منهاج أهل السنة في تقويم الرجال
للشيخ محمد بن أحمد إسماعيل المقدم
الدعوة السلفية بالإسكندرية
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد_صلى الله عليه وسلم_وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار عن ابن عمر_رضي الله عنهما _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)قوله صلى الله عليه وسلم(إن القسطين عند الله) المقسطون هم العادلون كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث فبدأ بقوله((إن القسطين عند الله على منابر من نور)ثم قال في آخر الحديث(الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)(1/1)
ففسرها في آخر الحديث بأنهم العادلون، والإقساط والقسط العدل تقول أقسط إقساطاً إذا عدل ومنه قوله تعالى { إن الله يحب المقسطين } وأما قسط يقسط _ بفتح الياء وكسر السين _ ، قسط يقسط قسوطا, _ بالسين _ فهو قاسط وهم قاسطون يعني إذا جاروا، القاسطون يعني الجائرون الظالمون أما المقسطون فالعادلون ومن الثانية قوله تبارك وتعالى(وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا)يعني وأما الجائرون الظالمون فكانوا لجهنم حطبا فقوله إن المقسطين يعني العادلين(عند الله على منابر من نور) على منابر يعني يُجلَسون على منابر سمي المنبر بهذا الاسم لارتفاعه فهم على منابر حقيقة ومنازلهم رفيعة عند الله تبارك وتعالى( على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل ) وهذا الحديث من أحاديث الصفات التي يسلك فيها مسلك السلف الصالح فيما نظرها ونقول فيها نؤمن بالله وبما جاء من عند الله على مراد الله عز وجل نؤمن بهذه الصفات أنها لها حقيقة تليق بالله تعالى وإن كنا لا يمكن أن ندرك كيفيتها أو كيفية اتصاف الله تبارك وتعالى بها فهذه صفات الله عز وجل تعرف بها إلينا وما علينا إلا أن نثبتها كما أراد الله وبلا كيف مثل قوله تبارك وتعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)فأثبت صفة السمع والبصر وفي نفس الوقت رفع علم الكيفية وقال (ليس كمثله شيء)يعني ليس كالله شيء فأي شيء من أحاديث أو آيات الصفات مهما حاولت أن تجتهد أو تصل بعقلك إلى تخيل صورة لها فلابد أن تقطع حتماً أن الله عز وجل على خلاف هذه الصورة التي يمكن أن تتخيلها فكل ما تتخيله فالله بخلافه إذ ( ليس كمثله شيء) ليس كالله تبارك وتعالى شيء فلا يعلم كيف هو إلا هو تبارك وتعالى فلذلك علينا أن نيأس تماما أن تيأس العقول ولا تطمح أبداً في أن تعرف كيفية اتصاف الله تعالى بهذه الصفات ثم نحن لا نشبه الله بخلقه وفي نفس الوقت لا نعطل صفات الله تبارك وتعالى بعض الناس إذا سمعوا نصوصاً في صفات الرب عز وجل تبادر(1/2)
إلى ذهنهم المعنى الذي يليق بالمخلوقين فيستبشعونه فيقعون في التشبيه أولاً ويترتب على التشبيه أن يستبشعوا هذا الوصف فبالتالي يلجئون إلى التعطيل فينفون صفات الله تبارك وتعالى ولو أنهم من البداية ما شبهوا لما وقعوا في الورطة الثانية وهي ورطة التعطيل أما السلفيون الموحدون فإنهم يقولون كما قال سلفهم الصالح آمنا بالله وبما جاء من عند الله على مراد الله ونقول كما قالوا أمرها كما جاءت بلا كيف. يقول النبي_ صلى الله عليه وسلم_ ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين ) تنبيه على أن اتصاف الله تبارك وتعالى باليمين كما قال تبارك وتعالى(والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه)يقول(وكلتا يديه يمين)تنبيه على أن اتصاف الله تبارك وتعالى بهذه الصفة لا كاتصاف المخلوقين بل كلتا يديه يمين فهي ليست تشبه صفات المخلوقين التي تستحيل في حق الرب. (الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)هذا رواه مسلم كما ذكرنا. (الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) فهذا الجزاء وهذا الفضل العظيم وهو أن يتبوأ هؤلاء المقسطون منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل حتى ينال الإنسان هذه الفضيلة فلابد أن يتصف بصفة العدل(الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) ويقول _ صلى الله عليه وسلم_(سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) جعل أولهم (الإمام العادل) ( يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) فكل ما تقلده الإنسان يجب أن يعدل فيه من خلافة أو إمارة أو قضاء أو حسبة أو نظر على يتيم أو صدقة أو وقف وأيضاً فيما يلزمه من حقوق أهله وعياله ونحو ذلك كما قال _عليه الصلاة والسلام(إن الله سائل كل راع عما استرعاه حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته)(1/3)
وقال ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وفصل الحديث كما تعلمون فالشاهد أن من اتصف بصفة العدل وحرص عليها فيما يتولاه من أمور فإن جزاءه عند الله ما ورد في هذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو _ رضي الله عنهما _ قال (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)هذا العدل الذي نوه به هذا الحديث ووعد عليه هذا الثواب والتشريف والتعظيم لا يقتصر فقط على الإمارة أو الخلافة أو ولاية الرجل أهله والمدير موظفيه وهكذا وإنما هو ينبغي أن يتصف به الإنسان حتى في حكمه على كل الأمور وتقويمه للناس ولمنازلهم، في تقويمه وحكمه على الأفكار والمؤلفات والشيوخ وهكذا ينبغي أن يتصف الإنسان بالعدل كما أمر تبارك وتعالى في قوله عز وجل(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)فهذه الآية توضح منهجاً عظيماً يجعل العدل لازماً أصيلاً من لوازم الإيمان فقد بدأ الخطاب بمخاطبة المؤمنين (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)يقول شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله تعالى_( وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وان لم يشترك في إثم ولهذا قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وان كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وان كانت مسلمة ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وان كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة).(1/4)
فهذا قانون من قوانين، من سنن الله في هذه الحياة الدنيا أن الدولة التي تقوم على العدل فإنها تمكن ويقوم أمرها والدولة التي تقوم على الظلم حتى ولو كانت مسلمة فإنه لا يقوم لها أمر وإن كانت تجازى بالإسلام في الآخرة ففي مثل هذا العصر نحن نحتاج أيضاً إلى العدل والإنصاف حينما نرجع إلى ميزان السلف الصالح لنزن الأمور كلها بالميزان القسط حتى أصبحت الأهواء هي التي تتحكم بالآراء والتوجهات حتى إن الإنسان قد يتغاضى عن أخطاء من يحبهم وإن كانت كبيرة ويسوغها ويلتمس لها المعاذير بل قد تتحول هذه الأخطاء إلى محاسن في نظره ويجعل محبوبه في أعلى المنازل ولا يقبل فيه ولا يقبل فيه نقداً أو مراجعة وفي المقابل تراه إذا أبغض أحداً هوى في نفسه أو تقليداً لغيره جرده من جميع الفضائل ولم ينظر إلا إلى سيئاته وزلاته فيفخمها وينسى أو يتناسى محاسنه الأخرى مهما كانت بينة، فالاضطراب ليس فقط في تقويم الرجال بل أيضاً في عالم المؤلفات والمصنفات ترى بعض الناس إذا رأى خللاً في كتاب رماه جميعه، رمى عرض الحائط بهذا الكتاب أو إذا رأى شيخ ذل في مسألة فلا يعرف هذا الشيخ إلا بهذه الذلة كأن ماله محاسن على الإطلاق ويشطب عليه تماماً ولا يقبل منه أي شيء يقول الشيخ صاحب البدعة الفلانية الشيخ صاحب الخطأ الفلاني في الكتاب الفلاني ولا يلتفت إلى أنه ينبغي أن يلتفت إلى هذه الآية وهو قوله عز وجل(كونوا قوامين لله شهداء بالقسط)فعامل الهوى وغيره من العوامل تجعل الإنسان يحيد وينحرف عن ميزان العدل وميزان القسط فترى_كما ذكرنا_بعض الناس إذا رأى خللاً في كتاب من الكتب رماه أو رمى به عرض الحائط وشنع على مؤلفه وعلى من اقتناه أو قرأه وهو في ذلك مغفل إغفالاً شديداً للجوانب الإيجابية التي قدمها صاحبه؛أما إذا كان هذا الكتاب لأحد ممن ينتمي إلى حزبه _مثلاً_ أو إذا كان مرضياً عنده فإنه يرفع الكتاب فوق منزلته ويغض الطرف عن زلل المؤلف أو تقصيره ظناً(1/5)
منه أنه إن اعترف بوجود بعض جوانب النقص في هذا الكتاب فإن هذا يحط من قيمة صاحبه أو يقلل من شأنه وقد قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة لكن عين السخط تبدي المساويا
لم يقف الخلل الفكري والقصور المنهجي عند هذا الحد بل تعداه إلى ما هو أعظم من التنازع والتقاطع والبغي فتفرقت كلمة المسلمين في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى الترابط أمام أعدائهم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_في الوصية الكبرى: (وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب)هذا الاضطراب صفة مميزة لأهل البدع الذين ينحرفون عن ميزان أهل السنة والجماعة يقول شيخ الإسلام _وهو يتحدث عن أصحاب المقالات_: (فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلا سيء القصد ليس له علم ولا حسن قصد فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذموا من لم يذمه الله ورسوله وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم ويقولون هذا صديقنا وهذا عدونا لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس) انتهى كلام شيخ الإسلام.ولشيوع هذه الظاهرة حاول بعض الباحثين أن يعالجها ويسد هذه الثغرة؛هناك قضايا فكرية كثيرة مهمة جداً تحتاج أوما زالت تحتاج إلى حسم وإلى وضع ضوابط وموازين؛ هذه الثغرة وهي ثغرة المنهج القويم في الحكم على الرجال أو تقويم الرجال والمصنفات والآراء وغير ذلك في ضوء موازين أهل السنة والجماعة_الفرقة الناجية_ هذه الثغرة حاول بعض الكاتبين أن يعالجها ومن ذلك هذا البحث الذي نلخصه لكم اليوم لندرته أو لعدم وجود هذا(1/6)
الكتيب؛وهو إعداد الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصيام((منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم))يذكر في أول بحثه بيان أن أول ما يعالج هذه الفتنة فتنة الظلم والجور في الحكم على الرجال والكتب والمناهج أولاً يقول: ورع اللسان فإذا ضعف هذا الورع أو انحرف أو زال عن الإنسان فإنه يتجرأ بالخوض في أعراض الناس فيتجرأ في بعض الأحيان ويطلق الأحكام جزافاً بدون تثبت فيجرح أو يعدل ويخطيء ويصوب وربما سمع إنسان شيئاً في حق من هو مخلف له فلا يتفطن إلى قول النبي _صلى الله عليه وسلم_(كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع) لكنه يردد كل ما يسمع لموافقته هواه ويظن أن ليس عليه عهدة في ذلك لأنه يروي عن الآخرين أما هو فلا يخوض في عرض إخوانه ويظن أن هذا يشفع له لأن هذا رواية عن الآخرين وهو لا يتثبت في ذلك فهو داخل في قوله_عليه الصلاة والسلام _(كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع) فليس كل ما تسمع ترويه وتنقله وتعتمده ولن يشفع لك أنك تقول إنني أروي عن غيري لأن هذا هو عين ما أشار إليه قوله_عليه الصلاة والسلام_بل لو تأملت قوله_(كفى بالمرء كذباً ) {لعلمت}أن فيه توضيح أن هذا هو عين الكذب أن تحكي وتروي دون تثبت فهذا ينشأ منه كثير من الفتن والخوض في حقوق المسلمين؛أن ينقل الإنسان لأن الكلام وافق هواه فينقله عن الآخرين بحجة أن هذا الكلام سمعه وأنه لم يختلقه والرسول يقول ( كفى بهذا كذباً)يعني ليس كذباً أصرح من هذا فينبغي التثبت تماماً مع من لا تحب كما تتثبت في حق من تحب وتقول: ((حسن الظن بالمسلمين واجب)) فكل السلمين سواء من هؤلاء أو من هؤلاء ينبغي أن تنضبط بميزان العدل معهم(( فتراه يجرح ويعدل ويخطيء ويصوب قبل أن يستوعب الأمر ويجمع أطرافه ويدرسه من جميع جوانبه فيغلب على أحكامه الجور وعدم القسط؛ حينما تتفلت الألسنة من قيود الشرع وقيود العقل فإنها تتبارى في الوقيعة في أعراض المسلمين وتجلب العداوة والبغضاء بين(1/7)
الأحباب؛ ولو تأمل الإنسان ما ورد في مثل هذا من النصوص لتردد كثيراً قبل أن يسل لسانه ليرمي به من هنا ومن هناك يقول الله تعالى ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)) فيا ويح غافل وليس بمغفول عنه)) لو أن كل ذنب ترتكبه بلسانك رميت به حجراً في غرفة لامتلأت هذه الغرفة في زمن يسير بالأحجار بحيث لا تتسع بعدها لشيء آخر؛فالإنسان في غفلة عن هذا العدد الذي يحصى عليه ؛كل لفظ يقوله ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد))وفي حديث معاذ بن جبل _رضي الله عنه_ثم قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: ( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ ) قلت بلى . فأخذ بلسانه فقال ( تكف عليك هذا ) قلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال ( ثكلتك أمك يا معاذ هل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟ من أجل ذلك جعل النبي_صلى الله عليه وسلم_الضمان_التأمين_الذي يؤمن لك دخول الجنة هو حفظ اللسان يقول _صلى الله عليه وسلم_: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) يقول الإمام ابن القيم _رحمه الله تعالى_: ((ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه) تجد الرجل عنده ورع عن أكل الحرام أو الظلم أوالزنا والسرقة وشرب الخمر أو النظر إلى ما حرم الله ومع ذلك يصعب عليه التحفظ من حركة لسانه((حتى يري الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بال ينزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالى ما يقول) تزداد الخطورة ويعظم الذنب إذا كان هذا القدح الجائر في العلماء فهم سادة الأمة وقادتها ونورها ولا خير في قوم لا يعرفون لعلمائهم قدرهم؛هناك بعض الجماعات في الزمان ابتلينا بها هذه الجماعات أي(1/8)
جماعة حينما تبدأ تعرض وتزين وتزخرف فكرها للآخرين ليقبلوا عليه يعرضون مناهجهم وطرائقهم هناك بعض الجماعات أول ما يهتمون به تحطيم علماء المسلمين في نظر الشباب؛هتك أعراض العلماء _أكل لحوم العلماء_بالغيبة والنميمة بل والبهتان أحياناً والتنقص من شأنهم والازدراء لهم والتطاول عليهم فهذا من أعظم الذنوب والله _عز وجل_يعجل لفاعله العقوبة لأن الطعن في أهل العلم وعلماء المسلمين ذنب_كما يقول الحفظ ابن عساكر _رحمه الله_: (اعلم أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك ستر منتقصيهم معلومة))عدة الله: سنة الله جرت أن كل من يتناول ويقع في أعراض علماء المسلمين ؛فإن الله _سبحانه وتعالى_ جرت سنته أنه لابد أن يهتك ستر من هتك ستر أئمة العلم والهدى فقوله: ( اعلم أن لحوم العلماء مسمومة) يعني أن كل من أكل منها هلك ومات ؛أهلكه الله _سبحانه وتعالى_؛يعني من أكل منها بالغيبة والنميمة؛فلا ينبغي أبداً لإنسان أن يقر أحداً على التطاول على علماء المسلمين أو هتك أعراضهم أو الخوض فيهم بغير حق بل ينبغي أن تحمل تصرفاتهم وأفعالهم على أحسن وجه ممكن ويجتهد في ذلك فإنه مثاب على ذلك الاجتهاد وإن أخطأ يقول الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي_رحمه الله تعالى_في كتابه الرد الوافر؛ {هل}تعرفون باقي اسم الكتاب؟ الكتاب مشهور بكلمة الرد الوافر؛ والذي طبع الكتاب _جزاه الله خيراً_{وهو}الشيخ زهير كأنه تعمد ألا يكمل عنوان الكتاب على الغلاف؛ من يعرف السبب؟ {لأن}هذا الكتاب ألفه للرد على العلاء البخاري الذي تطاول على شيخ الإسلام ابن تيمية وقال إن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر فرد عليه الإمام ابن ناصر الدين بهذا الكتاب القيم والذي لا يليق بكم ألا تقرؤه{فهو} كتاب مهم جداً؛((الرد الوافر)) فسماه ((الرد الوافر)) لكن بقية العنوان ((الرد الوافر على من زعم ))أو قال((أن ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر)) فمراعاة لحرمة شيخ الإسلام ما أتم(1/9)
الشيخ زهير طبع العنوان على الغلاف لكن سماه فقط ((الرد الوافر))مراعاة لحرمة شيخ الإسلام_رحمه الله تعالى_ يقول الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي_رحمه الله تعالى_: (( لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة ومن وقع فيهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب)) فأعراض المسلمين حفرة من حفر النار ومن وضع قدمه في أعراض المسلمين فقد وضعها على شفا جرف هار يخشى أن ينهار به نار جهنم وكما قال أحد الحكماء:
يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه و عثرته في تبرا على مهل
فهذا الأمر الأول أو العلاج الأول للجور في الحكم على الآخرين ((ورع اللسان)) الورع والخوف من الله _سبحانه وتعالى_وخوف العقوبة من التطاول بغير حق في أعراض العلماء.(1/10)
الأمر الثاني: أهمية التجرد وبيان أن الهوى من أسباب الظلم :فتقويم أي رجل من الرجال أو مؤلف من المؤلفات بمقررات سابقة يعني يقبل الإنسان على قراءة البحث وهو غير متجرد هو يحمل في ذهنه فكرة ولا يستعد أن يتنازل عنها أو تهتز عنده فهو يبين خلفيات معينة ومن خلالها إلى هذا البحث؛فهذا يجعل الإنسان يميل{و}لا يتجرد للبحث بل يميل عن الحق ميلاً واضحاً فهو لا ينظر إلى المرء بمجموع أعماله بل يتغاضى عن المحاسن ولا يقع بين عينيه إلا الهفوات بل قد يعطيها أكثر مما تستحقه من النقد والتجريح؛فإذا كان التجرد في التقويم من الأسباب التي تجعل الحكم صواباً أو قريباً من الصواب؛مثل عدم التجرد هذا أو مثال يقفز إلى الذهن_أذكر الآن _قصة هؤلاء اليهود حينما أتى عبد الله بن سلام _رضي الله عنه_وأراد أن يسلم ؛فلقي النبي _صلى الله عليه و سلم _اليهود فقال أي رجل عبد الله بن سلام فيكم ؟ فقالوا: (خيرنا وابن خيرنا وأعلمنا وابن أعلمنا فقال: (ما تقولون فيه لو أنه شهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله) أو دخل في دين الإسلام قالوا (أعاذه الله من ذلك)فأخرج لهم عبد الله بن سلام وقال لهم: (يا معشر يهود أنتم تعلمون أن هذا هو النبي الذي جاءت صفته في التوراة وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله_صلى الله عليه و سلم _فقالوا: (هو شرنا وابن شرنا وأجهلنا وابن أجهلنا)في الحال انقلبت هذه الموازين بسبب أنهم مقيمون على الباطل لا يريدون أن يتحولوا عنه؛ فالتجرد في التقويم من الأسباب التي تجعل الحكم صواباً أو قريباً من الصواب يقول الله تعالى(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) فالهوى من النوازع الخفية التي تتسلل إلى قلب المرء تدريجيا حتى تسيطر عليه من حيث لا يشعر فهو باب عريض من أبواب الضلال يجثم على(1/11)
صدر الإنسان ولا يولد إلا الجور والظلم في أحكام المرء يقول تبارك وتعالى مخاطباً نبيه داود_عليه السلام_((يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) ويقول_صلى الله عليه وسلم_: (تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير فأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء حتى تصير القلوب على قلبين على أبيض مثل الصفا لا يضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه)دائماً القرآن_لو تلاحظون_يأتي بالوحي في مقابلة الهوى؛فالوحي دائماً يقابله الهوى كما في هذه الآية(فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى) ويقول أيضاً(وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم) ويقول_عز وجل أيضاً(فإن لم يستجيبوا لك)للوحي(فاعلم أنما يتبعون أهواءهم )ويقول_تبارك وتعالى (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)دائماً الهوى يقابله الوحي؛ لذلك كان السلف الصالح _رحمهم الله_يسمون أهل البدع والتفرق الذين يخالفون الكتاب والسنة_يسمونهم_أهل الأهواء لأن ما قبلوا أحقوه وردوا ما أبغضوه بأهوائهم بغير هدىً من الله يقول شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله تعالى_ (صاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أوالرياء ليعظم هو ويثنى عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعا)يعني يمكن أن يوافق الحق ويتحمس له لا لأن البحث المتجرد أداه إلى هذا الحق لكن لأن الطائفة التي ينتمي(1/12)
إليها يقولون بهذا القول ولأن من يحيطون به يقولون بهذا القول أو ينتصر للحق ليثنى عليه به لا يقول ذلك خالصاً لله أو لغرض من الدنيا فهذا ليس مجاهداً في سبيل الله ولا يفعل هذا لله؛ فهذا إذا كان الذي يدافع عنه حق؛يعني شخص يدافع عن مذهب حق لكن بهذه النوايا أنه يرى الحمية للطائفة التي ينتسب إليها أو الحزب الذي ينتمي إليه أو ليقال عنه شجاع أو جريء وليقال فلان عالم أو لينال غرضاً من الدنيا فهذا ليس عاملاً لله وليس مجاهداً في سبيل الله فكيف لو كان الذي يدافع عنه باطلاً؛هذا إذا كان يدافع عن حق فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره أيضاً معه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة فالمقصد أن التجرد في القول والعمل وسلامة القصد أصل مهم في تقويم الرجال وأعمالهم؛فينبغي أن يقصد بالبحث وجه الله والنصيحة للمسلمين كما قال_عز وجل_(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) ينبه شيخ الإسلام تنبيهاً مهماً في أمر النية وفي ذلك يقول : (وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم إن لم يقصدوا فيه بيان الحق)يعني إنسان يتكلم عن الرافضة أو غيرهم من أهل البدع هل لأننا من أهل السنة _مثلاً_ سننتصر لطائفتنا؟ فهؤلاء يقولون فينبغي أن نرد عليهم فقط أم أنه ينبغي أن {تكون}النية هي إظهار كلمة الله لتكون كلمة الله هي العليا ؛ فينبغي التفطن لهذه الدقيقة؛ فيقول شيخ الإسلام: (وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم إن لم يقصد فيه بيان الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحا وإذا غلظ في ذم بدعة و معصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد كما في نصوص الوعيد وغيرها وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيزا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام )الهجرة المقصود منها معالجة هذا الشخص ؛زجره عن المعصية أوعن الباطل أو عن البدعة وليس المقصود التشفي منه(1/13)
وإنما المقصود الإحسان إليه لينبذ هذا الضلال(كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذي خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق) وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية _رحمه الله تعالى_ : (وعلى المتكلم في هذا الباب وغيره أن يكون مصدر كلامه عن العلم بالحق وغايته النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولإخوانه المسلمين وإن جعل الحق تبعا للهوى فسد القلب والعمل والحال والطريق قال الله تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن وقال النبي لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به فالعلم والعدل أصل كل خير والظلم والجهل أصل كل شر والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وأمره أن يعدل بين الطوائف ولا يتبع هوى أحد منهم فقال تعالى فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت أن لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) يقول الإمام الفذ الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي_رحمه الله تعالى_: (هيهات هيهات إن في الكلام في الرجال عقبات؛مرتقبها على خطر ومرتقيها هوى لا منجى له ولا وزر فلو حاسب نفسه الرامي أخاه ما السبب الذي هاج ذلك لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك) وقديماً كان سلفنا الكرام _رضي الله عنهم_يقولون: (احذروا من الناس صنفين صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه)؛أم الأصل الثالث فهو معرفة الرجال بالحق: يقول الحافظ ابن حزم: (التقليد على الحقيقة إنما هو قبول ما قاله قائل دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير برهان فهذا هو الذي أجمعت الأمة على تسميته تقليدا وقام البرهان على بطلانه) وقال الشوكاني _ رحمه الله تعالى_ في التقليد: (هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة)فثمرة التقليد إهمال النصوص(1/14)
الشرعية وتعطيل العقل البشري؛ فالإنسان يرى بعين غيره بدون معرفة ولسان حاله يقول أن إمامه قد اقتبس شعلة من نور العصمة فلا يمكن أن يفوته حديث ولا يمكن أن يخطيء في فهم حديث فيصبح الإنسان أسيراً لا حراك به ليس له قدرة على التأمل والتفكير والنظر وإن وجد فيه بقية من تأمل أوفكر فإنه يسخرها لتحليل أقوال شيخه ودراستها فمنها المبدأ وإليها المنتهى؛كثي من النزاعات التي تحدث بين العلماء وبين طلبة العلم قديماً وحديثاً حصلت بسبب هذا التقليد والتعصب لأقوال الرجال ومعرفة الحق بأقوال الرجال وتنصيبهم حجة في كل صغيرة وكبيرة يقول الإمام ابن القيم: (اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة) فمسألة التقليد والتعصب لأقوال الرجال خطأ كامن وخطير جداً في منهج التلقي فينبغي أن نتجاوز أقوال الرجال ونتحرر من هذا الداء العضال إلى تقديم قول الله ورسوله _صلى الله عليه وسلم_وما أحد من الأئمة الربانيين إلا وقد نهى عن تقليده وأخذ كلامه دون برهان يقول عبد الله بن مسعود_رضي الله تعالى عنه_: (ألا لايقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر)وقال سفيان بن عيينة: (اضطجع ربيعة) ربيعة الرأي{هل} تعرفون اسم أبيه؟ربيعة شيخ مالك ما اسم أبيه؟ لا. ربيعة الرأي هذا إضافة إلى اجتهاد بمنهج أهل الرأي.نعم.ما اسم أبيه؟نعم فروخ نسيتم قصته؛الذي خرج في الجهاد وبقي سنوات طويلة وهو{أي ربيعة}حمل في بطن أمه ثم ولدته وعلمته حتى صار إماماً ؛قصته طويلة معروفة.نعم.الشاهد يقول سفيان بن عيينة_رحمه الله_: (اضطجع ربيعة مقنعاً رأسه وبكى فقيل له: (ما يبكيك؟) فقال: (رياء ظاهر وشهوة خفية والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم ما نهوهم عنه انتهوا(1/15)
وما أمروهم به ائتمروا)يعني يتأسى لحل بعض العلماء لاتصافهم بالرياء الظاهر والشهوة الخفية(والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم)يعني علمائهم الذين يتولون صياغتهم وتربيتهم وقال أبو حنيفة _رحمه الله_: (لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت) وقال مالك بن أنس_رحمه الله_: (إنما أنا بشر أخطيء وأصيب فانظروا في رأي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به و كل مالم يوافق الكتاب والسنة فتركوه)حتى الإمام الشافعي_رحمه الله_أو بعض تلامذة الإمام مالك _على ما أذكر_كان يحضر في مجلسه في مسجد النبي_صلى الله عليه وسلم_ فكان الإمام مالك إذا تكلم في مسألة وناظره أحد في مسألة وناقشه في الدليل فكان يرفع صوته بهذه العبارة المشهورة (كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا من صاحب هذا القبر)ويضع يده على قبر النبي_صلى الله عليه وسلم_ (كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا من صاحب هذا القبر) ويشير ويضع يده على قبر النبي_صلى الله عليه وآله وسلم_ ؛وقال الشافعي_رحمه الله_: (ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله_صلى الله عليه وسلم_ وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله_صلى الله عليه وسلم_خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ وهو قولي)وجعل يردد هذا الكلام وقال الإمام أحمد: (من قلت علم الرجل أن يقلد دينه الرجال)وقال أيضاً(لا تقلد دينك الرجال فإنه لن يسلموا من أن يغلطوا)فهذا هو منهج الأئمة الكرام بصفائه ونقائه ومع وضوح هذه القضية عند أهل العلم إلا أن شريحة كبيرة من الأمة تعاني من هذا الداء المستحكم ليس فقط في مسائل الفروع لكن في مسائل الأصول وأمور العقيدة يقول الشيخ أبو حامد الغزالي _رحمه الله تعالى_: (وهذه عادة ضعفاء العقول يعرفون الحق بالرجال لا الرجال بالحق)( يعرفون الحق بالرجال) الحق هو الحق لأن فلاناً قاله وليس حقاً لأنه قام عليه الدليل؛والعقل يقتدي بسيد العقلاء أمير(1/16)
المؤمنين علي بن أبي طالب_رضي الله عنه_حين قال: (لا تعرف الحق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله)والعاقل يعرف الحق ثم ينظر في القول نفسه فإن كان حقاً قبله سواء كان قائله محقاً أم مبطلاً بل ربما حرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال عالماً بأن معدن الذهب الرغام_الرغام هو التراب_ ؛فالذهب من أين تحصل عليه؟ من الرغام_من التراب_تحفر وتحصل عليه فكذلك حتى لو كان في أقاويل أهل الضلال شيء من الحق فتأخذ هذا الحق ولا تعرض عنه ولا تأس على الصراف إذا أدخل يده في كيس القلاف ؛لماذا؟لأن الصراف ناقد وبصير يستطيع أن يميز الذهب من غيره؛وانتزع الإبريز الخالص من الزيف والبهرج دون الصيرفي البصير يمنع من ساحل البحر الأخرق دون السباح الحاذق ؛يمنع من الدخول في البحر الشخص الأخرق الذي لا يحسن السباحة لكن الساعي السباح الماهر يسمح له بذلك حتى يغوص ويستجلب الدرر؛ويصد عن مس الحية الصبي دون المغرم البارع أما الأصل الرابع فهو قاعدة أن كل بني آدم خطاء:فقد صح عن النبي_صلى الله عليه وسلم_أنه قال : (كل بني آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون)فالخطأ صفة لازمة للبشر لا ينجو منها أحد عدا الأنبياء المعصومين _عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام _ ولو نجى من هذه الخصلة أحد لنجى منها خير البشر بعد الأنبياء _وهم الصحابة_ رضي الله تبارك وتعالى عنهم_ فبعض الناس أو بعض المبتدعة يرون أن الخطأ والإثم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ ينظرون{إلى أن} الخطأ دائماً يقترن بالإثم؛ لكن أهل السنة والجماعة يرون أن المجتهد المخطيء مأجور غير مأزور لعموم قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_: (فأما الصديقون والشهداء والصالحون : فليسوا بمعصومين وهذا في الذنوب المحقة وأما ما اجتهدوا فيه : فتارة يصيبون وتارة يخطئون فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران(1/17)
وإذا اجتهدوا وأخطأوا فلهم أجر على اجتهادهم وخطؤهم مغفور لهم وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين : فتارة يغلون فيهم ويقولون : إنهم معصومون)لأنهم لا يريدون أن يخطئوا الأئمة كما يفعل الرافضة فيقولون هم معصومون حتى لا يوصفوا بالخطأ أبداً (وتارة يجفون عنهم ويقولون : إنهم باغون بالخطأ وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يؤثمون)وبقول الإمام ابن الأثير الجزري_رحمه الله_: (وإنما السيد من عدت سقطاته وأخذت غلطاته فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء) الدنيا لا يكمل فيها شيء فالنبيل هو الذي تعد أخطاؤه وتكون معدودة لكن لا يوجد إنسان بدون خطأ:
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
يقول الشيخ ابن القيم: (وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوما جهولا ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته ) الأصل الخامس الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات:فإذا ثبت لدينا أو تبين أن الإنسان معرض للصواب والخطأ فلا يجوز لنا مهما كانت منزلته أن نطرح جميع اجتهاداته بل ننظر إلى أقواله ما الحق نلتزمه ونعرض عن أخطائه ؛ فعين الإنصاف أن توازن بين الإيجابيات والسلبيات (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) فالله_عز وجل يذم اليهود من حيث العموم لكن في الوقت ذاته يبين تبارك وتعالى أن بعضهم يلتزم بأداء الأمانة لا يخونها وهؤلاء قليلون فيهم يقول الله_عز وجل من أجل هذا (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)بلقيس لما كانت كافرة قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) في بعض وجوه التفسير أن قول(وكذلك يفعلون)هو من عند الله_عز وجل_أقر بلقيس على ما قالته وإن كانت كافرة لكن لأن هذا حق(وكذلك يفعلون) ولذلك يقول بعض الشعراء:(1/18)
لا تحقرن الرأي وهو موافق حكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدر وهو أعز شيء يقتنى ما حط قيمته هوان الغائص
فمن أجل ذلك ينبغي أن يتصف الإنسان بالإنصاف؛هنا يذكر بعض صفات أهل الكتاب مبيناً العدل و الإنصاف (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) يعني مال الأميين أو الأميين أو الجويين يعني مال كل ما عدا اليهود حلال( ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) أيضاً في صحيح البخاري في حديث طويل في رجل من بني إسرائيل أنه استقرض من صاحب له ألف دينار إلى أجل مسمى فلما جاء الأجل التمس مركباً يركبها يقدم عليها للأجل الذي أجله فلم يجد مركباً فأخذ خشبة فنقرها {وأنتم}تعرفون قصة هذا الرجل لما قال له صاحب المال: (أريد شاهداً)قال: (كفي بالله شهيداً)قال: (أريد كافلاً) قال: (كفى بالله كفيلاً)فأقره على ذلك وأخذ منه ذلك القرض فالمقصود أن الرجل لما أراد أن يؤدي وحاول أن يصل إليه بالمركب ما استطاع فلما عجز حرصاً منه على الوفاء بالدين وهذا كان من بني إسرائيل؛حرصاً على الوفاء فإنه أتى بخشبة ونقرها_جعل فيها تجويف_ووضع فيها الألف درهم وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها_أصلح موضعها ولحمها_ ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده فخرج الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله ؛{الآخر}وضع الخشبة في البحر ودعا الله أن تصل إلى هذا الرجل؛ الرجل صاحب المال خرج في الموعد ينتظر المركب لكي يحصل على دينه فوقف ينتظر فما أتت المركب وما جاء الرجل في الموعد فحينئذٍ وجد الشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطباً_أخذها كحطب يحتطب به_فلما نشرها وجد المال والصحيفة؛ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار ثم قال: (والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت قبل الذي جئت به)_أتاه(1/19)
متأخراً_قال : (فإن الله قد أدى عنك _بعث بالخشبة_ فانصرف بالألف دينار راشداً)فهذا مصداق قوله(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ) فمن الإنصاف أن تصف هؤلاء_حتى ولو كانوا أعداء_بما هو فيهم حقيقة يقول شيخ الإسلام_رحمه الله_: (ويعلمون) يعني أهل السنة(أن جنس المتكلمين أقرب إلى المعقول والمنقول من جنس كلام الفلاسفة وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحيانا كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل الكتابين وإن كان قد يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة لا توجد في كثير من المنتسبين إلى الإسلام كما قال تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك)الآية وقال الله تعالى(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) فالله _عز وجل_ أثبت النفع في الخمر والميسر يعني هو فيها حقيقة يعني وهو ما يحصل من الربح المادي نتيجة التجارة فيهما ولكنه حرمها لغلبة مفاسدها على هذه المنافع؛وقال حذيفة بن اليمان كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في الجاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال ( نعم ) . قلت وهل بعد ذلك الشر من خير ؟)تأمل هذا الحديث(قلت وهل بعد ذلك الشر من خير ؟قال نعم وفيه دخن )يعني مع وجود الدخن بينهم وهو الكدورة إلا أنه خير لكن خالطه دخن . قلت وما دخنه ؟ قال ( قوم يهدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر )فأثبت الخيرية لبعض القوم على الرغم من وجود الدخن بينهم؛فالعبرة بكثرة المحاسن وغلبتها. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب)شرب الخمر( فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم اللهم العنه ما(1/20)
أكثر ما يؤتى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله) كلمة(ما) هنا ما نوعها؟اسم موصول وليست نافية لكن المقصود بها اسم موصول.يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله) فهي موصولة بمعنى الذي؛لا تلعنوه فإن الذي أعلمه منه أنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛فهذا الصحابي_رضي الله تعالى عنه_زلت قدمه وتكررت منه هذه المعصية ولكن هذا لايعني أنه فاسد بالكلية بحيث تهمل الصفات الحميدة الأخرى التي توجب محبته وموالاته فيعرف للمحسن إحسانه وللمسيء إساءته إتماماً للعدل والإنصاف فلا يجوز أن يغلب جانب النظر إلى المعصية على جانب النظر إلى الطاعات وبقية الحسنات والفضائل؛فهذا كله حد فاصل بين أهل السنة والخوارج ؛فالخوارج يكفرونه ويتبرأون من فاعل المعصية_يعدونه قد خرج من الملة_ ويعادونه كما يعادون الكفار بل ربما يكونون على أهل الإسلام أشد منهم على أهل الأوثان كما جاء أيضاً في صفتهم(يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)من شدة انحرافهم عن هذا الأصل القويم؛وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة _رضي الله عنه_ في حق الشيطان الذي علمه آية الكرسي لتحفظه من الشيطان إذا أراد أن ينام قال : (أما إنه قد صدقك وهو كذوب)فانظر إلى الإنصاف مع أنه هو الشيطان لكنه كان صادقاً في هذه الجزئية فوصفه بالصدق مع أن الأصل فيه أنه كذاب(صدقك وهو كذوب)فأثبت الصدق للشيطان الذي هو ديدنه الكذب فلم يمنع ذلك من تقبل الخبر الذي دل عليه؛وذكر الحفظ ابن حجر العسقلاني في ضمن فوائد هذا الحديث قال: (وأن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها وتؤخذ عنه فينتفع بها وبأن الكذاب قد يصدق)كذلك رسخ السلف الصالح وأصلوا هذا الأصل الأصيل فمن ذلك :(1/21)
قول سعيد بن المسيب_رحمه الله تعالى_: (ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه؛فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله)يعني من كان فضله أكثر_الخير الذي فيه أكثر_من الشر الذي فيه فيعفى عن النقص لأجل غلبة الخير فيه؛ ولذلك يقول_عليه الصلاة والسلام_: (إن من المروءة جبر نقص ذوي الهيئات) أو جاء في حديث آخر_الحديث صحيح لكن ما أذكر لفظه_: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) كما قال _عليه الصلاة والسلام_
؛ (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) الشخص الذي يعلم عنه _غالب أحواله_الاستقامة فإذا زل في مرة أو مرتين _ما لم يكن حداً من حدود الله_(1/22)
تغاضوا عنه وانظروا هيئته ولا تؤاخذوه بها؛لماذا؟لأن هذا الغالب عليه الخير (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) يقول ابن المسيب: (ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه؛فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله)؛وقال: (ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره)هذا من الظلم؛ قال عبد الله ابن الزبير الحميدي_رحمه الله_كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة فقال لي ذات يوم: (هاهنا رجل من قريش له بيان ومعرفة) فقلت: (من هو؟)فقال: (محمد إدريس الشافعي)وكان أحمد قد جالسه بالعراق؛فلم يزل بي حتى اجترني إليه)_حتى يحضر عنده_ (فجلسنا إليه ودارت مسائل فلما قمنا قال لي أحمد بن حنبل: (كيف رأيت؟)_كيف رأيت في الإمام الشافعي في أثناء هذه المناظرة_(فجعلت أتتبع ما كان أخطأ فيه )_فجعل يذكر الأخطاء فقط التي أخطأ فيها الإمام الشافعي(فجعلت أتتبع ما كان أخطأ فيه وكان ذلك مني بالقرشية)يعني كان ذلك حسداً مني للإمام الشافعي_رحمه الله تعالى_فقال لي أحمد بن حنبل (فأنت لا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان أو نحو هذا القول) (فأنت لا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان تمر مائة مسألة يخطيء خمساً أو عشراً؛اترك ما أخطأ وخذ ما أصاب)إذا {تكلم} في مائة مسألة فأخطأ في خمس منها{فهل} ينبغي للعقل أن يترك الصواب_خمس وتسعون مسألة_؛ أن تترك خمس وتسعون مسألة وتمسك بمسألة ولا يساوي الشافعي عند إلا هذه الخمسة أخطاء؛اترك ما أخطأ وخذ الصواب فإنك في هذه الحالة أنت الذي تكسب؛قال شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله تعالى_ : (ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن ونوع من الهوى الخفي فيحصل بسبب ذلك(1/23)
مالا ينبغي إتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل وابتاعه عليه وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحا في ولايته وتقواه بل في بره وكونه من أهل الجنة بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان وكلا هذين الطرفين فاسد والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه فيعظم الحق ويرحم الخلق ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه ويبغض من وجه هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ومن وافقهم خلافا للخوارج والمعتزلة) و يقول الإمام شمس الدين الذهبي_رحمه الله تعالى_وهو شمس وهو أنفس من الذهب_رحمه الله_ يقول الإمام الذهبي: (ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه؛نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك) وقال أيضاً في ترجمة القفال الشاشي(1/24)
: (قال أبو الحسن الصفار:سمعت أبا سهل الصعلوكي وسئل عن تفسير القفال فقال: (قدسه من وجه ودنسه من وجه)أي دنسه من جهة نصره للاعتزال (قلت: قد مر موته والكمال عزيز وإنما يمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل فلا تدفن المحاسن لورطة ولعله قد رجع عنها وقد يغفر له في استفراغه الوسع في طلب الحق و لا حول ولا قوة إلا بالله) هذا كلام الإمام الذهبي؛ يقول الإمام ابن القيم_ رحمه الله تعالى_: (ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين ) وقال الإمام ابن القيم: (فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها)فإذا علم هذا؛ والحقيقة أن كثيراً جداً من الشباب يحتاجون إلى التدبر في هذه القاعدة بالذات فمجرد تصيد الأخطأ وتتبع العثرات والبحث عن الهفوات كل ذلك يكون مع التغافل عن الحسنات فهذا دليل على فساد القصد وسوء الطوية وقلة الدين يقول الإمام الشعبي -رحمه الله_: (لو أصبت تسعاً وتسعين وأخطأت واحدة لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين) للأسف نلاحظ هذا في كثير من الشباب يعني يكون عالم من الأئمة له فضل عظيم جداً في خدمة الإسلام والسنة والجهاد في سبيل الله وكذا؛فمجرد أنه أخطأ في مسألة أو مسألتين أو قضايا لكن الغالب عليه الخير والاتباع فتجده يشطب تماماً على هذا الإمام ؛يقول الشيخ الفلاني صاحب البدعة الفلانية ويكون أخطأ في هذه المسألة فيحيدون عن هذا الأصل.أما الأصل السادس:فيتعلق بمنهج أئمة الحديث في تقويم الرجال: فتجد هذا العلم المتعلق بالرجال يسمونه: (علم الجرح والتعديل) ويعلم أنه لا يوجد منهج بشري على الإطلاق يملك عشر معشار هذا المنهج التوثيقي الدقيق(1/25)
الذي قدمه لنا أئمة الحديث_رضي الله عنهم أجمعين_ يقول الإمام أبو حاتم بن حبان يصف معالم هذا المنهج ويقول: (لسنا ممن يوهم الرعاع مالا يستحله ولا ممن يحيف بالقدح في إنسان وإن كان لنا مخالفا بل نعطى كل شيخ حظه مما كان فيه ونقول في كل إنسان ما كان يستحقه من العدالة والجرح)محاور هذا المنهج متعددة وتفاصيلها تراجع في مظانها من كتب الحديث والمصطلح لكن هنا إشارة لمسائل ثلاث فقط حتى يتبين لنا مدى عدلهم وإنصافهم_ رحمهم الله_المسألة الأولى تقويم المبتدعة : فالعلماء ينظرون في الراوي إلى جهتين:جهة الضبط والإتقان بالإضافة إلى الصدق؛ الصدق والضبط والإتقان فإذا توفرت هاتان الصفتان اعتمدت رواية الراوي حتى واو عرف بتلبسه ببدعة غير مكفرة تخلف منهج السلف الصالح وكانوا يقولون: (لنا صدقه وعليه بدعته)؛ (لنا صدقه) لأنه عرف بالصدق لاسيما إن كان خارجياً_مثلاً_يعتقد أنه يكفر لو كذب_وإن كان وجد أيضاً كذب في الخوارج_لكن هذا في حق من قبله من أهل البدع أنه ثبت صدقه؛ يقول (لنا صدقه وعليه بدعته) فليس هذا تهويناً من أهل البدع وأهلها وإنما تعظيم للعدل واعتراف بالحق لأهله يقول الإمام الطبري _رحمه الله_: (لوكان كل من ادهي عليه مذهب من المذاهب الردية ثبت عليه ما ادعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثي الأمصار لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه)مجرد الاتهام هكذا جزافاً لكن ينبغي التحري والتدقيق في هذا.يقول الحافظ ابن حجر: (فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمرا متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة وكذا من اعتقد عكسه فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله)فلذلك لا نعجب إذا رأينا بعض علماء الحديث وأئمتهم حتى البخاري_نفسه_ قد يروي عن بعض أهل البدع لتوفر هاتين الصفتين:الصدق والضبط فهذا يدل على عظم العدل الذي اتصف به هؤلاء السلف(1/26)
في تقويمهم للرجال مع شدتهم على أهل البدع وحساسيتهم في هذه المسألة ولذلك شيخ الإسلام_نفسه_ يعترف بفضائل المبتدعة إذا ثبت الحق عنهم ولا يتردد في ذلك يقول_رحمه الله_: (وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير من أن يكونوا كفارا)فانظر إلى دقة شيخ الإسلام وشدة إنصافه في هذا الباب؛نجد أيضاً في صفوف من ينتسبون إلى الدعوة الإسلامية يقولون على بعض الجماعات كجماعة التبليغ أنهم ينتشرون في كل أقطار العالم حتى في داخل روسيا؛في جنوب أفريقيا ؛في أمريكا؛في أوربا في كل بلاد العالم ينتشرون للدعوة إلى الإسلام_على بعض البدع يتلبسون بها وهي معروفة_ويرثون لهذا ويقولون كيف يعلمون الناس إسلاماً به هذه البدع؟ فأولى بمن يرى فهماً أصح للإسلام أن ينشط نشاطهم وأن يتحرك حركتهم لكن مع الكسل نتفرغ للرثاء فقط لحال هؤلاء الذين يسلمون على أيديهم وهذا كلام شيخ الإسلام يقول: (وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير من أن يكونوا كفارا.(1/27)
وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزوا يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثما بذلك ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارا فصاروا مسلمين وذاك كان شرا بالنسبة إلى القائم بالواجب وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير وأكثر المتكلمين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين فيصير الكافر مسلما مبتدعا واخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها وهى بدعة أهل السنة) يقول أيضاً شيخ الإسلام في نفس الباب يقول_رحمه الله_: (والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة والزيدية من الشيعة خير منهم أقرب إلى الصدق والعدل والعلم وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض وهذا مما يعترفون هم به ويقولون أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبنى علي جهل وظلم وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض)ومن جميل ما سطره يراع الحافظ الذهبي_رحمه الله تعالى_في كتابه سير أعلام النبلاء_هذا من أنفس كتب الرجال من أنفس هذه الكتب وأعظمها_يقول_رحمه الله_: (غلاة المعتزلة وغلاة الشيعة وغلاة الحنابلة وغلاة الأشاعرة وغلاة الجهمية وغلاة الكرامية قد ماجت بهم الدنيا وكثروا وفيهم أذكياء وعباد وعلماء_نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد_ ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع ونحب السنة ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة ولا(1/28)
نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ وإنما العبرة بكثرة المحاسن).هذا هو الأصل الأول فيما يتعلق بمنهج أهل الحديث في تقويم المبتدعة
أما المسألة الثانية في منهج أهل الحديث فهي: أن الخطأ اليسير في جنب الصواب الكثير مغفور؛ فالحكم يكون على غالب مرويات الرجل يعني ضبط الراوي هو شرط أساسي من الشروط لكن هذا لايعني سلامته من الخطأ تماماً بل إنما ينظر إلى مجموع ما يرويه الرجل؛فإذا كان الغالب على ما يرويه السلامة من الخطأ اعتبر الراوي ضابطاً وقبلت روايته ؛لكن إذا كثرت الأخطاء و مخلفة الراوي لغيره من الثقات رد حديثه؛يقول سفيان الثوري_رحمه الله_: (ليس يكاد يفلت من الغلط أحد؛إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ وإن غلط؛وإذا كان الغالب عليه الغلط ترك)و يقول عبد الرحمن بن مهدي_رحمه الله_: (الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن فهذا لا خلاف فيه؛وآخر يهم والغالب على حفظه الصحة فهذا لا يترك حديثه؛ وآخر يهم والغالب على حديثه الوهم فهذا يترك حديثه) وقال الإمام أحمد _رحمه الله_: (ما رأيت أحداً أقل خطئاً من يحي بن سعيد ولقد أخطأ في أحاديث)ثم قال: (ومن يعرى من الخطأ والتصحيف) وقال أبو عيسى الترمذي : (وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم)وقال الحافظ ضياء الدين المقدسي: (ولو كان كل من وهم في حديث اتهم لكان هذا لا يسلم منه أحد)
أما المسألة الثالثة والأخيرة من ضوابط علم الحديث في الحكم على الرجال _فهي الحقيقة مهمة جداً وقلما يتفطن لها أيضاً_ وهي أن كلام الأقران يطوى ولا يروى(1/29)
فقد يحصل بين بعض الأقران يعني الناس المتقاربون في السن؛في العلم؛ في كذا أو يكونوا متعاصرين في عصر واحد فيحصل بينهم شيء من الخلاف لسبب من الأسباب فيؤدي إلى وقوع بعضهم ببعض دون عدل أو تأن حتى إن الواحد منهم قد يصف غيره أحياناً بأوصاف يعلم يقيناً أنه بريء منها لكن حب الذات والانتصار للنفس يلقي فيه روح الغيرة والاعتداء لأجل ذلك كان النقاد الجهابذة من المحدثين يهملون هذا الجرح بين الأقران إذا تبين لهم أن سبب صدوره نزاعات شخصية بين الطرفين؛والعبر بالأدلة والبراهين فالجرح_صحيح الجرح مقدم على التعديل_لكن إذا كان الجرح ناشيء عن خصومة مذهبية أو عصبية أو نوع من التحاسد وثبت ذلك فلا يقبل هذا الجرح؛ وهذا ما ينبغي أن يحكى لكنه يطوى ويخفى؛فهذه الصورة لا تقف عند المحدثين بل قد تتعداه_في مثل هذا العصر_إلى العلماء والدعاة وشتى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية؛وبعض الناس يعجب_مثلاً_ إذا اقتبس الإنسان من كتب لبعض الشيوخ بينهم وبين بعض علماء الدعوة السلفية _مثلاً_ بعض الخلاف والمساجلات والمحاورات الشديدة في الكتب والردود والأخذ والرد لماذا؟لأنهم ينحرفون عن هذا المنهج وهو:أن كلام الأقران يطوى ولا يحكى؛فالمنهج القسط أن ينظر إلى الخلفيات التي تبنى عليها الأحكام ومن ثم توزن بما يقتضيه الحال من التحري والإنصاف حتى لا يتهم أحد بما ليس فيه؛فليس كل جرح مؤثراً وليس كل اتهام مقبولاً. يقول الإمام أحمد بن حنبل_رحمه الله_: (كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه جرح أحد{حتى}يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه) قال الإمام أبو عمر ابن عبد البر_رحمه الله تعالى_هذا باب غلط فيه كثير من الناس وضلت فيه نابتة جاهلية لا تدري ما عليها في ذلك والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل(1/30)
بها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر؛وأما من لم تثبت إمامته و لا عرفت عدالته ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب النظر إليه). يقول الإمام الذهبي: (كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد وما ينجو منه إلا من عصمه الله وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين ولو شئت لسردت من ذلك كراريس) يعني مثل ما حصل بين العز بن عبد السلام وابن الصلاح؛مثل ما حصل بين السيوطي والسخاوي وهكذا فيكل عصر تحصل مثل هذه الأشياء فإذا تناطحت النسور آفاق في السماء ما ينبغي للكتاكيت أن تتدخل في مثل هذا الصراع نحن نأخذ ما يسقط منهم من العلم والفضل؛ننتفع بالخير الذي عند كل أحد منهم؛هؤلاء نسور مالنا نحن ندخل{بينهم}:
إذا تلاقت الفحول في لجب فكيف حال الغطيط في الوسط(1/31)
نأخذ الخير الذي عندهما ونطوي ما يكون بينهما من هذه النزاعات. يقول السبكي_رحمه الله_: (الحذر الحذر من هذا الحسبان بل إن الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحوه وكانت هناك قرينة دالة على جرحه من تعصب مذهبي أو غيره فإننا لا نلتفت إلى الجرح فيه ونعمل فيه بالعدالة ولو فتحنا هذا الباب وأخذنا في تقديم الجر ح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة؛إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون) ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: (واعلم قد وقع من جماعة الطعن في جماعة بسبب اختلافهم في العقائد فينبغي التنبه لذلك وعدم الاعتداد به إلا بحق)أخيراً قبل أن نطوي بساط هذا البحث نذكر أمثلة تطبيقية لتقويم الرجال فنلاحظ في كلام العلماء في تقويم الرجال التورع والتحري والعدل والإنصاف؛نجد_مثلاً_بعض النقاد من علماء الحديث قد يضعف أباه أو ولده أو قريبه إذا كان يستحق ذلك ولا يداهن؛فإن المنهج أغلى من أؤلئك الرجال وأبقى. يقول شعبة: (لو حابيت أحداً لحابيت هشام بن حسان كان ختني ولم يكن يحفظ) كان قريباً له وسئل علي بن المديني عن أبيه فقال: (سلوا غيري) ما يريد أن يتكلم في أبيه فيقول : (سلوا غيري ) فعادوا فأطرق فرفع رأسه فقال: (هو الدين )يعني هي مسؤولية الدين هو الدين؛فكأنه يوجد تحفظ من أن يوثق أباه في الرواية أو من ناحية حفظه_مثلاً_فانظر حتى مع أبيه؛فهذا تطبيق لقوله تعالى( كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين )فهو يتجرج من أن يقع في أبيه ويستخدم كل وسيلة ليهرب من هذا الأمر وفي نفس الوقت يقول: (هو الدين).وأبو داود كان يكذب ابنه ويقول: (لا تقبلوا روايته) وقال عبد الله بن عمرو قال لي زيد بن أبي أنيسة: (لا تكتب عن أخي فإنه كذاب) وقال الذهبي: (لو حابيت أحداً لحابيت أبا على لمكان علو روايته في القراءات عنه)لأنه صاحب الروايات العلية في القراءات التي(1/32)
أخذها عنه الإمام الذهبي _رحمه الله تعالى_؛نذكر_مثلاً_ مثالاً في معرض حديث شيخ الإسلام عن أبي ذر الهروي_وهو أحد الرواة المشهورين لصحيح البخاري_ يقول: (أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به)ثم ذكر بعض أصحابه ممن فيهم نظر وبعض البدع ثم وضح أيضاً ما هم عليه من الخطأ في هذه الأقوال؛يقول_مثلاً _ شيخ الإسلام ابن تيمية في الإمام أبي محمد بن حزم_رحمه الله_يقول: (وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة وكذلك ما ذكره في باب الصفات فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث ويقول إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات) وهكذا يفصل الإمام ابن تيمية_حتى لا أطيل عليكم_يفصل ما يؤخذ{عليه}_ما له وما عليه_ في حق الإمام الكبير ابن حزم_رحمه الله_ثم يقول في النهاية_بعدما يذكر بعض المؤاخذات_: (وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر ويوجد في كتبه من كثرة الإطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء)كذلك انظر لكلام الذهبي في ترجمته للقاضي أبي بكر ابن العربي مشيراً إلى وقوع القاضي ابن العربي في ابن حزم_رحمه الله_يقول(1/33)
: (ولم أنقم على القاضي_رحمه الله_)_بعدما ذكر ومدح القاضي ابن العربي_رحمه الله تعالى_يقول: (ولم أنقم على القاضي_رحمه الله_ إلا إقذاعه في ذم ابن حزم واستجهاله له ؛وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم وأحفظ بكثير وأصاب في أشياء وأجاد في أشياء وزلق في مضايق كغيره من الأئمة؛والإنصاف عزيز) أيضاً يقول الذهبي في ترجمة ابن حزم : (وكان قد مهر أولاً في الأدب وفي الشعر والأخبار وفي المنطق وأجزاء الفلسفة فأثرت فيه تأثيراً ليته سلم من ذلك؛ولقد وقفت على تأليف يحض فيه على الاعتناء بالمنطق ويقدمه على العلوم فتألمت له فإنه رأس في علوم الإسلام متبحر في النقل عديم النظير على يبس فيه وفرط ظاهرية في الفروع والأصول وصنف في ذلك كتباً كثيرة)أي في المذهب الظاهري(وناظر عليه وبسط لسانه وقلمه ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب بل فجج العبرة وسب وجدع فكان جزاؤه من جنس فعله بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة وهجروها ونفروا منها وأحرقت في وقت؛واعتنى بها آخرون من العلماء وفتشوها انتقاداً واستفادة وأخذاً ومؤاخذة ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرص بالخرز المهين) يعني كأنهم عملوا عقد فيه درر ثمينة وفيه خرز مهين (فتارة يطربون ومرة يعجبون ومن تفرده يهزأون وفي الجملة فالكمال عزيز وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله_صلى الله عيه وسلم_ وكان ينهض بعلوم ويجيد النقد ويحسن النظم والنثر؛ وفيه دين وخير)هذا كلامه في ابن حزم( ومقاصده جميلة ومصنفاته مفيدة وقد زهد في الرئاسة ولزم منزله مكباً على العلم فلا نغلو فيه ولا نجفو عنه وقد أثنى عليه قبلنا الكبار)أيضاً الإمام أبو إسماعيل الهروي له كتاب معروف اسمه(ذم الكلام)وكتاب في التصوف اسمه(منازل السائرين)الذي شرحه الإمام ابن القيم في مدارج السالكين ؛والإمام الهروي ممن يلقب بشيخ الإسلام لكن الحافظ ابن القيم استدرك عليه في كتابه مسائل عديدة وتعقبه في ألفاظ مختلفة يقول(1/34)
الإمام ابن القيم _في بعض المواضع التي ما استطاع أن يتجاوز عنها وهو يشرح كتاب الإمام الهروي_يقول: (في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير يجبره حسن حال صاحبه وصدقه وتعظيمه لله ورسوله)_صلى الله عليه وسلم_( ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له)ولذلك تجد الفرق بين عبارات الإمام ابن القيم في بعض الطبعات لكتاب مدارج السالكين وبين بعض علماء الدعوة السلفية كانت عبارتهم شديدة جداً في مثل الإمام الهروي؛ففي الغالب يميل الشباب إلى مثل هذه الشدة ويتجاوبون معها ولا ينضبطون بهذا الذي نتحدث فيه الآن وهو العدل والإنصاف؛فتجد سهل جداً أن تخرج كلمة الكفر والشرك؛يوصف رجل بأنه صوفي فيظن أن كلمة صوفي هذه دائماً تعني الإلحاد وتعني وحدة الوجود وتعني كذا وكذا ؛هذه لفظة مشتبهة ينبغي أن تفتش عن المعنى المقصود من اتصافه به لأنها كلمة تحتمل عدة معاني ولبسط هذا_طبعاً موضع آخر_لا نطيل الآن_يقول ابن القيم في بعض الألفاظ قبل أن ينتقده أيضاً_يقول(1/35)
: (شيخ الإسلام حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول عمله خير من علمه وصدق رحمه الله فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى)_صلى الله عليه وسلم_( وقد أخطأ في هذا الباب لفظا ومعنى)ثم أيضاً في موضع آخر يستنكر ابن القيم على الهروي بعض هذه المواضع ويقول: (ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه وإساءة الظن به فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه والكامل من عد خطؤه ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك والمعترك الصعب الذي زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام وافترقت بالسالكين فيه الطرقات وأشرفوا إلا أقلهم على أودية الهلكات)من هذه النماذج أيضاً نقد العلماء{لكتاب إحياء علوم الدين} وهذا نموذج واضح ونحتاجه كثيراً جداً؛ نقد العلماء لكتاب إحياء علوم الدين وكتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي؛باختصار أيضاً يقول شيخ الإسلام بعد كلام طويل في حق الإحياء: (والأحياء فيه فوائد كثيرة لكن فيه مواد مذمومة فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد فإذاذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين وقد أنكر أئمة الدين على أبى حامد هذا فى كتبه وقالوا مرضه الشفاء)ما معنى هذه الكلمة ؟يقولون أبو حامد مرضه الشفاء؛هل يوجد شفاء يمرض؟ الشفاء لابن سينا وكتاب الشفاء هذا في الفلسفة فكانوا يقولون أبو حامد لما قرأ في كتاب الشفاء هذا أمرضه هذا الشفاء أمرضه كتاب الشفاء لابن سينا؛يقول الإمام الذهبي_رحمه الله تعالى في الإحياء أيضاً: (وأما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة وفيه خير كثير(1/36)
لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائف الحكماء ومنحرفي الصوفية_نسأل الله علماً نافعاً_) ويقول أيضاً: (الغزالي إمام كبير وما من شرط العالم أنه لا يخطيء ) ويقول الذهبي
: (ورحم الله أبا حامد فأين مثله في علومه وفضائله ولكن لا ندعي عصمته من الخطأ والغلط ولا تقليد في الأصول)فانظر إلى إمام من أئمة أهل السنة شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الذهبي_رحمه الله_يثبتان الاضطراب والانحراف في منهج أبي حامد الغزالي_رحمه الله_ ولم يمنعهما ذلك من تقرير الجوانب الإيجابية في منهجه الفكري إحقاقاً للحق وإتماماً للعدل المأمور به شرعاً؛ فإذا فقدنا هذه الضوابط التي ذكرناها تشيع الاتهامات وتكثر الافتراءات ويصل الحال عند بعض الناس إلى أن يرموا بالكتاب جملة وتفصلاً وقد يتطاولون بألفاظ السب والتجديع لمؤلفه أما منهج أهل الحق_أهل السنة والجماعة_ فقد وضحه الإمام ابن القيم_رحمه الله تعالى_: (فإن كل طائفة معها حق وباطل فالواجب موافقتهم فيما قالوه من الحق ورد ما قالوه من الباطل ومن فتح الله له بهذه الطريق فقد فتح له من العلم والدين كل باب ويسر عليه فيهما الأسباب)فهذا ما تيسر اليوم في الكلام في هذا المنهج.يقول الإمام أبو حامد الغزالي_رحمه الله_: (اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدق عند الناس وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله المحمودة عند عدو الله إبليس ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها كنسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا والقذف والقتل والسرقة(1/37)
وكما أن الذي خير بين الشرب وسائر الفواحش استصغر الشرب فأقدم عليه فدعاه ذلك إلى ارتكاب بقية الفواحش في سكره فكذلك من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس وهيج فيه جميع الأخلاق المذمومة) في نفس الوقت لا ننكر أن النقد البناء ضرورة لا غنى عنها لأن هذا من تمام العدل والإنصاف أن يحق الحق نصيحة لله ورسوله وللمؤمنين ؛فأخيراً نختم بكلمة للإمام ابن القيم_رحمه الله تعالى_في بيان هذا المنهج: (عادتنا في مسائل الدين كلها دقها وجلها أن نقول بموجبها ولا نضرب بعضها ببعض ولا نتعصب لطائفة على طائفة بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق ونخالفها فيما معها من خلاف الحق لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة ونرجو من الله أن نحيا على ذلك ونموت عليه ونلقى الله به ولا قوة إلا بالله)فهذا حاصل ما تيسر من تلخيص هذا البحث: (منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم) للشيخ أمد بن عبد الرحمن الصيام؛ذكر أول أسباب النجاة من ذلك: ورع اللسان ثم القاعدة الثانية: أهمية التجرد وبيان أن الهوى من أسباب الظلم.ثم ثالثاً:ذكر قاعدة معرفة الحق في الرجال.ورابعاً: أن كل بني آدم خطاء. وخامساً: أنه ينبغي الموازنة بين السلبيات والإيجابيات . ثم ذكر منهج أئمة الحديث في تقويم الرجال وانتقى منه ثلاثة مواضيع: طريقة أهل السنة في تقويم المبتدعة؛ثم بيان أن الخطأ اليسير في جنب الصواب الكثير مغفور؛ثم قاعدة أن كلام الأقران يطوى ولا يروى وذكر أمثلة في تقويم الرجال وأمثلة تطبيقية في تقويم الكتب؛أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم؛سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك ,أتوب إليك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
{تم البحث والحمد لله على نعمه السابغة ظاهراً وباطناً}(1/38)