مواقف
في الدعوة والتربية
الأستاذ عباس السيسي
موقع الصحوة
http://www.sahwah.net
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
أيام من العمر 00 لا تنسى
نشأت مع باكورة الدعوة، فى سن مبكرة، فغذيت من رحيقها، وتدرجت فى خطواتها00 وعشت مع إمام الدعوة ومرشدها على القرب فترات قليلة من الزمن، ولكنها عميقة الأثر. فلقد كنت حريصاً على تركيز انتباهى، مشدودا إليه 00 عشت معه على البعد فى مشغلة نفسية بالدعوة والداعية، فتمكنت من أقطار نفسى وتغلغلت جذورها فى وجدانى ومشاعرى0
... ذلك أن حسن البنا فى أخلاقه وتصرفاته وسلوكه كان دعوة.. ينجذب إليه الناس على اختلاف ثقافاتهم ونزعاتهم، حيث آمن –رضى الله عنه- بالإسلام دعوة بالإنسان مادتها.. فاستنهض أحاسيسه كلها، لتعمل فى ميدان العقل والنفس والشعور.. فانبثقت فى الناس ينابيع للخير كثيرة كانت مجهولة وتفجرت طاقات للشباب كانت مبددة مقهورة. وأشعلها يقظة فى الوجدان والمشاعر، وصحوة فى القلب والوعى والشعور، فأدرك الإنسان بعد الغفلة والنسيان أنه شىء غير هذا البنيان، وأنه مذخور بكل ما تنشده الإنسانية من حق وخير وعدل، وأن الحياة إنما تقاس بعظمة المبدأ وشرف الغاية والنهاية فانطلق يسمو بنفسه وبالناس يبنى ولا يهدم يجمع ولا يفرق.. يحب: بالحب الذى تتناجى به القلوب، وتتساقط به الذنوب.. الحب الذى جمع بين المهاجرين والأنصار على أعظم ما سجله التاريخ من آيات المجد والفخار.. الحب الذى ألف بين قلوب الأمة، فذابت به الطبقية.. والعنصرية، وتلاشت معه الأحقاد، الحب الذى قيل عنه ((إذا عطس حسن البنا فى القاهرة يقول له الأخ فى أسوان: يرحمك الله)): حب فى الله، فلا إله إلا الله ولا زعيم إلا محمد رسول الله ولا دستور إلا القرآن 0
... تلك العقيدة: هى جامعة القلوب ومؤلفة الأرواح، ومنفذة البشرية من الضلال، لا فضل فيها لأحد، ولا نسب فيها لإنسان إلا نسب هذه العقيدة (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) 0(1/1)
... عاش حسن البنا فى قلوبنا، كأخ وأب، يعود مريضنا، ويسأل عن غائبنا، ويعاون فى حل مشكلاتنا.. يؤلف بين قلوبنا برحلات تربط القريب بالبعيد، ويباعد بيننا وبين الخصومة، حتى لاتعوق سبيلنا إلى القلوب (فإذا الذى بينك وبينه عداوة، كأنه ولى حميم) 0
... استحوذت شخصية البنا على نفوسنا وقلوبنا، لما وهبه الله تعالى من قدرة على الملاحظة المنتجة، التى لا تفلت من يده فيستغلها وينميها ويستفيد بها0
... فالدقائق من حياته لا تمضى بغير حركة وعمل، وأحاسيسه وعواطفه مستمرة فى الانتاج.. حتى كانت محصلة حياته المباركة، التى لم تتجاوز الثلاثة والأربعين من السنين فوق التصور والخيال 0
... لم يخرج حسن البنا على العالم بنظرية من اجتهاده، ولم يحاول أن يجرب لأمته على ضوء ما فى العالم من نظم ومبادئ براقة.. فقد آمن إيماناً عميقا لا شك معه بالإسلام دعوة وحركة ونظاما، وأنه التجربة الأخيرة فى الحياة الدنيا، والقول الفصل فى محكمة التاريخ 00
... لهذا، فلن تجد فى طريق الدعوة الطويل –بعد خمسين عاماً- تغييراً أو تبديلاً فى المبادئ والأهداف والمناهج برغم الزلازل والبراكين التى تتعرض لها الدعوة فى كل زمان ومكان، ذلك لأنها تستمد وجودها واستمرارها من نبع الإيمان الذى لا ينضب وعظمة وشمول الإسلام0
... * هذا الكتاب 00 وطبعته الثانية
... ولا يعتبر هذا الكتاب ترجمة لشخصية الإمام الشهيد حسن البنا بالمعنى الفنى الذى تعارف عليه كتاب التراجم، يستقصى جوانب تكوين هذه الشخصية النفسية والجهادية وآثارها العظيمة فى الحياة الإسلامية المعاصرة.. إنما هو مجرد رؤية لبعض مواقف هذا الرائد العظيم، عشتها وتذوقتها وتفاعلت معها، فكان لها آثارها العميقة على مجرى حياتى، حيث انخرطت بها فى قافلة الهداية والإنقاذ .. قافلة الإخوان المسلمين السائرة على طريق الإسلام الصحيح الذى سرت به بين الناس محققاً سر وجودى، ولله الفضل والمنة 0(1/2)
... لهذا وجدت أن من حق جيل الحركة الإسلامية الجديد أن أضع بين يديه ما رأيت وما وعيت من مواقف مرشد الحركة ومؤسسها، فالحركة الإسلامية وأجيالها أولى بأن تتلمس سبل الدعوة والتربية بالموقف لتبرز من خلاله أفكارها ومبادئها وترابطها بواقع الناس وقضاياهم ومشكلاتهم فى مختلف جوانب الحياة، كما أن جيل الحركة الإسلامية الجديد سيظل عاجزاً عن الإحساس بحقيقة انتمائه وارتباطه بجماعته إلا بعد تفاعله بمواقف مرشدهم الأول من كان معه واستيعابهم لها، وستظل أيضاً حركة هذا الجيل يعوزها النضج ما لم تستلهم تجارب الدعوة فى أطوارها السابقة 0
... ولما كان موضوع هذا الكتاب فى شأنه كالكائن الحى يولد صغيراً ثم يأخذ فى النمو حتى يستوى على سوقه، فسيرى الأخ القارئ نمواً وزيادة فى مكونات هذه الطبعة وما تحتويه من مواقف، كما سيرى اختلافاً فى ترتيب المواقف عنه فى الطبعة الأولى اقتضاه التسلسل التاريخى للأحداث0
... ولنفاذ الطبعة الأولى الصادرة فى ربيع ثان سنة 1398هـ – مارس 1978 بمناسبة مرور خمسين عاماً على قيام أول تشكيلة للإخوان المسلمين رأت دار الدعوة للطبع والنشر بالاسكندرية إصدار طبعة ثانية لقرائها الكرام فقدمت لها الكتاب بعد إحداث هذا التطوير، الذى نرجو أن يجعل الله فيه خيرا ونفعاً 0
000 والله أكبر ولله الحمد ،،،
... ... ... ... ... ... ... ... عباس السيسى
رشيد فى ... رمضان سنة 1401هـ
يوليو سنة 19881م
مدخل
بين يدى هذه المواقف
- الإنسان 00 تكوينه ومركزه ودوره فى الحياة 0
- موكب الرسل الكرام 00 هداية الله للبشرية الضالة 0
- خاتم النبيين 00 كمال الدين، وتمام النعمة 0
- المصلحون والمجددون 00 منارات على طريق خاتم النبيين 0
- حسن البنا 00 باعث النهضة الإسلامية فى العصر الحديث0
- أضواء على جوانب شخصية البنا ودعوته 0
- أضواء على جوانب فى منهاج البنا فى الدعوة والتريية0
بين يدى هذه المواقف
الإنسان
تكوينه ومركزه ودوره(1/3)
... إن الله سبحانه خالق هذا الكون ومالكه 00 خلق الإنسان وأودعه قوى العلم والفكر والادراك ((علم الإنسان ما لم يعلم)) (1) وفطره على معرفته ((فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التى فطر الناس عليها)) (2) ، وسواه مميزا بين الحق والباطل والخير والشر ((وهديناه النجدين)) (3) ((ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها)) (4) ، وأعطاه حرية الإرادة والاختيار ((وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)) (5) ، ومنحه سلطة للتصرف فيما يعرض له من شئون كما يشاء.. خلق الله الإنسان بكل هذه الخصائص، ليهبطه إلى الأرض وهو يحمل معه – بأمره سبحانه – مفاتيح كل شىء فيها، ليكون أهلا لمعالجة شئونها ومزاولة مراسم الخلافة فيها، بأمر من الله واختيار حر منه 00 لذلك كله جاء خلق الإنسان لمهمة ورسالة (( أيحسب الإنسان أن يترك سدى)) (6) 0
... وحينما عهد الله تعالى إلى الإنسان بمنصب الخلافة فى الأرض، وكرمه بهذا الاستخلاف أنبأه بأن حياته الدنيا تلك ليست هى كل ما له فى الكون من وجود، إنما هى طور من أطوار هذا الوجود له خصائصه التى تصله بما بعده، وهو الدار الآخرة، فهى – أى الحياة الدنيا- بالنسبة للآخرة بمكان المقدمة من النتيجة 00 ولذا كانت الدنيا دار امتحان واختبار والآخرة دار حساب وجزاء ((إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه، فجعلناه سميعا بصيرا. إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا)) (7) ، ((وهو الذى جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات، ليبلوكم فيما آتاكم، إن ربك سريع العقاب، وإنه لغفور رحيم)) (8) 0
__________
(1) سورة القلم : 5
(2) سورة الروم : 30
(3) سورة البلد : 10
(4) سورة الشمس : 7
(5) سورة الكهف : 29
(6) سورة القيامة : 36
(7) سورة الإنسان : 2،3
(8) سورة الأنعام : 165(1/4)
... وخلافة الإنسان فى الأرض ليست إلا بحكم ما اجتمع فى كيانه عن الله من العلم الذى يتضمن ركائز الحضارات من الحق والخير والعدل، ليجد به الخليفة منهج الخلافة شاخصا فى ضميره وما اجتمع له من خصائص الإيجابية بكل طاقاتها لفرض مناهجها فى ظاهرة الحياة 00 وبذلك كان الإنسان كائنا منفعلا بعوامل إلهية لتحقيق مقتضيات الخلافة فى الأرض. والمقام يقتضى أن يعلم الإنسان: أنه إذ يستمد مثله وقيمه ومادة معرفته وعبره من أفق الحق الأعلى، لكى يقرها فى الأرض سلوكا وأوضاعا ومعاملات وعرفاً صالحاً، إنما يهب لعالمنا الطبيعى هذا أمراً ليس من طبيعته، أو يدخل على أرضنا هذه لونا ليس من قبيل مادتها وعناصرها 00 فهو –أى الإنسان- حامل ((روح)) من أفق إلى أفق00 وجالب ((حق)) من كون إلى كون وناقل ((رحيق)) عالم قدسى إلى عالم يراد له أن يتقدس كل ما فيه من أعمال العباد ومجتمعاتهم 00 وذلك لب عمل الإنسان فى الخلافة ومجمل إشارة إلى خطورة مقامه ومركزه، وهذه هى الأمانة الثقيلة التى حملها الإنسان.. أمانة عقيدة التوحيد والاستقامة عليها، وأمانة الشريعة والقيامة عليها فى نفسه وفى الأرض من حوله. وجوهر هذه الأمانة، هى طاعة الإنسان وخضوعه وانقياده لله بمطلق إرادته، وكمال إسلامه وعبوديته لله عن طواعيه واختيار0(1/5)
... استخلف الله تعالى الإنسان على الأرض بذلك الاستعداد الفطرى لمعرفته سبحانه ومعرفة جليل صنعه والإقرار بربوبيته وألوهيته.. هذا الاستعداد كان عهدا من الله تعالى لآدم.. عهد تكوين وفطرة.. وإذا كان هذا العهد قد بثت خصائصه وقواه ابتداء، فقد انتقلت إلينا – نحن بنو آدم – بطريق الوراثة تلك الخصائص والقوى، فكانت هى التأهيل الأزلى الذى أعلن عنه عهد الربوبية، إذ قال الله تعالى ((ألست بربكم ؟ قالوا : بلى )) (1) . وبهذا العهد كانت للإنسانية كافة – آدم وبنيه – صلاحيتها لتلقى وحى الله، وحمل ما فى كلامه ورسالته من أمر ونهى وحلال وحرام وعقيدة وشريعة.. ولهذا اجتمعت لهذا العهد مزايا العهد العام0
... وما ينزل الله من عهد للناس، أى من شرع يأمرهم فيه وينهاهم، لا ينابذ أحكام هذه الفطرة بل يوافقها ويزكيها.. ولو خلا الإنسان إلى فطرته لاستقام على عهد الله واختار ما يتضمن من مثل عليا.. ولكن تلك الفطرة عورضت بما فى جانب الإنسان الحسى من قوى وميول، هى التى يسمونها الغرائز.. أو بعبارة أصح عورضت بقابلية هذه الغرائز للانحراف عن هداية الفطرة بما يزين لها الشيطان من غرور وأهداف لا حقيقة لها، فضلت وجحدت وتحولت من عهد الله إلى ما أراد لها – الشيطان- من معصية 00 ولكن كيف وقعت المعصية؟ وكيف شرد الإنسان عن منهج الله وعهده له ؟
__________
(1) سورة الأعراف : 172(1/6)
... من طبيعة الشيطان أنه لا يأتى الإنسان من قبل صوابه الروحى، فهو أعجز من أن يواجه هذا النور، بل يأتيه من جانبه المطاوع –جانب الغرائز والشهوات- وهو جانب يملك الاستجابة .. ولا يملك التمييز!! يملك الاستجابة لأى نداء، من الملك أو الشيطان.. من الله أو من غير الله!! فإن سول الشيطان لتلك الغرائز أمرا من الأمور، أو زين لها غاية من الغايات وهو لا يزين لها إلا ما تحبه – لانت لسماعه، ومالت إلى اتباعه.. وكان لها من اللذة الحالمة، والإغراء المطمع، ما يجعل القلب يسحب الركون إليه، ويأنس لمطاوعته والمزيد منه، وينصرف بالتدريج عما لديه من أمر الله، حتى يغدو مشغولا بخواطر جديدة، وآمال غير التى كان يتعلق بها، وغايات غير التى كان يرسمها له إيمانه بالله.. وذلك هو النسيان القلبى !! ومن هنا سمى الإنسان إنسانا لكثرة نسيانه، قال إبن عباس: ((إنما سمى إنسانا لأنه عهد إليه نسى)).. نسى الإنسان إلهه وزال اهتمامه بأمره، فصرف الله عنه فضله ووكله إلى نفسه0
موكب الرسل الكرام
هداية الله للبشرية الضالة(1/7)
... وعندما غاب وعى الناس المركوز فى فطرة التدين وانسحب هذا الوعى إلى متع الحياة الدنيا وزخارفها، وزين الشيطان للقلب البشرى ذكرى المنافع الأرضية ولذائذها وغفل عن ذكر الله وانطمس فى الناس نور الفطرة بما خيم عليه من ظلال الشهوة والهوى، وطرأ على الإنسان ما أفسد فطرته ونظامها وناموسها الوحيد الذى لا تحمل سواه، وهو توحيد الخالق سبحانه، فسقطت فى المعصية والشرك بالله، واختلت موازين الأعمال والقيم. هنا تداركت عناية الله ورحمته الناس ولم يشأ أن يأخذهم بذنوبهم أو يتركهم فى الانحراف والتردى بعبادة غير الله والإشراك به، فقضى سبحانه رحمة منه بعباده وتقديرا لغلبة الشهوات على عقولهم وقلوبهم أن يرسل إليهم الرسل ((مبشرين ومنذرين)) (1) يذكرونهم ويبصرونهم، ويحاولون استنقاذ فطرهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات التى تحجب عنها دلائل الهدى وموحيات الإيمان فى الأنفس والآفاق ويأمرون بعبادة الله وحده واجتناب كل ما عداه من وثنية وهوى وشهوة وسلطان ((ولقد بعتثنا فى كل أمة رسولا : أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)) (2) 0
خاتم النبيين
كمال الدين وتمام النعمة
__________
(1) سورة الأنعام : 48
(2) سورة النحل : 36(1/8)
... واستمرت هداية الله للناس ولم تنقطع، فتراءى موكب رسل الله الكرام على طريق البشرية الموصول رسالة واحدة، بهدى واحد للإنذار والتبشير.. موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من البشر: نوع وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وداود وموسى.. وغيرهم ممن قصهم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم فى القرآن، ومن لم يقصصهم عليه.. موكب من شتى الأقوام والأجناس، وشتى البقاع والأرضين. فى شتى الأزمان، لا يفرقهم نسب ولا جنس، ولا أرض ولا وطن، ولا زمن ولا بيئة، كلهم آت من ذلك المصدر الكريم، وكلهم يحمل ذلك النور الهادى، وكلهم يؤدى الإنذار والتبشير، كلهم يحاول أن يأخذ بزمام القافلة البشرية إلى النور.. سواء من جاء منهم لعشيرة، ومن جاء لقوم، ومن جاء لمدينة، ومن جاء لقطر.. ثم من جاء للناس أجمعين: محمد رسول الله – صلى الله عليهم وسلم – خاتم النبيين 0
... أولئك الرسل، اقتضت عدالة الله ورحمته أن يبعث بهم إلى عباده- يبشرونهم بما أعده الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان، وينذرونهم ما أعده الله للكافرين العصاة من جحيم وغضب.. كل ذلك: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل0
... ولكننا إذا استعرضنا موكب الرسالات، وموكب الرسل، منذ فجر البشرية، ومنذ أول رسول – آدم عليه السلام- إلى هذه الرسالة الأخيرة 00 رسالة النبى الأمى إلى الناس أجمعين.. فماذا نرى؟(1/9)
... نرى هذا الموكب المتطاول المتواصل. موكب الهدى والنور. ونرى معالم الطريق على طول الطريق. ولكننا نجد كل رسول – قبل خاتم النبيين –إنما أرسل لقومه. ونرى كل رسالة – قبل الرسالة الأخيرة- إنما جاءت لمرحلة من الزمان.. رسالة خاصة، لمجموعة خاصة، فى بيئة خاصة.. ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه، متكيفة بهذه الظروف.. كلها تعو إلى إله واحد – فهذا هو التوحيد – وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد – فهذا هو الدين – وكلها تدعو إلى التلقى عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد – فهذا هو الإسلام- ولكن لكل منها شريعة تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف.. حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر، أرسل إلى الناس كافة، رسولا خاتم النبيين برسالة ((للإنسان)) لا لمجموعة من الأناسى فى بيئة خاصة، فى زمان خاص، فى ظروف خاصة 00 رسالة تخاطب ((الإنسان)) من وراء الظروف والبيئات والأزمنة، لأنها تخاطب فطرة الإنسان التىلا تتبدل ولا تتحور ولا بنالها التغيير ((فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم)) (1) .. وفصل فى هذه الرسالة شريعة تتناول حياة الإنسان من جميع أطرافها، وفى كل جوانب نشاطها، وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان، وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان 00 وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة ((الإنسان)) منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان، من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات، لكى تستمر، وتنمو، وتتطور، وتتجدد حول هذا المحور وداخل هذا الإطار:
المصلحون والمجددون
منارات على طريق خاتم النبيين(1/10)
... وعندما أنزل الله تعالى يوم عرفة ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا)) (1) اتضحت بصورة نهائية للإنسانية جمعاء أنه لا انتظار بعد ذلك لرسالة أخرى أو كما وضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مثلى ومثل النبيين من قبلى كمثل رجل بنى دار فأتمها إلا لبنة واحدة، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة)) (2) ، ((إنه لا نبى بعدى ولا أمة بعدكم)) (3) ، فكان من الطبيعى لهذه الأمة كأن تواجه فى مسيرتها الطويلة مواقف عصيبة لا عهد للتاريخ بها، فابتليت فى دينها –الإسلام- بمؤامرات وثورات ومقاومات داخلية وخارجية فكثيرا ما كان هذا الدين عرضة لتحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، ودخلت فيه البدع والأفكار الأعجمية وتسرب إليه الشرك والجاهلية عن طريق التأثر بثقافات الأمم المفتوحة، وعن طريق التقليد والجهل.. ابتليت هذه الأمة بعصور وأجيال لم تعرفها أمة قبلها وأ، تواجه صراعا فى ميدان العقول والعلم والحضارة والاجتماع والتشريع لم تواجهها أمة فى التاريخ، ذلك أنها الأمة التى كتب لها أن تقود الإنسانية فى شوطها الأخير بهدى الرسالة الخاتمة، فأصبح من المحتم عليها أن تثبت جدارتها لهذه القيادة فى كل زمان ومكان، وفى أى ميدان ينشط فيه الإنسان، وقد استطاعت الأمة الإسلامية أن تنهض من كبواتها وتواجه العقبات بقوة، لعدة عوامل منها :
- الحيوية الكامنة فى طبيعة الرسالة الإسلامية ذاتها، التى تستطيع أن تواجه احتياجات الإنسان المتطورة دائما، بل وتنمى فيه طاقات فاعلة جديدة 0
- أن الله عز وجل قد تكفل بمنح الأمة الإسلامية رجالا أكفاء أقوياء، يرثون الأنبياء، فينقلون روح الرسالة إلى عصرهم باستنارة ووعى يعيدان شباب الأمة بحيث لا تكتهل ولا تهرم أبدا 0
__________
(1) سورة الروم : 30
(2) رواه الإمام أحمد فى مسنده
(3) رواه البخارى فى كتاب المغازى(1/11)
وهاتان القوتان من لطف الله عز وجل للبشر جميعا، فلو فقدت الأمة قدرتها على استعادة قوتها وشبابها لفقدت الإنسانية الرشيدة ولضاعت أمانة السماء وأمانة الإنسانية ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) (1) 0
ومن يتتبع تاريخ المسلمين الطويل حتى الآن يجد أنه فى كل فترة ظلام وابتعاد عن روح الإسلام لابد أن يظهر أحد هؤلاء الدعاة إلى الله يتصدى لانحراف عصره بلا وجل ولا تردد من الباطل مهما اشتد بطشه. ذلك أن طبيعة الرسالة الإسلامية أنها تفرز من أتباعها كل عصر من هذه العصور الكريمة من ينفخ نيران الحماسة الدينية ليستثير العزائم التى انتابها الحور أمام سلطان الهوى والشهوة الذى ابتلى العامة والخاصة من البشر ((إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا)) (2) 0
... لقد قام هؤلاء الدعاة إلى الله والمصلحون المجددون للذود عن حياض الإسلام والحفاظ على عزة المسلمين ولهذا توزعت جهودهم على جبهتين :
1- الجبهة الداخلية : لمحاربة الزندقة والبدع والإلحاد والميوعة التى طغت على حياة المسلمين 0
2- الجبهة الخارجية: لتوحيد صفوف المسلمين وشحذ هممهم لمحاربة الأعداء من الغزاة والمستعمرين0
واهتم كل مصلح بجبهة من هاتين الجبهتين أو بهما معا، ولكن بشكل متفاوت حسب الظروف العامة التى كانت تحيط بهم والطاقات والامكانيات التى تهيأت لهم والبلد الذى كانوا يعملون فيه 0
فقد عمل المصلحون وعلى رأسهم الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز والحسن البصرى والإمام أحمد بن حنبل فى زمن الدولتين الأموية والعباسية على تقويم الحكام، وتوحيد صف الأمة، والرد على الفرق الإسلامية المبتدعة ومحاربة الزندقة والأفكار الإلحادية والوثنية0
ولما سقطت بغداد بأيدى التتار كان هم المصلحين جمع شمل الأمة ورفع روحها المعنوية وشحذ هممها للجهاد فى سبيل الله والوقوف فى وجهة الاعتداءات الخارجية على ديار الإسلام 0
__________
(1) سورة الحجر : 9
(2) سورة الكهف : 7(1/12)
ولما انقسم العالم الإسلامى إلى دويلات وسيطر على المسلمين التصوف والانعزال، وظهرت الدعوات الصوفية المتطرفة، ونشأت الدعوات الباطنية والبدع والخرافات تصدى المصلحون –وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية لهذا التيار الجارف محاولين الحد من قوته والقضاء عليه فى وقت كان المسلمون فيه بحاجة إلى توحيد جهودهم لرد العدوان الخارجى عن بلادهم0
ولما سقطت الخلافة العثمانية وتقطعت أوصال العالم الإسلامى. وبدأ الغزو العسكرى والفكرى الغربى يجتاح بلاد الإسلام فى العصر الحديث، كان على المصلحين- وعلى رأسهم الإمام الشهيد حسن البنا – أن يعملوا فى عدة جبهات .. أن يعملوا على توحيد المسلمين، وأن يقاتلوا الغزاة بالسلاح، ويجاهدوا الغزو الفكرى والعقائدى بالحجة والبرهان، ويحاولوا القضاء على الحور والميوعة والبعد عن الإسلام الذى طرأ على نفوس المسلمين، حتى تعود للإسلام دولته، وترفرف على الأرض أعلام الحق والعدل والسلام0
حسن البنا
باعث النهضة الإسلامية فى القرن العشرين(1/13)
... برغم أن جميع المصلحين فى زماننا قد اتفقوا فى الهدف، فعملوا جاهدين لإرجاع هذه الأمة إلى الطريق المستقيم، وإلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم اختلفوا فى الطريق الذى يوصل إلى هذا الهدف وفى الأساليب التى تتبع لتحقيقه. فالدارس لدعوة كل منهم يجد أنها انحصرت فى جزئية من جزئيات العمل الإسلامى فقد اهتم المتصوفون الصادقون بالتربية الروحية أكثر من اهتمامهم بالعمل الجماعى وبث روح الجهاد، واهتم دعاة السلفية بمحاربة البدع والخرافات، وسلك آخرون سبيل القلم واللسان فوفقوا فى جانب وتعثروا فى جوانب أخرى. لحذا أغفل هؤلاء المصلحون إيجاد طليعة مؤمنة وقاعدة شعبية إسلامية وتنظيم حركى لدعواتهم يضمن لها الاستمرار لتبلغ الغاية حتى ولو بعد مماتهم، وهكذا عاشوا جميعا قادة بلا جنود منظمين، فلما ماتوا عاش أتباعهم جنودا بلا قادة، وانتهت بموتهم دعواتهم وبقيت ذكريات فى سجل التاريخ0
أ – أضواء على جوانب فى شخصية البنا ودعوته :
... لقد سبق ((البنا)) الكثير من هؤلاء المصلحين.. ذلك أن الله تعالى قد أمده بصفات وطاقات وإمكانيات لم تتوفر لغيره من الدعاة فى عصرنا، فقد برزت شخصيته بمعالم جعلت منه ذلك الإنسان الذى يدين له جيل الحركة الإسلامية الحاضر بالبعث والريادة، فإذا أرنا أن نحدد بعض معالم هذه الشخصية نجد أن أول ما يطالعنا فيها من ميزات :(1/14)
- الميزة الأولى : أنه إنسان منح دعوته كل نفسه، روحه وراحته، وقته وماله، بل كيانه كله.. لأن هذا هو المطلوب من العاملين للإسلام فى كل مكان وزمان، بل هو لسان حال النبيين ومن ساروا على درب الحق من بعدهم قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره )) (1) .. وهذا النمط من الناس وحده هو الذيى يستطيع أن يخلف أثرا فى الأرض، ذلك أنه استعلى على حطام الدنيا وارتفع عنه. أما الناس الآخرون فهم عبيد هذا الحطام وسدنته ومن ثم فإن أكبر ما يستطيعون فعله أن يغترفوا ما تجود به الأرض عليهم، ثم تحتويهم هم وما يكنزون. وحين نقول بأن حسن البنا – رضى الله عنه- ارتفع عن الدنيا فليس معنى ذلك أنه ترفع عن عباد الله فيها، بل العكس، فهو الأب الحانى والأخ الوفى والطبيب الذى يدرك أن قومه والبشرية جمعاء بحاجة إليه، لأنه إنما حمل عبء الدعوة إلى الله عندما تخلى عنها الناس جميعاً وواجب الطبيب أن يلازم مرضاه وأن يتابعهم فى العلاج وإن هم كرهوه لما يحمل أو تنكروا له فى بعض من مراحل الطريق 000 فهذا ليس بدعا فى أخلاق الناس فى كل زمان ومكان0
__________
(1) سورة التوبة : 24(1/15)
- أما الميزة الثانية التى تطالعنا فى شخصية الإمام البنا، فهى أنه كان رجلاً فى أمة، أثار فيها معانى الإيمان بعد ركود طويل. ولئن اكتفى بعض مصلحى هذا الزمان بأن عالج مرضا من أمراض المجتمع الإسلاممى المتخلف ووقف عنده لا يتخطاه، أو أنه كان إصلاحياً عايش الواقع المتهرئ. فقد نظر إلينا إلى الإسلام كنظام شامل للحياة وأخذ به كوحدة متكاملة وعمل له ككل لا يتجزأ عقيدة وعبادة، سلوكا وتشريعا، سياسة وجهادا فى سبيل الله. ولذا فقد قيض الله له أن يخلف حركة كبيرة انطلقت من مصر أصداءها فى جميع أنحاء العالمين العربى والإسلامى. والفكر الإسلامى مدين إلى حركة البنا كمجدد وباعث نهضة فكرية ما زال الكاتبون يعيشون على فتاتها إلى اليوم0
خلاصة الأمر أن البنا كان شخصية جامعة، قامت على أسس عقائدية وفكرية وحركية تنسجم مع هذه النظرة الشاملة للإسلام، وبذا بدت دعوته رضى الله عنه – متميزة بخصائصها ومميزاتها وأساليبها عن غيرها من دعوات هذا القرن0
- وثالث هذه الميزات هو ما يطالعنا فى شخصية هذا الإمام العظيم، أنه –رضى الله عنه- كان فى مستوى الأحداث عرضت له خلال مراحل عمله فى الحركة الإسلامية تخطيطا وتنفيذا، فقامت دعوته على الأسس التنظيمية السليمة التى تأخذ بالأسلوب العلمى والتخطيط المرحلى للعمل الإسلامى، فقد دعا للإسلام كما نزل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام وكما فهمه الصحابة – رضوان الله عليهم، وأوجد لهذه الدعوة الطليعة المؤمنة، لتكون القاعدة التى يقوم عليها صرح الدعوة، كما أوجد لها هيكلا تنظيميا وآخر إدارياً هرميا ليضمن الضبط والربط بين القمة والقاعدة والتجاوب والتفاهم بين القاعدة والقمة (1) 0
__________
(1) انظر : النظام الأساسى واللائحة الداخلية للإخوان المسلمين (من منشورات دار الأنصار – القاهرة )(1/16)
ولئن تطلع بعض الناس هذه الأيام إلى ما فعله البنا وإلى أسلوبه فى العمل مشيرين بأصبع النقد، فليخفضوا تلك الإصبع وليضعوها على موطن الداء فى تكوينهم هم، فإذا كان الرجل قد استطاع بناء حركة فواجب أهل الاختصاص والتخطيط بعده أن يستمروا فى إتمام ذلك البناء الضخم الذى شاده، فلئن كانت الأحداث قد امتدت إلى هامم البنا فأردته شهيدا على طريق الدعوة قبل أن يتم ما نذر نفسه له، فليس معنى ذلك قصور فى الأسلوب والمنهج ولا خطأ فى التخطيط، والواجب يقضى بأن يكون الإسلاميون هذه الأيام فى مستوى أحداث العصر وإمكاناته، ليستطيعوا أن يحققوا ما حقق البنا أو بعض ما حققه 0
فمما لا شك فيه أن لسان الحال أوقع من لسان المقال .. وأن نظرية فكرية أو موعظة توجيهية لا تتعدى لسان المتكلم وأذن السامع0
ومما لا شك فيه كذلك أن الصراعات فى العالم إنما تعتمد على المهارات العملية وتسجيل المواقف فى سبيل ترويج وطرح شعاراتها ونظرياتها التجريدية وليس العكس 0
ومما لا شك فيه أن الدعوة بالموقف من شأنها أن تكسب المبادئ والأفكار صفة الحياة .. كما أن من شأنها أن تمنح الحركة القدرة على التأثير فى الأحداث والناس 00 كل ذلك مما يضفى عليها صفة الواقعية 0
والحركة الإسلامية أولى الحركات بأن تتلمس سبل الدعوة بالموقف تترجم من خلال أفكارها ومبادئها وتربطها بواقع الناس وقضاياهم ومشكلاتهم على كل صعيد. وهى إن فعلت ذلك تكون منسجمة مع الخط الإسلامى الذى خطه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والتزمه الرعيل الأول من المسلمين رضى الله عنهم، الذين لم يدخلوا التاريخ إلا بما سجلوه من مواقف 0
فالفرق بين الدعوة بالنظرية والدعوة بالمواقف كالفرق بين من يجاهد ومن يتحدث عن الجهاد، وكالفرق بين من يصبر ومن يتحدث عن الصبر، وبين من يضحى ومن يتحدث عن التضحية 000 إلخ 0(1/17)
وعندما اعتمد البنا هذا الأسلوب فى الدعوة للإسلام، وألزم جماعته به 00 كان –رضى الله عنه- فى شخصه ترجمة حية للمبادئ التى حملها بمواقفه على صعيد القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما استطاعت جماعة الإخوان المسلمين أن تأخذ زمام المبادرة بالمواقف التى اتصلت بقضايا الأمة المصيرية من خلال نظرية الإمام ومبادئه، وكانت الساحة لها بدون منازع، ولم تجد كبير عناء فى استقطاب الجماهير المسلمة، لأنها –أى هذه الجماهير- لم تكن ولتواكب المسيرات 00 مسيرات الأدعياء، فقد تبنت قضايا الأمة باللسان السنان 00 بالجهاد البيا 0
إن قضايا تحقيق العدالة ورفع الظلم ومجاهدة أعداء الله وتحرير الإنسان مما يستعبده ليكون عبدا لله وحده.. إن مواقف التحدى للطغاة والظالمين فى الداخل-، وللصهيونية والاستعمار فى الخارج.. وإن الجهاد على كل الجبهات وبكل الوسائل إنما يقع كله فى صميم ما دعا إليه الإسلام.. وجاء لتحقيقه وإنفاذه.. فالإسلام ثورة على فساد الفكر كما هو ثورة على فساد الحكم 00 والإسلام ثورة على الانحراف الأخلاقى كما هو ثورة على الظلم الاجتماعى وعلى الاحتكار وأكل أموال الناس بالباطل0
وكما عنى الإسلام بزيادة الأمة فى مجالات التوعية والتربية فقد عنى كذلك بقيادتها فى ساحات الكفاح والنضال 0
والحركة الإسلامية فى العصر الحديث بقيادة البنا، التى كان لها قصب السبق فى ميادين الجهاد والتى غيبتها المحنة الضاربة عن أحداث الناس وقضايا الأمة، مدعوة اليوم لتأخذ موقعها فى خط المواجهة الأول لكل قضية، وموضوع (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين) (1) 0
ب – أضواء على جوانب فى منهج البنا فى الدعوة والتربية
__________
(1) سورة العنكبوت : 69(1/18)
أدرك البنا أبعاد انهزام المسلمين الروحى والحضارى، وفهم سر ابتعادهم عن الإسلام. فدعاهم إلى تطبيق الإسلام خلاصا من انهزامهم وحلا لأزمتهم. وحمل من أجاب صوته على ذلك التطبيق.. حملهم على أسلوب فى التربية متطابق مع منهج الإسلام، متواز فى أسلوبه مع أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم. فأولى الإنسان عنايته الكبرى، ورباه واعيا عناصره من روح وفكر وجسد، موازنا بين هذه العناصر، مبتكرا فى وسائل التربية بما يحقق الغرض ويتناسب مع أوضاع القرن العشرين0
لذلك جاءت تربية البنا محققة للأهداف التى وضعها فى بناء جماعته، التى تتركز فى تحقيق التفاعل بين روح الإسلام وبين أفراد الجماعة بحيث يتحقق من هذا لتفاعل تجريدهم من ذواتهم.. تجريدهم من القيم الأرضية كلها، والوشائج المادية كلها.. تجريدهم من الاعتزاز بكل ما يعتز به من حطام وأهواء 00 ليعتزوا بالحق وحده .. الحق مجردا من أشخاصهم00 الحق متلبسا بذواتهم ولكنه متميزاً واضحا، بحيث تتبع ذواتهم الحق، ولا تتبع أهواءهم ومشاعرهم الشخصية.. وذلك بأن يتجردوا لله.. يتجردوتا له تجردا خالصا 0
ما أحلى وأصدق قوله – رضى الله عنه – فى وصف ذلك النموذج الذى عمل على إيجاده وتكوينه: ((أستطيع أن أتصور المجاهد شخصا قد أعد عدته وأخذ أهبته وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحى نفسه وجوانبن قلبه، فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام، على قدم الاستعداد أبدا، إن دعى أجاب، أو نودى لبى. غدوه ورواحه، وحديثه وكلامه وجده ولعبه، لا يتعدى الميدان الذى أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التى وقف عليها حياته وإرادته، يجاهد فى سبيلها، تقرأ فى قسمات وجهه وترى فى بريق عينيه، وتسمع من فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم فى قلبه من جوى لاصق وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة وهمة عالية وغاية بعيدة)) 0(1/19)
هذا النموذج الذى حدد البنا خصائصه وملامحه، لم يتركه دون توفير كل متطلبات العملية التربوية التى تكفل تكوينه وهى المتطلبات التى أدرك البنا أنها شرط من شروط تحقيق ولادة الفرد المسلم الذى يمثل العامود الفقرى فى العمل الإسلامى برمته، فإذا طالعنا رسالة ((رسالة التعاليم)) نجد أن خطته التى ترسم فيها خطى الداعى الأول صلى الله عليه وسلم تدور حول متطلبات ثلاثة :
أولاً : المنهج الصحيح: وقد وجده الإخوان المسلمون فى كتاب الله وسنة رسوله وأحكام الإسلام حين فهمها المسلمون على وجهها غضة نقية بعيدة عن الدخائل والمفتريات، فعكفوا على دراسة الإسلام على هذا الأساس دراسة سهلة واسعة مستوعبة0
بهذا المنهج وتطبيقاته فى سيرة النبى الكريم وأصحابه أخذ الإخوان أنفسهم بتطبيق ما فهموه من دين الله تطبيقاً لا هوادة فيه 0
ولو استعرضنا هذا المنهج التربوى الذى ألزم به البنا الإخوان، والذى وضحه فى رسالته تلك وفى توجيهاته وتعليماته، لوجدنا أنه استوعب كل مكونات الإنسان من روح وفكر وجسد، الأمر الذى يؤكد لنا دقة معالجة هذا المربى الكبير للنفس الإنسانية 0
- ففى مجال تزكية النفس : ألزم الإخوان بالورد اليومى من القرآن، وذكر الآخرة، ونوافل العبادة، وصيام يوم فى الأسبوع أو كل أسبوعين، والذكر اللسانى والقلبى، وأداء الصلاة فى أوقاتها جماعة بالمسجد، واستصحاب نية الجهاد، وتجديد التوبة 000 إلخ 0
لقد ألزم الإمام البنا أفراد جماعته بهذه الواجبات مستهدفاً :(1/20)
1- إحياء حقيقة الإيمان بالله، على أنه طمأنينة يقينية تحل بالقلب ومنطق روحى حى يوجه العقل، ومن شأن هذه الطمأنينة أن يكون الله فى حياة صاحبها هو كل شىء، فهو وحده الكبير المتعال، وهو القوى الذى له جنود السموات والأرض، وهو الغنى وما عنده خير وأبقى.. قسم الأرزاق وحدد الآحال. فمن آمن بذلك سرى فى يقينه التصديق به صرف رجاءه فى كل حال وأنزل بساحته حاجته، ووجد أثره فى قلبه: غنى بغير مال وأنساً بغير أهل وعزاً بغير عشيرة، وذلك من أكرم ثمار الإيمان0
2- إحياء حقيقة الإيمان باليوم الآخر، وذلك بأن يضع الأخ المسلم بين عينيه أن الآخرة ويوم الحساب آت لا ريب فيه، وأنه فى هذه الدنيا إنما يصنع بيديه ما يكون عليه فى الآخرة. وعليه أن يجعل دنياه على وفق ما يريد لنفسه فى الآخرة من مثوبة الله وعظيم رضوانه، وأن يتحرى موقع كل عمل من آخرته قبل أن يعمله 0
3- رعاية كل ما أنزل الله من أمر ونهى حق رعايته، فى غير غلو يجاوز ما أرد الله من اليسر ولا ترخص يفسد همة المرء من تعظيم حرمات الله0
- وفى مجال رعاية الفكر والعقل: استهدف منهج البنا تزويد عقل المسلم بأصح الحقائق وأقوم المعانى وأصدق المعارف، فإن العقل بذلك ينضج وتزداد طاقات إدراكه وتتسع آفاقه ويسمو مستواه 0
ومن أجل ذلك كانت البداية فى تكوين عقلية الأخ المسلم هو القرآن الكريم وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما أساس هذه المعارف والحقائق ومحك صدقها 00
وهناك أيضاً واجب دراسة رسالة فى أصول العقائد على منهج السلف وكتاب فى السيرة النبوية ورسالة فى فروع الفقه، وكل ما يتعلق بفقه الدعوة كما تحدده رسائل الإخوان وصحفهم، وأصول الإسلام كنظام اجتماعى والتاريخ الإسلامى 00 تاريخ المعارك والسياسة ونشاط العقل ومجاهدة النفس وإرشاد الخلق هو التطبيق العملى لما فهم سلفنا الصالح من أحكام الإسلام الحنيف0(1/21)
وكذلك على الأخ المسلم أن يثقف نفسه بمعارف العصر فى الاجتماع، والاقتصاد والصحة وكل ما يضطرب فيه الناس سياسياً واجتماعياً وخلقيا من غى ورشد وفضيلة وانحراف واستقامة بحيث يعود نفسه أن يحكم على ما يرى ويسمع ويقرأ حكماً يستهدف مقاييس الإسلام 0
لذلك كان الإمام البنا ينصح الأخ المسلم بضرورة تكوين مكتبة خاصة، فإن وجود الحد الأدنى من الكتب التى تعين على تحقيق أهداف تثقيف المسلم ضرورة كضرورة المأكل والملبس0
- وفى مجال تكوين القوة الجسدية: ألزم الإخوان بالكشف الصحى الدورى، والحرص على القيام ببعض التمارين الرياضية، والقيام بالرحلات الجبلية أو الصحراوية أو الحقلية أو القروية أو النهرية للتجديف، والابتعاد عن الإسراف فى شرب القهوة والشاى، والامتناع عن التدخين، والعناية بالنظافة، وتجنب الخمر والميسر والمفتر000 إلخ0
لم يكتف البنا بمعالجة عناصر الشخصية الإنسانية من نفس وعقل وجسم عند الإخوان المسلمين، بل عمق تطبيقهم للإسلام بأن قدم طرقا عملية لتأدية الفرائض، وكان ارتقاء الأخ المسلم فى صفوف الجماعة مرهونا بتنفيذه هذه الفرائض 00 فرائض الحج والزكاة0
ثانياً : القدوة الصالحة: أدرك البنا خطورة هذا العنصر فى العملية التربوية. فكان فى شخصه مثلا لهذه القدوة الصالحة، وأخذ عزائم الإخوان وهممهم بالمنهج الذى رسمه لهم فى رسالة ((نظام الأسر ورسالة التعاليم)) فأصبحوا أمثلة تحتذى وتتبع وتقلد، فى الحماس والتضحية، والعيش للدعوة والبدعوة وعلموا أن براعتهم لا تكون فى ترديد نظريات التربية والتنظيم والتخطيط 0
ولكن بترجمة ذلك إلى وقائع محسوسة تسهم فى الدفع المباشر والتطوير الفعلى لأجهزة الحركة0
كما علم الأخ المسلم أنه فى انطلاقه لحمل الناس على أن يقتدوا به محتاج إلى أن يحوز : دمعة المتهجد، وشجاعة المقاتل، وانتباه الفقيه 0(1/22)
ذلك كله بفضل يقظة الضمير وحساسيته الذى أحدثه البنا فى نفوس الإخوان، فجاء عملهم مع الناس متوخيا الحرص على رابطة القلوب واجتماع الكلمة بين المسلمين، فكل من قال لا إله إلا الله يلتقى معهم فى ظل التوحيد وتجمعه وإياهم كلمة الإسلام وتعصم دمه وماله وعرضه حرمة الإخوة فى الله. وأحسنوا الظن بكل مخالف اجتمعوا معه على الأصول فاتبعوه إن بدافى قوله الحق أو انصرفوا عنه إن جانبه الصواب وهم يلتمسون له العذر. ولم يكن شىء أبغض إلى نفوسهم من الجدال والمكابرة فما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل0
هذه الأخلاق التى طبع البنا رجاله وأودعها روح أنصاره دعوة بالكلام وقدوة بالسلوك، هى التى جعلت الإخوان أبدا بمنأى عن إثارة المسائل الخلافية فى محاضراتهم وأحاديثهم ومواقفهم، فكان شباب الإخوان بحمد الله يفيضون بشعور الأخوة نحو كل مسلم، وإن معالم التعصب للمذهب إن ظهرت فى كل ناد اختفت تماما من نوادى الإخوان، فالناشئ منهم فى أحضان التصوف يعانق الآخذ برأى السلف إذا أقبل عليه، والعالم التحرير من رجالهم يصلى وراء الشاب الجامعى، وحامل اللحية والعذبة لا يجد حرجا فى أن يأتم بعارى الرأس متى سبقه إلى اصلاة، وهم جميعا فى إحساس بعضهم نحو بعض كالحلقة المفرغة لا تدرى أين طرفاها0(1/23)
ثالثاً : البيئة الصالحة: كما أدرك البنا أهمية هذا العنصر فى نجاح عمليته التربوية، فعمل على تهيئة المناخات والأجواء المناسبة لتكوين وتربية عناصره فدفع بجماعته إلى تهيئة الجو الإسلامى لأفرادها، حتى تتكون منهم الطليعة المؤمنة التى تأخذ على عاتقها إعلاء كلمة الله. وذلك بما أتيح لهم من محيط نظام الأسر والكتائب والمعسكرات، وفى نطاق مجالات العمل والنشاط فى المساجد والمدارس والخدمات الصحية، والشركات، والبر والخدمات الاجتماعية.. وتجاوزت المناخات التى تهيأت للتربية الإخوانية هذه المجالات إلى ساحة القتال فى فلسطين والقناة، امتحانا لهذه النفوس وتطهيرا لها، وتنظيفا لقلوبها، لكى تنال فى هذه الساحة حصيلة ضخمة من العبرة والتربية، والوعىة والنضج، والتمحيص والتميز، والتنسيق والتنظيم، لترتفع إلى مستوى الدور المقدم لها ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين؟!)) (1) .. إنما هى التجربة الواقعية، والامتحان العملى، وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد وعلى معاناة البلاء0
هذه هى التربية التى اعتمدها ((البنا)) فى تكوين صفوف جماعته، ليعدهام بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق، الذى ناطه الله بالجماعة المؤمنة فى هذه الأرض، وقد شاء الله – سبحانه – أن يجعل هذا الدور من نصيب ((الإنسان)) الذى استخلفه فى هذا الملك العريض!
? وبعد :
لقد وقفنا أمام شخصية البنا الفذة، وكأننا نتطلع إليها من أسفل، فكان رضى الله عنه- قمة، والعاملون فى الحقل الإسلامى هذه الأيام ناس ألفوا العيش فى السفح، فاستهونوا مساربه وسبله، وأعجبوا برضى العيش ورضى النعمة السابغة فأخلدوا إلى الأرض، يتمسكون بها ويغترفون منها فى بطونهم ما شاءت لهم الأرض من عطاء، وما ملا جوف ابن آدم إلا التراب 0
__________
(1) سورة آل عمران : 142(1/24)
فلئن كان جيل البنا لم ينصفه فإن التاريخ سيسجل له المكان اللائق، فضلا عن أن الرجل ما كان يعمل ليسجل له التاريخ أو الأجيال، وإنما كان يعمل فى سبيل الله ولإعلاء كلمته 0
وضوح الطريق
حين تقدم حسن البنا إلى لجنة الامتحان الشفوى فى مدرسة دار العلوم، ولما جلس أمام اللجنة سأله الممتحن :
- ماذا تحفظ من الشعر القديم ؟
- فأجاب : أحفظ المعلقات السبع 0
- قال : أسمعنى معلقة طرفة بن العبد0
فأخذ البنا يقرأها فى فصاحة وثبات، ولما تأكد الأستاذ الممتحن من جودة حفظه قال له : على رسلك. أريدك أن تختار بيتا أعجبك من هذه القصيدة، فأطرق حسن البنا هنيهة ثم قال :
إذا القوم قالوا من فتى خلت أننى
... ... ... ... ... ... عنيت فلم أقعد ولم أتبلد
... فلما كان من الأستاذ الممتحن إلا أن رفع عمامته من فوق رأسه وهو يردد فالتفت إليه الممتحن الآخر وقال له : ماذا جرى يا مولانا ؟
... فأجابه بأن هذا الفتى سوف يكون له شأن كبير، وأسمعه هذا البيت فشاركه إعجابه وتفاؤله 0
... وجاءت الأيام لتكشف عن فراسة هذا الشيخ وتصدق حدسه فى البنا، فيصبح بالفعل أمل أمته الحيرى ومرشدها إلى منهاج الإسلام الصحيح 0
... لقد كان البنا هو ذلك الفتى الذى أحس منذ صباه بالفراغ الذى يعانى منه المسلمون فى ذلك الوقت، وهو عدم وجود قيادة إسلامية وطليعة مؤمنة ترد الناس إلى الإسلام وتبصرهم بالطريق وتكتل جهودهم للوقوف فى وجه الاستعمار الغربى العسكرى منه والفكرى0
... أدرك البنا أن الجهل بالإسلام، وعدم إدراك حقيقة هذا الدين، وتلوث المحيط الاجتماعى فكريا وأخلاقيا هو الذى انتهى بأمته إلى الضياع والشرود. والسبب فى كل ذلك إنما يعود إلى ضعف التوجيه الدينى السليم فى حياة المسلمين وإلى خضوعهم إلى توجيهات منحرفة، بل ومتناقضة مع تعاليم الإسلام، ومبادئه 0(1/25)
... ففى نطاق السياسة يحكم المسلمون بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية التى ظهر فشلها فى أكثر من موطن وميدان. فلم يكن فى الساحة السياسية إلا أحزاب وزعماء لا يعرفون إلا أوربا وحضارتها. وقد نسوا مجدهم وتاريخهم، فأوربا قبلتهم فى كل شىء بنظمها وأخلاقها وعاداتها وأعيادها وأوضاعها الاجتماعية والسياسية، وهم فى بيوتهم وحياتهم الخاصة لا يعرفون شيئا من الإسلام ولا آدابه وتقاليده، فسلوكهم العام والخاص لا ينتسب إلى الإسلام بأدنى صلة 0
... وفى نطاق التربية والتعليم تعبث فى عقول المسلمين المناهج والنظريات الفاسدة المخربة التى جاء بها المستعمر الأوربى إلى بلادنا. ولم يكتف المستعمر بوضع المناهج التى أنشأ المدارس والمعاهد العلمية والثقافية فى عقر ديار الإسلام تقذف فى نفوس أبنائه الشك والإلحاد وتعلمهم كيف ينتقصون أنفسهم ويحتقرون دينهم ووطنهم وينسلخون من تقالديهم وعقائدهم ويقدسون كل ما هو غربى، ويؤمنون بأن ما يصدر عن الأوربيين وحده هو المثل الأعلى فى هذه الحياة,. واحتوت هذه المدارس أبناء الطبقة العليا وصارت وقفا عليها. وأبناء هذه الطبقة هم القادة والحكام ومن سيكون بيدهم بعد قليل مقاليد الأمور. ومن لم يتم نضجه فى هذه المعاهد الوضعية فإن فى البعثات المتلاحقة ما يكفل لهم التمام0
... وفى نطاق الدعوة والإرشاد لم يكن بالساحة غير الأزهر والطرق الصوفية
- الأزهر : الذى ظل حتى وقت قريب مثلا للسلطة الإسلامية الواعية القادرة على احتواء الشعب وتوجيهه ودرء كل سوء عنه .. السلطة التى كان من واجبها النهوض بالأمة فكريا وأخلاقيا، ماديا ومعنويا، اجتماعيا وسياسيا السلطة التى كانت تقف بالأمة فى مواجهة التحدى – كل تحد – على أحسن ما يكون الوقوف وعيا وحكمة وجرأة، هذه السلطة تخلى عنها رجالها بعد أن نسوا رسالتهم وسار كثير منهم فى ركاب الحكام، ووضعت السياسة أصابعها فى شئونهم ففقدوا فاعليتهم وأثرهم على النفوس0(1/26)
- والطرق الصوفية: ملأت قلوب وأدمغة الناس من أتباعهم بالخرافات والأوهام، وصرفتهم عن جوهر التعاليم الإسلامية الصحيحة، ومقاصدها العزيزة الكريمة، وعزلوهم عن الروح الحقيقية للإسلام التى تخلق الرجال.. عزلوهم عن هذه المعانى ونشأوهم على الجهل والخمول والاستسلام، الأمر الذى مكن لأصحاب النفوذ والسلطان من استغلالهم وتسخيرهم فى أغراضهم ومطامعهم0
فكان طبيعيا والحالة هذه أن يتفسخ المسلمون شعباً وزعامات.. تعتصرهم الخلافات، وتفسد أخلاقهم ومعتقداتهم الرذائل والموبقات.. بل كان بديهيا بعد ذلك أن تنشأ فى هذه الأمة أجيال مقطوعة الصلة بالإسلام. وإن أسوأ أما فى الأمر أن المشكلة كانت آخذة فى التعقد يوما بعد يوم، لأن معاول الهدم فى تزايد، والقوى الإسلامية الشعبية ممزقة ضائعة 0
إن هذا الوضع الخطير الذى آلت إليه أحوال المسلمين فى هذا البلد هو الذى حفز البنا – بما حباه الله من غيرة وحس مرهف ووضوح فى الرؤية – إلى المبادرة إلى تعبئة قوى أمته وحشد طاقاتها فى مسيرة واحدة.. مسية واعية هادفة بناءة يكون من مهماتها تحقيق الأهداف الآتية :
أولاً : إعادة ثقة الأمة بدينها على أنه المنهج المؤهل لبناء حياتهم على أحسن ما يكون البناء تماسكا واستقرارا.. على أنه العقيدة القادرة على أن تخوض بهم معترك كل صراع وتحقق لهم النصر والتمكين والاستخلاف0
ثانياً : مواجهة الفلسفات والأفكار الغازية بما يكشف زيفها وانحرافها، ويمنح أمتنا على نقض أصولها وكشف مثالبها وعيوبها 0
ثالثاً : العمل على تنظيف المجتمع من أسباب الانحراف والانحلال، بما يحفظ على الأجيال الأخلاق الكريمة والمثل الرفيعة.
رابعاً : العمل على تكوين طليعة واعية مؤهلة روحيا وفكريا وسياسيا وتنظيميا لاستخلاص المسلمين من الضياع والتيه الذى هم فيه .. لا ستنقاذهم من براثن الجاهلية وضغوطها ومؤثراتها. لجعل القوامة فى حياتهم للإسلام ونظامه .. لتعبيدهم لله فكرا وأخلاقا وتشريعا 0(1/27)
إن كل هذه الأهداف لا يتم تحقيقها إلا برجل قادر على المواجهة والتحدى والتغيير، ولم يكن فى الساحة غير البنا.. ذلك الفتى الذى أدرك تطلع قومه لاستخلاصهم واستنقاذهم من الضياع.. ذلك القائد والمرشد الذى بدت فيه كل ملامح القيادة والإرشاد منذ صباه ومنذ تلمذته فى دار العلوم.. لقد ظهرت فيه كل ملامح القيادة والريادة من وعى وإدراك وإحساس عميق بثقل التبعة وعظم المسئولية سجل الكثير منه فى مذكراته التى ننصح كل عامل للإسلام أن يحرص على قراءتها. وسوف نقتطف هنا موضوع الإنشاء الذى كتبه فى امتحان التخرج من دار العلوم، مبينا كيف نذر نفسه لإرشاد أمته، وكيف كان طريقه منذ البداية واضحاً .. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .. يقول :
( .. كان أستاذنا أحمد يوسف نجاتى – جزاه الله خيرا – مغرما بالموضوعات الدسمة بالإنشاء، وله معنا نكات وتعليقات ظريفة فى هذه المعانى. ومن كلماته المأثورة، حين كان يمل الصحيح هذه المطولات، أن يقول والكراسات على يده ينوء بحملها كما ناء طول ليلة بتصحيحها : ((خذوا يا مشايخ! وزعوا ما تزعمونه إنشاء. عليكم بالقصد يا قوم فالبلاغة الايجاز. والله إنى لا أشبر الإنشاء ولا أذرعه)). ونضحك ونوزع الكراسات0
ومن الموضوعات التى أتحفنا بها بمناسبة آخر العام الدراسى، وكان بالنسبة لى ولفرقتى الامتحان النهائى سنة 1927 الميلادية، هذا الموضوع: ((اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك، وبين الوسائل التى تعدها لتحقيقها))0(1/28)
وقد أجبت عنه بهذا الموضوع: ((أعتقد أن خير النفوس تلك النفس الطيبة التى ترى سعادتها فى إسعاد الناس وإرشادهم، وتستمد سرورها من إدخال السرور عليهم، وذود المكروه عنهم، وتعد التضحية فى سبيل الإصلاح العام ربحا وغنيمة، والجهاد فى الحق والهداية – على توعر طريقهما، وما فيه من مصاعب ومتاعب – راحة ولذة، وتنفذ إلى أعماق القلوب فتشعر بأدوائها، وتتغلغل فى مظاهر المجتمع، فتتعرف ما يعكر على الناس صفاء عيشهم ومسرة حياتهم، وما يزيد فى هذا الصفاء، ويضاعف تلك المسرة، لا يحدوها إلى ذلك إلا شعور بالرحمة لبنى الإنسان، وعطف عليهم، ورغبة شريفة فى خيرهم، فتحاول أن تبرئ هذه القلوب المريضة وتشرح لك الصدور الحرجة وتمر هاته النفوس المنقبضة، لا تحسب ساعة أسعد من تلك التى تنقذ فيها مخلوقا من هوة الشقاء الأبدى أو المادى، وترشده إلى طريق الاستقامة والسعادة 0
((وأعتقد أن العمل الذى لا يعدو نفعة صاحبه، ولا تتجاوز فائدته عاملة قاصر ضئيل، وخير الأعمال وأجلها ذلك الذى يتمتع بنتائجه العامل وغيره، من أسرته وأمته وبنى جنسه، وبقدر شمول هذا النفع يكون جلاله وخطره، وعلى هذه العقيدة سلكت سبيل المعلمين، لأنى أراهم نوراً ساطعاً يستنير به الجمع الكثير ويجرى فى هذا الجم الغفير، وإن كان كنور الشمعة التى تضىء للناس باحتراقها))0
((وأعتقد أن أجل غاية يجب أن يرى الإنسان إليها، وأعظم ربح يربحه أن يحوز رضا الله عنه، فيدخله حظيرة قدسه، ويخلع عليه جلابيب أنسه، ويزحزحه عن جحيم عذابه، وعذاب غضبه. والذى يقصد إلى هذه الغاية يعترضه مفرق طريقين، لكل خواصه ومميزاته، يسلك أيهما شاء :
أولهما : طريق التصوف الصادق، الذى يتلخص فى الإخلاص والعمل، وصرف القلب عن الاشتغال بالخلق خيرهم وشرهم وهو اقرب وأسلم0(1/29)
والثانى: طريق التعليم والإرشاد، الذى يجامع الأول فى الإخلاص والعمل ويفارقه فى الاختلاط بالناس ودرس أحوالهم، وغشيان مجامعهم، ووصف العلاج الناجع لعللهم. وهذا أشرف عند الله وأعظم، ندب إليه القرآن العظيم ونادى بفضله الرسول الكريم. وقد رجح الثانى – بعد أن نهجت الأول – لتعدد نفعه، وعظيم فضله، ولأنه أوجب الطريقين على المتعلم، وأجملهما بمن فقد شيئا (لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )0
((وأعتقد أن قومى – بحكم الأدوار السياسية التى اجتازوها، والمؤثرات الاجتماعية التى مرت بهم، وبتأثير المدنية الغربية، والشبه الأوربية، والفلسفة المادية، والتقليد الفرنجى – بعدوا عن مقاصد دينهم، ومرامى كتابهم، ونسوا مجد آبائهم، وآثار أسلافهم، والتبس عليهم هذا الدين الصحيح بما نسب إليه ظلما وجهلا، وسترت عنهم حقيقته الناصعة البيضاء، وتعاليمه الحقيقية السمحة بحجب من الأوهام يحسر دونها البصر، وتقف أمامها الفكر، فوقع العوام فى ظلمة الجهالة، وتاه الشبان والمتعلمون فى بيداء حيرة وشك، أورثا العقيدة فسادا، وبدلا الإيمان إلحادا 00!))
((وأعتقد كذلك أن النفس الإنسانية محبة بطبعها، وأنه لابد من جهة تصرف إليها عاطفة حبها، فلم أر أحدا أولى بعاطفة حبى من صديق أمتزجت روحى بروحى، فأوليته محبتى، وآثرته بصداقتى))0
((كل ذلك أعتقده تأصلت فى نفسى جذوتها، وطالت فروعها، واخضرت أوراقها، وما بقى إلا أن تثمر، فكان أعظم آمالى بعد إتمام حياتى الدراسية أملان :
(خاص) – وهو إسعاد أسرتى وقرابتى، والوفاء لذلك الصديق المحبوب ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وإلى أكبر حد تسمح به حالتى ويقدرنى الله عليه0
(وعام) – وهو أن أكون مرشدا معلما، إذا قضيت فى تعليم الأبناء سحابة النهار، ومعظم العام قضيت ليلى فى تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة0(1/30)
وقد أعددت لتحقيق الأول معرفة بالجميل، وتقديرا للإحسان و((هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟)) ولتحقيق الثانى من الوسائل الخلقية: ((الثبات والتضحية)) وهما ألزم للمصلح من ظله، وسر نجاحه كله، وما تخلق بهما مصلح فأخفق إخفاقا يزرى أو يشينه، ومن الوسائل العملية: درسا طويلا، سأحاول أن تشهد لى به الأوراق الرسمية وتعرفا بالذين يعتنقون هذا المبدأ، ويعطفون على أهله، وجسما تعود الخشونة على ضآلته، وألف المشقة على نحافته، ونفسا بعتها لله صفقة رابحة، وتجارة بمشيئته منجية، راجيا منه قبولها، سائله إتمامها، ولكليهما عرفانا بالواجب وعونا من الله سبحانه، أقرؤه فى قوله ((إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم))0
((ذلك عهد بينى وبين ربى،ن أسجله على نفسى، وأشهد عليه أستاذى، فى وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير وليل لا يطلع عليه إلا اللطيف الخبير)) ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً))0000)0(1/31)
رأينا كيف كان البنا يعرف ما يريد، ويعرف سبيله إلى ما يريد.. ذلك أنه من أخطر ما يؤثر فى بناء شخصية الداعية، ويقلل أو يزيد من فاعليته وحركته من أجل بناء حضارته الجديدة، انطلاقا من فكرته الإسلامية، هو درجة وضوح فكرته لديه، وشعوره بالثقة المطلقة بها وببساطتها بشكل يستطيع معه دخول معترك الصراع العقائدى الإنسانى، وهو يحمل شعارات واضحة محددة، يسهل عليه مقارنتها مع العقائد والمناهج بسرعة ويسر، ويتبين له من خلال تلك المقارنة الفرق الواضح بين فكرته وبين غيرها من الأفكار والمناهج، ويسهل عليه هذا الوضوح إيصال فكرته إلى عقل كل إنسان شريف وقلبه، فيقنعه بأنها هى الخير المحض، والعلم الخالص والحاجة الملحة.. بهذا التكوين الربانى تمكن حسن البنا وبخطوات الواثق المطمئن من تقديم إسلامه إلى مجتمعه المتخلف وإلى الإنسانية، كحل جذرى لما تعانيه من ضنك وآلام وعذاب. أنظر إليه وهو يجيب عن سؤال وجهه إليه صحفى يطلب منه أن يوضح بنفسه عن شخصيته للناس، فقال رحمه الله ((أنا سائح يطلب الحقيقة، وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس، ومواطن ينشد لوطنه الكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة فى ظل الإسلام الحنيف0
أنا متجرد أدرك سر وجوده، فنادى: إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين 0
هذا أنا، فمن أنت؟؟ 0
0
حسن البنا 00 فى رشيد
فى أوائل سنة 1936م 0000
... كانت قلوبنا متلهفة لرؤية حسن البنا فقد سمعنا عنه كثيرا وتطلعنا إلى رؤيته الشخصية.. فقد كانت له عندنا صورة – قمنا بتكبيرها- وكتبنا تحتها بالخط الجميل – (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)0(1/32)
... وتحدد موعد حضوره إلى رشيد.. وفمنا بعمل الدعاية اللازمة – وقد أوفدنى الإخوان إلى مسجد الجندى- كى أدعو الناس لحضور الحفل – وبعد الصلاة وقفت كى أطلب من المصلين الحضور إلى دار الجمعية للاستماع إلى محاضرة يلقيها الشيخ حسن البنا 00 ولكنى حين وقفت تعلثم لسانى وعجزت عن الكلام000 حيث كانت هذه أول مرة أقف فيها مثل هذا الموقف 00 ولكن الثانى خففوا عنى وسألونى عن قصدى – قلت لهم ما أريد بأسلوبى العادى وانصرفت فى خجل شديد 00 ولكن الإخوان بعد ذلك نصحونى أن أستند عند الكلام إلى احد أعمدة المسجد حتى يمتص رعدتى وخوفى0
... وجهز الإخوان مكان الحفل تجهيزا لائقاً ومنظما.. وذهبنا فى مجموعة كبيرة على أرسها الأستاذ أحمد السكرى.. والحاج محممود عبد الحليم الكبير رئيس الجمعية – وتوجهنا إلى محطة السكة الحديد لاستقبال حسن البنا وصحبه 0
... واقترب القطار وتطلعت العيون وتلهفت القلوب وتشوفت الأرواح – لرؤيةب فضيلة الأستاذ المرشد العام .. الذى سوف نراه لأول مرة وتهادى القطار حتى وقف.. ونزل جمع من الإخوان فتسابقنا للسلام على الأستاذ المرشد العام .. ومع كوننا نعرفه من الصورة إلا أننا قمنا بالتسليم على شخص آخر كان يرتدى الجبة والعمامة وجسمه كبير – فكان الرجل فى حرج شديد وهو يشير إلى شخصية حسن البنا .. ويقول هذا هو فضيلة المرشد العام.. ولم يكن هذا الشيخ سوى الشيخ سرحان عدوى من جمعية الإخوان المسلمين ببلدة (بنى مجد) – بمنفلوط قبلى الذى كان فى صحبة فضيلة المرشد مع السيد محمد حامد أبو النصر من أعيان منفلوط قبلى0
... والتففنا حول فضيلة المرشد نسلم عليه ونحاول كعادتنا مع من هو أكبر منا أن نقبل يده ولكنه كان يمتنع عن ذلك بشدة وسرنا فى موكب المرشد العام على الأقدام من محطة السكة الحديد إلى دار الجمعية 00(1/33)
... حتى إذا اقتربنا من دار الجمعية رأى الأستاذ البنا صورته موضوعة فوق منصة الخطابة وكنت أسير بالقرب منه ولم يكن سنى قد تجاوز السابعة عشرة فربت على كتفى بيده وقال لى لمن هذه الصورة؟ فقلت له –إنها صورة الشيخ البنا. فقال لى – إذا كان الشيخ البنا موجود شخصيا فما الداعى لوجود هذه الصورة .. اذهب فأنزلها0
... فصعدت فوق منصبة الخطابة كى أقوم بخلع الصورة ولكن الإخوان صاحوا.. قال لهم الأستاذ البنا أنا أمرته بإنزالها. فأنزلتها 0
... وكانت هذه أول صلتى بالأستاذ البنا.. وكان أول درس فى التوجيه والتربية تأثرت به تماما.. وإن لم أكن قد فقهت بعد، غير أن الضمير والقلب يعى دائماً الدروس الصادقة 0
... وبعد صلاة العشاء فى مسجد المحلى توجه الأستاذ البنا إلى دار الجمعية- حيث امتلأت جميع الساحة المحيطة بها بأهالى رشيد ووجهائها وأعيانها، وفى مقدمتهم علماء رشيد الذين كنوا على مستوى كبير فى العلم والتقوى0
... وافتتح الحفل بالقرآن الكريم 0
- ثم قامت مجموعة من شباب الإخوان وألقت نشيد يا رسول الله هل – يرضيك أنا 0
- ثم قام الأستاذ أحمد السكرى فألقى كلمة حماسية شدت أنتباه الناس 0 ثم قال الأخ عبد الكريم بهلول وكان فى وقتها لا يزال طالبا بالمعهد الدينى فألقى قصيدة جاء فيها :
رأيت المجد فى مرساك يرسى
فجئت اليوم أفديكم بنفسى
وأبدى أن فى بلدى رجالا
لهم روحى وإيمانى وحسى
إذا ناديتهم للحق جاءوا
إلى الميدان فى أبهى الدمقس
يحبون الكفاح ليستردوا
إلى قدس الشريعة كل قدس
لهم فى الموت معنى سرمدى
جميل قد خلا من كل لبس
فيا من فيك آمالى تسامت
وكنت التاج إن توجت رأسى
يهنئكم بعيد الفطر شهم
وعى من نور هديك كل درس
ويرجو أن تكون حليف يمن
مع الأخوان فى عز وبأس(1/34)
... ثم تقدم الأستاذ حسن البنا بجلبابه الأبيض وعباءته الحجازية فى خطى وئيدة إلى المنصة وتعالت الهتافات (الله أكبر والحمد لله) ووقف برهة صامتا – والناس قد سادهم السكون وكأن على رؤوسهم الطير – ثم بدأ بحمد الله تعالى وأثنى عليه 00 وسبح بنا فى معان رقيقة رطب بها قلوبنا وأرواحنا 00 ثم قال :
... أيها الإخوان فى رشيد 00 أرجو أن لا تعتبرونى زائر أو ضيفا – فلعل كثيرا منكم لا يعرف أننى من مواليد المحمودية وهى تبعد عن رشيد ثلاثين كيلو مترا ولقد كانت المحمودية فيما مضى من أعمال محافظة رشيد وبهذا لا تعتبرونى ضيفا فإنما أنا من أبناء هذه المنطقة وكذا والدى الشيخ عبد الرحمن قد تتلمذ هنا فى مسجد زغلول على أيدى علماء رشيد الأفاضل وذكر بعض أسمائهم 0
... ثم لا تظنوا أيها الأخوة أننى جئت كى أعلمكم الإسلام 00 وفى بلدكم هذا نبع العلم وولد العلماء 00 فلا تظنوا أننى إنما جئت كى أشرح لكم أو أبين لكم الحلال من الحرام فهذا أمر فطرى معلوم للعامة قبل الخاصة – بل إن الحيوانات الأعجمية لتعرف الحلال من الحرام – ولا أدل على ذلك من أن أحدكم حين يتناول طعامه ثم اقتربت منه قطة فأعطاها بيده لقمة من الخبز – فإن القطة سوف تأكلها وهى آمنة مطمئنة أما إذا بخلت عليها بقطعة الخبز فإنها فى هذه الحالة سوف تسرقها ولا تلبث أن تجرى بعيداً عنك وهى خائفة منك تترقب أن تقوم لتضربها.. من الذى أودع فى روعها أنها فى المرة الأولى أكلت حلالا وفى المرة الثانية أكلت حراما؟
... إذا كان هذا هو شأن الحيوان فما بالكم بالإنسان؟
... إننى لم آت إليكم من أجل ذلك فأنتم ولله الحمد على بينة من كل هذا بفضل هؤلاء العلماء الأجلاء00(1/35)
... ولكننى قصدت إلى أن أقول لكم هل الإسلام الذى ارتضاه الله تعالى لنا هو ذلك الإسلام الذى نعيشه اليوم فى معاملاتنا وفى بيوتنا وفى مدارسنا وفى محاكمنا وفى كل أحوالنا.. هل المسلمون اليوم .. هم المثل الذى ينطبق مع تعاليم الإسلام وأحكام القرآن – هل المسلمون ينطبق عليهم قول الله تعالى : (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) واستطرد حسن البنا يقارن بين إسلام الأمس وإسلام اليوم وبين مسلمى الصدر الأول ومسلمى هذا العصر .. مع الاستدلال بآيات القرآن الكريم التى كانت تواتيه بسرعة أذهلت العلماء الذين دهشوا لسرعة بديهة الأستاذ وسرعة ملاحقة الآيات القرآنية حين يحب الاستشهاد بها0
... ولقد تعود الناس كما تعود العلماء .. أن يأتوا فى أول أحاديثهم بالآية الكريمة ثم يقوموا بتفسيرهم .. ولكن الأستاذ حسن البنا خالف هذا المنهج فى التفسير فهو يأتى بالموضوع حتى إذا استكمله وأصبح واضحاً فى ذهن المستمع ختمه بالآية القرآنيةب فتأتى تسجل المعنى وتزيده جلاء ووضوحا بل إنها تنزل على قلب المستمع بردا وسلاما وانشراحا 0
... وبعد أن طاف بنا وأفاض وملك قلوبنا ومشاعرنا أعاد علينا تلخيصا لما قال ثم اختتم حديثه بين تطلع الناس إلى المزيد وتلهفهم إلى السلام عليه 0
... وأنهى حديثه ثم نزل من المنصة ووقف يسلم على جماهير الناس 0(1/36)
... ثم أتخذ مجلسه بعد ذلك إلى جوار المنصة إلىالدار .. وبدأ الذين تأثروا بخطبته يقتربون من مجلسه . وبدأ هو يرحب بهم ويفسح لهم فى المجلس – حتى إذا لم يعد فى الدار غيرهم – طلب منا أن نجلس معه بعض الوقت داخل الدار فى إحدى الحجرات – ثم بدأ يتعرف ويسألنا عن أسمائنا. وبعد أن تم التعارف أخذ يحدثنا حديثا خاصا يتقرب به إلى قلوبنا ويتعرف به على أحوالنا وكان ينادينا بأسمائنا التى سرعان ما حفظها – وكان كلما ذكر اسم أحدنا نظرنا إلى هذا الأخ ونحن فى دهشة . كأنما ظننا أنه يعرفه قبلنا وسرعان ما ينادينا نحن بأسمائنا. وفى ختام هذا اللقاء طلب منا الأستاذ السكرى أن نأخذ من الأستاذ البنا بيعة0
... وفى اليوم التالى للحفل – توجه الأستاذ المرشد لزيارة جمعية تحفيظ القرآن الكريم ثم زيارة بعض أعيان المدينة (رشيد) ثم ودعناه أحر وداع حيث غادرنا إلى القاهرة مصحوبا برعاية الله بعد أن ترك فى نفوسنا جميعا أطيب الأثر وأعمق الفهم لدعوته ورسالته 0
بركة التوكل على الله
... ... حين حصلت على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية فى عام 1939 توجهت إلى القاهرة لأبحث عن عمل، والتقيت بفضيلة المرشد العام رحمه الله فى دار المركز العام بالحلمية الجديدة، وبعد أن رحب بى فضيلته سألنى عن سبب حضورى للقاهرة 0
... قلت : لأبحث عن عمل 0
... قال : ألم تفكر فى التطوع لمدرسة الصناعات الميكانيكية الحربية؟
... قلت : إن خريجى المداس الصناعية معفون من خدمة الجيش !!
... قال : لكن رسالتنا توجب علينا الخدمة فى هذا الميدان 0
... قالت : لا مانع، ولكن سوف لا أنجح فى الكشف الطبى حيث أن إحدى عينى عليها سحابة مزمنة0
... قال : توكل على الله وأنت تنجح 0
... قلت : كيف أنجح فى الكشف الطبى وعينى على هذه الصورة؟
... قال : من أجل هذا قلت لك توكل على الله لأنه لو كانت عينك سليمة كنت ستتوكل على عينك0(1/37)
... فهزنى هذا المعنى هزا عنيفا وتذوقت له طعما إيمانيا جديدا. وتوجهت إلى مدرسة الصناعات الحربية بالعباسية متوكلا على الله، واصطحبنا أحد الضباط مع بعض الزملاء إلى المستشفى العسكرى وكلى ثقة وأمل فى النجاح وبعد الكشف الطبى الكامل كنت ضمن من نجح فى الكشف الطبى. والتحقت بالمدرسة وأخذت حياتى مساراً جديداً لم يكن فى الحسبان 0
... ولا أنسى أنه حين قامت الحرب العالمية الثانية استعجلت وزارة الحربية تخرجنا لنذهب إلى الميدان فى الصحراء الغربية. وكان (ضرب النار) من مواد الامتحان، وذهبت مع زملائى البالغ عددهم حوالى المائة طالب إلى ساحة (ضرب النار) وأنا شديد الأسى والألم حيث أخشى أن أرسب فى هذا الامتحان بالنسبة لضعف عينى اليمنى، ولكنى سرعان ما تذكرت كلمة الإمام (توكل على الله وأنت تنجح) وفعلا أشربت روحى هذه العقيدة واستيقنتها، وتوجهت إلى تبة (ضرب النار) بكل ثقة واطمئنان واستعملت عينى الأخرى وفى النهاية وقف (الصاغ) حسين أحمد قائد التبة ليعلن : أن الفائز الأول هو عباس السيسى0
... وكانت مفاجأة مذهلة للذين يعرفون الحقيقة.. ولكنها كانت من حقائق صدق التوكيل على الله تعالى0
... وظلت (توكل على الله) حقيقة مشفوعة بهذه الأحداث فى حياتى، عهقيدة ثابتة ثلازمنى فى كل المواقف الصعبة التى مرت بى أتذكرها بعمق وثقة وتعطينى الأمل والاطمئنان والصبر والثبات0
... هذا ولقد فهمنا من حسن البنا حقيقة التوكل كل بنفس فهم المسلمين الأوائل على أنه بذل الجهد فى حدود الطاقة البشرية، ثم ترك التدبير إلى من بيده التدبير.. لقد كان هذا الفهم مفتاح كل خير وبركة ووقاية من كل شر0(1/38)
... وعلى هذا الفهم قامت تربية المرشد العام، فالتوكل من لوازم كمال الإيمان.. ذلك أن الإنسان المؤمن هو الإنسان الوفى بواجبات خلقعه وعبوديته لله، وهو الإنسان التقى المنصاع دائماً لأمر خالقه فى كل شأن من شئون الحياة النازل عند حكم الله فى كل قضية وموضوع.. وصفة التقوى فى الأخ المسلم لم تكن تتوفر إلا بالتربية والتعهد الدائبين المتوافقين مع أصول الإسلام وأحكامه حتى تتحق ولادة الفئة المؤمنة الممتثلة لأمر الله، المستعدة للجهاد فى سبيله، المتحرية لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التى لا يضرها من خالفها حتى يأتى أمر الله0
... 00 على هذا الفهم اندفع الإخوان المسلمون يجاهدون لإعلاء كلمة الله بعزيمة وإصرار لا يلوون على شىء ولا يلتفتون إلى إغراء (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) (1) ، فقد بصرهم إمامهم بحقيقة التوكل فى شريعة الإسلام، على أنه إدراك للمسئولية والواجب وعمل جاد مخلص يحمله أمناء بررة، ثم هم بعد ذلك يفوضون الأمر إلى الله، يرضون بقدره واختياره0
__________
(1) سورة آل عمران : 173(1/39)
... 00 على هذا الفهم الصحيح اندفع الإخوان كما اندفع المسلمون الأوائل، الذين لم يعللوا أنفسهم بالأمانى ولم ينتظروا أن ينصرهم الله بطريقة سحرية غامضة الأسباب! فظهر منهم من روائع الأعمال، من صبر عند الشدائد، وصدق عند اللقاء، وبذل وتضحية عندما تتطلب أمور المسلمين البذل والتضحية، وسعى دائب فى طلب المعاش ثم الرزق بعد ذلك بيد الله لا بيد أحد سواه، وضرب فى الأرض يفتحون البلدان ويعمرونها، ويزبحون عن الطريق أعداء الله وأعداء الإنسان، وكان العمل الدائب المستمر على أساس من الكفاية التامة فى كل ناحية من نواحى الحياة – اقتصادية وسياسية واجتماعية – فأرغموا العالم على أن ينحو نحوا جديدا ويتخذ مسيرا على منهج الله لا مكان فيه للأهواء والأغراض والعصبيات ولا مجال فيه للأثرة والأنانية، ذلك هو العهد الإسلامى الذى لا يزال غرة فى جبين التاريخ 0
... لقد علمنا – رضى الله عنه – أن مدلول التوكل لابد أن يقوم على فهم عميق لهذا الدين، وأن الله سبحانه وتعالى يساعد من يجاهد للهدى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (1) ، وأنه يغير حال الناس حين يغيرون ما بأنفسهم، وأنه لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم : (أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (2) ، فهناك علاقة لا تنفك بين الجهد البشرى الذى يبذله الناس، وعون الله ومدده الذى يسعفهم به، فيبلغون به ما يجاهدون فيه من الخير والهدى والصلاح والفلاح. فإرادة الله هى الفاعلة فى النهاية، وبدونها لا يبلغ ((الإنسان)) بذاته شيئا، ولكن هذه الإرادة تعين من يعرف طريقها، ويستمد عونها، ويجاهد فى الله ليبلغ رضاه 0
... وقد ارتبط هذا الفهم للتوكل ارتباطا وثيقا بقوة الدولة الإسلامية الأولى وتبوئها مكان الصدارة بالنسبة لدول الأرض وشعوبها، فكانت خير أمة أخرجت للناس 0
__________
(1) سورة العنكبوت : 69
(2) سورة الرعد : 11(1/40)
... كما ارتبط انحطاط الدولة الإسلامية وبلوغها تلك الدرجة من التخلف فى شتى الميادين بالتواكل وفقدان الوعى بفقدان إدراك طبيعة هذا الدين واعتماده على كواهل البشر وطاقاتهم من أجل إقامته والتمكين له، فخضعت الشعوب الإسلامية إلى من ليسوا من أبنائها واستجابت لكل دعوة ليست من دينها وسكنت عن كل نيل من كرامتها، وتحملت كل ضيم ورضيت بكل هوان واستوى عندها الناصح والغاش، فسهل قيادها إلى حتفها وهلاكها، وهى راكنة إلى الذين ظلموا، مستسلمة إلى الذين خانوها، مكتفية بأن تلك أقدار مقدرة وهى لا تعلم بأن ذلتها من كسبها وتواكلها، وأن ضعفها يرجع إلى ركونها إلى غيرها، وأن تخليها عن قيادة البشرية يرجع إلى عدم فهمها لحقيقة هذا الدين ورفضه الذلة والهوان لأبنائه مهما كانت قلة عددهم وضعف عدتهم 0
... ولقد كان تحول حياة المسلمين منالعمل المخلص الجاد والتوكل على الله إلى الدعة والتواكل والاستسلام إلى المقادير، هو السبب فى تحول القيادة عن الأمة المسلمة إلى غيرها، وأصابتها بعوامل الضعف التى منيت بها وانقلب عندهم ما كان واجباً من الدين من علم يتبعه عمل، محظوراً فيه 000
... وما على المسلمين إذا أرادوا أن يضعوا أيديهم على بداية الطريق إلا أن يعتصموا بدين الله، واضعين نصب أعينهم ما أمرهم الله به من كتابه وسنة نبيه، فينهضوا كما سبق لاسلافهم أن ينهضوا، فيستردوا مفقودا، ويحفظوا موجودا، وينالوا عند الله مقاما محمودا، مع وعد من الله قاطع بنصرهم، والتمكين لهم أخذه علىنفسه فى قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكن لهم دينهم الذى ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا) (1) 0
حسن البنا 00 وهذا القرآن
__________
(1) سورة النور : 55(1/41)
... استقبلنا حسن البنا على محطة السكة الحديد بالاسكندرية قبيل المغرب فى أحد أيام عام 1937، حيث كان على موعد ليلقى كلمة فى الاحتفال بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم فى مسجد نبى الله دانيال. وكنا فى هذا الوقت قلة من الشباب، فلما دخلنا المسجد وقف جمهور المصلين فى دهشة واستغراب لأنهم لأول مرة يشاهدون شبابا يدخل المساجد، فهم جميعا من المعمرين الذين تجاوزت أعمارهم الستين عاما 0
... إن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بنزول القرآن الكريم، فلولا هذا الكتاب ما عرف المسلمون شخصية الرسول العظيم، لهذا كان لزاما علينا أن نتعرف على هذا الكتاب الكريم0
... وقال : إن مثل كتاب الله كمثل ساعة، بعض الناس يتركونها فيلعبون بها ولا يعرفون قيمتها، وبعض الناس يستفيدون من إصلاحها، وآخرون هم الذين يستعملونها فى الغرض الذى صنعت من أجله.. وهكذا كتاب الله تعالى بعض الناس يعلقونه على الأبواب يضعه تحت وسادته عند النوم وهؤلاء كالأطفال، وآخرون يقرأونه فى الحفلات أو المقابر وهؤلاء هم الذين يتقاضون أجرا عليه، وقليل من الناس يتعامل مع القرآن فيشرحه ويعلمه ويلتزم بتعاليمه وهؤلاء هم الذين يضبطون به حياتهم ويجاهدون به فى سبيل إقامة الدولة المسلمة لذلك فنحن نعمل جاهدين، لكى يصبح القرآن دستورنا0
... لا دستور لنا إلا القرآن.. فلم ينزل القرآن من علياء السماء على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون تميمة يحتجب بها أو أورادا تقرأ على المقابر وفى المآتم أو ليكتب فى السطور ويحفظ فى الصدور فقط، أو ليحمل أوراقا ويهمل أخلاقا، أو ليحفظ كلاما ويهجر أحكاما 0
... وإنما نزل ليهدى البشرية إلى السعادة والخير (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم)()0(1/42)
... أليس من العيب أيها المسلمون أن ترضوا بأحكام الإفرنج ولا ترضوا بحكم الله، مع أن الله تعالى قد وصم كل أمة لا تحكم بأحكام كتابه بالفسق فقال : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)() بل جعل الفسق هينا فوصمها بالظلم (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)()0
... إن مثلكم أيها المسلمون عندما تركتم كتاب الله وراءكم، كمثل الرجل الذى بيده المصباح، فيأبى إلا أن يطفئه، ويلتمس غيره عند العميان 0
... وأن مثل موقف المسلمين اليوم من كتاب الله تعالى، كمثل جماعة أحاط بهم ظلام من كل جانب، فساروا على غير هدى يخبطون خبط عشواء مع أن فى أيديهم مفتاح كهرباء لو وصلت إليه أصابعهم، يستطيعون بحركة بسيطة أن يضيئوا مصباحا قويا زاهرا 000 هذا مثل موقف المسلمين اليوم من كتاب الله0
... وإن العالم الآن، قد غشيته موجة مادية، فجعلته كسفينة حار ربانها وأتت عليها العواصف من كل جانب، فالإنسانية قلقة معذبة، قد اكتوت بنيران المطامع والأغراض، فهى فى حاجة إلى عذب من هدى القرآن يغسل عنها أو ضار الشقاء ويأخذ بها إلى السعادة 0
... وإن علماء القانون، عندما تركوا القرآن، واتجهوا إلى غيره: مثلهم كمثل الرجل الذى تكدست خزائنه بالأموال، ثم يتجه إلى المرابين ليقترض منهم بأفحش الفوائد الربوية، ولا يفعل ذلك عاقل أبدا 0
... ويحى على ساسة القانون ويحهم
... ... ... ... ... ... على جهود أضاعوها وما وجدوا
... وبين أيديهم القرآن يوردهم
... ... ... ... ... ... أسمى المناهج والأحكام لو وردوا
أيها المسلمون :(1/43)
ليس من العجب أن هؤلاء الغربين، الذين لم يفتح الله بصائرهم على نور القرآن الكريم يسيرون على غير هدى لأن الله تعالى يقول: (ومن لم يجعل الله نورا فما له من نور) (1) ، ولكن العجب فى هؤلاء المسلمين، الذين لا يخلوا جيب من جيوبهم ولا بيت من بيوتهم من نسخة من كتاب الله تعالى 00 هؤلاء المسلمون، استطاع الغربيون أن يبعدوهم عن نور قرآنهم وهدى نبيهم تارة بالشهوات وطورا بالقوة والعلم (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) (2) حتى أصبح المسلمون كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه)) قالوا : اليهود والنصارى يا رسول الله . قال : ((فمن غيرهم)) (3) 0
هذا مع أن الله تعالى حذر المسلمين من ذلك فقال (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا فتنقلبوا خاسرين، بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) (4) عجبا عجبا!!
إن دعا الغرب للفوضى أستجيب له
... ... ... ... ... وتنزووا إن دعا القرآن والرشد
يا لهف نفسى على القرآن قد غدا
... ... ... ... ... يودى بأحكامه أبناءه العقد
العالم العربى اليوم فى محن
... ... ... ... ... تشقيه فوضى عليها الغرب يعتمد
هذا هو القرآن الكريم الذى اتخذناه نحن الإخوان المسلمون قانونا لنا ودستورا نستمد منه نورا ونستلهم منه رشدا، فهو المنقذحين تترى الخطوب والمحن وهو المخرج من ربقة الذل وضلال الفتن، وهو الصالح لكل جيل فى أى عهد أو زمن 0
__________
(1) سورة النور : 30
(2) سورة الروم : 7
(3) رواه الشيخان
(4) سورة آل عمران : 149(1/44)
وبعد انتهاء الحفل خرجنا مع حسن البنا وركبنا (حنطورا) وأخذنا نجوب حفلات المولد المنتشرة فى المدينة كالعادة فى هذه الأيام. وكنا نستأذن من القائمين على الحفل ليشارك الأستاذ البنا بكلمة فى الذكرى وكثيرا ما كان الصخب يسود هذه الأحفال، فعادة المجتمع فى مثل هذه المناسبات لا يعطى للذكرى جلالها ولا للمتحدث الجو المناسب، ولكن لم يكن هذا المسلك يسبب لنا يأساً أو تراجعاً0
وبعد انتهاء الأستاذ من هذه الجولة ذهبنا إلى دار الإخوان بعمارة ماجستيك بالمنشية، وهناك سمعت من حديثه.. أنه عندما قام الإخوان بعمل مظاهرات فى البلاد انتصارا لقضية فلسطين عام 1936 استدعاه رئيس النيابة فى القاهرة للتحقيق معه، وقبل أن يدخل مكتب النائب العام تقدم أحد المحامين يطلب من فضيلته أن يدخل معه أثناء التحقيق. ولكن الأستاذ لاحظ أن المحامى يمسك (بسيجارة) مع العلم بأن الوقت فى شهر رمضان المعظم، فقال له الأستاذ المرشد: نحن لا نستعين بمن يعصى الله فى طاعة الله تعالى 0
كما أذكر أننى ذات يوم، وكنا نعود من جولة داخل مدينة الاسكندرية قلت لفضيلته: أنا غاضب وحزين ومتألم يا فضيلة المرشد. أليس من أهدافنا تحرير الوطن الإسلامى من كل سلطان أجنبى؟
قال : نعم . قلت : فكيف علمت أن روسيا الشيوعية قد اقتحمت دولة ألبانيا المسلمة.. وبهذا بدل أن نحرر وطننا من الاستعمار فقد ضاع منا وطن آخر !!
قال : وهل أنت متألم إلى هذا الحد؟ قلت : جدا
قال : وهذا هو المطلوب . قلت : وكيف ذلك؟
قال : لو أن كل المسلمين تألموا مثلك نكون قد بدأنا الطريق، فنحن أولا فى حاجة إلى يقظة وصحوة، فالجسم الميت لا يشعر بالألم 0(1/45)
فعلمت أن عودة الوعى هو بداية الطريق فى نهوض هذه الأمة 0كما أذكر حين كان الأستاذ المرشد يسير فى شارع شريف (صلاح سالم) – بالاسكندرية فى طريقنا إلى محطة السكة الحديد للعودة إلى القاهرة، كان الشارع مزدحما (بالخواجات) بل هم الكثرة الكاثرة، وكانوا فى أوج العزة والكرامة كما كانوا فى أبهى وأنظف صورة، فنظر إلينا فضيلته، وقال : أتدرون لماذا يتمتع هؤلاء (الخواجات) بهذا المجد وهذا السلطان وهذه السعادة؟! .. إنهم جاهدوا وكافحوا وقاتلوا واستعذبوا الغربة والبعد عن أوطانهم، وبعد أن حققوا كل ما يتطلعون إليه من مجد بجنون الآن ثمار جهادهم. ونحن الآن لا ينبغى لنا أن نتطلع إلى هذه المظاهر من الراحة والسعادة التى نشاهدهم فيها قبل أن نحقق أهدافنا فى تحرير بلادنا وتحكيم قرآننا ليتحقق لنا مجتمع إسلامى فيه العزة والأمن والسعادة لكل مسلم، والطريق طويل والأمل فى الله كبير 0
وهكذا جاء حسن البنا – كما يقول روبير جاكسون – إجابة طبيعية لقول ((غلادستون)) حينما وقف فى مجلس العموم البريطانى وهو يحمل ((المصحف))، ويقول : ((ما دام هذا الكتاب باقيا فى الأرض فلا أمل لنا فى إخضاع المسلمين0
ودهش الناس يومئذ ! ماذا يقصد ((غلادستون)) من هذا القول، فقد كان المصحف موجوداً إذ ذاك، ولكنه لم يكن موجوداً على الوجه الذى يخشاه ((غلادستون))0
لقد كان الناس فى الشرق قد طوتهم ظلامات القرون. وأفسدت عقائدهم، أقوال العلماء من صنائع السلطان، الذين أغلقوا باب الاجتهاد وأفتوا لصالح الحاكم الظالم، فلم يكونوا يفهمون من القرآن إلا أنه كتاب الله يقرآونه على القبور وفى الصلاة 0
حتى جاء حسن البنا على أثر نداء غلادستون، ليقول للناس، إن خطر هذا الكتاب الذى يخشاه المستعمرون، ليس لآن آيات تقرأ فى الصلاة أو ترددها الشفاه، وإنما لأنه كتاب تشريع وقيادة، وإمامة وحكم 0(1/46)
وإنما يخشى الغرب روح الإسلام لو تبدت، دبت اليقظة فى أوصاله فأفسد ذلك على المستعمرين أغراضهم. وقامت فى الشرق أمة تحب الموت فى سبيل الحرية والكرامة والعزة 0
وكان حسن البنا هو الرجل الذى أخرجه الله ليكتب هذه الصفحة الجديدة فى تاريخ الشرق الحديث. أ.هـ.
حسن البنا .. يحافظ على جوهر الدعوة
... كان ذلك فى مؤتمر الطلاب للإخوان المسلمين الذى انعقد بدار جمعية الشباب المسلمين بالقاهرة عام 1938 حين وقف حسن البنا للخطابة إذ تحمس أحد الإخوة من الطلاب فهتف حياة حسن البنا – وبرغم عدم استجابة الحاضرين لهذا الهتاف – إلا أن فضيلته وقف صامتا لا يتحرك برهة، فاتجهت إليه الأنظار فى تطلع.. ثم بدأ حديثه فى غضب فقال :
... أيها الإخوان إن اليوم الذى يهتف فى دعوتنا بأشخاص لن يكون ولن يأتى أبدا، إن دعوتنا إسلامية ربانية قامت على عقيدة التوحيد، فلن تحيد عنها0
أيها الإخوان إن اليوم الذى يهتف فى دعوتنا بأشخاص لن يكون ولن يأتى أبدا، إن دعوتنا إسلامية ربانية قامت على عقيدة التوحيد، فلن تحيد عنها 0
أيها الإخوان لا تنسوا فى غمرة الحماس الأصول التى آمنا وهتفنا بها (الرسول قدوتنا) (إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) (1) 0
وبهذا الموقف وضع الإمام الشهيد شباب الدعوة أمام صورة حية للمحافظة على جوهر الدعوة والاستمساك بها وعدم التعلق بأشخاص مهما تكن مراكزهم فى مسيرة العمل الإسلامى0
__________
(1) سورة الأحزاب : 56(1/47)
وفى مدينة رشيد أقام الإخوان حفلا بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج على صاحبهما أفضل الصلاة والسلام. وحين جاء أحد المتكلمين فى الحفل وقد كان من المتحمسين لنشر دعوة الإخوان، قام متحدثا إلى الناس فقال: إن مثلنا الآن من فضيلة الأستاذ المرشد وهو يشير إليه، كمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه. وما كاد الأستاذ المتحدث ينتهى من هذه العبارة حتى قفز الإمام الشهيد إلى المنصة ثم اتجه إلى الناس قائلاً :
أيها الإخوة معذرة إذا كان الأستاذ المتحدث قد خانه التعبير، فأين نحن من تلامذة تلامذة رسول الله صلى الله عليه وسلم 0
ثم نزل إلى مكانه ولم يستطع الأستاذ المتحدث إكمال الحديث كما بدأه0
وفى اليوم التالى انقطع اتصاله بالإخوان فى الاسكندرية وبعد مدة أعلن عن تكوين جمعية التقوى والإرشاد!
لم يكن فى استطاعة ((البنا)) السكوت على هذه التصرفات.. ذلك أنها كانت تمس الأصل الكبير الذى قامت عليه دعوته وجماعته، فقام ليعذر إلى الله فى التو واللحظة ويقطع مسلكاً من مسالك الإنحراف فى طريق الدعوة وأساسها الربانى. فهو الذى علم الإخوان لا يهتفوا باسم أحد إلا الله، ولا يعظموا شخصا ولا يحيوا إنساناً إلا الرسول الكريم0
استمع إليه وهو يشرح هذا الهتاف ويعمق معانيه فى النفوس حين يقول :
الله غايتنا :
إن دعوة الإسلام أيها المسلمون مبدؤها ومنتهاها أن يتصل الناس بالله صلة حقيقية تطهر من قلوبهم وتغير من نفوسهم وأن يتعرفوا عليه تعرفا حقيقياً وهى الغاية التى قامت عليها السموات والأرض وبعث لأجلها النبيون ويقوم بها الصالحون 0
فالناس لا ينصلحون ولا تنصلح أحوالهم إلا إذا عرفوا ربهم00 نريد نحن الإخوان أن نقيم الناس على أمر الله، وذلك لن يكون إلا إذا عرفوه وتفتحت قلوبهم عليه0(1/48)
فإذا لامست معرفة الله قلب الإنسان تحول من حال إلى حال، وإذا تحول القلب تحول الفرد، وإذا تحول الفرد تحولت الأسرة، وإذا تحولت الأسرة تحولت الأمة وما الأمة إلا مجموعة أسر وأفراد 0
فإننا حينما نهتف ((الله غايتنا)) فإنما نريد أن تعلوا كلمة الله علي كل كلمة وأن يسود تشريع الله على كل تشريع وأن يصبح المسلمون جميعا ربانيين0
إذن فغايتنا الله، لأننا ندعو الناس إلى الله، ونجمعهم على الله، ونعرفهم بالله، ونحن نعلم أننا ما خلقنا فى هذا الوجود إلا لعبادته (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (1) .. ويقول الله تعالى فى الحديث القدسى: ((يا عبادى ما خلقتكم لأستكثر بكم من قلة، ولا لأستأنس بكم من وحشة، ولا لأستعين بكم على أمر عجزت عنه، ولا لجلب منفعة، ولا لدفع مضرة، وإنما خلقتكم لتعبدونى طويلا وتذكرونى كثيرا وتسبحونى بكرة وأصيلا ))0
ونحن نأتمر بما أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إذ قال له : (قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (2) 0
وننتصح لما نصح به الرسول صلى الله عليه وسلم ابن عمه عبد الله بن عباس إذ قال له : ((إحفظ الله يحفظك. إحفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشىء، لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك. جفت الأقلام وطويت الصحف))()0
فنحن لا نتوكل إلا على الله، ولا نطلب إلا من الله. ولا نخاف إلا الله. فلن نضام ما دام معنا الله، فنحن فى نعيم دائم ولو تكاثرت علينا مصائب الدنيا (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب()0
الرسول زعيمنا :
__________
(1) سورة الذاريات : 56
(2) سورة الأنعام : 162(1/49)
إننا لم نتخذ زعيما من الناس ينعق لنا وننعق له، ويهتف لنا ونهتف له . ولكنا بعثنا محمدا فى نفوسنا وأحييناه فى ضمائرنا 0
إن الرسول لحى فى ضمائرنا
... ... ... ... على الزمان يرى منا ويستمع
... كأن والله فى التنزيل قارؤه
... ... ... ... يحس صوت رسول الله يرتفع
فهو صلى الله عليه وسلم زعيم بكل ما فى معنى الزعامة من قوة وسؤدد لا يداينه فى زعامته أحد من الناس، ولا يضاهيه فى سياسته سواه من الخلائق.. قوة وشدة فى غير عنف، ولين فى غير ضعف، ويقظة لا تلحقها الغرة، وفراسة تخترق حجب الضمائر، كأنما تحدثه من أمر عواقبه. ثم بعد ذلك تأييد من الله تتبعه العصمة ويمده التوفيق، وأية زعامة أخلد على الدنيا من زعامة محمد صلى الله عليه وسلم، وأية سياسة أروع من سياسته التى انتجت فى عشر سنين، أمة وحضارة ودولة فى حين لم يكن العرب لا يعرفون شيئا من ذلك، إلا أنها زعامة أشار إليها صلى الله عليه وسلم بنفسه فقال : ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر)) 0
فكم من زعماء زالت زعامتهم بمرور الزمن عليهم.. أما زعامته صلى الله عليه وسلم فلا تزال فى ازدياد، وآثار شريعته فى نمو واضطراد، فلا يزيدها تقدم العصور إلا ظهور وانبلاجا، وشدة النقد والتمحيص إلا قوة وثباتا000
كم من زعامة سيد لو محصت
... ... ... ... ... يأتى عليها النقد لا تتجلد
يبنون مجدهم على قهر الورى
... ... ... ... ... والمجد يبرأ منهم والسؤدد
الفتح عندهم هوى وتعسف
... ... ... ... ... وممالك تهوى وأخرى تخمد
دستورك القرآن أما ذكره
... ... ... ... ... فهدى وأما حكمه فمسدد(1/50)
تعالوا يا زعماء اليوم نلق عليكم درسا من زعامة محمد 00 إن فيكم زعماء أحزاب وليس فيكم زعيم أمة، أما محمد فكان زعيم الإنسانية جمعاء. بلغتم مكان الزعامة الاقليمية عن طريق الحزبية أو الثروة أو القوة ولم تستطيعوا أن تنسوا ضعفكم الذى ارتفع على كواهل الغير00 أما محمد صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ الزعامة العالمية عن طريق الفقر والغربة والجهاد، وكون فى عدد الأصابع من السنين أمة حكمت الدنيا وسيطرت على العالم ونشرت دين الله فى الأرض 0
يا زعماء اليوم: إنكم تكونون قبل الزعامة ناسا كالناس، وتصبحون بعدها آلهة كالآلهة.. أما محمد فقد ملك الحجاز واليمن وما داناهما من العراق والشام، وظل ينام على فراش من أدم حشوه ليف، ويبيت اللليالى هو وأهله لا يجدون العشاء ويمكثون الشهر لا يستوقدون نارا – إن هو إلا التمر والماء – ولما حضرته الوفاة كانت عنده سبعة دنانير فخاف أن يقبضه (الله) وهى عنده، فقال لأهل بيته: وزعوها على فقراء المسلمين. ولكن اشتغالهم- بتمريضه وشدة وطأة المرض عليه أنساهم تنفيذ أمره، فلما أفاق من غشيته سألهم ماذا فعلوا بالدنانير؟، قالت عائشة ما تزال عندها، فأمرها بإحضارها، ثم وضعها على كفه وقال : ((ما ظن محمد بربه إذا لقى الله وهذه الدنانير عنده)) حقا كانت الدنيا فى يده وليست فى قلبه 0
هذه هى زعامة محمد صلى الله عليه وسلم يا زعماء اليوم 000 ! فهل تجدون بين زعامتكم وزعامته صلة، أو بين سياستكم وسياسته مشابهة؟ وحسبكم ما قاله أحد مستشرقى أوربا فى هذا المعنى: إن البشرية لتفخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ أنه رغم أميته استطاع أن يؤسس دولة ويؤلف أمة وينشر دينا 0
ذلكم محمد الذى اتخذناه زعيما لنا نهتدى بهداه ونقتدى به ونسير على منواله، (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) (1) ونعمل على ابتعاث تراثه واستعادة مجده0
********
__________
(1) سورة الأحزاب : 21(1/51)
وعلى هذا كان ((البنا)) يعمل جاهدا على تنمية هذا الوعى العقيدى فى نفوس جماعته.. فقد كان –رضى الله عنه –يدرك أن تكاليف العمل الإسلامى ضخمة وشاقة، وأن النهوض بها يحتاج إلى بنيان حركى متين تتوفر فيه كل مقومات الصمود والاستمرار والنجاح.. هذه المقومات التى تبعث على صمود الحركة وانتصارها هى وعيها العقيدى.. وعيها كحركة ووعيها كأفراد 0
ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص – منذ اليوم الأول- على أن يأتى بناء الجماعة المسلمة نتيجة الوعى العقائدى، وثمرة الالتزام به والانقياد له والتفاعل معه.. لم تكن ((العاطفة)) هى قوة الدفع فى كيان الجماعة بل كانت العقيدة أساس البناء كله 000 كل الإيمان الواعى وقود النفوس ومحركها الأصيل فى جهادها الشاق الطويل00
وهذا ما جعل بناء الجماعة المسلمة الأولى فريدا فى مظهره وجوهره00 لم يتخذ شكلا ((حزبيا)) كالذى نراه فى التنظيمات السياسية والحزبية الحديثة 00 ولم يتخذ شكلا ((زعاميا)) يكون الناس فيه ((قطيعا)) يسير وراء الزعيم على غير هدى 00 إنما كانت ملامح هذه الجماعة تؤكد العمق العقائدى فيها 0
لم تكن التبعية فى التجمع الإسلامى الأول لأشخاص.. كما لم يكن الإقبال عليه والانتساب إليه يستهدف مصالح العاملين فيه 00 بل إن التبعية كانت للمبادئ، وكان طمع الأتباع يستهدف رضاء الله عز وجل.. قال شداد بن الهاد : ((جاء رجل من الأعراب إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فآمن به واتبعه فقال : أهاجر معك. فأوصى به بعض الصحابة .. فلما كانت ((غزوة خيبر)) غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فقسمه وقسم للأعرابى.. فقال الأعرابى للرسول: ما على هذا اتبعتك..ولكن اتبعتك على أن أرمى ها هنا وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : إن تصدق الله ليصدقنك الله. ثم نهضوا إلى القتال، فأتى به وهو مقتول. فقال الرسول: أهو هو؟ فقالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه)).(1/52)
هذا الوعى العقائدى هو الذى حفظ كيان الجماعة المسلمة من الانفراط بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم. ولقد تجسد فى أبهى صورة وأوقع بيان حين وقف أبو بكر الصديق رضى الله عنه يعلن على الملأ: ((من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت)) ثم قرأ على الناس قول الله تعالى: ((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) (1) 0
لقد تجلى هذا الوعى فى حياة المسلمين الخاصة والعامة.. كان البصر الثاقب والعقل الراجح، والبصيرة النافذة.. بل كان الضياء والنور وصوت الضمير فى كيان الفرد والجماعة 0
لقد كان حسن البنا حريصا على أن يترسم بجماعته خطى الجماعة المسلمة الأولى تنظيما ووعيا وتربية والتزاما، لتكون فى مستوى الأعباء الضخمة التى حملتها بعد أن تخلى عنها الناس.. أنظر إليه – رضى الله عنه – وهو يشترط فى بيعته أن يكون ((التجرد)) صفة لازمة للأخ المسلم حيث يقول : ((وأريد بالتجرد : أن تتخلص لفكرتك من كل ما سواها من المبادئ والأشخاص، لأنها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) (2) (قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم: إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا، حتى تؤمنوا بالله وحده) (3) 0
حسن البنا .. يطالب بحكم الإسلام
... منذ أكثر من أربعين عاما كتب الإمام الشهيد رضوان الله عليه رسالة إلى أحمد خشبة باشا وزير الحقانية (العدل) فى مصر حين ذاك، يعذر فيها إلى الله ويطالبه بالحكم بما أنزل الله، فىالوقت الذى كان يعكف فيه على تربية جيله المؤمن الجديد . وقد أفضى إلى ربه شهيد الدعوة التى عاش لها، وبقى الجيل الذى رباه أمينا مصرا، لا يرضى إلا بالحق، ولا يميل مع الريح0
*****
__________
(1) سورة آل عمران : 144
(2) سورة البقرة : 138
(3) سورة الممتحنة : 4(1/53)
... (حضرت صاحب المعالى أحمد خشبة باشا وزير الحقانية )0
... أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو. وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تمسك بشريعته إلى يوم الدين، وأرفع إليك تحية الإخوان المسلمين فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 0
... لست فى حاجة إلى أن أتقدم إليكم بالبراهين الكثيرة والحجج المتضافرة على أن دواء هذه الأمة فى رجوعها إلى هدى الإسلام فى كل الشئون، وأول هذه الشئون القانون، فأنت بحمد الله – فيما أعتقد – مقتنع بهذه الفكرة : سمعتك تتحدث بها وتدلل عليها وتعمل لها وانت خارج الحكم، وأنت عضو مجلس إدارة الشبان المسلمين، وأنت أمين صندوق اللجنة العامة للدفاع عن فلسطين، وأنت رئيس جماعة إحياء مجد الإسلام0
... والآن (معالى الباشا) وقد جاء دور العمل وواجهنا الحقائق، ودخلنا بوتقة التجارب، وأصبحت وأنت شيخ القضاة ورأس المشرعين فى مركز تستطيع فيه أن تحقق ما يرجوه المسلمون جميعا ويتمنونه، ويريدون الحصول عليه مهما كلفهم ذلك من أثمان، وما كنت أنت نفسك تتمناه وترجوه وتؤمن بصلاحيته وتعتقده، من وجوب تعديل القوانين، وتوحيد المحكمة المصرية حول شريعة الإسلام – الآن وقد صرت راعيا مسئولا عن الرعية من ناحيتك0
... إن صدور الأمة محرجة أشد الحرج لشعورها بأنها تحكم بغير كتاب الله وقانونه وشريعته، وأن الشعوب إن تعودت الصبر حينا فإن الإنفجار نتيجة طبيعية لهذا الصبر فى كثير من الأحيان، وليس يحرج النفس شىء أكثر من الاصطدام بالعقيدة الراسخة الثابتة. وأن قوانيننا الحالية تنافى الإسلام وتصدمه وتحطمه فى نفوس المؤمنين به وهم كل هذا الشعب، وقد تفتحت أذهان الأمة وأدركت بعد ما بينها وبين دينها فى هذه الناحية فشعرت بالحرج الشديد إن بقيت الحال على ما هى عليه، فلا تلجئوا الناس إلى عصيان القوانين واحتقار الشرائع والتبرم بالقضاء وبالأحكام. يا (باشا) لنقف معا بين يدى الله ونسمع معا، ألم يقل الله تبارك وتعالى :(1/54)
1- (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمون فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (1)
2- (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فأعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسفون. أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟) (2) . فى بيان طويل يستفتح بالآية الكريمة (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (والظالمون) (والفاسقون).
3- (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) (3) 0
هذا فى الناحية الكلية، وفى الناحية الجزئية قد بين القرآن كثيرا من الأحكام فى كثيرا من الشئون المدنية والجنائية والدولية والتجارية وما إليها، وأكدت الأحاديث الصحيحة كل ذلك وأيدته، وما أنزلها الله وقدرها إلا ليعمل بها المسلمون، وينتهوا إلى حكمه فيها، ويستمدوا منها ويطبقوا عليها فإذا كانت قوانيننا وشرائعنا والدستور نفسه مستمدة من معين غير هذا المعين مستقاة من مصادر أوربية بحتة: بلجيكية وفرنسية ورومانية وهى فى كثير من كلياتها وجزئياتها تتناقض تناقضا صارخا مع التعاليم الإسلامية الصريحة، فيكف يكون موقف المسلم الذى يؤمن بالله وكتابه فيما إذا عرضت قضية حكم فيها بغير ما أنزل الله وكان الحكم مناقضا لدين الله؟! وكيف يستحل القاضى هذه المخالفة، وكيف يستسيغها وكيف يتحمل تبعتا شهيخ القضاة ووزير العدالة والتشريع بين يدى أحكم الحاكمين؟
أنقذونا يا (باشا) من هذا الحرج وأخروجونا من هذه الورطة، ولا تجعلوا أعمالنا تصطدم بعقائدنا. وأنا أعرف كثيرا من الناس يفضل ضياع حقوقه مدنية أو جنائية أوتجارية على أن يقف بين يدى قاض يحكم بغير ما أنزل الله0
__________
(1) سورة النساء : آية 65
(2) سورة المائدة : آية 49، 50
(3) سورة النساء آية : 105(1/55)
إن التبعة (يا باشا) كبيرة، ولئن كان هذا الحساب شديدا فإن هناك حساب أشد، ومهمتنا التذكير، ولا يغنى أن تتعلل بالمعاذير فإن الله لا ينظر إلا القلوب والأعمال. هذا من الوجهة الروحية البحتة – ولنأت من الوجهة القانونية0
ألم يعترف كبار رجال القانون من مصريين وأجانب بأن الشريعة الإسلامية من أخصب منابع التشريع وأزكاها وأدقها وأشملها؟ ولم ننس بعد تصريح المسيو بيولا كازللى بوجوب تصحيح القواعد الفاسدة فى القانون الفرنسى المعمول به فى مصر طبقا للشريعة الإسلامية ولم ننس كذلك محاضرات المسيو لاميير وتصريحاته الخطيرة الواضحة فى هذا الشأن، ولم ينس بعد تقارير مؤتمر لاهاى فى الإشادة بالشريعة الإسلامية وامتداح نظرياتها القانونية والبحوث القيمة وكفايتها فى التشريع التام. وفى مصر كثير من أعلام رجال القانون يؤمنون بذلك ويصرحون به ويودون أن يكلفوا الاضطلاع بهذا العبء وعجيب أن يكون من بينهم المستشارون فى المحاكم المختلطة بله المحاكم الأهلية، ومن هؤلاء محمد (بك) صادق فهمى رئيس محكمة المنصورة المختلطة، والأستاذ عبد الرازق السنهورى (بك) عميد كلية الحقوق السابق، كما أشار إلى ذلك حضرة كامل (بك) مرسى، وعبد الفتاح (بك) السيد الأستاذ على بدوى من أساتذة القانون فى المحاكم وفى كلية الحقوق0
والبحث العلمى أعدل شاهد على صحة هذه النظريات، وما قال هؤلاء ما قالوا إلا بعد دراسات طويلة وبحوث عميقة خلدوا بعضها بكتاباتهم وبقى بعضها مستقرا فى نفوسهم إلى الوقت المناسب، وليس المقصود من هذا الخطاب هذه الموازنات، فذلك له موضع آخر 0
ولنأت إلى الأمر من وجته العملية 0(1/56)
لقد عاشرتنا هذه القوانين خمسين عاما ونيفا، فماذا أفادت الأمة إلا كثرة الجرائم وتزايدها عاما بعد عام، ويوم بعد يوم، وانتشار الموبقات وارتكاب الجنايات؟ ذلك أنها لا تتفق مع طبيعتنا، ولا تصلح فى بيئتنا، ولا تجدى فى علاج أدوائنا، ولا دليل أصدق من الواقع المشاهد. وذلك فى الوقت الذى ترى فيه البلاد الإسلامية التى أخذت بشىء من تشريع الإسلام قد استتب فيها الأمن، وتوطدت السلطة وعمت السكينة، وساد احترام القانون، واطمأن الناس على الدماء والأموال والأعراض. فهلا تريد مصر أن تصل إلى هذه النتيجة المرضية برجوعها إلى تعاليم الإسلام وشرائع الإسلام؟
يا سيدى (الباشا) :
الأمر واضح لا يحتاج إلى بيان، وبقيت بعض شبهات يتعلق بها الذين يقفون فى طريق الإصلاح بحسن قصد أو سوء قصد، نحب أن نناقشها فى إيجاز وأنا معتقد أن معاليكم أعرف الناس بأن هذه الشبهة أو هى من أن تقف فى سبيل إصلاح ما 0
يقول هؤلاء المرتابون :(1/57)
أولاً : إن فى مصر عناصر غير إسلامية إن حكمت بأحكام الإسلام كان ذلك متنافيا مع حرية الدين التى كفلها الدستور للمواطنين، وإن حكمت بغير أحكام الإسلام كان ذلك نوعا من الامتياز البغيض الذى حمدنا الله على التخلص منه وإزاحة كابوسه عن الصدور. هذه الشبهة مردودة بجزءيها، فإنهم إن عوملوا بتعاليم الإسلام لم يكن فى ذلك اصطدام بحرية الدين، فإن الحرية المكفولة هى حرية العقيدة وحرية العبادة والشعائر وحرية الأحوال الشخصية، أما الشئون الاجتماعية فهى حق الأمة ومظهر سيادتها، فهم فيها تبع للأكثرية فإذا ارتضت أكثر الأمة قانونا فى هذه الشئون الاجتماعية بصرف النظر عن مصدره فهو قانون للجميع، إذ أن محاربة الجريمة من حق الدولة، بدليل أن الأمم الأوربية وهى التى تفخر باحترامها للحرية والحقوق الشخصية، وتزهى بأنها أقرت الديمقراطية، ونادت بحقوق الإنسان – مع هذا هى تعامل كل نزلائها وأقلياتها بحكم القوانين الموضوعة المرضية عندها بصرف النظر عن أديانهم وعقائدهم، فالإنسان فى فرنسا أو انجلترا أو ألمانيا أو نحوها، سواء أكان نزيلا لا يتمتع بجنسيته الخاصة أو مواطنا يخالف الأكثرية فى الدين، يحاكم بمقتضى قانون البلاد الموضوع دون نظر إلى قانون بلده أو تشريع دينه. وغير ذلك لا تتحقق سيادة الأمة ولا يتحقق استقلالها الداخلى. هذا إن عوملوا بأحكام الإسلام وبشريعته0
إن عوملوا بحسب شرائعهم مع الاحتفاظ بحقوق الدولة كاملة معهم فليس فى ذلك امتياز يخيف، فإن المساواة فى الأحوال الشخصية بين المسلم وغير المسلم مفقودة إلا إذا رضى غيره بذلك. ولا يقال إن إقرارنا لهؤلاء المخالفين على أحكام دينهم فى أحوالهم الشخصية امتياز ممنوح لهم يفضلون به غيرهم، بل هو أمر خاص بهم، وأما الامتياز المؤلم فهو أن تضيع حقوق أبناء الوطن فى سبيل الأجانب وغير المسلمين بحكم الضعف والاستكانة والذلة والمهانة0(1/58)
والإسلام الفسيح الذى لا يحتم علينا أى الطريقين فنحن نختار. والأولى إلينا أحب وبحالنا أوجب، ولأمر ما قال الله تابرك وتعالى فى صدر آيات الحكم بتنززيله: (فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا) (1) 0
على أننا نعرف كثيرا من أفاضل رجال القانون من مواطنينا المسيحين جهروا كثيرا بأنهم يودون لو عوملوا بأحكام الشريعة الإسلامية فى كل شىء0
ثانياً: ويقولون كذلك إن كثيرا من هذه التشريعاتن لا يمكن تطبيقه عمليا، ولنأخذ مثلا (الربا) فهل نستطيع إبطاله من محاكمنا وقانوننا ونحن مرتبطون بالنظام الاقتصادى الدولى العام. والشبهة مردودة كذلك بما نشاهد من أحوال الدول القوية العزائم التى وضعت لنفسها نظما اقتصادية خاصة فرضتها على أممها وأجبرت العالم على احترامها، وكان العامل الأكبر فى ذلك صدق عزيمة حكوماتها وحسن استعداد شعوبها، فلا عقبة أمامنا فى مثل هذا إلا الوهن، وتجسيم الأمور والخوف الذى لا مبرر له. ونحن والحمد لله أمة غنية بمواردها، وكل الموارد الحيوية الضرورية موفورة لدينا ونستطيع – الاستغناء إلى حد كبير عن غيرنا – مع حفظ كياننا الاقتصادى لو صحت عزائمنا- ماذا فعلت إيطاليا حين وقفت أمامها بالمرصاد اثنتان وخمسون دولة فيها الدول العظمى وفرضت عليها العقوبات وحصرتها داخل ديارها؟ ألم ترغم هذه الدول على احترام مشيئتها وتقدير عزيمتها، وتنفذ قرارها بدون سيف أو نار، ولكن بغيرة الشعب وعزيمة الحاكمين. وماذا فعلت الدول لهتلر حينما أصدر أمره بعدم خروج النقد من ألمانيا بتاتا؟ هل وقف دولاب التجارة فى ألمانيا أم احترمت الشعوب الأخرى هذه الإرادة وعاملت ألمانيا على أساس المبادلة التجارية (2) 0
__________
(1) سورة المائدة : 44
(2) كان ذلك قبل نشوب الحرب العالمية الثانية سنة 1939م(1/59)
لا يقال إن هاتين الدولتين قويتان ونحن ضعفاء، فليس الكلام فى حشد الجيوش وتجهيز المعدات، ولكن نتكلم فى البيع والشراء والأخذ والعطاء، وكل شعب مهما ضعف حر فى ذلك كله إن حددت وجهته، واستبانت غايته وقويت عزيمته0
إن الشعوب الأخرى يهمها أن تكون معها شرفاء فى المعاملة. ونحن نلاحظ أن كثيرا من المصارف والدائنين يرضونن بالتسويات وفيها نزول عن شىء من الحق الأساسى فى سبيل الحصول على الحق نفسه، فإذا منع القانون التعامل بالربا وتشدد فى استيفاء الحقوق كان فى ذلك الضمان الكافى للممولين الآخرين، ورضوا به واطمأنوا إليه، وعاملونا على غير أساس الربا المحرم شرعا فى كل كتاب0
ولماذا لا تكون مصر السابقة بإنقاذ العالم (من نظام الربا البغيض) ولماذا لا تبشر حكومة مصر بهذا المبدأ السامى الإنسانى الرحيم، ولماذا لا نرفع راية الدعوة إلى تحرير الإنسانية من رق الربا وإقناع الشعوب بوجاهة هذه الفكرة كما رفعت بعض الدول الأروبية راية الدعوة إلى تحرير الإنسان من رق العبودية وأقنعت الشعوب بوجاهة نظرتها وكسبت فخر هذا الدفاع؟
ولم الخوف وفيم اليأس؟ هل نعجز عن أن نقدم للإنسانية خدمة جليلة ونحن الذين أنقذناها فى كثير من المواقف، وأشعلنا بين كثير من أممها شعلة العرفان والنور؟ ليس هذا من الشعر ولا من الخيال (يا باشا) ولكنها حقائق سيتنبه لها العالم، ونريد أن يكون لنا شرف السبق بهذا التنبيه0
ولماذا لا تكون هذه الخطوة (يا باشا) سبلينا إلى الحرية الاقتصادية، وطريقنا إلى تعويد هذا الشعب الذى طال به عهد الاعتماد على الغير أن يعتمد على نفسه وعلى موارده، وأن يستغنى فى كثير من شئونه عن الناس؟ وهل هناك فرصة أثمن من هذه؟ وهل هناك عامل يساق به هذا الشعب المتمسك بدينه أقوى من الدين؟ وهل هناك إنقاذ لهذا الشعب الفقير أعظم من إنقاذه من اللصوص السرقة القساة من المرابين؟(1/60)
هذا مثل أحببت أن أتقدم به لدحض هذه الشبهة: شبهة صعوبة تطبيق الشريعة الإسلامية، وأخرت لذلك أعقد المسائل وألصقها ,امسها بحياة الناس حتى لا يكون هناك قول لقائل، ولا حجة لمعتذر0
ثالثاً : ويقولون إننا حين نطبق هذه الشرائع الإسلامية فى قطع يد السابق (1)
__________
(1) إن القوانين الوضعية لا تستقصى حالة السارق وقت السرقة، ولا تستقصى أثر الحكم فيه وفى أهله وولده، بل تعاقبه مطلقا، جاهلا أم عالما، فقيرا أم غنيا، بل ربما كان علمه وغناه من أسباب تخفيف العقوبة عليه لا من أسباب تغليط العقاب. والأمر ليس كذلك فى دين الله 0
إن الله عز وجل أراد ان تنشأ العفة من داخل النفس أولا، فينصرف الإنسان عن المعاصى وهو فى خلوته لا يطلع عليه أحد من الناس، ويشعر بأن ربه معه أينما كان، مطلع على أعماله، لا تخفى عليه منه خافية: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هور رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، إن الله بكل شىء عليم)0
وقد ذكر الله تعالى عقاب السرقة مرة واحدة، ولكنه كرر النهى عن أكل أموال الناس بالباطل، وصوره فى صورة مؤثرة ترد من تحدثه نفسه بأن يمد يده إلى مال غيره، دون حاجة إلى التخويف بالعقاب الدنيوى: ((إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم ناراً، وسيصلون سعيرا)، (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وانتم تعلمون). وفى الحديث عن الرسول عليه السلام: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام ))
تأمل قول الله تعالى : (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين نو له ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيرا ) 0
تأمل : (من بعد ما تبين له الهدى) أعنى أنه يجب أن تبلغ الدعوة إلى السارق، ويتهذب بالتهذيب القرآنى، ويعرف ماله وما عليه. مما يتعين معه القول بأن التعليم فى الإسلام إجبارى، وواجب على الفرد، وحق له فى الوقت نفسه.
فإحياء روح الإنسان وضميره، وتزكية نفسه، وتطهير قلبه واجب أول فى الإسلام، عليه أكثر المعول فى أن يسلك الإنسان سلوكا حسنا فى الجماعة التى يعيش فيها. وإذا كنا ندرك أثر التعليم العادى فى نفوس الناس، فما بالنا بتعليم القرآن الذى هو أساس لكل الفضائل0
ولكن لا يكفى أن تهذب الشخص، وتطهر قلبه، وتزكى نفسه، وتحي ضميره لكى يكون إنساناً فاضلاً، فإن حاجاتته الضرورية التى بها وقاية نفسه تغلبه على الفضائل أحيانا، لذلك قضى أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين بأن يوجد فى الدين من التنظيم ما تندفع به حاجة الإنسان إلى السرقة. وبمعنى آخر لابد من أن نتأكد قبل أن نعاقب إنسانا أن عذره فى ارتكاب جنايته قد سقط، وأنه لم يرتكبها إلا بغيا وعدوانا. وحاجات الإنسان الضرورية هى :
1- ... بيت يسكنه يواريه عن أعين الناس، ويجعله فى أمن العادين والباغين0
2- ... طعام يحفظ به نفسه0
3- ... ملبس للصيف والشتاء0
وأقول : إن الآيات والأحاديث التى أخذ منها الفقهاء النص على هذه الأشياء الثلاثة تستوجب القول بأنه يجب أن يكون مضمونا لكل إنسان العلاج المجانى من الأمراض متى لم يكن قادرا عليه0
هذه الضرورات لا يحصل عليها امرؤ بالاستجداء، بل لابد من العمل، ودينه يحضه على ذلك: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله)0
وقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله فلم يعطه ما سأل، بل أعطاه أداة العمل، ووجهة إليه، وقال : ((إرجع إلى لتنبئنى بحالك))0
فيجب حينئذ على ولى الأمر أن يساعد الناس على إيجاد أعمال لهم، ويهيئ لهم أسباب العمل، ويتعهدهم حتى تصلح حالهم0
فإذا كان دخل إنسان لا يكفيه، أو لم يجد عملا، أو كان غير قادر على العمل فهو فى كفالة الدولة تمده بأسباب الحياة الضرورية التى بيناها0
أما المال الذى يلزم لذلك فيؤخذ من الزكاة التى جعلها الله فى أموال الأغنياء حقا للفقراء، فإن لم تكف الزكاة لسد حاجات الفقراء أصبح فرضا على كل من عنده فضل من مال أن يعود به على الفقراء حتى يستوفوا حاجتهم0
فإذا منع الفقير حقه فله أن يقاتل عليه، لأن الله يأمر بمقاتلة الباغين: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله) ولا شك أن مانع الحق باغ0
فلما كفل الله عز وجل للفقير حقه، وأباح له القتال عليه، كانت العقوبة الهينة مفسدة للمجتمع ولا تتفق مع المسئوليات التى فرضها الله على الناس، فكان جزاء من سرق- بعد أن استوفى حقه- أن تقطع يده، وليس بعد ذلك توازن فى الحقوق، والواجبات : (ومن أحسن من الله قيلا) 0
من مقال للأستاذ ((حسن الهضيبى)) المرشد العام للإخوان المسلمين، بالعدد الرابع من السنة الأولى ((للمسلمون))0(1/61)
ورجم الزانى وما إلى ذلك ترجع بالأمة إلى عهد الهمجية، ونفوت عليها فرصة الانتفاع بما بلغت من رقى ومدنية، ونسلكها فى نظام الأمم المتأخرة المتبربرة0
وهذا كلام لا يساوى سماعه ولا يستحق أن يرد عليه، وإنما أملاه على هؤلاء الناس تحللهم من عقدة النظم الاجتماعية وعكوفهم على الإباحية فى كل شىء واعتداؤهم على ما ليس لهم من أعراض وأموال، وتخوفهم من أن يكونوا الضحايا الأولى لتطبيق هذه النظم الحازمة، وما كانت الجريمة فى يوم من الأيام مظهر المدنية ولا الرقى ولا كان القانون الذى يستأصل الجريمة ويقضى عليها – مهما كان من شدته – قاسيا ولا رجعيا، ولكنه عين التقدم ومظهر الارتقاء الصحيح. وهى إحن قديمة، وأفكار بالية عتيقة، آن لها أن تنقرض وآن للمصلحين ألا يعيروها شيئا من الاهتمام بعد أن رأينا أن الفكرة العامة للتشريع أصبحت متجهة إلى أخذ المجرمين بالحزم واستبدال السبل الرادعة والأحكام الزاجرة بمظاهر الرخاوة القانونية التى ساعدت على انتشار الجرائم فى الأمم، وجعلت القوانين تكاد تكون عديمة الفائدة فى تهذيب الناس، وأضاعت على الشعوب كثيرا من الأموال والجهود فى المحاكم والسجون والشرط والموظفين والقضائيين بغير طائل0
... نحن نريد النتائج العملية ولا عبرة بزخرف وتزويق العبارات :(1/62)
ويقولون إن ذلك غير ممكن عملا فإن رجال الشريعة الإسلامية لا يحسنون التنسيق الواجب ورجال القانون لا يلمون بالشريعة الإسلامية الإلمام الكامل، ومتى كان الأمر كذلك فمن يتولى إخراج القانون الإسلامى الجديد للناس فى صورة منسقة وصياغة قانونية تامة؟ وتلك شبهة واهية كذلك، والتعليق على هذه الصعوبة من أهون المسائل، والدعوى غير صحيحة على إطلاقها، فإن من رجال الشريعة الإسلامية من يحسن التنسيق القانونى إلى حد كبير، ومن هؤلاء الأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم (بك) وكيل كلية الحقوق. وإن من رجال القانون من درس كثيرا منن مسائل الشريعة دراسة تامة عميقة، ومن هؤلاء الأستاذ السنهورى. ونسوق ذلك على سبيل المثال، وإلا فىففى رجالنا والحمد لله خير كثير، وقد اضطلع الأستاذ السنهورى وحده بكثير من هذا العبء يوم دعى لتنسيق القانون فى العراق فأحسن وأجاد 0(1/63)
وأخيرا : يرجف هؤلاء القائلون فكرة مادية بحتة تدور حول المصالح الشخصية فيقولون إنكم بهذا تعطلون هذا الجيش من رجال المحاكم الأهلية قضاة ومحامين ومستشارين محترمين، وتتعصبون لرجال المحكمة الشرعية على اختلاف أعمالهم، فتعطون قوما أكثر مما يستطيعون أن يقوموا به وتحرمون الآخرين من كل شىء. ذلك إلى أنكم ترون أن المحاكم الأهلية أدق نظاما وأعظم فى –الإجراءات إحكاما من سابقتها، فكيف تريدون أن تحملوا المنظم الدقيق على ما هو أقل منه فى ذلك؟ وهذه مغالطة مكشوفة فليس العلم وقفا على قوم دون آخرين، وفى وسع القاضى الأهلى والمحامى أن يدرس أحكام الشرع الإسلامى فى بضعة شهور. والنظام فى المحاكم لا يتقيد بنصوص مواد القانون، وإنما يرجع إلى أسباب أخرى كلها تزول إذا صحت العزائم. على أننا لا نريد بهذا الإصلاح تعصبا لناحية بل نريد أن يزول هذا التفريق كله ونقضى على هذا الانقسام فى حياة أمة تسير إلى الوحدة، ولا قوة لها إلا بالوحدة، فلا محاكم أهلية ولا محاكم شرعية، ولكن محكمة واحد إسلامية على أدق النظم وأحكم الإجراءات، عماد قانونها شريعة الله وحكم الإسلام 0
هذه هى بعض الشبهات التى تقال وقد رأيتم (معاليكم) أنها مردودة بالحجة مدفوعة بالبرهان، وذلك شأن كل شبهة يمليها ويراد بها الصد عن الحقائق0
لم يبق بعد ذلك عذر (يا باشا) ولهذا يتوجه الإخوان المسلمون إليكم بالرجاء معتقدين أنهم فى ذلك إنما يمثلون الأمة الإسلامية جميعا بهذه الطلبين :
أولاً : أن تسلموا معهم بمبدأ (وجوب العودة إلى التشريع الإسلامى، وتوحيد المحكمة المصرية على أساسه من الآن ) 0(1/64)
ثانياً : أن تأمروا بإعادة تشكيل لجنة تعديل القوانين الحالية التى يرأسها الأستاذ كامل (بك) صدقى تشكيلا جديدا يحقق هذه الغاية بأن تسند رياستها إلى معاليكم رأسا إلى فضيلة شيخ الأزهر أو المفتى الأكبر، وأن تضم بين أعضائها أكبر عدد ممكن من رجالنا البارزين فى الشريعة الإسلامية من رجال القضاء الشرعى والأزهر الشريف، وفى القانون الوضعى بفروعه المختلفة، ولا بأس بأن يكون من بينهم الأستاذ كامل صدقى (بك)0
يا (معالى الباشا) إننا أمة مسلمة وقد وطدنا العزم على ألا نحكم بغير قانون الله وشريعة القرآن الكريم وتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم مهما كلفنا ذلك من ثمن، ومهما بذلنا من تضحيات، وذلك أبسط حقوقنا كأمة لا تعدل باستقلالها فى كل مظاهرة السياسية والاجتماعية شيئا، فأعينونا على الوصول إلى هذا الحق وارفعوا عنا هذا الحرج، ولا تلجثوا الأمة إلى سلوك سبيل المضطرين0
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 000
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
حسن البنا 00 وأحفال الجاهلية
حفل زفاف نجل على ماهر باشا
أذكر أننا فوجئنا فى أحد الأيام بحضور فضيلة المرشد إلى الاسكندرية وقال : إنه جاء تلبية لدعوة على باشا ما هر لحضور حفل زفاف ابنه، وكلف فضيلته أحد الإخوان الذين رافقوه ليذهب إلى الحفل، فإذا لم يجد فيه أى مخالفة شرعية اتصل بالأستاذ تليفونيا حتى يحضر، وإذا وجد ما يسبب أى حرج قام هو بالواجب، وانتظر فضيلته فترة من الوقت فلما لم يتم الاتصال التليفونى قال : ألا يوجد أحد من إخواننا عنده أى مناسبة؟ قلت له : إن الأخ محمد خليل شرف الدين سيعقد قرانه الآن فى منزل أصهاره بشارع الميناء الشرقية.
فقال : هيا بنا، وكلفنى بشراء هدية وانتقلنا إلى المنزل وأدركنا الحفل، واستقبلنا استقبالا حاراً مفرحاً حيث كانت مفاجأة أضفت على الحفل أنساً وبهجة وسروراً ووقاراً 0
وتحدث الأستاذ حديثاً قصيراً خفيفاً وهنأ الأسرتين ودعا للعروسين0
حفل استقبال صدقى باشا(1/65)
ومما يذكر، أنه حدث أن أعلن عن زيارة صدقى باشا لسيناء، واهتزت الإإدارة فى الاسماعيلية لذلك وأخذت فى الاستعداد لاستقبال رئيس الحكومة وحشد الناس له بمحطة السكة الحديد ليقابلوه 0
وأخذوا يفكرون فيمن يخطب له فى هذا الاستقبال، ودلهم أحد المهتمين إلى المدرس حسن البنا، فدعى إلى قسم الشرطة وقابلة طنطاوى بك مأمور الضبط – إذ ذاك – وطلبوا إليه أن يخطب لصدقى باشا ويحييه بمناسبة زيارته للإسماعيلية، فغضب لذلك جداً ورفض، فلما ألححوا عليه، قال لهم أنه على استعداد أن يقدم استقالته. ومما جاء فى كلامه قوله :
((إن العقد الذى بينى وبين وزارة المعارف لا يلزمنى بأكثر من أن أحسن عملى فى التربية والتعليم وليس فيه نص على الخطابة لرؤساء الحكومات ))0
حفل ضباط الجيش
ومما يذكر للإمام من مواقف بشأن أحفال الجاهلية أن وجه ضباط الجيش الدعوة إلى كبار رجال الدولة ورجال السلك الدبلوماسى للحفلة الساهرة التى يقيمها رئيس هيئة أركان حرب الجيش وضباط نادى القوات المسلحة بمناسبة تولى جلالة الملك سلطاته الدستورية مساء ذلك اليوم بثكنات القلعة – وقد دعى فضيلة المرشد العام للإخوان إلى هذه الحفلة – فاعتذر فضيلته عن الحضور واكتفى بإرسال البرقية التالية إلى سكرتير نادى الضباط:
حضرة المحترم سكرتير نادى الضباط بالزمالك بالقاهرة
أشكر لسعادة الفريق إبراهيم عطا الله باشا وحضرات أعضاء النادى دعوتهم الموجهة إلى لحضور الاحتفال بمناسبة تولى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم سلطته الدستورية وأعتذر من عدم الحضور وكنت أتمنى أن يكون هذا الاحتفال بعرض عسكرى قوى يليق بحزم الضباط وشجاعة الجندى ويبث فى النفوس معانى الحماسة والإقدام لا بحفل غنائى ساهر 0
والله أسأل أن يغير ما بأنفسنا لتصلح أحوالنا وأن يجعل عهد جلالة الملك حفظه الله عهد سعادة وإقبال وحرية واستقلال – آمين 0
... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
حسن البنا ... وإحياء السنة
كتب الإمام الشهيد فى مذكراته :(1/66)
صلاة العيد فى الصحراء :
... كنت أقوم فى رمضان بتدريس بعض الأحكام الإسلامية عقب صلاة الفجر فى المسجد العباسى وكانت أكثر ما تتعرض لأحكام الصيام والزكاة ورمضان وقبيل نهاية رمضان تناولنا أحكام صلاة العيد بالبيان، وجاء فى هذه الأحكام أن من السنة أن يصلى العيد فى ظاهر البلد وأن يخرج لها الناس رجالا ونساء يشهدن الخير وجماعة المسلمين، وإن الآئمة قد اتفقوا جميعاً على أفضلية صلاتها فى الصحراء ما عدا الإمام الشافعى الذى أفتى بأن صلاتها فى المسجد أفضل إذا كان فى البلد مسجد يتسع لأهلها جميعاً 0
وبينما نحن نقرر هذه الأحكام إذ اقترح أحد المستمعين أن نحي هذه السنة ونقوم بصلاة عيد الفطر فى الصحراء وبخاصة وليس بالإسماعيلية حينذاك إلا مساجد صغيرة لا تتسع لبعض أهل البلد فضلا عن كلهم، ومن حولها صحراء قد اتسعت لجنود الاحتلال، وتحمس السامعون جميعاً لهذا الاقتراح فلم أر بداً من موافقتهم عليه ولكن مراعاة لما أعلم من سرعة انقسام الآراء فى هذا البلد حول المسائل الدينية لشدة حساسيته فى هذه الناحية ولقرب عهده بالخلافات الماضية اشترطت ألا نخطو خطوة حتى نستشير العلماء ونتفق معهم على أسلوب التنفيذ، فإن وافقوا فذاك وإلا فإن اجتماع الآراء على خلاف الأولى أفضل من افتراقها وتشتيت الكلمة على ما هو أفضل0(1/67)
وحاولت أن أخطو هذه الخطوة فإذا بى أفاجأ بحملة عنيفة من المتربصين بالدعوة واتهامات قاسية بأن هذه ابتداع بالدين وتعطيل للمساجد ومحاربة للإسلام وافتاء بالباطل، ومن ذا الذى يقول: إن الشارع أفضل من الجامع، ما سمعنا بهذا فى آبائنا الأولين، وانتشر الخبر بسرعة البرق وأصبح حديث الناس فى المقاهى والمساجد والمجتمعات العامة والخاصة وكانت حملة يا لها من حملة. وتصادف أننى كنت حينذاك معتكفاً العشر الأواخر من رمضان بالمسجد العباسى، فكان الناس يتقاطرون على عقب كل صلاة ويسألوننى عن هذه البدعة الجديدة وأنا استغرب هذه الحملة التى لا أساس لها، وأقرر حكم الدين بكل بساطة وبراءة وأطلع الناس على النصوص الفقهية فى هذا المعنى، وأتجنب الجدل والمراء وأوصى بجمع الكلمة والبعد عن الخصومة. ولكن الأمر كان قد خرج من يدى ويد العلماء وتحمس الجمهور للحق والسنة وأعلنوا اأن الصلاة ستكون ظاهر البلد، وأعدوا المصلى لذلك فعلا، وكنت لابد أن أحضر إلى القاهرة لأقضى العيد مع الأهل فيها. فحضرت ليلة العيد ورتب الناس أنفسهم وصلى بهم الشيخ محمد مدين إمام مسجد العرايشية. وكان سرور الناس وانشراحهم بهذا المظهر الإسلامى عظيماً، وحلت فى نفوسهم بركة السنة النبوية المطهرة. وعدت من إجازة العيد، ورأيت آثار هذا الارتياح بادية على كل وجه، وخمدت العاصفة المغرضة، وتقررت السنة المباركة واستمرت صلاة العيدين إلى الآن ظاهر البلد فى مهرجان إسلامى جميل0
نقاش فى بيت القاضى :
وفى إحدى ليالى رمضان زرت منزل فضيلة قاضى الاسماعيلية الشرعى واجتمع فى هذه الزيارة مأمور المركز والقاضى الأهلى وناظر المدرسة الابتدائية ومفتش المعارف ولفيف من الأدباء والفضلاء والمحامين والأعيان، وكانت جلسة سمر لطيف0(1/68)
وطلب فضيلة القاضى الشاى فقدم إلينا فى أكواب من الفضة وجاء دورى فطلبت كوبا من زجاج فقط، فنظر إلى فضيلته مبتسماً، وقال أظنك لا تريد أن تشرب لأن الكوب من فضة فقلت: نعم وبخاصة ونحن فى بيت القاضى0
فقال إن المسألة خلافية، وفيها كلام طويل، ونحن لم نفعل كل شىء حتى نتشدد فى مثل هذا المعنى، فقلت يا مولانا إنها خلافية إلا فى الطعام والشراب فالحديث متفق عليه والنهى شديد والنبى صلى الله عليه وسلم يقول ((لا تشربوا فى آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر فى بطنه نار جهنم)) ولا قياس مع النص ولا مناص فى الامتثال، وحبذا لو أمرت بأن نشرب جميعا فى أكواب من زجاج، وتدخل بعض الحاضرين فى الأمر وأرادوا أن يقولوا إن الأمر ما دام خلافياً فلا لزوم للانكار، وأراد القاضى الأهلى أن يدلى بدلوه فى الدلاء فقال للقاضى الشرعى: يا فضيلة القاضى ما دام هناك نص فالنص محترم، ولسنا ملزمين بالبحث عن الحكمة وإيقاف العمل بالنص حتى تظهر، فعلينا الامتثال أولاً، ثم إن عرفنا الحكمة فبها وإلا فذلك قصور منا والعمل على كل حال واجب، فانتهزتها فرصة وشكرت له وقلت له مشيراً إلى إصبعه، وما دمت قد حكمت فاخلع هذا الخاتم، فإنه من ذهب والنص يحرمه، فابتسم وقال يا أستاذ أنا أحكم بقوانين نابليون وفضيلة القاضى يحكم بالكتاب والسنة وكل منا ملزم بشريعته فدعنى وتمسك بقاضى الشريعة، فقلت إن الأمر إنما جاء للمسلمين عامة وأنت واحد منهم فهو يتجه إليك بهذا الاعتبار، فخلع خاتمه، وكانت جلسة ممتعة حقا وكان لهذا صداها بعد ذلك فى جمهور يرى مثل هذا الموقف العادى أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر ونصيحة فى ذات الله0
حسن البنا 00 والتصوف
00 وكتب الإمام البنا فى مذكراته :(1/69)
... ولعل من المفيد أن أسجل فى هذه المذكرات بعض خواطر – حول التصوف والطرق فى تاريخ الدعوة الإسلامية – تتناول نشأة التصوف وأثره وما صار إليه وكيف تكون هذه الطرق نافعة للمجتمع الإسلامى. وسوف لا أحاول الاستقصاء العلمى او التعمق فى المعانى الاصطلاحية فإنما هى مذكرات تكتب عفو الخاطر فتسجل ما يتردد فى الذهن وما تتحرك به المشاعر فإن تكن صوابا فمن الله ولله الحمد، وإن تكن غير ذلك فالخير أردت ولله الأمر من قبل ومن بعد 0
... حين اتسع عمران الدولة الإسلامية صدر القرن الأول، وكثرت فتوحها وأقبلت الدنيا على المسلمين من كان مكان، وحبيت إليهم ثمرات كل شىء، وكان خليفتهم بعد ذلك يقول للسحابة فى كبد السماء: شرقى أو غربى فحيثما وقع قطرك جاءنى خراجه. وكان طبيعيا أن يقبلوا على هذه الدنيا يتمتعون بنعيمها ويتذوقون حلاوتها وخيراتها فى اقتصاد أحيانا وفى إسراف أحيانا أخرى، وكان طبيعيا أمام هذا التحول الاجتماعى، من تقشف عصر النبوة الزاهر إلى لين الحياة ونضارتها فيما بعد ذلك، أن يقوم من الصالحين الاتقياء العلماء الفضلاء دعاة مؤثرون يزهدون الناس فى متاع هذه الحياة الزائل، ويذكرونهم بما قد ينسونه من متاع الآخرة الباقى: ((وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون ولو كانوا يعلمون))() ومن أول هؤلاء الذين عرفت عنهم هذه الدعوة –الإمام الواعظ الجليل- الحسن البصرى، وتبعه على ذلك كثير من أضرابه الدعاة الصالحين، فكانت طائفة فى الناس معروفة بهذه الدعوة إلى ذكر الله واليوم الآخر. والزهادة فى الدنيا، وتربية النفوس على طاعة الله وتقواه 0
... وطرأ على هذه الحقائق ما طرأ على غيرها من حقائق المعارف الإسلامية، فاخذت صورة العلم الذى ينظم سلوك الإنسان ويرسم له طريقا من الحياة خاصا : مراحله الذكر والعبادة ومعرفة الله، ونهايته الوصول إلى الجنة ومرضاة الله0(1/70)
... وهذا القسم من علوم التصوف، وأسميه ((علوم التربية والسلوك))، لاشك أنه من لب الإسلام وصميمه، ولا شك أن الصوفية قد بلغوا به مرتبة من علاج النفوس ودوائها، والطب لها والرقى بها، لم يبلغ إليها غيرهم من المربين، ولاشك أنهم حملوا الناس بهذا الأسلوب على خطة عملية من حيث أداء فرائض الله واجتناب نواهيه، وصدق التوجيه إليه، وإن كان ذلك لم يخل من المبالغة فى كثير من الأحيان تأثرا بروح العصور التى عاشت فيها هذه الدعوات: كالمبالغة فى الصمت والجوع والسهر والعزلة.. ولذلك كله أصل فى الدين يرد إليه، فالصمت أصلة الإعراض عن اللغو، والجوع أصله التطوع بالصوم والسهر أصله قيام الليل، والعزلة أصلها كف الأذى عن النفس ووجوب العناية بها 00 ولو وقف التطبيق العملى عند هذه الحدود التى رسمها الشارع لكان فى ذلك كل الخير0
... ولكن فكرة الدعوة الصوفية لم تقف عند حد علم السلوك والتربية، ولو وقفت عند هذا الحد لكان خيرا لها وللناس، ولكنها جاوزت ذلك بعد العصور الأولى إلى تحليل الأذواق والمواجد، ومزج ذلك بعلوم الفلسفة والمنطق ومواريث الأمم الماضية وأفكارها، فخلطت بذلك الدين بما ليس منه، وفتحت الثغرات الواسعة لكل زنديق أو ملحد أو فاسد الرأى والعقيدة ليدخل من هذا الباب باسم التصوف والدعوة إلى الزهد والتقشف، والرغبة فى الحصول على هذه النتائج الروحية الباهرة. وأصبح كل ما يكتب أو يقال فى هذه الناحية يجب أن يكون محل نظر دقيق من الناظرين فى دين الله والحريصين على صفائه ونقائه 0(1/71)
... وجاء بعد ذلك دور التشكل العملى للفكرة فنشأت فرق الصوفية وطوائفهم كل على حسب أسلوبه فى التربية. وتدخلت السياسة بعد ذلك للتتخذ من هذه التشكيلات تكأة عند اللزوم، ونظمت أحيانا على هيئة النظم العسكرية وأخرى على هيئة الجمعيات الخاصة 00 حتى انتهت إلى ما انتهت إليه اليوم من هذه الصورة الأثرية التى جمعت بقية ألوان هذا التاريخ الطويل، والتى يمثلها الآن فى مصر مشيخة الطرق الصوفية ورجالها وأتباعها0
... ولاشك أن التصوف والطرق كانت من أكبر العوامل فى نشر الإسلام فى كثير من البلدان وإيصاله إلى جهات نائبة ما كان ليصل إليها إلا على يد هؤلاء الدعاة، كما حدث ويحدث فى بلدان إفريقيا وصحاريها ووسطها، وفى كثير من جهات آسيا كذلك 0
... ولاشك أن الأخذ بقواعد التصوف فى ناحية التربية والسلوك له الأثر القوى فى النفوس والقلوب، ولكلام الصوفية فى هذا الباب صولة ليست لكلام غيرهم من الناس000 ولكن هذا أفسد كثيرا من هذه الفوائد وقضى عليها0
... ومن واجب المصلحين أن يطيلوا التفكير فى إصلاح هذه الطوائف من الناس، وإصلاحهم سهل ميسور، وعندهم الاستعداد الكامل له، ولعلهم أقرب الناس إليه لو وجهوا نحوه توجيها صحيحا، وذلك لا يستلزم أكثر من أن يتفرغ نفر من العلماء الصالحين العاملين، والوعاظ الصادقين المخلصين – لدراسة هذه المجتمعات، والإفادة من هذه الثروة العلمية، وتخليصها مما علق بها، وقيادة هذه الجماهير بعد ذلك قيادة صالحة 0(1/72)
... وأذكر أن السيد توفيق البكرى رحمه الله فكر فى ذلك، وقد عمل دراسات علمية عملية لشيوخ الطرق وألف لهم فعلا كتابا فى هذا الباب، ولكن المشروع لم يتم ولم يهتم به من بعد الشيوخ، وأذكر من ذلك أن الشيخ عبد الله عفيفى رحمه الله كان معنيا بهذه الناحية وكان يطيل الحديث فيها مع شيوخ الأزهر وعلماء الدين، ولكنه كان مجرد تفكير نظرى لا أثر للتوجه إلى العمل فيه. ولو أراد الله والتقت قوة الأزهر بقوة الطرق الروحية بقوة الجماعات الإسلامية العملية، لكانت أمة لا نظير لها: توجه ولا تتوجه، وتقود ولا تنقاد، وتؤثر فى غيرها ولا يؤثر شىء فيها، وترشد هذا المجتمع الضال إلى سواء السبيل.)000 أ.هـ
... ومما يذكر لحسن البنا من مواقف فى شأن ((الدروشة))00
... فى القوصية فى إحدى جولات الدعوة دعا وجيه هذه البلدة (أحمد باشا جاد الرب) الإمام البنا وإخوانه إلى طعام العشاء 0
... وما أن انتهى الإمام من إلقاء خطابه، وبدأ ينصرف وسار فى الطريق الخارجى ومن ورائه الكثير من الإخوان .. وهنا وقف فضيلته وقال : يا حسن، نحن لسنا ((بتوع فتة)) ولا يمكن أن نذهب إلى منزل أحمد باشا هكذا، ثلاثة فقط يذهبون معنا 0
... ونظرا إلى مجموع من كان يتبعه من الإخوان وقال: إخوان منفلوط يسافروا، إخوان أسيوط يذهبوا كذا، إخوان كذا، وهكذا وزع كل من حوله، ومضى معه ثلاثة فقط !
... وهناك على المائدة، كعادته دائما لا يأكل إلا القليل، ثم يدخل إلى مكان نومه ليكتب فى مذكراته خلاصة أعمال يومه 0(1/73)
... وبناء على هذا الموقف وغيره من المواقف يأتى قول الإمام البنا الحاسم فى رسالته ((إلى الشباب يخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين ((دراويش)) قد حصروا أنفسهم فى دائرة ضيقة من العبادات الإسلامية كل همهم صلاة وصوم، وذكر وتسبيح، فالإخوان المسلمون لم يعرفوا الإسلام بهذه الصورة، ولم يؤمنوا به على هذا النحو، ولكنهم آمنوا به عقيدة وعبادة، ووطنا وجنسية، وخلقا ومادة، وثقافة وقانونا، وسماحة وقوة، اعتقدوه نظاما شاملا يفرض نفسه على كل مظاهر الحياة، ينظم أمر الدنيا كما ينظم الآخرة: اعتقدوه نظاما عمليا وروحيا معا، فهو عندهم دين ودولة، ومصحف وسيف، وهم مع هذا لا يهملون أمر عبادتهم، ولا يقصرون فى أداء فرائضهم لربهم، يحاولون إحسان الصلاة، ويتلون كتاب الله ويذكرون الله تبارك وتعالى على النحو الذى أمر به، وفى الحدود التى وضعها لهم، فى غير غلو ولا سرف، فلا تنطع ولا تعمق، وهم أعرف بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى)) وهم مع هذا يأخذون من دنياهم بالنصيب الذى لا يضر بآخرتهم، ويعملون بقول الله تبارك وتعالى ((قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق)) وأن الإخوان المسلمين ليعلمون أن خير وصف لخير جماعة وهو وصف أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم: ((رهبان بالليل فرسان بالنهار))، وكذلك يحاولون أن يكونوا والله المستعان ويخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين دعاة كسل أو إهمال، فالإخوان يعلنون فى كل أوقاتهم أن المسلم لا بد أن يكون إماما فى كل شىء ولا يرضون بغير القيادة، والعمل والجهاد، والسبق فى كل شىء: فى العلم وفى القوة وفى الصحة وفى المال.(1/74)
والتأخر فى أية ناحية من هذه النواحى ضار بفكرتنا مخالف لتعاليم ديننا، ونحن مع هذا ننكر على الناس هذه المادية الجارفة التى تجعلهم يريدون أن يعيشوا لأنفسهم فقط وأن ينصرفوا بمواهبهم وأوقاتهم وجهودهم إلى الأنانية الشخصية فلا يعمل أحدهم لغيره شيئا، ولا يعنى من أمر امته بشىء والنبى صلى الله عليه وسلم يقول : ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)) كما يقول: ((إن الله كتب الإحسان على كل شىء))0
حسن البنا .. والسلفية
... يرمى الإخوان المسلمين من بعض الجدليين بالزيغ فى عقيدتهم 000
... وإن كانت دوافع هذا الافتراء معروفة 00 وإن كان الإخوان يكرهون الجدل والخصومة والمراء والتهاتر بالآراء، فإننا نضع بين أيدى الباحثين عن الحق فى قضايا الاعتقاد القول الفصل كما حدده إمامنا الشهيد فى رسالة العقائد عند كلامه فى آيات الصفات وأحاديثها 0000
... ولكى يعلم هؤلاء الجدليون أن الإخوان سلفيون فى عقيدتهم يجسدونها للناس فى مواقف الأعمال وأعمال، لا ف مهاترات وأقوال 000000
... يقول الإمام :
... وردت فى القرآن الكريم آيات وفى السنة المطهرة أحاديث، توهم بظاهرها مشابهة الحق تبارك وتعالى لخلقه فى بعض صفاتهم، نورد بعضها على سبيل المثال، ثم نقفى بذكر ما ورد فيها من الأقوال، والله نسأل أن يوفقنا إلى بيان وجه الحق فى هذه المسألة، التى طال فيها جدل الناس ونقاشهم إلى هذا العصر، وأن يجنبنا الزلل ويلهمنا الصواب0000
... وبعد أن أورد فضيلته نماذج من الآيات والأحاديث التى ورد فيها لفظ الوجه ولفظ العين واليد مضافا إلى الله تبارك وتعالى، وبعض الآيات التى يؤخذ منها الجهة إلى الله تعالى 000 قال :
... انقسم الناس فى هذه المسألة إلى أربع فرق :(1/75)
1- فرقة أخذت بظواهرها كما هى ، فنسبت إلى الله وجهاً كوجود الخلق، ويداً أو أيدياً كأيديهم، وضحكا كضحكهم، وهكذا حتى فرضوا الآله شيخاً، وبعضهم فرضه شاباً، وهؤلاء هم المجسمة والمشبهة، وليسوا من الإسلام فى شىء، وليس لقولهم نصيب من الصحة، ويكفى فى الرد عليهم، قول الله تعالى: (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير (). وقوله تعالى : (قل هو الله أحمد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد)0
2- فرقة عطلت معانى هذه الألفاظ على أى وجه، يقصدون بذلك نفى مدلولاتها مطلقاً عن الله تبارك وتعالى، فالله تبارك وتعالى عندهم لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر؛ لأن ذلك لا يكون إلا بجارحة، والجوارح يجب أن تنفى عنه سبحانه؛ فبذلك يعطلون صفات الله تبارك وتعالى ويتظاهرون بتقديسه، وهؤلاءهم المعطلة، ويطلق عليهم بعض علماء تاريخ العقائد الإسلامية: الجهمية ولا أظن أن أحداً عنده مسكة من عقل يستسيغ هذا القول المتهافت! وها قد ثبت الكلام والسمع والبصر لبعض الخلائق بغير جارحة، فكيف يتوقف كلام الحق تبارك وتعالى على الجوارح؟! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا 0
هذان رأيان باطلان لاحظ لهما من النظر، وبقى أمامنا رأيان هما محل أنظار العلماء فى العقائد، وهما رأى السلف ورأى الخلف 0
3- أما السلف رضوان الله عليهم فقالوا: نؤمن بهذه الآيات والأحاديث كما وردت، ونترك بيان المقصود منها لله تبارك وتعالى، فهم يثبتون اليد والعين والأعين والاستواء والضحك والتعجب ... الخ وكل ذلك بمعان لا ندركها، ونترك لله تبارك الإحاطة بعلمها، ولاسيما وقد نهينا عن ذلك فى قول النبى صلى الله عليه وسلم: ((تفكروا فى خلق الله ولا تتفكروا فى الله فإنكم لن تقدروه قدره))0(1/76)
قال العراقى : رواه أبو نعيم فى ((الحلية)) بإسناد ضعيف، ورواه الأصبهانى فى الترغيب والترهيب بإسناد أصح منه، ورواه أبو الشيخ كذلك مع قطعهم رضوان الله عليهم بانتفاء المشابهة بين الله وبين الخلق. وإليك أقوالهم فى ذلك :
( أ ) روى أبو قاسم اللالكائى فى (أصول السنة) عن محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة رضى الله عنهما قال : ((اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التى جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صفة الرب عن وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما فى الكتاب والسنة ثم سكتوا))0
(ب) وذكر الحلال فى كتاب (السنة) عن حنبل وذكره حنبل فى كتبه مثل كتاب ((السنة والمحنة)) قال حنبل: ((سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التى تروى ((إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا)). و((إن الله يرى)) و((إن الله يضع قدمه)) وما أشبه هذه الأحاديث؟ فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق إذا كان بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف الله تبارك وتعالى بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية، ليس كمثله شىء))0(1/77)
(ج) وروى حرملة بنى يحي قال : سمعت عبد الله بن وهب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: من وصف شيئا من ذات الله مثل قوله (وقالت اليهود يد الله مغلولة) فأشار بيده إلى عنقه، ومثل قوله (وهو السميع البصير) فأشار إلى عينه أو أذنه أو شىء من يديه، قطع ذلك منه؛ لأنه شبه الله بنفسه ثم قال مالك: أما سمعت قول البراء حين حدث أن النبى صلى الله عليه وسلم لا يضحى بأربع من الضحايا وأشار البراء بيده كما أشار النبى صلى الله عليه وسلم، قال البراء : ويدى أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره البراء أن يصف يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له وهو مخلوق، فكيف الخالق الذى ليس كمثله شىء؟!
( د) وروى أبو بكر الأثرم، وأبو عمرو الطلمنكى وأبو عبد الله بن أبى سلمة الماجشون كلاما طويلا فى هذا لمعنى ختمه بقوله: ((فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه، لا هذا ولا هذا، لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف))0(1/78)
((اعلم، رحمك الله، أن العصمة فى الدين أن تنتهى حيث انتهى بك، ولا تجاوز ما قد حد لك؛ فإن من قوام الدين معرفة المعروف، وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة، وسكنت إليه الأفئدة، وذكر أصله فى الكتاب والسنة وتوارث علمه الأمة فلا تخافن فى ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيناً، ولا تكلفن بما وصف من ذلك قدراً0 وما أنكرته نفسك، ولم تجد ذكره فى كتاب ربك، ولا فى الحديث عن نبيك من ذكر صفة ربك فلا تتكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك، واصمت كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف به نفسه مثل إنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحد الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها، فقدو الله عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، ينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا فى كتابه، وما يبلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته من الرب قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره، ولا تسمية غيره من الرب مؤمن، وما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب تعالى من نفسه، والراسخون فى العلم، الواقفون حيث انتهى بهم علمهم، والواصفون لربهم بما وصف نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها لا ينكرون صفة ما سمى منها جحداً، ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقاً، لأن الحق ترك ما ترك وسمى ما سمى، ومن (يتبع غير سبيل المؤمنين نوله نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيرا (النساء. وهب الله لنا ولكم حكما، وألحقنا بالصالحين))0
مذهب الخلف فى آيات الصفات وأحاديثها
... قدمت لك أن السلف، رضوان الله عليهم، يؤمنون بآيات الصفات وأحاديثها كما وردت، ويتركون بيان المقصود منها الله تبارك وتعالى، مع اعتقادهم بتنزيه الله تبارك وتعالى عن المشابهة لخلقه0(1/79)
... فأما الخلف فقد قالوا : إننا نقطع بأن معانى ألفاظ هذه الآيات والأحاديث لا يراد بها ظواهرها، وعلى ذلك فهى مجازات لا مانع من تأويلها، فأخذوا يؤولون ((الوجه)) بالذات و((اليد)) بالقدوة وما إلى ذلك، هرباً من شبهة التشبيه وإليك نماذج من أقوالهم فى ذلك 0
... 1- قال أبو الفرج بن الجوزى الحنبلى فى كتابه ((دفع التشبيه)) :
قال الله تعالى : (ويبقى وجه ربك) (1) قال المفسرون: يبقى ربك، وكذلك قالوا فى قوله تعالى: (يريدون وجهه) (2) . أى يريدونه. وقال الضحاك وأبو عبيدة: (كل شىء هالك إلا وجهه) (3) إلا هو 0
... وعقد فى أول الكتاب فصلا ضافياً فى الرد على ما قالوا إن الأخذ بظاهر هذه الآيات والأحاديث هو مذهب السلف؛ وخلاصة ما قاله أن الأخذ بالظاهر هو تجسيم وتشبيه؛ لأن ظاهر اللفظ هو ما وضع له، فلا معنى لليد حقيقة إلا الجارحة، وهكذا. وأما مذهب السلف فليس أخذها على ظاهرها ولكن السكوت جملة عن البحث فيها. وأيضاً فقد ذهب إلى أن تسميتها آيات صفات وأحاديث صفات تسمية مبتدعة لم ترد فى كتاب ولا فى سنة، وليست حقيقةب فإنها إضافات ليس غير، واستدل على كلامه فى ذلك بأدلة كثيرة لا مجال لذكرها هنا0
... 2- وقال فخر الدين الرازى فى كتابه ((أساس التقديس)): واعلم أن نصوص القرآن لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه: الأول أن ظاهر قوله تعالى : (ولتصنع على عينى) (4) يقتضى أن يكون موسى عليه السلام مستقرا على تلك العين ملتصقاً بها مستعلياً عليها وذلك لا يقوله عاقل، والثانى أن قوله تعالى: (واصنع الفلك بأعيننا) (5) يقتضى أن يكون آلة تلك الصنعةن هى تلك العين، والثالث أن إثبات الأعين فى الوجه الواحد قبيح فثبت أنه لابد من المصير إلى التأويل، وذلك وهو أن تحمل هذه الألفاظ على شدة العناية والحراسة0
__________
(1) سورة الرحمن : 27
(2) سورة الأنعام : 52
(3) سورة القصص : 88
(4) سورة طه : 39
(5) سورة هود : 37(1/80)
... 3- قال الإمام الغزالى فى الجزء الأول من كتابه ((إحياء علوم الدين)) عند كلامه على نسبة العلم الظاهر إلى الباطن وأقسام ما يتأتى فيه الظهور والبطون والتأويل وغير التأويل: القسم الثالث أن يكون الشىء بحيث لو ذكر صريحاً لفهم ولم يكن فيه ضرر، ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز؛ ليكون وقعة فى قلب المستمع أغلب000 ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ((إن المسجد لينزوى (1) من النخامة كما تنزوى الجلدة على النار)). ومعناه أن روح المسجد وكونه معظماً، ورمى النخامة فيه تحقير له فيضاد معنى المسجد لا تنقبض من نخامة وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((أما يخشى الذى يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار))() وذك من حيث الصورة لم يكن قط ولا يكون، ولكن من حيث المعنى هو كائن إذ رأس الحمار لم يكن بحقيقته، وكونه وشكله بل بخاصيته، وهى البلادة والحمق. ومن رفع رأسه قبل الإمام فقد صار رأسه رأس الحمار فى البلادة والحمق، وهو المقصود دون الشكل. وإنما يعرف أن هذا السر على خلاف الظاهر إما بدليل عقلى أو شرعى.
__________
(1) قوله صلى الله عليه وسلم : ((إن المسجد لينزوى)) أى لينقبض. قال الزبيدى فى شرح الإحياء: قال العراقى: هذا لم أر له أصلا فى المرفوع وإنما هو من قول أبى هريرة ورواه أبن أبى شيبة فى مصنفه. قلت : ورواه كذلك عبد الرازق موقوفاً على أبى هريرة، وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة فى المسجد فى القبلة فقال: ((ما بال أحدكم مستقبل ربه فينخع أمامه أيحب أحدكم أن يستقبل فينخع فى وجهه؟))0(1/81)
أما العقلى فأن يكون حمله على الظاهر غير ممكن، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ()" إذ لو فتشنا عن قلوب المؤمنين لم نجد فيها أصابع، فعلم أنها كناية عن القدرة التى هى سر الأصابع وروحها الخفى، وكنى بالأصابع عن القدرة لأن ذلك أعظم وقعاً فى تفهم تمام الاقتدار " 0
... وقد نعرض لمثل هذا الكلام فى موضع آخر، وفيما ذكرناه كفاية0
... إلى هنا وضح أمامك طريقا السلف والخلف، وقد كان هذان الطريقان مثار خلاف شديد بين علماء الكلام من أئمة المسلمين، وأخذ كل يدعم مذهبه بالحجج والأدلة، ولو بحثت الأمر لعلمت أن مسافة الخلف بين الطريقين لا تحتمل شيئاً من هذا لو ترك أهل كل منهما التطرف والغلو، وأن البحث فى مثل هذا الشأن، مهما طال فيه القول، لا يؤدى فى النهاية إلا إلى نتيجة واحدة هى التفويض لله تبارك وتعالى، وذلك ما سنفصله لك إن شاء الله تعالى0
بين السلف والخلف :
... قد علمت أن مذهب السلف فى الآيات والأحاديث التى تتعلق بصفات الله تبارك وتعالى أن يمروها على ما جاءت عليه، ويسكتوا عن تفسيرها أو تأويلها؛ وأ، مذهب الخلف أن يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله تبارك وتعالى عن مشابهة خلقه. وعلمت أن الخلاف شديد بين أهل الرأيين حتى أدى بينهما إلى التنابز بالألقاب العصبية؛ وبيان ذلك من عدة أوجه :
... أولاً : اتفق الفريقان على تنزيه الله تبارك وتعالى عن المشابهة لخلقه 0
... ثانياً : كل منهما يقطع بأن المراد بألفاظ هذه النصوص فى حق الله تبارك وتعالى غير ظواهرها التى وضعت لها هذه الألفاظ فى حق المخلوقات، وذلك مترتب على اتفاقهما على نفى التشبيه 0(1/82)
... ثالثاً : كل من الفريقين يعلم أن الألفاظ توضع للتعبير عما يجول فى النفوس أو يقع تحت الحواس مما يتعلق بأصحاب اللغة وواضعيها، وأن اللغات، مهما اتسعت، لا تحيط بما ليس لأهلها بحقائقه علم، وحقائق ما يتعلق بذات الله تبارك وتعالى من هذا القبيل، فاللغة أقصر من أن تواتينا بالألفاظ التى تدل علىهذه الحقائق، فالتحكم فى تحديد المعانى بهذه الألفاظ تغرير 0
... وإذا تقرر هذا فقد اتفق السلف والخلف على أصل التأويل، وانحصر الخلاف بينهما فى أن الخلف زادوا تحديد المعنى المراد حيثما ألجأتهم ضرورة التنزيه إلى ذلك حفظا لعقائد العوام من شبهة التشبيه، وهو خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتاً 0
ترجيح مذهب السلف :
... ونحن نعتقد أن رأى السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعانى إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالاتباع، حسما لمادة التأويل والتعطيل؛ فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان، وأثلج صدره ببرد اليقين فلا تعدل به بديلا ونعتقد إلى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق، ولا تستدعى هذا النزاع الطويل بينهم وبين غيرهم قديماً أو حديثاً، وصدر الإسلام أوسع من هذا كله. وقد لجأ أشد الناس تمسكاً برأى السلف، رضوان الله عليهم، إلى التأويل فى عدة مواطن، وهو الإمام أحمد بن حنبل ضى الله عنه؛ من ذلك تأويله لحديث: ((الحجر الأسود يمين الله فى أرضه)) (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((قلب المؤمن من بين إصبعين من أصابع الرحمن (2) وقوله صلى الله عليه وسلم : ((إنى لأجد نفس الرحمن من جانب اليمين (3) " 0
__________
(1) قال العراقى: رواه الحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمر 0
(2) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو 0
(3) قال العراقى : رواه أحمد من حديث أبى هريرة فى حديث قال فيه : ((وأجد نفس ربكم من قبل اليمن)) ورجاله ثقات0(1/83)
... وقد رأيت للإمام النووى رضى الله عنه ما يفيد قرب مسافة الخلاف بين الرأيين مما لا يدع مجالا للنزاع والجدال ولاسيما وقد قيد الخلف أنفسهم فى التأويل بجوازه عقلا وشرعاً بحيث لا يصطدم بأصل من أصول الدين0
... قال الرازى فى كتابه ((أساس التقديس)): ((ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم نجز التأويل فوضنا بها إلى الله تعالى، فهذا هو القانون الكلى المرجوع إليه فى جميع المتشابهات، وبالله التوفيق))0
... وخلاصة هذا البحث أن السلف والخلف قد اتفقا على أن المراد غير الظاهر المتعارف بين الخلق، وهو تأويل فى الجملة، واتفقا كذلك على أن كل تأويل يصطدم الشرعية غير جائز، فانحصر الخلاف فى تأويل الألفاظ بما يجوز فى الشرع، وهو هين كما ترى، وأمر لجأ إليه بعض السلف أنفسهم، وأهم ما يجب أن تتوجه إليه همم المسلمين الآن توحيد الصفوف، وجمع الكلمة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، والله حسبنا ونعم الوكيل0
حسن البنا 000 ورجال الفكر والثقافة
... دعا الإخوان المسلمون بالاسكندرية إلى حفل شاى أقاموه فى نادى حديقة ((أنطونيادس)) لصفوة من رجال الفكر وأساتذة الجامعة بالاسكندرية، حضره الأستاذ عمر بهاء الدين الأميرى من قادة الإخوان بسوريا0
... وحين جاء دور فضيلة المرشد فى الحديث، تحدث بأسلوب المنطقين الذى يقوم على المقدمات والنتائج، وهو أسلوب العلماء الذين يبحثون فى ظواهر الأشياء مستخدمين ((المنهج العلمى)) فى البحث بغية الوصول إلى القوانين التى تحكم هذه الظواهر.. تحدث فضيلته عن حركة التاريخ الإسلامى، وكيف انتقلت قيادة البشرية اليوم إلى الغرب، حيث الاختراع والآلة وسرعة المواصلات، واتفاق دول الغرب رغم اختلافهم فيما بينهم على تدمير أمة المسلمين وحضارتهم0(1/84)
... ثم أخذ فى عرض خصائص الإنسان الغربى وحضارته وانفلاته من القيم والمثل الانسانية العليا.. فالإنسان الغربى بتكوينه التاريخى مادى بطبيعته، وجاءت حضارته الحديثة لتؤصل فيه الروح المادية وتزيدها عمقا، نتيجة حتمية لصلته الشديدة بالآلة الصماء التى لا تروى ظمأ القلوب ولا تتجاوب مع الفطرة الإنسانية، فالإنسان فى الغرب يمضى أكثر حياته يتعامل مع الآلة حتى أصبح وكأنه آلة تتحرك وجدان ولا شعور 000(1/85)
... بدأ فضيلته الحديث عن حركة التاريخ الإسلامى، وكيف بدأ بقيام الدولة الإسلامية الأولى على قواعد النظام الاجتماعى القرآنى الفاضل، تؤمن به إيمانا عميقا وتطبقه دقيقا وتنشره فى العالمي، حتى كان الخلفة الأول رضى الله عنه يقول: ((لو ضاع منى عقال بعير لوجدته فى كتاب الله)) وحتى أنه ليقاتل ما نعى الزكاة ويعتبرهم مرتدين لهدمهم هذا الركن من أركان هذا النظام ويقول: ((والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم متى استمسك السيف بيدى)) وكانت الوحدة بكل معانيها، ومظاهرها تشمل هذه الأمة الناشئة. فالوحدة الاجتماعية شاملة بتعميم نظام القرآن ولغة القرآن، والوحدة السياسية شاملة فى ظل أمير المؤمنين وتحت لواء الخلافة فى العاصمة، ولم يحل دونها أن كانت الفكرة الإسلامية فكرة لا مركزية فى الجيوش، وفى بيوت المال، وفى تصرفات الولادة، إذ أن الجميع يصدرون عن عقيدة واحدة ويعملون بتوجيه عام متحد.(1/86)
ولقد طاردت هذه المبادئ القرآنية الوثنية المخرفة فى جزيرة العرب وبلاد الفرس فضت عليها، وطاردت اليهودية الماكرة فحصرتها فى نطاق ضيق وقضت على سلطانها الدينى والسياسى قضاء تاما، وصارعت المسيحية الصليبية حتى انحصر ظلها فى قارتى آسيا وأفريقيا وانحازت إلى أوربا فى ظل الدولة الرومانية الشرقية بالقسطنطينية وتركز بذلك السلطان الروحى والسياسى بالدولة الاسلامية فى القارتين العظيمتين وألحت على القارة الثالثة تهاجم القسطنطينية من الشرق وتحاصرها حتى يجهدها الحصار وتأتيها من الغرب وتقتحم الأندلس وتصل جيوشها المظفرة إلى قلب فرنسا وإلى شمال وجنوب إيطاليا وتقيم فى غرب أوربا دولة شامخة البنيان مشرقة بالعلم والعرفان، ويتم لها بعد ذلك فتح القسطنطينية نفسها وحصر- الصليبية فى هذا الجزء المحدود من قلب أوربا، وتمخر الأساطيل الإسلامية عباب البحرين الأبيض والأحمر فيصير كل منهما بحيرة إسلامية، وتقبض قوات الدولة الإسلامية بذلك على مفاتيح البحار فى الشرق والغرب وتتم لها السيادة البرية والبحرية وقد اتصلت هذه الأمم الإسلامية بغيرها من الأمم، ونقلت كثيرا من الحضارات ولكنها تغلبت بقوة إيمانها ومتانة نظامها عليها جميعا فعربتها أو كادت واستطاعت أن تصبغها وأن تحملها على لغتها ودينها بما فيها من روعة وحيوية وجمال، ولم يمنعها أن تأخذ النافع من هذه الحضارات جميعاً من غير أن يؤثر ذلك فى وحدتها الاجتماعية أو السياسية0
... ومع هذه القوة البالغة والسلطان الواسع فإن عوامل التحلل قد أخذت تتسلل إلى كيان هذه الأمة القرآنية وتعظم وتنشر وتقوى شيئا فشيئا 000(1/87)
... وأخذت الأمة الإسلامية تنتقل من هزيمة إلى هزيمة ومن اندحار إلى اندحار ومن حفرة إلى حفرة بسبب الخلافات والانصراف السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه.. والخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن جوهر الدين0000، والانغماس فى ألوان الترف والنعيم00 وانتقال السلطة إلى من لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح00 وإهمال العلوم العملية والمعارف الكونية .. والغرور بسلطانهم والانخداع بقوتهم وإهمال النظر فى التطور الاجتماعى للأمم من غيرهم والانخداع بدسائس المتملقين من خصومهم0
... أخذت هذه العوامل تعمل فى كيان الدولة الإسلامية والأمة الإسلامية عملها وظنت الأمم الموتورة أن قد سنحت الفرصة لتأخذ بثأرها وتقضى على هذه الدولة الإسلامية التى فتحت بلادها من قبل وغيرت معالم أوضاعها فى كل شئون الحياة، فانحدر التتار كالسيل الدافق على الدولة الإسلامية وأخذوا يقطعون أشلاءها جزءا جزءا حتى وصلوا إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية ووطأوها بنعالهم فى شخص الخليفة المستعصم، وبذلك تبدد شمل الدولة وانتثر عقد الخلافة لأول مرة وتفرقت الأمة الإسلامية إلى دويلات صغيرة، فكل قبيلة فيها أمير للمؤمنين ومنبر، وتنبهت الصليبية فى أوربا وجمعت جموعها وقذفت الشرق المسلم فى آسيا وافريقيا بكتائبها فى تسع حملات صليبية اشتملت على خير ما فيها من فرسان وملوك وعتاد، وتمكنت هذه القوات الزاحفة من إقامة دولة صليبية فى بيت المقدس وتهديد أمم الإسلام فى الشرق والغرب، ومهاجمة مصر أقوى هذه الدول إذ ذاك0(1/88)
... ولكن الله تبارك وتعالى لم يأذن بعد للباطل أن ينتصر نعلى الحق فاستطاعت مصر أن تجمع حولها فلول بعض هذه الدويلات وتقذف بهم فى نحر الصليبيين بقيادة صلاح الدين فتستعيد منهم بيت المقدس وتريهم كيف تكون الهزيمة فى حطين، ثم تقف فى وجه اللتتار بقيادة الظاهر بيبرس وتردهم على أعقابهم خاسئين فى عين جالوت ثم تعيد رسم الخلافة من جديد، ويريد الله بعد ذلك أن تقوم للإسلام دولة وارفة الظلال قوية البأس شديدة المراس تجمع كلمة أهله وتضم تحت لوائها معظم أممة وشعوبه ويأبى لها علو الهمة إلا أن تغزوا الصليبية فى عقر دارها فتفتح القسطنطينية ويمتد سلطانها فى قلب أوربا حتى يصل إلى فيينا، تلك هى دولة الأتراك العثمانية0
... واطمأنت الدولة الإسلامية تحت لواء العثمانيين إلى سلطانها واستنامت إليه وغفلت عن كل ما يدور حولها ولكن أوربا التى اتصلت بأضواء الإسلام غربا بالأندلس وشرقا بالحملات الصليبية لم تضع الفرصة ولم تغفل عن الاستفادة بهذه الدروس فأخذت تتقوى وتتجمع تحت لواء الفرنجة فى بلاد الغال، واستطاعت بعد ذلك أن تصد تيار الغزو الاسلامى الغربى وأن تبث الدسائس بين صفوف المسلمين بالأندلس وأن تضرب بعضهم ببعض إلى أن قذفت بهم أخيرا إلى ما وراء البحر أو إلى العدوة الإفريقية، فقامت مقامهم الدولة الأسبانيولية الفتية وما زالت تتقوى وتتجمع وتفكر وتتعلم وتجوب البلاد وتكشف الأقطار حتى كان كشف أميركا عملا من أعمال أسبانيا وكشف طريق الهند عملا من أعمال البرتغال، وتوالت صيحات الإصلاح ونبغ بها كثير من المصلحينن وأقبلت على العلم الكونى والمعرفة المنتجة المثمرة. وانتهت بها هذه الثورات الإصلاحية إلى تكوين القوميات وقيام دولة قوية جعلت هدفها جميعا أن تمزق هذه الدولة الإسلامية التى قاسمتها أوربا واستأثرت دونها بإفريقيا وآسيا وتحالفت هذه الدول الفتية على ذلك أحلافا رقت بها إلى درجة القداسة فى كثير من الأحيان0(1/89)
... وامتدت الأيدى الأوربية بحكم الكشف والضرب فى الأرض والرحلة إلى أقصى آفاقها البعيدة إلى كثير من بلدان الإسلام النائية كالهند وبعض الولايات الإسلامية المجاورة لها وأخذت تعمل فى جد للوصول إلى تمزيق دولة الإسلام القوية الواسعة وأخذت تضع لذلك المشروعات الكثيرة تعبر عنها أحياناً بالمسألة الشرقية وأخرى بإقتسام تركة الرجل المريض، وأخذت كل دولة تنتهز الفرصة السانحة وتنتحل الأسباب الواهية وتهاجم الدولة الوادعة اللاهية فتنقص بعض أطرافها أو تهد جانبا من كيانها، واستمرت هذه المهاجمة أمدا طويلاً انسلخ فيه عن الدولة العثمانية كثير من الأقطار الإسلامية، وقعت تحت السلطان الأوربى (كالمغرب الأقصى وشمال أوربا) واستقل فيه كثير من البلاد غير الإسلامية التى كانت تحت سلطان العثمانيين كاليونان ودول البلقان وكان الدور الختامى فى هذا الصراع الحرب العالمية الأولى سنة 1914-1918 ميلادية الذى انتهى بهزيمة تركيا وحلفائها وبذلك سنحت الفرصة الكاملة لأقوى شعوب أوربا (انجلترا وفرنسا) وإلى جوارهما (إيطاليا) فوضعت يدها على هذا الميراث الضخم من أمم الإسلام وشعبوه، وبسطت سلطانها عليها فى أسماء مختلفة من احتلال واستعمار ووصاية وانتداب0
... ولقد خرجت الدول الأوربية من الحرب العالمية وبذور الحقد والبغضاء متأصلة فى صدور الكثير منها وجاء مؤتمر الصلح ومعاهداته لطمات قاسية لبعضها وخيبة أمل مؤلمة لكثير منها، هذا إلى ظهور كثير من الفكر الجديدة والمبادئ المتعصبة الشديدة التعصب، ولابد أن تنتهى هذه الحال بهذه الأمم إلى خلاف جديد وحرب طاحنة ضروس تبدد شملهم وتمزق وحدتهم وتعيدهم إلى رشدهم وتردهم عن ظلمهم، وتهب لأمم الإسلام فرصة أخرى تسوى فيها صفوفها وتجمع شملها وتستكمل حريتها وتسترد دولتها ووحدتها تحت لواء أمير المؤمنين: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض وتجعلهم الوارثين)0(1/90)
... إن الأمم الأوربية التى اتصلت بالإسلام وشعوبه فى الشرق بالحروب الصليبية وفى الغرب بمجاورة عرب الأندلس ومخالطتهم لم تستفد من هذا الاتصال مجرد الشعور القوى أو التجمع والتوحد السياسى ولكنها أفادت ذلك يقظة ذهنية وعقلية كبيرة واكتسبت علوما ومعارف جمة وظهرت فيها نهضة أدبية وعلمية واسعة النطاق، وقامت الكنيسة تناهض هذه الظاهرة الغريبة بكل ما أوتيت من قوة، وتذيق رجالها من الأدباء والعلماء مر العذاب، فتعتدى عليهم محاكم التفتيش وتثير ضدهم الدول والشعوب، ولكن ذلك كله لم يجدها نفعا ولم تثبت تعاليمها أمام حقائق العلم وكشوفه، وخرجت النهضة العلمية منتصرة كل الانتصار وتنبهت الدولة بذلك فصارعت الكنيسة هى الأخرى حتى صرعتها وتخلص بذلك المجتمع الأأوربى تخلصا تاما من سلطانها وطارد رجالها إلى المعابد والأديرة وألزم الباب الإقامة فى الفاتيكان وحصر عمل رجال الدين فى نطاق ضيق من شئون الحياة لا يخرجون عنه ولا يتطلعون إلى سواه ولم تبق أوربا على المسيحية إلا كتراث تاريخى، وعامل من عوامل تهذيب البسطاء والأغرار من دهماء الشعوب، ووسيلة من وسائل التغلب والاستعمار وقضاء المآرب السياسية، وامتد أمام الأوربيين رواق العلم وانفسخ مجال الاختراعات والكشف وضاعفت الماكينة الانتاج ووجهت الحياة وجهة صناعية، وسار ذلك جنبا إلى جنب مع نشأة الدولة القوية وامتداد سلطانها إلى كثير من البلاد والأقطار، فأقبلت الدنيا على هذه الأمم من كل مكان فكان طبيعيا بعد ذلك أن تقوم الحياة الأوربية على قاعدة إقصاء الدين عن مظاهر الحياة الاجتماعية وبخاصة الدولة والمحكمة والمدرسة وطغيان النظرة المادية وجعلها المقياس فى كل شىء000 وتبعا لذلك سارت مظاهر هذه الحضارة مادية بحتة تهدم ما جاءت به الأديان السماوية وتناقض كل المناقضة تلك الأصول التى قررها الإسلام الحنيف وجعلها أساسا لحضارته، التى جمعت بين الروحاية والمادية جميعا، ومن أهم الظواهر الذى(1/91)
لازمت المدنية الأوربية :
1- الالحاد والشك فى الله وإنكار الروح ونسيان الجزاء الأخروى، والوقوف عند حدود الكون المادى المحسوس:
(يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) (1) 0
2- الاباحية والتهافت على اللذة والتفنن فى الاستمتاع وإطلاق الغرائز الدنيا من عقالها وإشباع شهوتى البطن والفرج وتجهيز المرأة بكل صنوف المفاتن والمغريات والاغراق فى الموبقات إغراقا يحطم الأجسام والعقول ويقضى على نظام الأسر ويهدم سعادة البيوت: ((والذين كفروا يتمتعون، ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ) (2) 0
3- الأثرة فى الأفراد، فكل إنسان لا يريد إلا خير نفسه. وفى الطبقات فكل طبقة تتعالى عمن سواها وتود أن تحظى بالمغانم دونها. وفى الشعوب، فكل أمة تتعصب لجنسها وتنتقص غيرها وتحاول أن تلتهم من هى أضعف منها 0
__________
(1) سورة الروم : 7
(2) سورة محمد : 12(1/92)
4- الربا والاعتراف بشرعيته واعتباره قاعدة التعامل والتفنن فى صورة وضروبه وتعميمه بين الدول والأفراد، وقد انتجت هذه المظاهر المادية البحتة فى المجتمع الأوربى فساد النفوس وضعف الأخلاق والتراخى فى محاربة الجرائم فكثرت المشكلات وظهرت المبادئ الهدامة واشتعلت الثورات المخربة المدمرة واضطربت النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فلم تستقر على حال وتمزقت الدول بالطوائف والأحزاب وتناحرت الشعوب على المطامع والأحقاد، وأثبتت هذه المدنية الحديثة عجزها التام عن تأمين مجتمع الإنسان وإقرار الطمأنينة والسلام فيه وفشلها فى إسعاد الناس رغم ما فتحت عليه من حقائق العلم والمعرفة وما وفرت لهم من أسباب الغنى والثراء وما مكنت لدولها فى الأرض من قوة وسلطان ولما يمض عليها قرن كامل من الزمان0 (1)
وانتهى الإمام رضى الله عنه إلى هذا الحد الذى كشف فيه عن زيف الحضارة الغربية وسذاجة من انخدعوا بها، ثم انتقل إلى كشف ذلك الغزو الحضارى للأمة الإسلامية فقال (عمل الأوربيون جاهدين على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها القتالة جميع البلاد الإسلامية التى امتدت إليها أيديهم وأوقعها سوء الطالع تحت سلطانهم، مع حرصهم الشديد على أن يحتجزوا دون هذه الأمم عناصر الصلاح والقوة من العلوم والمعارف والصناعات والنظم النافعة وقد أحكموا خطة هذا الغزو الاجتماعى إحكاما شديدا واستعانوا بدهائهم السياسى وسلطانهم العسكرى حتى تم لهم ما أرادوا ) 0
__________
(1) يؤسفنى عدم التمكن من تسجيل هذا الحديث فى وقت القائه، وكنت أود ذلك لولا جاذبية أسلوب الإمام رضى الله عنه (ومعالجته الاخاذة لهذا الموضوع.. ولأهمية المعانى والحقائق التى تضمنها الحديث وضرورتها للنشء المسلم وجدت من الضرورى إثباتها فى كتابى هذا فاستعنت فى سردها بما جاء فى رسالة ن((بين الأمس واليوم)) فقد احتوت خلاصة لهذا الحديث القيم0(1/93)
وهكذا كان حسن البنا قادرا- بعون الله تعالى له – أن يخاطب كل فئة بلغتها وفى ميدانها وعلى طريقتها .. لقد كان رحمه الله يعرف لكل مقام مقاله فكان يعرف لغات الأزهريين والجامعيين والمهندسين والصوفية وأهل السنة.. كان يعرف لغة الفلاحين وأصحاب الحرف ... كان يعرف كل ذلك ليربطه فى لباقة مع دعوته ومعالمها الكبرى، فيجئ كلامه عجبا يأخذ بالألباب000
حسن البنا 0000 والكيد الرخيص
... لابد لمن يتصرو لمثل هذا العمل الكبير فى الوقت الذى فسدت فيه النفوس ولم يعد هناك عمل يمكن أن يفهم على أنه مجرد أو خالص لله 00
... كان لابد لحسن البنا من أن يواجه بمكائد من ذوى الأغراض، وقد حفلت حياة هذا الرائ العظيم بألوان شتى من الكيد الرخيص لم تنته يوماً ولم تهدأ لحظة00
... ومنذ اليوم الأول، ولم يكن للرجل يومها قوة لها خطرها، ومع ذلك فقد كان ذلك الطابع للدعوة يثير بعض النفوس المريضة التى تكره العيش فى النور، وتحقد على كل عامل000
... واجهت حسن البنا مكائد متعددة كان يقضى عليها بالحكمة.. فقد كان خلقه الايجابى، يمكنه من مواصلة هذه المكائد، وقد بدأ ذلك عندما وطن نفسه على العمل لفكرته 0
... عريضة إلى صدقى باشا :
... حدث عندما بدأ الإخوان بناء مسجدهم فى الإسماعيلية، وكان عملا ضخما جديداً أن أوعز بعض الناس الصدور على الأستاذ البنا.. فنشطت الدسائس والفتنة، وكان من بينها عريضة موقعة بأسماء لفيف من أهالى الاسماعيلية إلى رئيس الوزراء اسماعيل صدقى باشا – إذ ذاك – جاء فيها :
... أولاً : إن هذا الدرس متصل بموسكو ويستمد المال من هناك لأنه يبنى مسجد وجميعة 0
... ثانياً : إن هذا المدرس وفدى، يعمل ضد النظام الحاضر (نظام صدقى) ويقول إن الانتخابات بهذه الصورة باطلة، وأن دستور سنة 30باطل 0(1/94)
... ثالثاً : إن هذا المدرس ألقى محاضرة فى نادى العمال سنة 1930 عن أبى بكر الصديق، فقال إن انتخابه كان مباشراً ولم يكن من درجتين وإن الانتخاب باطل، وأنه ألقى محاضرة أخرى عن عمر بن عبد العزيز قال فيها إن عمر لم يأخذ من بيت المال شيئاً 0
... واهتمت الحكومة إهتماماً كبيراً بهذه العريضة، وكلفت مراقب التعليم فى الإسماعيلية بتحقيقها فزار المدرسة000
... وفى حجرة الناظر قال المراقب : هو ده كله الأستاذ حسن 000 !
... قال الناظر : أهو دا يا بك 000
... قال المدرس : يضع سره فى أضعف خلقه
... واستطاع الأستاذ البنا بعون الله له أن يحمل المراقب على زيارة مسجد الجمعية ودارها، وكان قد أعد العدة لدعوة طائفة من أعيان البلدة وكبار الموظفين، وأقام حفل شاى0
... ودعا المغرضين والمشتركين فى العريضة كذلك، والتأم الشمل، وتعاقب الخطباء.. ودهش الرجل وهو يستمع، أن هذا الخطيب نجار والآخر جناينى والثالث مكوجى000
... وقال : هذه أعجب مدرسة رأيتها.. ولم يلبث أن تناول شارة الإخوان ووضعها على صدره وأعلن انضمامه للجماعة 00
* * *
... آله يعبد 00
... كتب الإمام البنا فى مذكراته يقول :(1/95)
... ذات يوم فوجئت بإثنين من أخلص الإخوان دخلا على فى حالة من الألم الشديد، وقالا إن فى البلد إشاعة قوية ضدنا ونحن لا يمكنننا أن نسكت على هذه الاشاعات فأسمح لنا أن ننتقم من هؤلاء الذين يتقولون علينا بالباطل فابتسمت وقلت لهما إن ذلك من الخير والله تبارك وتعالى يقول : (( لتبلون فى أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)) (1) فعلينا بالصبر وبالتقوى، وهذا دليل حقية الدعوات أن يتقول عليها الناس بالباطل وأنتما تعلمان ماذا قيل عن دعوة الإسلام الأولى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذت أسترسل فى هذه المعانى. فقالا فى ألم ولكن هذا الذى سمعناه لا يمكن أنسكت عليه أبداً فإنه كلام فظيع يذيعه قوم معروفون ولهم أثرهم فى نفوس الناس!!!
... فقلت : وما هذا، فقالوا إنهم يقولون إنك تقول لنا فى دروسك اعبدونى من دون الله، وإن الإخوان المسلمين يعتقدون بناء على هذا أن الشيخ البنا إله يعبد وليس بشرا ولا نبيا ولا وليا ولا شيخا)) . ولقد تحرينا مصدر الإشاعة قبل أن نحضر إليك فعرفنا أن الذى يذيع هذا شيخ عالم يشغل منصبا دينيا ويصدقه الناس فيما يقول، فلم نكتف بهذا ولكنا ذهبنا إليه وسألناه من الذى أخبره بهذا فقال : لقد سمعته بأذنى من استاذكم، فأستغربنا الأمر وكررنا عليه القول فأكد لنا أنه سمع هذا القول منك. ونحن طبعاً لا نصدق هذا أبدا، ولكنا جئنا نسأل ونحن فى أشد الدهشة من جرأة هؤلاء الناس، ونريد مع هذا أن نعرف حقيقة هذا القول وأصل هذه الإشاعة!!!
__________
(1) سورة آل عمران : 186(1/96)
... نزل هذا الكلام نزول الصاعقة، وعجبت كيف يبلغ الكيد بالناس بعضهم لبعض هذا المبلغ العجيب، وأخذت أفكر فى مجلس جمعى بهذا الشيخ أو شىء يمكن أن يكون ذريعة لبعض هذا القول فلم أتذكر شيئا، ولكنى قمت من فورى وأخذت هذين الأخوين واستدعيت إثنين من إخواننا المدرسين الفضلاء أعلم أن لهما بهذا الشخص صلة وثيقة وبينهم صداقة وتزاور، وقصصت عليهما القصة وقلت لابد أن نذهب إليه الآن، ونسأله بأنفسنا عن أصل هذه الإشاعة لأنى أصارحكما بأنى لم أستطع بعد أن أصدق هذين الأخوين فى نقلهما عن هذا الرجل ولعله مظلوم أو لعلهما لم يفقها قوله، وليست التهمة مما يتساهل فيه، أو يغفل عنه فهيا بنا إليه وذهبنا نحن الحمسة وطرقنا باب الرجل ودخلنا إلى حجرة الانتظار وجاء يسلم علينا، فلما رآنا بجمعنا هذا أصفر وجهه وبدا الاضطراب فى صوته وحركاته. وكأنه شعر ما هنالك . ولم أدع له فرصة وقلت له توايا أستاذ: هذان الأخوان نقلالى الآن أنك تقول كذا وكذا وأنك قلت لهما سمعت هذا القول منى شخصيا بأنك. وهل ما نقله هذان الأخوان عنك صحيح وأنت قلت لهما هذا القول؟ فقال نعم. فقلت : برئت ساحتهما وأديا الأمانة، والتفت إليهما وقلت: جزا كما الله خيرا. ثم وجهت القول إليه ثانية وقلت : وأنت يا أستاذ متى سمعت منى هذا القول فقال : أتذكر منذ شهر تقريباً إننا كنا جالسين فى ((صندرة)) المسجد فدخل علينا أحد المدرسين واسمه محمد الليثى أفندى وجلس معنا، وجاء الإخوان يسلمون عليك فى شغف شديد واحترام فقال لك هذا المدرس يا أستاذ إن الإخوان يحبونك إلى حد العبادة، فقلت له إذا كان هذا الحب خالصاً لوجه الله فأنعم به من حب. ونسأل الله أن يزيدنا منه، وتمثلت بقول الشافعى :
إن كان رفضا حب آل محمد ... ... فليشهد الثقلان أنى رافض(1/97)
فقلت له نعم أذكر هذه الحكاية فقال أليس معنى هذا أنهم يعبدونك. وهنا رأينا أحد الإخوان من أصدقائه المدرسين الذين معى قام من فوره وإنهال عليه شتما وهم به ليضربه فى بيته فأخذ يخاطبه أهذا ما تعلمته يا أستاذ وهذا مبلغك من الفهم ومن الأمانة فى المجالس ومن الصدق فى نقل القول. ولكنا حلنا بينهما والتفت إلين وقلت له يا إستاذ لقد ذكرت هذا ولك أن تفهم فيه ما تشاء ولكنك أضفت إليه أننى أنا الذى آمر الإخوان بعبادة غير الله ((حاش لله وتعالت دعوته عن ذلك علوا كبيراً)) وأن هذه هى عقيدة الإخوان التى سمعتها منى، وحذفت من القول أننى عاتبته على هذا التعبير عتابا قاسيا وقلت له إن هذا التعبير غير إسلامى جاءنا به الأدب الأوربى والميوعة الغربية، وانزلق إلى ألسنتنا وأقلامنا بحكم التقليد الأعمى، وإن من واجب كل مسلم أن يحترس من مثل هذه التعبيرات والألفاظ. لقد ذكرت الحكاية يا أستاذ ونسيت هذا التعليق، وعلى كل حال فحسبنا هذا منك وقد وضح الصبح لذى عينين، ولكن الإخوان الحاضرين وكلهم أصدقاؤه لم يكتفوا بهذا وألزموه أن يوضح الأمر توضحياً جليا فى حفل عام من إحفال الإخوان وإلا فهم سيعلمون كيف يعاقبونه أشد العقاب وقد كا، ونزل الرجل على حكم أصدقائه، وفى أول محاضرة أسبوعية وقف فأعلن الحكاية وأعلن أنه لم يقصد إلا مجرد نقلها كما هى، وأنه شاكر للإخوان ودعوتهم جميل أثرها فى نفوس الأمة عامة والشباب خاصة، وقضى الأمر 0
حسن البنا 000 فى مؤتمراته ولقاءاته
المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين(1/98)
بعد مرور عشر سنوات على قيام جماعة الإخوان المسلمين – دعا الإخوان إلى المؤتمر الخامس الذى عقده بسراى آل لطف الله بالجزيرة، وكنت يؤمئذ لا أزال طالبا بمدرسة محمد على الصناعية ولم يسعدنى حظى بحضور هذا المؤتمر حيث كانت الامتحانات على الأبواب، ولكنى ترقبت إخوان – الاسكندرية العائدين من الؤتمر كى يتحدثوا إلينا عن مشاهداتهم، وقد سردوا لنا روعة هذا المؤتمر التى كان من مظاهرها حرص وفود جميع الأقاليم على الحضور. وقيام فرق الجوالة باستعراض قوى وإشرافها الدقيق على تنظيم المؤتمر، وخطاب الأستاذ المرشد الذى ألقاه فى المؤتمر وكيف أن الخطاب كان تطورا جديدا بل بعثا جديدا لمفهوم دعوة الإخوان وكشفا واضحا صريحا لمنهجهم ورسالتهم فى العالم الإسلامى أجمع0
ومن أجمل ما حدث أنه بعد أن ألقى الأستاذ المرشد خطابه، كان قد سبق واعده مطبوعا فى مجلة النذير، فقام الإخوة بتوزيعه على الحاضرين فى الحال، وقالوا إنه لأول مرة يحضر مندوبو الصحف والمجلات، ومما هو جدير بالذكر أن رسالة المؤتمر الخامس تعتبر من أهم الرسائل التى توضح (مبادئ الإخوان وحركتهم ومنهجهم فى كل المجالات بقوة وصراحة ووضوح وهى مرجع هام ومصدر أمين لتفهم حقيقة (حركة الإخوان المسلمين)0(1/99)
ولقد لفت نظرى فى دعوة الأستاذ المرشد العام إلى المؤتمر الخامس أنه دعا (على باشا إسلام) وهو شخصية كبيرة ومن المحبين للإخوان فى مدينة بنى سويف .. ليقوم بإفتتاح هذا المؤتمر.. مع أن هذا الصنف نادر وجوده فى صفوف جماعة الإخوان، ولكن الأستاذ البنا يعطى لكل موقف ما يناسبه من الرجال وما يصلح لتحقيق غاية لا يصلح لها غيره – (والحكمة ضالة المؤمن) ولما كان هذا المؤتمر له أهميته الكبرى فقد اختار فضيلة المرشد له مكانا يعتبر أكبر دار لها شهرتها وهى سراى آل لطف الله بالجيزة، واتخذ له كل تدابير الدعاية اللازمة على أوسع نطاق، ولما كانت الصحافة والشعور العام لا يهتم إلا بالمؤتمرات التى يحضرها الأعيان والوجهاء فكان لابد من أن يستعان بأحد هؤلاء الوجهاء المشهود لهم بالسمعة الطيبة وحسن الخلق ومحبة الناس له 0
وبالفعل صدرت جريدة الأهرام فى اليوم التالى ناشرة على إحدى صفحاتها أخبار هذا المؤتمر وصورة فوتوغرافية لعلى إسلام باشا وهو يخطب فى المؤتمر وبهذا استطاع الرأى العام أن يتعرف على كل شىء من أهداف جماعة الإخوان المسلمين ... ورحم الله إمامنا الشهيد، الذى كان يعرف أقدار الرجال ويعرف لكل موقف ما يلائمه ليصل به إلى ما يحقق أهداف الدعوة فى صبر وحلم وأناة وإنتهى هذا المؤتمر العظيم بالقرارات الآتية :
أولاً : يقرر المؤتمرون تأييد مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين فى خطوته الموفقة ويشكرون لحضرات أعضائه نهوضهم بعبء الدعوة 0
ثانياً : العمل علىنشر دعوة الإخوان، كل دائرة فيما يحيط بها من القرى والبلدان، والعمل على تكوين الكتائب وفرق الجوالة فى شعبهم0
ثالثاً : يقترح المؤتمرون على مكتب الإرشاد العام الإسراع فى تشكيل اللجان الآتية :(1/100)
( أ ) لجنة دستورية من أعضاء الجماعة المختصين لدراسة نصوص الدستور المصرى والموازنة بينها وبين القواعد الأساسية فى نظام الحكم الإسلامى، ثم العمل على لإحلال النظم الإسلامية محل غيرها مما لا يتفق معها0
(ب) لجنة قانونية للموازنة بين القانون الوضعى فى كل فروعه وبين القانون الإسلامى وبيان نواحى الخلاف بينهما، ومطالبة الحكومة بتعديل القانون حتى يتفق مع أحكام الإسلام0
(ج) لجنة علمية لوضع كتاب مختصر مفيد فى العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات الإسلامية، مدعم بالأدلة من الكتاب والسنة، بعيد عن مناحى الخلاف وتشعب الآراء حتى يكون مرجعا للإخوان ولمن شاء 0
(د ) لجنة فنية تكون مهمتها دراسة مشروع بناء دار لمكتب الإرشاد العام بالقاهرة ومعرفة ما يلزم لذلك من النواحى0
(هـ) لجنة خاصة لدراسة قضية طرابلس وإتخاذ ما يمكن من الوسائل للمحافظة على كيانها العربى والإسلامى0
رابعاً : تحية المفتى الأكبر والمجاهدين الكرام فى فلسطين المباركة وأعضاء اللجنة العربية العليا وفضلاء أعضاء الوفود الإسلامية الأمجاد بمؤتمر لندن، مع إرسال برقية لسماحة المفتى بمقره بلبنان، ولسمو رئيس وفد مصر بلندن بالمؤتمر، ولوزير خارجية انجلترا بتأييد المطالب العربية بمناسبة إنعقاد المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين0
خامساً : مطالبة الحكومة المصرية بالإسراع فى سن التشريعات اللازمة لحماية الآداب والأخلاق والعقائد، ويقترح المؤتمرون على الحكومة أن تسرع فى تكوين لجنة من علماء الأزهر ورجال الجمعيات الإسلامية ورجال القانون لإرشادها إلى ما يجب أن تفعل فى هذا السبيل فى كل نواحى التربية الهامة. وتحضير القوانين اللازمة لذلك فالأمر لا يحتمل الإبطاء 0
سادساً : رفع هذه القرارات وإبلاغها إلى الجهات المختصة وإذاعتها فى الجرائد وعلى شعب الإخوان المسلمين فى القطر وفى الخارج 0(1/101)
وقد أرسلت البرقيات المشار إليها إلى أصحابها، وأخذ المكتب يعد العدة لإنفاذ هذه القرارات0
المؤتمر الشعبى الأول بالقاهرة
بعد أن عاد محمود فهمى النقراشى باشا بعد إلقاء خطابه بالجمعية العمومية للأمم المتحدة، قام الإخوان المسلمون بعمل مؤتمرات شعبية لتأييد المطالب الوطنية بجلاء الانجليز عن أرض مصر 00 إذ كانوا قادوا المظاهرات وأعلنوا عن يوم الجلاء ويوم الحريق: إذ كانوا يجمعون كل الكتب والمجلات الانجليزية ويحرقونها فى الميادين العامة فى عواصم المحافظات، كما قاموا بتوزيع آلاف من شارات الجلاء، وأنزلوا كل اللافتات المكتوبة باللغة الإنجليزية من المحال التجارية 0
وكان المؤتمر الشعبى الأول بمدينة القاهرة فى أحد أيام عيد الأضحى المبارك، حيث اجتمع له أكثر من نصف مليون مواطن لم تتسع لهم دار الإخوان ففرشت الشوارع المحيطة بميدان الحلمية الجديدة بالحصير، وخطب فى هذا المؤتمر الأستاذ احمد السكرى والأستاذ لويس فانوس عضو مجلس الشيوخ. وحين دعى الأستاذ المرشد لإلقاء كلمته قام من وسط الجماهير حيث كان يجلس معهم على الحصير0
وتحدث حسن البنا فى هذا المؤتمر ، فكان مما قال :
إننا نحن المصريين نطالب بجلاء القوات البريطانية عن الوطن العربى والإسلامى وفى نفس الوقت لا نزال نتعامل معهم ونجاملهم وليس هذا الأسلوب بمخرجهم من بلادنا. إننا فى حاجة إلى شعور من البعض ينبع من قلوبنا ومن فقه عقيدتنا ... إنه لا يمكن خروج الأعداء بالمعنى السياسى وحده ولا المصلحة وحدها، ولكن لابد من عامل العقيدة أولاً، فلابد من أن يدفعنا إلى ذلك شعور من البغض، وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟ ! ولهذا فأنا أقول لكم إذا سلم عليكم إنجليزى فأغسل يديك سبع مرات بالماء إحداهن بالتراب0
ثم قال : يجب أن يعلم كل مصرى أن مصر تدين بريطانيا العظمى بحوالى 500مليون جنيه، وعلى هذا يكون نصيب كل فرد عشرون جنيهاً فيجب على كل مصرى أن يطالب بحقه فى هذا الدين0(1/102)
ثم قال : ليعلم كل مصرى أن بريطانيا قد خرجت من الحرب العالمية الثانية فقيرة ومدينة لجميع الدول، وأصبح مثلها الآن فى نظر الشعوب (كخيال المآتة) الذى يضعه المزارعون فى وسط المزارع ليرهبوا به العصافير والطيور، أو مثل رجل غنى أصابه الفقر وباع كل ما يملكه سوى بدلة (ريدنجوت)، أبقى عليها وحدها ليلبسها فى الحفلات الكبرى ليظن الناس حين يخرج بها أنه لا يزال بجاهه وغناه0
وختم الأستاذ المرشد خطابه فقال: إننا يجب أن نرضع أطفالنا كراهية وبغض الإنجليز، وسنجعل من قنوتنا فى الصلاة (اللهم رب العالمين وأمان الخائفين ومذل المتكبرين وقاسم الجبارين: تقبل دعاءنا وأجب نداءنا وأنلنا حقنا ورد إلينا حريتنا. اللهم إن هؤلاء الظالمين قد طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد، اللهم فرق جمعهم وفل حدهم وشتت شملهم وأجعل بأسهم بينهم شديدا واهزمهم وانصرنا عليهم ) 0
00 ثم قال بكل قوة وحماس: سوف نعلم أولادنا الحرية والوطنية كما نعلمهم السورة من القرآن.. إياك نعبد وإياك نستعين. إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم. كما نعلمهم اخرجوا من بلادنا مصر والسودان وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق وسائر بلاد المسلمين 0
وضج المؤتمر بالهتافات التى دوت فى كل الأرجاء، واختتم فى ساعة متأخرة من الليل وبات آلاف الإخوان فى القاهرة والأقاليم فى الأرض الفضاء المعدة لبناء دار الطباعة والنشر الإسلامية المقابلة لمسجد قيسون بشارع محمد على0(1/103)
وفى أرض دار الطباعة والنشر وقف الأستاذ المرشد على منصة وظل الإخوان يسلمون عليه أفراداً إلى قبيل الفجر.. ولا زلت أذكر وأنا أقف فى الصف الطويل كى أسلم على فضيلته: قول أحد الإخوة وهو يسلم عليه : هل تذكرنى يا فضيلة المرشد؟ فنظر إليه ثم قال له : نعم أذكرك، ألست فلان الذى ألقى قصيدة فى حفل طنطا مطلعها كذا. وكنت قبل أن يرد عليه الأستاذ فى غاية الإشفاق من هذا الموقف الحرج، كما كنت غير مستسيغ لمثل هذا السؤال، ذلك أن الأستاذ المرشد كثيرا ما يسلم على كل بأسمه وأحيانا يستوقفه ليسأله عن بعض شأنه، والحديث يطول فى الإحاطة بحدة ذاكرة الأستاذ المرشد التى ميزه الله بها0
ومن أجمل ما كان فى هذا المؤتمر – فى خاتمته – هو تجول فضيلته بين الإخوان ولقاؤه بهم جماعات حتى أدركه الفجر فأدى صلاة الفجر بالإخوان فى جامع قيسون ثم بدأت الوفود تنصرف 0
المؤتمر الشعبى الثانى بالإسكندرية
وبعد إنتهاء المؤتمر الشعبى الأول بالقاهرة دعا الإخوان المسلمون بالإسكندرية إلى عقد مؤتمر شعبى، وقاموا بالدعاية اللازمة، حتى احتشد أكثر من عشرة آلاف مواطن داخل المكان المعد للحفل وخارجه. كما حرص الإخوان فى هذا المؤتمر علىتوفير كل وسائل الأمن والمحافظة على النظام. وذهبت جوالة الإخوان بالإسكندرية لإستقبال فضيلة المرشد وصحبه حين حضورهم بالقطار فى المحطة، فعندما وصل القطار تعالت الهتافات ((بشراك يا مصر)) كل ردد الإخوان المسلمون هتافهم ( الله أكبر ولله الحمد) مدويا فى كل الأرجاء، ونزل من القطار الوفد المرافق للأستاذ المرشد ليقول لنا : إن الأستاذ سيلتقى بكم فى شعبة محرم بك. وانتاب الإخوان شعرو بالضيق، ولكن لم يسعهم إلا الانصراف بنفس النظام إلى الشعبة فى مظاهرة إسلامية رائعة، والشرطة تراقب دون أى تدخل0(1/104)
وبعد أن انصرف الإخوان من محطة السكة الحديد خرج الأستاذ المرشد من المحطة ذاتها فى هدوء وركب عربة (حنطور) وسار فى الطريق إلى شعبة محرم بك، ولم نلتفت لهذا الموقف إلا بعد أن وصلنا حيث فهمنا من ذلك أن الأستاذ المرشد لم يرغب فى هذه الصورة من الاستقبالات، وأنه آثر أن يكون الاستقبال عاديا0
وفى المساء تحدث فضيلته فى المؤتمر الذى حضره فيمن حضر الأستاذ فؤاد سراج الدين سكرتير حزب الوفد وآخرون، وكان من كلامه فى هذا المؤتمر قوله: إن الإسلام نظام شامل كامل، إذا كان بعض المسلمين يجهلون الإسلام بهذا الشمول، فإننا نعذرهم إذا صح أن الجهل عذر0
ولازلت أذكر هذا المثل الدقيق، الذى صور به –فضيلته- حال الناس فى نظرهم إلى الإسلام أجزاء وتفاريق.. قال : إننى أمثل الإسلام كهرم كبير له أربعة أركان، إذا وقف أحد أمامه لا يرى منه إلا وجها واحدا، فيقول: إن الإسلام عبادة، ويقول آخر: إن الإسلام تصوف، ويقول ثالث: إن الإسلام معاملة، ويقول رابع إن الإسلام سياسة، وكل منهم يتعصب لما رأى.. وهكذا تعددت آراؤهم وتصوراتهم بحسب ما رأوا من أركان الإسلام والحقيقة أن الإسلام هو كل هذا الذى رأى كل منهم، ولكنهم لن يدركوه كاملا ولن يحيطوا به كله إلا إذا وقفوا على قمة الهرم، وساعتئذ تنكشف لهم حقيقة الإسلام المتكاملة مرة واحدة 0
وبعد أن انتهى المؤتمر الذى أستمر أكثر من أربع ساعات متصلة ازدحم الناس ليسلموا على فضيلته فأقبل عليهم بانشراح وبعد أن اتنتهى خرج إلى الباب فوجد الأستاذ فؤاد سراج الدين ينتظره بسيارته، فلما دعاه ليركب معه شكره واعتذر له حيب أن شعبة محرم بك على مقربة من المكان0
ولما ذهب فضيلته إلى شعبة محرم بك وقف الإخوان من حوله يسلمون عليه، وقد لاحظت أن بعض الإخوة يعودون مرة أخرى للسلام، وطلبت من الإخوان أن يتصرفوا حتى يعطوا لفضيلة المرشد فرصة للراحة، فانصرف الإخوان0(1/105)
وحين ذهبنا إلى منزل المهندس محمد القراقصى للمبيت عنده طلبنى الأستاذ وسألنى فى عتاب: لماذا أمرت الإخوان فى شعبة محرم بك بالانصراف؟ فقلت : لأننى اشفقت على فضيلتكم من التعب والإرهاق. فقال : ومن قال إتنى متعب. قلت: السفر طويل والمؤتمر الذى استمر أكثر من أربع ساعات ثم إن بعض الإخوان يسلمون عليك أكثر من مرة، ولكن يبدو أنك لم تفهم 00 إن سعادتى لا تقدر حين أضع يدى فى يد إخوانى.. إنها روح وحياة وسعادة تمسح التعب والألم والإرهاق. فأطرقت خجلا وبدأت أفهم بل أتذوق0
وحين جاء موعد تناول طعام العشاء، جلسنا على المائدة وكان فضيلته يقوم بنفسه بتوزيع الطعام علينا، ويرغبنا فى الأصناف الموجودة، ويتناول معنا الأحاديث التى تدخل علينا السرور ... 0000 ذلك أنه كان يتلطف معنا بصورة ترفع كل التكلف وتشعرنا بالحب والأخوة الصادقة، حيث يشعر كل واحد منا بأنه أقرب إلى قلبه من غيره0
وفى صباح اليوم التالى غادر الإسكندرية فى أمان الله إى دمنهور حيث دعى لصلاة الجمعة فى مسجد الزرقا0
إجتماع رؤساء المناطق والشعب ومراكز الجهاد 0
دعا المركز العام للإخوان المسلمين رؤساء المناطق والشعب ومراكز الجهاد فى جميع أنحاء المملكة المصرية إلى الاجتماع فى اليوم الثانى من عيد الفطر 2من شوال 1364 الموافق 8من سبتمبر 1945 للنظر فى موقف الإخوان من الحقوق والوطنية فى ذه الآونة0(1/106)
وقد لبى الدعوى ألفان وخمسمائة عضو يمثلون فروع الهيئة ودام الإجتماع برئاسة فضيلة الستاذ ((حسن البنا)) المرشد العام حوالى أربع ساعات تناولوا فيه البحث فى موقف الجماعة من الحقوق الوطنية، كما تناولوا موضوع القانون رقم 49 لسنة 1945 (1) الذى أصدرته وزارة الشئون الإجتماعية الخاص بالجمعيات وبعد مناقشات أصدروا القرارات الآتية :
يقرر المجتمعون بإعتبارهم الجمعية العمومية للإخوان المسلمون التى تمثل مناطقهم وشعبهم فى المملكة المصرية ما يأتى :
أولاً – فيما يتعلق بموقف الإخوان المسلمين بمناسبة صدور القانون رم 49 لسنة 1945 الخاص بتنظيم الجمعيات الخيرية والمؤسسات الإجتماعية0
إن جماعة الإخوان المسلمين هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق المقاصد والأغراض التى جاء بها الإسلام الحنيف ومنها :
1- الغرض العلمى: وهو شرح دعوة القرآن الكريم شرحاً دقيقاً، وعرضها عرضاً يوافق روح العصر ويرد عنها الأباطيل والشبهات0
2- الغرض العلمى: وهو جمع كلمة الأمة المصرية والأمم الإسلامية عامة على هذه المبادئ احتى يتكون رأى إسلامى عام يعمل على نصرتها وتحقيقها 0
3- الغرض الإقتصادى: وهو يرمى إلى تنمية الثروة القومية من زراعية وصناعية وتجارية ويعمل على تحريرها وحمايتها0
4- الغرض الإجتماعى : وهو يحقق رفع مستوى المعيشة وكفالة التوازن الاجتماعى بين الأفراد والطبقات وضمان تكافؤ الفرص للجميع بمكافحة المرض والفقر والجهل والرذيلة وتشجيع أعمال البر0
__________
(1) انظر قصة هذا القانون كاملة فى كتاب ((الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ)) للأستاذ محمود عبد الحليم الجزء الثانى الصفحات من 175 إلى 199 (من منشورات دار الدعوة باسكندرية) 0(1/107)
5- الغرض الوطنى القومى: وهو تحرير وادى النيل، والمساهمة فى العمل على استقلال البلاد العربية والشعوب الإسلامية من كل سلطان أجنبى، واستنقاذ الأقليات الإسلامية فى كل مكان ومساعدتها إلى الوصول إلى حقها وتأييد الوحدة العربية والسير إلى الجامعة الإسلامية0
6- الغرض العالمى : وهو المشاركة فى بناء السلم العالمى على قواعد من الأخوة الإنسانية والعدالة الدولية، وتجلية مبادئ الإسلام العالمية التى تحقق هذه القواعد ليقوم النظام العالمى على أساس جديد من تآزر المادة والروح 0
ووافق المجتمعون على التعديل المعروض للقانون العام وفقاً لهذه الأغراض
ثانياً : - فيما يتعلق بموقف الهيئة من الحقوق الوطنية فقد قرر المجتمعون ما يأتى :
1- من حق مصر أن تنال حقوقها الوطنية ومن واجب بريطانيا والأمم المتحدة أن تعترف لها بذلك، وفى مقدمة هذه الحقوق :
( أ ) جلاء القوات الأجنبية جميعا عن أرض وادى النيل فورا 0
(ب) حل مسألة السودان حلا سريعا على أساس أن مصر والسودان وطن واحد للسودانى ما للمصرى من حقوق وعليه ما عليه من واجبات 0
(ج) قناة السويس أرض مصرية تقوم مصر وحدها بحراستها وحمايتها وتنظيم شئونها0
(د ) رفع جميع القيود الاقتصادية والتجارية والمالية والنقدية التى قبلتها مصر مساهمة منها فى المجهود الحربى (1) . واستيفاء ديون الأرصدة الاسترلينية والديون الأخرى التى لمصر على انجلترا0
2- مطالبة الأمم المتحدة – تطبيقا لميثاق الأطلنطى الذى أعلنته – أن تعترف بحق الوطن العربى والإسلامى فى الحرية والإستقلال. وإستنكار كان تصريح أو رأى يرمى إلى انتقاض حقوق هذه الأمم وتشجيع الاستعمار الظالم على التدخل فى شئونها0
__________
(1) فى الحرب العالمية الثانية، فقد كانت مصر حليفة لبريطانيا فى هذا الوقت 0(1/108)
3- يرى المجتمعون أن من واجب الهيئات والأحزاب والجماعات أن تنتهز هذه الفرصة التى إن فاتت فلا تعوض، للعمل مجتمعين أو منفردين على هذه الأهداف بوسائل يتفق عليها. وعلى المركز العام للإخوان المسلمين أن يؤلف لجنةتذكرهم بواجبهم وتدعوهم إلى القيام به إبراء للذمة وإعذارا إلى الله والناس 0
4- على المركز العام للإخوان المسلمين أن يقوم بواجبه كاملا فى هذه الساعات الفاصلة بأن يعمل بكل الوسائل لتحقيق هذه الغايات ومن ذلك :
( أ ) إذاعة البيانات والنشرات 0
(ب) عقد المؤتمرات فى عواصم المحافظات والمديريات والمدن الهامة 0
(ج) الدعوة لعقد مؤتمر عربى إسلامى فى إحدى عواصم الأقطار العربية لتنسيق خطة العمل المشترك بين الشعوب العربية والإسلامية والبدء فى ذلك منذ الآن بإرسال مندوبين من المركز العام للإخوان المسلمين للتفاهم على ذلك مع الهيئات الوطنية والإسلامية المختلفة فى هذه البلاد0
(د ) إرسال الوفود والبعثات إلى عواصم الدول الكبرى لبث الدعوة وتنوير الشعوب والحكومات فى القضية الوطنية والإسلامية 0
5- إن مصر، والأمم العربية والإسلامية – وهى ترى من واجبها أن تساهم فى الأمن العالمى وفى بناء الحضارة الجديدة على أساس العدالة والمساواة لم تعد غافلة ولا لاهية عما يدور حولها من أحداث جسام وإتفاقات ومؤتمرات تتناول مصالحها الجوهرية وحقوقها الطبيعية. وإن من حق أية دولة أن تمثل فى أى اجتماع يتصل بهذا الحقوق والمصالح فإذا لم تدرك الأمم الكبرى هذه الحقائق فإن المجتمعين – وهم الحريصون على إستقرار الطمأنينة والسلام – يدركون أن الشعب المصرى والشعوب العربية والإسلامية ستضطر اضطرارا إلى الوقوف من الدول المعتدية فى الخارج والحكومات غير الوطنية التى تصادقها فى الداخل موقفا لا يعين على التعاون العالمى المنشود الذى هو أمنية الجميع0(1/109)
6- بما أن العالم الآن تتقاذفه عدة تيارات فكرية ونفسانية، وبما أن الشعور العالمى قد تهيأ للرجوع إلى الهدوء الروحى وبما أن كلمة الدول الكبرى قد اجتمعت على أن من حق كل أمة أن تضع نظامها الداخلى كما تريد، وبما أن الفكرة الإسلامية قد ظفرت بالتقدير الكامل فى مؤتمر لاهاى سنة 1938 وفى مؤتمر واشنطون سنة 1942 وبما أنها فى حقيقتها أكمل نظام إجتماعى للمسلم وغير المسلم عرفته الإنسانية بوما أن الدستور المصرى ينص فى المادة 149 على أن (الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية) فإ من واجب الحكومة المصرية كائنة ما كانت أن تعمل على تحقيق ذلك عمليا وأن يكون من مظاهر ذلك :
( أ ) أن تعلن أنها حكومة إسلامية تلتزم أحكام الإسلام وتدعو إليه وتمثل فكرته دوليا 0
(ب) أن تحترم فرائضه وتقاليده رسميا وتلزم بها موظفيها وعمالها المسلمين 0
(ج) أن تحرم المنكرات التى يحرمها الإسلام من الخمر وما يتصل بها والزنا وما يمهد له والربا وما يمحقه من قمار وكسب حرام 0
(د) أن يستند التعليم على التربية الإسلامية ويحقق فى نفوس المتعلمين فضائل الإسلام العليا ويثقفهم فى أحكامه 0
(هـ) أن يستند التعليم على التربية الإسلامية ويحقق فى نفوس المتعلمين فضائل الإسلام العليا ويثقفهم فى أحكامه0
( و) أن تصدر الحكومة عن هذا التوجيه الإسلامى فى كل تصرفاتها العامة والخاصة 0
7- يرفع المركز العام هذه القرارات إلى الجهات الرسمية وإلى ممثلى الدول العربية والإسلامية والأجنبية وتنشر فى الصحف ويصدر بها عدد خاص من مجلة الإخوان المسلمين 0
حسن البنا 000 يشرح مراحل دعوته(1/110)
... عدنا بعد حفل الشاى الذى أقامه الإخوان لرجال الفكر والجامعة بالاسكندرية فى نادى حديقة ((انطونيادس)) (1) إلى دار شعبة الإخوان بمحرم بك وكانت نوعية المستمعين تختلف عن نوعية المستمعين فى حفل الشاى، فأختلف أسلوب الدعوة والداعية.. ففى هذه المرة أخذ الأستاذ البنا يشرح دعوته، ومراحلها مستخدما أسلوب التشبيه وضرب الأمثال، هذا الأسلوب الذى يجىء فى القرآن الكريم بتصويره الفنى للتوضيح والإبانة وإقامة الدليل، فلو قرأت قوله تعالى : ((ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) (2) تلحظ أسلوبا رائعا فى التصوير الفنى وإبراز الكلمة الطيبة فى أجمل بشجرة مقطوعة لا تستقر فى مكانها 0
000 ذكر فضيلته أن وزيرا حدثه فقال : أنت يا فضيلة المرشد مثلك فى هذه الدعوة كرجل ورث مع أهله قصرا فخما كبيرا مضى عليه أكثر من ألف عام ، وهذا القصر بدأ يتهدم وكاد يسقط. فرأيت أن تجمع الورثة جميعا وتشاورهم فى أمر إصلاح هذا القصر وترميمه قبل أن يسقط. ولكن الجميع رفضوا ذلك، فبعضهم إحتج بأن القصر لا محالة سيسقط وأن إصلاحه عبث لا طائل من ورائه. وبعضهم اعتذر عن أنه لم يعد له أمل فى هذه الحياة فقد قارب الموت. وبعضهم احتج بضيق ذات يده.. وهكذا تعلل الجميع بالمعاذير
00 ومضى فضيلته فى سرد القصة:
__________
(1) انظر : موضوع ((حسن البنا.. ورجال الفكر والثقتافة)) فى هذا الكتاب 0
(2) سورة إبراهيم : 24 0(1/111)
ولقد كنت مقدرا لو تعاون معى الورثة تعاونا وثيقا، فإنه فى الإمكان أن نختصر الوقت فى إصلاح هذا القصر حتى يتم ذلك فيما لا يزد عن عشرين عاما. فلما رفض الورثة التعاون معى رأيت أن لا أتخلى عن واجب الوفاء لإنقاذ هذا القصر، وقلت فى نفسى المهم هو الوصول إلى الإصلاح كطال الزمن أم قصر، ومضيت فى العمل مستعينا بالله تعالى. وبدأت أحيط هذا القصر بسور عال كما يفعل فى تجديد العمارات الآيلة للسقوط.. وحجبت القصر عن الأعين تماما. وأخذت أجوب البلاد وأتحدث مع العباد وأبنى لبنة حتى إذا أطمأننت إلى سلامة القصر وقوة بنيانه رفعت هذا السور، ففوجئ الناس بهذا القصر قويا جديدا ودهشوا متى وكيف تم ذلك؟! ثم أشاعوا من أين المال ومن أين الرجال؟! 00 ولكن كل ذلك حدث بعد فوات الأوان، وبعد أن ظهر القصر قويا شامخا 0
رأينا فى المثال السابق كيف شبه الإمام البنا الدعوة يوم قيامه بها بقصر متداع تخلى عنه أصحابه فحمل هو عبء الإصلاح، كما رأينا كيف أشار إلى مراحل دعوته التى بدأها باتصالات ومحاولات لحفز همم رجالات الأمة وهيئاتها للعمل على إعادة كيان الأمة الإسلامية واستئناف دورها الحضارى0 ولكن كانت نتيجة هذه المحاولات هى هذه التعلات والمعاذير التى كشف عنها فضيلته فى مثاله الذى ضربه، ويمكن الرجوع إلى تفصيل ذلك فى كتابه- ((مذكرات الدعوة والداعية))0(1/112)
000 لقد نشأت دعوة الإخوان المسلمين فى نهاية العشرينات وتبلورت أهدجافها أول ما تبلورت فى نفس الإمام الشهيد، وقد أجمع الذين عاصروه والذين كتبوا عنه من معارضيه ومؤيديه أنه كان داعية متمكنا من دعوته فاهما لمضمونها الاجتماعى والحركى مدركا لما يحيط بها وما ستواجهه من أخطار وما يجب عليه أن يحققه من أهداف. وايمان الداعية بدعوته وتمكنه منها هو أول بوادر النجاح والنصر لها، لهذا حرص البنا من أول يوم فى دعوته أن يحدد الأسس العقائدية والحركية لها تحديدا واضحا لا لبس فيه ولا غموض، ولكن التكتيك الحركى كان يقضى بأن لا يوضح مراحل دعوته ومعالم طريقها بشكل كامل منذ اليوم الأول لإنطلاقته، ولهذا لم يفصح البنا عن جميع أهداف دعوة الإخوان ووسائلها جملة واحدة فيلفت إليها أنظار الأعداء المتربصين بها فيضربونها قبل أن يشتد عودها ويكثر أتباعها، ولهذا كانت مخططات الدعوة واضحة بالنسبة للبنا وضوح الشمس فى رابعة النهار كما كانت مراحلها محددة ومتكاملة فى نفسه، إلا أنه كان يفصح عنها الخاصة إخوانه بين الفينة والأخرى أما بقية الناس فكانوا لا يعرفون عن أهداف الدعوة ووسائلها إلا الأهداف والوسائل المرحلية الآنية التى كان يعلن عنها فى أحاديثه وخطبه للناس كافة، والذى يراجع كتابات البنا يرى أن التسلسل التاريخى لها كان يخدم الأهدافن المرحلية التى حددت مرحلة من مراحل المسيرة العامة لدعوته، ولعدم وضوح هذه الفكرة فى نفوس الكثيرين أخذوا يتهمون هذه الدعوة بأنها لم تقم على أسس عقائدية أو حركية وإنما قامت على شعارات عاطفية وخطب نارية ومقالات وكتب يطغى عليها هذا الطابع، والذى يراجع رسائل الإمام الشهيد يرى أن دعوة الإخوان قامت على أسس ثابتة لتحقيق أهداف محدودة بوسائلن مشروعة ومعروفة وأنه يؤكد على أسلوب ((التدرج فى الخطوات)) (1) للوصول بالدعوة إلى أهدافها0
__________
(1) انظر رسالة ((المؤتمر الخامس))0(1/113)
والحقيقة أن هذه الدعوة بقيت مجهولة بالنسبة للأعداء، إذ كانوا يعدونها واحدة من الحركات الصوفية أو جمعية دينية تقليدية من الجمعيات التى كانت منتشرة فى مصر آنذاك، ولم يكن هدف الدعوة فى مرحلة التعريف والتربية هذه تجميع أكبر عدد من الأفراد الذين يرتفع المد العاطفى فى نفوسهم بدرجة كافية، ولكن كان الهدف هو اختيار الأنصار الذين يصلحون لحمل أعباء هذه الدعوة لتكوين القاعدة القوية السليمة منهم كجزء من مخطط الدعوة الشامل الذى يهدف إلى إيجاد جيل من المؤمنين الفاهمين لتعاليم الإسلام والذى يكون الطليعة المؤمنة التى تقود المسلمين لإقامة حكم الله فى الأرض0
وبقيت دعوة الإخوان مجهولة بالنسبة للأعداء ولم تبرز كقوة تهدد أطماع المستعمرين وتعرقل مخططاتهم إلا حينما أفصح البنا عن أهداف هذه الدعوة فى ((المؤتمر الخامس)) لقادة الإخوان الذى عقد عام 1939 حيث أعلن موقف الإخوان من المستعمرين غربيين وشرقيين، وموقفهم من الدعوات الحاضرة كالقومية والوطنية، وموقفهم من الأحزاب والهيئات وأنظمة الحكم القائمة فى مصر والعالم العربى. ومنذ ذلك الحين أخذ الأعداء يعدون المخططات لضرب هذه الدعوة. وعلى أثر إشتراك الإخوان فى الحرب الفلسطينية عام 1947، ظهروا كأكبر حركة شعبية إلإسلامية فى مصر والعالم الإسلامى، ولكن مع ازدياد قوة الإخوان شعبيا وحركيا ازداد إهتمام الأعداء بهم وأخذوا ينظرون إليهم على أنهم العدو الوحيد الذى يتهدد مطامعهم، ولهذا قرروا القضاء عليهم مهما كلفهم ذلك من ثمن، ومنذ عام 1948 بدأت مرحلة جديدة فى مسيرة هذه الدعوة00 مرحلة الإبتلاء والمحنة، وبدأت تجرى عليهم سنة الله فى – تمحيص أصحاب الدعوات. وتوالت المحن حتى الآن وكان مكر الأعداء عاتيا ولكن الله كان خير الماكرين، فإزدادت الدعوة حتى شمل نورها كل قارات الدنيا وإزدادت عمقا فى نفوس أصحابها.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون0(1/114)
حسن البنا 0000 والمتعجلون
... قبل أن أذهب إلى القاهرة لأول مرة 000 كنت أطالع فى مجلة النذير لسان حال الإخوان المسلمين مقالات كثيرة تحت عنوان (يا شباب سيدنا محمد)، وكان هذا الاستفتاح ملفتا للنظر حيث أنه يتكرر – وأخيرا وصل إلى علمنا ونحن فى الاسكندرية أن هناك مجموعة من شباب الإخوان المتحمس قد اختلف مع الأستاذ البنا حول بعض الأمور: منها تعجل مواقف قبل أواننها وقبل أن تثبت الدعوة أركانها وتتعمق روحها فى قلوب الناس00 وعقدت جلسات كثيرة معهم لتصفية هذا الخلاف ولكن الشباب أصر على موقفه – - مما دعا الأستاذ المرشد إلى الاستجابة لانسحابهم من جماعة الإخوان المسلمين وتنازل لهم عن مجلة النذير وما بقى من مال فى صندوق الجماعة0
... وبالرجوع إلى رسالة المؤتمر الخاسم نقرأ فيها ما يشير إل مقدمات هذا الخلاف فقد جالء فى فقرة تحت عنوان (مصارحة) ما يلى :
... أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم :
... اسمعوها منى كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر فى مؤتمركم هذا الجامع إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده. ولست مخالفا هذه الحدود التى اقتنعت كل الإقتناع بأنها اسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقا طويلة ولكن ليس هناك غيرها – وإنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه فى ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر معى حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره فى ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة))0(1/115)
... وتفاصيل هذه القصة لا أعرف عنها شيئاً (1) سوى أننى قد عثرت على الوثائق التى توضح نقط الخلاف بينهم وبين الأستاذ المرشد 0
... وقد خرجت هذه المجموعة وأطلقوا على أنفسهم (جماعة شباب سيدنا محمد) صلى الله عليه وسلم0
... وهذه هى الوثيقة الأولى التى صدرت فى أول المحرم سنة 1359 الموافق 9فبراير 1940 – فى العدد الأول من السنة الثالثة فى مجلة النذير (لسان حال شباب محمد)00 تحت عنوان :
غضبة فى سبيل الله !!
بسم الله الرحمن الرحيم الذى بيده الملك وهو لى كل شىء قدير وبأن باسم الرعيم الأعظم محمد سيد الأنبياء والمرسلين نتقدم إلى إخواننا فى الله معلنين تحت راية القرآن الكريم مدار الخلاف الذى استعر بينناب وبين الإخوان المسلمين مسائل جوهرية تخص صميم الدعوة التى بايعنا الله على أن نعمل فى ميدانها فى غر هوادة أو ضعف أو لين مشهدين الله على ما نقول وهو نعم المولى ونعم النصير0
... وإلى إخواننا فى الله نسرد بإيجاز أوجه الخلاف بيننا وبينهم مذكرين من عرفوا الدعوة وآمنوا بها بأنها لا تنحصر فى مكان ولا تتوقف على شخص ولكنها دعوة الحق، دعوة إلهها واحدة وزعيمها واحد خاتم الأنبياء محمد صلوات الله وسلامه عليه وهى مفروضة على كل مؤمن0
أوجه الخلاف
(1) الشورى
... يرى فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين أنه لا شورى فى الدعوة، وأن الدعوة إنما ينهض بها فرد واحد له أن يأمر وعلى الجميع أن يطيع. وقد خالفناه فى هذا الرأى. واصرررنا على موقفنا لأن فى رأى فضيلته مخالفة للنظام السياسى للإسلام وتحديا لمصدريه العظيمين الكتاب والسنة ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الآمر)). ((وأمرهم شورى بينهم))0
__________
(1) انظر تفاصيل هذه الفتنة فى كتاب ((الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ ))للأستاذ محمود عبد الحليم، الجزء الأول الصفحات من 200 إلى 213 – نشر دار الدعوة باسكندرية0(1/116)
... حاولنا أن نتفاهم مع فضيلته كثيرا فأبى إلا أن يكون راية الفصل ولو كان فى ذلك إقصاء للمخلصين من الإخوان المسلمين. ثم عاد إلى التعلل أخيراً بأنه لم يجد فى الإخوان من هو أهل للشورى وهذا ما لا نقره عليه0
(2) العمل تحت لواء الحاكمين بغير ما أنزل الله
... من مبادئ الإخوان المسلمين ان لا نجاح للدعوة إلا بقوة الشعب الذاتية وتوجيه الرأى العام توجيها إسلاميا خالصا دون الاعتماد على الحكام ولكن الأستاذ حاد عن هذا المبدأ القويم معلنا أن نجاح الدعوة مرهون بإرضاء الحكام والعمل تحت الويتهم الحزبية وأخذ يسلك سبلا متفرقة ما بايعنا الله عليها ((وان هذا صراطى مستقيما فاتبعون ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)) متناسيا إلا أمل للاسلام فيهم وانهم يحكمون بغير ما أنزل الله – والله تعالى يقول ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون – الظالمون الفاسقون)). ((ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تتنصرون)). ((وايبتغون عندهم العزة، فإن العزة لله جميعاً))0
... عارضنا هذا بكل قوة مرددين أقوال فضيلته بأننا إسلاميون غير حزبيين واننا نعمل لله ولرسوله لا لزعيم ولا لحزب مدعمين هذا بخطبه فى المناسبات الكثيرة وبمقالاته فى صحف الإخوان0
... فأبى إلا العمل براية واصر على المضى فيه ((افحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون))0
(3) التلاعب المالى
... طلبنا من فضيلته تكوين هيئة قوية لمراقبة المال والمحافظة عليه لتكون مسئولة أمام الإخوان المسلمين فأعرض فضيلته واصم اذنيه عن هذا القول الذى نعده طلبا عادلا يتفق مع ابسط مبادئ الادارة0
... وكان من نتيجة عدم الأخذ بهذا الرأى أن انفقت اموال كثيرة لا نقول فى أغراض شخصية ولكن على الأقل فى غير الأغراض التى جمعت من أجلها 0(1/117)
... فأولاً : على سبيل المثال: قد جمع فى عام 1939 أكثر من 300جنيه مصرى قيمة اشتراكات سهم الدعوة، وكان الواجب أن يكون نصف هذا المبلغ على الأقل باقيا فى خزانة الجماعة حسب القانون المالى لهذا السهم، ولكن بكل اسف لا يوجد مليم واحد من هذا المبلغ فى خزانة الإخوان0
... ثانياً: على سبيل المثال أيضا قد جمع فى خلال عام أو أكثر على سبيل الاكتتاب من الشعب مبالغ لمساعدة فلسطين الشقيقة فى محنتها التى تجتازها وبلغ مجموع هذه الاكتتابات حسب بيان الأستاذ الأخير مبلغ 570جنيها مصرياً 0
... ومما لا شك فيه أن هذا المبلغ يعتبر أمانة فى ذمة الإخوان فرض عليهم أن يؤدوها لأصحابها بمجرد وصولها إلى أيديهم 0
... ومع ذلك فلم يصل لفلسطين من هذا المبلغ سوى 465جنيها على ثلاث دفعات أما باقى المبلغ فقد اعترف الأستاذ ان جزءا كبيرا منه انفق فى شئون الجمعية الخاصة، ولا يرى فضيلته فى ذلك مانعا شرعيا0
... ثم عاد وقال بعد أن سمع من احد الإخوان حكم الشرع فى هذا أنه مستعد لجمع هذا المبلغ وإرساله والمهم أنه لا يوجد كذلك بخزانة الجمعية مليم واحد من هذا المبلغ أيضاً0
(4) تطهير الدعوة
الحفنا على فضيله ورجوناه غير مرة أن يحرص على طهارة الدعوة باقصاء كل الأعضاء الذين تشوب اخلاقهم الشوائب ليسلم هذا البناء الذى كنا وما زلنا نفديه بأنفسنا وحتى يسمو عن المظان والشبهات وكان من بين هؤلاء الأعضاء اشخاص اعترف فضيلته فى احاديث متعددة بعد أن تبين تحقيقات اجراها بنفسه بأن فى وجودهم أضرارا بسمعة الدعوة من الناحية الخلقية. ولكنه أصر على إبقائهم فضلا عن أنه اسند إليهم اعمالا رئيسية وأخذ يشيد بذكرهم فى رحلاته إلى الصعيد وغيره 0
وأخيرا
على هذا اختلفنا وكان موقفنا واضحا جليا لا غموض فيه 0
... وكان اختلافنا على المبادئ العامة فلم نلجأ إلى دعاية شخصية ولا إلى أساليب كلامية متخذين من محمد صلوات الله وسلامه عليه إماما ومن كتاب الله الكريم منهاجا0(1/118)
... هوجمنا أشد المهاجمة وعودينا أشد المعاداة فلم نقابل العدوان بمثله بل كنا نردد قوله تعالى ((وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين))0
... غير أن هذا الموقف الهادئ نفسه لم يعجب فضيلة الأستاذ. فقد اعلن وقد راعه تأييد الإخوان المسلمين المتوالى لموقفنا بأنه لا يستطيع العمل معنا على هذ الأسس التى نتمسك بها بحق كل الاستمساك ويأبى بكل قوة أن يجب على أى واحد منها ولذلك فقد اعلن فصلنا من جماعة الإخوان المسلمين0
... ولما كنا قد عاهدنا الله تعالى على أن نظل طوال حياتنا جنودا للإسلام نجاهد فى سبيله ((حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)) عاملين تحت راية القرآن متأسين بالزعيم الأول سيد الأنبياء، واشرف المرسلين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام0
... ولما كان الجهاد فى سبيل الله والعمل تحت راية رسوله لا يتقيد بأمكنة ولا أشخاص فقد عزمنا على السير فى طريقنا مستعينين بالله مقتدين بسيرة سيد الأنبياء معتمدين على أنفسنا وروضها على العمل لتحقيق المثل العليا التى نؤمن بها. ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز) (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)0
... ونحن إذ نسير فى طريقنا فى عزم وقوة مزودين بأعمق الإيمان رائدنا الإخلاص ووجهتنا الله، نرحب بمجهود كل شاب مؤمن يدين بهذه الغاية النبيلة مقبلين علىتلك الميادين التى تعرفونها.
... أيها المسلمون الأبرار – ميادين الجهاد والتضحية مترسمين خطى المجاهدين والأنصار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه0
... رد الأستاذ المرشد على شباب سيدنا محمد (1)
... ... ... إلى الذين تخلفوا عن الصف
... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
__________
(1) ( صدر هذا الرد فى نشرة خاصة، فلم يكن للإخوان فى ذلك الوقت مجلة بعد أن تنازل فضيلة المرشد عن مجلة ((النذير)) لشباب محمد 0(1/119)
... وبعد : فقد قرأت بيانكم فى مجلة النذير عن موقفكم منى ومن إخوانكم فى جماعة الإخوان المسلمين التى نشأتم فى روضها ودرجتم فى عشها وتعلمتم الغيرة على الإسلام من دعاتها. وإليكم كلمتى فيما ذكرتم لا حرصا على الرد ولكن تبيانا للحق وتذكرة لكم ويعلم الله كم يعز على ويحز فى نفسى أن تقفوا هذا الموقف وأن تتنكروا للحقيقة هذا التنكر وأن تستفتحوا عملكم الجديد بهذا التجنى الذى نهيتكم عنه وحذرتكم إياه والذى ما زدتم به على أن نقضتم عهدكم وعققتم أباكم وخاصمتم إخوتكم وقللتم عددكم وأوهنتم جلدكم وأضعتفتم قوتكم وحاولتم صدع بناء شادة الله وهو عليه حفيظ، وقد حاول ذلك من قبلكم من هو أشد منكم قوة وأكثر جمعا فلم يظفروا بطائل والله غالب على أمره، ولقد كنت أود لكم غير هذا من العمل الجدى والميادين النافعة وتعهدت لكم بمساعدتكم فى ذلك أكبر المساعدة إن سلكتم هذه السبيل فغلبتكم العاطفة على عقولكم ووضعتم لأنفسكم ألقابا وصفات لتجسموا الخطب وتهولوا الواقع ولكن الناس بأخلاقهم لا بألقابهم، فغفر الله لكم وهدانا وإياكم وصدق الله العظيم (إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى بها من تشاء وأنت ولينا فأغفر لنا وأرحمنا وأنت خير الغافرين) (1) 0
1- يسرنى أن تعلموا
... علم الله أيها الأبناء أننى لا يسؤنى – لو صدقتم- أن أجد لكم روحا وثابة وحماسة فياضة وغيرة صادقة ويسرنى أن أراكم تعملون للإسلام فى الميدان الذى ترضونه تبنون ولا تهدمون وتؤسسون ولا تنقضون0
__________
(1) سورة الأعراف : 155(1/120)
... ولقد قلتم أننى فضلتكم وأنتم تعلمون – وإخوانكم الذين حضروا الاجتماع الذى دعوتكم إليه يعلمون كذلك أنكم أنتم الذين أحلفتم فى طلب الفصل وألححتم إلحاحا، وذلك لما بينتموه من نية وما اعتزمتموه من عمل منذ أمد بعيد، وأنتم بين ظهر انينا فلم يسعنى إلا أن أنزل على رغبتكم فى ذلك داعيا لكم بالتوفيق والإخلاص، إذ أن أكبر ما يسر الوالد أن يرى أبنه موفقاً وأن لم ينسب إليه هذا التوفيق وأنتم تعلمون أن مجلة النذير كانت لى فأعطيتكم إياها وتنازلت لكم عنها عن طيب خاطر بشرط أن تنصرف جهودكم إلى عمل نافع وميدان فيه خير للإسلام، ولئن كان العدد الأول علينا فالعدد الثانى وما يليه قد يكون لنا بحكم خدمة الدعوة العامة التى نعمل لها جميعا0
2- الشورى
... زعمتم أيها الأبناء أنى أرى أنه لا شورى فى الدعوى وسامحكم الله فى هذا الادعاء على وعلى الحقيقة، فأنا لم أقل هذا ولكنى أنركت أن يتحكم فرد تأثر بدعايته سبعة عشر فرداً من أفراد أسرة فى بقية ألف من هؤلاء الأفراد وهم إخوانكم بالقاهرة وهو ما أردتموه أنتم فقد أبيتم إلا أن أنزل على أراء بعضكم ولو خالف هذا آراء الجميع من الإخوان، أفهذه هى الشورى التى تريدونها؟ وقد دعوتكم إلى الجمعية العمومية للإخوان بالقاهرة لتعرضوا عليها آراءكم وتطلبون إليها ماتريدون فأبيتم هذا ولا زلت أدعوكم إليه وأستطيع أن أقول إننى أكتب هذا باسم ألف من إخوانكم فى القاهرة عدا شعب الأقاليم الخمسمائة فماذا ترون؟ وهل بعد هذا لازلتم تصرون على أنه لا شورى فى الدعوة؟(1/121)
... هذا هو ما وقع وهذا هو ما نسير عليه الآن، فالشورى ماثلة فى كل عمل من أعمالنا والحمد لله كما أرادها الإسلام وصورها، والشورى الإسلامية ليس فيها أغلبية ولا أقلية، فالإمام يستوضح الآراء، والشورى الإسلامية ليس فيها أغلبية ولا أقلية، فالإمام يستوضح الآراء وهو أمين عليها ثم يأخذ بما يتبينله منها جميعا فينفذه وفق أحكام الإسلام، وهو مسئول بعد ذلك عن نتائج سياسته، هذه هى النظرية الإسلامية للشورى وإن كنا فى الواقع قد اتخذنا فى تطبيقها صورة قريبة إلى ما الف الناس من هذه التشكيلات، ولقد كان آخر نظام للإخوان فى مكتب القاهرة أرتضيتموه أنتم وعملتم على أساسه ووقعتم بذلك على محضره هو نظام اللجان، فلكل لجنة عملها واستقلالها والشورى تسودها بأوسع معانيها، ولقد كان بعضكم فى هذه اللجان فعلا فهل شعرتم بأن أحدا وقف فى طريقكم فى شىء؟ ولكنكم أردتم الاستئثار الذى يتنافى مع الشورى فأبينا عليكم ذلك حرصا على قوق إخوانكم الذين هم أكثر منكم إلماما بالدعوة وغيرة عليها وحرصا على خيرها والنهوض بها ويفضلونكم بعد ذلك بالأسبقية إليها والصبر على آلامها والتضحيات فى سبيلها، ثم بالسن الذى يقدره الإسلام ويحله المحل اللائق بجلال التجربة0
... وبعد، فنحن فى دور تكوين وتربية والتكوين والتربية فى حاجة إلى التوجيه الحازم والبعد عن الخلاف فى الرأى والإنقسام فى النقاش وهو ما أقصد إليه وأعمل عليه ويوافقنى فى ذلك كل الإخوان المسلمين0
3- التلاعب المالى
... غفر الله لكم أيها الأبناء – فلكم أن تقولوا كل شىء إلا أن الإخوان- ينظرون إلى المال أو يتطلعون إلى الدنيا فإن من يقرأ هذا العنوان يظن أن الإخوان قد ملأوا جيوبهم من الأموال العامة، ثم ماذا تذكرون بعد ذلك0(1/122)
(1) تذكرون أن سهم الدعوة قد بلغ أكثر من 300ثلاثمائة جنيه مصرى وكان المفروض أن نصفها يجب أن يظل للمساهمين، ونسيتم أن قرار جمع سهم الدعوة أجاز للمكتب أن يستخدم هذا النصف فى عمل تجارى، وذلك ما كان فإننا جددنا مطبعة الإخوان المسلمين وقيمتها الآن تزيد على أكثر من المائة والخمسين جنيها، فماذا فى هذا التصرف من التلاعب، وقد وقع وفقاً للقرار المعلن الموضوع فى حدود مصلحة الدعوة وخيرها0
(2) وتذكرون أن مبلغا يبلغ المائة جنيه مما جمع لفلسطين لم يصل إلى فلسطين ولم تذكروا – وأنتم أعلم الناس بذلك- أن المكتب بالقاهرة قد بلغت مصروفاته الخاصة بأعمال الدعاية لقضية فلسطين نفسها ولجمع هذه النقود قد وصلت إلى أكثر من 124 جنيه مائة وأربعة وعشرين جنيها ما بين مطبوعات ورسائل يبريد وبرقيات وسفر مندوبين وطبع قسائم وعمل شارات وتذاكر شخصية وما إلى ذلك عدا ما صرف لقضية فلسطين فى غير هذه الأبواب أيضاً مما يعرفه الكثير من الإخوان0
فهل يقال بعد هذا إن هناك تلاعبا فيما يجمع من أموال، وإذا كان كل ما جمع معروفا بالمليم وكل ما صرف كذلك بدليل ما أوردتم من أرقام فأين التلاعب المزعوم؟
ولقد علم الناس أجمعون، وفى مقدمتهم أبناء فلسطين البواسل أن الإخوان المسلمين هم الذين يفدون فلسطين الشقيقة بأموالهم وأولادهم ودمائهم، ولكنكم أردتم أن ترفعوا بذلك ((قميص عثمان)) والله بيننا وبينكم وهو أحكم الحاكمين.
إننى أعتب عليكم فى هذا عتبا شديدا وما كنت أظن أنكم تتجاوزون الحق هذه المجاوزة فى نقاط واضحة بينة، تعلمون أنتم وجه الحق فيها قبل غيركم من الناس، ولكن غفر الله لكم أيضا0
4- العمل تحت لواء الحاكمين بغير ما أنزل الله(1/123)
... وأكثر أمركم عجبا بل أشده غرابة وأكبره تجنيا أن تذكروا أننى أعلنت ((أن نجاح الدعوة مرهون بإرضاء الحكام والعمل تحت ألويتهم الحزبية .. )) وما كنت أدرى أن لحاجتكم فى الخصومة تحدوكم إلى هذا الافتراء المبين على شخصى وأنتم تعلمون وقد تلقيتم أن نجاحها مرهون بإرضاء الله وحده والسير على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اعترفتم بذلك فى بيانكم وعليه سرنا ونسير حتى يفتح الله بينننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين، ونحن نرى مع هذا أن توجيه الدعوة للحاكمين ومخاطبتهم بها وتعريفهم إياها من أنفع الأشياء لتحقيق أغراضها والوصول من أقرب الطرق إلى أهدافها فإن الله يصلح بالواحد منهم أمة – لو أصلحه الله وأنتم تعلمون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ((وقول الحسن البصرى)) لو ككانت لى دعوة أعلم أنها مستجابة لجعلتها للسلطان فإن الله يصلح بصلاحه خلقا كثيرا ولقد علم الناس جيمعا بما فيهم والحكام أنفسهم أننا كم وجهنا ونوجه على الدوام إليهم كلمة الحق قوية مدوية لا يثنينا عن ذلك ما قاسيناه من اضطهاد وعنت، ولا نخشى إلا الله وهو حسبنا ونعم الوكيل0
... ونحن نرى كذلك أنه ليست فى كل الظروف تكون مخاصمة الحاكم وإخراجه من الإسلام، فقد يقف الحاكم أمام خصم قوى للإسلام يدفعه ويحول دون غايته فيكون من الحمق لا من الدين أن يجرح المسلمون من يحول دون وصول عدوهم إلى غايته منهم، وهذا كلام أنتم أعلم بمضمونه ولا يخفى معناه على الناس، وعلى كل حال لأن يكون الحاكمون أعوانا للإخوان المسلمين على تربية الشعب وتوجيهه إسلاميا مثمرا خير من أن يكونوا خصوما لهؤلاء الداعين يحولون بينهم وبين ما يريدون وموقفنا من الحكام جميعا ومن الأحزاب جميعا موقف الدعاة لا الأشياع ومحال أن ننضوى تحت لواء حزب كائنا من كان أو أن نمالئ حاكما كائنا من كان 0(1/124)
... وأغلب الظن أيها الأبناء. أنكم أنتم الذين استخدمتم مطايا للحزبية البغيضة من حيث لا تشعرون وفتشوا أنفسكم من يتصل الآن بكم ومن ينشط فى نشر دعايتكم معكم فستعلمون صدق ما أقول0
ومما يؤسف حقا أن تعجز الأحزاب عن أن تجد سبيلا إلى صفوف الإخوان إلا عن طريقكم، وإن كان كل ذلك وأكثر منه سيتحطم على صخرة الدعوة المباركة التى ستظل بعون الله وحده الجوى اللاصق بين جوانح كل ما يريد الكيد للإسلام وتسؤه الدعوة إلى الله0
5- تطهير الدعوة
... من فضل الله على الإخوان المسلمين فى كل وقت أن دعوتهم تنفى خبثها كما ينفى الكير خبث الحديد، وهذه قاعدة جربناها مراراً كثيرة ونمجموعة الإخوان فى القاهرة فيما أعتقد هى أطهر مجموعة عرفتها هيئة من الهيئات ولقد تجنيتم على بعض إخوانكم بكلام لا حقيقة له، ولقد أصغيت إليكم ودرست ما قلتم وتبينت مبلغه من الصحة فإذا هو إتهام واه منهار لا أساس له ولا دليل عليه وما كنت لأدع يقينى لشككم ولقد نصحت لكم وعرفتكم حكم الإسلام فيما تقولون فأبيتم إلا أن تلجوا بالباطل ولا أقول فى هذه غفر الله لكم فليست هذه من حقى، ولكنى أنصح لكم مرة أخرى أن تسترضوا إخوانكم الذين خضتم فيهم فإن عقاب الله فى ذلك قاس شديد ولا أزال أذكركم بقوله تعالى ((والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا))()0
وأخيراً
... لا أعرض هنا لما سلكتم من أساليب لا تتفق مع الحق المر فضلا عن السمو والتكرم الذين يجب أن يكون أول ما يتصف به عامل للإسلام، ولا أحاول أن أكشف عما فى بيانكم من مغالطات وأمور لا تتفق مع الواقع فإنى أكره الجدل أشد الكراهية، وحسبى أن تكلمت فى رؤوس الموضوعات الهامة، وطبعا سيكون هذا هو البيان الأول والأخير من جهتى فى هذا الموضوع0
... ولى معكم بعد ذلك كلمة أخيرة فأستمعوا إليها إن شئتم والله يتولانا وإياكم بحسن الرعاية0(1/125)
... أولا – ما دمتم قد أعددتم أنفسكم للعمل للإسلام فى ميدان أخذتموه فأوصيكم أن تكونوا بنائين لا هادمين وحينئذ عليكم أن تفكروا فى ابتكار ميادين تعملون فيها وتخذمون الإسلام بها ودعوا الخصومة جانبا فإن الإنصراف إلى البناء خير ألف مرة وأجدى من الإنصراف إلى الهدم، وعلم الله أننى لا أريد بهذا إلا أن تنصرف الجهود إلى النافع المفيد 0
... ثانياً – لقد كنتم قبل الآن جنودا فأصبحتم تقولون إنكم اليوم قادة، وواجبات القائد القائد أثقل بكثير وأدق من واجبات الجندى فأحرصوا دائماً على أن تظهروا أمام الناس بالمظهر اللائق بكرامة الدعوة الإسلامية فى كل ناحية من نواحى تصرفاتكم الشخصية أو الجمعية0
... ثالثاً : أحب أن تحكموا خطتكم وأن تسوسوا طريقكم بالعقل والعاطفة معا فلا تتركوا للحماسة وحدها أن تقودكم فى مسالك لا يفيد فيها الدعوة ولا ينفع الداعين إلا العقل الكامل والتصرف الدقيق المحكم، فالكيس الكبس أيها الأبناء.
... رابعاً : أحب أن تعتقدوا أولا وآخرا أننى لا أضمر لكم إلا الخير وقد أغضبت عن سيئاتكم لحسناتكم وعن تصرفكم لنياتكم التى أرجو أن تكون خيرة فاضلة، والله أسأل أن لا يكون ذلك لكم فتنة وهو المستعان على ما تصفون0
إلى الإخوان المسلمين خاصة(1/126)
... أيها الإخوان المسلمون – لقد أراد إخوانكم هؤلاء أن يختطوا لأنفسكم هذا الطريق فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم حتى يرشدهم العمل وهو خير مرشد إلى مناهج الصواب وعزيمة عليكم مشددة مؤكدة أن لا تخوضوا فيهم وأن لا تنالوا منهم وأن لا تحملوا لهم فى نفوسكم إلا المحبة والإخاء واذكروا قول الله تبارك وتعالى (ولا تنسوا الفضل بينكم)() وقوله تعالى (فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان) ولقد تماسكنا يوم عملنا معا بالمعروف فنحب أن نفترق بالإحسان وهو من جانبنا أن نسكت فلا نجرح وأن نتفضل فنعفوا ونصفح ولا تنسوا أن مثل دعوتكم المباركة المباركة القوية لابد وأن تلقى صعابا وأشواكا سواء من الذين بعدوا عنها فلم يستجيبوا لها أو من الذين خالطوها فلم تفقهها قلوبهم، ولقد علمتم أن مثل هذا قد سبق أن وقع لكم ولغيركم وهى سنة الدعوات قديما وحديثا، وقد خرج عليكم بعض إخوانكم وداروا دورتهم فمنهم من رجع إلى حظيرة الإخوان ثانية ولجأ إلى الصف كما كان ومنهم من قبع فى داره حتى يفصل الله فى أمره وهو أحكم الحاكمين على أننا سنعمل على الاستفادة من هذه الدروس القيمة إن شاء الله ولأن نتلقاها الآن ونحن لا نزال فى بدء الطريق خير من أن نتلقاها فى وقت يعظم فيه أثر الخطأ وتتضخم فيه نتائج الأغلاط 0
... وفق الله الجميع لخير العمل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 0
القاهرة فى : المحرم سنة 1359هـ ...
فبراير سنة1940م
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
... ... ... ... ... ... ... ... ... المرشد العام للإخوان المسلمين
رب ضارة نافعة(1/127)
... كان مساء الخميس من كل أسبوع فى المركز العام القديم من عام 1940 موعدا للقاء دائم لفضيلة المرشد العام مع الطلاب 00 وكانت محاضرة ذلك اليوم (نظرة الإسلام للمرأة)، وبينما فضيلته يتحدث إلينا إذا بجلبة تحدث خارج الصالة، ويتقدم أحد الأخوة بورقة مكتوبة، فيقرأها الأستاذ المرشد ثم يستأذن معتذرا عن المحاضرة ويخرج.. وبعد فترة من الوقت يعتلى الشيخ عبد المعز عبد الستار المنصة ويتحدث إلينا حديثا حماسيا ينبئ أن فى الأمر شيئا. نتبين بعده أنه قد صدر أمر عسكرى بنقل الأستاذ إلى قنا 0
... وإجتمع مكتب الإرشاد فى الحال وتناول الأمر بالبحث والمناقشة، وتحمس أكثر الأعضاء لعدم تنفيذ الأمر على أن يقدم الأستاذ المرشد إستقالته من وزارة المعارف، وبذلك لا يكون لأحد سلطان عليه. وبعد أن استفاضت المناقشات.. أخذ فضيلته الكلمة فقال: إن أمر الاستقالة سهل لا يتطلب سوى ورقة وقلم، ولكن هل سيقف الأمر عند الاستقالة؟ إن أمرا عسكريا آخر سيصدر بإعتقالى فى الحال وخاصة أن الأحكام العسكرية مفروضة على البلاد والعباد، لذلك أرى أن النقل أيسر الأضرار وأنفع للدعوة من الاعتقال، وهى فرصة أتاحها الله تعالى لنعطى للصعيد حقه فى نشر الدعوة، وتربية الإخوان، ويؤجر المرء رغم أنفه .. ثم إننا لم نقدم للاستقالة بما يعوضنا عنها حيث جزءاً كبيرا من المرتب يدفع لخدمة الدعوة، وبعد الاستقالة فإن الدعوة ستدفع، ولم يحن وقت ذلك بعد.. وشرح الله صدور الإخوان بهذا الرأى 0
... وحزم الأستاذ المرشد أمتعته وغادر القاهرة فى أول قطار إلىقنا 00 وفوجئ الإخوان هناك بنقل فضيلته إليهم، ولم يلبث أن شاركهم فى نشاطهم بالدار كواحد منهم، واندهش الشباب كيف أنه كان يستقبل بعضهم ويسلم عليه بأسمهن دون أن يراه قبل ذلك على الاطلاق، فلما سألوه عن ذلك متعجبين: أخبرهم أنه كان حين يوقع على بطاقة الجوالة بصفته الرئيس العام للجوالة كان يحفظ الاسم والصورة معا 0(1/128)
... وبعد أن استقر المرشد فى قنا عدة أيام دعا الإخوان إلى مؤتمر جامع حضره المسلمون والمسيحيون على السواء يتقدمهم شيخ المعهد الدينى ومطران قنا. وتناول حسن البنا فى خطابه قضية الحكم بالشريعة الإسلامية. فقال: مما هو معلوم عن جماعة الإخوان المسلمين أنهم يدعون ويتصدرون الدعوة إلى الحكم بالقرآن الكريم، وهذه القضية ولاشك تثير بعض الخوف والشكوك عند إخواننا المسيحين. وأنا أحب أن أجلى هذه القضية بروح المودة بما قد خفى أو يخفى عن الناس من أمور لن يتبينوا فيها وجه الحق والصواب. فالناس أعداء ما جهلوا. لا شك أننا مع إخواننا الأقباط نعتبر أنفسنا عربا، حيث أننا جميعا نتكلم اللغة العربية ونتعامل بها ... وما دمنا عربا فمن الطبيعى أن نتحمس للتحاكم مور لن يتبينوا فيها وجه الحق والصواب. فالناس أعداء ما جهلوا. لا شك أننا مع إخواننا الأقباط نعتبر أنفسنا عربا، حيث أننا جميعا نتكلم اللغة العربية ونتعامل بها ... وما دمنا عربا فمن الطبيعى أن نتحمس للتحاكم إلى قانون عربى لا إلا قانون غربى متنوع المصادر فرنسى وبلجيكى وغير ذلك، والقانون العربى الوحيد الجامع الشامل الذى جربناه مسلمين ومسيحيين مئات السنين هو القرآن الكريم 000
... فإذا اعترض على أن القرآن كتاب المسلمين، فنقول، فيكن ذلك اعتقادا المسلمين كدين وليكن قانونا عاديا عند الأقباط، كما نتحاكم نحن اليوم إلى قانون نابليون0
... 000 ثم قال : إن الشواهد التاريخية المكررة والتى لا تحتمل الإنكار بحال تشهد بأنه فى ظل حكم الشريعة الإسلامية عاش المسلمون والمسيحون فى وئام وسلام ليس له مثيل، وضرب بذلك عدة أمثلة، أهمها موقف الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه من الصلاة من كنيسة القيامة، كما ذكر بعضا من وصيته الشهيرة، واستطرد فى ضرب الأمثلة الحية من واقع تاريخ الخلفاء 0(1/129)
... ثم ختم حديثه فقال : إن الإسلام لا يعرف معنى الديمقراطية التى يحد مدلولها الناس حسبما تقضى مصالحهم، فالإسلام لا يعرف هذه المتغيرات بل هو شريعة العدل التى لا تتغير ولا تتبدل تبعا للمصالح والأهواء0
... وقد أثار هذا الحديث مختلف الإتجاهات، فقد كان حديثا على نقله إلى قنا، بعيداً عن الاستدلال بالآيات القرآنية أو الأحكام الفقهية. ولم تمض أسابيع وهو فى حركة دائبة ورحلات وزيارات وخطب ومحاضرات، إلا وقد صدر قرار من وزير المعارف بنقله فوراً من قنا إلى القاهرة 0
... ولم تمض أيام حتى صدر قرار باعتقاله فى معتقل الزيتون بالقاهرة، فاعتصم الطلاب فى مسجد السلطان الحسن بعد صلاة يوم من أيام الجمعة، فأفرج عن فضيلته بعد أيام ... . وبعد أن تم الإفراج عن فضيلة المرشد استقبلناه فى مصلى (بدروم) المركز العام القديم بكل أشواقنا وعواطفنا الحارة. وبدأ حديثه معنا فقال : لقد كانت فترة الاعتقال بمثابة إعتكاف إجبارى أو محطة فى طريق السفر الطويل راجعت فيها كتاب الله تعالى حفظا ودراسة وتدبرا، وعرفت واختلطت بأناس آخرين. ووجدت فرصة أخلو فيها إلى نفسى أستعرض أحداث الماضى وأفكر فى الحاضر بهدوء وروية، وأعتقد أننا لن نخسر شيئا فى أمر قد قدره الله لنا.. فإن ما يحدث لنا من عذاب أو اضطهاد، أمر قد تعاهدنا عليه، فلا غرابة فيه ولن يؤثر فيما عقدنا العزم عليه، ولكنه فقط – يعطينا المؤشرات ويحذرنا من المطبات ويفتح أعيننا على ما هو آت 00 فإن ما يحدث لنا لن يوقف حركة الدعوة، ولن يرهب أبناءها الذين اعتقدوا أن أقل ما يطلب فى سبيلها هو الدم والمال 000 (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)0(1/130)
... 000 ثم استطرد الأستاذ البنا فقال : حين جاء أمر الإفراج عنى سألت عن شمول هذا الأمر بالإفراج عن الأساتذة أحمد السكرى وعبد الحكيم عابدين، فقيل الأفراج عنك وحدك. فرضت الخروج واستمسكت بذلك متذكرا قصة الحمام والصياد التى حفظناها من أيام الدراسة، التى تحكى أن مجموعة من الحمام قد وضعت فى شبكة صياد، وتصادف وجود فأر صديق لقائد سرب الحمام، فأراد أن يقوم بقرض الشبكة لتخليص قائد الحمام وحده فرفض أن ينجو بنفسه دون زملائه. فقام الفأر بتخليص الجميع 000 وهكذا خجلت من نفسى، كيف أخرج وأترك إخوانى؟ ولكن محاولات واتصالات كثيرة بذلت حتى أعطونى وعدا بإستصدار قرار الإفراج عنهم 000 وخرجت آسفا لذلك، ولكنى كما قلت لكم من قبل: هذا هو الطريق، وبقى علينا أن نواصل العمل مسترشدين بهذه الأحداث فى سبيل الوصول إلى الغاية المنشودة0
حسن البنا 000 وبعد النظر
... فى إجتماع بالمكتب الادارى للإخوان بالاسكندرية فى عهد وزارة إسماعيل باشا صدقى، ألقت الشرطة القبض على حوالى 50خمسين من الإخوان، وأودعتهم سجن الأجانب. وفى نفس الأسبوع نظم الإخوان مظاهرة من فرقة الجوالة خرجت فجأة من ميدان محطة السكة الحديد قبيل المغرب تحمل المشاعل متجهة إلى ميدان قصر رأس التين، خطب فيها الأستاذ أحمد السكرى من شرفة مكتب الأستاذ أمين مرعى المحامى بشارع الغرفة التجارية ((سعيد))، ثم مضت هذه المظاهرة فى سيرها حتى بلغت القصر وقدمت مذكرة بشأن معاهدة صدقى بيفن ثم انصرفت0(1/131)
... وبعد فترة حققت النيابة مع الإخوة المحتجزين فى سجن الأجانب ثم أمرت بالإفراج عنهم. وبصفتى والأخ عادل بهجت من العسكريين فقد حولنا إلى السلطة العسكرية، حيث وضعت فى معتقل معسكر كوم الشقافة والأخ عادل فى معسكر اللوائح العسكرية سلاح الصيانة، وحوكمنا أمام مجلس عسكرى مركزى بتهمة انضمامنا إلى جماعة الإخوان مخالفين بذلك اللوائح العسكرية التى تقضى بعدم تدخل رجال الجيش فى السياسة. وأرسلت إلى فضيلة المرشد عدة خطابات أبدى استعدادنا لتحمل كل ما يترتب من عقوبات مهمنا كانت شدتها وقسوتها، وأطلب منه ألا يحمل نفسه عبء السعى لمساعدتنا وانشغاله بقضيتنا فالأمور تجرى بالمقادير 00
... وفى سراى سيدى بشر انعقد المجلس العسكرى، وحضرنا بالحراسة المشددة فوجدنا فى استقبالنا مجموعة من المحامين الذين أوفدهم فضيلة المرشد العام 0
... وبعد أن أقسم أعضاء المجلس العسكرى اليمين على المصحف الشريف سألنا رئيس المجلس، هل هناك أى اعتراض على المجلس؟ فقلت له: لا، ولكن لنا طلب. فقال : ما هو؟ فقلت نحن لا نريد محاكمة على أساس قانون الاجراءات العسكرية، ولكن نريد المحاكمة على أساس المصحف الشريف الذى أقسمت عليه0
... وهنا أحس رئيس المجلس أن القضية سوف تتحول إلى قضية إسلامية سياسية، ثم اتجه إلى السادة المحامين فطلبوا من المحكمة تأجيل الجلسة أسبوعا للاطلاع على تقارير القسم المخصوص (المباحث) العامة الآن، فوافق ورفعت الجلسة0
... وعدنا إلى معسكر سلاح الصيانة معا، وفى المساء من نفس اليوم صدر قرار بالإفراج عنا، وتوجهنا من المعسكر إلى شعبة الإخوان برأس التين حيث استقبلنا الإخوان أحسن استقبال0(1/132)
... ثم سافرت والأخ عادل لمقابلة فضيلة المرشد بالقاهرة، وبعد أن شكرناه على جهده الكريم معنا، قلت : يا فضيلة المرشد، لماذا أجهدت نفسك كل هذا الاجهاد فى سبيل الإفراج عنا؟ فقال : أنتم تنظرون إلى تبعات هذه القضية نظرة فردية وأنا أنظر إليها نظرة أبعد وأشمل، ذلك أن صدور أى حكم عليكما بتهمة الانتماء إلى الإخوان00 هذا الحكم مهما كانت شدته سوف يعوق حركتنا الوليدة فى صفوف الجيش، كما أن طبيعة العمل بالجيش تختلف عن طبيعته فى القطاعات الأخرى فلابد منتقدير تبعات كل عمل بالنسبة لمستقبل الدعوة أولاً0
... وهنا حضر الأخ الكبير الصاغ محمود لبيب الذى رحب بنا ودعانا لتناول طعام الغذاء معه فلبينا الدعوة شاكرين 0
... وكان الإخوان بالاسكندرية بصدرون نشرة شهرية عن نشاطهم يوزعونها على جميع المناطق، وبينما كنت بمطبعة رمسيس أراجع المسودة فيها خبر فى صدر الصفحة الأولى بعنوان (لقاء رجلين 00 التقى اليوم الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين بسماحة الشيخ أمين الحسينى مفتى فلسطين الأكبر بعد غياب طويل، وكان لقاء وكانت ذكريات)0
... فكرت أن أعود إلى المرشد كى أطلعه على مسودة النشرة وأستاذنه فى نشر هذا الجزء من الخبر، ولما قرأ الخبر، توقف قليلا ثم قال : وما هو الغرض من نشر هذا النبأ، وما هى الفائدة التى ستعود علينا من نشرة؟ قلت: لقد قرأت فى جميع الصحف نبأ زيارة كل الزعماء السياسين لسماحة المفتى، ولسنا أقل من هؤلاء فى أداء الواجب. فتبسم الأستاذ المرشد وقال : يا أخى هذه إعلانات وزيارات مجاملة، أما زيارتى فهى زيارة ترى بمنظار آخر ويفهمها أعداء الإسلام بفهم آخر.. إن زيارات الإخوان ينبنى عليها عمل0(1/133)
... ومن قبل حين بدأ حسن البنا دعوته فى الاسماعيلية عام 1928. كانت الدعوة قد اكتمل تصورها فى ضميره، ولكنه كان يؤمن بأن الزمن جزء من العلاج، وأن لكل مقام مقالا.. لهذا فهو حين كون ما يسمى (فرق العمل) ليتم بها الصور أو صورة الدعوة، كانت هذه الفرق على هيئة الفرق العسكرية من حيث النظام والتدريب وأيضا الملابس التى كانت على شكل بنطلون طويل يشبه بنطلون عسكرى السوارى وله (قايش) من الجلد.. لهذا تنبه حسن البنا إلى هذه الصورة وأدرك أنها سوف تترك فى نفوس الناس فضلا عن السلطة والإنجليز شعورا بالحذر والخوف مما قد يتضح من أمرها، ولاسيما أن تسميتها (فرق العمل) يوحى بمثل هذا الشك00
... لهذا أسرع حسن البنا بإلغاء هذه الفرق وتحويلها إلى فرق الكشافة وانضمت إلى جمعية الكشافة الأهلية وأصبحت تابعة لنظامها الأساسى0
... وبعد توقيع معاهدة 1936 اتخذ حزب الوفد فرقا شبه عسكرية لونها أزرق، وكان مسموحا لكل إنسان أن ينضم إليها. وكذلك اتخذ حزب مصر الفتاة بينهما، فانتهز الملك فاروق الفرصة واصدر أمرا ملكيا بحل جميع التشكيلات شبه العسكرية، ولما كانت فرق الإخوان قد تحولت لجمعية الكشافة العامة، فلم يشملهم هذا الأمر .. وهكذا كان حسن البنا بعيد النظر يرى بنور الله.
... خطب حسن البنا الجمعة فى مسجد الشيخ بالميدان بالاسكندرية وامتلأت الشوارع، وبعد الصلاة خرجنا من المسجد ونحن فى طريقنا إلى شارع (فرنسا) مررنا بحارة يسكن بها بعض اليهود وفجأة سقط من المنازل لوح من زجاج بجوار حسن البنا ولكن الله سلم فلم يصب أحد بسوء، غير أن الإخوة أخذوا يتشككون فى الأمر ولكن الأستاذ هونه عليهم ولم يتخذ منه فرصة للإثارة وقال : إنه حادث عابر غير مقصود 0(1/134)
وتوجهنا إلى المكتب الإدارى بشارع كنيسة دبانة، فأستراح فضيلته بعض الوقت، ثم استأنفنا السفر إلى الجزيرة الخضراء وهى بلدة الأستاذ أمين مرعى المحامى رئيس الإخوان بالاسكندرية آنذاك، وتقع هذه البلدة فى مواجهة مدينة رشيد من الشرق، وفى الطريق وقفت أمام كشك مرور كوبرى الجدية ولاحظ فضيلة المرشد وجود (قلة ماء) أمام شرطى المرور فاستأذنه للشرب فأسرع الشرطى مسرورا مرحبا به وتحدث معه كلمات، فلما بدأت السيارة تتحرك قلت له: ربما تكون القلة غير صحية، فنظر إلى وقال : لقد وقفنا لحظة ويجب الاستفادة بها فى نشر الدعوة 0
ووصلنا إلى رشيد وركبنا فى طريقنا إلى الجزيرة الخضراء حيث استقبلنا استقبالا طيبا، ثم تناولنا الغداء على مائدة الأستاذ أمين مرعى شقيق الأستاذ مصطفى مرعى النائب العام السابق، وبعده توجهنا إلى مسجد البلدة. وبدأ فضيلة المرشد حديثه الذى يؤلف القلوب ويرطب المشاعر، ثم عرج على قصة فقال : كان هناك ملك.. وقام أحد الوزراء فى المملكة بعمل فتنة دفعت الملك إلى الإستغناء عن وزرائه واحدا تلو الآخر. وذات يوم جاء لزيارة الملك رجل صالح، وجنس بين الملك وبين الوزير ومعه صورة لها وجهان إحداهما قبيح والآخر جميل، وسأل الملك عن رأيه فى هذه الصورة فقال الملك: إنها صورة قبيحة جدا .. ثم سأل الوزير عن الصورة التى يراها فقال : صورة جميلة، وهنا حدثت مشادة كبيرة بين الملك والوزير. ولكن الرجل الصالح أسرع وقلب الصورة، فتبين كل منهما حقيقة الصورة بوجهيها، وهنا قال الشيخ للملك: يجب على كل إنسان أن لا يصدق حكما على شىء قبل أن يتبينه (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (1) 0
__________
(1) سورة الحجرات :(1/135)
وبعد أن أنهى فضيلته حديثه العميق، فهمنا بعد ذلك أنه توجد فى هذه البلدة بعض الخلافات، كما عرفنا أن حسن البنا قبل أن يدخل أى بلدة يلم بكل ما يتعلق بها من أحوال حتى لا يصطدم بأمور تعوق أداء رسالته0
وعدنا إلى مدينة رشيد فى مركب آلية وكان عددنا كبيرا، وجلس الأستاذ مع مجموعة من الإخوان فى مقدمة المركب وجلس باقى الإخوة على السطح الذى توجد تحته الماكينة التى تحرك المركب، ولما اقتربت المركب من الشاطىء اصطدمت بقاع النيل فسقط بعض الإخوة داخل المركب ففزع الإخوان وبقى حسن البنا ثابتا لم يتحرك، حتى إذا هدأت الثائرة قال للإخوان الثبات عند الشدة أنجا وأكرم0
وتوجهنا إلى شعبة رشيد، وهناك تحدث فضيلته إلى الإخوان حديثا مختصرا، وبعد فترة من الراحة استأنفنا سفرنا إلى شعبة سيدى بشر بالاسكندرية حيث أقام الإخوان حفلا ليخطب فيه الأستاذ بعد صلاة العشاء. ولفت نظرى أن الأستاذ المرشد حين بدأ حديثه قال: أيها الإخوة فى العام الماضى تحدثت فى موضوع مراحل الدعوة، ولم نستكمل هذا الحديث لضيق الوقت، وفى هذا العام أستأنف معكم باقى هذا الحديث 00 ثم استطرد فى الحديث حتى آخره، وبعد الحفل توجهنا إلىداخل المكتب الإدارى حيث جلس فضيلته مع أعضاء المكتب الإدارى لتصريف شئون الدعوة وتوجيه الإخوان، وبات ليلته فى الدار وفى الصباح الباكر غادرنا إلى القاهرة مصحوبا بعناية الله تعالى0
وفى كفر المصيلحة بلدة عبد العزيز باشا فهمى حدثت مشادة بين الإخوان وبين أفراد عائلة الباشا، وكان من عادة الأستاذ البنا ومن أخلاقه الإسلامية إنه إذا نزل بلدا فإنه يبدأ بزيارة عمدتها أو كبيرها. ومن وراء هذا المعنى مدلولات لا حصر لها0(1/136)
وعلى أثر هذه المشادة توجه بعض الإخوان من كفر المصيلحة إلى القاهرة وقدموا شكواهم إلى فضيلة المرشد وقالوا فيما قالوا إنه بعد ذلك لا يستحب لفضيلتكم أن تقوم بزيارة عبد العزيز باشا فهمى عند حضورك للبلدة. وصرفهم الأستاذ المرشد ونصحهم أن يلتزموا الحكمة والصبر0
ومضت الأيام واعتزم الأستاذ زيارة كفر المصيلحة – واستقبل الإخوان مرشدهم هذه المرة بصورة شعبية حماسية. وسار الموكب متجهاً ناحية شعبة الإخوان المسلمين – غير أن الأستاذ البنا طلب من السائق التوجه إلى دار عبد العزيز باشا فهمى كالعادة – ولم يستطع السائق إلا تنفيذ طلب الأستاذ أمام تعجب الإخوان ودهشتهم وسار الموكب حتى وصل إلى منزل الباشا الذى كان هو وعائلته يتشككون فى هذه الزيارة بعد الذى حدث واستقبله الباشا وعائلته استقبالا كريما وودعوه وداعاً لائقاً 0
وفى المساء ازدحم السرادق بالإخوان والذين جاءوا ليزيدوا النار اشتعالا ويصطادوا فى الماء العكر0
ووقف حسن البنا وحلق بالناس جميعا فى عالم جديد بعيد كل البعد عما يجول فى خاطرهم حتى إذا رطب النفوس وربط بين القلوب برباط الإسلام الحنيف عاد إلى الموضوع، فقال إنه جاء منذ مدة وفد من الشعبة وحدثوه عن المشادة التى حدثت بين الإخوان وبين عائلة عبد العزيز باشا فهمى وقالوا له إنه لا يستحسن بعد ذلك أن تبدأ بزيارته كالمعتاد ووعدتهم خيرا ولكن الإخوان كما تعلمون فى كل تصرفاتهم عن عقيدة وشريعة ولا يحتكمون إلى هوى ولا يقادون إلى شهوة (ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى)()، لهذا حين جئت إلى هذا البلد الطيب كان لابد أن أدخل البلد من الباب ولا يمكن أن أدخله من الشباك، والباب الوحيد لهذا البلد هو منزل عبد العزيز باشا فهمى0
حتى إذا أنهى الأستاذ المرشد هذه الكلمات الحكيمة المؤمنة تعالت الهتافات (الله أكبر ولله الحمد) من الناس جميعا.. الإخوان وغير الإخوان وأعداء الإخوان0(1/137)
وتصافحت الأيدى وربط الله بين القلوب وهكذا فقه المرشد رحمه الله بعمق معنى قوله تعالى (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين ولا تستوى الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) (1) 0
حسن البنا 0000000 وأرجاس الأحزاب السياسية
... بعد توقيع معاهدة سنة 1936 مع انجلترا (2) توجه مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومة وزعيم حزب الوفد إلى فرنسا لحضور مؤتمر مونترو لبحث إلغاء الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة00
... وقبل أن يغادر ميناء الاسكندرية كان هناك وفد من شباب الإخوان المسلمين يقدم له مذكرة من فضيلة المرشد العام، تفيد بأن إلغاء الامتيازات الأجنبية هى مرحلة وفرصة سانحة لاستقلال القضاء المصرى استقلالا يبعده عن الاستمرار فى جعل القوانين الضريبية هى مصدره فى الأحكام.. تلك القوانين التى فرضها علينا المستعمر تبعاً لأهدافه فى تحطيم عقيدة المسلمين. أما وقد أعطينا الفرصة للاختبار فينبغى أن نختار التشريع الإسلامى الذى ينبع من عقيدة الأمة وتاريخها المحيد، وهو تشريع مجمع عليه من جميع المسلمين وأقرته جميع المؤتمرات الدولية التى اعتبرت التشريع الإسلامى معطياً ومستجيباً لكل متطلبات التغير فى المجتمعات الإنسانية فى كل زمان ومكان0
__________
(1) سورة فصلت : 34،35 0
(2) تضمنت هذه المعاهدة نصا بإلغاء الامتيازات الاجنبية، التى كانت كانت تخول للأجانب- انجليز وفرنسيين وإيطاليين وغيره من الأوربين – حقوقا يتميزون بها عن الوطنيين المصريين، كان منها أنه إذا ارتكب أحدهم جرماً فإنه لا يحاكم أمام المحاكم الوطنية حيث شكلت لهم محاكم خاصة بهم أطلق عليها اسم ((المحاكم المختلطة)) تميزت أحكامها بأنها كانت صورية تختلف اختلافاً كبيرا عن ألأحكام التى تصدرها المحاكم الوطنية على المصريين فى جرائم متشابهة0(1/138)
... لقد كتب حسن البنا هذه المذكرة التى تحمل نصيحته لمصطفى النحاس باشا قبل سفره، لأنه كان يعرف تمام المعرفة أن مؤتمر مونترو يجمع كل أصحاب المصالح الإستعمارية فى البلاد العربية والإسلامية، وأنهم لا يوافقون إطلاقاً على الحكم بالشريعة الإسلامية عن الحكم، حيث أن هذا أمر قد تواصى به أعداء الإسلام. فضلا عن أن زعماء المسلمين وقادتهم لم يكونوا قد تحرروا بعد من الإستعمار الفكرى الذى رضعوه فى مدارس الإستعمار والتبشير، فقلدوا الغرب فى كل شىء وصبغوا حياتنا الاجتماعية والمدرسية بطابع بعيد كل البعد عن روح الإسلام ومنهجه فى الحياة0
عودة النحاس باشا من مؤتمر مونترو
... وعاد النحاس باشا من رحلته إلى فرنسا بعد قرار إلغاء الامتيازات الأجنبية وأقام له رجال حزب الوفد حفل إستقبال كبير فى حديقة انطونيادس بالنزهة بالاسكندرية خطب فيه رفعة النحاس باشا خطابا مذاعا نوه فيه عن مضمون الرسالة التى بعث بها إليه الأستاذ المرشد العام – فقال :
... إن جماعة لا وزن لها ولا قيمة تطالب أن يكون القرآن دستور الأمة – والإسلام عال الجنبات وليس فى حاجة إلى هذه الصيحات – أو هكذا قال .
... وفى الأسبوع التالى صدرت مجلة (النذير) لسان حال ((الإخوان المسلمون)) بخطاب مفتوح إلى صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومة وزعيم حزب الوفد – جاء فيه 000
يا صاحب المقام الرفيع
... نحن حين نكتب إلى رفعتكم هذا الخطاب لا نطلب منكم مصلحة شخصية ولا منفعة ذاتية وإنما هى النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم0
... يا رفعة الباشا : لقد جاء فى خطابكم بمناسبة إلغاء الامتيازات الاجنبية والذى أنعقد فى حديقة انطونيادس بالاسكندرية – كلام يتصل بجماعتنا وكان لزاما علينا أن نرد الحق إلى نصابه – فقد قلتم إن جماعة ولاى وزن لها ولا قيمة تطالب بأن يكون القرآن دستور الآمة – والإسلام عال الجنبات وليس فى حاجة إلى هذه الصيحات!!(1/139)
... أما أن هذه الجماعة لا وزن لها ولا قيمة .. فهذا أمر متروك للزمن يقول فيه كلمته ... ونحن لا ندعى لأنفسنا فضلا ولا منة – فلله وحده الفضل والمنة أما أنننا نطالب أن يكون القرآن دستور الأمة – فذلك ما عاهدنا الله تعالى عليه نعمل له ونجاهد فى سبيله ما وسعنا الجهاد وهو مطلب شعبى يتمناه كل مسلم فضلا عن أنه عقيدة كل مسلم لا يتم إسلامه إلا به0
... أما أن الإسلام عال الجنبات وليس فى حاجة إلى هذه الصيحات . فإنى أقول أن واقع المسلمين من وجود الإحتلال على أرضهم فى كل البلاد العربية والإسلامية – فضلا عن أنهم يحكمون فى بلادهم بغير شريعة ربهم .. دليل على أن الإسلام فى حاجة شديدة وملحة لكل صيحة بل ولكل يد تبنى صرح الإسلام من جديد0
... وكيف يكون الإسلام عال الجنبات يا رفعة الباشا وقد عقدتم مؤتمركم هذا قبل صلاة المغرب وانتهى بعد صلاة العشاء فأهدرتم فريضة إسلامية على الآلاف من المسلمين الذين حضروا هذا المؤتمر وعلى رأسهم زعيم أمة تدعى الإسلام.
... وإنى لازلت أذكر تصريح رفعتكم لمراسل إحدى الوكالات الأجنبية (1) حين قلت إنك معجب بلا تحفظ بكمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة.. لقد تعجبنا كيف يكون إعجابك برجل حارب الإسلام بإنهاء الخلافة وتغيير اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية ومنع الآذان باللغة العربية وإغلاق المساجد وإحالتها إلى متاحف .. وأخيراً إلغاء التحاكم بالشريعة الإسلامية0
... يا رفعة الباشا : يجب أن تعلم أن ضمير مصر لا يزال حيا مفعما بالإسلام وأن الشعب المسلم لا يرتضى بغير الحكم بالقرن شرعة وبديلا 0
مؤتمر مونتروا وحفل أنطونيادس
__________
(1) صدر التصريح لمراسل شركة الأبناء الأناضولية فى يونيو سنة 1935 ونصه كما جاء على لسان النحاس باشا : ((أنا بلا تحفظ بكمال أتاتورك ليس فقط بناحيته العسكرية ولكن لعبقريته الخالصة وفهمه لمعنى الدولة الحديثة التى تستطيع وحدها فى الأحوال العالمية الحاضرة أن تعيش وتنمو ))!!!(1/140)
كتب الأستاذ المرشد فى مجلة النذير العدد العاشر 5جماد ثان سنة 1357 السنة الأولى (االإخوان بين السياسة والدين – أهو تدخل حزبى أم قيام بواجب إسلامى؟ أيها الناس تجردوا عن الغاية وافهموا الأمور على وجهها )0
لا يريد كثير من الناس أن ينظروا إلى الحقائق إلا بمنظار مطموس بالغايات ملوث بالأهواء سودته الحزازات الحزبية وتكاثفت على زجاجه الضغائن الشخصية وما دام ذلك كذلك فلن يصل هذا إلى الحق وإن كان أوضح من النهار وأضوأ من الشمس المشرقة – فالهوى والحق لا يجتمعان . والغاية والإنصاف خصمان لدودان ولو أتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن))0(1/141)
ولا يريد هذا الصنف من الناس أن يفهم أن الإسلام قد أفتى فى شئون الحياة جميعاً وتناول أمور الدنيا والآخرة بالبيان والإيضاح ورسم للناس فيها حدودا إن إتبعوها فهم مسلمون صادقون وإن خرجوا عليها فهم آثمون مخالفون يقولون مالا يفعلون. وما دام الإسلام قد بين للناس نظام الحكم وقواعده، ووضح لهم حقوق الحاكم والمحكوم فى بيان شامل فاصل فإن الإسلام بهذا قد ضرب فى صميم السياسة وتناول أخص خصائص رجالها وزج بأحكامه فى تيارها وألزم الناس النزول على هذه الأحكام وهل أوضح فى هذا من الله تبارك وتعالى (( وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبعأهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فأعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض دنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون). وما دام الإسلام قد فرض على الناس أن يجهروا بالحق وأن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر وألا يقروا ظالما على ظلمه وألا يستسلموا لجائر فى جوره وأن يجاهدوا أمراءهم وحكامهم وأولى الرأى منهم فى سبيل إقامة موازين العدل حتى تقوم وإعلاء كلمة الله حتى ترتفع على الرءوس وإظهار شعائر الإسلام حتى تسمو كل منار فهو بذلك قد فرض على المسلمين جميعا اليقظة السياسية والتدخل فى شئون السياسة وأعطى الأمة حق مراقبة قوادها وزعمائها وحكامها وأمرائها وملوكها ووزراءئها وأهل النفوذ والرأى فيها فما من كبير إلا والحق منه وما من ضعيف إلا وهو أقوى الناس بحقه وهل أوضح فى ذلك من قول الله تعالى (لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) ومن قول الرسول صلى الله عليه وسلم (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ) فى أحاديث وآيات أكثر من أن يتسع لها كتاب..(1/142)
ما دام الإسلام يقول هذا أيها الناس فليس هناك شىء أسمه دين وآخر اسمه سياسة وهى بدعة أوربية أراد خصومكم بها أن تفتر حماستكم للإسلام وأن يصرفوكم عن نظمه إلى نظمهم الفاسدة، وليس هناك فى حقيقة الأمر إلا شىء واحد هو شريعة الله التى صلح عليها أمر الدنيا والآخرة ووضعت الناس أفضل النظم فى سياسة معاشهم ومعادهم وحكمها وقضائهم وحربهم وسلمهم وأخذهم وعطائهم (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا ) 0
أيها الناس – ضعوا عن أبصاركم هذه المناظير الملونة التى قدمتها إليكم أوربا وروجها عليكم ساسة هذا العصر وانظروا إلى الإسلام بنور الله الذى هداكم إليه فحبب إليكم الإيمان وزينه فى قلوبكم ترون ذلك جليا وتبصرونه واضحا وتعلمون أن الحق فى جانب الإخوان المسلمين وأن الخطأ كل الخطأ فى نظرات الزعماء السياسين الذين يفرقون بين السياسة والدين 0
وبعد – أيها الناس . فقد اختلفت أحكامكم على الإخوان وكتابات – الإخوان فى هذه الصحيفة وذهبتم فيها كل مذهب وجافيتم الصواب كثيرا وحكمتم بأهوائكم إلا بحقيقة الأمر والمسألة أبسط من ذلك وأهون مما تظنون0(1/143)
كتب الإخوان ينتقدون رجال الحكومة الحاضرة نقداً مراً لاذعا أليما فيه صراحة وفيه وضوح وفيه حساب عسير وفيه مؤاخذة شديدة . نقدوا وزير الخارجية فى حفل البعثة الإيرانية وما كان فيه من خمر ورقص وعبث ولهو بأموال الفلاحين بما يخالف أوامر الدين، ونقدوا وزير الداخلية السابق فى سفره ظهر الجمعة وتركه أداء فريضتها مع منشوره للمديرين والمحافظين ورجال الإدارة بوجوب مشاركة المسلمين فى أداء هذه الفريضة المقدسة، ونقدوا وزير المالية الحالى والنائب العام فى حضور ميادين السباق والمراهنة على الخيل وهى بوضعها الحاضر قمار صريح لاشك فيه، ونقدوا رئيس الوزراء فى تصريحه الخاص بقضية فلسطين (1) وفى إعجابه بفرسان المغاربة يزينون ميادين فرنسا وهم سلالة الأشاوس الفاتحين من أبطال الموحدين كتبوا فى كل هذا وسوف لا تقف هذه الأقلام عن هذا النقد أو هذا النصح ما وجدت إليه سبيلا ولن تقف فى سبيلها عقوبة أو محاكمة فنحن نرتل دائما قول الرسول (إن أعظم كلمة حق عن سلطان جائر) فلماذا تأولتم أنتم أيها الناس كلماتنا هذه؟ ونظرتم إليها من خلال غايتكم وغفلتم تماما عن الدافع الحقيقى لها، فأما الحكوميون منكم فقالوا فى أنفسهم وفى مجتمعاتهم وفديون نحاسيون مهرجون مأجورون لا يرضيهم شىء ولا يعترفون بمحمدة، كل همهم خصومة الحكومة وعداوة الحكومة والنيل من الحكومة ورجال الحكومة. وقال الوفديون وأنصارهم إن الحكومة لم تغدق على هؤلاء القوم من الإعانات المادية ولم تعطهم من المصروفات السرية ولم تحقق لهم مطالب شخصية فهم لهذا يحملون عليها وينتقدون رجالها ويشهرون بأعمالها وهو انتصار للوفد مبين0
__________
(1) سئل رفعته من أحد الصحفيين عما أعده لقضية فلسطين، فأجاب : أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين).. ومعنى ها أن الاستعمار نجح فى عزل مصر عزلا تاماً عن قضايا العرب والمسلمين0(1/144)
وكتب الإخوان مع الكلمات السابقة وفى أعداد واحدة ينقدون رفعة النحاس باشا فى تصريحه عن الحدود الإسلامية وينددون بموقفه من التشريع الإسلامى ويعيبون على المؤتمر الوفدى إضاعته لصلاة المغرب ويطالبون الوفد ورجال الوفد بالحرص على شعائر الإسلام ومظاهر الإسلام. فانعكست الآية وانقلبت التهمة وفرح الحكوميون واغتاظ الوفديون وأصدر كل منهما على العدد الواحد من أعداد النذير حكمين متناقضين فهو العدد بعينه ومن يكتب فيه وفدى وحكومى وماهرى ونحاسى ومؤيد ومعارض كل ذلك فى وقت واحد هذه الأحكام المتناقضة كلها خاطئة وإنما جر الناس إليها أمرا واحد هو أنهم لا ينظرون إلى الأمور إلا من وراء الأفكار الحزبية. والحق أيها الناس أننا حين ننقد الحكومة أو الوفد لا نكره واحدا منهما ولا نعتبر هذا النقد معارضة إلا فى هذا العمل الذى نقدناه وحين نؤيد واحدا منهما ونثنى على عمل حميد صدر منه معنى هذا أننا معه أو مؤيدوه إلا فى هذا العمل وحده ونحن على إستعداد لأن نؤيد اليوم من نقدناه بالأمس إذا أحسن أجاد وأن ننقد اليوم من أيدناه بالأمس إذا أعوج والتوى وليس ذلك بتلون منا ولا نفاق ولكنه نزول على حكم الحق أينما كان – وليس هذا أيها الناس تدخل حزبى أو كيد سياسى ولكنه أداء واجب دينى فرضه الله هو واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فهل آن أن نتفهم معاهدة الحقيقة فنتعاون جميعا على أن نرى الحق حقا ونتبعه والباطل فنجتنبه ونحاربه ذلك ما نريد أن يفهمه الناس عنا ويحملوا عليه كتاباتنا ولنا عود إلى هذا الموضوع0
... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
وتمضى الأيام ويعرف حزب الوفد الإخوان المسلمين وزنهم وقدرهم 000 وهذا هو الدليل :
زيارة وزراء حكومة الوفد للمركز العام للإخوان المسلمين :(1/145)
فى مساء الأحد 12 من جمادى الأول الموافق 16 من مايو 1943 كنت فى القاهرة حين تفضل بزيارة دار المركز العام للإخوان المسلمين أصحاب المعالى فؤاد سراج الدين باشا وزير الزراعة وعبد الحميد عبد الحق وزير الشئون الاجتماعية وأحمد حمزة بك وزير التموين – ومحمود سليمان عنان وزير التجارة والصناعة وسعادة صلاح الدين بك سكرتير عام مجلس الوزراء – وبعض حضرات الشيوخ والنواب المحترمين يتقدمهم صاحب العزة عبد الحميد الوكيل بك ومحمود عبد اللطيف بك وكان بين زوار الدار فى هذه الليلة صاحب العزة محمود زكى بك خبير مصر الاقتصادى فى السودان يرافقه حضرات إخواننا طلاب الحقوق السودانيين0
وعلى مائدة شاى بسيطة على سطح الدار جهزت بمكبرات الصوت – أوصلت كلمات الخطباء إلى ألوف الحاضرين من الإخوان وأهالى الحى وكانت فرق الجوالة على جانبى الطريق لتحية الضيوف والمحافظة على النظام0
واجتزئ هنا بعض كلمات الضيوف الكرام 0
أما صفة التواضع فقد تجلت فى وقفة وزير الزراعة وقوله ((إنه يعتبر نفسه من الآن جنديا فى جيش الإخوان الجرار )) 0
وقال وزير الشئون الاجتماعية : ((إنه يعتقد أن دعوة الإخوان سيكون لها شأن عظيم فى المستقبل حيث سيلتقى عندها الجميع وتكون الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الشعب المصرى)) 000
وقد ذكر حضرات أصحاب المعالى الوزراء ما قامت به الحكومة من مناصرة الفكرة الإسلامية وتحقيق كثير مما يطالب به الإسلام ويعمل له الإخوان المسلمون كإلغاء البغاء والشروع فى تنظيم الزكاة ومناصرة اللغة العربية لغة القرآن الكريم وتحريم تعاطى الخمور فى أيام المواسم والأعياد الرسمية 000
كلمة الأستاذ المرشد فى حفل الوزراء (1)
__________
(1) عن مجلة ((الإخوان المسلمون)) العدد 12 الصادر فى 9جمادى الآخر سنة 1362/12يونيه سنة 1943 (باختصار)0(1/146)
وباختصار شديد أذكر من كلمات الأستاذ المرشد حضرات أصحاب المعالى والسعادة والعزة : حضرات السادة الفضلاء والإخوة الأحبة جميعا – السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد – فهى ساعة طيبة كريمة تلك الساعة التى تفضلتم فيها – بزيارة دار الإخوان فأسعدتمونا بلقائكم وآنستمونا بتشريفكم – فشكر الله لكم وجزاكم عنا خيرا00
وكانت مفاجأة سارة أن يزورنا كذلك هؤلاء الإخوة الكرام من طلبة الحقوق بالسودان، أولئك الذين انتقلوا من وطنهم الجنوبى إلى وطنهم الشمالى وخرجوا من دارهم إلى دارهم فى سبيل التزود من العلم وتوثيق روابط الإخوة والحب.. وليس هذا أيها السادة بأول جميل تسدونه لهذا الدار ومنها الذين فيها – فقد أراد الله أن يمتحن الإخوان لظهر مبلغ حكمتهم وحسن تقديرهم للظروف وعلاجهم للحوادث وليسلك بهم فى ذلك الإمتحان مسالك أهل الدعوات والإيمان من قبل (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) 0
فوجدنا من حضراتكم حين المحنة جميل المشاركة فى العاطفة وحسن المساعدة والمعاونة على تصفية الجو ومناصرة الحق. حتى عادت المياه إلى مجاريها بفضل جهودكم الموفقة.. وانقشعت الغشاوة وظهر وجه البراءة مشرقا وتلك سنة الله ألا يقوم الباطل إلا فى غفلة الحق – بل نقذف بالحق على الباطل فيندمغه فإذا هو زاهق – وإن من الوفاء أن أذكر فى هذا الموقف رجلا جليلا وقف إلى جانب الإخوان حين المحنة موقفا كريما وكان له فى الدفاع عن دعوتهم أثر مشكور ونصيب موفور ذلك هو سعادة عبد الواحد الوكيل باشا رحمه الله وتغمده برضوانه0(1/147)
وليست هذه المواقف إلى جانب الإخوان دعوتهم غريبة منكم، لأن هذه الدعوة ليست بعيدة منكم، فدار الإخوان بأبى قرقاص هى دار معالى وزير الشئون الاجتماعية باذات وأسركم الكريمة وآلكم المفضل هم الذين يشجعون هذه الدعوة فى البلدجان والأقاليم فليس من العجيب بعد ذلك أن تسعد بكم دار الإخوان لأنكما جميعا من الإخوان وتدفعنى هذه الصلة بين حضراتكم وبين الدعوة إلى أن أتبسط قليلا فى الحديث عن غاية الإخوان ووسائلهم وخصائص دعوتهم 00
وبعد أن مضى فى شرح أهداف الإخوان ووسائلهم 00
قال : ومن خصائص هذه الدعوة أنها منذ نشأت وقد مضى عليها الآن خمس عشرة سنة عاصرت فيها مختلف الهيئات والحكومات لم تنحدر يوما من الآيام إلى المزالق السياسية ولم تنحدر يوما ولم تتلون بالألوان الحزبية ولم تتورط فى المنافع الشخصية ولم تخضع لهيمنة عظيم من العظماء أو سلطان وجيه من الوجهاء – ولم تعمل ساعة من نهار لحساب شخص أو هيئة أو حزب أو دولة لأنها صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ودعوة الإسلام وهل أقدس منها دعوة؟
وهداية الله للناس أجمعين لم تنفرد بها أمة دون أمة (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) وهى ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم – فهى أكرم على الله وعلى القائمين بها من أن تكون وسيلة لمغنم حزبى أو تورط سياسى أو استغلال شخصى (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين)0
ولقد قام الإخوان المسلمين بدعوتهم معتمدين بعد الله وحده على أنفسهم وجهودهم لا يتوجهون إلا بوحى من ضمائرهم ولا ينفقون إلا من ذات يدهم ولا يستمدون من أحد عونا إلا الله ( وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) وهم يعتقدون أن ذلك سر نجاحهم به متمسكون وعيه ثابتون إن شاء الله (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز)0(1/148)
وكان مما يظن بعض الناس أن الإخوان المسلمين فكرة موضوعة وهيئة مصنوعة صنعتها أيد وأهواء لتنال من الوفد أو من غيره فتنتصر لحزب على حزب أو تظاهر قوما على قوم وذلك وهم لا أصل له وباطل لا خير فيه (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنس ولقد جائهم من ربهم الهدى، وإن الظن لا يغنى عن الحق شيئا) فالإخوة المسلمون حزبيين ولن يكونوا كذلك بل هم دعاة وحدة وسلام وصفاء ووئام يجمعون ولا يفرقون ويبنون ولا يهدمون ويودون من أعماق قلوبهم أن تجتمع كلمة العالمين من أبناء هذا الوطن العزيز على ما فيه خيره وهناءته ويشير إلى ذلك قانونهم الأساسى ... وهم بعد ذلك يأملون من الوفد وهو الهيئة التأسيسية والسياسية الكبرى ومن رفعة رئيسة الجليل وهو الرجل المسلم الغيور على دينه – المؤدى لفرائضه أن يكون عونا للإخوان على أداء رسالتهم وتحقيق غايتهم فيقدم للمجتمع المصرى خدمة جلى يكتب له أجرها ويسجل له أثرها (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره)0
وقال الأستاذ المرشد 00 وكلمة ختامية أتوجه بها إلى حضرات أصحاب المعالى الوزراء خاصة وإلى أولياء الأمور عامة بعاطفة الوطن لا بلسان السياسى وهى النصيحة الواجبة لا معدى عنها ولا مناص منها - رسول الله صلى الله عليه وسلم . (الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال : لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)0
أيها السادة الوزراء – إنكم أولياء الأمر ورعاة الشعب وأنتم المسئولون بين يدى الله عما استودعكم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ككلم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فى أيدى سلطات واسعة لا يحجزكم شىء عن استخدامها والإنتفاع فى خير هذا الشعب بها – إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن فاقدروا هذه التبعة وإنها لعظية – واستخدوا هذه السلطات المنتشرة وتقربوا إلى الله بمناصرة المعروف المنكر وصالح العمل (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) 0(1/149)
من مدرس الخط إلى الرئيس الجليل :
وفى الخطاب المشهور باسم ((من مدرس إلى رفعة الرئيس الجليل)) (1) ، وهو الخطاب الذى بعثه المرشد إلى حزب الوفد يشكره وأعضاء حزبه على تقريرهم مساعدة إخواننا الأبطال المجاهدين عرب فلسطين فى ذلك الوقت وأيضاً على دعوتهم ممثلى الشعوب الشرقية المظلومة إلى حضور مؤتمر الحزب 0
00 فى هذا الخطاب الذى ذكره فيه بموقفه من الإسلام وتهاون أعضاء حزبه فى واجباتهم الإسلامية وإهمالهم إحياء شرائع الإسلام لحساب ما يسمونه ((الوحدة الوطنية بين عنصرى الأمة، فى هذا الخطاب قام فضيلته بكشف أبعاد تصريح (الرئيس الجليل) لمكاتب شركة الأبناء الأناضولية ودلالات إعجابه بكمال أتاتورك التى تعنى أن الوفد يشجع اللادينية فقال : (( 00 هذا التصريح ليس تصريحاً أجوفاً وليس تصريحاً يصدر هكذا عن مجاملة أو عن غير روية سابقة وفكرة مستقرة تريد أن تبرز إل حيز الوجود فى الوقت المناسب حين تتهيأ لها الظروف وإن سبق اللسان فأظهر مكنون الضمير فأنتم تسجلون فى هذا التصريح أن هناك شيئاً اسمه الدولة الحديثة، وهى التى فهمها كمال أتاتورك فى دولته الحديثة قد تجرد من كل المظاهر الإسلامية فكأنكم فى هذا تعلنون فى صراحة أن مصر لا تستطيع أن تعيش وأن تنمو فى الأحوال العالمية الحاضرة إلا إذا تجردت هى الأخرى من كل مظاهر الإسلام كما فعلت تركيا، وكأن هذا هو عنوان منهاجكم ومحور الإصلاح الذى تريدونه لهذا الوطن بعد الانتهاء من قضاياه الخارجية، ولست رجلا من آحاد الناس بل أنتم زعيم يؤول إليه الحكم وتلقى إليه مقاليد الأمة !!!
000 هذا التصريح دليل مادى بين يدى الذين يرون أن الوفد يعمل على سياسة إن لم تكن تناوئ الإسلام فهى على الأقل لا تستمد منه ولا تعنى بشأنه ويسرها أن تتخلص من تبعاته 00
__________
(1) انظر نص هذا الخطاب فى كتابنا القادم بمشيئة الله (فى قافلة الإخوان المسلمين) 0(1/150)
ومما جاء فى هذا الخطاب أيضاً قول فضيلة المرشد : (( 00 والآن وقد فكرتم فى الاتجاه إلى الناحية الإسلامية العربية فأصدرتم فراركم بخصوص فلسطين الباسلة وبخصوص دعوة ممثلى الأمم الشرقية 00
الآن والأمر كذلك – هل لنا أن نأخذ من هذا أن الوفد جاد فى تعديل موقفه الماضى من الإسلام أم لازالت هذه المظاهرات مناورات سياسية إقتضتها الظروف والحوادث يراد بها الانتصار السياسى على خصوم والوفد والعودة إلى قيادة الرأى العام ثم إلى الحكم، حتى إذا تم عاد سيرته الأولى من الإغضاء والتجاهل والإهمال لكل إصلاح يمت بصلة إلى الإسلام – ثق يا باشا بأنه إذا كانت هذه الغاية فإن الله لا يؤيد إلا من أخلص له وصدق توجهه إليه ولن ينال الوفد شيئا مما يفكر فيه أو يتطلع إليه فإن الله أشد غيرة على دينه من أن يكون سلما للمطامع ومطية للأهواء والشهوات وإن كانت الأولى فندع الماضى جانبا ولننسه بخيره وشره ولنضع منهاجا للمستقبل فذلك هو الذى يعنى الأمة ويؤدى إلى النجاح وليكن هذا المنهاج مرتكزا على قواعد الإسلام مستمدا من تعاليمه السامية وأصوله النبيلة الدقيقة . ولذلك – إن صح العزم عليه – علامات ودلائل نطالبكم بها ونحاسبكم عليها فلا قيمة لدعوى بغير دليل وبرهان. ومن هذه الدلائل :(1/151)
أولاً : أن يكون أعضاء الوفد والهيئة الوفدية وعلى رأسهم رفعتكم نماذج صالحة للاستمساك بالإسلام فى أنفسهم وبيوتهم وكل مظاهر حياتهم فيؤدون الفرائض ويؤمون المساجد ويمتنعون عن غشيان الأندية الفاجرة والذهاب إلى الصالات الخليفة ويصدرون عن هذه المسالك فى تصرفاتهم العامة والخاصة وتزد أن اجتماعات الوفد ومؤتمرات الوفد بملاحظة الأوقات وأداء الصلوات ويبنه على ذلك تنبيها جادا فى كل اللجان الوفدية صغيرة أو كبيرة ويراقب أعضاؤها فى هذا ويؤخذون به على أن القدوة الحسنة من جانبكم وجانب أعضاء الوفد البارزين فيها الكفاية فى التأثير وحمل الأنصار على إنتهاج هذه الخطة القويمة والتمسك بآداب الإسلام وشعائره ومظاهره0
ثانياً : أن يعلن الوفد منهاجه الإصلاحى مستمدا من قواعد إسلامية متضمنا لما يأتى :
1- العناية بإصلاح التشريع وتوحيد المحكمة المصرية فى ظل الشريعة الإسلامية 0
2- العناية بإصلاح التعليم وتوحيد المدرسة المصرية فى ظل الشريعة الإسلامية كذلك 0
3- العناية بتجنيد القادرين فى الأمة جميعا تجنيدا تطوعيا لا يكلف الحكومة شيئاً باسم الواجب الدينى المفروض على كل مسلم؛ واجب الجهاد المقدس الذى يدوى به النفير العام فى قوله تعالى ((انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سيل الله))0
4- محاربة الموبقات التى يحرمها الله والتى أفسدت أخلاقنا وهددت مجتمعنا والقضاء عليها قضاء تاما كالبغاء والقمار والخمور والتهتك والمراقص والصالات والأندية الداعرة 00 إلخ، وأخذ كل خارج عن أداب الإسلام بالعقوبة الرادعة0
5- العناية بمشروعات الإصلاح الاقتصادى والاستعانة فى تحقيق ذلك بتنظيم الزكاة جباية ومصرفا0
6- مقاومة روح التقليد الأوربى وتعويد الشعب الاعتزاز بكرامته وقوميته0
7- العناية بإصلاح الادارة والأسرة والقرية وتطهير ذلك كله من كل ما يتنافى تمهيدا لعودة ((الخلافة)) وتوكيدا للوحدة التى فرضها الإسلام0(1/152)
8- دعوة خصوم الوفد السياسيين إلى انتهاج هذا المنهج وبذلك يقضى على الحزبية السياسية0
هذه نماذج مما يجب أن يعلنه الوفد فى منهاجه الجديد على الأمة لم نقصد بإيرادها الاستقراء التام ولا الاستقصاء الكامل ولكن نسوقها كأمثلة مما يجب أن يكون0
جريمة منكرة :
وفى ربيع الأول سنة 1367 .. دبرت عناصر حزبية جريمة بشع هى فى سجل الحزبية والأحزاب فى مصر أمر ليس بالغريب .. ففى شبين الكوم الثانوية وجدت العناصر الحزبية أن الطلاب قد بدأوا ينحازون إلى صف الحركة الإسلامية بدافع الفطرة التى تبحث عن الخير فتتجه إليه وتحس الحبيث فتنصرف عنه 0
وعز على الأحزاب يومها أن تطوى صفحتها بين الطلاب وجماهيرهم بعد أن جرى الإسلام فى عروق الحركة الطلابية فأيقظ وجدانها وحرك ضميرها فدبرت عناصر من تلك الأحزاب جريمتها بأحد النوادى الخاصة بها فى شبين الكوم ليلا 00 ونفذتها فى مدرسة شبين الكوم الثانوية نهارا 00 وكانت المناسبة التى أختارتها العناصر الحزبية لتنفيذ مؤامرتها هى ذكرى المولد النبوى0
لقد قامت هذه العناصر الحزبية باغتيال الطالب صادق سعد مرعى فى 24 ربيع الأول من العام الهجرى 1367 .. حيث التف طلاب المدرسة حول الفكرة الإسلامية وأقاموا احتفالا بذكرى المولد لم يجد الحزبيون لهم فيه مجالا فأعماهمم الحقد والنزق عن السبيل السوى 00 فعبروا عما فى النفوس فى حزبية منحرفة ضلت طريقها بخنجر أغمدوه فى صدر الطالب الشهيد 0
وكتبت جريدة ((الإخوان المسلمين )) تقول :(1/153)
ليس اغتيال صادق سعد مرعى يوم السبت الماضى بتلك الطعنة الآئمة التى سددها إلى قلبه وكيل إحدى اللجان الحزبية بمدرسة شبين الكوم الثانوية إلا ثمرة من ثمار الحنظل التى نجنيها من شجرة الحزبية البغيضة القاتلة منذ قامت فى مصر هذه الأحزاب .. ومن الخير لهذه الأمة أن تتجرع كأس الحقيقة وإن كان مرا من أن نتمادى فى تجاهل هذا الداء عن ذلك الوباء، فما زال سبيل الخلاص فى يدها ... وما زالت إرادتها من إرادة الله، والله يقول: ((وإن هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون))00(1/154)
لقد حمل الشهيد إخوانه الطلاب والأهالى على الأعناق إلى بلدته ميت موسى فى مشهد رهيب حيث قر فى مثواه الأخير وشيعوه بالعبرات المسفوحة ورثوه بسيرته العطرة فقد كان زهرة شباب المدرسة وألمعهم نجما. أنضر ما يكون فتوة وشبابا وأقوى ما يكون وطنية وإيمانا وأكمل ما يكون خلقا ودينا 00وتبادل الناس فيه العزاء وكلهم فى الخطب سواء .. ومع ذلك فما بقى من الحادث الأسيف فى قلب مصر، وتخلف عنه فى نفس كل مصرى أكبر من أن يزول بالدموع والألم أو ينسى مع الأحداث والأيام. وإن ما شهدناه بأعيننا ولمسناه بأنفسنا فى شبين الكوم وفى بلد الفقيد وعند كل من بلغه الخبر من الحزن البالغ على الشهيد العزيز والثورة الصارخة على هؤلاء الآثمين الذين حاكوا المؤامرة فى ناديهم وسخروا لها الأدوات من الشباب المضلل لم يردعهم عن ذلك مخافة حساب من دين أو قانون. وحديث الناس فى كل مكان عن هذا الحادث وبواعثه وعن مدبريه وحزبهم، كل ذلك جعل الأمر أخطر وأجل من أن يعالج بالإكتفاء بتقديم عنق القاتل للمقصلة فى الوقت الذى يعلم الجميع فيه أن المسئول عن هذا التوجيه وذلك التدبير هم المسئولون عن الحزب الذين أعمتهم شهوة الحكم عن المصلحة العامة وأحلت لهم ما حرم الله من قتل أنفس الأبرياء بدافع الحقد على الآمنين العاملين لدعوة الله ورسوله ما داموا لا يعملون لدعوة زعيم أو حزب كأنما هى أمة الطاغوت لا أمة الإسلام 0
لقد كان الناس يتساءلون : أحقا هى يد مصرية تلك التى سددت الطعنة إلى قلب مصرى؟ وهل هو توجيه إسلامى ذلك التوجيه الذى استعمل الإغتيال وتدمير هذه المؤامرات؟ .. فكان الجواب الذى لا يتغير : بل هى يد حزبية عمياء .. لا يحكمها وطن أو دين 0
وفى 3ربيع الثانى سنة 1368، 13فبراير سنة 1948: كتب الإمام الشهيد حسن البنا نداءه إلى الإخوان الطلاب يذكرهم برسالتهم وبضرورة الارتفاع عن مهاترات الأحزاب ووسائلها ومؤامراتها .. كتب رحمه الله يقول :(1/155)
((السلام عليكم ورحمة الله .. وبعد .. فالآن وقد إنتهت إجازتكم وعدتم إلى معاهدكم أحب أن أتقدم إليكم بالوصية بعد جميل العزاء فى شهيدنا المبرور وفقيدنا العزيز الطالب النجيب: صادق سعد مرعى .. عوضنا الله فيه الخير وأجزل له ولأسرته الكريمة ولنا أجر الصبر آمين .. فأوصيكم بثلاث فاذكروا دائما :
1- أنكم فى دور العلم ومعاهده طلاب قبل أن تكونوا منتسبين إلى – أحزاب أو هيئات .. أنكم أسرة واحدة تجمعها كرامة العلم وقدسية الزمالة واحفظوا على أنفسكم وحدتها واحذروا كل فتنة، وأعرضوا عن اللغو ولا تشغلوا أنفسكم إلا بالنافع المفيد 00
2- ولا تنسوا أبدا أن خير ما تكسبونه لأنفسكم وتعتدون به لأمتكم فى هذه المرحلة من حياتكم أن تنهلوا من العلم الذى بين أيديكم وأن تستزيدوا منه ما وسعتكم الاستزادة ولا يكن قصارى همكم أن تجتازوا امتحانا ولكن اجعلوا همكم أن تملاوا قلوبكم ورءوسكم بما يقيم مجد هذه الأمة على أساس متين0
3- والثالثة يا شباب أن تكونوا أمناء على الدور الذى تحملونه فى قلوبكم وعلى معادن لخير التى أقرتها يد الله فى حنايا ضلوعكم وأعلموا أن الأمل فيكم بقدر ما تحفظون من أخلاقكم وليكن جهادكم لأنفسكم أول شعيرة ترضون بها ربكم وتعززون بها أوطانكم. فو الله ما أودى بهذا الوطن العظيم سلاح ولا رهبة إلا هذا الصغار فى الخلق والعبث فى الضمائر فى النفوس الرخيصة أما أنتم يا طلاب شبين الكوم فوصيتى لكم خاصة أن تحتسبوا فقيدكم الكريم لله عز وجل وأن تتركوا للقضاء ما يعن له من الحكم الرادع إن شاء الله وأن يكون استشهاد فقيدكم العزيز عبرة تلمون بها شملكم موتقطعون بها الطريق على فتنة يراد بها التفريق بين صفوفكم عما أنتم بسبيله من طلب العلم والتفرغ له. هذه وصيتى أزجيها إليكم. وكلى فيكم أمل وثقة. والله على قلوبكم نعم الخليفة.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 00
حسن البنا
... ... ... ... ... ... ... ... المرشد العام للإخوان المسلمين(1/156)
حتى المسجد انتهكوا حرمته 000
... عقد الإخوان المسلمون مؤتمراً شعبياً بالقاهرة لمناصرة القضية الوطنية وتلاه مؤتمر آخر بالاسكندرية (سبق ذكر وقائعهما) .. وعقب انتهاء مؤتمر الاسكندرية دعا الإخوان بدمنهور فضيلة المرشد كى يؤدى بهم صلاة الجمعة فى مسجد الزرقا، وحاول فضيلته الاعتذار نظراً للظروف والمشاكل التى بين الإخوان فى دمنهور وبعض الوفديين، ولكن الإخوان أصروا على تلبية دعوتهم، فاستجاب لرغبتهم0
... وغادر نفضيلة المرشد وصحبه الاسكندرية إلى دمنهور، وعند المسجد كان المشهد مثيرا حيث حاصرت قوات الأمنن المسجد من كل مكان، ودخل الأستاذ المرشد مع نهاية الاذان، وفوجئنا بمعركة بين الإخوان والوفديين بالأيدى مع ضجيج الهتافات. ولم يتنبه الإخوان لخطورة الموقف وما يترتب على ذلك من مخاطر على حياة فضيلة المرشد فى هذا الزحام الذى يختلط فيه من نعرف بمن لا نعرف0
... ولكن الأستاذ لم ينتظر، فقد صعد المنبر فى الحال وصاح بأعلى صوته: يا أبناء الإسلام.. يا أتباع محمد عليه الصلاة والسلام.. يا من جئتم لعبادة الله وحده .. وظل الأستاذ ينادى بمثل هذه المعانى إلى أن جلس الناس جميعا وهدأت الثائرة وخيم الصمت الرهيب على الجميع: ثم بدأ يخطب الجمعة محلقا بالمصلين فى سماء الحب والأخوة فى الله تعالى، وتناول كيف وحد الإسلام بين الأوس والخزرج وبين الأبيض والأسود وبين العربى والعجمى، وتناول الآيات والأحاديث النبوية الشريفة فى هذا الباب حتى تجاوبت القلوب ودمعت العيون000(1/157)
... وبعد أداء صلاة الجمعة أسرع فضيلته إلى إلقاء كلمة أخرى، حتى لا يدع فرصة للشقاق والخلاف واستمر حديثه أكثر من ساعة حتى انفض الناس فى هدوء وخرجوا من المسجد وقد ظهر عليهم الألم والحزنلما أوقعهم فيه الشيطان، واستطاع الأستاذ المرشد بما وهبه الله تعالى من قوة العزيمة وسرعةالحركة والمبادرة أن ينقذ الموقف ويرد إلى الجماهير رشدها ووعيها دون أن يشير فى خطبته إلى أى إتهام أو تجريح أو مفاضلة ولكن رد الناس جميعا إلى أصل عقيدتهم الإسلامية التى من الله عليهم بها حيث يقول : (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء، فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا)0
سخائمهم فى بور سعيد :
ولم تمض شهور على هذا الحادث، حتى سافر الأستاذ المرشد إلى مدينة بور سعيد، فاستقبله الإخوان هناك ومعهم فرق الجوالة استقبالا شعبيا كريما، وبينما كان موكب الجوالة يشق طريقه فى قلب المدينة إذا بشباب حزف الوفد يهاجم الإخوان ويلقى عليهم الحجارة ويصطدم بهم فى معركة.. ثم لم يقنع شباب حزب الوفد بهذا فتوجه إلى دار شعبة الإخوان وحطم زجاج نوافذها وأتلف بعض أثاثها. وحضر مدير الأمن فى الحال وسيطر على الموقف وطلب من فضيلة المرشد أن يساعده على ذلك، وقال له الأستاذ المرشد: إنه قد أمر كل الإخوان أن يلتزموا الهدوء والسكينة، وأنه شخصيا قد اعتزم السفر إلىالقاهرة وسوف يوفد بعض الإخوان لتصفية الجو بين الإخوان والوفد0(1/158)
وغادر فضيلته بور سعيد، ولم يلبث أن أوفد الأستاذ عمر التلمسانى وفوضه بالتصرف فى الموضوع. وقابل الأستاذ عمر مدير الأمن الذى أدهشه كيف أن الإخوان وقد اعتدى عليهم يسعون للصلح مع اللجنة الوفدية فى بورسعيد فرحب بهذه السماحة. وعقد الإخوان فى دار اللجنة اجتماعا للمصالحة وعندما أراد العقلاء من اللجنة الوفدية الذهاب إلىدار الإخوان لرد الزيارة اعترض على ذلك زعماء الحزب، ولكن برغم هذا الاعتراض ذهب وفد منهم إلى دار الإخوان واستقبلوا هناك أحسن إستقبال، ومع هذا هاجم بعض شباب الوفد دار الإخوان وقت وجودوفدهم فى ضيانة الإخوان، ولكن الإخوان لم يلتفتوا إلى ذلك وتجاهلوه تماما. وانتهت الفتنة وقضى عليها فى مهدها، ونسى الوفديون والإخوان فى بورسعيد هذا الحادث 000
وتمضى شهور ثم تندلع الحرب فى فلسطين عام 1948 ، واشترك الإخوان المسلمون فى المعركة بكتيبتين من شبابهم .. كتيبة قادها فضيلة المرشد إلى غزة عن طريق القنطرة شرق والعريش، وكتيبة أخرى تحركت إلى القدس بعد إتمام تدريبها فى معسكر قطنا بسوريا 00
وكان من المقرر ترحيل الكتيبة الثانية من ميناء الاسكندرية ولكن الأستاذ المرشد رأى ترحيلها عن طريق بور سعيد فأرسل إلى الأخ الحاج أحمد المصرى كى يتسعد لإستقبال الكتيبة لتوديعها إلى سوريا بكل ما تحمله من سلاح وعتاد ومؤمن بالسفن من ميناء بور سعيد 00
وانتقل حسن البنا إلى بور سعيد قبل أن تصل الكتيبة ، وحين وصلت كان فى استقبالها جوالة الإخوان هناك بالموسيقى والأناشيد الحماسية واستيقظت بور سعيد على هذا المشهد الرائع المثير الذى ألهب العواطف وأشعل الحماس0
ووقف حسن البنا وسط الجموع المحتشدة من أهل بور سعيد ليقول كلمات قليلة ذات دلالة :(1/159)
أيها الناس 00 أتذكرون يوما فى العام الماضى .. يوم كنا فى مثل هذا الاستعراض ودون أسباب ولا مبررات هوجمنا وحطمت دارنا بلا ذنب ولا جريرة، أتذكرون هذا اليوم؟ .. إن الإخوان المسلمين أبعد نظرا من أن تستفزهم هذه المعارك الجانبية، لأنهم أحرص على دماء بنى دينهم ووطنهم أن تذهب فى سبيل المطامع والأهواء.. فى سبيل الزعامات التى لا تقى ربها وفى أرواح أبناء وطنها. ولقد كان الإخوان يستطيعونأن يردوا هذا الاعتداء بمثله، ولكن الخسارة ستكون علينا جميعا فنحن مهما اختلفنا فى الرأى فإننا بنود دين واحد يعيش فى مجتمع واحد فى وطن واحد0 لهذا آثر الإخوان المسلمون الحكمة وادخروا جهدهم وجهادهم لقتال أعداء الإسلام. وهاهم جنود الإسلام يتحركون على بركة الله إلى فلسطين (فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) وفى هذا فليتنافس المتنافسون.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 0
وتعالت الهتافات وازداد الحماس وتحركت الكتيبة وسط مظاهرة من عامة الشعب إلى ميناء بور سعيد، وعاد الأستاذ المرشد إلى القاهرة ليصرف شئون دعوته، ثم ينتقل إلى دمشق ليلحق بهذه الكتيبة ويستقبلها هناك مع الإخوان بسوريا فى وجود الدكتور مصطفى السباعى، فكانت هذه أول مرة ينتقل فيها الأستاذ البنا إلى سوريا0
والمصحف امتهنوا قداسته :
... وبمناسبة الحديث عن مواقف الأستاذ البنا من تصرفات حزب الوفد، أذكر أنه فى يوم من أيام سنة 1947 قام الإخوان بالقاهرة بعمل استعراض لفرق الجوالة بحى الدرب الأحمر وبينما هذه الفرق تجول الشوارع يتقدمها أحد الإخوان حاملا بين يديه ((المصحف الشريف))، إذ تصدى للجوالة رجال الشرطة وعلى رأسهم مأمور قسم الدرب الأحمر، وقد تسبب هذا الاشتباك فى سقوط ((المصحف الشريف)) علىالأرض فثار الإخوان وهاج معهم الأهالى الذين استثارتهم هذه الفعلة النكراء 0(1/160)
وكادت تحدث فتنة، لولا وجود الأخ الأستاذ سعد الدين الوليلى الذى عمل بكل جهده على تهدئة الثورة فى النفوس، فى الوقت الذى اضطلع اللواء سليم زكى حكمدار القاهرة بإنقاذ الموقف. وكان من الصعب جدا تهدئة الجو حيث اعتبر الإخوان ومعهم عامة الناس أن هذا الحاديث فيه إهانة بالغة لكتاب الله تعالى وامتهان لقداسته، وذهب اللواء سليم زكى إلىدار المركز العام – للإخوان القريب من الحادث وقابل الأستاذ المرشد واعتذر له. ولكن الأستاذ البنا احتج على هذا الحادث المثير والذى لولا حكمة شباب الإخوان لأدى إلى أسوأ العواقب.. وهدأ فضيلة المرشد من ثائرة الإخوان ووعدهم بأنه سوف يرد على هذا الموقف بما يتناسب مع حكمة الإخوان وجلال الدعوة0
وفى مثل هذا اليوم ونفس الوقت من الأسبوع التالى خرجت جوالة الإخوان بعدد كبير يضاعف العدد السابق تتقدمها فرق الموسيقى مع أعلام الإخوان، وتتلوها كوكبة من الإخوان يحيطون بالأخ ((حامل المصحف الشريف)) وسارت هذه الفرق تجوب نفس الشوارع، وتهتف بمبادئ الإسلام وتنشد الأناشيد الإسلامية الحماسية، والجماهير تستقبلها بالهتافات والتصفيق وتحيط بها من كل جانب فى حماسة متحدية بذلك رجال الشرطة0
وبعد هذا الاستعراض الرائع والاستقبال العظيم عادت الفرق إلى المركز العام، حيث كان فى استقبالها فضيلة المرشد الذى تحدث إليهم حديثا أراح قلوبهم وأثلج صدورهم0
وهذه سخائم السعديين 00(1/161)
حيث وقف النقراشى باشا فى مجلس الأمن يعرض قضية مصر ويطالب بجلاء الانجليز، وقف الإخوان المسلمون بكل ثقلهم فى البلد يدعمون موقفه. وحين عاد إلى مصر – بعد أن خذله مجلس الأمن – واستسلم لألاعيب الانجليز وصارت قضية البلاد ألعوبه فى يد المستعمر – بعث إليه الإخوان المسلمون برسالة نشرتها جريدة (الإخوان المسلمون) منذ ثلاثين عاما. تضع النقاط على الحروف، وتوضح المعالم، وتؤكد : أن الإخوان المسلمين – من واقع إيمانهم بدعوتهم وفهمهم لأصولها – إنما يتحركون وهم لا يستهدفون إلا المصلحة العامة، ولا يحرصون إلا على رضاء الله، وإعلاء راية الإسلام0
ومن أجل ذلك كانت رسالة الإخوان المسلمين لرئيس الحكومة حينئذ صورة لفهمهم0
((حضرة صاحب الدولة محمود فهمى النقراشى باشا رئيس الحكومة المصرية. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد 00
فقد شعر الإخوان المسلمين منذ عودة دولتكم من أمريكا بعد تعليق القضية المصرية فى مجلس الأمن بأن تلك الحماسة الباهرة، وتلك الصراحة الظاهرة، قد خبت جذوتها، ولانت حدتها، وراقبوا مواقف الحكومة وتصرفاتها فى شئون البلاد الحيوية، فلم يجدوا أنها خطت بالأمة خطوة حازمة فى تحقيق مطالبها، أونهجت بها نهجا واضحا فى الإصلاح الداخلى يقضى على مظاهر التحلل والفساد فى حياتها الاجتماعية فى كل تصرف. ولما لم يجدوا أثرا لذلك: لم يكن بد من أن يقولوا كلمتهم ويؤدوا أمانتهم0
تحدى الحكومة للإخوان(1/162)
... وقد اعتبرت الحكومة عريضة الإخوان المرفوعة إلى ملك البلاد معارضة لها، فرتبت على ذلك خطوات إيجابية- على قاعدة الحكومة المصرية التى يضيق صدرها بكلمة الحق – وأصدرت أمرها إلى رجالها بمصادرة حرية الإخوان، والوقوف فى طريق نشاطهم. وكان من ذلك أن صودر حفل فرع هيئة وادى النيل العليا لإنقاذ فلسطين بالمنيا بمجرد أن تبينت الإدارة أن للإخوان يدا فى إقامته – كما قبض على بعض طلاب الجامعة من الإخوان وزج بهم فى السجن وعوملوا أسوأ معاملة فى الوقت الذى ترك فيه المعتدون المشاغبون يسرحون ويمرحون ويظهرون بمظهر المعتدى عليهم وطارد البوليس طلاب مدرسة السنطة الصناعية وأطلق عليها الرصاص وأصاب منهم عشرين طالبا لأن معظمهم من طلاب الإخوان0
الإخوان وقضايا العرب والمسلمين
... ولما كان الظرف فى غاية الدقة والحرج وكنا جميعا أمام قضايا هامة يتصل بها مستقبل العالم العربى الإسلامى كله ويتوقف عليها مصيره وأهمها قضية فلسطين المقدسة وكان نشاط الإخوان فى هذه النواحى هاما وأساسيا وعظيما لأنهم الهيئة التى حملت هذا العبء منذ أكثر من خمس عشرة سنة، ونهضت به ونبهت الأذهان إليه وجمعت القلوب والجهود من حوله والتى هى على استعداد كامل لمواصلة هذا الجهاد حتى يتحقق النصر بإذن الله 00 لهذا أحببت أن أكتب لدولتكم حتى تتحدد الأمور والمواقف 0
الإخوان معارضون للحكومة
... فأما أن الإخوان المسلمين معارضون للحكومة فهذا حق لا شك فيه، وأقول بكل وضوح أنهم لم يكونوا يوما من الأيام مع أية حكومة من الحكومات فى غير هذا الموضع لأن دعوتهم الجامعة وأهدافهم الإصلاحية ومبادئهم الإسلامية لا تسلم أبدا بهذه الأوضاع الحزبية المفرقة ولا تستسيغ هذا التناقض فى نظام الحكم فى بلد يقرر دستوره أن دينها الإسلام ثم تجرى فيه كل الأمور على نقيض ذلك 0
قاعدة الإخوان فى المعارضة(1/163)
... ولكن هذه المعارضة تكون قوية واضحة أو هادثة لينة حسب ما يترتب عليها من خير للوطن والإسلام. فإذا ظهر من إحدى الحكومات استعداد لتقبل النصح وعزم على الاتجاه إلى الخير وكانت تصرفاتها لا تؤدى إلى كارثة من الكوارث الوطنية أو الاجتماعية كانت معارضة الإخوان إياها هادئة لينة أخذا بأداب القرآن الكريم : ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى أما إذا كانت الظروف والملابسات والأعمال والتصرفات ستؤدى إلى نكسة وطنية يضيق معها حق وطنى وتكبل نهضته بالقيود والأغلال فإن الإخوان لا يسعهم فى دينهم ولا فى وطنيتهم أن يسكتوا عن ذلك ساعة من نهار أخذاً بأدب القرآن أيضا : ((فأنبذ إليهم على سواء)). وهم حينئذ لا يهربون من تبعات ولا يتنصلون من مسئوليات ويعتبرون كل ما يصيبهم جهادا فى سبيل الله لهم أجره ومثوبته.
... تلك قاعدة الإخوان المسلمين العامة التى طبقوها مع كل الحكومات على السواء لم يلينوا يوما لرغبة ولم يعنفوا لرهبة ولم يمالئوا أحدا على حقوق الوطن ولن تستطيع حكومة من الحكومات كائنة ما كانت أن ترى لها عليهم يدا يغضون لها حين تغضب وذلك هو بعينه مسلكهم مع حكومتكم أولا وآخرا 0
واجب الحكومة
... ولكن الإخوان مع هذا لم يعلنوا بعد إنهم خارجون على القانون فهم سيجعلون معارضتهم فى حدودها القانونية. يكتبون فى صحفهم ويجتمعون فى أنديتهم وينشرون رأيهم بكل وسيلة مشروعة0
... وهم يريدون من الحكومة أن تسلك معهم هذا المسلك وترتفع بأساليبها عن التصرفات الصغيرة التى تتعارض مع القانون وتعتبر عدوانا عليه، فلا تمنع إجتماعا بغير حق ولا تقبض على أحد بلا مبرر لتكون قدوة للأمة ولا تضطر غيرها لارتكاب الخطأ فتسقط هيبة النظم وتضيع حرمة القوانين.
وإذا لم تأخذ الحكومة بهذا التوجيه السليم والنصح المخلص فلها أن تتعسف كما تشاء وعليها تبعة عملها وعلى الباغى تدور الدائرة 0
حسن البنا 000 والاستعمار الانجليزى وجها لوجه(1/164)
... حين أعلنت الحرب العالمية الثانية فى شهر سبتمبر 1939 وأعلنت معه الأحكام العرفية وتعاقبت الوزارات وجاءت وزارة حسين سرى باشا واشتد ضغط الإنجليز على الحكومة لتقضى على نشاط الإخوان المسلمين وتحل جماعتهم وتحارب دعوتهم وذلك بعد أن يئس الإنجليز من أن يكسبوا هذه الجماعة إلى صفهم تارة بالوعد والإغراء وتارة بالوعيد والتهديد 0 وكان من نتيجة ضغط حكومة حسين سرى باشا على جماعة الإخوان أن تعطلت الاجتماعات وتوقفت الأنشطة وروقبت الإخوان المسلمين واغلقت صحفهم ومنعت الصحف جميعا من أن تذكر اسمهم فى أية مناسبة أو تشير إليهم بكلمة وأغلقت مطبعتهم0
... وأذكر أن رقيب المطبوعات المستر (فيزنس) منع طبع رسالة المأثورات منعا باتا فلجأنا إلى أحد المسئولين الموكل إليه الأمر وقلنا له : هذه آيات، وأحاديث يقرأها الناس فى القرآن الكريم صباحا ومساء ويطالعونها فى كتب السنة متى شاءوا وكيفما أرادوا فكيف تجيزون لأنفسكم هذا المنع وبم تبررونه وإنتهى الموقف بعد ذلك بأن سمح لنا بالطبع ولكن بشرط أن تمحى عبارة (من رسائل الإخوان المسلمين)0
إلى مجلس النواب بقرار من مكتب الإرشاد :
... وكانت الملاحظة الواضحة الجلية أن المنفذ الوحيد لإعلان الرأى وأن المنبر الذى كانت تعلن فيه شكاية أهل الحق فى ذلك الوقت هو منبر مجلس النواب الذى كانت الصحف لا تجرؤ على وقف نشر مضابطه وما بها من مناقشات.. فكان هذا المجلس بذلك هو البصيص الوحيد من النور الذى ينير الظلام أمام المكبوتين المضطهدين0
... وهذا هو الذى حدا بالمؤتمر السادس للإخوان المسلمين المنعقد فى يناير 1941 أن يصدر قرار نصه (الإذن لمكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين بالتقدم بالأكفاء من الإخوان المسلمين إلى الهيئات النيابية المختلفة ليرفعوا صوت الدعوة وليعلنوا كلمة الجماعة فيما يهم الوطن) وكان هذا أول توجه للإخوان المسلمين إلى اقتحام ميدان الانتخابات0(1/165)
... وفى مارس 1942 تقدم الأستاذ المرشد ورشح نفسه فى دائرة الإسماعيلية ونظراً لأن الإخوان يأخذون أنفسهم بسنة التدرج فى الخطوات فقد رأوا أن يتقدم منهم الأستاذ المرشد فقط عن دائرة الاسماعيلية – وفى مارس توجه الأستاذ المرشد إلىالاسماعيلية فأستقبل من عامة الأهالى بالترحاب والتأييد حينما أعلن إعتزامه ترشيح نفسه نائبا عن مدينة الاسماعيلية. حامية الدعوة ورافعة لوائها، وسرعان ما إنتشرت اللافتات والاعلانات التى تحمل عبارات التأييد مثل (انتخبوا رجل الدعوة الإسلامية فى القرن العشرين) (مرحبا بحسن البنا داعية الإسلام) (الاسماعيلية ترحب بقائد النهضة الإسلامية) وخرجت مجلة وفى أحد صفحاتها (روبرتاج) عن ترشيح حسن البنا عن دائرة الإسماعيلية بقلم الأستاذ مصطفى أمين وعلى الصفحة صورة للأستاذ المرشد فى موقف خطابى رائع يسبح فى آفاق من السمو ويحلق بالجماهير فى سماء من الصفاء والأخوة والحب فى الله تعالى وتحدث الأستاذ مصطفى أمين عن روعة إستقبال الشعب الإسماعيلى للأستاذ حسن البنا وكيف أنهم دفعوا له قيمة التأمين. وختم حديثه بقوله (إن مستقبل هذه الجماعة ليفوق حساب كل متفائل) ونشط الأستاذ البنا فى زياراته بدائرة الإسماعيلية يخطب ويحاضر ويقوم بزيارات الأسر والعائلات والجماعات مسلمين ومسيحيين حتى أنه قد وكل أحد المسيحيين ليكون وكيلا عنه فى إحدى دوائر الإسماعيلية0
التنازل عن الترشيح :(1/166)
... وفى وسط هذا الشعور الجارف وهذه المظاهرات والأفراح دعا الأستاذ البنا إلى مؤتمر عقد بالشارع الثلاثينى بعد صلاة العشاء حضره جمع حاشد وفى هذا المؤتمر قال حسن البنا بعد الافتتاحية : إنه قد رشح نفسه عن الإسماعيلية بناء على طلب الإخوان (( ولقد جئت اليوم لأضع أمام الإخوان هذه التطورات الجديدة، فقد دعانى مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومة إلى مكتبه وطلب منى ضرورة أن أتنازل عن ترشيح نفسى عن دائرة الإسماعيلية، فلما سالته عن الأسباب المبررة لهذا الطلب، قال لى البلد فى حالة حرب، ومصلحة البلد فى أن تتنازل . فقلت له : ألا يكفى أن الحكومة قيدت خطواتى ولا تسمح لى بالسفر خارج القاهرة إلا بإذن من وزارة الداخلية وأن الدعوة بهذه الصورة لا تجد مجالا للانطلاق. فيكون التنازل عن الترشيح حجرا على الدعوة والداعلية فقال مصطفى النحاس باشا : إنه فى حالة قبول التنازل، لا مانع عندى من أن يكون لك حرية الدعوة فى كل مكان.. وأمام هذا التصريح وافقت على أن أتنازل عن ترشيح نفسى ))0
... فتعالت الهتافات غاضبة من كل مكان، ولكن الأستاذ المرشد قال : أيها الإخوة المسألة أولا وأخيرا مسألة دعوة ليست مسألة أشخاص. ولقد تأسيت فى هذا الموقف بموقف رسولنا صلى الله عليه وسلم فى صلح الحديبية يوم رأى الصحابة رضوان الله عليهم أن لا يعطوا الدنية فى دينهم، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن لسنا طلاب مراكز ولم نرد من الترشيح إلا أن نجد منبرا نعلن فيه عن دعوتنا ونقول فيه كلمة الحق. فإذا تيسر لنا ذلك على أوسع مدى فى حدود الظروف التى يتاح لى أن أفصلها لكم حين تسمح الظروف بذلك نكون قد وفقنا إلى أحسن الحلول وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا00 إن أريد الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله 0(1/167)
... ثم قال الأستاذ المرشد: أيها الإخوة ننتقل إلى معنى آخر. تعلمون أن هناك حربا ضروسا تأكل الأخضر واليابس، ونحن نعيش على أطراف هذه الحرب، وأعتقادى أن الله تعالى قد صنع هذه الحرب لصالح العرب والمسلمين وأذكر أننى كنت فى سفر فرأيت بعض الفلاحين يشعلون النار فى أراضيهم الزراعية فلما سألت عن السبب قيل لى إن هذه الأرض قد شاخت وتعذرت زراعتها والحريق يقوم بتجديد تربتها، وتذكرت فى الحال أن هذه الحرب لابد أن فيها خيراً إما أن تصلح من طبيعة الغرب فتعيد إليه رشده وترد إليه عقله فيخرج من بلادنا إلى غير عودة، وإما أن تكون نارا عليهم ونورا يضىء لنا الطريق0
... أيها الإخوة : إن تفاوت التوازن بين قوة البلاد العربية والإسلامية وقوة الدول الغربية الاستعمارية لا تعطى فرصة للتحرر والخلاص. فكانت هذه الحروب إرادة ربانية ليذيق الله الغرب بعضهم بأس بعض، فيشتت شملهم ويضعف قوتهم وينهى دولتهم. وبهذا يكون هناك شبه توازن فى القوى بين الشرق والغرب. والذى يهمنا الآن هو أن توجد قيادة إسلامية تستفيد من هذه الظروف العالمية التى نادرا ما تتحقق، فتتوحد كل الجبهات الإسلامية فى وجه فلول الاستعمار، فتخرج بريطانيا، فتتوحد كل الجبهات الإسلامية فى وجه فلول الاستعمار، فتخرج بريطانيا من مصر وفلسطين والسودان، والعراق ، وتغادر فرنسا سوريا ولبنان وبلاد المغرب، وتذهب إيطاليا من ليبيا إلى غير رجعة، وتعود النند وأندونيسيا وأفريقيا وغيرها بلادا إسلامية ترفرف عليها راية القرآن0(1/168)
... أيها الإخوة: لا تظنوا أن هذا خيال أو محال00 إنه حقيقة مستقرة فى قلوب المؤمنين، وإن كنتم فى ريب من ذلك، فلقد قرأت اليوم على أثر الجيش الألمانى (خط ماجينو) الذى يحمى حدود فرنسا.. قرأت أن ((بيتان)) زعيم فرنسا ورئيس حكومتها قد أمر قائد الأسطول البحرى الفرنسى أن يدخل فى وسط البحر الأبيض المتوسط ويقوم بتدمير الأسطول كله، خوفا أن يستولى عليه الجيش الألمانى ويستعمله فى حرب بحرية ضد انجلترا حليفة فرنسا
وقائد القائد الفرنسى بتنفيذ المهمة بنجاح !!
أيها الإخوة : فى ختام كلمتى هذه نقرأ معا قول الله تعالى : ( هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب0 يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار)0
أيها الإخوة الفضلاء : هذه بيوتهم يخربونها بأيديهم 0 0 بقى أيدى المؤمنين (كتب الله لأغلبن أنا ورسلى)0
وانفض هذا الاجتماع الخطير بهدوء وسلام، وعاد حسن البنا إلى القاهرة ليرسم خطة مرحلته الجديدة على ضوء ما وعده النحاس باشا، وأخذ يجوب البلاد طولا وعرضاً داعياً إلى الله تعالى دون أن يترك لحظة من حياته المباركة إلا ويمضيها عاملا لخير دعوته.. فكانت الفترة الزمنية ما بين عام 1942 إلى نهاية العام 1948 هى أبرك الفترات وأنجحها فى تاريخ الدعوة، حيث أتيح للإمام أن يسابق الزمن فى الوصول بالدعوة الإسلامية إلى مضمونها الكامل فى كل متاحى الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية 0
الترشيح للمرة الثانية(1/169)
... وفى وزارة أحد باشا ماهر عام 1945 .. عاد الإخوان فى الإسماعيلية إلى ترشيح الأستاذ البنا للمرة الثانية وإزدحمت المدينة بوفود الإخوان من كل البلاد وإمتلأت المساجد والمدارس الأهلية والمنازل بالوافدين، وعلت الهتافات الإسلامية على كل لسان حتى ألسنة الأطفال فى كل مكان وإرتفعت الأعلام فى المدينة وامتلأت باللافتات والاعلانات والمنشورات، وسرت المظاهرات الإسلامية بالدراجات (والموتوسيكلات) والسيارات التى تحمل اللافتات، وانعقدت المؤتمرات التى خطب فيها حسن البنا فكانت صورة شعبية رائعة لممارسة الإخوان أساليب الحياة الاجتماعية والسياسية 00
... ومن المنشورات الانتخابية التى صدرت عن فضيلة المرشد المنشور التالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى على سيدنا ممد وعلى آله وصحبه وسلم
الإسماعيلية فى 12محرم 1364هجرية
سيدى الأخ المناضل الكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
... وبعد – فقد عرفت فيكم بحمد الله صدق الدين وقوة اليقين وتأييد العاملين فاستخرت الله تبارك وتعالى وتقدمت مرشحا نفسى لعضوية مجلس النواب عن دائرتكم الكريمة لأعمل فى هذا الميدان على ما فيه حفظ حقوق الوطن العزيز وصلاح المجتمع المصرى والرجوع به إلى هدى الإسلام الحنيف وتعاليم القرآن الكريم التى يسعد فى ظلها المسلمون وغير المسلمين من أبناء هذا الوطن المبارك فما بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين والتى تدعو إلى الجماعة والوحدة وتنظر إلى المخالفين نظرة البر والإحسان ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتسقطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين))، تقدمت لتظهر الفكرة الإسلامية فى هذا الوسط الذى بيده مقاليد التشريع لهذه الأمة العزيزة ولتلتفت إليها أنظار النواب وهم خلاصة أعيان البلاد فنعمل جميعا على أن تعود الأمة إلى هدى الإسلام ونظام الإسلام وساطلب بأسمكم بالأمور الآتية إن شاء الله :(1/170)
(1) إصلاح المدرسة المصرية بوضع سياسة ثابتة للتعليم ترتكز على تعاليم الإسلام وقواعد التربية الوطنية الصحيحة0
(2) إصلاح المحكمة المصرية باستمداد القانون من وحى السماء ومن وضع الله لا من شهوات الناس وأهوائهم وبذلك يسود الأمن وتنزوى الجريمة وتقام حدود الله بعد أن تحللت روابط الأسرة المصرية وتفككت عراها ويجب إصلاح تعليم الفتيات والقضاء على هذا التيار الفاسد من التبرج والاختلاط 0
(3) إصلاح منابع الثقافة العامة من الصحف والجرائد والمجلات، والإذاعات 0
(4) محاربة المنكرات التى حطمت أرواحنا وأجسامنا وذهبت بعقولنا وأموالنا وأوجبت سخط الله ونقمته من الزنا والبغاء والخمر والميسر والمراقص ودور اللهو الخليج محاربة مثمرة بإسم القانون والنيابة0
(5) رفع مستوى المعيشة فى طبقات الشعب المظلومة بتنظيم الزكاة ومقاومة الربا وتمصير الشركات ومقاومة البطالة وإنصاف العامل والزارع، والموظف الصغير وتنظيم الضمان الاجتماعى لهؤلاء جميعاً 0
(6) هذا إلى تقوية روح الاعتزاز بالكرامة القومية وإظهار ذلك فى كل المناسبات والحفلات الرسمية والمحافظة الكاملة على حقوق المواطن العزيز وسلامته وحريته واستقلاله0
سيدى الأخ المفضال الكريم :(1/171)
هذه بعض المطالب التى نلح فى إجابتها وسنعمل على تحقيقها بتأييد الله سبحانه وحسن مؤازرتكم وجميل ثقتكم ويعلم الله ما قصدت بذلك مغنما دنيويا من مال أو جاه فذلك كله زائل وعرض حائل وإنما شعرت شعورا قويا بأن الكفاح فى سبيل هذه الغايات واجب محتوم يفرضه الإسلام على كل مسلم وتقضية مصلحة والوطن من كل مصرى ولا شك أنكم تشاركوننى هذه العقيدة وتمدوننى بتأييدكم فى العمل لها والله ولى التوفيق ولست أقصد بذلك تجريح شخص ولا محاربة حزب ولا تنقص زعيم فالجميع مطالبون بالعمل لهذا المنهاج القويم وأنا بحمد الله أعمل لذلك منذ أكثر من عشرات سنوات ولهذا تألفت جماعات الإخموان المسلمين فى نواحى القطر المختلفة وأعتقد أنه قد جاء الوقت للعمل لهذه الغايات بالوسائل الرسمية فى مجلس النواب والقضية لهذا ليست قضية شخصية أو حزبية ولكنها قضية الوطن والإسلام وهو يوم له ما بعده إن شاء الله، فاستلهموا الله الرشد وسلوه جميل السداد وأيدوا هذه الدعوة البريئة الخالصة لوجهه الكريم وإلى لقاء قريب نتفاهم فيه مشافهة تفاهما أوسع إن شاء الله وفقنا الله وإياكم لخير ما يحب ويرضى – والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)،،،
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
... وكان منافس الأستاذ البنا –فى هذه المرة – الدكتور سليمان عيد – وهو طبيب ولكنه مع ذلك وفى نفس الوقت المتعهد بتوريد جميع أنواع الأغذية لقوات الجيش الإنجليزى فى منطقة القناة، ومن هنا كانت أهمية نجاحه فى الانتخابات، ولهذا كان مدعما من كل السلطات0(1/172)
... وانتهت الانتخابات بالاعادة بين الأستاذ البنا والدكتور سليمان عيد، فامتلأت الإسماعيلية فى إنتخابات الإعادة بوفود غزيرة من مختلف البلاد، وكانت القطارات التى تمر بالإسماعيلية تحمل الوفود وقد زينت بالورود وسعف النخيل عليها شعارات الإخوان المسلمين، كما حاصرت قوات الأمن التى جاءت إلى المدينة من العاصمة جميع منافذ المدينة، فضلا عن تأهب قوات الاحتلال – رغم صدور الأوامر بعدم نزول قوات الجيش الإنجليزى إلى الإسماعيلية طوال أيام الإنتخابات 0
... وفى صبيحة يوم الاقتراع بالأصوات توزع الإخوان فى كل المناطق لمراقبة لجان الإنتخابات 000 وقبيل العصر فوجئ الإخوان بجماعات من غير أهل المدينة ينضمون لصفوف الناخبين ومعهم تذاكر إنتخابية مزورة، ولما أكتشف الإخوان التزوير وعلموا أن هناك مخزنا كبيرا للدكتور سليمان عيد يتجمع فيه هؤلاء، ثم يتم توزيعهم من هناك إلى مقار لجان الإنتخابات0(1/173)
... وصدر الأمر للإخوان فتجمعوا حول هذا المخزن بصورة رهيبة تنذر بالخطر (1) وفجأة اقتحمت بعض سيارات الجيش الإنجليزى الضخمة هذا التجمع وخاضت بيننا بسرعة وبلا اكتراث، كما تبعها قوات الشرطة المصرية وهم يطلقون النار على جموع الإخوان، وإستطاع بعض الإخوان أن يستولى منهم علت ببعض الأسلحة، وهنا كادت تقع كارثة لولا أن أصدر الأستاذ المرشد أوامره إلى الأستاذ سعد الدين الوليلى بأن يصرف الإخوان فى الوقت الذى أسرع فيه اللواء الإنجليزى ((فايز باترك)) حكمدار الشرطة المصرية فى القناة برجاء للأستاذ البنا أن يرد الإخوان السلاح إلى الشرطة. وكان الأستاذ قد سبقه إلى ذلك حقنا للدماء رغم ما حدث من القبض على بعضهم وما أصاب الإخوان من إصابات بالغة 0
... وكتب الأستاذ المرشد مذكرة إلى أحمد ماهر كما أرسل له عدة برقيات احتجاجا على التزوير وتصدى رجال الأمن للإخوان0
... ويقول الأستاذ المرشد ردا على سؤال لأحد الإخوان يقول :
... ((إذا كانت الحكومة لا ترغب فى أن تفوز فى الانتخابات، فلماذا لم تصارحك؟ كما فعل ذلك من قبل النحاس باشا عام 1942؟ 000
__________
(1) ومما يذكر لإمامنا الشهيد، أنه كان غاية خصمه، بحيث لا يقع منا ما يكدر سفوه أو يسىء إليه، يقول أحد المعلقين الأجانب؛ لقد كان الإخوان غاية فى الحماسة والشدة فى سبيل عدم تمكين خصمهم من الوصول إلى غايته عن طريق غير شريف، فكانوا يحاصرون مصنع اللبن وفيه التذاكر المزورة، وكادت أن تنشب المعركة، لولا أن جاءها الرجل ((القصير)) – يقصد المرشد- ونادى بصوته الحازم: تعالوا .. وسرعان ما انصرفت هذه المجموعات الضخمة ملبية أمر هذا الرجل.. عجبا، هؤلاء جميعاً يطيعون هذا الرجل القصير !00(1/174)
... قال : لكل حكومة أسلوب وسياسة عمل، وهذه الحكومة لا تريد إخفاء خضوعها للآستعمار. كما أنها تريد فى نفس الوقت أن لا تجعل من الإخوان فى نظر الشعب أبطالا، وتريد أن تصور للناس أن الانتخابات حرة ليس فيها أى ضغط من الحكومة، وفى نفس الوقت هى متفقة مع الإنجليز وتعهدت بالعمل على سقوط مرشح الإخوان0
... ولازلت أتصور مشهد آخر أمسية سبقت يوم إجراء الإنتخابات، حيث عقد مؤتمر ضخم فى شارع الثلاثين حضره فضيلة المرشد ومجموعة من النواب الذين فازوا فى الدور الأول للانتخابات فىالبلاد المجاورة وقد جاءوا لتأييد الأستاذ المرشد0 وكان هتافنا (إلى البرلمان يا بنا) من الهتافات التقليدية فى –الانتخابات، ولكن هتافا جديدا (إلى البنا يا برلمان) قد صدر من الأخ المرحوم مصطفى شعبان من الإسكندرية قد دوى فى الاجتماع فرددته الجماهير كالرعد بوعى وحماس 0
... وفى اليوم الذى أعلن فيه فوز الدكتور سليمان عيد على منافسه فضيلة المرشد العام 00 بل فى الساعة التى هز هذا النبأ مشاعر الإخوان، خرجت الإسماعيلية فى أقوى مسيرة – شيبا وشبابا وأطفالا – تهتف بالدعوة الإسلامية فى قوة وحماس واندفاع إلى دار الإخوان المسلمين فى صورة رهيبة، ولم يجد حسن البنا بدا من الخروج إلى الجماهير خطيبا وبأعلى صوت قال : يا أبناء الإسماعيلية الأوفياء 00 أيها الإخوان الذين جئتم من كل مكان إن هذه الحشود الهائلة بهذه الصورة القوية الرائعة: بهذا الواقع الصادق والحقيقة القائمة لتصم الحكومة بالتزوير والتضليل، وإن الباطل لا يغنى عن الحق شيئا، وإن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة0
... وإن عجز أمة عن أن تدفع أحد أبنائها إلى البرلمان ليقول كلمة الحق والإسلام لدليل على أن الحرية رياء وهباء وأن الاستعمار هو سر البلاء 0(1/175)
... أيها الإخوة: إننى أحس أن مراجلكم تغلى بالثورة وعلى شفا الانفجار ولكن فى هذا الموقف لابد من صمام الأمان فاكظموا غيظكم وادخروا ماءكم ليوم الفصل، وهو آت لا ريب فيه.. ويؤمئذ يفرج المؤمنون بنصر الله0
... ووصيتى لكم أيها الإخوان، أن تنصرفوا إلى منازلكم وبلادكم مشكورين مأجورين، وأن تفوتوا على أعدائكم فرصة الإصطدام بكم0
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 00
... ويحضرنى هنا ما كتبه فضيلته فى منبر الجمعة على صفحات جريدة الإخوان المسلمين اليومية تحت عنوان ((منطق المؤمنين)) كتب فضيلته يقول :
... (وجه إلى أحد الإخوان هذا السؤال: هذه هى المفاوضات بيننا وبين الإنجليز، تسير فى طريق ملتو متشعب لا أول له ولا آخر، وهاهم أولاء يراوغوننا على عادتهم، ويؤخرون البت فى قضيتنا حتى يفرغوا من مشاكلهم وستضيع منا الفرص فرصة بعد أخرى، من مؤتمر الصلح إلى مجلس الأمن، إلى هيئة الأمم. فلماذا ننتظر بعد ذلك؟
... فقلت : وليكن ذلك، لن يضرونا إلا أذى، وكل الوقت للمؤمن فرصة طال الزمن أو قصر 0
... ووجه إلى آخر فى نفس المجلس سؤالا ثانيا فقال : وها هى ذى انجلترا جادة فى أن تصرف أنظار الناس فى قضية فلسطين إلى مشروع التقسيم البغيض الذى لن يقبله عربى واحد، ولن يوافق عليه مسلم واحد من المحيط الهادى إلى المحيط الأطلسى، كما أنها هى وحليفتها أمريكا، لازالتا تحاولان إتحام الأرض المقدسة بالمهاجرين من اليهود سرا وعلانية، حتى يتم لهم ما قرروا من إدخال مائة ألف يهودى ونحن قاعدون، فهل تودون أن ننتظر متفرجين حتى تغص فلسطين بهؤلاء الأفاقين؟
... فقلت : وماذا يضيرك؟ ألا تحفظ جواب الإسكندر: أن الجزار الماهر تسره كثرة الغنم0(1/176)
... وانفض المجلس0 وخلوت إلى نفسى أفكر فيما سمعت وقلت، ودارت بخلدى هذه الخواطر: إننا معشر العرب والمسلمين فى أنحاء الأرض، نطلب حقا مقررا لنا، مقدسا عندنا، عزيزا علينا، فنحن نطلب الحربية، وهى للإنسان كالغذاء والهواء والماء، لا يمكن أن نعيش بغيرها ولا أن نحيا بدونها ونطلب الوحدة والارتباط والتجمع ، وأن تزول من بيننا هذه الحواجز الصناعية والحوائل السياسية التىمزقت بها وحدتنا يد المطامع والأهواء فى حوادث التاريخ المتعاقبة، ووحدتنا من صنع الله لنا، قررها القرآن وأكدها الإيمان، ومهدت لها طبيعة أرضنا، وثبتتها شركة تاريخية فى المصالح والآلام والآمال، هى أبقى على الزمن الباقى من الزمن 0
... ونطلب بعد هذين الحقين أن يفسح لنا المجال بين الأمم العاملة لنقول كلمتنا وإنها لحق، ولنبلغ رسالتنا وإنها لخير، ولنساهم فى بناء العالم وإن ذلك لعدل وإنصاف 0
... ذلك ما نرجو من مطالب، وما نجاهد فى سبيله من حقوق لا بغى فيه ولا عدوان، ولا جحود ولا نكران، وليس فيه من الباطل مثقال ذرة 0
... ولهذا نحن مؤمنون أعمق الإيمان بأننا سنفوز فى نضالنا وسننتصر فى كفاحنا لأننا على الحق والحق باق خالد ولا قيام للباطل إلا فى غفلة الحق0
... ونحن معشر العرب والمسلمين، نؤمن بكتاب كريم، وعدنا ربنا فيه بأنه سيضاعف الأجر ويجزل المثوبة للذين يجاهدون فى سبيل الحق، فمن قال كلمة أو أنفق نفقة، أو احتمل مشقة أو شاكته شوكة، أو مسه جوع أو نصب ، أو لقى فى جهاده أقل عناء، فذلك كله عند ربه يسجله له ويجزيه به وثيبه عليه: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة فى سبيل الله، ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا، إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع اجر المحنسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) 0(1/177)
... ونحن معشر العرب والمسلمين، نعتقد أن أولى البدهيات فى إيماننا، وحجر الزاوية فى عقيدتنا أن : لنا ربا عظيما قويا قديرا، بيده ملكوت كل شىء، له التصرف والملك والخلق والأمر من قبل ومن بعد: (إن ربكم الله الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام، ثم استوى على العرش، يغشى الليل والنهار يطلبه حثيثا، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين). (ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)0
... فالرزق والأجل، والنفع والضر، والحياة والموت، والمرض والشفاء، كلها بيده، يصرف الناس فيها كيف يشاء، فلن يموت أحدنا إلا بأجله: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)0
... ولن ينقص الله أحدا شيئا من رزقه. (وفى السماء رزقكم وما توعدون) 0
... فالرزق والأجل، والنفع والضر، والحياة والموت، والمرض والشفاء، كلها بيده، يصرف الناس فيها كيف يشاء، فلن يموت أحدنا إلا بأجله: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) 0
... ولن ينقص الله أحدا شيئا من رزقه ز( وفى السماء رزقكم وما توعدون) 0
... ولن تمتد إليه يد بنفع أو ضر، إلا بقضاء الحق وقدر سبق: (جفت الأقلام وطويت الصحف). ولقد عاتب القرآن بعض الضعفاء، وكشف عن خبيئة الضعف فى أنفسهم، فقال (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يقولون: هل لنا من الأمر من شىء؟! قل : إن الأمر كله لله، يخفون فى أنفسهم مالا يبدون لك، يقولون : لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلناها هنا، قل : لو كنتم فى بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، وليبتلى الله ما فى صدوركم، وليمحص ما فى قلوبكم، والله عليم بذات الصدور) 0(1/178)
... وقد وعدنا هذا الرب الجليل الكبير العظيم – والذى بيده ملكوت كل شىء، والذى له جند السموات والأرض، والذى لا يعلم جنوده إلا هو، والذى أحاط بكل شىء علما وعدا لن يخلف : أنه ينصر عباده المؤمنين ويمدهم بتأييده الغالب ما جاهدوا فى سبيله واستقاموا على الحق الذى رسم لهم : (إنا لتنصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز). (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين). (إن ينصركم الله فلا غالب لكم). (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون). (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين). (إذ يوحى ربك إلى الملائكة: أنى معكم، فثبتوا الذين آمنوا، سألقى فى قلوب الذين كفروا الرعب، فأضربوا فوق الأعناق وأضربوا منهم كل بنان).( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم). (هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف فى قلوبهم الرعب، يخرجون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين، فاعتبروا يا أولى الأبصار) 0
... ولم يشترط علينا ربنا لينزل نصره إلا أن نؤمن به وحده، ونعتمد عليه وحده، ونفعل أمره ونجتنب نهيه، ونعد لأعدائنا ما استطعنا من قوة، ليس بلازم أن تكون نظير قوتهم، أو مثل عدتهم، فإنما يراد منا ما إستطعنا ونرجو من الله بعد ذلك مالا يرجون: (وعد الله الذين آمنوا من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذى أرتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدوننى لا يشركون بى شيئا). (وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم) 0(1/179)
... ومن هذه المقدمات السابقة : أننا على الحق ولن يضيع الله أجر العاملين للحق، ولن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، ولن يتخلى عنهم ربهم ويدعهم لأعدائهم وخصومهم، بل النصر حليفهم والعاقبة مكفولة لهم، نستطيع أن نستخلص النتيجة المحققة0
... إنه مهما حاول الغاصبون المبطلون، وراوغ الدهاة الطامعون، فإننا إلى حقنا واصلون، ولن يغير ذلك شيئا من النتيجة المحتمة والإرادة المحكمة، ولن تجد لسنة الله تبديلا 0
... ذلك منطقنا نحن المؤمنين فى سهولته وبساطته ومقدماته ونتائجه وقد عاهدنا الله عهداً لن نخيس به ولن نحنث فيه إن شاء الله، أن نحيا لهذه الحقوق أو نموت فى سبيلها وكلاهما جميل : (قل: هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين)0
... ولعل من الخير لنا وللقوم ألا يهزأوا بهذا المنطق، أو يضحكوا من هذا الحديث. ليعلمن نبأه بعد حين0
حسن البنا والصحفى اليهودى جون كيمش
... بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها سنة 1945، نقلت، وكالات الأنباء عن جون كيمش وهو مراسل يهودى لوكالة رويتر قوله : أن جماعة فاشيستية فى مصر هى جماعة (الإخوان المسلمون)) قد انتهزوا فرصة الحرب فقاموا بتدريب جنودهم والاستيلاء على بعض الأسلحة من الجيش البريطانى أثناء معارك الصحراء سنة 1941، ليشنوا بها حربا على الإنجليز 0
... وجاء هذا النبأ فى الفترة التى حمل فيها الإخوان لواء الحركة الوطنية ضد الاحتلال البريطانى حيث برز شبابهم الجامعى الذى قاد حملات التوعية بالحقوق الوطنية وإثارة المشاعر ضد المستعمر الغاصب محاولا دفع الحكومة لإتخاذ موقف إيجابى يحقق آمال الأمة فى الحرية والإستقلال ووحدة وادى النيل.. والتقى فضيلة المرشد العام برئيس الحكومة يهيب به أن يعمل بغير تردد وأن يسارع بهذا العمل متى وجد الطريق أمامه ممهدة، وإلا فعليه أن يستنفر الأمة للجهاد ويتقدمها هو فى هذه المعركة المصيرية، وليكن على ثقة تامة بأنها جميعاً من ورائه0(1/180)
... وللأسف إنحصرت جهود الحكومة فى المذكرة المصرية والرد البريطانى عليها، الأمر الذى أثار المشاعر وألهب الأفكار، فخرج الطلاب ليعلنوا احتجاجهم على هذا الموقف المتخاذل، وهم فى الطريق إلى قصر عابدين دبرت لهم الحكومة ما يعرف بحادث كوبرى عباس (1) 0
... 00 فى ظل هذه الظروف أصدر جون كيمش تصريحه وطالعه الإخوان وأدركوا ما يرمى من بلبلة الأفكار، فضلا عن التحريض السافر عليهم والتشكيك فى نواياهم بالنسبة للحكومة والقصر 0
... وكان من طبيعة الإمام البنا أن ينظر إلى الأمور من زوايا تختلف عن نظر كثير من الإخوان، فهو دائماً يستفيد من الأحداث حتى لو كانت ضد جماعة الإخوان فيحولها إلى إتجاه فى مصلحة الجماعة بكل هدوء وحكمة 00 لهذا أسرع فضيلته فدعا رجال الصحافة (2)
__________
(1) طالع تفاصيل حادث كوبرى عباس. فى كتاب ((الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ)) للأستاذ محمود عبد الحليم، الجزء الأول.. نشر دار الدعوة باسكندرية0
(2) من كبار الصحفيين المصريين الذين حضروا هذا المؤتمر: أنطون الجميل رئيس تحرير الأهرام وفكرى أباظة رئيس تحرير المصور0
نشرت جريدة الأهرام فى 3/10/1945 خلاصة هذا الحديث قالت :
00 وقال (أى الإمام الشهيد حسن البنا) : إن الدعوة تحض على معرفة الله، والأديان جميعا تدعو إلى هذه المعرفة، وتخص على السمو بالنفس لأنها من روح الله، وتحض على حب الناس، وتدعو إلى عمل الخير وإلى الإنسانية الشاملة، وإن هذه المبادئ ليس هدفها السياسة، بل إنه يعلن أن الدعوة لا يمكن أن تكون سياسية بالمعنى الذى أصطلح عليه السياسيون0
غير أنه لما كانت هذه الأغراض النبيلة التى يعملون لتحقيقها لا يمكن أن تترعرع إلا فى ظل الحربية والعزة والكرامة؛ فإنهم يطلبون لمصر وللبلاد العربية والإسلامية الحربية والاستقلال، وإنهم يشتركون فى هذا القدر وحده مع السياسيين0
بقى ما قيل من أن فيها تعصبا دينيا فوضح الأستاذ البنا بيأن الإسلام ينهى عن هذا التعصب، وأنه دين إنسانى يدعو إلى المحبة والإخاء، واستدل بآيات من القرآن فيها تمجيد لموسى وعيسى، وفيها تنويه بأن الله اصطفى مريم عليها السلام وطهرها واصطفاها على نساء العالمين0
وأن فى القرآن دعوة إلى المعاملة الحسنة بين المسلمين وأهل الكتاب، وأن طعام كل منهم حل للآخرين، وأن نساء أهل الكتاب يحل للمؤمنين الزواج بهن خلافاً – للمشركات. وقال : إن القرآن أتى فى هذا بما لم تأت به التوراة والانجيل0
وتناول ما قيل عن الإخوان من أنهم يدعون إلى الأخذ بالتشريع الإسلامى فقال: إنهم يزعجون الآخرين بهذه الدعاية إذ يصورون هذه الشريعة على أنها قطع يد السارق ورجم الزانى فقط؛ فى حين أن المقصود هو الانتفاع بما فيها من كنوز غالية من الأحكام والتطبيقات التى أورثنا إياها فطاحل رجال الفقه الإسلامى0
وعرض لرأى الإخوان فى الأجانب فقال : إنه لا ينكر أن مصر استفادت من الغرب فى العلوم والنظم، ولكن لا يمكن الصبر على أن تظل أوربا تستنزف خيرات هذا البلد وأبناؤه الملايين فى أشد الحاجة إليه، وأن كل ما يريده هو أن يكون لنا من هذه الخيرات نصيبنا الكامل0
وعرض لما قاله مراسل ((رويتر)) من أه هيئة الإخوان ثورية مسلحة، فسخر من هذا الادعاء قائلا : إن ملايين الجنود ألقت أسلحتها فهل يعقل أن تكون للأسلحة فائدة بعد هذا؟ وأكد أن الإخوان أهل حجة وإقناع وأن السلاح إذا تدخل أفسد سبيل الإقناع0
وقال : إنه يتحدث باسم نصف مليون من الإخوان تنبض قلوبهم بما تنبض به قلوب سبعين مليوناً من العرب وثلاثمائة مليوناً من المسلمين (فى ذلك الوقت أى سنة 1945) 0
وقال : إن هذه الشبهات إن دلت على شىء فإنما تدل على تجاهل حقيقة مبادئ هذه الجماعة وأهدافها، وإننا قد أعلنا مراراً أن الإخوان هيئة إسلامية جامعة، تعمل فى وضح النهار على تحقيق المبادئ الإسلامية التى ترتكز على الشورى الحقة، وتكفل سعادة المجتمع وتحفظ حقوق الوطن، وهى لا تعمل فى الظلام، وذلك سر ما وصلت إليه من قوة وانتشار، أما ما يقال من أن الإخوان يحرزون أسلحة وجدوها فى الصحراء فهى فرية مضحكة لا تجد لها محلا إلا فى خيال صاحبها وحده. (عن كتاب ((حسن البنا)) للأستاذ أنور الجندى)0(1/181)
ووكالات الأنباء العالمية والمحلية إلى مؤتمر صحفى على مائدى شاى بدار المركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة وكان أكثر هؤلاء الصحفيين والمراسليين لم يشاهدوا الإخوان ومرشدهم من قبل 0
... وحين سرى نبأ هذا المؤتمر إحتشد عدد كبير من الإخوان – ليستقبلوا ضيوفهم أكرم إستقبال، فوقف حسن البنا يتحدث إلى الضيوف باللغة العربية التى يترجمها أحد الإخوة إلى لغة أجنبية .. وقف فضيلته بتحدث بنفس الروح والمشاعر التى يتحدث بها إلى عامة الإخوان. شارحا للحاضرين دعوة الإخوان المسلمين وغايتهم ووسائلهم بلغة بسيطة أفهمتهم أهداف الجماعة وكان مما قاله: إن جماعة الإخوان.. جماعة إسلامية تعنى بشئون وطنها الإسلامى كله إجتماعيا وسياسيا لأن العدالة والحربية من صميم الدعوة الإسلامية، ولا يتم إسلام المسلم ولا يحقق شريعته إلا بالحرية0(1/182)
ثم أشار إلى تصريحات جون كيمش فقال : كنا نحب للكاتب أن يتحرى الحقيقة فلا يلجئنا للرد عليه، ولكننا نشكره على كل حال إذ هيأ لنا هذا اللقاء الطيب بالتحدث إليكم، فالواقع الذى يؤيده الدليل أن الإخوان لا يوجد عندهم جيش بالمصطلح المعروف، ولكن هناك ما يسمى فرق الكشافة وهى منظمة معترف نبها دوليا ومعروف أن مؤسسها هو (بادن باول)، وفرق الكشافة الإخوانية مسجلة قانونا فى جمعية الكشافة الأهلية بالقاهرة، وتمارس نشاطها طبقاً للوائح والقوانين، فهى إذن نظام رسمى معترف به من الدولة، ومثل هذه الفرق لا يطلق عليها جيش كما ادعى جون كيمش فى رسالته0 أما أنه يستعدى علينا الإنجليز وعملاءهم مدعيا أننا نغتصب منهم الأسلحة كى نطردهم بها من بلادنا، فالمعروف أن الإنجليز وأسلحتهم غير مرغوب فيهما على أرضنا، أما وقد وضعت الحرب أزوارها فإنه يتعين أن يخرجوا من بلادنا ويتركوا أسلحتهم لنا، ولهم ثمنها من مبلغ الأربعمائة مليون جنيه الذى هو دين لشعبنا على بريطانيا، فإذا لم تفعل بريطانيا ذلك فلتعلم أننا قطعنا العهد مع ربنا على الانتصار لديننا وبلادنا ولتعلمن نبأه بعد حين 00
... وتناول الإمام البنا بعد ذلك التطورات التى نشأت منذ دخول الإنجليز مصرى حتى بلغ هذا الشعب وعيه وقوة عزمه على إجلائهم بمالا يحتمل أى تسويف. وختم كلمته – للضيوف وشكرهم، ثم دعاهم لزيارة المركز العام وخصوصاً المكتبة الإسلامية بالدار وودعهم الإخوان بمظاهر الإحترام والمودة0
... 00 وهكذا يستطيع حسن البنا فى الوقت المناسب بحاسته المؤمنة أن يعلن عن فكرته ومبادئه الإسلامية بالحكمة ويرد الكيد إلى نحور أصحابه 0
حسن البنا 000 وثورة سوريا الشقيقة(1/183)
... قبيل إنتهاء الحرب العالمية الثانية وإنهزام فرنسا أمام الجيوش الألمانية طالبت سوريا الشقيقة بجلاء قوات الاحتلال الفرنسى عن أراضيها، ولكن فرنسا ماطلت ولم تقف ولم تف بوعودها وأصرت على إستمرار الاحتلال رغم أنهزامها فهب الشعب السورى الشقيق فى ثورة عارمة يدافع عن حريته وكرامته
... وهنا رأى الإمام الشهيد بعاطفته الإسلامية وإحساسه العميق بوحدة المشاعر والمصير أن يقف الإخوان فى مصر إلى جانب إخوانهم المجاهدين فى سوريا، فأرسل إلى سفير سوريا بمصر الخطاب التالى :
... حضرة صاحب السعادة : وزير سوريا المفوض بالقاهرة
... ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته – وبعد .
... فإن الإخوان المسلمين فى المملكة المصرية يشاركون الحكومة السورية المجاهدة السورى الباسل الشعور ضد الاستعمار والعدوان والظلم فى هذه الآونة الدقيقة من تاريخ العروبة وهم ينتهزون هذه الفرصة فيعلنون أن عشرة ألاف شاب من شباب الإخوان يرجون قبولهم كمتطوعين فى الجيش السورى وهم على أتم الاستعداد للسفر فى أى وقت ترى الحكومة السورية أن تدعوهم فيه إلى الإنضمام إلى القوات المجاهدة وأداء الواجب المفروض على كل عربى، فأتشرف بأن أخطر سيادتكم بذلك إنتظاراً لأوامركم 0
... ... ... ... ... ... مع أصدق العواطف وأطيب التمنيات
... ... ... ... ... ... ... ... ... والسلام عليكم،، (حسن البنا)
بعثة طبية إخوانية إلى سوريا :(1/184)
... وعندما قابلت فرسنا بقواتها الغاشمة هذه الثورة بالقوة والنار وقصفت مدفعيتها الثقيلة الشعب السورى الأعزل فسقط كثير من الضحايا والشهداء، رأى حسن البنا أن من واجب الإخوان وبوحى من مبادئهم ومن صميمها (إنما المؤمنون إخوة) أن يسارعوا بأداء حقوق الأخوة بتضميد جراح المقاتلين وهذا أضعف الإيمان.. لهذا قرر الإخوان إيفاد بعثة طبية إلى سوريا برياسة الأخ الدكتور محمد سليمان وسكرتارية الأستاذ عبد الحكيم عابدين لمؤاساة سوريا فى نكبتها، وقد غادرت البعثة القاهرة إلى دمشق (1) ، وهى مزودة بالأطباء والممرضين وكل ما تحتاجه من أدوية وإسعافات0
... وهناك شمرت البعثة عن ساعد الجد ونزلت المساجد وجعلوا منها مستشفيات، وواصلوا الليل بالنهار فى صبر وصمت وعاطفة جياشة بالحب نحو إخوانهم فى سوريا 0
... ولاحظ الشعب السورى الشقيق نشاط هذه البعثة التى تقوم بواجبها فى غير ضجة ولا دعاية وفى حب وإخلاص وإيثار وانقطاع.. وأعطت السوريين مفهوماً جديداً عن الإسلام المتحرك المتجاوب مع الأحداث والمواقف .. الإسلام الذى لا يعرف عصبية ولا قومية ولا أنانية، هذا الإسلام هو الذى تحركت به هذه البعثة تطبق قول الرسول الكريم: ((مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فتأثر الشعب الشعب السورى بهذه الروح الإسلامية الفياضة المتفانية فى صدق، فكتبت مجلة (الجامعة الإسلامية) التى تصدر فى حلب فى مقالها الأفتتاحى ما يلى :
__________
(1) كان فى استقبال هذه البعثة حين وصولها إلى دمشق كل من السادة نجيب بك البرازى نائب حماه وخالد بك الداغستانى محافظ حماة وسعد اله الجابرى رئيس مجلس النواب السورى0(1/185)
... (كانت طائفة من الناس فى سوريا تنظر إلى مصر بمظهر بعض صحفها الخليعة وبعض أقلامها الغاوية، ويأخذها الألم عليها بميول قبضة من كتابها الظاهرين من أدباء الحيرة والتقليد الأعمى، وتحكم عليها أنها سائرة وراء مفاسد الغرب .. حتى جاءت بعثة ((الإخوان المسلمين)). فبعد أن داوت الجرحى وآست ذوى القتلى، وبذلت جهدها وأموالها وعونها فى هذا السبيل المحبوب التفتت إلى نفوس الأحياء فأنعشتها وأوقدت حماسها، وأذكت شعورها نحو الهدف الأسمى والبغية المثلى، ونحو إحياء المجد والدعوة الحقة فأرتدت أبصار الطائفة عما خدعت به وغدت مصر ملء الأفواه وملء الأسماع وملء الأبصار كما هى ملء القلوب والعقول، شقيقة مسلمة غيورة على الجامعة العظمى، والأخوة الكبرى يوم يجد الجد وأيام الملمات والمحن))0
بعثة سورية لشكر الإخوان المسلمين :
... وبعد مضى عدة أسابيع من وصول بعثة الإخوان الطبية للقاهرة وبعد أداء رسالتها فى سوريا. جاءنا وفد من دار الأرقم من شباب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من حلب بسوريا الشقيقة – لزيارة الإخوان بالقاهرة والأقاليم رداً على البعثة الطبية – وكان جميعهم من الشباب وعلى رأسهم الأستاذ عبد الرحمن الباشا .. واستقبلهم الإخوان بالاسكندرية أعظم استقبال وقاموا بزيارة كثير من شعب الثغر وكان فيهم خطباء على درجة كبيرة من الحماس والوعى وكانوا كثيرا ما يتناولون فى خطبهم ما يسمى (بالقومية العربية)، ويشيدون بها ويتكرر الكلام عنها كثيرا مما لفت نظر جموع الإخوان – حيث أن الإخوان لم يسبق أن جعلوا للقومية العربية مكان الصدارة فى أحاديثهم فهم يؤمنون بالجامعة الإسلامية والخلافة الإسلامية – وفى الجلسات الخاصة ناقشنا معهم هذا الأسلوب وأبدينا رأينا فيما يتصل بموضوع القومية العربية – ولقد تبين من المناقشات أن موضوع القومية العربية هو الذى يسود الفكر السورى ومنطقة (الوادى الخصيب) سوريا والأردن والعراق 0(1/186)
جماعة شباب محمد بسوريا تنضم للإخوان :
... وعلى أثر هذه الزيارات المتبادلة بين جماعة الإخوان فى مصر وجمعية شباب محمد بسوريا وعلى أثر هذا التلاحم والتجاوب – اجتمع الإخوة من شباب محمد صلى الله عليه وسلم بسوريا وتناقشوا فى أمر انضمامهم إلى جماعة الإخوان المسلمين بالقاهرة وإختاروا فضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى السباعى ليكون مراقباً عاماً للإخوان المسلمين بسوريا 0
... وعلى أثر هذا جاء وفد من إخوان سوريا على رأسهم فضيلة الشيخ مصطفى السباعى لمقابلة فضيلة المرشد العام ومبايعته، وتم ذلك والحمد لله رب العالمين وأقام الإخوتان بالقاهرة حفلا كبيراً بهذه المناسبة الطيبة وترحيباً بالإخوة السوريين الكرام 0
من جهود الإخوان الصحية فى مصر :
... وفى عام 1947 دخلت الكوليرا وإنتشر وباؤها فى مصر، وإنتاب الشعب المصرى الفزع والخوف، وأسرع فضيلة المرشد بتجنيد شباب الإخوان فى جميع البلاد للمساهمة فى النشاط الطبى وعزل الأصحاء عن المرضى والمساعدة فى الإجراءات الصحية والتطعيم والتموين. وبعد إنقاذ البلاد من هذا البلاد رأت وزارة الشئون الاجتماعية أن تقدم لشباب الإخوان الذين اشتركوا فى هذا المجهود الخطير مكافآت مالية تقديراً لجهادهم 0
... ولكن الأستاذ المرشد رحمه الله رفض المكافآت باعتبار أن الإخوان المسلمين قد قاموا بواجبهم الإسلامى، الذى يفرضه عليهم دينهم وعقيدتهم ومشاعرهم الإسلامية 0
... وهكذا يغتنم الأستاذ البنا هذه الظروف ليعلن عن شمول الدعوة الإسلامية وإحاطتها وحركتها التى تشمل أمور المسلمين جميعاً 0
حرارة العاطفة 00 ورقة الشعور
ويحضرنى كذلك 0000(1/187)
... بعد أن أدى الأستاذ المرشد صلاة العيد توجه إلى دار المركز العام القديم بالحلمية الجديدة، وتوافد الإخوان لتهنئته بالعيد، وجلست فى زاوية من الحجرة الفسيحة أرقبه، فكان رحمه الله يستقبل كل أخ مسلما عليه بأسمه أو بكنيته بحرارة وابتسامة مشرقة، ثم يشير إليه ليجلس. ثم يتابعه بالسؤال عن صحته، والاستفسار عن أحواله الشخصية التى كان يعرف الكثير منها حيث كان موضع ثقة الإخوان ومشورتهم. ودخل أحد الإخوان فسلم عليه وهنأه ثم قال له : لعل الأمر قد انتهى بخير والأخ الطبيب قد وفقه الله. فقال الأخ : ببركة دعواتكم يا فضيلة المرشد.. وكانت هذه الكلمات مدعاة ليسأل بعض الإخوة هذا الأخ عن الموضوع وهى مشاركة أخوية واجبة تفرضها آداب الإسلام وأخلاقه، فتبسم الأخ قائلا : الموضوع أن فضيلة المرشد كان عندنا فى البلد وكانت عندى جاموسة متعسرة فى الولادة فلما علم بذلك نصحنى بإحضار طبيب لإنقاذها0
... ثم تحدث أحد الإخوة من الحاضرين فطلب من الأستاذ المرشد أن يتصل بوزير الأوقاف لمساعدته فى بناء مسجد بالبلد.. فقال له : طبعاً يستحسن أن نتصل به الآن أولا لتهنئته بالعيد، وبعد العيد نتحدث معه فى هذا
الموضوع0
... ثم دخل بعد ذلك أحد الإخوة ومعه طفلان فأستقبله الأستاذ المرشد أحسن إستقبال ثم قبل الطفلين وأجلس كل طفل منهما على ناحية بجواره، ودق الجرس فحضر الأستاذ أنس الحجاجى فهمس فى أذنه بكلمات وانصرف ثم عاد بعد قليل ومعه قطعتان من الحلوى (شيكولاته) فأعطى الأستاذ المرشد لكل طفل منها واحدة 0
... وبعد فترة نزل الإخوان إلى فناء المركز العام حيث ضاقت الحجرة بهم وجاء الأستاذ المرشد وشاركنا الحديث وأجاب على بعض الأسئلة. وبينما نحن كذلك إذا بعزيز باشا المصرى يدخل علينا فحيانا وصعد إلى الدور العلوى وبقى الأستاذ المرشد جالسا معنا. وبعد قليل جاء الأستاذ أنس يخبر فضيلته بوجود الباشا ويطلب مقابلته . فاستأذن فضيلته قائلا : هل تسمحوا لى ؟(1/188)
... وبعد المقابلة التى لم تطل كثيرا عاد إلينا واستأنف حديثه معنا. وبعد صلاة الظهر إنصرفنا وعاد إلى منزله فى أمان الله 0
... وهكذا كان يعيش الأستاذ بين الإخوان بكل حواسه ومشاعره وكله حركة وحياة ويقظة 00
دموع
... وأنقل هنا ما سجله أحد الإخوة عن حساسية الإمام الشهيد 00 كتب الأخ يقول :
... " .. دخلت عليه" فقابلنى بالبشر والترحاب، وقال : ستسافر يوم الثلاثاء للسودان " 0
... فقلت على الفور : أمر مطاع يا فضيلة الأستاذ 0
... وأردت أن أنصرف، ثم التفت إليه فجأة وقلت : ولكن يا فضيلة الأستاذ !؟
... قال ( رحمه الله) : ولكن ماذا؟
... قلت : إن لى مشاكل كثيرة وشكاوى وفيرة، أود أن أتحدث إليكم فيها بعضها عام وبعضها خاص
... فقال : هون عليك، وكل أمرك إلى الله 00
... قلت : ولكنى أود أن تعرف 00
... فقال : إننى أعرف 00
... قلت : إذن أنا أسعد ما أكون، مادمت تعرف.. ولكنه استبقانى، وأخذ يتحدث عن مشاكلى وشكاواى يتحدث هو بنفسه .. عجبت والله كل العجب، لأنه أحاط بدقائق نفسى ودخائل حسى، بل إن هناك مسائل كانت فى باطن الشعور، هو الذى ذكرنى بها.. وما انتهى من حديثه حتى قلت : والله يا فضيلة الأستاذ، إنى سعيد كل السعادة ولا أشكو من شىء أبدا .. قلت ذلك وصوتى متهدج ودموعى منهمرة وأحاسيسى متدفقة، ثم هجمت عليه، وكان واقفا ولا شىء على رأسه.. هجمت عليه واحتضنته بين ذراعى فى شدة وعنف وأخذت أقبل رأسه.. فاستمر هذا الموقف فترة من الزمن، وهو صامت مستسلم، ولم أتركه إلا حين دخل علينا الأخ الأستاذ سعد الوليلى، وإذا بالأستاذ يبكى بكائى وعيناه مليئتان بالدموع0(1/189)
... وكثيرا ما كان هذا البطل القوى يبكى بدموع غزار، وإنى لأذكر فى ذلك اليوم أن أستلم ذات يوم بدار (الشهاب) برقية من والد أحد الشهداء فى فلسطين، رداً على برقية من فضيلة الأستاذ له، وكانت برقية والد الشهيد برقية مؤثرة فيها تضحية وفدائية وإستبسال ... بكى الأستاذ كثيرا، وبكى الحاضرون، وكانت لحظات من الحساسية المرهفة والشعور العميق! وهذه لمحة خاطفة على كل حال للذكرى والتبصرة 0
... ومع قصة دموع هذا القائد العظيم يروى لأحد الإخوان هذا المشهد يقول :
... عرضت عليه – يقصد فضيلة المرشد – ذات مرة خطابا من أحد الإخوان وكان بين عدة خطابات وأوراق قدمتها إليه، وغفلت لحظة، أنظر إلى من فى الغرفة، وإذا بى أرى دمعات كبيرة تتساقط على الخطاب.. ودهشت، لقد كنت قرأت الخطاب قبل ذلك، ولكنه لم يثر فى نفسى ما أثاره فى نفس الرجل الكبير؟
... كنت أعرف أن الراسل بعث 4جنيهات إعانة للجماعة، فماذا فى هذا من عجب، فى الوقت الذى كانت هناك مئات الجنيهات تتقاطر علينا !! 00 ولكنه هو – كقائد – قد أثاره ما لم يثرنى0
... كت بالراسل يقول : أكتتب كثيرون فى أسهم جريدة الإخوان، ثم تنازلوا عنها عندما ناديتم فضيلتكم بأن يتنازلون عنها.. ولما كنت راغباً فى أن اشارك فى هذه التضحية، ولم يكن لى شرف المساهمة لضيق ذات يدى، فقد أرسلت لكم نصف مرتبى الشهرى وهو قيمة ثمن سهم، أتنازل عنه 00
... وقال الرجل معلقا : بمثل هؤلاء وبهذه النقود القليلة تنتصر الدعوة 00
كراهيته للتميز عن الإخوان :
... ومضت الأيام وجاء الأستاذ المرشد إلى الاسكندرية فى ليلة من شهر رمضان المبارك، وكان معه وفد من الإخوان بالسودان وبعد أن حضروا مؤتمرا شعبيا فى حى باكوس، عاد الأستاذ إلى دار المكتب الإدارى قبيل منتصف الليل، وأوصانى أن أوقظه قبيل الفجر لتناول السحور ولكنه بقى فى حجرته يصلى القيام لفترة طويلة ثم نام0(1/190)
... وحضرت مجموعة من الإخوان لتصلى مع فضيلته وتتناول معه السحور، وأحضرت له طعاما فاخرا، فلما اجتمع الإخوان على الطعام قال لى : هل كل الإخوان سيأكلون مثل طعامى هذا؟ فقلت له : كل واحد حضر ومعه طعامه. فقال : سآكل من طعامهم، ورفض هذا الطعام فوزعناه على الإخوان0
... ولما دخلنا مسجد الدار وجد الأحذية خارج المصلى بدون تنظيم، فقال مدعبا: ألستم فى أسر؟ قلنا : نعم . فقال : فلماذا لم تجعلوا أحذيتكم على شكل أسر؟
... وبعد الصلاة قرآنا المأثورات، وعند شروق الشمس حضر الأستاذ المستشار منير دله بسيارته، فقد كان على موعد مع فضيلته للعودة إلى القاهرة وعند باب المنزل وقبل أن يركب السيارة سألنى عن بواب العمارة، فقلت: إنه نائم. فأعطانى له مبلغا مع تحياته0
حديث الثلاثاء :
... كان حديث الثلاثاء أو كما كان يحلو لكثير من الإخوان أن يسميه ((عاطفة الثلاثاء)).. كان هذا الحديث عجباً من العجب الذى أحاط بهذا الرجل 000 من جميع أنحاء القاهرة، يتجمع يوم الثلاثاء من كل أسبوع بالمركز العام، الإخوان وغير الإخوان، ويقف الرجل فى لباسه الأبيض الشفاف، والعباءة البيضاء والوجه الوضاء واللحية المرسلة، يتحدث فى موضوع يختاره لا على سبيل المحاضرة، ولكن على سبيل الحديث المرسل0
... 00 كان هذا الحديث عجباً.. كان كل أخ له مشكلة أو مسألة أو قضية يذهب إلى هذا اللقاء المبارك ليعود إلى بيته وقد حلت مشكلته 0
... فى هذا اللقاء الأسبوعى، كان التكافل الإسلامى يتحول عند حسن البنا إلى عملية ((تآخ)) فعال.. وهى عملية جوهرية بها يصبح الإنسان ((أخا مسلماً)) بتأثير الآية القرآنية حيث كانت تصدر من هذا القائد بنفس الشروط النفسية التى كانت فى عمل النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من قبل 00 هذه العملية كانت من نبع الحق وفيضه، وهو السر الذى أشرق فى مجتمع مكة الممزق، فآخى بين بلاد ((البعد)) وأبى بكر ((السيد)) وجعلهما أخوين لا يحول بين روحيهما فى الله حائل0(1/191)
... ونورد فيما يلى جزءاً من أحد أحاديث فضيلته فى هذا اللقاء يؤكد فيه على رابطة القلوب بين المسلمين00 يقول :
... 00 قلت لكم دائماً وأكرر هذا القول ليثبت فى الأذهان أنها نعمتان لا تشتريان بمال ولا تنالان بحيلة أو مجهود ولكنهما منحة من الله لعباده يقذفهما فى قلب من يشاء منهم – هاتان هما (الإيمان والحب)0
... أكرر لكم هذا المعنى – أردت أن أذكركم بهذه الحقيقة حقيقة الإخاء الذى يجمعنا على الإيمان بعقيدة المناداة بكتاب الله كنظام أساسى للحكم ولصلاح العالم – وما يستتبعه هذا الإخاء من شعور الحب نحو المجتمعين على هذه الغاية السامية الكريمة المرتبطين بها 0
... هذه الحقيقة يجب أن نؤمن بها ونذيعها فى الناس ونطبقها على أنفسنا أولا كإخوان مسلمين فلا نشعر نحو مسلم إلا بالحب والإخاء ولا نفتح باب الشر بالخصومة والفرقة والإنقسام والنتيجة من هذا كله – أن كل مسلم أخ لنا – لأننا جميعا إخوة نعمل فى الميدان الإسلامى العام – وإذا لم يرع الناس هذا فسنرعاه نحن من جانبنا – لأننا مقيدون بما نقول وبما ندعوا إليه الناس. إننا دعاة مبادئ فلنتمسك بها ولا أقبل منكم أيها الإخوان تهاونا أو تفريطا فى هذا المبدأ 0 فزنوا صلاتكم بالناس بهذا الميزان – ولا يستخفنكم الغضب للنفس وأقبلوا النصيحة من المسلم – ما كان حق فخذوه وإلا فاستمسكوا بمبدأكم إن أعداءنا وخصومنا هم الكافرون – الذين ينشرون الأباطيل بيننا – ويغيرون على أوطاننا وحرياتنا ويضمرون الشر لنا ويريدون أن يتفرق المسلمون وينقسموا ، فإذا عرفتم هذا فأعلموا أن هؤلاء الذين يتحدونكم لعلهم يقولون ما يقولون فيكم بدافع الغيرة والحرص على سلامة الدين وسلامة المجتمع الإسلامى من وجهة نظرهم0(1/192)
... فد يكون أسلوبهم هذا خاطئا – وفكرتهم فيها غلو وشطط ولكن الدافع كريم والمقصد حسن فإذا تحققتم من براءة النية فتقبلوا النصح أو ناقشوه – وقد يكون الخلاف فى الوسيلة – فهم يمسكون الحبل من أحد طرفيه مثلا بينما غيرهم يرى رأس الحكمة فى أن يمسك الحبل من الوسط حتى لا يميد فى يده . ولكن مع هذا فتعرفوا المقصد فإن كان خيرا فلا تتهموه وتفاهموا مع صاحب الرأى فى رأيه . فإذا لم يقتنع فقولوا له (ما دام صادق النية محبا للخير) : إن الحكم بيننا وبينك فى الفصل فى هذا الخلاف هو (إمام) لأننا مستعبدون فتعال (للإمام) وليس للمسلمين الآن إمام – فتعال ننسى كل شىء الآن – ونعطل كل شىء أمام القضية الكبرى –قضية تحرير الأرض الإسلامية فلنجعل هذا غايتنا الأولى – حتى نستطيع أن نأتم بحكم الله ونفصل فى هذه الخلافات – إذ أنه بدون هذه الحكومة الإسلامية التى تحمى شرع الله فلا نظام للمسلمين ولا أحكام !؟
... كان من أدب الإخوان بالقاهرة إذا أراد أحدهم أن يسافر إلى بلدته إستأذن فى ذلك من الأستاذ المرشد رحمه الله . فضلا عن أنه إذا كانت هناك رسالة أو مهمة تقتضى السرعة كلفه بها 0
... وذات يوم توجه الأخ الحاج عبد الرزاق هويدى يستأذن فى السفر إلى بلدته، فلما إستفسر منه فضيلة المرشد عن سبب سفره المفاجئ أخبره أن جده مريض ويريد عيادته. فدعا له وأبلغه تمنياته له بالشفاء وتوجه الحاج عبد الرزاق إلى بلده – وفى اليوم التالى فوجئت عائلة هويدى جميعا فأسرعت ترحب بمقدمه. وشباب عائلة هويدى له ميول سياسية متباينة فمنهم الوفدى ومنهم السعدى وحول سرير الجد الكبر دارت بعض الأحاديث الخفيفة. وقال الجد كلمات ترحيب وشكر للأستاذ المرشد ونوه بفضل الإخوان فى أنهم جعلوا من الحاج عبد الرزاق شخصية إسلامية مؤمنة 0
... فرد الأستاذ المرشد فقال إنه لا فضل للإخوان فى ذلك. فلإخوان والحمد لله يرزقون من كل عائلة كريمة بمن يمثلهم فى هذه العائلة 0(1/193)
... ونزلت هذه الكلمات الرقيقة الواعية على قلوب الجميع بردا وسلاما وتذوقوا منها وبها قيمة الدعوة الداعية00
... وأذكر يوم توفى إلى رحمة الله والد أحد الإخوان الفضلاء فى أسيوط وكان على خلاف مع الإخوان منذ سنتين .. ولكن فضيلة المرشد انتقل بسرعة من القاهرة إلى بلدته – وحين وصل أستقبل أحسن استقبال وحين جاء وقت صلاة العصر توجهت جموع المعزين إلى المسجد وبعد أداء الصلاة – طلب المصلون من فضيلة الأستاذ المرشد أن يلقى عليهم موعظة فوقف فضيلته وشكرهم وقال : لقد حئت معزيا ولم آت داعيا وكانت هذه الكلمات المخلصة الكبيرة المعنى هى أعظم دعوة 0
صراخ الأطفال :
... فى محنة الإخوان سنة 1948م 00 كان كل شىء عند الإمام البنا هيناً فى سبيل إخراج المعتقلين، فكان يروى أنه يسمع صراخ أطفال المعتقلين يدوى فى أذنيه ليل نهار 00 ...
... قالوا له : لقد أعتقلوهم جميعاً وتركوك! فما هى الحكمة؟! .. إنه من الخير أن نخرج إلى سوريا، أو الحجاز، أو باكستان، فرفض وقال : هذا هو الجبن، كيف أترك هؤلاء فى المعتقلات ولا أسعى لإخراجهم00
... وكتبوا له فى المعتقل يقولون : دعك من أمرنا 00 وخذ الطريق الذى تراه، ولكنه أصر على أن يخرج هؤلاء أو يموت !
... وقال له بعض المتحمسين : ألا ترى أنهم قد حاربونا، أعنف الحرب فحطموا بناء عشرين عاماً.. صودرت الأموال وحلت الشركات، وأغلقت الشعب والمركز العام وأعتقل الإخوان بالآلاف، أليس هذا موعد الآية: ((أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا 000 ))0
... قال : لن أكون داعية فتنة، ولن آمر بمنكر.. ولن أغضب لشخصى، ولن أنتقم لنفسى..
... ولما سمع بمقتل ((النقراشى)) .. جزع وأسف، وإن وجد عذره فى أنه قد حيل بينه وبين أتباعه، بعد أن إنفرط من يده بحل الجماعة وسائل التوجيه والقيادة 00 و000
حسن البنا 000 غنى بالدعوة(1/194)
... حين ضاقت دار المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة بالقاهرة بشتى ألوان النشاط.. فكر الإخوان فى شراء دار أخرى فسيحة تساعد على إستيعاب النشاط العام للجماعة. وأثناء ذلك لفتت أنظار الإخوان فيلا كبيرة تقابل دار مركزهم العام، يحيط بها فناء فسيح فى نفس الميدان، فعرضوا أمر شرائها على فضيلة المرشد، فأوفدهم ليتفاهموا مع أصحابها00 فوافق أصحاب الفيلا على بيعها فى حدود عشرة آلاف جنيه، ولم يكن فى صندوق الإخوان سوى خمسمائة جنيه فقط، فكتب الأستاذ المرشد العقد الابتدائى بهذا المبلغ0
... وأشفق مكتب الإرشاد أن لا يستطيع الإخوان سداد باقى المبلغ. فطلبوا من فضيلة المرشد عقد اجتماع لمناقشة هذا الموضوع. وفى الاجتماع طمأنهم فضيلته قائلا: إننى سوف أعلن فى مجلة الإخوان عن شراء دار للجماعة مع صورة لها على الصفحة الأولى وأطلب من الإخوان التبرع.. وأتعشم أن يسددوا المبلغ فى الشهر الأول أو الشهر الثانى أو الثالث، فإذا لم يغطوا قيمة المبلغ كله فإنى أحفظ من أسماء الإخوان أكثر من عشرين ألفا، وسوف أكتب لك واحد منهم خطابا بالبريد أطالبه أن يساهم فى شراء الدار بمبلغ جنيه واحد 00 فصمت أعضاء المكتب ولم يعترضوا وكلهم أمل فى أن يوفق الله الإخوان فى هذا المشروع0
... ولم تمض الشهور الثلاثة حتى سدد الإخوان المبلغ مع تكاليف التأثيث، فضلا عن أن الأخوات المسلمات أرسلن لفضيلة المرشد بعض حليهن وبعض متاعهن، كما وصلت للمركز العام تبرعات كثيرة من أنحاء العالم الإسلامى وبقيت الأشياء العينية مثل الحلى وخلافه وديعة فى خزينة المركز العام، فلم يقبل الأستاذ المرشد أن يتصرف فيها كرمز على وفاء الأخوان وبذلهم فى سبيل دعوتهم0(1/195)
وفى حديث لمجلة (مسامرات الجيب) مع فضلة المرشد، سأل مندوب المجلة فضيلته فقال : هل أنت غنى؟ وكان جوابه رضى الله عنه: نعم أنا غنى بهذه القلوب المؤمنة التى تجابت معى فى الله. فقال مندوب المجلة: أقصد الناحية المادية. فقال فضيلته : نعم غنى والحمد لله.. فكل أموال الإخوان التى فى جيوبهم ملك للدعوة 0
... وحين سدد الإخوان ثمن الدار وتم تأثيثها، دعا المركز العام الإخوان للاحتفال بافتتاح دارهم الجديدة وأعد لذلك إستعراضا لجوالة الإخوان فى حدود عشرين ألف يمثلون جميع الشعب والمناطق فى أنحاء البلاد، وأعد لك الفرق الوافدة مراكز إيواء مجهزة بكل وسائل الراحة والتموين0
... وبينما كانت وفود الإخوان فى طريقها إلى القاهرة عصر يوم الخميس استعداداً للاحتفال الكبير فى صباح يوم الجمعة صدر قرار من دولة أحمد باشا ماهر رئيس الحكومة بمنع الاحتفال ومنع الاستعراض، ولكن أكثر المدعوين كانوا قد وصلوا إلى القاهرة واستضافتهم مراكز الإيواء فصدر توجيه من المركز العام بأن يؤدى الإخوان جميعهم صلاة الجمعة فى جامع الأزهر. وما أن أقترب موعد الصلاة حتى لم يعد فى ساحة المسجد متسع لأحد فى الوقت الذى حاصرت قوات الشرطة كل الطرق المؤدية إلى المسجد 0(1/196)
... وما أن انتهت الصلاة حتى اشرأبت الأعناق إلى الشيخ عبد المعز عبد الستار كان موجودا بالمسجد .. فقال فضيلته يحدثنا وبعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه قال بصوت قوى: أيها الإخوان نحن لم نلتق فى هذا المسجد على شكل مظاهرة، وإنما ليس فى القاهرة بعد قرار مصادرة الاحتفال بافتتاح دارنا مكان يتسع لهذا اللقاء فى شكله وفى مضمونه سوى الجامع الأزهر 00 وصاح الأستاذ أيها الإخوان إننا لسنا راغبين فى إثارة ولا خائفين من أية قوة، ولكننا أبعد نظرا من أن تستفزنا الحوادث فنغامر بأمر دعوتنا، وإننى والله أيها الإخوان لأضع الحق فى يمنى وأضع روحى فى يسارى لا أخاف فى الله لومة لائم، وليس أعظم فى الصبر من أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب، والآن أيها الإخوة لقد حققنا بهذا اللقاء بعض ما تجيش به نفوسنا بنحوكم، كما أنكم أعلنتم بهذا اللقاء مدى ارتباطكم بدعوتكم فى دقة التنظيم وسرعة الاستجابة وضبط النفس، فإنى أهيب بكم أن تنصرفوا فى هدوء مشكورين مأجورين ولا تعطوا لأعدائكم فرصة الاصطدام بكم0
... ودوى المسجد بالهتافات الإسلامية، وبدأت هذه الجموع تنصرف فى هدوء ونظام، ولا أكون مبالغا إذا قلت إن بعض الإخوان غلب عليهم البكاء والنشيج من جلال الموقف وروعته.. وخرجت الوفود من الجامع جماعات فى صمت0
... وبغير توجيه سابق وجدت جموع الإخوان نفسها متجهة إلى ميدان الحلمية الجديدة ولم تمض أكثر من ساعة حتى تجمعت فى دار المركز العام الجديد دون أن تعترض طريقها قوات الرطة.. وما أن ازدحمت الدار وما حولها حتى وصل فضيلة المرشد مع بعض الإخوان وفوجئ بهذا المؤتمر الذى افتتح بالقرآن الكريم، ثم تكلم الأستاذ عبد الحكيم عابدين كلمة حماسية، وما أن بلغ فى كلامه حد الهجوم العنيف على قصر عابدين وقصر الدوبارة (مقر المندوب السامى البريطانى) إذا بفضيلة المرشد يشير باختتام الحفل. وبعد أن تم الحفل بآيات من القرآن الكريم خرج الإخوان ليعودوا إلى بلادهم فى هدوء0(1/197)
... وجاءت سنة 1948 ليصدر النقراشى باشا رئيس الحكومة السعدية حينئذ قرارا عسكريا بحل جماعة الإخوان المسلمين ووضع ممتلكاتهم تحت الحراسة0 ثم قرر أن يجعل من مركزهم العام مقرا للبوليس. وجاء من بعده إبراهيم عبد الهادى فظل على سياسة سلفه فى محاربة الإخوان ودعوتهم والتنكيل بهم. ثم ألف حسين سرى باشا وزارة إئتلافية لإجراء انتخابات فى البلاد، ووعد حزب الوفد الإخوان المسلمين بعودة جماعتهم ودورهم ومركزهم العام إذا صوتووا إلى جانبه فى الانتخابات. ولكن بعد فوز الوفد وتشكيله الحكومة تنكر وزير الداخلية الوفدى لكل الوعود ومضى فى سياسة منع الجماعة من مزاولة نشاطها فأصدر قانون الجمعيات بقصد منع الإخوان المسلمين من العمل بالسياسة. فلما قاوم الإخوان هذا القانون فى مظاهرة كبرى أام مجلس النواب حينئذ قرر الوزير الوفدى بيع المركز العام للإخوان المسلمين إلى وزارة الداخلية لجعله مقرا لبوليس الدرب الأحمر. وفى سنة 1951 ألغت الحكومة معاهدة سنة 1936 مع انجلترا تحت ضغط الشعب 00 ولم يكن فى الميدان غير الإخوان المسلمين ليواجهوا الاحتلال بقوة السلاح 00 وخضع الوزير الوفدى – تحت ضغط الظروف – لقرار مجلس الدولة الذى كان قد أنصف الإخوان بعد أن رفعوا دعواهم ضد الحكومة أمامه 0
عبرة
... وتسلم الإخوان المسلمون مركزهم العام الذى اشتروه بحلى نسائهم وبما باعوه من ممتلكاتهم.. كما تسلموا جميع المسلمين ممتلكاتهم .. ومضى عهد .. وبدأ عهد، وعادت الجماعة لنشر دعوتها وجمع المسلمين على الإسلام- الصحيح .. وكان وما زال فى كل ذلك أكثر من عبرة 00 لمن يعتبر !!(1/198)
... وتحت عنوان (جاء الحق وزهق الباطل) كتبت مجلة الدعوة منذ ستة وعشرين عاما تتحدث عن ذلك .. فقالت : فى يوم 8ديسمبر 1948 وفى الساعة الحادية عشر مساء دوى صوت المذيع لنشرة الأخبار بأول خبر فإذا به أمر عسكرى بحل جمعية الإخوان المسلمين. فأسرعنا إلى دار المركز العام بالحلمية الجديدة حيث وجدنا الإمام الشهيد المرشد الراحل فى مكتبه رابط الجأش ثابت الجنان وقد وصله ومعه صفوة من الإخوان لم تكن قد انصرفت بعد0
... ومضت دقائق معدودات فى حديث هام وإذا بصوت يشق الفضاء عرفنا فيه صوت معاون الدار وخرجنا إلى الفناء نستطلع ما يحدث فرأينا القوات المسلحة والسيارات المصفحة تحاصر الدار من كل جانب ثم تقتحمها وكأنها تقتحم حصناً منيعاً ملؤه الجنود والسلاح وعلى رأس القوة ضابط شاهر مسدسه مثبت بصره وحواسه فى شخص فضيلة المرشد العام وقال : إن عندى أمرا بالقبض على من بالدار عدا فضيلة المرشد. ثم أخذ يرجو فضيلته أن يسهل مهمته لأنه (عبد المأمور)00
وخرجنا من المركز العام بعد أن أغلق البوليس أبوابه إلى سيارة من سيارات البوليس كانت عند الباب وركبنا فى حراسة الجند وهم شاهروا السلاح وأبى فضيلة المرشد العام رحمه الله إلا أن يركب معنا ويطلب إلى رئيس القوة أن يعتقله معنا 00 وعبثا حاول الضابط الاعتذار وقد ركب معنا السيارة حتى مقر المحافظة من السيارة واتجه إلى مكتب الحكمدار 0 وكان هذا آخر عهدنا به – رحمه الله – 00(1/199)
... أما بقية القصة فيعرفها الإخوان تماما وسمع الناس عنها أشياء وغابت عنهم أشياء فقد رحل الأحرار إلى المنافى والمعتقلات وتوالت حوادث التعذيب والتنكيل بالأطهار وانتهكت الحرمات وقتل الأبرياء .. ففى 8ديسمبر 1948 أغلقت دار المركز العام للإخوان المسلمين وصودرت ممتلكاتهم وشركاتهم وأموالهم فى كل مكان ظل مصيرها منذ ذلك الحين يتأرجح فى كفة القدر، فقد قرر النقراشى باشا رئيس الوزراء والحاكم العسكرى ووزير الداخلية يومئذ أ نيجعل من هذه الدار مقرا لقسم الدرب الأحمر، وقرر دولته بكل هيلمانه أن يفتتحه بنفسه فى أول يناير سنة 1949 مما يدل دلالة واضحة على أن حل جماعة الإخوان ومصادرة أملاكهم لم يكن الغرض منه المحافظة على الأمن العام كما تبجح وكيله عبد الرحمن عمار وإنما كان الانتقام والتشفى وإرواء غليل الحقد الدفين0 قرر النقراشى باشا ذلك فضحكت منه الأقدار.. وجاء بعده إبراهيم باشا عبد الهخادى ولم يفكر كسلفه فى إفتتاح قسم الدرب الأحرم بدار المركز العام . وظل فى منصبه حتى طرد من الحكم 00
... وجاءت وزارة سرى باشا الائتلافية وكان وزير المعارف فيها من السعديين فلم يكتم حقه فأصدر أمرا بتحويل المركز العام إلى مدرسة للبنات 00 ولكن ، مرة أخرى تضحك الأقدام ويسقط وزير المعارف إلى غير رجعة00
... وأخيرا تجرى الانتخابات ويعود الوفد إلى الحكم على أكتاف الإخوان المسلمين وبعد أن بذل سكرتيره العام الوعود بعودة جماعة الإخوان ورد الأموال المغتصبة .. ولكن معاليه لم يكد يجلس علىكرسى الحكم حتى تبخرت الوعود، ومد الأمر العسكرى بحل جماعة الإخوان المسلمين سنة أخرى، وظلت الدار وبقية الممتلكات تحت يد الحارس الأمين بعد أن رفعت الحراسة عن أموال اليهود والصهيونيين00(1/200)
... وحاول معاليه مع بعضهم أن يغير الإخوان اسم جماعتهم حتى يأخذوا دارهم وممتلكاتهم فرفض الإخوان.. وذهب البعض وبقى الإخوان بأسمهم وعلى عهدهم .. وفى 20أبريل من نفس العام سقط الأمر العسكرى وحل محله قانون الجمعيات 00
... وفى أول مايو قابل وزير الداخلية فى حكومة الوفد وفدا من الإخوان المسلمين ذهب يطالبه بتسليم المركز العام وبقية الدور .. فرفض معاليه واعتذر بأن الجمعية ليس لها كيان قانونى وهو لا يدرى لمن يسلم الدار . ثم أخذ يساوم ويقرى بتسجيل الإخوان طبقاً لقانون الجمعيات الجديد 00 وبعدئذ فهو على استعداد لتسليم الدار والأموان 00 ورفض الإخوان فى إباء وشمم بعد أن قاوموا قانون الجمعيات الذى أراد أن يمسخ دعوتهم ويحول بينهم وبين الاشتغال بالشئون الوطنية وفتحوا شعبهم من الاسكندرية إلى أسوان وإتخذوا لهم مركزا عاما مؤقتا فى حى الظاهر يباشرون فيه نشاطهم ويعقدون اجتماعاتهم ويديرون حركتهم ودعوتهم فى سبيل إعلاء كلمة الله وإعادة مجد الإسلام وعزة المسلمين 0
... وبقى المركز العام وبقية المملتكات والأموال مصادرة. وأراد وزير الداخلية الوفدى أن ينتقم من الإخوان الذين شقوا عليه عصا الطاعة ولم يخروا له ولقانونه ساجدين فأوعز بكتابة مذكرة ببيع المركز العام إلى وزارة الداخلية ليكون مقرا لقسم الدرب الأحمر .. وهكذا بعث الوزير الوفدى اقتراح النقراشى باشا من رمسه ولكن معاليه لم يكن أسعد حظا من دولته.. فقد سخرت الأقدار منه كما سخرت من سلفه.. فقد رفع الإخوان قضية أمام مجلس الدولة لإيقاف تنفيذ البيع فحكم لهم القضاء وقرر المبادئ الخالدة التى أقرت الحق والعدل فقرر أن جماعة الإخوان المسلمين عادت بسقوط الأحكام العرفية وأن أموالهم وممتلكاتهم يجب أن ترد إليهم وأن قانون الجمعيات لا ينطبق عليهم00(1/201)
... ولكن وزير داخلية الحكومة الوفدية رفض أن يخضع لأمر القضاء وأصر على عدم تسليم الدار والممتلكات حتى جاءت الظروف السياسية الأخيرة بعد إلغاء معاهدة سنة 1936 فإذا به يتنازل عن قانون الجمعيات ويصرح بأن للإخوان أن يتشغلوا بالسياسة كسائر المصريين ثم أرسل يستفتى مجلس الدولة بشأن الأموال فأفتاه بأحقية الجماعة لدورها وأموالها 00
... وأخيرا .. وفى 15ديسمبر سنة 1951 هبط الوحى على الوزير فطلب الأوراق الخاصة بجماعة الإخوان المسلمين وأطلع على فتوى قسم الرأى فى مجلس الدولة بشأن ممتلكاتهم، ولعل معاليه لم يكن قد أطلع عليها من قبلّ!!. ثم رأى معاليه أن إلغاء الأحكام العرفية قد أعاد إلى الجماهير حياتها القانونية!! وأنه ينبغى أن تسلم أموالها إليها، ولذلك أصدر معاليه قرارا بذلك وتسلم الإخوان دار المركز العام 00
... ومضى عصر .. ثم جاء عصر عبد الناصر بما هو أنكى وأمر 00 جاء ليفعل الأفاعيل بما لم يستطع غيره من وزراء الأحزاب فى عصر ما قبل الثورة 00 جاء ليفتعل حادث الاعتداء عليه بالمنشية ويثير الدهماء لتقوم بإشعال النار فى المركز العام ومكتبته الإسلامية فى أكتوبر سنة 1954، ثم ليجعل من هذا المركز الذى كان ملتقى للمسلمين فى كل مكان مقرا لقسم شرطة الدرب الأحمر 0
... هذه قصة المركز العام نذكرها اليوم للعبرة وللتاريخ وهى عبرة ذات شقين : -
- أما الشق الأول ، فهو خاص بالطغاة والمستبدين وأرزاقهم فإذا بهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً !!
- أما الشق الثانى عن العبرة، فهو خاص بالمؤمنين الصادقين.. فمهما أظلمت الأيام وادلهمت الخطوب وبلغت القلوب الحناجر فما عليهم إلا أن يستعينوا بالصبر والصلاة ويكونوا بما فى يد الله أوثق مما فى يد الناس وليطلبوا الحوائج بعزة النفس فالنصر لهم فى النهاية والعاقبة للمتقين0
فيا أيها السعديون والوفديون والناصريون : هل اعتبرتم .. هل رأيتم ما وعكم ربكم حقاً ؟(1/202)
إننا نحن الإخوان المسلمين قد رأينا ما وعدنا ربنا حقاً.. (وقل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً)0
حسن البنا يرسى قواعد الاعلام الإسلامى
... كان أملا أشبه بالخيال والمستحيل، أن يصدر للاتجاه الإسلامى صحيفة يومية تعبر عن الفكرة الإسلامية المجاهدة ومبادئها وتربطها بواقع الأمة الإسلامية وقضاياها ومشكلاتها فى مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية 00
... ولكن ليس هناك مع همة حسن البنا وعزمه وتصميمه وأمله العظيم فى نصر الله وتأييده شىء اسمه المستحيل، ففى صباح يوم 3جمادى الثانية سنة 1365هـ الموافق 5مايو سنة 1946 تحقق الأمل وأصبح المستحيل ممكناً والخيال حقيقة، وطلعت على الناس أوضح من فلق الصبح ((الإخوان المسلمون)) لسان حال دعوة الحق والقوة والحرية) جريدة يومية، ظلت تصدر موجهة الحياة والأحداث من منطلق إسلامى خالص حتى أواخر سنة 1948م ، حتى أغلقها النقراشى مع الإجراءت التعسفية التى سبقت أمره العسكرى بحل هيئة الإخوان ومصادرة ممتلكاتها وإلقاء الآلاف من أعضائها فى غيابات السجون والمعتقلات ضمن خطة إستعمارية صهيونية صليبية للقضاء على هذه الهيئة واغتيال مرشدها الأمين0
... 00 صدرت ((الإخوان المسلمون))جريدة يومية تحارب الإلحاد والإباحية والمظالم الاجتماعية والسياسية الحزبية والاستعمار والصهيونية.. صدرت لتدحض كل دعاوى الزيف والباطل والمجون فى صحافة الحانات وأوكار الخيانة والتآمر والرذيلة، صحافة جورجى زيدان ويعقوب صروف وآل تقلا 0(1/203)
... صدر العدد الأول يرسى فيه الإمام البنا قواعد الاعلام الاسلامى بمقال ضاف بعنوان ((مطلع الفجر)) زينت به هذه الجريدة صفحتها الأولى، وتعتبر المبادئ التى قررها حسن البنا والمنهج الذى أختطه هذا الرائد العظيم هو الأساس الذى استقى منه نمؤتمر جاكرتا (1)
__________
(1) إيمانا بالله ورسوله واستلماما لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعملا باسلام وعطائه الموصول ووعيا بما يحدق بهذه الأمة من اخطار وبدور الاسلام فى حمايتهما وانبعاثها وتقديرا لأهمية الدور الذى تقوم به وسائل الاعلام على اختلاف أصنافها، وحافظا على الواجب الاعلامى وسمو أهدافه وشرف المهنة وتقاليدها، وانطلاقا من الأهداف التى تمثل آمال الأمة الإسلامية وطموحاتها، يقر الاعلاميون المسلمون ميثاق الشرف الاعلامى الإسلامى الذى يلتزمون به ويجعلونه نبراس أعمالهم ومصر التقنين لواجابتهم وحقوقهم 0
المادة (1) :
الالتزام :
( أ ) بترسيخ إيمانه بقيم الاسلام ومبادئه الخلقية 0
(ب) بالعمل على تكامل شخصيته الاسلامية 0
(ج ) بتقديم الحقيقة له خالصة فى حدود الآداب الإسلامية 0
( د) بتبيين واجباته له تجاه الآخرين وبحقوقه وحرياته الأساسية 0
المادة (2) :
يعمل الاعلاميون على جمع كلمة المسلمين ويدعون إلى التحلى بالعقل والأخوة الإسلامية، والتسامح فى حل مشكلاتهم ويلتزمون :
( أ ) بمجاهدة الاستعمار والالحاد فى كل أشكاله والعدوان فى شتى صوره والحركات الفاشية والعنصرية 0
(ب) بمجاهدة الصهيونية واستعمارهم الاستيطانىوأشكال القمع والقهر التى يمارسها العدو الصهيونى ضد الشعب الفلسطينى والشعوب العربية 0
(ج ) باليقظة الكاملة لمواجهة الأفكار والتيارات المعادية للاسلام 0
المادة (3) :
يلتزمون :
( أ ) بالتدقيق فيما يذاع وينشر ويعرض حماية للأمة الاسلامية من التأثيرات الضارة بشخصيتها الاسلامية وبيمها ومقدساتها ودرء الأخطار عنها 0
(ب) بأداء رسالتهم فى الموب عف كريم حرصا على شرف المهنة وعلى الآداب الإسلامية فلا يستخدمون ألفاظا نابية ولا ينشرون صورا خليعة ولا يتعرضون بالسخرية والطع الشخصى والقذف والسب والشتم وإثارة الفتن ونشر الشائعات وسائر المهاترات0
(ج) بالامتناع عن إذاعة ونشر كل ما يسم الآداب العامة أو يوحى بالانحلال الخلقى أو يرغب فى الجريمة والعنف والانتحار أو يبعث الرعب أو يثير الغرائز سواء بطريق مباشر أو غير مباشر.
(د ) بالامتناع عن إذاعة ونشر الاعلان التجارى فى حالة تعارضه مع الأخلاق العامة والقيم الإسلامية 0
المادة (4) :
يلتزمون بنشر الدعوة الإسلامية والتعريف بالقضايا الإسلامية 0(1/204)
للاعلام الإسلامى المنعقد فى أواخر سنة 1980 ميثاقه 0
... ورأينا أن نورد فى الصفحات التالية نص مقال الإمام بفقراته السبع معقبين ببعض الوقائع التى تكشف لنا كيف ألزم الإخوان بأخلاقيات هذا الميثاق 0
مطالع الفجر
... ((بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين إياك، نعبد وإياك نستعين، إهدنا الصراط المستقيم – ربنا آتنا من لدنك رحمة وهىء لنا من أمرنا رشدا 0
(1)
__________
(1) نص ميثاق جاكرتا الذى حضره (450) أربعمائة وخمسون شخصية من كافة أشكال ووسائل الاعلام الإسلامى يمثلون بلادهم: والدفاع عنها وتعريف الشعوب الإسلامية بعضها ببعض والاهتمام بالتراث الإسلامى والتاريخ والحضارة الإسلامية ومزيد العناية باللغة العربية والحرص على سلامتها ونشرها بين أبناء الأمة الإسلامية وبالخصوص بين الأقليات الإسلامية وبإحلال الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية لإسترجاع السيادة التشريعية للقرآن والسنة 0
ويتعهدون بالمجاهدة من أجل تحرير فلسطين وفى مقدمتها القدس وكافة الأقطار الإسلامية المضطهدة 0
ويلتزمون بتثبيت فكرة الأمة الإسلامية المنزهة عن الأقليمية الضيقة والتعصب العنصرى والقبلى واستنهاض الهمم لمقاومة التخلف فى جميع مظاهره وتحقيق التنمية الشاملة التى تضمن للأمة الأزدهار والرق والمناعة0(1/205)
... تكون الدعوة من الدعوات واضحة ناجحة، ومع وضوحها ونجاحها يظل أمرها مغمورا فى الناس، وتظل قلوبهم منصرفة عنها، حتى يتم لها أن تمتلك قلوب المؤمنين بها وأن تنجسم فى أشخاصهم وأن تؤثر فى مجريات حياتهم وحخياة من يتصل بهم ، وحينئذ تتنبه أحاسيس الناس ومشاعرهم، وتتفتح أبصارهم، ويلتفتون يمنة ويسرة نحو هذا النور يحسبونه جديدا وهو قديم، ويظنونه مفاجئا وهو متئد، ويكثر التهامس والتساؤل ثم يتحول إلى نقاش وتحاور، وقد يتجاوز هذا لحد إلى إتهام وتهاتر، أو تهجم وتشاجر، وينتهى ذلك كله بإنتصار الحق وإنتصاف أهله، كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض0 وكذلك نشأت دعوة الإخوان المسلمين منذ سبعة عشر عاما واضحة ناجحة إسلامية صحيحة، وأخذت طريقها إلى الظهور حتى تملكت الآف القلوب من المؤمنين بها، وتجسمت صورة كاملة فى صورهم ومشت على الأرض قوية فتية بأقدامهم وأثرت فى مجريات حياتهم واهتز لهذا التأثر كيان المجتمع المصرى وسرى هذا التيار المبارك إلى الأقطار المجاورة فتلفت الناس يتساءلون متى؟ وأين وكيف؟ وماذا يقصدون؟ وفى أى طريق يسيرون؟ أتابعون أم متبوعون؟ دينيون أم سياسيون؟ وما شأن جمعية خيرية بشركات مالية، وما موضع دعوة دينية فى الحياة المصرية ؟ 0000 إلخ 0
(2)
... والإسلام الحنيف دعوة إنسانية عالمية لا دعوة جنسية إقليمية، وقد تصوره المسلمون أنفسهم بفعل الحوادث المتعاقبة، وظروف الأجيال المتطاولة على صور شتى منها القريب من حقيقته، ومنها البعيد كل البعد من أهدافه وغايته ومنها ما أصاب المحز وطبق المفصل ووصل إلى عين اليقين وكل إناء بالذى فيه ينصح0
كما أحاطت به عند غير المسلمين خرافات وشبهات وأقاصيص وخيالات ليست من الحق فى قليل ولا كثير ولهذا سيكون من مهمة هذه الصحيفة حيال الدعوة الإسلامية العامة واجبات خمس :(1/206)
... (أولها) تجلية تعاليم الإسلام والكشف عما فيها من روعة وجمال، وعرضها عرضا يلائم أسلوب العصر ويثبت أنها أفضل الأنظمة للجمعية الأنسانية 0
... (وثانيهما) رد ما يوجه إليها من إتهامات باطلة وشبهات لا حقيقة لها0
... (وثالثها) تقريب وجهات النظكر بين أهل القبلة جميعا من غير دخول فى مناقشات مذهبية عقيمة، أو مجادلات لا توصل إلى حقيقة والعمل على جمع الكلمة حول الحق المشترك بأنزه الأقلام وأنبلها، وأعدل الآراء وأحكمها فى حدود القاعدة الذهبية 00 ( نتعاون فيما أتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا عليه)0
... (ورابعها) تعزيز هذه الحقيقة الجليلة الرائعة التى يتعامى عنها كثير من المغرضين ويحاولون إخفاءها أو تشويهها وهى : أن الإسلام الحنيف لا يخاصم دينا ولا يهضم عقيدة ولا يظلم غير المؤمنين به مثقال ذرة، ولا تثمر تعاليمه حين تسود بين أبناء الوطن الواحد إلا الحب والوئام والتعاون والسلام مهما إختلفت نحلهم وتباينت معقتداتهم (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين)0
... (وخامسها) رسم الطريق الموصلة إلى إعادة نظامه وتطبيق أحكامه فى الحياة الفردية وفى البيت وفى المدرسة وفى الدولة وفى كل شئون المجتمع الصالحة والتحذير من الخروج على هذه التعاليم السمحة0
(3)(1/207)
... ولنا مع قضايانا هذه السابقة، قضية أخرى لا تقل عنها خطرا ولا تنقص عنها أهمية وهى قضية أوطاننا وديارنا، التى باغتها الإستعمار الغربى بعد أن بيت لها أجيالا طويلة فأحاط بها، وقيد حكوماتها وشعوبها وحال بينها وبين التقدم، وبلغ ذلك مداه فى نهاية الحرب العالمية الأولى، إذ كانت مصر تحت الحماية البريطانية، وفلسطين والعراق فى قبضة إنجلترا، وسوريا ولبنان وتونس والجزائر ومراكش فى يد فرنسا وطرابلس وبرقة مع إيطاليا، حتى تركيا الأوربية والآسيوية وهى دار الخلافة وقعت تحت يد إحتلال الخلفاء وأدى ذلك الاسترقاق والاستهتار بكرامات الأمم وحريات الشعوب، إلى إنفجار الثورات فى كل مكان، واشتد النضال بين أصحاب الحق وغاصبية حتى تحررت هذه الأوطان بعض الشىء وتيقظت وعرفت طريقها إلى الجهاد والكفاح. وجاءت الحرب العالمية الثانية وهذه البلاد كلها تجاهد فى صف الدول الديمقراطية إذ أقسم زعماؤها وأكد رؤساؤها أنهم إنما يكافحون فى سبيل الحربية وإقرار العدالة الاجتماعية فى أرض الله، وكان طبيعيا وقد وضعت الحرب أوزارها أن يطالب المظلومون بحقهم وأن يجاهدوا فى سبيل تحير أوطانهم 0
... وستناضل هذه الصحيفة فى سبيل هذه الحقوق بكل ما أوتيت من قوة فتعمل للحرية والوحدة وتحارب الظلم والطغيان فى كل مكان وهى حين تعنى أعظم العناية بالكفاح فى سبيل حرية وادى النيل ووحدته لن تنسى أبدا أداء واجبها كاملا فى سبيل أى قطر من أقطار العروبة وأوطان الإسلام مهما بعدت به الدار. إنما المؤمنون إخوة، والمسلمون عدول بعضهم على بعض يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. فلئن كانت جريدة الإخوان بحكم مصدرها مصرية إقليمية، فهى بحكم روحها ومنهجها عربية إسلامية بل لك أن تقول إنها إنسانية عالمية، ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين))0
(4)(1/208)
... ولقد ترك الاستعمار كما تركت الحرب أعمق الآثار فى أخلاقنا وإقتصادياتنا ومدارسنا وكل شئون حياتنا، ووجهنا من المشكلات الاجتماعية ما يحتاج إلى العلاج الحاسم السريع، وإرتفعت أصوات الكثير من الطوائف والهيئات التى شعرت بوطأة الفقر والمرض أدركت سوء أثر الجهل والرذيلة بالشكاية والاستصراخ، وصحيفة كصحيفة الإخوان تعتمد على الشعب وتتصل بمختلف طبقاته، ويشعر القائمون عليها أتم الشعور بما يعانى من ضيق وإرهاق، لابد أن تفتح صدرها لهذه الظلامات، ويعلو صوتها بهذه الشكايات، ويشتد إهتمامها بعلاج هذه المشكلات، وتصل عن طريقها مطالب المواطنين من موظفين وعمال ومزارعين وتجار وطلاب.. إلخ. إلى جهات الاختصاص0
(5)
... وجريدة الإخوان وإن كانت صحيفة إخوانية فلن تكون خاصة بهم، أو وقفا عليهم، بل هى ترجو أن تكون المنبر العام للهيئات الإسلامية، والجماعات الإصلاحية، على اختلاف ألوانها وبلدانها وترحب بكل ما يقدم إليها ما دام متفقا مع خطتها ومنهاجها0
(6)
... إننا نؤمن أعمق الإيمان بأن رسالتنا الأولى أن نقول الحق، وأن نجهر به لا يقعدنا عن ذلك رغبة أو رهبة، ولا نخشى فيه لومة لائم كما نؤمن بأن النصيحة والإرشاد والثناء أو النقد يجب أن يكون ذلك كله فى أسلوب عال رفيع، لا مهاترة ولا افتراء ((أدفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم)) وسيكون ذلك موقفنا من الأفرادوالهيئات والأحزاب والحكومات على السواء، لا نؤيد ولا نهاتر، ولكن نرقب ونوجه ونرجوا فى ذلك كله وجه الله وصالح الوطن0
(7)(1/209)
... سنحاول ما استطعنا ألا تكون جريدة الإخوان مقصورة على لون من ألوان الغذاء الفكرى والروحى، ما وجدنا إلى الاستيعاب سبيلا، فسيكون فيها دنيا ودين وعلم وفن وأدب ورياضة وقصص وفكاهة فالقلوب تمل كما تمل الأبدان، فالتمسوا لها طرائف الحكمة، وستعترضنا فى بعض الموضوعات عقبات واعتراضات وليس المقيد بالرأى كالمطلق من القيد، ويا ويح الشجى من الخلى، ولكنا مع هذا سنسدد ونقارب فما كان خيرا نشرناه ولا نبالى، وما كان شرا كإعلانات الخمر وأندية الميسر وحفلات الخلاعة والمجون أهملناه ولا كرامة. وما اختلفت فيه الآثار والنتائج تحرينا الفائدة فى النشر أو الإهمال ونبهنا على جانب الصلاح، وحذرنا من عوامل السوء والفساد، يحملنا على ذلك الرغبة فى أن تكون الصحيفة وافية بحاجات القراء. على أن الصحافة مرآن لحياة الآمة ومهمة الصحفى الكشف عن مستور الحياة ومواجهة واقعها والعمل على تدعيم نواحى الخير ومقاومة نواحى الشر، وليس معنى النشر فى ناحية من النواحى، إقرارها أو الموافقة عليها، فقد يكون كل الغرض الدلالة عليها والتحذير منها 0
... ونحن بعد ذلك نرحب بكل نصح أو توجيه، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، وكنا نرجو أن تكون صحيفتنا مولودا لا طفولة لها، لولا أن ذلك ليس من سنة الحياة، فلا أقل من أن نتعاون جميعا على أن ينشأ هذا المولود وهو ابن كل محب للاصلاح نشأةو طبيعية تدفع به دفعا سريعا إلى النمو والكمال0
... بهذه الكلمة، وهذا الرجاء، نقدم هذه الصحيفة إلى قرائها الكرام 0000
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
... وظل حسن البنا ساهراً على إرساء هذه القواعد عملياً، فلم يسمح بأى خروج أو انحراف عن تلكم المبادىء من أحد محررى هذه الجريدة 0(1/210)
... فد حدث أن هاجمت صحافة حزب الوفد هجوما يحمل فى طياته كل رذائل الحزبية وموبقاتها مستخدمة فى ذلك كل فنون الكذب والافتراء متحللة من كل قيود الأخلاق، فأثار ذلك حفيظة الإخوة محررى جريدة ((الإخوان)) فرد بعهضم على الهجوم بنفس الأسلوب، وكالوا بنفس المكيال فردهم الإمام البنا إلى منهج الجريدة، وكتب إليهم الرسالة التالية التى نشرت على صفحات الجريدة إذعانا للحق00
رسالة من المرشد العام إلى رئيس التحرير
... حضرة الأخ المفضال رئيس تحرير (الإخوان المسلمون) وبعد فقد قرأت ما كتب من تعليقات عن ((زهد النحاس)) وعن ((النحاس الورع)) فى عدد الأمس فلم أره يساير الأسلوب الذى ترتضيه دعوة الإخوان المسلمين ويتفق مع طابع الجريدة التى تنطق بلسانها – بل هو بالأساليب الحزبية والصحف التجارية أشبه وإليها أقرب – وأظننى نهبتكم مرة من قبل إلى هذا المعنى – ويظهر أنكم نسيتموه 0(1/211)
... وكان الأخ الكاتب يستطيع أن يصل إلى كل ما يريد بعبارة قوية رصينة تحمل طابع النصيحة والحرص على قبولها والاستماع لها – تبتعد عن التشهير واللمز – وقد نهينا عند أشد النهى، وإن من إرشاد الحق تبارك وتعالى لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ((فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى)) . ولا حجة فيما تتناوله الصحف الوفدية من أعراضنا بغير الحق، أو تلغ فيه صباح مساء من الباطل، وأين إذن فضل الدعوة وسمو الفكرة – وجلال درجة العقو ومنزلة الكاظمين الغيظ والاقتداء بسيد البشر صلى الله عليه وسلم )) ((اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون )) ونحن حين نكتب ما نكتب فى بعض الأحيان من ردود على ما ينشر فى هذه الصحف، أنما نريد أن نحق حقاً ونبطل باطلا – لا أن نساجلها فى ميدان الخصومة فالخصومة بيننا وبين القوم – ليست خصومة شخصية أبدا ولن تكون ولكنها خصومة فكرة ونظام – هم يريدون لهذه الأمة نظاما اجتماعيا ممسوخا من تقليد الغرب والحكم والسياسة والقضاء والتعليم والاقتصاد والثقافة – ونحن نريد لها وضعا ربانيا سليما من تعاليم الإسلام وهديه وإرشاده فى هذه النواحى جميعا00 وهم يعلمون تمام العلم أنهم لا يستطيعون أن يقفوا أمام هذه الدعوة المؤيدة بنصر الله المتمكنة فى قلوب المؤمنين من أبناء هذه الأمة المدعومة بإيمان خمسمائة مليون من البشر (1) من المحيط إلى المحيط كلهم يفرح بها ويهش لها – ويتمنى للداعية لها كل توفيق ونجاح – فهم لهذا يعملون جاهدين على صبغ هذا الخلاف بالصبغة الشخصية والاتجاه إلى المناورات الحزبية – فمنزلق إلى منازلهم فى هذا الميدان التافه وهم فيه أغلب وعليه أقدر ولكننا بحمد الله أشد يقظة ممايظنون وأنفذ بصيرة مما يحسبون ((او من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها (2) ولهذا أرجو أن تحرص الجريدة –
__________
(1) تضاعف هذا العدد الآن فأصبح (ألف مليون)
(2) سورة الأنعام : 122(1/212)
كل الحرص على تخير الألفاظ – وانتقاء، العبارات – وتجنب النواحى الشخصية التافهة وتحرى المعانى الكلية الجامعة مع تصحيح النية – وكبح جماح الغضب وكظم الغيظ وقتل شهوة الانتقام الله يعلم أننا أشد الناس ألما لخصومة لا يستفيد منها إلا أعداء الوطن والدين – وإننا نرقب بفارغ الصبر تلك الساعة التى يفتح الله فيها هذه القلوب ويهدى إلى الحق هذه النفوس والقلوب بين يدى الله يقلبها كيف يشاء – اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك0
... كما قرأت كذلك تحت الصورة التى نشرتموها بالأمس أيضاً تقديما لى ولفضيلة الأخ الأستاذ مصطفى السباعى وفى نهايته هاتان الكلمتان (قائد وجندى) فإن أردتم بالقائد فضيلة الأستاذ السباعى وبالجندى هذا الضعيف الذى ما أعتبر نفسه يوما من الأيام إلا أصغر جنود دعوة الحق فقد أحسنتم وصفا وشكر الله لكم وإن كنتم تقصدون ما تبادر إلى الأذهان من أول وهلة حين يرون مرشدا ومراقبا – فإلى الله أبرأ مما صنعتم وإلى الإخوان أعتذر عما وضعتم، وأرجو أن لا تحملنكم المداعبات الصحفية على مثل هذه المتعبات النفسية والله أسأل أن يوفقنا جميعا للخير وأن يسدد خطانا لما يحب ويرضى وأن يجمع القلوب على ما فيه خير الوطن العزيز 0
حسن البنا يقود أكبر مسيرة لإنقاذ فلسطين
... دعا الإخوان مختلف طوائف الشعب المصرى.. علماء وأطباء ومحامين وطلاب وعمال إلى القيام بمظاهرة سلمية كبرى للتعبير عن مشاعر شعب وادى النيل نحو فلسطين الشقيقة، تبدأ يوم الأحد أول صفر سنة 1367هـ – 14 من ديسمبر سنة 1947م بعد صلاة الظهر من ميدان الأزهر الشريف 00(1/213)
... وبرغم كل المؤامرات الاستعمارية التى عملت على تفتيت وحدة الأمة المسلمة وعزل شعوبها بعضها عن بعض وضرب مشاعر الأخوة الإسلامية، لبى أكثر من نصف مليون من هيئات وطوائف شعب مصر النداء فخرج يعبر عن مشاعره الإسلامية المكنونة فى قلوب أبنائه الكرام البررة نحو فلسطين الشقيقة فى هذه المظاهرة التى فاقت فى روعتها وعظمتها كل الحسابات00
... وفى لحظة من نهار هذا اليوم الخالد قدم حسن البنا للدنيا جميعاً البرهان الساطع والدليل القاطع على زيف دعاوى القومية والوالنعرات الشعوبية، حيث هبت جماهير مصر تخترق كل حجب الظلام التى أقامها المستعمر الأثيم ليحول بينه وبين رؤية المآسى والفظائع التى يتجرع ويلاتها أشقاؤه فى أوطان الإسلام.. هب شعب مصر كالسيل الهادر يزيح ركام الزيف والجهالة، ركام الأفكار العفنة والمذاهب النتنة 00 انتقض شعب مصر يحطم كل حواجز الفرقة والاختلاف التى اصطنعتها الأهواء وغمقتها السياسة الاستعمارية00 انتقض هذا الشعب المسلم من غفوته يعلنها فى حسم وحزم كالرعد تصم آذان العملاء والجبناء: أن مصر عاشت إسلامية وستعيش إسلامية رغم الكيد، فهى بأرواحها وأفلاذ أكبادها فداء الأرض المقدسة فى فلسطين وفداء شعبها الشقيق0
... وصدرت جريدة ((الإخوان المسلمون)) فى اليوم التالى تصف هذه المظاهرة فى كلمات من نور 00 تقول ك (مظاهرة خالدة لم يسبق لها مثيل 000
- احتشد أكثر من نصف مليون فى حماسة بالغة من مختلف المدارس، والمعاهد – طلاب الجامعات والعمال00
- المرشد العام يقف خارج الأزهر يشرف بدقة على تنظيم المظاهرة الكبرى 0
- أعلام العرب فوق (الكونتننتال) – ازدحم الفندق بممثلى الصحف، وكان عدد الصحفيين الأمريكيين كبير 00!!(1/214)
- تكلم المرشد العام : (1) دماؤنا فداء فلسطين – أرواحنا فداء فلسطين – يا زعماء العرب أنتم القادة وهؤلاء الجنود قد وقفوا دماءهم للدفاع عن فلسطين يا زعماء العرب: إن هذا الشباب ليس هازلا ولكنهم جادون قد عاهدوا الله، ثم عاهدوا الوطن أن يموتوا من أجله – إن كان ينقصنا السلاح فسنستخلصه من أعدائنا ونقذف بهم فى البحر 0
يا زعماء العروبة : لقد تألبت الدنيا تريد أن تسلب حقنا، ولقد عاهدنا الله على أن نعيش كراماً أو نموت كراماً، وإنى أعلن من فوق هذا المنبر أن الإخوان المسلمين قد تبرعوا بعشرة آلاف متطوع هم على أتم استعداد لتلبية ندائكم فى سبيل إنقاذ فلسطين00
واعمراه 000 وامعتصماه 00 !!
وكتب فضيلة المرشد فى جريدة ((الإخوان المسلمون)) اليومية فى بابه الأسبوعى ((حديث الجمعة)) يستصرخ الضمائر الإسلامية، ويستنصر الأشقاء للشعب الذبيح فى فلسطين الشقيقة 00 وهذا نص الحديث :
(( وإن استنصروكم فى الدين00 فعليكم النصر 00 إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير. والذين كفروا .. بعضهم أولياء بعض، إلا تفعلوه تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير )) (1)
فى عهد مضى – أعاد الله علينا دولته – قال الراوى :
دخلت القسطنطينية تاجرا فى عهد عمر بن عبد العزيز فأخذت أطوف فى بعض سككها حتى إنتهى بى المطاف إلى فناء واسع.. رأيت فيه رجلا أعمى ويدير الرحى . وهو يقرأ القرآن .. ! فعجبت وقلت فى نفسى: فى القسطنطينية رجل أعمى، يتكلم العربية ويدير الرحى، ويقرأ القرآن 00 إن له لنبأ 00 !
__________
(1) سورة الأنفال : 72(1/215)
فدنوت منه، وسلمت عليه بالعربية – فرد السلام 00 فقلت : من أنت يرحمك الله0 وما نبؤك؟ فقال : أسير من المسلمين 00 أسرنى هذا الرومى، وعاد بى إلى بلده ففقأ عينى، وجعلنى هكذا أدير الرحى، حتى يأتى أمر الله فسألته عن اسمه، وبلده، وقبيلته، ونسبه.. وما كان لى من عمل حين عدت ، قبل أنطرقت باب أمين المؤمنين وأخبرته الخبر .. فأحتقن وجهه، واحتدم غضبا، ودعا بداوة، وكتب لملك الروم: قد بلغنى من الآن كذا وكذا .. وأنكم بذلك قد نقضتم ما بيننا وبينكم من عهد ((أن تسلموا كل أسير من المسلمين)).. فوا الله الذى لا إله إلا هو ، لئن لم ترسل إلى بهذا الأسير، لأبعثن إليك بجنود يكون ألهما عندك، وآخرها عندى ودعا برسول، فسلمه الكتاب، وأمره ألا يضيع وقتا فى غير ضرورة حتى يصل0
ودخل الرسول على ملك الروم، وسلمه الكتاب . فأصفر وجهه وأقسم أنه ما علم عن أمر هذا الأسير شيئا. وقال :
لا نكلف الرجل الصالح عناء الحرب، ولكنا نبعث له بأسيره معززا مكرما، وقد كان00
ويذكر تلاميذتنا، وطلبة المكاتب من أبنائنا.. قصة أسيرة عمورية التى هتفت باسم المعتصم أمير المؤمنين، فأجابها من فوره، وأقسم أن يدركها حجرا حجرا وسار على رأس جيشه فبر بقسمه، وانتصر على عدوه وسوى عمورية بالأرض ومحا اسمها ورسمها من صحائف الوجود وانتقم لعزة الإسلام، واستخلص الأسيرة من بين ذراعى وجبهة الأسد، وعاد مظفرا كريما وقرأت .. وابتسمت وبكيت .. فى كتبنا الفقهية مسألة : أمرأة سبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب إستنقاذها مهما كلفهم ذلك،وينفق الإمام ما فى بيت المال فإنى فنى أنفق ما له هو كله، فإن لم يف. استدان من الرعية على بيت المال حتى يستنقذ هذه السبية0
أيها العرب والمسلمون :(1/216)
لم تعد المسألة أسير وأسيرة، ولكنها أصبحت أكبر وأضخم، وأجل وأعظم.. إنها قضية الحياة والشرف، والكرامة والوجود لشعب بأسره، أحتضنته الأمة العربية كلها وتظاهرت على نصرته جهود العالم الإسلامى فى أقطار الأرض.. ثم هى قضية مستقبل الأرض المباركة، والمسجد الأقصى، ثالث الحرمين وأولى القبلتين 0
فاذكروا فظائع اليهود الوحشية فى :
قرية دير ياسين 00 وقرية ناصر الدين 00
وقرية أبو زريق 00 وقرية ساريس 0
ثم اذكروا ((حيفا)) إحدى عواصم فلسطين الثلاث 000
واذكروا ما بعدها إن ظللتم قاعدين 00
ثم انظروا ماذا أنتم فاعلون؟ ولا يكن حظكم من الانتصار لهذه المواطن الذبيحة أن تصيحوا :
واعمراه 00 !
وامعتصماه 00!
لو كان معى ثلاثة آلاف من هؤلاء لفتحت بهم فلسطين :
... ودخل مجاهدو الإخوان المسلمين فلسطين، ليقرروا الحقيقة الخالدة : أن الأرض المقدسة فى فلسطين لا تحررها إلا الحرب المقدسة تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، يخوضها مسلمون متوضئون.. وهذه هى الحقيقة كما تقررها وقائع المعركة الأولى. كما وصفتها جريدة الإخوان اليومية فى عددها رقم 604 الصادر فى 9جمادى الآخرة سنة 1367هـ – 18 أبريل سنة 1948 م .. قالت :
... تلقت زميلتنا أخبار اليوم الرسالة التالية من مراسلها فى غزة :(1/217)
... أكتب إليكم من ميدان القتال – نحن الآن فى منتصف الطريق بين غزة وخان يونس انتهت المعركة الأولى بين المصريين واليهود – إنها أول معركة حربية تخوضها مصر ضد اليهود – إثنا عشر شهيدا وخمسة من الجرحى، إنهم يحملونهم الآن ليدفنوا فى دير البلح، إننى أتأمل القتلى واحدا واحدا ليس بينهم واحد مصاب فى ظهره إن بعضهم أصيب مرة أو مرتين ومع ذلك بقى يحمل بندقيته ويضرب بها – إنهم يحملونهم الآن ليدفنوا كما هم بغير غسيل أو كفن فإن تقاليد الإسلام أن يدفن الشهيد بملابس المعركة – كان منظرا رائعاً – هذا جيوش المارشال اللنبى وانتصرت إنتصاراتها الأخيرة .. أصبحت نقطة البداية التى تطلق منها مصر رصاصاتها على مستعمرات اليهود وتصاعدت الأصوات تبحث عن الحاج عبد الخالق لقد كان يحارب فى المعركة ومعه ابنه محمد عبد الخالق – وسقط ابنه قتيلا إلى جانبه فلمن يبك عليه بل حمل بندقيته وراح يقتل بها الذين قتلوا ولده ! ثم انتهت المعركة ولم ينتظر الحاج عبد الخالق ليشيع جنازة ولده مع المشيعين بل ذهب مع ابن أخيه الجريح أحمد يوسف إلى مستشفى غزة 0
... وقال له إخوانه إننا نغزيك ! قال كلا بل هنئونى هنئونى إننى سأبقى هنا لأنال بعض الشرف الذى ناله ابنى – قلت من عبد الخالق ... ؟! فإذا به عبد الخالق يوسف حسن يوسف من بلده قويسنا منوفية .. وهو مزارع يبلغ الخامسة والأربعين طويل القامة فارغ العود .. حاد النظر تبدو عليه الثقة والإطمئنان، وقف يتقبل تهانى المجاهدين وكأنه يزف ولده إلى عروس0 وقد كان ولده يبلغ العشرين من العمر 0(1/218)
... ومن العجيب أن أغلب القتلى المصريين لم يتجاوز الخامسة والعشرين وجميعهم من الإخوان المسلمين.. وقد وقف القائد محمود لبيب يروى لنا أن أحد الشباب إنتدب لحفارة المعسكر ولكنه أصر على أن يكون فى مقدمة المجاهدين – وقال له القائد أنت صغير السن، فليتقدم أولا من يكبرك سنا وبكى الشاب المصرى ولكن القائد أصر على بقائه – ولما علم أن الذى حل مكانه قد قتل فى بداية المعركة وأخبره زملاؤه بذلك إزداد بكاء وحزنا0(1/219)
... وبدأت هذه المعركة فى الساعة الثانية من صباح السبت 30جمادى الأولى سنة 1367 الموافق 10 أبريل 1948 كان الجو أشبه بالنسيم العليل – وقد أصر الجنود على أن يستحموا قبل المعركة إستعداداً للموت وصلوا على أنفسهم صلاة الجنازة وتلوا جميعاً آيات من كتاب الله وذهب كل منهم إلى الموقع الذى اختير له، كان الظلام دامسا، فقد كنا فى آخر يوم للشهر العربى، سواد فى كل مكان ترى أشباحا تتحرك وقد إرتدت أحذية من الكاوتشوك تحمل فى أيديها المدافع والبنادق كلام كالهمس وبدأوا يقصون الأسلاك الشائكة التى تحيط بالمستعمرة اليهودية حتى إذا انتهوا من خطها الأول أخذوا ينسفون الخط الثانى وإذا بمدافع الهاون وقنابل الدخان تطلق من الجهة الشرقية لتغطية الهجوم. واستيقظ اليهود وراحوا يضربون أوكار مدافع الهاون وهم يظنون أن الهجوم العربى قد بدأ من تلك الناحية، وهنا تسلل الفدائيون واقتحموا الأماكن الملغومة ووضعوا الألغام والمتفجرات فى الحصون فنسفوا جزءا من البرج ودمروا كل الحصون، وأخذ المصريون واليهود يتقاذفون القنابل اليدوية ويتراشقون بمدافع التونى جن والبنادق البرن، وظن اليهود فى أول الأمر أن المعركة بسيطة ولكنهم بعد ساعتين تنبهوا إلى خطورة الهجوم فاستغاثوا بالجيش البريطانى فحضرت الدبابات ولما وجدت أن المصريين قد لغموا الأرض راحت ترفع الألغام وكانت الدبابات البريطانية ترفع الأعلام البيضاء ووقفت بين المصريين واليهود وصدرت الأوامر بعدم إطلاق النار0(1/220)
... ورأى القائد البريطانى الشهداء وأطلعه قائد الإخوان على تفاصيل المعركة وكيف أن العرب لم يخسروا من أسلحتهم شيئا بل إنهم استعادوا أسلحة الشهداء والجرحى فدهش، وذهب إلى حيث يرقد الشهداء وحنى رأسه قائلا: إننى فى دهشة كيف استطعتم أن تفعلوا كل هذا.. لقد كنت فى فرقة الكوماندوس البريطانية ولم أشهد جرأة كالتى رأيتها الآن 00 ولو كان معى ثلاثة آلاف من هؤلاء لفتحت بهم فلسطين، ثم تقدم القائد البريطانىت إلى الجرحى المصريين وقبل كل منهم فى جبينه وقال من أى بلد هؤلاء الأبطال!! فقالوا من مصر 0
من وحى الشهداء 00 وجها لوجه :
... وفى أعقاب هذه المعركة، ومن وحى شهدائها الأبرار، كتب فضيلة المرشد فى ((حديث الجمعة)) بالجريدة اليومية عن حقائق الإيمان العملية كما تقررها بسالة مجاهدى الإخوان فى فلسطين 00 يقول :
... " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ويعلم الصابرين 0)) (1)
... أما حقائق الدعاية 00 وجها لوجه
... لابد من امتحان لحقيقة إيمان المؤمنين 0
... ودعوى الإيمان وحدها لا تكفى فى كثير ولا قليل! ((ومن الناس من يقول آمنا بالله، وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين)) (2)
... وهذا ناموس الله الذى لا يتغير، وسنته التى لا تتخلف: ((ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم))0 (3)
... وكلنا مؤمنون بحكم الوراثة، فقد ولدنا على هذا الدين القيم، والحمد لله على نعمة الإيمان وكثيرهم المؤمنون بالتعلم والخطابة، ولكن سن هم الذين يستطيعون أن يتمثلوا معنى الإيمان، ويحسنوا التعبير عنه لأنفسهم وللناس0 هؤلاء ومن من يصدق فيه معنى الإيمان حتى يتذوق حلاوته، ويجد طعمه ويستشعر برده على فؤاده، كما يحس بحرارته ودفئه ونوره وإشراقه؟؟؟
__________
(1) سورة آل عمران : 142 0
(2) سورة البقرة : 8
(3) سورة محمد : 31(1/221)
... ولكن هذا كله لا يكفى، حتى يقف المرء وجها لوجه أمام حقائق الإيمان العملية، وأوضح هذه الحقائق: ما اتصل بالجهاد والشهادة والموت فى سبيل الله والعزوف عن متع الحياة الدنيا، إيثارا لما عند الله0
... وهؤلاء الشهداء الأثنى عشر، ومن قبلهم الشهيد العزيز السعيد الأخ حسين الحلوس، الذى اختاره الله لجواره فى حادث انقلاب سيارة المؤمن والمهمات للشهداء بسيناء.. قد أوقفونا نحن الإخوان وأوقفوا أسرهم الكريمة وأوقفوا الأمة المصرية كلها.. أما حقائق الإيمان وجها لوجه 00
... إن من حقائق الإيمان الأولى أن الموت حق، وأن الأجل محدود، وأن العمر واحد، لا ينقص ولا يزيد .. ((فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)) (1) 0 وأن الجبن لن يؤخر الوفاة وأن الشجاعة لن تدنى الموت، وأن قدر الله من وراء ذلك كله، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.. ((أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم فى بروج مشيدة)) (2) . ((الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا .. لو أطاعونا ما قتلوا. قل : فادرأوا عن أنفسكم إن كنتم صادقين)) (3) 0
... ولن يستطيعوا أن يدرأوه طبعاً ومن لم يمت بالسيف مات بغيره 0
... وإن من حقائق الإيمان الأولى أن الله تبارك وتعالى، كتب على المؤمنين كتابا لازما، وفريضة محكمة.. أن يقاتلوا فى سبيل الحق، وأن يدافعوا عن صورة الدين، وأن يجاهدوا فى سبيل الله تعالى، حتى تعلوا كلمته، وترفع رايته. وأن من نكص عن ذلك فله عذاب أليم فى الدنيا بالصغار وفى الآخرة بالجحيم والنار .. ((كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون))0 (4)
__________
(1) سورة النحل : 91
(2) سورة النساء : 78
(3) سورة آل عمران : 168
(4) سورة البقرة : 216(1/222)
... ((إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم .. بأ، لهم الجنة، يقاتلون فى سبل الله فيقتلون ويقتلون، وعدا عليه حقا فى التوراة والإنجيل والقرآن 00 ومن أوفى بعهده من الله 00 ؟ فأستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم)) (1) 0
... وأن من حقائق الإيمان الأولى: أن من مات فى سبيل الله أو قتل مجاهدا .. فهو شهيد، حى يرزق عند الله تبارك وتعالى، وأنه لا يجد من مس الموت، إلا كما يجد الإنسان الحى الحساس من قرصة نملة، وأنه لا يفتن فى موته، وكفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة، وأنه يبعث يوم القيامة بكلومه وجروحه ودمائه الطاهرة الزكية 00 اللون لون الدم، والريح ريرح المسك، وأن له عند الله تبارك وتعالى من المثوبة والأجر، وأفضل مما عند الله لسائر الذين ماتوا بغير شهادة ((لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر، والمجاهدين فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجر عظيما، درجات منه ومغفرة ورحمة، وكان الله غفوراً رحيماً)) (2) 0
... ((الذين آمنوا، وهاجروا، وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه وروضان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا، إن الله عنده أجر عظيم)) (3) 0
... ومن يؤمن بهذه الحقائق إيمانا صحيحاً، لاشك ولا ريب فى أنه يفرح ويسر، ويسارع ويبادر، ويخار لأحبابه وذويه هذه الموتة السعيدة الكريمة، التى لن تأتى قبل أوانها، ولكنها تظهر فى أروع صورها، وأجمل ألوانها00
وبقدر رسوخ العقيدة فى هذه الحقائق، بقدر الرضاء والتسليم بقضاء الله وقدره فى شهادة الشهداء، وموت الأعزاء 0
__________
(1) سورة التوبة : 111
(2) سورة النساء : 65 - 96
(3) سورة التوبة : 20 - 22(1/223)
فيا أيها الإخوان المسلمون، أنتم وأسركم والمتصلون بكم: لقد عاهدتم الله على الإيمان الكامل بكل حقائقه ومقتضياته، ولقد كان، وسجلوا عليكم هتافكم وعرف الناس عنكم ذلك فى كل المدن: الجهاد سبيلنا.. والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا. وأنتم بهذا الهتاف كنتم تعلنون حقائق الإيمان نظريا. وها أنتم أولاء قد وقفتم أمامها عمليا.. فماذا أنتم فاعلون .. ؟
أغلب الظن أنكم ستنجحون فى هذا الامتحان، نجاحا منقطع النظير بإذن الله، وبشائر ذلك واضحة، ودلائله لائحة، وأن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون0
حسن البنا 00 وعشرون عاماً من الجهاد
... احتفل الإخوان المسلمون فى جميع الشعب والمناطق احتفالات رائعة بمناسبة مرور عشرين عاما على تأسيس أول شعبة للجماعة فى الإسماعيلية فى شهر ذى القعدة سنة 1347 الموافق مارس 1928 حيث بلغت عدد شعب الإخوان حتى هذا اليوم ألفان (2000) شعبة فى مصر وخمسون (50) شعبة فى السودان والبلاد العربية والإسلامية وبلغ عدد الإخوان العاملين نصف مليون وبعد صدور القانون رقم 49 لعام 1945 أنشئت طبقاً لنصوصه أقسام البر والخدمة الاجتماعية للإخوان المسلمين 0(1/224)
... وبمناسبة الاحتفال بمرور عشرين عاما فقد عقد فى مدينة الإسماعيلية مركز الدعوة الأول مؤتمرا إسلاميا كبيرا حضره آلاف من رجال الإخوان من جميع الشعب كما حضره مندوبون من الإخوان بالدول العربية والإسلامية كذا بعض الزعماء المسلمين الذين يعملون فى حقل الدعوة الإسلامية فى العالم – كما استعرض الأستاذ المرشد العام وصحبه الكرام أكبر استعراض لجوالة والكشافة إذ تجاوز عددهم عشرة آلاف بملابسهم الكشفية وموسيقاهم الحماسية تتقدمهم الموتوسيكلات والسيارات وأعلام المناطق ثم على راس هذا العرض الكبير حرس شرف حول حامل المصحف الشريف – واستمر هذا المؤتمر ثلاث أيام متتالية شهدت فيه الإسماعيلية أبهى أيامها حيث أرتفعت اللافتات والأعلام ترحب برجال وضيوف الدعوة الإسلامية وقامت المدينة بالترحيث بالوافدين ففتحوا بيوتهم ومدارسهم وجميع المساجد لتكون دورا للضيافة 0
... وصدر العدد الخاص لجريدة الإخوان المسلمين اليومية بمناسبة مرور عشرين عاما فى يوم 2ذى القعدة 1368 – 5سبتمبر 1948 يزيد صفحاته عن العشرين متوجا بصور مؤتمر الإسماعيلية واستعراض الجوالة وصور الخطباء وبعد ذلك سرد متكامل لتاريخ جماعة الإخوان المسلمين – كما صدر نفس هذا العدد بعدة لغات كالإنجليزية والفرنسية والأردية وأرسلت منه مئات النسخ للعالم العربى والإسلامى. ويعتبر هذا العدد من أهم مصادر معرفة تاريخ الدعوة كما كان سجلا حافلا بأهم المواقف والأحداث 0
غزة تحتفل 00(1/225)
... وإنتهز الإخوان فى شعبة غزة هذه الفرصة فدعوا إلى عقد مؤتمر بدارهمم وكانت فرصة التقى فيها جمع كبير من أبناء مدينة غزة وقدتحدث فى هذا اللقاء فضيلة الشيخ عمر صوان قاضى قضاة غزة فأثنى على الدعوة ومنهجها فى التكوين والتربية كذا أشار إلى خطوات المدروسة فى تحقيق أهدافهم ونوه بشخصية الأستاذ البنا الذى يقود الجماعة على أساس من كتاب الله وسنة رسوله – ثم تحدث عن تاريخ دعوة الإخوان مستنداً فى حديثه إلى كتب الإخوان ورسائل الأستاذ المرشد العام – ثم أبرق إخوان غزة إلى الأستاذ المرشد مهنئين بهذه المناسبة الكريمة0
بيان للأستاذ المرشد فى المؤتمر الصحفى
... عقد بدار المركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة مؤتمرا صحفيا بمناسبة مرور عشرين عاما على تأسيس أول شعبة للإخوان 0
... ومما جاء فى كلمة الأستاذ المرشد ما يلى :(1/226)
00 أكثر الناس لا يعرفون إلا أن الإخوان يريدون إقامة الحدود الإسلامية وهذا فى الحقيقة تصور قاصر، فإن الإخوان يريدون إحياء النظام الأسلامى الاجتماعى الكامل وهو كل لا يقبل التجزئة ووحخدة متكاملة بكل مظاهره من حيث المثل العليا الاجتماعية أولا ثم من حيث أوضاعه العملية التى تحل كل مشاكل الحياة الاقتصادية والاجتماعية علىأن قضية الحدود الإسلامية نفسها لم يفهمها الأكثرون على وضعها الآسلامى الصحيح ولو فهموها لعرفوا أنها أعدل وأرحم وأحكم تشريع لمكافحة الجريمة مكافحة ناجحة تفوق أحدث النظريات القانونية والنفسية والاجتماعية للتشريع الحديث مما لا يدع محلا لأتخاذ الحدود وأحكامها سببا لأتهام الحركة الإسلامية التقدمية بالرجعية – وليست حركة الإخوان المسلمين حركة طائفية موجهة ضد عقيدة من العقائد أو دين من الأديان أو طائفة من الطوائف إذ أن الشعور الذى يهيمن على نفوس القائمين بها أن القواعد الأساسية للرسالات جميعا قد أصبحت مهددة الآن بالالحادية والأباحية وعلى الرجال المؤمنين بهذه الأديان أن يتكاتفوا ويوجهوا جهودهم إلى إنقاذ الإنسانية من هذين الخطرين الزاحفين – ولا يكره الإخوان المسلمون الأجانب النزلاء فى البلادالعربية والإسلامية ولا يضمرون لهم سوءا حتى اليهودالمواطنين لم يكن بيننا وبينهم إلا العلاقات الطيبة – أما اشتراكهم الفعلى فى مساعدة العصابات الصهيونية بفلسطين بكل صنوف المساعدة فلم يكن بد من أن يشعروا بأن هذا المسلك المعوج الخاطئ قد أفقدهم العطف. ولقد لونت الأفهام القاصرة والدعايات المغرضة دعوة الإخوان (الإسلامية النقية) بثلاث ألوان خاطئة: ابتدأت باللون الدينى القاصر إذ أن الإخوان متمسكون فى دعوتهم وتصرفاتهم بآداب الإسلام وتوجيهاته.(1/227)
ثم تلا ذلك اللون السياسى الخاطئ بمناسبة اشتراك الإخوان فى الجهادالوطنى المقدس وبلاؤهم فى ذلك البلاء الحسن الذى سبقوا به الأحزاب السياسية المحترفة والذى هو فى الحقيقة سر هذا الوعى الوطنى الجديد والعامل الأكبر فى قوة الرأى العام المصرى مما جعل بعض الناس يظن أن الإخوان المسلمين قد انصرفوا من الدين إلى السياسة ولم يفرقوا بين العمل الوطنى والاحتراف السياسى ومادروا أن هذا الجهاد الوطنى من صميم الإسلام.. واللون الحقيقى للدعوة بعيد عن هذا التصور كله فهو اللون الإسلامى النقى الخالص (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) وهم لذلك متدينون ووطنيون ومجاهدون لأن هذا كله من لب الإسلام وصميمه0
... ولسنا نعتقد أن فى مصر حزبية وخطط بالمعنى السياسى الدقيق وكل ما هنالك خلافات شخصية بين نفر من الأعيان الذين يتداولون كراسى الحكم خلافات تدور حول مسالك الأشخاص ومصالح الأتباع، ولقد كنا حريصين على أن تكون صلتنا بالجميع طيبة حتى نستطيع أن نصل بالدعوة وأهدفها السامية إلى قلوبهم فيجتمعون عليها أو ينصر إليها منهم من يجمع الله به الكلمة ويقرب مراحل الطريق، ولكن قصور النظرة الشخصية والحزبية ومطامع الأذناب والوسطاء ودس الإنجليز والاجراء حال دون استقرار هذا الجو الهادئ الذى تمحص فيه الحقائق وتحدد فيه الوسائل والغايات. ونحن نشعر أمام هذا الوضع بكثير من الأسف على ما يضيع فى هذا العداء الوهمى من جهد ومال فى وقت نحن أحوج ما نكون فيه من مصائب وويلات – لم يكف بعد لاقناعنا بأنه لا نجاح إلا بالوحدة والاتفاق ونحن لا نعتبر أنفسنا حزبا سياسيا – بل نحن حركة إسلامية شاملة مهمتنا توجيه الشعب توجيها سليما وتهيئته تهيئة صالحة 0
كلمة أخيرة لفضيلة المرشد فى المناسبة(1/228)
... أيها الإخوة الضفلاء: كلمة أخيرة بهذه المناسبة مضى عشرين عاما على دعوة الإخوان المسلمين: إن من الخير أن أصارحكم بأ،كم قد وصلتم بدعوتكم إلى هذه المرحلة من النجاح والظهور ووصلت حالة العالم إلى ما وصلت إليه من التغير والتطور، وتفصيل ذلك أنكم قد أصبحتم تواجهون الدنيا جميعا بدعوتكم وأقول وأنا شديد الأسف أنكم الآن القوة الوحيدة الصامدة أمام الخطرين الداهمين اللذين يهددان العالم الإسلامى العربى أولا ويهددان البشرية كلها بعد ذلك وهى خطر الإلحاد وخطر الاستعباد فإن هذه المادية الطاغية الجارفة التى استولت على تفكير وتصرفات الدول الكبرى فجعلتها لا تزن الأمور إلا بميزان المنافع والمصالح الشخصية الاستعمارية – ولا تقيم وزنا لما عدا ذلك من المثل العليا وقواعد الخير والأنصاف والسمو ودفعت بها بعد ذلك إلى الرغبة والتحايل على أن تبقى قيود العبودية وأغلالها فى أعناق وأيدى وأرجل الشعوب الناشئة التى لا ترضى أبدا بغير الحرية والتقدم، هذه المادية التى تقودها اليهودية العالمية وتمولها الدول الاستعمارية لا علاج لها إلا فى دعوتكمن لا قوة تصمد أمامها الآن مع الأسف إلا جماعتكم ولذا أبشركم – وأنذركم بأنكم منذ الساعة ستتعرضون لأشد الامتحانات وأقسى الاختبارات ولكنكم إن صبرتم وثبتم فستكون لكم الغلبة ولا شك – فاستعدوا للامتحان وأصبروا وصابروا ولن يكون إلا إحدى الحسنيين السعادة بالنصر أو الشهادة فى سبيل الحق وكلاهما خير ولله الحمد وكل عشرين سنة وأنتم بخير 0
... ... ... ... ... ... ... ... ... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الحجة الأخيرة 00 ثم الاستشهاد(1/229)
... كانت بعثة الحج للإخوان المسلمين فى عام 1367 هجرية الموافق 1948 ميلادية أكبر بعثة عرفتها مكة مهبط الوحى من جميع البعثات، وقد أراد الإمام البنا – رضى الله عنه – أن يؤدى رسالته على أتمها، وكأنى به كان يشعر بدنو الأجل واللقاء القريب بالأحبة – محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه – فوضع مناسك الحج على المذاهب الأربعة بجميع اللغات الشرقية من عربية وأردية وفارسية وتركية وجعلها فى عدد خاص من جريدة الإخوان المسلمين، وفيها دعوة كريمة موجهة من المرشد العام للإخوان المسلمين إلى عامة المسلمين فى جميع الأقطار بأن يرجعوا إلى دينهم فيعرفوه، وإلى قرآنهم فيجعلوه دستورهم الحق وإلى سنة نبيهم فيقيموها، ثم ينظرون ماذا سيكون لهم. وهم لابد بالغون كل ما يريدون فى دنياهم وأخراهم بفضل توكلهم على الله ورضاهم عن دينه وعبادتهم لخالقهم سبحانه وتعالى0
... 00 فى مكة المكرمة وبجوار الكعبة المقدسة دعا فضيلته إلى مؤتمر إسلامى لأمراء الحج من جميع أنحاء العالم الإسلامى، كما وجهت الدعوة إلى الأمراء والوزراء السعوديين. وكان اجتماعا كبيرا انعقد فى القاعة الكبرى (بفندق بنك مصر ) بجوار وزارة المالية السعودية وقريبا من قصر أمير المدينة ونائب الملك 00 وكان موضوع هذا الاجتماع (الدعوة إلىجمع كلمة المسلمين، وأنه لا خير ولا سعادة للأمة الإسلامية إلا إذا جعلت دستورها القرآن الكريم) وكان من خطباء هذا المؤتمر مندوبون من : الباكستان والهند وجزر الملايو وجاوة والعراق وإيران وتركيا والجزائر وتونس ومراكش وليبيا والسودان واليمن والكويت ومصر والحجاز والتركستان الشرقية وسوريا وفلسطين وأفغانستان والصين0(1/230)
... وبعد أن انتهى المندوبون جميعا من إلقاء كلماتهم المؤثرة المنطوية على الخير للإسلام والمسلمين، أعتلى فضيلة المرشد منصة الخطابة، وكان بادى التأثر من الكلمنات التى ألقيت والتى ترمى إلى هدف واحد ألا وهو: العمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .. وقف حسن البنا وقفته الأخيرة بين زعماء المسلمين جميعا، ثم افتتح كلامه، فقال :
... الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المسلمين سيدنا محمد وعلى آله وصبه أجمعين، وبعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها المسلمون الكرام :
... إخوانى : إنى أشعر بأن جمعنا هذا يباركه الله رب العالمين وتحضره ملائكة السماء. لا بل يباركه رسول الله صلى الله عليه وسلم المشرع الأعظم الذى جاء على فترة من الرسل لهداية الناس إلى حظيرة رب العالمين0
... أيها الإخوان: إننا فى هذا البلد الحرام، وأمام بيت الله الحرام، وزمزم ومقام إبراهيم نعاهد الله عهدا وثيقا على أننا سنحمل عبء الجهاد والتضحية فى سبيل إعتناقب مبادئ الإسلام السامية، وتعاليمه الحكيمة، وسنحارب بعون الله جميع البدع والخرافات الدخيلة على ديننا السليم المبنى على التوحيد الصحيح نلكم الفكرة السليمة التى من ذاق طعمها ذاق حلاوة الإيمان وكان عند الله من المقبولين0(1/231)
... أيها الإخوان : هل تدركون لماذا تأخرنا عن أسلافنا؟ إنه جواب واحد لا ثانى له أولا وهو، عدولنا عن طريق القرآن والعمل بكل ما جاء به النبى الكريم عليه الصلاة والسلام، ثم ارتفع صوته قائلا: بعبارة مؤثرة بليغة: أعلموا أن سعادة المسلمين لا تتحقق ولا تكون إلا بجعلهم القرآن الكريم دستورهم وقانونهم، وأحملوها عنى كلمة، إن الله لا ينصر القوم الفاسقين الذين هجروا دينهم وسلكوا طريق الشيطان الرجيم. ويوم أن نعود إلى حظيرة القرآن والسنة والمطهرة يوم أن نرى نصر الله ماثلا أمام أعيننا لأنه وعد من الله ووعد الله صادق لا يتخلف، اقرأوا قول الله تعالى (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) 0
... ثم خنقته العبرات فقال بصوت متهدج: اللهم قد بلغت، الله فأشهد .
... هنا وجلت القلوب وإنسابت العيون بالعبرات وانفض الاجتماع على التمسك بهذا العهد 0(1/232)
... وانتقل حسن البنا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوجه إلى مسجده الشريف ومكث فيه رضى الله عنه متأملا متفكرا حتى جاء وقت الصلاة وكان سوقت الظهر فأدى الصلاة، ثم أطبق عليه الجميع من زعماء الأمم الإسلامية يستشيرونه فى أمر دينهم، ويطلبون من الله تعالى بإلحاح فى هذه الأماكن والبقاع المطهرة أن يعز الله الإسلام والمسلمين وينصرهم على أعدائهم ثم حدثهم فقال : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) (1) .. وأخذ يشرح لهم هذه الآية بأسلوبه العطر العذب الجميل ويشير لهم أن الرسول الكريم نزل عليه القرآن فى أن محبة الله للمؤمنين لا تكون إلا بأتباعهم للنبى، قال تعالى : (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) (2) فما علينا إلا اتباع هذا النبى حتى تكون من أمته الخيرة التى يذكرها الله فى كتابه : (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن الممنكر وتؤمنون بالله (3) وقوله : (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) (4) 0
... أيها الإخوة المسلمون: إن دين الإسلام الذى أضعنا تعاليمه وأهدرنا أحكامه فى هذه الأيام ونظرنا إلى الأمم الغربية وقلدناها فى مدنيتها الكاذبة. جدير بأن يلقى منا رعاية وعناية. ونسأل الله رب العرش العظيم أن يهدينا جميعا سواء السبيل ويرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.. إن ربى سميع الدعاء0
__________
(1) سورة الرعد : 11
(2) سورة آل عمران : 31
(3) سورة آل عمران : 110
(4) سورة البقرة : 143(1/233)
... ثم توجه فضيلته لزيارة البقيع ومعه جمع من زعماء المسلمين.. وقبل الوصول إلى هذه المقبرة الشريفة خلع نعليه ومشى خاشعا بنفس مؤمنة، وسلم على أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين زوجاته، وأخذ يدعو الله والجميع يؤمنون على دعائه فى أن ينصر الله المسلمين على أعدائهم ويرحمهم ويعفوا عنهم كما دعا الله لأهل البقيع بالمغفرة والرضوان، ثم زار قبر النبى صلى الله عليه وسلم وكذا قبر السيدة فاطمة الزهراء، وباقى قبور الصحابة الأطهار والتابعين، وفى مقدمتهم الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضى الله عنه. ثم توجه بنفس ملئت خشية من الله واتعاظا كبيرا ورجوعا إلى الله فى السر والعلن إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزار قبره، وأخذ فى المناجاة والدموع تسيل من عينيه، وهو يناجى الحبيب ويطلب من الله تعالى أن يجعله شفيعا له يوم القيامة، ويعرج على أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما. وبعد ذلك جلس فى روضة المصطفى صلى الله عليه وسلم فى إنتظار وقت الصلاة يتلو القرآن فى سره ويرتله ترتيلا 0
... بعد الانتهاء من الصلاة وإلقاء كلمة جامعة فى المسلمين فى المسجد النبوى توجه مسرعا إلى زيارة الشهداء فى غزوة أحد وخاصة قبر سيدنا حمزة بن عبد المطلب عم النبى صلى الله عليه وسلم وسيد الشهداء الذى حزن عليه الرسول حزنا شديدا، والذى عندما سمع بأ، الكفار مثلوا بجسده رضى الله عنه تمثيلا قال لأمثلن بسبعين منهم، فنزل قوله تعالى : (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين. واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولاتك فى ضيق مما يمكرون، إن الله مع الذين اتفقوا والذين هم محسنون). (1)
__________
(1) سورة النحل : 126 - 128(1/234)
... تذكر الإمام الشهيد نهذه الحادثة وتلك المصيبة التى منى بها النبى الكريم فى عمه حمزه رضى الله عنه، فتمنى على الله أن ينال هذه الشهادة ويحشر مع الشهداء والصالحين، ثم صلى ركعتين فى الأماكن الطاهرة، وأخذ يترحم على الشهداء واحدا واحدا، وأخذ يذكرهم ويترجم حياة كل شهيد وقصة استشهاده كأنه كان حاضرا الموقعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى أن المرافقين له دهشوا عندما وجدوا أن فضيلته يعرفهم حقائق عن هؤلاء لم يعرفوها. ويقول الناس فى هذه الأماكن: أن حسن البنا يعلم الكثير مما نعلم بل أنه يزداد عنا علما ودقة عن علمنا فى هذه الآثار الإسلامية الكريمة 0
... وانتهت الزيارة فى المدينة المنورة.. وعدنا بعدها إلى مصر لنجد أمامنا خيوطا للمؤامرة الكبرى على تصفية الجماعة باعتقال أفرادها واغتيال إمامها 0
حسن البنا 00 هكذا استشهد وهكذا خرجت جنازته
... محمد على الطاهر أستاذ جيل من القادة والزعماء العرب، كانوا يرتادون مجالسه التى كانت ندوات – فى القاهرة – تضم إلى جانب الصحفيين والأدباء زعماء التحررية اللاجئين إلى القاهرة آنذاك. ولقد اخرج الأستاذ الطاهر فى سنة 1950 كتابا بعنوان ((معتقلات هاكستيب)) لكن الكتاب اختفى من الأسواق فى محاولة من السلطة الحاكمة الغبية آنذاك لكبت أى صوت يفضح جرائمها وأساليبها الوحشية. وفيما يلى فصل من هذا الكتاب نضعه بين يدى الإخوة القراء وكشهادة من رجل عاش احداث الجريمة وكل ظروفها وملابساتها0
هكذا استشهد
... تمكنت الصحف أخيرا بعد تخفيف الرقابة من نشر كيفية استشهاد الشيخ حسن البنا رحمه الله وكيفية دفنه. وإنى أثبت هذه الخلاصات عن تاريخنا الحاضر ليعرفها الجيل المقبل 00(1/235)
... ((فى نحو الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم السبت الثانى عشر من شهر فبراير عام 1949 غادر الشيخ حسن البنا وزوج شقيقته الأستاذ عبد الكريم منصور المحامى دار جمعية الشبان المسلمين بشارع الملكة نازلى بالقاهرة0 واستدعى الشيخ حسن البنا سيارة ركبها ومعه صهره.. واستدارت السيارة لتتجه بالشيخ حسن البنا ورفيقه وجهتها من باب الجمعية إلى شارع الملكة نازلى فإذا بشاب يضع حول رأسه ((كوفيه) بيضاء يشهر مسدسا راح يطلق منه الرصاص على من فى السيارة فأصابت الطلقة الأولى صدر الشيخ حسن البنا من الجهة اليمنى ولما التفت إلى الناحية التى ظن أن المعتدى يقف فيها أصيب بخمس رصاصات أخرى فى ظهره. ولما فزع واقفا أصيب بطلق آخر فى فخذه الأيسر، أما السائق قد انبطح على ((دواسة)) مقعده، ثم أفاق من ذهوله بعد برهة فأطلق لسيارته العنان إلى مقر الأسعاف.. ورأى طبيب الأسعاف سوء حالة الشيخ البنا فأمر بنقله إلى مستشفى القصر العينى، وهناك تبين أن الشيخ قد أصيب برصاصتين نافذتين فى صدره، وكسر أحد أضلاعه، وحدوث نزيف باطنى، أما المحامى فكانت حالته لا تدعوا إلى اليأس الشديد..
... وأجريت عملية نقل الدم إلى الشيخ البنا 00 وفى الساعة الثانية عشرة والدقيقة الثانية والعشرين فاضت روحه متأثرا بجراحه 00
كيف دفنوا الشهيد ؟
... ونشرت جريدة ((الكتلة)) التى يصدرها الأستاذ مكرم عبيد (باشا) وصف دفن المرحوم الشيخ حسن البنا وما رافقه من أحداث وفظائع وجعلته تحت عنوانات تكفى تلاوتها للعن الظالمين المجرمين، وهى : القبض على المعزين، ومنع الصلاة على جثمان الفقيد، ومنع تلاوة القرآن على روحه، ثم نشرت الوصف التاريخى الآتى، وهو مستقى من أقوال فضيلة الشيخ أحمد البنا والد المرحوم الشيخ حسن البنا 0
... نقلت جثة الفقيد إلى بيته فى سيارة تحرسها سيارات مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين، وقد أنساهم هول الجريمة أن الموتى لا يتكلمون ولا ينطقون!(1/236)
... وفى أحد شوارع الحلمية وقفت القافلة ونزل الجند فأحاطوا بيت الإمام الفقيد ولم يتركوا ثقبا ينفذ إليه إنسان إلا سدوه بجند وسلاح. أما والد الشيخ البنا ذلك الشيخ الهرم الذى جاوز التسعين عاما فلم ينوء بها ولم تبد عليه عوامل السنين كما بدت فى هذه الليلة النكباء. فقد عرف بخبر وفاة ولده من أحد الضباط ساعة وقوعها، وظل ساهرا تفجعه الأحزان منتظرا الفجر ليؤدى فريضة الله ويقول له ((سبحانك، وعدالتكم يا ربى00 لقد قتلوا ولدى0
... وتتابعت على باب المسكن طرقات كان صداها يطحن قلب الشيخ الكبير طحن الرحى 0
... لا بكاء ولا عويل 00 !
... كان الوالد هو وحده الذى يعلم وينتظر، فإن أشقاء الفقيد جميعا كانوا داخل المعتقلات والسجون. وفتحوا الباب وأدخلوا الجثة، ونشج الوالد المحطم بالبكاء فقالوا له .. لا بكاء ولا عويل، بل ولا مظاهر حداد ولا أحد يصلى عليه سواك 0
... ولنترك الشيخ أحمد البنا والد الشيخ حسن يتم القصة قال : أبلغت نبأ موته فى الساعة الواحدة وقيل أنهم لن يسلموا إلى جثتهم إلا إذا وعدتهم بأن تدفن فى الساعة التاسعة صباحاً بلا احتفال . وإلا فإنهم سيضطرون إلى حمل الجثة من مستشفى القصر العينى إلى القبر 0
... واضطررت إزاء هذه الأوامر إلى أن أعدهم بتفيذ كل ما تطلبه الحكومة رغبة منى فى أن تصل جثة ولدى إلى بيته فألقى عليه نظرة أخيرة 0
... وقبيل الفجر حملوا الجثة إلى البيت متسللين فلم يشهدها أحد من الجيران ولم يعلم بوصولها سواى0
حصار حول البيت :
... وظل حصار البوليس مضروبا لا حول البيت وحده بل حول الجثة نفسها لا يسمحون لإنسان بالاقتراب منها مهما كانت صلته بالفقيد 0
... وقمت بنفسى بإعداد جثة ولدى للدفن. فإن أحدا من الرجال المختصين بهذا لم يسمح له بالدخول. ثم أنزلت الجثة حين وضعت فى النعش وبقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير 0(1/237)
... طلبت إلى رجال البوليس أن يحضروا رجالا يحملون النعض فرفضوا. قلت لهم ليس فى البيت رجال، فأجابوا: فليحمله النساء ! وخرج نعش الفقيد محمولا على أكتاب النساء !
... ومشت الجنازة الفريدة فى الطريق فإذا بالشارع كله قد رصف برجال البوليس، وإذا بعيون الناس من النوافذ والأبواب تصرح ببريق الحزن والألم، والسخط على الظلم الذى احتل جانبى الطريق!
... وعندما وصلنا إلى جامع قيسون للصلاة على جثمان الفقيد، كان المسجد خاليا حتى من الخدم . وفهمت بعد ذلك أن رجال البوليس قدموا إلى بيت الله وأمروا من فيه بالإنصراف ريثما تتم الصلاة على جثمان ولدى0
... ووقفت أمام النعش أصلى فأنهرمت دموعى. لم تكن دموعا بل كانت ابتهالات إلى السماء أن يدرك الله الناس برحمته 00
... ومضى النعش إلى مدافن الإمام فوارينا التراب هذا الأمل الغالى وعدنا إلى البيت الباكى الحزين. ومضى النهار وجاء الليل ولم يحضر أحد من المعزين لأن الجنود منعوا الناس من الدخول. أما الذين استطاعوا الوصول إلينا للعزاء فلم يستطيعوا العودة إلى بيوتهم فقد قبض عليهم وأودعوا المعتقلات، إلا شخصا واحدا هو مكرم عبيد باشا، الذى كان يتحدى الظالمين 0
بعد دفن الشهيد :
... ونشرت جريدة الكتلة البيانات التالية عما حدث بعد دفن المرحوم الشيخ حسن البنا تحت عنوانات صارخة مؤلمة وهى : ((البوليس بلقى القبض على جثة الشيخ البنا، وكيف قبضوا على ميت آخر.. حصار البوليس للمقابر وإقامة حراسة دائمة، وبعد ذلك سردت (الكتلة)) ما يأتى :
... فى إثنتى عشرة ساعة قتل الشيخ البنا، وشرح، وغسل، وإنطوت صفحة حياته. عادت النساء اللاتى حملن النعش على أكتافهن وعاد الوالد الواله الحزين. وقبل أن يغشى مدافن حى الإمام الشافعى كانت ثلة من الجنود تحاصر الطرق المؤدية إلى المقبرة وقوات كبيرة تحيط بمنزل الفقيد لتمنع الداخلين ولو كانوا من مرتلى آى الذكر الحكيم، وتقبض على الخارجين ولو كانوا من جيران الراحل الكريم0(1/238)
... ولقد قبض أحد رجال البوليس فى ذلك اليوم على رجل من أصدقاء الفقيد متلبسا بجريمة إحراز مصحف كان يخفيه فى طيات ثبابه فأسلموه إلى من بيدهم أوامر الاعتقال !
... واليوم نسطر قصة جديدة، من قصص الظلم والجهل ظلت مطويةب لا يعلم بها الناس. قصة الصراع العنيف الذى دار بين رجال البوليس وبين جثمان الشيخ حسن البنا 0
... فقد أشيع ذات مساء أن أصدقاء الشيخ البنا ممن آلمهم أن يدفن الرجل بهذه الصورة المزرية المؤلمة، قد اعتزموا اختطاف الجثة من قبرها وإخفاءها عن أعين البوليس 0
... وطير الخبر إلى السلطات، فأمرت بمضاعفة الحراسة والتأكد من كل شخص يمر بالطرقات المؤدية إلى مدافن الإمام الشافعى، وكان الجنود – المسلحون يتناوبون الحراسة بعيون يقظة وقلوب مرتعشة.. خصصوا فرقا من رجال البوليس للسهر (على جثته) وحراستها خشية أن ينقلها بعض الناس إلى مكان يليق بمقامها. وأبى الظالمون الذين كان بيدهم الأمر إلا أن يضطهدوا الرجل فى موته وإلا أن يحرسوه بجند من عندهم كما كان ولا يزال يحرس شخص إبراهيم عبد الهادى باشا بطل العهد الغابر الأثيم نفسه!
... وفى الليلة التى ظنوا أنها موعد تنفيذ المؤامرة الخيالية، مؤامرة خطف الجثة، امتلأت مقابر الإمام الشافعى برجال البوليس، ولأول مرة تنزعج مقابر الأحياء وتقض مضاجعهم0(1/239)
... وكان رجال البوليس كلما اشتبهوا فى شخص أو فى جماعة من المارة أوقفوهم وفتشوهم، وسألوهم إلى أين هم ذاهبون، فإذا اطمأنوا إليهم – وهذا أمر نادر – سمحوا لهم بالانصراف وإذا أرتابوا فيهم – وهذا هو الغالب قبضوا عليهم وأودعوهم غياهب المعتقلات . ولمح نفر من البوليس بعض الناس يحملون نعشا ويسيرون به بين المقابر، ولعلهم كانوا قد قدموا به من مكان بعيد يدركوا المقابر إلا بعد الغروب، فوجئ المشيعون بأسلحة تلمع فى الظلام وأصوات تأمرهمم بالوقوف وبوضع النعش على الأرض للتحقق من الميت. ورفع أحد الجنود غطاء النعش وسلط عليه ضوء مصباح كهربائى فى يده، ثم أمرهم بإعادة الغطاء وأن يمضوا فى طريقهم، بعد أن تبين للجندى الذكى أن وجه الميت يختلف عن وجه الشيخ نالبنا! وهكذا قدر للأموات أن يلقوا نصيبهم من الظلم الذى حاق بالأحياء فى ذلك العهد0
... وهكذا ظلت المقابر تنعم بالراحة والهدوء منذ الأزل حتى جاء هذا العهد فلم يسلم من ظلمه وجوره وخوفه وجهله الأموات الذين هم فى رعاية الله وبين يديه 0
بعد جنازة البنا :
... ثم اقتبس ما يلى عن جريدة ((الكتلة)) وقد نشرته تحت عنوانات مثيرة ومحزنة وهى ((القبض على كل حزين يوم مصرع الشيخ حسن البنا – حامد جودة رئيس مجلس النواب يخلع السودا فى ذلك اليوم – حملة تأديبية على المساجد بعد كل صلاة !)) ثم قالت ((الكتلة)): والغالب أن الكاتب لهذا الفصل وما سبقه هو مكرم عبيد (باشا) نفسه : -
... نحن الآن عقب جنازة الشيخ حسن البنا. وقد وصفنا لك جانبا مما حدث داخل بيت الشيخ وخارجه.. وبقى أن نصف ما وقع من حوادث أثناء سير الجنازة وبعدها أدت إلى اعتقال مئات من الناس لأسباب غريبة لا تكاد تصدق وقد حشدوا هؤلاء المظلومين حشدا داخل غرفة ضيقة عفنة هى سجن نقطة الإمامين القريبة من المدافن! وإليك بعض الأسباب التى اعتقلوهم من أجلها :(1/240)
... هذا الشاب الذى يلبس رباط عنق أسود (كرافته) حدادا على أبيه المتوفى منذ أيام. لقد أدرك رجل البوليس بفطنته أنه يلبسها حدادا على الشيخ البنا، واستبعدت فطنته ويقظته أن يكون هناك سبب آخر دفع بالثياب إلى لبس الكرافتة السوداء، فهو إذن من غير شك من أشياع البنا ومريديه الذين كانت تتعقبهم السلطة الغاشمة تنكل بهم أسوأ تنكيل .. وقد أودعوه السجن ثم المعتقل رهن التحقيق !!
قراءة الفاتحة 00 جريمة !(1/241)
وذلك الرجل الذى طلعت من جبهته وصدغيه وعينيه آثار اللكمات 00 يا له من مجرم خطير! تصوروا أن أحد رجال البوليس ضبطه يتمتم بالفاتحة من إحدى النوافذ أثناء سير جنازة الشيخ الرهيبة، فصعد إليه وإقتاده من بين أطفاله وزوجته والسلاح فى ظهره مستعدا ليسكته إذا حاول المقاومة أو الفرار وفى مخفر البوليس سألوه عن صحة سالتهمة وهل قرأ حقاً على روح الشيخ البنا! فأجاب بالإيجاب 000 وهنا إزدحمت الأكف والقبضات والأقدام فوق وجهة وجسمه! . وعادوا يسألونه : - ولماذا قرأ الفاتحة؟ فأجاب الرجل: إن من شعائر الدين أن نقرأ الشهادتين عندما يمر ميت وأن نقرأ الفاتحة على روحه. وصرخ أحد رجال البوليس وقد استقرت يده على وجه المسكين لتصافحه بحرارة وهو يقول : كان لازم تعمل حنبلى يا ابن الـ 00 وهنا نمسك عما نطق به رجل البوليس المهذب.. فصاح المتهم البرئ الذى كان احترامه لشعائر دينه ذنبا لا يغتفر قائلا : وهل فى قراءة الفاتحة جريمة يعاقب عليها القانون؟ . ومرة أخرى.. إزدحمت الأكف والقبضات والأقدام فوق وجهه وجسمه وأغمى عليه. وأفاق ليجد نفسه فى الغرفة الباردة العفنة مع عشرات آخرين ويداه مكبلتان بالحديد من خلاف – أى والله من خلاف – لإرساله إلى المعتقل بلا محاكمة، فقد كانت جريمة لا تغتفر فى رأى ابراهتم عبد الهادى باشا أن يقرأ مسلم الفاتحة على روح ميت تمر جنازته أمامه 00 جريمة بلغ من بشاعتها أن يرسل من يرتكبها إلى المعتقل بلا محاكمة لأنه لم يجد فى القانون عقابا يمكن أن يكون جزاء عادلا لمن يقرأ الفاتحة على روح ميت!
لقد خلع الأستاذ حامد جودة رئيس مجلس النواب المنحل السواد الذى كان يلبسه حدادا على محمود باشا فى ذلك اليوم بالذات حتى لا يقال أنه حزن على مقتل الشيخ البنا فيلاقى بعض المتاعب من البوليس!(1/242)
ولا نحسب أن هناك سببا آخر دفعه إلى أن يخلع السواد فى ذلك اليوم ولم يمضن على مقتل النقراشى باشا إلا أيام !! (1)
وشن البولي سفى ذلك اليوم حملة عنيفة على المساجد فى العاصمة. فكانوا لا يسمحون لأحد بالصلاة أو العبادة بعد الصلاوة مباشرة، وإن أحد حدثته نفسه بأن يطيل فى الصلاة فإنه يكون قد أورد نفسه موارد التهلكة وعرض حريته للضياع وشخصه للتنكيل وأولاده وأسرته للتشريد والجوع والألم، والدموع0
وكان بعض رجال البوليس ممن وهبهم المولى رقة قلب عبد الهادى باشا يستنكفون أن يخلعوا أحذيتهم أثناء دخول المساجد فكانوا يقتحمونها بأحذيتهم القذرة يطأون المسجد بنعالهم غير مراعين حرمة المسجد ولا كرامة المسلمين. وليتخيل القارئ شخصا واقفا بين يدى اله يؤدى فرائض دينه، فإذا بعصا غليظة أو غير غليظة تنهال عليه وإذا برجال البوليس يدفعونه من بيت الله إلى منفى الطور وعيون موسى بصحراء سيناء إرضاء لعيون عبد الهادى باشا0
نابليون اعتذر :
إن دخول المساجد بالأحذية والنعال أمر لم تشهده مصر منذ كانت المساجد سوى فى عهدين 0
المرة الأولى فى عهد نابليون يوم وطئت خيوله – ولعلها كانت جامحة – صحن الجامع الأزهر، وقد اعتذر نابليون لهيئة كبار العلماء وتأسف لهذا الحادث 0
والمرة الثانية بل مئات المرات حدثت فى عهد إبراهيم عبد الهادى باشا ولم يعتذر لا لله ولا للناس – إنتهى كلام جريدة الكتلة 0
__________
(1) تعليل جانبه الصواب، لأن حامد جوده كان أحد المسئولين فى الحكومة التى نفذت مؤامرة قتل الإمام، فإن كان قد خلع السواد، فقد خلعه فرحا لنجاح المؤامرة كما فرحت كل دوائر الاستعمار والصهيونية والصليبية 0(1/243)
إن منع الناس من شهود الجنازة ومن التعزية قد وقفت على شىء منه بنفسى، وذلك أن خبر مصرع الشهيد البنا لم أعرف به إلا من صحف الصباح ويا له من صباح، فلم أتردد لحظة بان المرحوم قد أغتيل غدرا وأن لعصابة إبراهيم باشا عبد الهادى إطلاعا على إغتياله أخذا بثأر رئيس وزراء عهدهم محمود النقراشى باشا على ظن منهم أن الأستاذ البنا هو الذى أوعز بقتله!
وقد بادرت إلى التليفون أسأل بعض الأصدقاء عن موعد الجنازة لنشهدها جميعا فقالوا إن الفقيد قد أسلم الروح عند منتصف الليل وأنه دفن فى الصباح المبكر بأمر الحكومة حتى لا تقع مظاهرات أو إضطرابات، فلم استغرب هذه الفظائع من وزارة (عهد))مغضوب عليها من الأمة، وقد لطخت سمعتها بدم رجل عظيم كالأستاذ البنا، الذى يحكم له كل من عرفه بالأتزان والرصانة وإستحالة التفكير فى الإيعاز بقتل أحد، لا النقراشى ولا سواه 00
كان مكتبى فى تلك الليلة حافلا بالزائرين أكثر من كل ليلة، وكان الحديث كله حديث جريمة قتل المرحوم البنا، وكان كل منا يعزى الآخر، وقد اقترحت على الحاضرين أن نقوم جميعا ونذهب إلى سرادق التعزية المعتاد فى مثل هذا الظروف، فقالوا إن الحكومة منعت إقامة سرادق للعزاء ولذلك جئنا لنتبادل العزاء عندك0
إلى دار حسن البنا :
وقبيل منتصف الليل لم يبق فى المكتب عندى إلا الأستاذ محمد سعيد العريان وكان من زملاء الفقيد فى الدراسة فكان يبكى صديقه بكاء شديدا 0(1/244)
فقلت له ما رأيك يا فلان فى أن نذهب الآن إلى منزل الفقيد لتعزية والده وأهله فقال هذا حسن وهيا بنا، فركبنا سيارة الأستاذ العريان. فإذا بحى الحلمية الذى فيه دار المرحوم البنا مظلم الجنبات مطفأ الأضواء، وكانت الدكاكين كلها مغلقة، فأطلقنا أنوار السيارة فإذا بالجنود بألبستهم السوداء يلحون فى ذلك الظلام كالأشباح، وبأيديهم البنادق مشرعة، وإذا بهم يقفون لنا فى عرض الطريق سدا، ويشيرون إلى السائق بالاتجاه إلى غير اتجاهنا، فتعجبنا من هذه الاحتياطات وأوعزنا إلى السائق بالاتجاه إلى غير اتجاهنا، وأوعزنا إلى السائق أن يدور ويدخل من المنطقة من شارع آخر وليكن ما يكون، ولكن الشرطة لم تسمح بالحركة إلا إذا عادت من حيث أتت وإلا! .. وإلا فإنهم يطلقون علينا النار! عند ذلك رجعنا ونحن نحمد الله على أنهم اكتفوا منا بالرجوع000
حسن البنا 000 الرجل الذى حطم الطاغوت
... كان حسن البنا إمام دعوة وقائد أمة (1)
... وليس كل إنسان يمكن أن يكون قائداً ، لأن القيادة لها مميزاتها وخصائصها ولهذا فبينما تجد من بنى آدم كثيرين تجد القادة العظماء فى تاريخ البشرية قليلين0
... وقد يكون الإنسان قائدا، ولكن ليس كل القادة سواء، فبعضهم، يكون قائدا فى ناحية معينة، وبعضهم تتوفر فيه العناصر القيادية بكاملها فيرقى إلى مصاف القادة العظماء، وقد يكون الإنسان قائدا عظيما، ولكن الفرق شاسع بين القائد الذى يسخر طاقاته ومواهبه لمصلحته الشخصية وبين القائد الذى يعيش لغيره ويسخر مواهبه لإسعاد أمته وبنى وطنه 0
__________
(1) ( هذا الموضوع فى أصله مقال للأستاذ نبيه عبد ربه نعيد نشرة ببعض تصرف نشرته جريدة ((الشهاب)) البيروتية فى ذكرى استشهاد الإمام سنة 1971 0(1/245)
... وليس كل قائد يمكن أن يكون داعية، لأن القادئ قد يقود الناس بالترغيب أو بالترهيب بالإحسان أو بالقهر، فيطيعهخ الناس إتقاء لشره أو طعمعا فى خيره، أما الداعية فيقود قلوب الناس إلى ما يريد أن يقود أجسادهم، لأن فى كلامه طاقة ربانية تنطلق من قلبه العامر بالإيمان لتصل إلى قلوب الناس، فيتبعونه عن قناعة ويطيعونه عن محبة ورضا لأن رباط الأخوة فى الله قد جمع بينهم فكان هذا الرباط هو الأساس لكل عمل والمنطلق لكل تحرك. وكل داعية يمكن أن يكون قائدا ولكن ليس كل قائد يمكن أنيكون داعية، لأن الدعاة إلى الله يستندون إلى ركن ركين ويعتمدون على قوة لا تنضب ولا تفقد تلك قوة الله الأزظلية التى تدعم المؤمنين، فهم بروح الله يعملون، وبكلام الله ينطقون، وبتأييده ينتصرون وعليه يتوكلون (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)0
... وليس كل داعية يمكن أن يكون شهيداً، فالداعية يعمل لله وفى سبيله ولكنه قد ينجح وقد يفشل، وقد يتقبل الله عمله وقد لا يتقبل، أما الشهيد فقد تقبل الله عمله، ومنحه شهادة اجتياز الامتحان الربانى، شهد عليها الله وملائكته قبل أن يشهد عليها الناس 0(1/246)
... وليس القائد المصلح هو من يحاول المؤرخون فى هذه الأيام أن يبنوا له مجدا أكثر من مجده، أو يصنعوا له تاريخا أكبر من عمله، فأصحاب الأقلام الرخيصة كثيرون فى هذه الأيام فهم يستطيعون أن يصنعوا ذلك لأقل الناس قدرا وأكثرهم أذى لأمته ووطنه، فإذا به بين عشية وضحاها بطلا من أبطال التاريخ وعلما من أعلام هذه الأمة، لأن الأمانةم العلمية لهذه الأيام قد تضاءلت وغلبت الأهواء والمعتقدات الشخصية على الحقائق العلمية، ولهذا كان القائد المصلح هو من يحاول الكتاب – فى هذه الأيام- أن يشوهوا تاريخه، ويخفوا ذكراه ويستصغروا أعماله، ولكن حسن البنا رحمه الله كان شخصية لا يدرك البلى ذكراها، ولا يستطيع الغش السياسى أن يطمس تاريخها أو يشوه حقيقتها، لأنه رحمه الله كان أكبر من المؤرخين، لقد كان كالشمس فى رابعة النهار0(1/247)
... قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم والداعية المؤمن أكبر من السلطة والدنيا، لأنه عرف الدنيا على حقيقتها، وأدرك كنهها وطبيعتها، فهى ليست له بدار مقام، ولكنه فيها كعابر سبيل يبحث عن الطريق إلى الدار الباقية، ويبحث عن الزاد الذى يعينه على السير فى هذا الطريق حتى نهايته فيجد فى تقوى الله خير زاد، وفى رضوان الله أفضل غاية، فلا يعمل إلا الله ولله وحده لا يبتغى الأجر إلا من الله وحده، لا يطمع فى جزاء الناس أو شكرهم له فى حياته، كما لا يطمع فى مدحهم وثنائهم بعد مماته، لأن رضاهم لا ينفعه بدون رضا الله، ومدحهم لا يجديه نفعا إذا لم يزده قربى من الله، ولكن حسن الذكرى جائزة معجلة يمنحها الله للمؤمنين، فقد روى مسلم عن أبى ذر رضى الله عنه أنه قال يا رسول الله ((الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه ويثنون عليه به؟!)). فقال عليه الصلاة والسلام ((تلك عاجل بشرى المؤمن)) وصدق الله العظيم (الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة. لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) (1) 0
... لقد عاش حسن البنا لله، ووهب حياته للدعوة لله وكان هدفه رضوان الله، فصغرت فى عينيه الدنيا بكاملها، فلم يكن يبتغى فيها من الناس جزاء ولا شكورا ولا زعامة ولا مالا، بل كان يفرغ من جيبه بجيوبهم، ويدلى من دلوه بدلائهم، فلم يكن يخشى غير الله ربا، ولا يضمر لأحد أذى ولا شرا، تهفوا نفسه للشهادة فى سبيل الله فى كل حين، فقد كان رحمه الله يسأل الله الشهادة دائماً أثناء سجوده، لقد صدق الله فصدقه الله، وأقر عينه وإستجاب دعاءه، وألحقه فى موكب النبيين والصديقين والشهداء فى مقعد صدق عند مليك مقتدر 0
1- نشأته وحياته :
__________
(1) سورة يونس : 64(1/248)
... كان الشيخ عبد الرحمن البنا ((جد الإمام الشهيد)) من وجهاء وأغنياء قرية ((شمشيرة)) مركز ((فوه-غربية)) فى مصر، وكان له ولدان : أحمد ومحمد. أما أحمد ومحمد. أما أحمد فقد تفرغ لطلب العلم فى الأزهر وأما الثانى فعمل فى القرية، ولما توفى والدهما حصل بينهما خلاف فى الإرث ولكن أحمد حسم هذا النزاع وهجر قريته وذهب ليقيم فى المحمودية 0
... أقام الشيخ ((أحمد عبد الرحمن البنا)) – والد الشهيد، فى المحمودية يعمل سحابة نهاره فى إصلاح الساعات ويقضى ما بقى من وقته فى دراسة الفقه، والتوحيد وحفظ القرآن وتجويده، وكانت له مكتبة قيمة تضم مختلف الفنون والعلوم الإسلامية، ولما بنى أهل القرية مسجدا لهم كلفوه بإلقاء أول خطبة جمعة فيه، فنال إعجاب الجميع لعلمه وفصاحمته. واشتغل بعد ذلك إماما وخطيبا لمسجد البلدة، فكان يقسم وقته بين الدراسة الإسلامية، وإصلاح الساعات0
... عكف الشيخ أحمد على دراسة الفقه على المذاهب الأربعة وكتب السنة فدرس ((موطأ مالك ومسند الشافعى)) وألف كتبا عدة منها ((بدائع المنن فى جمع وترتيب مسند الشافعى والسنن)) وعلق عليه وشرحه، ورتب جزءا من مسانيد الأئمة الأربعة، كما رتب مسند الإمام أحمد وسماه ((الفتح الربانى فى ترتيب مسند الإمام أحمد الشيبانى)) وشرح باسم ((بلوغ الأمانى منن أسرار الفتح الربانى))0
... تزوج الشيخ أحمد امرأة تقية من عائلة ((أبو قورة)) فولدت له خمسة ذكور وبنتين 0(1/249)
... كان ((حسن البنا)) أكبر أولاد الشيخ ((أحمد البنا)) ولد فى ((المحمودية)) من ريف مصر فى ((أكتوبر سنة 1906)) وتلقى علومه الابتدائية فى قريته فى ((مدرسة الرشاد الدينية)) ثم انتقل بعد ذلك إلى المدرسة الاعدادية، ولما قرر مجلس مديرية البحيرة إلغاء نظام المدارس الاعدادية لم يكن أمامه إلا أن يختار بين أن يتقدم إلى المعهد الدينى بالاسكندرية ليكون أزهريا، أو إلى مدرسة المعلمين الأولية وهو لا يزال فى منتصف سن الرابعة عشرة من العمر، وقد استغرقت الدراسة فيها ثلاث سنوات كانت نتيجتته فى إمتحان الكفاءة الأولى الأول على مدرسته والخامس على القطر المصرى. وقد أهلته نتيجتهخ هذه لأن يقبل فى ((دار العلوم ولم يتجاوز من العمر السادسة عشرة، فانتقل لذلك إلى القاهرة ثم تبعته عائلته بعد ذلك، وكان يقسم وقته فى القاهرة بين دراسته، والدعوة إلى الله، ومساعدة وتالده فى إصلاح الساعات، وحصل على ((دبلوم دار العلوم)) فى يونيه من عام 1927. وكانت نفسه مترددمة بعد ذلك بين الاستزادة من العلم بأن يتقدم بطلب بعثة للخارج أو أن يعمل مدرسا فيعلم الأولاد فى النهار ويعلم آباءهم أمور دينهم بعد ذلك، قود حسم هذا التردد عنده أن دار العلوم لم ترشح أحدا للبعثة فى ذلك العام، فعين مدرسا فى الاسماعيلية 0
... فى الاسماعيلية(1/250)
... وفى 19سبتمبر 1927 سافر ((حسن البنا)) إلى الإسماعيلية لتسلم فيها عمله الجديد، وكان مخلصا فى عمله ينتزع إعجاب جميع رؤسائه، وكان يقضى أوقات فراغه فى التلاوة والرياضة والمطالعة، حتى إذا أرخى الليل سدوله ذهب إلى ((زاوية الحاج مصطفى بالعراقية)) ليعظ فيها من المغرب إلى العشاء من تجمع من طلاب العلم وأهل الخير، وبعد ذلك يخرج إلى المقاه ليعظ جمهورها ويسمعهم كلمة الحق ويلقى فى قلوبهم أشعة الإيمان، وكان هدفه من كل هذا دراسة مجتمع الإسماعيلية وما فيه من تيارات وإتجاهات لغرض فى نفسه وعهد قطعه مع ربه على أن يجمع قوى الخير ويربط بينها برباط العقيدة، ويوجه هذه القوى الوجهة التى تعود على الأسلام بالخير وتصلح حال المسلمين 0
... نتيجة لهذه الجهود التف حول ((حسن البنا)) جمع خفير وأعجب به كل من رآه أو سمعه وكانوا يسألونه فى خلواتهم هذا السؤال ((ولكن ما هو السبيل؟ وأخيرا زاره فى منزله ستة من المؤمنين وطلبوا منه أن يحدد لهم الطريق العملى لإستعادة مجد الإسلام وعزة المسلمين، فشكر لهم هذه الروح الطيبة وطلب منهم أن يبايعوا الله على أن يكونوا جنودا لدعوة الإسلام ففيها حياة الوطن وعزة الأمة، وكانت بيعه ... . وكان قسما أن نحيا إخوانا نعمل للإسلام ونجاهد فى سبيله 0
... وهكذا ولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة حول هذه الفكرة وعلى هذه الصورة وبهذه التسمية 0(1/251)
... ووضع الحجر الأساسى لدار الإخوان المسلمين ومسجدهم فى الإسماعيلية فى 5محرم 1348 هـ وتوالت بعد ذلك افتتاح شعب للإخوان فى منطقة الإسماعيلية والسويس، أما فى القاهرة فقد قررت ((جمعية الحضارة الإسلامية)) أن تنضم بمركزها وجميع فروعها إلى ((جماعة الإخوان المسلمين)) إيمانا منها بأن وحدة الصف الإسلامى وضم الجهود الخيرة بعضها إلى بعض أفضل من التفرقة والعمل تحت أكثر من اسم أو لافتة وبذا نشأت أول شعبة للإخوان فى القاهرة والتى ما لبثت أن نمت وإزداد نشاطها وأصبحت فيما بعد المركز العام للإخوان المسلمين، وكان ذلك فى عام 1932 للميلاد 0
... زواجه :
... لقد أعجب أهل الإسماعيلية بالأستاذ (حسن البنا) أيما إعجاب وخاصة المؤمنين منهم، وكان من بين هؤلاء (الحاج حسين الصولى) من وجهاء الإسماعيلية إذ كان يقف إلى جانب الأستاذ البنا ويشد أزره ويساعد فى كثير من الأمور، وكان له عدد من الأولاد كلهم من الإخوان المسلمين، فأحب الحاج حسين أن تتم الألفة بينهم فزوجه من إحدى بناته، وكان زواج الأستاذ البنا من ابنة الحاج حسين ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان من عام 1351هـ، فكانت أمرأة مؤمنة محتسبة كانت مع الأستاذ البنا فى السراء، والضراء وهذه سنة الله أن (الطيبات للطيبين)0
... ولما اطمأن الأستاذ البنا على دعوته فى الإسماعيلية، وجد أن وجوده فى القاهرة أفضل من بقائه فى الإسماعيلية لأنها مركز كل نشاط، ولذا لابد أن يكون للإسلام نشاط بارز فيها، ولهذا طلب الانتقال إلى القاهرة رسميا، فنقل إليها فى أكتوبر عام 1932 . وبانتقال الأستاذ البنا إلى القاهرة بدأ عهد جديد بالنسبة لدعوة الإخوان اتسم بالتوسع والانفتاح فقوى المركز العام، وإزداد نشاطه وزادت شعب الإخوان فى طول مصر وعرضها حتى بلغت حوالى الفى شعبة فى مصر وحدها عدا شعبهم فى معظم البلاد العربية والإسلامية0
2- استشهاده :(1/252)
... كان حسن البنا خاصة والإخوان بشكل عام شوكة فى حلق فاروق وزبانيته، وصخرة شامخة فى وجه الاستعمار والصهيونية وأذنابهم، ولقد حاول الانجليز وفاروق النيل منه ومن إخوانه تارة بالمساعدات المادية والعروض المغرية وتارة بالتهديد والفصل من الوظيفة والنقل إلى الأماكن النائية، وتارة بالاعتقال والسجن إلا أن ذلك ما كان يزيده (رحمه الله) إلا ثباتا على دعوته وشحذا لعزيمته فكان يزيدهم ذلك حقدا وحنقا عليه، وقد تطور هذا الحقد إلى تصميم للتخلص منه رحمه الله ظنا منهم أنه إن مات ماتت دعوته بموته، وأخيرا تآمر الاستعمار والصهيونية على اغتياله، فاغتيل أمام جمعية الشبان المسلمين فى القاهرة، وبالرغم أن إصابته لم تكن قاتلة إلا أنه لما نقل إلى – المستشفى لم يسعف وبقى كذلك حتى توفى رحمه الله. وكان استشهاده فى 12 من فبراير 1949 وقد بلغ من العمر الثانية والأربعين، وسارت جنازته متواضعة لا يحمل نعشها إلا النساء ولا يسير خلفها إللاى والده محاطا بحملة السلاح من زبانية فاروق الذين إغتالوا (حسن البنا) ليقدموه هدية له يوم عيد ميلاده، ولما اطمأن فاروق أن حسن البنا قد مات يروى عنه أنه قال (الآن إستقر عرشى) وقد طويت قضية مقتله ولم يحقق فيها التحقيق اللازم لأن الخصم فيها هو القاضى وسجلت قضية مقتله ضد مجهول 0
... لم يمت حسن البنا وإنما انطلقت مبادؤه من إطارها الذى التزمته حينا وتحررت الفكرة الإسلامية من نطاق اللحم والدم لتواصل أمرها فى آخرين، إنطلقت الفكرة من قلب واحد لتربو من جديد فى قلوب هيأها لها الله على قدر، أما الإطار الطاهر والجسم العزيز فقد رد إلى أهله، ليخرج من هذه الدنيا متواضعا يسير المظهر كما دخلها متواضعا يسير المظهر وكما عاش فيها كذلك، وساهمت الحكومة المتحضرة فى هذا التواضع واليسر فحرمت على المشيعين أن يقربوه ورأى الناس يؤمئذ عجبا فى الجنازات، رأوا نعشا يحمل لأول مرة فى تاريخ البشر على أعناق النساء 0(1/253)
... وفى وحشة الشارع المقفر من الغادى والرائح، إلا من هذه الجنازة المتمهلة الفريدة، إرتجت المنازل على الجانبين وأجهشت النوافذ والشرفات بالبكاء وهم يرون حسن البنا العظيم، يحمل على كتف زوجته وابنته إلى مقره الأخير 0
... واستشهد حسن البنا وبقيت دعوة الله بعده وقد زادها استشهاده أنصارا كما زادها صلابة وقوة،؛ وذهب فاروق وبقيت دعوة الإخوان صامدة شامخة 0
قول فصل
... (( بل نقذف بالحق على الباطل،
... فيدمغه 00 فإذا هو زاهق0000
ولكم الويل مما تصفون ))
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (سورة الأنبياء : 18)
... جاء فى المذكرة التى كتبها الإمام الشهيد حسن البنا قبيل إستشهاده مفندا بها أسباب الإتهامات الباطلة، التى انتحلتها حكومة السعديين للكيد للإخوان وتدبير قرار الحل الغاشم الذى استصدرته ضد القانون والدستور عام 1948 وقد عنونت هذه المذكرة بعنوان ((قول فصل))0
... وهذه المذكرة العظيمة، رغم أنها تعالج موقفا سياسيا بين جماعة مغلوبة على أمرها قد حلت بأمر عسكرى للعملاء بوحى من سادتهم المستعمرين، وتدبير من الصهيونية العالمية على أثر إنتكاس حرب فلسطين وتوقيع معاهدة (رودس) والاشتراط فى أحد بنودها بتعهد الدول العربية (بحل جميع الهيئات الدينية المتطرفة- فى زعمهم) - والإخوان بالطبع على رأس هذه الهيئات التى تحارب اليهود فى فلسطين. ورغم أن الموضوع يقتضى أن يعالج بصورة فيها بعض المهادنة للوصول إلى تحقيق مصلحة الجماعة فى الخروج من مأزق محنة مدبرة على أوسع حدود وأبعد من حدود مصر ذاتها 000 رغم كل هذا فإنى أسجل هنا سطورا من هذه المذكرة ليقف الأخ المسلم أو كل مسلم على حقيقة الإيمان وعظمة العقيدة الإسلامية 0
... يقول الإمام الشهيد فى صفحة 29 من ((قول فصل)) : (1)
__________
(1) طبعة مطبعة دار الملوك – القاهرة – ديسمبر سنة 1950 0(1/254)
... (ولا ننسى فى هذا المضمار عمل الأصابع الخفية والدسائس من ذوى الغايات الذين خاصموا هذه الدعوة من أول يوم وتربصوا بها الدوائر. حتى أمكنتهم منهعا الفرصة وساعدتهم الظروف فأحكموا الخطة ودأبوا على التدبير والكيد حتى وصلوا فى النهاية إلى ما يريدون فاليهودية العالمية والشيوعية الدولية والدول الاستعمارية وأنصار الإلحاد والإباحية، كل هؤلاء من أول يوم يرون الإخوان ودعوتهم السد المنيع الذى يحول بينهم وبين ما يريدون من باطل وفوضى وإفساد ولا يألون جهدا فى معاداتهم بكل ما يستطيعون وهم لم يستطيعوا كتمان شعورهم هذا ولا إخفاء سرورهم وفرحهم لنجاح خطتهم حين أعلن قرار الحل فأقاموا المآدب وأولموا الولائم وتبادلوا التهانى وجعلوه يوما من أيام المواسم والأعياد – وهكذا أقرت الحكومة المصرية بهذا التصرف أعين الضالين المضللين بالعدوان على المؤمنين العاملين فإلى الله المشتكى والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون – وتلك الأيام نداولها بين الناس ولله عاقبة الأمور ) 0
... وكتب الإمام الشهيد فى الصفحة 41 من نفس المذكرة تحت عنوان : من الذى يفعل هذا ويحكم به ؟(1/255)
... الحكومة المصرية التى أخفقت فى المفاوضات مع الإنجليز فقطعتها وذهبت إلى مجلس الأمن فعادت يخفى حنين وتركت قضية الوطن على رفوفه فى زوايا الإهمال والنسيان وتجاهلت الإنجليز بعد ذلك تجاهلا تاما وتركتهم يفعلون ما يريدون حجتى أضاعت بهذا التجاهل السودان وأتبعت سياسة التردد والاضطراب فى قضية فلسطين. وقبلت الهدنة الأولى فأضاعت بهذا القبول كل شىء، وحرمت الجيش المصرى الباسل ثمرة إنتصاره وأفقدت الوطن ملايين الأموال وآلاف الرجال فضلا عن فقدان الكرامة وسوء الحال والمال – ودللت يهود مصر ((فلم تتخذ أى إجراء يتفق مع موقفهم من مناصرة أعداء الوطن)) التى يعيش فيها الأجنبى آمنا مطمئنا على نفسه وماله وعبثه وفساده ويحمى جنودها حانات المسكرات وبيوت العاهرات ودور المنكرات وأبواب المراقص والبارات – والتى عجزت كل العجز عن إنقاذ شعبها من براثن الفقر والمرض والجهل والغلاء الفاحش الذى يئن منه الأقوياء فضلا عن الضعفاء – والتى لا يؤيدها ولا يساندها إلا نفر قليل ضئيل من أصحاب المصالح الشخصية فهىن فى واد والأمة فى واد. هذه الحكومة هى التى تطارد الإخوان المسلمين وهم الشعب وتحكم عليهم بالإجرام والنفى والتشريد ومصادرة الأموال والأملاك والحريات0
... ولو أخذت الأمور وضعها الصحيح وكانت الكلمة للحق لا للقوة لحاكمناكم يا أيها المفرطون على التفريط، ولحسابناكم على هذا العجز أشد الحساب ولكن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة. ((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) 0(1/256)