منهج أهل الاتباع
في التعامل
مع أهل الابتداع
تأليف
وليد بن راشد بن سعيدان
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين أما بعد :
فقد سألني جمع من الطلبة عن مسائل في أحكام المبتدع كثيرة, وكيف نتعامل معه وهل يهجر أو لا يهجر؟ وهل يؤاكل أو لا؟ وهل يصلى عليه أو لا يصلى عليه؟ وهل يعاد إذا مرض أو لا؟ وهل تشيع جنازته أو لا؟ وهل، وهل، وهل؟ فكنت أجيب عن هذه المسائل في وقتها إجابة تفريع لا تأصيل، فلما رأيت تعدد هذه الأسئلة أحببت أن أتحف الطلاب بشرح القاعدة التي ترجع إليها هذه الفروع كلها والتي لا يشد منها شيء، وأنت تعرف من طريقتي أنني لا أحب طرق الفروع هكذا جزافاً، بل لابد من أن تكون مقرونة بقواعدها وأصولها التي قررها أهل العلم رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم، وقد تناسب الكلام على هذه القاعدة مع الاتنهاء من كتابي نصر الشرعة بقمع البدعة، فإنني انتهيت منه الظهر وبدأت في الكتابة على هذه القاعدة بعد صلاة العصر فسبحان الله والحمد لله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والقاعدة التي نحن بصدد شرحها هي قاعدة التعامل مع المبتدعة عند أهل السنة والجماعة وهي أصل من أصولهم المباركة وقاعدة من قواعده النيرة المنبثقة من هدي الكتاب والسنة، وتعامل السلف الكرام عليهم الرحمة والرضوان من الرحيم الرحمن، ولما عزمت على الكتابة في هذه القاعدة راجعت بعض المؤلفات التي كتبها أهل السنة في ذلك إستقلالاً وتبعاً، وقيدت فروعها ولم يبق إلا استفراغ الجهد في ترتيبها وبثها على صفحات الدفاتر، وأسميت هذه الوريقات ( منهج أهل الاتباع في التعامل مع أهل الابتداع ) وأسأل الله تعالى أن ينفع به النفع العام والخاص وأن ينزل فيه البركة تلو البركة وأن يشرح له الصدور ويفتح فيه الأفهام ويجعله عملاً خالصاً متقبلاً مبروراً، وأن يجزي علماءنا خير الجزاء وأن يعاملهم بفضله وعفوه ورحمته وأن يبارك في أعمارهم وأعمالهم وجهودهم في(1/1)
ضبط الشريعة وتيسيرها للعامة، وأن يرفع درجاتهم في الفردوس الأعلى وأن يحشرنا وإياهم في زمرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، اللهم ارض عن صحابة رسولك - صلى الله عليه وسلم - وأجزهم عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وارض اللهم عن تابعيهم وتابعيهم إلى يوم الدين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم وستكون الكتابة في هذه المسألة على الطريقة المعتادة من ذكر القاعدة متلوة بشرحها الإفرادي والإجمالي ومذيلة بأدلتها ونقول السلف فيها وبعد ذلك نستفرغ جهدنا في ذكر الفروع المخرجة عليها فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون وحسن التحقيق :-
{ يُعَامَلُ المبتدعُ المحكوم بكفره معاملة الكفار في الدنيا ويعامل المبتدع المحكوم بفسقه معاملة عصاة الموحدين في الدنيا والآخرة }
أقول:- الكلام على هذه القاعدة المهمة في مسائل:-(1/2)
المسألة الأولى :- في شرحها إفراداً, قوله ( يعامل ) من المعاملة وهي عبارة عن مجموعة التصرفات التي تصدر منا على الغير, فسلامنا على الغير تعامل, ومصافحتنا له تعامل وتبسمنا في وجهه تعامل وهجرنا أو صلتنا له تعامل, وإجابة دعوته من عدمها تعامل وأكل ذبيحته من عدمه تعامل, وصلاتنا عليه ودفننا له من عدمه تعامل, وصلاتنا خلفه من عدمه تعامل...الخ, إذاً التعامل هو تلك التصرفات التي تصدر منا للآخرين أو تصدر من الآخرين لنا, قوله ( المبتدع ) أي الذي وقع في البدعة وانطبقت عليه شروط التبديع وانتفت موانعه كما سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى فلا يقال:- إن كل من وقع في البدعة بدع مباشرة, لا, بل يقال:- وقع في بدعة, أو يقال:- سلك طريق ضلالة, أو يقال:- عنده شيء من البدع, لكن قولنا ( المبتدع ) هذا حكم على الشخص نفسه, وقد تقرر عند أهل السنة أن حكم الفعل لا يتعدى إلى الفاعل إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع وقد تقرر في قواعد أهل السنة أن التبديع العام لا يستلزم تبديع الأعيان إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع, وسيأتي تفصيل ذلك أكثر إن شاء الله تعالى في مسألة خاصة والمهم أن تعرف هنا أن قولنا ( المبتدع ) أي من توفر فيه شرطان:- الأول:- أنه وقع في البدعة فعلاً أو قولاً أو اعتقاداً, الثاني:- أن شروط التبديع قد ثبتت في حقه وموانع التبديع قد انتفت في حقه ولذلك قلت في تعريف المبتدع:- أنه من وقع في بدعة وانطبقت عليه شروط التبديع وانتفت موانعه, وكل ذلك سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى, وقوله (المحكوم بكفره) وهذا قيد مهم أيضاً وبيان ذلك أن البدعة لها تقسيمات باعتبارات كثيرة, ومن تقسيماتها تقسيمها باعتبار حكمها, فمن البدع ما يكون مكفراً ومن البدع ما يكون مفسقاً وهو الآن يتكلم عن البدعة المكفرة وسيأتي بيان ضابطها إن شاء الله تعالى وقوله (المحكوم بكفره) أي الذي حكمنا عليه بمقتضى بدعته هذه, وهذا الحكم حكم على عين(1/3)
المبتدع وهو خطير جداً وهاوية عظيمة إذا لم يؤخذ على منهج أهل السنة والجماعة وقد ضلت فيه طوائف كثيرة, واهتدى أهل السنة إلى الحكم بالحق والعدل فيه وخلاصة منهجهم أنهم لا يفتحون باب تكفير المعين مطلقاً ولا يغلقونه مطلقاً, بل هو وسط في هذا الباب كعادتهم رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم, فإنهم رحمهم الله تعالى قد قسموا باب تكفير المعين إلى قسمين, الأول:- معين قد حكم الشارع بكفره فهذا يكفر بلا شك كأبي لهب وامرأته وامرأة نوح ولوط وفرعون وهامان وقارون وأصحاب قليب بدر ونحو هؤلاء ممن ثبت فيهم النص, فهؤلاء لا شك في أنهم كفار, بل إن من شك في كفرهم فهو كافر, بل صار كفر هؤلاء مما يعلم من الدين بالضرورة, الثاني:- معين وقع في مكفرٍ ولكن لا نص على تكفيره بعينه, فهذا فيه ثلاثة أقوال:- طرفين ووسط, والوسط هم أهل السنة والجماعة وهو أننا نفرق بين الفعل والفاعل فنعطي الفعل حكمه الذي يناسبه شرعاً ولا نعديه إلى فاعله إلا بعد التأكد من ثبوت الشروط وانتفاء الموانع, فقولنا ( المحكوم بكفره ) إنما نعني به القسم الثاني لأننا نتكلم الآن عن من كفر بسبب ارتكاب بدعة أي كفار أهل الابتداع, وأما القسم الأول فإنه فيمن كفر بأشياء أخرى كما هو معلوم وسيأتي فصل خاص في بيان خطر التكفير بغير برهان إن شاء الله تعالى, قوله ( معاملة الكفار ) أي أننا نجعله بمنزلتهم وواحداً منهم, فما نفعله مع الكفار نفعله معه لأنه في الحقيقة خرج من دائرة الإسلام ببدعته هذه ودخل في دائرة الكفار ومن المعلوم أنه لا واسطة بين الإيمان والكفر الأكبر فهذا المبتدع الذي حكمنا عليه بكفره عيناً بسبب بدعته هذه نعامله معاملة الكفار لأنه في الحقيقة واحد منهم, والكفر له أسباب كثيرة ومنها:- الكفر بالبدعة التي حكم عليها أهل السنة بأنها كفر كما سيأتي بيان ضوابطها إن شاء الله تعالى, قوله ( في الدنيا ) أي أن هذا المبتدع الذي حكمنا عليه بالكفر ببدعته إنما نعامله(1/4)
معاملة الكفار في الدنيا أي فيما بيننا وبينه وأما في الآخرة فأمره إلى الله تعالى لأن المتقرر عند أهل السنة أن لنا الظاهر والله يتولى السرائر, والمتقرر عندنا معاشر أهل السنة أن الأحكام في الدنيا على الظواهر والسرائر تبع لها, وأما في الآخرة فإن الأحكام على السرائر والظواهر تبع لها كما هو معلوم, فأمر الجنة والنار جزماً هو من الأحكام الغيبية التي تحتاج إلى دليل قاطع, ولأن التكفير بالبدعة متفرع عن اجتهاد ونتائج المسائل الاجتهادية لا يقطع فيها ببطلان القول المخالف لها كما قلناه في أصحاب الفترة فإن أصحاب الفترة نعاملهم معاملة الكفار في الدنيا وأما في الآخرة فأمرهم إلى الله تعالى قوله ( ويعامل ذي البدعة المفسقة ) وهذا بيان لحكم المبتدع المحكوم عليه بالفسق لا بالكفر فهذا يعامل ( معاملة عصاة الموحدين ) والتعامل مع عصاة الموحدين معلوم عند أهل السنة وسيأتي تفصيل ذلك كله في بقية قيد المسائل إن شاء الله تعالى وخلاصة هذه القاعدة أن البدعة تنقسم باعتبار حكمها إلى قسمين:- بدعة مكفرة فهذه نعامل صاحبها معاملة الكفار إن حكمنا على صاحبها بالكفر, وبدعة مفسقة وهذه نعامل صاحبها معاملة عصاة الموحدين والله أعلم .(1/5)
المسألة الثانية :- كيف تعرف البدعة المكفرة؟ أقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون وحسن التحقيق:- تعرف البدعة المكفرة بعدة أمور:- الأول:- أن يكون حقيقتها صرف تعبدٍ لغير الله تعالى، فإن هناك من البدع ما يكون تعبداً لغير الله تعالى، ذلك لأن المتقرر في قواعد المسلمين أن التعبدات حق صرف محض لله تعالى لا تصرف لا إلى ملكٍ مقرب ولا إلى نبي مرسل ولا إلى ولي صالح فضلاً عن الأشجار والأحجار والكهوف والجن والشياطين وغيرهم، فالعبادة حق خالص لله تعالى، فإذا اخترع المسلم فعلاً أو قولاً وكان حقيقة هذا القول أو هذا الفعل تعبداً لغير الله تعالى فإنها من البدع المخرجة عن الملة وذلك كالاستغاثة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، واتخاذ الوسائط فيما بينه وبين الله يدعوهم في كشف الملمات وتفريج الكربات وكدعاء أصحاب القبور والاستنجاد بهم وكالذبح والنذر لهم وكالطواف بقبورهم بقصد التعظيم والتقرب لهم وكالذبح للأحياء بنية التعبد بهذا الذبح لهم، وكالاستعاذة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وكاعتقاد إمكانية التصرف في الكون لأحد من الأحياء أو الأموات فإن بعض المبتدعة يعتقد أن وليه الذي يعظمه له تصرفات خفية في الكون من رد الغائب أو نصر المظلوم أو تفريج الكربة أو إنزال مطرٍ أو هزيمة عدو أو كشف داهية من دواهي الزمان ونحو ذلك وهذا كفر أكبر مخرج عن الملة، فهذا وإن كان بدعة إلا أنها توصل صاحبها إلى الكفر الأكبر بل هي داخلة في حد الشرك الأكبر لأن حقيقتها صرف التعبد لغير الله تعالى، وكالاعتقاد أن التميمة تدفع البلاء بذاتها، وكالاعتقاد أن النوء جالب للمطر بذاته وكالتبرك بالأشجار أو الأحجار أو بعض الأماكن أو القبور مع اعتقاد أنها هي الجالبة للبركة بذاتها، فكل ذلك من البدع لكنها بدع مكفرة، لأنها تتضمن صرف التعبد لغير الله تعالى، وكالاعتكاف عند أصحاب القبور الليالي ذوات العدد لنيل(1/6)
بركتهم ورضاهم، هذا أيضاً من البدع المكفرة، لأن الاعتكاف عبادة لا تكون إلا لله ولا تكون إلا في المساجد، وهذا اعتكف عند القبور للتقرب لأصحابها بهذه العبادة، وهذا كفر أكبر مخرج عن الملة وكالصلاة إلى القبر بنية التقرب إلى صاحبه بهذه الصلاة والعياذ بالله تعالى، وكالذبح عند أقدام الملوك والرؤساء تعظيماً وتقرباً لهم لنيل رضاهم والزلفى والحظوة عندهم، وهذا من الشرك أيضاً كما نص عليه أهل السنة، وهذا من باب التمثيل فقط لا الحصر، وهذا ضابط مهم في التعرف على البدعة المكفرة، وخلاصته أن كل بدعة تتضمن صرف شيء من التعبد لغير الله تعالى فإنها من البدع المكفرة والله أعلم .(1/7)
الثاني:- أن تتضمن إنكار معلوم من الدين بالضرورة، وهذا المعلوم بالضرورة إما أن يكون طريقة الإجماع القطعي الذي يكفر مخالفه أو ثبوته بالأدلة المتواترة القطعية في ثبوتها ودلالتها، كبدعة إنكار علم الله تعالى، وكبدعة التسلط على أسماء الله تعالى وصفاته بالجحود والإنكار والتكذيب أو بالتأويل الذي لا يسوغ في لغة العرب، وكبدعة القول بقدم العالم وأنه لا أول له، وكبدعة الدروز في الألوهية وكبدعة الرافضة في تكفير أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نفراً يسيراً منهم وكبدعتهم في اعتقادهم أن عائشة رضي الله عنها واقعت الفاحشة، نعوذ بالله من ذلك وكبدعتهم في إثبات مصحف غير هذا المصحف أو أن القرآن قد زيد فيه أو أنقص منه، وكبدعة سب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبدعة القول بخلق القرآن، وكبدعة اعتقاد ثبوت شيء من خصائص الألوهية في أحد من البشر من علم الغيب ونحو ذلك، وكبدعة الحلولية والاتحادية من أصحاب ابن عربي وغيره من الكفار، وكبدعة إسقاط فرض من الفرائض معلوم فرضه من الدين بالضرورة أو تحليل حرام معلوم حرمته في الدين بالضرورة وكبدعة تحريم حلال معلوم حله من الدين بالضرورة، وكبدعة غلاة الصوفية في اعتقادهم سقوط الشرائع عمن بلغ مرتبة معينة كالقطب والغوث، وكبدعتهم في اعتقادهم أن المتصرف في العالم هو هذا القطب أو هذا الغوث، وكبدعة إنكار وجود الملائكة والجن تكذيباً وجحوداً ومعاندة للشرع، وكبدعة إنكار الفلاسفة لحقائق ما سيكون في اليوم الآخر وأنه مجرد خيالات لا حقيقة لها وإنما اخترعت لتنظيم أمور العالم وكبدعة اعتقاد نبوة أحدٍ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكبدعة تشبيه الله بخلقه في أسمائه وصفاته وكبدعة الباطنية الملاحدة والاسماعيلية الزنادقة والنصيرية المارقة من الدين، فإن الأمة أجمعت على كفرهم وضلالهم والحكم على عقائدهم بالزيغ والمروق من الدين وأنهم ملاحدة أكفر من اليهود والنصارى(1/8)
وكبدعة البهائية والقاديانية فيمن يعظمونه، وكبدعة غلاة الصوفية في أن الولي في مرتبة أعلى من الرسول والنبي، فهذا مجمع على أنه كفر وردة وكبدعة جعل النظر إلى النساء عبادة وقربة، وغير ذلك كثير مما يصعب عده وحصره ولكن من باب ضرب المثال فقط، فإنك لو نظرت إلى هذه البدع من الاعتقادات والمقالات لوجدتها مخالفة للنصوص الشرعية المتواترة القطعية ومخالفة لما أجمع عليه المسلمون إجماعاً قطعياً، فهذه الاعتقادات والأقوال هي في حقيقتها مخالفة للمعلوم من الدين بالضرورة، وهذا ضابط مهم أيضاً في التعرف على البدعة المكفرة فاشدد عليه بيديك والله يحفظنا وإياك وهو أعلى وأعلم .(1/9)
الثالث:- أن تعود على أصل الشرع بالإبطال، وهذه طامة وعظيمة من العظائم فإن هناك من البدع والمقالات والاعتقادات ما يعود على أصل الدين بالإبطال والنسف، كبدعة سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن حقيقة هذا السب نسف الشرع وإبطاله إذ أنهم الواسطة بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معرفة الشرائع فإذا كانوا يستحقون السب فإنهم ليسوا بأهل أن يؤخذ عنهم الشرع وهذا يعود على أصل الدين بالإبطال، وكذلك بدعة تكفير الصحابة، وكبدعة تقديم العقول على النقول، فما أثبته العقل فهو الثابت وإن لم يدل عليه الشرع، وما نفاه العقل فإنه منتف وإن وردت به الأدلة المتواترة وهذا يعود على أصل الشرع بالإبطال، وكبدعة الباطنية في اعتقادهم أن نصوص الشرع لها ظاهر وباطن وأن الظاهر ما يفهمه العامة وأن الباطن ما لا يفهمه إلا خواصهم فهذا يعود على الشرع بالإبطال، وكبدعة اعتقاد ثبوت النبوة لأحدٍ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخذ عنه الشرع فإن هذا الاعتقاد يتضمن نسف الشرع وإبطال الدين، وكبدعة اعتقاد الرافضة في عصمة أئمتهم وأن ما قالوه دين وشرع وحق لا يناقش فيه وهذا يعود على أصل الدين بالإبطال وكبدعة غلاة الصوفية في إسقاط الشرائع عن بعض أوليائهم إذا بلغوا مرتبة معينة فإن هذا يعود على أصل الشرع بالإبطال، وكبدعة غلاتهم في وقف أمور التعبد على الكشف والذوق فما أقره الكشف والذوق فهو العبادة وإن لم يأت به دليل من الشرع وما نفاه الكشف والذوق فليس بعبادة وإن وردت به الأدلة المتواترة فهذا يعود على أصل الشرع بالإبطال وكاعتقاد بعض غلاة الرافضة ألوهية علي أو أن جبريل أخطأ في إنزال الرسالة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنها كانت أصلاً لعلي فهذا يعود على أصل الشرع بالإبطال، وكاعتقاد غلاتهم أن المصحف الذي بين أيدي المسلمين اليوم ليس هو المصحف الحقيقي، بل المصحف الحقيقي هو مصحف فاطمة وأنه الآن مع محمد بن(1/10)
الحسن العسكري في سرداب سامراء، وهذه الفادحة المضحكة تعود على أصل الشرع بالإبطال، وكبدعة إنكار وجود الرب جل وعلا، وكبدعة تأليه بعض الأولياء كل ذلك يعود على أصل الشرع بالإبطال وهو كفر صريح وردة متناهية، بل بعضها أشد كفراً من كفر اليهود والنصارى، وكبدعة الاتحادية في أن الله متحد بالعالم، فهما عين واحدة وإن اختلفا في بعض الظواهر، ونتج من ذلك أن كل ما نراه عين واحدة وإن اختلفت صفاتها فالخمر والماء عين واحدة، والزوجة والأم عين واحدة والأرض والسماء عين واحدة وهكذا مما لا يقره عقل ولا فطرة فضلاً عن الشرع وهذا كله يعود على أصل الشرع بالإبطال، وكبدعة تجويز صرف العبادات للأولياء والصالحين فإن هذا يعود على أصل الشرع بالإبطال لأن الشرع إنما جاء لتوحيد الرب جل وعلا بالتعبدات وعلى ذلك اتفقت رسالات الرسل، فاشدد على هذا الضابط بيديك فإنه مهم جداً في التعرف على البدعة المكفرة .
الرابع:- إذا نص أئمة أهل السنة والجماعة على بدعة بعينها بأنها مكفرة فإنها تكون كذلك وهذا يعرف بتتبع أقوال الأئمة في أنواع البدع كما قال نعيم بن حماد شيخ البخاري:- من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وكما قال الأئمة:- من قال بخلق القرآن فقد كفر، وكما قالوا:- من أنكر علم الله فقد كفر، وكما قالوا:- ناظروهم في العلم - أي في علم الله تعالى - فإن أقروا به فلجوا وإن أنكروه كفروا - أي أهل البدع - وكما قال ابن عمر فيمن يزعم أن لا قدر وأن الأمر أنف:- فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براءٍ مني والذي يحلف به عبدالله ابن عمر لو أنفق أحدهم مثل أُحدٍ ذهباً ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، وكما قالوا:- من وقف في القرآن بالشك فهو كافر، وكما قالوا:- من اتهم عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد كفر، وغير ذلك من النصوص التي يعرفها أهل العلم والله أعلم .(1/11)
فبان لك بذلك ضوابط البدعة المكفرة، وهذه المسألة نبحث فيها حكم القول أو الاعتقاد أو الفعل بذاته بغض النظر عن حكم الفاعل أو المعتقد أو القائل لأننا سنفرد لهذا مسألة خاصة إن شاء الله تعالى، وبذلك يكون عندنا مجموعة ضوابط في معرفة البدعة المكفرة والمرجو منك أن تحفظها وهي كما يلي :-
الضابط الأول:- كل بدعة تتضمن صرف شيء من التعبدات لغير الله تعالى فإنها بدعة مكفرة .
الضابط الثاني:- كل بدعة تتضمن إنكار معلوم من الدين بالضرورة فهي مكفرة .
الضابط الثالث:- كل بدعة تتضمن خرق الإجماع القطعي فهي مكفرة .
الضابط الرابع:- كل بدعة تعود على أصل الشرع بالإبطال فهي مكفرة .
الضابط الخامس:- كل بدعة نص أئمة أهل السنة عليها بأنها مكفرة فهي كذلك .
فهذا ما يحضرني من ضوابط البدعة المكفرة، فراجعها وكرر ألفاظها لتحفظها فإنك قد لا تجدها مجموعة في مكانٍ آخر والله ربنا أعلى وأعلم .
المسألة الثالثة :- متى يحكم على المبتدع بأنه كافر بعينه؟ أقول:- هذه مسألة خطيرة والكلام فيها عظيم جداً وهاويتها سحيقة إذا أخذت جزئياتها عن غير أهل السنة، أما إذا أخذت عن طريق أهل السنة فإن الخطر فيها يزول إن شاء الله تعالى لأن أهل السنة هم أهل الدليل والتقوى ومراقبة الله تعالى في أقوالهم وأحكامهم وهم أهل العدل والإنصاف مع المخالف فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون وحسن التحقيق:- لا يحكم على المبتدع عيناً بأنه كافر إلا بعدة أمور :-
الأول :- أن تكون بدعته مكفرة، وذلك بتطبيق الضوابط السابقة في المسألة التي قبلها فإذا انطبق أحد هذه الضوابط على بدعته التي ارتكبها وجاء بها فإنه يكون كافراً، طبعاً مع توفر ما سيأتي أيضاً من ضوابط تكفير المبتدع المعين، وبناءً على اشتراط هذا الشرط فإذا كانت بدعته التي جاء بها لا تدخل تحت وصف الكفر فإنه لا يكون كافراً وهذا أولاً .(1/12)
الثاني :- أن تتوفر فيه شروط التكفير وتنتفي موانعه، وهي تلك الشروط التي نص عليها أهل السنة في تكفير المعين، وذلك أن المتقرر عند أهل السنة والجماعة رفع الله منازلهم في الدنيا والآخرة أن التكفير العام - أي تكفير الأقوال والأفعال - لا يستلزم تكفير المعين إلا بعد انطباق شروط التكفير وانتفاء موانعه، وسيأتي لها مسألة خاصة إن شاء الله تعالى وهو الذي وعدت به في المسألة السابقة، وقد شرحنا هذه المسألة في كتابنا قواعد في الحكم على الآخرين، وسيأتي لها زيادة تفصيل في المسألة الآتية بحول الله وقوته، والمهم أن تعلم أن المعين لا يكفر بمجرد وقوعه في البدعة المكفرة إلا بعد التأكد من ثبوت الشروط وانتفاء الموانع، فإن قلت:- وما هذه الشروط؟ فأقول:- هي كما يلي:- فمنها:- العقل وضده الجنون، فالعقل شرط والجنون مانع وبناء على ذلك فإن كان هذا المبتدع قد ارتفع عقله وصار مجنوناً فإنه لا يحكم عليه بمقتضى فعله هذا ودليل ذلك أثري ونظري فأما الأثري فقوله - صلى الله عليه وسلم - (( رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق - أو قال - حتى يعقل ...الحديث )) ووجه الدلالة منه واضحة، وأما النظري فلأن العقل هو مناط التكليف فمن لا عقل له فلا تكليف عليه، ولأن التكفير يشترط فيه القصد أي قصد قول الكفر أو فعل الكفر، والمجنون لا يصح له قصد كما قاله أهل العلم، بل قرروا في مواضع كثيرة أن عمد المجنون خطأ، ولأن الذي قال (( اللهم أنت عبدي وأنا ربك )) لم ينطبق عليه حكم قوله لوجود ما غطى على عقله وهو شدة الفرح، فالمجنون الذي ارتفع عقله من باب أولى أن لا يؤاخذ وهذا واضح، بل انعقد عليه الإجماع فلا نطيل فيه. ومنها:- البلوغ، وضده الصغر، فالبلوغ شرط والصغر مانع، ودليله أثري ونظري، فأما الأثري فالحديث السابق وفيه (( وعن الصغير حتى يبلغ )) وأما النظري فلأن عقل الصغير قبل البلوغ ليس كاملاً فليس هو العقل الذي يصلح أن يناط به التكليف وبناءً(1/13)
على ذلك فلو أن الذي فعل البدعة المكفرة صغير لم يبلغ بعد فإننا لا نحكم عليه بمقتضى هذه البدعة لفوات شرط ووجود مانع، ومنها:- العلم، أي أن يكون عالماً بحقيقة حكم هذه البدعة التي وقع فيها وأنها مخالفة للشرع، وضده الجهل وذلك للدليل الأثري والنظري، فأما الأثري فلقوله تعالى { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } فمن لم تبلغه الحجة فإنه لم تتحقق في حقه النذارة، وقال تعالى { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } وليس من طاقة النفس أن تكلف بما لا تعلمه وقال تعالى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } والذي لم يبلغه العلم منزل منزلة من لم يأته رسول، وقال تعالى { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } فالله تعالى قد أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام مبشرين ومنذرين وأقام سبحانه للناس أسباب الهداية ومن تمام حكمته وعدله جل وعلا أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، والذي لا يعلم لم تقم الحجة عليه، قال العباس ( وهذا أصل لابد من إثباته وهو أنه قد دلت النصوص على أن الله لا يعذب إلا من أرسل إليه رسولاً تقوم به الحجة عليه ) ا.هـ. وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عذر خلاد بن رافع جهله في تفويت الطمأنينة لما قال له (( والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني )) فعلمه ولم يأمره بقضاء ما فاته في السابق وذلك لأنه لم يكن يعلم وكان جاهلاً بحقيقة الحال فعذره، وعذر عدي ابن حاتم لما عقد العقالين وأكل وقد طلع الفجر لجهله بحقيقة الحكم، فلم يأمره بالقضاء وعذر المستحاضة التي قالت (( وإنها تمنعني الصوم والصلاة )) لجهلها بحقيقة الحال فبين لها الحكم ولم يأمرها بالقضاء، وعذر من جهل تحويل القبلة فافتتحوا الصلاة إلى القبلة المنسوخة فلما جاءهم العلم استداروا كما هم إلى الكعبة وكذلك من كان بعيداً عن المدينة(1/14)
كالمسلمين الذين بمكة واليمن والحبشة، عذرهم جميعاً فلم يأمر أحداً بالقضاء، ولما زيد في صلاة الحضر لم يكن ثمة وسائل ينقل بها هذا التغيير سريعاً فبقي طوائف من المسلمين من البعيدين عن مهبط الوحي يصلون على صلاتهم الأولى وعذر الجميع للجهل ولم يأمر أحداً بالقضاء، وعذر المتكلم في الصلاة جاهلاً الحكم وبين له الحكم في ذلك ولم يأمره بالإعادة، وعذر من بال في مسجده لأنه كان جاهلاً، والوقائع في عهده كثيرة على هذا المنوال مما يفيدنا أن العلم بالتشريع شرط في قيام الحجة والمؤاخذة، وأن الجهل عذر رافع للتكليف ولكن هذا ليس على إطلاقه كما سيأتي في المسألة التي بعدها إن شاء الله تعالى وأما الدليل النظري:- فلأن المتقرر في قواعد الشرع أن الشرائع لا تلزم إلا بالقدرة على العلم والعمل، والمتقرر فيها أنه لا تكليف إلا بعلمٍ ولا عقوبة إلا بعد إنذار وبناءً عليه فإذا كان الشخص الذي وقع في هذه البدعة المكفرة جاهلاً فإنه ينتظر بتكفيره حتى تقوم عليه الحجة بالتعليم وإزالة الجهل عنه ومنها:- القصد وضده الخطأ، فالقصد شرط والخطأ مانع، ودليله قوله تعالى { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وكلنا نعرف حديث الرجل الذي قال (( اللهم أنت عبدي وأنا ربك )) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أخطأ من شدة الفرح )) فهذا الرجل لم يقصد قول ذلك، وبناء عليه فإن كان الذي وقع في هذه البدعة المكفرة وقع فيها خطأً عن غير قصدٍ فإنه ينتظر بتكفيره حتى يتحقق فيه الشرط وينتفي في حقه المانع، وهذا واضح، ومنها:- الاختيار وضده الإكراه، أي أن يفعل البدعة المكفرة وهو مختار لها مقبل عليها بقلبه وجوارحه، وبناءً عليه فلو أنه وقع في شيءٍ من البدع المكفرة بسبب الإكراه الذي يسمى إكراهاً شرعاً فإنه غير مؤاخذ، والدليل أثري ونظري فأما الأثري فقوله تعالى { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ(1/15)
مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وفي الحديث (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ))"حديث حسن" وأما النظري فلأن إرادة القلب لها شأنها في أفعال الظاهر والمكره لا يريد هذا الفعل ولكنه أكره عليه فهو يأباه بقلبه وإرادته، ولأنه بهذا الإكراه صار كالآلة في يد المكره فمؤاخذته في هذه الحالة تنافي العدل، ومنها:- عدم التأويل وضده وجود التأويل، فعدم التأويل شرط ووجوده مانع، وبناءً عليه فإذا كان من وقع في هذه البدعة وقع فيها عن تأويل فإنه ينتظر بتكفيره حتى يكشف له الأمر وتزال عنه الشبهة وتتضح له المحجة، لكن لابد أن يكون تأويلاً سائغاً، فالتأويل السائغ والإعذار به له اعتبار في مسألة تكفير المعين، ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن فلاناً من عماله على خيبر كان يبيع الصاع بالصاعين قال (( أوهٌ عين الربا )) ولم يدخله في لعنة آكل الربا لأنه كان متأولاً، ثم إن الذين بلغهم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إنما الربا في النسيئة )) ظنوا وتأولوا أن هذا من باب الحصر في الربا فلا ربا إلا هذا فأجاز وأبيع الصاعين بالصاعين يداً بيد، مثل ابن عباس وأصحابه، فما تقول في ذلك؟ هل فعلوه عناداً و مكابرة؟ أم عن ظن وتأويل؟ لا شك أنه الثاني، وكذلك نص السلف على أن ما استباحه أهل البغي من دماء أهل العدل بتأويل سائغ لم يضمن بقود ولا دية ولا كفارة وإن كان قتلهم وقتالهم محرماً، لكن ليس كل من ادعى التأويل يعذر هكذا بإطلاق بل يشترط في ذلك التأويل أن لا يكون في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وقبول شريعته فلابد من تقييد ذلك بذلك، فهذه لمحة مختصرة عامة في شرط تكفير المعين وموانعه، وخلاصة هذه المسألة أن المعين المبتدع لا يكفر إلا بأمرين:- الأول:- أن تكون بدعته من البدع المكفرة، الثاني:-(1/16)
أن تتوفر فيه شروط التكفير وتنتفي موانعه والله أعلى وأعلم .
المسألة الرابعة :- وهو كالإتمام لما قبله، فأقول قال صاحب نواقض الإيمان العلمية والعملية:- ( يفرق أهل السنة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم بين التكفير المطلق وتكفير المعين، ففي الأول يطلق القول بتكفير صاحبه - الذي تلبس بالكفر- فيقال:- من قال كذا، أو فعل كذا فهو كافر، ولكن الشخص المعين الذي قاله أو فعله لا يحكم بكفره إطلاقاً حتى تجتمع فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع فعندئذٍ تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها )ا.هـ. قلت:- وهذا هو الذي جرى عليه أهل السنة، ولذلك أربع قواعد مهمة في هذا الباب أحب منك يا أخي الكريم أن تكررها حتى تحفظها وهي:- الأولى:- التكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع، الثانية:- التبديع المطلق لا يستلزم تبديع المعين إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع، الثالثة:- التفسيق العام لا يستلزم تفسيق المعين إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع، الرابعة:- التأثيم العام لا يستلزم تأثيم المعين إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع، ولابد من هذا التفريق فليس كل من وقع في الكفر كفر، ولا في البدعة بدع ولا في الفسق فسق ولا في الإثم أثم، بل للقول والفعل حكم وللفاعل حكم آخر فالحكم على الأعيان له قيود وضوابط قررها أهل السنة لابد من تطبيقها إذا كنت تريد الحكم على الأعيان، قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( وليس لأحدٍ أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة ) وقال ( إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين وإن التكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم(1/17)
بهذا الكلام بعينه ) وقال أيضاً ( الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطاياه كائناً من كان سواءً كان في المسائل النظرية أو العملية هذا الذي عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماهير أئمة الإسلام ) قلت:- فالتكفير العام المطلق يجب القول بعمومه وإطلاقه وأما الحكم على المعين بأنه كافر فهذا يقف على الدليل المعين فإن الحكم يقف على ثبوت شروط وانتفاء موانعه فالكفر من الوعيد الذي نطلق القول به, ولكن لا نحكم للمعين بدخوله في ذلك المطلق حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له, وأهل السنة في هذا المذهب وسط بين فريقين, بين من أطلق لسانه في تكفير المعين بلا شروط ولا قيود ولا ضوابط وبين من امتنع عن تكفير المعين مطلقاً فأغلق باب الردة, وهذا باطل وهذا باطل والحق الوسط, وهذا هو الهدى نسأل الله تعالى أن يغفر لنا زلل اللسان والجنان والبنان والله أعلى وأعلم .
المسألة الخامسة :- اعلم أن أهل العلم رحمهم الله تعالى قد اشترطوا للتكفير قيام الحجة وقرروا باتفاقهم أن بلوغ الحجة شرط في قيامها, ولكن اختلفوا في فهم الحجة, هل هو شرط أو لا؟ والأقرب عندي أن الخلاف لفظي, لأن عندنا:- مطلق الفهم والفهم المطلق فالكل اشترطوا مطلق الفهم، والكل نفوا اشتراط الفهم المطلق، فالفهم الذي يشترطه من قال به لا يعنون به الفهم الطلق بل مطلق الفهم، والذين نفوا اشتراط الفهم لم يعنوا به نفي مطلق الفهم وإنما عنوا به نفي الفهم المطلق، ولو نظرت إلى أقوال الأئمة في هذه المسألة لوجدت خلاصتها هو ما ذكرته لك هنا، لكن انظر فيها بعين العدل والإنصاف والتجرد يتضح لك الحق في هذه المسألة والله أعلم .(1/18)
المسألة السادسة :- اعلم أرشدك الله تعالى أننا حيث قلنا إن الجهل عذر فإننا لا نعني به كل جهل وإنما نعني به الجهل في المسائل الدقيقة الخفية التي يختص أهل العلم بمعرفتها وأما المسائل الظاهرة الكبيرة في الدين فإن الجهل ليس بعذر فيها، هذا ما قرره أهل العلم رحمهم الله تعالى ونقولهم في ذلك كثيرة جداً نقتصر على بعضها:- قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ( وهذا كثير غالب في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والنفاق والكفر والضلال ما لا يتسع لذكره مقال، وإذا كان في المقالات الخفية فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين الإسلام بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - بعث بها، وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحدٍ سواه من الملائكة والنبيين أو غيرهم فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين وإن كانوا قد يتوبون من ذلك - إلى أن قال - وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام، كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام ) ا.هـ. فانظر كيف فرق رحمه الله تعالى بين المقالات الخفية والأمور الظاهرة وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى ( إن الشخص المعين إذا قال ما يوجب الكفر فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس وأما ما يقع منهم(1/19)
في المسائل الظاهرة الجلية أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله ) ا.هـ. وقال أصحاب اللجنة الدائمة ( يختلف الحكم على الإنسان بأنه يعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يعذر باختلاف البلاغ وعدمه, وباختلاف المسألة نفسها وضوحاً وخفاءً وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفاً ) ا.هـ. والنقول في ذلك كثيرة وهذا كافٍ في هذه الوريقات المختصرة حتى لا نطيل والله أعلم .
المسألة السادسة :- اعلم رحمك الله تعالى أن المبتدع الكافر والفاسق يتفقان في أن كلاً منهما قد خالف الشرع وأحدث في الدين ما ليس منه, وعمل عملاً ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه يجب أن يبذل معه ما يستطاع من الدعوة والنصح والتوجيه, والتذكير والتخويف وإن أصر وعاند فلابد من زجره وتهديده ووعيده, ولابد من إقامة الحجة عليه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن وأن يكشف ما عندهم من الشبه وأن يستمع لحججهم ويرد عليها وتكسر على صخرة الكتاب والسنة, وأن كلاً منهما على هاوية من الشر عظيمة وحفرة من الزندقة سحيقة وأنه معرض نفسه للحرمان من ورود حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن وروده وقف على أهل الاتباع ولا حق فيه لأهل الابتداع, وكذلك وجوب التحذير منهم ولو بأعيانهم إذا تطلب الأمر والتحذير من مجالستهم كما عليه عامة أهل السنة رحمه الله أمواتهم وثبت أحياءهم والله ربنا أعلى وأعلم .
المسألة السابعة :- وهي بيت القصيد من هذه الكتابة وهي ذكر ما يتخرج على هذه القاعدة المهمة من الفروع وأسأله جل وعلا أن يلهمني فيها الاستيفاء فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون :-(1/20)
الفرع الأول :- هل يبغض المبتدع؟ فأقول:- نعم يجب علينا بغض المبتدعة باتفاق أهل السنة لكن هل هو البغض المطلق أو هو مطلق البغض؟ أقول:- هذا يختلف باختلاف المبتدع, فأما المبتدع الذي كفرناه ببدعته المكفرة فإننا نبغضه البغض المطلق لأننا نعامل المبتدع الكافر معاملة الكفار, وأما المبتدع الذي لا يكفر ببدعته فإننا نبغضه مطلق البغض أي بعض البغض لا كله ويختلف هذا البغض للمبتدع الفاسق بحسب كبر بدعته وصغرها فنبغضه بقدر بدعته ومخالفته للشرع ونحبه بقدر ما بقي معه من الإيمان, وقد تقرر عند أهل السنة أن الإنسان قد يجتمع فيه موجب الحب وموجب البغض, والمبتدع الفاسق لم يخرج من الدين بالكلية بحيث يبغض البغض المطلق كبغض الكفار, بل بقي معه شيء من الإيمان, فإيمانه الباقي يوجب حبه بقدره, ومخالفته وبدعته وإحداثه توجب بغضه بقدرها هكذا قرره أهل السنة, فالمحبة والبغض تختلف باختلاف ما معه من الإيمان, فأهل البدع على مختلف أصنافهم كلهم يستحقون البغض إلا أنه لا ينبغي المساواة بينهم في البغض نظراً لتفاوتهم في الابتداع والبعد عن السنة, فليس بغضنا للجهمية كبغضنا لأصحاب الذكر الجماعي وهكذا, ومن زعم المساواة بينهم في البغض وأنهم يبغضون على درجة واحدة فقد خالف المنهج الصحيح وأخطأ خطأً كبيراً, بل إن أهل البدع منهم من هو مجمع على كفره وزندقته, ومنهم من هو معدود من أهل الفسق ببدعته ومنهم من له بدع صغيرة لا تصل به إلى حد الفسق الأكبر, فمن أهل البدع من هو مسلم فنحبه لإسلامه وما فيه من خصال البر والخير, وإن كنا نبغضه لابتداعه في الدين, فهو محبوب من وجه ومبغوض من وجهٍ آخر, وأنت خبير بأن الإيمان عند أهل السنة ليس جزءاً واحداً إذا ذهب بعضه ذهب كله, لا وإنما هذا مذهب الوعيدية والمرجئة, وأما أهل السنة فالإيمان عندهم درجات وشعب وذهاب بعضه لا يوجب ذهابه كله, لأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, فانتبه لهذا, ويقرر هذا الكلام أبو(1/21)
العباس رحمه الله تعالى بقوله ( وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة, استحق من الموالاة بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر, فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة, فيجتمع له من هذا وهذا, كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفي لحاجته, هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة فلم يجعلوا الناس إلا مستحقاً للثواب فقط, أو مستحقاً للعقاب فقط ) ا.هـ. وهذا المذهب هو العدل والحق والإنصاف والوسط بين الغالي والجافي, فالغلاة من الوعيدية جعلوا أصحاب الذنوب على درجة واحدة في استحقاقهم للعقاب والمرجئة تساهلوا في صاحب الكبيرة فالوعيدية قالوا:- إن صاحب الكبيرة من المبتدعة وغيرهم من أصحاب الذنوب يجب بغضهم البغض المطلق, والمرجئة قالوا:- بل نحبهم الحب المطلق, وأما أهل السنة فقالوا:- بل يحبون بقدر ما بقي معهم من الإيمان ويبغضون بقدر ما معهم من المخالفة والعصيان والابتداع, فإن تجاوز ببدعته دائرة الإسلام فالواجب بغضه البغض المطلق وإن كان لا يزال في دائرة الإسلام فيبغض من وجه ويحب من وجه ويختلف ذلك باختلاف إحداثه وبدعته ومخالفته, وهذا متفرع عن وسطية أهل السنة والتي تميز بها أهل الحق ولله الحمد والمنة, وبه تعلم أن بغض أهل السنة للمبتدع نوعان:- البغض المطلق أي البغض الكامل وهذا لصاحب البدعة المكفرة المحكوم بكفره ومطلق البغض أي بعضه, وهذا لصاحب البدعة المفسقة وهذا واضح ولله الحمد والمنة وأنا أرى أنه لا داعي لنقل بعض المرويات عن السلف في تقرير وجوب بغض أهل البدع لأنها صارت من المعلوم عند أهل العلم بالضرورة .(1/22)
الفرع الثاني :- هل يعادى أهل البدع؟ أقول:- نعم يجب معاداة أهل البدع باتفاق أهل السنة لكن هل هي المعاداة المطلقة أو مطلق المعاداة؟ أقول:- هذا يختلف باختلاف أحوال أهل البدع فأما المبتدع ذو البدعة المكفرة الذي حكمنا عليه بأنه كافر فإنه يجب معاداته في الله المعاداة الكاملة المطلقة, وأما من دونه من المبتدعة والذين لا يزالون في دائرة الإسلام فإننا نعاديهم مطلق المعاداة أي بعضها, وتختلف معاداة فساق المبتدعة باختلاف عظم ابتداعهم وصغره, وكل يعادى على حسب بدعته, أما أصل المعاداة فمتفق عليه بين أهل السنة فالمبتدعة ليسوا على درجة واحدة في الإحداث والمخالفة, والواجب علينا أن نعطي كل ذي مخالفة ومعصية حقه من المعاداة فليست عداوتنا لمن يقرأ الفاتحة عند ابتداء الخطوبة كعداوتنا لمن يسب صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالمبتدع الكافر يعادى المعاداة المطلقة لأننا نعامله معاملة الكفار والكفار يجب معاداتهم المعاداة المطلقة والمبتدع الفاسق يعادى مطلق المعاداة لأننا نعامله معاملة عصاة الموحدين, وعصاة الموحدين يعادون مطلق المعاداة وهذا الفرع راجع لأصل الموالاة والمعاداة, فإن الشخص يوالى ويعادى بحسب موالاته للدين ومعاداته له, فمن عادى الدين المعاداة المطلقة فإننا نعاديه المعاداة المطلقة ومن والى الدين الموالاة المطلقة فإننا نواليه الموالاة المطلقة ومن والى في جانب وعادى في جانب فإننا نواليه بقدر موالاته ونعاديه بقدر معاداته وهذا واضح, وهذا هو المنهج الوسط وعليه جرى أهل السنة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم والله أعلم .(1/23)
الفرع الثالث :- هل نتبرأ من أهل البدع؟ أقول:- نعم تجب البراءة من البدعة وأهلها باتفاق أهل السنة, فالمبتدعة تجب البراءة منهم ومما أحدثوه من البدع, ولكن هل هي البراءة المطلقة أو مطلق البراءة؟ أقول:- هذا يختلف باختلاف أحوال أهل البدع, فأما المبتدع المحكوم بكفره بسبب بدعته المكفرة فإنه يتبرأ منه البراءة المطلقة لأننا قررنا أننا نعامله معاملة الكفار والكفار يجب البراءة منهم البراءة المطلقة وأما المبتدع المحكوم بفسقه والذي لا يزال في دائرة الإسلام فإننا نحكم عليه بمطلق البراءة أي بعض البراءة وتختلف هذه البغضية باختلاف كبر ابتداعه وصغره لأن المبتدع المحكوم بفسقه يعامل معاملة عصاة الموحدين, وعصاة الموحدين يتبرأ منهم مطلق البراءة فمثلاً نحن نتبرأ من الإسماعيلية البراءة المطلقة, ونتبرأ من النصيرية البراءة المطلقة, ونتبرأ من الرافضة البراءة المطلقة ونتبرأ من القاديانيين البراءة المطلقة ونتبرأ من عباد القبور البراءة المطلقة ونتبرأ من الدروز البراءة المطلقة ونتبرأ من الجهمية أتباع الجهم بن صفوان البراءة المطلقة, لأن كل هؤلاء قد حكمنا عليهم بالكفر بسبب بدعتهم المكفرة, وأما الأشاعرة والماتريدية ومرجئة الفقهاء وأصحاب الذكر الجماعي والمعتزلة والكلابية ونحوهم فإننا نتبرأ منهم مطلق البراءة لأنهم ليسوا بكفار عندنا, أي لا يزالون في دائرة الإسلام, وهذا من باب التمثيل في الحالتين لا من باب الحصر, والمهم الذي أريدك أن تعرفه أن براءة أهل السنة رحمهم الله تعالى من أهل البدع على قسمين:- البراءة المطلقة وهي للمبتدعة المحكوم بكفرهم, ومطلق البراءة وهي للمبتدعة المحكوم بفسقهم ممن لا يزال معه أصل الإيمان والإسلام, وعلى ذلك جرى أهل السنة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم .(1/24)
الفرع الرابع :- هل يصلى على أهل البدع؟ أقول:- لا نقول (لا يصلى عليهم بإطلاق) ولا نقول (يصلى عليهم بإطلاق) بل هذا يختلف باختلاف أهل البدع, فأما المبتدع المحكوم بكفره فإنه لا يصلى عليه لأننا نعامله معاملة الكفار، والكفار لا يصلى عليهم وأما المبتدع الفاسق الذي بقي معه أصل الإسلام فإنه يصلى عليه, لكن إن تخلف عن الصلاة عليه أهل الدين والصلاح زجراً عن فعله وترهيباً من بدعته فحسن, وإلا فالأصل أنه يصلى عليه, وعلى ذلك وردت أقوال أهل العلم فالإسماعيلية والرافضة والقدرية مجوس هذه الأمة والباطنية والنصيرية وغلاة الصوفية وملاحدة الفلاسفة ومن في حكمهم ممن يكفر ببدعته لا يصلى عليهم ولا كرامة لهم, بل يحفر لأحدهم في أرضٍ نائية ويوارى حتى لا يتأذى الناس برائحته كالقمامة تدفن في موضع بعيد من الأرض, قال ابن عباس في القدرية ( أولئك شرار هذه الأمة, لا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم ) وقال الإمام في حق القدرية والإباضية ( لا يصلى على موتاهم ولا تتبع جنائزهم ولا تعاد مرضاهم ) وقال الإمام أحمد في الرافضي ( أنا لا أشهده, يشهده من شاء ) وأفتى أبو ثور بأنه لا يصلى خلف القدرية ولا يعاد مرضاهم ولا تشهد جنائزهم, وقال بشر ابن الحارث في الجهمية ( لا تجالسوهم ولا تكلموهم وإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم ) وقد أفتى محمد بن يحيى العدني بأنه لا يصلى خلف من يقول:- القرآن مخلوق ولا يصلى عليه ولا تشهد جنازته, وقال أبو العباس ( لكن من علم منه النفاق والردة فإنه لا يجوز لمن علم ذلك منه الصلاة عليه وإن كان مظهراً للإسلام ) قلت:- وقد قال تعالى { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ } وهذا في حق المنافقين, وقال أبو العباس في حق النصيرية ( ولا يجوز دفنه في مقابر المسلمين ولا يصلى على من مات منهم ) ا.هـ. وهذا كله في حق من يكفر ببدعته, وأما من لا يكفر ببدعته فإنه(1/25)
لابد من الصلاة عليه, قال أبو العباس رحمه الله ( وأما من كان مظهراً للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر فهؤلاء لابد أن يصلي عليهم بعض المسلمين ) ا.هـ. وعليه فإذا تيقنا كفر المبتدع فهو ملحق بالكفار والمنافقين في عدم جواز الصلاة عليهم, وإن ثبت بقاء أصل إيمان المبتدع فحكمه حكم عصاة الموحدين, وعصاة الموحدين يصلى عليهم, لكن كما ذكرت لك سابقاً أنه إن تخلف عن الصلاة عليه أهل الديانة والصلاح زجراً للعامة عن هذه المخالفة التي وقع فيها هذا المبتدع فهو حسن كما تخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على قاتل نفسه والمدين الذي لم يترك وفاءً والغال, قال أبو العباس رحمه الله ( وإذا ترك الإمام وأهل العلم والدين الصلاة على بعض المتظاهرين ببدعة أو فجور زجراً عنها لم يكن ذلك محرماً للصلاة عليه والاستغفار له ) ا.هـ. وقال الألباني ( الفاجر المنبعث في المعاصي والمحارم مثل تارك الصلاة والزكاة مع اعترافه بوجوبهما والزاني ومدمن الخمر ونحوهم من الفساق فإنه يصلى عليهم إلا أنه ينبغي لأهل العلم والدين أن يدعوا الصلاة عليهم عقوبة وتأديباً لأمثالهم كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ا.هـ. والله ربنا أعلى وأعلم .(1/26)
الفرع الخامس :- هل تتبع جنائز أهل البدع؟ أقول:- هذا فرع عن الذي قبله, واتباع الجنازة فرع عن جواز الصلاة على الميت, فإذا كان هذا المبتدع ممن حكمنا عليه بأنه كافر بسبب بدعته المكفرة فإنه لا تتبع جنازته, وإنما يذهب معه من يواريه ومن يحتاج إليهم في المساعدة فقط بنية التخلص من هذه الجثة الفاسدة الخاطئة, لا بنية اتباعه وإكرامه وتشييعه لأن المبتدع الكافر ببدعته يعامل معاملة الكفار, وهكذا نعامل الكفار إذا ماتوا بيننا وأما إن كان المبتدع غير محكوم عليه بالكفر أي أنه لا يزال معه أصل الإسلام فإنه تتبع جنازته لكن لو ترك أهل الدين والصلاح اتباع جنازته زجراً للعامة عن فعله فهو طيب جداً كما ذكرناه سابقاً في الصلاة, فالقول في الصلاة عليه واتباعه قول واحد, قال محمد بن حمدان الطرائفي:- سألت الربيع بن سليمان عن القرآن؟ فقال:- كلام الله غير مخلوق فمن قال غير هذا فإن مرض فلا تعودوه وإن مات فلا تشهدوا جنازته, كافر بالله العظيم, وأصل ذلك قوله تعالى { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ } وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دعي إلى جنازة سأل عنها فإن أثني عليها خيراً صلى عليها وإن أثني عليها شراً قال (( شأنكم بها )) ولم يصل عليها )) "رواه أحمد والحاكم وسنده جيد" وقال سعيد بن المسيب:- رب جنازة ملعونة, ملعون من شهدها, ولما كان أبو معاوية محمد بن حازم يرمى بالإرجاء والشراب لم يصل عليه وكيع, وعن عبدالصمد ابن يزيد قال سفيان بن عيينة لصديق له:- من أين جئت؟ قال:- من جنازة فلان, قال:- لا أحدثك بحديث سنة, استغفر الله ولا تعد, نظرت إلى رجل يشتم أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - واتبعت جنازته وقال سفيان رحمه الله تعالى:- من تبع جنازة مبتدعٍ لم يزل في سخط الله عز وجل حتى يرجع وقد تقدمت بعض النقول في النهي عن شهود جنائز(1/27)
أهل البدع في الفرع الذي قبل هذا والله أعلم .
الفرع السادس :- هل يدفن أهل البدع في مقابر المسلمين؟ أقول:- هذا يختلف باختلاف حال المبتدع, فأما المبتدع المحكوم عليه بالكفر فإنه لا يدفن في مقابر المسلمين لأن مقابر المسلمين وقف عليهم ولا حق للكافر فيها بل يدفن مع إخوانه الكفرة أو يوارى في أرضٍ بعيدة عن البلد والمهم أنه لا يدفن في مقابر أهل الإسلام, وأما المبتدع المحكوم عليه بالفسق فقط فإنه يدفن مع المسلمين في مقابرهم لأنه مسلم لكنه ناقص الإيمان ونقص إيمانه هذا لا يخرجه عن دائرة الإسلام بل نعامل هذا المبتدع معاملة عصاة الموحدين, والله أعلم .
الفرع السابع :- هل يدعى للمبتدع بعد موته بالرحمة أو يستغفر له؟ أقول:- إن كان المبتدع من المحكوم عليهم بالكفر بسبب هذه البدعة المكفرة مع ثبوت الشروط وانتفاء الموانع فإنه لا يجوز الدعاء له بالرحمة ولا يجوز الاستغفار له لأنه كافر والكافر هذا شأنه بعد موته, قال تعالى { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } والمشرك إذا ذكر وحده دخل معه الكافر تبعاً كما هو مقرر في موضع آخر, فلا يجوز لأحدٍ أن يستغفر لهذا المبتدع ولا أن يدعو له بالرحمة لأن الدعاء والاستغفار له فرع عن إسلامه, وهذا ليس بمسلم, وأما إن كان هذا المبتدع ممن لا يكفر ببدعته فإنه يدعى له ويستغفر له, لأنه مسلم ووجود بدعته لا ينقض أصل إسلامه, فيدعى ويستغفر له, بل هو في هذه الحالة أحوج من غيره بالدعاء له والاستغفار له لأنه مات على هذه المخالفة, وعصاة الموحدين يدعى لهم ويترحم عليهم ويستغفر لهم فانظر بالله عليك كيف يسرت هذه القاعدة معرفة أحكام هذه الفروع وهذا يفيدك أهمية التأصيل والتقعيد والله المستعان .(1/28)
الفرع الثامن :- هل يورث المبتدع إذا مات؟ أقول:- هذا يتفرع على هذه القاعدة العظيمة فالمبتدع ذو البدعة المكفرة إذا حكمنا عليه بأنه كافر لثبوت الشروط وانتفاء الموانع هذا لا يورث إذا مات لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر )) وقال (( لا يتوارث أهل ملتين شتى )) وحيث حكمنا على هذا المبتدع بأنه كافر فإننا نلحقه بإخوانه الكفرة فورثته المسلمون لا حق لهم في ماله لأنه كافر, والتوارث لا يكون إلا بين مسلم ومسلم, فالمسلم لا يرث إلا المسلم, وأما الكافر فإن ماله يكون فيئاً لبيت مال المسلمين, وأما إذا كان هذا المبتدع من أصحاب البدع المفسقة فإنه يعامل معاملة عصاة الموحدين, وعصاة الموحدين يرثهم أقاربهم إذا ماتوا لأنهم لا يزالون في دائرة الإسلام, ووجود الأمر المفسق من معصية أو بدعة لا يمنع التوارث بينهما, لأن الذي يمنع إنما هو اختلاف الدين, قال ابن قدامة رحمه الله تعالى ( أجمع أهل العلم على أن الكافر لا يرث المسلم ) وقال جمهور الصحابة والفقهاء:- ( لا يرث المسلم الكافر وهذا يروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأسامة بن زيد وجابر بن عبدالله - رضي الله عنهم - وبه قال عمرو بن عثمان وعروة والزهري وعطاء وطاووس والحسن وعمر بن عبدالعزيز وعمرو بن دينار والثوري وأبو حنيفة وأصحابه, ومالك والشافعي وعامة الفقهاء وعليه العمل ) ا.هـ. فهنا مسألتان أحدهما:- توريث الكافر من المسلم وهذا مجمع على منعه, والثانية:- توريث المسلم من الكافر وهي خلافية والحق منعه لثبوت الأدلة بالمنع, وأما أقوال بعض الصحابة الذين أجازوه فلا حجة فيها لمخالفتها للنص الصحيح الصريح ولأنه قد خالفهم صحابة آخرون, وعلى ذلك جاءت كلمة السلف فقال عبدالرحمن بن مهدي ( لو أن رجلاً جهمياً مات وأنا أرثه ما استحللت أن آخذ ميراثه ) وقال أيضاً ( ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم يدورون على أن يقولوا:- ليس في(1/29)
السماء شيء, أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا ) وقال أيضاً فيمن سب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لو كان من عصبني ما ورثته ) وقال البربهاري ( قال بعض أهل العلم منهم أحمد بن حنبل:- الجهمي كافر ليس من أهل القبلة حلال الدم, لا يرث ولا يورث ) ويروى عن الحارث المحاسبي أنه لم يأخذ شيئاً من مال أبيه مع شدة حاجته لأن أباه كان واقفياً وقدرياً, وكل ذلك محمول على تكفيرهم, وأما من ليس بكافر فإنه يرث من قريبه المسلم والله أعلم .
الفرع التاسع :- هل يرث المبتدع من أهل السنة؟ أقول:- هي عكس المسألة السابقة وجوابها يتفرع على هذه القاعدة العظيمة، فإن كان المبتدع قد وقع في البدعة المكفرة وثبتت عليه شروط التكفير وانتفت موانعه فإنه لا يرث من المسلم شيئاً, وهذا بالإجماع كما ذكرته لك سابقاً لأن الكافر لا يرث المسلم كما صح بذلك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وأما إذا كان لا يزال في دائرة الإسلام فإنه يرثه, وكل ذلك لأن أهل السنة يعاملون المبتدع الكافر معاملة الكفار والكفار لا يرثون منا ولا نرث منهم, ويعاملون المبتدع الفاسق معاملة عصاة الموحدين, وهؤلاء نرث منهم ويرثون منا والله أعلم .
الفرع العاشر :- هل يقتل المبتدع بسبب بدعته؟ أقول:- هذا يتفرع على هذه القاعدة فإن كان هذا المبتدع قد كفر ببدعته فإنه يعامل معاملة الكافر المرتد وقد تقرر في شريعتنا أنه يستتاب(1/30)
ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من بدل دينه فاقتلوه )) وعلى ذلك وردت نصوص أهل السنة, فعن علي أنه قال لمن أنكر القدر فأقر به ( والله لو قلت غير هذا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف ) وعن ابن عباس وابن عمر معناه, وقال عمر ابن عبدالعزيز ونافع ابن مالك ( يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا ) وأفتى رجاء بن حيوة وعبادة بن نسي بقتلهم, وقال مالك بن أنس والأوزاعي وعبيدالله بن الحسن العنبري ( يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا ) وكل ذلك قالوه في حق القدرية, وقال نافع مولى ابن عمر ( القدرية يقتلون ) وروي عن جماعات كثيرة من السلف في القدرية بأنهم يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم بالسيف. وأنت خبير بأن علي ابن أبي طالب لما سمع مقالات الغلاة فيه وتيقن منها خَدَّ لهم الأخاديد في الأرض وسجرها ناراً وألقاهم فيها ولما كان في عيد الأضحى قال خالد بن عبدالله القسري:- أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً ثم نزل وذبحه, قال ابن القيم في النونية :-
…(1/31)
وكذلك الجهم بن صفوان فإنه قتله صاحب الشرطة سلم بن أحوز بإقتاءٍ من أهل السنة وكذلك غيلان القدري قتله هشام بن عبدالملك بإقتاءٍ من أهل السنة, بل إن رجاء حيوة رحمه الله كتب إلى هشام ( يا أمير المؤمنين فإنه قد بلغني أنه قد وقع في نفسك شيء من قتل غيلان وصالح, والله لقتلهما أفضل من قتل ألفين من الروم والترك ) ا.هـ. وصالح هذا هو مولى ثقيف وله كلام في القدر, وقال الآجري في الشريعة ( حدثني عمر ابن أيوب السقطي قال حدثنا الحسن بن عرفة قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سعيد ابن عبدالرحمن بن أبزى قال:- قلت لأبي:- يا أبه, لو سمعت رجلاً يسب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما كنت تصنع؟ قال:- كنت أضرب عنقه ) إسناده صحيح, وقال عبدالرحمن بن مهدي رحمه الله ( من قال:- إن الله تعالى لم يكلم موسى يستتاب فإن تاب وإلا قتل ) قلت:- فإذا كان المبتدع يكفر ببدعته كالقدرية والجهمية والرافضة والدروز والإسماعيلية والقاديانية والنصيرية ومن في حكمهم فإنهم يقتلون بعد استتابتهم ثلاثة أيام, وفي الحديث (( لا يحل دم امرئٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث:- الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة )) وهذا المبتدع تارك لدينه مفارق للجماعة, وأفتى الإمام أحمد بأن من جحد علم الله تعالى فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل, وهذا كله في المبتدع الذي كفر ببدعته فيعامل معاملة المرتدين يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا، ولكن أنت خبير بأن قتلهم مرجعه ولاة الأمر فلا يفتي بقتلهم إلا العلماء ولا ينفذ حكم القتل إلا الأمراء، فالعلماء هم المفوضون في السلطة العلمية والأمراء هم المفوضون بالسلطة التنفيذية فلا يجوز لآحاد المسلمين أن يقتل من شاء من أهل البدع بحجة أنه قد ثبت كفره عنده لأن الأمر يفتقر إلى اجتهاد واستتابة وكشف شبهة والتثبت من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، وأما من لا يكفر(1/32)
ببدعته فإن الأصل حرمة دمه فلا يجوز قتله إلا إذا كان داعية لبدعته ولم يندفع شره إلا بقتله فيراجع فيه ولاة الأمر فإذا اتفقت كلمتهم على قتله فإنه يقتل دفعاً لشره وزجراً لغيره, لأنه بهذه المثابة منزل منزلة الصائل الذي لا يندفع شره إلا بالقتل, فإذا كان الصائل على النفس والمال إذا لم يندفع شره إلا بقتله جاز قتله فلأن يقتل هذا الصائل على المعتقدات والدين من باب أولى, وأما إذا كان يندفع شره بتخويفه وإيقافه, وزجره أو حبسه وجلده, ومنع الناس من الجلوس معه فإنه لا يقتل لأن شره يندفع بما دون القتل والمهم أن ولاة الأمر عليهم أن يحفظوا دين الدين عن هذا الداعية إلى البدعة بما يناسب الحال ولكل مقام مقال والأمر متروك إلى ولاة الأمر, ولا ينبغي أن يتولى هذا المبتدع الفاسق شيئاً من أمر المسلمين لا وزارة ولا إدارة ولا رئاسة, حتى لا يتسلط بهذا المنصب على عقائد المسلمين ويستغلها في نشر باطله, وإذا أفتى ولاة الأمر بقتل المبتدع الفاسق لدفع شره على العامة فإن قتله لا يكون من باب الردة كالمبتدع الأول, بل يكون من باب التعزير, وأنت خبير بأن التعزير بابه واسع, وقد ثبت عن كثير من السلف تعزير أهل البدع بمختلف أنواع التعزير فقد ثبت أن عمر جلد صبيغ بن عسلٍ ونفاه وأمره أن لا يجالس الناس وأن لا يجالسوه لما كان يفتن الناس بمتشابه القرآن, وثبت أيضاً أنه ضرب قوماً كانوا يجتمعون فيدعون للمسلمين لما أحدثوا هذه البدعة وثبت أيضاً أنه - رضي الله عنه - ضرب الرجبيين الذين كانوا يصومون رجب كله, وثبت عن علي - رضي الله عنه - أنه ضرب قاصَّاً كان يقص في المسجد بالكوفة, ونقل اللالكائي أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى أُتي برجل سب عثمان - رضي الله عنه - فجلده ثلاثين سوطاً, وضرب آخر عشرة أسواطٍ لسبه عثمان فلم يزل ذلك الفاجر يسبه وهو يضربه حتى ضربه سبعين سوطاً, وقال الشافعي رحمه الله تعالى ( حكمي في أهل الكلام أن يضربوا(1/33)
بالجريد والنعال وأن يطاف بهم في العشائر ويقال:- هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام ) وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى ( القرآن كلام الله عز وجل, ومن قال القرآن مخلوق فإنه يوجع ضرباً ويحبس حتى يموت ) وقال عبدالله ابن أحمد بن حنبل ( سألت أبي عن رجل ابتدع بدعة يدعو إليها وله دعاة عليها هل ترى أن يحبس؟ قال:- نعم أرى أن يحبس وتكف بدعته عن المسلمين ) وثبت عن السلف تعزيرهم بالنفي والتغريب والتعزير بما فيه إهانتهم كحصب الوجه بالتراب وتحريق كتبهم وإتلافها وهدم وتحريق أماكنهم التي يجتمعون فيها, وغير ذلك, وهذا اجتهاد مرجعه إلى ولاة الأمر, وقد أفتى ابن تيمية في أصناف كثيرة من البدع بوجوب تعزير أصحابها بالعقوبة البليغة التي تزجرهم وأمثالهم عن معاودة هذا الفعل, وهذا التعزير تفريع على عدم التكفير, وأما المبتدع الكافر فإنه لا يمكن من الحياة بل يستتاب فإن تاب وإلا قتل والله المستعان على المبتدعة في هذا الزمان الذين طالت أعناقهم واحترمت آراءهم وجعل لهم الحق في الحوار وإبداء وجهة نظرهم في مخالفة الشرع بدعوى حرية الأديان وفتح باب الحوار مع الطرف الآخر, ألا فلا نامت أعين الجبناء, فما أكثر موائد الحوار في عصرنا, مع الرافضة والصوفية وسائر المبتدعة, وهذه حرية فكرية ممقوتة لها آثارها السلبية ونتائجها السيئة, فياليت بني قومي يعلمون الخطر العظيم في فتح هذه الأبواب التي سدها السلف الصالح, ووالله إنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها, ونسأل الله تعالى أن يهدي قادة المسلمين وعلماءهم إلى قول كلمة الحق لا يخافون في الله لومة لائم, والله المستعان وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل .(1/34)
الفرع الحادي عشر :- هل يجوز السلام على أهل البدع؟ الجواب هذا فيه تفصيل, فإن كانت البدعة مكفرة فإنه لا يلقى عليهم سلام المسلمين لأن سلام المسلمين وقف عليهم فيما بينهم ولاحق للكافر فيه, هذا إذا ثبت كفر هذا المبتدع, وإنما يقال لهم في ابتدائه:- السلام على من اتبع الهدى, ذلك لأننا نعامل المبتدع الكافر معاملة الكفار, والكفار لا يجوز ابتداؤهم بسلام أهل الإسلام, ففي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه )) وفي الصحيح عن أنس مرفوعاً (( إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم )) وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً (( إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم:- السام عليك, فقل:- وعليك )) وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي سفيان أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهرقل (( أما بعد سلام على من اتبع الهدى )) وأما إن كان المبتدع الكافر في مجلس مع المسلمين فإنه يقال ( السلام عليكم ) على وجه العموم وينوى بها المسلمين لحديث أسامة (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فسلم عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - )) وهو في الصحيحين وهذا كله في شأن المبتدع الكافر, وأما المبتدع الذي لا يكفر ببدعته فإن الأصل جواز السلام عليه لكن إن كان في ترك السلام عليه من باب زجره مصلحة خالصة أو راجحة فإنه يترك السلام عليه, من غير تحديد بثلاثة أيام, بل يترك إلى تحقق المصلحة المقصودة, كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام الثلاثة الذين خلفوا وأمر الناس بترك كلامهم وابتدائهم بالسلام حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا, وإن لم يكن في ترك السلام على هذا الصنف من(1/35)
المبتدعة مصلحة خالصة ولا راجحة فإن المشروع السلام عليهم ورده إن سلموا, لأنهم مسلمون ولا يزال معهم بقية إيمان, هذا هو خلاصة منهج سلف الأمة في السلام على أهل البدع, فالكافر يعامل معاملة الكفار في السلام والفاسق يعامل معاملة عصاة الموحدين في السلام, ولأن المتقرر في القواعد أن السلام من حق المسلم على المسلم كما ثبتت بذلك الأحاديث, قال الإمام مالك ( لا ينكح أهل البدع ولا ينكح إليهم ولا يسلم عليهم ) وقال ( بئس القوم أهل الأهواء لا نسلم عليهم ) وقال الإمام أحمد فيمن يقول لفظي بالقرآن مخلوق, قال ( لا يصلى خلفه ولا يجالس ولا يكلم ولا يسلم عليه ) وثبت عنه عملياً إنه ترك السلام على رجلٍ من الواقفية وأفتى الإمام أحمد بن الرافضي لا يسلم عليه وقال ابن تيمية ( وأما إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبقى له غيبة ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره فلا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام إذا كان الفاعل لذلك متمكناً من ذلك من غير مفسدة )ا.هـ. وخلاصة الكلام أن المبتدع الكافر لا يسلم عليه أي أننا نلتزم ترك ابتدائه بالسلام دائماً وإن لم يكن هجره مشروعاً وذلك لتحريم بداءته بالسلام, وأما رده فيرد عليه السلام إن لم يشرع هجره فإن كان هجره مشروعاً فلا يسلم عليه ابتداءً ولا رداً, وأما المبتدع الفاسق فإن السلام عليه ابتداءً ورداً جائز في الأصل لكن إن كانت المصلحة الشرعية تقتضي تركه أو رده فالمتبع في ذلك المصلحة, وإلا فالأصل أن السلام عليه جائز والله أعلم .(1/36)
الفرع الثاني عشر :- هل يهجر صاحب البدعة؟ أقول:- هذا يختلف باختلاف أهل البدع فأما المبتدع الكافر فإنه يهجر الهجر المطلق وذلك بعد استفراغ الوسع في دعوته والسعي في أسباب هدايته, وذلك لأن المشروع في حق الكافر أنه يهجر الهجر المطلق, وأما المبتدع الفاسق فإن المشروع في حقه مطلق الهجر إن كانت المصلحة الشرعية تقتضي ذلك وإلا فلا يهجر فوق ثلاث لأن الأصل أنه لا يحل لمسلم أن يهجر مسلماً فوق ثلاث, فإن كانت المصلحة الشرعية تقتضي هَجْرهَ شُرع الهجر بالقْدر المحقق للمصلحة, وإن بقي الهجر سنين, لأنه الآن هجر لمقصود شرعي وهو زجره ورجاء توبته وإقلاعه عن هذه المخالفة, وأما إذا كان الهجر لا يزيده إلا بعداً ولا يجنى منه إلا المفاسد الخالصة أو الراجحة فإنه يستمر بدعوته ومواصلته ونصحه ولا يهجر, لأن الهجر في حق الكافر مقصود لذاته, وأما الهجر في حق الفاسق فإنه مشروع إن كان يحقق المصلحة الشرعية, فإن كان لا يحققها فلا يشرع, هذا هو الذي قرره أهل السنة فإننا نجدهم يأمرون بهجر المبتدع الكافر ولا يقيدونه بالمصلحة, ونجدهم يقيدون هجر المبتدع الفاسق بتحقق المصلحة ولذلك قال الشيخ محمد بن عثيمين وهو يوضح منهم السلف في مسألة هجر المبتدع ( أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة, فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره, وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره, إن كان في هجره مصلحة فعلناه وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) فكل مؤمن وإن كان فاسقاً فإنه يحرم هجره مالم يكن في الهجر مصلحة فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه لأن الهجر حينئذٍ دواء, أما إذا لم يكن فيه مصلحة أو كان فيه زيادة في المعصية والعتو فإن ما لا مصلحة فيه, تركه هو المصلحة ) ا.هـ. قلت:- وذلك لأن أهل السنة يعاملون المبتدع الفاسق معاملة عصاة الموحدين, وعصاة الموحدين لا(1/37)
يهجرون إلا إن كان هجرهم يحقق المصلحة الخالصة أو الراجحة, قال ابن عبدالبر ( ولا هجرة إلا لمن ترجوا تأديبه بها أو تخاف من شره في بدعة أو غيرها ) ا.هـ. قلت:- والأسباب والدواعي لهجر هذا المبتدع كثيرة فمنها:- أن يكون داعية لبدعته ذا لسان سليط على أهل السنة وذا جدال وخصال ومحاجة وملاججة يخشى على الجالس معه من الفتنة ببدعته فهذا يهجره من خشي الوقوع في حبائله, ومنها:- أن يكون في هجره زجر له عن بدعته رجاء أن يتوب ويعود عنها إلى حياض أهل السنة, فهذا يهجر حتى تتحقق المصلحة وتندفع المفسدة ومنها:- أن يكون في هجره زجراً لغيره عن الوقوع فيما وقع فيه من البدعة, فهذا أيضاً يهجر بالقدر المحقق للمصلحة والدافع للمفسدة, فإن البدعة المفسقة لها مراتب, ويختلف الحال باختلاف صاحبها من كونه داعية أو مستتراً وغير ذلك ويختلف حال الهاجر من كونه عالماً راسخاً لا يخاف عليه من المبتدع, أو كونه عامياً جاهلاً يخاف عليه, وهكذا, والمهم أن تعلم أن المبتدع الكافر بعد دعوته إذا لم يرجع عنه فإنه يهجر الهجر المطلق وأما المبتدع الفاسق فإنه يهجر مطلق الهجر والله أعلم. قال أبو العباس ( فلهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع الداعين إليها والمظاهرين للكبائر, فأما من كان مستتراً بمعصيته أو مسراً لبدعة غير مكفرة فإن هذا لا يهجر وإنما يهجر الداعي إلى البدعة إذاً الهجر نوع من العقوبة وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولاً أو عملاً ) ا.هـ. وقال أبو العباس أيضاً ( وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك - أي بالهجر - بل كان يزيد الشر والهاجر ضعيف, بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر, والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف, ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف قوماً ويهجر آخرين كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من المؤلفة(1/38)
قلوبهم, لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين, والمؤمنون سواهم كثير, فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم, وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح ) ا.هـ. ولعل المسألة قد اتضحت وبانت معالمها إن شاء الله تعالى وهو أعلى وأعلم .
الفرع الثالث عشر :- هل يقبل عمل المبتدع؟ أقول:- أما فيما بينه وبين الله تعالى فالأمر إليه جل وعلا أولاً وآخراً, وأما فيما بيننا وبينه فإن تعبدات المبتدع القولية والعملية تختلف قبولاً ورداً باختلاف الحكم عليه, فأما المبتدع الكافر الذي حكمنا عليه بالكفر لوقوعه في البدعة المكفرة مع توفر شروط التكفير وانتفاء موانعه فإن تعبداته لا تقبل لأن من شرط قبول العبادات الإسلام, أي أن تصدر من مسلم, وهذا محكوم عليه بأنه كافر, ولأن الله تعالى يقول { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } وقال تعالى { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } وقال تعالى { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وقال تعالى { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وقال تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا(1/39)
حَامِيَةً } وقال تعالى { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فالأعمال الصالحة لا تقبل عند الله تعالى مع الكفر وهذا المبتدع محكوم بكفره, ولذلك قال تعالى { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } ولذلك قال أهل العلم:- الأعمال كلها شرط قبولها الإيمان فمن لا إيمان له لا يقبل له عمل فالعمل إذا قارنه الكفر لم يقبل كما قال تعالى { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي أبطلها وأذهبها ولم يجعل لها ثواباً في الآخرة, ولا جزاءً, وقال تعالى { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وفي الصحيح من حديث أنس مرفوعاً (( إن الله تعالى لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها )) ولأنه قد تقرر عندنا معاشر أهل السنة أن المبتدع الكافر يعامل معاملة الكفار, والكفار لا يقبل منهم القربات بسبب كفرهم, فإذا قيل لك:- لماذا حكمت على عمل هذا المبتدع بالبطلان؟ فقل:- لأنه دخل في حد الكفر ببدعته والكافر لا يقبل منه أي عمل, وعلى ذلك وردت نصوص أهل السنة, ففي الصحيح أن ابن عمر قال في حق القدرية ( والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أنفق أحدهم مثل أحدٍ ذهباً ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ) وهذا في حق القدرية وهم كفار بسبب إنكارهم للقدر, وقال الحسن رحمه الله (إن صاحب البدعة لا يقبل له صوم ولا صلاة ولا حج ولا عمرة ولا صدقة ولا جهاد ولا(1/40)
صرف ولا عدل) وعنه أنه قال ( ما ازداد صاحب بدعة عبادة إلا ازداد من الله بعداً ) وقال هشام بن حسان ( لا يقبل الله من صاحب بدعة صياماً ولا صلاة ولا زكاة ولا حجاً ولا جهاداً ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقاً ولا صرفاً ولا عدلاً ) وقال الفضيل بن عياض ( لا يرفع لصاحب بدعة إلى الله عمل ) والنقول في ذلك كثيرة, وهذه النقول وما شابهها إنما تنزل على المبتدع الكافر, أو تنزل على العمل الذي وقعت فيه البدعة, أو تنزل على الطاعات التي تحبطها السيئات لكن لا يجوز إنزالها على كل مبتدع أياً كانت حالته, هذا لا يقصده أهل العلم البتة, فهذا بالنسبة للمبتدع المحكوم عليه بالكفر, وأما المبتدع الفاسق فإنه لا يزال في دائرة الإسلام, فإبطال أعماله مطلقاً لا دليل عليه فضلاً عن مخالفته للأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة فالأصل أن أعمال المبتدع الفاسق مقبولة إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها, وقد قرر أهل العلم أن شرط قبول الأعمال الإخلاص والمتابعة, فأما بدعته التي جاء بها فإنها غير مقبولة, لا لأنه مبتدع وإنما لإخلاله بشرط قبول العمل الذي هو المتابعة ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) وفي رواية (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) أي أن هذا العمل بعينه مردود عليه, وأما بقية أعماله التعبدية التي توفر فيها شرط الإخلاص والمتابعة فإنها مقبولة, إلا أننا نقول إن السيئة قد تحبط الحسنة التي تقابلها فمعصية ارتكاب هذه البدعة قد يحبط شيئاً من أعماله وطاعاته المقابلة لها, كما أن الحسنة تذهب السيئة بقدرها فكذلك السيئة تذهب الحسنة بقدرها, فبطلان أعمال المبتدع الفاسق يبحث فيها من جهتين:- الأولى:- في بطلان العمل الذي اشتملت عليه بدعته هذه لاختلال شرط قبول العمل فيها وهو المتابعة, والثانية:- في بطلان ما يقابلها من الحسنات, وأما أصل أعماله الباقية التي جمعت بين شرطي الإخلاص والمتابعة فإنه(1/41)
مقبول وهذا واضح والله أعلم .
الفرع الرابع عشر :- هل تقبل شهادة المبتدع؟ أقول:- القول فيها يختلف باختلاف حال بدعته فأما صاحب البدعة المكفرة الذي انطبقت عليه شروط التكفير وانتفت موانعه فإن شهادته مقبولة إلا في حالة الاضطرار وهي حالة الإشهاد على الوصية في السفر عند عدم المسلم كما خصصها قوله تعالى { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ ...الآية } فلا تقبل شهادتهم على المسلمين إلا في هذا الموضع خاصة وأما في غيرها فإن أهل العلم متفقون على عدم شهادة الكافر على المسلم, وذلك كالرواية فرواية المبتدع لا تقبل بالاتفاق, كما حكاه النووي وكذلك شهادته لأن من شرط قبول الشهادة الإسلام, قال أبو العباس ( والكافر لا تقبل شهادته ) أي على المسلمين, فالمبتدع الكافر يعامل معاملة الكفار, ومما نعامل به الكفار أننا لا نقبل شهادتهم على المسلمين فكذلك المبتدع الكافر أيضاً لا تقبل شهادته على المسلمين, قال تعالى { وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء } فقوله { رِّجَالِكُمْ } أي من هو على ملتكم الإسلامية, وقوله { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء } والكافر ليس ممن نرضاه في الشهادة وقال تعالى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } وهو ضمير يعود على المؤمنين ولا يدخل فيها الكافر في صدرٍ ولا ورد, بل لا نعلم بين أهل العلم رحمهم الله تعالى في أن المبتدع الكافر لا تقبل شهادته على المسلمين وذلك لكفره فالكافر المبتدع كالكافر الأصلي في حكم رد شهادته, ولا فرق في الحكم بين كافر(1/42)
ببدعته أو كافرٍ بغيرها, وقد تقرر في القواعد أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين ولا تجمع بين مختلفين, وبناءً عليه فالرافضة والقدرية والدروز والقاديانية وغلاة الصوفية عبَّاد القبور والنصيرية والباطنية والإسماعيلية, والبهائية ومن في حكمهم كل هؤلاء لا تقبل شهادتهم على المسلمين لأنهم كفار خارجون عن دائرة الإسلام, وكذلك من ينكر حدوث العالم وحشر الأجساد وعلم الرب تعالى بجميع الكائنات وأنه فاعل بمشيئته وقدرته وإرادته ونحو هؤلاء فلا تقبل شهادتهم لأنهم على غير الإسلام, وكذلك من يقول إن القرآن مخلوق أو يزعم أن تحكيم الشرع لا يليق بهذا الزمان أو أن الإسلام دين فاسد لا يصلح تطبيقه في هذا الزمان, ونحو هذه المقالات الكفرية فأصحابها لا تقبل شهادتهم لأنهم خلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم, والخلاصة:- أن المبتدع الكافر المحكوم بكفره لتوفر الشروط وانتفاء الموانع لا تقبل شهادته وعلى ذلك وردت نصوص أهل السنة, وهي كثيرة لاسيما في حق القدرية ومن قال بخلق القرآن وساب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -, وأما المبتدع الفاسق ببدعته فإنه لا يزال في دائرة الإسلام, فالأصل قبول شهادتهم إلا أن يكون ممن يتدين بالتقية والكذب أو كان داعية صلفاً من أجلاف الدعاة إلى بدعتهم, فهاتان الطائفتان ترد شهادتهم لا لأنهم كفار وإنما لأن الشهادة مبناها على التوثيق والصدق وهؤلاء ليسوا بثقات ولا هم في عداد الصادقين, ولأن هذا النوع من المبتدعة يجب زجره بهجره والهجر له صور كثيرة ومن صوره رد شهادتهم فالداعية من أهل البدع لا يستشهد ولا يروى عنه, من باب الزجر والعقوبة والنكال, وأما المبتدع المستور الذي ليس بداعية والذي لا يتدين بالكذب في سبيل نشر بدعته والترغيب فيها فهذا تقبل شهادته, ويجرى حكمها على ما ظهر لنا منه, وهذا القول وسط بين الأقوال, قال أبو العباس ( ومن عرف هذا تبين له أن من رد الشهادة والرواية مطلقاً من أهل البدع المتأولين(1/43)
فقوله ضعيف, فإن السلف قد دخلوا بالتأويل في أنواع عظيمة ومن جعل المظهرين للبدعة أئمة في العلم والشهادة لا ينكر عليهم بهجر ولا ردع فقوله ضعيف أيضاً ) ا.هـ. وخلاصة الكلام أنه قد تحصل عندنا أنواع من المبتدعة :-
الصنف الأول :- المبتدعة الذين يكفرون ببدعتهم فهؤلاء لا تقبل شهادتهم بالاتفاق والنص الصحيح إلا في الحالة المستثناة سابقاً .
الصنف الثاني :- المبتدعة الفساق الدعاة إلى بدعهم فهؤلاء لا تقبل شهادتهم من باب الزجر بالهجر والتعزير والعقوبة والنكال .
الصنف الثالث :- المبتدعة الفساق الذين يتدينون بالكذب والمنافقة لأهل الإيمان ويرون جواز الكذب لموافقيهم فهؤلاء لا تقبل شهادتهم وهذا باتفاق أهل السنة فيما نعلم .
الصنف الرابع :- المبتدع المستور الذي لا يتدين بالكذب وليس من الدعاة إلى بدعته فهذا جارٍ على الأصل في قبول شهادته .
الصنف الخامس :- المبتدعة الذين يُكَفِّرون بكبيرة الكذب كالخوارج والمعتزلة فإن هؤلاء يرون الكذب من الكفر, وهؤلاء يجتهد الحاكم في شهادتهم, وهذا ملخص ما قاله أهل السنة في هذه المسألة والله أعلم .(1/44)
الفرع الخامس عشر :- هل يناكح أهل البدع؟ أقول:- هذا الفرع مخرج على القاعدة التي نحن بصدد شرحها فأقول:- أما المبتدع الكافر المحكوم عليه بالكفر لانطباق شروط التكفير وانتفاء موانعه فهذا لا يجوز نكاحه إن كان امرأة ولا إنكاحه إن كان رجلاً لأنه كافر ببدعته، والمبتدع الكافر ليس بكفؤ للمسلمة وكذلك لا يجوز نكاحها إن كانت مبتدعة كافرة، وذلك كما قال تعالى { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ...الآية } وقال تعالى { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وقال تعالى { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } بل إن المسلم يجوز له أن ينكح المشركة الكتابية بدليل قوله تعالى { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ...الآية } وأما المبتدعة الكافرة ببدعتها فلا يجوز نكاحها مطلقاً حتى تتوب من بدعتها المكفرة توبة صادقة لأنها حال كونها متلبسة بدعتها المكفرة فهي مرتدة والمرتدة حقها القتل بعد الاستتابة فلا يجوز نكاحها، وعليه فلا يجوز للمسلم أن ينكح رافضية أو إسماعيلية أو ذرزية أو قاديانية أو بهائية أو قدرية أو نصيرية أو تناسخية أو حلولية أو وجودية أي من أهل وحدة الوجود ومن في حكم هؤلاء لأنهن مرتدات كافرات خارجات عن دائرة الإسلام، وكذلك لا يجوز لولي المسلمة أن ينكحها لأحد من هذه المذاهب الكفرية الفاسدة، قال ابن بطة ( الرافضة لا تنكح(1/45)
نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم لأنهم أهل ردة ) وأفتى سهل بن عبدالله التستري بحرمة النكاح من المعتزلة لأنهم كفار عنده، وأفتى أبو حامد الغزالي بحرمة نكاح نساء الباطنية لأنهم كفار مرتدون، ويقول أبو العباس في حال النصيرية والإسماعيلية ( فإن جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى فإن لم يظهر عن أحدهم ذلك كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفراً فلا يجوز أن يقر بين المسلمين لا بجزية ولا ذمة ولا يحل نكاح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم لأنهم مرتدون من شر المرتدين ) وقال في النصيرية أيضاً ( وقد اتفق علماء المسلمين أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم، ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم ولا يتزوج منهم امرأة ولا تباح ذبائحهم )ا.هـ. قلت:- بل وقد أجمعت الأمة - فيما نعلم - على حرمة تزويج المبتدع الكافر بامرأة من أهل السنة فقد أفتى جمع من أهل السنة بحرمة نكاح نساء القدرية، وأفتى جمع منهم بحرمة نكاح نساء الرافضة، وأفتى جمع منهم بحرمة نكاح نساء النصيرية والإسماعيلية، وأفتى جمع منهم بحرمة نكاح من قال بخلق القرآن، وأفتى جمع منهم بحرمة نكاح من قال:- ليس في السماء شيء، ولا تختلف كلمتهم - ولله الحمد - في أن المبتدع الكافر لا يتزوج السنية، بل إن بعض أهل العلم قد حكم بوجوب الفسخ لو وقع العقد، وزاد على ذلك بعضهم بوجوب تعزير الزوجين السني والمبتدعة الكافرة أو العكس، بل وأفتى بتعزير كل من سعى بينهما بالتوفيق بينهما، كل ذلك لأنه كافر والكافر لا ينكح المسلمة، وكذا المسلم لا ينكح المبتدعة الكافرة، وأما المبتدع الفاسق فإنه لا يزال معه أصل الإسلام، وقد اختلف أهل العلم في نكاحه وإنكاحه والصحيح إن شاء الله تعالى أن النكاح لو وقع بينهما فهو عقد صحيح لكنه غير ملزم أي أنه يجوز للسني منهما أن يفسخه إذا لم تتعدل الحال، وبقي المبتدع الفاسق على ما هو عليه ذلك لأن الكفاءة في الدين(1/46)
معتبرة، فإذا رضي أولياء المرأة بهذا المبتدع الفاسق زوجاً لموليتهم وأبرموا عقدة صح النكاح لكن لهم الحق أن يفسخوا هذا العقد متى شاؤوا، فوجود هذا الفسق بارتكاب البدعة مانع من لزوم عقد النكاح، ولكنه ليس بمانع صحة النكاح، هذا خلاصة البحث في هذه المسألة، إذا علمت هذا فاعلم أن ولاية الولي على المرأة نوع أمانة فيجب على الولي أن يصون هذه الأمانة ويحفظها من كل خدش فلا يسلم هذه الأمانة إلا لمن يستحقها ديناً وأدباً وفضلاً فلا يجوز له أن يرمي موليته في أحضان أهل البدع، فإنه مسئول عن هذه الأمانة، وهي من رعيته ورميها عند المبتدع غش لها في دينها والغش في الأمانة على الرعية كبيرة من عظائم الذنوب وموبقة من موبقات الآثام والله أعلم .(1/47)
الفرع السادس عشر :- الصلاة خلف المبتدع؟ هل تجوز أو لا؟ أقول:- الجواب مفرع على هذه القاعدة العظيمة المهمة, فأما المبتدع ذو البدعة المكفرة والمحكوم بكفره فإن الصلاة خلفه لا تصح بالاتفاق, أعني إجماع أهل السنة ومن صلى خلف مبتدع كافر ببدعته فعليه الإعادة عند سائر أهل العلم, لأن الصلاة خلف المبتدع الكافر ببدعته غير صحيحة باتفاق العلماء, كالقدري فإن الأئمة من أهل السنة قد أفتوا ببطلان الصلاة خلفهم, وكالجهمي المنكر لأسماء الله وصفاته فإن الأئمة قد أفتوا ببطلان الصلاة خلفهم, وكالرافضة فإن الأئمة قد أفتوا ببطلان الصلاة خلفهم فقد تواطأت كلمة أهل السنة على بطلان الصلاة خلف هؤلاء, وذلك لأنهم محكوم عليهم بالكفر ببدعتهم وهكذا شأن كل مبتدع فاسق, وهذا الحكم من الأحكام العامة والمطلقة وأنت تعرف أن التكفير العام لا يستلزم تكفير الأعيان إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع, ولذلك فإن من لم يثبت كفره من هؤلاء فلا يحكم ببطلان الصلاة خلفه, وقد كان الإمام أحمد يصلي خلف من يقول:- القرآن مخلوق, وهذا محمول على أنه كان يعتقد أن الحجة التي يكفر مخالفها لم تثبت عليهم بعد, إما لجهلهم أو لمانع آخر من موانع التكفير, وهذه قضية عين, وإلا فهو رحمه الله تعالى كان يقول ( من قال بخلق القرآن فهو كافر ) وكان ينهى عن الصلاة خلف الجهمية ولكن هذه الأحكام العامة لا تستلزم دخول الأفراد فيها إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع وبه تعلم أننا إذا قلنا:- لا تصح الصلاة خلف الجهمية ولا الرافضة ولا القدرية ولا القاديانية ولا البهائية ولا الدروز ولا الأحباش ولا الإسماعيلية ونحوهم, فإن هذا من الأحكام العامة المطلقة ويبقى النظر في الشخص من هؤلاء يفتقر إلى شيء زائد وهو التأكد من ثبوت الشروط وانتفاء الموانع, فلا يستدل بهذه الأحكام العامة على بطلان الصلاة خلف واحدٍ معين منهم إلا إذا كان محكوماً بكفره, فأرجو التنبه لهذا, ولكن أرجو(1/48)
أن تفهم مسألة ثانية:- وهي أن من مقاصد الدين حفظ الدماء, واتحاد الكلمة, والنهي عن الافتراق, فإذا كان إمامك في الصلاة لاسيما في صلاة الجمعة والعيدين هو الإمام الأعظم وكان مبتدعاً يكفر ببدعته فأقم الصلاة خلفه وأعدها فيما بينك وبين نفسك, وذلك لجمع الكلمة وحتى لا تفترق الأمة وحتى تحفظ الدماء, ويروى عن يحيى بن معين أنه كان يعيد صلاة الجمعة مذ أظهر المأمون القول بخلق القرآن, وكذلك كان الإمام أحمد فقد ذكر أبو داود في مسائله عن الإمام أحمد أنه سأله عن حكم صلاة الجمعة أيام كان يصلي الجمع خلف الجهمية فقال:- أنا أعيد, ومتى ما صليت خلف أحد ممن يقول القرآن مخلوق فأعد, وقرر ذلك الإمام البربهاري رحم الله الجميع رحمة واسعة فإنه قال (والصلوات الخمس جائزة خلف من صليت إلا أن يكون جهمياً فإنه معطل وإن صليت خلفه فأعد صلاتك) وقال البربهاري أيضاً ( وإن كان إمامك يوم الجمعة جهمياً وهو سلطان فصل خلفه وأعد صلاتك ) فمن ابتلي بذلك في زمن من الأزمنة فليصل خلفه وليعد صلاته فيما بينه وبين نفسه والله المستعان, فهذا بالنسبة للمبتدع الذي يكفر ببدعته فالصلاة خلفه لا تصح لأن صلاته أصلاً في نفسه لا تصح ومن لم تصح صلاته بنفسه لم تصح بغيره, ولأن الصلاة عبادة والعبادات من شرطها الإسلام، وهذا كافر ببدعته فلا تصح صلاته ولا إمامته، ولأن أهل العلم اتفقوا على بطلان الصلاة خلف الكافر ببدعته والإجماع حجة شرعية يجب قبولها واعتمادها وتحرم مخالفتها لكن سلطان المسلمين إذا كان ممن يكفر ببدعته فله حكم آخر لاسيما إذا لم يستطع المسلمون إبعاده عن منصبه والله أعلم. وأما إن كان المبتدع لا يكفر ببدعته فلا يخلو:- إما أن يكون هو إمام المسلمين الذي لا تقام الجمعة ولا الأعياد ولا الجماعات إلا خلفه فهذا تجب الصلاة خلفه ولا يتخلف عنها والحال هذه إلا مبتدع، وعلى ذلك صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ذلك جرت تقارير أهل السنة رحم(1/49)
الله أمواتهم وثبت أحياءهم، بل وجعلوا الصلاة خلف هؤلاء من جملة عقائدهم التي يقيدونها في مصنفاتهم العقدية، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبيدالله ابن عدي - رضي الله عنه - أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال:- إنك إمام عامة ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج فقال:- الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسن الناس فأحسن معهم وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم. وقد صلى بعض الصحابة خلف أهل البدع كابن عمر وغيره من الصحابة المتأخرين فإنه لما حج نجدة الحروري وادع ابن الزبير فكان يصلي هذا تارة وهذا تارة وصلى ابن عمر وراءهما فقيل له:- أتصلي وراء نجدة الحروري، فقال ابن عمر:- إذا نادوا حي على خير العمل أجبنا وإذا نادوا حي على قتل النفس قلنا:- لا، ورفع بها صوته، وقال ابن حزم ( ما نعلم أحداً من الصحابة - رضي الله عنهم - امتنع عن الصلاة خلف المختار، وعبيدالله بن زياد والحجاج ولا فاسق أفسق من هؤلاء وقد قال تعالى { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } )ا.هـ. وقد صلى ابن مسعود خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو شريب للخمر، وعلى ذلك جرى أهل السنة رحمهم الله تعالى، قال الأعمش رحمه الله تعالى ( كان كبار أصحاب عبدالله بن مسعود يصلون الجمعة خلف المختار ويحتسبون بها ) وسأل رجل الحسن البصري عن رجل من الخوارج يؤمهم في الصلاة؟ فقال:- نعم قد أم الناس من هو شر منه. وسئل قتادة:- أنصلي خلف الحجاج؟ فقال:- إنا لنصلي خلف من هو شر منه، قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( ثم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً ويحافظون على الجماعات )ا.هـ. وقال ابن عبدالبر رحمه الله تعالى ( ولا خلاف بين العلماء أن الحج يقيمه السلطان للناس، ويستخلف على ذلك من يقيمه لهم على شرائعه(1/50)
وسننه، ويصلى خلفه الصلوات كلها براً كان أو فاجراً أو مبتدعاً ما لم تخرجه بدعته من الإسلام )ا.هـ. وقال أبو العباس ( ولهذا قالوا في العقائد إنه يصلى الجمعة والعيد خلف كل إمامٍ براً كان أو فاجراً وكذلك إذا لم يكن في القرية إلا إمام واحد فإنها تصلى خلفه الجماعات فإن الصلاة في جماعة خير من صلاة الرجل وحده وإن كان الإمام فاسقاً )ا.هـ. وقال أيضاً ( ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة، والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون كما كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج وابن مسعود وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة، وكان يشرب الخمر حتى إنه صلى بهم مرة الصبح أربعاً ثم قال:- أزيدكم، فقال ابن مسعود:- ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة )ا.هـ. وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب في العقيدة ( وأرى الجهاد ماضياً مع كل إمام براً كان أو فاجراً وصلاة الجماعة خلفهم جائزة )ا.هـ. وقال في اعتقاد أئمة الحديث ( ويرون الصلاة الجمعة وغيرها خلف كل إمام براً كان أو فاجراً فإن الله عز وجل فرض الجمعة وأمر بإتيانها فرضاً مطلقاً مع علمه تعالى بأن القائمين يكون منهم الفاجر والفاسق ولم يستثن وقتاً دون وقت ولا أمراً بالنداء للجمعة دون أمر )ا.هـ. وقال ابن قدامة في اللمعة ( ونرى الحج والجهاد ماضياً مع طاعة كل إمام براً كان أو فاجراً،وصلاة الجمعة خلفهم جائزة )ا.هـ. وقال أبو الحسن الأشعري في الإبانة ( ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل برٍ وفاجر )ا.هـ. وقال ابن قدامة (فأما الجمع والأعياد فإنها تصلى خلف بر وفاجر)ا.هـ. والنقول في هذا المعنى كثيرة جداً لا تكاد تحصر، وبه تعلم أن كلمة أهل السنة قد اتفقت من لدن عصر الصحابة إلى هذا العصر على جواز إقامة الصلوات من الجمع والأعياد والصلوات الخمس خلف الأئمة وأن(1/51)
من ترك الصلاة خلفهم وعطل الجمع والجماعات فإنه مبتدع ساعٍ في تفريق الأمة وبث الخلاف وتمزيق الصف, وهذا كله في إمام المسلمين الذي لا تمكن إقامة الجمع والجماعات والأعياد إلا خلفه بغض النظر عن كونه داعية إلى بدعته أو غير داعية إليها, وأما إن كان هذا الإمام المبتدع من جملة أئمة المساجد في البلد فاعلم يا أخي أن العلماء متفقون على كراهة الصلاة خلف المبتدعة والفساق, قال ابن تيمية ( الأئمة متفقون على كراهة الصلاة خلف الفساق )ا.هـ. واتفقوا أيضاً على أن المبتدع والفاسق لا ينبغي توليته إماماً يصلي بالمسلمين, قال ابن تيمية ( ولم يتنازعوا أنه لا ينبغي توليته )ا.هـ. واتفقوا أيضاً على أنه كلما كان الإمام أوثق في سيرته وأعدل في ديانته وأجمع للشروط المعتبرة للإمامة فإن الصلاة خلفه أفضل وأكمل وأتم, حكاه جمع من أهل العلم, فهذه ثلاث مسائل متفق عليها بين العلماء ولم يخالف فيها أحد, الأولى:- الاتفاق على كراهة الصلاة خلف المبتدع الذي لا يكفر ببدعته الثانية:- الاتفاق على أنه لا ينبغي توليته في هذا المنصب, الثالثة:- الاتفاق على أفضلية الإئتمام بالكامل في دينه والمحمود في سيرته والأجمع للشروط المعتبرة في الإمامة, ولكن الذي اختلف فيه أهل العلم هو أن المبتدع المعلن ببدعته إذا صلى أحد خلفه فهل يعيد الصلاة أم لا؟ فيه قولان مشهوران, والأصح صحتها خلفه, وهو قول أكثر أهل السنة وهو قول أبي حنيفة والشافعي وقول في مذهب أحمد ومالك, واختاره جمع كبير من أئمة الدعوة النجدية واختاره أبو العباس ابن تيمية والشيخ ابن باز, بل حكاه عن عامة أهل السنة, وذلك لأن صلاة المبتدع الذي لا يكفر ببدعته صحيحة في نفسها ومن صحت صلاته بنفسه صحت بغيره إلا بدليل, ولأن الأصل أن العبادة المنعقدة بالدليل لا تنقض إلا بالدليل, ولأن الإبطال حكم شرعي والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, ولأنه ليس من شروط صحة الإمام أن يكون(1/52)
الإمام عدلاً في دينه, فهذا شرط كمالي لكنه ليس بشرط صحة, فمن اشترط ذلك وجعله شرط صحة فإنه مطالب بالدليل لأن الأصل في الاشتراط الشرعي التوقيف على الدليل, ولأن هذا هو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين, ولكن ومع القول بالصحة إلا أن الصلاة خلفه مكروهة لأنه معلن ببدعته, مجاهر بها داعٍ إليها, ولأن الصلاة خلفه ممكنة, وأما إذا لم تمكن الصلاة إلا خلفه فإن الكراهة تزول, لأن الكراهة عند الحاجة, قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ( والفاسق والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب, ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجوراً لا يرتب إماماً للمسلمين فإنه يستحق التعزير حتى يتوب فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان فيه مصلحة, ولم يفت المأموم جمعة ولا جماعة, وأما إذا كان ترك الصلاة يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة - رضي الله عنهم - )ا.هـ. وأما المبتدع المستور ببدعته أي الذي يعمل بها في نفسه ولا يظهرها لأحد ولا يدعو لها أحداً فإن الصلاة خلفه صحيحة جائزة ولكن الصلاة خلف السني المستقيم في دينه وسيرته أحسن وأكمل, فإن تركت الصلاة خلف هذا الرجل فلا تتركها من باب التعزير بالهجر لأنه مستخفٍ ببدعته غير مظهر لها, وإنما يكون الإنكار الظاهر فيمن أظهر مخالفته، ولكن ترك الصلاة خلفه إنما يراد به طلب الكمال في تحصيل الإمام الأفضل. وهذا خلاصة ما قرره أهل السنة في هذه المسألة، فإن قلت لقد أطلت وأمللت، فأقول:- سوف ألخص لك هذه المسألة في فروع :-(1/53)
الأول :- إمام المسلمين الذي لا تقام الجمعة والجماعات والأعياد إلا خلفه لا يجوز التخلف عن الصلاة خلفه، فإن كان كافراً ببدعته فصل خلفه وأعد وإن كان غير كافرٍ ببدعته فصل ولا تعد.
الثاني :- من نصبه ولاة الأمر إماماً بأهل بلدٍ معين ولا يمكن أهل البلد إلا أن يصلوا خلفه فهذا لابد من الصلاة خلفه سواءً كان داعية لبدعته أو غير داعية لبدعته، لكن إن كان هذا يكفر ببدعته فلا تصل خلفه لأنه ليس هو إمام المسلمين الأعظم الذي تحصل القلاقل والفتن بترك الصلاة خلفه، وأما إن كان غير كافرٍ ببدعته فلابد من إقامة الجماعة خلفه .
الثالث :- الداعية لبدعته الصلاة خلفه صحيحة مكروهة إن أمكن صلاتها خلف غيره .
الرابع :- المسر ببدعته, تصح الصلاة خلفه, ولكن كلما كان الإمام أجمع للشروط المعتبرة كانت الصلاة أكمل, ودونك هذا الرسم البياني الذي يجمع أطراف المسألة في ذهنك :-(1/54)
الفرع السابع عشر :- هل تقبل توبة صاحب البدعة؟ أقول:- أن البدعة مهما كانت لا تعد وأن تكون ذنباً ومعصية، فإذا أمكن الله المبتدع من التوبة وشرح صدره لها واستجمع شروطها وكانت توبة صادقة فإنها تكون مقبولة، لأنها عبادة والعبادة لا تصح إلا إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها، وقد دل على ذلك الأدلة المتواترة قال تعالى { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } فقوله { الذُّنُوبَ } جمع دخلت عليه الألف واللام الاستغراقية، وقد تقرر في الأصول أن الجمع إذا دخلت عليه ( أل ) الاستغراقية أفادته العموم، وقد أكد هذا العموم بعموم آخر، وهو قوله { جَمِيعًا } فيدخل في ذلك كله الذنوب، وقد تقرر في الأصول أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ولا نعلم دليلاً صحيحاً صريحاً يخصص ذنب الابتداع، سواءً المكفر أو غير المكفر وقال تعالى بعد ذكر ذنب الشرك وقتل النفس بغير حق والزنا فقال بعد ذلك { إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } وقال تعالى { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } وقال تعالى { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } وقال تعالى { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } وقال تعالى { غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ } وفي الحديث (( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه )) وفيه (( ويتوب الله على من تاب )) وفيه (( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها )) وفيه (( إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم(1/55)
يغرغر )) وفيه (( إن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه )) وهذه الأحاديث قد اشتملت على عمومات كثيرة كلها تفيد قبول توبة المبتدع إذا استجمعت شروطها وانتفت موانعها، وهذه العمومات لا يجوز تركها لقول أحدٍ من الناس كائناً من كان ولكن لابد من النظر في عدة أمور :-
الأول :- أن التوبة حقيقتها معرفة قبح الذنب، فأول منازل التوبة هذه المعرفة التي يعقبها الاعتراف بالذنب والندم والإقلاع وتصحيح المسار وهذه المعرفة قد تغيب عن أكثر المبتدعة لأن قلوبهم وعقولهم ما سلكت طريق هذه البدعة إلا لأنها حسنة عندهم وأنها نوع قربة وطاعة، وأنها مما يحبه الله ويرضاه، وأنها مما يجب فعله أو يستحب، وهذا الاعتقاد ليس بالسهل اقتلاعه من النفوس والعقول والقلوب، فهو عسير إلا على من وفقه الله تعالى وأراد به خيراً، ولذلك وردت عبارات بعض السلف في استبعاد توبة الدعاة للبدعة والموغلين فيها، قال الإمام أحمد ( من أحب الكلام لم يخرج من قلبه ) وقال ( لا يوفق، ولا ييسر صاحب بدعة لتوبة ) وقال جمع من السلف كالثوري وغيره ( البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها ) وقال بعضهم ( إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة ) ونحو هذه النصوص، ذلك لأن التوبة من الشيء مبناها على معرفة القلب والروح لقبح هذا الشيء، وقليل من المبتدعة هم الذين ينقدح ذلك في قلوبهم، فكلام السلف الذين نفوا التوبة عن أهل البدع، لا يقصدون بذلك عدم قبولها، وإنما يقصدون أن غالب أهل البدع لا يوفقون للتوبة لعدم استشعار قلوبهم لقبح ما هم عليه وهذا يفسره قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته ))"حديث حسن" لأنه ما دام على بدعته فإنه لا يزال مستحسناً لها، وكيف تكون التوبة وقلبه يرى أنها قربة وطاعة؟ ويوضح هذا الأمر الثاني .(1/56)
الأمر الثاني :- أن من عقوبة الله تعالى لأهل الزيغ أن يزيدهم زيغاً، كما قال تعالى { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وقال تعالى { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } وقال { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وقال { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } وقال { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } فإذا توغل المبتدع في بدعته ونافح عنها وأبغض الحق وأهله وحاربهم ووقف منهم موقف المعادي فإن هذا النوع يزاد في ضلاله ويترك في ريبه يتردد ويضاعف عليه زيغ قلبه ومثل هذا قد لا يوفق للتوبة، فلما نظر بعض أهل السنة إلى هذه النصوص قالوا بمقتضاها، وإلا فلو وفق الله بعضهم وشرح صدره للتوبة النصوح لكانت مقبولة منه ولكن هذا قليل في المبتدعة لاسيما في الدعاة الكبار إلى البدع والضلالة، ويوضح هذا الأمر الثالث .(1/57)
الأمر الثالث :- أن من عقوبة الله لأهل الضلال وأتباع الهوى أن يزين لهم أعمالهم في قلوبهم وأن يشربهم حب هذه المخالفة ليحجب قلوبهم عن رؤية قبحها فلا يوفقون للتوبة، بل لا يزدادون على طول الوقت إلا حباً لها وإعجاباً بها، وهذا حال أكثر المبتدعة، قال تعالى { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } وقال تعالى { أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } وقال تعالى { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا...الآية بعدها } ولذلك - كما ذكرت لك - أن التوبة من البدعة مبناها على معرفة قبح الله البدعة ومخالفتها للشرع فكيف تطلب التوبة من مبتدع وهو يرى أن بدعته أصلاً هي عين الشرع ولبه وجماعه وأصله وكماله؟ فالله المستعان .(1/58)
الأمر الرابع :- أن الأمور الثلاثة السابقة بمجموعها تجعل الناظر فيها يرحم أهل البدع بالنظر القدري لا الشرعي, فإنك إذا رأيت اجتهادهم في بدعتهم وتهافتهم على تطبيقها وبذلهم الغالي والنفيس في سبيل إحيائها ورأيت عظيم إعجابهم بما هو سبب عطبهم وهلاكهم وخسارتهم فإنك لترحمهم بعين القدر, إذ أنهم بذلوا أرواحهم وأموالهم وأوقاتهم فيما يباعدهم من الله والدار الآخرة, وما يقربهم من سخطه وأليم عقابه في الدنيا والآخرة, وعرفت عظيم نعمة الله عليك بالهداية إلى طريق السنة والاستمساك بغرز الصراط المستقيم وهي النعمة الحقيقية التي لا توازيها نعمة, أعني نعمة الهداية إلى الحق والثبات عليه, فاحمد الله تعالى واشكره دائماً وأبداً واثن عليه بنعمه العظيمة وآلائه الجسيمة وأكثر من دعائه بالثبات إلى الممات, والله المستعان .
الأمر الخامس :- إن المبتدع المحكوم عليه بالكفر لابد أن تكون توبته بالنطق بالشهادتين, لأنه كافر خارج عن ملة الإسلام بهذه البدعة الكفرية فحاله كحال الكافر إذا أراد أن يدخل في الإسلام, فلابد من النطق بالشهادتين قولاً واعتقاداً وعملاً ويشرع له بعد توبته وعودته للإسلام أن يغتسل كحال الكافر الأصلي, وأما المبتدع الفاسق فتوبته تكون كتوبة عصاة الموحدين, وهو أن يقلع عن هذه البدعة فوراً وأن يندم على ما فات وأن يعزم على عدم العودة إليها, ولا يلزمه أن ينطق بالشهادتين لأنه لا يزال في دائرة الإسلام .(1/59)
الأمر السادس :- اعلم أن من كمال توبة المبتدع أن يبين للناس بطلان بدعته وأنه كان على خطأ وأن يحذر الناس من الوقوع فيما وقع فيه من البدعة والضلال, وأن يوضح لهم أن ما كان عليه من البدعة طريق مخالف للشرع وأن الحق في تركها وأن ينهى الناس عن متابعته فيها, وأن يكون قوياً في نشر السنة والحق بالتأليف والمشافهة والتعليم كما كان قوياً في نشر البدعة والباطل الذي كان عليه, فإذا فعل ذلك فإنه لا يضره من تابعه على بدعته بعد بيان الحق واتضاح السبيل وكل سيحاسب على عمله والله المستعان .
الأمر السابع :- أن توبة المبتدع متصورة عقلاً وواقعة حساً ومقبولة شرعاً إذا استجمعت شروط
قبولها وانتفت موانعه لعموم الأدلة لأن التوبة النصوح الصادقة لا يتعاظمها شيء وقد قدمنا الأدلة على ذلك وبهذه الأمور يتضح لك طريق أهل السنة في مسألة توبة المبتدع والله ربنا أعلى وأعلم.(1/60)
الفرع الثامن عشر :- هل نكاح المبتدع باق على حاله أم ماذا؟ الجواب:- هذا يفرع على هذه القاعدة فأما المبتدع المحكوم بكفره لوقوعه في البدعة المكفرة مع ثبوت الشروط وانتفاء الموانع فإن نكاحه ينفسخ إذا كانت امرأته من أهل السنة, ذلك لأنها مسلمة وهو كافر, ولا يجوز بقاء المسلمة تحت الكافر أياً كان سبب كفره, لعموم قوله تعالى { لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } فتفسخ منه وتعتد وتحل للخطاب, فإن تاب ونزع عن هذه البدعة فلا يخلو, إما أن تكون توبته حصلت قبل انقضاء العدة وإما بعدها, فإن حصلت قبل انقضاء العدة فإنها ترجع إليه بلا عقد, وإن كان بعد انتهاء العدة فله أن يراجعها لكن بعقدٍ جديد ومهرٍ جديد على ظاهر المذهب وذهب بعض أهل العلم إلى أنها ترد إليه - إن شاءت - بالنكاح الأول قال أبو العباس ( إذا ارتد ولم يعد إلى الإسلام حتى انقضت عدة امرأته فإنها تبين منه عند الأئمة الأربعة ) فإن قلت:- وكم عدتها؟ فأقول:- تعتد عدة مطلقة بالاتفاق, قال موسى بن أبي كثير:- قلت لسعيد ابن المسيب:- كم تعتد امرأته؟ - يعني المرتد - قال:- ثلاثة قروء, أخرجه عبدالرزاق وابن أبي شيبة بسندٍ صحيح, وعن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى أنه قال في الرجل يؤسر ويتنصر, قال ( إذا علم ذلك منه برئت منه امرأته واعتدت ثلاثة قروء ) أخرجه عبدالرزاق بسندٍ صحيح, وقال الثوري ( إذا ارتدت المرأة ولها زوج ولم يدخل بها فلا صداق لها وقد انقطع ما بينهما فإن كان قد دخل بها فلها الصداق كاملاً ) وقيل للإمام أحمد:- رجل لحق بدار حربٍ أتبين منه امرأته؟ فقال:- أليس ارتد؟ قيل:- نعم, فقال:- قد اختلفوا فيه فقال بعضهم:- تبين امرأته وقال بعضهم لا تبين, وروى إسحاق بن منصور المروزي عن الإمام أحمد قال:- المرأة إذا ارتدت من زوجها, قال:- لا، هو ممنوع منها فإذا انقضت العدة بانت منه, فإن تابت أو تاب في العدة فهما على نكاحهما هذا في الرجل(1/61)
والمرأة أيهما يرتد, وهذا كله في المبتدع المرتد بهذه البدعة وأما المبتدع الفاسق ببدعته فإنه يقر على نكاحه ولا يمنع من زوجته لكن لها حق الفسخ متى شاءت لعدم الكفاءة في الدين, فإذا أرادت فسخ نكاحها منه فلها ذلك مجاناً, وإن شاءت أن تبقى تحته فلها ذلك, وهذا يختلف باختلاف تحقق المصلحة من عدمها, فإن رأت أن بقاءها تحته وهو على بدعته فيه مصلحة خالصة أو راجحة فلها البقاء وإن رأت أن بقاءها تحته وهو على هذه الحال فيه مفسدة خالصة أو راجحة فينبغي لها طلب الفسخ, فلتنظر في أمرها ولتستخر الله جل وعلا وتشاور أهل العلم في حال زوجها ولتدع الله بالهداية ولتبذل معه كل أوجه النصح والإرشاد عسى الله تعالى أن يهديه على يديها فيكون ذلك خير لها من حمر النعم, والمقصود أن الإنسان إذا كان سنياً ثم سلك طريق بدعة وله زوجة سنية فإن الحال تختلف باختلاف حال البدعة كما فصلناه لك والله أعلم .(1/62)
الفرع التاسع عشر :- ما الحكم في غيبة المبتدع؟ الجواب:- أقول:- قبل البحث في ذلك لابد أولاً أن تفهم عدة أمور:- الأول:- أن الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة حرمت غيبة المسلم كما قال تعالى { وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا } وفي قوله { لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } وفي الحديث (( الغيبة ذكرك أخاك بما يكره )) وفي الحديث:- حسبك من صفية كذا وكذا فقال (( مه, لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته )) وفي الحديث (( وأربى الربى أن يتطاول في عرض مسلم )) والأحاديث في تحريم الغيبة وذمها كثيرة جداً فالأصل الذي سننطلق منه هو تحريم غيبة المسلم, الثاني:- اعلم أن الغيبة لها إطلاق لغوي ولها إطلاق شرعي, فهاهنا إطلاقان لابد من التفريق بينهما, فالغيبة اللغوية ذكرك أخاك بما يكره, والغيبة الشرعية:- ذكرك أخاك بما يكره لغير مصلحة دينية, والأدلة المحرمة للغيبة إنما تنزل عن السلف بالاتفاق على الغيبة الشرعية وهو القدح في المسلم بما يكره لغير مصلحة شرعية وأما الغيبة بما تتحقق به المصلحة الشرعية فإنه لا يدخل تحت الأدلة العامة المحرمة للغيبة, لأن الشريعة لا تأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة ولا تنهى إلا عن ما فيه مفسدة خالصة أو راجحة, وبناءً على ذلك فلا يجوز لك أن تذكر أخاك بما يكره إذا لم يترتب على ذلك مصلحة دينية معتبرة, وأما إذا كان ذكره بما يكره تترتب عليه المصالح الشرعية المعتبرة فإنه وإن سمي غيبة إلا أنه لا يكون منهياً عنه وهذا يتضح بالأمر الثالث وهو أن نقول:- إننا وإن قلنا إن الغيبة بما تتحقق به المصلحة الشرعية جائزة إلا أن هذا الجواز ليس على إطلاقه, بل يكون ذلك مقيداً بما تندفع به المفسدة وتتحقق به المصلحة الشرعية, ذلك لأن الأصل في الغيبة المنع ولكن جاز منها المقدار الذي تتم به المصلحة الشرعية, فلا يجوز للمسلم أن يستطيل في عرض أخيه بما هب ودب من(1/63)
قبائح الألفاظ بحجة أنه يريد التحذير منه, لا, هذا لا يجوز قطعاً وإنما له الحق أن يتكلم في أخيه بما يكره بقدر الضرورة وبقدر ما تندفع به المفسدة وتتحقق به المصلحة, وهذا يقدره العلماء, وذلك مثل الميتة فإن الأصل فيها التحريم ولكن يجوز منها للمضطر بقدر ما تندفع به ضرورته, ومثل الخمر فإن الأصل فيها التحريم ولكن يجوز منها للمضطر ما يدفع به غصته فقط, فالغيبة محرمة لكن جاز منها للضرورة ما تندفع به هذه الضرورة, والضرورة هنا تتمثل في وجوب التحذير من أهل الأهواء والبدع ومحاربة بدعهم وكشف زيفها وتحذير العامة من الوقوع فيها وبيان باطلها وكسرها على صخرة الدليل من الكتاب والسنة فإنه إذا سكت العلماء الربانيون عن أهل البدع وقعت الكوارث وانتشرت الشبه والبدع, واختلط الباطل بالحق, واختلط الحابل بالنابل, ولا يخفاك أيها الأخ الحبيب المبارك أن من ضرورات هذه الشريعة المقررة بالتواتر حفظ الدين ولا يتم حفظ الدين إلا بذكر أهل البدع والتحذير منهم وبيان بدعهم وكشف حالهم للناس فإنه إذا جازت لقمة من لحم ميتةٍ لإحياء النفس من الجوع, فلأن تجوز كلمة تحذير من مبتدع لإحياء الدين والسنة وإماتة الخرافة والبدعة من باب أولى, وإذا جازت شربة خمر لدفع غصة لا تدفع إلا بها لحماية النفس من الهلكة, فلأن تجوز كلمة حق في مبتدع يريد إفساد دين الأمة وزعزعة أمنها في دينها من باب أولى حماية لدين العامة والخاصة من الهلكة, فالسلف رحمهم الله تعالى إذا تكلموا في أهل البدع فإنهم يريدون بذلك تحقيق ضرورة من ضرورات الشرع وهي حفظ الدين, وقد تقرر في القواعد أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, ولا يتم حفظ الدين إلا بالتحذير من أهل الأهواء والبدع وكشف بدعهم وفضح باطلهم بالحق والعدل والإنصاف لا بالهوى والتعسف والإجحاف, وهذا يتضح بالأمر الرابع:- وهو أن السلف رحمهم الله تعالى لما قالوا:- لا غيبة المبتدع إنما يعنون بذلك الغيبة اللغوية,(1/64)
ويعنون بذلك أنه يجوز منها القدر الذي يتحقق به المصلحة وتزول به الضرورة, وتندفع به المفسدة, والأصل في ذلك عندهم حفظ الدين وحماية الشريعة وإماتة البدع وإحياء السنن وكشف باطل المبتدعة وتحذير الأمة من الغرور بمقالات أهل البدع, ولإقامة الحجة, والنصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم, وقياماً بواجب التذكير, وإحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل, ولإنارة معالم الطريق إلى الله تعالى بنور الهدى المؤصل على الكتاب والسنة على فهم السلف ورحمة بالعامة والخاصة ولبيان حقيقة الحال, هذه هي مقاصد سلف الأمة لما قالوا:- لا غيبة لمبتدع, فالمبدأ في ذلك رحمة الخلق وإحقاق الحق, ووالله ثم والله إن السلف لا يقصدون بذلك التشفي من أهل البدع ودرك الغيظ فيهم, أو أن ذلك لحظوظ شخصية ومرادات نفسية, أو أن المراد مجرد الفضائح ونشر القبائح هكذا جزافاً بلا مصلحة, أو أن المراد هو مجرد الحسد والعداوة المحضة, لا وألف لا, ومن نسبهم إلى ذلك في تحذيرهم من أهل البدع فهو أجهل وأضل من حمار أهله, ذلك لأن السلف رضوان الله عليهم لا يقولون في مبتدع كلمة إلا ويراقبون فيها جانب الإخلاص والعدل, فهم لا يقصدون بالطعن في أهل البدع إلا النصيحة للمسلمين بما يعود عليهم نفعه في العاجل والآجل, فافهم رعاك الله هذا الأمر فإنه مهم جداً, ويتضح هذا بالأمر الخامس:- وهو أن السلف رحمهم الله تعالى قد ضبطوا غيبة المبتدع بضوابط تدل على عدلهم وتظهر قصدهم وهذه الضوابط كلها مبدؤها العدل ومنتهاها المصلحة والرحمة, فمنها:- الإخلاص, أي أن يكون الدافع لك للكلام في هذا المبتدع محض الإخلاص والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين, فلا يكون ذلك لعداوات شخصية أو لحسد ونحو ذلك من المقاصد الفاسدة, ذلك لأن الكلام في أهل البدع والتحذير منهم نوع عبادة ولها ثوابها العظيم وأجرها الجزيل, وقد تقرر في القواعد أن العبادات قبولاً ورداً وكمالاً ونقصاً مبناها على(1/65)
ما يقوم في القلب من المقاصد, فاحذر من أن تنطق ببنت شفة إلا بعد مراقبة ميزان الإخلاص فلا يكن همك في الكلام في أهل البدع إشباع حظوظ النفس والتشفي ونفث سم العداوة وإشباع رغبة التعصب وإسقاط الخصم وإذهاب محبته وهيبته من قلوب العامة لتحل أنت بدله, أو لغيرة مذمومة, أو لتحقيق مقاصد الولاة الظلمة في أخيك المسلم, فإن بعض من ينتسب للعلم قد يلوك أخاه بلسانه كما يلوك اللقمة سباً وشتماً وتجريحاً وثلباً وإظهاراً للمعايب لا لشيء, إلا لإرضاء بعض الولاة في بلاده, فالمقصود عنده كيف يرضي هذا الوالي, وبعضهم تجده يتهم الآخرين بالتهم الفظيعة الباطلة ليؤكد للوالي أنه المواطن الصادق الذي يخاف على أمن البلد من عبث العابثين وكيد المخالفين, وهذا لا يسلم منه زمان, وهل ابتلي علماء أهل السنة عند الولاة إلا بسبب هذا الصنف, فابتلي الإمام أحمد السنة بأحمد البدعة والاعتزال, حتى قال فيه للوالي:- اقتلوه وعلي دمه, وابتلي ابن تيمية عند الولاة بسبب بعض علماء عصره كابن مخلوف وغيره من أفراخ المبتدعة, وابتلي ابن القيم بسبب هذا الصنف أيضاً, وهكذا على مر الزمان, ولا نزال في زماننا نعايش شيئاً من ذلك فنسمع بأن العالم الفلاني قد فصل أو حبس أو أوذي أو أوقف عن التدريس والخطابة ويكون سبب ذلك تقريراً كتبه من زعم أنه ناصح للأمة ولم يراع في كتابته لا عدلاً ولا صدقاً ولا أمانة ولا أخوة دين, لأنه إنما أراد عند كتابته إسقاط الخصم والتشفي منه وإرضاء الولاة وإظهار نفسه عندهم, وكاتب هذه الأسطر قد عانى من ويلات ذلك ما يحتسب أجره عند الله تعالى, بل وإني أسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يغفر لكل من ظلمني وأن يجعل له فرجاً ومخرجاً من كل سوء وأن يعامله بعفوه وجوده وكرمه وإحسانه, وأن يتجاوز عنه التجاوز المطلق, وأن يجمعني به في الجنة نحن وإخواننا المسلمون ونشهد الله تعالى على أننا لن نعاملهم بالمثل, فإنهم إن نسوا حق الله عليهم فينا فإننا لن(1/66)
ننسى حق الله علينا فيهم, ونحن نعلم أن الذين كتبوا إنما كانوا يريدون النصح ولكن زادوا في الكيلة قليلاً, فوصفونا بما ليس فينا, لكن أسأل الله أن يرفع نزلهم في الآخرة وأن لا يؤاخذهم بما قالوه, والمقصود أن الإخلاص شرط من شروط التحذير من أهل البدع, ومنها:- أن يكون المبتدع معلناً ببدعته لا مستتراً بها, لأن الذي تحتاج الأمة التحذير منه هو المجاهر المعلن لبدعته والداعية لها, وأما المستتر بها والذي لا يدعو أحداً لها لا بمقاله ولا بفعاله فإنه ينصح سراً ولا يفضح ولا يشهر به وعلى ذلك أهل السنة والجماعة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم, فقد أخرج ابن وضاح بسنده في كتاب البدع والنهي عنها عن الأوزاعي رحمه الله تعالى أنه قال في معرض كلامه عن أهل البدع ( وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم وتشمئز منهم قلوبهم ويحذرون الناس بدعتهم, ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحدٍ أن يهتك عنهم ستراً ولا يظهر منهم عورة, الله أولى بالأخذ بها وبالتوبة عليها فأما إذا جهروا بها وكثرت دعوتهم ودعاتهم إليها فنشر العلم حياة والبلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة, يعتصم بها على المصر الملحد ) ا.هـ. وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ( وهذان النوعان يجوز فيهما الغيبة بلا نزاع بين العلماء, أحدهما:- أن يكون الرجل مظهراً للفجور مثل الظلم والفواحش والبدع المخالفة للسنة فإذا أظهر المنكر وجب الإنكار عليه حسب القدرة ... فمن أظهر المنكر وجب الإنكار عليه, وأن يهجر ويذم على ذلك, فهذا معنى قولهم:- من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له, بخلاف من كان مستتراً بذنبه مستخفياً فإن هذا يستر عليه لكن ينصح سراً ويهجره من عرف حاله حتى يتوب ) ا.هـ. ومنها:- أن يكون المبتدع من الأحياء لا من الأموات, فإن كان ميتاً فالأصل الكف عنه لحديث (( لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا )) "رواه البخاري في الصحيح" ولأن الحكمة(1/67)
التي شرعت من أجلها غيبة المبتدع منتفية في حق الميت وهي خشية الاغترار به وتقليد الناس له في بدعته, إلا أن يكون لذلك الميت كتب تقرر البدع, وأتباع ينشرون تلك البدع بعده فإنه يجب التحذير منه ومن كتبه وأتباعه لأن المقتضي لا يزال قائماً, وأما من ماتت بدعته معه فلا كتب ولا أتباع ولا مأثور قول عنه فالأصل الكف عنه, وتفويض أمره إلى الله تعالى, وحسابه على الله تعالى, ومنها:- مراعاة جانب العدل والإنصاف في التحذير منه, فلا يذكر إلا بما فيه حقيقة فلا يزاد على ذلك, أي لا يتهم بما ليس فيه لأن ذلك بهتان والبهتان كله حرام لحديث (( إن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته )) ولقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ومنها:- مراعاة قدر الكفاية في التحذير من هذا المبتدع, فإذا كانت المصلحة الشرعية تتحقق ببعض القول فيه فلا يجوز أن تقول كل القول فيه, بل لابد أن يراعى ما يدفع المفسدة ويحقق المصلحة, فإذا كان التحذير من بدعته كافٍ فامسك عن ذكر اسمه, وإن لم تتحقق المصلحة الشرعية إلا بذكر اسمه فاذكره ولا غضاضة عليك, فإن اكتفي بالأقل فلا تقل الأكثر وهكذا, وهذا يفيدك أن الأمر يحتاج إلى اجتهاد ونظر وهو ما قرره أهل السنة في الأمر الأخير:- وهو أن يصدر التحذير من عالمٍ بالشرع لا من جاهل به, لأن العالم أحرى للعدل والإنصاف وأعرف بما هو سنة وما هو بدعة, وأعرف بمقاصد الشريعة وأدرى بالمصالح والمفاسد, والكلام في أهل البدع وقف على أهل العلم الراسخين في علمهم, فليس الباب مفتوحاً لمن هب ودب, بل هو وقف على العلماء, عافانا الله وإياك من كل بدعة وبلاء .(1/68)
الفرع العشرون :- ما الحكم في عيادة المبتدع؟ أقول:- اعلم رحمك الله تعالى أن عيادة المريض نوع من الوصل والتودد والموالاة وقد رغب فيها الشارع بأدلة معروفة محفوظة, وجواب السؤال المذكور مفرع على قاعدتنا التي نحن بصدد شرحها, فأما المبتدع الذي حكمنا عليه بأنه كافر ببدعته فإن الأصل منع زيارته لأن زيارته في حال مرضه نوع تودد ومحبة وموالاة وصله والواجب في حق هذا المبتدع الزجر بالهجر المطلق فلا يحب ولا يوالى ولا يتودد له, إلا إن كان ترجى من زيارته دعوته للتوبة وترك هذه البدعة والعودة إلى ركاب أهل السنة فإن رجي ذلك شرعت زيارته فهذا القصد أي أنه يزار لدعوته فقط, فلا يقصد الزائر محبته وموالاته وإظهار التودد إليه بهذه الزيارة وإنما يقصد بها دعوته فلا تشرع عيادته إلا إذا كانت محققة لهذا القصد لأنه يعامل عند أهل السنة معاملة الكفار في الدنيا, فإذا كانت زيارته في مرضه محققة لمصلحة دينية جازت وإن لا فلا, ودليل ذلك زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب وهو في سياق الموت فإنه - صلى الله عليه وسلم - زاره لدعوته إلى كلمة التوحيد كما في الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله )) فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية:- يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالبٍ آخر ما كلمهم:- هو على ملة عبدالمطلب, وأبى أن يقول لا إله إلا الله, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( أما والله لأستغفرن لك ما لم أنْه عنك )) فأنزل الله تعالى { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ(1/69)
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } فزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب يستفاد منها جواز عيادة الكافر إذا رجي إسلامه والمبتدع الكافر ببدعته يعامل معاملة الكفار فتجوز عيادته إذا رجي إسلامه, ويدل على ذلك أيضاً ما رواه البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - قال:- إن غلاماً يهودياً كان يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فقعد عند رأسه فقال له (( أسلم )) فنظر الغلام إلى أبيه وهو عنده, فقال له:- أطع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -, فأسلم فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده وهو يقول (( الحمد لله الذي أنقذه من النار )) والصحيح عندي إن شاء الله تعالى أن عيادة المبتدع الكافر ليست محصورة في رجاء إسلامه فقط, بل يدخل في ذلك كل مصلحة دينية يتوقف تحقيقها على عيادته, ويدل على ذلك قوله تعالى { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } والخلاصة أنه لا يجوز زيارة المبتدع الكافر إلا إذا رجي من ورائها تحقيق مصلحة دينية معتبرة كصلة رحمٍ أو إحسانٍ إلى خادم أو إقساطٍ إلى جار مثلاً, وأما إذا كانت عيادته لمجرد محبته وموالاته ومودته والأنس بزيارته فإنه لا يجوز أي أن عيادته بهذه المقاصد لا تجوز لقوله تعالى { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ(1/70)
أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ...الآية } وعلى ذلك فما ورد عن السلف في جواز عيادة المبتدع الذي يكفر ببدعته فإنما يراد بذلك العيادة التي تحقق مصلحة دينية معتبرة, وما ورد عنهم من منع العيادة فإنما يقصدون بذلك ما لا يترتب عليه تلك المصلحة وإنما كانت لمجرد التودد والأنس والمحبة والنصرة والموالاة, فهذا بالنسبة للمبتدع الكافر, وقد عرفت أنه لا تجوز عيادته في الأصل إلا لتحقيق مصلحة دعوته إلى الإسلام, أو لتحقيق مصلحة شرعية أخرى معتبرة, وأما المبتدع المحكوم عليه بالفسق فقط فإن هذا لا يزال معه أصل الإسلام فالأصل جواز عيادته لأن زيارة المريض من جملة حقوق المسلم على المسلم كما ورد ذلك في حديث البراء وأبي هريرة وغيرهما, والحق أن زيارة المريض فرض كفاية واختاره شيخ الإسلام أبو العباس, فهذا المبتدع لا يزال معه أصل الإسلام فلا تزال أخوة الإسلام قائمة فتكون عيادته من حقوقه على إخوانه المسلمين, ولكن عليك أن تنتبه لأمور :-
الأول :- أن المبتدع الفاسق إن كان داعية لبدعته مشهوراً بالدفاع عنها والدعوة إليها ومعلناً بها فإنه لابد من زجره بهجره كما قررناه سابقاً, فتترك عيادة هذا النوع من المبتدعة, ليس لأنها لا تجوز بالأصالة, وإنما لأن المصلحة الشرعية تقضي بوجوب زجره بهجره, لاسيما وقد بلغ هذا المبلغ في بدعته, وهذا داخل تحت حكم أهل السنة في أصحاب المعاصي, فإن صاحب المعصية إذا دعي وأصر وأعلن ودعا إلى معصيته وزينها في أعين العامة فإنه لابد من زجره بهجره, وهذا من باب العقوبة لأننا قلنا إن المبتدع الفاسق يعامل معاملة عصاة الموحدين, وعصاة الموحدين يشرع زجرهم بهجرهم إذا أصروا على معاصيهم ولم ينزجروا إلا بذلك, وأنت خبير بأن زجر المبتدع بهجره أصل من أصول أهل السنة, وأما المبتدع المستور الذي لم يعلن بدعته ولم يدع غيره إليها فإنه يعاد إذ لا معارض راجح لهذه العيادة, ما دام مستتراً .(1/71)
الثاني :- يجب على أهل الدين والصلاح والدعوة أن يحرصوا على دعوة المبتدع الفاسق حال عيادتهم له, وأن يذكروه بالتوبة والندم, وأن يبينوا له قبح هذه البدعة وأن يوضحوا له أنه إن مات عليها فهذا من سوء الخاتمة, ذلك لأن نفس المريض أشد إقبالاً على مراجعة الحال وتغيير الخطأ من نفس الصحيح, وهذا معروف مجرب فلا تكن العيادة مجرد ضحك وأنس وكلام فارغ فقط .
الثالث :- أن تعلم بارك الله فيك أن عيادة المبتدع يختلف باختلاف نوعية هذا المبتدع, فالأمر فيه اجتهاد في تحقيق المناط, فإذا رأى غيرك أن هذا المبتدع يزار ورأيت أنت أنه لا يزار فكل يعمل باجتهاده وما توصل إليه من النظر, فلا يكن الاختلاف في ذلك موجباً للتقاطع أو التشاحن أو اتهام المقاصد والنوايا فإن هذا من قلة الأدب وضيق الفطن وسببه الجهل بأدب الخلاف, والاعتداد بالنفس فإن بعض الطلاب يرى أن اجتهاده الذي توصل إليه هو حقيقة الدين وأن من خالفه يعد مخالفاً للدين, وهذا نقص في العقل ورعونة في الخلق, عافانا الله وإياك من كل سوءٍ وبلاء .
الرابع :- أن رجاء إسلام المبتدع الكافر أو تحقق المصلحة من عيادته يرجع إلى غلبة الظن, فلا يشرط في ذلك اليقين, بل يكتفى بغالب الظن لأن المتقرر أن غلبة الظن كافية في العمل, ووجود غلبة الظن بتحقق المصالح الشرعية من عدمها يعود إلى إمعان النظر وتقليب الأمور وبذل الجهد والوسع والطاقة في النظر في العواقب وهذا كله يرجع إلى أهل العلم, فالعامي أو الطالب الذي لم يبلغ رتبة النظر والاجتهاد إذا أشكل عليه أمر العيادة للمبتدع فليسأل أهل العلم لعموم قوله تعالى { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } والله أعلم .(1/72)
الفرع الحادي والعشرون :- هل يلعن المبتدع؟ أقول:- هذه مسألة طويلة الذيول, ولكن أختصرها لك هاهنا فأقول:- إن اللعن لا يخلو من ثلاثة أقسام:- لعن بالوصف الأعم, ولعن بالوصف العام, ولعن للمعين, فأما اللعن بالوصف الأعم فقولك لعنة الله على الكفرة والظلمة والمبتدعة والفسقة, فهذا جائز وقد وردت عليه الأدلة من الكتاب والسنة, ولا نعلم فيه خلافاً بين السلف رحمهم الله تعالى, وأما اللعن بالوصف العام فقولك لعنة الله على النصارى أو اليهود أو الخوارج أو الرافضة أو القدرية, فهذا لعن بوصف عام وهذا جائز أيضاً بدلالة الكتاب والسنة ولا نعلم بين السلف خلافاً في ذلك, وهاتان المرتبتان لا نكثر الكلام عليهما لأنهما جائزتان بالاتفاق, وأما لعن المعين, فكأن تقول:- لعن الله فلاناً المبتدع, أو لعن الله فلاناً الظالم, أو لعن الله فلاناً المجرم, فهذا هو ما يسميه أهل العلم لعن المعين, وقد اختلف فيه سلف الأمة على ثلاثة أقوال فمنهم من أقفل باب اللعن المعين مطلقاً, ومنهم من أجازه مطلقاً ومنهم من توسط, فقال لعن المعين يجوز إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه, وهذا القول هو الحق وهو اختيار غالب أهل السنة واختاره أبو العباس وابن القيم وغيرهما من المحققين فإذا توفرت أسباب لعن المعين وانتفت موانعه جاز لعنه بعينه, وهذه الشروط هي بعينها ما ذكرناه في شروط التكفير, فاللعن بالبدعة ثابت في السنة, كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( المدينة حرم ما بين عير إلى ثور, فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )) فالإحداث الوارد عليه اللعن لفظ عام لأنه نكرة في سياق الشرط, وقد تقرر في القواعد أن النكرة في سياق الشرط تعم, وقد قرر أهل العلم كالشاطبي وابن حجر وغيرهما من أهل العلم بأن اللعن على من أحدث في المدينة الوارد في الحديث يعم المدينة وغيرها, وقد ثبت عن السلف رحمهم الله تعالى في صورٍ كثيرة لعن المعين وهذا محمول(1/73)
على أنه مستوجب للعن لثبوت شروط اللعن وانتفاء موانعه, فقد لعن مالك عمرو بن عبيد ولعن وكيع بشر المريسي, بل لعنه ولعن أصحابه, ولعن يزيد بن هارون الجهم بن صفوان, ولعن شاذ ابن يحيى بشر المريسي, ولعن سعيد بن رحمة الجهم بن صفوان, ولعن الفضل بن دكين بشر المريسي ولعن أبو زرعة الجعد بن درهم, بل وثبت عنه أيضاً أنه لعن بشر المريسي, ولعن اللالكائي الجعد بن درهم, وغير ذلك في صور كثيرة, وثبت عن السلف أيضاً أنهم لعنوا قتلة عثمان - رضي الله عنه -, وقصد أهل العلم من هذا اللعن هو التحذير من ذلك الشخص المبتدع المعين وتنفير الناس عنه وعن فعله, لاسيما واللعنة منصبة على الدعاة إلى البدع كالجعد بن درهم والجهم ابن صفوان وبشر المريسي وأمثالهم فصار اللعن له ثلاث حالات:- لعن بالوصف الأعم وهو جائز بلا خلاف, ولعن بالوصف العام وهو جائز بلا خلاف, ولعن للمعين وهو جائز إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه, ومما ينبغي أن يعلم أيضاً أن اللعن بالوصف الأعم والعام لا يستلزم لعن الأفراد إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع, فلابد من التفريق بين اللعن المطلق ولعن المعين فالمبتدع الكافر ببدعته والذي قامت الحجة الرسالية وبانت له المحجة الشرعية لا شك أنه مستحق للعن, والمبتدع الفاسق الداعية لبدعته والمنافح عنها والمعلن بها لاشك أيضاً أنه مستحق للعنة وأما المبتدع المستور ببدعته والذي ليس بداعية لها ولا معلن لها فهذا لا يستحق اللعن, لخفة ضرره, وبالجملة فمن زاد ضرره على الدين وطار شرره في الآفاق وعظمت مفسدته في الأمة واشتدت مخالفته وخروجه عن الشريعة فهو المستحق للعن, ولذلك فإن اليهود هي الأمة الملعونة المغضوب عليها وذلك لأنهم أشد الناس عداوة لله ولملائكته ولأنبيائه وعباده الصالحين, فإنه لم يعرف على مدار التاريخ أمة تغطرست في كفرها وعظمت قبائحها كاليهود فلعن المعين فرع عن زيادة جرمه وعظم مخالفته ومجاهرته بالعداوة وتبجحه بعصيانه(1/74)
وبدعته, فالمبتدع الكافر أحق باللعن من المبتدع الفاسق, والمبتدع الفاسق الداعية لبدعته أحق باللعن من المبتدع المستور فالمبتدعة يتفاوتون في استحقاق اللعن, وهذا خلاصة ما قرره أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى في هذه المسألة, والله ربنا أعلى وأعلم .
الفرع الثاني والعشرون :- هل يدعى على أهل البدع؟ أقول:- أما المبتدع الكافر فإنه يسن به سنة الكفار, وقد ثبت في الشرع جواز الدعاء على الكفار, الدعاء المطلق والدعاء المعين, فمن الدعاء المطلق قوله تعالى عن نوح - عليه السلام - { رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا } وقال تعالى عنه { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ } وقال تعالى عن موسى - عليه السلام - { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } وأما السنة فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا على المشركين يوم الأحزاب بقوله (( ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس )) "متفق عليه" وكان عليه الصلاة والسلام يقول (( اللهم اشدد وطأتك على مضر, اللهم سنين كسنين يوسف )) وفي حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى قريشاً استعصت عليه قال (( اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبع يوسف )) قال:- فأخذتهم السنة حتى حصدت كل شيء حتى أكلوا العظام والجلود... الحديث )) وفي الصحيح عن أنس - رضي الله عنه - (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه رعلٌ وذكوان وعصية وبنو لحيان فزعموا أنهم قد أسلموا واستمدوه على قومهم فأمدهم بسبعين من الأنصار, قال أنس:- كنا نسميهم القراء, كانوا يحطبون بالنهار ويصلون بالليل, فانطلقوا حتى بلغوا بهم بئر معونة غدروا بهم فقتلوهم, فدعا عليهم النبي - صلى الله عليه(1/75)
وسلم - شهراً في القنوت )) وفي الحديث (( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به ومن ولي من أمرهم شيئاً فسق عليهم فافسق عليه )) وهذا من الدعاء العام, وفي الحديث (( من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل:- لا ردها الله عليك إن المساجد لم تبن لهذا )) "رواه مسلم" وهذا من الدعاء العام, وفي الحديث لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون حمد الله النبيُ - صلى الله عليه وسلم - وأثنى عليه ثم قال (( اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك, اللهم قاتل الكفرة من أهل الكتاب إله الحق )) وفي الحديث (( اللهم عليك بقريش, اللهم عليك بقريش, اللهم عليك بقريش )) والأدلة في هذا المعنى كثيرة, وهي دليل على جواز الدعاء على الكفار بالوصف العام وعلى طائفة مخصوصة والمبتدعة الكفار يعاملون معاملة الكفار, فيجوز الدعاء عليهم بالوصف العام وبالوصف الخاص كأن تقول:- اللهم عليك بأهل البدع المخالفين لشريعتك والمحدثين فيها, أو تقول:- اللهم قاتل أهل البدع, أو تقول:- اللهم قاتل الخوارج والجهمية, أو تقول:- اللهم أهلك الرافضة الزنادقة فهذا كله جائز بدلالة الكتاب والسنة كما قدمت لك أدلته, فإن قلت:- إن غالب الأدلة التي ذكرتها إنما هي في حق الكفار؟ فأقول:- نعم, ولكن قد تقرر عندنا أن المبتدعة الكفار يعاملون معاملة الكفار, فلما جاز الدعاء على الكفرة جاز الدعاء على المبتدعة, أي أنه لما جاز الدعاء على الكفار بالوصف العام وبالخاص, جاز الدعاء على المبتدعة الكفار بالوصف العام والخاص, وعلى ذلك جرى سلف الأمة, فهذا سعد بن أبي وقاص يدعو على من اتهمه عند عمر بما ليس فيه فقال (( اللهم إن كان عبدك هذا قام رياءً وسمعة وهو كاذب فأطل عمره, وأطل فقره وعرضه للفتن )) فاستجاب الله دعوة سعد, وثبت عن سعيد بن زيد أنه دعا على امرأة اتهمته بأنه أخذ شيئاً من أرضها فحاكمته إلى مروان بن الحكم فقال داعياً عليها(1/76)
(( اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها )) قال:- فماتت عمياء في حفرة وقعت فيها في أرضها, والأمثلة كثيرة, وفيها دلالة على جواز الدعاء على المعين الظالم من المسلمين وأنت خبير بأن هذا الظلم المذكور في الحديثين إنما هو ظلم يعود ضرره إلى هذين الصحابيين فقط, وأما المبتدع فإن ظلمه بإحداثه يعود على دين الأمة وشريعتها وضرر إحداثه عام لكل مسلم, فيجوز الدعاء على المعين المبتدع من باب أولى, والمقصود من الدعاء عليه كف شره عن الخلق والدين, ولإطفاء جذوة نار بدعته ولزجره عن التمادي في بدعته وتغرير الناس بها, المهم أن هذا المبتدع شر على الأمة فإذا نصح ورفض ودعي فأصر فلا جرم يجوز الدعاء عليه لاسيما وإن ظهرت منه مخايل المعاندة والاستهزاء بالشريعة وأهلها, والدعاء على الكفار الأصليين والمبتدعة المارقين من الدين نوع مقاتلة لهم وقد قال تعالى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } فإذا كان الدعاء على الظالم للناس في أموالهم وأعراضهم يجوز فكيف بالظالم لهم في دينهم؟ لاشك أنه يجوز من بابٍ أولى, وقد روى اللالكائي بسنده عن عامر بن سعد قال:- أقبل سعد من أرضٍ له فإذا عكوف على رجل فاطلع فإذا هو يسب طلحة والزبير وعلياً فنهاه فكأنما زاده إغراءً, فقال:- ويلك ما تريد إلا أن تسب أقواماً هم خير منك, لتنتهين أو لأدعون عليك, فقال:- هيه, فكأنما تخوفني نبياً من الأنبياء, فانطلق فدخل داراً فتوضأ ودخل المسجد ثم قال:- اللهم إن كان هذا قد سب أقواماً قد سبق لهم منك خير أسخطك سبه إياهم فأرني اليوم به آية تكون آية للمؤمنين قال:- وتخرج بختية - وهي الأنثى من الجمال - من دار بني فلان نادة - أي شاردة - لا يردها شيء حتى تنتهي إليه, ويتفرق الناس عنه فتجعله بين قوائمها فتطأه حتى طفي, قال:- فأنا رأيته يتبعه الناس ويقولون:- استجاب الله لك يا أبا إسحاق, استجاب الله لك يا أبا إسحاق .(1/77)
وهذا دعاء على معين نصح فأصر ودعي فازداد سوءً وجريمته الوقوع في خيار الأمة, ومن هنا نستنبط جواز الدعاء على المبتدعة بنوعيه, المطلق والمعين, في حق المبتدع الكافر وفي حق المبتدع الفاسق ومن منعه فإنه مطالب بالدليل, فالمبتدع الكافر يدعى عليه, والمبتدع الفاسق المعلن الداعية يدعى عليه, وأما المبتدع المستور ببدعته فلم يعلنها ولم يدع أحداً إليها فلو دعي له بالهداية والصلاح لكان أحسن, وبالجملة فالدعاء على المبتدعة يقال فيه بقولنا في لعنهم, فإن اللعن نوع دعاء فمن جازت لعنته جاز الدعاء عليه, بل إن باب الدعاء أوسع من باب اللعن بحيث أنه يجوز الدعاء على من لا تجوز لعنته, ولكن لابد أن يراعى في الدعاء على المبتدعة نصرة الحق وإماتة البدع وإحياء السنن والدفاع عن الشرع وإخماد الباطل وإزهاق بذرة الفساد وإحقاق الحق, والانتصار لأهل السنة, وبناء عليه فيجوز الدعاء على الجهمية والقدرية والرافضة والدروز والقاديانيين والبهائيين والأحباش والصوفية, والعلمانيين والحداثيين, جماعات أو أفراداً, ويجوز الدعاء على من ظهرت عداوته للدين وعظم ضرره في الأمة, وطار شرر بدعته في الآفاق, كل هؤلاء يجوز الدعاء عليهم, ويجوز الدعاء على من يحكم بغير شريعة الله ويقتل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ويسعى في تشويه صورة الدين والمتمسكين به في وسائل الإعلام, ويجوز الدعاء على من يكتب التقارير السرية في أهل الدين والصلاح والعلماء والذين عليهم المعول بعد الله تعالى ويجوز الدعاء على من نصَّب نفسه عمدة في نشر الباطل وتغرير العامة بالفتاوى الفاسدة والآراء الكاسدة التي تخالف المنقولات وتشيع الفساد في البريات, ويجوز الدعاء على السحرة والكهان وأهل الشعوذة والدجل, ويجوز الدعاء على أصحاب الأقلام المأجورة التي تتقيح الدم والصديد على الدين وأهله, نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى واسمه الأعظم أن يكفينا شرور أهل الباطل بما(1/78)
شاء إنه هو السميع العليم, وقد ثبت أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى دعا على غيلان فقال ( اللهم إن كان صادقاً فتب عليه وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين ) فصلب غيلان الدمشقي القدري بأمر من هشام في دمشق, وقد دعا يزيد بن هارون على بشر المريسي وقد دعا جمع كبير من السلف على الجهمية والقدرية, ودعا جمع من أهل السنة على الرافضة فهذه قضية مفصولة وليست مجالاً للحوار ولا نجامل فيها أحداً, فمن خالف دين الله وتنكب عن الصراط المستقيم وابتدع وأحدث ودعي فأصر ولم يستجب لنصح ولا لتوجيه فإنه يدعى عليه ولا كرامة, فإن قدرت أهل الأرض إذا عجزت عن زجره فإن الله لا يعجز عنه عز وجل, ولكن تنبه لأمر:- وهو أن البحث هنا هو في تقرير جواز الدعاء على أهل البدع, ولم نتكلم عن الدعاء لهم, ذلك لأن الدعاء لهم بالهداية والصلاح جائز, فمن دعا لهم بالهداية والصلاح فقد أصاب ومن دعا عليهم فقد أصاب, والدعاء لهم والدعاء عليهم من مسائل الاجتهاد التي تفتقر إلى نظر في المصالح والمفاسد, وأنا أقصد هنا الرد على من أنكر الدعاء على أهل البدع, جملة وتفصيلاً وقد عرفت الأدلة على جوازه والله أعلم, والخلاصة هي أن الدعاء على أهل البدع جائز سواءً الدعاء المطلق أو المعين وسواءً على المبتدعة الكفار أو المبتدعة الفساق والله يتولانا وإياك .(1/79)
الفرع الثالث والعشرون :- هل تؤكل ذبيحة المبتدع؟ أقول:- عليك أن تعرف أولاً أن الإسلام حرم ذبائح المشركين إلا أهل الكتاب إذا ذكروا اسم الله عليها, وأما من عداهم من المشركين فإنها حرام, ويدخل في ذلك المجوس فذبيحة المشرك من غير أهل الكتاب حرام, وقد نقل ابن رشد وابن تيمية الاتفاق على تحريم ذبيحة المشرك, وقد نقل ابن قدامة الاتفاق على تحريم ذبيحة المجوسي, ويدخل في ذلك ذبيحة المرتد, وهي حرام عند أكثر أهل العلم, فتلخص بذلك أن ذبيحة المشرك حرام, وذبيحة الوثني حرام, وذبيحة المرتد حرام, أما ذبيحة أهل الكتاب فهي حلال بالكتاب والسنة, وبقينا في ذبيحة المبتدع فأقول:- إن القاعدة تنص على أن المبتدع المحكوم بكفره يعامل معاملة الكفار, وحيث قلنا إن ذبيحة الكافر حرام فتكون ذبيحة المبتدع الكافر كذلك حرام لأن من شرط حل التذكية أن يكون المذكي أهلاً للذكاة بحيث يكون مسلماً أو كتابياً وهذا المبتدع إذا كفر ببدعته فإنه يخرج من دين الإسلام فلا يبقى معه مطلق الإسلام ولا يسمى كتابياً على القول الصحيح حتى وإن كانت ردته لدين أهل الكتاب, فمن كان مسلماً ثم ارتد فإنه يسمى مرتداً أياً كان دينه الذي انتقل إليه, والحق قتله بعد استتابته ثلاثة أيام لحديث (( من بدل دينه فاقتلوه )) وهذا المبتدع الذي وقع في بدعة مكفرة, وثبتت عليه شروط التكفير وانتفت موانعه فإنه يوصف بأنه مرتد بهذه البدعة, فلا هو مسلم ولا هو من أهل الكتاب بل هو كافر مرتد فانتفى شرط صحة التذكية فينتفي به حل ذكاته فلا يحل حينئذٍ أن تؤكل ذبيحته ولا كرامة لأنه كافر مرتد حلال الدم, وعلى ذلك فذبائح الدروز ميتة حرام, وذبائح القدرية والجهمية والقاديانيين والبهائيين والرافضة والإسماعيلية والنصيرية والصوفية الذين يعتقدون الأمور الشركية ومن نحا نحوهم كل ذبائحهم ميتة وحرام لا يجوز أكلها لأن الله تعالى حرم علينا أكل الميتة, ولكن كما ذكرت لك هذا الحكم فرع عن الحكم(1/80)
عليه بأنه كافر, فمن حكمنا عليه بالكفر من أعيان أهل البدع فإن ذبيحته تكون ميتة وحراماً لا تؤكل وعلى ذلك جماعة أهل السنة رحمهم الله تعالى, روى ابن بطة في الإبانة عن طلحة بن مصرف رحمه الله أنه قال (الرافضة لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم لأنهم أهل ردة) وفي السنة لعبدالله بن أحمد أن وكيعاً رحمه الله سئل عن ذبائح الجهمية فقال ( لا تؤكل لأنهم مرتدون ) وروى ابن بطة في الإبانة عن الفضيل بن عياض أنه قال ( آكل طعام اليهودي والنصراني ولا آكل طعام صاحب بدعة ) وروى اللالكائي في شرح السنة عن أحمد بن يونس أنه قال ( إنا لا نأكل ذبيحة رجل رافضي فإنه مرتد ) وروى اللالكائي أيضاً في شرح السنة عن محمد بن سيرين أنه قال ( أكره ذبائح القدرية ) والكراهة عند السلف ظاهرة في التحريم كما قررناه في موضع آخر، وقد صرح رحمه الله تعالى في الفتاوى بتحريم ذبائح النصيرية ونقل اتفاق أهل العلم على ذلك وقد أفتت اللجنة الدائمة في المملكة بتحريم ما ذبحه من يعتقد جواز الاستغاثة بالأموات أو الأحياء الغائبين, فبان لك بذلك أن ذبيحة المبتدع المحكوم بكفره لا تحل للمسلم لأنها ميتة والميتة حرام نجسة, وعلة ذلك كفره وردته, فهذا بالنسبة للمبتدع الكافر, وأما المبتدع الفاسق الذي لا يزال معه أصل الإسلام فالأصل أن ذبيحته حلال لأنه مسلم والمسلم ذبيحته حلال, فليس من شرط حل الذبيحة أن يكون ذابحها من أهل السنة والجماعة حتى تحرم ذبيحة هذا الصنف من المبتدعة, بل الشرط هو أن الذي يتولى الذبح يكون مسلماً وهذا المبتدع المحكوم بفسقه لا يزال معه أصل الإسلام فذبيحته حلال, وبناءً على حلها فيجوز أكلها, إلا أن هذه الذبيحة إذا كانت من باب الدعوة والإكرام فالإجابة إلى أكلها من عدمه يختلف باختلاف حال هذا المبتدع من حيث إعلانه لبدعته وغلوه فيها ودعوته إليها ومن حيث استتاره بها, أي يختلف باختلاف القول في وجوب هجره فإن كان ممن يجب هجره وتعزيره(1/81)
وعقوبته بعدم إجابة دعوته لأكل هذه الذبيحة فالمشروع هجره وعدم أكل هذه الذبيحة, لا لأنها حرام في ذاتها, ولكن لوجوب هجره, وذلك في المبتدع المعلن الداعية إلى بدعته, لأن المبتدع المعلن كالعاصي المعلن في وجوب الهجر إذا تحقق منه المصلحة الشرعية وأما المبتدع المستور المختفي ببدعته فينظر في حاله من حيث أكل ذبيحته من عدمها, وفي الجملة:- فأكل ذبيحة المبتدع الفاسق من عدمه داخل تحت وجوب هجره من عدمه, فمن وجب هجره فلا تؤكل ذبيحته ومن لم يجب هجره فتؤكل ذبيحته, وهذا خلاصة ما قرره علماء أهل السنة في هذه المسألة والله ربنا أعلى وأعلم .(1/82)
الفرع الرابع والعشرون :- هل يجالس أهل البدع؟ أقول:- إن المتقرر في الأدلة التحذير من مجالسة أصحاب الأهواء والبدع وأصحاب الذنوب والمخالفات الشرعية لاسيما المغرقين منهم في هذه المخالفة والمعلنين لها والداعين إليها وأصحاب اللسن والجدل, فقال تعالى { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وقد كان بعض السلف كابن سيرين وغيره يرى أن هذه الآية قد نزلت في أهل البدع والأهواء, وقال ابن كثير رحمه الله تعالى ( والمراد بهذا كل فردٍ من آحاد الأمة ألا يجلسوا مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها ) ا.هـ. ومثل هذه الآية قوله تعالى { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } وهاتان الآيتان يدخل فيها أهل البدع بمقتضى العموم وقال ابن جرير ( وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوعٍ من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم ) ا.هـ. وأما السنة فحديث (( مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ...الحديث )) وفيه التحذير البليغ من مجالسة أهل الأهواء والبدع والمخالفات لأن مجالستهم أذى, وهي باب كل شر, وفي الحديث أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بهجر الثلاثة الذين خلفوا وهم كعب بن مالك وصاحباه, وفيه (( ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف, فاجتنبنا الناس وتغيروا الناس حتى تنكرت في نفسي(1/83)
الأرض, فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة, فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد ...الحديث بطوله )) وهذا الحديث دليل على مشروعية هجر أهل البدع والمعاصي بترك مجالستهم والكلام معهم, حتى يتوبوا وتظهر منهم مخايل التوبة النصوح وعلى ذلك درج سلف الأمة وأئمتها وقرروا ذلك بأقوالهم وأفعالهم, ويوضح ذلك أبو عبدالله أحمد بن حنبل وذلك قوله ( أحسن الله عاقبتك ودفع عنك كل مكروه ومحذور برحمته الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا من سلفنا مع أهل العلم أنهم كانوا يكرهون الكلام والخوض فيه مع أهل الزيغ, إنما الأمر في التسليم والانتهاء إلى ما فيه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يعدي ذلك, ولم يزل الناس يكرهون كل محدث من وضع كتاب, وجلوس مع مبتدع ليورد عليه بعض ما يلبس عليه في دينه, فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم وضلالهم ) ا.هـ. كلامه رواه ابن بطة في الإبانة بالسند الصحيح إلى أحمد وذكره صاحب الحجة على تارك المحجة, وروى اللالكائي في شرح أصول السنة عن الحسين ابن محمد بن الحنفية أنه قال ( لا تجالسوا أهل القدر ) وروى أيضاً الدارمي في السنن واللالكائي في شرح السنة أن الحسن رحمه الله كان يقول ( لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم ) ا.هـ. وروى عبدالله بن الإمام أحمد في السنة والدارمي في السنن وابن وضاح في البدع والآجري في الشريعة وابن بطة في الإبانة واللالكائي في شرح السنة أن أبا قلابة كان يقول ( لا تجالسوهم - يعني أهل الأهواء - ولا تخالطوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم كثيراً مما تعرفون ) وروى اللالكائي في شرح السنة عن يونس بن عبيد أنه قال ( لا تجالس سلطاناً ولا صاحب بدعة ) وروى اللالكائي أيضاً في شرح السنة(1/84)
عن الشعبي أنه قال ( لا تجالسوا القدرية فو الذي يحلف به إنهم لنصارى ) وقال الفضيل بن عياض ( لا تجلس مع صاحب بدعة فإني أخاف أن ينزل عليك اللعنة ) وقال الفضيل أيضاً ( لا تجلس مع صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه ) ا.هـ. وقال الفضيل أيضاً ( صاحب البدعة لا تأمنه على دينك ولا تشاوره في أمرك ولا تجلس إليه, فمن جلس إلى صاحب بدعة ورثه الله العمى ) وقال أيضاً ( إن الله وملائكته يطلبون حلق الذكر فانظر مع من يكون مجلسك, لا يكون مع صاحب بدعة فإن الله لا ينظر إليهم, وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة ) وأخرج الآجري في الشريعة وابن بطة في الإبانة الكبرى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ( لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضه للقلب ) وروى ابن بطة وغيره أن عمر لما عاقب صبيغ بن عسل نفاه وكتب إلى أهل البصرة أن لا تجالسوه, ولما جلس أيوب السختياني إلى طلق بن حبيب نهاه سعيد بن جبير عن مجالسته وقال ( لا تجالسه فإنه مرجئ ) وقال أبو قلابة (يا أيوب احفظ عني ثلاث خصال:- إياك وأبواب السلطان وإياك ومجالسة أهل الأهواء والزم سوقك فإن الغنى من العافية) و الآثار في ذلك لا تكاد تحصر إلا بكلفة وقد قرر هذه العقيدة أهل السنة في مؤلفاتهم العقيدية وجعلوها أصلاً من أهل السنة, قال أبو عبدالله محمد بن أبي زمنين رحمه الله ( ولم يزل أهل السنة يعيبون أهل الأهواء المضلة وينهون عن مجالستهم ويخوفون فتنتهم ) ا.هـ. وقال الإمام الصابوني رحمه الله تعالى ( ويبغضون أهل البدع, الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه ولا يحبونهم ولا يصحبونهم ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم ويرون صون أذانهم عن أباطيلهم ) ا.هـ. وعلى ذلك عامة أهل السنة والجماعة فالمتقرر عند عامة السلف رحمهم الله تعالى التحذير من مجالسة المبتدعة وذلك لما في مجالستهم من الخطر العظيم على من يجالسهم, بأن(1/85)
يوردوا عليه أو يسمع منهم من الشبه ما لا طاقة له في دفعه وبالتالي ينغمس في ضلالتهم وبدعتهم, فمن باب سد ذريعة الإضلال وإفساد المعتقد والدين تمنع مجالستهم, وهذا أصل أصيل عند أهل السنة لما حذروا من مجالسة أهل البدع, وكم من سني ضل بسبب هذه المجالسة, ولأن في مجالستهم مخالفة أمر الشارع كتاباً وسنة ولأن مجالستهم توجب محبتهم والتودد إليهم وإزالة واجب البغض والمعاداة ولأن في مجالستهم تعطيلاً لما أوجبه الشارع من هجرهم تعزيراً وعقوبة لهم, ولأن الإنسان إذا جالسهم فإنه يفتح على نفسه باب الظنون والتشكيك في سلامة معتقده, ولأن جلوسه معهم قد يكون سبباً لتغرير العامة حتى يقولوا:- لو كانوا ضلالاً لما جلس معهم فلان وهذه طامة كبيرة ومصيبة خطيرة, ولأنهم قوم عصاة والجلوس معهم قد يوجب أن يكون تابعاً لهم في اللعنة والعقوبة الربانية لأن مجالسهم مجالس يقرر فيها الباطل ويزهق فيها الحق ويخالف فيها الشرع فلربما لعنوا أو نزلت عليهم العقوبة فتعمه معهم, إلى غير ذلك من المصالح والحكم المترتبة على عدم الجلوس معهم, ولكن إن كان الشخص عالماً بمذهب أهل السنة راسخاً في معرفته عارفاً بوجوه الشبهة وجوابها محتاطاً بسلاح المعرفة الراسخة في مذهبهم البدعي وأراد أن يجلس معهم لبيان الحق ودعوتهم إلى السنة وإزالة الشبهة عنهم وتحذيرهم من البدعة فلا بأس بذلك إذ لا مفسدة حينئذٍ, وهذا خاص بأهل العلم الراسخين فيه كما ذكرت وإلا فالأصل ترك مجالستهم لما فيها من الزواجر الشرعية والنواهي النقلية والمفاسد المتحققة حالاً أو مآلاً والله ربنا أعلى وأعلم .(1/86)
الفرع الخامس والعشرون :- هل تقبل رواية المبتدع؟ أقول:- أما المبتدع المحكوم بكفره فإنه لا تقبل روايته بالاتفاق, حكاه النووي وابن الصلاح وفي نقل الاتفاق نظر لوجود الخلاف, لكن الصواب والحق المقطوع به أنها لا تقبل لأن من شرط قبول الرواية الإسلام وهذا المبتدع قد حكمنا عليه بأنه كافر والكافر غير مأمون قوله في الدين, فالمبتدع الكافر يعامل معاملة الكفار والكفار لا نقبل روايتهم فكذلك المبتدع الكافر لا تقبل روايته, وأما المبتدع الفاسق فلا يخلو:- إما أن يكون ممن يستحل الكذب فهذا لا تقبل روايته كذلك, نص عليه ابن كثير والنووي وابن الصلاح والذهبي وابن حجر والسيوطي و المعلمي, بل نقل ابن تيمية رحمه الله اتفاق الفقهاء على ذلك فقال ( ورد شهادة من عرف بالكذب متفق عليه بين الفقهاء ) ولذلك اشتهر عن أهل العلم رد رواية الرافضة لأنهم يتدينون باستحلال الكذب, بل إن هذا الصنف من المبتدعة عندنا كفار وليسوا فساقاً فقط, لأن الكذب قد وردت بتحريمه الأدلة المتواترات فاستحلاله يعتبر إنكاراً لمعلوم من الدين بالضرورة وتكذيب لما ثبتت حرمته في الشرع قطعاً وهذا كفر, وعليه فيلحق هذا القسم بالقسم الأول وهم المبتدعة الكفار فلا تقبل روايتهم لكفرهم في استحلال الكذب ولأنهم قوم كذابون أفاكون لا يؤمن خبرهم, وأما بقية المبتدعة ممن حكم بفسقهم فقد اختلف أهل العلم فيهم على ثلاثة أقوال أرجحها هو التفريق بين المبتدع الداعية وغير الداعية فأما المبتدع الداعية فإن روايته مردودة لا لكفره, وإنما لخشية أن تحمله بدعته التي يدعو إليها إلى وضع ما يحسنها وتحريف الروايات نصرةً لها, ولذلك قال بعض المبتدعة:- كنا إذا هوينا أمراً صيرناه حديثاً, ولأن في ترك روايتهم عقوبة لهم وزجراً لهم عن البدع وتنفيراً للناس منهم ومن بدعهم ولأن ذلك أحوط للدين وأبرأ للذمة وأسلم لدين الناس وأحفظ للشرع, فالمبتدعة الداعية لا تقبل روايته ولأن هذا قول أكثر أهل(1/87)
العلم وعلى رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل, ولشهرة هذا القول عند السلف قال ابن حبان فيه ( إنه إجماع ) ولكن حكاية الإجماع فيها نظر لثبوت الخلاف, ولأن هذا القول هو الذي عليه العمل عند أهل الحديث, واختاره الخطيب وابن الصلاح والنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي وأما غير الداعية فإن الأصل قبول روايته وعلى ذلك فالضابط في ذلك يقول ( تقبل رواية المبتدع إذا لم يك كافراً ولا ممن يستحل الكذب ولا داعية إلى بدعته ) وهذا خلاصة الكلام في هذه المسألة, والله ربنا أعلى وأعلم. ولعل القاعدة بهذه الفروع قد اتضحت إن شاء الله تعالى وأقول قبل الانتهاء, والله لقد استفدت في هذه الكتابة كثيراً من كتاب موقف أهل السنة والجماعة في التعامل مع أهل الأهواء والبدع للشيخ إبراهيم بن عامر الرحيلي, استفادة عظيمة كبيرة وأنا أوصي كل طالب علم بقراءة هذا الكتاب الطيب المبارك النافع وإني لأحب هذا الرجل في الله مع أني لم أره ولكن قلبي يحبه حباً عظيماً لأنه رجل سلفي المعتقد مؤصل الكتابة بديع التصنيف, فأسألك اللهم باسمك الأعظم أن تغفر لهذا الرجل وأن تجزيه عنا خير الجزاء وأن ترفع نزله في الفردوس الأعلى وأن تغفر لسائر أهل السنة وتجمعنا بهم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, وقد وافق الفراغ منه ضحى يوم الأربعاء في اليوم العشرين من شهر جمادى الأولى من سنة ثمان وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة فالحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً, ثم الحمد لله ثم الحمد لله رب العالمين .
قال مؤلفه عفا الله عنه هذه الرسالة الصغيرة وقف لله
تعالى على عامة المسلمين لا يحل لي ولا
لأولادي ولا لغيرهم أن يحتفظ بحقوق
طبعها ومن أراد طباعتها وتوزيعها
بالمجان فقد أذنت
له والله أعلم.(1/88)