منهج أهل السنة في النقد والحكم على الآخرين
هشام بن إسماعيل
المقدمة :
إن الذي دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو عدة أمور:
- أولاً: أهمية بيان منهج أهل السنة في النقد والحكم على الآخرين ، لكثرة صدور الأحكام من جهات إلى أخرى دون تحري المنهج السليم في إصدار الأحكام ، مما أدى إلى الوقوع في أخطاء جسيمة في حق الآخرين.
- ثانياً: حاجة المجتمع إلى أن تكون عنده قواعد عامة في الحكم على الآخرين ، ليكون الحكم بعلم وعدل وإنصاف ، يقول ابن تيمية رحمه الله : " لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت،وإلا يبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم ".( انظر منهاج السنة النبوية 5/83)
- ثالثاً: عظم حرمة المؤمن عند الله تعالى.
- رابعاً: الآثار السيئة المترتبة بسبب الانحراف عن هذا المنهج، من بخس للناس، وتقطيع الأواصر، وحدوث الفرقة، ووقوع الغيبة والحسد والبغضاء، وغير ذلك من الأدواء الكثيرة، والتي لا تخفى على القارئ لكثرة وقوع هذا الأمر.
قواعد أهل السنة في الحكم والنقد على الآخرين :
القاعدة الأولى :
الخوف من الله عز وجل عند الكلام في الآخرين :
حرم الله عز وجل الغيبة في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، فقال الله عز وجل: ((وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)) [الحجرات:12[
وتفسير الغيبة جاء في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته" ) رواه مسلم 4/2001)(1/1)
ومعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرن حرمة الأعراض بحرمة يوم عرفة من الشهر الحرام في البيت الحرام ، فقال: "إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت" (المصدر السابق 2/886-892)
وعن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- : "خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله ، وشرار عباد الله : المشاءون بالنميمة ، المفرقون للأحبة ، الباغون للبرآء العنت" (أخرجه أحمد 4/227 ، وعزاه صاحب حصائد الألسن ص 68 إلى صحيح الترغيب والترهيب، باب الترهيب من النميمة، وهذا الجزء لم يطبع.)
ومعنى الباغون للبرآء العنت: أي الذين يحبون أن تقع المشقة للأبرياء ، وغالباً لا يكون هذا إلا عن حسد وحقد.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تؤذوا المسلمين ، ولا تعيروهم ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإن من اتبع عورة أخيه المسلم ، تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله" (صحيح سنن الترمذي 2/200)
وقد كان السلف -عليهم رحمة الله - من أشد الناس بعداً عن الغيبة والخوف منها.
ومن ذلك ما قاله البخاري - رحمه الله - : سمعت أبا عاصم يقول : منذ أن عقلت أن الغيبة حرام ما اغتبت أحدا قط (التاريخ الكبير 4/336)
وقال البخاري - رحمه الله - : أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً.
قال الذهبي : صدق رحمه الله ، ومن ينظر في كلامه في الجرح والتعديل ، علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعفه... حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر، فهو متهم واه، وهذا معنى قوله: لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً، وهذا والله غاية الورع (سير أعلام النبلاء 12/439)
وقال رحمه الله : "ما اغتبت أحداً قط منذ أن علمت أن الغيبة تضر أهلها" (المرجع السابق 12/441)(1/2)
بل إن المغتاب في الحقيقة يقدم حسناته إلى من يغتابه ، حتى إن عبد الرحمن ابن مهدي - رحمه الله – قال : "لولا أني أكره أن يعصى الله ، لتمنيت أن لا يبقى أحد في المصر إلا اغتابني ، أي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته لم يعمل بها" (سير أعلام النبلاء 9/195.)
وأما ما يفعله بعض من ينتسب إلى الدعوة في هذا الوقت من غيبة الآخرين بحجة التقويم والإصلاح ، فإنه ينبغي لهم قبل أن يتكلموا في غيرهم أن يتدبروا عدة أمور:
أولاً: يسأل نفسه ، ما هو الدافع الحقيقي لكلامه في غيره؟ هل هو الإخلاص والنصح لله ورسوله وللمسلمين؟ أم هو هوى خفي ، أو جلي؟ أم هو حسد وكراهية له؟!
فإنه كثيراً ما يقع الأشخاص في غيبة غيرهم بسبب أحد الأمور المذمومة السابقة ، ويظن أن دافعه هو النصح وإرادة الخير ، وهذا مزلق نفسي دقيق قد لا ينتبه له كثير من الناس إلا بعد تفكر عميق وبإخلاص وتجرد لله تعالى (وللمعلمي في التنكيل 2/180 كلام نفيس جداً عن اتباع الهوى ، ذكر فيه بعض مزالق الهوى الخفية)
ثانياً: ينظر في هذا الدافع الذي دفعه للكلام في أخيه المسلم ، هل هو من الحالات التي تجوز فيها الغيبة أم لا؟( وانظر ما ذكره الشوكاني في كتابه: رفع الريبة عما لا يجوز من الغيبة)
ثالثاً: أن يتأمل كثيراً قبل أن يقدم على الكلام في الآخرين: ما هو جوابي عند الله تعالى يوم القيامة إذا سألني: يا عبدي فلان لم قلت في فلان كذا وكذا؟
وليتذكر أن الله تعالى يقول: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)) [البقرة 235].
القاعدة الثانية
تقديم حسن الظن بالمسلم :
والأصل في هذه القاعدة هو قول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا)) (الحجرات 12)(1/3)
فأمر الله عز وجل باجتناب كثير من الظن لأن بعض هذا الكثير إثم ، وأتبع ذلك بالنهي عن التجسس ، إشارة إلى أن التجسس لا يقع في الغالب إلا بسبب سوء الظن.
وأمر المسلم - في الأصل - قائم على الستر وحسن الظن به ، ولذلك أمر الله عز وجل المؤمنين بحسن الظن عند سماعهم لقدح في إخوانهم المسلمين ، بل وشدد النكير على من تكلم بما سمع من قدح في إخوانه.
ففي حادثة الإفك ، عندما قيل ما قيل ، بيّن الله عز وجل الموقف الصحيح الذي ينبغي لكل مسلم أن يقفه ، فقال سبحانه وتعالى: ((لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ)) ثم بيّن سبحانه وتعالى أن التلفظ بهذا الكلام ونقله أمر عظيم، فقال سبحانه وتعالى: ((إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (*) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)) ثم وعظنا الله عز وجل أن نعود إلى الوقوع في مثل هذا الذنب العظيم فقال: ((يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))
وقد بيّن سبحانه وتعالى أن مجرد نقل الجرح في الآخرين بلا ضرورة شرعية ، وبلا تثبت وروية ، أنه إثم ، فقال سبحانه وتعالى: ((لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ))
وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" (أخرجه مسلم في المقدمة برقم 5)
وبوب الإمام مسلم في مقدمة الصحيح: باب النهي عن الحديث بكل ما سمع ، وأورد تحته الحديث السابق ، كما أورد قول الإمام مالك لابن وهب : إعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع ، ولا يكون إماماً أبداً ، وهو يحدث بكل ما سمع.(1/4)
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع(المرجع السابق 1/10-11.)
وقد أمر الله عز وجل بالتثبت من الأخبار فقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) (الحجرات 6)
القاعدة الثالثة
الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل إنصاف :
والأصل في هذه القاعدة هو قوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) [المائدة 8]،وقوله عز وجل: ((وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)) [ هود85] ونحو ذلك من الآيات.
يقول ابن جرير في آية المائدة: "يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله محمد ، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم ، ولا تجورا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم ، ولا تقصّروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم ، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي ، واعملوا فيه بأمري.
وأما قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، فإنه يقول:ولا يحملنكم عداوة قوم أن لا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم من العداوة" (انظر تفسير ابن جرير 10/95 تحقيق: أحمد محمود شاكر)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل ، لا بجهل وظلم ، كحال أهل البدع" ( منهاج السنة النبوية 4/337.)(1/5)
وقال الذهبي في ترجمة الفضيل: " قلت: إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم فيهم الروافض والخوارج ، ومثل الفضيل يتكلم فيه ، فمن الذي يسلم من ألسنة الناس ، لكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله، لم يضره ما قيل فيه ، وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع" (انظر سير أعلام النبلاء 8/448)
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس جداً ، يتضح فيه المنهج الصحيح في الحكم على الآخرين - وخاصة العلماء - إذا أخطأوا حتى في مسائل الاعتقاد ، يقول: "قلت: أبو ذر (يعني الهروي) فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة ، وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة ، وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به ، وقد كان قدم إلى بغداد من هراة ، فأخذ طريقة ابن الباقلاني وحملها إلى الحرم ، فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم ، كأبي نصر السجزي ، وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين بما ليس هذا موضعه، وهو ممن يرجح طريقة الصبغي والثقفي، على طريقة ابن خزيمة وأمثاله من أهل الحديث، وأهل المغرب كانوا يحجون، فيجتمعون به، ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة ويدلهم على أصلها ، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق، كما رحل أبو الوليد الباجي ، فأخذ طريق أبي جعفر السمناني الحنفي صاحب القاضي أبي بكر ورحل بعده القاضي أبو بكر بن العربي، فاخذ طريقة أبي المعالي في الإرشاد.
ثم إنه ما من هؤلاء إلا له في الإسلام مساع مشكورة ، وحسنات مبرورة ، وله في الرد على كثير من الإلحاد والبدع،والانتصار لكثير من أهل السنة والدين،ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً عن المعتزلة ، وهم فضلاء وعقلاء ، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه ، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين ، وصار الناس بسبب ذلك:(1/6)
1- منهم من يعظمهم ، لما لهم من المحاسن والفضائل.
2- ومنهم من يذمهم ، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل.
وخيار الأمور أوساطها.
وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء ، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين ، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)) (الحشر 10)
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وأخطأ في بعض ذلك ، فالله يغفر له خطأه ، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا ((رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)) (البقرة 286) (انظر تعارض العقل والنقل 2/101-103)
ومن خلال النصوص السابقة؛ نعلم أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في غيره - إن احتاج إلى ذلك شرعاً - إلا:
1- بعلم.
2- وعدل وإنصاف.
فمن تكلم في غيره بغير علم ، فهو مخالف للكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح ، مخالف لقوله تعالى : ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) (الإسراء 36)
ومن تكلم في غيره بظلم وجور فقد خالف قوله تعالى: ((وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)) والكلام في الآخرين بدون علم، أو بظلم وهوى سبب لكثير من التفرق بالقلوب ، وحدوث الشحناء والحسد والتباغض، بل سبب الفشل وذهاب وحدة الصف وقوته ، والله المستعان.
القاعدة الرابعة:
العدل في وصف الآخرين :
وهي جزء من القاعدة السابقة ، ولكن لأهميتها أفردت لوحدها. والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى : ((وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)) (هود:85)(1/7)
والمقصود بالعدل في وصف الآخرين هو: العدل في ذكر المساوئ والمحاسن ، والموازنة بينهما.
وثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال :كل ابن آدم خطَّاءٌ ، وخير الخطاءين التوابون«( أخرجه أحمد 3/198 ، والترمذي 4/659، وابن ماجه 2/1420 ، وانظر "صحيح الجامع" برقم 4515)
فلا أحد يسلم من الخطأ ، فلا ينبغي أن تدفن محاسن المرء لخطأ ، كما أن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث. (هو لفظ حديث أخرجه الدارمي 737-738 ، والدارقطني 1/21-22 وغيرهما ، وقد أفاض ابن القيم في دراسته في تعليقه على "سنن أبي داود" ، انظر عون المعبود 1/106-125 ، وانظر :إرواء الغليل 1/60)
ولذلك ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يغفل المحاسن لوجود بعض المساوئ ، كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو بغضاء بينه وبين من يصفه، فالله عز وجل قد أدبنا بأحسن أدب وأكمله، فقال سبحانه : ((وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)) (هود:85) . وإنك لتجد كثيراً ممن يذم غيره بذكر مساوئه، ويغض الطرف عن محاسنه، بسبب الحسد والبغضاء، أو لتنافس مذموم بينهما.
ولكن المنصفون هم الذين يذكرون المرء بما فيه من خير أو شر ولا يبخسونه حقه ، ولو كان الموصوف مخالفاً لهم في الدين والاعتقاد ، أو في المذهب والانتماء.
ومن العلماء الذين برز إنصافهم لغيرهم : الحافظ الذهبي -رحمه الله- فمن خلال كتابه القيم : "سير أعلام النبلاء" ، والذي ترجم فيه لعدد من العلماء الأجلاء ، وكذلك لعدد ممن اشتهر بين الناس وكان من أهل البدع أو الفسق أو الإلحاد ، تجده لم يبخسهم ما لهم من صفات جيدة ، بل أنصفهم بذكر ما لهم وما عليهم.
وهناك أمثلة كثيرة على ذلك ، منها :
1- قال عن عبد الوارث بن سعيد : (وكان عالماً مجوداً ، ومن أهل الدين والورع ، إلا أنه قدري مبتدع) السير (8/301)(1/8)
2- وقال عن الحكم بن هشام (وكان من جبابرة الملوك وفساقهم، ومتمرديهم، وكان فارساً، شجاعاً، وكان ذا دهاء وعتوٍّ وظلم، تملك سبعاً وعشرين سنة) السير (8/254)
3- وقال عن الواقدي : (والواقدي وإن كان لا نزاع في ضعفه فهو صادق اللسان، كبير القدر) ، السير (7/142)
4- وقال عن المأمون الذي تبنى فتنة القول بخلق القرآن وامتحن علماء أهل السنة بذلك: (وكان من رجال بني العباس حزماً، وعزماً، ورأياً، وعقلاً، وهيبة، وحلماً، ومحاسنه كثيرة في الجملة)السير (10/273)
5- وقال في ترجمة الجاحظ الأديب المعتزلي : (العلامة ، المتبحر ، ذو الفنون..وكان أحد الأذكياء.. وكان ماجناً ، قليل الدين ، له نوادر) السير (11/256)
6- وقال عن قرة بن ثابت : (الصابئ ، الشقي ، الحراني ، فيلسوف عصره..وكان يتوقد ذكاء) السير (13/285)
7- وقال في ترجمة الخياط المعتزلي : (شيخ المعتزلة البغداديين ، له ذكاء مفرط،والتصانيف المهذبة..وكان من بحور العلم، له جلالة عجيبة عند المعتزلة) السير (14/220)
وهناك أمثلة كثيرة غير هذه ، ومن أراد الاستزادة فعليه بمراجعة سير أعلام النبلاء، يجد بغيته -إن شاء الله-.
ومنهج الذهبي في العدل في وصف الآخرين ، منهج علمي دقيق ، وهو منهج أهل السنة والجماعة في أحكامهم على غيرهم، وهو نابع من قوله تعالى: ((وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)) (هود:85) والآيات المشابهة لها.
ولذلك ينبغي لكل من رام الإنصاف أن لا يحيد عن هذا المنهج السوي ، وأن يتقي الله-عز وجل- في وصف غيره ، ويتكلم بعدل وإنصاف.
القاعدة الخامسة:
العبرة بكثرة الفضائل :
فإن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث ، فمن غلبت فضائله هفواته ، اغتفر له ذلك.
يقول ابن رجب الحنبلي : "والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه"(1/9)
وكلمة ابن رجب بمثابة منهج صحيح في الحكم على الشخص الواحد ، لأن كل إنسان لا يسلم من الخطأ ، ومن قل خطأه وكثر صوابه ، فهو على خير كثير.
ومنهج السلف هو: اعتبار الغالب على المرء من الصواب أو الخطأ ، والنظر إليه بعين الإنصاف.
يقول الحافظ الذهبي: (ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة،ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن)(انظر سير أعلام النبلاء 20/46)
وقال الذهبي في ترجمة ابن حزم : (وصنف في ذلك - نفْي القياس -كتباً كثيرة ، وناظر عليه ، وبسط لسانه وقلمه ، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب ، بل فجج العبارة ، وسب وجدع ، فكان جزاؤه من جنس فعله ، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة ، وهجروها ونفروا منها ، وأحرقت في وقت ، واعتنى بها آخرون من العلماء ، وفتشوها انتقاداً واستفادة ، وأخذاً ومؤاخذة ، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين ، فتارة يطربون ، ومرة يعجبون ، ومن تفرده يهزؤون ، وفي الجملة فالكمال عزيز ، وكل يؤخذ من قوله ويترك ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصد جميلة، ومصنفاته مفيدة وقد زهد في الرئاسة ، ولزم منزله مكباً على العلم ، فلا نغلو فيه ، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار) (نفس المرجع 18/186-187)
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلمة لطيفة: (ولكن كثير من الناس من يرى المثالب ، ويعمى عن المناقب ، وفي ذلك يقول الشعبي -رحمه الله- : "والله لو أصبت تسعاً وتسعين مرة ، وأخطأت مرة ، لأعدوا على تلك الواحدة" (نفس المصدر 4/308)
وقد قيل: كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه.
يمكن أن تعتبر قاعدة مهمة في هذا الباب ، يقول فيها: العبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية) (انظر منهاج السنة النبوية 8/412)(1/10)
ومن نفيس كلامه في هذا الباب قوله : "وإنه كثيراً ما يجتمع في الفعل الواحد ، أو في الشخص الواحد الأمران : فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما ، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما،فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية الفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية ، فهذه طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائماً بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان" (الفتاوى 10/366)
"ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم من وجه ، ويعذب ويبغض من وجه آخر" (الفتاوى 15 / 294)
"من سلك طريق الاعتدال، عظم من يستحق التعظيم، وأحبه وولاه ، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات ، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج ، والمعتزلة ، ومن وافقهم" (منهاج السنة النبوية 4/543)
القاعدة السادسة :
العدل في المفاضلة بين الناس :
والأصل في هذه القاعدة قول الله تعالى : ((إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات 13] وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما سئل : أي الناس أكرم ؟ قال : "أكرمهم عند الله أتقاهم" (أخرجه البخاري برقم 3353 و4689 ومسلم 4/1846)
والتفضيل بين الناس يكون على وجهين :
1- تفضيل مطلق.
2- وتفضيل مقيد.
أما التفضيل المطلق بين الناس فيكون على أساس التقوى ، وقوة الإيمان - ولنا الظاهر والله يتولى السرائر - فمن ظهر لنا أنه على تقوى أعظم من غيره كان أحب إلينا.(1/11)
وأما التفضيل المقيد : فهو بحسب قيده، فإن الناس يتفاضلون في أمور ومواهب وقدرات ، فالناس يتفاضلون في العلم ، وفي الذكاء والفهم ، وفي قوة الحفظ ، أو حسن الإدارة والتنظيم ، وأمثال ذلك فهنا المفاضلة تكون بحسب الحاجة إليها ، وهي مفاضلة مقيدة لا علاقة لها بالأفضلية عند الله تعالى وإنما فيما يظهر للناس.
فهذا السهروردي يقول عنه الذهبي : (كان يتوقد ذكاء ، إلا أنه قليل الدين) (انظر سير أعلام النبلاء 21/207) والأمثلة من ذلك كثير.
وقاعدة السلف - رضوان الله عليهم - أنا لا نقدم إلا من قدمه الله ورسوله، ولا نؤخر إلا من أخره الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. كما ينبغي هنا الإشارة إلى أن أعمال القلوب والتفاضل فيها يرفع أصحابها منازل عليا عند الله تعالى ؛ (فإنك ترى الرجل الفاضل ذا الهمة العالية ، والعمل الدؤوب . في نشر الإسلام ، وكثرة العبادة مع طول عمره ، ثم تجد من هو أقل منه نشاطاً وعملاً ، أو أقصر منه عمراً أحب إلى الله تعالى من الأول(
وأما من جهة كثرة العمل والعبادة ، ومفاضلتها بما في القلب فقد وجد من العباد من اشتهر بكثرة الصلاة والصيام والإنفاق في سبيل الله تعالى، وملازمة التقوى والخوف من الله تعالى ، كالحسن البصري ، وسعيد بن المسيب ، وسفيان الثوري ، والإمام أحمد وغيرهم ، وهم في أفرادهم بل في مجموعتهم لا يصلون رتبة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ، بل الأمة كلها لا تصل إلى رتبة الصديق -رضي الله عنه- لأنه جمع خصائص لم تجتمع لغيره بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولذلك ينبغي أن يكون التفضيل بين الأشخاص قائماً على العدل والإنصاف واعتبارات الشرع لا على الهوى والتعصب ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه ، وأعطى الحق حقه ، فيعظم الحق ويرحم الخلق) (انظر منهاج السنة النبوية 4/543 ((1/12)
كما أن التفضيل المطلق في كل الأمور يصعب الحكم به في كثير منها ، وذلك لاشتمال كل واحد منهما على فضيلة لا توجد في الآخر فيلجأ حينئذ إلى التفضيل ، لأن التفضيل بدون التفصيل لا يستقيم.
يقول ابن القيم -رحمه الله- : (الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة، أو فاطمة أفضل، إذا حرر محل التفضيل صار وفاقاً، فالتفضيل بدون التفصيل لا يستقيم ، فإن أُريد بالفضل كثرة الثواب عند الله عز وجل فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارح ، كم من عاملين أحدهما أكثر عملاً بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة وإن أريد بالتفضيل التفضل بالعلم ، فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة ، وأدت للأمة من العلم ما لم يؤد غيرها ، واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها ، وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل وجلالة النسب فلا ريب أن فاطمة أفضل ، فإنها بضعة من النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير إخوتها ، وإن أريد السيادة ففاطمة سيدة نساء الأمة ، وإذا ثبتت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم وعدل ، وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يفصل جهات الفضل ، ولم يوازن بينها ، فيبخس الحق ، وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصب وهوى لمن يفضله تكلم بالجهل والظلم ، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل فأجاب فيها بالتفصيل الشافي ؛ فمنها أنه سئل عن تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر أو العكس ، فأجاب بما يشفي الصدور فقال : أفضلهما أتقاهما لله ، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة ..(1/13)
ومنها أنه سئل عن خديجة وعائشة أمي المؤمنين أيهما أفضل ؟ فأجاب بأن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام ، ونصرها وقيامها في الدين لم تشركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين ، وتأثير عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها . فتأمل هذا الجواب الذي لو جئت بغيره من التفضيل مطلقاً لم تخلص من المعارضة .. فعلى المتكلم في هذا الباب :
1- أن يعرف أسباب الفضل أولاً (بتعلم العلم الشرعي من مظانه(
2- ثم درجاتها ونسبة بعضها إلى بعض والموازنة بينها ثانياً.
3- ثم نسبتها إلى من قامت به - ثالثاً - كثرة وقوة.
4- ثم اعتبار تفاوتها بتفاوت محلها رابعاً.
فرب صفة هي كمال لشخص وليست كمالاً لغيره ، بل كمال غيره بسواها ؛ فكمال خالد بن الوليد بشجاعته وحروبه، وكمال ابن عباس بفقهه وعلمه ، وكمال أبي ذر بزهده وتجرده عن الدنيا.
فهذه أربع مقامات يضطر إليها المتكلم في درجات التفضيل . وتفضيل الأنواع على الأنواع أسهل من تفضيل الأشخاص على الأشخاص ، وأبعد من الهوى والغرض.
وههنا نكتة خفية لا ينتبه لها إلا من بصره الله : وهي أن كثيراً ممن يتكلم في التفضيل يستشعر نسبته وتعلقه بمن يفضله ولو على بعد ، ثم يأخذ في تقريظه وتفضيله ، وتكون تلك النسبة والتعلق مهيجة له على التفضيل، والمبالغة فيه ، واستقصاء محاسن المفضل ، والإغضاء عما سواها ، ويكون نظره في المفضل عليه بالعكس ومن تأمل كلام أكثر الناس في هذا الباب رأى غالبه غير سالم من هذا ، وهذا مناف لطريقة العلم والعدل التي لا يقبل الله سواها ولا يرضى بغيرها.(1/14)
ومن هذا التفضيل كثير من أصحاب المذاهب والطرائق وأتباع الشيوخ كل منهم لمذهبه وطريقته أو شيخه ، وكذلك الأنساب والقبائل والمدن والحرف والصناعات ، فإن كان الرجل ممن لا يشك في علمه وورعه خيف عليه من جهة أخرى : وهو أنه يشهد حظه ونفعه المتعلق بتلك الجهة ، ويغيب عن نفع غيره بسواها ، لأن نفعه مشاهد له أقرب إليه من علمه بنفع غيره ، فيفضل ما كان نفعه وحظه من جهته باعتبار شهوده ذلك وغيبته عن سواه ، فهذه نكت جامعة مختصرة إذا تأملها المنصف عظم انتفاعه بها واستقام له نظره ومناظرته) (انظر بدائع الفوائد لابن القيم 3/161-164)
القاعدة السابعة
المنهج الصحيح في الحب والبغض :
من المسلمين من يجتمع فيه أمران : أمر من الخير فيحب بسببه ويمدح عليه ، وأمر من الشر فيذم بسببه ويبغض من جهته . وأما الحب والولاء بإطلاق فهو للمؤمنين ، والبغض والبراء بإطلاق - أيضاً - فهو للكافرين ، فإن الحب والبغض من أوثق عرى الإيمان ، كما ثبت ذلك في الأثر(انظر مسند الإمام أحمد 4/286، وحسّنه الألباني في السلسلة 1728)
وإنما القاعدة في المسلم الذي يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً أنه يحب من جهة عمله للصالحات ، ويمدح لذلك ، ويبغض من جهة عمله للسيئات ، ويذم لذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : (وإنه كثيراً ما يجتمع في الفعل الواحد ، أو في الشخص الواحد الأمران: فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما ، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر ، وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية الفجورية ، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية ، فهذا طريق الموازنة والمعادلة ، ومن سلكه كان قائماً بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان) (الفتاوى 10 / 366)
ويقول في موضع آخر: (ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم ويحب من وجه، ويعذب ويبغض من وجه آخر) (الفتاوى 51 /294)(1/15)
ويقول الذهبي -رحمه الله- عن أبي جعفر الباقر: (ولقد كان أبو جعفر إماماً مجتهداً ، تالياً لكتاب الله ، كبير الشأن ، لكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير (المقصود ابن كثير الذي هو أحد القراء ، وليس ابن كثير صاحب التفسير الذي هو من أقران الذهبي.) ونحوه ، ولا في الفقه درجة أبي الزناد وربيعة، ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة قتادة وابن شهاب ، فلا نحابيه ، ولا نحيف عليه ، ونحبه في الله لما تجمع فيه من صفات الكمال) (انظر سير أعلام النبلاء 4/402)
وينبغي هنا التنبيه إلى أمر مهم، وهو : أن من الناس من يبني الحب والبغض على مدى موافقة الآخرين له، فتجد من يحب فلاناً من الناس لأنه على مذهبه أو طريقته في الدعوة ، أو لأنه ضمن جماعته؟! وأمثال ذلك، وبعض الآخرين إذا خالفوه في رأي فقهي اجتهادي ، أو نظري عملي ، أو ما شابه ذلك ، وهذا كله دليل على اختلال الإيمان في القلب ، لأن هذا الأمر مبني على أوثق عرى الإيمان ، فإن كان محملاً في الواقع، فهو كذلك في القلب.
يقول ابن تيمية -رحمه الله :" فإن الإنسان عليه أولاً أن يكون أمره لله ، وقصده طاعة الله فيما أمر به ، وهو يحب صلاح المأمور ، أو إقامة الحجة عليه ، فإن فعل ذلك لطلب الرئاسة لنفسه ولطائفته ، وتنقيص غيره ، كان ذلك حمية لا يقبله الله ، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطاً ، ثم إذا رد عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد ، طلبت نفسه الانتصار لنفسه ، وأتاه الشيطان ، فكان مبدأ عمله لله ، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه ، وربما اعتدى على ذلك المؤذي.(1/16)
وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة ، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه ، وأنه على السنة ، فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم ، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا ، وأن يكون الدين كله لله ، بل يغضبون على من خالفهم ، وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه ، ويرضون عمن يوافقهم ، وإن كان جاهلاً سيئ القصد ، ليس له علم ولا حسن قصد ، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله ، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء نفوسهم لا على دين الله ورسوله.
ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس ، قال تعالى: ((وقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)) (الأنفال 39)
فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة.(منهاج السنة النبوية 5/254-256 باختصار)
وأصل الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله،والموالاة لله ، والمعاداة لله ، والعبادة لله ، والاستعانة بالله ...
وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ، ولا يطلبه ، ولا يرضى لرضا الله ورسوله ، ولا يغضب لغضب الله ورسوله ، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ، ويكون جمع ذلك له شبهة دين : أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة ، وهو الحق ، وهو الدين ، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام ، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا ، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء، ليعظم هو ويثنى عليه ، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً ، أو لغرض من الدنيا ، لم يكن لله ، ولم يكن مجاهداً في سبيل الله ، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة كنظيره ، معه حق وباطل ، وسنة وبدعة ، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة ؟!(1/17)
وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ، وكفّر بعضهم بعضاً ، وفسّق بعضهم بعضاً ، ولهذا قال الله تعالى فيهم : ((ومَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَة))
الخلاصة :
من خلال ما تقدم على الإنسان أن يتقي الله عز وجل في نقده وألفاظه ، ويخلص النية لله ويتجرد عن الهوى وحظوظ النفس ، و لا يتكلم إلا بعلم وعدل وإنصاف ويقدم حسن الظن بالمسلم، ويوازن بين المحاسن والمساوئ، ويجعل لكثرة الحسنات أو قوتها اعتبارها، ويتذكر أن الشخص الواحد غالباً ما يجتمع فيه أمران ، فيحمد ويحب بسبب أحدهما ، ويذم ويبغض بسبب الآخر ، ثم تكون ألفاظه مهذبة ويبتغي بذلك وجه الله تعالى.
فمن سلك هذا السبيل ، فيرجى له الصواب والسداد ، وعدم التبعة يوم القيامة بما يقول ، ومن أخل بشيء مما سبق . فقد وقف على حفرة من حفر النار فلينظر موقع قدمه أن تزل وهو لا يشعر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعلى شباب الدعوة إلى الله أن يستفيدوا من كلام السلف الصالح عند عرض سير أعلام النبلاء فإنهم إذا كان لا بد لهم من الحديث عرضوا ما للشخص وما عليه . وإلا كفوا عن ذلك وشغلتهم عيوبهم عن عيوب غيرهم.
والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه.(1/18)