: هل أفضل الدعاء: اللهم إني أسألك العفو والعافية؟
الجواب: نعم من أفضل الدعاء.السؤال: هل أفضل الدعاء: اللهم إني أسألك العفو والعافية؟
الجواب: نعم من أفضل الدعاء.
قول مرحباً لمن قال السلام عليكم
السؤال: بعض الناس إذا قلت: السلام عليكم، قال: مرحبا؟
الجواب: هذا لا يجزئ، لا بد أن يقول: وعليكم السلام ورحمة الله أو يزيد وبركاته، ومرحبا تأتي بعد، وحياك الله بعد، وصباح الخير بعد، كيف حالكم بعد، لا بد أن يرد التحية بمثلها، أو أحسن منها.السؤال: بعض الناس إذا قلت: السلام عليكم، قال: مرحبا؟
الجواب: هذا لا يجزئ، لا بد أن يقول: وعليكم السلام ورحمة الله أو يزيد وبركاته، ومرحبا تأتي بعد، وحياك الله بعد، وصباح الخير بعد، كيف حالكم بعد، لا بد أن يرد التحية بمثلها، أو أحسن منها.
الاستهزاء من قول لا إله إلا الله
السؤال: إذا قلت: لا إله إلا الله، ينظر إليك بعض الأشخاص، ويستهزئ بك، فكيف يكون حالة هذا الشخص؟(95/18)
الجواب: المستهزئ يدل على فجوره، وعلى انحرافه -والعياذ بالله- لكن كذلك على الإنسان أن يكون بصيراً حتى لا يستحدث الألسن عليه والعيون، يعني أحياناً يجلس أربعة في مجلس، وهم يتحدثون في قضية ساكتين، فيقوم أحدهم يقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله كل حين، يبقى عادياً مثل الناس، وقد تجد بعض الناس ممن بدأ في الهداية يريد أن يثير الانتباه، مثل بعض الشباب تجده يأخذ العمامة، نحن عندنا هنا السائد أن نلبس هذه الغتر، أو البواتق، كلها - والحمد لله - فيها سعة، ومن لم يلبس غترة فلا شيء عليه، فيأتي أحد الناس فيلبس عمامة، تقول له: لماذا يا أخي لا تلبس مثل هذا، قال: لا، كذا السنة، قلنا: جزاك الله خيراً، لكن السنة بابها واسع، والزينة ليس فيها سنة مخصصة ألا تلبس إلا هو، لكنك تجلب الأنظار، كلما دخلت كأنك أبو حنيفة أو خرجت قالوا: الإمام أحمد ، أو جلست قالوا: ابن تيمية جالس، ثم إذا جلس وعليه العمامة تنحنح، ولا ضرر في الناس، والله المستعان، فلا تترك الأصابع تشير إليك, ولا تكن مشهراً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ذم لباس الشهرة، وأنا لا أهاجم العمامة، فمن لبسها بقصد الأجر، أجر عليها، لكننا نهاجم من يريد أن يشهر نفسه، حتى ذكر ابن تيمية أن بعض الناس قد يتقمص ثياباً من الزهد يشهر نفسه، وذكرها ابن القيم ، وتجد بعض الناس من التجار، وتجده يلبس ثوباً ما يستاهل عشرة ريالات، ولكن اسأل عن رصيده في البنك والله عز وجل لا تخفى عليه خافية، فكن وسطاً، كن في غبراء الناس، البس مثلما يلبس الناس، إلا في محرم، ولا تظهر نفسك بالبذخ، ولا بادعاء الزهد.
وربما تأتي رسالة في الأسبوع القادم تقول: إنك هاجمت السنة، وأنك امتهنت العمامة، فلا والله! دمي فداء السنة، ورأسي يقطع في سبيل السنة، وعسى الله أن يبني منابر السنة على جماجمنا، ونحن والله نتشرف بغبار أقدام محمد صلى الله عليه وسلم، وإن أكبر نصيب لنا في الحياة نقدمه أن نحمل أرواحنا، وتشدخ أعناقنا في سبيل لا إله إلا الله، وعسى الله عز وجل أن يثبتنا وإياكم، وأن يلهمنا رشدنا، وإنما هذه لفتات أثابكم الله، وبارك فيكم.السؤال: إذا قلت: لا إله إلا الله، ينظر إليك بعض الأشخاص، ويستهزئ بك، فكيف يكون حالة هذا الشخص؟
الجواب: المستهزئ يدل على فجوره، وعلى انحرافه -والعياذ بالله- لكن كذلك على الإنسان أن يكون بصيراً حتى لا يستحدث الألسن عليه والعيون، يعني أحياناً يجلس أربعة في مجلس، وهم يتحدثون في قضية ساكتين، فيقوم أحدهم يقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله كل حين، يبقى عادياً مثل الناس، وقد تجد بعض الناس ممن بدأ في الهداية يريد أن يثير الانتباه، مثل بعض الشباب تجده يأخذ العمامة، نحن عندنا هنا السائد أن نلبس هذه الغتر، أو البواتق، كلها - والحمد لله - فيها سعة، ومن لم يلبس غترة فلا شيء عليه، فيأتي أحد الناس فيلبس عمامة، تقول له: لماذا يا أخي لا تلبس مثل هذا، قال: لا، كذا السنة، قلنا: جزاك الله خيراً، لكن السنة بابها واسع، والزينة ليس فيها سنة مخصصة ألا تلبس إلا هو، لكنك تجلب الأنظار، كلما دخلت كأنك أبو حنيفة أو خرجت قالوا: الإمام أحمد ، أو جلست قالوا: ابن تيمية جالس، ثم إذا جلس وعليه العمامة تنحنح، ولا ضرر في الناس، والله المستعان، فلا تترك الأصابع تشير إليك, ولا تكن مشهراً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ذم لباس الشهرة، وأنا لا أهاجم العمامة، فمن لبسها بقصد الأجر، أجر عليها، لكننا نهاجم من يريد أن يشهر نفسه، حتى ذكر ابن تيمية أن بعض الناس قد يتقمص ثياباً من الزهد يشهر نفسه، وذكرها ابن القيم ، وتجد بعض الناس من التجار، وتجده يلبس ثوباً ما يستاهل عشرة ريالات، ولكن اسأل عن رصيده في البنك والله عز وجل لا تخفى عليه خافية، فكن وسطاً، كن في غبراء الناس، البس مثلما يلبس الناس، إلا في محرم، ولا تظهر نفسك بالبذخ، ولا بادعاء الزهد.
وربما تأتي رسالة في الأسبوع القادم تقول: إنك هاجمت السنة، وأنك امتهنت العمامة، فلا والله! دمي فداء السنة، ورأسي يقطع في سبيل السنة، وعسى الله أن يبني منابر السنة على جماجمنا، ونحن والله نتشرف بغبار أقدام محمد صلى الله عليه وسلم، وإن أكبر نصيب لنا في الحياة نقدمه أن نحمل أرواحنا، وتشدخ أعناقنا في سبيل لا إله إلا الله، وعسى الله عز وجل أن يثبتنا وإياكم، وأن يلهمنا رشدنا، وإنما هذه لفتات أثابكم الله، وبارك فيكم.(95/19)
أبو غريب والشرف السليب ...
بسم الله نبدأ وعلى هدي نبيه صلى الله عليه وسلم نسير
أهدي هذه الحادثة لكل ذي قلب حي , ينبض بحب الله, وبالولاء للإسلام ومحبة المسلمين,
"في سجن أبو غريب مجندة أمريكية تجبر أحد الشيوخ المعتقلين على ارتداء ملابس داخلية نسائية , وتبالغ في امتهان الشيخ بإدخاله في زنزانة بها قرابة الخمس عشرة من فتيات العراق معظمهن إن لم يكن كلهن حملن سفاحا من كلاب الأمريكان لعنهم الله , لم يتمالك الشيخ نفسه من البكاء على الشرف السليب والعفاف المنتهك وأعراض الفتيات الأطهار الذي ضاع , ولم تتمالك الفتيات أنفسهن من البكاء على وقار الشيخ الذي امتهن" نقلاً عن أحد برامج قناة المجد الفضائية,
إنا لله وإنا إليه راجعون , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , واحر قلباه , بل واااا إسلامااااااه ....
ليراجع كل منا أحكام الجهاد , ليعلم أنه في جهاد الدفع إذا لم يستطع أهل القرية المسلمة دفع العدو الكافر الصائل ينتقل حكم الجهاد لدفع الصائل على ما حولها من القرى من فرض الكفاية إلى فرض العين, فأين ولاة أمور المسلمين , وأين الشعوب المشغولة بدنياها ونحن أولهم,
كل منا يتحمل المسئولية كاملة , اللهم سلم سلم , اللهم سلم سلم , رحماك بضعفنا وقلة حيلتنا وشدة هواننا يا رب الأرباب , يارب أغلقت في وجوهنا الأوبواب , بتقصيرنا , وقلة عملنا , وتواكلنا , وتكاسلنا , اللهم اشحذ هممنا , اللهم ارزقنا ولاة كعمر وقادة كخالد وصلاح الدين ,
يا مسلم ...يا مسلمة ...الأمة بحاجة إلى أن تتحول البيوت إلى مصانع لإنتاج المجاهدين , نحتاج ألف خالد , نحتاج ألف صلاح الدين , نحتاج علماء كابن تيمية وأحمد , ونحتاج دعاة كالعز بن عبد السلام , نحتاج مجاهدين كقطز , نحتاج لرجال في وقت قل فيه الرجال وكثر فيه الغثاء , وندر فيه الصدق والصادقون, يا أمة أسرعي بالعودة إلى دينك وحمل لواء الحق ورفع كلمة الله , كفانا غفلة , كفانا انحطاطاً عقائديا ً وعملياً , وأخلاقياً , باب التوبة مفتوح وباب العمل كذلك ,
القطار سريع , ولا وقت لبطيء ولا متكاسل , نحن في وقت الاختبار ,
من منا يرضى على نفسه أن يرى أخته أمامه وقد حملت سفاحا بعدما انتهك عرضها كلب ضال , من منا يقبل أن يلبس ملابس النساء ,
في الحقيقة لقد رضينا ولقد قبلنا , فلسنا بأفضل من شيوخ العراق , وليست نساءنا بأفضل من نساءهم , بل هم نحن ونحن هم ,
كفانا غفلة كفانا جرياً وراء سراب الكرة ونجومها , وعفن الفن الهابط البذئ وأهله , ولتلمع في سماءنا نجوم جديدة في مجال الشرع في مجال الدعوة في مجال الجهاد في مجال العلوم الحديثة , لنرفع رؤوسنا من التراب لنرضي رب الأرباب,
والله تتلعثم بين أصابعي الكلمات , فلقد وصالنا إلى حد من المهانة لم يخطر أبداً على بال , فإنا لله وإنا إليه راجعون , ولكن اليأس لا يصنع الأجيال ,وأبداً لم تخرج مصانع الإحباط أبطال,
والسبيل بين أيدينا , والعلاج معنا , والشفاء موجود, فلماذا التكاسل في زمن لم يعد للمتكاسل فيه مكان, ولو تمسكنا بشريعة ربنا وأعلينا كلمته فسنحقق والله المحال ,
يا أمة انتصري لعرضك , هبي لتلبية نداء ربك , تمسكي بشرعه , وصلي حبلك بحبله , وسنصل , سنصل إن شاء الله , ولكن ليس بالنوم ,
أحبتي , علينا أن نتحول إلى خلايا مثل خلايا النحل , نعمل ونعمل ونكد, فمن أجل ديننا , لابد أن نرتفع بدنيانا, ولكن من ينتظر منهم إعادة البناء هم جيل المساجد , جيل المصاحف , جيل الحجاب , جيل العمل والرقي, جيل الأبطال , الذي والله له طال الانتظار.
ولنعلم يا أمة أن من يتحالفون اليوم على بيضة الإسلام بنظرية إبليس عليه لعائن الله , حيث جمعوا لنا من كل قطر كلابه كما جمعت قريش من كل قرية فتى ليقتلوا جميعاً محمدا صلى الله عليه وسلم بقيادة أبى جهل , فهم اليوم جمعوا لنا الجموع بقيادة فرعون العصر أمريكا لتتفرق دماء المسلمين بين القبائل,
وتفننوا في أنواع الإهانة وامتهان الكرامة , ليقولوا بلسان حالهم , ها نحن ذا قد عدنا يا صلاح الدين ,
فهل من صلاح جديد , يحيي للأمة كرامتها , ويجدد للإسلام ثوبه الممزق,
إن من بين هؤلاء أقوام كانوا بالأمس أكثر من اليوم مهانة كاليابان , التي أغلقت على نفسها وصنعت بالكد والعرق والجهد مجدها وعزها وكان هدفهم الدنيا , فما بالنا بأمة هدفها الدين , وشرعها يحضها على إعمار الدنيا من أجل رفعة الدين , ويا له من هدف ثمين
ليس دورنا الآن البكاء بقدر ما على كل منا أن يعد نفسه وأولاده لأن يكون صلاح الدين وأن يكون قطز,
فتسلح بالعمل الشرعي والعقيدة الصحيحة واستعد عقديا وجسديا لرفع راية الإسلام , غير ما حولك , بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , بالعمل للإسلام , بإحياء السنن وإماتة البدع , بإحياء روح الأمة , ليعمل كل منا وليثق أن التوفيق والنصر إنما هما من عند الله ......
أخي هل أراك سئمت الكفاح ... ... وألقيت عن كاهليك السلاح(96/1)
فمن للصبايا يواسي الجراح ... ... ويرفع راياتها من جديد
العمل العمل , الكفاح الكفاح , ولنلتف حول علمائنا الصادقين , ولنعمل قدر طاقنا لرفع راية الدين , والله المستعان
ومرة أخرى , نرجو الإفاقة , فالقطار سريع ولا وقت لبطيء أو متكاسل.
والله المستعان
اللهم اجبر كسرنا , ووحد شملنا , واجمعنا على كلمة الحق مجاهدين مخلصين , اللهم رحماك رحماك بأعراض انتهكت , وبهيبة مسخت , وبكرامة مسحت , اللهم رحماك بالعجائز والنساء والرضع , اللهم رحماك بالشيوخ الركع , اللهم انصر الإسلام في بقاع الأرض جميعا , فقد انتهك في كل بقعة من الأرض.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
كتبه محمد أبو الهيثم(96/2)
•أبو مسلم الخولاني
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
هو عبد الله بن ثوب الخولاني من كبراء التابعين ، أصله من اليمن أدرك الجاهلية وأسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره ، وقيل : كان إسلامه عام حنين . قدم المدينة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ، وهاجر إلى الشام في أيام معاوية ، وقد ذكر شرحبيل بن مسلم أن الأسود العنسي المتنبئ باليمن ألقاه في النار فأنجاه الله منها . روى رحمه الله عن عمر ومعاذ وأبي عبيدة والكبار، حدث عنه أبو إدريس الخولاني وأبو العالية الرياحي وجبر بن نفير وعطاء وأبو قلابة وطائفة ، قال الذهبي : وثقه ابن معين وغيره ، وله مناقب وكرامات وكان يقال : حكيم هذه الأمة . أكثر المصادر على أنه توفي في دمشق قريباً من اثنتين وسبعين للهجرة ، وقبره في داريا .
حكيم هذه الأمة ... شهد هذه الشهادة بأبي مسلم أكثر من واحد من أعلام الأمة ، ومن حكمته رحمه الله ما كان يقوله في معرض حديثه عن العلم والعمل وما يكون من شأن العالم إذا عمل بعلمه وأفاد الناس من علمه وعمله ، وما إذا كان على حال لم يستطع معها أن يؤثر في الناس .. ثم ما إذا كان على حال يفيد الناس بعلمه ولكنه هو لا يعمل بهذا العلم والعياذ بالله .
قال أبو مسلم في ذلك : العلماء ثلاثة ؟ رجل عاش بعلمه وعاش الناس معه ، ورجل عاش بعلمه ولم يعش الناس معه ، ورجل عاش الناس بعلمه وأهلك نفسه .
وأبو مسلم عندما يصنف العلماء هذا التصنيف ، يلحظ مكانة العالم في حياة المسلمين ، وكيف أنه في موضع الريادة والدلالة على الخير، فإذا انتكس عن الطريق التي أكرمه الله بها كانت الهلكة والخسران ، لقد جعل أبو مسلم مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء إذا ظهرت للناس شاهدوا وإذا غابت عنهم تاهوا .
ولم تقتصر حياة أبي مسلم على العلم والتعليم والزهادة في الدنيا ، بل كان يضم إلى ذلك الجهاد في سبيل الله شأن الرجل الرباني الذي يعمل بما يعلم ، ويسابق الناس ويدعوهم إليه من التزام ما أمر الله به من التقوى والجهاد ؛ فقد عرف عنه أنه اشترك في أكثر من غزوة لأرض الروم هنا على حدود بلاد الشام ، وكانت تظهر على يديه بعض الكرامات التي يكرم الله بها عبده المؤمن المستقيم على طاعته الملتزم لشرع الله في أحكامه وآدابه . فقد روى علماء التراجم عن محمد بن زياد أن أبا مسلم كان إذا غزا أرض الروم فمروا بنهر قال : أجيزوا باسم الله ويمر بين أيديهم قال : فيمرون بالنهر الغمر، فربما لم يبلغ من الدواب إلا إلى الركب أو بعض ذلك ، أو قريب من ذلك ، فإذا جاؤوا قال للناس : هل ذهب لكم شيء ؟ من ذهب له شيء فأنا له ضامن ، قال : فألقى بعضهم مخلاة عمدا ، فلما جازوا قال الرجل مخلاتي وقعت في النهر، قال له اتبعني ، فإذا المخلاة تعلقت ببعض أعواد النهر.
ومن أخباره مع الصحابة وحبه إياهم واستشرافه لما عندهم من الخير يحملونه من فيض النبوة إلى الناس ما ورد من حديثه مع معاذ بن جبل ، فعن عطاء عن أبي مسلم الخولاني قال : دخلت مسجداً فإذا حلقة فيها بضعة وثلاثون رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا فيهم شاب آدم أكحل براق الثنايا محتب ، فإذا تذاكروا أمراً ، فأشكل عليهم سألوه ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : معاذ بن جبل ، قال : فقمنا فصلينا المغرب ، فلما انصرفنا لم أقدر على أحد منهم ، فلما كان من الغد هجرت فإذا أنا بمعاذ قائماً يصلي إلى سارية ، فصليت إلى جانبه ، فظن أن لي إليه حاجة ، فلما انصرف قعدت بينه وبين السارية محتبياً فقلت : والله إني لأحبك من غير قرابة ولا صلة أرجوها منك ، قال : فيم ذلك ؟ قلت في الله ، قال : فأخذ حبوتي ثم قال : أبشر إن كنت صادقاً ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله ،
قال : فأتيت عبادة بن الصامت فأخبرته فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر عن الله عز وجل :
" حقت محبتي للمتحابين فيّ ، وحققت محبتي للمتزاورين فيّ ، وحقت محبتي للمتناصحين فيّ ".
هذه نبذة من أخبار هذا التابعي الكبير التي نلمح فيها العلم والعمل وصدق المواقف في الجهاد ، والحكمة البالغة التي يجريها الله تبارك وتعالى على قلوب عباده المتقين وألسنتهم ، وحبهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين من أحبهم فبحب رسول الله أحبهم ...
رحمك الله أبا مسلم فأنت حقاً حكيم هذه الأمة بعلمك وعملك وزهادتك وجهادك .. ونسأل الله أن يعلي مقامك في دار البقاء وأن يجعلنا عند الذي سلكه أئمة الهدى من ربانيي هذه الأمة إنه ولي ذلك والقادر عليه .
الهوامش :
* " حضارة الإسلام " السنة 17 العدد الثاني ربيع الآخر 1396 نيسان 1976 .(97/1)
أبواب الأجر ومكفرات الذنوب
دار القاسم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين… وبعد …
فهذه رسالة إلى كل مسلم يعبد الله ولا يشرك به شيئا حيث أن الغاية الكبرى لكل مسلم هي أن يخرج من هذه الدنيا وقد غفر الله له جميع ذنوبه حتى لا يسأله الله عنها يوم القيامة ويدخله جنات النعيم خالدا فيها لا يخرج منها أبدا: وفي هذه الرسالة القصيرة نذكر بعض الأعمال التي تكفر الذنوب والتي فيها الأجر الكبير من أحاديث الرسول الصحيحة، نسأل الله الحي القيوم الذي لا إله إلا هو أن يتقبل أعمالنا إنه هو السميع العليم.
1- التوبة: { من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه } [مسلم:2703] { إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر }.
2- الخروج في طلب العلم: { من سلك طريقا يلتمس فيها علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة } [مسلم:2699].
3- ذكر الله تعالى: { ألا أنبأكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم } قالوا بلى - قال: { ذكر الله تعالى } [الترمذي:3347].
4- اصطناع المعروف والدلالة على الخير: { كل معروف صدقة، والدال على الخير كفاعله } [البخاري:10/374]، [مسلم:1005].
5- فضل الدعوة إلى الله: { من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا } [مسلم:2674].
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: { من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } [مسلم:49].
7- قراءة القرآن الكريم وتلاوته: { اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه } [مسلم:804].
8- تعلم القرآن الكريم وتعليمه: { خيركم من تعلم القرآن وعلمه } [البخاري:9/66].
9- السلام : { لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء لو فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم } [مسلم:54].
10- الحب في الله : { إن الله تعالي يقول يوم القيامة: أين المتحابين بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي } [مسلم:2566].
11- زيارة المريض : { ما من مسلم يعود مسلما مريضا غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاد عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة } [الترمذي:969].
12- مساعدة الناس في الدين: { من يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة } [مسلم:2699].
13- الستر على الناس: { لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة } [مسلم:2590].
14- صلة الرحم: { الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله } [البخاري:10/350] [مسلم:2555].
15- حسن الخلق: { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق } [الترمذي:2003].
16- الصدق: { عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة } البخاري (10/423 } [مسلم:2607].
17- كظم الغيظ: { من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء } [الترمذي:2022].
18- كفارة المجلس: { من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه؟ فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: [سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك] إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك } [الترمذي:3/153].
19- الصبر: { ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه } [البخاري:10/91].
20- بر الوالدين: { رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه } قيل: من يا رسول الله؟ قال: { من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة } [مسلم:2551].
21- السعي على الأرملة والمسكين: { الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله } وأحسبه قال: { وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر } [البخاري:10/366].
22- كفالة اليتيم : { أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى } [البخاري:10/365].
23- الوضوء: { من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره } [مسلم:245].
24- الشهادة بعد الوضوء: { من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: [أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين] فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء } [مسلم:234].
25- الترديد خلف المؤذن: { من قال حين يسمع النداء: [ اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته]، حلت له شفاعتي يوم القيامة } [البخاري:2/77].
26- بناء المساجد: { من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بني له مثله في الجنة } [البخاري:450].(98/1)
27- السواك: { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة } [البخاري:2/331] [مسلم:252].
28- الذهاب إلى المسجد: { من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح } [البخاري:2/124] [مسلم:669].
29- الصلوات الخمس: { ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله } [مسلم:228].
30- صلاة الفجر وصلاة العصر: { من صلى البردين دخل الجنة } [البخاري:2/43].
31- صلاة الجمعة: { من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام } [مسلم:857].
32- ساعة الإجابة يوم الجمعة: { فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً، إلا أعطاه إياه } [البخاري:2/344] [مسلم:852].
33- السنن الراتبة مع الفرائض: { ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة } [مسلم:728].
34- صلاة ركعتين بعد الوقوع في ذنب: { ما من عبد يذنب ذنباً،فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر له } [أبو داود:1521].
35- صلاة الليل: { أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل } [مسلم:1163].
36- صلاة الضحى: { يصبح على كل سلامة من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى } [مسلم:720].
37- الصلاة على النبي: { من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً } [مسلم:384].
38- الصوم: { ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً } [البخاري:6/35] [مسلم:1153].
39- صيام ثلاثة أيام من كل شهر: { صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله } [البخاري:4/192] [مسلم:1159].
40- صيام رمضان: { من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } [البخاري:4/221] [مسلم:760].
41- صيام ست من شوال: { من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصوم الدهر } [مسلم:1164].
42- صيام يوم عرفة: { صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية } [مسلم:1162].
43- صيام يوم عاشوراء: { وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله } [مسلم:1162].
44- تفطير الصائم: { من فطر صائماً كان له مثل أجره،غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً } [الترمذي:807].
45- قيام ليلة القدر: { من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه } [البخاري:4/221] [مسلم:1165].
46- الصدقة: { الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار } [الترمذي:2616].
47- الحج والعمرة: { العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة } [مسلم:1349].
48- العمل في أيام عشر ذي الحجة: { ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام } يعني أيام عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: { ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء } [البخاري:2/381].
49- الجهاد في سبيل الله: { رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع صوت أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها } [البخاري:6/11].
50- الإنفاق في سبيل الله : { من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا } [البخاري:6/37] [مسلم:1895].
51- الصلاة على الميت واتباع الجنازة: { من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان } قيل: وما القيراطان؟ قال: { مثل الجبلين العظيمين } [البخاري:3/158] [مسلم:945].
52- حفظ اللسان والفرج: { من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة } [البخاري:11/264] [مسلم:265].
53- فضل لا إله إلا الله، وفضل سبحان الله وبحمده: { من قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه } وقال: { من قال: "سبحان الله وبحمده" في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر } [البخاري:11/168] [مسلم:2691].(98/2)
أبواب الخير في رمضان
أ. محمود شل ـ إسلام أون لاين
قال تعالى: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، لقد أصبحنا بين عشية وضحاها بين يدي شهر عظيم، يفتح الله فيه أبواب الخير، وتتضاعف فيه الحسنات والرحمات، تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلق فيه أبوابُ النيران، وحري بنا أن نغتنمه؛ لأنه يمضي كلمح البصر، كما قال الله تعالى عنه: "أيامًا معدودات"؛ لذا ينبغي أن نغتنم هذه الأيام المعدودات بتلمس أبواب الخير فيه، ومن ذلك:
1. الدعاء عند رؤية الهلال؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رؤيته: "اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله".
2. تعجيل الفطر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" رواه البخاري.
3. الدعاء عند الإفطار؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى" رواه أبو داود والدارقطني والحاكم.
4. حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب: "إن الله ليرضى عن عبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها" رواه مسلم.
5. المحافظة على صلاة التراويح؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" رواه مسلم.
6. قيام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه البخاري ومسلم.
7. الحرص على السحور؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة" رواه البخاري ومسلم.
8. الذهاب إلى المساجد؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح" رواه البخاري ومسلم.
9. إفطار الصائم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فطر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا" رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وحث من تعرفهم على المساهمة في إفطار صائم.
10. الدعاء مطلقًا؛ لقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني" رواه البخاري ومسلم.
11. الدعاء للمسلم بظهر الغيب؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل" رواه مسلم.
12. استشعار الذنب والشعور بخطورة المعصية، وتصور عدم القدرة على تحمل عقوبة الإثم الذي تقوم به؛ لأن ذلك يحملك على المسارعة إلى الإقلاع عن المعصية وتجديد التوبة إلى الله مما فعلت حتى يحول سيئاتك حسنات؛ لقوله تعالى: "إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا".
13. الاستغفار؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب" رواه أبو داود والنسائي.
14. الدعاء والاستغفار للمسلمين؛ لقوله تعالى: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" الحشر.
15. الحرص على ذكر الله؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله تعالى".
16. الدعاء بين الأذان والإقامة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد" رواه البخاري.
17. أداء العمرة في رمضان إن تيسر لك ذلك؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرة في رمضان تعدل حجة، أو حجة معي" رواه البخاري ومسلم.
18. الإكثار من قراءة القرآن وتلاوته وتدبره؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه" رواه مسلم.
19. المحافظة على الصلاة المكتوبة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله" رواه مسلم. وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها" رواه البخاري ومسلم.
20. المحافظة على صلاة الفجر والعصر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى البردين دخل الجنة" رواه البخاري.
21. الحرص على الصف الأول؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" رواه البخاري ومسلم.(99/1)
22. المداومة على صلاة الضحى؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان يركعهما في الضحى" رواه مسلم.
23. المحافظة على السنن الراتبة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعًا من غير الفريضة، إلا بنى الله له بيتًا في الجنة" رواه مسلم.
24. صلاة التطوع في البيت؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورًا" رواه البخاري.
25. كثرة السجود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء" رواه مسلم.
26. الذكر بعد صلاة الصبح حتى الشروق؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة" رواه الترمذي وحسنه.
27. المحافظة على صلاة الجمعة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهم إذا اجتنبت الكبائر" رواه مسلم.
28. تحري ساعة الإجابة يوم الجمعة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه" [رواه البخاري ومسلم].
29. قراءة سورة الكهف؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له النور ما بين الجمعتين" رواه النسائي والحاكم.
30. الإكثار من الصدقة: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار" رواه الترمذي.
31. أفضل الصدقة صدقة المُقل: "يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول" رواه أبو داود وابن خزيمة والحاكم.
32. الحرص على صدقة السر: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر" رواه الطبراني.
33. بر الوالدين وطاعتهما؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه. قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة" رواه مسلم.
34. الدعاء للوالدين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنى لي هذا؟ فيقول: باستغفار ولدك لك" رواه أحمد.
35. البر بالخالة والخال؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخالة بمنزلة الأم" رواه البخاري.
36. طيب الكلام؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة" رواه البخاري ومسلم.
37. قضاء حوائج الناس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يمشي أحدكم في قضاء حاجة -وأشار بإصبعه- أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين" رواه الحاكم.
38. زيارة المرضى؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عاد مريضًا لم يزل في خرفة الجنة. قيل يا رسول الله: وما خرفة الجنة؟ قال جناها" رواه مسلم.
39. صلة الأرحام؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله" رواه البخاري ومسلم.
40. إدخال السرور على المسلم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لقي أخاه المسلم بما يحب يسره بذلك سرّه الله عز وجل يوم القيامة" رواه الطبراني.
41. التيسير على المعسر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة" رواه مسلم.
42. الشفقة على الضعفاء ورحمتهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" رواه أبو داود والترمذي.
43. الإصلاح بين الناس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين" رواه أبو داود والترمذي.
44. الحلم والصفح وكظم الغيظ؛ لقوله تعالى: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" (آل عمران: 134)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج بن قيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة" رواه مسلم.
45. المصافحة بحب وسلامة نفس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا" رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن.
46. طلاقة الوجه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبسمك في وجه أخيك صدقة".
47. غض البصر عن محارم الله تعالى؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها مخافتي أبدلته إيمانًا يجد حلاوته في قلبه" رواه الطبراني.(99/2)
48. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم.
49. الجلوس مع الصالحين والأخيار؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده" رواه مسلم.
50. حفظ اللسان والفرج؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يضمن ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" رواه البخاري ومسلم.
51. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليّ صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا" رواه مسلم.
52. الدعوة إلى الله وإلى الخير: "من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا" رواه مسلم.
53. إغاثة الناس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" رواه مسلم.
54. عدم إيذاء المسلمين: "سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام أفضل؟ فقال: من سلم المسلمون من لسانه ويده" رواه البخاري ومسلم.
55. مساعدة أهل الخير وإعانتهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل سلامى عليه صدقة كل يوم، يعين الرجل في دابته يحمله عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة" رواه البخاري.
56. قضاء حوائج الناس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء" رواه البخاري.
57. المداومة على العمل الصالح وإن قل؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" رواه مسلم.
58. الإحسان إلى الجار؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره" رواه مسلم.
59. رد المظالم والتحلل من أصحاب الحقوق؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه" رواه البخاري.
60. إتباع السيئة الحسنة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع الحسنة السيئة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" رواه أحمد والحاكم.
61. أداء الأمانة والوفاء بالعهد؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" رواه أحمد.
62. رحمة الصغير وإكرام الكبير؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا" رواه أحمد والترمذي.
63. التعاطف والتراحم مع الناس والاهتمام بأمورهم قدر استطاعتك؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه البخاري ومسلم.
64. الصمت وحفظ اللسان إلا من خير؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" رواه البخاري.
65. الدفاع عن أعراض الناس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" رواه الترمذي.
66. سلامة الصدر وترك الشحناء؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء. فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا" رواه مسلم.
67. العدل بين الناس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الناس صدقة" رواه البخاري.
68. إجابة الداعي إلى الخير وإعطاء السائل؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه" رواه أحمد والنسائي وأبو داود.
69. شكر المعروف ومكافأة فاعله؛ لأن هذا من أدب المسلم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صنع إليه معروف فليجزه، فإن لم يجد ما يجزيه فليثن عليه، فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره" رواه البخاري في الأدب المفرد.
70. الاجتهاد في العشر الأواخر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد مئزره" رواه البخاري ومسلم.
71. قيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه البخاري ومسلم.
72. الاعتكاف: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان" رواه البخاري.(99/3)
73. أداء زكاة الفطر في وقتها: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".
74. وأخيرًا.. حقق صيام الدهر بصيام ست من شوال؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال كان كصوم الدهر" رواه البخاري ومسلم.
*************************(99/4)
أبوعبيدة بن الجراح أحد العشرة المبشرين بالجنة )
أبوعبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح الفهري يلتقي مع النبي-صلى الله عليه وسلم- في أحد أجداده (فهر بن مالك) وأمه من بنات عم أبيه أسلمت وقتل أبوه كافرا يوم بدر كان -رضي الله عنه- طويل القامة ، نحيف الجسم ، خفيف اللحية أسلم على يد أبي بكر الصديق في الأيام الأولى للاسلام ، وهاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية ثم عاد ليشهد مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- المشاهد كله.
غزوة بدر
ففي غزوة بدر جعل أبو ( أبو عبيدة ) يتصدّى لأبي عبيدة ، فجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلمّا أكثر قصدَه فقتله ، فأنزل الله هذه الآية قال تعالى :"( لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليومِ الآخر يُوادُّون مَنْ حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءَ هُم أو أبناءَ هم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتبَ في قلوبهم الأيمان ").
غزوة أحد
يقول أبوبكر الصديق -رضي الله عنه-:( لما كان يوم أحد ، ورمي الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر ، أقبلت أسعى الى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وانسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا ، فقلت : اللهم اجعله طاعة ، حتى اذا توافينا الى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اذا هو أبوعبيدة بن الجراح قد سبقني ، فقال : ( أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ) فتركته ، فأخذ أبوعبيدة بثنيته احدى حلقتي المغفر ، فنزعها وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه ، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيته الأخرى فسقطت ، فكان أبوعبيدة في الناس أثرم ).
غزوة الخبط
أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أباعبيدة بن الجراح أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشرة مقاتلا ، وليس معهم من الزاد سوى جراب تمر ، والسفر بعيد ، فاستقبل أبوعبيدة واجبه بغبطة وتفاني ، وراح يقطع الأرض مع جنوده وزاد كل واحد منهم حفنة تمر ، وعندما قل التمر أصبح زادهم تمرة واحدة في اليوم ، وعندما فرغ التمر راحوا يتصيدون ( الخبط ) أي ورق الشجر فيسحقونه ويسفونه ويشربون عليه الماء ، غير مبالين الا بانجاز المهمة ، لهذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط.
مكانته أمين الأمة
قدم أهل نجران على النبي-صلى الله عليه وسلم- وطلبوا منه ان يرسل اليهم واحد فقال عليه الصلاة والسلام :( لأبعثن -يعني عليكم- أمينا حق امين ) فتشوف أصحابه رضوان الله عليهم يريدون أن يبعثوا لا لأنهم يحبون الامارة أو يطمعون فيه ولكن لينطبق عليهم وصف النبي -صلى الله عليه و سلم- "أمينا حق امين" وكان عمر نفسه-رضي الله عليه-من الذين حرصوا على الامارة لهذا آنذاك بل صار -كما قال يتراءى- أي يري نفسه - للنبي صلى الله عليه وسلم- حرصا منه -رضي الله عنه- أن يكون أمينا حق أمين ولكن النبي صلى الله عليه وسلم- تجاوز جميع الصحابة وقال :( قم يا أباعبيدة ).
كما كان لأبي عبيدة مكانة عالية عند عمر فقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو يجود بأنفاسه :( لو كان أبوعبيدة بن الجراح حيا لاستخلفته فان سألني ربي عنه ، قلت : استخلفت أمين الله ، وأمين رسوله ).
معركة اليرموك
في أثناء قيادة خالد -رضي الله عنه- معركة اليرموك التي هزمت فيها الامبراطورية الرومانية توفي أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- ، وتولى الخلافة بعده عمر -رضي الله عنه- ، وقد ولى عمر قيادة جيش اليرموك لأبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة وعزل خالد وصل الخطاب الى أبىعبيدة فأخفاه حتى انتهت المعركة ، ثم أخبر خالدا بالأمر ، فسأله خالد :( يرحمك الله أباعبيدة ، ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب ؟) فأجاب أبوعبيدة :( اني كرهت أن أكسر عليك حربك ، وما سلطان الدنيا نريد ، ولا للدنيا نعمل ، كلنا في الله أخوة ) وأصبح أبوعبيدة أمير الأمراء بالشام.
تواضعه
ترامى الى سمعه أحاديث الناس في الشام عنه ، وانبهارهم بأمير الأمراء ، فجمعهم وخطب فيهم قائلا :( يا أيها الناس ، اني مسلم من قريش ، وما منكم من أحد أحمر ولا أسود ، يفضلني بتقوى الا وددت أني في اهابه !!). وعندما زار أمير المؤمنين عمر الشام سأل عن أخيه ، فقالوا له :( من ؟) قال :( أبوعبيدة بن الجراح ) وأتى أبوعبيدة وعانقه أمير المؤمنين ثم صحبه الى داره ، فلم يجد فيها من الأثاث شيئا ، الا سيفه وترسه ورحله ، فسأله عمر وهو يبتسم :( ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس ؟) فأجاب أبوعبيدة :( يا أمير المؤمنين ، هذا يبلغني المقيل ).
طاعون عمواس(100/1)
حل الطاعون بعمواس وسمي فيما بعد "طاعون عمواس" وكان أبوعبيدة أمير الجند هناك فخشي عليه عمر من الطاعون فكتب اليه يريد أن يخلصه منه قائلا : (اذا وصلك خطابي في المساء فقد عزمت عليك ألا تصبح الامتوجها الي واذا وصلك في الصباح ألا تمسي الا متوجها الي فان لي حاجة اليك) وفهم أبوعبيدة المؤمن الذكي قصد عمر وانه يريد أن ينقذه من الطاعون فكتب الى عمر متأدبا معتذرا عن عدم الحضور اليه وقال : ( لقد وصلني خطابك يا أمير المؤمنين وعرفت قصدك وانما أنا في جند من المسلمين يصيبني ما أصابهم فحللني من عزمتك يا أمير المؤمنين) ولما وصل الخطاب الى عمر بكى فسأله من حوله :(هل مات أبوعبيدة ؟) فقال :(كأن قد) والمعنى أنه اذا لم يكن قد مات بعد والا فهو صائر الى الموت لا محالة اذ لا خلاص منه مع الطاعون.
كان أبو عبيدة -رضي الله عنه- في ستة وثلاثين ألفاً من الجُند ، فلم يبق إلاّ ستة آلاف رجل والآخرون ماتو مات أبوعبيدة -رضي الله عنه- سنة (18) ثماني عشرة للهجرة في طاعون عمواس وقبره في غور الأردن رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى.
" لكل أمة أمينا وأميننا أيتها الأمة أبوعبيدة عامر الجراح " حديث شريف.(100/2)
أبيات سارت بها الركبان
... المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
فهذه أبيات جرت بها الألسنة ، وتشنفت بها الآذان، وصارت كالأمثال شهرة، وكالنجوم ظهوراً ، أحببت أن أجمعها لتكون للمتأمل متعة، وللمعتزل أنساً ، وللعاقل عبرة، ففيها الحكمة الشاردة، والتجربة الواعية، والرأي السديد، وهي خيار من خيار، فقد تمر بي مئات البيات فلا أعجب ببيت واحد، وقد أقلب ديوان الشاعر كله فأخرج ببيت واحد يتيم؛ لأن الإبداع عزيز نادر في نتاج البشر؛ ولهذا قل الرواد، وشح الزمان من المبدعين ، ومع قصر العمر وكثرة المشاغل كان من الأحسن اختيار الأفضل واطراح المفضول، فخذ من العين نونها، ومن القلب سويداءه. ومع الأبيات الذائعة الشائعة.
أبيات سارت بها الركبان
إن كان عندك يا زمان بقية
مما يهان بها الكرام فهاتها
لها عين أصابت كل عين
وعين قد أصابتها العيون
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط
عليك بغإلى دمعها لجمود
أعز مكان في الدنا سابح
وخير جليس في الزمان كتاب
كذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم
أو سدوا المكان الذي سدوا
أضاعوني وأي فتي أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
هنيئاً مريئا غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت!
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا بإليد
ومن كلمت فيه النهي لا يسره
نعيم ولا يرتاع للحدثان
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه
فقد كاد رياها يطير بلبه !
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري!
يقولون لو سليت قلبك لارعوى
فقلت وهل للعاشقين قلوب!
يا قوم أذني لبعض الحى عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا!
يكون أجاجاً دونكم فإذا انتهي
إليكم تلقى طيبكم فيطيب
وإنما المرء حديث بعده
فكن حديثاً حسناً لمن وعى
إن رباً كفاك ما كان بالأمس
سيكفيك في غد ما يكون
دقات قلب المرء قائلة له:
إن الحياة دقائق وثواني!
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا!
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
وإذا لثمن يمينه وخرجت من
أبوابه لثم الملوك يميني!
تفوح أطياب نجد من ثيابهم
عند القدوم لقرب العهد بالدار!
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عن عرار
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكرته
كما المسك ما كررته يتضوع!
كأن قطاة علقت بجناحها
على كبدي من شدة الخفقان!
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها
عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا!
تراه إذا ما جئته متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله!
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من توهم
ومن نكد الدنيا على الحر أن يري
عدواً له ما من صداقته بد!
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
لا خيل عندك تهديا ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال!
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام!
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والأقدام قتال!
إنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
قد يهون العمر إلا ساعة
وتضيق الأرض إلا موضعا!
هو الجد حتى تفضل العين أختها
وحتى يكون إليوم لليوم سيدا
فإنك شمس والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا!
وليس على الأعقاب تدمي كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وبشرت آمالي بشخص هو الورى
ودار هي الدنيا ، ويوم هو الدهر
إذا اشتبكت دموع في خدود
تبين من بكى ممن تباكى!
ولست بمستبق أخاً لا تلمه
على شعث، أي الرجال المهذب؟!
وكيف تعلك الدنيا بشيء
وأنت لعله الدنيا طبيب؟!
المجد عوفي إذا عوفيت والكرم
وزال عنك إلى أعدائك الألم!
لا يدرك المجد إلا سيد فطن
بما يشق على السادات فعال
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تموت جبانا!
وإن لم تمت تحت السيوف مكرماً
تمت وتعاني الذل غير مكرم!
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
نسب كأن عليه من شمس الضحى
ألقاً ومن ضوء الصباح عمودا
كأنهم يردون الموت من ظمأ
أو ينشقون من الخطي ريعانا!
يستعذبون مناياهم كأنهم
لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا!
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم بآبائهم أو مجدهم قعدوا!
بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن
لأولهم في الجاهلية أول!
دار متى ما أضحكت في يومها
أبكت غداً قبحاً لها من دار!
السيف اصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب!
علو في الحياة وفي الممات
لحق أنت إحدى المعجزات!
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أعياني كفا عن فؤادي فإنه
من الظلم سعي اثنين في قتل واحد!
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألم!(101/1)
ويقبح من سواك الفعل عندي
وتفعله فيحسن منك ذاكا!
أتي الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على هرم
طبعت على كدر وأنت تريدها
صفواً من الأقذاء والأكدار!
أحرام على بلابله الدوح
حلال للطير من كل جنس؟!
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
ثمال إليتامى عصمة للأرامل
ما في الخيام أخو وجد نطارحه
حديث نجد ولا خل نجاريه
أضاءت لهم أخلاقهم ووجوههم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
كفي بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
ثمن المجد دم جدنا به
فاسألوا كيف دفعنا الثمنا!
والمستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار!
كأن عينيك يوم الجزع تخبرنا
عن المحبين من أسماء قتلاك!
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم؟!
لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
أحي جاوز الظالمون المدى
فحق الجهاد وحق الفدا
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
عن الطعام وتلهيها عن الزاد
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض
فحسبك مني ما تكن الجوارح
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة
غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر!
ألا أيها الركب إليمانون عرجوا
علينا فقد أضحى هوانا يمانيا!
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي
أفسر ماذا والهوى لا يفسر!
يا ليتها إذ فدت عمراً بخارجة
فدت علياً بمن شاءت من البشر!
والناس من يلق خيراً قائلون له
ما يشتهي، ولأم مع المستعجل الزلل
لا تغترر ببني الزمان ولا تقل
عند الشدائد لي أخ وحميهم
والناس أعوان من دالته دولته
وهم عليه إذا عادته أعوان
أولئك آبائي فجئتني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع!
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسلبك أو يتوجع
تعود بسط الكف حتى لو انه
أراد انقباضاً لم تطعه أنامله
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء للمرء مذهب
وتضحك مني شيخة عبشمية
كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانيا
يقضي على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا
من كان يألفهم في الموطن الخشن
اعذر حسودك فيما قد خصصت به
إن العلا حسن في مثلها الحسد!
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة
على غير سعدى فهو دمع مضيع
وما شرقي بالماء إلا تذكراً
لماء به أهل الحبيب نزول!
فبت كني ساورتني ضئيلة
من الرقش في أنيابها السم ناقع
وصدر أراح الليل عازب همه
تضاعف فيه الحزن من كل جانب
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع!
هم يحسدوني على موتي فوا أسفا
حتى على الموت لا أخلو من الحسد!
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير!
قد كنت أشفق من دمعي على بصري
فإليوم كل عزيز بعدكم هانا
إني وإن لمت حاسدي فما
أنكر أني عقوبة لهم
ومن العداوة ما ينالك نفعه
ومن الصداقة ما يضر ويؤلم!
فما أطال النوم عمراً وما
قصر في الأعمار طول السهر
وأنا الذي جلب المنية طرفه
فمن المطالب والقتيل القاتل؟!
وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال
جود الرجال من الأيدي وجودهم
من اللسان فلا كانوا ولا الجود!
جزى الله المسير اليك خيراً
وإن ترك المطايا كالمزاد!
كل الموارد غير النيل آسنة
وكل سوى البلقاء فيحياء
يا من يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدم!
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
هم القوم إن قالوا أصابوا، وإن دعوا
أجابوا ، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
يا قرة العين سل عيني هل اكتحلت
بمنظر حسن مذ غبت عن عييني؟!
ولي كبد مقروحة من يبيعني
بها كبداً ليست بذات قروح؟!
إذا هم ألقي بين عينيه همه
وأعرض عن ذكر العواقب جانبا
سل الرماح العوإلي عن معإلينا
واستشهد البيض هل خاب الرجا فينا؟
ما أقبح الصبر الجميل
بعاشقيك وأجملك!
ولما ادعيت الحب قالت كذبتني
ألست أرى الأعضاء منك كواسيا؟!
وردنا على ماء العشيرة والهوى
على ملل، يا لهف نفسي على ملل!
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر
وغصنك مياد ففيم تنوح؟!
فقد هد قدماً عرش بلقيس هدهد
وخرب فأر عنوة سد مأرب
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك بالعبادة تلعب
ألا لا أري الأحداث مدحاً ولا ذماً
فما بطشها جهلاً ولا كفها حلما
تفت فؤادك الأيام فتا
وتنحت جسمك الساعات نحتا
أتياس أن تري فرجاً
فأين الله والقدر؟!
وما كل دار أقفرت دار عزة
ولا كل مصقول الترائب زينب!
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
جرت الرياح على محل ديارهم
فكأنهم كانوا على ميعاد
وما مشتت العزمات ينفق عمره
حيران لا ظفر ولا إخفاق
لشتات ما بين إليزيدين في الندى
يزيد بن عن عمرو والأغر بن حاتم
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا
ولا موجعات القلب حتى تولت!
متى تأتيه تعشو إلى ضوء ناره
تجد خير نار عندها خير موقد
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
خلوت ولكن قل على رقيب!(101/2)
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
دع المقادير تجري في أعنتها
ولا تبيتن إلا خيلى البإلي
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا!
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
لمعت نارهم وقد عسعس الليل
ومل الحادي وحار الدليل
ولو لم يكن في كفه غير روحه
لجاد بها فليتق الله سائله!
اذكرونا مثل ذكرانا لكم
رب ذكرى قربت من نزحا
واعلم بأن عليك العار تلبسه
من عضة الكلب لا من عضة الأسد!
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متي أضع العمامة تعرفوني
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً
عن السماء ترجى حين تحتجب
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
من راقب الناس مات هماً
وفاز باللذة الجسور
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
ففي السماء نجوم لا عداد لها
وليس يكسف إلا الشمس والقمر
والحادثات وإن أصابك بؤسها
فهو الذي أنباك كيف نعيمها
ذكر الفتى عمره الثاني ، وحاجته
ما قاته، وفضول العيش أشغال
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
يا ظبية البان ترعى في خمائله
ليهنك إليوم أن القلب مرعاك!
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متعزل
وكل شديدة نزلت بقوم
سيأتي بعد شدتها رخاء
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
وإن يرق أسباب السماء بسلم
أري الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
تعدو الذئاب على من لا كلاب له
وتتقي مربض المستنفر الحامي
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها: إن الكرم قليل
وظلم ذوي القربى اشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
بغاث الطير أكثرها فراحاً
وأم الصقر مقلاة نزور
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت
ولن تلين إذا قومتها الخشب
والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنع
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذماً عليه ويندم
إذا لم تستطع شيئاً فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
من لم يمت عبطة يمت هرماً
للموت كأس والمرء ذائقها
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ
يعيش المرء ما استحيا بخير
ويبقى العود ما بقي اللحاء
نروح ونغدو لحاجاتنا
وحاجة من عاش لا تنقضي
ولم أر كالمعروف ، أما مذاقه
فحلو ، وأما وجهه فجميل
إذا كنت في حاجة مرسلا
فأرسل حكيماً ولا توصه
ومهما تكن عند امرئ من خليفة
وإن خالها تخفي على الناس تعلم
إذا لم يكن إلا السنة مركب
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
تعلم فليس المرء يولد عنالماً
وليس أخو علم كمن هو جاهل
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
صديقك لم تلق الذي لا تعاقبه
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشف
له عن عدو في ثياب صديق!
وأعلم بأن من السكوت إبانة
ومن التكلم ما يكون خبالا
الصمت اجمل بالفتى
من منطق في غير حينه
يصاب الفتى من عثرة بلسانه
وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق!
جراحات الطعان لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللسان
وإن امرءا قد سار سبعين حجة
إلى منهل من وردة لقريب
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
بقدر الجد تكسب المعإلي
ومن رام العلا سهر الليإلي
تقفون والفلك المسخر دائر
وتقدون وتضحك الأقدار
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
غب وزر غباً تزد حباً فمن
أكثر الترداد أقصاه الملل
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى
ولا زاجرت الطير ما الله صانع
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر!
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مراً به الماء الزلالا
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إلى من لبس الشفوف
ذهب الشباب فما له من عودة
وأتي المشيب فأين منه المهرب؟!
إذا غضبت عليك بنو تميم
حسبت الناس كلهم غضابا!
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلق كجلد الأجرب
لولا الحياء لعادني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار
وكانت في حياتك لي عظات
فأنت إليوم أوعظ منك حيا
تعب كلها الحياة فما أعـ
ـجب إلا من راغب في ازدياد
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
قبيلة لا يغدرون بذمة
ولا يظلمون الناس حبة خردل
ضدان لما استجمعا حسنا
والضد يظهر حسنه الضد
إذا اعتاد الفتي خوض المنايا
فأهون ما يمر به الوحول
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
وحب الجبان النفس أورده التقي
وحب الشجاع النفس أورده الحربا
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعباً بلغت ولا كلابا
من يفعل الخير لم يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى(101/3)
ظمئت واي الناس تصفو مشاربه؟!
مكر مفر مقبل مدبر معاً
كجلمود صخر حطه السيل من عل
نصحتك فالتمس يا ليث غيري
طعاماً إن لحمي كان مراً؟
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
ليلتي هذه عروس من الزنج
عليها قلائد من جمان
يا جارة الوادي طربت وعادني
ما يشبه الأحلام من ذكراك
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
أنا الذي نظر الأعمي إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
تسيل على حد الظبات نفوسنا
وليست على غير الظبات تسيل
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
إنا لمن معشر أفني أوائلهم
قيل الكماة: ألا أين المحامونا؟!
وما للمرء خير في حياة
إذا ما عد من سقط المتاع
أحلامنا تزن الجبال رزانة
وتخالنا جنا إذا ما نجهل
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وفيهم مقامات حسان وجوهها
وأندية ينتابها القول والفعل
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
محسدون على ما كان من نعم
لا ينزع الله منهم ما له حسدوا
أغر أبلج يستسقى الغمام به
لو صارع الناس عن أحلامهم صرعا
هينون لينون أيسار ذوو كرم
سواس مكرمة أبناء أيسار
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إن شيمتك الحياء
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
ونشرب عن وردنا الماء صفواً
ويشرب غيرنا كدراً وطينا
إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفاً
أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا
قوم إذا الشر أبدي ناجذيه لهم
طاروا إليه زوافات ووحدانا
بانت سعاد فقلبي إليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يري بها الساري
بيض الوجوه نقية حجزاتهم
شم الأنوف من الطراز الأول
ساشكر عمراً إن تراخت منيتي
أيادي لم تمنن وإن هي جلت
لا يسالون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
هو البحر من أي النواحي أتيته
فلجته المعروف والجود ساحله
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وثناء(101/4)
أبٌ يرْثي ابْنه
بُنيّ إِياد !
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
رَحَلْتَ ! وَبي لهْفةٌ منْ حَنينٍ
وَشَوقٌ إلى بِرِّك الطّيِّب
وَغِبْتَ ! وذِكْرُك عِطْرُ الدِّيار
وعطرُ المَرابِع والسَّبْسَب (1)
وَفَوْحُ الشَّبَابِ عَلَى جِدِّهِ
وفَوْحُ الطّفُولَةِ في الملْعَبِ
وحَيثُ نَزَلْتَ غَنِيَّ العَطَاءِ
تَقِيَّ المسَالِكَ و المَذْهَبِ
***
***
رَحَلْتَ ! وما زِلْتُ أهْفُو إِليْكَ
حَنِينَ الضُّلوعِ وشَوْقَ الأَبِ
وَغِبْتَ ! ومازِلْتُ أَرْنُو إلَيْكَ
وقَلْبِيْ وَطَرْفِيْ يُلحَّانِ بِي
رَكَضْتَ وأسْرَعَْتَ ! جُزْتَ المَدَى
فَيَا لوثَابِ الفَتَى الأنْجَبِ
كَأَنَّك تَعْدُو إلىَ جَنَّةٍ
يُبَلِّغُها اللهُ من يَجْتَبِي
كَأَنَّكَ في حَوْمَةٍ من سِبَاقٍ
فَجَلَّيْتَ في السَّبْقِ والمطْلَبِ
***
***
رَحَلْتَ ! بُنَيَّ ، عَلَى حُرْقَة
وجَمْرٍ هُناَ في الحَشاَ مُذْهبِي
عَلى مُقْلَة قَرَّحَتْهَا الدُمُوْعُ
تَفَجَّرُ من قَلبِيَ الملُلْهَبِ
وحَوْليَ أُمُّكَ نَبْعُ الحَنانِ
تصُبُّ الدُّموعَ ولَمْ تَصْخَبِ
تَعَضُّ عَلى شَفَتَيْهَا أسى
لتَكْظم من حُزْنِهَا المُنصِبِ
فَدَفْقُ الدُّمُوع عَزَاءُ الفُؤادِ
أَلا أَطْلقِي الدَّمْعَ أَو سَرِّبي (2)
تَهِيجُ بِإخْوَتَكَ الذّكْرَيَاتُ
حَنينَاً إلى الرَّحمِ الأَقُرَبِ
ودَمْعَاً يَفِيضُ عَلَى الوَجْنتَينِ
فَيَحْبِسُهُ العَزْمُ مِنْ صُلَّبِ (3)
فَيُخْفُونَ مِنْ لَوْعَة في الحَشَا
يُوَاسُونَ مِنْ أُمِّهمْ والأبِ
وصَحْبِ كَأنَكَّ مِنْ مُهْجَةٍ
نُزِعْتَ ومِنْ أكْبُدٍ نُحَّبِ
فَمَاجُوا ! فَمِنْ موكِبٍ مُقْبِلٍ
كَرِيمِ يُوَاسِي إلى موكِبِ
***
***
حَنيننُ الأُمومَةِ ! شوْقُ الأُبُوَّ
ةٍ ! فَيْضٌ مِن الحَزَن الأَصعَبِ
يَمُوجُ عَلَى فِطْرةٍ أُودِعتْ
ونَبْعٍ مِنَ البِرِّ لم يَنْضَبِ
فَيَمْتَدُّ مِنْ عَالَمِ ضَيِّقٍ
إلى عَالَمِ الغَيْبِ والغُيَّبِ
فَمَنْ يَسَعُ الحُزْنَ ! هَذا مَدَاهُ
مَدى عَالَمٍ واسِعٍ أَرْحَبِ
فَماَ يَسَعُ الحُزْنَ إِلاَّ يَقينٌ
وصِدْقٌ مَع الله لَمْ يُكْذَبِ
***
***
رَحَلْتَ ! بُنَيَّ إِيادٌ ! وغِبْتَ
عَلَى لَوْعةٍ وأسىً مُصْحِبِ
إذاَ مَا ذَكَرتُكَ هِاجَتْ دُمُوعِي
فأَسْكُبُ مِنْ وابِلٍ صَيَّبِ
تُنَازعُنِي النَّفْسُ : دَمْعٌ يفَيضُ
عَلَيْكَ وَ صَبْرٌ جميلٌ أَبي
أَعودُ إِلى ذِكْر رَبِي فَأَخْشَـ
ــع للذّكْرِ والأَملِ الأرْحَبِ
***
***
رَحَلْتَ ! بُنَيَّ إِيادُ ! وغِبْتَ
وبِي منْ جَوىً هائجٍ مُنْصِبِ
فَأَنَّى التَفَتُّ أَرى طيفك الحُلْـ
ـوَ حَوْليْ يخاطبُني يا أبي
وطَلْعَةُ وَجْهكَ إشْرَاقَةٌ
وإقْبَال طَيْفِكَ لَمْ يَغْرُبِ
وبَسْمَةُ وجْهِكِ نُورٌ يَفِيضُ
عَلَيَّ يَشُقُ دُجَى الغَيْهِبِ
ولَهَفَةُ صَوْتِكَ ! كمْ قَدْ حَنَوتَ
عَلَى قَلْبِيَ الخَافِقِ المُتْعَبِ (4)
فَيَجْلُو حَدِيثُكَ صَفْوَ النَبَاهِـ
ـةِ بالأَدَب المُرْهَفِ الأَعْذَبِ
تَضُمُ جَنَاحَيْك حَوْلِي بِبِرٍّ
نَدِيِّ الشَمَائِل والمَوْهِبِ
***
***
إِيادُ ! وكُنْتَ تُجِيبُ النِّداءَ
وِتُسْرعُ رَكْضَاً إلى مَطْلَبِي
فَماَلُكَ اليومَ لا تَسْتَجيبُ
وَعَهْدِي بِبِرِّك لَمْ يَكْذِبِ
وكَنْتَ تُجِيبُ نِدَاءَ الصَلاةِ
فَهَذاَ النِّدَاءُ ! فَقُمْ وارْغَبَ (5)
صَدقْتَ ! أَجَبْتَ نِدَاءً أجَلَّ
وَقُمْتَ إلَى مَنْزِلٍ أطْيَبِ
إِلَى رَحْمَةِ الله ! عُقْبَى التَّقِيِّ
إذا جَدَّ في السَّعْيِ والمَذْهَبَ
إلى الله ! إِنا له راجعون
فَمَا مِنْ مُجيرٍ ولا مُعقِبِ
إِذا حُمَّ فِينا قَضَاءُ الإله
فَمَا من سبِيل إِلى مَهْربِ
فُسبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الخَلْقَ في
قَضَاءٍ وسُبْحَان مَنْ يَجْتَبِي
***
***
إيادٌ ! حَنانَيْكَ ! كَيفَ السُّلوُّ
وطَيْفُكَ حَوْليَ لَمْ يُحْجَبِ
فَهَذاَ كِتَابُك ! يَا وَيْحَ نَفْسِي
كَأنَّكَ مَازِلْتَ في المَكْتَبِ
وهذا قَمِيصُكَ حُلْوُ الشَّذَى
وهذَا الرِدَاءُ عَلى المشْجَبِ
وهَذا السَّرير ! كَأَنِّي أَرَاكَ
فأُقْبِلُ والشوْقُ قَدْ هاجَ بي
أَعودُ وبِي حُرقَةٌ من حَنِينٍ
إِليْكَ ، إِلى وَجْهِكَ الطِّيِّبِ
***
***
ومَكْتَبةٌ نَسَّقْتْها يَدَاكَ
عَلَى فِطْنَةِ الماهِر المُعْجِبِ
أَطُوفُ بِهَا ورُؤَى الذِكرَياتِ
تَطُوفُ كَأَنَكَ لَمْ تَذْهَبِ
يُذَكِّرُنِي كُلُّ رُكُنٍ بَهَا
حَنَانَ فَتَىً طيِّبٍ أحْدَبِ
***
***
وأَقْرأُ شِعْري ونَثْريَ فَتُصْغِي
إِلَيَّ ! فِيَا للفتَى الأَنْجَبِ
وَيَا لَبَيَانِ الفُؤَادِ الذَّكِي
وَيَا لَحَصافَةِ مُسْتَوعبِ
فَأُصْغي إلى نَفَحَاتٍ غَوَالي
كوكِبَ مِن حُسْنِها ثُقَّبِ
***
***
بُنَيَّ غَذَوْتُكَ صَفْوَ اللِّبانِ
وَعُلْتُكَ بالمَنْهَجِ الأَصْوَبِ
كتَابٌ من الله يُتْلى ونُورٌ
مِنَ الحَقِّ يُجْلى وهدْيُ النَّبي
تُعَلُّ وتَنْهَلُ منْ فَيْضه
غَنِيَّ السِقَايَةِ والمَشْرَبِ
فَأَقِبلْ عَلَى الله ! هذا هو الزَّا(102/1)
دُ بِالصِدْقِ والعَمَلِ الطَيِّبِ
***
***
إيادٌ ! حَنَانَيك ! وَاللّيلُ سَاجٍ
عَلَى مَهْجَعٍ بِالهُدَى مُرْغِبِ
فَكَم كَانَ جَنْبُكَ يَجْفُو المَضَاجِـ
ـعَ منْ رَهَبٍ بالتُقَى تَحْتَبِي
فَتُحْيي مِنَ اللّيلِ أَجْزَاءَه
فَرَغَتَ إلى الله قُمْ فَانْصَبِ
أَمُرُّ فَأُصْغِي ! وأَنْدَاءُ صَوتِـ
ـكِ تَنْسَابُ بِالعَبَقِ الأطْيَبِ
إذا مَا سَمَعْتَ النِدَاءَ أَجَبْتَ
وَقُمْتَ إِلى مَنْهَلَ أَعْذَبِ
نَدَاءَ البُكُورِ ، نداءَ الغَدَاة
نِدَاءَ العَشِيَة والمغْرِبِ
خُطَاكَ تُذَكِّرُنِي لَهْفَةً
إلى مَسْجِدً حَوْلَنَا أَرْحَبِ
***
***
بُنَيَّ ! سَنَذكُرُ فيكَ الشَبَابَ
نديَّا عَلى غُصُنٍ مُرْطِبِ (6)
وَنَوْراً تفَتَّحَ عِنْدَ الصَبَاحِ
وأَغْفَى عَلى العِطْرِ في المَغْرِبِ
سَنَذْكُرُ طَلْعَةَ وَجْه صَبُوحٍ
وإِطْلالَةً مِنْ فَتى أَهيَبِ
فَنَسْكُبُ فَوْقَكَ عِطْرَ الورُودِ
مُنَدّىً عَلَى الجَدَثِ الطيِّبِ
مِنَ المُزْنِ أَو مِنْ حنِينِ الضُّلوعِ
فَيَا مُزْنُ صُبِّي هُنَا وا سْكُبِي
ويَا قَلْبُ فَاسْكُبْ نَدَيَّ العُطورِ
حَنِينَ الأُمُومَةِ شَوقَ الأَبِ
***
***
وَنَدْعُو لَكَ اللهَ ! يَا رَبٍّ فامْنَحْ
بِجُودكَ فَضْلاً لَهُ أَو هَبِ
وَوَسِّعْ لَهُ قَبْرَهُ رَوْضَةً
ونَوِّرْهُ ! نَضِّرْهُ أَو ثَوِّبِ
وغَسِّلْهُ بالماء والثَلْجِ يا ر
بِّ ! أَيُّ عِبادِكَ لم يُذْنِبِ
وَبَدِّلْهُ أَهْلاً و دَارَاً أَعَزَّ
عَلَى سَعَةِ الدَّارِ و المَرْحَبِ
وَهَبْهُ بِرِضْوانِك المُرْتَجَى
نَعِيمَاً عَلَى المَورِدِ الأَعْذَبِ
يُزَفُّ إِلى الحُورِ في جَنَّةٍ
تَرِفُّ عَلَيهِ وفيِ مَوكِبِ
***
***
أَوَدَّعْتَ أَمْسِ الفَتى " باسماً "
رفِيقَكَ في الجدِّ والملْعَبِ (7) ؟!
حَنَنْتَ إِليْهِ ! فَيَا لَلْوَفاءِ
وَحَنَّ إِليْكَ فَلا تَعْجَبِ
فَيا " بَاسمُ " انهَضْ لِحَقَّ الوَفَاء
وَحَقِّ الإِخاء ! فَقُمْ رَحِّبِ
وودَّعْتَ أَمْسِ " الربيعَ " النَّدِيَّ
فتىً مَرَّ كالطَيْفِ لَمْ يَنْصَبِ (8)
نُعَزِّي بِهِ أَهْلَنا والصِّحَابَ
وما نَعْلَمُ القَدَرَ المُخُتَبِي (9)
كأَنَّكُمُ ضقْتُمُ مِنْ غُرُورِ الـ
حَياةِ ومِنْ ضِيقهَا المُجْدِبِ
فَآثَرْتُمُ سَعَةً مِنْ جِنَانٍ
ومِنْ ريِّهَا الدَّافِقِ المُخصِبِ
كَأَنَّ يَدَ الله تَخْتَارُ غَرْسَ الـ
جِنَانِ ورُودَاً ونَوْرَ الرُبِي
أَلا لَكُمُ الله نَدْعو وللمُؤ
مِنِينَ عَلى أَمَلٍ مُوعِب (10)
***
***
بُنَيَّ ! يُخَفِّفُ مِنْ لَوْعَتِي
حُنُوُّ المُعَزِّي حُنُوَّ الأَبِ
يَقُولُ المُعَزُّونَ نِعْمَ الفتى
تَقِيَّ السَّجِيَّةَ والمَنْقَبِ
فَيَجْزيهُمُ الله خَيْرَ الجَزاءِ
بأَجرٍ غَنِيِّ الرِّضاَ مُعقِبِ
***
***
ولكنْ عَجِبْتُ ! وأَين المُعزُّو
نَ بالوطَنِ الضَّائِعِ المُسْلَبِ (11)
بُنَيَّ ! مُصَابِيَ فَجْعٌ بِفَقَد
كَ مِنْ حَزَنٍ بِالحَشَا مُنْشِبِ
ولكنَّ فِتْنَةَ قَوْمِي امْتدادُ
بَلاء على القَلْبِ مُسْتَصْعَبِ
فَأَيْنَ المُعَّزُونَ بالأُمة اليوْ
مَ ؟ أَيْنَ المَدَامِع لَمْ تُسْكَبِ ؟!
فأُمَّتُنَا مَزَّقَتْها الرَّياحُ
وعَصْفُ الأعَاصيرِ بِالمَركَبِ
رَمَتْهَا فَتاهَت عَلى مَهْمَهٍ
وغَابَتْ عَلى فِرَقٍ شُذَّبِ (12)
فَتُلْقَى بِسُوقٍ النِّخَاسَةِ ما بَيـ
ــنَ ذئْبٍ تَواثَبَ أَو ثَعْلَبِ
تَدُورُ ! يُقَلِّبُهَا المُجْرمُونَ
بِنَابٍ يُقَطِّعُ أَو مِخْلَبِ
هُنَالكَ أُمَّتُنَا كَالعَبيدِ
تُبَاعُ و كَالرَّجِلِ الأَعضبِ (13)
فِتُرْجَى إلى كلِّ مُسْترْخِصٍ
لئيمٍ يَمُرُّ ولَمْ يَرْغَبِ
فَتُسْحَقُ بَيْنَ النِّعَالِ و تُرْمَى
لَقَى هَمَلَ الشَرْقِ والمَغْرِبِ (14)
تُوِّدِعُ بالأفْقِ أَحْلامَها
تَغِيبُ على بَرْقه الخُلَّبَ
كَأَنَّكِ يَا أُمَّتِي مُتِّ مِن
هَوَانٍ ومِنْ كَمَدٍ مُعْطبِ
كَأَنَّك لَمْ يَبْقَ مِنْكِ سوى
رفَاتِ شريدٍ مَضَى ، مُغرِبِ (15)
يَحَارُونَ أيْنَ تُوارَى الرُّفاتُ
" بِمَدْريدَ" أَمْ باللِّوى الأَقْربِ ؟!(16)
تُرَى! أَمْ "بوَاشنْطُن" أَمْ "بِمُوسْكُو"
تُوَارَى الرُفَاتُ ! أَلا فَانْحَبِ !
يُسَمُّونَ ذَلكَ " حَفْلَ السَّلامِ "
و "مُؤْتَمَرَ الزَّمَنِ القُلَّبِ "
فَأَيْن المُعَزُّونَ بِالأُمةِ اليَو
مَ ، بالدَّار ، بالسَاحِ ، بالمَلْعَبِ
وبالقُدْس ، بالمَسْجَدِ النَّازِفِ الدَّ
مَ ، بِالدَّفْقَ مِنْ جُرْحِهِ المُثْعَبِ (17)
بِأَرْض مُبَارَكَةٍ ضَيَّعَتْها
حُشُودُ المُرائَينَ والهُيَّبِ (18)
نَسُوهَا فَهَانُوا ولَمْ يَذْكُرُوا
سَخَاءَ المَرَابعِ فَيْضَ الرُّبِي
ولا ذَكَرُوا زَهْوَ تَاريِخِهِمْ
ودنياً هُوَ الحَقُّ لَمْ يُغْلَبِ
ولا لَهْفَةً منْ هَوى مَكَّةٍ
ولا دَمْعَةً مِنْ هوى يَثْرِبِ
فَهَبُّوا لمُؤْتَمَرٍ يَائسٍ
بِكُلِ ذَليلِ المُنَى مُصْحِبِ (19)
يَظُنُونَ أُمَّتهُمْ أَفْلَسَتْ
وماتَتْ عَلَى هَمِّها المُنْصِبِ(102/2)
أَلا خَسئوا ! لَمْ تَزَلْ عَزمةٌ
مِنَ الدينِ تُجْلى ولم تُحْجَبِ
ومازَالَ فينا الكَميُّ الأَبرُّ
وعَزْمُ الفَتى المُؤْمِنِ المُنْجِبِ
سَتنْهَضُ أُمَّتُنا نَهْضَةً
تَحُطُّ الجَبانَ وتُعْلَي الأَبي
نُوَدِّعُ بالشَوقِ أَفْلاذَنا
بِموْتٍ عَلَى السِّاحِ مُسْتَعْذبِ
***
***
بُنَيَّ ! قَضَيْتَ و أَنْتَ الأَبِيُّ
تُجَاهِدُ في الله لم ترْهَبِ
حَمَلْتَ الرِسَالَةَ وَضَّاءة
غَنِيَّ العَزيمة والمَوْهِبِ
سَيرحَمُك الله ! فالله أرْحـ
ـمُ بالعَبْدِ مِنْ أُمِّهِ والأبِ
***
***
الاثنين
الثاني من رجب 1412هـ
السادس من يناير 1992م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لسَبْسَب : الفلاة ، الأرض البعيدة .
(2) سرَّب : أطلق دفعة بعد دفعة .
(3) صُلَّبِ : الشديد ، القوي .
(4) إشارة إلى العمليتين الجراحيتين اللتين أجريتا لي في القلب .
(5) إشارة إلى الوافاة كان قُبيل أذان العصر ، وقد تحركت السيارة بنا يقودها جارنا الأخر صالح باحشوان إلى مستشفى الشميسي مع انطلاق أذان العصر من يوم الأربعاء : 28/5/1412هـ 4/12/1991م .
(6) المُرْطِبِ : منن أَرْطَبَ النَّخْلُ إذا حان أَوان رُطبه . إشارة إلى شبابه .
(7) باسم محمود عثمان : صديقه الذي توفي قبله بأشهرٍ قليلة بحادث سيارة . رحمهما الله رحمة واسعة .
(8) ربيع فتحي دويك : توفي كذلك قبله بأشهر قليلة حين داهمته سيارة قرب منزله رحمهم الله جميعاً .
(9) أهلنا : فأهله بمنزلة الأهل لنا .
(10) مُوعِبِ : من أوعَبَ أي جمعَ .
(11) أسْلَبَبَ الشجر : ذهب حملها وسقط ورقها .
(12) شُذَّبِ : جمع شاذب : المنتحي عن وطنه الميئوس من صلاحه .
(13) الأَعضَب : الذي لا ناصر له .
(14) لَقَى : ما طرح . هَمَل : المتروك ليلاً ونهاراً .
(15) مُغرِب : الذي ذهب بعيداً في الأرض .
(16) اللِّوى : ما التوى من الرمل ، إشارة إلى منطقة الشرق الأوسط كما يسمونها .
(17) ثَعَبَ : الجرح سال دماً ، والمثعب : الحوض أو المسيل . والمثُعَب من أثعب أي جعله يسيل .
(18) الهُيَّب : الجبناء الخائفون .
(19) مصْحِب : ذليل منقاد ، مصاحب . وهنا بمعنى الذليل المنقاد .(102/3)
أبْها
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يا رُبا " مكّةٍ " و " طيبةَ " جودا
أطلقا النّورَ دعَوةً للعِبادِ
واملآ بالحَنانِ والشَّوق " أبْها "
واسكُبَا النُّورَ في الرُّبا و الوِهادِ
وانشرا العِطْرَ ! يالَعِطْرك " أبها "
نفحةُ المِسْكِ من هدى و رشادِ
" يا لأَبْهَا " وحُسْنُها بَهْجَةُ القَلْـ
ـبِ ورَوْحُ النفوس والأجْسادِ
وجبالٌ كأَنّها قِمَمُ المجْـ
ـدِ سُفوحٌ غنيَّة الأمجادِ
فتراها مَعَ العُلا " سَرَواتٍ "
وتراهَا مع الخُشوع بِوَادي
نَهضَتْ تَرْقُب الزّمان فَتلْقَى
من عَطاءِ الأيام وَفْرةَ زَادِ
كُلّما مَرّت الليالي عَلَيْها
أفرغَتْ مِنْ حُمولَةٍ وأَيادي
**
**
يا " لَبَلْقيسَ " ! وهيَ تُهْدِي سُلَيْما
نَ وتخشى من بأسِهِ والتَّعادي (1)
هاهُنَا الركْبُ حَلَّ فيك " وَأَبْقى "
ثمَّ نادَاكِ : أَنْتِ " أبْقَى " وِدادِ
زِدْتِ مِنْ فَيْضهِ فَأَصْبَحَ " أبْهى "
ثمّ ناداك أنت " أبْهى " وِفادِ
فَمضَى بالبَهاءِ مِنكِ ليَسْعَى
لنبيٍّ مُصَدَّقٍ ورَشادِ
**
**
يا جبالَ العَسير ! إنّك يُسْرٌ
لتقيٍّ وعُسْرَةٌ لِمُعادي
فارتقي في الفضاء واخْترقي السُّحْـ
ـبَ إِلى ذروة الأماني الفِرادِ
ينثرُ الغيْمُ من نَدَاه حُليّاً
لُؤْلُؤاً شعَّ أو غنيَّ قِلادِ
يَعْقِدُ الغارَ فوقَ رأسك تاجاً
فَازْدَهى التاجُ من جَمال بادي
والسَّحابُ النَّديُّ يَسْكُبُ فيها
ماءَه من روائح و غَوادي
وترى " سودةً " تشعُّ على الأفـ
ـقِ كنجمٍ على الذُّرا وقَّادِ (2)
أَو كَألماسَةٍ تَشعُّ مع الليـ
ـل فَتُحْيِي النَّهارَ بين سوادِ
يا " لَدَلغانَ " والذُّرا حالياتٌ
يالَسِحْرِ الرُّبا وسحرِ النوادي (3)
**
**
وجنانٌ كأنّها طَلْعَةُ الفَجْـ
ـر وإقبالُ بهجةٍ وارتيادِ
والورود التي تموَّجُ فيها
بَيْنَ دَلٍّ مُعَطّرٍ وتَهَادي
والزهورُ التي تنافَسُ بالحسـ
ـن لِتلْقَى طلائَعَ الروّادِ
والثمارُ التي دنَتْ وغِراسٌ
وجَنىً طيّبٌ وفيْضُ حَصَادِ
ومروجٌ تزيَّنتْ بوُرُودٍ
من غراس الأبناء والأجدادِ
كلُّ لون كأنه نَغَمُ حلـ
ــوٌ يعيدُ الألوانَ بالإنشادِ
كلُّ حسنٍ أراه ينقُص إلاّ
أنّ " أبها " جَمالُها بازديادِ
بَارَكَ الله في رُبَاها فأغْنتْ
كلّ دارٍ وزيّنتْ كُلَّ نادِي
فاضَ في أرضك النَّعيم مِنَ اللـ
ـهِ فَقُومي لِطَاعَةٍ و اجْتِهادِ
**
**
الرياض
3/2/1419هـ
28/5/1998م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان عبر وعبرات .
(1) يعتقد بعض الباحثين أن مدينة أبها كانت تعرف في التاريخ القديم باسم " أبقا " ، وهو المكان الذي كانت إِبل بلقيس تحمل منه إلى النبي سليمان عليه السلام : " الموسوعة العربية العالمية " .
(2) " سودة " اسم منتزه على قمة عالية .
(3) " دلغان " اسم منتزه على جبال أبها .(103/1)
أتسخرون من الحبيب صلى الله عليه وسلم؟!!
عزة عبد الرحيم سليمان
قالوا سُحر.. قالوا تزوج وأنجب... وضُرب وأُوذي...أهذا نبي؟!!
وهل كان نبي على غير هذا؟!
"كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ" (الذاريات: 52).
"وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ" (الرعد: 38).
"(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ" (الأنعام: 34)
فهي شنشنة قديمة من يوم سار ركب الأنبياء بنور الله، حين يعجز أهل الكفر عن نقض الرسالة يوجهون سهامهم لحاملي الرسالة - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
والعجب العجاب الذي يأخذ بالألباب أن أحداً ممن عاصروا النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم فيه بما يسوؤه... لم نسمع أن أحداً ممن عادوه كذَّبه، أو أن أحداً رماه بالزنا والفحش، أو أن أحداً قال عنه ما يقال اليوم.. أو شيئاً منه.
مضى الجيل الذي عاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يشهد له بأنه الصادق الأمين، ووقف اليهود له بكل طريق كي يسجلوا عليه خطأً يقدح في نبوته وما استطاعوا. بل أقروا رغماً عنهم.. أنطقتهم فِعَاله.
أقول: كانت إحدى الأدلة على إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي الاستدلال بأخلاقه قبل البعثة النبوية وبأحواله بين الناس، وتدبر قول الله - تعالى - وهو يخاطب المكذبين لمحمد - صلى الله عليه وسلم-:
"قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" (سبأ: 46)."وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ" (التكوير: 22)."مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى" (النجم: 2).
يقول أهل العلم: عبّر بلفظ صاحبكم ولم يستخدم أي لفظ آخر ليقول لهم أنه هذا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي صحبتموه وعرفتموه معرفة الصاحب بصاحبه، فلا جنون، ولا ضلال، بل صادق أمين كما سميتموه.
رأته أعرابية عجوز في الصحراء وهو مطارد تتبعه قريش ومن معها يوم الهجرة فقالت في وصفه، وهي لا تعرفه: أبهى الناس وأجملهم من بعيد وأحسنهم من قريب غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفود محشود.
وصدق حسان:
أحسن منك لم تر قط عيني
وخير منك لم تلد النساء
خلقت مبرئا من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء
والسؤال: من أين أتى من يسخرون اليوم ويتهكمون على الحبيب - صلى الله عليه وسلم - بكلامهم هذا؟
قوم لا يعرفون العربية... ولا يحسنون قراءة القرآن.. وقد شهد له أعداؤه قبل محبّيه... ومضى بخير سيرة عرفتها البشرية.
ثم يقولون كان نبيكم وكان...
من أين؟؟إنه الحسد ليس إلا ..
هل جهلوا أوصاف نبينا. لا والله. فنبينا ولد في الشمس وعاش بين الناس، وخبره موصول إلينا بأوثق الطرق وآكدها. نعرف عنه كل شيء... يعرف أحدنا عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ما لا يعرفه عن أبيه . فكيف تنكرون صفاته؟.
لا تَعجَبَنْ لِحَسُودٍ راحَ يُنكِرُهَا
تجاهُلا وَهوَ عينُ الحاذِقِ الفَهِمِ
قد تُنكِرُ العينُ ضَوْءَ الشمسِ مِن رَمَدٍ
ويُنكِرُ الفَمَ طعمَ الماءِ مِن سَقَمِ
ما بي من طاقة للكلام عن أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - فوالله كلما هممت بالكتابة عن خلق رأيت أن الكلمات تشينه لا تزينه، وأن كلماتي أقل من أن تعبر عن أوصاف الحبيب، ولكن دونكم الكتب. فقط أردت أن أبين لكل من يقرأ أن من يتكلمون عن الحبيب - صلى الله عليه وسلم - إنما يغرفون من وعاهم، ولا سند لهم ممن عاصروا محمداً - صلى الله عليه وسلم - ونبينا كل الكمال، وجملة الجمال صلى الله عليه وسلم.(104/1)
أثاث البيت خزانة الملابس
إيمان مغازي الشرقاوي
لقد ضجّ بما فيه بعد أن كان يشكو الوحدة والفراغ، واشتكى من التخمة بعد أن كان سمته الهزال، ولطالما تمنى أن يشبع ويملأ بطنه من الحلال، ويكون له محبون من الرجال والنساء والأطفال، لكنه اليوم حزين إذ صار يعجّ بمزيد من الملابس والأزياء من كل نوع ولون، ومن كل مقاس وذوق، ومن كل جنس وبلد، ولكل طقس وجو، يفتح الأبواب لكل طالب، ويلبي حاجة من أتاه... لك الله أيها الدولاب الطيب؛ فمنذ وطئت أقدامك أرض الغرفة وأنت تئن تحت وطأة الأثقال والأحمال، وتشتاق إلى أيامك الخوالي حين كنت خفيفاً نشيطاً محل أنظار الجميع من الراغبين في الشراء.
الدولاب يا أصحاب من أثاث البيت اللازم والذي لا يخلو منه بيت في هذه الأيام، ولا يهمله غني أو فقير، أيّم أو متزوج، رجل أو امرأة. وإن اختلفت أشكال الدولاب وتفاوتت محتوياته إلا أنه قطعة أساسية في جهاز كل عروس، وقد خضع هو الآخر لموجة الموضة وطوفانها القاتل حتى أصبحت منه أشكال وألوان ولم يعد عمله مقتصراً على حفظ الملابس فحسب، وإنما صار قطعة ديكور جميلة، وتحفة فنية ذات قيمة، وضع فيها صانعه مهارته العالية ودقته المتناهية وذوقه الرفيع، مع بصمات الزخرفة الإسلامية والفنية عليه، ولا ضير في ذلك ما لم يشدنا إلى حد الإسراف المذموم أو الترف الممقوت.
والدولاب يذكرنا بالزينة وستر العورات فقد حوى ما نتزيا به ونستتر، كما أنه يحثنا على شكر الله عز وجل بما أنعم علينا من فضل وإحسان، ومن ملابس نتجمل بها ونزدان، ويذكر القلوب الطيبة بالفقراء من الإخوان. ولا شك أننا جميعاً نحب الزينة والجمال... إلا أن لكل شيء في ديننا ضوابط وشروطاً، وكل نعمة لها نصيبها من الشكر والعطاء والإحسان، وقد بين لنا رسول { ذلك فقال: "كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة" (البخاري).
ولذلك كان إذا استجد ثوباً سماه باسمه عمامة أو قميصاً أو رداء، ويقول: "اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره، وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره، وشر ما صنع له" (الترمذي).
واللباس منه ما هو فرض وما هو مستحب، ومنه ما هو مباح ومكروه ومحرم، فالفرض ما يستر العورة ويدفع البرد والحر، قال تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد(الأعراف:31)، والمستحب ما يحصل به أصل الزينة وإظهار النعمة، كما قال رسول الله {: "إن الله يحب إذا أنعم على عبد نعمة أن يرى نعمته عليه" (البيهقي).
والمباح هو الثوب الجميل للتزين وخاصة في الجمع والأعياد والمناسبات لقوله {: "ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي مهنته" (أبو داود).
أما المكروه فهو لباس الكبر والخيلاء كما جاء في الحديث المذكور، واللباس المحرم هو الحرير للرجال: "حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم" (أحمد).
وينبغي لمن أراد أن يلبس ثيابه أن يتأدب بآداب اللباس فيبدأ باليمين: "وكان رسول الله { يعجبه التيمن في شأنه كله" (متفق عليه).
وإذا أراد أن يخلعها فليسم الله تعالى ويبدأ بالجانب الأيسر، وأن يلبس الرجل الملابس التي تليق به كرجل والمرأة كذلك تلبس ما يناسبها كامرأة، قال رسول الله {: "ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال" (أحمد).
وعلى كل منهم الحرص على الاعتدال والقصد وعدم المغالاة في المظهر أو في ثمن الثوب، فالتوسط سمة لازمة لشريعتنا السمحة. وعلى كل امرأة مسلمة إذا خرجت من بيتها أن يستوفي ثوبها حقه من الشروط الشرعية له والتي حددها العلماء ولخصوها في:
"استيعاب جميع البدن إلا ما استثني ألا يكون الثوب زينة في نفسه وأن يكون صفيقاً لا يشف فضفاضاً غير ضيق لا يشبه لباس الرجل ولا لباس الكافرات وليس مبخراً أو مطيباً أو لباس شهرة".
من وقف أمام الدولاب ليختار ما يلبس فليتذكر الفقراء والمحتاجين ويعطيهم مما أعطاه الله، وحبذا لو قام كل منا بحملة تزكية لملابسه كل مدة من الوقت فاستغنى عن بعض منها لعار فكساه، أو فقير متعفف فأعطاه، أو يتيم محتاج فسد حاجته. وقد حرص الإسلام على ذلك فجعل من الكفارات كسوة المساكين ككفارة اليمين وغيرها، وحث رسول الله { المسلم على كسوة أخيه وستر عورته فقال: "ما من مسلم كسا مسلماً ثوباً إلا كان في حفظ من الله ما دام منه عليه" (الترمذي).
ومع عظمة هذا الحديث وروعته إلا أن بعضنا قد يتكاسل عنه وعندها تصاب خزانة ملابسنا بالسمنة المفرطة وتحتاج بالضرورة إلى ريجيم! لماذا؟ ألا يوجد في أسرة كل منا محتاج أو فقير؟ ألا يسكن بالقرب منا جار به عوز وفاقة؟ أما توجد جمعيات خيرية إغاثية تقوم بهذا الواجب بدلاً منا؟(105/1)
إن الأمر سهل وليس بالعسير خاصة إذا تذكر كل إنسان رجلاً أو امرأة كان، أنه لن يحق له أن يأخذ معه إلا ثلاثة أو خمسة أثواب حين يخرج من دنياه!! ومن الدولاب نأخذ درساً تربوياً نعلمه الأولاد فنحثهم على الإنفاق مما يحبون من لباسهم تارة بالجديد منها وأخرى بالقديم، مع ضرب الأمثلة لهم بما يعانيه إخوتهم الأطفال ضحايا الحروب والصراعات في أي مكان، ومحاولة إدخال البسمة عليهم بكسوتهم خاصة في العيد. وإذا ما امتدت يدي ويداك إلى الدولاب لتلبس وتتزين بما أعطاك الله فقل من أعماق قلبك: "الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في الناس" (الترمذي).(105/2)
أثر الأسماء والصفات في الإيمان
رئيسي :عقائد :الاثنين 24 ربيع الثاني 1427هـ – 22 مايو 2006م
الحمد لله الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وسلم الذي عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وعبده بها حق العبادة ، وبعد: ففي هذه العجالة ستناول عقيدة أهل السنة في باب الصفات وآثار الإيمان بالأسماء والصفات .
الفرق بين الاسم والصفة
يتميز الاسم عن الصفة بأمور منها :
أولاً : أن الأسماء يشتق منها صفات ، أما الصفات ؛ فلا يشتق منها أسماء ، فنشتق من أسماء الرحيم والقادر والعظيم ، صفات الرحمة والقدرة والعظمة ، لكن لا نشتق من صفات الإرادة والمجيء والمكر اسم المريد والجائي والماكر.
ثانياً: أن الاسم لا يُشتق من أفعال الله؛ فلا نشتق من كونه يحب ويكره ويغضب اسم المحب والكاره والغاضب، أما صفاته؛ فتشتق من أفعاله فنثبت له صفة المحبة والكره والغضب ونحوها من تلك الأفعال.
ثالثاً: الأسماء يجوز أن يتعبد الله بها فنقول: عبد الكريم، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، لكن لا يُتعبد بصفاته؛ فلا نقول: عبد الكرم، وعبد الرحمة، وعبد العزة.
رابعا: الأسماء يدعى الله بها بخلاف الصفات فنقول : يا رحيم ! ارحمنا ، ويا كريم! أكرمنا ، ويا لطيف! الطف بنا ، لكن لا ندعو صفاته فنقول : يا رحمة الله! ارحمينا، أو: يا كرم الله ! أو: يا لطف الله ! ذلك أن الصفة ليست هي الموصوف؛ فالرحمة ليست هي الله، بل هي صفةٌ لله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [إنَّ مسألة الله بأسمائه وصفاته وكلماتِه جائز مشروع كما جاءت به الأحاديث، وأمَّا دعاء صفاته وكلماته فكفر باتِّفاق المسلمين؛ فهل يقول مسلم: يا كلام الله! اغفر لي وارحمني وأغثني أو أعني، أو: يا علم الله، أو: يا قدرة الله، أو: يا عزَّة الله، أو: يا عظمة الله ونحو ذلك؟! أو سمع من مسلم أو كافر أنَّه دعا ذلك من صفات الله وصفات غيره، أو يطلب من الصِّفة جلب منفعة أو دفع مضرَّة أو إعانةً أو نصراً أو إغاثةً أو غير ذلك؟!] .
خامسًا: أن أسماء الله عَزَّ وجَلَّ وصفاته تشترك في الاستعاذة بها والحلف بها كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ] [رواه مسلم]، لكن تختلف في التعبد والدعاء.
إن لأسماء الله الحسنى وصفاته العلى ثمارا مستطابة على قلب العبد المؤمن ،وهذا القلب كلما انطرح في ببيداء المطالعة والتبصر والاعتبار وتعرض لشمس التوحيد التي أشرقت عليه توالت عليه بشائر المعرفة فانصبغ القلب بصبغتها وعُمِرَ باطنه وظاهره بالعبودية وسلم من أدواء الشبهات وأمراض الشبهات ،فغشيته السكينة ونزلت عليه الطمأنية ورزق بإذن بارئه وفاطره الثبات حتى الممات .
التعبد بالأسماء والصفات:
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : وهذا فصل عظيم النفع والحاجة , بل الضرورة ماسة إلى معرفته والعناية معرفة واتصافا وذلك : أن الإيمان هو كمال العبد , وبه ترتفع درجاته في الدنيا والآخرة.
والإيمان أعظم المطالب وأهمها وأعمها: وقد جعل الله له مواد كبيرة تجليه وتقويه, كما كان له أسباب تضعفه وتوهيه...وأعظمها: معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة, والحرص على فهم معانيها, والتعبد لله بها. فقد ثبت في الصحيحين عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أنه قال : [إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ] رواه البخاري ومسلم .
أي : من حفظها وفهم معانيها, واعتقدها, وتعبد لله بها دخل الجنة . والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون. فعلم: أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته.
ومعرفة الأسماء الحسنى هي أصل الإيمان, والإيمان يرجع إليها. ومعرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية , وتوحيد الإلهية , وتوحيد الأسماء والصفات . وهذه الأنواع هي روح الإيمان وروحه , وأصله وغايته . فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته, ازداد إيمانه, وقوي يقينه. فينبغي للمؤمن : أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات.
معنى إحصائها:
قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله : [الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو التعداد ، وإنما هو العمل والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها ].
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله : [فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمهابة والمحبة والتوكل وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات ].
مراتب التعبد بالأسماء والصفات:
تنقسم هذه العبادة إلى مراتب ،وهي راجعة إلى يقين القلب وخضوعه وذله لله جل جلاله ،وتفاوت الناس في هذه العبادة بحسب تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها والعلم بفساد الشُبَه المخالفة لحقائقها.(106/1)
قال العز ابن عبد السلام رحمه الله : [وقد يحصل التحديق إلى هذه الصفات من غير تذكر ولا استحضار ،والعارفون متفاوتون في كثرة ذلك وقلته وانقطاعه ومداومته ،فهم في رياض المعرفة يتقلبون ،ومن نضارة ثمارها يتعجبون ،ولا تستمر الأحوال لأحد منهم على الدوام والاتصال لتقلب القلوب وتنقل الأحوال ، والغفلات حجب على العارف مسدلات ،إن أسدلت على جميعها نكص العارف إلى طبع البشر ،فربما وقعت منه الهفوات والزلات فإذا انكشف الحجاب عن بعض الصفات ظهرت آثار تلك الصفة وأينعت أثمارها].
وأكمل الناس في هذا الباب من تعبد الله بجميع أسمائه وصفاته ونال قصب السبق في عبودية الله بها ،وهذه منزلة تحقيق العبودية بالأسماء والصفات ، قال ابن القيم رحمه الله : [وأكمل الناس عبودية المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر كمن يحجبه التعبد باسمه القدير عن التعبد باسمه الحليم الرحيم أو يحجبه عبودية اسمه المعطي عن عبودية اسمه المانع أو عبودية اسمه الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم أو التعبد بأسماء التودد والبر واللطف والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء ونحو ذلك وهذه طريقة الكمل من السائرين إلى الله وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن قال الله تعالى: [وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[180]][الأعراف]].
ثمرات الإيمان بالأسماء والصفات:
1ـ أن العبد يسعى إلى الاتصاف والتحلِّي بها على ما يليق به، فالله كريم يحب الكرماء ، رحيم يحب الرحماء ، رفيق يحب الرفق، فإذا علم العبد ذلك ؛ سعى إلى التحلي بصفات الكرم والرحمة والرفق، وهكذا في سائر الصفات التي يحب الله تعالى أن يتحلَّى بها العبد على ما يليق بالعبد.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: [وأحب الخلق إلى الله من اتصف بمقتضيات صفاته فانه كريم يحب الكريم من عباده وعالم يحب العلماء وقادر يحب الشجعان وجميل يحب الجمال...،وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء وإنما يرحم من عباده الرحماء وهو ستير يحب من يستر على عباده وعفو يحب من يعفوا عنهم من عباده وغفور يحب من يغفر لهم من عباده ولطيف يحب من اللطيف من عباده ويبغض الفظ الغليظ القاسي الجعظري الجواظ ورفيق يحب الرفق وحليم يحب الحلم...ومن عامل خلقه بصفة عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة, فالله تعالى لعبده على ما حسب ما يكون العبد لخلقه ...،فكما تدين تدان وكن كيف شئت فان الله تعالى لك كما تكون أنت لعباده] .
2ـ تورث تعظيمه تعالى :قال الشيخ السعدي رحمه الله : وهو تعالى موصوف بكل صفة كمال , وله من ذلك الكمال الذي وصف به أكمله وأعظمه وأجله , فله العلم المحيط , والقدرة النافذة , والكبرياء والعظمة , حتى أن من عظمته أن السموات والأرض في كف الرحمن كالخردلة في يد المخلوق , ...وهو تعالى ... يستحق على العباد أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم, وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبته, والذل له والخوف منه, وإعمال اللسان بالثناء عليه, وقيام الجوارح بشكره وعبوديته. ومن تعظيمه أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى, ويشكر فلا يكفر, ومن تعظيمه وإجلاله أن لا يعترض على شيء مما خلقه أو شرعه, بل يخضع لحكمته, وينقاد لحكمه.
وتعظيم الله تعالى يورث العبد الذل والافتقار بين يديه سبحانه وتعالى ،[ويحكى عن بعض العارفين أنه قال : دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه.]
3- تورث العبد محبة الله جل جلاله: من تأمل أسماء الله وصفاته وتعلق بها طرحه ذلك على باب المحبة ،وفتح له من المعارف والعلوم أمورا لا يعبر عنها ،وإن من عرف الله أورثه ذلك محبة له سبحانه وتعالى.
وهذه المحبة عاطفة شرعية إيمانية وعبادة قلبية وهي محبة إجلال وتعظيم ،ومحبة طاعة وانقياد يبرهن بها العبد على صدق عبوديته لمولاه تعالى . فالمحبة هي ثمرة معرفة أسماء الله وصفاته واعتقاد جماله وكماله وجلاله ،والاعتراف بإحسانه وإنعامه .
4- تورث اليقين والطمأنينة: إن قلب العبد لا يزال يهيم على وجهه في أودية القلق وتعصف به رياح الاضطراب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفته يشاشة قلبه ،فحينئذ يبتهج قلبه ويأنس بقربه من معبوده جل جلاله ويحيى حياة طيبة ويصبح فارغا إلا من ذكر الله تعالى وذكر أسمائه وصفاته ويأتيه من روح اللذة والنعيم السرور وريحان الأمان والطمأنينة والحبور ما يعجز عن ذكره التعبير ويقصر عن بيانه التقرير .(106/2)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: [وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة أن تطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كما له إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول والتسليم والإذعان وانشراح الصدر له وفرح القلب به فإنه معرفة من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله فلا يزل القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه فينزل ذلك عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش فيطمئن إليه ويسكن إليه ويفرح به ويلين له قلبه ومفاصله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة لعينه فلو خالفه في ذلك من بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم وقال إذا استوحش من الغربة: قد كان الصديق الأكبر مطمئنا بالإيمان وحده وجميع أهل الأرض يخالفه وما نقص ذلك من طمأنينة شيئا, فهذا أول درجات الطمأنينة ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه وهذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي قام عليه بناؤه.
ومن عبد الله بأسمائه وصفاته وتحقق معرفة خالقه جلا وعلا،وعظمه حق التعظيم فإنه ولا شك يصل إلى درجة اليقين ،قال الحبر ابن القيم رحمه الله : [فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته ونعوت كماله وتوحيده وهذه الثلاثة أشرف علوم الخلائق علم الأمر والنهي وعلم الأسماء والصفات والتوحيد وعلم المعاد واليوم الآخر والله أعلم] .
5- تورث زيادة الإيمان: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : [من عرف أسماء الله ومعانيها فآمن بها كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء بل آمن بها إيمانا مجملا] فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته , ازداد إيمانه , وقوي يقينه . فينبغي للمؤمن : أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات.
6- تورث زيادة في الطاعات البدنية : لما كان القلب للجوارح [كالملك المتصرف في الجنود الذي تصدر كلها عن أمره ويستعملها فيما يشاء فكلها تحت عبوديته وقهره وتكسب منه الاستقامة والزيغ وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يلحه ] ؛ كانت لهذه الثمرات التي يجنيها القلب من توحيد الله بأسمائه وصفاته سريان إلى الجوارح ،ولا بدَّ ،فكلما [قوي سراج الإيمان في القلب وأضاءت جهاته كلها به وأشرق نوره في أرجائه سرى ذل النور إلى الأعضاء وانبعث إليها فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة بل تفرح بدعوته حين يدعوها].
7- تُطْلِعُ العبدَ على خسةِ الدنيا: فالدنيا زائلة خسيسة ومن تعلق بالأسماء الحسنى والصفات العلى تبين له حقيقة هذه الدنيا, قال ابن القيم: [فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها وقلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها وسرعة انقضائها ويرى أهلها وعشّاقها صرعى حولها قد بدّعت [خذلتهم] بهم وعذبتهم بأنواع العذاب وأذاقتهم أمر الشراب أضحكتهم قليلا وأبكتهم طويلا سقتهم كؤوس سمها بعد كؤوس خمرها فسكروا بحبها وماتوا بهجرها ،فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحل قلبه عنها وسافر في طلب الدار الآخرة وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من الآخرة ودوامها وأنها هي الحيوان حقا فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها بل هي دار القرار ومحط الرحال ومنتهى السير وأن الدنيا بالنسبة إليها كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ ] رواه مسلم.
وقال بعض التابعين: [ما الدنيا في الآخرة إلا أقل من ذرة واحدة في جبال الدنيا] ثم يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها واضطرامها وبعد قعرها وشدة حرها وعظيم عذاب أهلها فيشاهدهم وقد سيقوا إليها سود الوجوه زرق العيون والسلاسل والأغلال في أعناقهم...فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات ولبس ثياب الخوف والحذر وأخصب قلبه من مطر أجفانه وهان عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه.
8- معرفة الأسماء والصفات تجعل العبد يتنقل بين درجات الرجاء والخوف : فالخوف والرجاء جناحي الإيمان وبهما يصل العبد لمرضاة الرحمن،ويظهر أثر الإيمان بالأسماء الحسنى والصفات العلى في مواطن عدة منها:
* أن العبد إذا آمن بصفة [الحب والمحبة] لله تعالى وأنه سبحانه [رحيم ودود] استأنس لهذا الرب، وتقرَّب إليه بما يزيد حبه ووده له،وحبُّ الله للعبد مرتبطٌ بحبِ العبدِ لله ، وإذا غُرِست شجرةُ المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص،ومتابعة الحبيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أثمرت أنواعَ الثمار، وآتت أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذن ربها.(106/3)
* ومنها : أنه إذا آمن العبد بصفات: [العلم ، والإحاطة ، والمعية] ؛ أورثه ذلك الخوف من الله عَزَّ وجَلَّ المطَّلع عليه الرقيب الشهيد، فإذا آمن بصفة [السمع]؛ علم أن الله يسمعه؛ فلا يقول إلا خيراً، فإذا آمن بصفات [البصر ، والرؤية ، والنظر ، والعين] ؛ علم أن الله يراه ؛ فلا يفعل إلا خيراً .
* ومن ثمرات الإيمان بصفات الله: أن لا ينازع العبدُ اللهَ في صفة [الحكم، والألوهية، والتشريع ، والتحليل ، والتحريم] ؛ فلا يحكم إلا بما أنزل الله, ولا يتحاكم إلا إلى ما أنزل الله . فلا يحرِّم ما أحلَّ الله، ولا يحل ما حرَّم الله.
* ومن ثمرات الإيمان بصفات الله عَزَّ وجَلَّ : تَنْزِيه الله وتقديسه عن النقائص، ووصفه بصفات الكمال ، فمن علم أن من صفاته [القُدُّوس، السُّبُّوح ]؛ نَزَّه الله من كلِّ عيبٍ ونقصٍ.
* ومنها أن الإيمان بصفة [الكلام] وأن القرآن كلام الله يجعل العبد يستشعر وهو يقرأ القرآن أنه يقرأ كلام الله ، فإذا قرأ: [يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ] [الانفطار:6]. أحسَّ أن الله يكلمه ويتحدث إليه، فيطير قلبه وجلاً ، وأنه إذا آمن بهذه الصفة ، وقرأ في الحديث الصحيح أن الله سيكلمه يوم القيامة ، ليس بينه وبينه ترجمان ؛ استحى أن يعصي الله في الدنيا ، وأعد لذلك الحساب والسؤال جواباً.
9- يورث العبد حسن الظن بالله: القلب الممتلئ بأسماء الله وصفاته علما ومعرفة يضع الرجاء بالله تعالى وحسن الظن في محله اللائق به، فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة وإما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتي إحسان الظن. فإن قيل: بل يتأتي ذلك ويكون مستند حسن الظن سعة مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده وأن رحمته سبقت غضبه وأنه لا تنفعه العقوبة ولا يضره العفو قيل: الأمر هكذا والله فوق ذلك وأجل وأكرم وأجود وأرحم ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به فإنه سبحانه موصوف بالحكمة والعزة والانتقام وشدة البطش وعقوبة من يستحق العقوبة فلو كان معول حسن الظن على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البر والفاجر والمؤمن والكافر ووليه وعدوه فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه وتعرض للعنته وأوقع في محارمه وانتهك حرماته بل حسن الظن ينفع من تاب وندم وأقلع وبدل السيئة بالحسنة واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة ثم أحسن الظن فهذا حسن ظن والأول غرور والله المستعان.
في بستان الأسماء والصفات
السميع البصير:
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله : كثيرًا ما يقرن الله سبحانه وتعالى بين ' السميع , البصير ', كمثل قوله : [ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً][النساء: من الآية134]. فكل من السمع والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة والباطنة , فالسميع هو الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات , فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرها وعلانيتها , حتى كأنها لديه صوت واحد , لا تختلط عليه الأصوات , ولا تغلطه اللغات , والقريب منها والبعيد والسر والعلانية كلها عنده سواء . قال تعالى: [سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ] [الرعد:10] . وسمعه تعالى نوعان : أحدهما : سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والخفية , وإحاطته بها إحاطة تامة . والثاني : سمع الإجابة منه للسائلين والعابدين والمتضرعين , فيجيبهم ويثيبهم , ومنه قول العبد في صلاته : سمع الله لمن حمده , أي استجاب الله لمن حمده وأثنى عليه وعبده , ومنه قول إبراهيم عليه السلام : [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ] [ابراهيم:39] .
' وهو البصير ' أي الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات , حتى أخفى ما يكون منها , فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء , ويرى جميع أعضائها الظاهرة والباطنة , حتى أنه يرى سريان القوت في أعضائها الصغار جدا , ويرى سريان المياه في الأشجار وأغصانها وعروقها وجميع النباتات , ويرى نياط عروق النملة والبعوضة وأصغر من ذلك .
فتبارك من تنبهر العقول عند التأمل لبعض صفاته المقدسة , وتشهد البصائر كماله وعظمته ولطفه , وخبرته بالغيب والشهادة والحاضر والغائب والخفي والجلي , ويرى تعالى خيانات العيون بلحظها , أي حين يلحظ العبد منظرا يخفيه على جليسه , فالله تعالى يراه في تلك الحالة التي يحرص على إخفاء ملاحظته عن كل أحد , ويرى تقلب الأجفان حين يقلبها الناظر من آدمي أو ملك أو جني أو حيوان ,وحين يطبقها ويفتحها . قال تعالى: [الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ] [ الشعراء: 218 - 219 ]. وقال تعالى : [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] [غافر:19]
صفة الرحمة: تشمل اسم الرحمن، والرحيم، والرءوف:(106/4)
المفهوم من الرحمن نوع من الرحمة هي أبعد من مقدورات العباد بالإيجاد أولا ، وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة ثانيا ،وبالسعادة في الآخرة ثالثا ،وبالإنعام بالنظر إلى وجهه الكريم رابعا .
وروى مسلم في صحيحه : [ خَلَقَ اللَّهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَوَضَعَ وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ وَخَبَأَ عِنْدَهُ مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةً ].
وقد ورد اقتران الرحمن والرحيم كثيرا في القرآن كما في البسملة والفاتحة ،وفي هذا الاقتران دلالة على سعة الرحمة وشمولها، كما في صحيح البخاري 'قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ] قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ: [ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا].
وإن قام بقلبه شاهد الرحمة رأى الوجود كله قائما بهذه الصفة قد وسع من هي صفته كل شيء رحمة وعلما، وانتهت رحمته إلى حيث انتهى علمه،فاستوى على عرشه برحمته لتسع كل شيء ،كما وسع عرشه كل شيء.
ومعنى الرؤوف : ذو الرأفة وهي شدة الرحمة فهذا الاسم بمعنى الرحيم مع شدة المبالغة ،من رأفة الله أن يصون عباده عن موجبات عقوبته فإن العصمة من الزلل أبلغ في الرحمة من المغفرة للمعصية .
ومن رأفته ما شرعه من العقوبات لمن أخل بأمن المجتمع ، كجلد الزاني في قوله تعالى : [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ] [النور:2] . وقطع يد السارق في قوله تعالى : [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ] [المائدة:38] .
ووجه الرأفة في هذا كله: هو أن الله تعالى يغفر لهم هذه الذنوب فلا يعاقبهم عليها في الآخرة كما في الحديث الذي رواه البخاري [.....َلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ].
والوجه الآخر: أنه رحمة بالمجتمع المسلم حتى لا تنتشر فيه الجرائم والموبقات.
الحي القيوم:
الحي إذا أطلق على الله تعالى فمعناه كامل الحياة أي لم يزل حيا ولم يسبق ذلك عدم ولن يلحقه عدم ،فهي حياة أبدية ،بل لا يعتريها حتى مجرد النقص بالنوم .
والقيوم هو القائم بنفسه المستغني بصفاته ونعوت كماله فلا يحتاج لغيره، وهو المقيم لغيره فكل شيء محتاج له، فهو الغنى عن كل شيء في الوجود وكل الوجود محتاج له.
فالكون كله محتاج لقيومته وحياته الدائمة الكاملة ،فجميع الكائنات قائمة به وتدوم به وتبقى في الوجود به، ولو انقطع هذا الانتساب للحي القيوم طرفة عين لانمحى الوجود كله.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله واصفا حال العبد الذي يتعبد الله بالأسماء والصفات: [..ثم يُفْتَحُ له باب الشعور بمشهد القيومية فيرى سائر التقلبات الكونية وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده فيشهده مالك الضر والنفع والخلق والرزق والإحياء والإماتة فيتخذه وحده وكيلا ويرضى به ربا ومدبرا وكافيا وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات دله على خالقه وبارئه وصفات كماله ونعوت جلاله فلا يحجبه خلقه عنه سبحانه بل يناديه كل من المخلوقات بلسان حاله اسمع شهادتي لمن أحسن كل شيء خلقه] .
فعلى هذين الأسمين مدار الأسماء الحسنى كلها ،وإليهما يرجع معانيها فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال ،فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة ،فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياةٍ وأتَّمها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضادُّ نفيه كمال الحياة ،وأما القيوم فمتضمن كمال غناه وكمال قدرته فإنه القائم بنفسه ـ كما تقدم ـ فلا يحتاج لغيره ، فانتظم هذا الاسمان صفات الكمال أتم انتظام .
صفة المُلكْ: ويشمل اسم الملك ،والمالك،والمليك
ومعناها: التام الملك الجامع لأصناف المملوكات، الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود ويحتاح إليه كل موجود .(106/5)
وفي الأمر والنهي تتجلى كذلك صفة الملك إذ هو المعبود الحق يأمر فيطاع.ومن تأمل حديث البخاري الذي رواه عن عبد الله بن مسعود قال :' جَاءَ حَبْرٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] [الزمر:67] .
- الصمد: وقيل في معناه:
الصمد هو السيد الذي يصمد إليه في الحوائج وأصل الصمد القصد, قال البخاري: قال أبو وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده, وقيل: معناه الدائم, وقيل: الباقي بعد فناء الخلق. قال شيخ الإسلام رحمه الله: [الصمد الذي لا جوف له ومن قال منهم إنه السيد الذي انتهى سؤدده].
فالعبد الذي تعرف على ربه الصمد لا يسأل غيره فهو السيد للكامل في صفاته وهو الذي يسد حاجة من انطرح بين يديه ،وهو الذي يرزق في العاجل والآجل ،وهو الذي يشفى من الأسقام والأمراض .
صفة التَّشْرِيعُ:
فالله جل وعلا هو المشرع فقط ، فالشرع ما أمر به والدين ما سنه ،وما خالف أمره فهو باطل ،وهذه الصفة صفةٌ فعليةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة ، من خصائص ربوبِيَّتِه ، من نازعه فيها فقد كفر، والله هو [[الشارع]] و هو [[المُشَرِّع]] وليسا هما من أسمائه سبحانه [صِفَاتُ اللهِ عَزَّ وَ جل ـ علوي بن عبد القادر السَّقَّاف ].
والدليل من الكتاب : قوله تعالى : [ شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ 000] الآية [الشورى : 13].
والدليل من السنة : حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : [ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى 000] رواه مسلم .
وقد كثر في أقوال العلماء إضافة التشريع لله سبحانه وتعالى ومن ذلك :
1- قول العلامة محمد الأمين الشنقيطي: [[ والعجب ممن يحكِّم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلام ]] [أضواء البيان 3/400].
2- قول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية: [الشرك الأكبر أن يجعل الإنسان لله نداً إما في أسمائه وصفاته ، و إما أن يجعل له نداً في العبادة 000و إما أن يجعل لله نداً في التشريع بأن يتخذ مشرِّعاً له سوى الله أو شريكاً لله في التشريع يرتضي حكمه ويدين به في التحليل والتحريم عبادة وتقرباً وقضاءً وفصلاً في الخصومات أو يستحله وإن لم يُرِدْهُ ديناً ] [فتاوى اللجنة الدائمة1/516] .
كما كثر إطلاقهم لكلمة [[الشارع]] و [[المُشَرِّع]] على الله عَزَّ وجَلَّ من باب الصفة .
من:'أثر الأسماء والصفات في الإيمان'
للشيخ/ عبد الرحمن بن محمد بن علي الهرفي(106/6)
أثر التفسير في بناء الشخصية واتزانها
أحمد بن أحمد شرشال
لما كان التأثير يتم بمقدار عظمة المؤثر ظهر تأثير تفسير القرآن في بناء الإنسان وشخصيته قوياً وكاملاً، ويصعب علينا حصر جميع جوانب التأثير في بناء شخصية الإنسان واتزانها واعتدالها، وسأقتصر على بعض الجوانب. وأقول: إن الاشتغال بفهم القرآن وتفسيره والتفقه فيه يرقق إحساس الطالب ويقوي شعوره، وينمي فيه حب الآخرين؛ بحيث يجعله يتألم لألمهم ويفرح لفرحهم، ويسعد لسعادتهم.
ومن مبتكرات القرآن في التعبير عن هذا الإحساس أن جعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، وجعل إخراج الرجل من داره إخراجاً لنفسه، وجعل ظن السوء بغيره ظناً بنفسه، وجعل لمز غيره لمزاً لنفسه، وجعل السلام على غيره سلاماً على نفسه، وكل ذلك أراده القرآن في تعبيراته.
قال ـ تعالى ـ في سياق أخبار بني إسرائيل: ((وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ(84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ)) [البقرة: 84، 85]. فجعل دم كل فرد من أفرادهم كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر ذاته.
قال القرطبي: (ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً وكانوا كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضاً وإخراج بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها)(1).
قال الشيخ ابن عاشور: (وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه، أو يخرج نفسه من داره؛ لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبعي.. وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره)(2). ومثل هذا السياق قوله ـ تعالى ـ: ((فَاقْتُلُواً أََنفُسَكُمْ)) [البقرة: 54]. ومعناه: فليقتل بعضكم بعضاً بأن يقتل من لم يعبد العجل عابديه؛ فإن قتل المرء لأخيه كقتله نفسه.
قال القرطبي: (وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده) ثم نقل عن الزهري قوله: (أن يقتل من لم يعبد العجل من عبد العجل)(3).
وقال الله ـ تعالى ـ في سياق هذا المعنى: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [النساء: 29] أي لا يقتل بعضكم بعضاً، فجعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، قال القرطبي: (أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه)(4).
قال الحافظ ابن كثير: (وهو الأشبه بالصواب)(5)، قال الزمخشري: (شبّه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين، فإذا قتل المتصل به نسباً أو ديناً فكأنما قتل نفسه)(6) وقال الحافظ ابن كثير: (إن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة)(7).
وقد بين الله أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً وقال: ((...كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأََرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)) [المائدة: 32].
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله ـ تعالى ـ: ((يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة: 105]. نقل الفخر الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: (هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه ـ سبحانه ـ قال: ((عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ)) ويعني عليكم أهل دينكم، ولا يضركم من ضل من الكفار، بأن يعظ بعضكم بعضاً، ويرغّب بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات)(8)؛ لأن المؤمنين إخوة في الدين.
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الغير قال ـ تعالى ـ: ((فَإذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)) [النور: 61]. والمعنى: فليسلّم بعضكم على بعض، وهم أهل البيوت التي يدخلونها؛ لأنهم بمنزلة أنفسهم في شدة المحبة والمودة والألفة، ولأنهم منكم في الدين، فكأنكم حين تسلمون عليهم تسلمون على أنفسكم، وقد أنكر الشيخ ابن عاشور على من فهم من الآية أن الداخل يسلم على نفسه، فقال: (ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ، وأهملوا دقيقته؛ فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً، وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب)(9).
أقول: وهو المأثور عن سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري حيث قالوا: (فليسلم بعضكم على بعض)(10).
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله ـ تعالى ـ: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)) [الحجرات: 11]. والإنسان لا يلمز ولا يعيب نفسه وإنما اللاّمز يلمز غيره إشارة إلى أن من عاب أخاه المسلم فكأنما عاب نفسه، فنزل البعض الملموز منزلة نفس الإنسان لتقرير معنى الإحساس بالأخوة وتقوية الشعور بها.(107/1)
ومن تعبيرات القرآن عن الغير بالنفس قوله ـ تعالى ـ: ((لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً)) [النور: 12].
المراد بأنفسهم هنا إخوانهم في الدين والعقيدة؛ فهلاّ وقت أن سمعتم حديث الإفك هذا ظننتم بأنفسكم أي بإخوانكم وأخواتكم ظناً حسناً جميلاً؛ إذ لا يظن المرء بنفسه السوء، وفي هذا التعبير عن إخوانهم وأخواتهم في العقيدة بأنفسهم أسمى ألوان الدعوة إلى غرس روح المحبة والمودة والإخاء والإحساس الصادق، حتى لكأن الذي يظن السوء بغيره إنما يظنه بنفسه(11).
قال الرّازي: (فجعل الله المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور، فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم)(12).
فهذا الأسلوب القرآني وهذا الخطاب الرباني يؤكد معنى وحدة الأمة ويحدث في النفس أثراً وإحساساً يبعثها على الامتثال؛ فالطالب الذي يربى على هذه المعاني وهذه الدقائق القرآنية، لا شك أنها تؤثر فيه وتغرس فيه هذا الإحساس وهذا الشعور.
ومن تدبر هذا الأسلوب القرآني علم أنه لا قوام لهذه الأمة إلا بمثل هذا الشعور وهذا الإحساس، وشعور كل فرد من أفرادها بأن نفسه نفس الآخرين، ودمه دم الآخرين، وظن السوء بهم ظن بنفسه، والسلام عليهم سلام على نفسه، وعيبهم عيب لنفسه.
لا فرق في المحافظة على الروح التي تجول في بدنه والدم الذي يجري في عروقه، وبين الأرواح والدماء التي يحيا بها إخوانه: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)) [النساء: 1]. وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). وكل هذه المعاني وإن كانت كامنة في القرآن فإن التفسير يكشفها ويجليها.
إن الاشتغال بفهم القرآن والتفقه فيه يكون سبباً للطمأنينة والسكينة ويحصل لصاحبه عز الدنيا وسعادة الآخرة؛ كما أخبر بذلك المعلم الأول صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده)(13).
وقد دلت التجارب العملية على ذلك؛ فهذا الرازي ينقل لنا تجاربه فيقول: (وأنا نقلت أنواعاً من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم)(14) يعني تفسير القرآن.
وقد نقل هذا النص رشيد رضا، ثم قال مبيناً كلامه: (أي: علم القرآن بتفسيره؛ فليعتبر بهذا من يضيعون جل أوقاتهم في طلب العلم الديني بعلوم الكلام وغيرها، ويرجعوا إلى كتاب الله، ويطلبوا السعادة من فيضه دون غيره. ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يوفقنا إلى تفسيره)(15).
ونقله الشيخ الطاهر بن عاشور في تحريره(16)، ومصداق ذلك في كتاب الله: ((وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ)) [الأنعام: 155].
وقد أدرك هذه السعادة الغامرة الإمام القرطبي فعزم واستفرغ قوته ورأى أن يشتغل بالتفسير مدى العمر ـ رحمه الله تعالى ـ(17).
وإن بعض العلماء الذين برزوا في الدعوة إلى الله، وقاموا بنهضة شاملة وإصلاح عامّ اعتمدوا في دعوتهم ـ بعد الله ـ على دروس التفسير، فأثمرت دعوتهم ونالت قبولاً، وأقبل عليها الناس من جميع الأصناف والطبقات، وأحدثت دعوتهم تغييراً إصلاحياً في العقيدة والسلوك، وانتشرت في الشرق والغرب.
وإذا أردنا أن نتجول مع هذا الأثر الحميد فسنجد من بين هؤلاء المبرّزين الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ت 1376هـ. وقد اعتمد في دعوته في نشر التوحيد والإصلاح في ربوع نجد على تفسير القرآن الكريم، فكان ذا عناية فائقة بالتفسير وفنونه وبرع فيه؛ فألف ثلاثة كتب في التفسير وحده: (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)، و(تيسير اللطيف المنان في خلاصة القرآن)، و(القواعد الحسان لتفسير القرآن)(18).
وإذا انتقلنا غرباً إلى مصر فإننا نجد محمد عبده يعتمد في دروسه على التفسير(19)، فقد ألح عليه تلميذه رشيد رضا أن يلقي دروساً في التفسير، ويعلل لذلك بقوله: (إن الكلام المسموع يؤثر في النفس أكثر مما يؤثر الكلام المقروء) ثم واصل بعده رشيد رضا إلى أن حان أجله دون إكمال التفسير ـ رحم الله الجميع ـ.(107/2)
وإذا انتقلنا إلى تونس غرباً وجدنا الإمام الطاهر بن عاشور يتأثر بمدرسة رشيد رضا في التفسير، وألف تفسيراً كاملاً سماه: (التحرير والتنوير)، فحرر الناس من الجهل والظلمات ونوّر به البلاد التونسية. وإذا انتقلنا قليلاً إلى الغرب في الجزائر فإننا نجد الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس قد اقتصر عليه في دعوته الإصلاحية الشاملة ابتداءً بتحقيق التوحيد وحقوقه إلى محاربة الاستعمار؛ فقد عكف على تفسير القرآن إلى أن ختمه في ثلاث وعشرين سنة على مدة التنزيل ولم يختم التفسير رواية ودراية في الجزائر غيره منذ أن ختمه أبو عبد الله الشريف التلمساني في المائة الثامنة فتعلم الناس منه كلّ شيء(20).
وإذا عرّجنا جنوباً إلى بلاد شنقيط وجدنا الإمام محمد الأمين الشنقيطي يفسر القرآن بالقرآن ويسميه: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن).
فهؤلاء الأئمة ـ رحمهم الله ـ كانوا مجاهدين بالقرآن: بتفسيره وبيانه والتفقه فيه، وقد سمّى القرآن ذلك جهاداً كبيراً فقال: ((وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً)) [الفرقان: 52] أي بالقرآن كما ذكره ابن عباس، وفي هذا منقبة عظيمة لمن يدعو إلى الله ـ تعالى ـ بالقرآن العظيم وتفسيره وتوضيحه للناس فهو مجاهد(21) اقتداءً بالمصطفى صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمره الله أن ينذر قومه بالوحي: ((قُلْ إنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ)) [الأنبياء: 45] وقال: ((وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ)) [الأنعام: 19] فكل من أنذر الناس بغير هذا الوحي فهو مخطئ.
من ثمرات التفسير:
من أهم ما يثمره تفسير القرآن والتفقه فيه في شخصية الطالب التخلص من التعصب والتقليد، بل إذا ابتدأ الطلب بعد حفظ القرآن بعلم تفسيره وبيانه كما رتبه الله في قوله: ((يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ)) لم يجد هذا الهاجس إلى نفسه سبيلاً، وينتفي. وما وُجِدَ التعصب والتقليد إلا بمخالفة المنهج الذي رسمه القرآن في التعليم، وهو التلاوة والتفسير والحكمة والتزكية؛ كما جاء في قوله ـ تعالى ـ: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ)) [البقرة: 129].
فبمخالفتنا لمنهج التربية والتعليم كما رسمه القرآن الكريم نعلّم الطلاب التعصب والتقليد من حيث لا ندري؛ ولذلك نجد كتب التفسير تختلف اختلافاً كبيراً؛ نظراً لكون أصحابها دخلوا باب التفسير بعدما تشبعوا بأفكار ومذاهب ظهرت آثارها في تفسيرهم، في حين أن الذي دخل إلى التفسير كما دخله الصحابة والتابعون ومن تبعهم واقتفى آثارهم ظهرت آثار التفسير فيهم؛ فالسلف تأثروا بتفسير القرآن، وأثّر التفسير فيهم، والخلف أثروا في التفسير، ولم يتأثروا به.
فظاهرة التعصب والتقليد لا تُمحى إلا بتفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه؛ لأن النظر في القرآن نفسه وفي ألفاظه بالذات يجعل الطالب يأخذ الحكم الذي تدل عليه الآية دلالة قطعية أو الحكم الأقرب إلى نص الآية إن اختلفت فيها أنظار العلماء. وفي دروس التفسير والتفقه في القرآن يتعلم الطالب الاستقلال في الأخذ والترجيح، وعدم التبعية والتقليد.
ومما يدل على استقلال شخصية طالب علم التفسير والتفقه في القرآن ما لاحظته عند ابن العربي مع أنه كثيراً ما يتعصب لمذهبه ويحمل على المخالفين، إلا أن أسلوب القرآن وروعة بيانه أرغمه في بعض المواضع من كتابه: (أحكام القرآن) على عدم التعصب وعلى ترجيح مذهب المخالفين لمذهبه مبيناً الوجه والسبب، فقال عند قوله ـ تعالى ـ: ((كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)) [الأنعام: 141] قال: قال أبو حنيفة: (تجب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من المأكولات) ثم تعرّض لذكر بقية المذاهب وصرح بما يخالف مذهبه فقال: (أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق)(22).
قال القرطبي: (وأخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه)(23).
هذا هو حال من يطلب فقه القرآن لا فقه الفقه، وهكذا حال كل من يجعل القرآن مرآته؛ فإنه يبصر الحق كما أبصره الإمام أبو حنيفة وابن العربي ـ رحم الله الجميع ـ فما أحوجنا اليوم إلى أن نجعل القرآن مرآتنا لنبصر الحق والهدى والرشاد.(107/3)
والطالب الذي يتعلم على هذا النمط في التفسير والتفقه في القرآن تكتسب شخصيته اتزاناً واعتدالاً وتكاملاً ولا ينحاز ولا يميل؛ لأن المصدر الذي يتلقى منه علومه واحدٌ، فلا يطغى عليه جانب دون جانب؛ فهو عند آيات الأسماء والصفات يتعلم أسماء الله وصفاته بلا تعطيل ولا تمثيل، وإذا جاء إلى آيات الجهاد تعلم وتفقه في أحكام الجهاد، وإذا جاء إلى آيات الأحكام تعلم الفقه والأحكام الشرعية، وإذا مر على آيات الفرائض تعلم ذلك، ولا شك، وإذا مر على البر والإحسان تعلم ذلك، وتطبع به وعمل به، وإذا مر على الآيات التي يذكر فيها أخبار الأمم السابقة وأحوالهم وما آل إليه أمرهم اعتبر بذلك واتعظ، وتعلم قصص الأنبياء والرسل وما لاقوه في سبيل الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ وعلم طرق الدعوة ووسائلها وأهدافها.
وإذا مر على الآيات التي تدعو إلى التفكر والتأمل والاعتبار لمخلوقات الله الكونية تعلم طرق التدبر والتفكر، فتنمو فيه ملكة التفكير السليم والنظر السدىد والتصور الصحيح، فينعكس ذلك على سلوكه؛ لأن سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطاً وثيقاً: يستقيم باستقامته، ويعوج باعوجاجه، ويثمر بإثماره، ويعقم بعقمه، وأفعالُه ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الاعتقادات.
ومن جهة أخرى؛ فإن الطالب الذي يتفقه في القرآن يمر على جميع الآيات القرآنية فيتكامل الموضوع لديه؛ لأن موضوع الآيات ومقاصدها ليست منسوقة في موضع واحد، وليست الآيات في سياق واحد؛ فتجد أن الآية أو الآيات مفصولة عن الأولى بجملة من الآيات، وهي في الموضوع نفسه، وقد تكون ناسخة، وقد تكون منسوخة، وقد تكون بياناً وتفسيراً، وقد تكون قيداً، وقد تكون إجابة عن شبهة؛ والأمثلة على هذا النمط كثيرة، منها قوله ـ تعالى ـ: ((قُلْ إنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ)) [ص: 65] هي جواب لقول كفار قريش في صدر السورة: ((وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)) [ص: 4]، وقوله ـ عز وجل ـ في آخر السورة: ((وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ(65) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا العَزِيزُ الغَفَّارُ)) [ص: 65، 66]، هي جواب لقولهم في صدر السورة: ((أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً)) [ص: 5]، وقوله ـ جل وعلا ـ في آخر السورة: ((قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ(67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)) [ص: 67، 68]، هو جواب وتفنيد لقولهم في صدر السورة: ((مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذَا إلاَّ اخْتِلاقٌ)) [ص: 7]، هذا ما وقع في السورة الواحدة نفسها، وبين إثارة الشبهة والجواب عنها أكثر من ستين آية.
أما ما وقع الجواب عنه في غير السورة التي وردت فيها الشبهة فكثير، ومنه قوله ـ تعالى ـ: ((ن) وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)) [القلم: 1، 2]، وقوله ـ تعالى ـ: ((وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ)) [التكوير: 22]، فمثل هذه الآيات أجوبة تفند زعمهم الباطل كما حكاه القرآن: ((يَا أَيُّهَا الَذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ)) [الحجر: 6].
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن القرآن كالسورة الواحدة، وحينئذ يتكامل الموضوع لدى الطالب ويؤثر في بنائه العلمي والنفسي. والله أعلم.
التفسير ووحدة المسلمين:
ومن أهم ما يثمره الاشتغال بالتفقه في القرآن وعلومه وتفسيره الوحدة بين جميع المسلمين: وحدة في الإحساس والشعور، ووحدة في الوجدان والتفكير، ووحدة في السلوك والعمل، فتتقارب النفوس وتستقيم وتتحد نوازعها ومشاربها وتصوراتها لصدورها عن أصل واحد ونبع واحد وهو التفقه في القرآن وعلومه فيزدادون صلة ووداً ومحبة.
التفسير وبناء الشخصية السّويّة:
ولذلك كان أهل القرون الفاضلة إخوة متماسكين، ولم يكن بينهم هذا التباعد وهذا الجفاء وهذا الانفصال الذي نراه اليوم بين طلبة العلم من جهة وبينهم وبين أساتذتهم من جهة أخرى.
تفسير القرآن وفهمه يساهم مساهمة فعالة ترى آثارها بادية في بناء الشخصية السوية المعتدلة؛ لأن القرآن يتضمن علوماً كثيرة ومنوعة ومكررة بمختلف الأساليب، وكل واحد منها يغذي جانباً من جوانب الشخصية مع المحافظة على التوازن والتكامل؛ لأن نظرة القرآن الكريم إلى الإنسان نظرة شاملة تغطي جميع مجالات حياة الإنسان.
ولما كانت الوسطية من مزايا هذه الأمة حث عليها الشرع، وقررها القرآن ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)) [البقرة: 143] وكان لتفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه أثر قوي لا ينكر في تحقيق صفة اعتدال الشخصية واتزانها.
وقد تُحْدث دراسةُ العلوم الإسلامية المفصولة عن القرآن الكريم انفصالاً في بعض جوانب الشخصية؛ فقد يتعلق بعضهم بالفقه فقط، والآخر بالحديث، وبعضهم بالعقيدة، ولكن هذه العلوم هي بعض مما تضمنه القرآن وهي جزء من التفسير.(107/4)
وقد يكون الاقتصار عليها مؤدياً بصاحبه إلى الميل والشطط والغلو والتعصب، وقد حصل شيء من هذا؛ وكل ما نراه من فروق واضحة بين الطلبة يرجع إلى الاختلاف بينهم في تخصصات مفصولة من القرآن، وإن كانت تعتمد على القرآن؛ فالفصل وحده كاف لإحداث هذا، ثم لا يستطيع الإنسان أن يجزم بأن هذه الآية في الأحكام، وهذه في العقيدة.
وإذا كان أولها في الأحكام وآخرها في العقيدة فماذا يفعل؟
ولذلك لم تنضبط آيات الأحكام عند العلماء، وكان من الموفقين في ذلك الإمام القرطبي؛ إذ سمى كتابه: (الجامع لأحكام القرآن)، وفسر القرآن كله ولم يستغن عن بعضه، ولم يستطع أن يسلخ منه هذه الأحكام. كما فعل أبو بكر الجصاص وابن العربي، فإن الفصل وحده كاف لإسقاط بعض المعاني، والربط وحده يتضمن أحكاماً. قال الرازي: (إن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط).
فالذي يقضي على مظاهر الانحراف والغلو والشذوذ هو الاشتغال بالقرآن فهماً وتفسيراً وتفقهاً.
ومما يؤخذ على من يقتصر على موضوع واحد ومادة واحدة أو تخصص واحد أنه ينعزل وينغلق على ما حبس نفسه فيه، وانزوت شخصيته في دائرة ضيقة من علوم الإسلام؛ وبذلك تنحصر علاقته بالأمة في أشخاص معدودين، وتتقلص مودته إلى العدد القليل من الناس، ولم تكن له مشاركة ولا مساهمة عفوية مع الآخرين، فقد بتر نفسه من جميع بقية فروع المعرفة وعلوم التنزيل التي حواها كتاب الله.
تفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه يصل أصحابه بأصحاب التخصصات العلمية الأخرى، ويرتبط بجميع أصناف الناس وطبقاتهم، ويطمئنون للأخذ عنه والاستماع إليه؛ لأنه لا يعلم فناً معيناً بعينه، ويستطيع أن ينشر عقيدة التوحيد على أوسع نطاق من خلال دروس التفسير.
وانفصال المواد الدراسية على إطلاقه ليس من طبيعة هذا الدين ولا من شأن عمل السلف الصالح؛ فإنهم كانوا يأخذون بالقرآن كلاً لا يتجزأ؛ فلا بد من ربط كل هذه العلوم وهذه المواد الدراسية بالقرآن الكريم، ولا يحقق هذه الغاية إلا تفسير القرآن والتفقه فيه دون سواه؛ فهو وحده الكفيل بتحقيق شمولية التربية والتعليم من جميع النواحي.
ولم يكن للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كتاب يدرسونه، وكلام محفوظ يتفقهون فيه إلا القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا في مجالسهم يتذاكرون إلا ذلك، فخلف من بعدهم قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أخرى وصنعة اصطلاحية.
قال الشيخ عبد الرحمن النحلاوي: (فانفصال المواد الدراسية ليس من طبيعة الثقافة الإسلامية، ولا من شأن التربية الإسلامية التي تأخذ بالإسلام كلاً لا يتجزأ، وتعتبر كل العلوم التي تأخذ بالإسلام كلاً لا يتجزأ، وتعتبر كل العلوم التي انبثقت عنه ما تزال وظيفتها توضيح الشريعة الإسلامية والحفاظ عليها فلا بد من ربط كل هذه العلوم بهدف التربية الإسلامية).
إن فصل المواد الدراسية من القرآن والسنة بمرور الزمن قد يُنسي ربطها به، ويتقرر في أذهان الناس استقلالها، وحينئذ يدخلها اجتهادهم واستحسانهم بالتغيير والتبديل والإضافة.
ومن السمات البارزة عند بعض أهل الفرق أنهم لا يفسرون القرآن كله، ولا يتبعونه آية آية؛ لأنهم إن فعلوا فإنهم يصطدمون بالآيات المحكمات التي تناقض مذهبهم وهواهم، فيسلكون مسلك الانتقاء والاختيار، ومن فسر القرآن كله منهم كالزمخشري من المعتزلة والطبرسي من الشيعة وغيرهم، فإنهم يوجهون الآيات التي تصادم مذهبهم بالتأويل ويسلكون في سبيل ذلك كل مسلك انتصاراً لمعتقداتهم؛ فهم من باب قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: ((إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)) [الأنعام: 159].
قرأ الجمهور: ((فَرَّقُوا دِينَهُمْ)) من التفريق وهو الفصل بين أجزاء الشيء الواحد، وجعله فرقاً وأبعاضاً، وقرأ حمزة والكسائي: [فارقوا] من المفارقة للشيء وهي تركه والانفصال منه، وهي تفيد أن تفريق الدين قد يستلزم مفارقته؛ لأنه واحد لا يتجزأ، ومن التفريق الإيمان ببعض الكتاب دون بعض ولو بالتأويل وترك العمل.
والدين لا يتجزأ، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض)) [البقرة: 85] وقال: ((كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ(90) الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ)) [الحجر: 90، 91]، وقال: ((إنَّ الَذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)) [النساء: 150].
قال محمد حسين الذهبي: (إن الباطنية لا يفسرون القرآن كله؛ لأنهم يصدمون بآيات محكمات تردّ مذهبهم).(107/5)
وقال في بيان موقف الخوارج من التفسير: (لا يأخذون من القرآن إلا بقدر ما ينصر مبادئهم ويدعو إليها. وما رأوه يصادم مذهبهم حاولوا التخلص منه بصرفه وتأويله).
وقد لجأ بعضهم إلى المتشابه لغرض نصرة المذهب الفاسد كما نص على ذلك القرآن المجيد فقال: ((فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاًوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ)). [آل عمران: 7].
وأهل الزيغ والضلال يفزعون إلى المتشابه الذي بواسطته يمكنهم أن يلبّسوا به، ويصرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها، وما دخلت البدع في دين الله إلا بسبب التعلق ببعض الآيات وإهمال الآيات الأخرى أو سوء فهم لها.
فالمعتزلة تعلقوا بقوله ـ تعالى ـ: ((فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) [الكهف: 29] وأثبتوا حرية الإنسان، وقالوا: إنه خالق لأفعاله، ونفوا صفة الكلام لله رب العالمين، وتعلقوا بقراءة شاذة ((وكلَّم اللهّ موسى تكليماً)) فجعلوا موسى هو الفاعل المتكلم، وأغمضوا أعينهم عن القراءة المجمع عليها: ((وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)) [الأعراف: 143].
ويقابلهم الجبرية فتعلقوا بقوله: ((وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ)) [الإنسان: 30] ونفوا نسبة الأفعال إلى من صدرت عنه، وقالوا: (الإنسان مجبور وعطلوا الأمر والنهي).
والكرامية لم ينظروا في باب الإيمان إلا في قوله ـ تعالى ـ: ((فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا)) [المائدة: 85]،. وقالوا: (الإيمان قول باللسان فقط دون تصديق ولا عمل).
قال القرطبي: (وهذا منهم قصور وجمود، وترك نظر لما نطق به القرآن والسنة).
وهكذا حال من تعلق ببعض الكتاب دون بعض، وهو انحراف خطير في الفكر وشذوذ في التفكير واعتلال في الشخصية أوجبه الاقتصار على بعض الآيات دون بعض.
قال رشيد رضا: (وفهم القرآن لا يكون صحيحاً إلا بالجمع بين الآيات المتقابلة في الموضوع الواحد الذي يختلف التعبير فيه).
وإزاء هذا وذاك وفق الله المنتسبين لأهل السنة والجماعة في تفسير القرآن بالشمولية والاستيعاب لجميع الآيات القرآنية كلها، ولا يقتصرون على بعضها للاستفادة منها، ومن ثم؛ لم يكن عندهم هذا الشطط وهذا الانحراف وهذا الشذوذ.
فالتفسير وفهم القرآن وحده هو الذي يقضي على ظاهرة التفرق والتحزيب والانتماء إلى فكر معين وتخصص معين؛ فمدرسة التفسير تذوب فيها جميع الفوارق. فإني أتصور الطالب وأتخيله عبداً يملكه شركاء مختلفون وهو بينهم موزع، ولكل منهم فيه توجيه، وعليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج، ولا يستقيم على طريق، ولا يملك أن يرضي أوامرهم المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه، وهذا واضح جلي في طلاب الجامعات التي لا تلتزم بمنهج القرآن.
وأتصوره وأتخيله عبداً يملكه سيد واحد، وهو يعلم ما يطلبه منه ويكلفه به وهو مستريح مطمئن مستقر على نهج واحد، وهذا واضح جلي في طلاب الجامعات التي تلتزم بمنهج القرآن الكريم.
ولا شك أن الذي يتلقى علومه وفقهه من القرآن الكريم ـ ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتفسير ـ يخضع لهذه المادة ويتعلم منها، فتربطه بالقرآن، فينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه ووضوح الطريق، فينشأ سوي الشخصية متزناً معتدلاً.
والذي يتعلم هذه العلوم منفصلة عن القرآن ومن أشخاص مختلفين، فإنه يتأثر بذلك؛ لأن كل أستاذ يلقنه غير الذي يلقنه الآخر، وكل منهم يريده أن يكون على طريقته ومنهجه، فينعكس ذلك على شخصيته، فيتشتت ذهنه، وربما يحدث فيه شذوذاً عن الجادة، لذا يتأكد على رجال التربية والتعليم أن يكثفوا مقررات التفسير.
ولم أرَ علاجاً أنفع لهذه الأمة كفهم القرآن وبيانه وتفسيره، وإن الأمة اليوم تحفظ القرآن وتردده صباح مساء، ولكن لا تفهمه؛ فبينه وبينهم غيوم كثيفة وحجب وعوائق من أهمها وأشدها كثافة: ضعفهم في علوم اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم؛ فكيف يدعو الداعي الناس إلى الشريعة الإسلامية، وهم لا يفهمونها ولا يفهمون مصدرها؟ ولو فهموا ما في القرآن من الأحكام والحكم وما فيه من الأسرار واللطائف لتملكهم القرآن وجرهم إليه جراً كما جر بعض كفار قريش إلى الاستماع إليه في الليالي المظلمة، وكانوا يدفعون تأثيراته باللغو: ((وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)) [فصلت: 26] فكانوا مغلوبين.
المطلوب منا أن نفسر القرآن ونوضحه ونبينه فقط، وفي ضمنه نتعلم الأحكام والحكم والفقه والعقائد والأخلاق وكل شيء مما يحتاجه الإنسان لسعادته في الدنيا والآخرة.
وبيان القرآن وفهمه هو الكفيل ـ بإذن الله ـ لهداية هذه الأمة الحائرة، وجميع أصناف الناس على مختلف مشاربهم يجدون في علم التفسير ما يروي الظمأ ويشبع الرغبة، وما يعدّل السلوك، وما ينظّم الغرائز والدوافع، ويقوّي الإيمان، ويصحح الاتجاه.(107/6)
والطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الأستاذ أن يبلغ منهج القرآن كاملاً غير منقوص هو علم التفسير؛ فليمتط من أراد الرشد سفينة التفسير؛ ليتعلم ما يسعده في دنياه وآخرته.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش :
(1) الجامع للقرطبي، 2/19.
(2) التحرير والتنوير، 1/585.
(3) الجامع للقرطبي، 1/376.
(4) الجامع للقرطبي، 3/136.
(5) تفسير ابن كثير، 1/524.
(6) التحرير والتنوير، 18/376.
(7) تفسير ابن كثير، 1/129.
(8) تفسير الرازي، 6/118.
(9) التحرير والتنوير، 18/376.
(10) تفسير ابن كثير، 3/336.
(11) الجامع للقرطبي، 6/186.
(12) تفسير الرازي، 12/178.
(13) رواه مسلم، ح./ 2699.
(14) تفسير الرازي، 7/85.
(15) تفسير المنار، 7/370.
(16) التحرير والتنوير، 7/370.
(17) الجامع، 1/14.
(18) مقدمة تفسير السعدي، 4.
(19) تفسير المنار، 1/12.
(20) تفسير ابن باديس، 33.
(21) الجامع للقرطبي، 7/56.
(22) أحكام القرآن، لابن العربي، 2/759.
(23) الجامع للقرطبي، 4/92.
Cd مجلة البيان(107/7)
أثر التكنولوجيا الحديثة في النظر الفقهي
"الطلاق بالهاتف النقال نموذجا"
د. فريدة صادق زوزو 3/11/1426
05/12/2005
توطئة:
في ظل التطور التكنولوجي المذهل تطورت أساليب وتقنيات الاتصال؛ إذ تعددت وسائل الاتصال الحديثة وظهر إلى جانب الهاتف والتلكس والتلغراف الفاكس والإنترنيت وأنواع مختلفة للهاتف مثل الهاتف النقال، وهي آخر ما توصل إليه العقل الإنساني في مجال الاتصالات، وقد تظهر في المستقبل وسائل أخرى.
لقد أسهمت تلك الوسائل في تقريب البعيد، فاختصرت المسافات، وساعدت في تطوير عمليات إجراء العقود التي كانت بالعادة تكون في مجلس واحد، فتغيرت إلى عقود تجري عبر المراسلة الخطية التي ينقلها البريد العادي والفاكس والتلكس والتلغراف والأنترنيت، أو المراسلة الكلامية التي ينقلها الهاتف أو الإنترنيت في بريده الالكتروني أو غرف دردشته. فانتشر ما يعرف بـ "العقود التجارية الالكترونية"، " الزواج الالكتروني"، وغيرها.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الأمر فقط بل تعداه إلى إجراء فسخ العقود عبر الوسائل نفسها، فيُفسخ عقد أو زواج مَّا بمكالمة هاتفية أو برسالة مبعوثة عبر بريد الكتروني أو هاتف نقال أو رسالة بالبريد العادي أو الجوي أو البريد المسجل لا يهم، فالمهم أن الفسخ قد تم، والطلاق وقع، ولكن هل وقع شرعا كما وقع واقعا؟ هذا السؤال هو الذي سيدور عليه البحث في هذه الورقة النقاشية بإذنه تعالى.
ولمناقشة هذه القضية (الطلاق عبر الهاتف النقال) لابد من معرفة كثير من المسائل المتعلقة بالموضوع، والتي يسهل من خلالها التفصيل في المسألة ومعرفة حكمها الشرعي؛ ومن هذه المسائل مايلي: الحديث عن معنى الطلاق وصيغته ونوعه، وهل يحتاج إلى مجلس واحد، وهل يحتاج إلى إشهاد، وتوثيق وغيرها من المسائل.
فالطلاق عن طريق البريد الإلكتروني يحتاج إلى نظر فقيه وفتوى مجتهد لنعرف مدى شرعيته وصوابه في الفقه الإسلامي حتى يمكن القول إنه طلاق صحيح مثله مثل الطلاق الصريح عن طريق تلفظ الزوج بلفظ الطلاق الصريح أو كتابته لها.
تعريف الطلاق:
قال القرطبي:" الطلاق هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة" (1).
إذا أردنا شرح التعريف: فإن أول أمر يتبادر للذهن أن الطلاق ليس عقدا وإنما هو فسخ العقد.
وطريقة الوصول إلى ذلك كما تحددت في التعريف "ألفاظ مخصوصة"، فهل يقع الطلاق بغير هذه الوسيلة؟ هذا هو سؤال الإشكالية هنا.
آراء العلماء في وقوع الطلاق بغير اللفظ:
المتأخرون ناقشوا مسألة الطلاق بالكتابة إلى الغائب، كما سيأتي تفصيله، واتفقوا على وقوع الطلاق بالكتابة المعنونة باسم الزوجة والموجهة إليها شخصيا، وجعلوا حكمها حكم الطلاق الصريح إذا كان اللفظ صريحا.
وبظهور صور جديدة للوسيلة التي يقع بها الطلاق:
فهل يمكن أن يقع الطلاق بالفعل أو الكتابة، أو الإشارة المفهومة، أو المفهوم من القرائن وسياق الكلام؟
الوسائل التي تقوم مقام اللفظ:
الطلاق بالفعل: الأصل أن الفعل لا يقع به طلاق، فمن يغضب من زوجته ويأخذها إلى بيت أهلها، ويبعث لها مؤخر صداقها مثلا دون أن يتلفظ بالطلاق، لا يعدّ مطلقا(2).
الطلاق بالإشارة: يقع الطلاق بالإشارة، إذا انضم للإشارة من القرائن ما يؤكد على دلالتها على الطلاق في عرفه الذي يعلمه المتصلون به.
الطلاق بالكتابة: إذا كان الطلاق يقع بكل لفظ يدل عليه إذا وضحت الدلالة، واستبان قصد إيقاع الطلاق فإن ما يقوم مقام اللفظ الصريح الكتابة المستبينة (التي تبقى صورتها بعد الانتهاء منها) إذا كانت باسم الزوجة وعنوانها (3).
الطلاق بالإرسال: ومعناه أن يجعل الزوج إعلام زوجته بثبوت طلاقها لغيره، وذلك بأن يرسل إليها من يخبرها أنه طلقها(4).
الإقرار بالطلاق: وهو واقع، فإذا قال الزوج لشخص اكتب طلاق امرأتي وابعث به إليها. فإن ذلك يكون إقرارا بالطلاق فسواء كتب أو لم يكتب يقع الطلاق (5).
صور الطلاق الحديثة:
للطلاق صور حديثة في الطريقة التي يتم بها وقوع الطلاق بين الزوجين، فبعد أن كان يتم مشافهة وفي حضور الزوجة أو وليّها أو وكيلها، ظهرت له صورة أخرى في العقود المتأخرة وهي كتابته في ورقة وإرساله عبر البريد العادي، أما الآونة الأخيرة فإنها تشهد صورا أخرى استدعى وجودها واستعمالها التطور التكنولوجي الحادث في وسائل الاتصال،فظهر طلاق الرسالة المسجلة في الهاتف النقال، وظهر طلاق البريد الإلكتروني، وهو ما سنناقشه في الآتي:
(1) الطلاق برسالة الهاتف النقال (قضية محكمة قومباك – ولاية سلانجور دار الإحسان-ماليزيا):
إرسال رسالة مختصرة بالهاتف النقال:
في الوقت الذي يشهد فيه العالم الإسلامي تزايدا في نسبة الطلاق، خاصة بين حديثي العهد بالزواج، فإننا نشهد أيضا حضورا قويا لمهمة جديدة للهاتف النقال فيما يخص هذا الموضوع؛ إذ أصبح أحد الوسائل التي يتم بها الطلاق، فالرجل لا يجد عناء في كتابة كلمات الطلاق لزوجته بدل مخاطبتها بذلك.(108/1)
وإذ تبدو أن وسيلة الهاتف النقال تشبه إلى حد كبير الوسائل الأخرى المتأخرة مثل الرسالة، إلا أنها تختلف عنها في طريقة وهيئة مباشرة الطلاق، وكيفية وصوله للزوجة، فهو طريقة غريبة أو بالأحرى ساخرة في إيقاع الطلاق، فإنه نوع من أنواع إهانة مشاعر الزوجة (مهما كانت المشاكل بينها وبين مطلقها)، ومنه الاستهزاء بتعاليم هذا الدين الذي أباح الطلاق ولكنه (أبغض الحلال إلى الله).
ألم يقل المولى تبارك وتعالى :{فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (البقرة:229)؟
فأين يكمن الإحسان في رسالة مسجلة بالهاتف تنزل كالصاعقة على المرأة ؟
وهنا سؤال جوهري يحتاج لإجابة وافية:
ما الداعي أصالة لهذه الوسيلة إذا ما اقتضى الأمر استدعاء الزوج لدى القاضي وتأكيد هذه الواقعة- كما سنرى في الواقعة التالية؟
وكما جاء عند د/محمد عقلة الذي قال:" إيقاع الطلاق من خلال الوسائل الحديثة كالهاتف والبرقية والتلكس والكاسيت يعتمد على اللفظ أو الكتابة، ومن يقع بها الطلاق إذا سمعت المرأة صوت زوجها، وتيقنت من أنه هو المتحدث، أو قرأت برقيته وتأكدت أنه هو المرسل. ولكن في مثل هذه الحالات على الرجل أن يشهد على طلاقه، ويسجله في المحكمة، ويبلغه رسميا للمطلقة بالبريد المسجل، أو عن طريق السفارة ليتخذ صفة القطع وعدم تطرق الاحتمال إليه"(6).
فهل المثول بين يدي القاضي واعتراف الزوج بأنه أرسل الرسالة يعتبر هو الطلاق الصحيح وليس الأول (المسجل في الهاتف)؟ ومعنى هذا أن الأول ملغى في نظر المحكمة إلا إذا تأكد من صحته؟ والمعروف أن الطلاق لا يقع فيه الإشهاد.
وهذه المسائل قد حدثت في الواقعة التالية:
في يوم الخميس 31-7-2003 قضت محكمة الشريعة الابتدائية في شرق جومباك بمدينة (سلانجور)، بماليزيا بأن "الطلاق عبر رسائل المحمول يعتبر نافذا بشرط تحقق المحكمة من حدوثه".
وحكم القاضي بالمحكمة ذاتها "محمد فاؤزي إسماعيل" بأن زواج "أزيدة فاظلينا عبد اللطيف" من "شمس لطيف" قد بطل عندما أرسل هذا الأخير إليها رسالة عبر النقال قال فيها: "إذا لم تغادري منزل والديك فأنت طالق".
الحديث بالهاتف النقال وإيقاع لفظ الطلاق:
إذا كان الطلاق عادة يحدث والزوجان في حالة غضب فإن استخدام هذه الوسيلة يظهر أن الرجل يستخدم حقه في التطليق وهو في كامل وعيه، ويمكن بذلك تسمية هذا الطلاق بالطلاق الهادئ بدلا من الطلاق الصريح، فهو طلاق القصد فيه كامل ومتحقق ومتيقن منه.
واللفظ الصريح كأن يقول الرجل لزوجته: أنت طالق، فهو لفظ لا يحتمل غيره.
وأما لفظ الكناية: فهو اللفظ الذي يحتمل الطلاق وغيره، مثل قوله: أنت خلية، أنت حرة، اذهبي إلى بيت أهلك... وما أشبه ذلك فلا تقبل إلا بنية التطليق.
أما في حالة طلاق الهاتف النقال فإن الزوج لا يتلفظ بالطلاق وإنما يكتبه ثم يقوم بارساله إلى زوجته، وهذه العملية لا يمكن أن تتم والزوج غير قاصد أو غافل عما يفعل؛ إذن الطلاق صر يح مقصود والباعث فيه واضح.
وقد استعمل فيه وسيلتين من وسائل إيقاع الطلاق وهما: وسيلة الكتابة، ووسيلة الإرسال.
وهذه أحد جوانب الموضوع، أما الجانب الثاني فهو مسألة الإشهاد، كما يأتي.
الطلاق بالهاتف النقال وحكم الإشهاد :
قال ابن عبد البر" الإشهاد على الطلاق ليس بواجب فرضا عند جمهور أهل العلم، ولكنه ندب وإرشاد واحتياط للمطلق كالإشهاد على البيع"(7).
إذن الأصل أن الطلاق يصح من غير إشهاد، وإنما يُندب الإشهاد عليه احتياطا. وهو الأمر الذي تمت مناقشته في قضيتنا المطروحة أمام المحاكم، إذ أن القاضي – الذي بتَّ في الواقعة وغيره من القضاة كما سيأتي ذكره - طلب مثول الزوجين أمام المحكمة وتأكيد واقعة الطلاق!
فهل يمكن القول إن الإشهاد في هذه الحالات لم يصبح حكمه مجرد الندب بل الوجوب لأن المعلوم أن حكم القاضي يعتبر ملزما؟
وأصبح الإشهاد واجبا في هذا العصر الذي تعددت فيه وسائل الطلاق بعد أن كان لا يقع إلا بالألفاظ، للاحتياط والتأكد من أن الزوج هو مُوقع الطلاق، ولم يقم أحد غيره بذلك زورا وبهتانا.
آراء وأقوال:
*موقف المحاكم الشرعية:
كانت محكمة الشريعة لمنطقة قومباك قد أكدت مؤخرا على صحة الطلاق عن طريق رسائل النقال؛ ففي يوم الخميس 31-7-2003 قضت محكمة الشريعة الابتدائية في شرق جومباك بماليزيا بأن "الطلاق عبر رسائل المحمول يعتبر نافذا بشرط تحقق المحكمة من حدوثه".
وحكم القاضي بالمحكمة ذاتها "محمد فاؤزي إسماعيل" بمقتضى ذلك كما سبق.
غير أن القاضي داتو زهدي طه- رئيس محكمة الشريعة الإقليمية - دعا القضاة الشرعيين إلى عدم قبول أي دعوى بهذا الشأن، فقد ذكر أنه من عام 1999م ظهرت 20 حالة ، وقال إنه لابد من الاستماع إلى طرفي النزاع (الزوج والزوجة) قبل إعطاء أي قرار نهائي.(108/2)
وقد أكد لي القاضي نعيم- في لقاء معه على هامش مؤتمر نظمته مؤسسة الدعوة الإسلامية الماليزية، يومي: 24-25/ مايو 2004 : أن مسألة قبول أو رفض الهاتف النقال كوسيلة جديدة تقوم مقام التلفظ بكلمة الطلاق، مسألة تحتاج إلى روية وتأنٍ، لأن القبول بها مباشرة على اعتبار أنها وسيلة من وسائل الاتصال قد يفتح الباب على مصراعيه أمام الرجال في التساهل في التطليق والتسرع فيه.
وأكدت المحاكم الشرعية الخاصة بالمسلمين في سنغافورة قبولها للطلاق عبر رسائل الهاتف النقال أيضا، وذلك على لسان تصريح مسؤول مسجل المحاكم فيها سيف الدين ثروان، لكنه كرر هو الآخر مطالبته الزوجين بالحضور للمحكمة وتأكيد ذلك، لكن القانونيين في ماليزيا وسنغافورة أكدوا على عدم تشجيعهم لهذا الأسلوب السهل لتطليق الزوجات على الرغم من شرعيته.
* موقف العلماء والمفتين:
وفي فتوى مفتي العاصمة الفيدرالية كوالالمبور الشيخ هاشم يحيى قال فيها: إن خدمات الرسائل القصيرة عبر الهاتف وسيلة شرعية لإعلام الطرف الآخر بالطلاق، ويجب أن تقبل من قبل المحاكم الشرعية الماليزية، لكنه اشترط حضور الزوجين إلى المحكمة الشرعية لتأكيد حدوث الطلاق.
أما مفتي دبي وفي إجابته عن سؤال بهذا الشأن فقد قال:" الطلاق عبر الهاتف كتابة بما يسمى (المسج) هو نوع من أنواع الطلاق بطريق الكتابة، لأنه يكتب لفظ الطلاق سواء بالعربية أو غيرها، وعندئذ تجري عليه أحكام كتابة الطلاق صريحا كان أو كناية... ولكن بشرط أن يكون الكاتب الزوج أو وكيله، بمعنى أن المرأة لا يلزمها العدة حتى تعلم أن هذه الكتابة صادرة من الزوج نفسه أو وكيله، وذلك لأن احتمال التزوير في هذا النوع كثيرا. ويحصل التأكيد إما بإقرار الزوج أو البينة العادلة. فإذا ثبت ذلك اعتدت المرأة من تاريخ صدور تلك الكتابة من الزوج"(8).
والدكتور محمود عكام أستاذ الشريعة بالجامعات الأردنية يرى أن الطلاق عبر رسائل المحمول أو البريد الإلكتروني قد يدخله كثير من الغش والخداع؛ ولذا فإن ترك هذه الوسيلة غير المضمونة أولى.
أما مسعود صبري المحرر بقسم الفتوى بإسلام أون لاين فيقول: إن الأوفق شرعًا أن تمنع هذه الوسيلة، وإن كان الشرع يأمر برفع الضرر، فإن الوسيلة التي قد تؤدي إليه تمنع، كما أن في استخدام هذه الوسيلة إضعافاً لعلاقة الزواج والطلاق، وهو ما يتعارض مع حكمة الشرع من هذه العلاقات، من كونها ميثاقًا غليظًا.
ويتابع مسعود صبري: للحاكم المسلم أو الجهات المختصة أن تصدر قرارًا بمنع هذه الوسيلة، فتكون ملزمة للجميع، صونًا للبيوت والأسر، وحفاظًا على الحياة الاجتماعية، فلا يأمن أن يقوم إنسان بكتابة طلاق لامرأة غير زوجته، والشرع ينفي كل ما فيه الغش والضرر(9).
ويقول عبد السلام درويش المختص في القضايا الأسرية في محاكم دبي بأن قبول الطلاق عبر الرسائل القصيرة مرهون بأربعة شروط وهي: "أن يكون الزوج هو المرسل، وأن يكون لديه العزم والرغبة على تطليق زوجته، وأن لا تعني صياغة الرسالة أكثر من معنى غير الطلاق، وأن تستقبلها الزوجة".
* موقف الرأي العام وجمعيات المرأة وحقوق الإنسان:
لاقى حكم المكحمة بقبول طلاق الهاتف النقال انتقادات من الأوساط الرسمية والنسائية في ماليزيا إذ رأوا أنها إهانة للمرأة؛ فقد قالت أزلينة باروني رئيسة جمعية عزام النسائية: "عندما أراد الرجل الزواج من تلك الفتاة جرى وراءها وخطبها ودعا كل الأهل والأقارب لحفل الزواج.. ولكن عندما يكرهها يرسل رسالة قصيرة عبر الهاتف.. ولا يريد حتى لقاءها وحدها دون الآخرين".
وطالبت أزلينا عثمان رئيسة جناح الفتيات في حزب أمنو الماليزي الحاكم الحكومة الماليزية بعدم إقرار الطلاق المعلن عبر رسائل قصيرة بالهاتف النقال، مشددة على أهمية اتباع الأسلوب المعروف في الطلاق بوجود شهود، وتأكيد ذلك في المحكمة.
أما البروفيسور حمدان عدنان رئيس اتحاد جمعيات المستهلكين الماليزيين فقال: "إن السماح بقبول الطلاق عبر الهاتف النقال قد يفتح المجال أمام أطراف أخرى تتدخل وترسل رسائل الطلاق للزوجة.. يجب علينا أن لا نستخدم التقنية لتكون عاملا مسهلا ومشجعا على الطلاق".
وأيدت الأوساط الشعبية في رأيها وزيرة تنمية الأسرة والمرأة شهريزات عبد الجليل التي طالبت بدراسة الظاهرة بجدية قائلة:"إن الزواج مؤسسة مقدسة يجب تكريمها واحترامها، وعندما يفشل الزواج فإننا يجب أن لا نسمح للزوج بأخذ الأمر بهذه البساطة، وإرسال رسالة قصيرة عن بعد ليطلق زوجته"، بل إنها طالبت بمراجعة قبول شرعية الطلاق المفاجئ حتى عبر الهاتف.(108/3)
وقالت الدكتورة شريفة لؤلؤة غزالي عضوة اللجنة التنفيذية للحزب الإسلامي الماليزي بأن قبول الطلاق عبر الرسائل القصيرة من خلال المحمول سيكون سببا في فقدان المرأة لكرامتها، وتابعت قائلة:"إن الزواج جمع مكرم بين اثنين قائم على نظام دقيق، ويجب أن لا ننسى المسؤولية التي يتحملها الزوج أو الزوجة أمام الله تعالى.. وإذا أخذت زوجتك من أهلها في زفة تضرب لك الدفوف فيها، فعليك أن تردها مكرمة كما أخذتها.. يجب أن يكون التسريح بإحسان "، وقالت نيك نور عيني بدلي شاه مديرة الأبحاث في منظمة "الأخت في الإسلام" بأن السماح بالطلاق عبر الرسائل القصيرة يصور للأزواج وحتى لغير المسلمين أن الإسلام يشجع على الطلاق ويسهله لكنه "أبغض الحلال إلى الله "(10).
موقف الحكومة الماليزية (القانون الماليزي، ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف)
زادت حدة الجدل حول تلك القضية حين أعلنت إحدى الهيئات الدينية المحلية في ماليزيا موافقتها أيضا على الطلاق عبر رسائل المحمول؛ وهو ما دفع الحكومة الماليزية إلى النظر للقضية بعين الاعتبار.
وفي هذا السياق، لم يتخذ رئيس الوزراء الماليزي "محاضير محمد" موقفا قاطعا من الجدل الواقع، حيث قال: "إن مجلس الوزراء قرر أنه في الوقت الذي يمكن فيه اعتبار الطلاق بهذه الوسيلة صحيحا، إلا أنه يبقى أن هذه ليست هي الوسيلة الجيدة".
وشدد على ضرورة "تجنب إساءة استخدام مثل هذه التكنولوجيا الحديثة".
وقد قرر البرلمان يوم 30 جويلية 2003 أنه ليس من حق الماليزين المسلمين أن يطلقوا زوجاتهم بهذه الطريقة المخالفة لعاداتهم ولروح الشريعة الإسلامية، وشدد على ضرورة سن قوانين تمنع أو تحد من إطلاق لفظ الطلاق بوسيلة الهاتف النقال أو أي وسيلة اتصال أخرى مثل الفاكس والبريد الإلكتروني.
كما قال الوزير برئاسة الوزراء الماليزية "سري عبد الحميد زين العابدين": "إن القوانين التي تحكم مسألة الطلاق في قانون الأسرة المسلمة ينبغي أن يتم تعديلها بحيث تمنع الرجال من استخدام رسائل المحمول في إيقاع الطلاق".
وشدد الوزير على "عدم صحة" الطلاق بهذه الوسيلة في "قانون الأسرة المسلمة" الذي وضع في عام 1984 إلا إذا تم التصديق عليه (الطلاق) من قبل محكمة الشريعة، وهي المحكمة التي أصدرت الحكم السابق في قضية أزيدة وشمس الدين.
وأكد الوزير على أن الطلاق عبر رسائل المحمول "مخالف لقانون البلاد"، مثل جميع أنواع الطلاق الأخرى التي تتم خارج المحكمة.
وأعلن الدكتور عبد الحميد عثمان المستشار الشرعي لرئيس الوزراء الماليزي بأن إرسال إعلان الطلاق باستخدام الهاتف المحمول عبر "خدمة الرسائل القصيرة" المعروفة باسمها المختصر ( SMS) غير مقبول في ماليزيا على الرغم من إمكانية قبوله شرعا.
ووصف الدكتور عبد الحميد في تصريح له يوم الخميس ( 12/7/2001) سلوك الشخص المطلق لزوجته عبر رسالة قصيرة يبعثها عبر الهاتف المحمول بأنه "عمل غير مسؤول وخطير، ويجب ألا نتساهل معه". ودعا الزوجات اللاتي يتلقين رسالة طلاق عبر رسائل الهاتف القصيرة أن يرفعن بذلك تقريرا إلى السلطات الدينية للتحقق من هذه الحالات والوقوف عن قرب على هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة.
وقال المستشار الماليزي: "لدينا قوانين كافية لكبح سلوكيات الطلاق المتعجل من قبل الأزواج المسلمين الذين يريدون التخلي عن زوجاتهم بدون مبررات كافية، متوعدا المطلقين عبر الهاتف النقال بملاحقة السلطات لهم".
بينما قالت شهرزاد عبد الجليل "وزيرة تنمية المرأة والأسرة" الماليزية: إن الطلاق عبر رسائل المحمول "ليس فقط إهانة في حق المرأة، وإنما يمكن أيضا أن يسيء إلى قوانين الشريعة، إلى جانب أنه يمكن أن يُشيع انطباعا سيئا عن الرجال المسلمين في ماليزيا".
وفي الوقت الذي أقرت فيه محكمة الشريعة صحته، حثت سيتي زهارة سليمان -وزيرة الوحدة والتنمية الاجتماعية في ماليزيا- الرجال على عدم اللجوء إلى الطلاق عبر هذه الوسيلة التي وصفتها بـ"العمل المخزي الذي يحقر من قدسية الزواج ومؤسسة الأسرة".
وقالت الوزيرة في تصريحات الأحد 3-8-2003: ينبغي ألا يُقبل المسلمون على الطلاق عبر رسائل الخلوي؛ لأن هذه الوسيلة "من شأنها أن تشوه صورة الإسلام والمسلمين في البلاد"، وذلك بحسب وكالة أنباء "برناما" الماليزية الرسمية.
ونصحت الوزيرة الأزواج بالنظر إلى تداعيات الطلاق عبر المحمول على الأسرة وعلى الأطفال، مضيفة أنها "تأسف أن شخصا ما يمكن أن يطلق بهذه الوسيلة" (11).
الطلاق بالبريد الإلكتروني (الإنترنيت) (قضية محكمة دبي –دولة الإمارات العربية-).(108/4)
عقدت المحكمة الشرعية في دبي جلسة يوم 14-5-2000م، للنظر في طلب تسجيل أول طلاق من نوعه تم عبر الإنترنت، تقدم به الزوج، بعد ما يقرب من 6 شهور من إرسال رسالة عبر البريد الإلكتروني إلى زوجته فحواها: (أنتِ طالق) باللغة الإنجليزية. وقد أخطرت المحكمة محامية الزوجة للحضور أمامها للنظر في طلب التسجيل المقدّم من الزوج.
وأكد مصدر مقرّب من الزوجين أنهما تزوجا منذ 5 سنوات، في أحد المراكز الإسلامية في مدينة نيويورك، بعدما أشهر الزوج إسلامه؛ حيث إنه أميركي من أصل عربي، والزوجة من السعودية، ورُزقا بطفل يبلغ من العمر عامًا واحدًا، ويعملان في دبي صحفيين. ويؤكد المصدر أن الزوجين قاما بتسجيل زواجهما مدنيًا في ولاية نيويورك، وظلا زوجين حتى شهر أكتوبر من العام الماضي، عندما ترك الزوج بيته، وأرسل رسالة عبر البريد الإلكتروني تقول للزوجة: (أنتِ طالق)، ويشير المصدر إلى أن الزوج تزوج في يناير الماضي من أخرى ذات جنسية أوروبية، ووثّق هذا الزواج في لبنان.
ووفقًا للرواية نفسها.. فإن الزوجة ترفض هذا الطلاق عبر الإنترنت، وأنها سوف تستأنف - في حالة الموافقة- على طلب التسجيل المقدّم من الزوج.
وكانت المحامية التي تم توكيلها من قِبل الزوجة، وهي أميركية الأصل ومتخصصة في شؤون الشريعة الإسلامية -قد أكدت أن الطلاق بهذه الطريقة لا يجوز؛ لأن الزواج تم في إحدى الولايات الأميركية التي لا تأخذ بهذا النظام.
رأي العلماء والمفتين في هذا النوع من الطلاق:
يرفض الدكتور عبد الوهاب الديلمي وزير العدل اليمني السابق استخدام البريد الإلكتروني؛ لإبلاغ الزوجة بالطلاق، حيث يمكن لأي شخص أن يوقع الفتنة بين الزوجين بإرساله "إميل يحمل الطلاق لزوجة دون علم زوجها".
ويقول الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر: "إن الطلاق يختلف عن توثيق عقود الزواج؛ لأن الطلاق يصدر عن الفرد نفسه، فمن الممكن أن يتم عن طريق الإنترنت، ولكنه يحتاج هو الآخر إلى توثيق؛ لتتحقق الزوجة من طلاقها، حتى إذا أرادت أن تتزوج من آخر يكون معها دليل طلاقها، فإذا أنكر الزوج عملية الطلاق التي تمَّت عبر الإنترنت تكون الورقة الموثقة والمشهود عليها والمرسلة بطريق الإنترنت هي إثبات عملية الطلاق.
ويقول الدكتور يحيى هاشم فرغلي -أستاذ العقيدة في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الإمارات-: إن الطلاق عبر الإنترنت يعتبر طلاقًا صحيحًا، شريطة أن يتم التوثق من إقرار طرفي العلاقة به. وأشار إلى أن شبكة الإنترنت ليست إلا وسيلة اتصال جديدة، مثلها مثل البريد والهاتف وغيرهما، مشيرًا إلى أن اعتراف الزوج بإرساله الرسالة المتضمنة للطلاق، وتسلُّم الزوجة لها أو علمها به، يؤكدان وقوع الطلاق صحيحًا، وقال – في تصريحات لصحيفة الخليج الإماراتية - إن الكتابة في هذا الشأن لا تؤخذ مستقلة، ولكن لا بد من إقرار كلا الطرفين، بإرسال هذه الرسالة وتسلمها، مؤكدًا في هذا الصدد أنه لا يهم أن يكون الزواج في أميركا أو في أي مكان في العالم؛ (لأننا نتحدث عن تطبيق الشريعة الإسلامية).
كذلك أكد المستشار عبيد إبراهيم -القاضي في محكمة الاستئناف في الشارقة- أن الطلاق يقع سواء مشافهة أو كتابة، وذلك باتفاق جميع الفقهاء، مشيرًا إلى أن العبارات التي يتضمنها وقوع الطلاق سواء قيلت أو كتبت فإنها تكون صحيحة، وأضاف: إن ذلك ينطبق على الطلاق الذي يتم عبر الإنترنت، ولكن الإشكالية هنا تكون في الوثوق من مصدر الرسالة، وهل الزوج هو الذي أدخل المعلومة فعلاً أم شخص آخر، وأشار إلى أنه طالما حدث إقرار من الزوج بأنه مصدر الرسالة فإن ذلك يكون تعبيرًا عن إرادته؛ وبالتالي يقع الطلاق من تاريخ كتابتها، وأكد أنه في هذه الحالة تحصل الزوجة على حقوقها: من نفقة العدة وأولادها، وما لم يدفع من مقدم المهر والمتأخر، وأية توابع مالية أخرى لمهر الزوجة؛ لأن الطلاق وقع بإرادة الزوج.
رأي وتعقيب:
إن المتأمل في قانون الأحوال الشخصية الماليزي، يلحظ أن المحكمة تعتبر الطلاق الواقع من طرف الزوج خارج جدران المحكمة غير مقبول، ويتعرض فيه صاحبه لعقوبة مالية أو السجن، أو كلاهما، مالم يتم تسجيل واقعة الطلاق أمام القاضي لإقرارها وتأكيدها.
فقد جاء في المادة 124 من قانون الأحوال الشخصية (1984): إن أي رجل طلق زوجته بتلفظ الطلاق بأي شكل خارج المحكمة، وبدون إذنها، عليه جناية، يعاقب بدفع ما لايزيد عن 1000 رنغيت،أو السجن بما لا يزيد عن 6 أشهر، أو كلاهما(12).
فإذا كان الأمر كذلك، وثبت أن المحكمة وهو المعمول به لا تقبل أي طلاق خارج المحكمة، وكما جاء في المادة 124 " بأي شكل " أي التلفظ بالطلاق بأي وسيلة مثل الهاتف أو الرسالة البريد الإلكتروني، أو الفاكس؛ والسؤال هنا:(108/5)
لماذا إذن ثارت ثائرة المراقبين لما كان يجري داخل محكمة قومباك، وقبول القاضي الطلاق برسالة الهاتف النقال كوسيلة للطلاق، مادام الزوج سيؤكد هذه الواقعة بالإقرار من جديد أمام القاضي كما هو مبين في المادة 124؟
فهل الضوضاء التي حدث في شهر جويلية 2003 مجرد صراع وهمي بين السياسيين وعلماء الدين من القضاة والمفتين؟
قد تعتبر هذه المسألة قضية مثيرة للنقاش والجدل في الدول الإسلامية الأخرى التي لا يوجد فيها مثل ما يوجد في القانون الماليزي، كما هو مبين في المادة 124.
لأن القوانين الإسلامية التي اطلعت عليها لا تشترط المثول أمام المحكمة للإقرار بالطلاق الذي حدث في البيت أو الشارع أو أي مكان آخر؛ إنما المشكلة التي ستثار هنا هي: هل تقبل هذه القوانين بهذه الوسيلة للطلاق مع وجوب الحضور للمحكمة وتأكيد أن الزوج هو مرسل الرسالة المسجلة أو البريد الإلكتروني، لأن هاتين الوسيلتين يسهل التلاعب بهما من طرف أشخاص آخرين غير الزوج، كما صرح بذلك بعض المفتين والقضاة والباحثين؟
آفاق الدراسة:
آخر بدعة تكنولوجية في مجال القانون والقضاء انتشرت مؤخرًا في البرازيل من خلال برنامج حاسوبي يعتمد على الذكاء الاصطناعي أطلق عليه اسم "القاضي الإلكتروني". ويهدف هذا البرنامج الذي يوجد على جهاز حاسوب محمول إلى مساعدة القضاة المتجوِّلين في تقويم شهادات الشهود والأدلة الجنائية بطريقة علمية في مكان وقوع الجريمة، ثم يقوم بعد ذلك في المكان نفسه بإصدار الحكم بالغرامات إن اقتضت الجريمة ذلك، وقد يوصي بالسجن أيضًا.
وأوضح القاضي فالس فيو روزا -عضو محكمة الاستئناف العليا في الولاية، ومصمم البرنامج- أن معظم المواطنين يشعرون بالسعادة عند البت في القضايا في الحال، مشيرًا إلى أن الفكرة لا تعني أن يحلّ البرنامج محلّ القضاة الحقيقيين، ولكن ليجعل أداءهم أكثر كفاءة(13).
فهل يمكن قبول هذا القاضي عند التحاكم للمحكمة في فض النزاعات مادام الزوج قد رضي لنفسه أن يستعمل آلة اتصال لتطليق زوجته!!!!!!
وهل يُستغنى عن جلسات المحاكم التي تبت في قضايا الطلاق والتي تستمر لأيام وشهور حتى يأتي البت النهائي؟
المصادر والمراجع:
إبراهيم عبد الرحمن إبراهيم، الوسيط في شرح قانون الأحوال الشخصية (السوداني)، ط1، عمان: مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1999م.
بدران أبو العينين بدران، الفقه المقارن للأحوال الشخصية، بيروت: دار النهضة العربية.
عمر سليمان الأشقر، الواضح في شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني، ط2، عمان: دار النفائس، 1421هـ/2001.
فتاوى شرعية، دائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدبي، ط1، 1422هـ/2002.
محمد أبو زهرة، الأحوال الشخصية، ط2، القاهرة: دار الفكر العربي، 1379هـ/1950م.
محمد بشير الشقفة، الفقه المالكي في ثوبه الجديد، ط1، دمشق: دار القلم/ بيروت: الدار الشامية، 1424هـ/2003م.
محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ط1، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1416هـ/1995م.
محمد عقلة، نظام الأسرة في الإسلام، ط1، عمان: مكتبة الرسالة الحديثة، 1411هـ/1990م.
محمد مصطفى شلبي، أحكام الأسرة في الإسلام، ط2، بيروت: دار النهضة العربية، 1397هـ/1977م.
يوسف بن عبدالله بن عبد البر، الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، بيروت: دار الكتب العلمية.
إسلام أون لاين.نت/ 3-8-2003
(Islamic Family Law (Federal Territories) ACT 1984 ( ACT 303
________________________________________
(1) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج3/ ص126.
(2) الفقه المقارن للأحوال الشخصية ، بدران أبو العينين بدران، ص323.
(3) الأحوال الشخصية، محمد أبو زهرة، ص 294؛ أحكام الأسرة في الإسلام، محمد مصطفى شلبي، ص478؛ المادة: 86من قانون الأحوال الشخصية الأردني؛ المادة: 129 من قانون الأحوال الشخصية السوداني.
(4) الفقه المالكي في ثوبه الجديد، محمد بشير الشقفة، ج4/ ص182.
(5) الفقه المقارن للأحوال الشخصية ، ص324.
(6) نظام الأسرة في الإسلام، ج3/ص117.
(7) الكافي، ابن عبد البر. ص264.
(8) فتاوى شرعية، دائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدبي، ط1، 1422هـ/2002، ج7/ص81.
(9) إسلام أون لاين.نت/ 12-7-2001.
(10) إسلام أون لاين.نت/12-7-2001
(11) كوالالمبور- كازي محمود- إسلام أون لاين.نت/ 3-8-2003
(12) Islamic Family Law (Federal Territories) ACT 1984 ( ACT 303). P 59
(13) "قاضٍ إلكتروني" لسرعة حسم القضايا في البرازيل! لندن- قدس برس.(108/6)
أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه هي ليلة الأربعاء الموافق للرابع عشر من الشهر الثالث للعام التاسع عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا المكان الطيب المبارك في الجامع الكبير في مدينة <الطائف> نلتقي وإياكم في موضوع بعنوان التوحيد وأثره في النفوس فاعلم رحمني الله وإياك أن التوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده بل هو أعظم سلاح يتسلح به المسلم سلاح العقيدة سلاح التوحيد العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة وما عليه سلف هذه الأمة فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح هو التوحيد قال شيخ الإسلام [ابن تيميه] رحمه الله في الفتاوى: ولهذا كان رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وهي متضمنة عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا سواه انتهى كلامه رحمه الله ،فلا إله إلا الله كلمة التوحيد ؛الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات، لا إله إلا الله فطر الله عليها جميع المخلوقات ؛عليها أسست الملة ونصبت القبلة وجردت سيوف الجهاد. لا إله إلا الله مَحْضُ حَطِّ الله على جميع العباد ،هي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار، هي المنجية من عذاب القبر ومن عذاب النار هي المنشور الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به لا إله إلا الله؛ الحبل الذي لا يصل إلى الله من لم يتعلق بصدده، لا إله إلا الله كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام ينقسم بها الناس إلى شقي وسعيد ومقبول وطريد انفصلت دار الكفر من دار الإيمان وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان بلا إله إلا الله ؛هي العمود الحامل للفرض والسنة ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة ، نسأل الله الكريم من فضله ، قال[ ابن القيم] كلاما جميلا عن التوحيد في الفوائد قال رحمه الله: التوحيد أشق شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه وأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه فهو كأضيق ثوب يكون ، يؤثر فيه أدنى أثر وكالمرآة الصافية جدا أدنى شيء يؤثر فيها ولهذا وتنبهوا لهذا تشوشه اللحظة واللهفة والشهوة الخفية فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بوده وإلا استحكم وصار طبعا يتعثر عليه قلعه… إلى آخر كلامه رحمه الله وكثير من الناس يغفل عن حقيقة التوحيد فيتصور أن التوحيد هو قول لا إله إلا الله فقط أو أنه الاعتراف بربوبية الله فقط يردد: أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ويجهل شمولية هذه العقيدة جميع جوانب الحياة لذلك ربما تزعزعت عقيدة التوحيد في نفوس كثير من المسلمين ،فلا إله إلا الله في كل صغيرة وكبيرة، لا إله إلا الله في كل حركة وسكنة ،لا إله إلا الله في البيت وفي المسجد وفي الوظيفة وفي الشارع وفي كل مكان ،هنا باختصار يتبين لنا جميعا أثر لا إله إلا الله على نفوسنا يا أهل التوحيد يا أهل التوحيد إليكم أمثلة سريعة على أن العقيدة والتوحيد ربما تتزعزع في قلوب بعض الناس فانظروا مثلا إلى الحلف بغير الله والتوسل والاستعانة بالمخلوقين دون الله بل والاحتكام إلى الأعراف والعادات والتقاليد وتقديمها على حكم الله ورسوله عند البعض من الناس انظروا إلى تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها بل انظروا إلى التشبه بالكافرين في أخلاقهم وعاداتهم السيئة وموالاتهم انظروا إلى لجوء الناس عند الشدائد للأسباب المادية نعم تعلقهم بالأسباب المادية فقط من دون الله عز وجل انظروا لانتشار السحرة والمشعوذين والكهان والعرافين والتمائم والرقى غير الشرعية بل انظروا إلى إدعاء علم الغيب في قراءة الكف والفنجان والتنجيم وعالم الأبراج التي تملأ صفحات بعض المجلات اليوم والإذاعات ،انظروا إلى الاحتفالات بالمناسبات الدينية كالإسراء والمعراج والهجرة النبوية وبدعة المولد وغيرها مما لا أصل له في الشرع انظروا إلى الاستهزاء بالدين ،إلى السخرية بأهله إلى الاستهانة بحرماته وأنه تأخر ورجعية ووصف أهله بالتطرف والتشدد انظروا إلى التمسك بأقوال الرجال ، حتى أصبحت تفوق الكتاب والسنة عند كثير من الناس وللأسف، بل انظروا إلى ضعف اليقين نعم إلى ضعف اليقين بالله وإلى دخول اليأس والقنوط لقلوب كثير من المسلمين انظروا إلى الخوف والرعب مِنْ مَنْ ؟ من المخلوقين عند حدوث الفتن والمصائب انظروا إلى تمجيد الغرب والخوف منه حتى وصف ببعض الصفات الإلهية كالقوة والقدرة وإدارة الكون كما نسمع ونقرأ انظروا إلى نظرة الناس المادية للحياة مما ابتلي به المسلمون اليوم نظرة الناس المادية للحياة تحصيل اللذات والشهوات تعليق أهداف الأمة واهتماماتها بأشياء لا قيمة لها كاللهو والطرب والغناء والمتعة الحرام والله عز وجل يقول (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) هذه من مظاهر زعزعة التوحيد في قلوب الناس وتناقصه والأمثلة كثيرة تلك التي توضح حال عقيدة التوحيد في نفوس المسلمين اليوم(109/1)
ولهذا غفل كثير من الناس عن آثار التوحيد وعن حقيقته بل جهل كثير من المسلمين هذه الآثار فأصبح يردد لا إله إلا الله في اليوم عشرات المرات لكن تعال وانظر تعال وانظر لحاله مع نفسه وأهله وانظر لحال بيته وما فيه وانظر لحاله في البيع والشراء وانظر لأقواله وأفعاله وتصرفاته فلربما ليس للا إله إلا الله أثر في حياته والله المستعان مع أنه مسلم ويردد أن لا إله إلا الله . فيا أمة التوحيد يا أمة التوحيد المراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها؛ الكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلق والكفر بما يعبد من دون الله نعم إفراد الله هذا معنى التوحيد إفراد الله بالتعلق والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله ماذا قالوا كما أخبر الحق عز وجل عنهم (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام من أهل الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار بل يظن أن معنى ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اتخاذ القلب بشيء من المعاني. والحازق اليوم من هؤلاء من ظن أن معناها فقط ألا يخلق لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله هكذا يفهم بعض الناس معنى لا إله إلا الله فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله . لا نعجب أن نجد من الكفار من هم أصحاب مبادئ وعقيدة لكنهم يحترمون عقيدتهم ومبادئهم ويقفون عندها ويختمونها بينما ذلك المسلم ليردد أن لا إله إلا الله لكن ليس لمبدئه ولا لعقيدته شيء من الإخلاص الحقيقي في ذلك ، الناس يتفاوتون في التوحيد ويتفاوتون في فهم معنى هذه الكلمة يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في الفتاوى فإن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها فهم متفاضلون في تحقيقها تفاضلا لا نقدر أن نضبطه انتهى كلامه رحمه الله ويقول تلميذه ابن القيم في طريق الهجرتين فالمسلمون كلهم مشتركون في إتيانهم بشهادة أن لا إله إلا الله وتفاوتهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم بحقها باطلا وظاهرا أمر لا يحصيه إلا الله . انتهى كلامه رحمه الله ويقول أيضا في الداء والدواء فإن من الناس من تكون شهادته ميتة ، انتبهوا يا أحبة إن من الناس من تكون شهادته ميتة ومنهم من تكون نائمة إذا نبهت انتبهت ومنهم من تكون مضطجعة ومنهم من تكون إلى القيام أقرب وهي أي الشهادة في القلب بمنزلة الروح من البدن فروح ميتة وروح مريضة إلى الموت أقرب وروح إلى الحياة أقرب وروح صحيحة قائمة بمصالح البدن إلى آخر كلامه الجميل هناك رحمه الله تعالى. فيا أمة التوحيد أيها الاخوة أيتها الأخوات إن للتوحيد ثماراً عظيمة وآثاراً جميلة ذاق حلاوتها ذلك الصادق في توحيده وحرمها ذلك المسكين الذي لم يعلم حقيقة التوحيد وأثره في الحياة ومن أهم هذه الآثار ولعلي أختصر في بعضها لكثرتها من أهمها:(109/2)
أولا: تحقيق معرفة الله عز وجل تحقيق معرفة الله سبحانه وتعالى وهي من أعظم الآثار لكن قد يقول قائل كيف نعرفه قال ابن القيم في الفوائد وأنقله بتصرف ولهذه المعرفة بابان واسعان وانتبهوا لأن الكثير من المسلمين اليوم لم يؤت بضعفه وفتوره وقلة الآثار التوحيد في نفسه إلا لقلة معرفته بالله حق المعرفة يقول ابن القيم رحمه الله ولهذه المعرفة بابان واسعان الأول التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها والثاني الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها وتفرده بذلك إلى آخر كلامه فمثلا أنت تعرف فلانا وتحبه وتبغضه من خلال اسمه وصفاته وأفعاله ولله المثل الأعلى فالفقه في معاني أسماء الله وصفاته ومقتضياتها وآثارها وما تدل عليه من الجلال والكمال أقرب طريق لمعرفة الله أقرب طريق لمعرفة الله والإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا الواردة في كتابه العزيز الثابتة عن رسوله الأمين من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل بل يجب أن تمر كما جاءت بلا كيد مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة هذا الغائب عند الكثير من المسلمين اليوم مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة هذا عقيدة لأهل السنة والجماعة وكما قيل من كان بالله أعرف كان لله أخوف من كان بالله أعرف كان لله أخوف فيا أيها المسلم الموحد إنك لا تعبد مجهولا، تعبد الواحد الأحد الذي تقرأ أسماءه وصفاته في كل حين في القرآن، في السنة .إن توحيد الأسماء والصفات الذي يردده بعض من المدرسين على أبنائنا وعلى المسلمين بدون فهم بحقيقة هذا التوحيد لهو من أعظم الطرق لمعرفة الله سبحانه وتعالى ؛ فمعرفة الله من خلال أسمائه وصفاته هي نقطة البداية حياة الإنسان البداية الحقة في طريق التوحيد فإذا وفق العبد بهذه المعرفة فقد أوتي خيرا كثيرا واهتدى إلى ربه ووضع قدميه على الطريق الصحيح فمن كان بالله وأسمائه وصفاته أعرف وفيه أرغب وأحب وله أقرب وجد من حلاوة الإيمان في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه ومتى ذاق القلب ذلك متى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حب غيره وكلما ازداد له حبا ازداد له عبودية وذلا وخضوعا ورقا فمثلا نقرأ في القرآن :أن الله سميع وبصير وعليم فهل فكرت يا أخي الحبيب هل فكرت في معانيها وهل لها أثر في نفسك يوم قرأتها في كتاب الله ، السميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، سميع بما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمع سرها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد لا تختلط عليه الأصوات ولا تختلف عليه جميع اللغات القريب والبعيد، السر والعلانية عنده سواء سبحانه وتعالى، وأنت تقرأ القرآن وتتدبره بهذه المعاني يمتلئ القلب ثقة وخوفا وإجلالا لله تعالى ، البصير الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر ويبصر ما تحت الأراضين السبع كما يبصر ما فوق السماوات السبع فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وجميع أعضائها الباطنة وسريان القوت في أعضائها الدقيقة يرى سريان الماء في أغصان الأشجار وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها يري نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك فإذا علمت أنه يرى ذلك بهذه الصفة امتلأ قلبك إجلالا وهيبة من الله وتحقق في النفس مبدأ عظيم مبدأ المراقبة لله سبحانه وتعالى
يا من يرى مد البعوض جناحها
في ظلمة الليل البهيم الأَلْيَلِ
ويري مناط عروقها في صدرها
والمخ في تلك العِظَام النُّحَلِ
امنن عليّ بتوبة تمحو بها ما
كان مني في الزمان الأولِ
وكذلك في جميع أسماء الله وصفاته العزيز الجبار العليم الخبير القدير هكذا يكون لتوحيد الأسماء والصفات أثر عجيب في نفوسنا نعم يا أخي إن علمنا بالله ومعرفتنا به يصلنا بالله ويزكي نفوسنا ويصلحها وهذا هو الطريق الذي أضاعه الكثير من المسلمين اليوم أيها المسلم إن الله عز وجل يقول (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) وأنا أسمعك تدعو الله وتتوسل إليه بأسمائه وصفاته لكن وأنت تردد هذه الأسماء وهذه الصفات هل تستشعر معانيها هل تفهم مقاصدها إنك إن فعلت هذا تزداد تعلقا بالله وحبا وهيبة وإجلالا له ولذلك أثر كبير على القلب بل والله له أثر كبير على استجابة الدعاء وقبوله فلنعلم حقيقة توحيد الأسماء والصفات كيف يكون نتعرف على الله عز وجل حق المعرفة من خلاله .(109/3)
الأثر الثاني من آثار التوحيد في النفس راحة النفس الموحدة واطمئنانها وسعادتها فهي لا تقبل الأوامر إلا من واحد ولا تمتثل للنواهي إلا من واحد وبهذا راحة للنفس ولذلك ترتاح النفس وتطمئن ويسكن القلب ويهدأ ومن المعلوم لكل عاقل أن النفس لا تحتمل الأوامر من جهات متعددة فلا يعقل أن يكون للعبد أكثر من سيد ولا للعامل أكثر من كفيل وإلا عندها سيقع ضحية لأهوائهم فكل يأمر وكل ينهى وعندها لا يدري ماذا يعمل فيصبح القلب شذر مدر وفي هم وغم لا يدري من يرضي قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا كما قال تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فسادا لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود منه ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه ويرجوه ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه انتهى كلامه رحمه الله ، إذاً فلا يأمل إلا لله الموحد لا يأمل إلا لله ولا يحب إلا لله ولا يغضب إلا لله ولا يكره إلا لله وهنا يشعر القلب بالراحة والسعادة فهو مطالب بإرضاء الله ولو غضب عليه أهل الأرض قاطبة هذه هي حقيقة التوحيد بل هذا هو الإخلاص لله في كل شيء (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) هل سألنا أنفسنا هل سألنا أنفسنا يوما من الأيام ما هو هدفنا في الحياة لماذا خلقنا ؟ كثير من المسلمين اليوم من يتلفظ بلا إله إلا الله لو سئل عن هدفه في الحياة ربما لم يجب وربما أجاب لكنها إجابة فيها تردد وحيرة ربما تذكر تلك الأسئلة التي درسها يوم أن كان صغيرا في المراحل التعليمية الأولي لماذا خلقنا الله فكانت الإجابة خلقنا الله لعبادته وما هو الدليل (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وما هو تعريف العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة أظننا لا نجهل هذا ، الكبير منا والصغير يعرفه الذكر والأنثى تعلمه بل حفظه عن ظهر قلب العجيب أن الكثير من الناس لا يفكر في هذه الكلمات التي حفظها وقرأها ورددها يوم أن كان صغيرا بل لم يفهم معناها وإن فهم معناها لم يعمل بمقتضاها لماذا يا أحبة لماذا الفصل بين العلم والعمل لماذا الفصل بين العلم والعمل فالعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. في حياتنا ندرس ونقرأ ونسمع فإذا خرجنا من مدارسنا أو من مساجدنا تغيرت الأحوال وتركنا العلم جانبا وحكمنا الأهواء والمصالح الشخصية والله المستعان أيها الأخ الله عز وجل يقول (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) أي أن هدفك في الحياة هو عبادة الله عز وجل تلك العبادة التي أخطأ كثير من المسلمين اليوم في فهمها ولذلك ربما يقول قائل الله عز وجل يريد منا دائما إذاً أن نركع ونسجد فقط وأن نصلي ونصوم فقط وأن نحج ونقرأ القرآن فقط هذه هي الحياة هكذا تريدون منا لماذا ؟ لأنهم فهموا الحياة على أنها فقط أو أن العبادة على أنها فقط مقيدة بتلك العبادات الأربعة المشهورة عند الناس كالصلاة والصيام والحج والزكاة هكذا يفهم بعض المسلمين الإسلام أيها المحب ليس هذا هو مفهوم العبادة التي يريدها الله عز وجل منا فنحن نردد أن العبادة كما أسلفنا اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة على الجوارح الباطنة في القلب إذاً فكل فعل وكل قول وكل حركة وكل سكون في حياتك هي عبادة لله جل وعلا بشرط أن يحبها الله ويرضاها أن تكون خالصة لله وكما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا هو هدف المسلم في الحياة هدف المسلم في الحياة رضا الله رضا الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة وفي كل حركة وسكون فإذا اتضح الهدف للمسلم ارتاح قلبه واطمأنت نفسه وشعر بالسعادة لأنه يعيش من أجل هدفٍ سامٍ وغاية واضحة ومبدأ عظيم هو رضا الله وبهذا المفهوم الصحيح للعبادة فكل شيء في الحياة مع النية الخالصة لله عبادة يؤجر عليها العبد ولو أردنا أن نأخذ الأمثلة لطال بنا المقام ولكن خذوا على سبيل المثال يقول النبي صلى الله عليه وسلم "وفي بضع أحدكم صدقة "إذاً وأنت تقضي وترك وشهوتك تؤجر عليها وإن لأهلك عليك حقا وأنت تجالس أهلك وأولادك وتقضي شأنهم وتعولهم تؤجر. حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك وأنت تسعى لكسب الرزق لأولادك إذاً تؤجر، ابتسامتك في وجه أخيك صدقة ، بل حتى النوم النوم تؤجر عليه بشرط أن يكون ذلك النوم على هيئة يرضاها الله عز وجل ألم يقل بعض السلف إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. إذا عشت بمثل هذا المفهوم تشعر بالاطمئنان والسعادة والراحة لأن كل حياتك ترضي الله عز وجل فتؤجر عليها يوم تقدم على الله وكل صغيرة وكبيرة قد كتبت وسجلت في حسناتك الله أكبر ما أحلى هذه الحياة ما أحلى الدنيا في همومها وغمومها إذا عاش المسلم بمثل هذا المفهوم الواضح البين في حياته حتى الهم سبحان الله في حياة(109/4)
المسلم الموحد الصادق حتى الهم حتى المرض حتى التعب يؤجر عليها إذا كانت في رضا الله عز وجل ألم يقل الحبيب صلى الله عليه وسلم "ما من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها المسلم إلا كفر الله بها من خطاياه" لا إله إلا الله لا إله إلا الله ما أحلاها في حياتنا قولا وعملا لا كما يريد أعداء الله عز وجل أن يصوروها للناس أنها في المسجد فقط وأنها في شهر رمضان وموسم الحج فقط أما ما عداه فلا ولذلك ربما سمعنا من بعض المسلمين وللأسف كلمة أو عبارة يقول أَدْخَلُوا الدين في كل شيء أَدْخَلُوا الدين في كل شيء ونقول له ولأمثاله نعم الدين في كل شيء ونحن مسلمون والإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص له من الشرك حفظناها أيضا يوم أن كنا صغارا ، تسليم واستسلام لله تعالى في كل شئون حياتنا لا حرية لك إلا في حدود الشريعة لا حرية لك بلباسك ولا بقولك ولا ببيعك ولا بشرائك ولا بذهابك ولا بمجيئك إلا بهذه الحدود ، نعم أيتها المسلمة الإسلام حقيقة يضبط حتى لباسك وفعلك وصفتك ، إذا رضى الله عز وجل عن هذا الفعل وعن هذه الصفة فتوكلي على الله هنا تتضح حقيقة الإسلام أن تستسلم لله عز وجل إلا والعياذ بالله لو قال قائل أنه خرج عن الإسلام نقول له افعل ما أردت بالحرية المزعومة التي ينادي بها كثير من الناس اليوم كما قال تعالى للمشركين الذين تمردوا على دينه وشرعه مهددا لهم (قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه)، فاعبدوا ما شئتم من دونه؛ هناك يوم للحساب وللجزاء لا يمكن أن يغفل عنه الموحد أبدا أما أنت أيها المسلم فلك حرية لكن في حدود الشريعة فأنت أسلمت وجهك لله وخضعت لدين الله فعليك أن تلتزم الأوامر وتجتنب النواهي كما يريد الله سبحانه وتعالى قلت بلسانك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا نبيا فلماذا أراك تخالف هذا الرضا في فعلك وحياتك والله المستعان يا ليتنا يا ليتنا نردد هذا المفهوم الصحيح للعبادة على نسائنا وصغارنا وعلى طلابنا وزملائنا بل على كل من نقابل مسلما كان أو كافرا لماذا نردد ذلك للجميع؛ لتتضح حقيقة هذا الدين لتتضح حقيقة هذا الدين ويسره وسهولته وسعته وفضل الله عز وجل علينا والله اسمعوها يا أحبة والله ثم والله لو عاش المسلمون بهذا المفهوم لما كان هناك انفصام في شخصية كثير من المسلمين يأتي للمسجد يركع ويسجد وربما بكى وسالت الدمعة على الخد خوفا من الله بل ربما كان في الصف الأول لكن تعال وانظر لبيعه وشرائه وانظر لتعامله في الربا تعال وانظر للسانه تعال وانظر لبيته وما فيه من وسائل الفساد تعال وانظر لتلك المرأة في لباسها وفعلها وتبرجها يا سبحان الله أين أثر التوحيد وحقيقة التوحيد في نفوسنا بل إن للتوحيد أثرا عجيبا في سعادة الزوجين في حياتهما نعم والله هذا سر من أسرار الحياة الزوجية للتوحيد أثر عجيب في سعادة الزوجين في حياتهما فالقاعدة الأساسية للبيت السعيد أهلا وسهلا بما يرضي الله وبعدا وسخطا لما يغضب الله فلو صار البيت على هذه القاعدة لوجد والله السعادة والراحة يتفق الزوجان على هذه القاعدة الجميلة فكل ما يرضي الله فأهلا وسهلا به في بيتنا وكل ما يغضب الله فبعدا له وسخطا لأنه يغضب الله يا أهل التوحيد لنحقق التوحيد كما يريده الله سبحانه وتعالى في نفوسنا لنراجع أنفسنا ونحاسب أنفسنا أين أثر التوحيد في نفوسنا لماذا بدأ يتناقص لماذا بدأ يتناقص ويتراجع ويظهر هذا النقص وهذا التراجع على بعض المسلمين الموحدين اليوم وللأسف نسأل الله عز وجل أن يحيينا حياة طيبة وأن يميتنا على التوحيد وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله؛ ذلك من أثر التوحيد تواضع النفس الموحدة وخوفها وانكسارها لخالقها بل وافتقارها إليه سبحانه وتعالى لماذا ؛لشعورها أنها في حاجة إليه في كل لحظة فهو مالكها وهو مدبرها مما يزيد العبد افتقارا والتجاءً إليه عز وجل ويزيده ترفعا عن المخلوقين ومما في أيديهم فالمخلوق ضعيف فقير عاجز أمام قدرة الحق عز وجل الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون هنا يشعر الموحد يشعر الموحد بأنه يأوي إلى ركن شديد وأنه في سعادة عظيمة كيف لا وهو يشعر بذله وانكساره وافتقاره وعبوديته لملك الملوك ، الكثير من أهل التوحيد غفل اليوم عن هذا الأثر الافتقار والانكسار أيها الإخوة أيها المسلمون بل أيها المسلمون المستقيمون إننا ضعفاء ومساكين لا حول لنا ولا قوة والله بأنفسنا إلا بربنا جل وعلا، إلا بالواحد الأحد فمن منا جعل له ساعة يخلو فيها مع ربه من منا جعل له ساعة يخلو فيها مع ربه يعترف له بضعفه وذله وفقره يرفع يديه يناجي ربه بتواضع فالنفس منكسرة منكسرة لله القلب يخفق العين تدمع اللسان يلهج فيقول
أنت الذي صورتني وخلقتني
... وهديتني لشرائع الإيمان
أنت الذي علمتني ورحمتني
... وجعلت صدري واعي القرآن
أنت الذي أطعمتني وسقيتني(109/5)
... من غير كسب ولا دكان
وجبرتني وسترتني ونصرتني
... وغمرتني بالفضل والإحسان
أنت الذي آويتني وحبوتني
... وهديتني من حيرة الخذلان
وزرعت لي بين القلوب مودة
... والعطف منك برحمة وحنان
ونشرت لي في العالمين محاسنا
... وسترت عن أبصارهم عصياني
وجعلت مثلي في البرية شائعا
... حتى جعلت جميعهم إخواني
والله لو علموا قبيح سريرتي
... لأبى عليّ السلام من يلقاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي
... ولبؤت بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي
... وحلمت عن سخطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها
... بخواطري وجوارحي ولساني
ولقد مننت عليّ ربي بأنعم
... مالي بشقه أقلهن يدامي
هذه الثمرة أيها الاخوة والأخوات هذه الثمرة من أعظم ثمرات التوحيد على النفوس حرمها الكثير منا فراحة النفس وسعادة القلب والله الذي لا إله غيره راحة النفس وسعادة القلب في الذل والانكسار للخالق سبحانه وتعالى والافتقار إليه والانكسار بين يديه فلنلجأ إلى الله عز وجل لنلجأ إلى الله لنعلن ضعف أنفسنا لله وحده هنا سيشعر الموحد بالقوة العجيبة وبالصبر والثبات لأنه يعلم أنه يأوي إلى الذي بيده ملكوت السماوات والأرض الذي يدفعه ويحوطه ويحفظه كما سيأتي من آثار التوحيد إن شاء الله.(109/6)
رابعا: من آثار التوحيد اليقين والثقة بالله عز وجل فصاحب التوحيد على يقين من ربه مصدق بآياته مؤمن بوعده ووعيده كأنه يراه رأي العين فهو واثق بالله متوكل عليه راض بقضائه وقدره محتسب الأجر والثواب منه .النفس الموحدة تمتلئ بالطمأنينة والسكينة حتى في أشد المواقف وأصعبها ألم نقرأ في القرآن (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) يقول ابن تيميه رحمه الله :والناس وإن كانوا يقولون بألسنتهم لا إله إلا الله فقول العبد لها مخلصا من قلبه له حقيقة أخرى ما هذه الحقيقة ؟ يقول تلميذه ابن القيم يقول عن شيخ الإسلام ذلك الذي ذاق هذه الحقيقة كما نحسبه والله حسيبه يقول: وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا وأسرهم نفسا تلوح نظرة النعيم على وجهه وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم بطلبها والمسابقة إليها إلى آخر كلامه رحمه الله هكذا النفس الموحدة مهما أصابها في الدنيا ومهما كانت الابتلاءات والامتحانات مهما كانت الشدائد على مثال تلك النفس فإنها تعلم أنها قد تجزى بسيئاتها في الدنيا في المصائب التي تصيبها ولذلك لما سأل [أبو بكر] النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) قال أبو بكر يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم "يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به نعمة الله على عباده "إذاً فما يصبك أيها الموحد من بلاء أو مرض أو نصب أو تعب فإنك مأجور مخلوف فإنك مأجور مخلوف عند الله سبحانه وتعالى؟ التوحيد يسليك عند المصائب ويهون عليك الآلام وبحسب مقدار ما في القلب من لا إله إلا الله يكون الصبر والتسليم والرضا بأقدار الله سبحانه وتعالى المؤلمة يقول :ابن القيم رحمه الله كلاما جميلا في إغاثة اللهفان يقول: إن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" إذاً فهذا الابتلاء والامتحان منك ما لنصره وعزه وعافيته إلى آخر كلامه رحمه الله من آثار التوحيد أيضا اليقين بنصرة الله وتحقيق وعده فقد تكفل الله لأهل التوحيد بالفتح والنصر والعزة والشرف كما قال تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) هذا هو الشرط ؛التوحيد يعبدونني لا يشركون بي شيئا (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) ومن آثار التوحيد أيضا الأثر الخامس تفريج الكربات التوحيد الخالص هو السبب الأعجب في الدنيا والآخرة وقصة يونس عليه السلام من الأدلة على ذلك قال تعالى (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات) بماذا نادى بماذا استغاث بماذا لجأ، بكلمة التوحيد (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فماذا كانت النتيجة (فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) بل حتى المشركين يعلمون أن في التوحيد تفريجا للكربات قال الله تعالى (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) يقول الإمام [محمد بن عبد الوهاب] رحمه الله تعالى في القواعد الأربع يقول وانتبهوا لهذا الكلام القاعدة الرابعة أن مشرك زماننا أغلظ شركا من الأولين لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة ومشركو زماننا فشركهم دائم في الرخاء والشدة. انتهي كلامه رحمه الله ، إلى أن قال أي –ابن القيم- رحمه الله فما دفعت شدائد الدنيا انتبهوا يا أهل المصاعب والآلام والأحزان فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد ولذلك كان دعاء الكرب في التوحيد ودعوة المؤمن التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه في التوحيد فلا يلقي في الكرب العظام إلا الشرك ولا ينجي منها إلا التوحيد فهذا مفزع الخليقة وملجأها وحصنها وبياتها وبالله التوفيق….. إلى آخر كلامه رحمه الله0(109/7)
سادسا: من الآثار أيضا الحزم والجد في الأمور نعم الحزم والجد في الأمور فإن الموحد جاد حازم لأنه عرف هدفه وعرف لماذا خُلِق وما المطلوب منه وهو توحيد الله عز وجل والدعوة إليه فلذلك حرص على عمره فاستغل كل يوم وشهر بل والله استغل كل ساعة في عمره فلا يفوت فرصة للعمل الصالح إلا واستغلها ولا يفوت شيئا فيه رجاء الله إلا وحرص عليه ولا يرى موقع الإثم إلا وابتعد عنه خوفا من العقاب لأنه يعلم أن من أسس التوحيد الإيمان بالبعث والجزاء على الأعمال والله عز وجل يقول( ولكل درجات مما عملوا) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الغاية أي على الحزم والجد والقوة فقال صلى الله عليه وسلم "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل الخير احرص على ما ينفعك واستعن بالله وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح باب الشيطان" أخرجه مسلم في صحيحه لكن شتان بين المؤمن الجاد الحازم الذي يستغل اللحظات ويقضي العمر برضا الله عز وجل وبالعمل الصالح وبين المؤمن الضعيف الذي يصارع النفس والشهوات ومغريات الحياة نعم ابتلي الكثير الكثير من المسلمين اليوم بل حتى من الصالحين ابتلوا بمصارعة النفس والشهوات هكذا المؤمن بين أمرين بين رضا الله وثوابه وبين الدنيا وشهواتها وتنبهوا كلما ضعف أحدهما قوي الآخر واشتد ، أيها الموحد كن جادا حازما فأنت صاحب عقيدة تحمل همها في الليل والنهار وفي اليقظة والمنام هكذا المسلم إن حزن فللتوحيد وإن ابتسم فلتوحيده وإن أحب فلعقيدته وإن أبغض فلعقيدته وإن ذهب فلها وإن جاء فلها حياته كلها جد وعمل فهي وقف لله تعالى ،أثر آخر من آثار التوحيد ، التوحيد هو الذي يحرر النفوس من رق المخلوقين ومن التعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم وهذا والله هو العز الحقيقي والشرف العالي فيكون بذلك متألها متعبدا لله فما يرجو سواه ولا يخشى غيره ولا ينيب إلا إليه ولا يتوكل إلا عليه وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه فإن العبودية لله عز ورفعة والعبودية لغير الله ذل ومهانة فيا عجبا يا عجبا ممن يخاف من المخلوقين كالسحرة والمشعوذين وغيرهم ويحسب لهم حسابا فيطلب ربما عطاءهم ويلجأ إليهم ويخاف منعهم وقد شرع له أن يردد بعد كل صلاة اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت أين حقيقة التوحيد أين حقيقة هذه الكلمة يرددها كثير من المسلمين بعد كل صلاة لكن ربما بدون تدبر لمعناها ولا عمل بمقتضاها واسمع لهذا الكلام الجميل من شيخ الإسلام رحمه الله يقول :المشرك يخاف المخلوقين ويرجوهم فيحصل له رعب كما قال تعالى (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) أما الخالص الخالص من الشرك يحصل له الأمن كما قال تعالى (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك كما في الحديث0 انتهى كلامه فكان من آثار التوحيد إذاً القوة والشجاعة واسمع لهذا المثل العجيب قال الله تعالى (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز) وأذكر لكم مثلا واحدا لعزة المسلمين يوم أن تعلقوا بالله ولم يخافوا إلا الله ذكر [جبيل بن شدة] فقال ندبنا [عمر] واستعمل علينا [النعمان بن مقرن] حتى إذا كنا بأرض العدو خرج علينا عامل [كسرى] في أربعين ألفا فقام فقال ليكلمني رجل منكم ليكلمني رجل منكم وفي رواية [للطبري] أن كسرى قال له إنكم معشر العرب أطول الناس جوعا وأبعدهم وأبعد الناس من كل خير وما منعني أن آمر هؤلاء الأساور أن ينتظموكم بالنشاب أي يقتلوكم إلا تنجس لجيفكم إلا تنجس لجيفكم فقال [المغيرة] رضي الله تعالى عنه ما أخطأت شيئا من حقنا نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد وبلاء شديد نمص الجلد والنوى من الجوع ونلبس الوبر والشعر ونعبد الشجر والحجر فبينما نحن كذلك إذ بعث رب السماوات ورب الأراضين تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبيا من أنفسنا نعرف أباه وأمه فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية وأخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم يُري مثله قط ومن بقي منا ملك رقابكم 0هكذا يكون التوحيد الخالص عزة ورفعة وثقة بالله وقوة في الدين والعقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله فإن المخلص لله ذاق ، المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه من محبته لغيره ، إذ ليس عند القلب أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن لعبوديته لله ومحبته له وإخلاصه الدين له… انتهى كلامه رحمه الله .(109/8)
ثامنا: من آثار التوحيد أيضا في النفوس أنه يسهل عليها فعل الخيرات وترك المنكرات ، المخلص في توحيده تخف عليه الطاعات لما يرجوه من الثواب ويهون عليه ترك المنكرات وما تهواه نفسه من المعاصي لما يخشى من سخط الله وأليم عقابه وكلما حقق العبد الإخلاص في قول لا إله إلا الله خرج من قلبه تأله ما يهواه وتصرف عنه المعاصي والذنوب نعم إذا صدق العبد في توحيده ؛ صرف عنه الكثير من الذنوب والمعاصي ألم يقل الحق عز وجل في القرآن (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) فلعل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عبادنا المخلصين ويقول الحق عز وجل (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) فالمسلم بقدر ما في نفسه من التوحيد يكون إقدامه وحرصه على فعل الخيرات والعكس بالعكس ، لما عدم تحقيق التوحيد في قلوبهم أي في قلوب المنافقين ثقلت عليهم الطاعات وكرهوها كما أخبر الله عز وجل عنهم في القرآن واسمع لـ ابن القيم رحمه الله يقول في مدارج السالكين كلاما جميلا يقول: اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه فلها نور وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى فمن الناس من الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس نسأل الله الكريم من فضله ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم وآخر كالسراج المضيء وآخر كالسراج الضعيف ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار وبحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علما وعملا ومعرفة وحالا وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أَحْرَقَ مِن الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، انتهى كلامه رحمه الله فأهمس في أذن أولئك العاجزين هذه الكلمات إلى أسرى الذنوب والشهوات والمعاصي الذين إذا ذكروا تعللوا بالمشقة والعجز فإذا قيل لأحدهم اترك يا أخي تلك المعصية قالوا والله ما استطعت. أقول لألئك كما يقول ابن القيم رحمه الله إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله أما من تركها صادقا مخلصا من قلبه لله فإنه لا يجد من تركها مشقة إلا في أول وهلة ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب.. انتهى كلامه رحمه الله 0(109/9)
تاسعا: من آثار التوحيد أنه ينير القلب ، القلب يستنير بنور التوحيد ويشرح الصدر ويجعل للحياة معنى وحلاوة بل أن لا إله إلا الله إذا خرجت من قلبٍ صادق تقلب الحياة رأسا على عقب تعال يا أخي الكريم تجعل النفس من لا شيء إلى كل شيء انظر لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله تعالى عليهم وخاصة الموالي هذا [بلال] عبد حبشي ليس له من الأمر شيء فأصبح بلال أصبح بلال بلا إله إلا الله المؤذن الأول ورجل من أهل الجنة وسيد من سادات الإسلام تهتز له القلوب ذكر عمر قبل أبي بكر فجعل يصف مناقبه ثم قال وهذا سيدنا بلال حسنة من حسناته سبحان الله بأي شيء أرتفع ووصل بلال إلى هذه المرتبة بلا إله إلا الله بكلمة التوحيد تلك الكلمة التي وقرت في قلبه التي كان يعبر عنها بقوله أَحَدٌ أَحَدْ وهو يسحب على رمضاء مكة فكان يقول عندما يسأل عن شدة العذاب وتحمله كان يقول واسمعوا لكلمته الجميلة كان يقول رضي الله تعالى عنه كان عندي حلاوة الإيمان ومرارة العذاب فامتزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان فاستعذبت العذاب في ذات الله ، سبحان الله كان مولى من الموالي فلما آمن بالله وقف في وجه أسياد مكة يتحداهم بلا إله إلا الله فرضي الله تعالى عنه وأرضاه يوم أن نصر ذلك العبد ورفع اسمه وأعلى مكانته -سبحان الله -بلا إله إلا الله وانظروا أيضا لحال عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه من ينظر في سيرته ألم يتقلد سيفه كما في بعض السير ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم امتلأ قلبه حقدا وبغضا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه وإذا به لحظات فيشهد أن لا إله إلا الله ؛ فينقلب ذلك القلب ويتغير الحال فيا سبحانه مقلب القلوب يصبح الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من كل شيء بل حتى من نفسه كما قال ويتحول ذلك القلب القاسي المتجبر إلى قلب لين رقيق كثير الخشية والبكاء ومن لا شيء إلى ثاني رجل بعد أبي بكر رضي الله تعالى عنهما؛ إنها شمس التوحيد إنها شمس التوحيد لامست شغاف القلوب فتجلت بها ظلمات النفس والطبع وحركت الهمم والعزائم عاشرا من آثار التوحيد في النفوس حفظ هذه النفوس ، أيها الإخوة بِمَ حفظت دماؤنا وبِمَ حفظت أعراضنا وأموالنا إلا بكلمة التوحيد لا إله إلا الله قال النبي صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إذاً فمن قال هذه الكلمة حرم ماله ودمه فقد قال صلى الله عليه وسلم "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" كما في صحيح مسلم بل اسمع لهذا الموقف العجيب أخرجه [مسلم] في صحيحه من حديث [أسامة بن زيد] رضي الله تعالى عنهما قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا <الطرقات> وهي موضع في بلاد جهينة قال فأدركت رجلا فقال لا إله إلا الله ـ أي مشركا ـ فقال لا إله إلا الله قال أسامة فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله أقال لا إله إلا الله وقتلته قال أسامة يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا قال فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ" بماذا حفظت بماذا حفظت هذه النفس ؛ بتوحيد الله بالتوحيد بلا إله إلا الله ولذلك ترجم [النووي] لهذا الحديث فقال باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله.(109/10)
الحادي عشر من آثار ، الإنصاف وتربية النفس على العدل فمن أظلم الظلم يا أحبة أن يكون الله هو الذي أوجدك فيخلق ويحسن الخلق وينعم ويحسن الإنعام ويتفضل سبحانه عليك بكل شيء وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ثم بعد ذلك كله نقابل ذلك بالنكران والجحود فنجعل له ندا نمتثل لأمره ونحبه من دون الله بل نخافه من دون الله ونرجوه أو نرجوا عنده الشفاء بل ربما صرف له شيء من العبادة من دون الله فأين من يعبد الحجر وأين من يطوف بالقبر وأين من يتوسل بالضعفاء والمساكين بل أين من يذهب للسحرة والمشعوذين بل أين من ملكت الدنيا قلبه سبحان الله، الذل والانكسار لأمثال هؤلاء الطواف وصرف الأموال واللجاءة والاستغاثات لهؤلاء وتنصرف عن الخالق سبحانه وتعالى الذي أنعم وقدر وخلق وأحسن وتفضل عليك أليس هذا هو الظلم العظيم هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ولذلك كان أعظم ذنب عصي الله به هو الشرك بالله (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) وكما قال الحق عز وجل (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وفي بعض الآثار الإلهية أن الله عز وجل قال" إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي خيري على العباد نازل وشرهم إليَّ صاعد أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إليَّ بالمعاصي" هذا واقع كثير من المسلمين للأسف ولا حول ولا قوة إلا بالله فانظر لمن تعلق قلبه بالمال انظر لمن تعلق قلبه بالقبور وبالأشجار والأحجار انظر لمن تعلق قلبه بالنساء والشهوة وانظر لمن تعلق قلبه بالأمور والشهوات كالمتعة الحرام والغناء والرياضة وغير ذلك حتى أصبحت أو ملكت قلبه والله المستعان انظر لمن تعلق قلبه بالصور ربما أصبحت مثل تلك هذه الوسائل أصنام تعبد من دون الله ليس شرطاً أن يسجد لها وأن يركع فهو يخفق لها ويفرح لها ويبكي لها ويحب لها ويعادي لها ويبغض لها أليست هذه صور من صور الشرك والله المستعان ولله در ابن القيم رحمه الله ، يقول في المدارج: فلا إله إلا الله كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة .(109/11)
الثاني عشر: من الآثار في آثار التوحيد في النفوس زوال الحيرة والتردد عند الإنسان وهذا مما ابتلي به الكثير من المسلمين اليوم القلق ، الحيرة ، التردد ، الهم الاكتئاب النفسي وانظروا في العيادة النفسية لتروا الدليل على ذلك كلما كان الإنسان موحدا مخلصا لله منيب إليه كلما كان أكثر اطمئنانا وراحة وسعادة وكلما كان الإنسان بعيدا عن الله كلما كان أكثر حيرة وضلالا وترددا اقرأ إن شئت قول الحق عز وجل (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين) نقل [ابن كثير] في التفسير قال عن [ابن عباس] قال هو الذي لا يستجيب إلى هدى الله وهو رجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وحاد عن الحق وضل عنه وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ويزعمون أن الذي يأمرونه به هو الهدى انتهى إلى آخر كلامه رحمه الله لكن الهدى هدى الله فأهل التوحيد أكثر الناس برا ويقينا وطمأنينة وإيمانا وأبعدهم عن الحيرة والانفراد والتخبط والتنافر أما الكفار أما أهل البدع والخرافات فلا تسلهم بؤسهم وشقاهم فالحيرة والقلق واليأس والفراغ الملل والضيق الاكتئاب كلمات تتردد كثيراً في كتاباتهم ومؤلفاتهم وعلى ألسنتهم بل وفي حياتهم وواقعهم وما ذلك الشباب والله ما ذلك الشباب الضائع الذي يعيش حياة البهائم وقد دمر نفسه بالمخدرات والجنس والعنف والشذوذ والجرائم والانتحار إلا من الدلائل والبراهين لتلك الحيرة وذلك التخبط والضلال الذي مزق الإنسان هناك في بلاد الكفر والخرافات والبدع بل إن من أبناء المسلمين وللأسف من وقع فريسة لهذه الأفكار والتصورات نعم انطفأت شعلة التوحيد في نفوسهم فامتلأت حيرة وشكا واضطرابا وترددا ؛ فهي تبحث عن السعادة تبحث عن النور تبحث عن الحق وليس ذلك والله ليس ذلك والله إلا بتوحيد الله؛ بالتوحيد الخالص لله بالتوحيد تعرف من أنت من أين أتيت لماذا أتيت ماذا يريد الله منك ولولا الله ما كنت موجودا في الوجود (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك) بالتوحيد تعلم أنه خالق الكون وموجد هذه النعم سخرها لسعادتك وراحتك فلا يمكن أبدا لا يمكن أبدا أن توجد الشمس أو القمر أو النجوم كل هذه الأمور مسخرات لنعمتك مسخرات لك أنت أيها العبد فلا يمكن أبداً أن توجد هذه المخلوقات نفسها ولا أن توجد صدفة فتعين إذاً أن يكون لها موجد وهو الله رب العالمين ولهذا لَمَّا سمع [جبير ابن مطعم] رضي الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صورة الطور فبلغ هذه الآيات (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون) قال جبير وكان مشركا يومئذ قال كاد قلبي أن يطير كاد قلبي أن يطير وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي والحديث رواه [البخاري] فدعوة لأحبابنا وإخواننا أولئك الذين أصابتهم الحيرة والتردد ، دعوة إلى أن ينظروا في حولهم أو من حولهم ويتفكروا في خلق الله وفي قدرة الله وهذا الكون العجيب فيجد الراحة والسعادة بتوحيد الله عز وجل ولا يمكن أبداً أن يكون ذلك إلا إذا كان هدفك أيها المسلم هو رضا الله لا رضا غيره أما الحائرون المترددون الغافلون الضائعون فيعبر عن ضياعهم أحدهم في قصيدة له سماها طلاسم وهي طلاسم تسجل أفكار الضائعين وخواطرهم وقلقهم وحيرتهم واضطرابهم وتورد نماذج لسؤالهم واستفساراتهم يقول فيها:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت طريقا قدامي فمضيت
وسأبقي سائرا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقي
لست أدري …
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود
هل أنا حر في الطريق أم أَسِيرٌ في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمني أنني أدري ولكن لست أدري
وطريقي ما طريقي أطويل أم قصير
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور
أنا سائر في الدرب أم الدرب يسير
أم كلانا واقف والدهر يجري
لست أدري
إلى أن قال:
ألهذا اللغز حلٌ أم سيبقي أبديا
لست أدري
ولماذا لست أدري؟ لست أدري
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور
فحياة فخلود أم فناء فدسور
أكلام الناس صدق أم كلام الناس زور
أصحيح أن بعض الناس يدري
لست أدري(109/12)
هذه الأسئلة التي أثارها في قصيدته هي أسئلة يرددها المحرومون من نعمة الإيمان الفاقدون حلاوة التوحيد وأنسه وطعمه ورائحته أما هذه الأسئلة عند الموحدين عند المؤمنين فلا تقلقهم بفضل الله تعالى ومنته؛ فبدينه الإجابات المفصلة عليها وفي قرآننا وفي أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام الكلام اليقيني الصحيح الصادق عنها فهذه الأسئلة ليست طلاسم في تصور المسلم الموحد وتفكيره وشعوره بل على العكس هذه الأسئلة وإجاباتها هي مصدر اطمئنان المسلم وثباته وسعادته وراحته بل هي والله التي تحرك مشاعره وتجري مدامعه وتزيده استقامة وتوحيدا فلا قلق في النفس ولا اضطراب في الفكر فالمنهج واحد والمبدأ واضح ثابت لا يتغير فأنا أعلم من خلقني ولماذا خلقني وإلى أين سأذهب كل هذه أسئلة مصدرها اطمئنان المسلم أو مصدر اطمئنان المسلم وراحته ولله در شيخ الإسلام ابن تيميه وهو يقول: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية ويقول أيضا إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، نسأل الله الكريم من فضله.
أخيرا ومن آثار التوحيد في النفوس جمع كلمة المسلمين الموحدين وتوحيد صفوفهم جمع الله بالتوحيد القلوب المشتتة والأهواء المتفرقة فما اتحد المسلمون وما اجتمعت كلمتهم إلا بالتوحيد وما تفرقوا واختلفوا إلا لبعدهم والله عنه؛ فربهم واحد ودينهم واحد ونبيهم واحد وقبلتهم واحدة ودعوتهم واحدة هي لا إله إلا الله ولا معبود بحق إلا الله أهل التوحيد لا يختلفون في أصول الدين وقواعد الاعتقاد يرون السمع والطاعة لولاة أنفسهم ولولاة أمورهم بالمعروف ما لم يأمروا بمعصية ولا يجوز الخروج عليهم وإن جاروا إلا أن يرى منهم كفر بواح عليه من الله برهان ، أهل التوحيد تتفق في الغالب وجهات نظرهم وردود أفعالهم مهما تباعدت الأمصار والآثار فالمصدر واحد.
ومن آثار التوحيد أيضا جود نفوس الموحدين بالمال والنفس في سبيل الله ونصرة دينه؛ فأمة التوحيد أمة قوية تبذل كل غال ونفيس من أجل دينها وعقيدتها وتثبيت دعائمه غير مبالية بما يصيبها في سبيل ذلك يقول الحق عز وجل (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) لم يدخلهم شك ولا ريب ولا خوف ولا يأس ولا قنوط في حقيقة توحيدهم وعقيدتهم بل في حقيقة نصرة الله لهم (ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) ، الصادقون في قول لا إله إلا الله أهل التوحيد أمة واحدة يأمرهم ربهم بقوله (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) أسألكم بالله أسألك بالله أيها الموحد أيتها الموحدة هل جعلت نفسك ومالك وولدك وكل ما تملك في خدمة هذه العقيدة في سبيل لا إله إلا الله ماذا قدمت لدينك وعقيدتك ماذا قدمت لهذا المبدأ العظيم نعجب ونتحسر يوم أن يضحي الكافر من أجل دينه وعقيدته وهو على باطل ويوم أن يفتر ويهمل ذلك المسلم من أجل عقيدته وتوحيده وهو على حق إنما المؤمنون إنما المؤمنون أولئك هم الصادقون في توحيدهم وفي قولهم لا إله إلا الله لا يستطيع ذلك إلا من ذاق طعم الإيمان وتحقق التوحيد صادقا من قلبه مثال واحد أسوقه لكم والأمثلة كثيرة ؛أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه انظر لحياة هذا الرجل أسرة كاملة أولاده عبد الله ومحمد بناته عائشة وأسماء أسرته ماله جهده وقته كلها في سبيل الله ونصرة دين الله فلما نصروا دين الله بأموالهم وأنفسهم وأولادهم نصرهم الله ومكنهم وأعلى شأنهم وصدق الله (إن تنصروا الله ينصركم) أما الخذلان أيها الأحبة الخذلان والبخل والكسل والفتور فهي من صفات المنافقين فلما عدم تحقيق التوحيد في قلوبهم تركوا الجهاد وفرحوا بالتخلف عنه ورضوا بشهوات الدنيا وبخلوا بأموالهم وتقلبت مواقفهم وتقلبت مواقفهم وردود أفعالهم تبعا لأهوائهم فذمهم القرآن بسبب ذلك .(109/13)
ومن آثار التوحيد أيضا: شعور النفس الموحدة بمعية الله عز وجل ، قال ابن القيم في الفوائد فإن قلت بأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع قلت بالتوحيد والتوكل على الله والثقة بالله وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو وأن الأمر كله لله ليس لأحد ليس مع الله أو ليس لأحد مع الله شيء انتهى كلامه رحمه الله ، قال الحق عز وجل (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) وقال (أليس الله بكافٍ عبده) وقال (وذلك بأن الله مولي الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولي لهم) وقال (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشري في الحياة الدنيا وفي الآخرة) وقال جل وعلا في الحديث القدسي "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما فرضته عليه وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه" فأي فضل يناله صاحب التوحيد فالله معه يحفظه وينصره ويدافع عنه مما يزيده قوة وشجاعة وإقبالا على الله عز وجل قال ابن رجب في رسالته الجميلة ؛الإخلاص قال كلام جميل اسمعوه : من صدق في قول لا إله إلا الله لم يحب سواه ولم يرج سواه ولم يخش أحدا إلا الله ولم يتوكل إلا على الله ولم يبق له بقية من آثار نفسه وهواه ومع هذا فلا تظن أن المحب مطالب بالعصمة وإنما هو مطالب كلما ذل أن يتلافى تلك الوصمة… انتهى كلامه رحمه الله .
وأخيرا من آثار التوحيد في النفوس العلم والبصيرة فمن عرف التوحيد وحقيقته عرف عكسه من الشرك وحقائقه وأباطيله بل عرف احتيالات أهل الشرك ومكرهم فيجزم الموحد بكفرهم وعداوتهم ولذلك ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب أن الناقض الثالث من نواقض الإسلام قال من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر ، إذاً فالعلم والبصيرة من آثار التوحيد على النفوس أو في النفوس وفي صحيح مسلم من طريق [أبي مالك سعد بن طارق] عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" فلا يكفي إذاً لا يكفي لعصمة دم المسلم أن يقول لا إله إلا الله بل لا بد أن يضيف إليها الكفر بما يعبد من دون الله فإن لم يكفر بما يعبد من دون الله لم يحرم دمه وماله ، ومن الآثار محبة أهل الإيمان وموالاتهم وبغض المشركين ومعاداتهم .(109/14)
التوحيد يظهر الأعاجيب في النفوس الموحدة فمن حقد وبغض وعداء إلى حب ومودة وإخاء وما صنعه التوحيد في نفوس المهاجرين والأنصار مواقف يجب ألا تنسى بل لا بد أن تروى وتروى لنرى الأثر من السر العجيب بالتوحيد الصادق أخرج البخاري في صحيحه من كتاب المساقات باب كتاب القطائع عن أنس رضي الله تعالى عنه قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليخضع لهم البحرين فقالوا يا رسول الله إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها فلم يكن ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني قال [ابن حجر] وفي الحديث فضيلة ظاهرة للأنصار لتوقفهم عن الاستئثار بشيء من الدنيا دون المهاجرين وقد وصفهم الله تعالى بأنهم كانوا (يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) فحصلوا في الفضل على ثلاث مراتب إيثارهم على أنفسهم ومواساتهم لغيرهم والاستئثار عليهم انتهي كلامه رحمه الله وأخرج البخاري أيضا في صحيحه كتاب المناقب مناقب الأنصار باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار عن [إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف] قال لما قدموا المدينة أي المهاجرين لما قدموا المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن [وسعد ابن الربيع] أي بين [عبد الرحمن ابن عوف] وسعد ابن الربيع قال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي نصفين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها فإذا انقضت عدتها فتزوجها فقال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك أين سوقكم ..…الحديث سبحان الله أي حب هذا الذي أحدثه التوحيد في نفوس المؤمنين أي مودة بين المسلمين الموحدين الصادقين هكذا التوحيد يفعل بأهله أما بغض المشركين فنحن وإياهم على طريق نقيض فقد يتسائل البعض لماذا نبغض المشركين ولماذا يأمرنا الإسلام ببغض المشركين فأقول لأننا نحن وإياهم على طرفي نقيض فنحن أهل توحيد وهم أهل شرك وبيننا وبينهم عداوة وبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده كما قال تعالى بل العجب أنهم إن آمنوا بالله وحده كانوا من إخواننا ومن أحب الناس إلى قلوبنا كما قال الحق عز وجل (قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) فكيف بمن ينصرونه من أهل التوحيد وكيف بمن يعينونهم على المسلمون في بعض الأحايين بل كيف بمن يحبهم ويقربهم والله عز وجل يقول (ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) كيف بمن يأتي بهم وربما يفضلهم عن المسلمين فأين هم عن حقيقة التوحيد وصدق [ابن الجوزي] رحمه الله إنما يتعثر من لم يخلص ، إنما يتعثر من لم يخلص ولا شك أن هذا كله بسبب الإعراض عن تعلم العلوم الشرعية وعدم الفقه في دين الله خاصة في التوحيد والعقيدة ولو أن المسلمين صاروا يداً واحدة وحققوا معاني التوحيد كما يريده الله عز وجل وتناصروا فيما بينهم لصار لهم شأن على غير ما نحن فيه الآن ولصار الكفار أذلاء وهنا نرى حال الناس وكيف تنقض عرى الإسلام عروة عروة ومما انتقض من عرى الحب في الله والبغض في الله والمعاداة لله وفي الله كما جاء في الحديث المشهور" إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" وأنت ترى حال الكثير حبه لهواه حبه لهواه وبغضه لهواه ولا يسكن إلا لمن يلائمه في طبعه وهواه وإن غره أغراه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، أيها الأحبة إن للتوحيد آثارا على النفس الموحدة لابد أن تظهر عليها فمن لم يجدها فليراجع توحيده وليحاسب نفسه ذكرنا من الآثار ما ذكرنا وتركنا ما تركنا ما تركناه لحال المقام فالمقام هنا مقام تفكير وإرشاد وليس تعليم وتحذير وتقصيد أسأل الله عز وجل أن ينفع بما قيل وأن يغفر لنا الذلل والخطأ والتقصير، اللهم لك الحمد على نعمة الإيمان ولك الحمد على نعمة التوحيد ولك الحمد على ما أنعمت به علينا من نعم تترى اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا من بيده ملكوت السماوات والأرض اللهم احفظ أمننا وإيماننا اللهم احفظ توحيدنا اللهم احفظ عقيدتنا في قلوبنا ونفوسنا اللهم من أردانا وأراد الإسلام وأراد هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين بسوء اللهم فاجعل كيده في نحره اللهم نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم اللهم اجعل تدبيرهم تدميرا عليهم اللهم اكفناهم بما شئت اللهم اكفناهم بما شئت فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز اللهم اهدي أهل البدع والضلالات اللهم اهدهم إليك وردهم إليك ردا جميلا اللهم افتح على قلوبهم اللهم أرهم الحق حقا وأرزقهم اتباعه والباطل باطلا وارزقهم اجتنابه اللهم يا قوي يا عزيز اللهم قوي إيماننا وأعنا على أنفسنا اللهم أصلح ولاة أمورنا اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة اللهم وفقهم وأعنهم لما فيه صلاح المسلمين اللهم يا حي يا قيوم من علينا بتوبة صالحة(109/15)
صادقة تمحوا بها فساد قلوبنا وتصلح بها نفوسنا اللهم أصلح أزواجنا وأصلح أولادنا وأصلح بناتنا اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم أنت ولي ذلك والقادر عليه اللهم لا تحرمنا أجر هذا المجلس اللهم لا نخرج من مجلسنا هذا إلا وقد قلت لنا بمنك وفضلك يا كريم قوموا مغفورا لكم اللهم اغفر لنا وتب علينا لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين .(109/16)
أثر
الجهاد و المجاهدين
في سبيل الله
في نشر السنة و قمع البدعة في البوسنة و الهرسك
تأليف الدكتور
أحمد بن عبد الكريم نجيب
أستاذ الحديث النبوي و علومه و اللغة العربية للناطقين بغيرها في كلية الدراسات الإسلاميّة في سراييفو و الأكاديمية الإسلامية في زينتسا
و مدرس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني بالدوحة
( سابقاً )
إن من ثمار الجهاد في سبيل الله اليانعة في البوسنة و الهرسك ، أن طائفة من المجاهدين العرب ، و من تربى على أيديهم أو تأثر بهم انحازت بعد حل كتيبة المجاهدين ـ الذي كان شرطاً صربياً و أمريكياً لإيقاف الحرب في البوسنة بموجب اتفاقية دايتون سنة 1416هـ / 1995م ـ إلى موقعين هامين في البوسنة هما :
1ـ قرية أوراشتس :
و هي إحدى القرى التي حررها المجاهدون من كروات البوسنة ، و تقع على طريق جبلية تربط مدينتي زينتسا و ترافنيك الواقعتين تحت سيطرة المسلمين حالياً.
و قد اتخذ منها المجاهدون مركزاً دعوياً و تعليمياً ، حيث بنوا فيها مسجداً و مدرسة ، و أقام فيها عدد من طلاب العلم حملة الإجازات الجامعية ، المشتغلين بالدعوة إلى الله على منهج أهل السنة و الجماعة في البوسنة .
2 – قرية بوتشينيا :
و هي إحدى القرى التي حررها المجاهدون من صرب البوسنة ، و تقع على الطريق الواصل بين مدينتي مغلاي و زفيدوفيتش الواقعتين تحت سيطرة المسلمين حالياً.
و يقطن هذه القرية التابعة لإمرة المجاهدين مئات الأسر المسلمة ، و تظهر فيها عزة المسلمين ، و شعائرهم على أحسن وجه ، حيث تطبق أحكام الشريعة على سكانها ، و تقام فيها الصلوات الخمس جماعة لا يتخلف عنها أحد إلا من عذر ، كما تظهر السنن على هيئة السكان و زيهم ، حيث اللحى المطلقة ، واللباس الشرعي ـ بما فيه النقاب ـ لدى نساء القرية في غالبيتهم العظمى .
و نظراً للضغوط التي مارستها قوات حفظ السلام التابعة لحلف شمال الأطلس خارجياً ، و كروات البوسنة المتحدين مع المسلمين داخلياً ، اضطر المجاهدون إلى إخلاء ( أوراشيتس ) و تسليمها للكروات و نقل مركزهم الدعوي إلى ( بوتشينا ) لتجتمع هناك إمارة المجاهدين مع إدارة الدعوة .
و من أبرز الأنشطة الدعوية في القرية المذكورة إقامة مدرسة عامرة تخرج مترجمين مختصين في اللغة العربية ، و دعاة مؤهلين يحملون العلم الشرعي و يبلغونه في أنحاء البوسنة و الهرسك .
ففي مدرسة ( بوتشينيا ) تعقد أربع دورات شرعية ، تمثل أربع مستويات يكمل بعضها بعضاً و خلال الدراسة في كل منها يقيم الطلاب في سكن داخلي لا يبرحونه إلا بعد التخرج و يعتبر بيئة إسلامية مناسبة تنقل الطالب من الحياة الجاهلية في الخارج إلى ما يجب أن يكون عليه بعد التخرج .
و هذه الدورات هي :
الدورة الأولى : و هي دورة ابتدائية تعرف باسم (دورة ابن عباس الشرعية ) نسبة إلى حبر هذه الأمة ، و مدة الدراسة فيها خمس و أربعون يوماً ، مليئة بالدروس والمحاضرات المكثفة ، التي لا تقطعها إلا فترات قصيرة للغذاء و القيلولة و أداء الصلاة في جماعة .
و في هذه الدورة يدرس الطلاب مقدمة في علم المصطلح ، إضافة إلى مادة الحديث النبوي التي غالباً ما يكون في مفرداتها أحاديث مختارة من الأربعين النووية حفظاً و شرحاً .
و قد عقدت حتى الآن تسع و عشرون دورة شرعية بهذا المستوى ، أكثر من نصفها كان وقت الحرب .
الدورة الثانية : المعروفة باسم دورة ( ابن تيمية ) نسبة إلى شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله ، و امتداداً لنهجه في نشر السنة و قمع البدعة ، و تمثل مرحلة متقدمة من إعداد الدعاة الذين تميزوا في تحصيلهم العلمي في أثناء الدورة السابقة ، و يدرسون فيها أربعة أشهر على الأقل يدرس الطلاب خلالها مختلف العلوم الشرعية ، و منها المصطلح و مقرره كتاب ( تيسير مصطلح الحديث ) للدكتور محمود الطحان ، و مذكرة باللغة البوسنوية ، يعتبر كتاب التيسير ، من أهم مصادرها .
كما يدرس الطلاب خلال هذه الدورة الأربعين النووية كاملة مع شرحها من خلال خمس و ثلاثين محاضرة مكثفة .
الدورة الثالثة : و هي مخصصة لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها و إعداد مترجمين أكفاء و تستمر سنة كاملة يدرس الطلاب خلالها المناهج المقررة في وحدة اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .
الدورة الرابعة : و تعد مستوى متقدماً ، حيث أن جميع الطلاب المنتسبين إليها من الدعاة العاملين الذي ينتظمون فيها أسبوعاً من كل شهر لتزودهم بالعلم الشرعي النافع ، و تحفزهم على الاستمرار في طريق الدعوة إلى الكتاب و السنة .
و تنفذ جماعة المجاهدين سيايتها الدعوية من خلال جمعيتين أقيمتا لخدمة العمل الدعوي في البوسنة و الهرسك ، و هاتان المؤسستان هما :
الجمعية الأولى : جمعية الشباب المسلم :(110/1)
جميع أعضائها بوسنويو الأصل و المولد و المنشأ ، و تجمع بينهم رابطة الدعوة إلى الكتاب و السنة على منهج سلف الأمة ( السلفية ) ، و هم جميعاً ممن تربى في صفوف المجاهدين أو تأثر بهم ، و ارتضى منهجهم و أخذ على عاتقه الدعوة إليه .
و للجمعية اليوم فروع و أعضاء في مختلف مناطق البوسنة ، و تأثير واضح في المجتمع ، حيث يجوب أعضاؤها البلاد طولاً و عرضاً ، داعين إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، بالكلمة و الكتاب و المنشورات النافعة .
كما تصدر الجمعية مجلة ( الصف ) الإسلامية من فينا ( بالنمسا ) .
و توزع منها نحو عشرة آلاف نسخة شهرياً ، كما تنشر من خلال شبكة الانترنت لتصل إلى المسلمين البوشناق المهاجرين حيث كانوا .
الجمعية الثانية : جمعية الفجر الخيرية :
تقوم على هذه الجمعية مجلس إدارة من المجاهدين العرب يرأسه أميرهم ، وينضوي في عضويتها عدد من الدعاة و مدرسي العلوم الشرعية في الدورات الأربع التي سبقت الإشارة إليها .
و يتركز نشاط هذه الجمعية في جانبين :
الأول : إعداد الأئمة و الدعاة من أبناء البوسنة ، سواءاً كان ذلك بتنظيم الدورات الشرعية لهم ، أم استضافة الدعاة و العلماء من البلدان العربية ( و خاصة جزيرة العرب ) خلال فصل الصيف ، و شهر رمضان من كل عام .
الثاني : الاتصال بالهيئات الخيرية و المؤسسات الإغاثية الإسلامية و التنسيق مع الجهات الأخرى ، بغرض تأمين الدعم المادي اللازم لتمويل ، و كفالة الدعاة البوسنويين.
و من الإقرار بالواقع الإشارة إلى أن جهود المجاهدين في الدعوة إلى الكتاب و السنة هي الأكثر أثراً و تأثيراً في المجتمع البوسنوي اليوم ، و لذلك تعرضت لكيد القوات الدولية الرابضة في البوسنة و واجهت معارضة شديدة ممَّن اعتبروها منافساً لهم يهدد كيانهم و سلطتهم على مسلمي تلك البلاد ، و نذير صحوة إسلامية بين مسلمي منطقة البلقان و القارة الأوربية يهدد الفرنجة في عقر دارهم .
و على الرغم من ذلك كله ظل المجاهدون و من معهم يعملون في ثبات ، فصوتهم يبلغ الآلاف ، و كتبهم تتصدر المكتبات و { الله خير حافظاً و هو أرحم الراحمين } [ يوسف :64 ] .
خاتمة الباب الرابع
... بعد هذا البحث و التعريف بالمنارات و الوسائل التي كان لها دور و أثر بارز في نشر السنة ، و إشاعة الحديث النبوي و علومه بين البوشناق يتأكد لنا حفظ الله تعالى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، حيث قيض لحملها من كل خلف عدوله ، يدعون إليها ، ويذبون عنها ، و يذودون عن حياضها حتى في أزمنة ضعف المسلمين ، و غربة الدين .
... و من فضله تعالى أن قيض لحَمَلة هذه الأمانة وسائل تعينهم على أدائها ، فمن الكتاتيب التي يستهين بها من لم يدركها ، إلى أعلى مراحل التعليم النظامي التي يباهى بحمل إجازتها من اغتر بها ، يلقى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و علومه العناية والحفظ ، و يحمله أشداء أخذوا على عاتقهم نشر علومه و العمل بهديه .
... و إن كان ثمّة تقصير في الإفادة من بعض الوسائل المساعدة على نشر علوم الحديث في البوسنة ، أو ضعفٌ و قصورٌ في الوسيلة ذاتها ، فإن الاعتذار عنه ببعد البوسنة عن بلاد المسلمين الأخرى ، و قلة من قصدها للدعوة و التعليم من غير أهلها ، مع ما مرَّت به من حروب و شدائد (( ليس لها من دون الله كاشفة )) عبرالتاريخ , هو ما يسعنا ، و يحسن بنا أن نصير إليه .
... و مع هذا فإن في العودة إلى الإسلام ، و إعلاء شأنه و تبليغ رسالته في البلقان بعض آمالٍ ، نعقدها على الأجيال الصاعدة ، التي ذاق أفرادها مرارة الابتلاء و هم في مقتبل أعمارهم ، و عرفوا مقدار حقد أعدائهم عليهم بسبب انتمائهم للإسلام ، إلى جانب معرفتهم بما يعنيه انتماؤهم لهذا الدين العظيم (1) ، وخاصة أولئك الذين اغبرّت أقدامهم في سبيل الله ، و ذاقوا حلاوة التضحية بعد مرارة الابتلاء في سبيله ...إنهم المجاهدون . ...
__________
(1) من أمارات الصحوة الإسلامية في البوسنة اليوم ترجمة كتاب ( ماذا يعني انتمائي للإسلام ) للعلامة الدكتور فتحي يكن إلى اللغة البوسنوية ، و قد طبع و وزعت منه أكثر من عشرة آلاف نسخة حتى اليوم ، و الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات .(110/2)
أثر الدعاء في نصرة المجاهدين
بقلم الأستاذ/ خباب بن مروان الحمد
khabab00@hotmail.com
</TD
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً، وبعد:
منذ أن انبثق فجر التاريخ الإسلامي ، بدأت دواعي النفوس الشريرة ، والتي أكلها الحسد، وقتلتها الغيرة، بتصويب أسلحتهم وسهامهم إلى صدور الموحدين، راجين أن يمحقوا دين الإسلام ، وحركته الحضارية، ونمو الإيمان المتجذر في النفوس الصادقة... لكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويفلق هامات الخواجة أولي الكفر والفجور، ويعز دينه وأولياءه ولو كره المجرمون.
واليوم ونحن على درجة كبيرة من درجات التحدي العالمي لقوى الصهيونية العالمية، والإمبريالية الأمريكية الطاغية، والتي حاكت الشر للمسلمين، ودفعت بجنودها إلى اقتحام بلاد الإسلام، ونهب خيراتها، وسلب أموال أصحابها، وتركيعهم ـ زعموا ـ لقوى التحالف النصرانية!!
وقد شاهد المسلمون فصولاً من ذلك التآمر المتواطئ من بني الكفر والنفاق ضد أبناء الإسلام وهوياتهم ومقدساتهم، ففي فلسطين الصامدة روايات وحكايات ، وفي العراق مآسي ومذكرات، وفي أفغانستان حكايات وتضحيات، وفي الشيشان تاريخ وملمات، وفي غيرها من بلاد الإسلام أنَّات وزفرات، وهكذا... تمضي رايات الكفر والنفاق لتصطفَّ تجاه رايات الإيمان في كل فرصة سانحة بوثبة جامحة كاشحة.
وفي قلب تلك الأحداث التي تكرر نفسها، وتعيد دورتها ، يحسن بجنود الرحمن ومن يرفع رايات الجهاد الصادقة؛ أن يزداد فرارهم إلى الله ، وتنعطف أفئدتهم إلى الرحمن ، ويتعلقوا بحبال العرفان للرب المنان ، ويطالعوا سير أسلافهم المجاهدين وتعلقهم بالله رب العالمين ، حين تأتي قوافل الكفر الغاشمة لتدك بلاد الإسلام، فيتطاير فرسان الجهاد، وأبطال الملاحم لمنازلة النوازل، ومقارعة الخطوب، ومكافحة الإرهاب الكافر حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وسأعرض في هذه المقالة شيئاً من سير المجاهدين السابقين، لنرى أنهم ما كانوا يقدموا على أرض المعركة،إلا ويتوجهوا للحي القيوم بالدعاء، والرجاء، والاستغاثة والتضرع إليه بأن ينصرهم،ويخذل عدوهم،وأن يهيئ لهم من أمرهم رشداً، لتعلم النفس المؤمنة، بأنَّ النصر لا يكون بالأسباب المادية فقط، بل إنَّ ركيزته الكبرى، وقاعدته الأسمى،التعلق بالله رب العالمين وانطراح العبد على عتبات الربوبية بالدعاء للمسلمين.
وثمَّة أمر أحببت أن ألوِّح به، وهو: أنَّ من دواعي انقداح الكتابة في هذا الموضوع ، ما نجده في قلوب بعض المسلمين ـ ويا للأسف ـ من تقليل الاهتمام والاعتناء بهذا الأمر، وكأنَّ الدعاء صار لا يجدي ولا ينفع خصوصاً مع كثرة النوازل والمصائب التي تصيب المسلمين، وقد ينظر البعض لمن يتحدث بهذا الأمر، ويصيح به في آذان الناس، نظرة المتشائم، والذي يظنُّ أنَّ الدعاء سبب بسيط ولا تأثير له كبير في أرض الواقع، ومن هنا أحببت أنْ أسطِّر بعض المواقف العملية الجهادية،والتي دعا فيها المسلمون ربهم بإخلاص ومثابرة،فأكرمهم الله بالنصر المبين، والظهور على أعداء الدين.
ولعلَّه بعد ذلك وحين تقرأ النفوس وكأنها تشاهد أثر الدعاء في نصرة المسلمين والمجاهدين؛ فترفع أكفَّ الضراعة إلى الحي الذي لا يموت، بأن ينصر الله دينه ويخذل أعدائه، ويكون من بين تلك النفوس رجل صادق لو أقسم على الله لأبرَّه، يستحي الله حين يراه قد شرع في الدعاء، ومدَّ كفيَّ الرجاء،أن يرد الله يديه صفراً خائبتين.
إلاّ أنّه من الأهمية أن يُعْلَمَ أنَّ أولئك السابقين ما كانوا يدعون الله فقط بأن ينصرهم على عدوهم،وهم لم يهيئوا أسباب النصرة المادية، من الجهاد بالنفس والمال والكلمة الصادقة، وما تحتاجه تلك المعركة الدائرة بين الإسلام والكفر من تحفيز ونصرة.
لقد كانوا _رضوان الله عليهم_ يدعون الله وهم متوجهون للقتال، أويتضرعوا إلى الله ولهم مشاريع قد أعدت لنصرة دين الله، والتي منها الدعاء، ولهذا أنبه قبل عرض سيرهم بأنَّ من أسباب النصر العظمى الدعاء، والذي يعقبه الكفاح والعمل والبناء،أمَّا أن يدعو الإنسان ربه وليس لديه برامج عملية لنصرة هذا الدين، فإنَّ هذا كطالب مخفق أخرق في دراسته، ثمَّ يسأل الله النجاح ولم يعد لذلك النجاح،فهل ينال حينئذٍ النجاح...هيهات! فليعلم أنَّ هذا الدين يحتاج لرجال أكفاء يقومون بنصرته في جميع ميادين النصر، وصدق من قال:
إسلامنا لا يستقيم عموده *** بدعاء شيخ في زوايا المسجد
إسلامنا نور يضيء طريقنا *** إسلامنا نار على من يقتدي
فليس النصر الدعاء، وليس هوالقوة المادية فحسب، وليس كذلك بالكثرة العددية، إنَّ النصر مجتمع في ذلك كلِّه لا ينفصل جزء من شمول، ولا ينبتر بعض من كل.(111/1)
ولعلِّي أبدأ هذه الأكتوبة، وأطرِّز المسيرة وأُتَوِّجَ السيرة، برسول الأمة المختارة، محمد بن عبدالله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنَّ: تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما عداه فلا ذكر ولا شان، فقد نام صحابته الأكارم ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ ليلة بدر، إلا هو ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد بات تلك الليلة يصلي إلى جذع شجرة ، ويكثر في سجوده أن يقول:"يا حيُّ يا قيوم" يكرر ذلك ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويسأل الله النصر(البداية والنهاية5/82)، وحين رأى رسول الله جند قريش قال:" اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم أحنهم الغداة" (السيرة النبوية لابن هشام3/168).
وقد روى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: لمَّا كان يوم بدر نظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القبلة، وعليه رداؤه وإزاره ، ثمَّ قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً" قال عمر بن الخطاب: فما زال يستغيث ربَّه ويدعوه، حتَّى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردَّاه، ثمَّ التزمه من ورائه ثمَّ قال: يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك، فإنَّه منجز لك ما وعدك" أخرجه أحمد(1/30ـ31) برقم(208)، وقال الشيخ/أحمد شاكر:سنده صحيح، ورواه مسلم (1763)، وأصله في البخاري، وانظر جامع الأصول(8/183).
ولهذا فإن الله _سبحانه_ وصف حال رسوله العظيم وصحابته الكرام في غزوة بدر بأنهم كثيري الاستغاثة به، ومكثري رجائه ودعاءه فقال:"إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين"(الأنفال: 9) فأين نحن من الاقتداء برسول الله وصحابته بالدعاء للمجاهدين بالنصر، وخذلان عدوهم!
وعليه فإنَّ مما نستفيده من ذلك أنَّه في حالة نشوب الحرب، وقيام المعركة، واضطرام القتال،أن نرفع أكف الضراعة والاستغاثة بالله ، فلعله ـ سبحانه ـ أن يستجيب لنا فيقهر عدونا ، ويخذل محاربنا، ويمدنا بمددٍ من عنده كما أمد رسول الله وصحابته بجند من عنده من الملائكة المرسلين حين دعوه في غزوة بدر، فانخلعت قلوب الكافرين، وفروا خاسرين ، وتم بفضله ـ تعالى ـ النصر المبين.
لهذا كان الدعاء في الغزو مرتبط ارتباطاً وثيقاً مع المجاهدين في أرض المعركة،وقد بوَّب الإمام الترمذي في جامعه(باب في الدعاء إذا غزا) وأورد تحته ما رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ إذا غزا قال:اللهم أنت عضدي وأنت نصيري وبك أقاتل" أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات برقم(3584) وقال: حسن غريب، وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي برقم(2836).
وهنا وقفة لابد منها قبل أن نأتي على سير المجاهدين وتعلقهم بربهم بالدعاء قبيل المعركة وفي أثنائها، وهي أن من مآسي واقعنا المعاصر، وحين تدك بلاد الإسلام بالراجمات ، وتقذف بالقنابل، يهرع الكثير من المسلمين إلى شاشات التلفاز، ليروا أثر المعركة، ويستمعوا الأخبار، حتى يعلموا ماذا حلَّ في تلك البلاد.
وفي نظري أنَّ هذا الأمر وإن كان هامَّاً؛ لأنَّ فيه الاهتمام بأخبار المسلمين، إلاّ أن المداومة على ذلك ، لا يفيد إلاّ كثرة الهم والغم والحزن، والذي لا ينفع ولا يصنع شيئاً، والرأي الوجيه لمن قعد عن الجهاد للظروف المحيطة به، أن يوظِّف المسلم ذلك الحدث توظيفاً إيجابياً ، ومن أولى الأمور لتفعيل تلك القضية بين المؤمنين، اللجوء إلى محراب العبودية، والانكسار بين يدي ربِّ البرية ، والتضرع والبكاء ، والرجاء والدعاء لرب الأرباب ، ومسبب الأسباب، بأن يكف الله شرَّ الكافرين، وأن ينصر عباده المجاهدين، وأن يخذل المنافقين وعملاء الصليبيين.
تلك والله سمة المؤمن ، وشيمة الموحد ، وهو أكبر دليل على صدق ما في قلبه من الحب لإخوانه المؤمنين وحمل همِّهم، وخاصَّة أنَّ الدعاء يستجاب وقت اشتداد المعركة،وشدَّة التحارب بين المؤمنين والكافرين، فقد قال النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:" ثنتان لا تردان أو قلَّما تردَّان:الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يُلْحِمُ بعضهم بعضاً" أي: حين تشتبك الحرب بينهم، أخرجه أبو داود، وقال الحافظ في النتائج(1/378):حديث حسن صحيح،وصححه النووي في (الأذكار/ صـ57ـ267) ، وقال الألباني في (الكلم الطيب): حسن صحيح(صـ76).(111/2)
ولقد عاب الله أقواماً نزلت بهم المصائب والبأساء ، فأعرضوا عن ربهم،ولم يدعوه لكشف ضرهم ، فلم يرفع عنهم تلك النازلة ، قال _تعالى_: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الأنعام:42، 43) وقال في آية أخرى: "وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ" (المؤمنون:76) فصار المصير إلى أن نعلم علم اليقين، أنَّ من أوجب الواجبات في زمن الكوارث والملمات، رفع اليدين بالدعاء لله رب العالمين، فلعل ذلك الدعاء من أكف بيضاء نقية، وقلوب صادقة وفيَّة، وأعين باكية تقيَّة تخفف من تلك المآسي التي أقلقت المسلمين وأقضَّت مضاجعهم، وقد علَّمنا رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أنَّه"لا يردَّ القضاء إلاّ الدعاء" أخرجه الترمذي(139)، وقال: حسن غريب، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع برقم(7687)، وأخبرنا بأنَّه"لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما قد نزل ومما لم ينزل، وإنَّ البلاء ينزل فيتلقاه الدعاء، فيتعالجان إلى يوم القيامة" أخرجه الترمذي وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي(2813) زاد الحاكم بسندٍ لا بأس به، فعليكم عباد الله بالدعاء، ولهذا كان الدعاء من أسباب النصر على الأعداء، وخاصَّة إذا كان ذلك من عباد الله الضعفاء، وقد دلَّ على ذلك حديث رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ "إنما ينصر الله هذه الأمَّة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم) أخرجه النسائي وصححه الألباني في صحيح النسائي(2978).
فأين نحن يا أخا الإسلام عن ذلك السلاح العظيم والمنجي لنا من بطش الأعداء؟! وأين الإلحاح على الله بأن يكشف الضر عن المسلمين؟! وأين الانطراح بين يديه؟! وأين الانكباب عليه؟! وأين التوجه إليه؟!
أين ذلك كلَّه ونحن نستمع صرخات المكلومين، وأنات الجرحى والمظلومين، وصراخ المضطهدين في سجون الكفرة الملاعين في كوبا وأبي غريب وسجون إسرائيل؟ وصدق من قال:
وإنِّي لأدعو الله والأمر ضيِّق *** عليَّ فما ينفك أن يتفرجا
وربَّ فتى ضاقت عليه همومه *** أصاب له في دعوة الله مخرجا
يا للأسف حين يظن الكثير بأنَّ المهم أن يستمعوا الأخبار عمَّا حصل في الفلوجة،أو الرمادي، أوبغداد،أو الموصل،أو نابلس،أو جباليا،أو جنين،أو غزة،أو رفح،أو كابل،أو مزار شريف،أوجروزني،أو....ثمَّ لا يفعل شيئاً ينصر به دينه ولو بالدعاء وهو أقل ما يستطيع!!
يا للمأساة حين يظن البعض أنًّه إذا تحدث مع زميل له عن مآسي المسلمين وهو يشرب الشاي! ثمَّ تكلَّم عن ظلم الاحتلال الصليبي أنَّه أدَّى دوره، وانقضت مهمته!!
عجباً ـ وربي ـ من تلك القلوب المعمورة بحب الدعة والراحة، والكسل والنقاهة _نسأل الله العفو والمغفرة_.
ودعني الآن ـ أخي ـ أقلب لك شيئاً من صفحات التاريخ ، وطوايا الأحداث لترى العجب من قوم جاهدوا في سبيل الله، ولم يثنهم فعلهم ذاك من الفرار إلى الله ، واللجوء إلى كنفه؛ بالدعاء، والابتهالات الشرعية، والاستغاثات الربانية، سائلينه _تعالى_ أن ينصرهم وأن يكف بأس أعدائهم عنهم؛ وذلك لأنَّ الغازي في سبيل الله يستجيب الله له الدعاء ، كما قال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: "الغازي في سبيل الله ، والحاج والمعتمر؛ وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم"أخرجه ابن ماجة برقم(2893) في كتاب المناسك، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم(4171).
فمتِّع ناظريك،وتشبه بسلفك، وبهداهم اقتده، لتعلم أنَّ الدعاء ركيزة كبرى من ركائز النصر، وقاعدة عظمى من قواعد معركة الإسلام مع الكفر، وإياي وإياك أن يكون ما قرأناه وكتبناه حجة علينا لا لنا ـ نسأله تعالى ألطافاً من عنده، ومغفرة من لدنه ـ
1- فهاهو طالوت وجنده قبل بداية المعركة يقول _تعالى_ عنهم: "ولمَّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين" (البقرة: 250) وبعد هذا الدعاء، كان الجواب من الله"فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت" وكان النصر حليفهم حين دعوا الله وتوكلوا عليه.(111/3)
2- وهاهو الغلام المؤمن صاحب الملك الكافر حين اكتشف أمره، وعلم أنه موحد،أراد أن يفتنه عن دينه ، ويخيفه بجنده ولكن هيهات فإنَّ مع الغلام سلاحاً لا ينفد، وكنزاً لن يفقد؛ إنَّه الدعاء فحين أراد جنود هذا الطاغية،أن يلقوه من فوق الجبل إلى هاويته، نطق الغلام بكل مسكنة وافتقار للملك القهار"اللهم اكفنيهم بما شئت"، فسقط الجنود من فوق الجبل وكانوا في الهاوية، بل في القاع ، ويمضي ذلك الغلام شامخاً ًبإيمانه إلى الملك الكافر، ليعلمه دروساً في التوحيد من التوكل على الله، والاستعانة به، وعدم الخوف إلا منه إلى غير ذلك، لكن الطغاة متكبرون، ولا يسمعون داعي الإيمان‘ فما كان من ذلك الملك إلاّ أن أمر جنده بأن يذهبوا بذلك الغلام في إحدى السفن فإذا توسطت السفينة في البحر، ألقى الجنود ذلك الغلام ليتخلصوا منه ، وحين أرادوا أن يفعلوا ذلك بعد أن توسطت بهم السفينة في البحر،إلاّ ويطلق الغلام سلاحه على أعدائه"اللهم اكفنيهم بما شئت"، واستجاب الله الدعاء، وقلب السفينة بمن فيها من جند الطاغوت ونجا ذلك الغلام المؤمن من مكر الكافرين، والقصَّة معروفة، ومن أراد المزيد فليقرأ تفاسير العلماء لسورة البروج.
3- وهذا المثنَّى بن حارثة الشيباني في وقعة البويب في السنة الثالثة عشرة من الهجرة يدعون له المسلمون، والجند المقاتلون، بأن ينصره الله على أعدائه، ويكفيه شرهم، وكان النصر له في آخر المطاف.(انظر:معارك المسلمين في رمضان للدكتور:عبدالعزيز العبيدي/صـ34ـ38).
4- وتأمل قصة النعمان بن مقرن في سنة إحدى وعشرين، فبعد أن تحصن الفرس بخنادقهم ، وطال حصار المسلمين لهم،استشار النعمان قادته، فأشاروا عليه باستدراج الفرس والتظاهر بالهروب حتَّى إذا ابتعد الجند عن حصونهم وخنادقهم نشبت المعركة، ووافق النعمان على الخطة، وقال لهم: إني مكبر ثلاثاً فإذا كان الثالثة فابدؤوا بالقتال، وهنا لم ينس النعمان الاتصال الروحي مع الله ، فقد ذهب النعمان إلى أحد الأمكنة ودعا الله قائلاً: "اللهم اعزز دينك، وانصرعبادك،اللهم إني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام، واقبضني شهيداً"، وبكى الناس مع النعمان وابتهلوا إلى الله وتضرعوا، واستجاب الله دعاءهم فنصرهم على عدوهم نصراً عظيماً، واستجاب الله دعاء النعمان بن مقرن، فكان أول قتيل من المسلمين على أرض المعركة ـ رضي الله عنه ـ(البداية والنهاية7/89) (إتمام الوفاء بسيرة الخلفاء للخضري/صـ95ـ96)، ورضي عن جميع صحابة رسول الله ، الذي رباهم بروضته الشريفة ، وبمسيرته المباركة فكان نتاجه عظيماً، وتربيته قديرة، فصلى الله على محمد صلاة دائمة تتعاقب بتعاقب الليل والنهار:
خلَّفت جيلاً من الأصحاب سيرتهم *** تصوغ بين الورى روحاً وريحاناً
كانت فتوحاتهم براً ومرحمة *** كانت سياستهم عدلاً وإحساناً
لم يعرفوا الدين أوراداً ومسبحة *** بل أشبعوا الدين محراباً وميداناً
5- واقرأ ما فعله حبيب بن مسلمة ـ رضي الله عنه ـ حين أمِّر على جيش،فلمَّا أتى العدو قال: سمعت رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يقول: "لا يجتمع قوم فيدعو بعضهم ويؤمِّن بعضهم إلا أجابهم الله _تعالى_" ثمَّ إنَّه حمد الله وأثنى عليه، وقال:"اللهم احقن دماءنا، واجعل أجورنا أجور الشهداء" فبينما هم كذلك إذ نزل أمير العدو، فدخل على حبيب بن مسلمة سُرَادقَه، وسلَّم إليه بدون حرب" أخرجه البيهقي والطبراني، وللمزيد انظر)التحفة المستطابة لرشيد الراشد/ صـ 77ـ78).
6- وأنعم النظر في قصَّة قتيبة بن مسلم مع محمد بن واسع ، فقد ذكر ابن الجوزي في (صفة الصفوة 2/136) أنَّه كان مع قتيبة بن مسلم في معركته الإمام محمد بن واسع، وقد كان قتيبة بن مسلم صاحب خراسان وكانت الترك قد خرجت إليهم فبعث قتيبة إلى المسجد لينظر من فيه، فقيل له: ليس فيه إلا محمد بن واسع رافعاً إصبعه، فقال قتيبة: إصبعه تلك أحبُّ إلي من ثلاثين ألف شاب طرير". وفي (سير أعلام النبلاء 6/121) قال قتيبة بن مسلم: تلك الإصبع أحب إلي من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير" فتأمل دعاء الإمام محمد بن واسع وقت المعركة، وحب القائد قتيبة بن مسلم لدعائه ذاك، بل تفضيله لدعائه على وجود ألف شاب مقاتل!
إليك وإلاّ لا تشد الركائب *** ومنك وإلا فالمؤمل غائب
وفيك وإلا فالرجاء مضيع *** وعنك وإلا فالمحدث كاذب
7- ومما يدلًّ على أنَّ النصر يستنزل بالدعاء ما قاله أسد بن عبدالله القسري أمير خراسان في قتاله للفرس:"إنَّه بلغني أنَّ العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإنِّي نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله، واسجدوا لربكم، وأخلصوا له الدعاء، ففعلوا، ثمَّ رفعوا رؤوسهم، وهم لا يشكُّون في الفتح" (تاريخ الطبري 7/119).(111/4)
8- وهكذا كان عقبة بن نافع فقد كان مستجاب الدعوة، وكان يتوجه إلى الله بالدعاء عند الشروع في معاركه، ويصادم العدو في شجاعة مذهلة، كما ذكره عنه أهل السير، ثمَّ يكتب الله له النصر المبين(أبطال ومواقف/صـ187).
9- وهكذا يمضي جنود الإسلام ، وتسير قوافل المجاهدين إلى الله رب العالمين، فهذا الإمام الفقيه أبو نصر محمد بن عبدالملك الحنفي يقول لألب أرسلان في موقعة(ملاذكرد) بعد أن رأى كثرة جيش الروم والتي قُدِّرت بمئتي ألف مقاتل: إنَّك تقاتل عن دين الله وقد وعد الله بنصره، وأرجو أن يكون الله قد كتبه لك بجيشك القليل شرف النصر، فسر إلى العدو الكافر يوم الجمعة، بعد الزوال، والأئمة على منازلهم يدعون لجيشك بالنصر والله غالب على أمره، وتمَّ ذلك عند ظهيرة يوم الجمعة من صيف أربعمئة وثلاث وستين للهجرة، فقد صلَّى وبكى فبكى الناس لبكائه ، ودعا الله فدعا الناس بدعائه، وعفَّر وجهه بالتراب ثمَّ ركب وقال للناس: ليس عليكم الآن أمير وكلكم أمير نفسه ، من شاء أن ينصرف فليعد إلى أهله، ولبس البياض وتحنَّط ، وحمل بجيشه حملة صادقة، فوقعوا في وسط العدو يقتلون ما يشاؤون، وثبت العسكر، ونزل النصر،وولت الروم، واستحر بهم القتل،وقتل طاغيتهم أرمانوس،بعد أن أسره مملوك وسار به ذليلاً ليقتل رغم أنفه" انظر السير (18/414ـ416) والبداية والنهاية(12/91) أليس ذلك من بركات الدعاء يا عبدالله؟!
10- وانظرـ أخي الموفق ـ في حال نور الدين محمود في فتح حارم سنة559هـ وقد انفرد تحت تل حينما التقى الجمعان وسجد لربه ـ عزَّ وجل ـ ومرَّغ وجهه وتضرع، وقال: "هؤلاء يا رب عبيدك وهم أولياؤك ، وهؤلاء عبيدك وهم أعدائك ، فانصر أوليائك على أعدائك"(ما فضول محمود في الوسط) ـ يشير إلى أنَّك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت ، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود يعني نفسه إن كان غير متحقق النصر) ثمَّ بعد ذلك فتح الله على يديه فتحاً عظيماً )(معارك المسلمين في رمضان للدكتور:عبدالعزيز العبيدي صـ65).
11- ومتِّع عينيك بقصَّة البطل العظيم صلاح الدين محرر القدس من الصليبيين" فقد جمع صلاح الدين الجموع ، ونظَّم الجيوش ثمَّ عقد مجلس شوراه للتشاور في منازلة العدو، وتوقيت المعركة فاتفقوا على الخروج في 17/ ربيع الآخر عام 583هـ بعد صلاة الجمعة، وبين تكبير المسلمين وابتهالهم وتضرعهم بالدعاء". (صلاح الدين الأيوبي للدكتور:عبدالله ناصح علوان صـ67).
ويقول القاضي ابن شدَّاد: " وكان صلاح الدين إذا سمع أنَّ العدو قد داهم المسلمين خرَّ إلى الأرض ساجداً لله، داعياً بهذا الدعاء:اللهم قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك،ولم يبق إلا الإخلاد إليك ، والاعتصام بحبلك،والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل" ويقول: " ورأيته ساجداً ودموعه تتقاطر على شيبته ثمَّ على سجَّادته ، ولا أسمع ما يقول ، ولم ينقض ذلك اليوم إلاّ ويأتيه أخبار النصر على الأعداء، وكان أبداً يقصد بوقفاته الجمع ، سيما أوقات صلاة الجمعة تبركاً بدعاء الخطباء على المنابر، فربما كانت أقرب إلى الاستجابة" (سيرة صلاح الدين الأيوبي للقاضي ابن شدَّاد _رحمهما الله_ صـ8 وما بعده).
12- وانظر ماذا كان يفعل المظفر قطز في معركة عين جالوت سنة(658)هـ وهو يحمِّس المجاهدين ويصيح واإسلاماه ، واإسلاماه، ويسجد ويعفِّر وجهه في التراب ويقول: يا الله انصر عبدك قطز(معارك المسلمين في رمضان للعبيدي/صـ71). وقال ابن كثير في البداية والنهاية(13/188) عن قطز: " ولمَّا رأى عصائب التتار، قال للأمراء والجيوش: لا تقاتلوهم حتَّى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء في صلاتهم". واستجاب الله دعاءه وهزم المغول ووقعوا بين يديه ما بين قتيل وجريح وأسير، بل وقع بين يديه قائد المغول فقتله تنكيلاً به، وجزاء إجرامه في قتل المسلمين.
13- أمَّا محمد الفاتح فقد دخل المسجد في صباح يوم التاسع والعشرين من مايو عام 1453م فوجد شيخه ومعلمه ومربيه آق شمس الدين منطرحاً بين يدي ربه مستغرقاً بالدعاء فاستبشر خيراً بالنصر، وحين كان المجاهدون يهيئون للمعركة عدتها كان هتافهم: ياالله ، يالله، ولمَّا فتحت القسطنطينية رآه الناس وهو يمرِّغ وجهه في التراب تواضعاً لله والمؤمنون يهنئونه بالنصر وهو لا يزيد على أن يقول النصر من عند الله، النصر من عند الله. (أبطال ومواقف/ صـ450ـ451) هكذا يا ـ أخا العقيدة ـ عرف هؤلاء البواسل دربهم ، فساروا إلى ساح الجهاد، وفتحوا الفتوحات، وغيروا مجرى التأريخ لصالح أمة الإسلام الخالدة، وأكثروا الدعاء لربهم، والاستغاثة بمعبودهم، حتى خطَّ الله لهم طريق النصر المبين، والعز والتمكين.
فأين نحن عن هذا الأمر العظيم ، بل أين نداءاتنا لله، ودعاءنا له؟وأين قنوتنا في المساجد على الصليبيين والصهاينة؟هل حققنا شيئاً من ذلك أم نبقى على فتورنا الآثم؟ أم ذلك استهانة بحق الدعاء، و تكاسلاً عن تأدية تلك العبادة!!(111/5)
أتهزأ بالدعاء وتزدريه *** وما تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن *** لها أمد وللأمد انقضاء
إنَّ العجب كل العجب حين تجد أناساً يستثقلون بالدعاء لإخوانهم المجاهدين، وحاملي رايات المقاومة الإسلامية، والأغرب من ذلك أن يقول البعض: لقد دعونا الله ولم يستجب، أو أن يقول البعض: إنَّ ما يكتبه الله سيقدره سواء دعوناه أو لم ندعه فكل مقدر ومكتوب!!!
وإلى هؤلاء أخاطبهم راحماً حالهم، ومشفقا عليهم، فأقول:
يا من قلتم: إننا دعونا الله ولم يستجب لنا ، هل ابتعدتم عن جميع الموبقات والفواحش والظلم وموانع إجابة الدعاء؟ وهل دعوتم الله بقلب صادق، وضمير حيٍّ حاضر؟
إن من أهم ما يجب عليكم معرفته أنَّ الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل، فقد روى أبو هريرة أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:" ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه" أخرجه الترمذي(3479) وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي(2766).
ثمَّ ألا تعلموا أن رسولكم قد نهاكم عن استعجال إجابة الدعاء، فقد روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:" يستجاب لأحدكم ما لم يعجل،يقول: دعوت فلم يستجب لي" متفق عليه ، وفي جزء من رواية مسلم قيل : يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: "يقول قد دعوت ، وقد دعوت فلم يستجب لي، فيستحسر عند ذلك،ويدع الدعاء".
ثمَّ ما أدراكم أيها الفاترون عن الدعاء أن يكون الله قد خفف عنَّا وعن إخواننا المسلمين كثيراً من البلاء الذي كتب أن يحل بنا، وما أدراكم أن يكون من فوائد هذا الدعاء أن يكون دعاؤنا واستغاثاتنا بالله سبباً من أسباب صد المكروه عن بلادنا وعن كثير من بلاد المسلمين، والتي يتمنى عدو الله أن يحتلها ويجدها لقمة سائغة؟! وما أدراكم أن يكون دعاؤنا لإخواننا في ثغور الجهاد، ومواطن الكفاح، حفظاً لهم من أعدائهم، وردءاً لهم من تربصات المحتلين بهم، أو تخفيفاً لما يلاقيه إخواننا في أراضي الجهاد،أو سجون التحالف الكفري"وقد ذكر بعض الأسرى أنَّ العذاب ربما كان يهدأ أحياناً داخل السجن بلا سبب ظاهر، ولا وضع مألوف ، فلا يجدوا له تفسيراً إلا دعوات إخوانهم"(من مقال لأخينا/ عبدالحكيم محمد بلال بعنوان: واجبنا تجاه الأسرى في فلسطين، في مجلة البيان عدد205/ صـ71) ووالله لو لم يكن من ذلك الدعاء ورفع الكفين لرب السماء إلا لذة مناجاة الله ، وجمعية القلب عليه لكفى!
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "والدعاء من أنفع الأدوية،وهو عدو البلاء يدافعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرقعه، أو يخففه إذا نزل ، وهو سلاح المؤمن، وله مع الدعاء ثلاث مقامات:
1ـ أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
2ـ أن يكون أخفَّ من البلاء فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد ولكن يخففه ، وإن كان ضعيفاً.
3ـ أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم صـ13).
وأما الجواب على ما ذكره البعض بأنَّنا لو دعونا الله فأجاب الدعاء، فإنَّ ذلك من باب تحصيل الحاصل، ولو دعوناه ولم يقدِّر لنا ما نريد ، فإنَّ دعاءنا لم ينفع، ولم نجنِ منه فائدة!
فيجاب عن ذلك بأنَّ هذه الشبهة خطيرة جداً بل إنَّ أول من قالها الجهم بن صفوان، والذي رماه العلماء المحققين بالكفر والمروق عن الدين لعدة أقوال كفرية صدرت عنه،فليخشَ العبد على نفسه من أن ينطق بعبارات أهل البدع والضلال لئلا ينزلق في مهاوي الردى، ومجانح الضَّلال.
وممن أجاب على تلك الشبهة الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حيث قال:(الدعاء والتوكل والعمل الصالح، سبب في حصول المدعو به من خير الدنيا والآخرة والمعاصي سبب، والحكم المعلق بالسبب قد يحتاج إلى وجود الشرط وانتفاء الموانع، فإذا حصل ذلك حصل المسبب بلا ريب" ـ ثمَّ قال بعد مناقشة عقدية لتلك الشبهةـ(وقد أجيب بجواب آخر وهو أنَّ الله _تعالى_ إذا قدَّر أمراً فإنَّه،يقدر أسبابه ، والدعاء من جملة أسبابه، كما أنَّه لمَّا قدَّر النصر يوم بدر وأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل وقوعه أصحابه بالنصر وبمصارع القوم كان من أسباب ذلك استغاثة النبي ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ ودعاؤه، وكذلك ما وعده به ربُّه من الوسيلة، وقد قضى بها له ، وقد أمر أمَّته بطلبها له ، وهو _سبحانه_ قدَّرها بأسباب منها ما سيكون من الدعاء)(مجموع الفتاوى14/143ـ148).
وبعد أما بعد:
فهل نريد ـ أخي ـ أن نكون ممن تنكب طريق الدعاء، وأقبل على الأحاديث السمرية مع الخلَّان والأصدقاء، ثمَّ نطلب نصراً من الملك العلام، ونحن مفرطين بحقوقه، مضيعين لدعائه؟ فحينها لا بأس أن نقول كما قال عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ: "عجباً من جلد الفاجر وعجز المؤمن"!!!(111/6)
وإذا كان الكفار يتعرفون على ربهم وقت الحروب والمعارك، ويطلب منهم رؤسائهم بالدعاء لأجل أن ينصروا على المسلمين، فألا يليق بنا أن يكون ذلك منَّا أشدُّ ، والحقيقة المخجلة أنََّ كثيراً من المسلمين نائمون، وقد نشرت مفكرة الإسلام في موقعها بتاريخ27/1/1424هـ، بأنَّ الرئيس جورج بوش طلب من جنوده الدعاء له بأن ينتصر على المسلمين ، ووزعت على الآلاف من رجال مشاة البحرية الأمريكية كتيبات بعنوان(الواجب المسيحي)، وتحتوي تلك الكتيبات على أدعية ، وعلى جزء يتمُّ نزعه من الكتيب لإرساله بالبريد إلى البيت الأبيض ، ليثبت أنَّ الجندي الذي أرسله كان يصلي من أجل بوش!!
وهكذا هو الصراع الدائم بين قوى الإسلام العظيم، وقوى التحالف الصليبي اليهودي، وكل يسير لمبتغاه، ويعمل لتحقيق هدفه، ولكن...هيهات هيهات فإنَّ العزة والغلبة للمؤمنين ولو طال الطريق، وامتدت الحروب، فإنَّ دين الإسلام هو الدين الحق، وهو دين الله ، وقد تكفَّل الله بحفظه، وأن يكون له العلو المطلق على سائر الأديان، وحينئذٍ فلا يأس، ولا قنوط، ولا تأخر، ولا تراجع، فإنَّ الغلبة لله ورسوله وجنده المؤمنين، وقد قال _تعالى_: "إنَّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد*يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار" (غافر:51) وصدق الله، وكذب الصليبيون.
لكنه النصر القريب
بإذن علَّام الغيوب
مهما تواترت الخطوب
والنصر آت فوق أشلاء الكماة المخلصين
النصر آت خلف إمداد الكرام الباذلين
والنصر آت بالدعاء وبالبيان
آت بإذن الله رغم غواية الغاوي وهذرمة الجبان
لكنَّ دورك يا أخي أن تقوم بنصرة دين الله ما استطعت، وبما تقدر، وبكامل وسعك الذي فطرك الله عليه،وكن مع ذلك داعياً، لدينك بأن ينصره الله، ويخذل الكفر وأوليائه، وسبح ربك كثيراً، وكفى بربك هادياً ونصيراً.
وأختم هامساً في أذن كلِّ رجلٍ من رجال الثغور المقدسة بكل حب، وإكبار:
ارفع أكفك يا مجاهد سائلاً *** ما خاب من يرجو الكريم ويطلب
ما خاب من يرجو الإله *** وعوده فالله حقٌ وعده لا يكذب
اسأله ذلَّا للذين تجبروا *** فالله يقصم من يشاء ويعطب
اسأله نصراً كي يعزَّ مجاهد *** واسأله بالتثبيت فهو المطلب
ارفع أكفك يا مجاهد إننا *** بهوى الصبابة في الملاهي نلعب
لا يستوي عند الإله دعاؤنا *** ودعاء من للكرب دوماً يطلب
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت ،أستغفرك وأتوب إليك، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين ، والحمد لله رب العالمين،،،
المصدر / موقع المسلم(111/7)
أثر الدعوة والجهاد على عقيدة الولاء والبراء في نفس الداعية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فإنَّ المتأمل في كتابِ الله عز وجل، وفي واقع الدعوةِ إلى الله عز وجل، يرى أنَّ هناك ارتباطًا وثيقًا بين الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله، وبين عقيدةِ الولاءِ والبراء في نفس الداعية.
فكلَّما قويت الدعوة وقوي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الداعية المخلص لربه، كلما قويت هذه العقيدةُ في نفسه، وظهرت بشكلٍ واضحٍ في حياته ومواقفه، ومحبته وعداوته؛ حتى يصبح على استعداد أن يهجرَ وطنهُ وأهله وماله إذا اقتضى الأمر ذلك.
بل إنَّ هذه العقيدة لتبلغُ ذروةَ السنام في قلب الداعية ومواقفه، وذلك في جهاد أعداءِ الله ولو كانوا أقرب قريب، قال الله تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) (التوبة:71) .
وقال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )) (لأنفال:72) .
والعكسُ من ذلك واضحٌ ومشاهد، فما من داعيةٍ فترت همتهُ وضعفَ نشاطهُ، ومال إلى الدنيا وأهلها، إلاَّ كان الضعف في عقيدة الولاءِ والبراء مصاحبًا لذلك؛ ويستمرُ الضعف والتنازل تبعًا لضعف الاهتمام بشأن هذا الدين، حتى يصل إلى مستوى بعض العامةِ من الناس الذين لا همَّ لهم إلا الدنيا ومتاعها الزائل، ولو نُوزع في شيءٍ من دنياهُ لهاج وماج، أمَّا أمر دينهِ ودعوتهِ فلا مكان لذلك عنده، فمثل هذا تصبحُ عقيدة الولاءِ والبراءِ في قلبه ضعيفةً ورقيقة، سرعان ما تهتز أو تزول عند أدنى موقف، ولعلَّ في هذا تفسيرًا لتلك الموافِ الضادةِ للعقيدة؛ والتي نراها من أولئك البعيدين عن الدعوة والجهاد، كتلك المواقف التي تظهرُ فيها أثر القوميات والوطنيات والقبليات على نفوس هؤلاء اللذين يعقدون ولاءهم وبراءهم، وحبهم وعداوتهم على هذه الرايات الجاهلية وليس على عقيدةِ التوحيدِ والإسلام، والحاصلُ أنَّ عقيدةَ الولاءِ والبراءِ ليست عقيدةً نظريةً تُدرسُ وتحفظ في الذهن المجرد، بل هي عقيدة عملٍ ومفاصلة، ودعوةٍ وجهاد، ومحبة وكره.
فهي تقتضي كل هذه الأعمال، وبدونها تصبحُ عقيدةً في الذهن المجرد، سرعان ما تزول وتضمحل عند أدنى موقفٍ ومحك، فإن أردنا أن تقوى هذه العقيدة العظيمة في نفوسنا، فهذا هو طريقها: طريق الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى. وكلَّما ابتعد الداعي عن هذه الأعمال مُؤثرًا الراحة والدعة، فهذا معناهُ هشاشة هذه العقيدةِ وتعرضها للخطر والاهتزاز، ولا غرابةَ في ذلك،
فإنَّ الإيمان كما هو مقررٌ عند أهل السنة والجماعة: قولٌ وعمل، يزيدُ بالطاعة وينقصُ بالمعصية. والولاء والبراء من أخصِّ خصائص الإيمان، فهو يزيدُ بالعمل الصالح والذي من أفضلهِ الجهاد والدعوة، وينقصُ بالمعصيةِ والتي منها تركُ واجبِ الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى.(112/1)
أثر الذنوب في الأمم والشعوب
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء : 1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
إن ما يحيط بالمسلمين اليوم من أخطار، وما ينزل بهم من الذل والهوان، والحيرة والخذلان والفقر والحرمان والخنوع والاستسلام، ما هو إلا بسبب ذنوبنا وما كسبته أيدينا. وإن الله تعالى يؤدب عباده بالشدائد والمحن ليعلموا ضعفهم وفقرهم وحاجاتهم إلى ربهم فيعودوا إليه ويخضعوا له ويتذللوا ، ويفزعوا إليه تبارك وتعالى ويتضرعوا في إخبات وانكسار.
وقد أمر الله تعالى عباده بذلك سيما عند نزول المصائب والمحن، وحلول الكوارث والفتن والبأساء والضراء كما قال الله تعالى مبيناً سنته في عباده: ? وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ?[الأنعام:42-43].
وقال سبحانه: ? وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ?[الأعراف:94].
وقال: ? وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ?[المؤمنون:76]. وإذا كانت هذه الآيات تصف إعراض الكافرين وقسوة قلوبهم وكيف فعل الله بهم وانتقم منهم في نهاية الأمر جزاء بما كفروا وهل يجازي إلا الكفور.
فهي سنته تعالى مع كل البشر في القديم والحديث لا تتبدل ولا تتغير فإن الله تعالى يبتلي الخلق بالجوع والقحط والمصائب والأمراض والشدائد، والحروب والأسر والقتل، يبتليهم بالأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية كما قال سبحانه: ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ... ?[البقرة: 155].
وإذا كان حظ الكافرين من ذلك هو الإصرار على الكفر والإعراض والاستمرار على الفسق والإجرام حتى نهاية المطاف وحلول الجزاء والعقاب كما قال تعالى فيهم ? وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ?[المؤمنون: 76]. يعني ما خضعوا له ولا ذلوا، ولم يبتهلوا إليه بالدعاء متضرعين ليكشف عنهم ذلك العذاب. إنهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك لشدة قلوبهم وقساوتها، وبعدهم عن الاتعاظ، ولوا استكانوا لربهم وتضرعوا لرحمهم الله ورفع ما بهم من ضر وبلاء. فلما لم يفعلوا ذلك أهلكهم الله بذنوبهم وأخذهم بغتة وبدون مقدمات وهم لا يشعرون.
وإذا كان هذا هو حال الكفار وطبعهم، فما هي أحوالنا يا ترى نحن المسلمين؟ هل نستفيد من الآيات والنذر .. هل ما يجري في عالمنا من مصائب وكوارث وفتن عظيمة قد أحدث تغييراً في حياتنا؟ هل ازددنا من الله قرباً وهل امتثلنا أمره واجتنبنا نهيه .. أم أننا ازددنا بعداً وإعراضاً.
هل ما يجري كان سبباً في تصحيح مفاهيمنا المعوجة وهل عرفنا أعداؤنا وما يكيدوه لديننا ودنيانا أم اختلط علينا الأمر والتبس الحق بالباطل.
هل دفعتنا هذه الأحداث إلى التمسك بالدين والأخلاق والفضائل وهل هي في ازدياد واطراد في مجتمعاتنا أم أن المجتمعات تتحلل وتنهار تحت مفاهيم الإباحية والفساد والتي ترتدي ثياب العولمة.(113/1)
إن الواجب على المسلمين جميعاً في هذا الوقت العصيب وقد حل بهم البلاء ونزلت في ساحاتهم المصائب والفتن والرزايا أن يجأروا إلى الله وأن يلحوا عليه في الدعاء فقد أمرهم بذلك في كتابه الكريم فقال سبحانه: ? ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ?[الأعراف:55 ] وقال سبحانه مبيناً قدرته وعظمته وأنه الذي ينبغي للخلق جميعاً أن يفزعوا إليه: ? قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ?[الأنعام:63-64].
إن الاستكانة لله والتضرع إليه تعالى عند نزول البلاء واشتداد الفتن والمحن. هو دليل التوفيق والإيمان وهو دليل خشوع القلب ورقته وحياته ويقظته قال أبو يزيد البسطامي رحمه الله: كابدت العبادة ثلاثين سنة، فرأيت قائلاً يقول لي: يا أبا يزيد، خزائنه مملوءة من العبادة، من أهل السماء والأرض، إن أردت الوصول إليه فعليك بالذلة والافتقار، وبذلك يعلم أن العذاب لا يرفع إلا بالإنابة وإفراد العبودية لله الواحد القهار.
إن المؤمن حين يلجأ إلى الله يبث إليه همومه ومشكلاته ويشكوا إليه يجد الأنس والطمأنينة وحلاوة المناجاة ولذة الإيمان.. ولهذا قال أحد العباد:
إذا ما تمنى الناس روحاً وراحة تمنيت أن أشكوا إليك وتسمع
فالمصائب كلها علاجها اللجوء إلى الله وبالتوبة والاستغفار ، أخرج ابن جرير عن الحسن قال: إذا أصاب الناس من قبل السلطان بلاء فإنما هي نقمة، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية ولكن استقبلوها بالاستغفار، واستكينوا وتضرعوا إلى الله وقرأ قوله تعالى: ? وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ?[المؤمنون:76].
وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: لا يمنعن أحداً الدعاء ما يعرفه من نفسه ـ يعني التقصيرـ فإن الله قد أجاب دعوة شر خلقه إبليس حين قال: ? ... رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ? [ص:79 ] فإن الله تعالى يفعل ما يشاء ويجيب من يشاء متى شاء، وهو تعالى يجيب دعوة الداعين له والمضطرين غالباً وإن كانوا مقصرين في حقه، تفضلاً منه سبحانه وإحساناً وإكراماً فقد امتن الله على المشركين بأنه هو الذي يجيبهم عند الاضطرار فقال: ? أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ?[النمل: 62].
وسياق الآيات يدل على أن الخطاب موجه للمشركين لأنهم لا يعترفون بهذه الأمور ومع ذلك لا يفردون الله بالعبادة فهو سبحانه يجيب دعاء المضطرين مؤمنين وكفاراً، وهذا مقتضى ربوبيته الشاملة لخلقه فهو يربيهم بالنعم، ومنها إجابة الدعاء وإغاثة الملهوف وإعانة المكروب وإزالة الشدائد وكشف الكربات.
قال تعالى: ? يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ?[الرحمن: 29] . ومن أسمائه الصمد .. وهو الذي تصمد إليه الخلائق وتقصده في طلب كل حوائجها وتفريج كرباتها وهمومها. وإذا توجه الخلق إلى ربهم في حال اضطرارهم تجتمع النية وتتوجه القلوب إلى الله تعالى ويُقطع الرجاء عن غير الله، ويتيقن الناس أن لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه حينها تحصل سرعة الإجابة كما قال سبحانه : ? أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ...?[ النمل:62].
ذكر ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن عون بن عبد الله قال: بينما رجل في بستان في مصر في فتنة ابن الزبير مع الحجاج، كان مكتئباً معه شيء ينكت به الأرض، إذا رفع رأسه فعرض له صاحب مسحاة، فقال له يا هذا مالي أراك مكتئباً حزيناً؟ قال: فكأنه ازدراه، واستصغر شأنه فقال : لا شيء فقال صاحب المسحاة: أللدنيا فالدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، والآخرة أجل صادق يحكم فيها ملك قادر يفصل بين الحق والباطل. فلما سمع ذلك منه أعجبه فقال له مبيناً سبب اكتئابه: أنا مكتئب لما فيه المسلمون من فتن ومحن قال: فإن الله سينجيك بشفقتك على المسلمين وسل، فمن ذا الذي سأل الله عز وجل فلم يعطه ، ودعاه فلم يجبه، وتوكل عليه فلم يكفه، أو وثق به فلم ينجه؟ قال: فعلقت بالدعاء وكان يقول : اللهم سلمني وسلم مني ، فانطفأت الفتنة ولم تصب منه أحداً.
وذكر الإمام النووي رحمه الله في كتاب الأذكار عن يحيى القساني عن بعض أهل الكتاب قال: أصاب الناس قحط في عهد داؤود عليه السلام فاختاروا ثلاثة من علمائهم فخرجوا حتى يستسقوا بهم، فقال أحدهم: اللهم إنك أنزلت في توراتك أن نعفوا عمن ظلمنا، اللهم إنا ظلمنا أنفسنا فاعف عنا.(113/2)
وقال الثاني: اللهم إنك أنزلت في توراتك أن نعتق أرقاءنا، اللهم إنا أرقاؤك فاعتقنا. وقال الثالث: اللهم إنك أنزلت في توراتك أن لا نرد المساكين إذا وقفوا بأبوابنا اللهم إنا مساكين وقفنا ببابك فلا ترد دعاءنا ، فسقوا.
وفي المستدرك بسند صحيح عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي عليكم زمان لا ينجو فيه إلا من دعا دعاء الغريق"() فلنتوجه جميعاً إلى بارئنا وخالقنا نعبده ونوحده ونقدسه ونعظمه ونستنصر به ونستغيث به وربنا سميع قريب مجيب.. فهل نغير أحوالنا ونحول ما في نفوسنا من ضعف وغثائية ووهن ?... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ...?[ الرعد:11].
الخطبة الثانية:
نستنتج مما جرى في تل أبيب عاصمة اليهود المغضوب عليهم إخوان القردة والخنازير من انتخابات دروساً:
الأول: أنها جرت انتخاباتهم في حرية كاملة فلا تزوير ولا اقتتال ولا تلويح بالعصى لمن عصى فهل نستفيد من ذلك ونجنب مجتمعنا الكثير من الشرور والمحن. وهل يرتقي الناس إلى هذا الفهم أم أنه كما قال أحدهم: بأن اليمن تحتاج إلى مئة عام لتكون مؤهلة للدخول في العالم المتخلف.
وإذا كان ابن آدم الأول قد استفاد الدرس من الغراب وهو طائر يتشاءم به كثير من الجهلاء، ومع ذلك استفاد من الدرس العملي. فحين قتل أخاه وكانت أول جريمة قتل تحصل على الأرض حمل أخاه على ظهره وندم على فعلته ولم يعلم ماذا يصنع بجثته فبعث الله غرابان قتل أحدهما الآخر ثم حفر الغراب القاتل في الأرض ووارى الغراب المقتول في التراب ففعل ابن آدم مثله ودفن جثة أخيه فكانت سنة الدفن ، أفلا يليق بنا أن نأخذ العبرة والدرس من أي أحد حتى لو كانت من عدونا.
سؤال نترك الإجابة عليه لأصحاب الشأن علهم يعقلون.
والأمر الآخر في الانتخابات اليهودية التي جرت ، ترون أن اليهود قد اختاروا المتدينين الذين يسيرون على تعاليم التلمود وما يمليه عليهم الحاخامات وهم رجال الدين عندهم وذلك لأجل تحقيق تنبآتهم الكاذبة في حكم العالم والسيطرة على الشعوب.. إنها عقيدة يعتقدونها ويسيرون عليها على الرغم من بطلانها.
هذا ما يفعله اليهود من أن دنست أقدامهم النجسة أرض فلسطين المباركة ، إنهم يسيرون على تعاليم دينهم الذي وضعه لهم أحبارهم وشياطينهم والعرب يدخلون المعركة بغير دين بل ويحرصون على إقصائه من الحياة ومحاربته فماذا جنوا من ذلك، لقد ضلوا وذلوا ولم يفلحوا ولن يفلحوا حتى يراجعوا دينهم الحق. وإذا فعلوا ذلك وصدقوا فسوف يعزهم الله وينصرهم ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً فهل يستيقظ الحكام ويبادروا إلى الصراط المستقيم صراط الله العزيز الحميد .
أيها المؤمنون اذكر نفسي وإياكم بأيام عشر ذي الحجة التي أظلتنا والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء"()
فاغتنموا هذه الأيام في العمل الصالح وكثرة الذكر والدعاء واللجوء إلى الله تعالى والإحسان إلى الخلق والاهتمام بالضعفاء والمساكين وتفقد أحوال الأسر الفقيرة المتعففة التي لا تسأل الناس ولا يأبه لها أحد.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
المستدرك للحاكم 1/687، حديث رقم: 1869 .
صحيح البخاري: كتاب الصوم: باب العمل في أيام العشر: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .(113/3)
أثر الشهوة على الإنسان ...
قال ابن القيم رحمه الله:
الصبر على الشهوة أسهل من الصبر على ماتوجبه الشهوة، فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة..
وإما أن تقطع لذة أكمل منها..
وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة..
وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه..
وإما أن تذهب مالا بقاؤه خير من ذهابه..
وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه..
وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة..
وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك..
وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لايقارب لذة الشهوة..
وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة..
وإما أن تشمت عدواً وتحزن ولياً..
وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة..
وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لاتزول..
فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق.
ومن آثار الشهوة التي يجنيها صاحبها:
1. قلق وخوف يحيط به من كل ناحية قلق عن أعراض الفتيات وخوف من الفضيحة والعار وقلق من هجوم الأمراض النفسية.
2.الشرود الذهني والتشتت العقلي واختلال التفكير، تشعبت به الطرق وأعيته المسالك وسيطرت الشهوة على كامل قواه الفكريه.
3.قلة الإنتاج الفكري والعلمي لاشتغال فكره وتحطم نفسيته وإجهاد جسمه.
4. السعار الجنسي وتوهج الغريزة فهو كالذي يشرب من ماء البحر كلما شرب كأساً ازداد عطشاً لايرتوي أبداً.
5. ذهاب مخ الساقين وضعف البصر وشحوب الوجه والإحساس الدائم بالتعب والإرهاق وفي مقدمتها مرض الإيدز هذا المرض الذي أثار الرعب في قلوب أعداء العفاف والفضيلة.
6.الشعور بالملل والتهرب من المسؤولية وقلة الصبر والتحمل والحساسية المفرطة والغضب لأتفه الأسباب وضيق الصدر والتشنجات العصبية والأمراض النفسية.
7. هدر الأوقات من أجل لذة لحظات وضياع زهرة الشباب في السعي خلف الشهوات.
8. غياب أموال طائلة يمكن أن تصرف في كثير من المصالح الدينية والدنيوية.
9. جريمة الزنا دين يحمله الزاني ليوفيه مستقبلاً في أهله.
قال الشافعي رحمه الله:
عفوا تعف نساؤكم في المحرم ... ... وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن أقرضته ... ... كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
من يزن يزن به ولوبجداره ... ... إن كنت ياهذا لبيباً فافهم
10. ضعف إرادة الخير والصلاح تدريجياً في القلب وسيطرة المعصية عليه حيث يصبح عبداً لشهوته أينما توجهه توجه.
11. غضب الله ومقته وحلول المصائب والآفات وعدم البركة في المال والعمر والأولاد.
12. مقت الأقربية والأرحام لتضييع الحقوق وعدم الاكتراث بالمسؤولية.
وصدق الله حيث قال في كتابه العزيز } ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى . قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً . قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى {
والجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(114/1)
أثر العقيدة في توجيه السلوك والأخلاق
محمد الناصر
إن الإيمان الصادق يصنع الأعاجيب ، فمتى استقر في القلب ظهرت آثاره واضحة في المعاملة والسلوك . ( والإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية ؛ إذ إنها بمجرد تحققها في عالم الشعور ، تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج وتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع ) .
والمسلم إذا تمكنت العقيدة من نفسه تبرأ من المشركين وما هم عليه من عقائد وأفعال وسلوك ، وإذ تخرّج على التربية الإيمانية نموذج فريد من الرعيل الأول ، كانوا قمماً شامخة ؛ ارتفعوا فوق جواذب الجاهلية ومفاتن الدنيا وما فيها من مغريات . وسارت الأجيال المسلمة تنهل من التربية المثلى التي غرسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن الأخلاق الفاضلة التي لم تتغير من فرد إلى فرد ، ولا من مجتمع إلى آخر بل هي قيم ثابتة تزداد ثباتاً كلما مرت الإنسانية في تجاربها خلال هذه الحياة . وهي أخلاق متكاملة تحتضن جميع الفضائل والأعمال الخيرة لصالح الفرد والمجتمع وني جميع لا الميادين .
وقد يتساءل البعض قائلاً : ما علاقة العقيدة بالأخلاق ؟
ألا يمكن أن يكون للناس أخلاق طيبة بلا عقيدة ؟ ! نعم ، قد يوجد أخلاق عالية مُثلى كانت عند عرب الجاهلية وعند المجتمعات غير المسلمة أحياناً ولكن هذا سببه أن النفس تحتجز رصيدها الخلْقي بحكم العادة والتقليد أمداً طويلاً ، بعد أن تكون قد فقدت الإيمان كجزء من العقيدة ؟ .. وقد تحتجزه فترة على وعي منفصلاً عن العقيدة ، على أنه شيء ينبغي في ذاته أن يقوم . ولكن النتيجة الحتمية واحدة في النهاية ..
إنه ما دامت العقيدة قد انحرفت فلا بد أن تنحرف الأخلاق أخيراً وما دامت الأخلاق قد انفصلت عن العقيدة فلا بد أن تموت . وإن هؤلاء المخدوعين - حسبوا بتأثير الجاهلية - أن التصورات قد تنحرف ثم يستقيم السلوك . إن هذا وهم من أوهام الجاهلية ، لأن هؤلاء الناس قد ضُلّلوا عن حقيقة الشر الذي يعيشون فيه .. وأن الحياة البشرية ذاتها مهددة بالدمار من ضخامة هذا الشر وعنفوانه ومن ضخامة تمكُّنه من الحياة الواقعية للناس .
وغاية المسلم الأساسية في أخلاقه ، أن يحقق مرضاة ربه ، ذلك أن هدف المؤمن الأول من أعماله كلها هو ابتغاء وجه الله - جل وعلا - فقد أمره - سبحانه وتعالى - بذلك ، وعده بالجزاء الأوفى على أعماله الخيرة يوم القيامة . قال-تعالى- : [ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * ومَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ ][الزلزلة : 7-8] . كما أن المسلم يحقق سعادته في الدنيا ؛ يقول - تعالى - : [ وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ][النور : 55] .
فالسرور ثمرة عملية لمن يتحلى بالأخلاق الفاضلة ، والطمأنينة القلبية والشعور بخيرية الذات وخيرية المصير من ثمرات الانسجام بين الإيمان والأخلاق وذلك نتيجة طبيعية ؛ لأن الإنسان عندما يتصرف بمقتضى عقيدته - فيؤدي الواجبات كما ينبغي أداؤها ويتجنب المحرمات - يشعر بأنه إنسان خيِّر قوي الإرادة .
ومن يقرأ للملاحدة والكتاب الوجوديين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، يعلم مدى ما يعانون من الاضطراب النفسي والقلق والحيرة في أعماقي قلوبهم . ذلك أن في طبيعة الحياة الإنسانية جانباً لا يُملأ إلا بالإحسان .. وكثيراً ما يدفع القلق هؤلاء الحيارى إلى محاولات الانتحار .
وإذا تفحصنا العلاقات الاجتماعية في حياتنا المعاصرة نجد أن الاضطراب في السلوك هو الظاهرة السائدة ، وأن الابتعاد عن الاستقامة مما تعج به أكثر المجتمعات الحديثة ، وهذا دليل واضح ومؤشر قوي على ابتعاد الناس - حتى كثير من المسلمين - عن صفاء عقيدتهم المؤثرة والتزامهم المنضبط بتوجيهاتها .
سوء الخلق دليل على ضعف الإيمان :
ربط الإسلام بين الإيمان والسلوك ربطاً قوياً ، ونلاحظ ذلك في نصوص كثيرة مثبتة في الكتاب والسنة .
ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : » من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت « وقوله - صلى الله عليه ومسلم - : » أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً « .
إن قرن الإيمان بحسن الخلق ، والسلوك الرفيع أمر يلفت النظر إلا أن كثيراً من المسلمين يهملون هذا الجانب أيامنا هذه مع الأسف الشديد .(115/1)
فبينما كان المسلمون الأوائل إذا سمعوا آية فيها تكليف سارعوا إلى تطبيقه ، وإذا نزل تحريم لأمر انتهوا عند ذلك من صدق الإيمان وصلابة العقيدة .. وقد عرفنا من كتب السيرة في قضية تحريم الخمر ، كيف أسرع المؤمنون إلى إراقة الخمور في شوارع المدينة المنورة . وهنا سؤال مهم يطرح نفسه : وهو إذا كان للعقيدة هذا الدور الفعال في توجيه السلوك . فلماذا لا نرى ذلك الأثر في واقع المسلمين الآن ؟ ! إننا نجد البون شاسعاً بين ما يدّعون من عقيدة وبين ما يسلكون ويتصرفون به في المعاملات والسلوك .
والحقيقة : أن الدعوى شيء والإيمان الحقيقي شيء آخر ؛ إذ إن الإيمان حقيقة وكل حقيقة لها علامة ، وعلامة الإيمان العمل به ، وإذا دخل الإيمان القلوب ، واستقر فيها نبضت بالحيوية ، ودفعت النفوس إلى العمل بموجبها .. وهؤلاء ممن [ يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ][آل عمران : 167] ؛ لأن معيار صدق الإيمان هو العمل الصالح ، والإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العمل ، والاعتقاد الصحيح يدفع إلى السلوك الطيب .
إن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان ، أو فقدانه ، فالرجل المعوج السلوك ، الذي يقترف الرذائل غير آبه لأحد يصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - حاله بأنه بعيد عن الإيمان بعيد عن الحياء ، يقول - عليه الصلاة والسلام : » والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، قيل : مَن يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه « ويقول - صلى الله عليه وسلم - تقريراً لهذه المبادئ الواضحة في صلة الإيمان بالخلق القويم : » ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال : إني مسلم ! ، إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان « رواه مسلم . لقد أصبحت الشكوى مريرة لما أصاب الناس في العصور المتأخرة من انهيار في الأخلاق ، واضطراب في الموازين ، فالجار يشكو جاره ، والأمانة ضاعت بين الناس ، والمراوغة راجت سوقها ، والتعلق بمتاع الدنيا فاق كل القيم عند كثير من البشر ، وإنه لخطر عظيم ينذر بالشرور والفوضى ، وإن ذلك لدلالة واضحة على فساد التصور وضعف الإيمان ، فظهر بسبب ذلك انفصام نكد وازدواجية بين مفهوم الإيمان ومقتضياته . ومن هنا يلزم الدعاة والمربين أن يتنبهوا لهذا الخطر ، وأن يبينوا للناس حقيقة ما هم فيه ، وأن الإيمان الصادق لا يعني حفظ بعض المتون في العقيدة أو حتى تعلُّمها إذا لم يتمثل المرء أخلاقياتها ..
لابد من تمثل العقيدة وتشرُّبها ، وأن تتحول إلى واقع عملي في الحياة والتعامل بين الأنام .. تأسياً بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين تحولوا إلى نماذج فريدة سلوكاً وإخلاصاً وطهراً(115/2)
أثر المعاصي في الأمة
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء : 1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
ولكي تقوم حياة الناس على العدل فقد أصل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في وجدان كل مسلم وحث عليه فقال عليه الصلاة والسلام: "كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الناس صدقة." .
وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن من المنجيات من عقاب الله في الدنيا والآخرة هو التزام المسلم بالعدل في الغضب والرضا كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني رحمه الله : "ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، وثلاث منجيات: حشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضا". وهذه أعلى مراتب العدل، إذ قد يعدل الإنسان في حال الرضا، ولكن يندر أن يعدل وهو غاضب أو ساخط أو كاره .. وقد خص الله تعالى أهل العدل في الدنيا، بإعلاء شأنهم في الآخرة، وتقريبهم منه سبحانه كما في الحديث : "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا" .
والأمة المسلمة لا يشفع لها انتسابها إلى الإسلام في استحقاق التأييد من الله والنصر إذا كانت ظالمة وبعيدة عن العدل.
إن من أسباب التمكين في الأرض والتأييد من الله عز وجل أن يحال دون تفش المظالم في المجتمع، وأن يعم العدل حياة المسلمين، فإن الدول والأمم لا تسود ولا تستقر وتهنأ بالعيش إلا إذا كانت تتمتع بقدر من العدل، أما إذا كانت جائرة ظالمة، فإنها حينئذ تحل بدور السقوط والانحلال ثم الزوال .. ومن ينظر في سير الدول والأمم في القديم والحديث سيعلم الحقيقة وهذا ما جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: إن الله يقيم الدولة العادلة ـ وإن كانت كافرة ـ ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة.
أيها المؤمنون إن المسلمين اليوم يعانون من الظلم وهم أبعد ما يكون عن تحقيق العدل في حياتهم إلا من شاء الله ، الأفراد فيما بينهم لا يتعاملون بالعدل وإنما بالظلم فالقوي يقهر الضعيف ويجور عليه، والغني يهضم الفقير ويؤذيه، والجار لا يأمن شرور جاره ويظلمه.
وكذلك الأحزاب والتنظيمات السياسية والدينية القوي منهم يجور على الضعيف، يقهر الحاكم منهم المحكوم، ويصادر حقوقه ويحقره ويخذله ويظلمه في بلدان المسلمين إلا من رحم الله. حكام يقفون للظلم والطغيان ويحاربون العدل والعدالة ويؤممونها بل لا يطيقون العدل ولا يريدون .. ? اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ...?[ فاطر:43]. أيها المؤمنون أحوالنا وأوضاعنا تسر العدو وتغيض الصديق، وتغضب رب العالمين، حرمات الله تنتهك وحدوده تعطل ولا تنفذ. ودينه يحارب تحت مسميات ومصطلحات يروج لها الكفار والمنافقون، تسلط واستبداد من قبل الحكام ، وممارسة سياسات القهر والظلم واغتيال لكل معاني العدل في حياة الناس ظلم في الأعمال وفي توزيع الثروات، ظلم في تطبيق الأنظمة والقوانين التي تسحق الصغار وينجوا منها الكبار في كافة المجالات.(116/1)
وحين انتشرت هذه المعاصي والمظالم وغيرها في المجتمعات الإسلامية عاقبنا الله عز وجل بعقوبات ومصائب وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وكأن الله أطلع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على ما ستؤول إليه الأوضاع وما ستعاقب به الأمة حين تتمرد على الله وتأتي محارمه، فقد ذكر صلى الله عليه وسلم الأسباب والمسببات التي تودي بالأمة وتفسد حياتها وتشقيها في دنياها وأفرادها، وحذر من الوقوع فيها واستعاذ بالله من ظهورها ووقوعها فقال كما جاء في سنن ابن ماجة وغيره بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله؛ إلا سلط الله عليهم عدواُ من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، ومالم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"
وفي صحيح الحاكم بأسانيد صحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما نقض قوم العهد قط إلا كان القتل بينهم و لا ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا سلط الله عليهم الموت و لا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر".
وفي الطبراني بلفظ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خمس بخمس قالوا : يا رسول الله وما خمس بخمس ؟ قال : ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر".
هذه هي أفعال الخلق وأخلاقهم عادت عليهم بالعقوبات والأزمات التي لن يخرجوا منها إلا بالتوبة والرجوع إلى الله..
إن من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآيات صدقه ما أخبر به من أمور الغيب التي أطلعه الله عليها فتقع كما أخبر .. وهذا مما يزيد المؤمن إيماناً وتصديقاً واتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا"
وها هي البشرية اليوم تعيش حياة بهيمية منحلة تجاوزت كل الأعراف والقيم والأخلاق وغرقت في مستنقع من الفواحش ومن سلم من هذا الفساد لاحقته الأمم الكافرة ببرامجها ومؤتمراتها ومقرراتها التي تدعوا إلى تحطيم الأسرة، وتحرير المرأة من كل فضيلة وحشمة وسوقها إلى ممارسة كل رذيلة. إن الكفار اليوم يشرعون ويقننون القوانين التي تبيح الزنا والخمور، ويطالبون الدول والمجتمعات بل ويلزمونهم بتطبيق ذلك وممارسته واقعاً عملياً وإلا صنفوهم ضمن الدول التي تحمي الإرهاب ولا تنساق لقرارات الشرعية الدولية ، أليس هذا هو ما يجري في العالم.
وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك منذ ما يقرب من خمسة عشر قرناً من الزمان .. وأن ذلك بكون من علامات الساعة وأشراطها فقد أخبر عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث بأن من أشراط الساعة ظهور الزنا وإشاعة الفاحشة واستحلالها جاء في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير.."
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا .."
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون:
ماذا جنت البشرية من جراء هذا الفساد الكبير لقد عاقبها الله بالأوبئة والأمراض التي لم تعهدها البشرية في تاريخها الطويل إن مرض الإيدز وهو واحد من الأمراض الكثيرة التي يعاقب الله بها الزناة في الدنيا قبل الآخرة.. يحصد سنوياً ملايين من البشر ثم هؤلاء الكفار لا يتوبون ولا يذكرون وإنما يزيدون في الفسق والفجور ويصبون الزيت على النار، بدعوتهم إلى المزيد من الفساد والانحلال وتحطيم كل الحواجز التي تحول بين الناس وبين الوقوع في تلك الفواحش.(116/2)
أيها المسلمون: إن مجتمعاتنا مهددة بهذه الفواحش ومن يسبر غور المجتمع ويدرس أحواله سيجد بوادر خطيرة تظهر هنا وهناك تهدف إلى إشاعة الفاحشة وتطبيع المجتمع الإسلامي بطابع الكفار الذين يطالبوننا بإباحة الزنا والخمور وفتح المجالات والأبواب على مصاريعها لاستقبال فجورهم وفسادهم ? وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً? النساء: 27.فواجب المسلم أن يتمسك بدينه وأن يعض عليه بالنواجذ ويحمي أسرته.
ومما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقوبات التي ستحل بالأمة حين تعتمد الغش والخيانة معياراً لها في معاملاتها تتعامل به أخذاً وعطاءاً قال عليه الصلاة والسلام: "ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم".
إن ظهور الغش والخداع والخيانة وإفساد المعايير والموازين والبخس تنبئ عن حب الدنيا والتهالك عليها ونسيان الله والدار الآخرة ولقد حذر الله في كتابه من الوقوع في هذه الجريمة .. وأمر بالأمانة والاستقامة في البيع والشراء وترك الغش بالمكاييل والأوزان في كل شيء لأن هذا من الإفساد في الأرض وذلك يؤدي إلى سخط الله والتعرض إلى العقوبة الشديدة كما فعل الله بقوم شعيب الذين أهلكهم جزاء فسادهم وعدم طاعتهم لنبيهم الذي قال لهم ?... أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ?[هود:85].
وما نعانيه اليوم من أزمات اقتصادية خانقة وما نمر به من سنوات عجاف، وما نكتوي به من ظلم وجور الحكام وارتفاع الأسعار وقلة الأمطار كل ذلك إنما هو نتيجة لمعاملاتنا فيما بيننا.. البعيدة عن العدل والأمانة المليئة بالبخس والخيانة، في السلع والبضائع وغيرها.
فهلا من توبة صادقة .. نطهر بها أنفسنا وواقعنا ونرضي بها ربنا. هلا من تعاون على البر والقوى في حماية ديننا ودنيانا. هل من وقفة صادقة ضد التيار الإفسادي الذي يتبناه في كل بلد أكابر مجرميه ليخرقوا السفينة ويغرقوا الأمة في مستنقع الانحلال والفوضى..
إنه لا خيار لنا إلا أن نصدق مع الله ونطيعه ونتبع رسوله صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره وفي اليسر والعسر.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير: باب: من أخذ بالركاب ونحوه: الحديث رقم:(2827) . وصحيح مسلم في الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، رقم: (1009) .
مجمع الزوائد: .كتاب الإيمان:باب في المنجيات والمهلكات: الحديث رقم: (313) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما . وقال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة ومن لا يعرف.
مسلم 3/1458، حديث رقم: 1827 .
سنن ابن ماجة 2/1332، حديث رقم: 4019، وحسنه الألباني.
لمستدرك 2/ 136، حديث رقم:2577، وقال الذهبي: على شرط مسلم.
المعجم الكبير 11/45، حديث رقم: 10992 .
سبق تخريجه.
صحيح البخاري: باب: ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسمِّيه بغير اسمه:الحديث رقم:(5268) .
صحيح البخاري: كتاب العلم: باب: رفع العلم وظهور الجهل: الحديث رقم: 80/81 ، عن أنس رضي الله تعالى عنه .
سبق تخريجه .(116/3)
أثر المعرفة الاصطلاحية في صد الحروب الصليبية
قسم الثقافة الإسلامية جامعة الخرطوم*
الحمد لله الذي شرع دين الإسلام ناسخاً للأديان السالفة, وجعل القرآن مهيمناً على الكتب السابقة, وارتضى محمدا صلى الله عليه وسلم خاتماً للرسل الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام. وبعد..
فلا زال للكلمة خطرُها في المعارك, وما فتئت العبارات والاصطلاحات تمثِّل حجر الزاوية في الحروب, كما أنها أمارةٌ لتميُّز الهوية, وعلامة الانتماء عند الشعوب.
ومن هنا كان لزاماً على الأوفياء من هذه الأمة أن يَعودوا إلى الشرع الحنيف، يستمدّون منه الاصطلاح الرشيد والفهم السّديد. فقد أوجب الله تعالى على عامة المسلمين أن يسألوا أهل الذكر إن كانوا لا يعلمون، وأن يردّوا الأمور إلى أهل الاستنباط منهم, كما فرض على العلماء بيان الحق والصدع به, وحرّم عليهم كتمان العلم. ولا شك أنّ دور العلماء في الفتن جليل؛ فإنهم مصابيح الدُّجى ورُعاة الجيل وهُداة الأمة إلى سواء السبيل.
وفي معترك هذه الحروب الصليبية الجديدة, كان لا بدّ من إدراك طبيعة هذه الحملة على الإسلام, وأنها تسعى إلى استثمار الغزو الفكري والتبعية الثقافية والحملات التبشيرية وأشكال القضاء على الهوية الإسلامية.
[1] إنّ المتأمل في الحرب الإعلامية التي سبقت هذه الحملة الصليبية يُدرك بوضوح تحميل التسميات البريئة جملةً من المعاني الرديئة، وتجميل السموم الناقعة بالأسماء اللامعة، بحيث صار التواطؤ مع اليهود (شرعيةً دولية)، وأصبح الاعتداء على المسلمين في كل مكان (تنفيذاً لقوانين الأمم المتحدة)، وأمسى الظلم والعدوان متدثّريْن بلبوس (مجلس الأمن) و(الرأي العام العالمي)؛ تهويناً وتدليساً, ومخادعةً وتلبيساً. وهذا سرُّ تعبيرهم عن (الجهاد) بـ (الإرهاب)، وعن (الاستشهاد) بـ (الانتحار)، وعن (الاستقامة) بـ (التشدّد والتطرف)، إلى آخر القائمة الطويلة من المكر الاصطلاحي والخديعة اللفظية؛ لتحوير المفاهيم الشرعية في أذهان الأمة الإسلامية.
وقد نهى القرآن الصحابة الكرام عن متابعة اليهود في قولهم (راعنا) وأمرهم أن يستبدلوا هذا التعبير بلفظ (انظرنا)، قال القرطبي:"أمر المؤمنين أن يتخيّروا من الألفاظ أحسنها، ومن المعاني أرقّها" [الجامع لأحكام القرآن: 2/57], وذكر أنّ في الآية دليلاً "على تجنُّب الألفاظ المحتملة التي فيها التعرُّض للتنقُّص والغضِّ"[السابق]، كما نبه الرازي على أنّ الله تعالى "منع من قوله (راعنا) لاشتمالها على نوع مفسدة "[التفسير الكبير: 3/203]. وفي هذا دليلٌ واضح على أهمية الاصطلاحات الشرعية.
[2] إنّ تعمُّد التلبيس في استعمال المصطلحات, يُراد منه التشويش على المفاهيم وقلب الموازين في عقول الشعوب التي يوجَّه إليها الاستعمار بكل أنواعه؛ ومن هنا عبر مالك بن نبي ـ بوعي عميق ـ على مقالة (مدام لويزفيس) في (نية تحضير البلاد المستعمرة) بقوله :"من الطبيعي أنّ (نية) كهذه تخلق اشتباهاً يجعل فِعْلَيْ (حضَّر) و(استعمر) بمثابة المترادفَيْن"[في مهبّ الريح لمالك بن نبي: 118].
ويؤكّّد هذه الطريقة الماكرة من الخداع الاصطلاحي أنّ الأمريكيين يعبّرون عن بسط نفوذهم على شعوب الأرض بأنه (خدمة إنسانية)، وليس مجرّد تحقيق للمصالح الغربية[الإعلام وقضايا العالم الإسلامي د. عبد القادر طاش: 13-14]، ولذا يقول (وليام فولبرايت) السناتور السابق ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي معلّقاً على هذه النزعة العنصرية التوسعية للغرب: "إنّ سياسة القوة تمارس مستترة بشتى الأسماء, وقد كان البريطانيون يسمّونها (عبء الرجل الأبيض) والفرنسيون (رسالتهم الحضارية) وأمريكيو القرن التاسع عشر (مصيرهم المحتوم). وقد كتب (هيرمان ملفيل) الأمريكي خلال القرن الماضي يقول: نحن الأمريكيين شعب خاص, شعب مختار. إننا نحمل دفة الخلاص لحريات العالم"[أمريكا وغطرسة القوة، قدري قلعجي: 35].
[3] إنّ شريعة الإسلام التي كرّمت الإنسان, قد طهّرت الجَنان وهذّبت الجوارح واللسان ((الرحمن علّم القرآن. خلق الإنسان. علّمه البيان))[سورة الرحمن: 1-4]. فقد ورد النهي عن أن يقال (عبدي) و(أمتي), وجاء التوجيه أن يُقال (غلامي) و(فتاي) و(فتاتي). إشارة إلى تهذيب المفاهيم تبعاً لتهذيب المصطلحات. وقد روى البخاري في كتاب الأدب عن سعيد بن المسيب بن حزن أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سأل جد سعيد عن اسمه فقال: "حَزْن". قال: (بل أنت سَهْل). قال: "لا أغيّر اسماً سمّانيه أبي". قال ابن المسيّب: "فما زالت الحزونة فينا بعدُ".
[4] أكّدت الشريعة السمحاء أهمية أن تسود مصطلحاتها الغراء في حياة المسلمين كلها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يغلبنَّكم الأعراب على تسميتكم العشاء بالعتمة), معتبراً غياب المصطلح الشرعي هزيمةً للمسلمين، وكفى بذلك عبرة لأُولي الألباب!(117/1)
[5] إنّ انعكاس المصطلح, يمثل انتكاسةً في عالم القيم والمبادئ؛ فالألفاظ مرآة القيم عند الأمم كما قال الشاعر:
ومن هنا يؤكد القرآن للمسلمين أن يقولوا قولاً سديداً، ويعلّق على ذلك أن يصلح لهم أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم. ورُبَّ كلمةٍ لا يلقي لها المرء بالاً تهوي به في جهنم سبعين خريفاً. وقد نبّه مالك بن نبي رحمه الله على أنّ إغفال مصطلح (المسجد) في كتاب (فن العمارة بالجزائر) جناية علمية[مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي: 145]، وعلّق على تعبير (الحكومة وشعبها) بقوله: "لقد عُكِست علاقة الملكية. فبدلاً من أن يكون للشعب حكومة, أصبح للحكومة شعب. وأضحى المالك مملوكاً. بَيْدَ أنّ هذه الهفوة من أعراض انعكاس سُلَّم القيم"[السابق: 80].
[6] لا ينبغي للمسلمين ـ بعد أن يحرّروا مفاهيمهم الشرعيّة ـ أن يبالوا بالحرب الإعلامية الاصطلاحية التي يشنها أعداء الإسلام ضدّهم. بل إنّ بعض ما ينعتونهم به من الاتهامات مثل تهمة الإرهاب إنما هو شرفٌ وعزٌ لهم. ورحم الله ابن الزبير فقد كان أهل الشام ينتقصونه بزعمهم حيث يقولون له: (ابن ذات النطاقين) فيقول:
"وتلك شِكاة ظاهرٌ عنك عارُها"[راجع فتح الباري 12/231]
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.(117/2)
أثر المعرفة في بناء الدولة الحضارية في المشروع الإسلامي
(السودان نموذجاً)
د. أحمد المجتبى بانقا*
توطئة: إذا كان وجه الشبه والاختلاف بين العلم والمعرفة يؤطر لنظرية هادفة بدورها لتحقيق الرفاهية[1] في الاقتصاد والمجتمع ، والسياسية ، .. الخ ـ فإن المعرفة بهذا المفهوم تمثل المحور الموضوعي في مفهوم الدولة من حيث البناء والممارسة.
وبهذا البعد المعرفي تتبلور النظريات في أن بناء الدولة يرتكز على منحنيين هما المعرفة ، والتشريع ، مع أن التشريع بحاجة لسلطة داعمة تضمن له التطبيق والاستمرار ، مما ساعد علي قيام السلطة التنفيذية وعليه فإن الدولة أصبحت تتألف من ثلاث جوانب هي : البحث العلمي ، السلطة التشريعية ، السلطة التنفيذية .
وهذا ما يفسر مضمون ما تحويه مستودعات الفكر الإسلامي بجانبيه النبوي والرسالي ، فالنبوة حوت جانب المعرفة فكانت سابقة للرسالة[2] ، بينما اهتمت الرسالة بقضايا الأحكام[3] ، فجاءت مفردات الطرح الاسلامي مستوعبة لكل قضايا المجتمع .
والسودان وباعتباره واحداً من الدول التي انتظمت الطرح الإسلامي كسلطة معرفية مستوعبة للسلطة التشريعية ، في داخل مجتمع متعدد ومتباين الثقافات ، والأعراق وفي حالة عدم استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي في كثير من أجزائه على امتداد عمر المشروع الاسلامي المطروح ، فإن التجربة مرت بتحديدات ساعدت على بلوغ الواقع المشاهد ، وأصبح من اليسير التفريق بين تجربة الطرح الإسلامي الحالي ، وبين البينات السالفة الذكر التي كانت إحدى أطروحات المشروعات السابقة والتي أصبحت في غابرة التاريخ.
وانطلاقاً من هذه المقدمات فإن الورقة وجه من وجوه التعبير عن حيثيات الطرح الاسلامي السوداني بالتركيز على الجوانب المعرفية وأثره في بناء التراكمات الحضارية للدولة الاسلامية ، لا سيما وأن السودان يمثل قارة بشرية تتعدد وتتباين فيها الثقافات والمعتقدات والموروثات ..
أرتأيت أن تتألف محاور الورقة من الآتي: المدخل لمفهوم المعرفة، وذلك بالبحث في أهميها ومعطياتها وتفعيلها باعتبارها نقطة ارتكاز أساسية لنهوض الدول وانحطاطها . أثر الوعي المعرفي على بنيات الدولة : السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، الوعي المعرفي واثره في التعددية (أي المعرفة الإسلامية والآخر) وهو معنى بالدرجة الأولى ببسط الحريات فكرا ومنهجاً.
على أن يكون ذلك مشوبا بأثر التجربة السودانية الإنجازات والاخفاقات ، ولكي يكون الطرح موضوعياً ، فمن مرتكزات البحث إبراز مقومات ومرتكزات التجربة الإسلامية الأولى لا سيما مجتمع الفضيلة في عصر الرسالة أي دولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما يمثل الطرح الإسلامي فكرا ومنهجا باعتباره قدوة للتأسي والاتباع ، وأصبح ميزاناً لكل طرح اسلامي.
ومن أبرز النقاط الهادفة لبلورة محاور الدراسة :
v إبراز دور المعرفة كأساس في تقويم العمل الإسلامي على كافة الأصعدة .
v تقويم تطبيقات التجربة الإسلامية بدراسة الإنجازات والإخفاق ومدى ارتباط ذلك بالمستوى المعرفي .
v دراسة المعوقات والفرص المتاحة في سبيل تدعيم التجربة الإسلامية السودانية .
v استشراف مستقبل العمل الإسلامي في سبيل المتغيرات الجوهرية على صعيد الساحة السياسية السودانية المعاصرة ، وتداعيات السلام المنشودة .
v الدعوة لتوحيد الصف ونبذ الخلاف ، وذلك ببسط التعريف بضرورة التوحيد وتكثير السواد بكل من هو غيور على الطرح الإسلامي ، ويتم ذلك بوجاهة الطرح المتمثل في تغليب جانب الحسبة على المحسوبية التي كانت هي الحالقة لكل عمل اسلامي طموح عبر تأريخ العالم الاسلامي .
مدخل لقراءة المصطلحات البحثية:
يعتبر البحث في المعرفة كلفظ اصطلاحي عامل في مجال الحياة البشرية ، مصطلح استيعابي يعني بأوجه التطور والرقي الأممي ، وأصبح يربط تقدم الأمة وتأخرها بهذا المصطلح . فالمعرفة تعني الانفتاح العلمي الذي هو سبب مباشر في إنماء التقدم الاجتماعي ، والسياسي ، والاقتصادي … إذاً ما هي هذه المعرفة ؟ وما معاييرها ؟ وخصائصها ؟ وحدودها؟…
لقد عرفها سقراط بالفضيلة وحدد لها مبادئ : الرحمة ، والعدالة [4] والشجاعة والعفة[5] . ويقصد بكل هذا : خلق حالة من التوازن بين أفكار وآراء الحكام والمحكومين مما يساعد على مهمة الخضوع للسلطة[6] .(118/1)
وبالضبط فإن التعرف السقراطي للمعرفة يفتقر لضابط الايمان الذي يعتبر ركنا أساساً تبني عليه هيكلية المعرفة[7] . وإذا اعتبرنا أن هذا التعريف إختزالي ـ أي الفضيلة المعرفة ـ فإن مدلولها في الطرح الاسلامي يعني النية الشريفة بإخلاص القلب لله تعالى ، والإلمام بالفقه المعرفي ، والتجرد ـ أي البراءة من المآرب الشخصية[8] ـ وابرز عبرة في ذلك تجلت في أول خلافة إسلامية ، لما ولي أبو بكر خطب الناس قائلاً: " أما بعد أيها الناس قد وليت أمركم ولست بخيركم ولكن قد نزل القرآن وسن النبي صلى الله عليه وسلمالسنن فعلمنا ، أعملوا أن أكيس الكيس التقوى ، وأن أحمق الحمق الفجور ، إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه ، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق ، أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني"[9] .
هذه الخطبة قد ألبست المعرفة معاني الحرية، والعدالة الاجتماعية ، والتجرد ، في سبيل إنجاح المشروع الإسلامي . قال تعالى: "وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ" (آل عمران: من الآية79) .
أما مفهوم الدولة : فهي أداة للتعبير عن واقع يعيشه شعب ما ـ يحتوي على قوميات وأمم ، أو قومية واحدة وأمة واحدة أو قومية واحدة وأمم متعددة ، أو قوميات متعددة وأمة واحدة ـ من خلال مؤسسات . وتعتبر الدولة قمة الوعي المعرفي ، والأخلاقي ، والاجتماعي ، والسياسي السائد في المجتمع .
لذا فالدولة تمثيل للعلاقات المعرفية والاجتماعية والاقتصادية ، فإن كانت هذه العلاقات متخلفة كانت الدولة متخلفة ، وإن كانت متقدمة فالدولة متقدمة ، وهذه العلاقات هي العاملة في تشكيل الدولة لذا فإن هنالك عوامل تأثير وتأثر بين المؤسسات والمجتمع ، فكلما كان تأثير البنية التحتية للمجتمع على البنية الفوقية كبيرا كانت الدولة أكثر حرية وعدلا ورفاهية ، وكلما كان تأثير البنية الفوقية على البنية التحتية أكبر كانت الدولة أكثر ديكتاتورية وتسلطا[10] إذاً فإن مفهوم الدولة الحضارية هو مفهوم ضارب في العمق التاريخي والحاضر والمستقبل، فالحضارة تعني المدنية ، والتنظيم ، والتقدم … وهذه لا تتأتى إلا بتفعيل العدالة الاجتماعية النابعة من مصدري الإسلام (القرآن ، والسنة) وهو ما يعبر عنه بالمشروع الإسلامي…
والمشروع الإسلامي: هو ذلك المنهج الرباني الذي يعتبر وجها شاملاً للدين والدولة والذي يحمل في جعبته الحل الأمثل لقضايا المجتمع ، والسياسة والاقتصاد … إن مصادر وروح التشريع الإسلامي نابعة من هذين المصدرين قال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)(الأنعام: من الآية38) وقال تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7)..
إن هذا القرآن هو الذي قال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)(النساء: من الآية135) ، فبسط مبدأ العدالة ولو على النفس ، أو أقرب الأقربين ، ولقد حدد القرآن الكريم السلطان في مفهوم الإسلام بثلاث شعب الشورى والعدالة ، والحكم بما أنزل الله ، والرجوع إلى الكتاب والسنة[11] .
… لقد ترجم النبي صلى الله عليه وسلم هذه المفاهيم القرآنية على أكمل وجه من وجوه العدالة المسوية بين الناس ، فجمع عليه الصلاة والسلام في يده السلطات الثلاث ، التشريعية ، القضائية ، التنفيذية : "أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه قال عروة : فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتكلمني في حد من حدود الله قال أسامة استغفر لي يا رسول الله فلما كان العشى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأثنى علي الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد فإنما هلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد تلك المرأة فقطعت فحسنت توبتها بعد ذلك قالت عائشة رضي الله عنها وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [12] …
إذاً من هذه المنطلقات الإيمانية فإن الأدوات المعرفية هي تلك المواعين التي تحدد مواكبة المجتمعات لمفاهيم العصر سلباً وإيجاباً فهي أدوات متطورة ذات منهجية مستمدة من وحي ثابت مواكب للتطور بحيث يتناسب مع تطور كل الأدوات المعرفية ، من أجل ذلك جاء التنزيل لإسعاد البشرية جمعاء بدون استثناء قال تعالى : "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الانبياء:107) . داعياً لإعمال المفاهيم المعرفية ضمن الكتاب المنظور والمسطور .(118/2)
وبالنظر للمدلول المعرفي يتبين من خلاله أن للمعرفة علاقة ملموسة بالسنن الإلهية ، وهي التي تساعد على إفهام القوانين الإلهية بطرق علمية منضبطة ، وعليه فإن التصور القرآني للمعرفة هو الذي يبين لنا مجالاتها وكيفية تحصيلها ، ومعاييرها ، وخصائصها .
وعليه فإن هذه المعارف تتألف من ضربين : معارف ضرورية وهي خاصة بذات الله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(الطلاق: من الآية12) . ومعارف مكتسبة . والفرق بينهما من جهة قدرة العالم على علمه المكتسب واستدلاله عليه ووقوع الضروري فيه من غير استدلال عليه . قال أبو منصور البغدادي : "العلوم قسمان أحدهما علم الله تعالى علم قديم ليس بضروري ولا مكتسب ولا واقع عن حس ولا عن فكر وهو ذلك محيط بجميع المعلومات على التفصيل …، والثاني علوم الناس وسائر الحيوانات"
وأبرز طرق لاكتساب المعرفة :
v الخبر الصادق من الله ورسوله في النسبة بين الأشياء أو بيان الأشياء[13] "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً" (الفرقان: من الآية2) وقوله تعالى :" ) مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُت)(الملك: من الآية3) .
v الاستدلال بإعمال مبادئ العقل قياسا واستنتاجا : "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْق"(العنكبوت: من الآية20) وقال تعالى "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" (يونس: من الآية101) قال تعالى: "أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ" (لأعراف: من الآية185) وهذا هو دليل الطبيعة الذي اتخذه إبراهيم وسيلة للإيمان ولكل ما يتسير الي الحياة الطبيعية وما فيها من مخلوقات: "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" (الأنعام: من الآية75).
v المعرفة الحاصلة بالتجربة عن طريق الحواس ، وأساسه النظر والاستقراء سواء كان عن طريق مجرد النظر والملاحظة ، أو بالسعي بطرق مختلفة من أجل تكوين قواعد عامة وأشار القرآن للمعرفة التي عن طريق الحس بقوله تعالى: "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (النحل:78) .
يظهر بذلك أن المعرفة في التصور القرآني لها جانبان ، جانب إلهي به تحصل المعرفة عن طريق التكوين والخلق في الانسان ـ دون إرادة منه ـ وهو المكون للأصول التي تتأسس عليها المعارف. وجانب آخر مكتسب يقوم على مبدأ الإرادة والقدرة على تفعيل تلك الإرادة وأمد الله الإنسان بالعقل والحواس لبناء هذا الجانب من المعارف عن طريق التجربة والاستدلال . بل جاءت معارف إنسانية عن طريق الوحي والإلهام لحين من الزمان قبل أن يكتمل الأمر بالرسالة الخاتمة التي جمعت في منهجها بين هذه الأساليب الثلاثة: والوحي ، والتجربة ، والاستدلال القياسي والاستقرائي[14] .
أما خصائص المعرفة في التصور القرآني :
v أنها إلهية المصدر أي أن الله تعالى خالق المعرفة ومكسبها للانسان حيث أن الانسان يولد من غير علم ، قال تعالى : ("وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ.." الاية تشير الي وسائل اكتساب المعرفة الي جانب إثبات الجهل .
v أن المعرفة قائمة علي سنة الازدواج والتكامل ، المقصود بالازدواجية القرن بين أمرين متلازمين معرفيا لبيان السبيل الأمثل لفهم الغايات المعرفية ، حيث تفضي مراعاته حسن التعامل مع الواقع وتبرز هذه الازدواجية المعرفية في جوانب أهمها:
أ. من حيث وسائل اكتساب المعرفة هنالك ازدواجية وتكامل بين العقل والحس وهو يمثل الأسس التي تقوم عليها المعارف الانسانية . وازدواجية بين العقل والنقل الذي لا تكتمل معرفته بدون هذا الازدواج .
ب. من حيث ميدان البحث ومجال العمل هنالك ازدواجية وتكامل بين الغيب والشهادة ، وتمثل المعرفة في هذا الجانب انطلاقة مستمرة من عالم الغيب الي عالم الشهادة .
ج. من حيث إعمال المعارف هنا يقصد به البحث عن خصائص الأشياء والأسباب الظاهرة التي تعكس فعل الله تعالى غير المنظور ، أي القوانين والسنن التي أودعها الله تعالى في الخلق لترشد العباد للخالق وبها سخرت الأشياء للانسان كان يعرف أن الماء يتكون من عنصرين بنسب محددة متى اندمجا معاً كان الناتج ماء ، مع كمال الشروط وانتفاء الموانع وهو ما يدفع القرآن إليه .(118/3)
د. ومن حيث الغاية هنالك ازدواجية وتكامل بين العلم والعمل ، العمل هو الغرض وإلا فلا فائدة من علم لا يفضي لعمل ولقد تعوذ منه النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن خلدون : فلا يتم فعل الانسان في الخارج إلا بالفكر …، فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان ، وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته"[15] ورأى الراغب الأصفهاني أن العلم والعمل هما جناحا العبادة" العبادة ضربان علم وعمل ، وحقهما ان يتلازما ، لأن العلم كالأس والعمل كالبناء وكما لا يغنى أس مالم يكن بناء ، ولا يثبت البناء ما لم يكن أس ، كذلك لا يغني علم بغير عمل ولا عمل بغير علم"[16] .
ونتج عن ذلك العلم والأخلاق معرفة منضبطة من حيث أنها محددة المنطلقات لا تتعداها فلا تتعرض للثوابت في النظام الكوني للاختبار بدعوى الحصول على نتائج علمية كامتهان كرامة الانسان من أجل العلم بإجراء تجارب علمية مهلكة فيه أو التضحية بحياته من أجل ذلك . ومن حيث النتاج لا تتعرض للنظام الكوني بأسره للخطر بسبب العلم والمعرفة ولو ملك الانسان القدرة ووسائل الابادة الكامنة .
وبهذا فإن المصادر المعرفية لها دوران دور إلهي وهو واهب المعارف وموجدها، ودور بشرى مكتسب ومتفرع عن الدور الإلهي ، ومحاولة تحديد العلاقة بينهما ، كما أشار إليه الغزالي بقوله : إن الموجودات كلها متقابلة مزدوجة إلا الله تعالى فإنه فرد لا مقابل له بل هو الواحد الحق الخالق للازدواج كله" ، وعليه فإن المعرفة الانسانية نسبية كما وكيفا وذلك بقوله تعالى: "وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً" (الاسراء:85) .
معيار المعرفة :
المعيار هو الضابط العلمي الذي يرشد الانسان إلي تحقيق اليقين في سبل طلبه للمعرفة ، وبه يتمكن من تمييز الحقيقة عن الوهم ، والمعيار في التصور القرآني قد يستفاد من الأمر والنهي كما يستفاد من الخبر ، فهو إما معيار نقلي ، وإما معيار عقلي قائم على المقدمات اليقينية كالمحسوسات والمجربات .
وهذه هي الأصول التي تبنى عليها المعرفة المكتسبة ، وبالنظر إليها يصبح المقصود بالمعيار هنا الدليل المرشد إلى العلم ، بمعنى الأساس الذي يكون منه الإنطلاق لإكتساب المعرفة اليقينية . ثم هنالك مجال النظر والاستنباط وهما إما في كتاب الله المنزل ، وإما في كتاب الله المشهود (الأنفس والآفاق) .
فاختلاف المواقف والجزم بالآراء ظهر من اختلاف أدوات المعرفة واستخداماتها ، وبما أن الوحي هو صانع التطور المعرفي ، فإذاً المعرفة تطلق على المنهج والأداة والنظام .
لذا ما زال مجال البحث في آيات الله في الكون المعنية بالدرجة الأولى بأساسيات التمكين الإلهي للمسلمين بعيدة كل البعد عن المنهج التطبيقي مما أدى إلى نتيجة ذلك التخلف الذي تعاني منه .
أثر الوعي المعرفي على بنيات الدولة:
بعد التأطير لمدخلات المعرفة ، ومفاهيمها ، المعيارية ، وخصائصها ،… ارتأيت عكس ذلك المفهوم المعرفي الواعي على بنيات الدولة الاقتصادية والاجتماعية ، والسياسية ، ... الخ ، بعرض أطروحة الأنموذج السوداني باعتباره واحدا من الدول التي شهدت الساحة المعرفية على أرضها تغييرا ملحوظا جديد بالذكر والمدارسة والتقويم .
وقبل الولوج في حيثيات المقطع الحالي يستحسن البدء بمداخلة السيدة فكتوريا كيرزون التي تقول ".. في زمن قديم كانت السلطة في يد من له سلطة البنادق غير
أنه اليوم اعتقد أن الكل يمكن له أن يحصل على بندقية حتى أنا ، البندقية يمكن أن تقتل غير أن هذا ليس غاية في حد ذاته ، وهذا النوع من السلطة ليس سلطة اساسية ، السلطة اليوم هي المعارف ، والسيدات يمكن ان يحاربن بنفس الأسلحة إن معركة المعرفة معركة مجدية وهامة ومعركة ذكية ومثرية مقارنة مع معارك السلاح … وينبغي أن نناقش كيف يمكن أن نتقدم خطوة للأمام وأن نتقاسم هذه المعرفة"[17].
إن الوعي المعرفي كما مر سالفا هو محور التطور التكنولوجي ، والعلمي ،والاقتصادي ، والاجتماعي ،… وبالتالي يصبح الوعي المعرفي هو الجانب الموضعي للدولة وتصبح للمعرفة علاقة جوهرية ببنية الدولة منهجا وممارسة.(118/4)
هذا الوعي المعرفي ذو القواعد والمنهجية والضوابط ’ التي تضمن له الديمومة والتطور ’ في واقع الأمر هو رحلة بعيدة الشقة من عالم الجهل إلي عالم المعرفة قد تقطعها أجيال بعد أجيال وليكن فهذه رسالة آدم وبنيه على ظهر الأرض… ومن العجب أن الأمة الإسلامية ما زالت تحيا تحت الثرى ولا تدري ما فيه ولا ما تحته فهي في طفولة عقلية تحتاج معها للمرضع والكافل…- لقد أصبح ينظر لتكتلات الدول الإسلامية ومنظماتها بأنه تجمع الأصفار-… مع أنها أوتيت أسباب التمكين، لقد مر ذو القرنين على قوم يغار عليهم ولا يغيرون وينال منهم ولاينالون "حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهماقوما لا يكادون يفقهون قولا" سورة الكهف93.ماذا يطلب هؤلاء العجزة؟ يطلبون من يحميهم من عدوهم’ ويبني لهم حصوناً يأمنون خلفها على أنفسهم لأنهم لا يستطعون تشييد هذه الحصون!!! إن علمهم بالحياة ضحل’ وحظهم من التمكين قليل. وقد يظهر هذا الضعف المخزي في بعض الأجيال التي تعمر الأرض’ فيكون من عمل الأنبياء أن يعرفوا الناس كيف يحمون أنفسهم وكيف يحمون عقائدهم وشعائرهم’:" ولقد علمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون"سورة الأنبياء80.
إن معرفة الحياة صنعة إنسانية عامة والتمكين في الأرض حق لبني آدم كلهم أما الجهل والعجز فعلل تعتري الآدمية’ وما يكون الإنسان إنساناً إذا توقف عقله عن الفكر’ وأشبهت حواسه وجوارحه حواس الدواب وجوارحها في أكل ما تيسر’ والعيش في نطاق غرائز بدائية تنطق بها الكلاب والذئاب..
إن الأخذ بأسباب المعرفة الكونية ضرورة لها مدلولات محورية منها:
• أنها دالة على عظمة الله تعالى وقد أشارت بعض الآيات إلى عظمة الله تعالى المبثوثة في مادة الكون ونظامه:"والسماء ذات الحبك"سورة الذاريات30-31.. إن فقه الحياة والكون فريضة أسبق من فرائض صنعها أصحاب الثقافات المغشوشة’ والسياسات الفضفاضة’….
• حماية الحقوق والحقائق فكيف يكون سلاح الأمة الحجارة وبعض المدافع البدائية التي لا يتعدى مداها مئات الأمتار’ بينما تملّك الآخر الصواريخ القارية’ والقنابل النووية والذرية والعنقودية..!! سينهب الحق وتطمس الحقيقة.. لقد يأسف المبصر لقوم ينظرون لأنفسهم بسيما الأمية الأبدية التي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لمحاربتها’ فالحساب والقواعد الرياضية التي قام عليها إرسال المركبات الفضائية’ أخذ بها أولوا الكفر’ فأصبح العالم الإسلامي فارغ العقل واليد من علوم الكون والحياة.إن عصر التكنولوجية أضاف للعالم الإسلامي المتخلف تخلفا آخر أشد ضراوة وإطباقا.. فأصبح مصير الشعوب المسلمة تحت رحمة أعداء الله وأعداء المسلمين..
• لقد كلف الله تعالى الأمة ببناء الإيمان القائم على دراسة الكون ونواميسه وأسراره وقواه. لا شك أن هنالك عطبا في كياننا الفكري والنفسي جعلنا في هذا الوضع المهين’ إن أنظمة الحكم في الغرب بلغت أعلى شأواً وأعظم خبرة تجريبية بفضل تأثير الوعي المعرفي ومع ذلك فهم على مشورة كاملة لأهل الرأي السديد من أهل الحل والعقد عندهم وكأن على لسان أحدهم قول أبي بكر"وليت عليكم ولست بخيركم" أما لسان حال أصحاب الرسالة الإسلامية بعد اتساع الهوة وتداخل الحقوق والواجبات بين الحكام والمحكومين بسبب ضعف الوعي المعرفي التي باضت وفرخت أفكارا فرعونية ذات شعار استبدادي ما أريكم إلا ما أرى’ فأصبح الحاكم لا يعير المحكومين اهتماما’ وبادلته الرعية بعدم الطاعة والجدية في دفع عجلة التنمية ومن ثم كتب عليهم التيه المعنوي والحسي.
لقد كان لتعمق الدول الأوربية في العلوم الكونية أثره في انفتاح أبواب الغنى عليهم’ فهم استثاروا الأرض وعمروها فخدمهم الرطب واليابس’ والسائل والجامد’ والتراب والهواء’ والحديد والذهب’ وتوشك أن تأخذ الأرض زخرفها وتصبح طائعة بأيديهم:"ولن تجد لسنة الله تبديلا"سورة الأحزاب62.وجرجر المسلمون خلفهم أوزارا أبعدتهم عن تذوق الحق الذي اصطفاهم الله له وأمرهم بحمله للناس حتى ينتفعوا به. والثراء الذي ناله بعض المسلمين عارية ناتجة عن الاتصال بالأجانب والعمل لهم أو معهم ونشأ عن ذلك أمة كثيفة العدد قليلة العتاد’ تذلها الديون التي أخذتها وتكاد تنقض ظهرها من بعد ضعف ضعفا’ ومع تلك الديون ربا مضاعف.
إن سعة المعرفة ذريعة إلى سعة الثروة’ وإن الخبرة بالحياة أقصر طريق لخدمة الدين.
المرء قد يمرض فيتأسى على الصحة ويبحث عنها ويعرف قيمة العافية ويحرص عليها وقد تلحق به أزمة فيمد يده مقترضا أو سائلا’ شاعرا بذل الحاجة ضائقا بأيام الفقر!!! إن الدين الإسلامي لا يرتضي لأتباعه التخلف المدني والعسكري أو الهوان المادي والأدبي وأن يعيش المسلمون أذنابا وأن يعيش غيرهم أربابا!!! ما المعرفة التي نحصلها إذا كانت الناحية الدينية مغشوشة والناحية الإنسانية مضطربة في عمرها؟
الطرح الإسلامي والوعي المعرفي الأنموذج السوداني:(118/5)
وبعد هذه المداخلات العامة في أثر الوعي المعرفي على بنيات الدولة العصرية والقراءة المقارنة بين واقع الدول المسلمة ودول الغرب’ تبرز أوجه المقارنة في: أن الغرب استفاد من النواميس الكونية في تطوير الوعي المعرفي باعتباره الضامن الأوحد لدفع عجلة الإنتاج’ فقام بتوظيف تلك المعرفة في مناحي التكنولوجيا المدنية والعسكرية’ والاقتصاد’ والأمن . و… وحماية حقوق الأفراد ببسط الحريات والعدل والضمانات الاجتماعية …، ومن ثم صير الغرب هذه الترسانة المعرفية الهائلة ورقة ضاغطة تتذرع بها للدفاع عن حقوق الانسان ومحاربة الإرهاب … في سبيل التخويف والتركيع والاستبداد الأممي ، فأصبح الغرب ذو معايير مزدوجة .
… أما الواقع المسلم فهو أهمل أساسيات المعرفة النظرية ـ أي الأخلاق في القول والعمل ـ والتطبيقية ـ أي البحث في أسرار الكون ـ فأصبح مكانه الطبيعي الذيلية والتخلف ، والتبعية .. فلا وجه للمقارنة بين الواقعين ..
وبما أن البحث معنى بدراسة الأيدلوجيات المعرفية في الطرح الإسلامي تنظيرا ، ومن ثم تقويم الواقع الإسلامي باعتباره واحداً من الأطروحات المشاهدة على الواقع التاريخي والحاضر .
فالسودان كوجه من الوجوه التي قدمت وتبنت منهجية الطرح الإسلامي فإن واقع الأمر أن هذا النظام خلف واقعا متخلفاً في مناحي المعرفة والاقتصاد والسياسة والاجتماع ، أضف لذلك حرباً ضارمة في الجنوب.. اندلعت في أهم منحنى معرفي يشهده تاريخ البشرية ، حيث التوسع في دراسات النظم المعلوماتية ، و شبكات الإنترنت ، وهلم جرا ـ وأمية مستحكمة تروج أنحاء البلاد تبلغ به ثلاثة أرباع سكانه ، ومديونية خارجية أرهقت كاهل القلب الأفريقي النابض ، وجعلت منه قلبا أفريقيا مريضا ، ثم ما فتئت هذه الحكومة أن كشفت عن سياستها التي لا تعجب كثيرا من الأنظمة شريكة الشهادة ـ لا إله إلا الله محمد رسول الله ـ فضلا عن شركاء الإنسانية . وعليه فإن عجلة التنمية لا طريق إليها إلا بالاعتماد على الذات التي يرتكز نجاحها على معاني التجرد والحسبة والعمل الدؤوب .
ومن الطبيعي فإنها تجربة لا بد لها من تقويم ودراسة للإيجابيات والسلبيات في سبيل تدعيم العمل الإسلامي ، الذي أصبح فرضاً عينياً على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، الوقوف أمام التحدي الذي يمر به العمل الإسلامي باعتباره واحدا من وجوه التمكين لدين الله تعالى في الأرض
وبما أن البحث اتخذ من المعرفة موضوعا محوريا ذو أثر فعال في وسائل التقدم، فأول ما يتبادر للذهن انفتاح التعليم العالي بزيادة الجامعات التي تضاعفت أضعافا مضاعفة ، ثم التعليم العام بزيادة عدد المدارس وإدخال منهجية تتآلف بين التأصيل والحداثة فأصبحت الدراسات الإسلامية موجهات تربوية للطبيب والمهندس والزراعي والصناعي ... وأدخل في مناهج المدارس أبوابا في التجويد والميراث والمصطلح الحديثي ، وزيد في مقرر القرآن الكريم ... فنتج عن ذلك تحول محوري انعكس على بنية البلاد الاقتصادية التي شهدت مولدا فعلياً لأول قطرة بترول إلى أن أصبح هذا البترول جزءاً أساسياً في ميزانية الدولة.
أما الجانب الاجتماعي فالفضل يرجع فيه بعد الله عز وجل للتركيبة التربوية الإسلامية التي نشأ عليها السودانيون الذين تخندقوا مع المشروع الإسلامي في خندق العزلة الاقتصادية والسياسية أيام المحنة، لقد ولدت هذه المحنة واقعا اجتماعياً يُذكّر بشعاب أبي طالب التي ضرب فيها الحصار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ،... على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وبني هاشم وبني عبد المطلب ، لقد عاش الشعب السوداني أيام محنة عصيبة عندما فرض الحصار الاقتصادي وبلغت الحرب ذروتها ولم يكن من خيار إلا شاة جابر التي اقتسمها ثلاثة آلاف من المجاهدين الصابرين في غزوة الخندق بعد أن شاهد جابر بطن النبي صلى الله عليه وسلم خاصرة من آثار الجوع.(118/6)
لقد امتثلت التقوى الجماعية التي تعتمد على الوصايا المتمثلة في التجريد والتحضر الاجتماعي ، والتي بدونها تسقط كل المجتمعات الإنسانية بغض النظر عن تطورها التكنولوجي وإمكاناتها العلمية والمادية ، لقد أسهمت هذه التقوى الجماعية المصحوبة بالمعرفة في خلق جيل كان ركنا أساسا في تثبيت دعائم المشروع الإسلامي في أيام محنته ، لقد قدمت الجامعات أكبر تضحيات لحماية المشروع الإسلامي ، كان لسان حال الغيورين ينطق بقول أنس بن النضر بعد أن تحسر لغيابه عن غزوة بدر التي جاءت من غير ميعاد : يا رسول الله لقد غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن والله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء،يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال ياسعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد ، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس[18] : فوجدنا به بضعا وثمانين حصول بالسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه . قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ"[19] (الأحزاب: من الآية23).
إن العزف على وتر الانجازات لا يحسن معوجاً وإن البحث عن السلبيات لا يقلل من قيمة العمل الإسلامي ، فالمعرفة الفاعلة التي ينشدها الإسلام ما زالت بعيدة كل البعد عن حيثيات الواقع فهي تحتاج لدراسة فاحصة في إعادة التقويم القائم على الحسبة والمحاسبة ، إننا بحاجة لزيادة مواعين التعليم العالي والعام حتى يستوعب كافة الأفراد ، وبحاجة لقيام ورش عملية أمام كل مؤسسة جامعية ليتحقق منهج علمي عملي ، وبحاجة لإفراد جامعات متخصصة بشكل أدق بأن تكون هنالك جامعة للهندسة وجامعة للطب وجامعة للحديث وجامعة للفقه كما هنالك جامعة للقرآن ، ومن ثم تشجيع البحث العلمي بإنشاء مراكز للبحوث ذات تطور متواكب وحاجيات العصر وبهذه الكيفية سنجد أن تبعات المعرفة تتطور بشكل انسيابي.
الوعي المعرفي وأثره في التعددية:
التعددية كمظهر من مظاهر الحياة تعني الاختلاف في وجه من وجوه الحياة العامة إما في الجوهر (أي المعتقد) وإما في المظهر (اللون ، والجنس، واللسان…) وعلى هذه التعددية نشأت التحزبات، والصراعات، والمحالفات، والتكتلات قال تعالى:"وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (هود:118) .
ولعل الساحة الدولية وما تشهده من حروب وصراعات باردة أو تحالفات أو تكتلات لا ينفك عن التعددية السالفة الذكر .
إن الوعي المعرفي وما تبعه من تقدم تكنولوجي واقتصادي واجتماعي وسياسي، كان له أثر على التعددية السالفة الذكر ، فأصبحت قضايا حقوق الانسان ، والحريات والعدالة الاجتماعية .. الخ لها هيئات تشريعية تدافع عنها فسنت قوانين حقوق الانسان ، ومحاربة العنصرية ،… وأقيمت المحاكم العالمية للبت في القضايا المتعلقة بالحقوق . وبذلك انكشف الغطاء ـ بفضل التكنولوجيا العالمية ـ عن تخلف معرفي في تشكيلة الدول النامية التي تمثل الوعاء المكاني للدولة المسلمة مما انعكس سلبا على انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان في المواطنة والممارسة .
الوعي المعرفي والتعددية في المنظور الغربي :
وبالعودة للتطور المعرفي الواعي الذي نشأ في الغرب التكنولوجي وصحب معه هذه المفاهيم المستوعبة لظاهرة التعددية ، فإن مفهوم التعددية كظاهرة تدعو للمعايشة والتفاعل لدفع عجلة التطور استخدم الغرب فيها معايير مزدوجة[20]، وجعلها غطاء شكلياً خاوياً من روح الانسانية ، بل تذرع الغرب بها احيانا كورقة ضاغطة يمرر من خلالها المشروع الاستعماري الحديث الذي أقام قانونه على مبدأ الجاهلية البغيضة تحت شعار إذا سرق القوي تركوه ، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ، فأصبح السودان وإيران وسوريا ، دولاً راعية للارهاب ، وإسرائيل لها الحق المشروع في قتل الفلسطنيين من قبيل الدفاع عن النفس…(118/7)
الوعي المعرفي والتعددية في المنظور الاسلامي: بينما جاءت حيثيات الطرح الاسلامي من خلال ظاهرة التعددية طرحاً معرفياً واعياً امتثل العدالة رمزاً له واعتبرها ميزان الاجتماع في الاسلام ، قال تعالى : "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النحل:90) . وهي أجمع آية لمعاني القرآن ، والله تعالى يعتبر العدالة بين الناس أقرب القربات إليه قال تعالى : "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (المائدة: من الآية8) . وهي عدالة تتفرع من شعبتين الأولى :عدالة نفسية مبنية على محاسب النفس والضمير وهي التي تقوي بناء الجماعة وتنفذ الدين من غير قهر او تسلط ولكي تتحقق فقد جعل لها الاسلام حوافز: "أحب لأخيك ما تحب لنفسك" "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به" . والشعبة الثانية: عدالة تنظمها الدولة ولا يضمن تنفيذها بشكل كامل إلا إذا كانت العدالة النفسية مستقيمة عند الحكام والمحكوم ، كان عمر بن الخطاب إذا سن نظاماً ودعا الناس إليه دعا آل الخطاب وقال لهم : "لقد عزمت على الناس أمرا والله لا أرى له مخالفا من آل الخطاب إلا ضاعفت عليه العقاب" وهذه العدالة ثلاثة اقسام عدالة قانونية ، وعدالة اجتماعية ، وعدالة دولية . جاء في الحديث النبوي الشريف: "ان يهوديا كان يقال له جريجرة كان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم دنانير فتقاضى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له يا زفر ما عندي ما أعطيك قال فإني لا أفارقك يا محمد حتى تعطيني فقال صلى الله عليه وسلم إذاً أجلس معك … فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهددونه ويتوعدونه ففطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما الذي تصنعون به؟ فقالوا يا رسول الله زفر يحبسك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم منعني ربي أن أظلم معاهدا ولا غيره ، فلما ترحل النهار قال اليهودي : أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمداً عبده ورسوله وقال: شطر مالي في سبيل الله أما والله ما فعلت الذي فعلت بك إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش .. أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله هذا مالي فاحكم فيه بما أراك الله وكان اليهودي كثير المال[21] .
إن الوعي المعرفي في منظور الإسلام كفل للتعددية العرقية والعقدية حقوقها كاملة تحت مظلة العدالة القانونية سواء كان مسلما أم كان غير مسلم لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ’ مع تركهم وما يعتقدون غير مقهورين ولا مستضعفين ’ والعدالة الاجتماعية التي تعني أن يتساوى الناس في تهيئة الفرص ’ فيتوافر التعليم المثمر لكل الناس حتى تظهر القوى ويوسد إلى كل إنسان ما يصلح له من عمل ’ ووضع كل إنسان في العمل المناسب ’ هو التنظيم الجماعي السليم الذي تتوافر فيه إنتاج كل القوى من غير أن تهمل أو تعمل فيها دون طاقتها أو فوق طاقتها فيفسد الأمر. ولقد طبق ذلك على أكمل وجه في أول دستور إسلامي(دستور المدينة) بين المهاجرين والانصار ’ وبين المؤمنين واليهود باعتبارهم شركاء الإنسانية لهم حقوق كاملة في المواطنة ’ فترك النبي صلى الله عليه وسلم اليهود لمعتقداتهم وشعائرهم’ وتشريعاتهم’ حرية تتقيد باحترام الغير’ ولم يخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلا بعد أن أخلوا بواجبات المواطنة ونقضوا المواثيق والعهود التي أبرموها مع النبي صلى الله عليه وسلم فبنو قينيقاع أظهروا التمرد على أعقاب غزوة أحد’ وبنو النضير أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم وبنو قريظة نقضوا عهدهم على تداعيات التجمعات الحزبية.
الطرح الإسلامي والتعددية في السودان:
وبالنسبة للواقع السوداني فإن حجم التعددية فيه تجوب كافة أرجائه’ تعددية في المعتقد’ وتعددية عرقية’ وتعددية في طبقات الفقر والغني’.. هذه التعددية التي تدل على واقع التخلف وضيق الأفق وعدم الاعتراف بالآخر. لقد استغلها الاستعمار البريطاني ولم يخرج إلا وقد بذر فتنة العرقية’ وفرض عليها غطاًء تنصيريا عقديا’ تربى بمرور الزمن فأفرز حربا تعتبر من أطول الحروب في العصر الحديث. وهذه الحرب وقفت عقبة كؤوداً أمام كل أطروحة تنموية.(118/8)
وبما أن الطرح القائم على الساحة السودانية طرح إسلامي في مجتمع متعدد الثقافات والأعراق والديانات’ فإن هذا الطرح يمر بفترة مصيرية’ إن هذا المشروع سيدخل في مبدأ التحدي إما أن يكون أو لا يكون’ فالحروب والنزاعات التي نشأت في أطرافه الجنوبية والشرقية-البجه-والغربية أخيرا-دارفور-فضلا عن جبال النوبة’ والنيل الأزرق’ إن هذه التكتلات مختلفة في أعراقها معظمها لا يربط بعضها بعضا إلا الإسلام أو الوطن ’ فإن كان العرب في الجاهلية وهم قومية واحدة شهدت أعنف الحروب لأتفه الأسباب – ناقة داحس والغبراء – فإن من نعم الله تعالى علينا أن تستظل هذه التعددية تحت مظلة الإسلام . إن تصور المشكل والتحدي الذي يطوق المشروع الإسلامي ويعمل على هدمه إن لم نأخذ بأسبابه فإن العاقبة ستكون للجاهلية الحديثة التي تؤدي لتقسيم هذا البلد – الذي يقاتل لتثبيت شرع الله – لدويلات على أساس العرق والطائفية . ومن ثم يفقد المسلمون أعظم جسر ربط بين العمق الإسلامي في مهده وبين العمق الأفريقي الذي يعتبر أخصب مرتع للدعوة الإسلامية ’ إن مظلة الإسلام تفرض علينا رعية البشرية غير المسلمة باعتبارها تائهه من غير دليل ولا سلطان قال تعالى:" وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ" (التوبة:6) . إن الوصول لرأس الهرم في سدة الحكم يعني نهاية المطاف إن لم يؤخذ بالأسباب التي أوصلت لهذا الرأس ’ قال تعالى"وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ" (إبراهيم:45) . مفهوم الآية وعبرتها تشير إلي أننا إن لم نتمسك بمنهجية الله تعالى سيكون مصيرنا مصير الذين ظلموا أنفسهم.
الطريق للتمكين في ظل التعددية:
فالهجرة للمدينة كانت بقصد التمكين لدين الله تعالى ’ لذلك عالج النبي
صلى الله عليه وسلم التعددية بحكمة بالغة فكانت التضحيات أن يقتل ابن الجراح والده من أجل الإسلام ’ وأن يقول عبد الله ابن عبد الله بن أبي سلول التي لم تشهد المدينة أحدا أبر بوالديه منه.
إن كنت تريد أن تقتله يا رسول الله فأنا أقتله لك ’ وتجلى وجه السماحة في حذيفة بن اليمان عندما قتل المسلمون أباه خطأ وهو ينادي أبي ’ ثم قال غفر الله لهم ’ أي منهج غير الإسلام يستطيع أن يوحد تعددية شرسة ومتناقضة حتى مع ذاتها . وما أشبه الليلة بالبارحة ’ إن أرض السودان هيأها الله تعالى لقيام دولة إسلامية عصرية متوازنة ذات منهج رباني ’ بالتالي فإن هذه الفرصة في سبيل إنجاحها باعتبارها مسؤولية منوط بها الحاكم والمحكوم ’ مسؤولية متخذة من بني إسرائيل عبرة لما كتب الله عليهم العمل بالكتاب بعد أن هيأ لهم أسباب النجاح ببعث موسى عليه السلام فرفضوا ذلك العرض متعذرين بأعذار الضعف والهوان بقولهم: (إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا )(المائدة: من الآية22) . عندها كان لا بد أن تتغير السنن الإلهية فكتب الله عليهم التيه في الأرض أربعين سنة من غير هاد ولا دليل. إن الوصول لسدة الحكم تعني ذلك القول الذي نادى به موسى : (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف:128) . فجاء ردهم واهنا ضعيفا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا: (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا )(لأعراف: من الآية129) . فكانت القاعدة العظيمة في بيان التكليف الإلهي( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(لأعراف: من الآية129) . إن المجتمع السوداني يعتبر مجتمع متعدد الأعراق ’ والثقافات ’ والعقائد ’ .. وهو يمر بمرحلة مخاض تعتبر من أميز الفترات العصيبة ’ حيث كثرة التحديات الداخلية – عرقية ’ دينية ’ سياسية ’ تداعيات السلام[22] وإمكانية الرجوع للحرب’.. المدعومة بقوى خارجية هائلة ذات منطلق عقدي يحتاج من المواعين المعرفية التي تعتمد أساسا على أساسيات أبرزها.(118/9)
1. وحدة الصف الإسلامي: الذي يضع في ذاكرته حديث النبي صلى الله عليه وسلم :"سألت ربي ثلاثا سألته ألا يهلك أمتي بالعدو فأعطانيها’ وسألته ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها’ وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها"[23] ’ وهذا ما يدل على أن الهزيمة لن تكون خارجية مهما بلغت قوتها ختى تستعين ببني جلدتنا’ قال الله تعالى:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"سورة التوبة141. نعم قد تكون هنالك هزة تحوج لخط الرجعة التي تعنى أولا وأخيرا بالتذكير بنعمة الله تعالى وأن النصر لا يكون إلا بمشيئته كما أصاب المؤمنين في غزوتي أحد التي أنزل الله فيها: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور: من الآية63).وحنين : )لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (التوبة:25).إنها هزات تربوية .. إن السبيل الأوحد هو تفويت الفرصة على أعداء الله تعالى ’ والاعتبار بما يجري في الساحة السياسية الحاضرة.
2. بسط الروح الإسلامية: إن حيثيات الحل الإسلامي الواعي للتعددية قد تمثل في قول جعفر الطيار للنجاشي:"أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الاصنام ونأكل الميتة ونأت الفواحش ونقطع الارحام ونسيئ الجوار ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا الي الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نبعد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا ان نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام … فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا الي عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى وأن نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الي بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك .
3. الصبر على الأذى وهو طريق الدعوة : لقد شهدنا عصر الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بناءاً متواصلاً وتحديا عصيا لقد جاء خباب الي النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن في الدعاء من أجل أن يخفف الله عنهم أذي المشركين ، فاحمر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال لقد كان من قبلكم من يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحم وعظم لا يرده ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله هذا الأمر … ولكنكم تستعجلون .
4. إن هذه دعوة ربانية ونحن خلفاء لله تعالى في أرضه وهو وحده الذي يقضي أمره ، وما علينا إلا السعي الجاد متخذين من المنهج الرسالي الكامل دليلا ودستورا نستضئ به الطريق محتسبين عند الله أجرنا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وماولوا .
الخاتمة
تتلخص نتائج البحث المتوصل إليها في الآتي:
- يعتبر مفهوم المعرفة في منظور الاسلام أبعد عمقا عن المنظور الغربي . حيث أن مفهوم المعرفة في المنظور الغربي قائم على مبدأ المادية التي هي تكريس لعصبية الجاهلية التي نشأت لحماية القبيلة فنتج عن ذلك الظلم والاستبداد ، وهو ما يفعله الغرب الذي امتلك ترسانة معرفية سخرها لحماية بني جنسه ومعتقده ، على حساب الانسانية ـ كالحروب العالمية ، والانحباس الحراري … وما يجري على الساحة الاسلامية ليس ببعيد عن هذا التفسير .
- تمر الامة الاسلامية بأضعف مرحلة على امتداد تاريخها ، حيث اغتربت عن منهج الشريعة الاسلامية فهما وتطبيقا ، فأنتجت مجتمعا شبيها بمجتمع القطعان البرية التي تستسلم لقانون الغاب ، وهي أيضاً تقاعست عن منهج المعرفة الذي يفضي للتصور والازدهار فاكتفت أن تكون أمة ذيلية عائشة على الفتات ، وأن تطلب الحماية من عدوها فصارت أشبه بالقوم الذين لقيهم ذو القرنين وشتان ما بين المثلين في الضعف والقوة .
- إن الأخذ بأسباب المعرفة وتفعيلها لخدمة المعتقد ، والاقتصاد ، والمجتمع.. تقضي مراحل تعليمية تتدرج هيكلتها في الآتي:
v فتح التعليم لكل ناشئة المجتمع ، بشكل فرضي لإنتاج قوة عملية متعلمة في الزراعة ، والتجارة …
v توفير مواعين تعليمية مهنية متخصصة ، ذات كفاءة تقنية عصرية .(118/10)
v فتح مراكز بحوث متخصصة ومتطورة ومواكبة لمجريات العصر لتخريج علماء في ، الطب، الهندسة ، والجيلوجيا ، والاقتصاد ، والادارة ، والفقه ، والحديث ، والتفسير . هؤلاء هم قادة الأمم ، وهذه المرتبة هي التي تقوم عليها الحضارات فالكهرباء ، والبحار ، وتذليل الفضاء ، والطيران ، والموجات الصوتية .. فهذه لا تتأتى إلا بالتخصص والبحث العميق .
أما خلاصة النتائج المتوصل إليها تدور من حيثيات التقويم للمشروع في السودان :
v واجهت المشروع الإسلامي في السودان تحديات عصية صحبته على طول عصره فتداعيات الحرب ، والحصار الاقتصادي ، والمحسوبية ، وإفرازات التعددية العصبية .. وهلم جرا.
v ساهم التوسع في مواعين التعليم العالي والعام في تحقيق كثير من بني الدولة ، وكان نتيجة ذلك الجهد بالنسبة للامكانيات المتاحة يعتبر إنجازاً في حد ذاته يحفظ لصالح المشروع الاسلامي الطموح.
v إن المشروع الإسلامي مهما كان مثاليا في جوانب التنظير فإن تطبيقه بشكله الرباني أمر لم تتوفر له ظروف اجتماعية عادلة في الوقت الراهن ، لذا فإن التجربة الإسلامية مرت بمرحلة ايجابيات وسلبيات[24] .
v إن ميزان البقاء والتطور يمكن في تحقيق مبدأ العدالة الاسلامية ببسط مبدأ المساواة أمام القانون لا فرق بين مسلم ولا كافر ولا غني ولا فقير بتهيئة الفرص وفتحها للجميع من أجل الابداع والتنمية . والنهي عن العصبية والتفاخر والطبقية والاجناس والألوان وأن يكون التفاضل قائما على مبدأ الصلاح والتقوى .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
---------------------------------------------
[1] رفاهية من العيش أي سعة ، ورفه عنه كان في ضيق فنفس عنه العرب تقول : إذا سقطت الطرفة قلت في الأرض الرفهة قال أبو الهيثم الرفهة الرحمة ، وفي حديث عائشة : فلما رفة عنه أي أزيل وأزيح عنه الضيق والتعب ، ومنه حديث جابر : أراد ان يرفه عنه أي ينفس ويخفف "أنظر : إبن منظور الأفريقي ، لسان العرب ، جزء 13 ص 494.
[2] بدأت النبوة بسورة القلم وهو ما يصرح بأن النبوة هي الجانب المعرفي وهو المنوط بها فهم وتطبيق الأحكام التي هي من مهام الرسالة والرسل " اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:1 - 4) وهو ما يفسر صلاح الاسلام وتعاليمه لكل زمان ومكان وذلك لختم الجانب المعرفي بقوله (ما كان محمد أبا من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً (سورة الاحزاب اية 40) .
[3] بينما بدأت الرسالة بسورة المدثر ، فهي جوانب حكمية في العقائد والشرائع (يا أيها المدثر قم فأنذر) المدثر اية رقم (1) .
[4] وهي اتفاق النفس مع داتها وهي النظام الصالح الذي يسوس أجزاء النفس حسب درجاتها واستقلالها ، والعدالة هي العادة التي تجعل الانسان يعرف ماذا يريده وتعطي كل إنسان ما يستحقه ، وهي الفضيلة الأجمل التي تجعل الانسان أكثر استعدادا لتقبل الحقيقة وتساعده بالتالي على اختيار ما هو أحسن وأصلح وتدفعه أيضاً الي الخضوع باقناع القوانين العادلة الصحيحة .
[5] العفة هي التي بموجبها تصبح النفس قادرة على التحكم باهوانها.
[6] انظر : شيكوني ، انجلو : أفلاطون والفضيلة ترجمة : منير سغبيني ، بيروت : دار الجيل ، 1986م .
[7] نعم فإن المعرفة في النظريات غير الإسلامية تعني البحث في الماديات ،ـ وسبل الوصول لكل ما هو متاح أمام البحث العلمي . لذلك شتان ما بين الفضبلة والعلم ، فإن ابليس كان يعلم الكثير ، واليهود علموا وما عملوا إن المعرفة التكنولوجية غير المنضبطة أضحت تتلاعب بقانون الطبيعة ـ والاستنساخ ، البروتين الحيواني الذي تسبب في مرض جنون البقر . .. فأصبحت المعرفة كارثة حلت على بني البشر بسبب غياب الرابط الهيكلي للمعرفة وهو الإيمان بالله تعالى واهب المعرفة : " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه واضله الله علي علم.."
[8] أنظر: الغزالي ، محمد : تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل ، المعهد العالمي للفكر الاسلامي ط1 القاهرة دار الشروق 1991م ص 44-45 .
[9] أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد: صفوة الصفوة ، تحقيق : محمد فاخوري ود . محمد رواس قلعه جي ، بيروت : دار المعرفة ط 1979م ، جزء 1 ص 260.
[10] شحرور ، د. محمد، دراسات اسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع ط1 ، دمشق : الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع ، 1994م ص 185 .
[11] أبو زهرة ، محمد المجتمع الانساني في ظل الإسلام ط2 جدة: الدار السعودية للنشر والتوزيع 1981م .
[12] النسائي ، أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن : سنن النسائي ، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة ، ط2 ، حلب : مكتبة المطبوعات الإسلامية 1986م، جزء8 ص 75 ، والحديث أصله في الصحيحين وغيرهما .(118/11)
[13] وهو ما يمثل المرجعية الاساسية لكل نظر وممارسة سياسة في تاريخ الاسلام فدراسة أحكامه ومستويات تأويله وكيفيات توظيفه في تاريخ الفكر الاسلامي ، يمكنا من معاينة الدور الذي مارسه السقف العقائدي في تاريخ الاسلام ويتيح التقدم في معالجة اشكالية الدين والسياسة في التاريخ والحاضر الاسلامي ، عبد اللطيف : في تشريع أصول الاستبداد قراءة في نظام الآداب السلطانية بيروت : دار الطليعة لنشر والتوزيع ، ط1، 1999م .
[14] شوقار إبراهيم احمد آدم ، السنن الإلهية في القرآن الكريم ، أطروحة دكتوراه الجامعة الاسلامية العالمية ـ ماليزيا ، 2002م .
[15] إبن خلدون ، عبد الرحمن بن محمد المقدمة القاهرة : دار نهضة مصر 1979م ص 101 .
[16] الأصفهاني ، الراغب ، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين ، تحقيق : عبد المجيد النجار ،ط1 ، بيروت: دار الغرب الإسلامي 1988م ص 159 .
[17] السيدة فيكتوريا كيرزون برايس: رئيسة مركز أبحاث العالم العربي والمتوسط / جنيف: ندوة العالم العربي والاسلامي وحقوق الانسان :تنظيم مركز الدراسات العربي الاوربي بالتعاون مع هيئات أخري 28/9/2000 بجنيف .
[18] وهو ابن أخ الانس بن النضر كما ورد في رواية البخاري .
[19] البخاري ، محمد بن اسماعيل الجامع الصحيح ، تحقق : مصطفى ديب البغاء بيروت : دار كثير، اليمامة، ط3،1987م باب قوله تعالى: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" (الأحزاب:23) ، جزء 3 ، ص 1032.
[20] أقام الغرب معرفته على قواعد مادية خاوية من روح التدين ففتح الباب على مصرعيه فكانت المعرفة وبالاعلى المستوى الاجتماعي حيث فسرت الحرية بغير ضوابط فتح عن ذلك مجتمع السفوح وقمة الارتباطات الاسرية وصارت المرأة شراكة البيع والشراء…
22 النيسابوري’ أبو عبد الله الحاكم:المستدرك على الصحيحين’2/678.
[22] التي ستشهد توالد أفكار ورأى جديدة فأطراف النزاع لها أيدلوجيات وأطروحات مختلفة’ من نظراتها التعددية بتعدد ثقافتها’ واعراقها .. وهي بذات الأفكار التي حاربت من أجلها.
[23] ابن عبد البر’ أبو عمر يوسف بن عبد الله : التمهيد’ تحقيق : مصطفى بن احمد بن علوي ومحمد بن عبد الكبير البكري’ المغرب: وزارة عموم الأوقاف وشؤون الإسلامية,1387ه’ جزء19’ ص196.
[24] لعل أكثر ما يؤخذ على الطرح الاسلامي المحسوبية وأنهم أثروا انفسهم بالمناصب والهبات التي ليس من أعمال ايديهم ، فإن اتفقنا مع مذا الرأي ، فيكون من قبيل النقد الايجابي الداعم لغربلة الشوائب التي تعكر صفو العمل الاسلامي سيما وأن دولة الرسول ، وهي دولة العصر الذهبي للمشروع الاسلامي ، وصل عدد المنافقين في غزوة احد الي القرابة من ثلث الجيش ، بل لقد واجه النبي اعتى تيار تخريبي كان عائقا ومؤذيا للطرح الاسلامي . وما أشبه الليلة بالبارحة أن مسألة النفاق والنظرة الشخصية بحاجة لفرض مبدأ التربية الروحية ، وحمل الأفراد على الأخلاق العملية ، وهذا لا يتأتى إلا بتكاليف المسلمين جميعا ، ونبذ أو تناسي التكتلات الالحزبية والطائفية الدينية . أن المشروع الاسلامي السوداني مسؤولية كل مسلم على وجه البسيطة ـ وعلى رأسهم أصحاب القرار أي الرئيس ووزراته والعاملين في حقل التأصيل ـ لو تفوض فإن هذه ستكون كارثة أشبه بكارثة بني اسرائيل التي كتب الله عليهم بعدها التيه في الارض ، حيث علم أنها امة لم تكن على درجة من المسؤولية الرسالية فلم يعبأ الله تعالى بها على أي وجه تولى او تموت قال تعالى "فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ"(المائدة: من الآية26).
المصادر والمراجع
v الإسلام في مواجهة التحديات ، محمد رأفت سعيد ، المنصورة: دار الوفاء.
v الاصفاهني ، الراغب ، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين ، تحقيق : عبد المجيد النجار ، ط1 ، بيروت: دار الغرب الاسلامي ، 1988م .
v البخاري ، محمد بن اسماعيل ، الجامع الصحيح ، تحقيق: مصطفى ديب البغاء ، ط3 ، بيروت : دار ابن كثير اليمامة ، 1987م.
v الحاكم ، محمد بن عبدالله الحاكم أبو عبدالله النيسابوري ، المستدرك على الصحيحين .
v ابن خلدون ، عبدالرحمن بن محمد ، المقدمة ، القاهرة : دار نهضة مصر ، 1979م .
v أبو زهرة ، محمد ، المجتمع الانساني في ظل الاسلام ، ط2 ، جدة: الدار السعودية للنشر والتوزيع 1981م .
v الصلابي ، على محمد ، فقه التمكين في القرآن الكريم ، ط1 ، المنصورة : دار الوفاء 2001م .
v شحرور ، د. محمد ، دراسات اسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع ، ط1 دمشق : الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع ، 1994م .
v شوقار ، إبراهيم احمد آدم ، السنن الإلهية في القرآن الكريم ، أطروحة دكتوراة ، الجامعة الاسلامية العالمية ـ ماليزيا ، 2002م .(118/12)
v سيكوني ، أنجلو : أفلاطون والفضيلة ، ترجمة د. منير سغبيني ، بيروت : دار الجيل 1986م .
v أبو الفرج ، عبد الرحمن بن علي بن محمد: صفوة الصفوة ، تحقيق : محمد فاخوري ، ود. محمد رواس قلعة جي ، ط2 بيروت : دار المعرفة 1979م .
v العبادي ، إبراهيم ، جدليات الفكر الاسلامي المعاصر ، ط1 بيروت : دار الهادي ، 2001م.
v عبد البر ، أبو عمر يوسف بن عبدالله: التمهيد، تحقيق: مصطفى بن أحمد بن علوي ، ومحمد بن عبد الكبير البكري ، المغرب : وزارة عموم الأوقاف وشؤون الاسلامية 1387هـ .
v عبد اللطيف ، كمال عبد اللطيف : في تشريع أصول الاستبداد قراءة في نظام الآداب السلطانية ط1، بيروت : دار الطليعة لنشر والتوزيع ، 1999م .
v الغزالي ، محمد : تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل ، المعهد العالمي للفكر الاسلامي ، ط1 القاهرة : دار الشروق 1991.
v المحلى ، محمد بن أحمد ، والسيوطي ، عبدالرحمن بن أبي بكر ، تفسير الجلالين ، ط1 ، القاهرة : دار الحديث .
v ابن منظور ، جمال الدين محمد بن منظور : لسان العرب، مطبعة بولاق ، الدار المصرية للتأليف والترجمة .
v مؤتمر ندوة العالمي العربي والاسلامي وحقوق الانسان : تنظيم مركز الدراسات العربي الأوروبي بالتعاون مع هيئات أخرى ، جنيف : 28/9/2000م .
v النسائي ، أحمد بن شعيب ابو عبدالرحمن: سنن النسائي ، تحقيق : عبد الفتاح أبو غدة ، ط2، حلب: مكتبة المطبوعات الاسلامية 1986م.
v النيسابوري ، مسلم بن الحجاج ، صحيح مسلم تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي .
v ابن هشام ، عبد الملك بن أيوب : سيرة ابن هشام ، تحقيق : طه عبدالرؤوف سعد ، بيروت: دار الجيل ط1، 1411.
* الجامعة الإسلامية ـ ماليزيا(118/13)
أثر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المجتمعات – الغرب نموذجاً
أ.د. جعفر شيخ إدريس*
علاقة الأمر والنهي في المجتمع بالقيم السائدة فيه
الأمر والنهي:
الأمرُ والنهيُ من لوازم المجتمعات البشرية. ففي كل مجتمع مَنْ يأمر ومَنْ ينهَى أيَّاً كان حجم المجتمع وأيَّاً كانت عقائدُه وأيَّاً كان زمانُه ومكانُه. فالعادات والتقاليد أَمْرٌ ونَهْيٌ، والقوانين التي تصدرها السلطات أمر ونهي، والإعلام أمر ونهي، والخطب والمواقف السياسية أمر ونهي، بل إنَّ إشارات المرور أمر ونهي.
فالمجتمعات لا تختلف إذن في أصل الأمر والنهي وإنما تختلف في ما تأمر به وما تنهى عنه. وأوامرها ونواهيها تابعة للقيم والأفكار والأهواء الشائعة فيها، والتي تمثل معاييرها لما هو مقبول وما هو غير مقبول.
لكن الناس مهما اختلفت عقائدهم يتفقون على حسن بعض الأشياء وقبح بعضها. وذلك لأن الله تعالى فطرهم على أصل المعرفة بحسن بعض الأشياء وقبح بعضها. فالناس مفطورون مثلاً على معرفة حسن الصدق والأمانة والعدل والرحمة والأخوة والتعاون على الخير. وهم مفطورون على سوء أمور كالكذب والخيانة والظلم وكل ما كان فاحشا من الأقوال والأفعال.
ولكن بعض العقائد والتصورات قد تكون متنافية مع بعض ما فطر الناس عليه، ولذلك فإنهم ينكرونه. فالأمر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرةِ فأبواهُ يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه، كما تُولد البهيمةُ بهيمة جَمْعاء. هل تحسون فيها من جَدْعاء؟ ))
علاقة القيم الإسلامية بالأمر والنهي:
لما كان الإسلامُ دينُ الفطرةِ، فإنَّه جاء ليقرَّ كُلَّ ما شهدت الفطرةُ بِحُسنهِ ويثْبتَهُ ويهدي الناس إلى لوازمه وإلى خير الطرق التي تعينهم على الالتزام به.
ولما كان المعروف هو ما كان أصلُ المعرفة بحسنهِ في الفطرةِ فإنَّ الله تعالى أَمرنا بفعلهِ وأن نأمر به، وبما أن المنكر هو ما كان أصل نكارته مركوزاً في الفطرة فإنَّ الدين إنما جاء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (الأعراف:157).
ولهذا أمر أن تكون معاملة الناس كلها بالمعروف من عفوٍ ووصية وإمساك وتسريح وتراضٍ وقولٍ وغيرها.
بل أمر أن تكون الأمةُ كلُّها أمة آمرةً بالمعروف ناهيةً عن المنكر:( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( آل عمران:104).
وجعل الله تعالى اتصافهم به سبباً لخَيْرِتهم( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) (آل عمران:110).
وهداهم إلى خير الطُرُق للقيام بهذه المهمة، وذلك لأن مجرد الأمر بالشيء لا يجدي إذا لم يعرف الإنسان السبب المؤدِّي إليه، بل إن حاله يكون كحال من قال اللهُ عنه:( كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي
ضَلَالٍ ) (الرعد:14).
ولو كان مجرد الأمر والنهي يجدِي لاستطاع كلُّ إنسانٍ أن يكون مصلحاً. فما عليه إلا أن يكتب قائمة بما يعرف أنه نافع للناس وقائمة أخرى بما هو ضار بهم ثم يقول لهم: افعلوا هذا واتركوا ذاك.
فلكَي يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجّدياً لا بدَّ أن يكون مبنيّاً على مُعقتدات وقِيَم مِن شأنها أن تساعد المأمور بفعل المعروف وترك المنكر، كما أنه لا بد من وسائل تعين الآمِر بالمعروف النّاهِي عن المنكر. و الوسائل التي تساعد الناس على فعل المعروف.
علاقة الأمر والنهي بالقيم الإسلامية:(119/1)
1. الإيمان بالله الإيمان بالله تعالى هو أصل كل خير فطر اللهُ عليه العباد. فكلما ازداد الإيمان وقوي ازدادت بزيادته دوافع الخير في الإنسان وسهُلَ عليه فعلُه ولذلك ربطت آياتُ القرآن الكريم بَيْن الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110).
فالمؤمن يعتمد على هذا الإيمان في فعله للمعروف وانتهائه عن المنكر، وفي أمرهم للناس بذلك ونهيهم عنه. فهو يعرفهم بربهم ويحببه إليهم ويدعوهم لعبادته، ويبين لهم صلة الخير الذي يأمرهم به أو الشر الذي ينهاهم عنه بهذا الأصل. بل إن المؤمن حتى في حال ضعفه عن فعل المعروف أو انتهائه عن المنكر يظل محبا للأول آمرا به كارها للثاني ناهيا عنه.
2. دين الفطرة: وإذا كان الإيمان بالله تعالى هو أساس كل خير فطر الله عليه عباده، فإنَّ الدينَ الحقَّ الذي أرسل به رسله هو دين هذه الفطرة بمعنى أن كل مافيه له أصل فيها ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )(الروم:30).
فالعمل به عمل بما تقتضيه الفطرة من فعل المعروف والأمر به والانتهاء عن المنكر والنهي عنه.
3. التذكير: بما أن العلم إنما يكون مثمراً ومُؤثراً ونافعاً حين يكون صاحبُهُ ذاكراً له. وَلمَّا كان الإنسانُ كثيرُ الغفلةِ والنسيان كان هذا التذكير المستمر أمراً ضروريّاً لاستقامتهِ على الخير واستمراره فيه. فالآمر بالمعروف النَّاهي عن المنكر قد يكون مجرد مذكر للناس بما قد علموا أنَّه معروفٌ أو أنّه منكرٌ، ثم طَرَأَ عليهم ما أَنساهُم إيَّاهُ لأَمَدٍ طويلٍ أو قصير.
والإنسان يكون أكثر حاجة إلى هذا التذكير حين يكون مُقْدِمَاً على عملٍ يحتاج فيه إلى ذلك العلم الذي نَسِيَهُ أو غَفَلَ عنه، أو حين يكون قد أَقْدمَ فِعلاً على عَمَل يُخالِف عِلْم كونه معروفا.
4. الرد على الشبهات: والإنسان يعيش في عالم يتعرَّض فيه لسماع الباطل والنهي عن المعروف والأمر بالمنكر، ويتعرض فيه لسماع شُبُهات قد تشككهُ فِيمَا عَلِمَ أنَّه معروفٌ أو تُزَّين له ما عَلِم أنَّه منكر( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )(التوبة:67)، ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112).
لا بد إذن من مقاومة هذا الباطل بالحجج القوية وسائر الوسائل المناسبة.
5. الأوضاع: الأوضاع القائمة في المجتمع سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية تكون مُعِيناً على فِعْلِ المعروفِ أو صآدّة عنه. فالأمر بالمعروف يقتضي الأمر بإنشاء الأوضاع المُعِينَةِ عليه، والنهي عن المنكر يقتضي الأمر بإزالة الأوضاع المُعِينَة عليه. وهذه المهمة تَقعُ أكثرُ ما تقع على مَنْ بِيدَهِم المَقدرة على التَغْيِيرِ ولاسِيَما السلطات الحاكمة. ولذلك قال تعالى عن الحكام الراشدين:( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) (الحج: 41).
علاقة الأمر والنهي بقيم الحضارة الغربية
إذا كانت تلك المعاني الإسلامية مما يدعو إلى فعل المعروف والأمر به، وترك المنكر والنهي عنه، فإننا نعيش في عالم سادت فيه إلى حد كبير قِيَمُ حَضارةٍ تَأمرُ بكثيرٍ من المنكرات وتزيّنها وتدافع عنها، وتنهى عن كثير من أنواع المعروف وتُنفِّر منها. ولذلك كَثُر فيها الآمرون بتلك المنكرات وارتفعت أصواتهم وانتشرت بين الناس حججهم، وقل فيها الآمرون بأنواع المعروف تلك وخفتت أصواتهم.
كان هذا الانحراف عن الفطرة وعن هدي الأنبياء نتيجة لازمة لأنواع العقائد والتصورات والأهواء السائدة في تلك المجتمعات.(119/2)
فهم مختلفون اختلافاً شديداً في قضية الإيمان بالله. فمنهم من ينكر حتى وجود الخالق، ويدافع عن هذا الإنكار ويعدّه من لوازم العلم والعقل. ومنهم من يؤمن بالله مجرد خالق خلق الخلق ثم تركهم يتصرفون في حياتهم كيف شاؤوا. ومنهم من يؤمن به خالقا مستحقا للعبادة لكنه يصفه بكثير من صفات النقص ولا يتحرج في عبادة غيره معه. وأكثرهم الغافلون عن هذا الأمر غفلة كاملة لا يفكرون فيه ولا يضعون له اعتباراً في تصرفاتهم وآرائهم.
والمؤمنون منهم بأن الله تعالى أرسل رسلاً وأنزل كتباً مختلفون في أمر هذه الكتب. كلُّ فريق منهم يؤمن بكتاب أو بنسخة من كتاب غير التي يؤمن بها شريكه في ديانته. وهم مختلفون في موقفهم منها فأغلبهم يرى أنه إنما كتبها بشر تاثروا بالثقافة السائدة في بيئاتهم. فهم لا يرون ان كل ما فيها حق أو أنه من كلام الله تعالى. وهم مختلفون في تفسيرها يكثرون من تأويل نصوصها تأويلات مُستكرهة لتناسب ثقافة العصر السائدة.
نضرب فيما يلي أمثلة لبعض المنكرات الشائعة في المجتمعات الغربية ونبيّن الصلة بين شيوعها والأفكار السائدة في مجتمعاتها.
الشذوذ الجنسي:
الغربيون كسائر عباد الله تعالى مولودن على الفطرة التي تنكر هذه الفاحشة. وفيهم من لا يزال ينكرها بل ربما كان منكروها هم الأغلبية في المجتمع. لكنها أغلبية صامتة لا صوت قوي لها.
سألنا ذات مرة بعض الشباب الذين هداهم الله للإسلام عن سبب إسلامهم. فقال أحدهم إنه اقتنع بأنه دين الفطرة وقال إنه لما كان عمره عشر سنوات رأى على شاشة التلفزون رجلين في وضع شاذ، فما كان منه إلا أن تقيأ. يقول لكن أهلي اعتبروا هذا شيئاً غريباً وغير لا ئق وبدؤوا ينصحونني بأن أكون متسامحا وهكذا.
حتى الذين ينكرون هذه الفاحشة لا يجرؤون على إعلان رأيهم الحقيق فيها بقولوهم مثلاً إنها من مساوئ الأخلاق، أو أنها مخالفة للدين، بل يحاولون أن يجدوا لإنكارهم لها حججا في إطار الفكر العلماني الشائع في المجتمع. فمثلا عنما ثارت قضية السماح للشاذين بالانخراط في القوات المسلحة، قال بعضهم معترضا إنهم لا يصلحون أن يكونوا حنوداً. فجاء بعض هؤلاء ممن كان ضابطاً وكان مستخفياً بشذوذه، جاء وأعلن انه من الشاذين لكنه من أحسن الضباط بدليل الشهادات والأوسمة التي يحملها.
وبعض السياسيين المعروفين بإنكارهم لهذا الشذوذ لا يستطيعون التصريح برأيهم خشية أن يفقد الحزب أصوات الممارسين له في الانتخابات.
أما المؤيدون للشذوذ فإنهم يعتمون في تأييدهم على بعض القيم السائدة في المجتمع ولا سيما قيمة الحرية الشخصية.
بل إن بعضهم يؤيده على أساس علمي فيقول إن هؤلاء الناس خلقوا كذلك، ولذلك يسمون انحرافهم بالميل أو الاتجاه الجنسي sexual orientation. والمسلم يعلم أن هذه حجة باطلة لأن الله تعالى قال على لسان رسوله إليهم
( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) (الأعراف:81).
والمؤمنون بالقيم السائدة في المجتمع من المتدينين يؤلون نصوص دينهم لتتوافق معها وهي نصوص لا شك في استنكارها لهذه الفاحشة وعدها من أعظم الذنوب التي عاقب الله أصحابها بأن جعل عالي أرضهم سافلها كما هو في القرآن الكريم. قال بعضهم هذه القصة لا يمكن أن تكون حقيقية، وإلا فلماذا يقلب لم الله مدينة سان فرانسسكو؟
واعترفت بعض الكنائس بالشاذين وحقهم في أن يكونوا قساوسة!
وكلما ضعفت حُجج المُنكرين للمنكر وخَفَتَت أصواتُهم، علَتْ في المقابل أصوات الممارسين له. فقد كانوا في الماضي يستخفون لكنهم الآن يتداعون للخروج من المخبأ وإعلان هوياتهم. بل هم الآن ينظمون مظاهرات إعلامية يؤمونها في بعض البلاد الغربية كالولايات المتحدة من أماكن كثيرة.
ليس هذا فحسب بل إنهم صاروا يطالبون بالاعتراف بهم أزواجا لهم حقوق كل الأزواج العاديين. وقد اعترفت بهذا الزواج الذي يسمى بالمثلى بعض الدول كان آخرها بريطانيا. أيدت القانون الجديد هذا كل الصحف البريطانية تقريبا وأشادت به وأيدته جماعة يهودية لبرالية، وعارضتها بعض الكنائس وتحفظت أخرى في المعارضة.
ولو كانوا يقرؤون كتاب الله تعالى لعلموا أن أمر هؤلاء القوم لن يقف عند هذا الحد. بل إنه كلما قويت شوكتهم ازدادوا ضيقا بمخالفيهم وقالوا " أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون".
الزنا:
الزنا أيضا من الفواحش التي تنكرها الفطرة، وقد كان ممنوعا في البلاد الغربية لكنهم كلما اشتد بعدهم عن بقايا ما كانوا يعرفونه ويستمسكون به من قيم الدين، وكلما اشتد اتباعهم لأهوائهم، اشتد بعدهم عن فطرتهم.(119/3)
لكنه صار الآن أمرا مشروعا بين كل متراضيين رجلين كانا أم أمرأتين أم رجل وامرأة، ومتزوجين كانا أم غير متزوجين. وهم يعرفون من أسباب هذه الفاحشة ومن مضارها ما لا يعرف كثيرون غيرهم، لكنهم مع ذلك يستمرون في ممارسته لأنهم لم يعودوا يستطيعون مقاومة شهواتهم أو نهي أنفسهم عن أهوائها.
يذكرون من أسبابه حبوب منع الحمل، واختلاط الرجال بالنساء في أماكن الدراسة والعمل، والأفلام الخليعة، والمشاهد الفاضحة في الانترنت، وبعض الأفكار التي أشاعها بعض علماء النفس في الستينات بأن الإباحة الجنسية من أهم وسائل التحرر، وغير ذلك. ويذكرون من مضاره شيوع فاحشة الاعتداء على الأطفال حتى ممن يفترض أن يكونوا لهم آباء أو أقارب، ويذكرون منها انتشار أمراض كثيرة أسوؤها الإيدز، ويذكرون من مضاره ومضار عمل النساء خارج منازلهن قلة الانجاب الذي بلغ معه الأمر حدا صار ينذر بتدهور اقتصادي لبعض أممهم ثم انقراضها. ولذلك كثر قولهم عن أنفسهم إنهم ينتحرون.
الاغتصاب:
ما زال الاغتصاب يعد أمرا منكرا، لا لسبب خلقي، ولكن لأنه اعتداء على حرية الآخرين. لكنهم مع إنكارهم لهم وتشريع القوانين الصارمة ضده، إلا أنهم يتركون الباب مفتوحا لكثير من أسبابه. في استطلاع حديث للرأي في بريطانيا عن أسباب هذه الجريمة أجاب ثلث المسؤولين أن سببها ملابس النساء. لكن هذا سبب لا يمكن علاجه لأن التدخل في ما تلبس المرأة تدخل في حريتها الشخصية وهو عندهم من أكبر المنكرات. إن الشيطان ما يزال ينزع من ملابسهم شيئا فشيئا حتى كثيرات منهن ليمشين الآن شبه عاريات. لكن لا أحد يستطيع أن يعترض.
الظلم:
من المنكرات التي لم يتناهوا عن فعلها، بل ارتكبوها بما يشبه الإجماع هو ظلمهم للشعوب باغتصاب أراضيها، ونهب ثرواتها، وتقتيل بعض أهلها، وتسخير بعضهم لخدمة أغراضها، واستعباد بعضهم واسترقاقهم استرقاقا كاملا. وقد فعلوا كل هذا بقرارات ديمقراطية لا شك في ديمقراطيتها، وسوغوه بحجج من معتقداتهم الدينية، وأفكارهم الاقتصادية الرأسمالية، ومشاعرهم العنصرية. كان رؤساء الضلال منهم يصورون العالم للجهلاء من أتباعهم بأنه عالم يعيش كله عيشة الحيوانات، أجناس وقبائل متخلفة، وأديان وثنية، وعقول متخلفة، وأنهم ذاهبون لانقاذهم وإعمار بلادهم وهدايتهم للدين الحق.
قالوا ذلك لأولئك الجهلاء في الماضي. أما الآن فإن احتلال إفغانستان والعراق، والهجوم على الإسلام، وعلى كل من تحدثه نفسه بالانتساب الصحيح إليه أو الدعوة إليه من الأفراد أو الجماعات أو الحكومات، أما الآن فإن كل هذا يبحث له عن مسوغات جديدة تناسب العصر.
ما العمل؟
إن من شأن المنكرات والفواحش أنه كلما كثر عدد الممارسين لها صعب تطبيق العقوبات عليهم. ولذلك اعتذر اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عن تبديلهم لعقوبة الرجم بقولهم إنه كثر في أشرافهم. لكن المشكلة أنه كلما ترك المجتمع هذا والأشرار من ذوي النفوذ في العالم الغربي يسعون لنشر هذا الفساد في العالم كله بل ويعملون جاهدين لأن تصدر فيه الأمم المتحدة قرارات ملزمة تجعله حقا من حقوق الإنسان ولا سيما النساء.
فما العمل؟
• إن أقل ما يمكننا فعله لإنكار هذا المنكر العظيم هو الاعتراض عليه باللسان ولا سيما إذا كان من نوع الظلم الذي يقع علينا مباشرة، وما أمضى اللسان سلاحا ولا سيما في وجه من يحاولون أن يجددوا لمنكرهم مسوغات عقلية. إننا نعيش في عالم تطورت فيه وسائل الاتصال تطورا يمكننا من إيصال رسالتنا إلى الناس في العالم كله، وما تضمنه هذه الرسالة من بيان للحق وإنكار للباطل بحجج عقلية علمية يرجى أن تؤثر في كل من يطلع عليها من عقلاء البشر وهم بحمد الله كثر.(119/4)
أثر دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في تحطيم الطغيان.
(الطغيان) في اللغة : التعدي وتجاوز الحد ([1]) .
والمقصود به هنا سلب شيء من خصائص الألوهية من الخالق جل وعلا ومنحه للمخلوق, فهذا من التعدي على الله سبحانه ومن التجاوز بالمخلوق فوق حده .
وقد ظهر الطغيان في عهد الجاهلية على ضربين :
الأول : منح الأصنام حق العبادة من دون الله تعالى .
والثاني : منح زعماء المشركين حق التشريع من دون الله تعالى .
فأما الأول فإنه قد انتشر في جزيزة العرب انتشارًا واسعًا , وكان العرب في ماضي حياتهم على دين إسماعيل عليه السلام , وهو التوحيد إلى أن دخلت عبادة الأصنام في حياتهم .
وكان أول من أدخل عبادة الأصنام على العرب عمرو بن لُحَيّ الخزاعي , كما جاء في حديث أخرجه الحاكم , وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر النار : " ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار , وأشبه من رأيت به معبد بن أكثم الخزاعي , فقال معبد : يارسول الله أتخشى عليَّ من شبهه فإنه والدي ؟ قال: لا , أنت مؤمن وهو كافر , وهو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام " .
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي ([2]) .
وانتشرت عبادة الأصنام في بلاد العرب حتى دخلت إلى بيوتهم , وفي بيان ذلك يقول ابن إسحاق: واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه , فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسَّح به حين يركب , فكان ذلك آخر مايصنع حين يتوجه إلى سفره , وإذا قدم من سفره تمسح به , فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله ([3]) .
وقد أخذت عبادة الأصنام أشكالاً متعددة منها السجود لها والطواف حولها والنحر عندها, والتمسح بها .
ومن مظاهر إشراكهم الأصنام مع الله تعالى قول بعضهم في تلبية الحج " لبيك لاشريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك " ([4]) .
هذا وقد انتشرت عبادة الأصنام في أكثر الأمم الجاهلية كما سيتبين لنا في عرض مواقف الفتوحات الإسلامية .
أما الضرب الثاني من الطغيان فهو منح زعماء المشركين حق التشريع من دون الله تعالى فهذا واضح في جميع الأمم ومنها قبائل العرب حيث كان الزعماء هم الذين يشرعون للناس ما ينظمون به حياتهم من غير رجوع إلى وحي سماوي , وكان بروز دور الزعماء في حياة الأمم ذات الحكومات أكبر مما هو عليه عند العرب الذين كانت تغلب عليهم الحياة القبلية .
وحينما تكون القلوب ممتلئة بتعظيم الأصنام والخوف منها وبتعظيم البشر والرهبة منهم فإن تصورات الإنسان تكون منحرفة عن الخط المستقيم , لأن فكره سيكون مشغولاً بهذا الإطار , من تقديم مظاهر التعظيم والولاء والخوف والرجاء رغبة فيما عندهم من الخير واتقاء لما عندهم من الشر الذي يكون من نسج الخيال وهيمنة الأوهام بالنسبة للأصنام , ومن المغالاة في تقدير الأسباب التي يمكِّن الله تعالى منها طغاة البشر واعتبارهم مستقلين بها عن إرادة الله تعالى وقدرته .
وبالتالي يكون السلوك منحرفًا نحو عبادتهم من دون الله تعالى وذلك ظاهر في الأصنام , ومغلف بالنسبة للطغاة لعدم تقديم مظاهر العبادة الظاهرة لهم ولكن بتقديم رضاهم على رضا الله تعالى , وما يحبونه على مايحبه , واجتناب سخطهم وغضبهم وإن غضب الله جل وعلا عليهم .
وإن مهمة الداعية الحقيقية هي الجد في محاولة تفريغ قلوب هؤلاء المستعبدين وتطهيرها من رجس عبادة الأوثان من الأصنام ومن طغاة البشر , وذلك ببيان حقارة الأصنام وعدم تمتعها بخصائص الإنسان العاقل فضلاً عن خصائص الألوهية , وببيان جرائم الطغاة ومظاهر الضعف والتناقض في أحكامهم وقراراتهم لتحطيم كبريائهم وتطهير العقول من اعتقاد عظمتهم وقداستهم.
ولقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته بهذه المهمة خير قيام , حيث حطم الطغيان البشري القائم في عهده , وأحل محله العبودية الكاملة لله عز وجل .
وقد أخذ جهاده لتحطيم الطغيان مسلكين :(120/1)
المسلك الأول : ما قام به من تحقير الأصنام وتسفيه عبادتها وإظهارها بمظهر العاجز الذي لايبصر ولايسمع , ولايضر ولاينفع , وقد نزلت في هذا المعنى آيات كثيرة منها قول الله تعالى : (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192)وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (198))[الأعراف :191 – 198] .
وقوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا) [الفرقان : 3]
وقوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [يونس : 18 ] .
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)) [فاطر : 13 – 14] .
وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [ الحج : 73] .
وقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ) [فاطر : 40] .
وقوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ) [سبأ :22 ] .
ففي هذه الآيات بيان عجز الأصنام وعدم أهليتها لأن تكون آلهة تعبد من دون الله تعالى, حيث فقدت الحواس والأعضاء اللازمة لكل حي كي يتحرك ويعمل , فضلاً عما هو فوق ذلك مما هو من خصائص الآله القادر كالإيجاد من العدم والملك المطلق لكل مافي السموات والأرض .
وليس المقصود بنقد عبادة الأصنام وتحطيم طغيان الكفار بها أن يقوم المسلمون بسبِّ تلك الأصنام, فإن السب لاينتج تحطيمًا وقر في النفوس من تعظيمها وإنما يدفع عابديها إلى شيء من رد الفعل فيسبوا الله جل وعلا عن ذلك , ولذلك نهى الله سبحانه المسلمين عن هذا السلوك بقوله: ( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام :108] .
فالسب والشتم نُزُول في مجال الجدل ولايقوم به إلا من فقد الحجة والبيان في الدفاع عن قضيته, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه الله تعالى أعلى البيان البشري وأبلغ الحجة , مع ماهو مؤيد به من الوحي الإلهي العظيم .
أما الآيات السابقة التي اشتملت على نقد عبادة الأصنام فليست من باب السب والشتم, وإنما هي من النقد المشتمل على بيان الحقائق , ومن هذه الحقائق أن الأصنام عاجزة عن خلق الأشياء من العدم , وأنها لاتستطيع نصر عبادها ولانصر أنفسها , وأنها لاتملك لنفسها ضرًا ولانفعًا, فضلاً عن أن تمنح ذلك عابديها , وأنها لاتستطيع إماتة الناس ولا إحياءهم , وانها لاتملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض .(120/2)
فهذه الحقائق الناصعة لايستطيع الكفار أن يجيبوا عنها إلا بالإقرار والاعتراف بصدق ماجاء في القرآن من وصف أصنامهم , بينما لايستطيعون أن يصفوا الله جل وعلا بتلك النقائص لأنهم يقرّون بتوحيد الربوبية , وإنما جحدوا توحيد الألوهية .
والمسلك الثاني : القيام بتحطيم طغاة الكفار الذين كانوا يتزعمون قومهم ويشرعون لهم القوانين التي يسيرون عليها في هذه الحياة , حيث إن الطغيان في ذلك الزمن يتمثل في شرك العبادة , وذلك بعبادة الأصنام من دون الله تعالى , وفي شرك الطاعة , وذلك بطاعة السادة والزعماء الذين يشرعون للناس من دون الله تعالى .
ولقد نزل في توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى تحطيم الطغيان البشري آيات كثيرة , منها : -
قوله تعالى : (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (122)) [الأنعام :121 – 122] .
وقوله تعالى : (وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)) [يونس:42–43] .
وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ) [الأنبياء :45 ] .
وقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)) [الأنبياء : 98 – 100] .
وقوله تعالى: ( قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ) [الزمر : 64] .
وقوله تعالى : (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (9) مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)) [الجاثية:7 – 10] .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بتلاوة هذه الآيات وأمثالها ولايداري المشركين بالإسرار بها, وكان من الأهداف الكبيرة والحكَم البالغة من نزول هذه الآيات الشديدة على المشركين أن يتحطم الطغيان الذي عشش في أفكار زعماء الكفار وسادتهم , وأن يتلاشى شيئًا فشيئًا ما وقر في نفوس الأتباع من تعظيمهم والرهبة منهم.
ولقد سبقت أخبار تبين جرأة النبي صلى الله عليه وسلم على زعماء الكفار وستأتي أخبار أخرى في هذا المجال.
ولقد اجتمع على سيادة مكة آنذاك عدد من أشراف قريش منهم أبو جهل عمرو بن هشام وأمية وأبي ابنا خلف والوليد بن المغيرة وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب والعاص بن وائل, وكانوا جميعًا يعادون الإسلام ويحكمون أهل مكة بالقوانين التي تعارفوا عليها , وكان من الصعب على أفراد الناس أن يخالفوهم في شيء من ذلك , بل إنّ قوانينهم تلك اكتسبت القداسة الدينية لكونها مما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم , فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم في ذلك والإنكار عليهم وتسفيه آرائهم وعيب ماورثوه عن أسلافهم أنكروا ذلك منه وناصبوه العداء , وساءهم أن بعض أشرافهم قاموا بحمايته وأبرزهم عمه أبو طالب .
وكان لزعماء مكة المذكورين شأن كبير في نفوس أكثر أهل مكة , بل في نفوس قبائل العرب, وقد بلغ تعظيم أتباعهم لهم في مكة حد العبادة حيث خضعوا لهم في القوانين التي كانوا يؤمنون بها ويحمونها وينفذونها ,فكان من أعظم مَهامِّ النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته أن يزيل من النفوس ماوقر فيها من تعظيم هؤلاء الطغاة , وأن يمحو من القلوب أي حب أو تقدير لهم , لأن تمكن محبتهم وتعظيمهم في القلوب يزاحم وجود الإيمان بالله تعالى وتعظيمه , وبالتالي يتكوَّن سلوك الناس في الحياة وتصوراتهم على مايرسخ في القلب من المعتقدات .
لقد كان من أول ما يتخلى عنه المؤمنون بالإسلام آنذاك أن ينفضوا من قلوبهم أي غبار علق بها من الولاء للأصنام أو للطغاة الذين يحاولون أن يتحكموا في مصائر الناس وأن يحددوا لهم المعتقدات التي يؤمنون بها والسلوك الذي يسيرون عليه في الحياة .(120/3)
ولقد كان الرجل يمسي كافرًا وقلبه عامر بحب أولئك الأوثان من الحجارة وطغاة البشر , ثم يصبح مؤمنًا وقد محا من قلبه أي وجود لتلك الأوثان .
ولقد كان من مظاهر ولاء الكفار لطغاتهم أنهم كانوا يُكثرون من الثناء عليهم وذكر محاسنهم ويغضُّون الطرف عن مساوئهم,بل كانوا يسِّوغون مساوئهم ويحوِّلونها إلى محاسن ومحامد.
لقد كان أولئك الطغاة يقودون قومهم إلى الضلال في الدنيا والنار في الآخرة رغم وضوح الحق لهم واعتراف بعضهم بذلك , ومع ذلك يتبعهم عامة الناس إلى هذه الحياة المظلمة والمصير المهلك , وقد ألغوا عقولهم وحصروا تفكيرهم في محاولة كسب رضا أولئك الطغاة والحصول على شيء مما يجري على أيديهم من متاع الدنيا الزائل , أو كسب الجاه الوهمي الذي يحاول الطغاة رفعهم إليه .
ولقد كان يحصل من أولئك الطغاة غالبًا تمجيد لأولئك الأتباع الذين يسيرون في ركابهم , وثناء عليهم بذكر فضائلهم , وماذاك إلا لأن الطغاة لايقوم وجودهم إلا على أتباعهم من عموم الناس, فإذا فقدوا هذه القاعدة سقطوا , فوجود كل من الطائفتين مرتبط بوجود الطائفة الأخرى.
وكما أن العامة محتاجون إلى الطغاة في بعض أمور معاشهم وتَبوُّء المكانة الاجتماعية التي يطمحون إليها فإن الطغاة محتاجون إليهم لأنهم الركيزة التي يقوم عليها مجدهم , بل إن حاجة هؤلاء إلى العامة أعظم وأهم , لأن وجود مجدهم يقوم على أولئك العامة بينما يستطيع العامة لو عقلوا وتفكروا أن يتخلوا عنهم وأن يبحثوا عن مايحقق مصالحهم في الدنياوالآخرة .
وهكذا فعل المؤمنون في مكة حيث حرروا أنفسهم من أوهام الجاهلية ومن ربقة تبعية أولئك الطغاة, فأصبحوا ينظرون إليهم بازدراء واحتقار , ويعدُّونهم من معالم الوثنية التي جاء الإسلام للقضاء عليها وتحرير عقول الناس منها .
إن ماقام به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحرير عقول الناس من تبعية طغاة البشر قد أتاح لهم فرصة عظيمة من التفكير والإبداع في هذه الحياة , فليس أمام المؤمنين من يطلبون رضاه ويجتنبون سخطه إلا الله تعالى , ثم هم بعد ذلك يتحركون غير مقيدين بالخضوع لبشر مثلهم , وإن كان الإسلام قد أوجب عليهم طاعة ولاتهم فإن ذلك من طاعة الله جل وعلا , مادام الجميع خاضعين لذلك المبدأ العظيم وهو طلب رضوان الله تعالى واجتناب سخطه .
-------------------------
(1)مفردات الراغب /304 .
(2) المستدرك 4/605 .
(3) سيرة ابن هشام 1/91 .
(4)سيرة ابن هشام 1/86 .(120/4)
أثر رضاع الكبير في تحليل الخلوة و تحريم النكاح
السؤال :
هل يحرم بالرضاع من رضع خمس رضعات من امرأة أجنبيّة عنه ، و لكن بعد أن اشتدّ عوده ، و بلغ مبلَغ الرجال ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
هذه مسألة دقيقة لأهل العلم فيها مذاهبان ؛ أشهرهما مذهب الجمهور من السلف و الخلف ، و عليه أكثر الصحابة ، و أمهات المؤمنين عدا عائشة بنت الصدّيق رضي الله عنهم أجمعين ، و هو اشتراط أن يكون الرضاع للطفل قبل سنّ الفطام ، أي في الحولين الأولين من عمره عند الجمهور ، و حتى العامين و النصف عند أبي حنيفة ، و الثلاثة أعوام عند زُفَر ، و لا بأس بالأيّام القليلة بعد الحولين عند الإمام مالك ، و من أدلّتهم :
أوّلاً : قوله تعالى : ( و الوالدات يُرضِعنَ أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يُتمّ الرضاعة ) .
و وجه الدلالة في هذه الآية على أن لا رضاعة محرِّمة بعد الحولين أنّها تنص على تمام الرضاعة فيهما ، و التام لا يقبل الزيادة ، و عليه فكلّ رضاعة بعد سنّ الفطام لا اعتبار لها في التحريم بالرضاع .
ثانياً : روى الشيخان و غيرهما عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه و سلّم دخل عليها و عنده رجل ، فكأنّه تغيّر وجهه ، كأنّه كرِه ذلك ، فقالت : ( إنّه أخي ) فقال صلى الله عليه و سلّم : ( اُنظُرنَ مَن إخوانُكُنّ فإنّما الرضاعة من المجاعة ) .
قال الحافظ في الفتح ( 9 / 148 ) : قوله ( من المجاعة ) أي : الرضاعة التي تثبت بها الحرمة ، و تحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعته ، لأنّ معدته ضعيفة يكفيها اللبن ، و يُنبِتُ لحمَه فيكون جزءاً من المُرضِعة ا.هـ .
ثالثاً : روى الترمذي عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم : ( لا يحرّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي ، و كان قبل الفطام ) .
قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، و العمل على هذا عند أصحاب النبي صلى الله عليه و سلّم و غيرهم ؛ أنّ الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين ، و ما كان بعد الحولين الكامِلَين فإنّه لا يحرّم شيئاً .
و الحديث عدا قوله : ( و كان قبل الفطام ) في سنن ابن ماجة أيضاً ، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما بإسناد صحيح .
و القول الثاني هو قول الظاهريّة بوقوع التحريم بالرضاعة للصغير و الكبير على حدٍّ سواء ، و عَدَم التفريق بين ما كان في الحولين أو بعدَهما ، و قد ذكر هذا القول ابن حزم الظاهري رحمه الله فأطال الكلام عنه في المحلى ( 10 / 10 و ما بعدها ) ، و انتصر له ، و هو مذهب عطاء بن رباح و الليث بن سعد ، و قبلَهما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها .
و عُمدة ؤلاء ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه و سلّم ، فقالت : يا رسول الله إنّي أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم و هو حليفه . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلّم : ( أرضعيه ) فقالت : و كيف أرضعه و هو رجل كبير ؟ فتبسّم رسول الله صلى الله عليه و سلّم و قال : ( قد علِمتُ أنّه رجل كبير ) .
و في رواية عند مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن سالماً مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة و أهله في بيته ، فأتت ابنة سهيل النبي صلى الله عليه و سلّم فقالت : إنّ سالماً قد بلغ ما بلغ الرجال ، و عَقَل ما عقلوا ، و إنّّه يدخل علينا ، و إني أظنّ أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً ، فقال لها النبي صلى الله عليه و سلّم : ( أرضعيه تحرمي عليه ، و يذهب الذي في نفس أبي حذيفة ) فرجَعَت فقالت : إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة .
قلتُ : و هذا الحديث ظاهر في الدلالة على مذهب الظاهريّة في عدم التفريق بين الصغير و الكبير في التحريم بالرضاعة ، و لكنّه مُعارض بما تقدّم من أدلّة مذهب الجمهور ، و إذا كان القول به وجيهاً لذهاب أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها إليه ، و لعملها به حيث كانت ( كما في سنن أبي داود بإسناد صحيح ) تأمر بنات أخواتها و بنات إخوتها أن يُرضِعنَ من أحبت عائشة أن يراها ، أو يدخل عليها و إن كان كبيراً خمس رضعات ثمّ يدخل عليها ، فإنّ هذا مخالف لما ذهَبت إليه بقيّة أمّهات المؤمنين الطاهرات رضوان الله عليهنّ أجمعين ، حيث لم يكنّ يُدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً حتى يرضع في المهد ، و قُلن لعائشة : ( و الله لا ندري لعلّها كانت رخصة من النبيّ صلى الله عليه و سلّم لسالم خاصّة ، فما هو بداخل علينا أحدٌ بهذه الرضاعة ، و لا رائينا ) كما أخبرت بذلك أم سلمة فيما رواه عنها مسلم و غيره .(121/1)
و الظاهر أنّ لتخصيص الرخصة بسالم رضي الله عنه من دون الناس وجه من حيث اختيار معظم أمهات المؤمنين له ، و ذهاب معظم الصحابة و جمهور العلماء إلى القول به ، و هو المفهوم من ظاهر النصوص المعارضة لحديث سهلة بنت سهيل ، و لو كان الأمر على إطلاقه لشاع بين الصحابة الكرام فمن بعدهم من السلف ، و تعدّدت طرقه ، و رويت أخباره .
و لذلك فالراجح في المسألة هو قول الجمهور باشتراط كون الرضاع قبل الفطام لتحليل الخلوة و تحريم النكاح ، و الله أعلم .
و قد ذهب بعض أهل العلم إلى الجمع بين القولين السابقين بالترخيص في إرضاع الكبير و ترتيب أحكام الرضاعة عليه في التحليل و التحريم عند وجود المشقة في الاحتجاب عنه ، و عدم الاستغناء عن دخوله على النساء ، كما في قصة سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما ، و هذا القول منسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، و هو بعيد لأنّ المشقّة غير منضبطة ، أما لو كانت ضرورة ، فللضرورة شأنٌ آخَر ، و الضرورات تقدّر بقَدَرِها .
تنبيه : أشكل على البعض رضاع الكبير من المرأة ، مع ما يُشعِر به ذلك من تلامس بشرتيهما رُغم عدم وقوع التحريم قبل تمام الرضاع خمساً ، و من أحسن ما قيل في توجيه ذلك قول الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم ( 10 / 31 ) : ( قال القاضي : لعلّها حَلَبَته ثم شرِبَه ، دون أن يمسَّ ثديَها ، و لا التَقَت بشرتاهُما ، و هذا الذي قاله القاضي حَسَنٌ ، و يُحتَمل أنّه عُفيَ عن مسّه للحاجة ، كما خُصَّ بالرضاعة مع الكِبَر ، و الله أعلم ) .
و لا يفوتني التنبيه أيضاً عند الحديث عن رضاع الكبير على ضرورة ذِكر الحكم الراجح في المسألة ، و عدَم التوسّع إلا عن عِلمٍ و إحاطةٍ بجميع ما روي في هذا الباب و أقوال العلماء فيه ، و توجيههم للنصوص ، و توفيقهم بينها لسدّ أبواب تطاول الرافضة على أمّ المؤمنين الطاهرة الصدّيقة بنت الصدّيق ، و تنقّصهم لها .
روى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : ( لا رضاع إلا ما شدّ العظم ، و أنبت اللحم ) فقال أبو موسى : لا تسألونا و هذا الخبر فيكم .
قلت : و هذا حَسنٌ في حسم مادّة الجدل ، و قطع دابر الأقاويل في هذه المسألة ، و الله أعلم .(121/2)
أثر سلامة القلب على سعادة المرء فى الدنيا والآخرة
رئيسي :الرقائق :السبت 9 شعبان 1427هـ – 2سبتمبر 2006م
أهمية سلامة القلب:
لسلامة القلب عظيم الأثر في سعادة المرء في الدنيا والآخرة؛ فلا يكاد العبد ينتفع بشيء في دنياه وأخراه أعظم من انتفاعه بسلامة قلبه: سلامته من الشرك والنفاق والرياء والكبر والعجب وسائر الأمراض التي تعتريه، ولا أعني: أمراض البدن التي منها أمراض القلوب، وإنما أعني: تلكم الأمراض التي تعتري القلب مما يتعلق بدينه؛ فهي أعظم الأمراض فتكًا على الإطلاق وأشدها تدميرًا وأسوأها أثرًا؛ بل وليست هناك مقارنة على الإطلاق بين مرضٍ بدني يعتري القلب ويحتاج إلى بعض الأدوية والمُسكِّنات، وبين مرض يجرح دينه ويُذهب تقواه.
فالأخير يجلب على العبد نكدًا وهمًا وغمًّا وعذابًا في الدنيا والآخرة, أما الأول فقد يُثاب عليه العبد المؤمن إذا صبر واحتسب، كسائر الأمراض التي يُثاب عليها المؤمن إذا صبر واحتسب, كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاه] رواه البخاري ومسلم .
ولكن من قصور نظر الخلق وقلة أفهامهم وضيق مداركهم؛ لا يُولون الأهم والأخطر ـ وهو المرض المتعلق بالدين ـ أدنى أهمية، وفي المقابل إذا شعر أحدهم بأي مرض عضوي يعتري قلبه من قلة نبضات أو سرعتها، أو أي نوع من تلكم الأمراض؛ فإنه يبادر وبسرعة بالذهاب إلى الأطباء، ويسأل عن أعلم أهل الطب ، ويبحث عن أكثرهم مهارة وأحذقهم تطبيبًا، ولم يدَّخِر وسعًا في الذهاب إليه، ولو كلَّفه ذلك الغالي والنفيس من دنياه.
وخفي على هؤلاء أن هذه الحياة الدنيا إنما هي سنوات قليلات وأيام معدودات، وبعد ذلك فهناك الدار الآخرة التي هي الحيوان، ولو كانوا يعلمون، تلكم الدار التي يحتاج القرار فيها إلى سلامة القلب من الشرك والنفاق والعجب والرياء، وسائر الأمراض التي نحن بصدد الحديث عنها؛ لخطورتها وسوء أثرها.
قال خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم:[وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيم] [سورة الشعراء، الآيات: 87 ـ 89].
قلبٌ سليمٌ من الشك والشرك والشقاق والنفاق, سليم من الغل للذين آمنوا ... سليم من الرياء, سليم من الأحقاد...سليم لم يُصب بالقسوة ولم يختم عليه بالأختام ... سليم لم يتلوث بآثار الجرائم والذنوب والمعاصي ... ولم يتدنس بالبدع والخرافات والأوهام وظن السوء.
سليم يحمل كل هذه المعاني.
هذا هو القلب الذي ينفع صاحبه يوم القيامة، كما انتفع الخليل إبراهيم عليه السلام:[وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [37]] [النجم]. إبراهيم الذي ابتلاه الله بكلمات فأتمهن فجعله الله للناس إمامًا:[ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [84]] [الصافات].
بصلاح هذا القلب يصلح سائر الجسد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ القلب]رواه البخاري ومسلم.
هذا القلب المنيب الذي يورث صاحبه الجنان وتقرَّب له وتُدنى، قال الله تبارك وتعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُون لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيب *ٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ][سورة ق، الآيات: 31- 35].
هذا القلب المليء بالخير سبب في الفتح في الدنيا، وسبب في الخير في الدنيا أيضًا، قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلِ لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَم اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخذ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [70]] [الأنفال]. فانظر إلى الآية الكريمة، كفارٌ أُسروا ووقعوا في الأسر في أيدي المسلمين فمنهم من يقول: إني كنت مسلمًا وكان في قلبي خير؛ فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: [قُلِ لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَم اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخذ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [70]] [الأنفال].
فالله يؤتي الخير بناءً على الخير الذي في القلوب ، وهو سبحانه يغفر الذنوب؛ للخير الذي في القلوب: [وَيَغْفِرْ لَكُمْ].(122/1)
وها هم أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كيف نزلت عليهم السكينة, وبما نزلت بعد توفيق الله سبحانه لهم؟!! قال الله سبحانه لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [ 18]] [سورة الفتح].
فانظر إلى قوله تعالى فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا] [سورة الفتح، الآيات: 18، 19].
فلما علم الله ما في قلوب أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم؛ أنزل السكينة عليهم, وأثابهم فتحًا قريبًا,
ومغانم كثيرة يأخذونها... كل هذا لما علمه الله من الخير الذي في القلوب.
وانظر كذلك إلى فائدة تعلق القلب بالمساجد, قال النبي صلى الله عليه وسلم سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ] رواه البخاري ومسلم.
فالخيرات والبركات, والنصر والفتوحات كل ذلك يتنزل من عند الله سبحانه على قدر ما في القلوب من خير.
وكذلك رفع الدرجات, وعلو المنازل ووراثة الجنان كل ذلك من عظيم أسبابه: ما في القلوب من خير.
والله سبحانه وتعالى ينظر إلى القلوب والأعمال، ويُجازي عليها ويثيب ويعاقب، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ] .
وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ] رواه مسلم.
فما أسعد أصحاب القلب السليم! هنيئًا لهم هؤلاء الذين وحَّدوا ولم يشركوا به شيئًا, ولم يراءوا ولم ينافقوا... هنيئًا لهم هؤلاء القوم الذين باتوا وليس في قلوبهم غلٌّ للذين آمنوا ... هنيئًا لهم هؤلاء الذين أحبوا للمؤمنين ما أحبوه لأنفسهم ... هنيئًا لهم هؤلاء الذين حافظوا على قلوبهم ولم يلوثوها بذنوب ترسب عليها السواد والنكت والران والختم ... هنيئًا لهم هؤلاء الذين اطمأنت قلوبهم بذكر الله.
طوبى لهؤلاء وحسن مآب ... يكاد أحدهم يطير في الهواء من سعادته وخفة قلبه, وهو يحب للمؤمنين الخير وقلبه نظيف من الذنوب والمعاصي، وقلبه سعيدٌ لحلول الخير على العباد... هنيئًا لهم هؤلاء الرحماء أرقاء القلوب لذوي القربى والمسلمين.
وكذلك العقوبات والمؤاخذات كمٌّ كبيرٌ منها ينبني على ما في القلوب:
قال الله تعالى ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَت قُلُوبُكُمْ [225]] [سورة البقرة].
وها هم أصحاب الجَنَّةِ، أصحاب البستان الذين ابتلاهم الله عَزَّ وَجَلَّ عوقبوا عقوبة عاجلة في الدنيا؛ لما أضمرته قلوبهم من شر وبخل كما حكى الله سبحانه فقال إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحينَ * وَلا يَسْتَثْنُون *َ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُون *َ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيم] [سورة القلم، الآيات: 17ـ 20].
وها هي طائفة من أصحاب رسولنا صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنهم وعفا عنهم ـ لما خرج بعضهم يريد الدنيا يوم أُحد كانت إرادته سببًا في هزيمة إخوانه، عفا الله عن الجميع، قال الله سبحانه: [وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ في الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاَكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُمْ مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدَ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [ 152]] [سورة آل عمران].
فيا سبحان الله! كيف كانت إرادة الدنيا عند فريقٍ سببًا في هزيمته وهزيمة من معه؟!
وها هو رجل ـ الغالب عليه النفاق ـ لم ير المؤمنون منه نفاق، لكن الله يعلمه ويعلم ما في قلبه، ذلك الرجل كان يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان جريئًا, كان شُجاعًا, كان مغوارًا ، كان لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا تبعها، يقتل من المشركين الجم الغفير, ويجرح فيهم ويطعن!
ولكن الله يعلمه ويعلم ما في قلبه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ].(122/2)
فكاد المسلمون أن يرتابوا؟ كيف هو من أهل النار، وهو أشجعنا؟! سبحان الله هو من أهل النار؟! ولِم هو من أهل النار؟ الله يعلم ذلك, هو سبحانه الحكيم الخبير هو العليم بما في الصدور، هو العليم بما في قلب هذا الرجل. ها هي قصته، وها هو شأنه:
أخرج البخاري ومسلم من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ فَقَالَ مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ] فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَنَا صَاحِبُهُ قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ قَالَ فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ وَمَا ذَاكَ؟] قَالَ الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ فَقُلْتُ أَنَا لَكُمْ بِهِ فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ].
فعياذًا بالله, ما أشقى هؤلاء أصحاب القلوب الخبيثة! ما أشقى هؤلاء الذين حملوا بين جثمانهم قلوب الشياطين ! ما أتعس هؤلاء الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا! ما أتعس هؤلاء الذين نافقوا وخدعوا المؤمنين والمؤمنات!
ما أشد عذاب هؤلاء الذين امتلأت قلوبهم بحب شيوع الفاحشة في الذين آمنوا؛ فادُّخر لهم العذاب الأليم في الآخرة فضلاً عما عُجِّل لهم منه في الدنيا!
فإلى هؤلاء الذين اشتعلت قلوبهم بنار الغِلِّ وامتلأت بنار الحسد والكبرياء، هلموا يا هؤلاء إلى إخماد هذه النيران وإطفائها, من قبل أن تستعر في أجوافكم فتُمزق القلوب وتحرق الأجساد.
إلى هؤلاء الذين منعهم الحقد على العباد من النوم, وجعلهم يتقلبون على الفُرُشِ طيلةَ ليلهم، هلموا إلى ما يجلب لكم النوم ويحقق لكم الراحة.
إلى مَنْ حسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله، وأرادوا أن يتحكموا في أرزاق الله، وفي أقدار الله، وفي تدبير الله ففشلوا في ذلك ولم يستطيعوا منع رزق الله عن أحدٍ، ولا جلب ضرٍّ لأحد، فباتوا وقلوبهم مضطربة، وقلوبهم قلقلة، وقلوبهم ملوثة، وقلوبهم مدنسة ألا فأقبلوا يا هؤلاء على ما يُسكِّن القلوب ويُهدئ الفؤاد.
إلى مَنْ أشركوا بالله ما لم يُنزل به سلطانًا فأُلقي في قلوبهم الرُّعب.
إلى مَنْ نافقوا وخادعوا وأقبلوا على الرياء والسُّمعة, وعملوا للناس ولم يعلموا لله؛ فحبطت أعمالهم وذهب ثوابها.
ألا فليعلم جميع هؤلاء: أن الله يعلم ما في قلوبهم فليحذروه.
ألا فليعلم هؤلاء: أن الله عليم بذات الصدور فليصلحوها.
ألا فليعلم هؤلاء: أن هناك نار تطلع على الأفئدة, كما قال تعالى ومَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ] [سورة الهمزة، الآيات: 5 ـ 7].
إنها نار يطلع لهيبها إلى الفؤاد فيحرقه ... إنها نار ترى النيات الخبيثة, والعقائد الخبيثة, والأمراض الخبيثة في القلوب فتحرق تلك القلوب؛ عياذًا بالله.
فنداء، واستصراخ قبل أن تُحرق هذه القلوب.
فجديرٌ بالعبد أن يتجه إلى إصلاح قلبه، وتنظيفه وحشوه بالخير، وملئه بالإيمان وغرس التقوى فيه.
جدير بالعبد أن يكثر من ذكر الله, وأن يسأل ربَّه سبحانه وتعالى لقلبه الشفاء والثبات على الإيمان حتى الممات ... حريٌّ بالعبد أن يبحث عن سبب مرض قلبه, وأن يسأل عن علاجه.
ها هي جملة أمراض تعتري القلوب، وها هو علاجها، والشفاء في كل حال من عند الله سبحانه وتعالى، لا شفاء إلا شفاؤه.
فإلى أمراض القلوب، ها هو المرض، وهذا علاجه، هذا هو الداء، وهذا دواؤه.(122/3)
دواءٌ لا يكاد يخطئ، بل لا يخطئ أبدًا ما دام دواءً من عند الله، ما دام دواءً من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم... فعليك بالدواء ولا تفرط فيه ولا تُقَصِّرْ في تناوله ولا تتغافل عنه.
هذا الداء, وهذا الدواء... هذا المرض, وفي هذا الشفاء
من:'أثر سلامة القلب على سعادة المرء فى الدنيا والآخرة'
للشيخ / أبى عبد الله مصطفى بن العدوى(122/4)
أثر كلمة التوحيد في نورانية القلوب ... ...
إن البداية الصحيحة في الطريق إلى الله _سبحانه وتعالى_... هي كلمة التوحيد؛ "لا إله إلا الله" فبها يضئ القلب وبها توهب له الحياة. وكلما بعد الإنسان عن كلمة التوحيد كلما اقترب من المرض والموت، وأظلم قلبه واسود.
ومن ثم فإن المربين الراشدين يضعون نصب أعينهم أن يملؤوا قلب المبتدئ بمعاني لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمتى استنار القلب بنور التوحيد وانسجم سلوك الإنسان مع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من خلال علم وعمل وذكر والتزام صحيح بكتاب ربه وسنة نبيه، فإن تغييرا هائلا يحدث في ذلك الإنسان ويظهر عليه من الأعمال ما يحير العقول ويدهشها من الفتح الرباني والثبات والصمود والبذل والجهاد والدعوة والعلم.
إن العرب قبل الإسلام لم تكن لهم حضارة تذكر، ولا ثقافة عريقة يعودون إليها ولا خبرة لهم بالحكم والإدارة ولا بالتقدم والابتكار...
ولكنهم قبلوا كلمة التوحيد، وتحققت بها قلوبهم وأنارت كما قال الله _سبحانه_ عنهم: "وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا" (الفتح: من الآية26)، فصاروا أهل كلمة التوحيد وانسجم سلوكهم مع القرآن ـ كتاب التوحيد ـ فتغير حالهم وخرجت الأعاجيب من أفعالهم وصاروا نور الدنيا أجمعها وهداة الخلق أجمعين ودانت لهم الأرض بجوانبها فصاروا أقوى أمة وأرقى حضارة وهزموا الممالك والدول العظمى وأخذ شعوب العالم دين الإسلام دينا لهم.
واليوم والمسلمون في حال تخلف وانحدار وضعف وهزيمة واستهتار حتى صاروا في ذيل الأمم واستهانت بهم القوى العالمية.
إن شيئا واحدا هو الذي سيعيد لهم المجد ويختصر الطريق، إنها كلمة التوحيد وسلوكهم تبعا لسنة النبي _صلى الله عليه وسلم_ من خلال علم وعمل وتفاعل وعطاء، إن هذا وحده هو الذي سيختصر الطريق ويعيد لنا الماضي المجيد؛ إذ إنه بهذه الكلمة سيوجد الإنسان الراقي ذو القلب السليم وهو لبنة بناء الشعوب الفائزة والمنتصرة.
أشعة لا إله إلا الله...
يقول الإمام ابن القيم _رحمه الله_:
"اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور ـ قوة وضعفا ـ لا يحصيه إلا الله تعالى؛ فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علما وعملا، ومعرفة وحالا". مدارج السالكين.
إن عباد الله الصالحين... يعيشون في هذه الدنيا مع الناس وبينهم ولكن قلوبهم متعلقة بالآخرة، إن قلوبهم تحيا في حياة رغده سعيدة هانئة، لو عرفها الملوك لقاتلوهم عليها؛ لأنها ألذ من لذاتهم وأروح لأنفسهم وريحانا لقلوبهم في ذات الوقت الذي يعانى في الناس من حولهم من الألم والقلق والحيرة والتخبط والتنازع والتقاتل.
يقول الله _سبحانه_: "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا" (الأنعام: من الآية122). فالأول كان ميتا فاستنار قلبه بالإيمان ودبت فيه الحياة وهو المؤمن الصالح والثاني الغافل المعرض عن ذكره في الظلمات... قد مات قلبه.
نور الإيمان...
قال الإمام ابن القيم _رحمه الله_: "والشأن كل الشأن والفلاح كل الفلاح في النور كل النور، والشقاء في فواته". الوابل الصيب
يقول الإمام: "ولهذا كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يبالغ في سؤال ربه _تبارك وتعالى_ حين يسأله أن يجعل النور في لحمه وعظامه وشعره وبشره وسمعه وبصره ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وخلفه وأمامه حتى يقول: "واجعلني نورا". (رواه البخاري ومسلم واللفظ واجعلني لمسلم وفي البخاري واجعل لي)
أنوار تحيط بالمؤمن:
قال الإمام ابن القيم: "فدين الله _عز وجل_ نور، وكتابه نور، وداره التي أعدها لأوليائه نور يتلألأ، وهو _تبارك وتعالى_ نور السماوات والأرض، ومن أسمائه النور، وأشرقت الظلمات لنور وجهه" الوابل الصيب.
وقال ابن مسعود _رض الله عنه_: ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات من نور وجهه. وقال _تعالى_: "وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا" (الزمر: من الآية69) فإذا جاء _تبارك وتعالى_ يوم القيامة للفصل بين عبادة أشرقت بنوره الأرض وليس إشراقها يومئذ بشمس ولا قمر، فإن الشمس تكور والقمر يخسف ويذهب نورهما.(123/1)
وحجابه _تبارك وتعالى_ النور؛ قال أبو موسى: قام فينا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بخمس كلمات، فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" رواه مسلم عن أبي موسى، فاستنارة ذلك الحجاب بنور وجهه سبحانه، ولولاه لأحرقت سبحات وجهه ونوره ما انتهى إليه بصره، ولهذا لما تجلى _تبارك وتعالى_ للجبل وكشف من الحجاب شيئا يسيرا جدا ساخ الجبل في الأرض وتد كدك ولم يقم لربه تبارك وتعالى، وهذا معنى قول ابن عباس عل قوله _سبحانه وتعالى_: "لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ" (الأنعام: من الآية103) قال: "ذلك الله _عز وجل_ إذا تجلى بنوره لم يقم له شيء وهذا من بديع فهمه _رضي الله عنه_ ودقيق فطنته..." الوابل الصيب.
كيف يحدو النور إلى القلب؟!!
إنها ثلاثة آثار بها يحدو النور إلى قلب المؤمن، وبزيادتها يزداد نوره حتى لا تبقى به ظلمة، فأما الأول: فهو كلمة التوحيد وتحقيق شروطها وأما الثاني فهو نبذ الذنب والإقبال على العبادة، وأما الثالث فهو تحقيق معاني العبودية ظاهرا وباطنا..
أما الأثر الأول: فهو أثر كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" في القلب وأثر العلم بها نفيا وإثباتا وتطبيق شروطها بالحقيقة، والإخلاص لها والإقبال عليها، فمن قام بذلك خرج من ظلمة الغفلة إلي نور التوحيد، وعلامة ذلك كره الشرك بجميع صوره وأشكاله ونبذه، والبراءة منه قولا وعملا واعتقادا، وكذلك فإن من علاماته الإقبال على الله بالكلية ومحاولة تنقية الأعمال من مراءاة الناس ومحاولة جمع القلب على الله _سبحانه_، فمن قام بذلك حدا النور نحو في أول آثاره، ووجد ذلك في قلبه وحياته.
الأثر الثاني: وهو أثر نبذ الذنب والإكثار من العبادة والذكر حتى إنه ليكره الذنب تماما ويتوب من ذنبه التوبة النصوح وينسى لذة الذنب ويكره أن يعود إليه ويفارق المعاصي كفراق المشرق للمغرب، وهو دعاء النبي _صلى الله عليه وسلم_، "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب" رواه البخاري عن أبي هريرة، وكذلك أن يكثر من الطاعات فيقوم بحق الفرائض كاملة غير منقوصة ثم يكثر ما شاء الله له من النوافل وهو جاء في الحديث القدسي: "ومازال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه"، ثم يكثر من ذكر الله _سبحانه وتعالى_ قياما وقعودا ليلا ونهارا سرا وجهارا وهو قول الله _تعالى_: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ" (آل عمران: من الآية191), وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله" رواه أحمد والترمذي. فإذا نبذ الذنب وأقبل على العبادة وملأ قلبه وجوانحه ذكرا لله سبحانه، حدا إليه النور خطوة أخرى ووجد ثاني آثاره، إذ يشعر بالنور في قلبه ويبدأ في التحرر من سجن الدنيا ويجد نفسه حرا خفيفا من أثر نفسه وهواه ودنياه. ويشعر بلذة الطاعة تسري في عروقه.
الأثر الثالث: وهو أثر تحقيق معاني العبودية الكاملة وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_: " من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية ".
فيقوم المؤمن بالتدريج في مراتب العبودية شيئا فشيئا مستعينا بالله عز وجل، يقول الله _سبحانه وتعالى_: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت:69)، فيقوم بالجهاد في سبيل الله بنفسه وماله وما يحب، ويحسن خلقه مع الناس، وترقى منزلته في منازل العبودية، فيحقق التوبة والإنابة، والتفكير والاعتصام بالله، والخوف منه، والفرار إليه، والإشفاق من عذابه، والإخبات إليه، والزهد فيما عند الناس، والورع فيما بين يديه، والإخلاص في كل سكناته وحركاته، والتوكل عليه، والثقة بما في يديه، والرضا بقضائه، والحياء منه، والطمأنينة في ذكره، والمحبة له، والفرح بقربه... إلى غير ذلك من مراتب العبودية.
فإذا حقق ذلك هداه الله سبحانه ونصره على الشيطان وعلى هوى نفسه، ووجد أثر النور في قلبه ويضئ طريقه... ويثبته في الفتن...
كيف يؤدي النور عمله؟
إن عمل النور في قلب الإنسان كشاف مضيء في ليل مظلم، فهو الذي يكشف لك الأشياء على حقيقتها، فتراها كما هي ولا تراها أبدا كما زينت في الدنيا ولاكما زينها الشيطان للغافلين ولا كما زينها هوى النفس في أنفس العاصين.
يرى الزنا فلا ينظر إليه أنه متعه ورغبة ولا يرى المرأة في وقتها بزينتها ولا بجمالها، ولكنه يضئ له فيرى الزنا ظلمة وفقرا وغما وكبيرة، ونهايته العذاب والحسرة والدمار... يرى الرشوة... فلا ينظر إليها أنها مال ولا غنى ومتاع، ولكنه يراها على أنها لعنة وحسرة وعقبتها الخسران.(123/2)
يرى الدنيا... فلا يراها على أنها متاع براق ولا زينة خلابة ولا أمل وضئ ولكن يراها دار ابتلاء واختبار وأنها لا تساوي عند الله شيئا... وهكذا يعمل النور... لذلك فلابد للعاملين لله سبحانه من البحث عن كيفية إيجاد النور في قلوبهم وكيفية تنوير قلوبهم ليروا حقائق الأشياء ويسيروا على هدي من الله سبحانه.
وفقدان هذا النور ظلمة وطمس للبصيرة وتخبط وتعثر وهم وضيق صدر دائم، قال الله _سبحانه_: "أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ..." (الزمر: من الآية22) الآيات.
وقال _سبحانه_: "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..." (الأنعام: من الآية122) الآيات.
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "أصل كل خير للعباد ـ بل لكل حي ناطق ـ كمال حياته ونوره فالحياة والنور مادة كل خير.. فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته.. وكذلك إذا قوي نوره، وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه، فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته. وكذلك قبح القبيح" (إغاثة اللهفان) .
كاتب المقال: بقلم: خالد روشه
المصدر: المسلم نت(123/3)
أجر تربية ثلاث بنات للأب أو للأم
السؤال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن كن له حجابا من النار ) هل يكن حجابا من النار لوالدهن فقط أم حتى الأم شريكة في ذلك ؟ وأنا عندي وله الحمد ثلاث بنات .
الجواب:
الحمد لله
الحديث عام للأب والأم بقوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان له ابنتان فأحسن إليهما كن له سترا من النار ) وهكذا لو كان له أخوات أو عمات أو خالات أو نحوهن فأحسن إليهن فإنا نرجو له بذلك الجنة ، فإنه متى أحسن إليهن فإنه بذلك يستحق الأجر العظيم ويحجب من النار ويحال بينه وبين النار لعمله الطيب .
وهذا يختص بالمسلمين ، فالمسلم إذا عمل هذه الخيرات ابتغاء وجه الله يكون قد تسبب في نجاته من النار ، والنجاة من النار والدخول في الجنة لها أسباب كثيرة ، فينبغي للمؤمن أن يستكثر منها ، والإسلام نفسه هو الأصل الوحيد وهو السبب الأساسي لدخول الجنة والنجاة من النار .
وهناك أعمال إذا عملها المسلم دخل بهن الجنة ونجا من النار ، مثل من رزق بنات أو أخوات فأحسن إليهن كن له سترا من النار ، وهكذا من مات له ثلاثة أفراط لم يبلغوا الحنث كانوا له حجابا من النار ، قالوا يا رسول الله : واثنان . قال : ( واثنان ) ولم يسألوه عن الواحد ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن جزاء إذا أخذت صفيه من أهل الدنيا فاحتسب إلا الجنة ) فبين سبحانه وتعالى أن ليس للعبد المؤمن عنده جزاء إذا أخذ صفيه - أي محبوبه - من أهل الدنيا فصبر واحتسب إلا الجنة ، فالواحد من أفراطنا يدخل في هذا الحديث إذا أخذه الله وقبضه إليه فصبر أبوه أو أمه أو كلاهما واحتسبا فلهما الجنة وهذا فضل من الله عظيم وهكذا الزوج والزوجة وسائر الأقرباء والأصدقاء إذا صبروا واحتسبوا دخلوا في هذا الحديث مع مراعاة سلامتهم مما قد يمنع ذلك من الموت على شيء من كبائر الذنوب ، نسأل الله السلامة .
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة
لسماحة الشيخ العلامة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز يرحمه الله
م: 4/375(124/1)
أجزاء من النبوة
د/ خالد سعد النجار
</TD
عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم :
( السمت الحسن ، والتؤدة , والاقتصاد , جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة ) (1)
سمة أهل الخير , التأني في تناول الأمور , التوسط في السلوك بين الإفراط والتفريط .. كلها قيم ربيبة هذا الدين العظيم , ترعرعت في كنفه وكبرت بين أحضانه لتقول للبشرية كافة أن الإسلام هو القيم والقيم هي الإسلام
السمت الحسن : هو حسن الهيئة والمنظر , وأصل السمت الطريق ثم استعير للزي الحسن والهيئة المثلى في الملبس وغيره من السيرة المرضية والطريقة المستحسنة , وفي الفائق : السمت أخذ المنهج ولزوم المحجة . وفي رواية لهذا الحديث ( إن الهدي الصالح ) (2) بفتح الهاء السيرة السرية (3)
قال تعالى ( يا بني آدم قد لأنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ، ولباس التقوى ذلك خير ، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ) الأعراف 26 قال ابن عباس : ولباس التقوى هو السمت الحسن في الوجه (4) وقال تعالى ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم , تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا , سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) الفتح 29,قال ابن كثير : قال ابن عباس رضي الله عنه يعني السمت الحسن , وقال مجاهد وغير واحد يعني : الخشوع والتواضع , وقال ابن أبي حاتم عن منصور عن مجاهد ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) قال : الخشوع , قلت ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه , فقال : ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون , وقال السدي : الصلاة تحسن وجوههم , وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار , وقد أسنده ابن ماجة في سننه عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ) (5) والصحيح أنه موقوف , وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب , وضياء في الوجه , وسعة في الرزق , ومحبة في قلوب الناس . وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ما أسر أحد سريرة , إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه , وفلتات لسانه . والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه , فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عز وجل ظاهره للناس , كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته
ثم قال ابن كثير : فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم , وحسنت أعمالهم , فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم , وقال مالك رضي الله عنه : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون : والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا , وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة , وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا ( ذلك مثلهم في التوراة ) ثم قال ( ومثلهم في الإنجيل ) (6)
أما التؤدة : فهي التأني والتثبت وترك العجلة في جميع الأمور , فعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس ( إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة ) (7) قال النووي : الحلم هو العقل , والأناة هي التثبت وترك العجلة , وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك له ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا إلى المدينة بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقام الأشج عند رحالهم , فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه , ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقربه النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه , ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ( تبايعون على أنفسكم وقومكم ) فقال القوم نعم , فقال الأشج : يا رسول الله إنك لم تزاود الرجل عن شيء أشد عليه من دينه , نبايعك على أنفسنا , ونرسل إليهم من يدعوهم , فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه قال ( صدقت إن فيك خصلتين ...) الحديث , قال القاضي عياض : فالأناءة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل , والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحة عقله وجودة نظره للعواقب (8) أما قول النبي صلى الله عليه وسلم ( التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة ) (9) فقال المناوي ( التؤدة في كل شيء خير ) أي مستحسن محمود ( إلا في عمل الآخرة ) فإنه غير محمود بل الحزم بذل الجهد فيه لتكثير القربات ورفع الدرجات , فإن في تأخير الخيرات آفات , وقال الطيبي : معناه أن الأمور الدنيوية لا يعلم أنها محمودة العواقب حتى يتعجل فيها أو مذمومة حتى يتأخر عنها بخلاف الأمور الأخروية لقوله سبحانه { فاستبقوا الخيرات }البقرة 148، { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } الحديد21 , كان البوشنجي في الخلاء فدعى خادمه فقال : انزع قميصي وأعطه فلاناً فقال : هلا صبرت حتى تخرج قال : خطر لي بذله ولا آمن على نفسي التغير (10)(125/1)
والاقتصاد : هو سلوك القصد في الأمور والدخول فيها برفق على سبيل تمكن الدوام عليها , وقيل هو : التوسط في الأمور والأحوال والتحرز عن طرفي الإفراط والتفريط , قال التوربشتي : الاقتصاد على ضربين أحدهم ما كان متوسطا بين محمود ومذموم ، كالمتوسط بين الجور والعدل والبخل والجود , وهذا الضرب أريد بقوله تعالى ( ومنهم مقتصد ) فاطر الآية 32 , والثاني محمود على الإطلاق ، وذلك فيما له طرفان إفراط وتفريط كالجود فإنه بين الإسراف والبخل والشجاعة فإنها بين التهور والجبن , وهذا الذي في الحديث هو الاقتصاد المحمود على الإطلاق (11)
وقوله صلى الله عليه وسلم ( جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة ) أي هذه الخصال من شمائل وأخلاق أهل النبوة وجزء من أجزاء فضائلهم , فاقتدوا بهم فيها , وتابعوهم عليها , إذ ليس معناه أن النبوة تتجزأ ولا أن من جمع هذه الخلال صار فيه جزء من النبوة لأنها غير مكتسبة وإنما هي كرامة يخص بها من يشاء من عباده والله أعلم حيث يجعل رسالته ، أو المراد أن هذه الخلال مما جاءت به النبوة ودعى إليها الأنبياء ، أو أن من جمعها ألبسه اللّه لباس التقوى الذي ألبسه الأنبياء فكأنها جزء منها (12)
والحديث ورد أيضا بلفظ ( إن الهدي الصالح , والسمت الصالح , والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة ) (13) وفي رواية أخرى ( إن الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من سبعين جزءا من النبوة ) (14), ورواه المقدسي في الأحاديث المختارة عن أنس بلفظ ( السمت الحسن جزء من خمسة وسبعين جزءا من النبوة ) (15) فالمراد بالعدد المذكور التكثير لا التحديد ، على أنه يمكن الاختلاف بحسب الكمية والكيفية الحاصلة في المتصف به أفاده المباركفوري (16)
alnaggar66@hotmail.com
------------------------------
الهوامش
(1) رواه الترمذي ــ كتاب البر والآداب والصلة ــ باب ما جاء في التأني والعجلة رقم 2010 ورواه أبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني 2/336 رقم 1105 ، وعلاء الدين على المتقي في كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال رقم 6376 , والحديث حسنه الألباني انظر حديث رقم: 3692 في صحيح الجامع السيوطي / الألباني ، وقال أيضا في صحيح الترغيب والترهيب رقم 1696 (حسن صحيح)
(2) رواه أحمد وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم 1993 (3) انظر فيض القدير للمناوي 1/153، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري ج6 ص 118 ط دار الفكر بيروت (4) ابن كثير ــ تفسير القرآن العظيم ج3 تفسير الآية من سورة الأعراف (5) ضعيف : ضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم 5816 (6) تفسير ابن كثير ــ آخر تفسير سورة الفتح بتصرف (7) رواه مسلم ــ كتاب الإيمان رقم 24 , والترمذي ــ كتاب البر والآداب والصلة ــ باب ما جاء في التأني والعجلة 4/366 رقم 2011 (8) انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ج 6 ص 119 ــ كتاب البر والآداب والصلة حديث رقم 2011 (9) (صحيح ) رواه أبو داود ــ كتاب الأدب ــ باب في الرفق , والحاكم والبيهقي , وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ,انظر صحيح الترغيب والترهيب للألباني رقم 3356 , وصحيح الجامع له أيضا حديث رقم : 3009 (10) انظر فيض القدير للمناوي 1/452 وعون المعبود شرح سنن أبي داود ج13 ص 136 ط دار الفكر (11) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري ج6 ص 118 ط دار الفكر بيروت (12) انظر فيض القدير للمناوي 1/452 ، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري ج6 ص 118 ط دار الفكر بيروت (13) وهي رواية حسنة رواها أبو داود 4/247 رقم 4776 وفي كنز العمال رقم 5292 وحسنها الألباني في انظر حديث رقم : 1993 في صحيح الجامع (14) رواها الطبراني في المعجم الكبير 12/106 رقم 12608 (15) الأحاديث المختارة للمقدسي رقم 2209 (16) المباركفوري في تحفة الأحوذي ج6 ص 118(125/2)
أجود كتب التفسير
أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ، برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله- بالفتوى رقم 2677 فكانت الإجابة كالتالي :
أجود كتب التفسير يختلف باختلاف طاقة القارئ ووسعه ، وعلى كل حال فإن أجودَها في نفسها كتاب تفسير ابن جرير الطبري ، وكتاب تفسير ابن كثير ونحوهما من كتب التفسير بالأثر ، فإنها أسهل تعبيراً وأعدل في فهم المراد ، وألمس لمعاني القرآن ، وأقرب إلى إصابة الحق وبيان مقاصد الشريعة ، مع ذكر ما يشهد لذلك من الأحاديث والآثار الثابتة ، ورد المتشابه من الآيات إلى المحكم منها. ا.هـ
ومما يُذكّر به أيضاً أن كتب التفسير تختلف بحسب حاجة القارئ إليها؛ فمن كان يبحث عن المسائل الفقهية، أو استنباطات ودلالات الأحكام فإن تفسير القرطبي وكتب تفسير آيات الأحكام تفيده.
ومن كان يبحث عن الأمور اللغوية فإن التفاسير التي يغلب عليها هذا الجانب؛ تفسير أبي حيّان ونحوه تفيده.
وهكذا بحسب الفنون التي يقصدها القارئ. ومعاني كتاب الله – عز وجل- من السعة والشمول بحيث لا يحيط بها كتاب من كتب التفسير مهما عظُم قدْر مؤلِّفه.
وإن من جوانب الإعجاز التي ينبغي ألا يغفل عنها أن كل مفسر يرى أنه سيضيف جديداً في تفسيره، ويرى أن كتب التفسير التي سبقته لم توفّ ما وفّاه ويظل هذا الكتاب المعجز متجدداً بفيوض معانيه على تعاقب الأجيال، لا يخلق من كثرة الردّ.
بقي أن نذكّر أن من كتب التفسير المتأخرة الميسرة المفيدة، تفسير الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي – رحمه الله - . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(126/1)
________________________________________
أجيالنا بين الواقع و الأمل المنشود
مع كثرة الجدل ونفث الأعداء للشبهات؛ ضاعت الحقيقة، وتعددت المناهج،لذلك الآن نطرح القضية من جديد، بداية من تحديد الأهداف وجلائها ووضوحها عند الجميع، ومرورًا بتفسير الواقع ودراسة الظواهر السلبية،واقتراحات العلاج سائلين الله تعالى الهداية والتوفيق والرشاد .
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأصلى على نبيه محمد و آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
إخوتاه .. أجيالنا بين الواقع والأمل المنشود، قضية تثير الأسى، والكلام عنها ذو شجون، فإنَّ الصحوة الإسلامية منذ بدأت وهي تهفو لإيجاد جيل ' التمكين ' الذي:
? وعد الله: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55] } [سورة النور].
? الجيل الذي وعدنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: [بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ...] رواه أحمد وصححه الألباني.
وكلما أتى جيل ترقب أن تكون النصرة فيمن يليه، فإذا الجيل الناشيء أسوأ ممن كان قبله، قالوا: لعل الأبناء الذين سينشئون في بيت الملتزمين تأتي النصرة على أيديهم، فإذا الأولاد أسوأ من الآباء؛ ذلك لأنَّ الآباء لم يربوا تربية إسلامية صحيحة، ولأنَّ الالتزام الأجوف صار ظاهرة مريرة، وصارت كل معاني الالتزام مبتسرة في المظهر؛ فضاع الجوهر، وحقيقة الأمر على أنَّ الدين كلٌ واحدٌ: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً...[208] } [سورة البقرة] . أي: الإسلام، فالاهتمام بالجانبين حتم لازم: فمظهر يدل على جوهر، وجوهر يدلل عليه حسن المظهر، عقيدة راسخة وإيمان قوي يصدقه عمل وطاعة لله، يقين بالله وحسن توكل عليه يفرز عبادة وقربات إلى الله، توحيد بالله وإخلاص يشده اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وتمسك بسنته، تزكية للنفوس وتربية للقلوب تنتج برًا وحسن خلق .
كذا كان الأمل المنشود أن يستوعب أهل الصحوة حقيقة تلك الأمور في حياتهم، وعند تربيتهم لأولادهم، ولكن يبدو أنَّ المفاهيم اختلطت، ومع كثرة الجدل ونفث الأعداء للشبهات؛ ضاعت الحقيقة، وتعددت المناهج، وكان يقال بالأمس: إنَّ الأهداف مشتركة والوسائل مختلفة، وإنَّي لأجزم الآن بأنَّ الأهداف بين أهل الصحوة قد اختلفت، ساعد على ذلك اختلاف المنابع والمشارب، لذلك دعونا الآن نطرح هذه القضية من جديد، بداية من تحديد الأهداف وجلائها ووضوحها عند الجميع، مرورًا بتفسير الواقع ودراسة الظواهر السلبية، واقتراحات العلاج سائلين الله تعالى الهداية والتوفيق والرشاد .
أولاً: الهدف المنشود: تحديد الهدف هو أصل هذا الإشكال، فكثير من الشباب يعيشون اليوم بلا هدف، يجب على المسلم المعاصر أن يجعل له هدفاً محدداً، أن يجعل لوجوده غاية عظمى، أن يجعل لحياته رسالة سامية .. إننا ما لم تتجسد في حياتنا قيم الإسلام ومثله العليا.. إذا لم يصبح الإسلام مقياس كل حكم ومفتاح كل قضية، ومصدر كل تصور عندنا؛ فلن يطول الزمن حتى يميل بنا الهوى؛ لأننا نعيش في مجتمع جاهلي لا يمتُّ إلى جوهر الدين بصلة، في مجتمع بعيد عن القيم، تعطلت فيه كل حواس الخير، ازدحمت فيه عوامل الإفساد، فإن لم يكن شبابنا على قدر كبير من العقيدة وسمو الخلق، وقوة الإيمان؛ فإنهم سيضيعون حتماً لا محالة. نعم ! إن لم تكونوا ـ إخوتي الشباب ـ مُهَدِّفِينَ حياتكم، شديدي المحاسبة لأنفسكم، دائمي المراقبة لربكم؛ فستزل بكم الأقدام بعد ثبوتها، فإن لم تكونوا متورعين عن الشبهات، مقبلين على الطاعات، حريصين على النوافل والعبادات ؛ فستصابون حتماً بلوثات هذا المجتمع الذي تعيشون فيه، وسيصيبكم نصيب كبير من شذوذه وانحرافه، فما أنتم إلا جزء من هذا المجتمع . فلا يجوز للمسلم المعاصر الذي يعيش التحدي العالمي الكبير، أن يعيش هكذا ضائعاً، أو مشغولاً بالطعام والشراب والجنس والشهوة ..لا ينبغي أن يكون شعاره في الدنيا قول الشاعر :
إنما الحياة طعام وشراب ومنام فإن فاتك هذه فعلى الدنيا السلام
فالمسلم صاحب رسالة، صاحب هدف، يجعل حياته وقفاً على هدفه، ولسان حاله:
يهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر(127/1)
? ما هدفنا إذن؟ القرآن يهدِّف حياتك، ويدلك على الوسائل لتحقيق هذا الهدف في عبارات جامعة كافية: يقول تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[77]وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[78] } [سورة الحج].
هذا هو هدفك نص عليه القرآن: { وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...[78] } [سورة الحج].
? إن أخطر ما في قضية اليوم أن المسلمين صار في قلوبهم شعور أن في هذه الدنيا من هو أفضل منهم، وهو أخطر ما يحطم القلب، كثيراً ما أحرص وأقول لكم:أفضل من على ظهر الأرض أنتم ومن مثلكم، ينبغي أن تعتقدوا هذا، ورضي الله عن عمر حين قال:' كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله ' . { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا[139] } [سورة النساء] . إننا ينبغي أن نوقن بذلك، أن نعيش لذلك، أننا شهداء على الناس .
? هل عرفتم هدفكم؟ هدفك: دينك لحمك دمك وإن قتلت أو حرقت، فإننا لا نعيش لأنفسنا بل نعيش لديننا، هذا هدفي .
? أما الغاية: فهي رضا الله والجنة .
والسؤال الآن: كيف أصبح صاحب هدف ؟ كيف أجعل الإسلام قطب الرحى في حياتي ؟ تحقق ذلك بأمور:
التركيز في الهدف و تعلق القلب به: فلابد أولاً من التركيز في الهدف، حين تركز في الهدف، فيصبح الإسلام غاية تتراءى لك، فسوف يحدث انقلابًا جذريًا في حياتك، وتعالوا نصدق مع أنفسنا: هل نحن نعيش لله أم لأنفسنا أم لأنفسنا ولله ؟!! لماذا الإسلام ليس على بالك ؟ لماذا التمكين ليس في رأسك ؟
ماذا تريد الآن، سل نفسك هذا السؤال، ما الذي يدور بخلدك؟ ما هي أحلامك وطموحاتك؟ ماذا تنشد؟ إنك ـ وللأسف ـ تريد أن تملك شقة واسعة، وزوجة جميلة، ومرتباً عالياً، وسيارة فارهة، تريد ملابس جميلة، تريد أن يكون لك احترام وتوقير عند الناس، أليست هذه وغيرها من الفانيات هي آمال السواد الأعظم من المسلمين اليوم؟! فكيف بالله تتكلمون عن نصرة وتمكين، إنها مجرد خواطر عابرة، أو حماسات قلبية سرعان ما تفتر أمام مغريات الدنيا الزائلة. نعم، صارت هذه همومنا، آمالنا، أحلامنا.
? أمَّا النبي صلى الله عليه وسلم فكان هدفه نشر الدين، وكان يربط قلوب صحابته رضوان الله عليهم بهذا الهدف بحيث لا يفارقهم:
ففي غزوة الأحزاب التي يقول عنها ربنا: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا[10]هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا[11] } [سورة الأحزاب]. عرضت للصحابة فلم تنفع فيها المعاول: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ :[ بِسْمِ اللَّهِ] فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وَقَالَ: [اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي] ثُمَّ قَالَ :[ بِسْمِ اللَّهِ] وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ:[اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا] ثُمَّ قَالَ: [ بِسْمِ اللَّهِ] وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: [ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا] رواه أحمد .
قلبه صلى الله عليه وسلم متعلق بالهدف، يحفر الخندق وهم محاصرون خائفون قد أضرَّ بهم زمهرير البرد، وهو ينظر إلى قصور الشام والمدائن واليمن، أعرفت كيف ربى النبي أصحابه وفي أشد الصعاب جعل مفتاح النصر هو تعلق القلب بالهدف، واليقين بأنَّ الله ما كان مخلف وعده رسله، والثبات والصبر الذي هو ثمرة الاعتقاد الجازم .(127/2)
أن يعيش حياته طبقاً لهدفه : إذا كان الإسلام عزيزاً عليكم، وإذا كنتم قد جعلتموه هدفكم الذي تعيشون من أجله، وتموتون من أجله، فيلزمكم أن تجعلوا علاقاتكم وأعمالكم ومشاغلكم اليومية تتفق وتتطابق مع الإسلام في حياتكم العملية، وألا يوجد بين معيشتكم وبين هدفكم أي نوع من التضارب أو التضاد.. أن تعيش حياتك للإسلام، فإنَّ الذين يعيشون اليوم باسم الإسلام لا يحتاجون مجرد إرشادهم ووعظهم وتذكيرهم، وإصدار الصحف والنشرات لهم ؛ بل يحتاجون من ينتشلهم من الجاهلية التي تضغط على حسهم بالأمر الواقع؛ ليعيشوا الإسلام حقيقة لا ليتمنوه، ولا ليعجبوا به، ولا ليتكلموا عنه، بل ليعيشوه، نريد أن نعيش الإسلام عيشة حقيقية، أن نعيش الحياة كما عاشها النبي صلى الله عليه وسلم، كما رسمها لنا، نعيش لله، فالطعام والشراب للتقوي على طاعة الله وعبادته، وطلب الرزق للكفاف، والزواج عفة وإحصان من غوائل الشيطان، وفي بضع أحدكم صدقة، والأخلاق السمحة أصل في التعامل مع الناس برهم وفاجرهم، وعلو الهمة صفة لازمة، وطلب العلم من المهد إلى اللحد، والعبادة قربة: { ...اسْجُدْ وَاقْتَرِبْ[19] } [سورة العلق]. فاستكثر من الوصال، إنها حياة واقعية إلى أبعد حد، ولكن الشيطان يثبطنا عنها ويصعبها لنا، فيطرد عن ذهنك إرادتها، فاستعينوا بالله ولا تعجزوا، فالأمر بالله جد يسير .
من علامات من يعيش وفق هدفه:
أنْ يزيح من أمامه كل ما عارض هذا الهدف: إنها التصفية والتخلية؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم: [...أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ...] رواه مسلم .
فإذا عشت الإسلام، فكل ما يعارضه فتحت النعل، لابد أن يكون الأمر هكذا، فلا تنشغل بالترهات والشبهات التي ينفث بها أعداء الإسلام من حين لآخر، ولا تستوقفك الدنايا، ولا تُعر اهتمامًا بأصحاب الدنيا وخلانها، ولا تقع في وحل شهوة دنية، وخذ الأمر بعزة وكبرياء المؤمن، فمستقبلك معرض للخطر مع كثرة الالتفات، تجاوز تلك العقبات، فأعلى الناس منزلة عند الله أكثرهم استقامة على أهدافهم، الذين لا يلتفتون بوجوههم لأي عارض، وعلى هذا فكن فإنَّ هذا سيقطع علينا من البداية الخوض في مشاكل كثيرة، فبهذه العزيمة، والهمة العالية، والاعتزاز بالانتماء لهذا الدين؛ ستتخلص من عقبات كثيرة، كل منها قد يودي بك ويقطع عنك السبيل إلى ربك لو تمهلت ونظرت فالتفتت فحذار حذار .
الاستعداد الجاد والمراقبة المستمرة: المسلم الذي يريد أن ينصر دينه، صاحب هدف غالٍ، إنَّ هذا الهدف النبيل يحتاج منك أن تراقب نشاطاتك، فأي كلام، أو أي حركات، أو أي سكنات تنافي الإسلام ؛ فيجب أن تتخلص منها، وإلا فإن الإنسان إن لم يراقب حركاته وسكناته ؛ فإنَّه من الممكن أن يجد نفسه في هذه الدنيا داخل شباك، يبدو في الظاهر أنه يعيش، إلا أنه في الحقيقة قد انتحر، وقتل هدفه .
إن الحياة الطيبة هي أن تحيا لهدفك، أن تعيش لله رب العالمين: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[162]لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[163] } [سورة الأنعام] . نريدك أن تعيش لله، نريدك رجلاً بحق، وليكن شعارك: [مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا] رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد .
وجود روح الهدف:ما أحوجنا لوجود روح الهدف في العمل، فهناك فرق كبير بين العمل الذي يخرج من خلال عاطفة الدعوة لدين الله، وبين العمل الذي يتم بصورة تقليدية، أو مجرد أداء الواجب، إننا في هذا العصر قد رضينا بعبادات تحولت إلى عادات، صرنا نؤدي الصلاة بطريقة روتينية، نحتاج إلى وجود روح.. إلى حماسة القلب، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ] رواه مسلم. فيا عجباً ممن يهتم بوجهه الذي هو نظر الخَلْق فيغسله، وينظفه، ويزينه بما أمكن لئلا يطَّلع فيه مخلوق على عيب، ولا يهتم بقلبه الذي هو محل نظر الخالق فيطهره ويزينه لئلا يطلع ربه على دنس أو غيره فيه !
إخوتاه .. ليست الضجة الشكلية للعمل هي المطلوبة، قال تعالى: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ...[37] } [سورة الحج] . ينبغي أثناء العمل أن تتحرك مشاعرنا بقدر ما تعتلج هذه الأعمال في مكنونات نفوسنا، الغذاء الحسي الذي تناله قلوبنا وأرواحنا هو هدفنا الأساسي، حين ينبض الهدف بالحياة؛ يصبح العمل حياً، وحين يموت الهدف يصبح العمل لا روح فيه .(127/3)
إخوتاه .. إن مجرد فهم الإنسان للهدف واطمئنانه بصحته عقلاً إنما هو خطوة البداية بسلوك هذا الطريق، وهي وحدها لا تسمن ولا تغني من جوع، إلا أن يكون في قلبك نارٌ متقدة لنصرة الدين، تكون على الأقل في ضرامها مثل تلك النار التي توجد في قلب أحدكم حين يجد ابناً له مريضاً، فلا يدعه حتى يسرع به إلى الطبيب، الأمة مريضة، إنني أريد أن توقد في قلوبكم نار، نار الإسلام، الغيرة على الإسلام وللإسلام، هذه النار تأكل مشاغلكم عن الإسلام، وكما قالوا:' حب الله: نارٌ في القلب تأكل كل ما سوى المحبوب' نعم نارٌ تأكل كل ما سوى الهدف .
ثانيًا: واقع المسلمين ورصد للظواهر السلبية:
الخلل في التكوين الاعتقادي السليم : من أخطر الظواهر في حياة المسلمين اليوم:' الخلل الاعتقادي' فتجد عقائد فاسدة، وإيمان متذبذب، وعقيدة يتشدق بها كثيرون ولا أثر لها في الواقع، وشركيات خطيرة يقع فيها السواد الأعظم من المسلمين، فلا زلنا نعاني من ' شرك القبور' ولا زلنا نسمع في شوارع المسلمين سبًا لله وللرسول وللدين، ولا يزال شرع الله مهمشًا لا يتحاكم إليه في أغلب بلاد المسلمين، أمَّا الولاء والبراء فحدِّث ولا حرج، فنوالي للمصلحة الشخصية والانتماء القومي وإنْ كان من أشد أعداء الدين، ونعادي من لا يوافقنا في طريقتنا، ومن يخالف مصالحنا وإنْ كان من أولياء الله الصالحين .
إنَّه غياب الوعي بحقيقة التوحيد، فليس المهم أن تلمَّ بصورة التوحيد فحسب، بل أن تعي حقيقة التوحيد فينتج هذا الوعي إيمانًا قلبيًا راسخًا تصدقه الأعمال الصالحة الظاهرة، والخلل في هذا الجانب هو السبب الحقيقي وراء هذه الظاهرة الخطيرة .
المسلم المعاصر يواجه تحديًا عقديًا رهيبًا، وتيارات عاصفة من الشبهات، وليس ثمَّ سبيل سوى أن يعي المسلم حقائق الحياة بصورة صحيحة، فتتفتح أمامه منافذ البصر والبصيرة، وحوافز العمل والتحدي؛ ليكون أقدر على الثبات في مجال الصراع و الإغراء 0
هذا الوعي المنشود يجعل المسلم يفهم معنى الإيمان و حقائق الإسلام فيرتبط العمل بمرضاة الله، ويقيم المسلم سلوكه على هدى شريعة الله، و يهذب المسلم عواطفه حتى لا يندفع في حب الفتنة و مظاهر الفساد، فالوعي ميزة مهمة للأمة تنمو بنمو الإيمان و عمقه في نفس المسلم، و تزداد بتزايد يقظة الوجدان الذي يراقب الله سبحانه، و يظل ينظر إلى يوم الدين و يحسب حساب الآخرة،و تتوسع مع توسع العلم والمعرفة والتجربة،
ولتدارك هذا الخلل لابد من رصد الأسباب التي أدت إليه.
أسباب الخلل الاعتقادي في المجتمع الإسلامي:
الغزو الثقافي و تيارات التبشير والتغريب: فمنذ فشل الحملات الصليبية تغيرت استراتيجية الصراع بين الغرب الكافر والشرق الإسلامي، وتحول إلى الميدان الثقافي والفكري . وقد ظهرت وثيقة خطيرة للويس التاسع ملك فرنسا وقائد الحملة الصليبية الثامنة التي منيت بالفشل، أشار فيها: إلى أنَّه لا سبيل إلى النصر على المسلمين عن طريق القوة الحربية؛ لأنَّ تدينهم بالإسلام يدفعهم إلى المقاومة والجهاد صونًا لدينهم وأعراضهم، وأنَّ السبيل الناجع هو: تطوير التفكير الإسلامي، وترويض المسلمين عن طريق الفكر بدراسة ثقافتهم على يد العلماء الأوربيين ليأخذوا منها السلاح الذي نغزو به المسلمين مستقبلاً . وتبنى هذا الاتجاه جماعة من المستشرقين والمبشرين، وعمد هؤلاء إلى تشكيك المسلمين في دينهم، وإبعادهم عن مبادئه، وتفتيت وحدتهم، وتهيئة أذهانهم لقبول الفكر الغربي تمهيدًا للغزو العسكري .
وانتشرت البعثات التبشيرية في أرجاء العالم الإسلامي ورصدت لها المليارات من الدولارات، وافتتحت المدارس التبشيرية في كل مكان، وشجعت البعثات العلمية من أبناء الدول الإسلامية إلى الدول النصرانية الغربية، وعقدت المؤتمرات التبشيرية ووضعت المخططات، وإذا كان التبشير لم ينجح في تنصير المسلمين فإنَّه ساعد على تخلي المسلمين عن عقائدهم ومبادئ دينهم، وخلق أجيالاً مستهترة بالقيم الدينية، وهذا هو الهدف الأساسي الذي سعى له الغرب، يقول القس زويمر في مؤتمر للمبشرين:' مهمة التبشير التي ندبتكم دول النصرانية للقيام بها في البلاد المحمدية، ليس هو إدخال المسلمين في النصرانية، فإنَّ في هذا هداية لهم وتكريمًا، وإنما مهمتكم أنْ تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقًا لا صلة له بالله'['المخططات الاستعمارية' محمد الصواف ص217].
وعلى نفس المنوال سارت حركة الاستشراق، فعملت على تشويه صورة الإسلام وحجب محاسنه عن الشعوب النصرانية للحيلولة بينهم وبين الدخول فيه، وعمدوا إلى تفتيت الوحدة الإسلامية، وتحطيم المقاومة ـ كما هو الحال اليوم ـ وقاموا بتثبيط همة المسلمين، وصرف أنظارهم إلى متع الحياة ليشتغلوا بها عن الجهاد في سبيل الله ودفع الغزاة، وقاموا بدراسة الشخصية الإسلامية بقراءة متعمقة في تراث المسلمين، وعملوا على إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف الأقطار .(127/4)
ومن بعدها تفشت تيارات التغريب في البلاد الإسلامية، ودعوا إلى أن يسير المسلمون سيرة الغربيين ويسلكوا مسلكهم في حياتهم بالفكر الغربي بكل نظمه وتقاليده وعاداته وتصوراته، وعمدت تلك التيارات إلى زعزعة الثقة بين الشباب المسلم في دينهم، والزعم بأنَّ تخلف المسلمين من جراء اعتقاداتهم البالية، فركزوا جهودهم في تفريغ العقل والقلب المسلم من القيم الإسلامية المستمدة من التوحيد والإيمان بالله، ودفع هذه القلوب عارية أمام عاصفة هوجاء تحمل معها السموم عن طريق التعليم والصحافة والكتابة، والسينما والمسرح وبيوت الأزياء، وللأسف نجحوا في ذلك إلى حد بعيد، ومن ثمَّ خرج هذا الجيل المنهزم نفسيًا، والذي حمل معول الهدم في صرح المجتمع الإسلامي، وسار بالأمة تحت شعارات فارغة كالتقدم والمدنية والحضارة، ولا هي تقدمت ولا هي تمدنت وإنَّما صارت بلا هوية، فلا دين ولا ثقافة ولا علم، وإنَّما تبعية للغرب الكافر .
انتشار العقائد الفاسدة على يد المبتدعة:فمن ذلك: انتشار' عقيدة الجبر' رغم بعدها عن عقيدة الإسلام الصافية، وكان انتشار هذه الفكرة بين المسلمين في عصور الانحطاط والبعد عن صفاء الاعتقاد الذي كان عهد السلف الصالح، وأدى ذلك لإشاعة روح التواكل والكسل، والقعود عن العمل، وأنت لا زلت تسمع من عامة النَّاس: أننا مسيرون لا مخيرون .
ومن ذلك: انحراف التصوف ونشره للبدع، لاسيما في عصر التصوف الفلسفي ورواج مذاهب ' وحدة الوجود ' و ' الحلول والاتحاد ' و'فكرة الظاهر والباطن ' و'إسقاط التكاليف الشرعية ' وهي الأفكار التي لا زال كثير من المسلمين يؤمن بها، فأنت تراهم يصورون الحلاج المقتول ردة على أنَّه شهيد الاستبداد، ولا زالوا يعظمون من قدر شخص كابن عربي القائل بوحدة الوجود، ويرى الساسة إلى يومنا هذا أنَّ الصوفية أفضل التيارات والاتجاهات الإسلامية لأنَّها تدعو إلى التعامل مع الأحداث بسلبية، وتدعو للتواكل، وعلى كلٍ فقد نبتت البدع والخرافات، وظهرت الطرق الصوفية التي انحدرت إلى هوة سحيقة، ولا تزال البلاد الإسلامية تشهد أنواعًا من الشرك العلني بتعظيم قبور الصالحين، والتوسل إليهم، وشد الرحال إلى قبورهم .
انتشار الجدل الكلامي: فمع ظهور الفرق كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية ونحوهم، دار جدل كبير حول مسائل الاعتقاد، شغل المسلمين بمشاكل عقدية مزعومة، وصار هناك من يرى أنَّ عقيدة السلف أسلم وعقيدة الخلف أعلم!
انحراف رجال الدين وانفصام العمل عن العلم: الأمر الذي أذاع روح الشك في صدور كثير من المسلمين، وجعلهم يعيدون النظر في كل شيء،حتى في معتقداتهم، فقد ظهر بين علماء المسلمين من يقول ما لا يفعل، ومن صار الدين عنده كجملة الصناعات التي يتكسب من ورائها، فانحرفوا عن روح الإسلام، وفصلوا بين العقيدة والعمل، وانصرفوا إلى الجدل، والمناقشة في الجزئيات والفروع، وتملق الولاة والحكام، وجعلوا الدين مطية للدنيا .
القهر واستبداد بعض الحكام: لا شك أنَّ الضرب بيد من حديد للاتجاهات الدينية كان من شأنه الحيلولة بين كثير ممن يودون الالتزام بشريعة الإسلام وبين دينهم، فتربى الكثير على المداهنة، وإيثار السلامة، والخوف من كل ما سوى الله، وركب آخرون الموجة فباع دينه موالاة للطغاة، ويوالى أعداء الله تعالى، ويتأول الدين لأهواء الأمراء، ومن شأن هذا أن يحدث خللا عميقًا في البناء الاعتقادي للمجتمع، لأنَّ اليقين يتزعزع.
هذا غيض من فيض من جملة الأسباب التي تسببت في إحداث الخلل في البناء الاعتقادي للأمة الإسلامية .
الأمل المنشود في إعادة البناء الاعتقادي السليم : نحتاج أنْ يوجد فينا 'رجل العقيدة' الشامخ بأنفه، المعتز بانتمائه لهذا الدين، الذي يعمل له آناء الليل وأطراف النهار، وإيجاد هذا النموذج الفريد يحتاج منَّا أن نعود للنبع الصافي الذي كان: عصر النبوة والخلافة الراشدة، ونربي أجيالنا القادمة كما ربى النبي أصحابه، نزرع فيهم اليقين برب العالمين، والعزة بهذا الدين، وننصب أمام أعينهم نماذج الأسوة والقدوة من سلفنا الصالح، نحصنهم بكتاب الله تعالى قراءة وحفظًا ومدارسة وتدبرًا، نجعل معينهم الذي لا ينضب من مشكاة سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، نعلمهم حب النبي و الصحابة، نربط قلوبهم استعانة وتوكلًا على الله .(127/5)
? انظر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يربي ابن عمه:عبد الله بن عباس وهو بعد غلام صغير فيقول له في نصيحة غالية: [ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ] رواه الترمذي وأحمد . انظر إلى هذه التربية الإيمانية الخالصة:
[ احْفَظْ اللَّهَ] ربط القلوب بعلام الغيوب..مراقبة الله في السر والعلن: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ...[235] } [سورة البقرة].. { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[36] } [سورة الإسراء].
امتثال الأوامر واجتناب المناهي، كمال الخضوع والذل والحب شرط ذلك، وهذا هو توحيد الألوهية .
[ يَحْفَظْكَ] الله ربك وخالقك، وشأن الرب أن يرعى ربيبه ويحفظه، فالله أحق بالتعظيم والمودة والإجلال والخضوع والذل من أبيك الذي يرعاك .. وهذا: توحيد الربوبية . والطريق موحشة، والزاد قليل، والصعاب كثيرة، فقل من ينجو، وليس إلا حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرّمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان . فتتعلم الناشئة صدق اللجأ والإخبات وهذه من أعمال القلوب .
[ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ] زرع محبة الله في القلوب، فالله ذو الجلال، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، من تقرب منه شبرًا تقرب منه باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، فحري بك أن تحبه، وإذا أحببته أطعته وإذا أطعته لم يخذلك، فكن لله كما يريد يكن لك فوق ما تريد .. وهذا توحيد الأسماء والصفات .
[ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ] تحقيق عقيدة ' القضاء والقدر' . يقول ابن رجب رحمه الله:'مدار الوصية في هذا الحديث على هذا الأصل وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه وراجع إليه، فإنَّ العبد إذا علم أن لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشرّ ونفع وضرّ، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة؛ علم حينئذ أن الله وحده هو الضارّ النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده، فإنَّ المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عن عابده شيئاً، فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضرّ، ولا يعطي ولا يمنع غير الله؛ أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة، والسؤال والتضرع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعاً، وأن يتقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء، خلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء من يرجون نفعه من دونه'.
? أخي .. دينك دينك، فإنْ سلم لك دينك سلمت، فإنَّه لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى فإنها نار لا تطفئ، ونفس لا تموت، إنَّك معروض على ربك ومرتهن بعملك، فخذ مما في يديك، لما بين يديك عند الموت، وعندها يأتيك الخبر.
من محاضرة:'أجيالنا بين الواقع و الأمل' للشيخ/ محمد حسين يعقوب(127/6)
أحاديث الطائفة الظاهرة وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين
المقدمة
*
المبحث الأول : الأحاديث الواردة في الطائفة الظاهرة
*
المبحث الثاني : تحريف المراد بأحاديث الطائفة الظاهرة
*
المبحث الثالث : محل وجود الطائفة الظاهرة
*
المبحث الرابع : بطلان ما ادّعاه الكاتب أن الغرباء هم حزب التحرير فقط
*
الخاتمة منهاج الفرقة الناجية
*
قائمة المصادر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) سورة آل عمران الآية 102 .
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) سورة النساء الآية 1 .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) سورة الأحزاب الآيتان 70-71 .
وبعد
فقد اطلعت على كتاب بعنوان ( حمل الدعوة الإسلامية واجبات وصفات ) ، لكاتبه محمود عبد اللطيف عويضة ، نشرته دار الأمة وهو من منشورات حزب التحرير ، كما جاء على صفحة العنوان الداخلي ، وقرأت الكتاب فوجدت فيه فصلاً بعنوان ( الطائفة الظاهرة ) ، وقد هالني وأفزعني ، تلاعب الكاتب بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وتحريفه الكلم عن مواضعه ، وتعصبه البغيض لحزبه ، حيث إنه قد زعم أن المقصود بالطائفة الظاهرة – التي ورد ذكرها في الأحاديث النبوية – حزب التحرير ، وقد أوَّل النصوص تأويلاً باطلاً لتحقيق ما زعمه وادعاه .
وقد عزمت على بيان فساد ما ذهب إليه الكاتب ، من تلاعبٍ بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، قياماً بواجب الدفاع عن السنة النبوية ، سائلاً المولى عز وجل ، أن يجعلني ممن شملهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ) ، صححه الحافظ ابن عبد البر وحسنه الحافظ العلائي .
وسأذكر أولاً مجموعة عطرة من الأحاديث النبوية الواردة في الطائفة الظاهرة ، ثم أذكر كلام الكاتب الذي حرَّف فيه كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن ثَمَّ أبين فساد كلامه ، وشدة تعصبه لحزبه ، هذا التعصب الذي أعماه عن رؤية الحقيقة الساطعة كالشمس في رابعة النهار .
وينبغي أن يعلم أن التعصب صفة ذميمة ، تحمل الإنسان على اتباع الهوى ، وتدفعه إلى الميل عن جادة الصواب ، وتحجب عينيه عن رؤية الحق ، فيخبط خبط عشواء ، وقد ذمَّ العلماء التعصب وحاربوه، وهذه بعض عباراتهم في ذلك :
قال أبو نُعيم :( قاتل الله التعصب ما أشنع إخساره في الميزان ) ، حلية الأولياء 9/ 11.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله ، فهو من عمل الجاهلية ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ] مجموع الفتاوى 11/28 .
وقال الشوكاني :[ والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً ، فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء ، يدفع الحق ، وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق ، غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح ، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم ، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع ، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً ، وطريق الإنصاف مستوعرة ، والأمر لله سبحانه والهداية منه
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح ] تفسير فتح القدير 2/ 243 .
وقال الشوكاني أيضاً :[ فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة ، المبرأ من التعصب والتعسف ، أن تورد عليهم حجج الله ، وتقيم عليهم براهينه ، فإنه ربما انقاد لك منهم ، من لم يستحكم داء التقليد في قلبه ، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء ، فلو أوردت عليه كل حجة ، وأقمت عليه كل برهان ، لما أعارك إلا أذناً صماء ، وعيناً عمياء ، ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن ، والهداية بيد الخلَّاق العليم :( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ، سورة القصص الآية 56 ] تفسير فتح القدير 4/ 104 .(128/1)
وقال العلامة ابن القيم :[ ومنها الدعاء بدعوى الجاهلية ، والتعزي بعزائهم ، كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها وللأنساب ، ومثله التعصب للمذاهب والطرائق والمشايخ ، وتفضيل بعضها على بعض ، بالهوى والعصبية ، وكونه منتسباً إليه ، فيدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي عليه ، ويزن الناس به ، كل هذا من دعوى الجاهلية ] زاد المعاد في هدي خير العباد 2/471 .
وقال الزرقاني :[ واعلم أن هناك أفراداً ، بل أقواماً تعصبوا لآرائهم ومذاهبهم ، وزعموا أن من خالف هذه الآراء والمذاهب ، كان مبتدعاً متبعاً لهواه ، ولو كان متأولاً تأويلاً سائغاً ، يتسع له الدليل والبرهان كان رأيهم ومذهبهم هو المقياس والميزان ، أو كأنه الكتاب والسنة والإسلام ، وهكذا استزلهم الشيطان ، وأعماهم الغرور ، ولقد نجم عن هذه الغلطة الشنيعة ، أن تفرق كثير من المسلمين شيعاً وأحزاباً ، وكانوا حرباً على بعضهم وأعداءً ، وغاب عنهم أن الكتاب والسنة والإسلام ، أوسع من مذاهبهم وآرائهم ، وأن مذاهبهم وآرائهم أضيق من الكتاب والسنة والإسلام ، وأن في ميدان الحنيفية السمحة ، متسعاً لحرية الأفكار ، واختلاف الأنظار ، ما دام الجميع معتصماً بحبل من الله ، ثم غاب عنهم أن الله تعالى يقول:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) سورة آل عمران، الآية 103 . ويقول جل ذكره :( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) سورة الأنعام الآية 159 . ويقول تقدست أسماؤه :
( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) سورة آل عمران الآيات 105-106 . لمثل هذا أربأ بنفسي وبك أن نتهم مسلماً بالكفر أو البدعة والهوى ، لمجرد أنه خالفنا في رأي إسلامي نظري ، فإن الترامي بالكفر والبدعة من أشنع الأمور ، ولقد قرر علماؤنا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ، ثم احتملت الإيمان من وجه واحد ، حملت على أحسن المحامل ، وهو الإيمان وهذا موضوع مفروغ منه ، ومن التدليل عليه ، لكن يفت في عضدنا غفلة كثير من إخواننا المسلمين ، عن هذا الأدب الإسلامي العظيم الذي يحفظ الوحدة ، ويحمي الأخوة ، ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ، ووجهه الجميل من السماحة واليسر ، واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية ، والمنازع المذهبية والمصالح البشرية ، ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة ، على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد ، والتأويل الرشيد ، ولقد حدث مثل هذا الاختلاف على عهد رسول الله بين أصحابه ، فما تنازعوا من أجله ، بل أخذ كل برأيه ، وهو يحترم الآخر ورأيه ، وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ولم يُعِبْ أحداً منهم على رغم أنه يترتب على بعض هذه الاختلافات أن ترك بعضهم الصلاة في وقتها اجتهاداً منه… ] مناهل العرفان 2/ 27.
وقال الإمام ابن عبد الهادي الحنبلي :( وما تحلى طالب العلم بأحسن من الإنصاف وترك التعصب ) نصب الراية 1/355 ، وانظر أدب الاختلاف لمحمد عوامة ص 83 .
وقال العلامة ابن القيم في نونيته :
وتعرَّ من ثوبين من يلبسهما
ثوب من الجهل المركب فوقه
وتحلَّ بالإنصاف أفخر حلة
واجعل شعارك خشية الرحمن مع
... ...
يلقى الردى بمذمةٍ وهوان
ثوب التعصب بئست الثوبان
زينت بها الأعطاف والكتفان
نصح الرسول فحبذ الأمران
شرح قصيدة ابن القيم 1/ 124 .
وقد جعلت هذه الدراسة في مقدمة وأربعة مباحث وخاتمة :
فالمقدمة ما قرأت .
وأما المبحث الأول فذكرت فيه الأحاديث الواردة في الطائفة الظاهرة .
وأما المبحث الثاني فبينت فيه تحريف الكاتب للمراد بأحاديث الطائفة الظاهرة .
وأما المبحث الثالث فبينت فيه محل الطائفة الظاهرة حسب الروايات الواردة ، وذكرت أقوال العلماء في ذلك .
وفي المبحث الرابع أبطلتُ دعوى الكاتب في تحريفه لقول النبي صلى الله عليه وسلم
( فطوبى للغرباء ) .
وأما الخاتمة فقد ذكرت فيها منهاج الطائفة الظاهرة .
وختاماً أسأل الله أن يلهمنا أن نسلك طريق الحق والصواب ، وأن يجنبنا التعصب واتباع الهوى ، ويبعدنا عن التكبر والتعالي على عباد الله ، إنه خير مسؤول ، وصلى الله وسلم على الرسول وعلى آله وصحبه أجمعين .
ضحى يوم الأحد الخامس والعشرين من محرم الحرام سنة 1423 هـ وفق السابع من نيسان 2002 م .
كتبه الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
أبوديس / بيت المقدس
المبحث الأول
الأحاديث الواردة في الطائفة الظاهرة(128/2)
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ذكر الطائفة الظاهرة ، التي تبقى في هذه الأمة المحمدية ، متمسكةً بدينها ، وقائمةً على أمر الله ، حتى قيام الساعة ، وهذه مجموعة عطرة من هذه الأحاديث :
1. عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية رضي االله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، والله المعطي وأنا القاسم ، ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون ) ، رواه البخاري .
2. وعن المغيرة بن شعبة رضي االله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلم قال :( لا يزال ناسٌ من أمتي ظاهرين ، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ) ، رواه البخاري ومسلم .
3. وعن عمير بن هانئ أنه سمع معاوية رضي االله عنه يقول : سمعت النبيصلى الله عليه وسلم يقول :( لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك ) . قال عمير : فقال مالك بن يخامر : قال معاذ : وهم بالشام ، فقال معاوية : هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول وهم بالشام ، رواه البخاري .
4. وقال الإمام البخاري في صحيحه : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، وهم أهل العلم . ثم ذكر حديث شعبة المتقدم وحديث معاوية وهو :
5. عن حميد قال سمعت معاوية بن أبي سفيان رضي االله عنه يخطب قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسمٌ ويعطي الله ، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله ) .
6. وعن المغيرة بن شعبة رضي االله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( لا يزال من أمتي قوم ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله ) ، رواه البخاري .
7. وعن جابر بن عبد الله رضي االله عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ، قال فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ، فيقول أميرهم تعال صل لنا ، فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة ) ، رواه مسلم .
8. وعن ثوبان رضي االله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) ، رواه مسلم .
9. وعن جابر بن سمرة رضي االله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين حتى تقوم الساعة ) ، رواه مسلم .
10. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ) ، رواه مسلم
11. وعن يزيد بن الأصم قال سمعت معاوية بن أبي سفيان ذكر حديثاً رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم أسمعه ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم على منبره حديثاً غيره قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ، ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة ) ، رواه مسلم .
12. وعن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال : كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص فقال عبد الله : لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ، هم شر من أهل الجاهلية لا يدعون الله بشيء إلا ردَّه عليهم ، فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر ، فقال له مسلمة : يا عقبة اسمع ما يقول عبد الله ، فقال عقبة هو أعلم ، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك ، فقال عبد الله أجل ، ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسُّها مسُّ الحرير فلا تترك نفساً في قلبه مثقال حبة من الإيمان ، إلا قبضته ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة ) ، رواه مسلم .
13. وعن سعد بن أبي وقاص رضي االله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة )، رواه مسلم .(128/3)
14. وعن ثوبان رضي االله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم:( إن الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، فإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، فإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، فإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرَد ، وإني أعطيك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من أقطارها ، أو قال من بين أقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعض ويسبي بعضهم بعضاً ) قال : قال رسولصلى الله عليه وسلم :( إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين ، وحتى تُعبد الأوثان ، وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه نبي ، وأني خاتم النبيين ، لا نبي بعدي ، ولن تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله ) ، رواه ابن حبان ، وأصله في صحيح مسلم .
15. وعن عمران بن حصين رضي االله عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال ) . رواه الحاكم في المستدرك وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .
16. وعن عمر بن الخطاب رضي االله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) . رواه الحاكم في المستدرك ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
17. عن ثوبان رضي االله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ، قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله ) رواه الترمذي ثم قال : وهذا حديث حسن صحيح ، سمعت محمد بن إسماعيل يقول سمعت علي بن المديني يقول وذكر هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ) فقال علي : هم أهل الحديث .
18. وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا فسد أهل الشام ، فلا خير فيكم ، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة ) رواه الترمذي ثم قال : هذا حديث حسن صحيح.
19. وعن أبي هريرة رضي االله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها ) ، رواه ابن ماجة ،
وقال الألباني : حسن صحيح ، صحيح سنن ابن ماجة 1/6 .
وغير ذلك من الأحاديث الواردة في الطائفة الظاهرة .
المبحث الثاني
تحريف المراد بأحاديث الطائفة الظاهرة
تحدث الكاتب المذكور عن حزبه ونشأته وفكره وطريقته وغايته والعقبات التي تعترض طريقه في الصفحتين 50 - 51 .
ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي االله عنه قال :( صلَّى بنا رسول الله r صلاة العصر يوماً بنهار ثم قام خطيباً فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه ... ) .
وعن حذيفة رضي االله عنه قال :( قام فينا رسول الله r قائماً فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه ، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابه هؤلاء ... ) رواه أبو داود وابن حبان.
ثم قال الكاتب : فنتساءل : هل أشار رسول الله r - وهو الحريص على أمته الناصح لها - إلى هذا الحزب في خطبته تلك وهل ذكره عليه الصلاة والسلام بالاسم أو بالصفة ؟
إننا لم نجد فيما اطلعنا عليه من الأحاديث النبوية الشريفة تصريحاً باسم ( حزب التحرير ) ، ولكننا وجدنا عدداً من الأحاديث تذكر ، مجموعة أوصاف لطائفة نحسبها ونرجو أن تكون قد عنت ( حزب التحرير ) لأن هذه الأوصاف نراها تنطبق تماماً على هذا الحزب ، ولم نستطع تطبيقها على أي طائفة أو حزب غيره في الواقع المشاهد . ثم ذكر ما يتعرض له حزب التحرير من مناوأة وخذلان الخاذلين ، وخلاف المخالفين ، وعدم تضرره بهم وقوامته وقيامه على أمر الله سبحانه ، وذكر تمسكه بالحق وظهوره على الدين ، وتحديد مكان وجوده ونشأته ، وأنه سينتصر ويقيم دولة تقاتل الأعداء في آخر الزمان يجعلنا نحسب ونرجو أن تكون هذه الأوصاف دالة بالفعل على
( حزب التحرير ) . ص52 .
ثم ذكر الكاتب مجموعة من الأحاديث التي ورد فيها ذكر الطائفة الظاهرة ومنها :
1. عن معاوية قال : سمعت النبي r يقول :( لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) قال عمير فقال مالك بن يخامر قال معاذ : وهم بالشام فقال معاوية : هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول : وهم بالشام .(128/4)
2. عن أبي أمامة قال : قال رسول الله r :( لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك . قالوا : يا رسول الله وأين هم ؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ) .
3. وعن أبي هريرة أن رسول الله r قال : لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها ) . ثم ذكر مجموعة أخرى من الأحاديث التي ورد فيها ذكر الطائفة الظاهرة وقد سبق ذكرها .
ثم قال الكاتب لا فض فوه :[ فقوله r طائفة وأمة وعصابة وقوم ، يدل على حزب ولا تدل هذه الألفاظ على أهل الشام كلهم كما فسرها معاوية لدعم موقفه من علي رضي الله عنه .
وقوله r : قائمة ، قوامة على أمر الله ، يشير إلى قيام الحزب وتمسكه بالإسلام وقوامته على فكر المجتمع وحسه .
وقوله r : لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، يدل على خذلان الخاذلين له وخلاف المخالفين له وأن الحق مع الحزب وليس مع هؤلاء وأن الخذلان والخلاف لا تلحق الضرر بالحزب كما هو حاصل فعلاً مع ( حزب التحرير ) .
وقوله r : لا يزال ولا تزال حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، يدل على استمرارية الحزب في سيره وعدم توقفه كما يدل على ذلك قوله في حديث الحاكم : حتى تقوم الساعة ...] .
ثم قال :[ وأخيراً يدل قوله r : وهم بالشام ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ، على مكان نشأة الحزب هذا أي ( حزب التحرير ) إذ لم يعرف أن حزباً هذه أوصافه قد نشأ في مدينة القدس وما حولها سوى ( حزب التحرير ) ، ص54- 55.
وبعد هذا الزعم الباطل بأن الطائفة الظاهرة المذكورة في الأحاديث هي حزب التحرير ، وضح الكاتب خطأ العلماء الذين فسروا الطائفة المذكورة بأنهم أهل الحديث ، أو أهل العلم ، أو أهل السنة والجماعة
فقال الكاتب :[ أما قول الإمام أحمد : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم .
وقول البخاري : هم أهل العلم .
وقول القاضي عياض : هم أهل السنة والجماعة .
وقول علي بن المديني : هم العرب ، فأقوال ظاهرة الخطأ ، فأهل الحديث المشتغلون بعلم الحديث وروايته ، وأهل العلم لا يستطيع أحدٌ الادّعاء بأنهم يقطنون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس فحسب ، إضافة إلى عدم انطباق صفات أخرى على هؤلاء . وأهل السنة والجماعة معلوم بداهة أنهم لا يقطنون فحسب في الشام ، إضافة إلى أنهم ليسوا طائفة أو عصابة كما ورد في الأحاديث ] ص55 .
ثم زعم الكاتب الفطن !! أن العلماء السابقين كأحمد والبخاري والقاضي عياض ، لم يدركوا مناط هذه الأحاديث ، وأنه هو الوحيد الذي أدرك مناط هذه الأحاديث فلذلك حمل هذه الأحاديث على حزب التحرير .
وأقول في الرد على هذه المزاعم :
إن هذا الكلام ينضح بالغرور الفكري الذي أوصل هذا الكاتب إلى هذه النتيجة ، التي تسيء للأمة الإسلامية جمعاء ، ويزعم أن الأمة الإسلامية ما عرفت الطائفة الظاهرة إلا في هذا العصر ومنذ حوالي خمسين عاماً فقط ، أي منذ نشأة حزب التحرير !!!
إن هذا الكاتب يتجاهل واقع أمة الإسلام ، خلال أربعة عشر قرناً من الزمان ، وأن الأمة لم يكن فيها طائفة ظاهرة متمسكة بالإسلام ، حتى جاء حزب التحرير !!! يا لضياع أمة الإسلام ! ويا لهوانها في عين هذا الكاتب المتعصب تعصباً أعمى حال دون رؤيته للحقائق الناصعة .
إن أحاديث النبي r الواردة في ذكر الطائفة الظاهرة ، تؤكد لنا أن هذه الطائفة كانت موجودة على مرِّ العصور والأيام ، ولم ينقطع وجودها في أي عصر من العصور .
ودعوى هذا الكاتب تفيد أن هذه الطائفة لم توجد أبداً حتى وجد حزب التحرير ، إنها لفرية كبيرة .
انظر أخي القارئ ثم تدبر قول رسول الله r :( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ) رواه مسلم .
وقوله صلى الله عليه وسلم:( لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ) رواه مسلم .
وغير ذلك من الألفاظ ، التي تدل على أن هذه الطائفة موجودة في كل عصر ، ثم يزعم هذا الكاتب أنها لم توجد إلا عندما وجد حزبه
( حزب التحرير ) !!!
وهذا الكلام من أبطل الباطل وأبشعه وهاك بيان بطلانه :(128/5)
[ اعلم أن أول صفة تتميز بها الطائفة المنصورة عن الطوائف الضالة الأخرى ، هي صفة الاستمرارية ، أي إن الطائفة المنصورة مستمرة بوجودها ومقوماتها وأصولها ، ودعوتها ومنهجها ورجالها من لدن رسول الله r إلى ساعتنا هذه ، بل إلى يوم القيامة ودليل هذا قوله تعالى :( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) سورة التوبة الآية 100 ، ففي قوله تعالى :( السابقون الأولون ) إشارة إلى تاريخ بدء هذه الجماعة ... ، وفي قوله تعالى :( والذين اتبعوهم ) ، إشارة إلى استمرارية هذا الوجود وعموميته وعدم انقطاعه ، وأن ثمة رجالاً مستمرون على هذا السبيل ، وأن قوام هذا الاستمرار هو الاتباع ( اتبعوهم ) ... ، ويؤيد هذا ويوضحه قوله r :( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ) ، ففي قوله r :( لا تزال ) ، دلالة واضحة وبينة ناصعة على صفة الاستمرارية للطائفة المنصورة ] صفات الطائفة المنصورة ص13-14 .
وتأكيداً لما مضى من أن هذه الطائفة المنصورة ، مستمرة الوجود منذ عهد النبي r إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أن عبارة [ لا تزال ] و [ لا يزال ] ، الواردة في أحاديث النبي r تدل على الاستمرارية حيث إن كلمة زال ، ترجع في أصلها إلى زول ، ومنه الزوال وهو الذهاب والاستحالة والاضمحلال ، وقد نفى النبي r الزوال بقوله :
[ لا تزال ] ، ومعنى ذلك أنها مستمرة في الوجود وباقية . انظر لسان العرب مادة زول 6/115 . تاج العروس مادة زول 14/319 .
وعندما يقول الكاتب إن هذه الطائفة هي حزب التحرير، فمعنى ذلك أنه منذ عهد النبي r كانت الطائفة الظاهرة غير موجودة ، بل منقطعة حتى وجد حزب التحرير ؟!! فوجدت الطائفة الظاهرة ، وهذا تكذيب لكلام رسول الله r ، الذي أخبر وهو الصادق المصدوق أن هذه الطائفة مستمرة في الوجود ، ويأتي هذا المغرور ليقول خلاف ما قال رسول الله r سبحانك إن هذا لبهتان عظيم !!
ومما يؤكد تحريف هذا الكاتب لكلام رسول الله r عن موضعه ، أنني استعرضت الأحاديث التي ورد فيها لفظ [ لا تزال ] فبلغت حوالي 185 حديثاً ، والأحاديث التي ورد فيها لفظ [ لا يزال ] فبلغت حوالي 300 موضع - وهذا الإحصاء من خلال موسوعة أطراف الحديث فقط - فوجدت أن كلاً من اللفظتين تدل على الاستمرارية، ولا تدلان بحال من الأحوال على أن الشيء كان منقطعاً ثم وجد ، وهذه بعض الأحاديث التي تؤكد ذلك :
قوله r [ لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس ] .
[ لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله ما بوجهه مزعة لحم ] .
[ لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في المسجد ] .
[ لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب ] .
[ لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور ] .
[ لا تزال مستمسكاً بالإسلام حتى تموت ] .
[ لا تزال نفس ابن آدم معلقة بديْنه حتى يقضى عنه ] .
[ لا تزال جهنم تقول : هل من مزيد ]
[ لا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة ] .
[ لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه ]
[ لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ] .
[ لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر ] .
[ لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ] .
[ لا يزال الرجل يصدق ويتحرى حتى يكتب صديقاً ] .
[ لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً ] .
[ لا يزال الناس بخير ما عجلَّوا الفطر ] .
[ لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله ] .
[ لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ].
وهذا غيض من فيض من الأحاديث ، التي وردت فيها عبارة ( لا تزال ) وعبارة ( لا يزال ) ، وهما تدلان على الاستمرارية ، وهكذا يجب أن نفهم أحاديث الطائفة الظاهرة ، وأنها موجودة ومستمرة ، لأن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تُشرح وتُفسر حسب ما تدل عليه ألفاظها ، وليس حسب الأهواء الزائغة ولا حسب النظرات الحزبية الضيقة .
وبعد هذا الاستعراض ، يثبت لنا كذب قول الكاتب : [ وقوله r :
( لا يزال ولا تزال حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) يدل على استمرارية الحزب في سيره وعدم توقفه ... ] ص54 .
وكذلك يظهر لنا الخطأ الشنيع في تخطئة الكاتب لأئمة العلم والدين في بيانهم للطائفة الظاهرة ثم قال الكاتب لا فض فوه :[ وأن عذر هؤلاء أنهم عاشوا قبل أن يدركوا مناط هذه الأحاديث ، وهو حزب التحرير ، وإلا فلربما كان لهم رأي آخر ... ] ص55 .
أي كذب وأي زور هذا ؟!!! وأي غرور قتَّالٍ هذا ؟!!!
قال الإمام النووي :[ وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة ، فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي r إلى الآن ، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/95 .(128/6)
إن هذا الكاتب ، قد ضرب بأقوال الأئمة والعلماء عرض الحائط ، وخطأهم فيما ذهبوا إليه ، وأن رأيه هو الصواب فقط ، والله إن هذا لهو الغرور بعينه ، هؤلاء القوم يرون أنفسهم أنهم حملة الإسلام وأهله ولا يرون غيرهم من المسلمين يساوون شيئاً ، بل لا يعرفون شيئاً حتى ولو كانوا من كبار العلماء .
ولبيان عظم خطأ هذا الكاتب أود أن أبين أقوال العلماء في بيان المقصود بالطائفة الظاهرة التي ذكرها النبي r في أحاديثه الكثيرة فمن أقوال العلماء في ذلك :
1. قال الإمام البخاري :[ باب قول النبي r : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ) وهم أهل العلم ] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/358.
2. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني :[ وأخرج الحاكم في علوم الحديث بسند صحيح عن أحمد : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ؟ ] فتح الباري 13/359.
3. وقال عبد الله بن المبارك :[ هم عندي أصحاب الحديث ] .
4. وقال أحمد بن سنان الثقة الحافظ :[ هم أهل العلم وأصحاب الآثار ] سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/3/136-137 .
5. وقال القاضي عياض :[ إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث ] إتحاف الجماعة 1/330 .
6. وقال الإمام الترمذي: [ قال محمد بن إسماعيل - هو البخاري - قال علي بن المديني هم أصحاب الحديث ] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 5/23 .
7. وقال الإمام النووي :[ وأما هذه الطائفة ، فقال البخاري :هم أهل العلم , وقال أحمد بن حنبل : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم . قال القاضي عياض : إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ،ومن يعتقد مذهب أهل الحديث . قلت – النووي - : ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين ، منهم شجعان مقاتلون ، ومنهم فقهاء ، ومنهم محدثون ، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/58-59 .
8. وقال الإمام ابن العربي المالكي :[ وأما الطائفة المنصورة ، فقيل هم أصحاب الحديث ، وقيل هم العباد ، وقيل هم المناضلون على الحق بألسنتهم ، وقيل هم المجاهدون في الثغور بأسنَّتهم ] عارضة الأحوذي 5/34 . وانظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 3/763 .
9. وقال القرطبي :[ روى عمران بن حصين قال : قال رسول الله r :( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) ، قال يزيد بن هارون :[ إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم ؟ قلت : وهذا قول عبد الرزاق في تأويل الآية إنهم أصحاب الحديث ذكره الثعلبي . سمعت شيخنا الأستاذ المقرئ النحوي المحدث ، أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي ، المعروف بابن أبي حجة رحمه الله ، يقول في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) إنهم العلماء قال : وذلك أن الغرب لفظ مشترك ، يطلق على الدلو الكبيرة ، وعلى مغرب الشمس ، ويطلق على فيضة من الدمع . فمعنى لا يزال أهل الغرب ) ، أي لا يزال أهل فيض الدمع من خشية الله عن علم به وبأحكامه ظاهرين الحديث ، قال الله تعالى :( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) .
قلت – القرطبي -: وهذا التأويل يعضده قوله r في صحيح مسلم : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة ) وظاهر هذا المساق أن أوله مرتبط بآخره والله أعلم ] تفسير القرطبي 8/296-297.
المبحث الثالث
محل وجود الطائفة الظاهرة
وأما ما زعمه الكاتب من أن هذه الطائفة محصورة في الشام ، وفي بيت المقدس ، وأكناف بيت المقدس ، حيث قال :[ وأخيراً يدل قوله r وهم بالشام ، ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس على مكان نشأة الحزب ، هذا أي حزب التحرير ، إذ لم يُعرف أن حزباً هذه أوصافه قد نشأ في مدينة القدس وما حولها سوى حزب التحرير ] ص55 .
وأقول قد بينت سابقاً كذب الدعوى العريضة ، التي ادعاها الكاتب من أن الأحاديث الواردة في الطائفة الظاهرة ، تنطبق على حزب التحرير فقط .
وهنا أبين خطأ ادعاء الكاتب أن الطائفة الظاهرة في الشام وفي بيت المقدس وأكناف بيت المقدس فقط ، وهو ما قال ذلك إلا لأن حزبه نشأ في فلسطين ، فأراد أن يحمل الأحاديث على حزبه فأقول :
أولاً : إن قول الكاتب :[ ولا تدل هذه الألفاظ على أهل الشام كلهم كما فسرها معاوية لدعم موقفه من علي ] ص54 .(128/7)
إن الكاتب افترى على معاوية فنسب له ما سبق ، والحقيقة خلاف ذلك ، لأن الذي حدد موقع الطائفة في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري - وهو الذي ساقه الكاتب - ، إنما هو معاذ وليس معاوية رضي الله عنهما ، قال الإمام البخاري :[ حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ابن جابر حدثني عمر بن هانئ أنه سمع معاوية قال : سمعت النبي r يقول :( لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من كذّبهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ] فقال مالك بن يخامر : سمعت معاذاً يقول : وهم بالشام ، فقال معاوية : هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول وهم بالشام ] صحيح البخاري مع الفتح 13/547 .
وأقول أولاً إن سياق حديث معاوية في صحيح مسلم ، ليس فيه التحديد المذكور ( وهم بالشام ) ، وإنما ورد ذلك في صحيح البخاري .
ثانياً : إن القول بأنهم في الشام ، هو قول معاذ ، وإنما قال معاوية : هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول : وهم بالشام .
وقد روي عن معاوية أنه قال في حديث آخر :[ وإني لأرجو أن تكونوا هم يا أهل الشام ] مجمع الزوائد 7/287 .
ثالثاً : إن قول الكاتب : (… كما فسرها معاوية لدعم موقفه من علي رضي االله عنه )فيه غمز بمعاوية رضي االله عنه هذا الصحابي الجليل ، وهو أحد كتبة الوحي .
رابعاً : ما ورد في حديث أبي أمامة رضي االله عنه قال : قال رسول الله :
( r لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك قالوا : وأين هم ؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ) رواه الطبراني وعبد الله بن الإمام أحمد وقال الهيثمي : رجاله ثقات. مجمع الزوائد 7/288 .
الروايات الواردة في محل الطائفة الظاهرة :
أود أن أبين أن ما ذكره الكاتب من انحصار وجود الطائفة الظاهرة في بعض الشام – بيت المقدس وأكنافه – وليس في كل الشام ، ليوافق مكان نشأة حزبه ، إن هذا القول غير مسلَّم ، ولتوضيح ذلك أذكر أولاً ما وقفت عليه من الروايات التي تحدد محل الطائفة الظاهرة ثم أتبع ذلك بذكر كلام أهل العلم فيه فأقول :
محل هذه الطائفة حسب الروايات الواردة :
أولاً : الشام :
ورد في صحيح البخاري في حديث معاوية أن معاذ بن جبل رضي االله عنه قال : هم بالشام . صحيح البخاري مع الفتح 13/547 .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله r :( لا تزال عصابة من أمتي على الحق ظاهرين على الناس ، لا يبالون من خالفهم حتى ينزل عيس بن مريم ) . قال الأوزاعي فحدثت بهذا الحديث قتادة فقال : لا أعلم أولئك إلا أهل الشام . أخرجه ابن عساكر كما في كنز العمال 7/268 .
قال الحافظ ابن كثير :[ ... ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها ، ولهذا جاء في الصحيحين :( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) . وفي صحيح البخاري ( وهم بالشام ) ] تفسير ابن كثير 1/184.
ثانياً : الغرب :
ورد في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي االله عنه قال : قال رسول الله r :( لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) .
قال الإمام النووي :[ قوله ( لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) قال علي بن المديني:المراد بأهل الغرب العرب ، والمراد بالغرب الدلو الكبير لاختصاصهم بها غالباً . وقال آخرون: المراد به الغرب من الأرض ، وقال معاذ :هم بالشام .وجاء في حديث آخر هم ببيت المقدس ، وقيل : هم أهل الشام وما وراء ذلك . قال القاضي : وقيل : المراد بأهل الغرب أهل الشدة والجلد ، وغرب كل شيء حدُّه ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/60.(128/8)
وقال الحافظ ابن حجر :[ ذكر يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني قال : المراد بالغرب ، الدلو أي الغَرَب بفتح المهملتين ، لأنهم أصحابها لا يستقي بها أحدٌ غيرهم ، لكن في حديث معاذ ، وهم أهل الشام ، فالظاهر أن المراد بالغرب البلد ، لأن الشام غربي الحجاز كذا قال ؛ وليس بواضح ، ووقع في بعض طرق الحديث [ المغرب ] بفتح الميم وسكون المعجمة ، وهذا يرد تأويل الغرب بالعرب ،لكن يحتمل أن يكون بعض رواته نقله بالمعنى الذي فهمه ، أن المراد الإقليم لا صفة بعض أهله ،وقيل المراد بالغرب أهل القوة والاجتهاد في الجهاد، يقال في لسانه غَرْبٌ بفتح ثم سكون أي حِدَّةٌ ، ووقع في حديث أبي أمامة عند أحمد أنهم ببيت المقدس ، وأضاف بيت إلى المقدس ، وللطبراني من حديث النهدي نحوه ، وفي حديث أبي هريرة في الأوسط للطبراني : ( يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها ، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله ، لا يضرهم من خذلهم ظاهرين إلى يوم القيامة ) ، قلت : ويمكن الجمع بين الأخبار بأن المراد قوم يكونون ببيت المقدس ، وهي شامية ويسقون بالدلو ، وتكون لهم قوة في جهاد العدو وحدة وجد ] فتح الباري 13/361 .
ثالثاً : بيت المقدس وأكناف بيت المقدس :
ورد في حديث أبي أمامة عند الطبراني قوله r :( هم ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ) .
رابعاً : دمشق وبيت المقدس :
عن أبي هريرة عن رسول الله r قال :( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها ، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله ، لا يضرهم خذلان من خذلهم إلى يوم القيامة ) رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه الوليد بن عبّاد وهو مجهول ، كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/288 .
وبهذا يظهر لنا أن هذه الطائفة ، ليست محصورة في بيت المقدس وأكنافه ، كما زعم الكاتب ونفى أن تكون في الشام كله عندما قال :
( ولا تدل هذه الألفاظ على أهل الشام كلهم ، كما فسرها معاوية لدعم موقفه من علي رضي الله عنه ) ص 54.
أقوال العلماء في محل الطائفة الظاهرة :
قال الشيخ حمود التويجري :[ وقد اختلف في محل هذه الطائفة :
فقال ابن بطال :[ إنها تكون في بيت المقدس ، كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة y :( قيل : يا رسول الله أين هم ؟ قال :
( ببيت المقدس ) ، وقال معاذ y : هم بالشام . وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائماً ، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة . قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى :" ويشهد له الواقع ، وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن ، فإنهم في زمانهم على الحق ، يدعون إليه ، ويناظرون عليه ، ويجاهدون فيه ، وقد يجيء من أمثالهم بَعْدُ بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق ، والتمسك بالسنة ، والله على كل شيء قدير .
ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة وتوافر العلماء في ذلك الزمان وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد ، بل هم في غالب الأمصار ، في الشام منهم أئمة ، وفي الحجاز ، وفي مصر ، وفي العراق واليمن ، وكلهم على الحق يناضلون ويجاهدون أهل البدع ، ولهم المصنفات التي صارت أعلاماً لأهل السنة ، وحجة على كل مبتدع .
فعلى هذا ، فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تفترق ، وقد تكون في الشام وقد تكون في غيره ، فإن حديث أبي أمامة وقول معاذ لا يفيد حصرها بالشام ، وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها " .
قلت : الظاهر من حديث أبي أمامة وقول معاذ أن ذلك إشارة إلى محل هذه الطائفة في آخر الزمان عند خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ، ويدل على ذلك ما تقدم ذكره من حديث أبي أمامة الذي رواه ابن ماجة وفيه:( فقالت أم شريك : يا رسول الله ! فأين العرب يومئذ ؟ قال : هم قليل وجلهم يومئذ ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح ... ) .
ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داوود والبخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن حوالة الأزدي y ، قال : وضع رسول الله r يده على رأسي - أو على هامتي - ثم قال :( يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك ) ، قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه .
وفي المسند أيضاً وجامع الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله r :( ستخرج نار من حضرموت أو من نحو بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس قالوا : يا رسول الله ! فما تأمرنا ؟ فقال : عليكم بالشام ) . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .(128/9)