مواقف إيمانية
الشيخ :عبد الظاهر عبد الله علي
بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف إيمانية
(( ثواب الطاعة وعقاب المعصية ))
يقول الله في كتابه الكريم (( وإذ قال موسى لقومه أن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذُ بالله إن أكون من الجاهلين قالوا أدع لنا ربك يبين ما هي ؟ قال أنه يقول أنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تأمرون. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال أنه يقول أنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين. قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ماهي أن البقر تشابه علينا وأنا أنشاء الله لمهتدون. قال أنه يقول أنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالو ألن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون . وإذا قتلتم نفساً فأدار أتم فيها والله مخرج ما ما كنتم تكتمون فقلنا أضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون )) البقرة الآيات 67 - 73.(1/1)
تشير هذه الآيات إلى حادث وقع في بني إسرائيل [ كما ذكره الإمام القرطبي في تفسيره ] وهو أن رجلاً كان غنياً من بني إسرائيل ولم يكن له ذرية وكان له أبن أخ فقير فطمع في ميراثه فقتله وألقى به في حي من أحياء قومه [ محلة بني قلان ] وأدعى قتله على بعض الأسباط ل[ قال عكرمة وكان لبني إسرائيل مسجد له أثنى عشر بابا لكل قوم باب يدخلون منه فوجدوا قتيلاً في سبط من الأسباط فأدعى هولاء على هولاء ] فتدافعوا فيما بينهم قتله ثم أتوا موسى عليه السلام يختصمون إليه فقال (( أن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة )) فكان جوابهم لموسى عليه السلام أن قالوا أتتخذنا هزواًُ فكان جوابه عليهم (( أن استعاذ بالله أن يكون من الجاهلين )) لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء وهذا قول لا يجوز أن يقال لنبي ظهرت معجزته لقومه [ وكان الواجب عليهم إن يمتثلوا للأمر ولكنهم لقلة طواعيتهم وتعنيتهم لم يمتثلوا ولو أنهم امتثلوا الأمر وذبحوا أي بقرة كانت لحصل المقصود، ولكنهم شدوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ] وعلى عادة بني إسرائيل في اللجاجة قالوا لموسى أدع لنا ربك يبين لنا ماهي ؟ فأجابهم بأن الله تعالى يقول: أنها بقرة لا كبيرة ولا صغيرة ولكنها متوسطة بين الأمرين وحدد لهم الأمر ونبههم على ترك التعنت وكما هو الشأن في بني إسرائيل أعادوا السؤال قائلين: أدع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟ فأجابهم بأن الله تعالى يقول لهم [ إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين أنها بقرة لونها أصفر شديد الصفرة حين يراها الناظرون تدخل عليهم مسرة في نفوسهم لشدة ملاءمتها لمن يراها ] فلما سألوا موسى بعد ذلك عن تحديد ماهية تلك البقرة لاشتباه كثير من البقر في تلك الأوصاف أجابهم موسى عليه السلام بأن الله تعالى يقول إنها بقرة لم يذللها العمل لأنها بقرة وحشية فلا هي مذللة ولا هي مدربة على حرث الأرض أو سقي الزرع وهي خالصة اللون لا تشوبها في لونها علامة ، فأجابوه قائلين : الآن(1/2)
جئت بالحق فكأن الذي قاله من قبل لم يكن حقا ولم يستيقنوه إلا الآن ولم يجدوا هذه الصفات في بقرة من البقر إلا في بقرة واحدة لولد من بني إسرائيل كان أبنا لرجل صالح منهم وكان يعمل حطابا فولد له ولد وكانت له عجله فأرسلها في غيضه في الجبل وقال : اللهم أني أستودعك هذه العجلة لهاذا الصبي ومات الرجل وابنه صغير ، فلما كبر الصبي قفالت له أمه وكان براً بها إن أباك أستودع الله عجلة لك فأذهب وخذها فذهب ، فلما رأته البقرة جاءت غليه حتى اخذ بقرنيها وكانت مستوحشة فأخذ يقودها نحو امه ، فلقيه بنو أسرائيل ووجدوا البقرة التي على الصفة التي أمروا بذبحها فساموه فأشتط عليهم وكانت قيمتها ثلاثة دنانير فأتوا به موسى عليه السلام فقالوا أن هذا أشتط علينا . فقال لهم : أرضُوه في ملكه فأشتروها منه بوزنها عشر مرات ذهب وقيل بملء جلدها دنانير . فأخذوها وذبحوها وأخذ لسانها وضربوا به القتيل فأحياه الله وأخبر عمن قتله فقيد منه وحاق به فكره السجاء ولم ينل من دينهولا من ميراثه شيئاً وإلى هنا نقف لنأخذ العبر من القصة واول العبر هو أن العمل الصالح ينفع الله به الذرية ويبقى أثره ممتدا الى الاجيال المتعاقبة فقد كان الرجل الصالح الحطاب فقيراً لم يملك شيئاً إلا هذه العجلة التي لا تكاد في دنيا الناس تساوي شيئاً إلا ثلاثة دنانير فبيعت بوزنها أو بملء جلدها دنانير ليصير أبنه من أثرياء بني إسرائيل ولم يكن ذلك بجهد منه ولا من ولده وانما كان نتيجة العمل الصالح الذي كان عليه أبوه كما قال سبحانه وتعالى (( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا غليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا)) [ وشبيه بهذا ما قصه الله تعالى في قصة الجدار الذي كان في القرية لليتيمين الذي كان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً في لقاء موسى مع العبد الصالح في سورة الكهف فأراد ربك ان يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وقيل أنه كان الجد السابع(1/3)
لهما فأنظروا كيف أمتد أثر عمله الصالح للجيل السابع من ذريته .
وثاني العبر أن الله تعالى إذا أستودع شيئاً حفظه ونماه وبارك فيه فلن يدركه تلف ولن نلحقه خسارة فا قيمة عجلة صغيرة أستودعها الوالد الكبير الفقير لولد صغير يتيم ضعيف وسط غيضة في جبل فحماها الله من الوحوش والسباع حتى كبر ولده وثالث العبر أن عقاب المعصية لن يفلت منه أصحابها وان المكر السيء لا يحيق إلا باهله وأن من يزرع الشر لا يحصد إلا الندامة [ وأن من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا ] فهذا الذي قتل عمه يريد أخذ ديته وأن يرث ماله قد فضح الله أمره وأظهر فعله فلم يجد إلا الفضائح بين قومه ولم ينل ما يتمنى من المال والميراث ولو أنه صبر ولم يتعجل نصيبه لأثاره حلالا ولكنه تعجله بالمعصية فحرم منه كما يقول صلى الله عليه وسلم : إن العبد ليحرمالرزق بالذنب يصيبه [ وكما قال سبحانه (( إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون )) فحل به العقاب بما ارتكب من معاصي وبما أقترف من خطايا فأنظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ] .
ورابع العبر هو ما جبل عليه بنو إسرائيل من اللجاجة والتشدد وعدم الأمتثال لأمر الله وأنهم شددوا فشدد الله عليهم حتى قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أو أشد قسوة .
وخامس العبر هو قدرة الله وبيانه كيف يحيي الله الموتى ليري الناس آياته ويؤمنوا بأن البعث حق بعد الموت وأن الله يبعث من في القبور حتى يستعد الناس ليوم تذهل فيه المرضعة عما أرضعت وتضع فيها الحامل حملها .
وسادس العبر أن الله أحيا القتيل فأخبر عمن قتله ليمحوا الريب وليزيل الشكوك التي أحاطت بمقتله ليحق الحق ويبطل الباطل بأوثق البراهين وأقوى الأدلة ، والله الهادي سواء السبيل .
وسابع العبر أن الشح والبخليولدان الحقد والبغضاء والكراهية والعداوة .
بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف إيمانية
(( الدعاء المستجاب ))(1/4)
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )) البقرة ىية 186 .
فعن أبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعائنا يا محمد وانت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام وغلظ كلّ سماء مثلُ ذلك ؟ فنزلت هذه الآية .
وقال الحسن : سببها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فننادية ؟ فنزلت ، وقال عطاء وقتادة لما نزل قوله تعالى (( وقال ربكم أدعوني أستجب لكم )) غافر 60 قال يا قوم : في أي ساعة ندعوه ؟ فنزلت أي إذا سألك عبادي عن المعبود فاخبرهم يا محمد أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي وأنه قريب من اوليائه بالإفضال والأنعام ، لقد امر الله عباده بالدعاء وحض عليه وسماه عبادة ووعد بانه يستجيب لهم فعن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبياً قال : أدعني أستجب لك . وقال لهذه الامه أدعوني أستجب لكم ، وكان الله إذا بعث نبياً قال له : ما جعل عليك في الدين من حرج . وقال لهذه الامة : ما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث نبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الامه شهداء على الناس .
وللدعاء شروطه وآدابه حتى يستجيبه الله تعالى وأولها أجتناب الاعتداء المانع من الاجابة حيث قال في آية اخرى (( أدعوا ربكم تضرعا وخفيه أنه لا يحب المعتدين )) ولا يدعوا الداعي بأثم أو قطعية رحم وما لم يستعجل وإلا يأكل الداعي الحرام ففي الحديث (( ما بال الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له ذلك .(1/5)
وقد قال العلماء أن اجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وف ياليء المدعوا به ، فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأنه لا يقدر على حاجته إلا الله تعالى وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره وأن يدعوا بنية صادقة وحضور قلب فأن اللهع تعالى لا يستجيب من قلب غافل لاه ، وأن يكون مجتنباً لأكل الحرام ، والا يمل من الدعاء ، ومن شرط المدعو فيه ان يكون من الامور الجائزة الطلب والفعل شرعا كما قال مالم يدع بإثم أو قطعية رحم فيدخل في الأثم كل ما يأثم به من الذنوب ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم ، وأما شروط الدعاء فسبعة أولها التضرع والخوف والرجاء والمرؤه والخشوع والعموم وأكل الحلال وقال أبن عطاء أن للدعاء أركان واجنحة وأسبابا وأوقاتا فأن وافق أركانه قوي وأن وافق أجنحته طار في السماء وأن وافق مواقيته فاز وإن وافق أسبابه نجح فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع وأجنحته الصدق ومواقيته الأسحار وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم [ وقيل شرائط الدعاء أربعة أولها حفظ القلب عند الوحدة وحفظ اللسان مع الخلق وحفظ النظر الى ما لم يحل وحفظ البطن من الحرام .(1/6)
وقد قيل لإبراهيم بن آدهم ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا ؟ قال لأن قلوبكم قد ماتت . قالوا وما الذي أماتها ؟ قال عشر خصال قالوا وما هي ؟ قال عرفتم حق الله ولم تطيعوه ، وعرفتم حق الرسول ولم تتبعوا سنته ، وعرفتم القرآن ولم تعملوا به ، واكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها ، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها ، وعرفتم النار فلم تهربوا منها ، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه ، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له ، ودفنتم الاموات ولم تعتبروا ، وتركتم عيوبكم وأشتغلتم بعيوب الناس فأسخطتم ربكم وخالقكم فكيف يستجيب الله بعد ذلك لدعائكم والدعاء المطلوب في كل الاوقات غير أنه في بعض الأوقات أكبر ومن هذه الاوقات السجود وعند الاذان والاقامة وبينهما في السحر وعند جلوس الخطيب بين الخطبتين ويوم الجمعة وعند نزول المطر وعند التقاء الجيشين وفي الثلث الاخير من الليل وفي المرض وفي السفر وليلة النصف من شعبان وليلة لبقدر وفي الصيام وليلتي العيدين ويوم عرفة وهو في بعض الاماكن أجدر بالقبول في المساجد وعند قبر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وفي الروضة الشريفة وفي المسجد الحرام وفي المسجد الاقصى وفي مقام ابراهيم وفي حجر أسماعيل وفوق عرفات وعند الملتزفة ، والدعاء مقبول ولكن هناك دعوات لا يردها الله تعالى وهي دعوة الصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم ودعوة المرء الى اخية في ظهر الغيب ودعوة الوالد لولده او عليه ودعوة الأمام العادل ودعوة المسافر ودعوة الغائب للغائب ودعوة الرسل والانبياء والصالحين والدعاء باسم الله الاعظم والدعاء بالمأثور من القرآن والسنه وآثار الصالحين .
[ والدعاء تتنوع الاجابة له فقد يعطي المرء مطلوبه وقد يرفع الله عنه به مكروها وقد يدحز له من الكرامة في الاخرة ما هو في حاجة أليه وخيردعوة هي ما ادخرها رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفاعة لأمته يوم القيامة فهي نائله أن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً .(1/7)
ومن المواقف الايمانية في الدعاء المأثور أن نبي الله موسى عليه السلام كان يرعى غنم الرجل الصالح الذي أستأجره ( نبي الله شعيب ) فنزل بها يوما في واد يقال له وادي الذئاب ، ونظر حوله فأذا بالذئاب تحيط بغنمه من كل جانب وقد أدركه التعب والنصب ولم يقو على رعيها فأتجه الى الله يدعوه دعاء المضطر قائلا اللهم أحاط سبعة علمك وسبعة تدبيرك وتفدت ارادتك وكلت حيلتي وأنت تعلم أني مؤتمن عليها رعها لي والقى بعصاه ونام فلما أستيقظ وجد الذئاب تحيط بغنمه حتى لا تشرد منها الشاه ووجد كبير الذئاب وقد أمسك بعصاه ، فقال ألهي وسيدي ما هذا الذي أراه ؟ فقال الله تعالى يا موسى لا تعجب مما ترى يا موسى كن لي كما أريد أكن لك ما تريد .
3 مواقف إيمانية
(( التجارة التي لن تبور ))
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون )) الآية 245 سورة البقرة .(1/8)
عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : لما نزلت ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) قال أبو الدحداح : يا رسول الله أو أن الله يريد منا القرض ؟ قال : نعم يا أبا الدحداح ، قال أرني يدك ، قال : فناوله ، قال : فأني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة . وفي رواية لزيد بن أسلم قال أبو الدحداح فداك أبي وأمي يا رسول الله : أن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض ؟ قال نعم يريد إن يدخلكم الجنة به قال: فأني أن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي معي الجنة ؟ قال :نعم ، قال ناولني يدك ، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال : أن لي حديقتين أحدهما بالسافلة والأخرى بالعالية والله لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا لله تعالى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجعل إحداهما لله والاخرى معيشة لك ولعيالك . قال : فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى وهو حائط: أي بستان : فيه ستمائة نخلة . قال ك إذاً أيجزيك الله به الجنة زفأنطلق ابو الدحدوح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فناداها قائلا : خذي أولادك وأخرجي من البستان فقد اقرضته ربي [فأنشأ يقول : هداك ربو السبيل الرشاد إلى سبيل الخير والسداد
بيتي من الحائط بالوداد فقد مضى قرضا إلى التناد
أقرضته الله على أعتماد بالطوع لا من ولا أرتداد
إلا رجاء الضعف في المعاد فأرتحلي بالنفس والاولاد
والبر لا شك فخير زاد قدمه المرئ على المعاد
فقالت له ربح بيعك بارك الله لك فيما أشتريت ، ثم أجابته وأنشأت تقول
بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ونصح
قد متع الله عيالي ومنح بالعجزة السوداء والزهور والبلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح(1/9)
ثم اقبلت ام الحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في اكمامهم حتى افضت إلى الحائط الاخر فقال صلى الله عليه وسلم : كم من عزق رداح وداد فياح لأبي الدحداح ، إن المال لا يذهب بالانفاق ، أنما هو قرض حسن لله مضمون عنه يضاعفه أضعافاً كثيرة يضاعفه في الدنيا مالاً وبركه وسعادة وراحة ، ويضاعفة في الاخرة نعيما ومتاعا ورضاً وقربى من الله ذلك لأن مرد الغني والفقير إلى الله لا إلى الحرص والبخل ولا الى البذل والانفاق ، وأذن فلا فزع من الموت ولا خوف من الفقر ولا مفر من الرجوع إلى الله وهو الذي يرث الارض ومن عليها واليه المرجع والمآب .
ولما نزلت هذه الآية [ أنقسم الناس إزاءها ثلاثة أقسام فريق وهم اليهود قالوا : إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء فسمع بعضهم أبو بكر فلطمه على وجه فشكاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى قوله : لقد سمع الله قول الذين قالوا أن الله فقير ونحن الأغنياء سنكتب ما قالوا . وسلى المؤمنين بقوله سبحانه (( ليبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا أو تنفقوا فأن ذلك من عزم الامور )) والفرقة الثانية هي التي أثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسير ولا أعانت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار .(1/10)
وأما الفرقة الثالثة فحين سمعت الدعوة إلى الأنفاق بادر المجنون منهم بالمسارعة لبذل المال كأبي الدحداح وغيره وهؤلاء كثير لأنهم علموا أن ما عندهم ينفد وما عند الله باق وتأكدوا بأن من في الدنيا ضيف وما في يده عارية والضيف مرتحل والعارية مؤداة وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي أنفق كل ماله ثلاث مرات وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله في كل مرة ما ذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر فكان جوابه : أبقيت لهم الله ورسوله . ومن هنا قال فيه صلى الله عليه وسلم : وما نفعني مال أحد قدر ما نفعني مال أبو بكر وما لأحد عندنا يد إلا كافأناه عليها إلا أبو بكر فأن له عندنا يد تسأل الله تعالى أن يكافأه عليها وحين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أول من يأخذ كتابه بيمينه يوم القيامة عمر بن الخطاب تعجب الصحابة وقالوا وأين أبو بكر يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إن أبا بكر ليس له كتاب وأنه سيدخل الجنة بغير حساب لأنه أعطى الله تعالى بلا حساب .(1/11)
وهذا هو عمر في يوم الحسرة يقدم نصف ماله لتجهيز جيش العسرة ويتابعهما عبد الرحمن بن عوف وكان من التجار الميمونين القنوعين الذين يرى الله لهم في تجارتهم وكان كثير الصدقات وقد تصدق بماله كله أكثر من مرة وكان يكتب قائمة بتوزيع ما عنده من ثياب ومتاع على أخوانه المحتاجين قبل أن ينام ثم ينفذ ذلك إذا أصبح عليه الصباح ثم ينزل الى السوق وليس لديه الا الثوب الذي عليه ولقد كان عثمان بن عفان رضي الله عنه من هؤلاء النفر الذين باعوا الدنيا وأشتروا الاخرة وقد كان من الأسخياء والأغنياء وقد بلغت نفقاته في يوم العسرة أن قام بتجهيز ثلث الجيش وحده وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرة ذهب حتى قال صلى الله عليه وسلم عنه وهو يقلب فيها ما ضر أبن عفان ما صنع بعد اليوم اللهم أرض عن عثمان فأني عنه راض . وقد حدث في خلافة أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن أصاب الناس قحط فلما أشتد بهم الامر ذهبوا إلى الخليفة وقالوا يا خليفة رسول الله أن السماء لم تمطر والأرض لم تنبت وقد توقع الناس الهلاك فماذا نصنع ؟ فقال لهم اصبروا فانى أرجوا الامور حتى يفرج الله عنكم فلما كان آخر النهار وردت الأنباء بأن بعيراً لعثمان أبن عفان قد قدمت من الشام وتصبح بالمدينة فلما جاءت خرج الناس يتلقونها فإذا هي ألف بعير محملة بُرًّ وزيتا وزبيبا فأناخت بباب عثمان فلما جعل أحمالها في داره جاءه التجار فقال لهم ماذا تريدون ؟ فقالوا أنك لتعلم ما نريد بعنا من هذا الذي وصل أليك فأنك تعلم حاجة الناس إليه فقال عثمان كم تربحونني على شرائي ؟ قالوا : الدرهم درهمين . قال أعطيت زيادة على هذا ، قالوا أربعة قال أعطيت اكثر قالوا نربحك حمسة قال أعطيت أكثر فقالوا : ما في المدينة من تجار غيرنا ما سبقنا أحد أليك فمن الذي أعطاك أكثر مما أعطينا ؟ قال أن الله اعطاني بكل درهم عشرة فهل عندكم زيادة ؟ قالوا لا ، قال : فإني اشهد الله أني جعلت ما حملت هذه(1/12)
البعير صدقة لله تعالى على المساكين والفقراء ثم أخذ يوزع بضاعته فما بقى من فقراء المسلمين أحد إلا أخذ ما يكفيه واهله ، ذلك لأنه وأمثاله آمنوا بقول الله تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبه والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم والله هادي سواء السبيل .
**(( مواقف إيمانية )) **
(( حزم القيادة و عزم الجنود ))
يقول الله تعالى (( فلما فصل طالوت بالجنود قال أن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني و من لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو و الذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت و جنوده قال الذين يظعنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثرة بإذن الله و الله مع الصابرين )) ( البقرة الآية 249 ) و قصة هذا الموقف تبدأ من أن قوما من بني إسرائيل كانوا قد اعتدى عليهم من أعداء لهم فأخرجوا من ديارهم و سلبت بلادهم و أموالهم من بعد موسى فطلبوا من نبي لهم و هو (( سمعون )) أن يأذن الله لهم في القتال و الجهاد و أن يؤمروا به فأجابهم بقوله (( هل عصيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا )) فأجابوه على قوله و أي شئ يمنعنا من أن نقاتل في سبيل الله و حالنا أننا أخرجنا من ديارنا و بسبب ذراعينا ؟ و استجاب الله لطلب نبيهم و فرض عليهم القتال و الجهاد . فلما فرض عليهم القتال و رأوا الحقيقة و عادت أفكارهم إلى مباشرة الحرب و أن نفوسهم ربما قد تذهب تولوا و اضطربت نياتهم و فترت عزائمهم و هذا هو شأن بني إسرائيل , و الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب نكصت على عقبها و عادت لطبيعتها (( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم و الله عليم بالظالمين )) و قد أخبرهم نبيهم بأن الله قد اختار لهم ملكا و قائدا يقودهم إلى النصر و عينه لهم و هو طالوت و كان سقاءا أو دباغا و(1/13)
كان علما و كان من سبط بميامين و لم يكن من سبط النبوة و لا من سبط الملك و كان الملك في سبط يهوذا , و النبوة في سبط بني لآوى . و كما هي عادة بني إسرائيل في اللجاجة و الجدال قالوا : كيف يملكنا و نحن أحق بالملك منه لأننا من سبط الملوك و هو ليس كذلك و هو فقير أيضا فأجابهم بأن هذا هو قدر الله و اختياره (( أن الله اصطفاه عليكم )) و بين لهم علة اختيار الله له و أنه أعطى مرشحات و مؤهلات القيادة و هي أنه أوتى بسطة في العلم الذي هو ملاك الإنسان . و الجسم الذي هو معينه في الحرب و عدته عند اللقاء (( و الله يؤتي ملكه من يشاء )) و بين لهمك نبيهم أن علامة ملكه أن يأتيهم التابوت الذي هو علامة نصرهم و انه تكون فيه سكينة من ربكم و أن فيه بقية مما ترك آل موسى و آل هارون و هي عصا موسى و عصا هارون و عمامة هارون و ما تكسر من ألواح التوراة و أن الملائكة تأتي حاملة له إليهم كي يطمئنوا بتحقيق النصر . و نظر طالوت إلى فرقة جيشه و غلب على ظنه و فراسته أن هذا الجيش أشبه بجيوش الاستعراض التي لم تصقلها التجارب و لم تصفها المحن فأراد أن يجري تجربة لجيشه كي يميز الخبيث من الطيب و الغث من السمين فسار بهم أياما في الصحراء حتى أجدهم التعب و نال منهم الظمأ مبلغه ثم قال لهم : (( إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني و من لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده )) و معنى هذا الابتلاء أنه اختيار لهم فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك و من غلبته شهوته في الماء و عصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى و قد روى أنهم أتوا النهر و قد أنالهم عطش شديد و النهر في غاية العذوبة و الحسن . و قد رخص للمطيعين في اغتراف غرفة باليد ليرتفع عنهم بها أذى العطش و ليكسر نزاع النفس و هواها فماذا كانت نتيجة هذا الاختبار ؟ (( فشربوا منه إلا قليلا منهم )) و قد روى أن عدد جيش طالوت كان ثمانين ألفا فشرب القوم على(1/14)
قدر إيمانهم إذ شرب الكفار شرب الهيم و شرب العاصون دون ذلك و أنصرف من القوم ستة و سبعون ألفا و بقى بعض المؤمنين لم يشرب شيئا و أخذ بعضهم الغرفة , فأما من شرب فلم يرو بل زاد عليه الظمأ و من ترك الماء فحسنت حاله و كان اجلد منن أخذ الغرفة فلما جاوز النهر هو و المؤمنون معه و نظروا كثرة جيش جالوت و كانوا مائة ألف كلهم شاكوا السلاح (( قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت و جنوده )) فقال لهم المؤمنون الموقنون بالبعث و الرجوع إلى الله و هم الذين لم يشربوا أبدا و هم أولوا العزم منهم (( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين )) قال البراء بن عازب : كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه و كانوا ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا . و لما برزوا في المتسع من الأرض و كان جالوت أمير العمالقة و ملكهم و رأى المؤمنون كثرة عدوهم تضرعوا إلى الله و قالوا : (( ربنا أفرغ علينا صبرا و ثبت أقدامنا و أنصرنا على القوم الكافرين )) فأنزل الله عليهم السكينة و ثبت أقدامهم في مستنقع الموت و خرج داوود و كان أصغر القوم و وضع حجرا كان في مقلاعه و رمى به جالوت فأصابه فقتله و اجتز رأسه و جعله في مخلاته و اختلط الناس و حمل أصحاب طالوت على جند جالوت (( فهزموهم بإذن الله و قتل داوود جالوت و آتاه الله الملك و لحكمة و علمه مما يشاء و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن الله ذو فضل على العالمين )) هذه هي فراسة القيادة الحكيمة الملهمة من ربها الوثيقة الصلة بخالقها الحازمة في رعيتها التي تحي في معية الله و تلك هي عزيمة المؤمنين الذين اتقوا و الذين هم محسنون , العزيمة الصابرة المثابرة المرابطة المتقية المتوكلة على الله يحقق الله لها النصر و لو كان عدد أصحابها قليلا و لو كانت عدتهم أقل و لو كانوا ضعافا فالنصر دائما معقود بنواصيهم كما قال صلى الله عليه و سلم (( هل ترزقون و(1/15)
تنصرون إلا بضعافكم )) فتلك أسباب النصر التي نصر بها الأولون و هي معدومة عندنا و غير موجودة فينا , فاللهم ارزق أمتنا حزما في قيادتها و عزيمة في رعيتتها و جنودها ليزول ما حل من ظهور الفساد و كثرة الطغيان و قلة في الرشاد و عموم في الفتن و عظم في المحن و لا عاصم إلا من رحم الله ...
و الله الهادي سواء السبيل ...
الشيخ :
عبد الظاهر عبد الله علي
**(( مواقف إيمانية ))**
(( ثقة المؤمن بربه تجعله آمنا مطمئنا ))
قال الله تعالى(1/16)
(( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم )) آل عمران الآيات 172 - 174. تشير هذه الآيات وما قبلها من سورة آل عمران الى حادث وقع للمسلمين صبيحة اليوم التالي لمعركة أحد وهي المعركة التي أرادت قريش أن تأثر لقتلاها في بدر وكانت في منتصف شوال من السنة الثالثة للهجرة والتي خرج فيها رسول الله صلى اله عليه وسلم وأصحابه إلى قريش ووضع فيها الرماة على ظهر أحد ليحموا ظهور المسلمين من خلفهم وأمرهم ألا يبرحوا مكانهم إلا بإذن منه ودارت المعركة وأرى الله المؤمنين ما يحبون من النصر على قريش حتى ولت قريش الأدبار وسقط لوائهم وظن الرماة أن المعركة قد انتهت فنزلوا يجمعون الغنائم فأتاحوا الفرصة لخيل قريش بقيادة خالد بن الوليد يومها فاعمل السهام في ظهور المسلمين ودارت الدائرة عليهم وقتل منهم سبعون شهيدا وجرح الرسول وكثير من المسلمين واكتفت قريش بهذا النصر المحدود على المسلمين وقفلوا راجعين إلى مكة وعاد الرسول والمسلمون معه إلى المدينة وباتوا ليلتهم وفي الصباح اذن مؤذن الرسول في الناس باتباع المشركين وقال (( لا يخرج معنا إلا من شهدها بالأمس )) فنهض معه مائتا رجل من المؤمنين فقال من يذهب في أثرهم فانتدب منهم سبعين رجلا حتى بلغ حمراء الأسد مرهبا للعدو فربما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشي ولا يجد مركوبا فربما يحمل على الأعناق وكل ذلك امتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبة في الجهاد حتى بلغوا حمراء الأسد فلقيهم نعيم بن مسعود فأخبرهم أن أبا سفيان بن حرب ومن معه من قريش قد جمعوا جموعهم واجمعوا امرهم على ان ياتوا الى المدينة فيستأصلوا أهلها فقالوا ما اخبرنا الله عنهم (((1/17)
حسبنا الله ونعم الوكيل )) وبينما قريش قد اجمعوا على ذلك اذ جاءهم معبد الخزاعي وكان قد رأى حال أصحاب النبي وما هم عليه. ولما رأى عزم قريش على الرجوع ليستأصلوا أهل المدينة فقال مخوفا لقريش: "قد تركت محمدا وأصحابه في حمراء الأسد في جيش عظيم قد اجتمع له كل من كان تخلف عنه وهم قد تحرقوا عليكم فالنجاة النجاة فإني أنهاكم عن ذلك فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه وقذف الله في قلوبهم الرعب ورجعوا إلى مكة خائفين مسرعين ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منصورا كما قال الله تعالى (( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء )) أي لم يصبهم قتال ورعب وأخبرهم سبحانه أن الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه القفلة1 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إنها غزوة )) وفي هذه الآيات يتحدث القرآن عن المؤمنين الذين يستبشر الشهداء في الواقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم فيعين من هم ويبين خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم: إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول إلى الخروج من كرة أخرى غداة المعركة المريرة وهم مثخنون بالجراح وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس من المعركة وهم لم ينسوا بعد هول المعركة ومرارة الهزيمة وشدة الكرب وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا فقل عددهم فوق ما هم مثخنون بالجراح، ولكن رسول الله دعاهم وحدهم ليزيل بهم آثار العدوان ويمحو بهم عار الهزيمة ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم فاستجابوا لدعوة رسول الله وهي دعوة الله فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ولم يفت في عضدهم ما وجه إليهم من حرب إشاعات تستهدف النيل من معنوياتهم أو تنال من صمودهم بل ظلوا كالجبال الشم الراسيات التي لا تنال منها الريح الهوج بل قالوا (( حسبنا الله ونعم الوكيل )) لم تلن لهم قناة ولم تنحن منهم الجباه ولم تخر قواهم ولم تضعف عزائمهم ولم يتلمسوا طريقا للهرب. ولقد كانت دعوة رسول الله لهم للخروج من أعقاب المشركين تحمل إيحاءات(1/18)
شتى إذ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم هو شعور الهزيمة فاستنهضهم لتعقب قريش كي يقرر في أخلادهم وأذهانهم أن ما حدث لهم ما هو إلا تجربة وابتلاء وليس نهاية المطاف وأنهم بعد ذلك أقوياء وأن خصومهم هم الضعفاء أن الكرة لهم على عدوهم غدا كما أراد عليه السلام بدعوتهم للخروج أن يعلن لقريش أنهم ما نالوا شيئا من المسلمين حتى لا تغتر بما نالت من نصر وأن يجهض على بقية الغرور في مخيلة قريش وقد تحقق له ذلك على أعدائه، كما أراد عليه السلام بالخروج أن يشعر الدنيا بالحقيقة الكبرى التي ولدت على ظهر الأرض وهي حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها وهي عقيدة التوحيد ولم يكن هناك أقوى من التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ومن خروجهم على هذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بما قاله الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم كما أبلغهم عملاء أبي سفيان والمنافقون، إن خروجهم وقولهم حسبنا الله ونعم الوكيل على ما بهم من جراح كان أعظم برهان على الإيمان قد ملأ قلوبهم وخالط لحمهم ودمهم فلم يبق فيهم لغير الله شيء ولقد دعاهم إيمانهم بالله وحده أن يؤمنوا بأن القدر يصيب العزيز وله أجره وأنه يصيب الذليل وعليه وزره فأقبلوا على الموت غير هيابين له حريصون على الموت أكثر من حرصهم على الحياة هذا ما دعاهم أن يرددوا قول إبراهيم حينما ألقي به في النار وقول محمد حينما تآمر عليه الخصوم من كل حدب وصوب (( حسبنا الله ونعم الوكيل ))
والله الهادي سواء السبيل...
"مواقف إيمانية"
"التوكل على الله هو خاصية الإيمان و علامته"(1/19)
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما و دخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون و على الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين )) (الآية 23 من سورة المائدة) . تشير هذه الآية و الآيات التي قبلها من أول قوله تعالى (( و إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء و جعلكم ملوكا و لآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين )) ( الآية 20 من صورة المائدة ) و إلى قوله تعالى (( قال فإنها محرمه عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين )) ( الآية 26 من سورة المائدة ) .
تشير هذه الآيات إلى موقف بني إسرائيل من ربهم و من نبيهم موسى عليه السلام الذي بعث لإنقاذهم من الذل و كيف كان كفرهم بنعم الله عليهم ( و كيف نقضوا ميثاق ربهم و كيف كان عقاب الله لهم رغم ما كان بينهم من أناس صالحين ) .(1/20)
و نحن نستعرض الآيات نجد موسى يسوق التذكير لهم بنعم الله عليهم لأنه خبير بهم ( وقد سبر غورهم و جرب مواقفهم في رحلته الطويلة معهم ) منذ أن خرجوا من مصر و حررهم من الذل و الهوان باسم الله و قد شق الله لهم البحر و أغرق لهم فرعون و جنده و لم تكد هذه النعم تغيب عن أعينهم فإذا هم يمرون علة قوم يعكفون على أصنام لهم فيقولون : ( يا موسى أجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) ( لم يكد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه حتى يتخذ السامري لهم من الحلي الذي سرقوه من نساء مصر عجلا جسدا من ذهب له خوار فإذا هم يكفون عليه قائلين : هذا إلهكم و إله موسى الذي ذهب لميقاته ) . و هو قد جربهم أيضا حين فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء , و أنزل عليهم المن و السلوى طعاما سائغا , فإذا بهم يشتهون ما اعتادوا من طعام مصر - الأرض التي استذلوا فيها بقلها و قثائها و فومها و عدسها و بصلها , و لا يصبرون عما ألفوا من طعام و حياة في سبيل العزة و الخلاص و الهدف الأسمى الذي يسوقهم إليه موسى , ( و لقد أختبرهم في قصة البقرة التي أمروا بذبحها فتلكئوا في تنفيذ الطاعة فذبحوها و ما كادوا يفعلون ) و قد بلاهم أيضا حين عاد من ميقات ربه و معه الألواح و فيها ميثاق الله و عهده عليهم , فأبوا أن يعطوا الميثاق و أن يمضوا العهد مع ربهم بعد كل هذه النعم و تلك الخطايا و لم يعطوا الميثاق حتى و جدوا الجبل مرفوعا فوقهم و ظنوا أنه واقع بهم , ثم هو معهم على أبواب الأرض المقدسة , أرض الميعاد التي من أجلها خرجوا و التي و عدهم الله أن يكونوا فيها ملوكا و أن يبعث منهم أنبياء لكي يظلوا في رعاية الله و قيادته و الآن هو يدعوهم ( فيحشد في دعوته ألمع الذكريات و أكبر البشريان و أضخم المشجعات و أشد التحذيرات ) يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء و جعلكم ملوكا و آتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم أدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم و لا(1/21)
ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين و هذه الأرض التي يدعون لدخولها مكتوبة بوعد الله فهي إذن يقين و قد رأوا من قبل كيف صدقهم الله و عده و لكن الإسرائيليين هم الإسرائيليين طبعهم هو الجبن و التمحل و النكوص على الأعقاب و نقص الميثاق و خاصة أمام الخطر الماثل لهم و هو القتال فقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين و إن لن ندخلها حتى يحرجوا منها فإن يخرجوا منها فإن داخلون ( فهم يريدون نصرا رخيصا لا ثمن له و لا جهاد فيه . نصرا مريحا ينزل عليهم كطعام المن و السلوى ) .
و لكن هنا تبرز قيمة الإيمان بالله و الخوف منه وحده "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون و على الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " إن خوف هذين الرجلين من الله وحده ينشئ لهما استهانة بالجبارين و يرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم , و تلك هي قيمة الإيمان و قيمة الخوف من الله في مواجهة الخوف من الناس و ساعة الشدائد فإن من يخاف الله تعالى لا يخاف أحدا بعده و لا يرهب شيئا سواه , ذلك لأن المؤمن يتوكل على الله وحده و هذه هي خاصية الإيمان و علامته . وهذا هو منطق الإيمان و مقتضاه .(1/22)
( و لكن لمن يقال هذا الكلام ؟ لقد أنصفت إذ ناديت حيا و لكن لا حياة لمن تنادي ) فما كان جواب بني إسرائيل إذ قيل لهم إلا أن قالوا يا موسى إن لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون "هكذا في وقاحة الجبناء" فاذهب أنت و ربك فلس بربهم إذا كانت عبادته ستكلفهم القتال "إنا ها هنا قاعدون" فنحن لا نريد ملكا و لا نريد عزا و لا نريد أرض ميعاد 0 تلك هي نهاية المطاف مع موسى عليه السلام و آخر رحلة السفر الطويل نكوص عن القتال و عن دخول الأرض الموعودة و هم على أبوابها و انصرفا عن ميثاق الله ) فماذا يصنع موسى عليه السلام ؟ "قال ربي إني لا أملك إلا نفسي و أخي ففرق بيننا و بين القوم الفاسقين .. إنها دعوة فيها ألم و حسرة و فيها التجاء لله و استسلام و قهر في ضعف الإنسان المخذول و في إيمان النبي الحكيم و في عزم المؤمن المستقيم لا يجد متوجها إلا الله يشكو إليه بثه و نجواه و يطلب إليه الفرقة الفاصلة بينه و بين القوم الفاسقون فما يربطه بهم نسب و لا ميثاق و لا تاريخ ( و جهد سابق إنما يربطه بهم الدعوة إلى الله و هذا الميثاق مع الله و قد فصلوه فانقطع ما بينه و بينهم ) . و استجاب الله لنبيه و قضى بالجزاء العادل على الفاسقين "قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين " و هكذا أسلمهم الله للتيه و حرم عليهم الأرض التي كتبها لهم و حرم منها هذا الجبل حتى تنبت نابته جديدة و ينشا جيل غير هذا الجيل الذي جبل على الذل و الاستعباد فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجلل و هذه القصة تحمل من الدروس ما ينفع هذه الأمة و يؤكد طبيعة بني إسرائيل و لجداتهم و نكوصهم و ما يؤكد أن الإيمان و التوكل على الله عاصمان من ارتكاب الدنايا و أن المؤمن لا يخشى إلا الله وحده ( و أن العبد يحرم الرزق بالذنب و أن الله حرمهم و عده بعد تنصلهم منه ) و أن هذه الأمة قد وعت ما قصه الله عليها(1/23)
من أنباء الأمم السابقة فحين واجه المسلمون الأولون الشدة و هم قلة في بدر قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم "لا نقول لك يا ر سول الله ما قاله بنوا إسرائيل لموسى : أذهب أنت و ربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " لكن نقول لك : "أذهب أنت و ربك فقاتلا فإننا معكما مقاتلون" .
و الآن حين ضعفت الأمة و خافت من جبابرة بني إسرائيل لضعف إيمانها بربها و عدم توكلها عليه تبدل الحال فدخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة و أخرجوا منها أصحابها لا لقلة في العدل بل لوهن أصحاب القلوب التي خافت غير الله و لم تتوكل عليه و صدق الله بقوله "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " و الله الهادي سواء السبيل .
"مواقف إيمانية"
(( الحسد أول المعاصي في السماء و في الأرض )) يقول الله تعالى (( و اتل عليهم نبأ أبني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما و لم يتقبل من الآخر قال لا قتلنك إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلى يدك لأقتلنك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين , فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فاصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأت أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأت أخي فاصبح من النادمين )) ( المائدة الآيات 27 , 31 .(1/24)
تشير هذه الآيات إلى أول معصية وقعت في الأرض فبعد أن ذكر الله قصة موسى مع بني إسرائيل ورفضهم دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ذكر قصة أبني آدم ( وذلك لما بينهما من التماثل و التضاد فالتماثل قائم بين القصتين في أن في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى فإن بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إياهم بالدخول إلى الأرض المقدسة , و أحد أبني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنه لم يكن من المتقين و في كلتيهما جرأة على الله بعد المعصية فبنوا إسرائيل قالوا : أذهب أنت و ربك فقاتلا و أبن آدم قال : لأقتلن الذي تقبل الله منه . و أما ما بينهما من الضاد فإن في إحدى القصتين إقداما مذموما من أبني آدم على قتل أخيه و من الأخرى إحجاما مذموما من امتناع بني إسرائيل عن دخولهم الأرض و في إحداهما اتفاق أخوين هما موسى و هارون على امتثال أمر الله تعالى و في الأخرى اختلاف أخوين بالصلاح و الفساد حيث كان أحدهما قاتلا و الآخر مقتولا ) .
و مما نقل عن التوراة أن أحد الأخوين قابيل كان فلاحا و كان هابيل راعيا للغنم فقرب قابيل من ثمار حرثه قربانا و قرب هابيل من أبكار غنمه قربانا فتقبل الله قربان هابيل و لم يتقبل قربان قابيل و قد حصل ذلك بوحي من الله لآدم و أعلمه أن من قبل قربانه كان صالحا و إن من لم يقبل قربانه كانت له خطايا .(1/25)
و القصة توحي بأن الذي قبل قربانه لا جريرة توجب الحفيظة عليه و تبيت قتله إذ ليس له فيه يد , ( و إنما تولته قوة غريبة تعلو عن إدراك كليهما و على مشيئته ) فما كان هناك مبرر ليحنق الأخ على أخيه لأن خطر القتل هو أبعد ما يرد على النفس المستقيمة في مجال العبادة و التقرب إلى الله فقال الأخ لأخيه لأقتلنك - فليس هناك دافع و لا مبرر لهذا القول إلا الحسد الأعمى الذي لا يغمر نفسا طيبة , و كان جواب الخ الطيب أن قال : "إنما يتقبل الله من المتقين " لأنه يؤمن بأسباب القبول و هي التقوى و الإيمان ثم يمضي في توجيه أخيه المعتدي قائلا له " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إن أخاف الله رب العالمين " و إن في هذا القول اللين ما يقضي على الحقد و يهدي الحسد و يسكن الشر و يمسح على الأعصاب المهتاجة و يرد صاحبها إلى حنان الأخوة و بشاشة الإيمان و حساسية التقوى ثم يضيف إليه التحذير و النذير "إني أريد أن تبوأ بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين " فصور له إشفاقه من جريمة القتل ليثنيه عنه و ليخجله من هذا الذي تحدثه به نفسه فعرض عليه وزر جريمة القتل ليزين له الخلاص من الإثم المضاعف بالخوف من الله و لكن النموذج الشرير لا يزال مصرا على جريمته فيحكي القرآن عنه " فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين " إن هذا التذكير و التحذير و تلك المسالمة و هذه الموعظة لم تعهد و لم تنفع في رد تلك النفس الشريرة عن جريمة القتل البشعة و قتل الأخ أخاه و ابتكر أول معصية على الأرض ضد أخيه فأصبح من الخاسرين فقد خسر نفسه حيث أوردها موارد الهلاك فلم يهنأ بعد ذلك في حياته بشي , و خسر أخرته فباء بإثمه الأول و أثمه الأخير .(1/26)
و مثلت له سوءة الجريمة في صورتها الحية صورة الجثة التي فارقت الحياة و باتت لحما يسري فيه العفن فهي صورة لا تطيقها النفس و شاءت إرادة الله تعالى أن توقفه أمام عجزه و هو القاتل الفاتك أن يواري سوءة أخيه فظهر عجزه أن يكون كالغراب " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال : يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فاواري سوءة أخي فأصبح من النادمين " فحينما رأى غرابا يحفر في الأرض ليدفن جثة أخيه الغراب و كان لم يرى من قبل ميتنا يدفن فندم , و لم يكن ندمه ندم توبة , و إلا لقبل الله توبته و إنما كان ندما ناشئا من عدم جدوى فعلته و ما أعقبه من تعب و عناء و قلق .(1/27)
و لقد وعظ هابيل أخاه ليذكره خطر هذا الجرم الذي سيقدم عليه و أشعره بأنه يستطيع دفعه و لكن الذي منعه هو خوفه من الله تعالى استعظاما لجرم قتل النفس حتى و لو كان القتل دفاعا عن النفس لأنه علم حرمة النفوس و لو كانت ظالمة , و رأى في الاستسلام لطالب قتله إبقاء على حفظ النفوس للإكمال مراد الله تعالى من تعمير الأرض " و قد يكون ذلك في شريعتهم و أما في شريعتنا فإنها تبيح للمعتدى عليه أن يدافع عن نفسه و لو بقتله " لقد صور مشهد دفن الجثة للقتيل أو لمشهد في حضارة البشر و هي من قبيل طلب ستره المشاهد المكروه و هو أيضا مشهد أول علم أكتسبه البشر بالتقليد و التجربة , كما هو أيضا مشهد أول مظاهر تلقى البشر معارفه من عوالم أضعف منه حيث تعلم الإنسان من الطير " و من أجل وجود هذه النماذج البشرية و من أجل الاعتداء على المسالمين الخيرين الطيبين الوديعين الذين لا يريدون شرا أو عدوانا و من أجل أن الموعظة و التحذير لا يجديان في بعض الجبليات المطبوعة على الشر و أن المسالمة و الموادعة لا تكفان الاعتداء حين يكون الشر و الحسد عميقي الجذور في النفس من أجل كل ذلك جعل الله جريمة قتل النفس الواحدة كبيرة بحيث تكون كجريمة قتل الناس جميعا , و جعل العمل على إحياء نفسا واحدة عملا عظيما بحيث يعدل إنقاذ و إحياء الناس جميعا .(1/28)
إن حق الحياة واحد ثابت لكل نفس فقتل واحدة من هذه النفوس هو اعتداء على حق الحياة ذاته , كذلك دفع القتل عن نفس و إحياؤها إنما هو إحياء للنفوس كلها , فما أعظم النفس البشرية التي صانها الله ذلك لأن الآدمي بناء الله ملعون من هدمه إلا ما أفظع الحسد الذي يدفع أصحايه إلى قتل بعضهم بعضا و إلى قطع ما أمر الله به أن يوصل و إلى الإفساد في الأرض و من هنا أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بأنه لا يجتمع إيمان و حسد في قلب مسلم لأنه لأن أحدهما يوشك أن يخرج الآخر و يبقى هو إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب فما أقبحه من ذنب و معصية عصى الله بها في السماء حين حسد إبليس آدم و ما أبشعه من ذنب في الأرض حيث جعل قابيل يقتل أخاه هابيل و الله الهادي سواء السبيل .
بسم الله الرحمن الرحيم
(( مواقف إيمانية ))
* (( المؤمن يحب الله ورسوله عما سواهما )) *
يقول رب العزة في كتابه الكريم (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم واخوانكم اولياء ان استحبوا الكفر على الايمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون * قل ان كان اباؤكم وابناؤكم واخوانكم وازواجكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى ياتي الله بامره والله لا يهدي القوم الفاسقين )) التوبة الآيات 23 : 24.(1/29)
تلك هي عقيدة الايمان وذاك لبها وجوهرها، انها لاتحتمل لها في القلب شريكا، فإما تجرد لها وإما انسلاخ منها. وليس المقصود انقطاع المؤمن عن ذي رحمة، بل إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب ويخلص لها الحب وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة وهي المحركة والدافعة فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة ومفترق الطريق هنا هو إما أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لغرض من أغراض هذه الأرض فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والأخوة والعشيرة، ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق في غير سرف ولا مخيلة بل يكون المتاع فيها آنئذ مستحب باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده وهم يذكرون أنه تعالى المنعم الوهاب. وهكذا يجب أن تنقطع أواصر الدم والنسب إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة، وتبطل ولاية القرابة ن الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة من الله، فلله الولاية الأولى والأخيرة وفيها ترتبط البشرية جميعا، فإذا إنعدمت فلا ولاية بعد ذلك والحبل مقطوع والعروة منقوضة.(1/30)
والقرآن لا يكتفي بتقرير المبدأ بل إنه يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة في كفة الآباء والأبناء والإخوان والعشيرة وهي وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج، والأموال والتجارة وهي تمثل مطمع الفطرة ورغبتها، والمساكن المريحة وهي تمثل متاع الحياة ولذتها. وفي الكفة الأخرى حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله، الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته وما يتبعه من تعب ونصب وتضييق وحرمان وألم وتضحية وجراح واستشهاد لأنه جهاد في سبيل الله مجردا من الصيت والذكر والظهور والمباهاة والفخر والخيلاء.
وهذا التجرد ليس مطالبا به الفرد وحده بل الجماعة والأمة كلها والدولة فلا يجوز أن يكون هناك اعتبارا لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله.
ولقد عرف الرعيل الأول تلك المعاني وآمنوا بها إيمانا راسخا فلم يجعلوا لمحبة الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله شيئا يوازيها بل إنهم أفردوها في الميدان وحدها فاستحقوا أن يكونوا ربانيين.
ومن هذه المواقف التي آثروا فيها محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله موقف أم حبيبة أم المؤمنين بنت أبي سفيان حينما جاءها أبوها أبو سفيان ليقدم اعتذاره وأسفه للرسول صلى الله عليه وسلم عما فعلت قريش من مناصرتها حلفائها من قبيلة بكر على حلفاء رسول الله من خزاعة ودخل بيتها وجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فطوت الفراش عنه وسألها عن سبب ذلك قائلا: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ فقالت له: والله لقد أصابك بعدي شر. ومن المواقف التي تتجلى فيها الإيمان وحب الله ورسوله ما حدث من عمر بن الخطاب لخاله العاص بن هشام بن المغيرة حينما لقيه في الصف يوم بدر فأهوى عمر عليه بسيفه حتى قتله.(1/31)
ومن هذه المواقف الإيمانية ما حدث يوم بدر أيضا من أبي عبيدة ابن الجراح لأبيه فقد قتله وفيه نزل قوله تعالى (( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ))
ومن مواقف الإيمان التي أوثر فيها حب الله ورسوله والجهاد في سبيله ما رواه ابن مسعود من أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قد دعا ابنه عبد الرحمن يوم بدر للبراز فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ((متعنا بنفسك أما علمت أنك مني بمنزلة سمعي وبصري )) وأنزل الله قوله (( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم )) وبعد إسلام عبد الرحمن بن أبي بكر يوم الحديبية قال لأبيه أبي بكر (( والله يا أبتي لقد كان بوسع سيفي أن ينالك يوم بدر ولكني أغضيت الطرف عنك لما بيني وبينك من رحم )) فقال له أبو بكر: ((والله لو أن سيفي قد طالك يوم بدر لقتلك قربانا لله رب العالمين )).
تلك مواقف الإيمان لأصحاب محمد الذين وصفهم ربهم بقوله ((أشداء على الكفار رحماء بينهم )) فأين إيماننا من إيمانهم وأين نحن منهم.
والله الهادي سواء السبيل
الشيخ : عبد الظاهر عبد الله علي
بسم الله الرحمن الرحيم
** (( من يحتمي بالله فالله ينصره )) **
يقول رب العالمين في كتابه الكريم (( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم )) التوبة الآية 40.(1/32)
توضح هذه الآية عتاب الله لمن استنفروا لغزوة العسرة ولم ينفروا وأنهم إن لم ينصروا رسول الله بالنفر معه فالله متكفل بنصره اذ قد نصره في مواطن القلة، وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة، وقد نصره بصاحبه في الغار بتأنيسه له وبوفائه، ووقايته له بنفسه ومواساته له بما له، وقد الجا الي الخروج مكرها حتى لجا الى الغار.
وهذا هو يوم الهجرة حينما تآمرت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجمعوا من كل قبيلة فتى جلدا قويا ويحاصرون بيته ويضربوه ضربة رجل واحد فيتوزع دمه على القبائل فلا يقدر بنو هاشم على حرب كل العرب فلم يبقى أمامهم سوى أن يطلبوا ديته فتدفع ديته الى أهله ويستريحون منه، هكذا دبروا ومكروا فهل ترك الله نبيه أم لأنه رعاه وتولاه بالحماية والحراسة والحفاظ عليه والتصرة له، وتتجلى رعاية الله وحمايته وحفظه لرسوله فيما يلي:
1. في اطلاع الله لرسوله على كيد الأعداء ومكرهم وبيان مؤامرتهم وما عزموا عليه ولم يكن رسول الله ينهم ولم تكن له عين فيهم وانما الذي اطلعه هو الله رب العالمين (( واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين )).
2. وفي الحصار الذي ضرب حول بيته (( صلى الله عليه وسلم )) وخروجه من بينهم دون أن يعلم به أحد منهم وهو يقرأ قوله تعالى (( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون )) مما يدل على رعاية الله لرسوله وحفظه له كما أخبره في قوله (( والله يعصمك من الناس)).(1/33)
3. وفي تتبع أثر النبي (( صلى الله عليه وسلم )) من بيت أبي بكر إلى الغار حتى بلغوا باب الغار ورأوا على بابه نسج العنكبوت حتى قالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، وأنصت الرسول وصاحبه إلى وقع أقدام المطاردين ونعالهم تخفق إلى جوارهم، حتى أخذ الروع أبا بكر وهمس يحدث رسول الله (( صلى الله عليه وسلم )) قائلا: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال له النبي (( صلى الله عليه وسلم )) يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما (( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )) إن في ذلك ما يؤكد أن عين الله تحرس رسوله وأنه محفوف بالعناية العليا وأنه في حياطة وحراسة قيوم السماوات والأرض.
وإذا العناية لاحظتك عيونها ……نم فالمخاوف كلهن أمان
4. ولما رصدت قريش الجائزة لمن يأتي بمحمد حيا أو ميتا طمع في نيلها سراقة بن مالك ورغب أن تكون الجائزة له خاصة فقام ودخل خباءه وقال لخادمه أخرج الفرس من خلف الخباء، يقول سراقة: فأخذت رمحي وخرجت من ظهر البيت وأنا أخط بزجة الأرض، حتى أتيت فرسي فركبتها ففرت بي حتى دنوت منهم، فتعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت، وامتطى سراقة فرسه مرة أخرى وزجرها فانطلقت به حتى اقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحبه وكان أبو بكر يكثر الالتفات ليتبين هذا العدو الجسور، فلما دنا عرفه فقال لرسول الله هذا سراقة بن مالك قد أرهقنا، وما أتم كلامه حتى هوت الفرس مرة أخرى ملقية سراقة من على ظهرها، فقام سراقة معفرا ينادي بالأمان، ووقع في نفس سراقة أن الرسول حق فاعتذر إليه وسأله أن يدعوا الله له، وعرض عليهما الزاد والمتاع فقالا: لا حاجة لنا ولكن عم عنا الطلب، فقال: قد كفيتم. ثم رجع فوجد الناس جادين في الطلب والبحث عن محمد وصاحبه، فجعل لا يلقى أحدا إلا رده ويقول: قد كفيتم هذا الوجه، لقد أصبح أول النهار جاهدا عليهما، وأمسى آخره حارسا عليهما، إنها عناية الله وحمايته ونصرته لمن احتمى به.(1/34)
وقريب من هذا الموقف موقف موسى عليه السلام حينما خرج بمن آمن من قومه والسحرة بأمر من ربه، قال سبحانه (( وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون )). وأرسل فرعون في المدائن حاشرين وجمع فرعون جنوده وكيده وظل يجد في السير، حتى أوشك أن يدرك موسى عليه السلام ومن معه، وهنا حينما ترى الجمعان موسى ومن معه وفرعون وجنوده قال أصحاب موسى إنا لمدركون، لكن موسى لم يفقد ثقته بربه وظل اعتصامه بحبل الله قويا لا يهن ولا يفتر فأجابهم بقوله (( كلا إن معي ربي سيهدين )) فماذا كانت النتيجة، كانت أن أوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم. وخرج موسى ومن معه واجتازوا البحر ونجاهم الله، وجاء فرعون ومن معه فاقتحموا البحر وهنا أطبق الموج عليهم وأغرق الله فرعون ومن معه أجمعين، وتراجع فرعون إلى حجمه وهتف قائلا (( أمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين )).
إنها إذا حماية الله لأتباعه وحراسة الله لجنده ورعايته لمن احتمى بحماه وحفظه لمن استمسك بهداه، وصدق الله (( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين )).
والله الهادي سواء السبيل
"مواقف إيمانية"
"ألا ليت قومي يعلمون"
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على سيدنا رسول الله,,,,,,(1/35)
يقول الله تعالى في كتابه الكريم " انفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " سورة التوبة 41 روى سفيان ( عن حصين بن عبدا لرحمن عن أبي مالك الغفاري قال ) أول ما نزل من سورة براءة " أنفرها خفافا وثقالا" ثم نزل أولها وآخرها بعد ذلك 0 وهذه الآية لم تدع لأحد من المسلمين عذرا في ترك الجهاد على أي حال كان ( أي انفروا واخرجوا للجهاد سواء كنتم سريا متفرقين أو نشاطا و غير نشاط أو خفافا أو ثقالا أو ثقالا أغنياء و فقراء شبابا و شيوخا مشاغيل و غير مشاغيل , لكم عيال أو ليس لكم عيال , رجالا ماشين أو فرسانا راكبين , أو سابقين إلى الحرب كالطلائع في مقدمة الجيش , أو الجيش بأسره و ماخرته , شجعانا أو جبناء خفت عليكم الحركة أو ثقلت) و قد روى ابن عباس عن ابي طلحة في قوله تعالى "انفروا خفافا و ثقالا" قال: شبابا و كهولا , ما سمع الله عذر احد فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات فرضي الله عنه , و عن انس ا نابا طلحة قرا سورة براءة فآتى على هذه الآية فقال: أي بني جهزوني جهزوني فقال بنوه يرحمك الله لقد غزوت مع النبي صلى الله عليه و سلم حتى مات و مع أبو بكر حتى مات و مع عمر حتى مات فنحن نغزوا عنك , قال : لا جهزوني فغزا في البحر فمات في البحر فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها و لم يتغير رضى الله عنه , ( قال الزهري خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو و قد ذهبت إحدى عينيه . فقيل له : إنك عليك فقال : استنفر الله الخفيف و الثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت سواد المسلمين و حفظة المتاع ) و روي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلا قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر فقال له : يا عم إن الله قد عذرك , فقال : يا أبن أخي قد أمرنا بالنفر خفافا و ثقالا و ما تركت لنا الفاضحة عزرا يعني التوبة التي فضحت النفاق و أهله و لقد قال أبن أم مكتوم يوم أحد يا رسول الله أعلى(1/36)
نفر فقال نعم حتى أنزل الله تعالى " ليس على الأعمى حرج " فقال : يا رسول الله أن رجل أعمى فسلموا لي اللواء فأنه إذا أنهزم حامل اللواء أنهزم الجيش و أن ما أدري من يقصدني بسيفه فما أبرح فاخذ اللواء مصعب بن عمير رضي الله عنه . لقد وعى المسلمين الأولون أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام و قبته و أن منازل أهله أعلى المنازل في الجنة كما أن لهم الرفعة في الدنيا فهم الأعلون في الدنيا و الآخرة و لقد أدركوا أن الجهاد الإسلامي بشروطه و أحكامه و آدابه مصدر خير كثير و بركة عامة للعالم و رحمة للإنسانية , فقد جعل القران الكريم القتلى في سبيل الله أرق صور الحياة ( و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) فعرف الأولون أن الحياة الهنية الخالدة هي حياة الشهداء في جنات النعيم , و تأكدوا بأن حياة أمتنا الحق في الجهاد لإعلاء كلمة الله , و الجهاد ماض إلى يوم القيامة نصرة لدين الله و حماية لحوزته و ذودا عن حياضه و حفاظا على عزة أمته و الصراع بين الحق و الباطل سنة من سنن الله الاجتماعية تمحيصا لأهل الحق و دحضا للباطل و أهله و صيانة لمتعبدات الدين حتى تظل راية التوحيد عالية خفاقة يستظل بظلها المؤمنون و يجدون في كنفها أمن النفسي و راحة القلب و متعة الإيمان .(1/37)
إن كل شهيدا تكفر عنه خطاياه عند أول قطرة من دمه و يرى مقعده في الجنة و يزوج من الحور العين و يؤمن من الفزع الأكبر و من عزاب القبر و يحلى حلة الإيمان و أنه تظله الملائكة بأجنحتها و أن أحسن الدور في الجنة هي دور الشهداء و أن الشهيد يشفع في سبعين من أهله و هو الذي يأمن الفتان في قبره و هو الذي يتولى الله قبض روحه خاصة , علم السلف الصالح هذه المنازل فحرصوا على الجهاد بأشكاله و ألوانه سواء كان بالسان أو بالنفس أو بالمال أو بها كلها و علموا ثواب الرباط في سبيل الله ( يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم " رباط يوما و ليلة في سبيل الله خيرا من صيام شهر و قيامه و إن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله و أجرى عليه رزقه و أمن الفتان ) و إليكم هذا الموقف الإيماني و أن هذا الجهاد لم يكن حكرا على الرجال وحدهم بل كان سمة العصر للنساء و الصبيان يقول أبو قدامه أحد قادة المسلمين ضد الروم : كنت أميرا و دعوة إلى الجهاد في سبيل الله فجاءت امرأة بورقة و صره , ففضت الورقة لا قرأها و لأنظر ما فيها فإذا فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ... من أمة الله المسلمة إلى أمير جيش المسلمين سلام الله عليك , أما بعد , فإنك قد دعوتنا إلى الجهاد فبي سبيل الله و لا قوة لي على الجهاد و لا مقدرة لي على القتال و هذه الصرة فيها ضفيرتي فخذها قيدا لفرسك لعل الله يكتب لي شيئا من ثواب المجاهدين .(1/38)
يقول أبو قدامه : فشكرت الله على توفيقها , و علمت أن المسلمين يشعرون بواجبهم و يتكتلون ضد أعدائهم , فلما واجهنا العدو أبصرت صبيا حدثا ظننت أنه ليس أهلا للقتال لصغر سنه , فزجرته رحمة به , فقال : كيف تأمرني بالرجوع و قد قال الله تعالى " انفروا خفافا و ثقالا " قال أبو قدامه فتركته ثم أقبل علي و قال : أقرضني ثلاثة أسهم فقلت له و أنا معجب به و مشفق عليه : إني أقرضك ما تريد بشرط أن تشفع لي إني من الله عليك بالشهادة فقال : نعم إنشاء الله ثم أعطيته الأسهم الثلاثة , ثم أقبل على العدو في قوة و حماس و ما زال ينال من أعدائه و ينالون من حتى خر صريعا أقبلت عليه و سألته : هل تريد طعاما أو ماء ؟ فقال إني أحمد الله على ما صرت إليه و لكن لي إليك حاجة , فقلت له : ليس أحب إلي من قضائها فمرني بما تشاء يا بني فقال و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة الطاهرة : أقرئ أمي مني السلام ثم أدفع إليها متاعي , فقلت له : و من أمك أيها الشاب ؟ قال : أمي هي التي أعطتك شعرها ليكون قيدا لفرسك حين عجزت عن أن تقاتل بنفسها في سبيل الله تحت لوائك , قلت بارك الله فيكم من آل بيت , ثم فارق الحياة , فقمت نحوه بما يحب فلما دفنته لفظته الأرض فعاودت دفنه مرة أخرى فلفظته الأرض أيضا فأعمقت له في الحفر ثم دفنته فلفظته الأرض أيضا . فقلت لعله خرج بغير رضاء أمه فصليت ركعتين و دعوت الله أن يكشف لي من أمر ذلك الغلام , فسمعت من يقول لي : يا أبا قدامه : دع عنك و لي الله , فتركته و شأنه , و علمت أن له مع الله حالا , و بينما نحن كذلك إذ بطير قد أقبل فأكله . فتعجبت كثيرا ثم رجعت إلى أمه تنفيذا لوصيته , فلما رأتني أقبلت علي و قالت ما وراءك يا أبا قدامه ؟ هل جئتني معزيا أو مهنئا ؟
فقلت لها و ما معنى ذلك يا أمة الله ؟ فقالت إن كان ابني قد مات فقد جئتني معزيا . و إن كان قد قتل في سبيل الله و ظفر بما يطمع فيه من الشهادة فقد جئت مهنئا .(1/39)
فقصصت عليها قصته و أخبرتها عن الطير و ما فعلت به .
فقالت : لقد استجاب الله دعاءه .
فقلت لها و ما ذلك ؟
فقالت : إنه كان يدعو الله في صلواته و خلواته و يقول في صباحه و مسائه " اللهم احشرني في حواصل الطير , و الحمد الله على تحقيق أمله و إجابة دعائه . قال أبو قدامه : فانصرفت عنها و قد علمت لماذا كتب الله لنا النصر و التأييد على الأعداء ؟
آلا ليت قومي يعلمون ذلك و يعملون به و الله الهادي سواء السبيل .
" مواقف إيمانية "
" هؤلاء التائبون العابدون "
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على سيدنا رسول الله ,,,
يقول الحق تبارك و تعالى " يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ينالوا و ما نقموا إلا أن أغناهم الله و رسوله من فضله فإن يتوبوا بك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة و ما لهم في الأرض من ولي و لا نصير " ( سورة التوبة آية 74 ) .(1/40)
لا يزال الحق و الباطل في صراع إلى أن يرث الله الأرض و من عليها و لا يزال للباطل أتباعه ( و هم أتباع الشياطين الذين يوحون إلى أولياهم ليجادلوا أصحاب الحق ) و لا يزال للحق و الخير أعوان و هم الطائفة الظاهرة على الحق و المتمسكون به إلى قيام الساعة , لا يضرهم من خالفهم ( لأنهم جند الله و حزبه المفلحون الغالبون ) يروى أنه في سبيل نزول هذه الآية عدة روايات منها حينما دع رسول الله صلى الله عليه و سلم لغزو الروم في جيش العسرة و بادر أهل الخير مسرعين بالإنفاق و الجهاد بأنفسهم و أموالهم في سبيل الله و قالوا لا تنفروا في الحر , و نصر الله رسوله و جنده و حزبه , و عاد رسول الله صلى الله عليه و سلم ظافرا منتصرا من غزو بني الأصفر , و نزل القرآن يفضح النفاق و أهله , و ينحى عليه باللائمة و يذكر مؤامراتهم و عاقبهم في الدنيا و ما أعد الله لهم من عذاب في الآخرة , قال أحد المنافقين يومها و هو الجلاس بن سويد بن الصامت و كان زوجا لأم عمير بن سعيد و عمير حجره أي ربيبة و هو الذي يقوم به و يطعمه و يسقيه . فقال الجلاس : و الله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمر التي نركبها , فسمعها عمير بن سعد و هو لم يزل صغيرا فقال : و الله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي و أحسنهم عندي بلاء و أعزهم علي أن يصله شئ يكرهه , و لقد قلت مقاله لئن ذكرتها فضحتني و لئن كتمتها أهلكتني , و لإحداهما أهون علي من الأخرى , و لأخبرن رسول الله صلى الله عليه و سلم , فذهب عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و ذكر له ما قاله الجلاس بن سويد فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى أتى النبي صلى الله عليه و سلم فحلف بالله أنه ما قال الذي قاله عمير بن سعد , و كان الجلاس ذا شأن في قومه فصدقه القوم و لاموا عميرا على كذبه عليه , فقام عمير بن سعد أمام رسول الله صلى الله عليه و سلم و دعا الله قائلا : اللهم أعلم نبيك و رسولك بصدق الصادق و كذب(1/41)
الكاذب , فأنزل الله في المجلس قوله تعالى " يحلفون بالله ما قالوا ( و لقد قالوا كلمة الكفر ة كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ينالوا و ما نقموا إلا أن أغناهم الله و رسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة و ما لهم في الأرض من و لي و لا نصير ) فقال الجلاس : يا رسول الله أما و قد عرض الله علي التوبة , فإني أتوب و أستغفر الله تعالى مما قلت و إن عميرا لصادق فيما قال , و تاب و حسنت توبته , و نحن أمام هذا الحادث لا يسعنا إلا أن نقدر حق التقدير موقف عمير الإيماني , الذي لم يزل صغيرا و لا عائل له غير الجلاس , و أي شئ يغضبه منه يهدد عميرا بضياعه فمن يعوله غيره و من يقوم فحوائجه غير زوج أمه , و مع كل هذا فلم يعبأ بشيء من هذا كله , لأنه توكل على الله فلم يحمل هم الرزق لأن الله تعالى قد تكفل به و كفاه همه , و زوج أمه هو أقرب الناس إليه و مع كل هذا فولاؤه له يوضع في الميزان بجانب ولاؤه لله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون ( و من يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) ثم يأتي موقفه بعد أن كذب فيما قاله على الجلاس أمام وجوه قومه و أعيانهم و أصبح ملوما منهم فلم يجد ملجأ يلوذ به إلا الله يسأله أن يبرأ ساحته مما نسب إليه من الزور الذي هو منه بريء , و أصبح بين الناس لا يجد من يدافع عنه فاستغاث بالله و لجأ إليه لجوء المضطر و دعاه دعوة المظلوم فوجه وجهه إلى الله ( و أسند ظهره إليه ) أن يعلم رسوله بصدق الصادق و تكذيب الكاذب فأجاب الله دعاءه و أغاث لهفته و برأ ساحته من الكذب و أنزل الله جبريل بقرآن يتلى إلي يوم القيامة و : انه و هو صغير من الذي يقسمون على الله فيبر الله قسمه و نزل القرآن يحق الله به الحق و يبطل به الباطل لأنه من حزب الله و حزب الله هم المفلحون , ثم يأتي الدور الآخر للجلاس بن(1/42)
سويد الذي قال كلمة الكفر و كفر بعد إسلامه و هم بقتل عمير فلم يدركه فهذه جرائم ثلاث , قال كلمة الكفر و كفر بعد إسلامه و هم بما لم ينله فلم يدركه , و يحلف أنه ما قال كذبا وزورا , و ينزل القرآن ليثبت عليه كل تلك الجرائم و لكنه يقف موقف العقلاء الذين أمعنوا النظر فيما نزل من عرض التوبة عليه بعد كل تلك الجرائم و إن لم يتب فسوف يعذبه الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة و ليس له في الأرض من ولي يلوذ به و لا من نصير ينصره , فيعلن أنه قد قال و أنه كاذب و أن عميرا صادق و أنه يتوب إلى الله من ذنوبه و يتدارك ما هو فيه و يرجع إلى الله و يتوب إلى رشده و يفيء من غيه و ضلاله إلى نور الحق الأبلج فالرجوع للحق خير من التمادي في الباطل و العودة إلى الصواب أفضل من السير في طريق الغواية و يعلن توبته و يحسن إسلامه , و إن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة و كثيرا من الذين أراد الله لهم الخير قد تداركوا مواقفهم و أرادوا أن يطهروا أنفسهم من ذنوبهم و هل هي إلا لحظات معدودة ثم يفارق كل منهم الحياة و يلقي ربه و قد تطهر من درنه فيلقي الله بوجه مشرق مضيء و أكف نقية , إن التوبة من أجل أخلاق القرآن الإيمانية و ذلك لما يعانيه التائب من الرجوع إلى الحق و الاعتراف بالذنب و انكسار القلوب أمام حضرة الرب جل جلاله , و في ذلك من الدلالة على ذكاء النفس ما فيه و لهذا كانت التوبة أول المقامات الإيمانية و مبدأ طريق السالكين و مفتاح باب الواصلين إلى رب العالمين ( و هي أيضا أوسط تلك المقامات و آخرها لأن التوبة هي بداية العبد و نهايته و قد روت لنا كتب السنة صورا من توبة الصحابة بحيث لو قسمت هذه التوبة على أهل المدينة لوسعتهم حتى أهلتهم و رشحتهم إلى الفردوس الأعلى من الجنة و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة " رواه البخاري و قال " و الذي نفسي بيده لو لم تذنبوا(1/43)
لذهب الله بكم و لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم " رواه مسلم و قال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " مجمع الزوائد ) للهيثمي . و الله الهادي سواء السبيل .
الشيخ / عبد الظاهر عبد الله علي
بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف إيمانية
(( الإيمان و الشجاعة الأدبية يدفعان للصدق ))
يقول الله تبارك و تعالى في كتابه الكريم (( لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم و على الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت و ضاقت عليهم أنفسهم و ظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم )) التوبة 117 : 118 تشير هذه الآيات إلى معركة تبوك و هي غزوة العسرة و التي ( دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين صراحة إلى غزو الروم و التي أظهرت معادن المؤمنين و كشفت الإيمان من النفاق و التي شق فيها الأمر على المسلمين و التي تنافس فيها المؤمنين في الإنفاق فأحضر أبوبكر كل ماله و تطوع عبد الرحمن بن عوف بأربعة ألف هي نصف ماله و التي جهز فيها عثمان وحده جيشا كاملا فيها حتى قال عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم (( ماضر بن عفان ما صنع بعد اليوم . اللهم . أرض عن عثمان فإني عنه راض )) و التي تخلف فيها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم المنافقون و قالوا (( لا تنفروا في الحر )) كما تخلف جماعة ممن خلطوا عملا صالحا و أخر سيئا . و هم الذين قال الله فيهم قبل التوبة عليهم (( و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم )) و الذين أعلن الله قبول توبتهم بعد أن تاب الله عليهم ليتوبوا )و هم الثلاثة الذين خلفوا , و الثلاثة الذين خلفوا هم كعب بن مالك و مرارة بن الربيع و هلال ابن أمية الواقفي و قصة الثلاثة كما يرويها أحدهم و هو كعب بن مالك إذ يقول " لم أتخلف عن رسول الله صلى(1/44)
الله عليه و سلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك ( غير أني تخلفت في غزوة بدر و لم يعاقب الله و رسوله أحد تخلف عنها و لقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا علي الإسلام ) و كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك أنى لم اكن قط أقوى و لا أيسر مني حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في تلك الغزوة ) و الله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة . فتجهز رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون معه و طفقت أغدو لكي أتجهز معهم فلم أقض شيئا .(1/45)
و لما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قفل راجعا من تبوك حضرني بث ( فطفقت أتذكر الكذب و أقول بماذا أخرج من سخطه غدا و أستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ) فلما قبل إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أظل قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنج منه بشيء فأجمعت صدقه ( و أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم قادما ) و كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس و جاءه المنافقون يعتذرون إليه ( و يحلفون له و كانوا بضعا و ثمانين رجلا ) فقل رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم على نيتهم و بايعهم و استغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي تعالى فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي : ما خلفك ؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرك ؟ فقلت يا رسول الله و الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر (( لقد أعطيت جدلا و لكني و الله لقد علمت لئن حدثتك حديث كذب ترضى عنى به ليوشكن الله أن يسختك علي و لئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه و إني لأرجو فيه عقبي من الله و الله ما كان لي عذر و الله ما كنت قط أقوى و لا أيسر مني حين تخلفت عنك . فقال صلى الله عليه و سلم (( أما هذا فقد صدق قم يقضي الله فيك )) و ذكر مثل قولي رجلان صالحان قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة , و نهى رسول الله عن كلامنا نحن الثلاثة فتجلبنا الناس حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فلبثنا خمسين ليلة فأما صاحباى فاستكانا و قعدا في بيوتهما و كنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين و أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نعتزل نساءنا , فبينهما أمشي إذا بنبطي من الشام ينادي على فدفع لي كتابا من ملك غسان فقرأته فإذا به يدعوني لألحق به ما دام الرسول قد جافاني فقلت و هذا من البلاء فمزقته فلما تمت لنا خمسون ليلة و أنا على الحال التي ذكر الله ( ضاقت عليهم الأرض بما رحبت و ضاقت عليم أنفسهم ) فسمعت(1/46)
صائحا بعد الفجر ينادي بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر (( فخررت لله ساجدا و عرفت أن قد جاء الفرج فأذن رسول الله بتوبة الله علينا حين صلى الفجر قال كعب : فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفس من صدقي رسول الله يومئذ و جلست بين يدي رسول الله و سلمت عليه فقال : أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) فقلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ فقال : لا بل من عند الله . فقلت إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله و رسوله , قال أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك : فقلت إني أمسك سهمي بخيبر و قلت يا رسول الله : إنما نجاني الله بصدقي و إن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني الله تعالى , و الله ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا كذبا و إني لأرجو الله أن يحفظني فيما بقي.(1/47)
هذا موقف الرجولة الفارعة الصادقة صاحبة الشجاعة الأدبية الأخلاقية التي لا تخشى إلا الله تلك الرجولة المؤمنة بربها المتقية له , التي زلت بها القدم و تخلفت عن أمر ربها و نصرة رسوله في أحلك الأوقات و مع عظيم ذنبها و خطورة جرمها فإن ذلك لم يمنعها من الاعتراف بالحق و التحدث بالصدق لأن التقوى هي العاصم الذي عصمها من الذل وقت البلاء حتى حينما لاح لها في الأفق من يطلبها لإيوائها و الانضمام إليه بعيدا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و دينه فعلم أن ذلك ابتلاء و أنها سحابة صيف لابد أن تنقشع و أنها ظلمة آخر الليل التي تسبق نور الفجر فاستعصم بحبل الله لأنه الركن الركين ( و كان بوسعه أن يعتذر كما اعتذر من جاء يحلف و يتنصل من فعله و لم يلبث أن أنزل الله فيهم ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس و مأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ) ذلك لأن الله حاضر في ضمير المؤمن المخطئ و مع حرصه على إرضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم لكن مراقبة الله كانت أقوى و تقوى الله كانت أعمق , و كان الرجاء في الله أوثق و لذلك تاب الله عليه لأنه من الصادقين .
(( و الله الهادي سواء السبيل ))
" مواقف لإيمانية "
(( محبة الجيل الذي لا يتكرر ))(1/48)
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله و كفى بالله عليما )) النساء الآيات 69 - 70 . تشير هاتان الآيتان إلى ما يروح عن القلوب و هو روية الحبيب صلى الله عليه و سلم و التمتع بصحبته في الآخرة مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين , و هذا هو التطلع إلى المقام الكريم في الصحبة الكريمة في جوار الله الكريم ( و تلك الرفقة لهذا الرهط العلوي ) و هي من فضل الله و منه , فما ينبغي لإنسان بالغ ما بلغ بعمله وحده أو بطاعته وحدها أن ينالها أو يظفر بها , و إنما ينال ذلك بالفضل الواسع الحميم من الله صاحب الفضل الذي يؤتيه من يشاء , و لن يسعد بذلك إلا هذا الجيل الذي سعد بصحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان حرصهم على أن يتشوقوا السعادة بتلك الصحبة في الدار الآخرة , و كان فيهم من يبلغ به الوجد و الوله ألا يمسك نفسه عند تصور فراقه صلى الله عليه و سلم و هو بين ظهرهم , فيكون ذلك الشاغل الذي يشغله و يملك عليه أقطار نفسه حتى يعتريه السقم و المرض , و يعلم بذلك منهم علام الغيوب فتنزل هاتان الآيتان فتبل هذا الصدى و تشفى هذا الصم و تغيث تلك اللهفة و تندى هذا الوجد النبيل فعن عائشة رضى الله عنها قالت جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إنك أحب إلي من نفسي و أحب إلي من أهلي و أحب إلي من ولدي . و أني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى أتيك فأنظر إليك , و إني ذكرت موتي و موتك و عرفت أنك إذا دخلت اللجنة رفعت مع النبيين , و إن دخلت اللجنة خشيت ألا أراك فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه و سلم حتى نزلت هذه الآية .(1/49)
و في رواية أخرى دخل النبي صلى الله عليه و سلم على خادمه ثوبان فوجده حزينا كئيبا فقال له : ما بك يا ثوبان ؟ فقال ثوبان و الله ما بي من سوء يا رسول الله غير إني لا أطيق فراقك , و إذا غبت عني اشتقت إليك فتذكرت الدار الآخرة و أنك تكون في درجات علية مع النبيين و الصديقين و إني لو دخلت اللجنة أكون في درجة أقل فخشيت أن أحرم من رؤيتك في الآخرة فبكيت فقال له صلى الله عليه و سلم : يا ثوبان المرء مع من أحب و أنزل الله تعالى هذه الآية . لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أحسن الناس صحبة له و أكثر طاعة و أشد التزاما و أكثر استمساكا بحبه , لقد أمرهم الله تعالى بطاعته فأطاعوه , و نهاهم عن عصيانه و التمرد على هداه فلم يخرجوا عليه , لقد استمعوا لقول ربهم ( و من يطع الله و رسوله و يخشى الله فأولئك هم الفائزون ) ( و أنصتوا لله و هو يوجههم بقوله (( و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا )) و لقد فهموا هذه التوجيهات و أيقنوا أن الخير كل الخير في الالتزام بها و تنفيذها فآثروا حب الله و رسوله على كل سواهما , و في صحيح مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال : كنت أبيت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتيه بوضوئه و حاجته فقال لي : سل فقلت يا رسول الله أسألك مرافقتك في اللجنة فقال : أو غير ذلك . قلت هو ذاك . قال فأعني على نفسك بكثرة السجود و في صحيح البخاري ( من طرق مثواثرة عن جماعة من الصحابة ) أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الرجل يحب القوم و لما يلحق بهم فقال : المرء مع من أحب " قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث , و لقد كان أكثر شي يشغل قلوبهم و أرواحهم هو أمر صحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الآخرة لأنهم قد ذاقوا طعم الصحبة في الدنيا و إنه بحق لهو الأمر الذي يشغل كل قلب ذاق حلاوة محبة هذا الرسول الكريم .(1/50)
و تحدثنا كتب السيرة أن أبابكر الصديق رضى الله عنه ليلة الهجرة كان يتقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم في السير إلى الغار مرة و كان يتأخر عنه أخرى حتى انتهيا إلى الغار فاستوقف أبوبكر رسول الله صلى الله عليه و سلم و دخل الغار ليتحسسه فكان يجد به بعض أحجار الهوام فجعل يقطع من ثوب كان معه و يسدد تلك الأحجار حتى نفد الثوب و بغى جحر لم تبق له حزفة فوضع أبوبكر عقبة فيه مخافة أن يخرج منه شيء فيؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم و لما اطمأن أن الغار أمان نادى رسول الله صلى الله عليه و سلم و دخل النبي و استلقى و وضع رأسه على فخذ أبي بكر و نام و خرجت أفعى فلدغت الصديق في عقبة فتألم و آخذ يكظم غيظه مخافة ( أن يوقظ رسول الله صلى الله عليه و سلم ) فاستيقظ صلى الله عليه و سلم و سأل الصديق فأخبره فسأله صلى الله عليه و سلم عن الثوب الذي كان معه فأخبره أنه قطعه خرقا ليسد به أجحار الهوام فسأله صلى الله عليه و سلم عن سبب تقدمه عليه في السير و تأخره و عن سيره عن يمينه و عن شماله فقال يا رسول الله : كنت أذكر العبد فأتقدم و أذكر الطلب فأتأخر و أذكر الذي يأتي عن يمينك فأسير عن يمينك و أذكر الذي يأتي عن شمالك فأسير عن شمالك لأتلقى الضربة الأولى و أكون فداء لك يا رسول الله إنما أنا رجل من الأمة إذا هلكت فقيري كثير و أما أنت إذا هلكت فإن الأمة تهلك بهلاكك يا رسول الله . و هنا يدعو رسول الله صلى الله عليه و سلم ربه لأبي بكر قائلا : الهم أجعل منزلة أبي بكر في الجنة عندك بمنزلتي , و ينزل جبريل و يقول يا محمد إن ربك يقرئك السلام و يقول لك بشر صاحبك بأن الله تعالى قد استجاب له دعوتك و جعل منزلته في الجنة بمنزلتك و يقول لك ربك أقرا أبي بكر من ربه السلام و قل له إن الله راض عنك فهل أنت راض عن الله هذه هي الروح التي سادت المسلمين و ملكت عليهم أقطار نفوسهم فأعلت من شأنهم و جعلتهم بحق الجيل الذي لا يتكرر ( و(1/51)
هو معنى الحديث المشهور " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكن الله و رسوله أحب وليه مما سواهما و أن يحب المرء لا يحبه إلا الله و أن يكره أن يعود لكفر كما يكره أن يقذف به في النار " ) .
و لقد أحب الصحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم حبا لدرجة أنهم نسوا أنفسهم فكانوا يفتدونه بكل ما أوتوا فعن عبد الله بن هشام قال : كن مع النبي صلى الله عليه و سلم و هو أخذ بيد عمر فقال عمر : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال الرسول صلى الله عليه و سلم : لا و الذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك . فقال عمر فإنه الآن لأنت أحب إلي من نفسي , فقال صلى الله عليه و سلم : الآن يا عمر أي الآن فقط تم إيمانك رواه البخاري .
( و ذلك يوم وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمسجد هرجا و مرجا فصعد المنبر و قال : اجلسوا معشر المسلمين فجلسوا و أتم النبي حديثه معهم و غادر المسجد و في الطريق قريبا من المسجد وجد بعض أصحابه جالسا في الطريق و سأله : ما أجلسك هكذا يا زيد . فقال يا رسول الله : كنت في الطريق إلى المسجد فسمعتك تقول : اجلسوا فجلست حيث سمعتك تقول . فقال له صلى الله عليه و سلم زادك الله أدبا يا زيد ) تلكم هي المحبة التي رشحتهم إلى أن تكون برفقة الأنبياء و الصديقين و الشهداء و الصالحين في مقعد صدق عند مليك معتد فهل سمعت الدنيا حبا كهذا الحب
و الله الهادي سواء السبيل
الشيخ : عبد الظاهر عبد الله علي
بسم الله الرحمن الرحيم
(( مواقف إيمانية ))
(( محمد نبي الصفح والمرحمة ))
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( لقد جائكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم * فان تولوا فقل حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم )) سورة التوبة الآيتان 128 : 129.(1/52)
هاتان الآيتان اللتان ختمت بهما سورة التوبة و هي المدنية التي فضحت النفاق وأهله ويروي أنهما مكيتان وتتحدث احداهما عن الصلة بين الرسول وقومه وعن حرصه عليهم ورحمته بهم، والآية الثانية توجيه لهذا الرسول أن يعتمد على ربه وحده حين يتولى عنه من يتولى فالله وليه وناصره وكافيه وقد ذكر في سبب نزولهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما استعصى عليه ايمان أهل مكة فذهب الى الطائف حيث تسكن ثقيف وهي تبعد عن مكة حوالي خمسين ميلا وقصد الى نفر من رجالاتها الذين ينتهي إليهم أمرها ثم كلمهم في الإسلام ودعاهم الى الله فردوا عليه ردا منكرا وأغلظوا له الجواب فلما يئس من خيرهم قال لهم اذا أبيتكم فاكتموا على ذلك فقالوا له أخرج من بلدنا وحرشوا عليه الصبيان والرعاع فوقفوا له صفين يرمونه بالحجارة حتى شج في ذلك رأسه واصيب في قدميه فسالت منهما الدماء واضطره المطاردون أن يلجأ الى بستان لعتيبة و شيبة ابني ربيعة وهما من أشد أعدائه حيث جلس في ظل كرمة يلتمس الراحة والأمن وكان أصحاب البستان فيه فصرفوا عنه الأوباش واستوحش الرسول لهذا الحاضر المرير فهتف يقول (( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك هي اوسع لي، أعوذ بوجه نورك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل على غضبك أو أن ينزل بي سخطك لك العتبي حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك )).(1/53)
وضجت ملائكة السماء لشكاية رسول الله فأنزل الله جبريل ومعه ملك الجبال وقال: يا محمد إن الله أمرني أن أطيعك في قومك لما صنعوه معك فان أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين فسأطبقهما عليهم ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إن الله سبحانه وتعالى لم يبعثني لعانا وإنما بعثني الله رحمة للعالمين وإني لأرجو الله تعالى أن يخرج من أصلاب هؤلاء من يعبد الله ويوحده ثم قال: ((اللهم إهد قومي فانهم لا يعلمون )) فقال له جبريل : صدق من سماك الرؤوف الرحيم وأنزل الله هاتين الأيتين: ((لقد جاءكم رسول من انفسكم )) الخ. فأي عفوا هذا وأي صفح ذلك الذي تعجز البشريه عن مقاربته ولكن لا عجب فهو عفو الأنبياء وصفح المرسلين وغفران من أرسله الله رحمة للعالمين، وليس هذا هو الموقف الوحيد لرسولنا صلى الله عليه وسلم في الصفح والحلم والعفو بل أن مواقفه في هذا الميدان أكثر من أن يحصيها عد أو يحيطها حصر، ومن مواقف العفو والصفح التي لا مثيل لها بين الناس عفوه صلى الله عليه وسلم عن زعيم المنافقين عبدالله بن أبي فقد كان من أشد الناس عداوة للرسول والمسلمين وللدعوة وظل طول حياته يتربص بهم الدوائر ويحالف عليهم الشيطان ويحيك لهم المؤامرات ولا يجد فرصة للطعن عليهم والنيل من نبيهم الا انتهزها، وهو الذي أشاع قالة السوء عن أم المؤمنين عائشة وجعل المرجفين يتهامسون بالإفك حولها ويهزؤون اركان المحتمع الإسلامي بهذا الإتهام الدنيء، وتقاليد الشرق من قديم تجعل عرض المراة في الذروة من القداسة وتربط به كرامتها وكرامة اهلها، ولذلك فقد كان وقع الألم قاسيا في نفس رسول الله وأصحابه، وكانت الغضاضة من هذا التلفيق الجريء تملأ نفوسهم كآبة وغما حتى نزلت الآيات تكشف مكر المنافقين وتفضح ما اجترحوا وتنوه بطهر أم المؤمنين ونقاء صفحتها (( إن الذين جاءوا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولى(1/54)
كبره منهم له عذاب عظيم ))
وكتب الله الفوز لرسوله وجنده واكتسح الإسلام مخلفات القرون البائدة المخرفة وانحصر أعدائه في حدود أنفسهم وانكمش ابن أبي ثم مرض ومات بعد ان ملات رائحة نفاقه كل فج وجاء ولده الى رسول الله و كان من الصالحين يطلب من الرسول الصفح عن أبيه فصفح ثم طلب منه أن يكفن في قميصه فمنحه اياه ثم طلب منه أن يصلي عليه ويستغفر له فلم يرد له الرسول الرقيق هذا السؤال، بل وقف امام جثمان الذي طعنه في عرضه بالامس يستدر الرحمة والمغفرة له من رب السماء، واراد عمر ان يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه قائلا له اتصلي على كافر يا رسول الله؟ فقال له صلى الله عليه وسلم اخر عني يا عمر قد خيرت فاخترت قال الله لي: (( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ))
ولكن العدالة العليا حسمت الأمر كله فنزل قوله تعالى (( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره انهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون ))
فصلاة ربي وسلامه عليك يا نبي العفو والصفح والمغفرة والحلم والأناة وصدق الله اذ يقول فيك (( وانك لعلى خلق عظيم )).
بسم الله الرحمن الرحيم
(( مواقف إيمانية ))
(( محمد نبي الصفح والمرحمة ))
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( لقد جائكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم * فان تولوا فقل حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم )) سورة التوبة الآيتان 128 : 129.(1/55)
هاتان الآيتان اللتان ختمت بهما سورة التوبة و هي المدنية التي فضحت النفاق وأهله ويروي أنهما مكيتان وتتحدث احداهما عن الصلة بين الرسول وقومه وعن حرصه عليهم ورحمته بهم، والآية الثانية توجيه لهذا الرسول أن يعتمد على ربه وحده حين يتولى عنه من يتولى فالله وليه وناصره وكافيه وقد ذكر في سبب نزولهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما استعصى عليه ايمان أهل مكة فذهب الى الطائف حيث تسكن ثقيف وهي تبعد عن مكة حوالي خمسين ميلا وقصد الى نفر من رجالاتها الذين ينتهي إليهم أمرها ثم كلمهم في الإسلام ودعاهم الى الله فردوا عليه ردا منكرا وأغلظوا له الجواب فلما يئس من خيرهم قال لهم اذا أبيتكم فاكتموا على ذلك فقالوا له أخرج من بلدنا وحرشوا عليه الصبيان والرعاع فوقفوا له صفين يرمونه بالحجارة حتى شج في ذلك رأسه واصيب في قدميه فسالت منهما الدماء واضطره المطاردون أن يلجأ الى بستان لعتيبة و شيبة ابني ربيعة وهما من أشد أعدائه حيث جلس في ظل كرمة يلتمس الراحة والأمن وكان أصحاب البستان فيه فصرفوا عنه الأوباش واستوحش الرسول لهذا الحاضر المرير فهتف يقول (( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك هي اوسع لي، أعوذ بوجه نورك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل على غضبك أو أن ينزل بي سخطك لك العتبي حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك )).(1/56)
وضجت ملائكة السماء لشكاية رسول الله فأنزل الله جبريل ومعه ملك الجبال وقال: يا محمد إن الله أمرني أن أطيعك في قومك لما صنعوه معك فان أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين فسأطبقهما عليهم ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إن الله سبحانه وتعالى لم يبعثني لعانا وإنما بعثني الله رحمة للعالمين وإني لأرجو الله تعالى أن يخرج من أصلاب هؤلاء من يعبد الله ويوحده ثم قال: ((اللهم إهد قومي فانهم لا يعلمون )) فقال له جبريل : صدق من سماك الرؤوف الرحيم وأنزل الله هاتين الأيتين: ((لقد جاءكم رسول من انفسكم )) الخ. فأي عفوا هذا وأي صفح ذلك الذي تعجز البشريه عن مقاربته ولكن لا عجب فهو عفو الأنبياء وصفح المرسلين وغفران من أرسله الله رحمة للعالمين، وليس هذا هو الموقف الوحيد لرسولنا صلى الله عليه وسلم في الصفح والحلم والعفو بل أن مواقفه في هذا الميدان أكثر من أن يحصيها عد أو يحيطها حصر، ومن مواقف العفو والصفح التي لا مثيل لها بين الناس عفوه صلى الله عليه وسلم عن زعيم المنافقين عبدالله بن أبي فقد كان من أشد الناس عداوة للرسول والمسلمين وللدعوة وظل طول حياته يتربص بهم الدوائر ويحالف عليهم الشيطان ويحيك لهم المؤامرات ولا يجد فرصة للطعن عليهم والنيل من نبيهم الا انتهزها، وهو الذي أشاع قالة السوء عن أم المؤمنين عائشة وجعل المرجفين يتهامسون بالإفك حولها ويهزؤون اركان المحتمع الإسلامي بهذا الإتهام الدنيء، وتقاليد الشرق من قديم تجعل عرض المراة في الذروة من القداسة وتربط به كرامتها وكرامة اهلها، ولذلك فقد كان وقع الألم قاسيا في نفس رسول الله وأصحابه، وكانت الغضاضة من هذا التلفيق الجريء تملأ نفوسهم كآبة وغما حتى نزلت الآيات تكشف مكر المنافقين وتفضح ما اجترحوا وتنوه بطهر أم المؤمنين ونقاء صفحتها (( إن الذين جاءوا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولى(1/57)
كبره منهم له عذاب عظيم ))
وكتب الله الفوز لرسوله وجنده واكتسح الإسلام مخلفات القرون البائدة المخرفة وانحصر أعدائه في حدود أنفسهم وانكمش ابن أبي ثم مرض ومات بعد ان ملات رائحة نفاقه كل فج وجاء ولده الى رسول الله و كان من الصالحين يطلب من الرسول الصفح عن أبيه فصفح ثم طلب منه أن يكفن في قميصه فمنحه اياه ثم طلب منه أن يصلي عليه ويستغفر له فلم يرد له الرسول الرقيق هذا السؤال، بل وقف امام جثمان الذي طعنه في عرضه بالامس يستدر الرحمة والمغفرة له من رب السماء، واراد عمر ان يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه قائلا له اتصلي على كافر يا رسول الله؟ فقال له صلى الله عليه وسلم اخر عني يا عمر قد خيرت فاخترت قال الله لي: (( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ))
ولكن العدالة العليا حسمت الأمر كله فنزل قوله تعالى (( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره انهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون ))
فصلاة ربي وسلامه عليك يا نبي العفو والصفح والمغفرة والحلم والأناة وصدق الله اذ يقول فيك (( وانك لعلى خلق عظيم )).
بسم الله الرحمن الرحيم
(( مواقف إيمانية ))
(( مخافة المؤمن لربه تعصمه من الخطايا ))
يقول الحق تبارك وتعالى (( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله انه ربي احسن مثواي انه لا يفلح الظالمون * ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )) سورة يوسف الآيات 23 - 24.(1/58)
تشير هذه الآيات وما بعدها إلى المحنة الثالثة التي ابتلى بها نبي الله ورسوله يوسف بن يعقوب وأول محنة كات القاؤه في الجب والثانية كانت الرق بعد أن بيع للعزيز وتأتيه المحنة الثالثة بعد أن بلغ أشده واستوى ولكن الله تعالى قد آتاه حكما وعلما ليواجهها وينجو من شرها وهي محنة أو تجربة مريرة مر بها يوسف زمنا طويلا (فلم تكن فقط في مشهد المراودة الذي يصوره القرآن وانما كانت في حياة يوسف فترة مراهقته كلها في جو هذا القصر مع هذه المرأة، ولقد كان يوسف مولى مملوكا في سن الفتنة وهي محنة طويلة مر بها يوسف وصمد لها ونجا منها ومن تأثيراتها ومغرياتها ووسائلها الخبيثة ولسنه وسن المرأة التي يعيش معها تحت سقف واحد كل هذه المدة قيمة في تقدير مدى الفتنة وخطورة المحنة والصمود لها هذا الأمد الطويل ولقد كانت المراودة هذه المرة مكشوفة وكانت الدعوة فيها سافرة إلى الفعل الأخير وحركة تغليق الأبواب لاتكون إلا في اللحظة الأخيرة وقد وصلت المرأة إلى اللحظة الحاسمة التي تهتاج فيها دفعة الجسد الغليظة و نداء الجسد الأخير، ((وقالت هيت لك)) هذه الدعوة السافرة الجاهرة الغليظة لا تكون أول دعوة من المرأة، انما تكون هي الدعوة الأخيرة وقد تكون أبدا اذا لم تضطر إليها المراة اضطرارا، والفتى يعيش معها وقوته وفتوته تتكامل وأنوثتها متكاملة فلا بد أنه كانت هناك اغراءات شتى خفيفة لطيفة قبل هذه المفاجأة الغليظة فماذا كان جواب يوسف؟ قال: ((معاذ الله انه ربي احسن مثواي انه لا يفلح الظالمون)) أي أعيذ نفسي بالله أن أفعل ((انه ربي أحسن مثواي)) لقد أكرمني بأن نجاني من الجب وجعل في هذا الدار مثواي الطيب الآمن ((انه لايفلح الظالمون)) الذين يتجاوزون حدود الله فيرتكبون ما تدعينني إليه. والقرآن صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي المعلل بتذكر نعمة الله عليه وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون تلك الحدود، ثم(1/59)
تأتي الآية الأخرى (( ولقد هم به وهم بها لولا رآى برهان ربه )) يقول المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار (( انما همت بضربه نتيجة ابائه واهانته لها وهي السيدة الآمرة المطاعة. وهم هو برد الإعتداء ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر )) وجمهور المسفرين على أنها همت هم الفعل وهم بها هم النفس ثم تجلى له برهان ربه فترك. ويقول الزمخشري في الكشاف فان قلت كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ قلت: المراد بالهم أنه مالت نفسه إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب ميلا يشبه الهم به والقصد إليه وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تذهب بالعقول والعزائم وهو يكسر ما به ويرده بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالإمتناع، لإن استعظام الصبر على الإبتلاء على حسب عظم الإبتلاء وشدته, ويقول صاحب ظلال القرآن المرحوم سيد قطب: هو نهاية موقف طويل من الإغراء بعد ما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة. ولكن السياق القرأني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق اكثر من مساحته المناسبة في محيط القصه وفي محيط الحياه البشرية المتكاملى كذلك، فذكر طرفي الموقف بين الإعتصام في أوله والإعتصام في نهايته مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا.(1/60)
وهو اقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية وما كان يوسف سوى بشر رغم انه بشر مختار ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات. فلما رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه بعد لحظة الضعف الطارئة عاد إلى الإعتصام والتأبي. ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب)) فهو قد آثر التخلص والفرار واما هي فقد جرت خلفه لتمسك به وهي ما تزال في هياجها الحيواني وقدت قميصه من دبر نتيجة جذبها له لترده عن الباب وهنا تقع المفاجأة ويجد أن زوجها عند الباب فتسبق وتشتكي لتتخلص من هذا المنظر المريب وتتهم يوسف قائلة (( ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن او عذاب اليم )) ولكن يوسف يجهر بالحقيقة في وجه الاتهام الباطل ويقول: هي راودتني عن نفسي ويشهد بن عم لها قائلا (( ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رآى قميصه قد من دبر قال انه من كيدكن ان كيدكن عظيم )) وتظهر الدلائل والبراهين الدالة على صدق يوسف وبراءته وطهارة ذيله وأنها هي الكاذبة وهي التي راودته ودبرت هذا الإتهام ويهتف العزيز قائلا: يوسف أعرض عن هذا فأهمله ولا تعره اهتماما ولا تتحدث به، وأما انت أيتها الملفقة لهذا الاتهام الملصقة بالبراء العنت، فعليك أن تتوبي وأن تطلبي من الله المغفرة لذنبك انك كنت من الخاطئين )).
انها الحصانة الخلقية والطهارة والنقاء التي تعصم البشر من التردي في مهاوي الرذيلة وتحول دون اقتحامهم لحمى الله في الأرض وهي محارمه وهي العصمة التي يعصم الله بها أنبياءه ورسله وأتباعه من السقوط في الخنا وانها مخافة الله وتقواه (( وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لايمسهم السوء ولا هم يحزنون )) والله أعلم حيث يجعل رسالته فهو يختارهم على علم ويضعهم على عينه لأنهم هداة البشر ومصابيح الهدى وشموس الفضيلة وأقمار الليالي.(1/61)
والله الهادي سواء السبيل.
الشيخ عبد الظاهر عبدالله علي
بسم الله الرحمن الريم
((( مواقف إيمانية )))
((( الاعتراف بالحق طريق التوبة والإيمان )))
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكم إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز لان حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وان الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم )) سورة يوسف الآية 50 : 53.(1/62)
تشير هذه الآيات إلى نهاية محنة نبي الله ورسوله يوسف الصديق بعد تأويله رؤيا الملك وقد رأى الملك انه لا ينبغي لمثل هذا أن يكون نزيل السجن بل يجب أن يتبوأ مكانه اللائق به وان ينتفع بعقله وحكمته فلما وصل إليه رسول الملك يحمل العفو العام أبى يوسف أن يخرج إلا بعد أن تثبت براءته وتظهر للناس حقيقة انه إنما سجن ظلما فقال للرسول (( ارجع إلى ربك فأساله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن أن ربي بكيدهن عليم )) ولد كان هذا الفعل من يوسف بمثابة دلالة على براءته وانه ذو أناة وصبر، وطلب لبراءة ساحته لأنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحا فيراه الناس بتلك العين ويقولون: هذا الذي راود امرأة مولاه. فأراد يوسف أن يبين براءته ويحقق منزلته من العفة والنقاء بطلبه من الملك أن يستقصي عن ذنبه وان ينظر في أمره هل سجن بحق أو بظلم؟ ولم يذكر امرأة العزيز لحسن العشرة التي عاشها معها ورعاية لزمام العزيز له. أرسل الملك إلى النسوة والى امرأة العزيز وكان العزيز قد مات وسألهن ما شانكن حينما راودتن يوسف عن نفسه وذلك لان كل واحدة منهن قد راودت يوسف عن نفسه لها، أو بعذرهن امرأة العزيز في مراودتها ليوسف فيكون ذلك مراودة منهن له فقلن جميعا: معاذ الله ما علمنا عليه من زنى أو فاحشه وهذه شهادة منهن ببراءة ساحة يوسف وعفته وطهارة ذيله وبعده عن مواطن الخنا، وهن انبرت إمراة العزيز وقالت معترفة بالحق معلنة توبتها ورجوعها إلى الحق بإيمانها الذي آمنت به بربها (( الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين)) ولقد كان بوسع امرأة العزيز أن تبرئ ساحة يوسف بقولها مثل ما قاله النسوة:((ما علمنا عليه من سوء)) كما قالت النسوة:((ما علمنا عليه من سوء)) ولكنها أرادت أن تعترف بأمر لم تسأل عنه فقالت ((أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين)) وهذا القول منها لم تسأل عنه وإنما قالته إظهارا لتوبتها ولتحقيق صدق يوسف(1/63)
وكرامته ولان إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه، فأراد الله أن يجمع ليوسف الشهادة له والإقرار من صاحبة الشأن إقرارا منها بالصدق والإيمان والتوبة، حتى يعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب بالكذب عليه ولم اذكره بسوء وهو غائب بل صدقت وابتعدت عن الخيانة، ولقد كان هذا الاعتراف منها وهو سيد الأدلة شهادة كاملة بنظافته وبراءته وصدقه ولم تبالي المرأة ما وراءها مما يلم بها هي ويلحق مساحتها، فهل هو الحق والإيمان والتوبة الذي دفعها لهذا الإقرار الصريح في حضرة الملك والنسوة والملأ؟ أم إن حافزا أخر هو حرصها على أن يحترمها الرجل المؤمن الذي لحقه منها أذى كثيرا ولم يعبأ ولم يبال بفتنتها الجسدية كي يحترمها تقديرا لإيمانها ولصدقها وأمانتها في حقه عند غيبته، ثم تمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة قائلة: (( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم)) إنها امرأة أحبت إنها امرأة تكبر الرجل الذي تعلقت به في جاهليتها وإسلامها فهي لا تملك إلا أن تظل معلقة ولو بكلمة منه أو خاطرة ارتياح تحس أنها صدرت عنه تكفيرا لها عما احترمته في حقه، وهنا يوسف بعد إثبات براءته بالأدلة والبراهين القاطعة وتنتهي محنة السجن ومحنة الاتهام وتسير الحياة بيوسف رخاء يكون الاختبار فيها هذه المرة بالنعمة لا بالشدة ولقد اعترفت المرأة بصدق يوسف مرتين أما المرة الأولى فكان الدافع لها على الاعتراف إنما هو سعيها لتحقيق رغبتها من يوسف أمام النسوة اللائى فتن به معها ولم تر غضاضة في اعترافها بأنها هي التي راودته عن نفسه وتصر بأن إن لم يفعل ما تأمره به من تلبية رغبتها فيه فإنه سيسجن وليكنن من الصاغرين، فكان هذا الاعتراف في تلك المرأة إعادة للمراودة منها مرة أخرى بحضرة النسوة وهتكت جلباب الحياء بل وهددت بالسجن أن لم يفعل وكان ذلك منها حين لم تخش لوما ولا مقالا على حبها له خلافا لأول أمرها حين أنكرت إمام زوجها(1/64)
إذ كان بينه وبينها.
أما اعترافها في تلك المرة فكان نابعا من إيمان بالله وتوبة منها وندم وتبرأت لساحة الرجل الذي ظلم منها ولم يكن ذلك أمرا سهلا على نفسها ولكنها علمت ان فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، فجعلها أيمانها تستسهل أخف الأمرين وهكذا الإيمان والتوبة يدفعان إلى الاعتراف بالحق وإحقاق الحق وأبطال الباطل، وطلب الرحمة والمغفرة من رب العالمين تكفيرا لفعل النفس الأمارة بالسوء وشتان بين موقفها الأول أمام العزيز حينما ادعت عليه زورا وبهتانا بأنه هو الذي أراد بها سوءا وفي مواجهته، وبين موقفها الأخير حين كان غائبا عنها وتبرئ ساحته من الباطل الذي نسبته إليه وما دفعها إلى ذلك إلا الإيمان والتوبة الصادقة واللجوء إلى الله كي يغفر لها ذنبها ويرحم نفسها، وهكذا شان المؤمنين الذين تزل أقدامهم ويتوب الله عليهم فيكون أول عملهم هو الاعتراف بالحق وإعلانه والرجوع إليه مهما كلفهم ذلك من حرج وروى أن سبب نزول قوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون )) روي أنها نزلت في أبي لبابه بن عبد المنذر وقد سأله بنو قريظة أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فيهم جزاء خيانتهم لله ولرسوله وللمؤمنين فأجابهم: لا تفعلوا وأشار إلى حلقه يعني أنه الذبح. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله. وذهب إلى المسجد وشد نفسه إلى سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي، فنزلت هذه الآية وذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحل وثاقه ولم يتأت له ذلك إلا بعد التوبة الصادقة ومحاسبة النفس ومراجعتها. و ها هو عمر حين ينهي عن غلاء المهور وتقوم امرأة وتقول له: ليس هذا لك يا عمر لأن الله تعالى يقول (( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا )) أيعطينا الله بالقنطار وتعطينا أنت بالدرهم يا(1/65)
عمر؟ فرفع عمر يديه إلى السماء وقال اللهم غفرانك كل الناس أفقه منك يا عمر حتى النساء أصابت امرأة وأخطأ عمر. و ها هو عمر يرشد قاضيه أبا موسى الأشعري حين ولاه القضاء فيقول له: ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فتبين لك فيه خطؤك أن تراجع فيه نفسك فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، إنه الإيمان إذا الذي يستهين بكل شيء في سبيل الحق والرجوع إليه والاعتراف به مهما كان عبء ذلك ثقيلا على النفس.
والله الهادي سواء السبيل
الشيخ : عبد الظاهر عبد الله علي
بسم الله الرحمن الرحيم
((مواقف إيمانية))
(( ** تقوم الدعوات على أصحاب العزائم لا الرخص** ))(1/66)
يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم ((من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)) آية 106 من سورة النحل وتشير هذه الآية إلى تغليظ جريمة من كفر بالله بعد الإيمان لأنه عرف الإيمان وذاقه ثم ارتد عنه إيثارا للحياة الدنيا على الآخرة فكان جزاؤهم غضب من الله وعذاب عظيم وحرمان من الهداية ووصمهم بالغفلة وانطماس القلوب والسمع والإبصار، وأنهم في الآخرة هم الخاسرون وذلك لأن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة وحساب للربح والخسارة، ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر من مؤثرات هذه الأرض، فأن للأرض حساب وللعقيدة حساب ولا يتداخلان، وليست العقيدة هزلا وليست صفقة قابلة للأخذ والرد، فهي أعلى من هذا وأعز، ومن ثم كان هذا التغليظ في العقوبة والتقطيع لتلك الجريمة واستثنى القرآن من ذلك الحكم الدامغ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، أي من أظهر الكفر بلسانه نجاة لروحه من الهلاك، وقلبه ثابت على الإيمان مرتكن إليه مطمئن به، ولقد لقي المسلمون الأوائل في مكة من أنواع وألوان الأذى مالا يطيقه إلا من نوى الشهادة و آثر الحياة الأخرى و رضي بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلال، وقد روي أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر روى ابن جرير بإسناده عن أبي عبيده محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادو، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ قال مطمئنا بالإيمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( وإن عادوا فعد )) فكانت رخصة في مثل هذه الحال وقد أبى بعض المسلمين في أن يظهروا الكفر بلسانهم مؤثرين الموت على لفظه باللسان. كذلك صنعت سمية أم عمار، وهي تطعن بالحرية في موضع العفة حتى الموت، وكذلك صنع أبوه ياسر، وبل وحين ذهب رسول الله صلى الله(1/67)
عليه وسلم ليبشرها بتلك الرخصة كان جوابها أن قالت: (( والله يا رسول الله لا أدنس لساني بكلمة الكفر بعد أن ظهره الله بكلمة التوحيد والإيمان )). ولقد كان بلال رضوان الله عليه يفعل المشركون به الأفاعيل حتى ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمروه بالشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أحد . ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسلمة الكذاب: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فيقطع منه عضوا من أعضائه ثم يعيد عليه السؤال مرة أخرى وهو ثابت على قوله لا أسمع فلم يزل به حتى قطعه إربا إربا حتى أجهز عليه. وذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذيفة السهمي أحد الصحابة رضوان الله عليهم أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: العرب أن ارجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فع فقال: إذن أقتلك. فقال: أنت وذاك. قال فأمر به فصلب وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى. ثم أمر به فأنزل. ثم أمر بقدر وفي رواية بقرة من نحاس فأحميت وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح. وعرض عليه فأبى فأمر به أن يلقى فيها فرفع في بكرة ليلقى فيها فبكى فطمع فيه ودعاه. فقال: إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله، وفي رواية أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياما ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما أنه قد حل لي ولكن لم أكن لأشتمك في. فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك. فقال له: تطلق معي جميع إساري المسلمين. فقال: نعم. فقبل رأسه فأطلق جميع إساري المسلمين عنده. فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق(1/68)
على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ قام عمر فقبل رأسه رضي الله عنهما.
وحينما اشتد البلاء والعذاب على خباب بن الأرت لأن مولاته كانت تعذبه بالنار فلما اشتد الأمر عليه ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله: ألا تدعوا لنا ألا تستنصر لنا؟ فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: ان من كان قبلكم كان ليمشط أحدهم بالأمشاط الحديد ويوضع المنشار فوق رأس أحدهم فيشق نصفين ما يصرفه ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الركب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون وأنزل الله قوله تعالى: (( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين )). وفي قصة الرجيع لما أرسل النبي رهطا من الدعاة مع قبائل عضل والقارة وغدروا بهم في الطريق وفزع الدعاة إلى أسلحتهم يقاتلون بها وقتل منهم عاصم وصحبه واستسلم للأسر خبيب وزيد ابن الدثنة وعبد الله بن طارق وخرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم لأنهم قاتلوا مع رسول الله في بدر وحاول عبد الله بن طارق الإفلات منهم فقتل أمام زيد فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه واجتمع الناس حوله ومعهم أبو سفيان وقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمد الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحد كحب أصحاب محمد محمدا ثم قدم فقتل، وأما خبيب فقد اشتراه عقبة بن الحارث ليقتله بأبيه فلما خرجوا بخبيب ليصلبوه قال لهم ان رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا: دونك فاركع فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما ثم أقبل على الموت وهو ينشد
…ولست أبالي حين اقتل مسلما ……على أي جنب كان في الله مصرعي(1/69)
…و ذلك في ذات الإله وإن يشأ………
ثم قال: اللهم أحصهم عددا، وأقتلهم بددا، ولا تغادر أحدا، ذلك لن العقيدة آمر عظيم لا هوادة فيها ولا ترخص، وثمن لاحتفاظ بها فادح ولكنه ترجحه في نفس المؤمن وعند الله. وهي أمانة لا يؤتمن عليها إلا من يفديها بحياته وهانت الحياة وهانت كل ما فيها من نعيم أمامها، فعلى أصحاب العزائم تقوم الدعوات وتثبت دعائمها لا على أصحاب الرخص الذين لا يحتملون قسوة الحياة.
والله الهادي سواء السبيل.
الشيخ : عبد الظاهر عبد الله علي
** (( مواقف إيمانية ))**
(( عفو الكرام القادرين ))(1/70)
أرادت قريش أن تأثر لقتلاها في بدر فسارت بجيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل حتى بلغت المدينة وخرج النبي لملاقاتهم بعد استشارة أصحابه وهناك عند جبل أحد عسكر بمن بقي معه من جيشه بعد أن رجع زعيم النفاق عبدالله بن أبي بثلث الجيش من الطريق ورتب رسول الله الجيش جاعلا ظهره لأحد ووضع الرماة على ظهر الجبل بعد أن أمرهم ألا يبارحوا مكانهم إلا بأمره سواء انتصر المسلمون أم انهزموا وتلاقت الفئتان فئة الإيمان وفئة الكفر وأبلى المؤمنون بلاء حسنا وانتصر المسلمون وانكشف المشركون بباطلهم وسقط لوائهم وولوا الأدبار لا يلوون على شيء، وظن الرماة أن المعركة قد انتهت بعد أن أراهم الله ما يحبون من النصر على الأعداء وتركوا مكانهم لجمع الغنائم وبقي منهم عدد قليل استطاع خالد ابن الوليد قائد سلاح فرسان المشركين القضاء عليه واعمل سهامه في ظهور المسلمين وانعكس سير المعركة وأصبحت الدولة للمشركين على المسلمين بعد أن دهشوا وصار يضرب بعضهم بعضا وأشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل وأخذت الإشاعة مأخذها من المسلمين ودارت الدائرة عليهم حتى قتل منهم سبعون شهيدا هم شهداء أحد منهم حمزه بن عبدالمطلب ومصعب بن عمير وعمرو بن الجموح وعبدالله بن جحش وحنظلة غسيل الملائكة ومثل المشركون بقتلى المسلمين فبقرت بطن حمزة وجدع أنفه أخذت كبده وبعد انتهاء المعركة التي لم تستطع قريش أن تنفذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها. وقف رسول الله على القتلى وعلى عمه حمزة موقفا لم ير قط أغيظ منه وقال: والله لئن أظهرني الله عليهم يا عماه لأمثلن بسبعين من أبطالهم كمثلتك وأمر بدفنهم في جبل أحد ثم قال (( زوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يزورهم أحد فيسلم عليهم إلا أحياهم الله فردو عليه السلام )) وكان يقول: (( أحد جبل نحبه ويحبنا )) وتمر الأيام والشهور والسنون وتنقضي، والإسلام ينتشر وتعلو كلمته ويظهره الله بعد أن خاض الرسول والمسلمون(1/71)
حربا ضروسا ضد الوثنية العنيدة ويأتي يوم العشرين من رمضان في العام الثامن للهجرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكة بجيش قوامه عشرة آلاف مقاتل بعد أن نقضت قريش عهدها وقد استكانت مكة لقدر الله عليها بالفتح ويسمع رسول الله سعد ابن عبادة وهو يهز حربته وهو يقول (( اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم يوم أذل الله قريشا )) وتبلغ هذه المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انزل الله تعالى عليه آخر سورة النحل (( وإن عاقبتهم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )) ثم يقول لسعد بن عبادة (( بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة. اليوم يوم أعز الله فيه قريشا وأمر بأن ينزع اللواء من سعد ويدفع إلى ابنه مخافة أن تكون لسعد صولة في النصر ويدخل الرسول وجيشه مكة فاتحا منتصرا واستكان أهلها وعلت كلمة الله في جنبات مكة ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت العتيق فطاف به واخذ يكسر الأصنام المصفوفة حوله ويضربها بقوسه ظهرا لبطن فتقع على الأرض مهشمة متناثرة ونبي الإسلام يهدمها وهو يقول (( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهزقا )) ولما طهر المسجد من الأوثان أقبل على قريش وهم صفوف يرقبون قضاءه فيهم فأمسك بعضادتى الباب (باب الكعبة) وهم تحته فقال: لا إله إلا الله وحده صدق وعدهونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لأخوته (( لاتثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء)) لقد غفا محمد رسول الله عمن آذوه وتأمروا على قتله وقعدوا له ولدعوته ولأصحابه كل مرصد وكم جمعوا له من المرتزقة وكم تحالفوا مع اليهود إخوان القردة وكم حوصرت المدينة وأوشك أهلها أن يموتوا جوعا لولا لطف الله و ها هو(1/72)
اليوم يدخل أم القرى فاتحا منتصرا ويعلن العفو العام والشامل عن مجرمي الحرب بالأمس ويعفو عنهم عفو الكرام القادرين وكان من حقه أن يعمل فيهم السيف جزاء ما اقترفوا معه وهاهو يترك قسمة الذي كان قد أقسم به إن أظهره الله عليهم ليمثلن بسبعين من أبطالهم كما مثلوا بعمه الحمزة وأصحابه في أحد وقال نصبر إن شاء الله ولا نعاقب وكفر عن يمينه وأعتق رقبة مؤمنة، فأي عفوا هذا وأية رحمة تلك وأي كظم للغيظ هذا الذي لم تعرف له البشرية على طول الزمان وعرضه مثيلا؟ ولكن لاغرابة ولا غرو فهو عفو محمد نبي العفو والرحمة كما هو نبي الملحمة لقد كان هذا العفو في أواخر رمضان في العام الثامن للهجرة ومن آثار أن أسلم يومها ألفان من أهل مكة
وما قتل الأحرار كالعفو عنهمو……ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
ولقد كان رفق رسول الله بأهل مكة خير عتاب لقوم نجاة كما قال القائل
…ترفق أيها المولى عليهم ………فإن الرفق بالجاني عتاب
لقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه عفوا عاما وشاملا في زمن ووقت جعله الله تعالى ميقاتا للعفو وللرحمة فالعشر الأواخر من رمضان هي عشر العتق من النار كما قال صلى الله عليه وسلم عن شهر رمضان (( وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار )) وإذا كانت العشر الأواخر من رمضان هي أيام العتق من النار. وما العتق من النار إلا أعظم العفو من رب العالمين لمن استحق العقاب بالنار بذنب ارتكب ومعاصي قد اقترفت وخطايا قد عملت وأموال قد سلبت ودماء قد سفكت وأعراض قد هتكت ومحارم قد استبيحت ومع كل ذلك فإن رحمة الله التي وسعت كل شيء لم تشأ أن تعاقب مجترحيها وأن تعذب مقترفيها بل إن رحمته تعالى سبقت غضبه فلم يعجل بالعقوبة لمن عصاه لأن رحمته وسعت كل شيء، فجاءت العشر الأواخر من رمضان وقد شرح الله صدور المذنبين للتوبة فشملتهم رحمة الله وأعتقتهم من النار.(1/73)
وإذا كان العشر الأواخر من رمضان هي أيام العتق من النار وهي أيام عفو رسول الله عمن تآمروا على قتله من أهل مكة، ونحن نرجوا عفو الله في آخر هذا الشهر فجدير بنا أن يعفو محسننا عن مسيئنا وأن نصل من قطعنا وأن نعطي من حرمنا ونعفو عمن ظلمنا لعلنا بذلك نكون أهلا لعفو الله وللعتق من النار ولتكون لنا في رسول الله أسوة حسنة وهو الذي عفا عفو الكرام القادرين والتي تمثل مواقف الإيمان الصادق لرسول رب العالمين.
والله الهادي سواء السبيل.
الشيخ / عبد الظاهر عبد الله علي
مواقف إيمانية
(خطورة إلصاق التهم بالأبرياء)
يقول تعالى في كتابه الكريم (إن الدين جاء بالإفك عصبة منكم لا تحبوه شرالكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) سورة النور الآية 11(1/74)
تشير هذه الآية والآيات التسع التي تليها إلى قوله تعالى (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله رؤوف رحيم) الآية رقم 20 النور، إلى حديث الإفك الذي رمى به المنافقون بزعامة عبد الله بن أبي بن سلول أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي اله عنهما (وما قصدوه من مقالتهم من زلزلة أركان المجتمع الإسلامي وروجوه في أنحاء المدينة وتحدث به السداج من المسلمين) وحاصل هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة بني المصطلق من خزاعة (ولم تبق بينه وبين المدينة إلا مرحلة) وآذن بالرحيل آخر الليل، فلما علمت عائشة بذلك خرجت من هو دجها وابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها ولما فرغت أقبلت رحلها فافتقدت عقداً كان في صدرها فرجعت على طريقها تلتسمه (فحبسها طلبه وكان ليل) قلما وجدته رجعت إلى حيث وضع رحلها فلم تجد الجيش ولا رحلها (وذلك أن الرجال الموكلين بالترحل قصدوا الهودج فاحتملوه وهم يحسبون أن عائشة فيه وكانت خفيفة قليلةاللحم، فرفعوا الهودج وساروا) فلما لم تجد أحداً اضطجعت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها فنامت وكان صفوان المعطل السلمي قد أوكل إلأيه النبي صلى الله عليه وسلم حراسة ساقه الجيش (فلما علم بابتعاد الجيش وأمن عليه من غدر العدو وركب راحتله ليلتحق بالجيش) فيما بلع الموضع الذي كان به الجيش بصر بسواد إنسان فإذا هي عائشة (وكان قد رآها قبل الحجاب فاسترجع واستيقظت عائشة بصرت استرجاعه) فنزل عن ناقته وأدناها منها وأناخها فركبتها عائشة وأخذ يقودها حتى لحق بالجيش في نحر الظهيرة (وكان عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين في الجيش) فقال عبد الله بن أبي سلول : والله ما نجت منه ولا نجا منها، ثم راج هذا القول على لسان حسان ومسطع وصمنه بنت جحس آخت زينب أم المؤمنين وساعدهم في حديثهم طائفة من المنافقين وشق الأمر على الرسول والمسلمين وأهل بيته (فنبه الله عائشة ومن ماثلها ممن ناله أذى من هذا الحديث أن ما(1/75)
أصابهم من هذا البشر إنما هو الحير كل الخير لأن فيه منافع كثيرة إذ ميز الله به المؤمنين الخلص من المنافقين، وشرع لهم بسببه أخطأ ما تردع أهل الفسق عن فسوقهم ويتبين منه براءة فضلاتهم، ويزداد المنافقون غيظاً ويصبحون محضرين مذمومين ولا يفرحون بظنهم حزن المسلمين، وتأتي منه معجزات بنزول هذه الآيات بالإنباء بالغيب، وما ترعد اله به كبير المنافقين الذي تولى كبر هذا الإفك بأنه له عذاب عظيم وأنه سوف يموت على كفر) وقد روي أن أبا أيوب الأنصاري لما بلغه خبر الإفك لزوجه : ألا ترين ما يقال؟ فقالت له : لو كنت بدل صفوان كنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً؟ قال : لا ، قالت ولو كنت أنا بدل عائشة ما ضنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعائشة خير مني وصفوان خير منك، قال نعم (فدل ذلك على أن الاشتراك في وصف الإيمان يقتضي ألا يصدق مؤمن على أخيه وأخته في الدين ولا مؤمنة على أخيها وأختها في الدين قول عائب ولا طاعن : وأن حق المؤمن إذا سمع قاله في مؤمن أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك ولقد بين الله أن من يقول لا يطعن فيه مسلما دون أن يأتي بأربعة شهود فإن الله قد حكم بأن من الكاذبين وفي هذا من الأدب والأخلاق أن المرء لا يقول بلسانه إلا ما يعلمه ويتحقق منه وإلا فهو مموه ومراء يقول ما يعتقد خلافه أو أنه في الرأي يقول الشي قبل أن يتبين له الأمر ولقد ويحثهم الله على تناقلهم الخبر الكاذب وكان الشأن أن يقول القائل في نفسه ما يكون لنا أن نتكلم بهذا يقول ذلك لنفسه ولمن يجالسه ويسمعه منه ويقول هذا إفك وكذب وبهتان عظيم وقد وصفه الله قولهم بأنه بهتان عظيم وإنما كان بهتانا عظيما لا شتا له على منكرات كثيرة وهي الكذب وكون الكذب بطعن في سلامه العرضوكونه يسبب حنا عظيمة بين المفترين والمفترى عليهم وبدون عذر وكون المغزى عليهم من خبرة الناس وانتمائهم إلى أخير الناس من أزواج وآباء وقرابات وأعظم من ذلك(1/76)
كله أنه اجتراء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام أم المؤمنين رضى الله عنها، ولما شق الأمر على الرسول وعائشة وآل أبي بكر وعامة المسلمين.
وها هي أم المؤمنين عائشة تروي ما حدث بعد ما قال أهل الإفك فقالتهم تقول : "ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة وليس يبلغني من ذلك شيء وقد انتهى الحديث إلى أبوي وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يذكرون لي منه كثيراً ولا قليلاً إلأا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي في شكواي هذه فأنكرت ذلك منه (كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني قال : كيف تيكم؟ لا يزيد على ذلك) حتى وجدت في نفس فقلت يا رسول الله لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي قال : لا عليك حتى انتهيت من وجهي بعد بضع وعشرين وليلة (وكناقوها عربا فكنا نخرج في حاجة) فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح فعثرت في مرطها فقالت : تعس مسطح بئس لعمرى ما قلت لرجل من المهاجرين شهد بدراً. قالت أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر قلت وما الخبر فأخبرتني بالذي كان من أهل الإفك قلت : أو قد كان هذا؟ قالت نعم والله لقد كان. قالت عائشة (فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي) فرجعت فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي وقلت لأمر يغفر الله تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً؟(1/77)
قالت ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أبواي وعندي إمرأة من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي فجلس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتق الله وإن كنت قد فارقت سوءاً مما يقول الناس فتولي إلى الله، قالت فو الله إن هو إلا أن قال لي ذلك حتى قلص دمعي فما أحسن منه شيئاً وانتظرت أبواي حتى يحييا عني فلم يتكلما، قالت وأيم الله لأنا أحضر من نفس وأصفر شأنا أن ينزل الله في قرآنا وقلت لأبوي ألا تجيبان رسول الله فقالا والله لا ندري بما نجيبه فلما استعجبا على استعبرت فبكيت ثم قلت والله لا أنوب إلى الله مما ذكرت أبد والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أني بريئة لأقولن مالم يكن ولئن أنكرت ما يقولون لا تصدقوني قالت ثم التمست اسم يعقوب فلم أذكره فقلت أقول ما قال أبو يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصغون، فو الله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسة حتى تفشاه من الله ما كان يتفشاه من الوحي فسجي ووضعت وسادة تحت رأسه فأما أنا فحين رأيت من ذلك ما رأيت فو الله ما فزعت وما باليت وقد عرفت أني بزيئة وأن الله غير ظالمي وما أبواي فوا الذي نفس عائشة بيده ما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس ثم سري عن رسول الله فجلس وإنه لينحدر عن وجهه مثل الجمان في يوم شات فجلس يمسح العرق عن وجهه ويقول أبشري يا عائشة قد أنزل الله عزوجل براءتك فقلت الحمد لله ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم الآيات.(1/78)
فتعالوا بنا نتصور كيف كان موقف عائشة وهي ترمي بأشنع تهمة تتهمها في أعز ما تملك وهو شرفها وكيف كان وقع الخبر على الرسول وعلى أهلها وكيف عم الحديث المدينة كلها حتى لم يعد بيت إلا وهو يؤرقه حديث الإفك ولكن لننظر إلى الموقف الإيماني لعائشة وهي تنفص الدمع والحزن عنها وتستجمع قوتها وتقول قول الواثقة بربها إنه لن يخذلها ولن يظلمها وهي تتسلح بخير سلاح وهو صبر يعقوب على أحد ولديه وهو يخبر بأن الذئب آكلة وعن الآخر بأنه رهين سرقته وتقول فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون هكذا المؤمن كلما وتشتد عليه الكرب يزدا والسجود لربه وكلما كثر أعداؤه أيقن بنصر الله لأنه القائل (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشر) فكان فرج الله القريب أن أنزل براءتها في عشر آيات تتلى إلى يوم الدين وهكذا المؤمن يخرج من الامتحان أصلبت عودا وأقوى إيمانا عنه قبل دخوله والله الهادي لسواء السبيل.
بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف إيمانية
(( النعم لا تزيد المؤمن الا شكراً ))(1/79)
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة أيها النمل أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن أشكرك نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين )) تشير هذه الآيات إلى موقف إيماني لنبي الله سليمان بن داوود منم شأنه أن يفتن به غير المعصوم لأنه أعطاه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وقد علم منطق الطير واوتى من كل شيء وسخرت له الريح غدوها شهر ورواحها شهر وتسأل له عين القطر والشياطين وكل بناء وغواص له ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ويحشر له جنوده من الجن والأنس والطير وهم يوزعون ويتدافعون لكثرتهم وقوتهم ويمرون على وادي النمل فيسمع مقالة النملة لأخوانها وهي تقول محذرة إياهم من بطش سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بهم ، هذا الموقف الذي يستمع فيه إلى من يتحدث عن عظمته وعظمة جنده يقف متبسماً ضاحكا قائلاً في غير غرور وصلف بل في تواضع جم وتذلل وتخشع لله رب العالمين ويقول (( رب أوزعني أن أشكر نعمتك علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين )) وحينما ينتهي هذا الموقف يتعرض لاختبار في موقف آخر أشد من حينما يفقد الطير فلم ير الهدد ثم لا يلبث ان يأتيه حاملاً نبأ من سبأ أذ يخبره عن ملكة سبأ وأنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله فيقف متثبتا من خبره ليتأكد صحة نبأه ويرسله بكتاب إليهم ويلقيه لملكتهم فتعرض الملكة الكتاب على مستشاريها مستشيرة أياهم وتعرض عليهم أقتراح إرسال هديه إلى سليمان كي تتألف بها قلبه إن كان ملكا من ملوك الدنيا وتذهب الهدايا لسليمان فلا يقبلها ويبين لهم أن الفرح بالهدايا ليس من شيمته ولا خلقه ويتوعدهم بأنه سوف يرسل إليهم جنودا لا قبل لهم بها(1/80)
وأنه سيخرجهم منها أذلة وهم صاغرون . ثم يسأل سليمان من حوله قائلاً (( أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين )) 38 النحل . ويعرض عليه عفريت من الجن أن يأتيه بعرشها قبل أن يقوم من مقامه وانه على احضاره مؤتمن وقوي . لكن وزيره آصف الذي عنده اسم الله الأعظم يقول له أني أستطيع احضار عرشها من بلاداليمن في طرفة عين ثم لا يلبث أن يرى العرش مستقراً عنده من بلاد سبأ وحينما رآه بين يديه مستقراً عنده لا يغتر ولا يحس بالتية ولا بالفخر ولا ينسى إرجاع النعمة لصاحبها ويعيد الفضل لوليه وهو الله رب العالمين فيهتف من أعماق نفسه قائلاً (( هذا من فضل ربي ليبلوني ء أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم )) أنه الشكر والاعتراف بالجميل للمنعم الأكبر أنه الثناء على ولي النعمة الأعظم أنه خبير بما يديم النعم وهو الشكر وعدم البطر وعدم الغرور.(1/81)
وقريب من هذا ما يحدثا به القرآن الكريم عن ذي القرنين حينما ملك الدنيا كلها وبلغ مغرب الشمس وبلغ مطلعها حتى بلغ بين السدين ووجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ويشكون له فساد يأجوج ومأجوج ويعرضون عليه خرجا وأجرا ومكافأة تتناسب مع عظم العمل الذي سيقوم به وهو أن يبني لهم سداً يحول بينهم وبين هؤلاء المفسدين في الأرض وقد علموا أنه خبير في بناء السدود ولكنه يرفض الأجر الذي عرض عليه منهم ويقول لهم إن تمكين الله لي في حرفتي ومهنتي وخبرتي في عملي أمر لازم وواجب علي كي أقوم بشكر النعمة التي منَ الله بها على إذ أمكنني الله من عملي انفع به البشر فيلزمني شكرُ تلك النعمة ويستعين بهم في جمع قطع الحديد الخالص ويضعه في صورة بناء ويضع بين كل طبقتين خشباً وفحما حتى إذا ساوى بناءه بين الجبلين قال لهم أنفخوا حتى إذا انصهر الحديد بالنار فيقول لهم أتوني نحاساً مذاباً فيصير عمله كتله واحدة وهو من السماكة بحيث لا يستطيع المفسدين نقبه وهو من الملاسة بحيث لا يستطيع الاعداء علوه واستظهاره ولما تم له عمله الذي قدمه للبشرية فلا يغتر ولا يتيه ولا يزهو بل يعترف لله بالنعمة ويقوم بالشكر لله ان مكنه من فضل ينفع به الآخرين فيهتف قائلاً (( هذا من فضل ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا )).
وهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح الأعظم وهو يرى أم القرى وهي تسلم قيادها إلى الله رب العالمين وينظر دولة الأصنام وهي تتهاوى وتلك الأوثان التي عبدت من دون الله وهي تسقط مهشمة على وجوهها ويرى الشرك وهي تتدمر أمام جند الله يدخل مكة منحني الرأس حتى مست لحيته عنق راحلته خضوعا لله رب العالمين وهو يهتف من أعماق نفسه: لا اله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزام وحده [ لا اله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ] وقل جاء الحق وزهق الباطل أن الباطل كان زهوقا.(1/82)
أنه الشكر إذن الذي تستدام به النعم والذي لا يصدر إلا عن نفوس عظيمة وطباع صافية وقلوب لم تدنس بشائبة الجحود والنكران إنه الوفاء للمنعم والذي يجد فيه الشاكرون لذة الخضوع لقيوم السموات والأرض.
بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف إيمانية
(( أيها الآباء أحرصوا على تلك الوصايا ))
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن أشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )) سورة لقمان الآيات 12 ، 13 .(1/83)
وهاتان الآيتان تعرضا لبيان لقمان وان الله تعالى قد آتاه الحكمة ليشكر الله فضله ونعمه عليه ، وأختلف فيه ابرز الأقوال فيه أنه كان نو [ وهو لقمان بن ياعوراء بن أخت ايوب أو أبن خالته ] وقيل كان من أولاد آزر عاش ألف سنة وادركه داود عليه الصلاة والسلام واخذ عنه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود فلما بعث داود قطع الفتوى فقيل له : ألا إكتفى إذ كفيت ، وكان قاضيا في بني أسرائيل [ وقد أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة والصواب أنه كان ولياًّ ولم يك نبيا ] والحكمة هي الصواب في المعتقدات او الفقه في الدين والعقل وعن أبن عباس رضي الله عنه من حديث ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله تعالى فأحبه فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق فقال : رب أن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء وأن عزمت فسمعا وطاعة فأنك ستعصمني : وزاد : فقالت له الملائكة بصوت لا يراهم : لمَ يا لقمان ؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان إن يعن فبالحرى أن ينجو ، وأن أخطأ أخطأ طريقه الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلاً فذلك خير من أن يكون فيها شريفا ، ومن يختر الدنيا على الآخرة نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة . فعجبت الملائكة منحسن منطقه فنام نومة فأعطى الحكمة فأنتبه يتكلم بها ثم نودى داود بعدها فقبلها ولم يشترط ما أشترطه لقمان [ فهوى في الهفوات غير مرة كل ذلك يعفوا الله عنه ] وكان لقمان يؤازره بحكمه فقال له داود طوبى لك يا لقمان اعطيت الحكمة وصرف عنك البلاء وأعطي داود الخلافة وأبتلى بالبلاء والفتنة وقد سئل : كيف أخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك ؟ فقال : إنه لو أرسل ألي النبوة عزمة لرجوت فيها العون منه ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحبَّ إلي وقد أختلف في صنعته فقيل كان خياطا ، وقيل أنه كان يحتطب كل(1/84)
يوم لمولاه حزمة حطب [ وقال لرجل ينظر أليه : أن كنت تراني غليظ الشفتين فأنه يخرج من بينهما كلام رقيق ، وأن كنت تراني أسود فقلبي أبيض ] وقيل كان راعيا فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال له : ألست عبد بني فلان ؟ قال بلى ، قال فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : قدر الله وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، وترى مالا يعنيني ، وقد قال سيده يوما : أذبح لي شاة وأتني بأطيبها مضغتين فأتاه باللسان والقلب فقال له : ما كان فيها من شيء أطيب من هذين ؟ فسكت ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له : ألقي أخبثها مضغتين فألقى القلب واللسان فقال : أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني بالقلب واللسان , وأمرتك أن تلقي أخبثها فألقيت بالقلب واللسان ؟ فقال له : هما أطيبها إن طابا وهما أخبثها أن خبثا [ وقد قال وهب بن منبه قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب ، وقد روي أنه دخل على داود وهو يسرد الدروع وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله . فقال له داود بحقًّ ما سميت حكيما ] ولقد آتاه الله الحكمة ليشكر الله فشكر فكان حكيما بشكره , والشكر لله طاعته فيما أمر به ويعود اثره على الشاكر لأن الثواب عائد إليه وعندما آتاه الله الحكمة لم يحجبها عن أحد من الناس فكيف بولده الذي هو فلذة كبده وثمرة فؤاده ؟ فقد أعطاه خلاصة تجارية وكان أبا رحيما واعظا رقيقا وهو يوجه ولده إلى ما فيه السعادة في الدنيا والآخرة ، وأول حكمه أن نهى ولده عن الشرك بالله الذي هو ظلم عظيم وهو ما جاءت أوامر الشريعة به على لسان الانبياء والمرسلين لمن أرسلوا أليهم [ وقرر أن التوحيد هو الركيزة الأولى والأساس الذي يبني عليه كل فلاح ] يقول الله تعالى (( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا اله إلا أنا فاعبدون )) الأنبياء 25 . ثم تابع أسداء الحكمة لولده بعد توحيد(1/85)
الله ونهيه عن الشرك فجاء بأعظم وصيه بعد التوحيد وهي التنبيه لولده على عنصر الرقابة والمراقبة لعلام الغيوب حين قال : يا بني أن أتتك مثقال حبه من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت الله بها إن الله لطيف خبير ، لقد اراد لقمان أن يبين لولده قدر قدرة الله بأنه لا تخفى عليه خافية في الارض ولا في السماء لأن الخردلة هي التي يقال عنها إن الحس لا يدرك إلا ثقيلا لأنها لا ترجح ميزانا ، ومعناها أيضاً ان لو كان للانسان رزق مثقال حبه خردل فيهذه المواضع جاء أليه بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه ، أي لا تهتم بالرزق حتى لا تشغل به عن أداء الفرائض , وقد نطقت هذه الآية بان الله تعالى قد احاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا [ وقد روى أن أبن لقمان سئل آباه عن الحبة التي تقع في أسفل البحر أيعلمها الله فراجعه لقمان بهذه الآية ] وروى أن ابنه قال : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله ؟ فاجابه بهذه الآية فما زال أبنه يضطرب حتى مات ويستمر لقمان الحكيم في وعض أحب الناس إليه فيوصيه بأعظم الطاعات وهي الصلاة والأمربالمعروف والنهي عن المنكر ثم يتبعه بما يلزمها بقولهوأصبر على ما اصابك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يلحقان بما يقوم بهما ضرراً فنبهه على الصبر على ذلك وعلى كل ما يلحقه من مصائب الدنيا ، ثم يناه على الكبر والتعالي على الناس أي لا تعرض عنهم تكبرا مثل البعير الذي يلوي عنقه مما به من داء الصعر ويتبع ذلك بالنهي عن أن يمشي متبختراً مختالاً متكبرا ، ثم لما نهاه عن الخلق الذميم رسم له معاني الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله فقال له (( وأقصر في مشيك وأغضض من صوتك )) أي توسط في مشيك بين الأبطاء والاسراع ولا تتكلف رفع الصوت لأن الجهر فوق الحاجة تكلف مؤذ تلك هي الوصايا العشر التي جاءت على لسان حكيم مؤمن لأحب الناس لديه وهو ولده ولو أن الآباء ووسائل التربية ودور العلم(1/86)
والإصلاح تمسكت بتلك الوصايا التي وصى بها لقمان أبنه وسمعها رب العالمين وأنزلها قرآن يتلى إلى يوم القيامة لسعدت الدنيا بأهلها وسعد أهلها بها هذه هي الوصايا الرقيقة التي سيقت في مجال الوعظ بلطف ورقة وحنو ليكون لنا فيها أسوة حسنة لمن أراد أن يعظ ويذكر الناس بالله والدار الآخرة وهو القائل لولده : يا بني أن الدنيا بحر عميق قد غرق فيه كل من كان قبلك فإذا أردت النجاة فيها يا بني فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وشراعها التوكل على الله وحشوها الايمان بالله لعلك تنجوا يا بني ولا أظنك ناجيا والله الهادي سواء السبيل
الشيخ
عبد الظاهر عبد الله علي
بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف إيمانية
(( حق لا يسقط بأي حال ))
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( ووصينا الإنسان بوالديه أحسانا حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون )) لقمان 15 - 16 .(1/87)
روى في سبب نزول هذين الآيتين وآية العنكبوت وآية الأحقاف المشابهتين لتلك الآية أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه صمنه بنت أبي سفيان وكان باراً لها ، حين أسلم سعد فقالت : ما هذا الدين الذي أحدثت ؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت ، فتتعير بذلك أبد الدهر يقال : يا قاتل أمه ثم أنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب فجاء سعد إليها فقال يا أماه لو كان لك مائة نفس فخر حب نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي أن شئت ، وأن شئت لا تأكلي ، فلما أيست منه أكلت وشربت ، فأنزل الله هذه الآية عنا بالسعد وآمر بالبر بالوالدين والاحسان إليهما وعدم طاعتهما في الشرك [ وعلى هذا يكون الإيمان قد أنتصر على فتنة القرابة والرحم وفي الوقت ذاته قد أستبقى الأحسان والبر ، والمؤمن معرض لتلك الفتنة في كل آن ووقت فليكن بيان الله وفعل سعد راية الأمان والنجاة ] وقد تكررت وصية القرآن بالوالدين في سبع سور منه وخصت بها الأم بزياد توصية بها لكثرة ما تقاسية وتعانيه من مشقة الحمل والوضع والرضاع والفطام ، وقد روى البزار في مسنده بإسناده أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها , فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : هل أديت حقها ؟قال : لا ولا بزفرة واحدة ، وفي تلك الوصية يوجه الله تعالى إلى شكره وشكر الوالدين المنعمين وهما مرتبطان فلا تقبل واحدة دون الأخرى . فعن أبن عباس رضي الله تعالى عنه قال : أن الله قرن ثلاثة بثلاثة فلا تقبل واحدة دون الأخرى قال الله تعالى (( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول . فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل الله طاعته ، وقال أقيموا الصلاة وأتوا الزكاة ، فمن أقام الصلاة ولم يأت الزكاة لم يقبل الله صلاته ، وقال تعالى : أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير . فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل الله شكره )) وفي حديث الله لموسى يقول الله تعالى [ لولا من يشهد لا إله إلا الله لصلَّطت جهنم على أهل الأرض(1/88)
، ولو لا من يعبدني ما أمهلت من يعصيني طرفة عين ] يا موسى أن كلمة من العاق تزن جبال الارض كلها ، قال موسى يا رب من العاق ؟ قال : الذي يقول لوالده لا لبيك .
إن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين ونهى عما يؤذينهما بأقل شيء في قوله ( فلا تقل لهما أف ) [ قال بن عباس لو كان في الكلام لفظ أقل من أف ما قال الله فلا تقل لهما أف ]إن من بر الوالدين طاعتهما من دون معصية وألا تسمى أحد منهما باسمه ولا تمس أمامهما ولا تجلس قبلهما ، وألا تقوم بخدمتهما وأنت كسلان وألا ترفع صوتك أمامهما ولا تنظر أليهما شزراً وألا يريا منك مخالفة في الظاهر أو الباطن وأن تترحم عليهما ما عاشا وتدعوا لهما إذا ماتا وأن تنفق عليهما إذا احتاجا النفقة وأن توسع عليهما وأن تكفهما النفقة وألا تؤثر عليهما زوجة ولا ولد وأن ترحمهما من الأعمال الوضيعة ، ومن البر بهما أن تستأذنهما في الجهاد ومن البر بهما بعد موتهما رعاية من كانا يرعيانه وصلة قرابتهما وتنفيذ وصيتهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وأكرام صديقهما والصلاة عليهما والأستغفار لهما ، إن دعوة الوالدين لولدهما أو عليه ليست بينهما وبين الله حجاب يقول صلى الله عليه وسلم لا شك في أجابتهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده هذا وليس كالاحسان للوالدين شيء يدانيه أو يساويه فهو مما يفرج الله به الازمات ويرد به المهلكات فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنطلق ثلاثة تفر ممن كان قبلكم حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه ، فأنحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار ، فقالوا : إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح اعمالكم : قال رجل منهم اللهم كان لي والدان شيخان كبيران وكنت لا أعبق قبلهما أهلا ولا مالا - يعنى لا أسقى قبلهما في العشي أحدار فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرُح عليهما حتى ناما فحلبت لهما عنبوقهما فوجدتهما(1/89)
نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبُق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر حتى يرق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي ، فأستيقظا فشربا غبوقهما اللهم أن كنت فعلت ذلك أبتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فأنفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه ، وتوسل الثاني بضعته عند أبنة عمه وأعطاها ما تريد من ماله وتوسل الثالث بتوفيته حق الأخير حتى أنفرجت الصخرة كلها وخرجوا يمشون .
ومما يروى أن موسى عليه السلام كان يدعوا كل يوم ويقول اللهم أرني رفيقي في الجنة وفيما هو يسير نحو غايته تلقاه شاب فسلم عليه فقال له موسى عليه السلام : يا عبد الله أنا ضيفك الليلة ، فقال له الشاب : يا هذا إن رضيت بما عندي أنزلتك وأكرمتك فقال عليه السلام قد رضيت وكان يعمل قصابا ، فأخذ بيد موسى وأنطلق إلى حانوته وأجلسه حتى فرغ من بيعه ، وكان لا يمر بشحم ولا مخ إلا عزله ثم أنطلق به إلى بيتهوطبخ الشحم والمخ وتقدم نحو قفةفيها شيخ كبير قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وأخرجه منها وغسل وجهه وثيابه وعمد إلى الخبز ففته ثم صب عليه الشحم والمخ وأطعمه حتى شبع وسقاه حتى روى ثم رده إلى مكانه فقال له أبوه لا خيب الله لك سعيا يا ولدي وجعل موسى بن عمران رفيقك في الجنة ثم فعل بقفة أخرى ما فعل بالأولى وكان فيها أمه ، فبكى موسى عليه السلام رحمة بهما ثم قدم لموسى الطعام فقال له : ما أنا في حاجه إلى طعامك ولكني سألت الله أن يريني رفيقي في الجنة ، فقال له الشاب : من أنت يرحمك الله ؟ فقال له : أنا نبي الله موسى فخر الشاب وغشي عليه ولما أفاق دخل على والديه فأخبرهما أن الله قد أستجاب دعاءهما وأن الضيف هو نبي الله موسى عليه السلام وقد أخبره بذلك عن رب العالمين .
[ فهلا قام الأنبياء بذلك حتى ينالوا تلك المنزلة التي أعدها الله ] للأبرار والله هادي سواء السبيل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
…
…بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف إيمانية(1/90)
(( ثقة المؤمن بوعد الله أشد ما تكون في المحن ))
يقول الحق تبارك وتعالى (( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما )) الأحزاب الآية 22
تشير هذه الآية إلى غزوة الأحزاب وموقف المؤمنين فيها وحاصلها أن زعماء اليهود أستطاعوا أن ينجحوا في تأليب قريش وغطفان والأحابيش وزعماء القبائل على المسلمين وساروا في جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل وقبل وصولهم إلى المدينة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بهم وأستشار أصحابه ورأوا أنهم لا قبل لهم بهولاء إذا ألتحموا بهم وأشار سلمان الفارسي بحفر الخندق ومكث المسلمون قرابة شهر يحفرون الخندق وقبل وصول الجيش الزاحف إلى المدينة كان المسلمون قد فرغوا من تحصين مدينتهم بحفر الخندق فلما بلغت الأحزاب المدينة ورأوا الخندق قالوا هذه كانت مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك ووقف جيش الأحزاب أمام الخندق وكلما حاول بعض جندهم أقتحامه حاربهم المسلمون ولم يفلحوا في أقتحامه وسهر المسلمون ليلهم وأيقظوا نهارهم في حراسة ندينتهم ومعهم رسولهم [ وحينما حاولت كتيبة من الأحزاب أن تتوجة إلى المنزل رسول اله صلى الله عليه وسلم قاتلهم المسلمون طول نهارهم إلى الليل حتى شغلوهم عن صلاة العصر كما يريدون ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومها وقال شغلونا على صلاة العصر ملأ الله بطونهم نارا ] وأستمر الحصار عشرون يوما والمسلمين في دفاع مستميت عن مدينتهم ( واستطاع حيى بن أخطب أن يقنع زعيم بني قريضة وأن ينكث عهده مع النبي وأن ينقلب مع الأحزاب ) وزلزل المؤمنون زلزالا شديدا وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت منهم الأبصار وبلغت قلوبهم الحناجر واخذت الظنون تختلف في الله تعالى فالمنافقون قالوا كلاما قبيحا وسخروا مما كان وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء حفر الخندق حينما وعدهم كنوز كسرى وقيصر فقالوا (( يخبركم(1/91)
محمد أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنتم تحفرون الخندق وأحدنا اليوم لا يستطيع أن يبرز إلى الخلاء )) أنهم المرتابون وهم مرضى القلوب وهم المغرورون وفيهم يقول الله تعالى (( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا )) ونادى فريق منهم بالرجوع إلى ديارهم وأعتذروا للرسول وقالوا إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا . أما المؤمنون الصادقون فحينما رأوا الأحزاب تنساب حول المدينة وتضيق عليها الخناق وحينما رأوا يهود بني قريظة قد أنظموا إلى الأحزاب فلم تطر نفوسهم شعاعا بل جابهوا الحاضر المر وهم موطدوا الأمل في غد مشرق كريم وأنها محنة وسوف تزول قريبا وإنها سحابة صيف عن قريب ستنقشع فكان موقفهم ما قصه الله علينا في قوله (( ولما رآى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما )) [ بل هناك ما يشبه الأساطير في مواقف المؤمنين الصادقين في تلك الغزوة إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رأى الأمر قد أشتد على المسلمين أراد أن يخفف عن المسلمين ما هم فيه إذ تحملوا ما لم يتحمله بشر فبعث إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان أن يرجعا عن المدينة ولهم ثلث ثمار المدينة واستجاب القوم وبدأت المفاوضات وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زعماء الأنصار سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج لاستشارتهما في ذلك فقالا له يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد من العمل به أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال : بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فاردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلى أمر ما فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها(1/92)
ثمرة إلا قرى أو بيعا . أفحين أكرمنا الله بالأسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا . ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم .
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : فأنت وذاك .وكان الرسول قد كتب صحيفة لغطفان فأخذها سعد ومحا ما فيها وقال : ليجهدوا علينا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيينة والحارث : أرجعا بيننا وبينكم السيف ] إنه موقف يكشف عن جوهر المسلمين ونفاسة معدنهم وصلابة عودهم وحقيقة اتصالهم بالله وبرسوله وبالأسلام وتفانيهم في سبيل مبدئهم ، أنه اتصال يفرضه إيمانهم العميق بعقيدتهم الراسخة وثقتهم التي لا حدود لها بوعد الله وأنهم أقوى ما يكونون صلة بالله وثقة بوعده إبان المحن والشدائد والنوازل التي لم تزد عودهم إلا صلابة ونفوسهم إلا صفاءا وقلوبهم إلا يقينا ، أنه موقف يبين ما تمتلئ به روح المسلمين من قدرة على مواجهة المواقف الحرجة بالصبر والصمود والاحتمال ومن رغبة جياشة في قهر العدو مهما تكتلت قواته وكثر سلاحه أو تعدد حلفاؤه وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول (( إن الله تعالى ليجرب عبده بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج أبيض ناصعا كالذهب الأبريز ومنهم من يخرج دون ذلك ومنهم من يخرج أسود محترقا )) .
أن هذه المعركة لم تكن معركة قتال بقدر ما كانت معركة أعصاب إذ القتلى من الفريقين يعدون على الأصابع ولقد وقع ثقل المقاومة والدفاع فيها على أصحاب الإيمان الراسخ والنجدة الرائعة فكان عليهم أن يكتموا مظاهر القلق التي أنبعثت في نفوس الخوارة الهلوع وأن يعشيعوا موجة الاقدام والشجاعة تغلب نزعات الجبن والتردد التي بدت هنا وهناك عند ذوي الإيمان الضعيف .
ولقد المؤمنون الصادقون ذوي نفوس صلبة فحينما مرت العواصف المجتاحة بهم تكسرت حدتها على متن إيمانهم وتحولت الزوابع رغوة وزبدا .(1/93)
أجل لقد هجموا على الشدائد فاخذوها قبل أن تأخذهم وعلى ألسنتهم قول القائل :
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
يقولون هذا مورد قلت قد رأى ولكن نفس الحر تحتمل الظما
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطن الدما
ألا ليت أمتنا تعلم ذلك حتى لا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير والله الهادي سواء السبيل
الشيخ / عبدالظاهر عبد الله علي
بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف إيمانية
((رجال وفوا بعهودهم))
يقول الله في كتابه الكريم (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيما )) الأحزاب 23 - 24 .
روى البخاري عن أنس بن مالك قال : غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر . فقال : يا رسول الله غبتُ عن أول قتال قاتلت المشركين لئن أشهدني الله مع النبي قتال المشركين ليريد الله ما أصنع , فلما كان يوم أحد أنكشف المسلمون فقال : اللهم أني أعتذر إليك ما صنع هؤلاء يعني أصحابه . وابرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ، ثم تقدم فأستقبله سعد بن معاذ , فقال : يا سعد بن معاذ الجنة درب النضر إني لا أجد ريحها من دون أحد , قال سعد : فما أستطعت يا رسول الله ما صنع ثم تقدم , قال أنس فوجدنا به بضعاً وثمانين ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح ورميه بالسهم ووجدناه وقد مثل به المشركون فما عرفه إلا أخته بشامة أو ببنانة , قال : أنس كنا نرى هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ( من المو\ؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) .(1/94)
هذا نموذج الرجولة النادرة التي لم يجود الزمان بمثلها والتي تقوم عليها الدعوات ويرس على أركانها البناء وقبل أن تمضي هذه الصفحة المشرقة فإنه تطالعنا صفحة أنصع بياضا وأكثر أشراقا من سابقتها فقد روى بن آسحق : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع أمن الأحياء هو أم من الأموات ؟ فقال رجل من الأنصار أنا فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق ، فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أمن الأحياء أنت أم في الأموات ؟ فقال : أنا في الأموات فابلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامي وقل له : إن سعد بن الربيع يقول لك : جزاك الله خير ما يجزي نبياً عن أمته وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم : أن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله إن خَلُصَ إلى نبيكم وفيكم عين تطرف قال : ثم لم أبرح حتى مات وجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره ).(1/95)
إن الرجال الذين يكتبون التاريخ بدمائهم ويوجهون زمامه بعزماتهم هم الذين خاضوا غمار الحروب وحفظوا بها مصير الاسلام في الأرض إن التاريخ البشري على طول الدنيا وعرضها لم يشهد من الرجولة الصادقة والنفوس الزكية والأبية الطاهرة التي تحرث الحقيقة وآمنت بها ما شهده من تاريخ الاسلام ورجاله السابقين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما بذلوه من جهد خارق في سبيل نصرة الإسلام وأرساء دعائم الحق وتحقيق الخلق السامي ، فلقد عقدوا عزمهم ونياتهم على غاية تناهت من الرفعة والسمو ، لقد جاءوا الحياة في وقتهم المرتقب وتاريخ البشرية يسأل كيف أنجز أولئك الأبرار كل ما أنجزوه في بضع سنين وكيف أهالوا على تاريخ الدنيا الظالم كثيبا حتى لم يعد يبقى له أثر وكيف بنوا بقرآن الله عالما جديدا يهتز نظره ويتألق عظمه وكيف استطاعوا أن يضئوا الضمير الإنساني بحقيقة التوحيد ويطهروه من وثنية القرون البالية ، لقد اعتصموا بالله وتشبثوا بإيمانهم على نحو يندر له مثيل ، ونحن نرى فيهم وفي سيرتهم وبطولتهم وولائهم لله ولرسوله الأسوة الحسنة ، نرى البذل الذي بذلوا والهول الذي احتملوا والنصر الذي أحرزوا أو نرى الدور العظيم الذي هبوا به لتحرير البشرية من وثنية الضمير وضياع المصير ، وإننا لنرى فيهم كتائب الحق هي تطوي العالم القديم بإيمانها محلقة في آفاق السماء برايات الحقيقة الجديدة التي أعلنوا بها توحيد العالمين وتحرير الخلق من العبودية لغير لله وفي تلك الغزوة والتي نزلت هاتان الآيتان تعقيبا على أحداثها يروى ان خيتمه قتل أبنه في بدر فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أخطأتني وقفة بدر وكنت والله عليه حريصا حتى ساهمت ابني في الخروج فخرج من القرعة الهمه فرزق الشهادة . وقد رأيت البارحة أبني في النوم في أحسن صورة يسرح من ثمار الجنة وأزهارها يقول الحق بنا ترافقنا في الجنة فوجدت ما وعدني ربي حقا ثم قال : وقد أصبحت يا رسول الله(1/96)
مشتاقا إلى مرافقته وقد كبرت سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي . فأدع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة أبني خيثمة في الجنة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيد .
وتروى لنا كتب السيرة أن عمر بن الجحجوح كان اعرج شديد العرج وكان له أربعة أبناء شباب يغزون معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما توجه الرسول إلى أحد أراد أن يخرج معه فقال بنوه : إن الله قد جعل رخصة فلو قعدت ونحنوا نكفيك وقد وضع الله عنك الجهاد فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن بني هؤلاء يمنعوني أن أجهاد معك و والله إني لا أرجوا ان أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد وقال لبنه : وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيدا ( فيما يروى عن النعمان بن مالك أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا نبي الله لا تحرمنا الجنة - وذلك قبل نشوب القتال في أحد - فوا الذي نفسي بيده لأدخلنها . فقال له صلى الله عليه وسلم بم ؟ قال بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف فقال له صلى الله عليه وسلم صدقت فأستشهد يوم احد وجاء عبد اله بن جحش قبل يوم احد بيوم وقال اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فأقاتلهم فيقتلونني ويبعروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني ثم تسألوني فيم ذلك ؟ فأقول فيك فتقول صدق عبدي أدخلوه الجنة .(1/97)
هؤلاء هم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقد تحقق لهم ما أرادوا في نفس المعركة ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الجحجوح وهو يطأ الفردوس الأعلى من الجنة برجله التي كانت عرجاء وهي أسلم من الخرى فقال حديثه : أن منكم معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره ( هؤلاء هم من شهداء أحد والذين كان منهم رجال لامرأة أبوها وأخوها وزوجها وولدها فخرجت تستنبؤ عن أخبار القتال فأخبرت بقتلاها فقالت : ما عن هؤلاء سألتكم اخبروني ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا لها هو بخير فقالت أرونيه فلما رأته معافى سليما حيا قالت : كل مصيبة بعدك هينة ثم وضعت قتلاها على بعيبرها تريد أن تذهب بهم إلى المدينة فأبى البعير فلما وجهته لأحد توجه فقال صلى الله عليه وسلم ردوها بهم فو الذي نفسي بيده لو نقل هؤلاء لنقل ورائهم جبل احد ليدفنوا فيه ثم دفنهم مع الشهداء وقال : أنا شهيد على أن هؤلاء شهداء ثم قال زوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسي بيده لا يزورهم احد ويسلم عليه إلا أحياهم الله فردوا السلام عليه وقال أحد جبل يحبنا ونحبه فهل رأت الدنيا رجال كهؤلاء الرجال ؟ والله الهادي سواء السبيل .
الشيخ : عبد الظاهر عبد الله علي
بسم الله ارحمن الرحيم
مواقف إيمانية
(( ليس لأحد أختيار بعد قضاء الله ورسوله )) والحكم لله وحده
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله أمر أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )) الأحزاب 36 .(1/98)
تشير هذه الآية وما بعدها من الآيات إلى أمر هام وهو أن الأمر لله ورسوله وأنه لا حق لأحد ولا خيرة له في الأعتراض على ما قضى الله به من شرع وأن من يعص الله ورسوله في قضائهما فأنه يكون قد ضل ضلالا مبينا ، وقد روى ان هذه الاية نزلت في زينب بنت جحش بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب حينما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحطم الفوارق الطبقية الموروثة في الجماعة المسلمة حتى يرد الناس سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى [ وكان الموالي وهم الرقيق المحررون يعتبرهم العرب طبقة أدنى من طبقة السادة ] ومن هؤلاء كان زيد بن الحارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي كان قد تبناه ، حتى أبطل الله التبني بالأسلام بقوله تعالى (( ما جعل أدعياءكم أبناءكم )) وبقوله تعالى (( أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فأخوانكم في الدين ومواليكم )) فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحقق مبدأ المساواة الكاملة بتزويجه من شريفة من بني هاشم وقريبته زينب بنت جحش ليسقط تلك الفوارق الطبقية بنفسه في أسرته وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لا يحطمها إلا فعل وأقصى من رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتخذ منه الجماعة المسلمة أسوة وتسير البشرية كلها على هداه . وقد روى بن كثير في تفسيره قال : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنطلق ليخطب على فتاة زيد بن حارثة رضي الله عنه فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فخطبها فقالت : لست بناكحته . فقال صلى الله عليه وسلم (( بلى فأنكحيه )) قالت : يا رسول الله هل أوامر في نفسي ؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت قد رضيت يا رسول الله منكحاً ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم قالت : إذن لا أعصي رسول الله قد أنكحته نفسي . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نزلت في أم(1/99)
كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها وكانت أول من هاجر من النساء بعد صلح الحديبية فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قبلت فزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه بعد فراق زينب فسخطت هي وأخوها وقال: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا عبد فنزلت هذه الآية فرضيت بأمر الله ورسوله، وفي روايه أخرى للإمام أحمد عن أنس قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على جلبيب امرأة من النصار على أبيها فقال : حتى أستأمر أمها , فقال النبي صلى الله عليه وسلم فنعم إذن : فأنطلق رجل على أمرأته فذكر ذلك لها فقالت إلاها الله إذن ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً وقد منعناها من فلان وفلان ؟ قال والجارية في سترها تسمع . قال فأنطلق الرجل ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمره إن كان قد رضيه لكم فانكحوه ، قال فكأنما جلت عند أبوها وقالا : صَدَقت فذهب أبوها إلى رسول الله فقال له : إن كنت قد رضيته فقد رضيناه فقال عليه السلام : فاني قد رضيته قال : فزوجها ثم فزع أهل المدينة فركب جلبيبيب فوجوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم قال أنس فلقد رأيتها وأنها لمن أنفق بيت بالمدينة ما ذكي في وسواء كان سبب نزول الآية هو هذه الروايات أم أن المسبب هو زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب مطلقة متبناه لكي يبطل بهذا الزواج آثار التبني وإحلال مطلقات الأدعياء وهو أمر كانت له ضجة عانى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمكنها من عادات العرب والذي ما يزال يتخذه بعض أعداء الأسلام تكاه للطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اليوم ويلفقون حوله الأساطير سواء كان سبب النزول هذا أو ذاك فأن القاعدة التي تقرها الآية اعم وأشمل وأعمق في نفوس المسلمين وحياتهم وعاداتهم وتصورهم ، ولقد وضعت في قلوب المسلمين قاعدة ملخصها أنه ليس لهم في أنفسهم شيء وليس لهم من أمرهم شيء , أنما هم وما ملكت أيديهم لله(1/100)
يصرفهم كيف يشاء ويختار لهم ما يريد وما هم إلا بعض هذا الوجود الذي يسير وفق الناموس العام [ وخالق هذا الوجود ومديره يحركهم مع حركة الوجود العام ويقسم لهم دورهم ويقرر حركاتهم على مسرح الوجود العظيم وليس لهم أن يختاروا الدور الذي يقومون به ] وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم ، فما كان منهم إلا أن أسلموا أنفسهم لله ، أسلموها بكا ما منها فلم يعد لهم منها شيء [ وساروا في فلكهم كما تسير الكواكب والنجوم في أفلاكها لا تحاول أن تخرج عنها ولا أن تسرع أو تبطئ في دورتها المتناسقة مع حركة الوجود كله , وعندئذ رَضيت نفوسهم بكل ما يأتي به الله لشعورهم بأن قدر الله هو الذي يصرف كل شيء وكل أحد وكل حادث وكل حالة , وإستقبلوا قدر الله فيهم بالمعرفة المدركة الواثقة المطمئنة ] وقد كان من نتيجة هذا الإيمان وهذا الرضا وهذا التسليم أنهم لم يعودوا يألمون من قدر الله حين يصيبهم أو يحسوا بالجزع الذي يعالج بالصبر , إنما أصبحوا يسقبلون قدر الله إستقبال العارف المنتظر لأمر مألوف لا يثير فيهم غرابة ولا فزعا وهذا التوازن والاستسلام لقدر الله قد أصبح هو السمة التي طبعت حياة تلك الجماعة وميزتها وأهلتها لحمل أمانة هذه العقيدة والتي جعلتهم خير أمة أخرجت للناس والله الهادي سواء السبيل .
الشيخ
عبد الظاهر عبد الله علي
مواقف إيمانية
التوبة بمحو كل ذنب
يقول الله تعالى في كتابه العزيز (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) الزمر آية53.(1/101)
تشير هذه الآية وما بعدها إلأى فتح باب الرجاء في فضل الله ومغفرته للذنوب مهما بلغت ولوكانت مثل زبد البحر أو عد القطر أو المطر أو الرمل، فرحمة الله وسعت كل شي، وهو يرحم بها عباده التائبين المتقين وليست رحمة اله بالتائبين تقف عند هذا الحد بل تتعدى ذلك إلى تبديل السيئات إلى حسنات وهذا من فضل الله صاحب الفضل والمنة)
ومن أجل ما روي فيها ما رواه محمد بن اسحق عن نافع عن بن عمر عن عمر قال : لما اجتمعنا على الهجرة اتعدت أنا وهشام بن العاصي بن وائل السهمي وعباس بن أبي ربيعة بن عتبة فقلنا : الموعد أضاه بني غفار وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمص صاحبه فأصبحت أنا وعباس وحبس عنا هشام وإذا به قد فتن فافتيتن، فكنا نقول بالمدينة هؤلاء قد عرفوا الله عزوجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ثم افتتنوا البلاء لحقهملا نرى لهم توبة وكانوا أهم أيضا يقولون ذلك في أنفسهم فأنزل الله تعالى في كتابه (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) قال عمر فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام، قال هشام : فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي دوي فقلت : اللهم فهمينيها فعرفت إنها نزلت فينا فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في أهل مكة قالوا يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له وكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله فأنزل الله هذه الآية) وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : أتى وحشي إلأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ويا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله فقال صلى الله عليه وسلم : قد كنت أحب أن أراك على غير جوار فأما وإذا أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله) قال : فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم اللهولا نيت هل يقبل الله مني التوبة؟فصمت النبي حتى نزلت (والذين لا(1/102)
يدعون مع الله إليها آخر) إلى آخر الآية، فقال : أرى شرط فلعلى لا أعمل عملاً صالحاً أنا في جوارك حتى اسمع كلام الله فنزلت : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فدعاه فتلاها عليه، قال : فلعلى ممن لا يشاء أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) فقال : نعم الآن لا أرى شرطاً فأسلم، فالتائب تغف له ذنوبه كلها يدل على ذلك قوله تعالى (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى وقال عنها ابن عمر هذه أرجى آية في القرآن فرد عليه ابن عباس وقال : أرجى آية في القرآن قوله تعالى (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) وقد فهم الأولون ذلك وعملوا بمقتضاه فعادوا إلى الله تائبين فأنسوا برحمة الله بعد وحشة المعصية (ودخلوا سرادق الرحمن بعد أن أقاموا وقتا في خيمة الشيطان، فعن عمر أن بن الحصين الخزاعي رضي الله عنهما أم امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي حبلى من الزنا فقالت يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم وليها فقال : أحسن إليها فإذا وضعت فائتني ففعل فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال له عمر : تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟ قال : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عزوجل ) رواه مسلم.(1/103)
إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له) كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والندم توبة ومن هنا فقد وقف الأولون مواقف إيمانية بعد أن علموا بسعة رحمة الله وعموم فضله وأرادوا أن يطهروا أنفسهم من ذنوب اقتررفوها ومن خطايا ألموا بها فعن أنس رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي وحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى الصلاة قال : يا رسول الله : إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله قال : هل حضرت معنا الصلاة ؟ قال : نعم : قال قد غفر لك ) لئن الحسنات يذهبن لسيئات ولا حرج على فضل الله وكرمه وإن الله تعالى يبسط لك بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه مسلم وعن سليمان ابن بريدة عن أبيه قال : جاء ماعز بن مالك إلأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله طهرني. فقال : ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إلأيه قال : فرجع غير بعيد ثم جاء فقال يا رسول الله طهرني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إلأيه فرجع غير بعيد ثم جاء فقال يا رسول الله طهرني فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قال له صلى الله عليه وسلم فيم أطهرك؟ فقال من الزنى فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبه جنون ؟ فأخبر أنه ليس بمجنون فقال : أشرب خمر؟ فقام رجل فاستنكحه فلم يجد منه ريح خمر فقال رسول الله عليه وسلم أرانيتظ فقال نعم فأمر به فرجم. فكان الناس فيه فرقتين. قائل يقول لقد هلك وقد أحاطت به خطيئته وقائل يقول ماتو به أفضل من توبة ماعز أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده ثم قال اقتلني بالحجارة قال فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال : استغفروا لماعز بن مالك قال فقالوا غفر الله لماعز بن مالك(1/104)
قال فقال صلى الله عليه وسلم لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لو سعتهم) رواه مسلم
أولئك التوابون الأوابون والذين فازوا وبفلاح الدنيا والآخرة والله الهادي لسواء السبيل.
بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف إيمانية
(( لمن يكون ولاء المؤمن ؟))
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون أليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ظل سواء السبيل أن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءا ويبسطوا لكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم ارحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير ) آية 1-3 سورة الممتحنة .(1/105)
تبين هذه الآيات حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الأجتماعي والدولة في المجتمع المدني كما توضح المنهج الآلهي المختار لحياة الجماعة المسلمة والمختارة لقيادة بشرية والتي أناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الانسانية . وهي تستهدف أقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم عالم محوره الأيمان بالله وحده يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده بعروة واحدة لا أنفصام لها ويبريء نفوسهم من كل عصبية للقوم أو للجنس أو للارض أو للعشيرة أو للقرابة ويلغي كل ولاء من المسلم إلا الولاء لله ولرسوله ولدينه وعقيدته ويجعله يقف تحت راية الله في حزب الله ولقد كان العرب بطبيعتهم أشد الناس أحتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت فكان يأخذهم بعلاجه الناجح البالغ بالاحداث وبالتعقيب على الاحداث وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة وقد قيل في هذا الحادث أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين وكان حليفا لعثمان فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة حين نقض أهلها عهد الحديبية ل[ وناصرت حلفائها من بكر على خزاعة حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين] فأمر رسول الله المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال : الله عم عليهم خبرنا وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بوجهته وكان منهم حاطب [ فعمد فكتب كتاباً وبعثه مع امرأة مشركة من مزينة ] إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يدا فأطلع الله نبيه على ذلك أستجابه لدعائه وامضاء في قضائه في فتح مكة فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها . وقد روي البخاري بسنده في المغازي ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبد الله عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرتد والزبير أبن عوام وكلنا فارس وقال ؟ أنطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فأن(1/106)
بها أمرأة تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا الكتاب ؟ فقالت : ما معي كتاب فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا فقلنا ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت الجد أهوت إلى حجرتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته فأنطلقا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب حاطب كتابا لأهل مكة يخبرهم فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على غزوهم وأعطاه لأمراة وامرها أن تخفيه ، وأعلم الله رسوله بذلك فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير إلى المرأة وأحضر الكتاب , وأمر النبي بقرآته فأستدعى حاطبا وسأله : ما حملك على ما صنعت , فقال والله يا رسول الله ما بي إلا أن أكون مؤمنا وأردت أن تكون لي عند القوم يد , يدفع الله بها عن أهلي ومالي عندهم وكل من عندك من اصحابك لهم بين القوم عشيرة يدفع بها الله عن اهله وماله فقال صلى الله عليه وسلم : صدق لا تقولوا إلا خيرا , وأراد عمر قتله قائلا : لقد خان الله ورسوله والمؤمنين فأعلمه النبي بأنه من شهد بدراً ( وقد الله قد أطلع على اهل بدر فقال لهم أفعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم فدمعت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم والوقوف أمام هذا الحادث وما دار بشأنه يوضح لنا ما يلي : أن أول ما يقف الانسان أمامه هو فعلة حاطب وهو المسلم المهاجر وهو أحد سفراء رسول الله صلى الله عليه وآله ةسلم إلى ملك مصر ومقوفسها وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سر الحملة وفيه ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة وتعرض هذه النفس اللحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها وأنه لا عاصم لها إلا الله من هذه اللحظات فهو وحده الذي يُعين عليها , ثم يقف الانسان مرة أخرى أمام عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعجل حتى يسأل : ما حملك على ما صنعت ؟ في سعة الصدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه وأدراكه الملهم(1/107)
بأن الرجل قد صدق ومن ثم يكف أصحابه عنه حين يقول ( صدق لا تقولوا إلا خيرا ) ليعينه وينهض به من عثرته فلا يطارد بها ولا يدع أحدا يطارده بينما نجد الايمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر أنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني أضرب عنقه , أن نظرة عمر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وأيمانه الجازم أما رسول الله فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها ومن كل جوانبها مع العطف الكريم الملهم في موقف المربي الكريم العطوف المتأني ثم يقف الانسان أمام كلمات حاطب وهو في لحظة ضعفه ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح حين يقول : أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع بها الله عن أهلي ومالي ( فالله هو الذي يدفع وهذه اليد لا تدفع بنفسها وأنما يدفع بها الله ويؤكد هذا التصور في بقية حديثة وهو يقول : وليس من احد من اصحابك إلا ولو هناك من عشيرة من يدفع الله به عن أهله وماله . فالله حاضر في تصوره وهو الذي يدفعه العشيرة وإنما العشيرة أداة يدفع الله بها . أخيرا يقف الانسان أمام تقدير الله في الحادث حيث يكون حاطب من القلة التي يعهد اليها رسول الله بكشف ما فعل حاطب ليكف ضرر فعله عن المسلمين كأنما كان القصد هو كشفها فقط وعلاجها وتفادي ضررها والتعبير القرآني في قوله يا أيها الذين آمنوا ) يشعر المؤمنين بانهم منه وإليه يعاديهم من يعاديه فلا يجوز أن يلقي بالمودة إلى أعداءهم وأعداءه ثم يذكرهم بجريمة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى امينهم وعلى رسولهم ( وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وأياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ) فماذا بقى بعد هذه الجرائم الظالمة للموالاة والمودة فهم كفروا بالحق وأخرجوا الرسول وأذن القضية قضية العقيدة والايمان فيجب أن يكون ولاء المؤمن لله وللرسول وللدين والعقيدة ولا يجوز ان تكون هناك موالاة أخرى خارج الدين , ثم يهددهم بأن من يوالي(1/108)
غير الله ورسوله والمؤمنين فقد ضل سواء السبيل (( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون ) ثم يبين لهم الأسوة التي يجب أن تتبع بالموالاة وهي أسوة أبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم أنا براءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ) )أن أبراهيم قد وعد أباه بأن يستغفر له
بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف إيمانية
(( غضب المؤمن يكون لله ورسوله ))(1/109)
يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم (( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منا الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون )) تشير هاتان الآيتان إلى احداث كانت غزوة بني المصطلق مسرحا لها فلقد جاءت الأنباء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه القبيلة تتجمع له وتستعد لقتاله [ وأن سيدها الحارث بن أبي ضرار قد أجمع عدته لهذا المسير ] فسارع رسول الله بالمسلمين ليطفئ هذه الفتنة قبل أشتعالها وخرج مع الرسول في هذه الغزوة جمع من المنافقين الذين لم يعتادوا الخروج معه من قبل ولعل الذي دفعهم إلى المسير تلك المرة هو ثقتهم بإنتصار رسول الله أبتغاء الدنيا لا الدين ، وانتهى المسلمون عند ماء يقال له المريسيع أجتمع عنده بنو المصطلق وأمر رسول الله عمر بن الخطاب أن يعرض الأسلام على القوم ، فنادى عمر فيهم : قولوا لا اله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم فأبوا وترامى الفريقان بالنبل ثم أمر النبي اصحابه فحملوا على القوم فلم يفلت منهم أحد إذ وقعوا جميعا أسرى بعدما قتل منهم جمع وسقطت القبيلة كلها بما تملك في الأسر في أيدي المسلمين ، ورأى رسول اللعه أن يعامل المنهزمين بالأحسان فحينما جاء قائد القبيلة المهزومة يطلب أبنته التي وقعت في الأسر ردها عليه النبي ثم خطبها منه فتزوجها فأستحيى أن يسترقوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقوا من بايديهم من الأسرى ،فكانت جويرية بنتالحارث من أيمن الناس على أهلها فقد أعتق في زواجها مائة أهل بيت من بني المصطلق ولقد حدث [ بعض الأمور التي لا يجوز التعليق عليها في تلك الغزوة وكما هي عادة المنافقين أن يكدروا صفوة الجماعة المسلمة وأن يبحثوا لها عما يوقعها في العنت والمشقة ] إذ حدث أن خادما لعمر كان يسقى له من ماء المريسيع(1/110)
وأزدحم على الماء مع مولى لبني عوف من الخزرج وكاد العاملان يتقاتلا على الماء فصاح الأول يا للمهاجرين وصاح الآخر يا للأنصار وأستمع على صياحهما زعيم المنافقين عبد الله بن أبي سلول وكان في رهط من قومه فرأى الفرصة سانحة لإثارة حفائظهم وإحياء ما اماته السلام من نعرات الجاهلية الأولى فقال : أوقد فعلوها ؟ يعني المهاجرين نافرونا وكاثرونا في بلادنا أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ثم أقبل يحرض قومه ويلومهم على أنفاقهم على المهاجرين ويدعوهم إلى التنكر لرسول الله واصحابه وقال لهم لو أمسكتم ما بأيديكم عن المهاجرين لأنفضوا من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذهب زيد بن الأرقم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقص عليه الخبر وأسرع عبد الله بن أبي يبرئ نفسه وينفي ما قاله ويحلف أنه ما قال ذلك . ورأى الحاضرون أن يقبلوا كلام ابن أبي رعاية لمنزلته وسنه وقالوا ان زيد بن أرقم قدوهم ولم يحفظ ما قيل ولم يلبث القرآن أن نزل يصدق حديث زيد بن أرقم ويكذب عبد الله بن أبي ونزلت سورة المنافقون ، ولم تخف الحقيقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أن يصدر أمره بالأرتحال في وقت ما كان يروح في مثله [ وسار بالناس سائر اليوم حتى أمسى بهم وطيلة الليل حتى أصبحوا ] ليفوت الفرصة على بن أبي حتى لا يتحقق مقصوده من إثارة الفتنة التي أرادها للمسلمين . ولقد جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من الصالحين وقال : يا رسول الله لقد علمت الأنصار أني أبر الأبناء وقد علمت أنك تريد قتل أبي فأن كنت قاتله فلا تعهد لأحد بقتله لأني أخشى أن تنظر نفسي إلى قاتل أبي فلا تدعني نفسي حتى أقتل من قتله فأكون قد قتلت مسلماً بكافر فأدخل النار فإذا أردت قتله فإعهد إلي بقتله وأنا أقتله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نترفق به ما بقي بيننا . ويستمر الجيش في المسير حتى يصل إلى مشارف المدينة ويقوم عبد الله بن عبد(1/111)
الله بن أبي ويمسك بتلابيب أبيه ويقول له : أين تذهب فيقول لأدخل المدينة فيقول له ولده الصالح : والله لن تدخل المدينة حتى تشهد أنك الذل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز وإلا قتلتك ولا يزال به حتى أعترف وشهد على مرأى ومسمع من الجيش كله أنه هو الأذل ورسول الله هو الأعز ونحن نتساءل : هل رأت الدنيا كلها ايمانا كأيمان هذا الرعيل الذي رباهم رسول الله على مائدة القرآن وتعهدهم بأدب الوحي فأحسن تأديبهم حتى لم يعد في قلوبهم شيء لغير الله ورسوله ونصرة دين الله ؟ لقد أحبوا الله ورسوله أكثر مما سواهما وأبغضوا لله فكان الله مليء نفوسهم وقلوبهم وكان غضبهم غضبا لله ولم يكن لحظ النفس منه نصيب فلا عجب إذا رأينا الولد يعادي أباه في الله . لقد عاني الأسلام وأهله من هؤلاء الذين إذا رايتهم تعجبك أجسامهم [ ومن هؤلاء الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ] فما ذا أستفادوا من مشاقة الله ورسوله وأتباع سبيل غير سبيل المؤمنين ؟ لقد أعز الله جنده وأعلى كلمة الحق وأنتشر دين الله في الحياء المعمورة [ واما المنافقين فازدادوا حسرة على حسرتهم وانزوى نجمهم وأضمحلوا وحرصوا بعد ما ملأت رائحة نفاقهم كل فج ] وحوصر بن أبي حتى مرض ومات وذهب رسول الله يعوده وأعطى ولده قميصة ليكفنه فيه بل ووقف أمام جثمان الذي كاد له بمكر الليل والنهار يستغفر له ويستدر الرحمة له من رب السماء وكتب الله لرسوله الغلبة ولدينه العزة وصدق الله العظيم إذ يقول ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي أن الله قوي عزيز )
والله الهادي سواء السبيل
الشيخ :
عبد الظاهر عبد الله علي
بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف إيمانية
(( التضحية في سبيل المبدأ الحق ))(1/112)
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (( والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إنهم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والارض والله على كل شيء شهيد أن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق )) سورة البروج آية 1-10 .
روي مسلم في صحيحه عن صهيب أن رسول الله صلى الله وعليه وسلم قال : كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحرا فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فأبعث إلي غلاماً أعلمه السحر , فبعث إليه غلاماً يعلمه فكان في طريقه راهب فقعد أليه وسمع كلامه فاعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد غليه فإذا أتى الساحر ضربه , فشكا ذلك إلى الراهب فقال : إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر , فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال : اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب ؟ فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب احب أليك من امر الساحر فأقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس , فرماها فقتلها ومضى الناس , فاتى الراهب فاخبره فقال له الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما الاى , وإنك ستبلى فأن أبتليت فلا تدل على ذلك , وكان الغلام يبرئ الاكمه والابرص [ ويداوي الناس من سائر الادواء ] فسمع جليس للملك وكان قد عمى , فاتاه بهدايا كثيرة فقال : ما ها هنالك أجمع كله إن أنت شفيتني . فقال إني لا أشفي أحدا , أنما يشفي الله , فإن انت آمنت بالله دعوت الله فشفاك , فآمن بالله فشفاه الله . فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس , فقال له الملك : من رد عليك بصرك ؟ قال : ربي : قال ولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله . فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجييء بالغلام فقال له الملك : أي بني أقد بلغ سحرك ما تبريء الكمه والأبرص(1/113)
وتفعل وتفعل ؟ فقال : أنا لا أشفي احدا , إنما يشفي الله . فأخذه . فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب . فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك . فابى فدعا المنشار , فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له : أرجع عن دينك . فابى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه . ثم جيء بالغلام فقيل له أرجع عن دينك فابى فدفعه إلى نفر من اصحابه فقال : أذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاطرحوه فأصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فأطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال : اللهم أكفينهم بما شئت , فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من اصحابه فقال : أذهبوا به فاجعلوه في قرقور ( أي زورق ) فتوسطوا به البحر فأدفعوه فأن رجع إلى دينه وإلا فأقذفوه . فذهبوا به فقال : اللهم أكفنيهم بما شئت فأنكفات بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك , فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال كفانيهم الله . فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما امرك به . قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما [ من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ] ثم قل : بأسم الله رب الغلام ثم أرميني , فانك إن فعلت ذلك قتلتني , فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع , ثم أخذ سهما [ من كنانته ( أي جعبة سهامه ) ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال ] : بأسم الله رب الغلام . ثم رماه فوقع السهم في صدغه , فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات , فقال الناس : آمنا برب الغلام : آمنا برب الغلام : آمنا برب الغلام : [ فاتى الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت واضرم النيران : وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها . أو قيل له اقتحم . ففعلوا حتى جاءت امرأة زمعها صبي(1/114)
لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام : يا أمه أبصري فإنك على الحق وفي روايه ثانية أثبتي على ما أنت علفإنما هي غميضة فألقوها وابنها [ وكان الملك هو يوسف بن ذي نواس ] والغلام هو عبد الله بن ثامر وكان الأخدود في بلاد نجران : ولقد ذكر الله ذلك وبين رسوله صلى الله عليه وسلم لبيان ؟ ما كان يلقاه من وحد الله قبلهم من الشدائد . ليعلمهم الصبر [ ويؤنسهم بذلك وليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به وبذله نفسه في إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظم صبره وكذلك صبر الراهب وصبر جليس الملك على التمسك بالحق حتى نشرا بالمنشار وكذلك المؤمنون لما آمنوا بالله ورسخ الإيمان في قلوبهم . فصبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا عن دينهم ] أن الصبر على الشدائد هو من شيمة الإيمان وذلك لا يأتي إلى من قويت نفسه وصلب دينه والمؤمن مطالب بذلك يقول الله تعالى على لسان لقمان لأبنه ( وأصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ) وروي أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ وقال : أوصني فقال صلى الله عليه وسلم ( لا تشرك بالله شيئاً وإن قطعت أو حرقت بالنار ) ولقد أمتحن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصلب والتعذيب الشديد فصبروا ولم يتلفتوا إلى شيء من ذلك وهكذا فان العبد يبتلى على قدر إيمانه فاشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل وما زال الرجل يبتلى حتى يمشي على الأرض وليست عليه خطيئة . وفي الحديث (( إذا أحب الله قوماً أبتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط )) إن المؤمن السارب في الحياة هذف لمشاكلها الجمة ام العاجز الهارب من الميدان فماذا يصيبه ؟ فالمتعرض لآلآم الحياة يدفعها وتدافعه أرفع عند الله من المنهزم القابع البعيد . وما أدخره الله لأولئك المعانين(1/115)
الصابرين يفوق ما أدخره لضروب العبادات الأخرى من الثواب الجزيل روى الترمذي (( يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البلاء الثواب لو ان جلودهم كانت قرضت بالمقاريض )) وهكذا تعرض سورة البروج ملامح الإيمان والعقيدة حتى إنها ليطلق عليها سورة العقيدة وقد روي أن اله تعالى قبض أرواح المؤمنين قبل أن يقذف بهم في النار كما روي أن النار قد علت ألسنتها أربعون ذراعا حتى ألتهمت الملك والذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات وهكذا من اضرم النار أحرقته .
الشيخ / عبدالله عبد الظاهر عبدالله علي
1 القفلة: المرة من القفول وهو الرجوع من الغزو وأي أن أجر المجاهد في انصرافه إلى أهله بعد غزوة كأجره على الإقبال على الغزو.
??
??
??
??(1/116)