منهاج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تصحيح الأخطاء
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
1430 هـ 2009 م
بهانج - دار المعمور
حقوق الطبع لكل مسلم(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن تعليم الناس من القربات العظيمة التي يتعدّى نفعها ويعمّ خيرها، وهي حظ للدعاة والمربين من ميراث الأنبياء والمرسلين عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ قَالَ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِى عَلَى أَدْنَاكُمْ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِى جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ » (1) .
والتعليم طرائق وأنواع وله وسائل وسُبُل ومنها تصحيح الأخطاء، فالتصحيحُ من التعليم وهما صنوان لا يفترقان.
ومعالجة الأخطاء وتصحيحها من النصيحة في الدِّين الواجبة على جميع المسلمين. وصلة ذلك بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوية وواضحة. مع ملاحظة أن دائرة الخطأ أوسع من دائرة المنكر فالخطأ قد يكون منكرا وقد لا يكون.
وتصحيح الأخطاء كذلك من الوحي الرباني والمنهج القرآني فقد كان القرآن ينزلُ بالأوامر والنواهي والإقرار والإنكار وتصحيح الأخطاء حتى مما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنزلت معاتبات وتنبيهات
كما في قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (113) سورة التوبة
ولما ترك بعض المسلمين الهجرة من مكة إلى المدينة لغير عذر شرعي أنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (2901) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.(1/1)
تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (97) سورة النساء .
ولما جاءت قافلة وقت خطبة الجمعة فترك بعض الناس الخطبة وانفضوا إلى التجارة نزل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (11) سورة الجمعة .
إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على أهمية تصحيح الأخطاء وعدم السكوت عنها.
وسار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على نور من ربه سالكا سبيل إنكار المنكر وتصحيح الخطأ غير متوان في ذلك، ومن هذا وغيره استنبط العلماء رحمهم الله تعالى قاعدة: " لا يجوز في حقّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تأخير البيان عن وقت الحاجة ".
وإدراكُ المنهج النبوي في التعامل مع أخطاء البشر الذين لاقاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأهمية بمكان لأنه - صلى الله عليه وسلم - مؤيَّد من ربّه، وأفعاله وأقواله رافقها الوحي إقرارا وتصحيحا، فأساليبه عليه الصلاة والسلام أحكمُ وأنجعُ واستعمالها أدعى لاستجابة الناس، واتباعُ المربي لهذه الأساليب والطرائق يجعل أمرُه سديدا وسلوكه في التربية مستقيما. ثمّ إن اتباع المنهج النبوي وأساليبه فيه الاتساء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أسوة حسنة لنا لقوله تعالى : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب ،ويترتب على ذلك حصول الأجر العظيم من الله تعالى إذا خلصت النيةُ.
ومعرفةُ الأساليب النبوية تبين فشل أساليب المناهج الأرضية ـ التي تزخر بها الآفاق ـ وتقطع الطريق على اتّباعها، فإن كثيرا منها واضح الانحراف وقائم على نظريات فاسدة كالحرية المطلقة أو مستمَّدٌ من موروثات باطلة كالتقليد الأعمى للآباء والأجداد.
هذا وقد انتبه المسلمون لأهمية التربية وأهمية إصلاح أخطاء الفرد والمجتمع فتوالت المؤلفات في هذا الصدد ، ومنها الرسول العربي المربي ، والرسول القائد ، والرسول المعلم ، ومنها كتاب الأساليب النبوية في معالجة الأخطاء للشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله ، وهو من أنفس هذه الكتب ، والكتاب مطبوع ومتداول كثيرا على النت ، وعدد(1/2)
صفحانه البي دي إف سبعون صفحة ، وهو مترجم لعدة لغات وهذا مكانه WWW.islamqa.com.
وقد بأه بعديد من التنبيهات ، ثم ذكر أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - في معالجة الأخطاء من خلال ثمان وثلاثين طريقة ثم خاتمة .
ومع أهمية الكتاب البالغة في بابه ، فعليه عديد من الملاحظات ،منها أنه قد ذكر بعض التنبيهات في المقدمة ولم يذكر دليلاً أو شاهدا عليها ،ومنها أنه لا يوجد به هوامش ، والأحاديث التي يذكرها لا يخرِّجها في الغالب من مصادرها الأساسية ، وبعضها مشكل والبعض الآخر غير مشكل ، وبعضها محكوم عليه ، وبعضها لا يوجد بيان لدرجته ، وأكثرها غير مشروحة الغريب ، وكثيرا ما يورد الجزء المطلوب من الحديث فقط ، أو يقتصر على شواهد قليلة ، وهو خال من الفهرس العام للكتاب ....
ومع هذا فهو من أفضل ما كتب في هذا الموضوع ، وقد استفدت منه كثيرا وسرت على طريقته .
ومنها رسالة جامعية بعنوان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في معالجة الأخطاء تأليف محمد علي محمد يحيى الأخرش حفظه الله .
وهي رسالة قيمة وجامعة وقد قسمها لأبواب وفصول ، وبين وبين كتاب المنجد عموم وخصوص . وفيها أشياء غير التي في الأولى أيضاً ، وقد استفدت منها كثيرا .
وقد قسمته لثلاثة أبواب ، وتحت كل مباحث
الباب الأول=أهم الأسباب في حدوث الأخطاء
الباب الثاني= أهم الاعتبارات في تصحيح الأخطاء
الباب الثالث =الأساليبُ النبويةُ في التعامل مع أخطاء الناس ، وقد بلغت ثلاثة وخمسين نوعاً . ويمكن أن يزاد عليها ، إذ المسألة قائمة على الاجتهاد .
ثم خاتمة فيها خلاصة هذا الموضوع .
وأما طريقة عملي في هذا الكتاب فهي كما يلي :
الآيات القرآنية كلها بالرسم العادي ، وغالبها مفسر بشكل مختصر وواضح .(1/3)
الأحاديث النبوية نقلتها من مصادرها الأصلية ، وهي جميعاً مشكلة بشكل دقيق ، وتخريجها في الهامش ، بشكل مختصر .
ذكرت روايات كثيرة للحديث الواحد إذا كان فيها اختلاف لتتضح الصورة بشكل أفضل .
الحديث الذي ليس في الصحيحين حكمت عليه بما يناسبه جرحاً وتعديلاً ، وغالبها صحيحة وحسنة .
شرحت غريب الأحاديث في الهامش .
ذكرت مصدر كل قول بالهامش أيضاً .
كررت بعض الأحاديث في مواضع شتى ، لأن الحديث يدخل تحت موضوعات عديدة كشاهد لها ، ولكن في كل مرة يستنبط منه شيئاً جديداً .
ذكرت كثيرا من التعليقات التربوية في تصحيح الأخطاء بعد كل حديث أو في نهاية الموضوع أخذتها من الكتابين السابقين ومن غيرهما أحياناً مع بعض التصرف .
هذا وأسال الله تعالى أن يجزي العالمين المذكورين وغيرهما خير الجزاء وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به معدَّه وقارئه وناشره والدالُّ عليه في الدارين .
قال تعالى : {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (90) سورة الأنعام
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 18 جمادى الأولى 1430 هـ الموافق ل12 /5/2009 م
- - - - - - - - - - - - - -(1/4)
الباب الأول
أهم الأسباب في حدوث الأخطاء
المبحث الأول
الجهل
والجهل هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه (1) .
والجهل قسمان :
الجهل البسيط : وهو عدم العلم عما من شأنه أن يكون عالماً (2) ، أو هو عدم الإدراك بالكليَّة .
الجهل المركب : وهو عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقع (3) ، أو هو إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه ؛ ومن ناحية العذر فيه ، فهو نوعان :
1- جهل يعذر فيه الإنسان .
2- جهل لا يعذر فيه مما كان ناشئاً عن تفريط وإهمال (4) .
والجهل البسيط هو الشائع بين عامة الناس ، قال ابن القيم رحمه الله : «وهذا السببُ هو الغالب على أكثر النفوس ، فإنَّ من جهل شيئاً عاداه ، وعادى أهله» (5) .
والجهل هو أحد أسباب الوقوع في المعصية والخطأ ، بل هو من أكبر الأسباب المؤدية إلى الخطأ ، قال شيخ الإسلام - رحمه الله - : " يُبَيِّن ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ جَمِيعَهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ إنَّمَا يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ لِجَهْلِهِ أَوْ لِحَاجَتِهِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِمَضَرَّتِهَا وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا امْتَنَعَ أَنْ يَفْعَلَهَا وَالْجَهْلُ أَصْلُهُ عَدَمٌ وَالْحَاجَةُ أَصْلُهَا الْعَدَمُ .فَأَصْلُ وُقُوعِ
__________
(1) - انظر : التعريفات - الجرجاني ص 108 .
(2) - المصدر السابق .
(3) - المصدر السابق .
(4) - القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 1 / 171 .
(5) - هداية الحيارى لابن القيم ت : لجنة من العلماء ط. دار زيدون بيروت. ص 35 .(1/5)
السَّيِّئَاتِ مِنْهُ عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْغِنَى " (1)
والجهل خطير ، وداؤه كبير ، ولذا فقد جاءت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تبيّن خطورته ، وتحذر منه ، ومن ذلك :
نحو قوله تعالى :{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }[الأعراف : 33].
قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَافْتَرُوْا عَلَى اللهِ الكَذِبَ ، فَزَعَمُوا أَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِن كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِم الزِّينَةَ : إِنَّ اللهَ لَمْ يُحَرِّمْ فِيمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ إلاَّ الأُمُ رَ التَّاليةَ .
أ - الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ( كَالزِّنَى وَالمَعَاصِي الأُخْرَى ) .
ب - الإِثْمَ - وَهُوَ المَعْصِيَةُ .
ج - البَغْيَ عَلَى النَّاسِ ، وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ .
د - وَحَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُشْرِكُوا مَعَهُ أَحَداً فِي عِبَادَتِهِ .
ه - وَأَنْ يَفْتَرُوا عَلَى اللهِ وَيَكْذِبُوا ، وَأَنْ يَقُولُوا عَلَيْهِ مَا لا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ ( كَقِوْلِهِمْ إنَّ لَهُ وَلَداً أَوْ نَحْوَ ذلِكَ . . . ) . (2)
ويقول تعالى:{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء : 36] .
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى العِبَادَ عَنِ القَوْلِ بِلاَ عِلْمٍ ، وَبُدُونِ تَثَبُّتٍ ، فَعَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الحَدِيثِ فِي أَمْرٍ عَلَى الظَّنِّ وَالشُّبْهَةِ وَالتَّوَهُّمِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ : لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ بِمَا رَأَتْ عَيْنَاكَ ، وَسَمِعَتُهُ أُذُنَاكَ ، وَوَعَاهُ قَلْبُكَ . وَيَقُولُ تَعَالَى لِلعِبَادِ إِنَّهُ سَيَسْأَلُهُمْ عَنْ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَفْئِدَتِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَعَمَّا اجْتَرَحَتْهُ كُلُّ جَارِحَةٍ مِنْ هَذِهِ الجَوَارِحِ . (3)
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (14 / 22)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 988)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2066)(1/6)
أما في السنة النبوية فها هنا بعض المواقف والتي تدلُّ على أن الجهل من أهم أسباب الوقوع في الخطأ ، فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِىِّ قَالَ بَيْنَا أَنَا أُصَلِّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِى الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَىَّ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِى لَكِنِّى سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبِأَبِى هُوَ وَأُمِّى مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِى وَلاَ ضَرَبَنِى وَلاَ شَتَمَنِى قَالَ « إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَىْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ » (1) .
فهذا الأعرابي - الحديث عهد بجاهلية - عندما أخطأ في أمر مهم وهي الصلاة عمود الدين حيث أحدث كلاماً غير مشروع فيها ، وهو تشميت العاطس ، وما أتى بهذا الأمر إلا نتيجة جهله . إذ لو كان عامداً لبطلت صلاته إذ إنه - التشميت - من كلام الناس الذي يحرم في الصلاة ، وتفسد به إذا أتى به عالماً عامداً» (2) لكنه لما كان من كلام الجاهل إذا كان قريب عهد بالإسلام ... فلا تبطل الصلاة لحديث معاوية بن الحكم هذا ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بإعادة الصلاة ، لكنه علمه تحريم الكلام فيما يستقبل .
فانظر كيف أثَّر هذا الجهل على هذا الحُكم ؟ وكيف أثرَّ هذا الجهل على تصرفات هذا الأعرابي ؟ لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على قدر عظيم من الخُلق الذي شهد الله تعالى له به ، ورفقه بالجاهل ، ورأفته بأمته وشفقته عليهم .
وفيه التخلق بخُلقه - صلى الله عليه وسلم - في الرفق بالجاهل ، وحسن تعليمه ، واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه (3) .
فهو - صلى الله عليه وسلم - لم ينهره ، ولم يضربه ، ولم يشتمه ، ولذلك أعلنها ذلك الأعرابي: أنه ما رأى معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه - صلى الله عليه وسلم - ، فهو لما أثَّر الرفق فيه ، وأدرك أن ما صدر منه كان بسبب قرب عهده بالجاهلية ، بدأ يستفسر عن الأمور التي كانت شائعة في الجاهلية كي يتمكن من اجتنابها - وكانت محرمة - بدل أن تظهر منه
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (1227 )
(2) - شرح صحيح مسلم للنووي 2 / 191 .
(3) - انظر : المصدر السابق نفس الصفحة .(1/7)
فينكر عليه (1) .
وهكذا وردت كذلك بعض القصص في السنة النبوية تدلُّ على أن الجهل له تأثير على صاحبه ،
فعن وَهْبََ بْنَ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِى سَلَمَةَ يَقُولُ كُنْتُ غُلاَمًا فِى حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ يَدِى تَطِيشُ فِى الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ » . فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِى بَعْدُ (2) . وكذلك ما ورد من قصة الأعرابي الذي جهل حكم البول في المسجد ، فبال فيه - وسيأتي إن شاء الله - (3) .
وكذلك حديث المسيء صلاته ، فقد كان جاهلاً ببعض أحكام الصلاة ، وسيمر في مكانه (4)
وخلاصة الكلام أن الجهل داء يجب تجنبه ، والحذر منه والتحذير منه، وأن الجاهل وغير الراسخ في العلم ،يتخرّصُ في الأمور،ويأخذ فيها بالنظر الأول كما قال الشاطبي رحمه الله :" هَذِهِ الْأَسْبَابُ .. رَاجِعَةٌ فِي التَّحْصِيلِ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ : وَهُوَ الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّخَرُّصِ عَلَى مَعَانِيهَا بِالظَّنِّ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ ، أَوِ الْأَخْذِ فِيهَا بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَاسِخٍ فِي الْعِلْمِ " (5)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - بتصرف من كلام فضل إلهي ظهير في كتابه : من صفات الداعية اللين والرفق ص 24 .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5376 )
(3) - انظر تفاصيله في المسند الجامع - (1 / 446) (294)
(4) - انظر رواياته في المسند الجامع - (16 / 1048) (12826)
(5) - الاعتصام للشاطبي - (2 / 690)(1/8)
المبحث الثاني
الكبر
جاء في لسان العرب: « والاستكبار: الامتناع عن قبول الحق معاندة وتكبراً» (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ». قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ « إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ » (2) ..
والحديث أدعى وأشمل وأدق وأصدق في الإحاطة بمعنى الكبر ، ولا تضاد بين الأمرين .
ومعنى الحديث : أن « بطر الحق دفعه ، وإنكاره ترفعاً وتجبراً ، وغمط الناس احتقارهم » (3) .
والكبر داؤُه في القلب عظيم ، وخطره على العبد جسيم ، ولذلك وردت النصوص القرآنية ، والهدى النبوي في التحذير من هذا الداء العضال والمرض الفتاك بالقلوب ، ومن ذلك :
قول الله تبارك وتعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } [الأعراف : 146] .
سَأَصْرِفُ عَنِ الهِدَايَةِ قُلُوبَ الذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عَنْ طَاعَتِي ، وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَى النَّاسِ بِغَيرِ الحَقِّ ، وَإِذا رَأَوْا آيَاتِ اللهِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا ، وَإِذَا رَأَوا طَرِيقَ الخَيْرِ تَنَكَّبُوا عَنْهُ ، وَلَمْ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاَ ، وَإِذَا رَأَوْ سَبِيلَ الضَّلاَلِ اتَّبَعُوهُ ، وَقَدْ جَازَاهُمُ اللهُ تَعَالَى هَذا الجَزَاءَ لأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ ، وَاغَفَلُوا عَنْهَا ، فَأَضَلَُّهُمُ اللهُ ، وَلَمْ يَهْدِهِمْ . فَكَمَا اسْتَكْبَرُوا بِغَيرِ الحَقِّ فَإِنَّ اللهَ عَاقَبَهُمْ بِالإِذْلاَلِ وَبِالخَتْمِ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَبِإلْقَاءِ الغِشَاوَةِ عَلَى أَعْيُنِهِمْ حَتَّى لاَ يَجِدَ الحَقُّ
__________
(1) - لسان العرب ، مادة ( كبر ) 12/ 13 .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (275) البطر : التكبر على الحق فلا يقبله -الغمط : الاحتقار والاستهانة
(3) - شرح صحيح مسلم للنووي 1/ 268 .(1/9)
مَنْفَذاً لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا . (1)
أما الأحاديث فكثيرة منها الحديث الآنف الذكر .
والكبر نوعان :
1- كبر على الحق . ... 2- كبر على الخلق (2) .
وقد بينهما النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : « الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ » .
وللكبر أسباب فمنها :
الأول : الرغبة بعدم الخضوع لأحد ، وخصوصاً إذا كان هذا الخضوع هو لرب العزة والجلال سبحانه ، فيبدأ بالتَّمرد على طاعة ربه ، « ومتى عظمُ هذا الشعور ، واستولى على جوانب النفس تولَّد عنه في سلوك المستكبر الطغيان { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) } [العلق : 6 ، 7] ،ولا ينمو هذا الشعور ويعظم إلا وفي العقل نقصٌ ، وفي الإدراك قصورٌ » (3) .
الثاني : الطموحُ الجامح إلى الامتياز على الآخرين (4) ، والرغبة بالتفوق عليهم ، ولو كان بالاستعلاء المذموم المنهي عنه .
الثالث : الرغبةُ بإخفاء ما يشعرُ به المستكبر من نقص في ذاته ، أو في عمله ، وهو حريصٌ على أن يكون في أعين الناس كبيراً (5) ، حتى ولو ارتكب هذا السلوك المشين - الكبر - .
وللكبر مظاهر لا بدَّ من الحذر منها ، ومن ذلك :
تصعيرُ الوجه والخد ، وقد حذر لقمان ابنه من ذلك ، قال تعالى :{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) } [لقمان : 18]
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1101)
(2) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 6 / 232 .
(3) - الأخلاق الإسلامية وأسسها - الميداني 1 / 718 .
(4) - انظر : المصدر السابق ص 719 .
(5) - انظر : المصدر السابق ص 720 .(1/10)
وَلاَ تُعْرِضْ بِوجَهِكَ عَنِ النَّاسِ كِبْراً واسْتِعْلاءً ، ولكِنْ أَقبِلْ عَليهِمْ بِوَجْهِكَ كُلِّهِ إذا كَلَّمْتَهُم ، مُسْتَبْشِراً مُتَهَلِّلاً مِنْ غير كِبْرٍ وَلاَ عُتُوٍّ ، وَلا تَمْشِ في الأَرْضٍِ مُتَبَخْتِراً ، مُعْجَباً بِنَفْسِكَ كالجَبَّارِينَ الطُّغَاةِ المُتَكَبِّرِينَ ( مَرَحاً ) ، بَلِ امْشِ هَوْناً مِشْيَةَ المُتَواضِعِينَ للهِ ، فَيُحِبَّكَ اللهُ ، ويُحِبَّكَ خَلْقُهُ ، واللهُ تَعَالَى لا يُحِبُّ المُعْجَبَ بِنَفْسِهِ ( المُخْتَالَ ) الفَخُورَ عَلى غَيْرِهِ . (1)
والفعل هذا - التَّصعير للخد - يدلُّ على الاحتقار ، والاستهانة بالآخرين- وذلك لأن الصَّعر في الأصل : « ميل في العنق ، والتَّصعير : إمالته عن النظر كبراً » (2) .
كذلك من مظاهره : الكبرُ في مخاطبة الآخرين إذ أن الواحد منهم - المتكبرين - يتقعّر في كلامه ولا يوضحه للمخاطب إلا بصعوبة .
كذلك الكبر في اللباس والتباهي به ، وجرّ الثوب خيلاءً وبطراً ، كما جاء في الحديث « لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا » (3) . .
« والكبرُ أثرٌ من آثار العجب والبغي من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم ، ترحلت منه العبودية ونزل عليه المقت ، فنظره إلى الناس شزر ، ومشيه بينهم تبختر ، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار لا الإيثار ، ولا يرى لأحد عليه حقاً ويرى حقوقه على الناس ... لا يزداد من الله إلا بعداً ، ومن الناس إلا صغاراً ، أو بغضاً » (4) .
والكبرُ مدعاةٌ إلى الخطأ والتمادي فيه ، ولعل لنا في الهدي النبوي خير مثال وأحسن مقال في أن الكبر يدعو إلى الخطأ ، وبالتالي يرتكب صاحبه المعصية بسبب ذلك ، وإليك المثال فعَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ حَدَّثَنِى إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِمَالِهِ فَقَالَ « كُلْ بِيَمِينِكَ ». قَالَ لاَ أَسْتَطِيعُ قَالَ « لاَ اسْتَطَعْتَ ». مَا مَنَعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ. قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ. (5) .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3368)
(2) - مفرادات ألفاظ القرآن للراغب ص 484 مادة ( صَعَر ) .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5788 )
(4) - الروح لابن القيم ص 351 .
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (5387)(1/11)
« ففي الحديث دلالة على جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر» (1) والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد استخدم هذه الأسلوب - وهو الدعاء - على هذا الرجل « لأنه - صلى الله عليه وسلم - عرف أنه متكبر حيث قال له : لا استطعت فلما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك أجاب الله دعوته فلم يرفعها إلى فمه بعد ذلك» (2) .
وهذا الأسلوب الذي استخدمه - صلى الله عليه وسلم - وهو الدعاء - من أساليب تصحيح الأخطاء التي قد يقع فيها البعض ، كما وقع هذا المتكبر فصحَّح له النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الخطأ بالدعاء .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 167 .
(2) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 6 / 240 .(1/12)
المبحث الثالث
العجلة والتسرع
والعجلة : هي السرعة (1) ، وعكسها الأناة والتثبت .
والأناة: هي التبيّن والتثبّت في الأمور ، والتبصر والتأمل (2) .
وقيل : التأني في الأمور وعدم العجلة ، وألا يأخذ الإنسان الأمور بظاهرها فيتعجَّل ، ويحكم على الشيء قبل أن يتأنى فيه وينظر (3) .
والإسلام يذم الاستعجال، وينهى عنه ، ويذم التباطؤ وينهى عنه ويمدح الأناة ويأمر بها ، وقد عمل على تدريب المسلمين على الأناة وعلى التريّث الحكيم في القيام بالأعمال ، وفي تصريف الأمور (4) . وقد أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعدم الاستعجال وترك العجلة في تلاوة القرآن حيث قال سبحانه :{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) } [القيامة : 16 - 19] .
كَانَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - ، حِينَمَا يَتَلَقَّى الوَحْيَ ، حَرِيصاً عَلَى حِفْظِهِ ، فَكَانَ يُسَابِقُ الوَحْيَ فِي قِرَاءَةِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ لِيَحْفَظَهُ ، وَلاَ يُضَيِّعَ مِنْهُ شَيئاً ، فَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ بِأَنْ يَسْتَمِعَ إِلَى الوَحْي إِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَقَدْ ضَمِنَ اللهُ لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يُيَسِّرَ لَهُ حِفْظَهُ وَأَدَاءَهُ ، وَأَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُ وَيُفَسِّرَهُ .
إِنَّ اللهَ تَكَفَّلَ لَكَ بِجَمْعِ القُرْآنِ وَتَثْبِيتِهِ فِي صَدْرِكَ .
فَإِذَا قَرَأَهُ عَلَيْكَ المَلَكُ فَاسْتَمِعْ لَهُ ، وَتَابِعْهُ فِي قِرَاءَتِهِ ، ثُمَّ اقْرَأْهُ أَنْتَ كَمَا قَرَأَهُ عَلَيْكَ .
ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى تَكَفَّلَ لَكَ بِبَيَانِ القُرْآنِ ، وَتَوْضِيحِهِ لَكَ . (5)
ووصف الله الإنسان بأنه عجول ، وبأنه خلق من عجل فقال سبحانه :{ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ
__________
(1) - انظر : القاموس المحيط ص 1330 .
(2) - المرجع السابق ص 448 .
(3) - انظر : شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 6 / 280 .
(4) - انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها الميداني 2 / 369 .
(5) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5445)(1/13)
بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء : 11].
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَجَلَةِ الإِنْسَانِ ، وَدُعَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ بِالشَّرِّ حِينَ الغَضَبِ ، كَمَا يُسَارِعُ إِلَى الدُّعَاءِ فِي الخَيْرِ ، فَلَوِ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ لأَهْلَكَهُ وَأَهْلَكَ أَهْلَهُ . وَالَّذِي يَحْمِلُ الإِنْسَانَ عَلَى ذلِكَ هُوَ قَلَقُهُ ، وَعَجَلَتُهُ ، وَقِلَّةُ صَبْرِهِ .
وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى : أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ طَلَباً لِشَيءٍ يُعْتَقَدُ أَنَّ فِيهِ خَيْرَهُ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبَ بَلاَئِهِ وَشَرِّهِ لِجَهْلِهِ بِحَالِهِ ، وَهُوَ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ عَجُولاً مُغْتَراً بِظَوَاهِرِ الأُمُورِ . (1)
والعجلة في الإنسان ظاهرة ناتجة عن اجتماع عدة عوامل لديه :
العامل الأول : توجه دافع مُلحّ من دوافع النفس لتحقيق مطلب من مطالبها أو رغيبة من رغائبها .
العامل الثاني : عدم التبصر بالأمور تبصّراً شاملاً .
العامل الثالث : ضعف الإرادة وضمورها أمام قوة الدوافع النفسية (2) .
ومن أهم أسباب العجلة التي توقع الإنسان في الخطأ ، هو الشيطان عدو الإنسان ، ولذلك ورد التحذير من ذلك وبيان أن الشيطان يورث العجلة فعَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ، قَالَ: " التَّأَنِّي مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَا شَيْءٌ أَكْثَرُ مَعَاذِيرَ مِنَ اللهِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْحَمْدِ " (3)
وإذا كانت العجلة مذمومة في حق الإنسان ، ففي حق الداعية أشدَّ ذماً ، إذْ إن الداعية مأمور بالتثبت والأناة ، ولأن في العجلة الندامة والخطأ ، ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم أناةً ، وأشدّ تثبتاً ، وأبعد عن العجلة والتسرّع ، حتى في فرائض الله ، فكان - صلى الله عليه وسلم - وهو في الجهاد لا يقاتل أحداً من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ ، فَإِنْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2041)
(2) - انظر : الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني 1 / 390 .
(3) - شعب الإيمان - (6 / 211) (4058 ) صحيح(1/14)
سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ .." (1) .
ومعلوم أن الأناة يحبها الله سبحانه، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لأشجِّ عبد القيس : « إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ » (2) . .
والعجلة - كما سبق تورث الخطأ ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً فِيهَا الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ ، فَلَمَّا أَتَوُا الْقَوْمَ وَجَدُوهُمْ قَدْ تَفَرَّقُوا ، وَبَقِيَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لَمْ يَبْرَحْ ، فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ الْمِقْدَادُ ، فَقَتَلَهُ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : أَقَتَلْتَ رَجُلًا يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، لأَذْكُرَنَّ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رَجُلا شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، فَقَتَلَهُ الْمِقْدَادُ ، فَقَالَ : ادْعُ لِي الْمِقْدَادَ ، يَا مِقْدَادُ أَقَتَلْتَ رَجُلًا يَقُولُ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ؟ فَكَيْفَ لَكَ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ غَدًا ؟ قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (94) سورة النساء ، - شَكَّ أَبُو سَعِيدٍ جَعْفَرُ بْنُ سَلَمَةَ - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (94) سورة النساء، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلْمِقْدَادِ : كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ ، فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلَهُ ، وَكَذَلِكَ كُنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ." (3) .
كذلك حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، فعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : دَعُوهُ، لا تُزْرِمُوهُ، قَالَ: فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ وَفَرَغَ،
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (610 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (127 )
(3) - كشف الأستار - (3 / 45)(2202) حسن(1/15)
ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصَبَّ عَلَى الْبَوْلِ." (1)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لو ترك الصحابة وما هموا به من إيذاء الرجل لحدثت من ذلك مفاسد كثيرة ، ولأوقعهم ذلك في الخطأ ، ومن هذه المفاسد :
الأولى : استمرار هذا الأعرابي في بوله ، وهذه مفسدة كبيرة .
الثانية : إقامته من بوله ، وهذه مفسده أيضاً،لكن هذه أكبر من سابقتها ؛ لأنه يترتب عليها ما يلي :
أولاً : الضرر على هذا البائل ، لأن البائل إذا منُع البول المتهيئ للخروج ففي ذلك ضرر.
ثانياً : أنه إذا قام فإما أن يقطع رافعاً ثوبه ، لئلا تصيبه قطرات البول ،وحينئذ تكون القطرات منتشرة في المكان، وربما تأتي على أفخاذه ويبقى مكشوف العورة أمام الناس وفي المسجد ، وإما أن يدلي ثوبه ، وحينئذ يتلوّث الثوب ويتلوث البدن ، وهذه أيضاً مفسدة ،فلهذا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الرجل يبول حتى انتهى ، ثم أمر بأن يصبَّ عليه ذنوباً من ماء (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أبي عوانة(435 ) صحيح
(2) - انظر: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 6/ 288 .(1/16)
المبحث الرابع
الحسد
حسده الشيء وحسَّده : تمنَّى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته ، أو يسلبهما (1) هذا هو تعريف الحسد في لغة العرب ، لكن شيخ الإسلام رحمه الله يرى تعريفاً غير ذلك ، إذ يقول : « وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَسَدَ هُوَ الْبُغْضُ وَالْكَرَاهَةُ لِمَا يَرَاهُ مِنْ حُسْنِ حَالِ الْمَحْسُودِ » (2) .
والحقيقة أنه لا تعارض بين تعريف شيخ الإسلام ، وبين تعريف أهل اللغة للحسد : إذ أن كلام شيخ الإسلام في بيان أصل الدافع لهذه الرذيلة وهي الحسد ، أما تعريف أهل اللغة فهو عبارة عن نتيجة هذا الدافع ، وهو تمني زوال النعمة (3) .
وصفة الحسد «من الرذائل الخلقية ذات النتائج النفسية والاجتماعية السيئة على الأفراد وعلى الجماعات ، وهو داءٌ إذا أصاب النفس الإنسانية أضناها وأشقاها ، وجعلها مصدر أذىًّ للآخرين الذين امتحنهم الله بفضائل من نعمه ومزيد من عطائه » (4) .
ولذلك فقد حذَّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هذا الداء العضال ، وبين - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هذا - الحسد - داء الأمم قبلنا ، فعَنْ يَعِيشَ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ مَوْلَى الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِىَ الْحَالِقَةُ لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ». (5)
والحسدُ من خصال اليهود فمن حسد ، فهو متشبه بهم،والعياذ بالله قال تعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا
__________
(1) - انظر :القاموس المحيط ص 353 .
(2) - مجموع الفتاوى 10/ 111 .
(3) - انظر : الإتباع أنواعه وآثاره في بيان القرآن 1 / 305 .
(4) - الأخلاق الإسلامية وأسسها 1/ 789 .
(5) - سنن الترمذى- المكنز - (2699 ) حسن لغيره(1/17)
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (109) سورة البقرة (1) .
وللحسد مفاسد كثيرة فمنها :
1- أنه تشبه باليهود .
2- أن فيه دليلاً على خبث نفس الحاسد .
3- ومنها أن فيه اعتراضاً على قدر الله عز وجل وقضائه .
4- ومنها أنه كلما أنعم الله على عباده نعمة التهبت نار الحسد في قلبه.
5- وهو كذلك يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ - أَوْ قَالَ : الْعُشْبَ - " (2) .
وللحسد أنواع منها:
1- الغبطةُ : وهي تمني إدراك النعمة دون زوالها من الآخر فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهْوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا » (3) .
قال ابن حجر رحمه الله : «وأمَّا الحسدُ المذكور في الحديث فهو الغبطة ، وأطلق الحسد عليها مجازاً ، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه » (4) .
2- أن يتمنى الحاسد زوال النعمة عن أخيه من غير نقل ذلك إلى نفسه. قال ابن رجب رحمه الله : « وهو شرّهما وأخبثهما ، وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه ، وهو كان ذنب إبليس حيث حسد آدم عليه السلام ، لما رآه قد فاق الملائكة » (5) .
3- أن يتمنى الحاسد زوال النعمة عن أخيه وانتقالها إليه ، « وتتولد هذه الدرجة من
__________
(1) - انظر :شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 4/ 703 .
(2) - سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ (4320 ) صحيح لغيره
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1409 )
(4) - فتح الباري 1 / 201 .
(5) - جامع العلوم والحكم ج 2 / 260 .(1/18)
اقتران الحسد بالطمع حتى يتمنى الحاسد انتقال النعمة من المحسود إليه » (1) .
4- اتخاذُ الوسائل ،والأسباب لإزالة النعمة عن صاحبها ، أو طمس مظاهرها بالدسائس ، والمكايد ، والمجاهرة بالعداوة ، والجحود ، وغمط الناس ، والظلم (2) .
وللحسد أسبابُ فمنها :
1- العداوة والبغضاء ، قال ابن القيم رحمه الله : «فإن انضاف إلى هذا السبب (3) بُغض من أَمرَه بالحق ، ومعاداته له وحسده ، كان المانعُ من القبول أقوى» (4) .
وقد ورد في الحديث النهي عن التباغض ،والتحاسد ،ولعل ذلك يدل على أن البغضاء سببها الحسد ، فعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ حَدَّثَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« لاَ تَبَاغَضُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ » (5) .
2- خبث النفس،ولذلك كان الكفار يحسدون المسلمين على الإسلام كما قال سبحانه وتعالى عنهم { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } [النساء : 89]
فإنهم كما كانت نفوسهم خبيثة رغبوا في جعل الناس مثلهم .
3- التنافس الدنيوي على الحطام الفاني ، فإن ذلك - التنافس - ينشأ عنه العداوة والبغضاء والحسد (6) .
ولا شك أن الحسد جالب للخطأ والزلل ، بل هو من أعظم أسباب ارتكاب الأخطاء ؛ ولذلك قيل: إن إبليس كان من فعله لآدم أنه حسده على مكانته التي بوأه الله إياها
__________
(1) - الأخلاق الإسلامية 1 / 796 .
(2) - انظر : المرجع السابق نفس الصفحة .
(3) - يقصد الجهل .
(4) - انظر : هداية الحيارى لابن القيم ص 35.
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (6065 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6690 )
(6) - انظر : الإتباع أنواعه وآثاره في بيان القرآن 1 / 308 .(1/19)
، وفضله بالعلم على الملائكة ، قال ابن القيم رحمه الله : وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد (1) .
كذلك قصة ابنيْ آدم الذي قتل أحدهما الآخر ، فلقد حسده على مزيَّة القبول ، فصار الحسد بهذا أول جريمة ظهرت في الأرض (2) .
قال ابن عبد البر رحمه الله : « كان يقال : أول ما عُصي الله به في السماء والأرض الحسد والحرص ، ذهبوا إلى أن إبليس حسد آدم فلم يسجد له ، وحرص آدم على الخلود ، فأكل من الشجرة ، وحسد ابن آدم أخاه حين تقبل منه قربانه فقتله . وقد قال الشاعر :
كلُّ العداوةِ قد ترَجى إماتَتُها إلا عداوةَ مَنْ عاداكَ مِنْ حَسدِ» (3)
والشاهد على أن هذا الداء العضال جالب للخطأ والزلل فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكِبَ حِمَارًا وَعَلَيْهِ إِكَافٌ وَتَحْتَهُ قَطِيفَةٌ ، فَرَكِبَ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي الْحَارِثِ فِي الْخَزْرَجِ ، وَذَلِكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَعَبْدَةُ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودُ ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللهِ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ، ثُمَّ قَالَ : لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَوَقَفَ عَلَيْهِمْ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ : أَيُّهَا الْمَرْءُ ، لَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا ، فَلاَ تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا ، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ ، فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ : بَلِ اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا ، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ ، فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَثُورُوا ، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا ، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ ، فَدَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَقَالَ : أَلَمْ تَسْمَعَ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ ؟ يُرِيدُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبِيٍّ ، قَالَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللهِ اعْفُ ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ بِالْعِصَابَةِ ، فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ ، شَرِقَ بِذَلِكَ ، فَذَلِكَ الَّذِي
__________
(1) - هداية الحيارى لابن القيم ص 35 .
(2) - المرجع السابق نفس الصفحة .
(3) - بهجة المجالس لا بن عبد البر 1 / 409 .(1/20)
عَمِلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ ، فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ." (1) .
والشاهد في الحديث هو قول سعد بن عبادة في شأن عبد الله بن أبّي ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوّجوه ويعصِّبوه بالعصابة ، فلما ردَّ الله ذلك بالحق الذي أعطاك شَرِق بذلك ، فلذلك فعل به ما رأيت .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : قوله شرق بذلك « أي : غصّ به وهو كناية عن الحسد ، يقال غصّ بالطعام،وشجَّى بالعظم ، وشَرِق بالماء إذا اعترض شيء من ذلك في الحلق فمنعه الإساغة » (2) .
فهذا المنافق منعه الحسد والحقد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الانقياد للحق ، والإسلام لله رب العالمين ، ولذلك ارتكب أعظم خطأ ، وهو الكفر بالله والصدّ عن آياته ورسوله عليه الصلاة والسلام ؛ وما أدى به ذلك إلا الحسد .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (14 / 543) (6581) وصحيح البخارى- المكنز - (4566) وصحيح مسلم- المكنز - (4760)
(2) - انظر : فتح الباري 8 / 80 .(1/21)
المبحث الخامس
الهوى
إن من أعظم مسببات ارتكاب الأخطاء ، والوقوع في الزلات ، هو الهوى ، ولذلك حذرَّ منه القرآن ، وذكرته السنة، ونفرَّ منه العقلاء، والحكماء ، وبسببه ينزل الإنسان من درجته العالية إلى درجة سفلى تعميه ، وتصمه عن سماع الحق ، والخير ، ويجعل صاحبه في دركات الخطأ ، والمعصية ، والنقص .
وقد عُرِّف بتعريفات كثيرة جامعها أنه نقص بحق الإنسان ، وعقله ، وتصرّفه . وقد عرّفه الجرجاني بأنه : « ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع » (1) وقيل هو : «ميل الطبع إلى ما يلائمه » (2) وسواءً كان هذا الطبع خيراً أو شراً .
وقد عدَّه ابن الجوزي رحمه الله - من أسباب الخطأ حيث عقد فصلاً - في كتابه صيد الخاطر - بعنوان : أسباب الخطأ .
وقد قال : « فإذا له - الخطأ - ثلاثة أسباب : أحدها : رؤية الهوى العاجل ، فإن رؤيته تشغل عن الفكر فيما يجنيه » (3) .
وجاء في تعريف أخر له أنه : « كلُّ ما خالف الحق وللنفس فيه حضّ ورغبة من الأقوال والأفعال والمقاصد » (4) و« إن صاحب الهوى لا يرى إلا لهوى » (5) ، فإذا تكلم فبهوى ، وإذا صَمَت فلهوى ، وإذا فعل فلهوى ، وإذا ترك فلهوى .
وإن من أعظم دواعي الضلال وارتكاب الأخطاء والهلاك في الآخرة اتباع الهوى ، وقد
__________
(1) - التعريفات للجرجاني ص 320 .
(2) - أسباب التخلص من الهوى - من كلام ابن القيم - انتقاء القسم العلمي بدار الوطن ص 3، وذم الهوى لابن الجوزي ص 18 صححه أحمد عبد السلام ط . دار الكتب العلمية .
(3) - صيد الخاطر لابن الجوزي ص 452 .
(4) - الهوى وأثره في الخلاف ص 12 .
(5) - ذم الهوى لابن الجوزي ص 20 .(1/22)
قيل : إنما سمي الهوى هوىً لأنه يهوي بصاحبه إلى النار : وقال ابن عباس رضي الله عنهما ما ذكر الله عز وجل الهوى في كتابه إلا ذمه (1) .
« قال وهب بن منبه : العقل والهوى يصطرعان ، فأيهما غلب مال بصاحبه .
وقال عمر بن عبد العزيز : أفضل الجهاد جهاد الهوى .
ويقولون : إن هشام بن عبد الملك لم يقل بيت شعر قط إلا هذا البيت:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى إلى بعض ما فيه عليك مقالُ » (2) .
- والهوى إذا تحكم بصاحبه فإنه يعميه - كما سبق - فلا يقول إلا بهوى ، ولا يعمل إلا بهوى ، ولذلك فقد بوّب أبو داوود: باب في الهوى فعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « حُبُّكَ الشَّىْءَ يُعْمِى وَيُصِمُّ ». (3) .
وليس كل الهوى مذموم - مع أنه إذا ذكر بدون تقييد فالمقصود به المذموم - فمنه الممدوح كذلك ، إِذ هو على نوعين :
1- الهوى الممدوح : وهو ما وافق الشرع ، ورسّخه في النفوس ، ويدخل فيه كل ما يرغبه الإنسان ، ويميل إليه من المباح والحلال ، وهذا هو المعنى في قوله سبحانه :{ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا } [الأحزاب : 51]
تؤخر مَن تشاء مِن نسائك في القَسْم في المبيت، وتضم إليك مَن تشاء منهن، ومَن طَلَبْتَ ممن أخَّرت قَسْمها، فلا إثم عليك في هذا، ذلك التخيير أقرب إلى أن يفرحن ولا يحزنَّ، ويرضين كلهن بما قسمت لهنَّ، والله يعلم ما في قلوب الرجال مِن مَيْلها إلى بعض النساء دون بعض. وكان الله عليمًا بما في القلوب، حليمًا لا يعجل بالعقوبة على من عصاه. (4)
__________
(1) - الهوى وأثره في الخلاف ص 7 .
(2) - الآداب الشرعية لابن مفلح 2/ 222 .
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (5132 ) وشعب الإيمان - (2 / 14)(408) صحيح موقوف
(4) - التفسير الميسر - (7 / 359)(1/23)
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللاَّتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَقُولُ : تَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا ؟ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ : {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} [الأحزاب]. قَالَتْ : قُلْتُ : وَاللَّهِ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلاَّ يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ." (1) .
قال ابن حجر رحمه الله : « أي : ما أرى الله إلا موجداً لما تريد بلا تأخير ، منزلاً لما تحب وتختار » (2) .
2- الهوى المذموم : وهو ما خالف الشرع ونفرّ منه ومن الاستسلام له . وهذا هو الغالب في الهوى ، وإذا ذُكر الهوى فهو المقصود والمتبادر إليه .ولهذا النوع قال ابن عباس رضي الله عنهما مقولته السابقة : ثم إن « اتباع الهوى المذموم قد يكون في أمور الدين ، وقد يكون في شهوات الدنيا ، أو بعبارة أخرى قد يكون في الشبهات ،وقد يكون في الشهوات ، وقد يكون في أمر مشترك بينهما » (3) .
وقد ذمَّ الله الهوى في القرآن ، وبيّن أنه من سمات أهل الباطل والعناد ، وأمر عباده بعدم اتباعه ، فقال سبحانه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }[النساء : 135]
العَدْلُ هُوَ نِظَامُ الوُجُودِ ، لِذَلِكَ أَمْرُ اللهِ المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَجْعَلُوا العِنَايَةَ بِإقَامَةِ العَدْلِ ، عَلَى وَجْهِهِ الصَّحِيحِ ، صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ ، رَاسِخَةً فِي نُفُوسِهِمْ ( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ ) .
وَالعَدْلُ كَمَا يَكُونُ فِي الحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ ، يَكُونُ أيْضاً فِي العَمَلِ : كَالقِيَامِ بِمَا يَجِبُ مِنَ العَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَالأَوْلاَدِ ، فِي النَّفَقَةِ ، وَالمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ . وَيَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ للهِ ، بِأنْ يَتَحَرَّوا الحَقَّ الذِي يَرْضَاهُ اللهُ ، وَيَأْمُرُ بِهِ ، مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ لأَحَدٍ ، وَلاَ مُحَابَاةٍ لَهُ ، وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى نَفْسِ الإِنْسَانِ ، بِأَنْ يُثْبتَ بِهَا الحَقَّ عَلَيهِ ( وَمَنْ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (14 / 282) (6367) صحيح
(2) - فتح الباري 8 / 386 .
(3) - الإتباع أنواعه وآثاره 2/ 427 .(1/24)
أقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِحَقٍّ فَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهَا ) أَوْ عَلَى وَالِدَي الإِنْسَانِ ، أَوْ عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ ، إِذْ لَيْسَ مِنْ بِرِّ الوَالِدَينِ ، وَلاَ مِنْ صِلَةِ الرَّحْمِ ، أنْ يُعَانُوا عَلَى أَكْلِ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ حَقٌّ ، بَلِ البِرُّ وَالصِّلَةُ فِي الحَقِّ وَالمَعْرُوفِ .
وَيُوصِي اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالتِزَامِ العَدْلِ فِي الشَّهَادَةِ ، وَإنْ كَانَ المَشْهُودُ عَلَيهِ مِنَ الأَقَارِبِ ، سَواءً أَكَانَ فَقِيراً أَوْ غَنِياً ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْلَى بِهِ ، وَشَرْعُهُ أَحَقُّ بِأَنْ يُتَّبَعَ فِيهِ ، فَحَذَارِ أَنْ تُحَابُوا غَنِيّاً طَمَعاً فِي بِرِّهِ ، أَوْ خَوْفاً مِنْ سَطْوَتِهِ ، وَحَذَارِ أَنْ تُحَابُوا فَقَيراً عَطْفاً عَلَيهِ ، أَوْ شَفَقَةً بِهِ فَمَرْضَاةُ المَشْهُودِ عَلَيهِ لَيْسَتْ خَيراً لَكُمْ وَلاَ لَهُ مِنْ مَرْضَاةِ اللهِ ، فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى لِئَلاَّ تَعْدِلُوا عَنِ الحَقِّ إلى البَاطِلِ .
وَيَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ أَنْ لاَ يُحَرِّفُوا الشَّهَادَةَ وَلاَ يَتَعَمَّدُوا الكَذِبَ فِيهَا ، وَأَنْ لاَ يُعْرِضُوا عَنْ أَدَائِهَا إذَا مَا دُعُوا إلى الشَّهَادَةِ ، وَيُخْبِرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لا تَخْفَى عَلَيهِ خَافِيَةٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِ العِبَادِ ، فَلاَ يَخْفَى عَليهِ قَصْدُهُمْ ، وَأَنَّهُ مُجَازِيهِمْ بِمَا يَعْمَلُونَ . (1)
وكذلك ذمَّ الله اليهود لاتباعهم لأهوائهم ، حيث قادهم ذلك إلى تبديل شرع الله والكفر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - (2) ، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (87) سورة البقرة.
يَصِفُ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالعُتُوِّ والعِنَادِ وَالاسْتِكْبَارِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ ، وَيَقُولُ تَعَالَى : إِنَّهُم يَتَبِعُونَ فِي ذلِكَ أَهْوَاءَهُمْ . وَيُذَكِّرهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ آتى مُوسَى التَّوراةَ فَحرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ ، وَخَالَفُوا أَوَامِرَهُ وَأَوَّلُوها .
ثُمَّ أَرْسَلَ مِنْ بَعْدِهِ النَّبِيِّينَ وَالرُّسُلَ ، يَحْكُمُونَ بِشَرِيعَتِهِ ، وَيُذَكِّرُونَ النَّاسَ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ ، وَيَأْمُرُونَ بِالالتِزَامِ بِأَحْكَامِهِ ، وَلِذلِكَ لَمْ يَكُنْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عُذْرٌ فِي نِسْيَانِ الشَرَائِعِ وَتَحْرِيفِهَا . وَخَتَمَ اللهُ تَعَالَى أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ، فَجَاءَ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِ أَحْكَامِ التَّورَاةِ ، وَلِهذَا أَيَّدَهُ اللهُ بِالبَيِّنَاتِ وَالمُعْجِزَاتِ ، تَأْكِيداً لِنُبُوَّتِهِ ، وَلِمَا أَتَى بِهِ ، وَأَيَّدَهُ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 628)
(2) - الهوى وأثره في الخلاف ص 12 .(1/25)
بِجِبْرِيلَ عَلِيهِ السَّلاَمُ . وَكَان بَنُو إِسْرَائِيلَ يُعَامِلُونَ الأَنْبِيَاءَ أَسْوَأَ مُعَامَلَةٍ ، فَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بَعْضَهُمْ كَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ ، وَيَقْتُلُونَ بَعْضاً آخَرَ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى ، وَكُلُّ ذلِكَ لأَنَّ هؤُلاءِ الأَنْبِيَاءَ والرُّسُلَ كَانُوا يُطَالِبُونَهُمْ بِالالْتِزَامِ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ ، وَكَانُوا يَأْتُونَ بِمَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ ، وَلِذلِكَ فَلاَ عَجََبَ إِنْ هُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ وَرِسَالَتِهِ ، لأَنَّ العِنَادَ وَالجُحُودَ مِنْ صِفَتِهِمْ . (1)
- وإتباع الهوى - كذلك - أصل الضلال والكفر ،وقد عاب الله من يتّبع هوى نفسه ،فقال سبحانه: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} (23) سورة النجم.
وهذِهِ الأَصْنَامُ التِي يَعْبُدُها هؤلاءِ المُشْرِكُونَ مَا هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ لا حَقِيقَةَ لَها ، سَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهم ، وَجَعَلُوها آلِهةً لَهُمْ ، عَكَفُوا عَلَى عِبَادَتِها ، وَلَيسَ لَهُمْ مِنْ دَليلٍ وَلاَ بُرْهَانٍ عَلَى صِحَّةِ مَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُلُوهِيَّتِها ، وَإِنما هُمْ يَتَّبِعُونَ في ذَلِكَ الظَنَّ والتَّخْمِينَ وَهَوى الأَنْفُسِ ، وَتَقْلِيدَ الآبَاءِ ، واعتِقَادَهُمْ أَنَّ الآباءَ لاَ يُمْكِنَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى ضَلالٍ ، وََلَقَد اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم ، وَقَلَّدُوا آبَاءَهُمْ وَثَابَرُوا عَلَى عِبَادَةِ هذهِ الأَصْنَامِ ، مَعَ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَ إليهم الرَّسُولَ بالهُدَى والحَقِّ ، وَالدَّلِيلِ القَاطِعِ ، عَلَى وُجُودِ اللهِ ووحْدَانِيّتِهِ ، وأنه لاَ إله إِلا هُوَ ، فَكَانَ عَلَيهم أنْ يَتِّعِظُوا بِما جَاءَهُمْ ، وأَنْ يُقْلِعُوا عَنِ الشِّرْكِ وَعَنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ ، وَأَنْ يَتَّبِعُوا رَسُولَ اللهِ حَقّاً وَصِدْقاً ، وَلكِنَّهُمْ أَعْرَضُوا وَتَوَلَّوا . (2)
- والهوى مذموم أصحابه ، وخصوصاً الذين يجعلونه قائداً لهم في الدين والملّة ، فمن جعله كذلك فهو أعظم ممن جعله في الشهوات والملذّات ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : « وَاتِّبَاعُ الْأَهْوَاءِ فِي الدِّيَانَاتِ أَعْظَمُ مِنْ اتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ فِي الشَّهَوَاتِ . فَإِنَّ الْأَوَّلَ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (50) سورة القصص وَقَالَ تَعَالَى : {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 94)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4686)(1/26)
مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (28) سورة الروم. (1)
- وإتباع الهوى نوع من الشرك كما قال بعض السلف : « شرُّ إله عُبد في الأرض الهوى » (2) ، ولذا قال سبحانه محذراً من اتخاذ الهوى إلهاً يعبد من دون الله : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23) سورة الجاثية.
أَفَلا تَرَى إِلى حَالِ هذا الذِي اتَّبعَ هواهُ ، وَأَتبَعَ نَفْسَهُ هَوَاها ، فَلا يَهوَى شَيْئاً إِلا فَعَلَه ، لاَ يَخَافُ رَبّاً ، وَلا يَخشَى عِقَاباً ، وَأَضَلَّهُ اللهُ فَلَمْ يَجْعَلْهُ يَسْلكُ سَبيلَ الرَّشَادِ ، لأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّه لا يَهْتَدِي وَلَو جَاءَتْهُ كُلُّ آيةٍ .وَخَتَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى سَمْعِهِ فَأَصْبَحَ لاَ يَتَأَثَّر بما يُتلى عَلَيهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ ، وَخَتَم عَلَى قَلبِهِ فَلَم يَعُدْ يُبصِرُ حُجَجَ اللهِ وآيَاتِهِ ، وَلَمْ يَعُدْ يَنْتَفِعُ بِها . فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أن يُوَفِّقَ مِثْلَ هذَا الضَّالِّ ، الخَاضِعِ لهوَاهُ ، إِلى الهُدَى ، وَإِصَابَةِ الحقِّ إِنْ لم يَهدِهِ اللهُ ، أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ وَتُدْرِكُونَ؟ (3)
وكما جاء ذم الهوى في القرآن فقد جاء في السنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، ولقد بيّن عليه الصلاة والسلام أن أهل الأهواء ينتشرون بين أهل الحق ، ويتكاثرون بينهم بسبب الأهواء ، فعَنْ أَبِي عَامِرٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ لُحَيٍّ ، قَالَ : حَجَجْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَامَ حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الظُّهْرِ ، فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، يَعْنِي : الأَهْوَاءَ ، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ ، لاَ يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلاَ مَفْصِلٌ إِلاَّ دَخَلَهُ وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - ، لَغَيْرُكُمْ مِنَ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ لاَ يَقُومَ بِهِ." (4) .
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (28 / 132)
(2) - الهوى وأثره في الخلاف ص 23
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4375)
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 779)(16937) 17061- صحيح(1/27)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ، فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَتَقْوَى اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالسُّخْطِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتِ: فَهَوًى مُتَّبِعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ أَشَدُّهُنَّ " (1)
وكذلك فقد حذّر السلف من اتباع الهوى ، ومن مجالسة أهل الأهواء ، وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيِّ، قَالَ: خَطَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالْكُوفَةِ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ طُولُ الْأَمَلِ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى ، فَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيُضِلُّ عَنِ الْحَقِّ، أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ مُدْبِرَةً، وَالْآخِرَةُ مُقْبِلَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ " (2)
قَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : مَا الْبَلاغَةُ ؟ قَالَ : مَنْ تَرَكَ الْفُضُولَ وَاقْتَصَرَ عَلَى الإِيجَازِ . قَالَ : فَمَنْ أَصْبَرُ النَّاسِ ؟ قَالَ : مَنْ كَانَ رَأْيُهُ رَادًّا لِهَوَاهُ . قَالَ : فَمَنْ أَسْخَى النَّاسِ ؟ قَالَ : مَنْ بَذَلَ دُنْيَاهُ فِي صَلاحِ دِينِهِ . قَالَ : فَمَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ ؟ قَالَ : مَنْ رَدَّ جَهْلَهُ بِحِلْمِهِ " (3)
وعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : اتَّهِمُوا أَهْوَاءَكُمْ وَرَأْيَكُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ , وَانْتَصِحُوا كِتَابَ اللَّهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَدِينِكُمْ " (4)
وإذا كان الهوى كذلك فهل هناك من سبيلٍ وسببٍ للتخلص من هذا المرض العضال ؟ نعم فهناك سبلٌ وأسباب يتخلص العبد بها من هذا الأمر الكبّار.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله خمسين سبباً للتخلص من الهوى ، وقبل ذلك بيّن أن هناك حاكمين ينبغي أن يُرفع إليهما حوادث الهوى وهما : حاكم العقل وحاكم الدِّين ، ثم بعد ذلك « ينبغي أن يتمرَّن على دفع الهوى المأمون العواقب ليتمرن بذلك على ترك ما تؤذي
__________
(1) - شعب الإيمان - (9 / 396) (6865 ) حسن
(2) - شعب الإيمان - (13 / 173) (10130 ) صحيح
(3) - المجالسة وجواهر العلم - (4 / 488) (1718 ) فيه انقطاع
(4) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ(162 ) صحيح(1/28)
عواقبه » (1) .
ثم قال : « فإن قيل : فكيف يتخلص مِن هذا ، مَن وقع فيه ؟ قيل يمكن التخلص بعون الله وتوفيقه له بأمور :
أحدها : عزيمة حرٍّ يغار لنفسه وعليها .
الثاني : جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة .
الثالث : قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة .
الخامس والعشرون : أنه يُخاف على من اتبع الهوى أنه ينسلخ من الإيمان، وهو لا يشعر ، وقد ثبت عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ " (2) .
الثامن والعشرون : أن أغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه . قال معاوية: المروءة ترك الشهوات وعصيان الهوى .فاتباع الهوى يزمن المروءة ومخالفته تنعشها » (3) .
أما الشاهد في إيراد الهوى سبباً من أسباب ارتكاب الأخطاء ، فهو في قصة الرجل الذي انسلخ من آيات من الله قال تعالى :{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} [الأعراف : 175 ، 176]
وَاقْصُصْ ، يَا مُحَمَّدُ ، عَلَى اليَهُودِ قِصَّةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الذِي آتَيْنَاهُ حُجَجَ التَّوْحِيدِ ، وَأَفْهَمْنَاهُ أَدِلَّتَهُ حَتَّى صَارَ عَالِماً بِهَا ، فَانْسَلَخَ مِنْهَا ، وَتَرَكَهَا وَرَاءَهُ ظِهْرِيّاً ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا لِيَهْتَدِيَ بِهَا . وَبَعْدَ أَنْ انْسَلَخَ مِنْهَا وَتَرَكَهَا وَرَاءَهُ بِاخْتِيَارِهِ ، لَحِقَهُ الشَّيْطَانُ فَأَدْرَكَهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الوَسْوَسَةِ إِلَيْهِ إِذْ لَمْ يَبْقَ لَدَيْهِ مِنْ نُورِ البَصِيرَةِ ، وَلاَ مِنْ أمَارَاتِ الهِدَايَةِ مَا
__________
(1) - أسباب التخلص من الهوى .ص 4 .
(2) - الْأَرْبَعُونَ لِلْفَسَوِيِّ (8 ) والسُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ(14 ) حسن
(3) - المصدر السابق نفس الصفحة .(1/29)
يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَبُولِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ ، فَصَارَ مِنَ الضَّالِّينَ .
وَلَوْ أَرَدْنَا أنْ نَرْفَعَهُ بِتِلْكَ الآيَاتِ وَالعَمَلِ بِهَا إلَى دَرَجَاتِ الكَمَالِ لَفَعَلْنَا ، بِأنْ نَخْلُقَ لَهُ الهِدَايَة خَلْقاً ، وَنُلْزِمَهُ العَمَلَ بِهَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، إِذْ لاَ يُعْجِزُنَا ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ هَذا الرَّفْعَ مُخَالِفٌ لِسُنَّتِنا . لَقَدْ رَكَنَ هَذا الرَّجُلُ إلَى الدُّنيا ، وَمَالَ إِلَيها ، وَجَعَلَ كُلَّ هَمِّهِ مِنْ حَيَاتِهِ التَّمَتُّعَ بِلَذَائِذِهَا المَادِّيَةِ ، فَأَقْبَلَ عَلَى لَذَّاتِهَا وَنَعِيمِهَا ، وَغَرَّتْهُ كَمَا غَرَّتْ غَيْرَهُ مِنَ العُمْيِ عَنْ أُمُورِ الآخِرَةِ .
وَمَثَلُ هَذا الرَّجُلِ مَثَلُ الكَلْبِ فِي لُهَاثِهِ ، فَهُوَ فِي هَمٍّ دَائب ، وَشُغْلٍ شَاغِلٍ ، فِي جَمِيعِ عَرَضِ الدُّنيا وَزُخْرُفِها ، وَهُوَ كَالّلاهِثِ مِنَ الإِعْيَاءِ وَالتَّعَبِ ، وَإِنْ كَانَ مَا يَعْنِي بِهِ حَقِيراً لاَ يُتْعِبُ وَلاَ يُعْيِي ، وَتَرَاهُ كَمَا أَصَابَ سعَةً مِنَ الرِّزْقِ فِي الدُّنيا ، زَادَ طَمَعاً فِيهَا .
وَذَلِكَ المَثَلُ البَالِغُ الحَدِّ فِي الغَرَابَةِ هُوَ مَثَلُ القَوْمِ الذِينَ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللهِ ، وَاسْتَكْبَرُوا جَهْلاً بِهَا ، وَتَقْلِيداً لَلآبَاءِ وَالأَجْدَادِ ، فَهُمْ قَدْ ظَنُّوا أَنَّ إيمَانَهُمْ بِهَا ، يَسْلُبُهُمُ العِزَّ وَالجَاهَ ، وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ اللَّذَّاتِ . فَاقْصُصْ يَا مُحَمَّدُ قِصَةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ عَلى هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا ، وَيَرَوْنَ الآيَاتِ بِعَيْنِ البَصِيرَةِ ، لاَ بِعَيْنِ الهَوَى ، فَيَصِلَ الأمْرُ بِهِم إلى الإيمَانِ . (1)
" إنه مشهد من المشاهد العجيبة ، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات ..إنسان يؤتيه اللّه آياته ، ويخلع عليه من فضله ، ويكسوه من علمه ، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع .. ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخا. ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة ، انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه .. أو ليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان باللّه تلبس الجلد بالكيان؟ .. ها هو ذا ينسلخ من آيات اللّه ويتجرد من الغطاء الواقي ، والدرع الحامي وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم فيصبح غرضا للشيطان لا يقيه منه واق ، ولا يحميه منه حام فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه .. ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد .. إذا نحن بهذا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1130)(1/30)
المخلوق ، لاصقا بالأرض ، ملوثا بالطين. ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب ، يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد .. كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر .. فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها .. مشهد اللهاث الذي لا ينقطع .. سمع التعليق المرهوب الموحي ، على المشهد كله :
«ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ» ..
ذلك مثلهم! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم.ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخا. ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان ، هابطون عن مكان «الإنسان» إلى مكان الحيوان .. مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين .. وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم ، فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين! «ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ!» ..
وهل أسوأ من هذا المثل مثلا؟ وهل أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى؟ وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟ وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟ من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي ، ويدعها غرضا للشيطان يلزمها ويركبها ، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض ، الحائر القلق ، اللاهث لهاث الكلب أبدا!!!
وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب الفريد إلا هذا القرآن العجيب الفريد!! وبعد .. فهل هو نبأ يتلى؟ أم أنه مثل يضرب في صورة النبأ لأنه يقع كثيرا. فهو من هذا الجانب خبر يروى؟
فهو يمثل حال الذين يكذبون بآيات اللّه بعد أن تبين لهم فيعرفوها ثم لا يستقيموا عليها .. وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر ما أكثر الذين يعطون علم دين اللّه ، ثم لا يهتدون به ، إنما يتخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه. واتباع الهوى به .. هواهم وهوى المتسلطين الذين يملكون لهم - في وهمهم - عرض الحياة الدنيا.(1/31)
وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين اللّه ثم يزيغ عنها. ويعلن غيرها. ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة ، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان اللّه وحرماته في الأرض جميعا! لقد رأينا من هؤلاء من يعلم ويقول : إن التشريع حق من حقوق اللّه - سبحانه - من ادعاه فقد ادعى الألوهية.
ومن ادعى الألوهية فقد كفر. ومن أقر له بهذا الحق وتابعه عليه فقد كفر أيضا! .. ومع ذلك .. مع علمه بهذه الحقيقة ، التي يعلمها من الدين بالضرورة ، فإنه يدعو للطواغيت الذين يدّعون حق التشريع ، ويدّعون الألوهية بادعاء هذا الحق .. ممن حكم عليهم هو بالكفر! ويسميهم «المسلمين»! ويسمي ما يزاولونه إسلاما لا إسلام بعده! .. ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عاما ثم يكتب في حله كذلك عاما آخر .. ورأينا منهم من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس ، ويخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه ..
فماذا يكون هذا إلا أن يكون مصداقا لنبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين؟
وماذا يكون هذا إلا أن يكون المسخ الذي يحكيه اللّه سبحانه عن صاحب النبأ : «وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ!» .. ولو شاء اللّه لرفعه بما آتاه من العلم بآياته. ولكنه - سبحانه - لم يشأ ، لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، ولم يتبع الآيات ..
إنه مثل لكل من آتاه اللّه من علم اللّه فلم ينتفع بهذا العلم ولم يستقم على طريق الإيمان. وانسلخ من نعمة اللّه. ليصبح تابعا ذليلا للشيطان. ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان! ثم ما هذا اللهاث الذي لا ينقطع؟
إنه - في حسنا كما توحيه إيقاعات النبأ وتصوير مشاهده في القرآن - ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم اللّه آياته فينسلخون(1/32)
منها. ذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئن أبدا. والذي لا يتركه صاحبه سواء وعظته أم لم تعظه فهو منطلق فيه أبدا! والحياة البشرية ما تني تطلع علينا بهذا المثل في كل مكان وفي كل زمان وفي كل بيئة .. حتى إنه لتمر فترات كثيرة ، وما تكاد العين تقع على عالم إلا وهذا مثله. فيما عدا الندرة النادرة ممن عصم اللّه ، ممن لا ينسلخون من آيات اللّه ، ولا يخلدون إلى الأرض ولا يتبعون الهوى ولا يستذلهم الشيطان ولا يلهثون وراء الحطام الذي يملكه أصحاب السلطان! .. فهو مثل لا ينقطع وروده ووجوده وما هو بمحصور في قصة وقعت ، في جيل من الزمان! وقد أمر اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتلوه على قومه الذين كانت تتنزل عليهم آيات اللّه ، كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها. ثم ليبقى من بعده ومن بعدهم يتلى ، ليحذر الذين يعلمون من علم اللّه شيئا أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبدا وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدو لعدو. فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم بهذه النهاية النكدة! ولقد رأينا من هؤلاء - والعياذ باللّه - في زماننا هذا من كان كأنما يحرص على ظلم نفسه أو كمن يعض بالنواجذ على مكان له في قعر جهنم يخشى أن ينازعه إياه أحد من المتسابقين معه في الحلبة! فهو ما يني يقدم كل صباح ما يثبت به مكانه هذا في جهنم! وما يني يلهث وراء هذا المطمع لهاثا لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا! اللهم اعصمنا ، وثبت أقدامنا ، وأفرغ علينا صبرا ، وتوفنا مسلمين ..
ثم نقف أمام هذا النبأ والتعبير القرآني عنه وقفة أخرى ..
إنه مثل للعلم الذي لا يعصم صاحبه أن تثقل به شهواته ورغباته فيخلد إلى الأرض لا ينطلق من ثقلتها وجاذبيتها وأن يتبع هواه فيتبعه الشيطان ويلزمه ويقوده من خطام هذا الهوى ..
ومن أجل أن العلم لا يعصم يجعل المنهج القرآني طريقه لتكوين النفوس المسلمة والحياة الإسلامية ، ليس العلم وحده لمجرد المعرفة ولكن يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وفي عالم الحياة أيضا ..
إن المنهج القرآني لا يقدم العقيدة في صورة «نظرية» للدراسة .. فهذا مجرد علم لا(1/33)
ينشىء في عالم الضمير ولا في عالم الحياة شيئا .. إنه علم بارد لا يعصم من الهوى ، ولا يرفع من ثقلة الشهوات شيئا. ولا يدفع الشيطان بل ربما ذلل له الطريق وعبدها! كذلك هولا يقدم هذا الدين دراسات في «النظام الإسلامي» ولا في «الفقه الإسلامي» ولا في «الاقتصاد الإسلامي» ولا في «العلوم الكونية» ولا في «العلوم النفسية» ولا في أية صورة من صور الدراسة المعرفية! إنما يقدم هذا الدين عقيدة دافعة دافقة محيية موقظة رافعة مستعلية تدفع إلى الحركة لتحقيق مدلولها العملي فور استقرارها في القلب والعقل وتحيي موات القلب فينبض ويتحرك ويتطلع وتوقظ أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة فترجع إلى عهد اللّه الأول وترفع الاهتمامات والغايات فلا تثقلها جاذبية الطين ولا تخلد إلى الأرض أبدا.
ويقدمه منهجا للنظر والتدبر يتميز ويتفرد دون مناهج البشر في النظر ، لأنه إنما جاء لينقذ البشر من قصور مناهجهم وأخطائها وانحرافها تحت لعب الأهواء ، وثقلة الأبدان ، وإغواء الشيطان! ويقدمه ميزانا للحق تنضبط به عقول الناس ومداركهم ، وتقاس به وتوزن اتجاهاتهم وحركاتهم وتصوراتهم فما قبله منها هذا الميزان كان صحيحا لتمضي فيه وما رفضه هذا الميزان كان خاطئا يجب الإقلاع عنه.ويقدمه منهجا للحركة يقود البشرية خطوة خطوة في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة. وفق خطاه هو ووفق تقديراته .. وفي أثناء الحركة الواقعية يصوغ للناس نظام حياتهم ، وأصول شريعتهم ، وقواعد اقتصادهم واجتماعهم وسياستهم. ثم يصوغ الناس بعقولهم المنضبطة به تشريعاتهم القانونية الفقهية ، وعلومهم الكونية والنفسية ، وسائر ما تتطلبه حياتهم العملية الواقعية .. يصوغونها وفي نفوسهم حرارة العقيدة ودفعتها ، وجدية الشريعة وواقعيتها واحتياجات الحياة الواقعية وتوجيهاتها.
هذا هو المنهج القرآني في صياغة النفوس المسلمة والحياة الإسلامية .. أما الدراسة النظرية لمجرد الدراسة ، فهذا هو العلم الذي لا يعصم من ثقلة الأرض ودفعة الهوى وإغواء الشيطان ولا يقدم للحياة البشرية خيرا " (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1396)(1/34)
ولما كان من هذا الرجل ما كان ، بعد أن آتاه الله هذا العلم واختصه به ، لكنه مال إلى غيره من حطام الدنيا الفانية ، وترك هذا العمل ولم يعمل به ، وآثر هواه على رضى ربه سبحانه وتعالى وآثر الفانية على الباقية - ضرب الله له مثلاً بأنواع من أنواع الحيوانات وهو الكلب الذي هو أخس الحيوانات ، وأوضعها قدراً ، وأخسها نفساً ، وهمّته لا تتعدى بطنه ، وأشدها شرهاً وحرصاً (1) .
إِذَنْ فهذا الرجل مال إلى الدنيا بكلِّيَّته ولزمها ، ونتج عن ذلك أنه اتّبع هواه فصار تابعاً له يقتدي به ويحذو حذوه ، وهذا يعني حرصه على سافل الأمور ، والابتعاد عن معاليها ، نتيجة لحقارة همته وخسة نفسه (2) ، وهكذا فإن «اتباع الهوى ، وإخلاد العبد إلى الشهوات يكون سبباً للخذلان » (3) وارتكاب الخطأ والعصيان .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - انظر: بدائع التفسير لا بن القيم نقلاً عن الإتباع أنواعه وآثاره 2 / 451 .
(2) - المرجع السابق .ص 450 .
(3) - تيسير الكريم الرحمن . ص 309 .(1/35)
المبحث السادس
الغضب
والغضبُ من أكبر الأسباب الداعية إلى ارتكاب الأخطاء ، فكم من خطأٍ ارتُكب بسببه ، وكم جرَّ من زلة لصاحبه أردته في مهاوي المعصية .
وإذا تتبعنا أغلب الأخطاء التي يقع فيها البشر ؛وجدنا نسبة كبيرة كانت نتيجة الغضب ، والثورة العارمة العنيفة في النفس بسبب موقف معين قد سبب لصاحبه كل هذه الشرور والويلات .
وعرَّف ابن رجب - رحمه الله - الغضب بقوله : « هو غليان دم القلب طلباً لرفع المؤذي عند خشية وقوعه ، أو طلباً للانتقام ممن حصل منه الأذى بعد وقوعه » (1) .
وعرّفه بعضهم (2) بأنه : «قوة أودعها الله في الإنسان تثور من باطنه فتحمله على الدفاع عما يحبه من الأغراض ، وتدفعه إلى البطش بكل ما يؤذيه ».
ولكن ابن تيميه رحمه الله يعترض على بعض مفردات التعاريف السابقة ،فقال: " وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " الْغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ " فَلَيْسَ بِصَحِيحِ فِي حَقِّنَا ؛ بَلِ الْغَضَبُ قَدْ يَكُونُ لِدَفْعِ الْمُنَافِي قَبْلَ وُجُودِهِ فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ انْتِقَامٌ أَصْلًا . وَأَيْضًا : فَغَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ يُقَارِنُهُ الْغَضَبُ لَيْسَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْغَضَبِ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ كَمَا أَنَّ " الْحَيَاءَ " يُقَارِنُ حُمْرَةَ الْوَجْهِ وَ " الْوَجَلَ " يُقَارِنُ صُفْرَةَ الْوَجْهِ ؛ لَا أَنَّهُ هُوَ . وَهَذَا لِأَنَّ النَّفْسَ إذَا قَامَ بِهَا دَفْعُ الْمُؤْذِي فَإِنْ اسْتَشْعَرَتْ الْقُدْرَةَ فَاضَ الدَّمُ إلَى خَارِجٍ فَكَانَ مِنْهُ الْغَضَبُ وَإِنْ اسْتَشْعَرَتْ الْعَجْزَ عَادَ الدَّمُ إلَى دَاخِلٍ ؛ فَاصْفَرَّ الْوَجْهُ كَمَا يُصِيبُ الْحَزِينَ ." (3) .
ويمكن الجمع بين التعاريف،وبين قول ابن تيمية رحمه الله ،إذْ إن التعاريف تكلمت عن
__________
(1) - جامع العلوم والحكم ج 1 / 369 .
(2) - عبد العزيز السلمان في موارد الظمآن لدروس الزمان ج 3 / 343 .
(3) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (6 / 119)(1/36)
الغضب بنتيجته ومؤدّاه ، وهي غليان القلب ، واحمرار الوجه ، وطلب الانتقام إلى غير ذلك ، أما قول ابن تيميه رحمه الله فيُحمل على أنه أراد أن التعاريف المقيِّدة للغضب إنما ذكرت بعض صفاته ، وقد يكون من الصفات كذلك الاصفرار حال عدم الاستطاعة بردِّ هذا الإيذاء .
والغضب كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : « جمرة يلقيها الشيطان في قلب الإنسان حتى يغلي القلب ، ولهذا تنتفخ الأوداج وتحمر العين» (1) .
والغضب نوعان :
الأول : غضبٌ ممدوحٌ ، وهو المطلوب ، والمحمود عليه الإنسان ، وهو ما كان فيه انتصار لله ، أو لدينه ، أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأيضاً ما كان فيه دفع عن انتهاك عرض أو مال أو نفس (2) .
وقيل هو ما يكون : « من أجل الله عندما ترتكب حرماته، أو تترك أوامره ويستهان بها » (3) ، فالغضب لله ولشرائع الله محمود وهو من هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودليل على غيرة الإنسان وعلى محبته لإقامة شريعة الله، (4) وهذا الغضب هو ما كان من حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كثير من المواطن، فعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ضَرَبَ خَادِمًا قَطُّ ، وَلاَ ضَرَبَ امْرَأَةً لَهُ قَطُّ ، وَلاَ ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ ، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلاَ نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ ، فَيَنْتَقِمُهُ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ ، انْتَقَمَ لَهُ ، وَلاَ عَرَضَ لَهُ أَمْرَانِ ، إِلاَّ أَخَذَ بِالَّذِي هُوَ أَيْسَرُ ، حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا ، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ." (5) .
وهناك أمثلة كثيرة غضب فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لله تبارك وتعالى ، وتبيّن منها أن الله يكره ذلك الأمر ، من خلال غضبه - صلى الله عليه وسلم - منه ، ونذكر من ذلك على سبيل المثال - لا الحصر -
__________
(1) - شرح رياض الصالحين 6 / 340 .
(2) - انظر : موارد الظمآن ج 3 / 343 .
(3) - فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري - القحطاني 2 / 947 .
(4) - شرح رياض الصالحين - (1 / 692)
(5) - صحيح ابن حبان - (2 / 240) (488) صحيح(1/37)
ما يلي :
قَالَت عَائِشَةَ - رضى الله عنها -: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْتُ بِقِرَامٍ لِى عَلَى سَهْوَةٍ لِى فِيهَا تَمَاثِيلُ ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَتَكَهُ وَقَالَ « أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ » . قَالَتْ فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ (1) .
ففي هذا الحديث تلوّن وجهه - صلى الله عليه وسلم - وهو من علامات الغضب . وفيه كذلك « الغضب إذا انتهكت حرمات الله عز وجل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب وهتكه»
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِى سَرَقَتْ ، فَقَالَ وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ » . ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ، ثُمَّ قَالَ « إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا » (2) .
وفي هذا الحديث بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد « ظهرت على وجهه أسارير الغضب » (3) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : « والشاهد من هذا الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - غضب لشفاعة أسامة بن زيد في حدٍّ من حدود الله» (4) .
ولما رأى النخامة في قبلة المسجد تغيّظ وحكَّها (5) ، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِى الْقِبْلَةِ ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِىَ فِى وَجْهِهِ ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ « إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِى صَلاَتِهِ ، فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ - أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ - فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ ، أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ » . ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5954 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5650 )
السهوة : تشبه الرف أو الخزانة الصغيرة يوضع فيها الشىء -يضاهون : يشابهون -القرام : الستر من صوف ذى ألوان
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3475 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4505 )
(3) - تربية الأولاد في الإسلام - عبد الله ناصح علوان 1 / 345 .
(4) - شرح رياض الصالحين 6 / 340 .
(5) - جامع العلوم والحكم ج 1 / 371 .(1/38)
عَلَى بَعْضٍ ، فَقَالَ « أَوْ يَفْعَلْ هَكَذَا » . (1) .
والأحاديث في ذلك كثيرة ، وإنما أردتُ التدليل على أن هناك غضب محمود ، وهو ما كان في ذات الله ، كما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعن عَمْرَو بْنِ دِينَارٍ ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيَؤُمُّهُمْ ، قَالَ : فَأَخَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى مَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ لَيَؤُمَّنَا ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ تَنَحَّى فَصَلَّى وَحْدَهُ ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَقُلْنَا لَهُ : مَا لَكَ يَا فُلاَنُ ، أَنَافَقْتَ ؟ قَالَ : مَا نَافَقْتُ ، وَلَآتِيَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَأُخْبِرَنَّهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا ، وَإِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ الْبَارِحَةَ فَصَلَّى مَعَكَ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ لَيَؤُمَّنَا ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ تَنَحَّيْتُ فَصَلَّيْتُ وَحْدِي ، أَيْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنَّمَا نَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ ، وَإِنَّمَا نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ اقْرَأْ بِسُورَةِ كَذَا وَسُورَةِ كَذَا قَالَ عَمْرٌو : وَأَمَرَهُ بِسُوَرٍ قِصَارٍ لاَ أَحْفَظُهَا ، قَالَ سُفْيَانُ : فَقُلْنَا لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ : إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ قَالَ لَهُمْ : إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ : اقْرَأْ بِالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، قَالَ عَمْرٌو نَحْوَ هَذَا." (2)
الثاني : غضب مذموم : وهو ما كان في غير الأول ، وهو الذي اشتدّ نكير الشرع له والتحذير منه ، وغالباً ما يكون للانتقام ، وحظِّ النفس ، ولذا فقد جاءت النصوص الكثيرة محذرة من هذا النوع ؛ ذلك : « أن لظاهرة الغضب المذموم أثار سيئة على شخصية الإنسان ، وعقله واتزانه ، وعواقب وخيمة على وحدة المجتمع وترابطه وتماسكه » (3)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (405 )
(2) - صحيح ابن حبان - (6 / 160) (2400) صحيح
(3) - تربية الأولاد في الإسلام 1 / 347 .(1/39)
ويفسَّر هذا الغضب على أنه العطش الشديد للتنفيس عن المشاعر الآنية (1) ،المتولدة من مواقف معينة .
- والغضب خطرهُ كبير ٌ، ومآله عسير ذلك أنه قد يحمل الإنسان على أن يقول كلمة الكفر ، أو أن يطلّق زوجته (2) أو يفعل أمراً يندم عليه في دنياه وآخرته .
- والغضبُ يعمي صاحبه عن الحق حتى يضرَّ أهله ؛ بل يضرُّ نفسه ، فقد يتلف ماله ، ويضرب عياله ، ويطلق أهله ، ويفعل الأفاعيل كلُّ ذلك بالغضب ، فيا لله كم هدم من منزل !! ، وفرّق من شمل مجتمع !! ، وهتك من عرضٍ !! وأخرج مسلماً من إسلامه !! فما يزال بالإنسان حتى يكون مصيره النار وبئس المصير!!
- ولقد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغضب ، وأمر بتجنبه ومن ذلك :
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْصِنِى . قَالَ « لاَ تَغْضَبْ » . فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ « لاَ تَغْضَبْ » (3) .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر هذا الرجل أن يجتنب أسباب الغضب .
وقال ابن التِّين: « جمع - صلى الله عليه وسلم - قوله لا تغضب خير الدنيا والآخرة ، لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق ...» (4) .
ووصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل بعدم الغضب دون وصيته بالصلاة والصيام وما أشبه ذلك : « لأن حال هذا الرجل تقتضي ذلك ... ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلِمَ من حاله أنه غضوب فلذلك قال : لا تغضب » (5) .
كذلك بينّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشديد وصاحب القوة حقاً هو الذي يملك نفسه عند هذا الأمر الخطير وهو الغضب فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «
__________
(1) - انظر : تربية الأولاد بين الإفراط والتفريط صالح العثيم ص 202 .
(2) - انظر : شرح رياض الصالحين 6 / 304 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6116)
(4) - فتح الباري 10/536 .
(5) - شرح رياض الصالحين 6 / 304 .(1/40)
لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ » (1) . .
وللغضب أسباب لعل من أهمها :
1- أن الإنسان يريد أن ينتصر لنفسه وذلك : إذا فُعل معه ما يحس معه أنه إنقاص له . وهذا الغضب منهي عنه وذلك لما ورد في الحديث السابق لا تغضب .
2- ومن أسباب الغضب مصاحبة الأشرار الذين لا يفرقون بين الممدوح والمذموم من الغضب ، فيحسبون التهور والطيش شجاعة ، ويعدّون طغيان الغضب الموجب للظلم رجولة (2) .
3- ومن أسباب الغضب : « الهزء والسخرية والتنابز بالألقاب .. وما أعظم تربية القرآن الكريم حين نهى عن السخرية والتنابز بالألقاب وذلك في قوله سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات (3) .
4- ومن أسباب الغضب كذلك الوشاية والنميمة، قال في موارد الظمآن: « فمن الناس من يغضب لمجرد وشاية نقلت إليه عن بعض الناس ، أو لمجرد نميمة بلغته من نمّام بدون أن يتثبت في الأمر» (4) .
تلك كانت أهم الأسباب المؤدية إلى الغضب .
ولسائل أن يسأل فيقول : وهل للغضب من علاج ؟
فأقول وبالله التوفيق : إن لنا فيما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من علاج لهذا الداء الخطير غنية عما يقول غيره ، إذ إنه - صلى الله عليه وسلم - قد علمَّ أمته علاج ذلك بأنواع شتى ، ومن ذلك :
النوع الأول : الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم .
وقد ورد ذلك في القرآن العظيم حيث يقول سبحانه {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6114 )
(2) - انظر : موارد الظمآن ج 3 / 345 .
(3) - انظر : تربية الأولاد في الإسلام 1 / 348 .
(4) - عبد العزيز السلمان في موارد الظمآن : ج 3 / 346 .(1/41)
فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (200) سورة الأعراف
فَإِذَا مَا اسْتَثَارَ الشَّيْطَانُ غَضَبَكَ لِيَصُدَّكَ عَنِ الإِعْرَاضِ عَنِ الجَاهِلِينَ ، وَيَحْمِلَكَ عَلَى مُجَارَاتِهِمْ وَمُجَازَاتِهِمْ ، فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ، وَاسْتَجِرْ بِهِ مِنْ نَزْغَ الشَّيْطَانِ ، إِنَّهُ سَميعٌ لِجَهْلِ الجَاهِلِينَ عَلَيْكَ ، عَلِيمٌ بِمَا يُذْهِبُ عَنْكَ نَزْغَ الشَّيطَانِ . (1)
وذكر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - : فعن عَدِىَّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا ، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّى لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِى يَجِدُ » . فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ . فَقَالَ أَتُرَى بِى بَأْسٌ أَمَجْنُونٌ أَنَا اذْهَبْ (2) .
قال ابن حجر رحمه الله : « الغضب نوع من شر الشيطان ، ولهذا يخرج به عن صورته ، ويزيّن إفساد ماله كتقطيع ثوبه وكسر آنيته ... ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال ، وقد أخرج أبو داوود (3) من حديث عطية السَّعدي قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ ». (4) .
ولعل الحكمة من التعوذ من الشيطان عند الغضب ، أن الغضب من الشيطان، وأن الاستعاذة تطرده كما وأنَّ الشيطان خلق من نار ، والماء يطفئ النار .
النوع الثاني : الوضوء ، وذلك بأن يتوضأ الغضبان ليذهب عنه ما يجد ولذلك أرشد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى ذلك ، كما في عطية السعدي رضي الله عنه الآنف الذكر .
النوع الثالث : تبديلُ الحالة التي يكون فيها عند الغضب ، وذلك إذا غضب وهو قائم مثلاً فليجلس ، أو كان جالساً فليضطجع ، أو غير ذلك ، وهذا الأمر قد أرشد إليه
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1155)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6048 )
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (4786 ) حسن
(4) - فتح الباري 10 / 482 .(1/42)
الشارع ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلاَّ فَلْيَضْطَجِعْ." (1) .
« وقد قيل : إن المعنى في هذا أن القائم متهيئ للانتقام ، والجالس دونه في ذلك والمضطجع أبعد عنه ، فأمره بالتباعد عن حالة الانتقام » (2) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : « وإن كان قائماً فليقعد ، وإن كان قاعداً فليضطجع ، وإن خاف خرج من المكان الذي هو فيه حتى لا ينفذ غضبه ، فيندم بعد ذلك » (3) .
النوع الرابع : السكوتُ واللزوق بالأرض ، والسكوت « دواء عظيم للغضب لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيراً ، مما يعظم ضرره ، فإذا سكت زال هذا الشر كله عنه» (4) .
وقد جاء في ذلك حديث ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : عَلِّمُوا ، وَيَسِّرُوا ، وَلاَ تُعَسِّرُوا ، وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ. (5)
أما اللزوق في الأرض الإلصاق فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الْعَصْرِ ذَاتَ يَوْمٍ بِنَهَارٍ ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَنَا ، إِلَى أَنْ غَابَتِ الشَّمْسُ ، فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، إِلاَّ حَدَّثَنَاهُ ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَ ، وَنَسِيَ ذَلِكَ مَنْ نَسِيَ ، وَكَانَ مِمَّا قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا ، فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ، أَلاَ إِنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ ، يُنْصَبُ عِنْدَ اسْتِهِ يُجْزَى بِهِ ، وَلاَ غَادِرَ أَعْظَمُ مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ الأَخْلاَقَ ، فَقَالَ : يَكُونُ الرَّجُلُ سَرِيعَ الْغَضَبِ ، قَرِيبَ الْفَيْئَةِ ، فَهَذِهِ بِهَذِهِ ، وَيَكُونُ بَطِيءَ الْغَضَبِ ، بَطِيءَ الْفَيْئَةِ ، فَهَذِهِ بِهَذِهِ ، فَخَيْرُهُمْ بَطِيءُ الْغَضَبِ ، سَرِيعُ الْفَيْئَةِ ، وَشَرُّهُمْ سَرِيعُ الْغَضَبِ بَطِيءُ الْفَيْئَةِ ، قَالَ : وَإِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ تَتَوَقَّدُ ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 501) (5688) صحيح
(2) - جامع العلوم والحكم ج 1 / 365 .
(3) - شرح رياض الصالحين 1 / 212 .
(4) - جامع العلوم والحكم ج 1 / 366 .
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 635)2136- حسن(1/43)
، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ ، فَلْيَجْلِسْ ، أَوْ قَالَ : فَلْيَلْصَقْ بِالأَرْضِ ، قَالَ : ثُمَّ ذَكَرَ الْمُطَالَبَةَ ، فَقَالَ : يَكُونُ الرَّجُلُ حَسَنَ الطَّلَبِ ، سَيِّئَ الْقَضَاءِ ، فَهَذِهِ بِهَذِهِ ، وَيَكُونُ حَسَنَ الْقَضَاءِ ، سَيِّئَ الطَّلَبِ ، فَهَذِهِ بِهَذِهِ ، فَخَيْرُهُمُ الْحَسَنُ الطَّلَبِ الْحَسَنُ الْقَضَاءِ ، وَشَرُّهُمُ السَّيِّئُ الطَّلَبِ السَّيِّئُ الْقَضَاءِ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ النَّاسَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ ، فَيُولَدُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيَعِيشُ مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا ، وَيُولَدُ الرَّجُلُ كَافِرًا وَيَعِيشُ كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا ، وَيُولَدُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيَعِيشُ مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا ، وَيُولَدُ الرَّجُلُ كَافِرًا وَيَعِيشُ كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا ، ثُمَّ قَالَ فِي حَدِيثِهِ : وَمَا شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنْ كَلِمَةِ عَدْلٍ تُقَالُ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ، فَلاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ اتِّقَاءُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا رَآهُ ، أَوْ شَهِدَهُ ، ثُمَّ بَكَى أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ : قَدْ وَاللَّهِ مَنَعَنَا ذَلِكَ ، قَالَ : وَإِنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً ، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ ، ثُمَّ دَنَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ ، فَقَالَ : وَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا ، مِثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ." (1)
النوع الخامس : استحضارُ ما ورد في كظم الغيظ من الثواب ، وما ورد في عاقبة الغضب من الخذلان العاجل والآجل ، فإنه إن فعل ذلك ، فربما يقلع عن هذا الغضب ، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بكظم الغيظ ، فعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ " (2) .
النوع السادس : الوقاية قبل الوقوع في الغضب بالابتعاد عن أسبابه ومسبباته ، ومن أهم أسبابه كذلك - زيادةً على ما سبق - الكبر والإعجاب بالنفس، والحرص المذموم ، والمزاح في غير موضعه ، وغير ذلك (3) .
والغضب كما قدّمتُ في أول المبحث من أسباب ارتكاب الخطأ والوقوع في الزلة والمعصية ، إذ بسببه قد يعصي الإنسان ربه فيحبط عمله في الدنيا والآخرة , وقد وردت عدة أمثلة في السنة النبوية المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام - تبيّن هذا الأمر
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (2350) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 155)(11587) 11608- حسن
(2) - شعب الإيمان - (10 / 536) (7950 ) وسنن أبي داود - المكنز - (4779 ) حسن
(3) - انظر : الحكمة في الدعوة إلى الله القحطاني : ص (64. 65) .(1/44)
ومن ذلك :
قَالَ عَدِىُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا ، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّى لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِى يَجِدُ » . فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ . فَقَالَ أَتُرَى بِى بَأْسٌ أَمَجْنُونٌ أَنَا اذْهَبْ (1) .
قال ابن حجر رحمه الله : « قوله : اذهب هو خطاب من الرجل للرجل الذي أمره بالتعوذ ، أي امضي في شغلك . وأخْلِق بهذا المأمور أن يكون كافراً، أو منافقاً ، أو كان غلب عليه الغضب ، حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان من وهج الغضب بهذا الجواب السيئ» (2) .
والناظر في حال هذا الرجل يرى كيف فعل به الغضب كل هذا الفعل حتى أنه ردَّ وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإرشاده له بالتعوذ من الشيطان ، ثم كيف ردَّ على هذا الناصح له بهذا الرد القاسي !
قال النووي رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: «لهذا يخرج به - الغضب - الإنسان عن اعتدال حاله ، ويتكلم بالباطل ، ويفعل المذموم ، وينوي الحقد والبغض ، وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب ، وهذا دليل ظاهر في عظم مفسدة الغضب وما ينشأ عنه » (3) .
وكذلك انظر إلى خطئه بسبّه الرجل ، وما ذلك إلا من الغضب !!
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِىُّ كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِى بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِى « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ». فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ - قَالَ - فَلَمَّا دَنَا مِنِّى إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا هُوَ يَقُولُ « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ». قَالَ فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِى فَقَالَ « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6048 )
(2) - فتح الباري 10 / 482 .
(3) - شرح صحيح مسلم 6 / 125 .(1/45)
هَذَا الْغُلاَمِ ». قَالَ فَقُلْتُ لاَ أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا. (1)
وفي رواية عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ غُلاَمَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ - قَالَ - فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ فَقَالَ أَعُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ. فَتَرَكَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَاللَّهِ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ ». قَالَ فَأَعْتَقَهُ. (2)
قال النووي رحمه الله : « فجعل يقول : أعوذ بالله فجعل يضربه فقال : أعوذ برسول الله فتركه ، قال العلماء : لعله لم يسمع استعاذته الأولى لشدة غضبه ، كما لم يسمع نداء النبي - صلى الله عليه وسلم - » (3) .
وفي هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحَّح خطأه ذلك بالترهيب له وتخويفه من قدرة الله عليه ، ثم أخبره أنه لو لم يعتق ذلك المملوك لمسته النار ، ولكان في عداد الداخلين إلى جهنم ، ولذا وجب على من علم هذا أن يعلم خطورة الغضب ، وأنه سبب كبير للوقوع في الخطأ ، وبالتالي استحقاقه العقوبة على هذا الخطأ .
وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « كَانَ رَجُلاَنِ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ مُتَآخِيَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِى الْعِبَادَةِ فَكَانَ لاَ يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ أَقْصِرْ. فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ أَقْصِرْ فَقَالَ خَلِّنِى وَرَبِّى أَبُعِثْتَ عَلَىَّ رَقِيبًا فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ لاَ يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقُبِضَ أَرْوَاحُهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ أَكُنْتَ بِى عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِى يَدِى قَادِرًا وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِى وَقَالَ لِلآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ." (4)
قال ابن رجب رحمه الله : « فهذا غضب لله ، ثم تكلم في حال غضبه لله بما لا يجوز ، وختم على الله بما لا يعلم فأحبط الله عمله ، فكيف بمن تكلم في غضبه لنفسه ، ومتابعة
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4396 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (4399 )
(3) - شرح صحيح مسلم 4 / 290 .
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (4903 ) صحيح(1/46)
هواه بما لا يجوز » (1) .
فانظر كيف حبط عمل هذا الرجل بسبب الغضب ، ولأنه تكلم في حال غضبه بهذا الكلام فأورده النار وبئس المصير .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - جامع العلوم والحكم ج 1 / 373 .(1/47)
الباب الثاني
أهم الاعتبارات في تصحيح الأخطاء
هناك كثير من الفروقات والاعتبارات التي ينبغي أن تُراعى قبل وعند الشروع في تصحيح ومعالجة أخطاء الآخرين:
- الإخلاص لله سبحانه وتعالى
يجب أن يكون القصد عند القيام بتصحيح الأخطاء إرادة وجه الله تعالى وليس التعالي ولا التشفي ولا السعي لنيل استحسان المخلوقين
والإخلاص في اللغة : ترك الرياء في الطاعات .
وفي الاصطلاح : تخليص القلب عن شائبة الشوب المكدِّر لصفاته .
وقيل : الإخلاص تصفية الأعمال من الكدورات وقيل : الإخلاص ستر بين العبد وبين الله تعالى ، لا يعلمه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده , ولا هوىً فيميله (1) .
والإخلاص شأنه عظيم , وفقده جسيم ، ولذا فقد أوحى الله إلي كل نبي ثم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بالإخلاص ، وأن الأعمال بالنيات قال تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة (2) .
وقد وردت آيات كثيرة ، وأحاديث وفيرة ، كلها تحض على الإخلاص ، وتحذر من الرياء ، وتدعوا إلى استحضار النية ، وكذلك فَعَلَ السلف الصالح رضوان الله عليهم ، فقد جاهدوا أنفسهم على الإخلاص ، والنية ، و اعتبروا ذلك مهماًً في غاية الأهمية .
ومن الأحاديث الدالة علي أهمية النية الحديث المشهور المعروف قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا
__________
(1) - انظر: التعريفات للجرجاني ص 28 .
(2) - انظر : فتح الباري 1 / 16 .(1/48)
لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ » . (1)
ولذا ينبغي للدعاة إلى الله ، والناظرين في أخطاء الناس ، والمصحِّحين لها على ضوء الهدي النبوي ، أن يعتنوا أشد العناية باستحضار النية ، والإخلاص في عملهم هذا ، وعليهم حثُّ الناس على ذلك في سائر أعمالهم .
« وإن من أهم الأمور التي ينبغي للمصحِّح ، والناصح الاعتناء بها ، والتفتيش عنها ؛ والنظر في مقصده ، ودافعه للنصيحة ؛ هل هو الحب لذلك المخطئ ؛ أو الغيرة على دين الله ؛ أو نصحاً للمسلمين أن يشيع فيهم ذلك الخطأ ؛ أو هو غيرة لنفسه ورأيه ؛ أو نصرة لطائفته أو حسداً أو بغياً ؟
ومن الأمثلة على استصحاب السلف للنية الحسنة عند التصحيح ما جاء في رسالة مالك إلى الليث بن سعد ينتقده في بعض الأمور ومنها :
« وأعلم أني أرجو أن لا يكون دعاني إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله تعالى وحده » (2) .
- وليُعلم أن للإخلاص وسائل معينة عليه ، وسبل ميسرة له - أحببت ذكرها لينتفع بها من يروم هذا الأمر - وإليك بعضها باختصار :
أولاً : مجاهدة النفس ومصابرتها، لتنقاد مع المخلصين ، لأن النفس بطبيعتها أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي .
ثانياً : ملازمة تقوى الله في السر والعلن . فمن يتقّ الله يجعل له مخرجاً ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ومن كان هذا ديدنه - التقوى - فإنه لا شك أنه سيحصل له هذا الأمر العزيز - الإخلاص - .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1 )
(2) - دعوة الخلق للرجوع إلى الحق / الوائلي ص 57 وما بعدها .و إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 262)(1/49)
ثالثاً : استحضار عظمة خالقه ، وبارئه ، وأنه سبحانه مطَّلع على سره وعلانيته ، فمن استحضر ذلك فحقيق أن يُخلص لله سبحانه كل أموره ، ومنها تصحيحه للأخطاء .
رابعاً : الدعاء والإلحاح في ذلك بأن يرزقه الله الإخلاص ، وأن ينزع من قلبه الرياء في القول والعمل .
خامساً : القراءة في أخبار المخلصين ، ومعرفة أحوالهم ليكتسب منهم معرفة طرق الإخلاص .
قال أبو حنيفة رحمه الله : « الحكايات عن العلماء ، ومحاسبتهم أحبُّ إليًّ من كثير من الفقه لأنها آداب القوم ، قال تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر» (1) .
إذا عُلم ذلك الأمر - الإخلاص - وأراد المصحِّحُ تصحيح الأخطاء فلا بد له منه - الإخلاص - فإنه « أولى هذه المهمات وأرفعها شأناً .. ذلك أن هذه المهمة - التصحيح - ترمي إلى أمر عظيم وهو التجرّد لهذه المهمة ، وإخلاص القصد فيها لله وحده لا شريك له ، وهذا يتطلب تنقية النفس من حظوظها البشرية ، وتوطينها على أن تلاحظ في سعيها هذا الإخلاص ، أولا تكون الأعراض الدنيوية ، أو طلب الجاه والمنصب ، ديدنها فيما تقول وتعمل» (2) .
عَنْ شُفَيًّ الأَصْبَحِىَّ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالُوا أَبُو هُرَيْرَةَ . فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلاَ قُلْتُ لَهُ أَنْشُدُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِى حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَفْعَلُ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ. ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثَ قَلِيلاً ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُهُ. ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى ثُمَّ أَفَاقَ
__________
(1) - انظر : آداب المتعلمين . د : أحمد الباتلي ص 15 وما بعدها .
(2) - انظر : من أدب المحدثين في التربية والتعليم أ.د.أحمد محمد نور سيف ص 23 .(1/50)
فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا وَهُوَ فِى هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُهُ. ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى ثُمَّ أَفَاقَ وَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ أَفْعَلُ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا مَعَهُ فِى هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُهُ. ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَىَّ طَوِيلاً ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ حَدَّثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِىَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَرَجُلٌ قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِى قَالَ بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ قَالَ كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلاَنًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ.
فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.
وَيُؤْتَى بِالَّذِى قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ فِى مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِى سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَرِىءٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ ». ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رُكْبَتِى فَقَالَ « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاَثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». وَقَالَ الْوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ فَأَخْبَرَنِى عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ شُفَيًّا هُوَ الَّذِى دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ وَحَدَّثَنِى الْعَلاَءُ بْنُ أَبِى حَكِيمٍ أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلاَءِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِىَ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ وَقُلْنَا قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي(1/51)
الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) [هود : 15 - 16]) (1) .
قال النووي رحمه الله : « قوله - صلى الله عليه وسلم - في الغازي والعالم والجواد ، وعقابهم على فعلهم ذلك لغير الله ، وإدخالهم النار ، دليل على تغليظ تحريم الرياء وشدة عقوبته ، وعلى الحث على وجوب الإخلاص في الأعمال كما قال الله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة» (2) .
ولهذا فالواجب على من يقوم بتصحيح أخطاء الناس أن يقرأ في أهمية الإخلاص ، وأن يستشعره في عمله هذا ، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : « فَمَنْ خَلُصَتْ نِيَّتُهُ فِي الْحَقِّ , وَلَوْ كَانَ عَلَى نَفْسِهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ , وَمَنْ تَزَيَّنَ لَهُمْ بِمَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَانَهُ اللَّهُ , فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا , وَمَا ظَنُّكَ بِثَوَابِ غَيْرِ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ , وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ ؟ » (3) .
وإذا صدقت النيةُ من الناصح حصل الأجر والتأثير والقبول بإذن الله .
================
- الخطأُ من طبيعة البشر
ويقصد بهذا الأمر أن البشر مجبولون على حصول أخطاء منهم وليس القصد على أنهم يُوافقون على هذه الأخطاء .
- وليعلم أن « الخطأ صفة لازمة لا ينجوا منها أحد من البشر - ما عدا الأنبياء المعصومين عليهم الصلاة والسلام - ولو نجا منها أحد من الناس لنجا منها الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين » (4) .
- والخطأ ها هنا لا يسلم منه أحد ، فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله : «وأهل العلم
__________
(1) -سنن الترمذى- المكنز - (2557 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. -نشغ : شهق
(2) - شرح صحيح مسلم للنووي 5 / 46 .
(3) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ (18872 ) حسن
(4) - منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم / الصويان ص 57 .(1/52)
والإيمان : لا يعصَّمون ، ولا يؤثَّمون » (1) .
وكذلك ليس من شرط الولاية عند الله أن يكون الولي معصوماً من الخطأ لا يغلط ، ولا يجوز عليه الخطأ .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : « وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوماً لا يغلط ولا يخطئ » (2) .
ورحم الله ابن الأثير الجزري إذ يقول : « وإنما السيد من عدَّت سقطاته وأخذت غلطاته ، فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء» (3) .
وقال ابن القيم رحمه الله: «وكيف يُعصم من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً؟ ولكن من عدَّت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدَّت إصاباته» (4) .
قد قال بعضهم : « فالكامل من عدّت سقطاته ،والسعيد من حسبت هفواته ، وما زالت الأملاك (5) تُهجى وتمدح» (6) .
ولنا في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنية عما سواه من الكلام ، فقد بيَّن عليه الصلاة والسلام أن الناس قد جبلوا على هذا الأمر - وهو الخطأ - ثم أرشدهم إلى الإنابة من هذا الخطأ عن طريق التوبة ،فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ " (7)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ». (8)
__________
(1) - مجموع الفتاوى : 35 / 69 .
(2) - المصدر السابق : 11 / 201 .
(3) - اللباب في تهذيب الأنساب ، نقلاً عن منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال / الصويان ص 59 .
(4) - المصدر السابق .
(5) - جمع مَلِك ( القاموس المحيط ) ص 1232 .
(6) - يتيمة الدهر للثعالبي 1/111 .
(7) - المستدرك للحاكم (7617) صحيح لغيره
(8) - صحيح مسلم- المكنز - (7141 )(1/53)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } الْآيَةَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، ثُمَّ قَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ: أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ " . قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا قَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِثْرِهَا : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } [البقرة: 285] إِلَى قَوْلِهِ { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة: 285]، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286] قَالَ: نَعَمْ { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } [البقرة: 286] قَالَ: نَعَمْ { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا [ص:508] لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة: 286] قَالَ: نَعَمْ { وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة: 286] قَالَ: نَعَمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1)
إِذَنْ الخطأ جبلَّة جُبل عليها البشر ، وطبيعة طبعوا بها ، فعلى القائم بتصحيح الأخطاء مراعاة ذلك ، والاقتداء برسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - حيث « مما أدَّب الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - العفو ، والإعراض عن الخطأ ، ليألفه الناس ويحبوه ، ويقبلوا دعوته » (2) .
قال سبحانه وتعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (94) سورة الحجر، وكذلك قال سبحانه : {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ} (14) سورة الجاثية، حيث أمر الله النبي والمؤمنين أن يغفروا ويتجاوزا عن أخطاء المشركين ، وهذا في مكة حتى جاء الإذن بجهادهم (3) ، نتيجة خطئهم الكبير وهو
__________
(1) - شعب الإيمان - (1 / 507) (322 ) وصحيح مسلم- المكنز - (344 )
(2) - دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعراب ص 274 .
(3) - انظر : دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعراب ص 270 .(1/54)
الشرك ، وليس كلُّ خطأ يُعرض عنه ، ويُتجاوز عن صاحبه ، حيث هناك أخطاء في العقيدة ، والعبادة لا مجال للإعراض عنها، إنما يُعرض عن أخطاء المعاملات الشخصية والأخذ والعطاء والصحبة والجوار ، وخلاف ذلك .
ووضوح هذه الحقيقة واستحضارها يضع الأمور في إطارها الصحيح فلا يفترض المربي المثالية أو العصمة في الأشخاص ثم يحاسبهم بناء عليها أو يحكم عليهم بالفشل إذا كبُر الخطأ أو تكرر. بل يعاملهم معاملة واقعية صادرة عن معرفة بطبيعة النفس البشرية المتأثرة بعوارض الجهل والغفلة والنقص والهوى والنسيان.
وهذه الحقيقة أيضا تفيدُ في منع فقدان التوازن نتيجة المباغتة بحصول الخطأ مما يؤدي إلى ردات فعل غيرِ حميدة. وإدراكُ هذه الحقيقة فيه كذلك تذكيرٌ للداعية والمربي الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر بأنه بشرٌ من البشر يمكن أن يقع فيما وقع فيه المخطئ فيعامله من شِقّ الرحمة أكثر مما يعامله من شقّ القسوة لأن المقصود أصلاً هو الاستصلاح لا المعاقبة.
ولكنْ كل ما سبق لا يعني أن نترك المخطئين في حالهم ونعتذرَ عن العصاة وأرباب الكبائر بأنهم بشر أو أنهم مراهقون أو أن عصرهم مليء بالفتن والمغريات وغير ذلك من التبريرات؛بل ينبغي الإنكار والمحاسبة ولكن بميزان الشرع.
ولعل منهج الداعية الذي يريد تصحيح الأخطاء إزاء ما يقع من الناس من أخطاء يتلخص فيما يلي :
الأول : عدم تتبع الزلات والأخطاء ابتداءً .
الثاني : عدم إشهار هذه الزلات عند معرفتها .
الثالث : العفو عن الزلات مع التنبيه لها ، وعلاجها العلاج الصحيح (1) .
==============
__________
(1) - مسافر في طريق الدعوة نقلاَ عن : المداراة التربوية والخطأ من سنة البشر د . أحمد محمد العليمي .(1/55)
- أن تكون التخطئة مبنيةً على الدليل الشرعي مقترنة بالبينة وليست صادرة عن جهل أو أمر مزاجيٍّ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ صَلَّى جَابِرٌ فِى إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ قَالَ لَهُ قَائِلٌ تُصَلِّى فِى إِزَارٍ وَاحِدٍ فَقَالَ إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِى أَحْمَقُ مِثْلُكَ ، وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - - (1)
قال ابن حجر رحمه الله: المراد بقوله أحمق هنا أي جاهل.. والغرض بيان جواز الصلاة في الثوب الواحد ولو كانت الصلاة في الثوبين أفضل، فكأنه قال: صنعته عمدا لبيان الجواز إما ليقتدي بي الجاهل ابتداء أو يُنكر عليّ فأعلّمه أن ذلك جائز، وإنما أغلظ لهم في الخطاب زجرا عن الإنكار على العلماء، وليحثّهم على البحث في الأمور الشرعية. (2)
===============
- التصحيح للأهم فالأهم
فينبغي على من يقوم بتصحيح الأخطاء النظر في هذه الأخطاء من حيث عظيم خطرها وجسيم ضررها ،فالعناية بتصحيح الأخطاء المتعلقة بالمعتقد ينبغي أن تكون أعظم من تلك المتعلقة بالآداب مثلا وهكذا، وقد اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - غاية الاهتمام بتتبع وتصحيح الأخطاء المتعلقة بالشرك بجميع أنواعه لأنه أخطر ما يكون على الفرد والمجتمع ، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - جلس في مكة يدعوا إلى تصحيح العقائد ثلاثة عشر عاماً لا يكلَّ ولا يملَّ - صلى الله عليه وسلم - من ترسيخ هذا المفهوم وهو تصحيح عقائد الناس .
« ومن المعلوم أن الله عز وجل أنزل كتبه كلها ، وأرسل رسله كلهم ، ومنهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليبيّنوا للناس الاعتقاد الصحيح ، لأن ذلك هو القاعدة الكبرى التي يقوم عليها ما سواها من أوامر الله ونواهيه » (3)
وكما بيّن سبحانه وتعالى في أكثر من آية أن هذا الأمر - البدء بالعقيدة - هو وظيفة جميع
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (352 ) -المشجب : ما تعلق عليه الثياب
(2) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 467)
(3) - انظر : تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه /خالد عبد الله القرشي ص 29 .(1/56)
الأنبياء والرسل ، كما قال سبحانه {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (36) سورة النحل.
فَقَدْ بَعَثَ اللهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ ( الطَّاغُوتِ ) ، وَعَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ ، وَعَنِ الشِّرْكِ بِاللهِ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ، وَاتَّبَعَ الرُّسُلَ فَاهْتَدَى ، وَمِنْهُمْ مَنَ ضَلَّ وَاسْتَكْبَرَ وَعَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ ، لِهؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ : سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ نِهَايَةُ المُكَذِبِينَ ، وَكَيْفَ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَأَهْلَكَهُمْ ، وَجَعَلَ عَاقِبَتَهُمْ أَسْوَأَ عَاقِبَةٍ ، وَلِذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ بُرْهَانَ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّ اللهَ رَضِيَ لَهُمُ الكُفْرَ . (1)
وبناء العقيدة السليمة الصحيحة في نفوس المسلمين مطلب رئيس لتحقيق الاستقامة على منهج الله والثبات عليه والعقيدة هي الأساس في الدعوة إلى الله (2) ، وعلى ضوئها ينبغي الاهتمام بتصحيحها أولاً ، ثم النظر بعد ذلك إلى ما سواها .
ولقد اعتنى من كَتَبَ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عناية تامة بتجلية هذا الموضوع - البدء بالأهم فالأهم - ، وجعلوه من الآداب الواجب توفرها في القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأوضحوا أن « هذا المنهج هو المنهج الذي سار عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته حيث قَالَ يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ : إِنِّى عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عنها - إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِىٌّ فَقَالَ أَىُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ قَالَتْ وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ قَالَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِى مُصْحَفَكِ . قَالَتْ لِمَ قَالَ لَعَلِّى أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ . قَالَتْ وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ ، إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الْحَلاَلُ وَالْحَرَامُ ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَىْءٍ لاَ تَشْرَبُوا الْخَمْرَ . لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا . وَلَوْ نَزَلَ . لاَ تَزْنُوا . لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا . لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنِّى لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ }
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1938)
(2) - انظر : منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني / د . منى داوود ص 22 .(1/57)
(46) سورة القمر، وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلاَّ وَأَنَا عِنْدَهُ . قَالَ فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آىَ السُّوَرِ . (1)
وبهذا التدرُّج كان يوصي - صلى الله عليه وسلم - رسله،ويأمرهم إذا بعثهم للقيام بالدعوة ؛ كما أخرج البخاري فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ « إِنَّكَ سَتَأْتِى قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ » . (2) .
فينبغي أن يُبدأ بترسيخ الإيمان في النفوس أولاً ؛ وتعليم الناس توحيد الله عز وجل ، وتصفية نفوسهم وواقعهم من الشرك ومظاهره ، ثم ينطلق الدعاة والمحتسبون إلى ما دونه من الأمور والتي تليه أهميةً .. وهكذا ، كما قال أحدهم:
إن اللبيب إذا بدا من جسمه مرضان مختلفان داوى الأخطرا» (3)
قال النووي - رحمه الله - في شرح الحديث السابق : « المراد أعلمهم أنهم مطالبون بالصلوات وغيرها في الدنيا ، والمطالبة في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - رتَّب ذلك في الدعاء إلى الإسلام وبدأ بالأهم فالأهم» (4) .
و« البدء بالأهم فالمهم من القواعد والمبادئ التي تحكم القيام بفريضة الأمر بالمعروف
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4993 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1496 ) -الكرائم : جمع كريمة وهى خيار المال وأفضله
(3) - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( أصوله وضوابطه وآدابه ) خالد السبت ص 226 . وما بعدها . وانظر : كذلك : فقه إنكار المنكر ، بدرية البشر ص 161 .
(4) - شرح صحيح مسلم للنووي 1 / 162 .(1/58)
والنهي عن المنكر » (1) .
وتقديم الأهم فالمهم هو شريعة نبوية (2) ، كما قدمنا ذلك سابقاً ، ولا يعني ذلك أبداً أن نلقي الجزئيات ، « فالدين كله لله ، وليس فيه شيء يجوز أن يهوّن من شأنه ، أو أن يُتجاهل أو يُهمل .. فليس في الدين ( قشور ) أو (توافه) .. ومن الحكمة أن تبدأ بالخطأ الأكبر قبل الأصغر ، .. ولا يعني هذا إهمال الجزئيات والفروع» (3) .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض عن بعض الأخطاء ، أو يصفح عن بعضها الآخر ، وهذا من الأدب الذي أدبه الله إياه، لكنه - صلى الله عليه وسلم - « لم يؤمر ،ولم يكن من منهجه الإعراض عمن جهل الواجب عليه من حق الله ، ولا صفح عمن كفر بالله ، وجهل وحدانيته .» (4) .
إذا عُلم ذلك كله ، وجب السير على نهج المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من تقديم الأهم فالأهم ، وتصحيح الأكبر من الأخطاء ، ثم الأصغر ، والبداءة بما بدأ الله ورسوله ، وهو تقرير العقيدة ، والتوحيد ، ثم النظر إلى الواجبات والمستحبات والسنن
وفيما يلي أمثلة:
عن الْمُغِيرَةِ ابْنِ شُعْبَة قال: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ، فَقَالَ النَّاسُ انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِىَ » . رواه البخاري (5)
وفي رواية عن زِيَادَ بن عِلاقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بن شُعْبَةَ، يَقُولُ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ عَهْدِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ
__________
(1) - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله وسنة رسوله / أ . د . سليمان الحقيل ص 102 .
(2) - انظر : من أخلاق الداعية . سلمان بن فهد العودة ص 49 .
(3) - المصدر السابق .
(4) - دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعراب ص 274 .
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (1060 )49/2(1/59)
اللَّهِ , لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ , فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى تَنْكَشِفَ "
وعَنِ الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ، قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا تَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ , فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ حَتَّى تَنْكَشِفَ."
وعَنِ الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ , فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ , فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:يَا أَيُّهَا النَّاسُ , إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ , وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ , فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى تَنْكَشِفَ." (1)
وعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ ، قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ ، ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا ، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا : ذَاتُ أَنْوَاطٍ ، قَالَ : فَمَرَرْنَا بِالسِّدْرَةِ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اللَّهُ أَكْبَرُ ، إِنَّهَا السُّنَنُ ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بنو إِسْرَائِيلَ : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف : 138 ] ، قَالَ : إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ " .
وعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ يُقَالُ لَهَا : ذَاتُ أَنْوَاطٍ ، يُعَلِّقُ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " اللَّهُ أَكْبَرُ ، هَذَا كَمَا قَالَتْ بنو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف : 138 ] ، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ " .
وعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ ، قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ حَدِيثُوا عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ ، وَقَدْ كَانَتْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَرَبِ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ يُقَالُ لَهَا : ذَاتَ أَنْوَاطٍ ، يَأْتُونَهَا كُلَّ عَامٍ ، فَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ ، ويُرِيحُونَ تَحْتَهَا ، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا ، فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً ، فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطَّرِيقِ ، فَقُلْنَا
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 354) (17390 -17392) صحيح(1/60)
: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ ، فَقَالَ : " اللَّهُ أَكْبَرُ ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف : 138 ] ، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ". (1)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ « هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ » . قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ « أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِى مُؤْمِنٌ بِى وَكَافِرٌ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِى وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِى وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ » (2) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ ؟ فَقَالَ : جَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدْلاً ، بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ." (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَاجَعَهُ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ، فَقَالَ: مَا شَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَشِئْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَجَعَلْتَنِي مَعَ اللهِ عَدْلًا , لَا بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ " (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ , قَالَ:جَعَلْتَ لِلَّهِ نِدًّا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ." (5)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ ، وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ، أَوْ لِيَصْمُتْ." (6) .
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (3 / 394) (3215-3217) وسنن الترمذى- المكنز - (2335 ) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 317)(21897) 22242- صحيح
الأنواط : ذات أنواط شجرة بعينها كان الكفار ينوطون بها أسلحتهم أى يعلقونها
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (846 )
السماء : المطر -النوء : المنزلة من منازل القمر وكانت العرب تنسب المطر إليها
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 732) (2561) صحيح
(4) - شرح مشكل الآثار - (1 / 218) (235 ) صحيح
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (10 / 385) (12829) صحيح
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (6108) وصحيح ابن حبان - (10 / 202) (4360)(1/61)
وعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ : كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي حَلْقَةٍ ، فَسَمِعَ رَجُلاً فِي حَلْقَةٍ أُخْرَى وَهُوَ يَقُولُ : لاَ وَأَبِي فَرَمَاهُ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى ، وَقَالَ : إِنَّهَا كَانَتْ يَمِينَ عُمَرَ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهَا وَقَالَ : إِنَّهَا شِرْكٌ." (1)
وعَنْ هَانِئِ بْنِ شُرَيْحٍ ، قَالَ : وَفَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قَوْمِهِ فَسَمِعَهُمْ يُسَمُّونَ رَجُلاً عَبْدَ الْحَجَرِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا اسْمُك ؟ قَالَ : عَبْدُ الْحَجَرِ ، فَقَالَ لَهُ : رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إنَّمَا أَنْتَ عَبْدُ اللهِ." (2)
وعَنْ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَجُلاً كَانَ اسْمُهُ الْحُبَابَ ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ اللهِ وَقَالَ : الْحُبَابُ شَيْطَانٌ ، وَكَانَ اسْمُ رَجُلٍ الْمُضْطَجِعَ فَسَمَّاهُ الْمُنْبَعِثَ." (3)
وعَنْ عَامِرٍ ، قَالَ : لَمْ يُدْرِكَ الإِسْلاَمَ مِنْ عُصَاةِ قُرَيْشٍ غَيْرُ مُطِيعٍ ، وَكَانَ اسْمُهُ الْعَاصِيَ ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُطِيعًا." (4)
قال ابن تيمية رحمه الله : « ومحال أن يعلِّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته أدب الأكل والشراب ، وقضاء الحاجة ، ونحو ذلك ، ويترك تعليمهم ما يقولون بألسنتهم ، وما يعتقدونه في قلوبهم في ربهم، ومعبودهم مع كون ذلك غاية المعارف وأشرف المقاصد» (5) .
و« هكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحقق هذا التوحيد لأصحابه ، ويربِّيهم عليه ويحسم مادة الشرك ، حتى صفا اعتقادهم من كل شائبة تشوبه ، وتعلّقت قلوبهم بالله تعالى وحده - فكانوا خير أمة أخرجت للناس » (6) ، واستحقوا بذلك صحبة سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام لصفاء قلوبهم ، واستيعابها ، وامتثالها لما يأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينهى عنه .
==================
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 358) (5222و5256) صحيح
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 477) (26421) حسن
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 476) (26418) صحيح مرسل
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 476) (26419) صحيح مرسل
(5) - مجموع الفتاوى نقلاً عن تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ص 114 .
(6) - تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه / خالد عبد الله القرشي ص 116.(1/62)
- اعتبارُ موقع الشخص الذي يقوم بتصحيح الخطأ
فبعضُ الناس يُتقبّل منهم مالا يُتقبلُ من غيرهم؛لأن لهم مكانة ليست لغيرهم أو لأنَّ لهم سلطةً على المخطئ ليست لغيرهم،ومن أمثلة هذا الأبُ مع ابنه والمدرّس مع تلميذه والمحتسب مع من ينكر عليه، فليس الكبيرُ كالقرن والصغير، ولا القريب كالغريب، وليس صاحبُ السلطان كمن ليس له سلطة، والإدراكُ لهذه الفروق يؤدي بالمُصلح إلى وضع الأمور في نصابها وتقدير الأمور حقّ قدرها فلا يؤدي إنكاره أو تصحيحه إلى منكر أكبرَ أو خطأ أعظمَ، ومكانةُ المُنكِر وهيبته في نفس المخطئ مهمةٌ في تقدير درجة الإنكار وضبطِ معيار الشدّة واللين. ومن هذا نستفيد أمرين :
الأول: إنَّ على مَن آتاه الله مكانة أو سلطانا أن يسخّرَ ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الخلق وأنْ يدرك أنّ مسؤوليته عظيمةٌ لأنَّ الناس يتقبّلون منه أكثر مما يتقبّلون من غيره ـ غالباً ـ ويتمكّن مما لا يتمكّنُ منه الآخرون.
ثانيا: إنّ على الآمر الناهي أن لا يُسيء التقدير فيضع نفسه في موضع أعلى مما هو عليه ويتصرّفَ بصفاتٍ شخصيةٍ لا يملكها لأن ذلك يؤدي إلى النفور والصدّ.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفيدُ مما أعطاه الله من المكانة والمهابة بين الخلق في إنكاره وتعليمه وربما أتى بشيء لو فعله غيره ما وقع الموقع المناسب وفيما يلي مثال على ذلك:
عَنْ يَعِيشَ بْنِ طِهْفَةَ الْغِفَارِيِّ ، عَنْ أبيه ، قَالَ : ضِفْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَنْ تَضَيَّفَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي اللَّيْلِ يَتَعَاهَدُ ضَيْفَهُ ، فَرَآنِي مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِي فَرَكَضَنِي بِرِجْلِهِ ، وَقَالَ : لاَ تَضْطَجِعْ هَذِهِ الضِّجْعَةَ ، فَإِنَّهَا ضِجْعَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ عز وجل." (1)
وعَنِ ابْنِ طِخْفَةَ الْغِفَارِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ : ضَافَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ نَفَرٍ ، قَالَ : فَبِتْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ اللَّيْلِ يَطَّلِعُ ، فَرَآهُ مُنْبَطِحًا عَلَى وَجْهِهِ ، فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ ، فَأَيْقَظَهُ ، فَقَالَ : هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ." (2)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 794)(23615) 24014- حسن
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 352)(15545) 15630- حسن لغيره(1/63)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ مَرَّ بِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا مُضْطَجِعٌ عَلَى بَطْنِى فَرَكَضَنِى بِرِجْلِهِ وَقَالَ « يَا جُنَيْدِبُ إِنَّمَا هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ ». (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى بَطْنِهِ , فَقَالَ : " هَذِهِ ضَجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ " , أَوْ كَرِهَهَا " (2)
وإذا كان إنكاره - صلى الله عليه وسلم - بهذه الطريقة مناسبا لحاله ومكانته فإنه ليس بمناسب لآحاد الناس، ولا يصلح لأي شخص يريد أن يُنكر على آخر نومه على بطنه أن يركضه برجله وهو نائم فيوقظه ثم يتوقّع أن يقبل منه ويشكره. وقريبٌ من هذا ضرب المخطئ أو رميه بشيء كالحصى ونحوه وقد فعل ذلك بعض السلف وكل ذلك يعود إلى مكانة المُنكِر وفيما يلي بعض القصص:
روى الدارمي رحمه الله عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ : أَنَّ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ صَبِيغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ ، فَقَالَ : مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ. فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُوناً مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ وَقَالَ : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ. فَجَعَلَ لَهُ ضَرْباً حَتَّى دَمِىَ رَأْسُهُ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُكَ قَدْ ذَهَبَ الَّذِى كُنْتُ أَجِدُ فِى رَأْسِى. " (3)
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ , أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ : صَبِيغُ بْنُ عِسْلٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ , وَكَانَتْ عِنْدَهُ كُتُبٌ , فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابَهِ الْقُرْآنِ , فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَبَعَثَ لَهُ , وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ , فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ جَلَسَ فَقَالَ لَهُ : " مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا صَبِيغٌ , فَقَالَ عُمَرُ : وَأَنَا عُمَرُ عَبْدُ اللَّهِ , ثُمَّ أَهْوَى إِلَيْهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِتِلْكَ الْعَرَاجِينِ حَتَّى شَجَّهُ , فَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ , فَقَالَ : حَسْبُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , فَقَدْ وَاللَّهِ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي " (4)
__________
(1) - سنن ابن ماجه- المكنز - (3856) صحيح لغيره
(2) - إِكْرَامُ الضَّيْفِ لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ (45 ) صحيح
(3) - سنن الدارمى- المكنز - ( 146) صحيح مرسل
العراجين : جمع العرجون وهو العود الأصفر الذى فيه الشماريخ إذا يبس واعوج
(4) - الْإِبَانَةُ الْكُبْرَى لِابْنِ بَطَّةَ (795 ) والشَّرِيعَةُ لِلْآجُرِّيِّ(150 ) صحيح مرسل
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا اسْتَحَقَّ الضَّرْبَ ، وَالتَّنْكِيلَ بِهِ وَالْهِجْرَةَ قِيلَ لَهُ : لَمْ يَكُنْ ضَرْبُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ بِسَبَبٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَكِنْ لَمَّا تَأَدَّى إِلَى عُمَرَ مَا كَانَ يَسْأَلُ عَنْهُ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرَاهُ عَلِمَ أَنَّهُ مَفْتُونٌ ، قَدْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ ، وَعَلِمَ أَنَّ اشْتِغَالَهُ بِطَلَبِ عِلْمِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ عِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَوْلَى بِهِ , وَتَطَلُّبُ عِلْمِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى بِهِ ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَى مَا لَا يَنْفَعُهُ ، سَأَلَ عُمَرُ اللَّهَ تَعَالَى أّنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهُ ، حَتَّى يُنَكِّلَ بِهِ ، وحَتَّى : يُحَذِّرُ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ رَاعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ تَفَقُّدُ رَعِيَّتِهِ فِي هَذَا وَفِي غَيْرِهِ ، فَأَمْكَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : سَيَكُونُ أَقْوَامٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِمُتَشابَهِ الْقُرْآنِ فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى "(1/64)
وعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانُ بِقَدَحٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ بِهِ إِلَّا أَنِّي قَدْ نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَانَا عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَالَ: " هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ بِالْمَدَائِنِ، فَاسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِإِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَرَمَى بِهِ وَجْهَهُ، فَقُلْنَا: اسْكُتُوا، فَإِنَّا إِنْ سَأَلْنَاهُ لَمْ يُحَدِّثُنَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ، قَالَ: تَدْرُونَ لَمْ رَمَيْتُهُ؟، إِنِّي كُنْتُ نُهِيتُهُ، قَالَ: فَذَكَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، قَالَ: هُوَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ، " (2)
وفي رواية أحمد عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : خَرَجْتُ مَعَ حُذَيْفَةَ إِلَى بَعْضِ هَذَا السَّوَادِ فَاسْتَسْقَى ، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِإِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ ، قَالَ : فَرَمَاهُ بِهِ فِي وَجْهِهِ ، قَالَ : قُلْنَا اسْكُتُوا اسْكُتُوا ، وَإِنَّا إِنْ سَأَلْنَاهُ لَمْ يُحَدِّثْنَا ، قَالَ فَسَكَتْنَا ، قَالَ : فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ : أَتَدْرُونَ لِمَ رَمَيْتُ بِهِ فِي وَجْهِهِ ؟ قَالَ : قُلْنَا : لاَ ، قَالَ : إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُهُ ، قَالَ : فَذَكَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : لاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ ، قَالَ مُعَاذٌ : لاَ تَشْرَبُوا فِي الذَّهَبِ ، وَلاَ فِي الْفِضَّةِ ، وَلاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلاَ الدِّيبَاجَ ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ." (3)
__________
(1) - شعب الإيمان - (8 / 378) (5962 ) وصحيح البخارى- المكنز - (5632 )
(2) - مسند أبي عوانة (6821 ) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 727)(23364) 23756- صحيح(1/65)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : أَرَادَنِى سِيرِينُ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ فَأَبَيْتُ عَلَيْهِ فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَقْبَلَ عَلَىَّ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْنِى بِالدِّرَّةِ فَقَالَ كَاتِبْهُ." (1)
وعَنِِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي مخبر أن موسى بن أنس بن مالك أَخْبَرَهُ أن سيرين سأل أنس بن مالك الكتاب وكان كثير المال فأبى فانطلق إلى عمر بن الخطاب فاستأداه عليه فقال عمر لأنس : كاتبه فأبى فضربه بالدرة وقال: كاتبه فقال أنس :لا أكاتبه فضربه بالدرة وتلا : {.. وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ..} (33) سورة النور، فكاتبه أنس " (2)
وروى النسائي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي ، فَإِذَا بِابْنٍ لِمَرْوَانَ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَدَرَأَهُ ، فَلَمْ يَرْجِعْ ، فَضَرَبَهُ ، فَخَرَجَ الْغُلاَمُ يَبْكِي ، حَتَّى أَتَى مَرْوَانَ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ مَرْوَانُ لأَبِي سَعِيدٍ : لِمَ ضَرَبْتَ ابْنَ أَخِيكَ ؟ قَالَ : مَا ضَرَبْتُهُ ، إِنَّمَا ضَرَبْتُ الشَّيْطَانَ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ ، فَأَرَادَ إِنْسَانٌ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَيَدْرَؤُهُ مَا اسْتَطَاعَ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ." (3) .
وعَنْ عَطَاءٍ ، قال : أَرَادَ دَاوُدُ بْنُ مَرْوَانَ ، أَنْ يُجِيزَ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَهُوَ يُصَلِّي وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ لَهُ ، وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ النَّاسِ بِالْمَدِينَةِ ، فَرَدَّهُ ، فَكَأَنَّهُ أَبَى ، فَلَهَزَ فِي صَدْرِهِ فَذَهَبَ الْفَتَى إِلَى أَبِيهِ فَأَخْبَرَهُ ، فَدَعَا مَرْوَانُ أَبَا سَعِيدٍ ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَهَزَهُ مِنْ أَجْلِ حُلَّتِهِ ، قَالَ : فَذَكَرَ ذَلِكَ ، قَالَ : فَقَالَ : نَعَمْ ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ارْدُدْهُ ، فَإِنْ أَبَى فَجَاهِدْهُ " (4)
وروى أحمد رحمه الله عَنْ أَبِي النَّضْرِ ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ، كَانَ يَشْتَكِي رِجْلَهُ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَخُوهُ وَقَدْ جَعَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى وَهُوَ مُضْطَجِعٌ ، فَضَرَبَهُ بِيَدِهِ عَلَى رِجْلِهِ الْوَجِعَةِ فَأَوْجَعَهُ ، فَقَالَ : أَوْجَعْتَنِي ، أَوَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ رِجْلِي وَجِعَةٌ ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَهَى عَنْ هَذِهِ ؟." (5)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 319) (22137) صحيح
(2) - مصنف عبد الرزاق (15579) فيه انقطاع
(3) - سنن النسائي- المكنز - (4879 ) صحيح والمسند الجامع - (6 / 386) (4252) صحيح
(4) - مصنف عبد الرزاق(2331) صحيح
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 108) (11375) 11395- صحيح(1/66)
وعَنْ أَبِى الزُّبَيْرِ الْمَكِّىِّ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ إِلَى رَجُلٍ أُخْتَهُ ، فَذَكَرَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أَحْدَثَتْ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَضَرَبَهُ أَوْ " كَادَ يَضْرِبُهُ " ثُمَّ قَالَ : " مَا لَكَ وَلِلْخَبَرِ " (1) - أحدثت: زنت
وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ كُنْتُ مَعَ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ جَالِسًا فِى الْمَسْجِدِ الأَعْظَمِ وَمَعَنَا الشَّعْبِىُّ فَحَدَّثَ الشَّعْبِىُّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةً ثُمَّ أَخَذَ الأَسْوَدُ كَفًّا مِنْ حَصًى فَحَصَبَهُ بِهِ. فَقَالَ وَيْلَكَ تُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا قَالَ عُمَرُ لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لاَ نَدْرِى لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1) سورة الطلاق. (2)
وروى أبو داود عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ الأَنْصَارِيِّ الأَزْرَقِ ، قَالَ : دَخَلَ رَجُلاَنِ مِنْ أَبْوَابِ كِنْدَةَ ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ جَالِسٌ فِي حَلْقَةٍ ، فَقَالاَ : أَلاَ رَجُلٌ يُنَفِّذُ بَيْنَنَا ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْحَلْقَةِ : أَنَا ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ كَفًّا مِنْ حَصًى فَرَمَاهُ بِهِ ، وَقَالَ : مَهْ ، إِنَّهُ كَانَ يُكْرَهُ التَّسَرُّعُ إِلَى الْحُكْمِ. " (3)
ونلاحظ أيضا أنّ إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض خواصّ أصحابه كان أحيانا أشدّ منه على أعرابي مثلا أو غريب وكلّ هذا من الحكمة وتقدير الحال في الإنكار.
===========
- التفريقُ بين المخطئ الجاهل والمخطئ عن علم
ومن القصص الواضحة في هذا ما حدث لمُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ ، فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللهُ ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ
__________
(1) - موطأ مالك- المكنز - (1148 ) وجَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ ( 10249) وسُنَنُ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ (832 ) من طرق صحيح لغيره
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (3783)
(3) - المسند الجامع - (13 / 184) (9946) وسنن أبي داود - المكنز - (3579 ) حسن(1/67)
بِأَبْصَارِهِمْ ، فَقُلْتُ : وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ.ى أَفْخَاذِهِمْ ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي ، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ ، فَوَاللهِ ، مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي ، قَالَ : إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ بِالإِسْلاَمِ ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الْكُهَّانَ ، قَالَ : فَلاَ تَأْتِهِمْ ، قَالَ : وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ ، قَالَ : ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ ، فَلاَ يَصُدَّنَّهُمْ - قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ : فَلاَ يَصُدَّنَّكُمْ - قَالَ : قُلْتُ : وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ ، قَالَ : كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ ، قَالَ : وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ ، فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدم ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَعَظَّمَ ذَلِكَ.يَّ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَفَلاَ أُعْتِقُهَا ؟ قَالَ : ائْتِنِي بِهَا ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا ، فَقَالَ لَهَا : أَيْنَ اللهُ ؟ قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ ، قَالَ : مَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ، قَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ." (1)
فالجاهل يحتاج إلى تعليم وصاحب الشبهة يحتاج إلى بيان والغافل يحتاج إلى تذكير والمصرُّ يحتاج إلى وعظ، فلا يسوغ أن يسوَّى بين العالم بالحكم والجاهل به في المعاملة والإنكار،
__________
(1) - المسند الجامع - (15 / 415) (11592) وصحيح مسلم- المكنز - (1227)
كهرني : الكهر: الزبر والنهر، كهره يكهر: إذا زبره ونهره. -الكهان : جمع كاهن، وهو الذي كان في الجاهلية يرجعون إليه ويسألونه عن المغيبات ليخبرهم بها في زعمهم، وحقيقته: أن يكون له رئي من الجن يلقي إليه ما يستمعه، ويسترقه من أخبار السماء، فما يكون قد استمعه، وألقاه على جهته كان صحيحا، وما يكذب فيه مما لا يكون قد سمعه فهو الأكثر، وقد جاء هذا مصرحا به في الحديث الصحيح.-يتطيرون : التطير: التشاؤم بالشيء، وأصله: أن العرب كانوا إذا خرجوا في سفر، أو عزموا على عمل: زجروا الطائر تفاؤلا به، فما غلب على ظنهم وقوي في أنفسهم فعلوه: من قول أو عمل، أو ترك، أو نهي الشرع عنه، تسليما لقضاء الله وقدره، وجعل لهم بدل ذلك الاستخارة في الأمر، وما أحسن هذا البدل.-يخطون : الخط: الذي يفعله المنجم في الرمل بإصبعه ويحكم عليه، ويستخرج به الضمير، وقد تقدم ذكره فيما مضى من الكتاب.-آسف : أسف الرجل يأسف أسفا: إذا غضب، والأسف: الغضب.-صككتها : الصك: الضرب واللطم. جامع الأصول في أحاديث الرسول - (5 / 488)(1/68)
بل إن الشِّدة على الجاهل كثيرا ما تحمله على النفور ورفض الانقياد بخلاف ما لو علّمه أولا بالحكمة واللين لأن الجاهل عند نفسه لا يرى أنه مخطئ فلسان حاله يقول لمن يُنكر عليه: أفلا علمتني قبل أن تهاجمني.
وقد يُجانب المُخطئُ الصوابَ وهو لا يشعر بل قد يظنّ نفسه مصيبا فيُراعى لأجل ذلك: جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَكَلَ طَعَامًا ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ ، فَقَامَ ، وَقَدْ كَانَ تَوَضَّأَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَأَتَيْتُهُ بِمَاءٍ لِيَتَوَضَّأَ مِنْهُ ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ : وَرَاءَكَ ، فَسَاءَنِي وَاللَّهِ ذَلِكَ ، ثُمَّ صَلَّى ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ الْمُغِيرَةَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِ انْتِهَارُكَ إِيَّاهُ ، وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِكَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لَيْسَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِي شَيْءٌ إِلاَّ خَيْرٌ ، وَلَكِنْ أَتَانِي بِمَاءٍ لأَتَوَضَّأَ ، وَإِنَّمَا أَكَلْتُ طَعَامًا وَلَوْ فَعَلْتُ فَعَلَ ذَلِكَ النَّاسُ بَعْدِي." (1)
ويُلاحظُ هنا أن تخطئة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمثل هؤلاء الصحابة الأجلاء لم تكن لتؤثر في نفوسهم تأثيرا سلبيا فتحملهم على كره أو نفور بل إنها كانت تؤثرُ في نفوسهم تأثيرا إيجابيا فيبقى الواحد منهم بعد تخطئته من النبي - صلى الله عليه وسلم - وجلاً مشفقا متهما نفسه يعيش في حرج عظيم لا يسرِّي عنه إلا أن يتأكد من رضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه.
ويُلاحظ في هذه القصة كذلك أن تخطئة النبي - صلى الله عليه وسلم - للمغيرة لم تكن غضباً من شخص المغيرة ولكن شفقة على الناس وتبيينا لهم حتى لا يظنوا ما ليس بواجب واجبا فيقعوا في الحرج.
=============
- التفريق بين الخطأ الناتج عن اجتهاد صاحبه وبين خطأ العمد والغفلة والتقصير :
ولا شكّ أن الأول ليس بملوم بل إنه يؤجر أجرا واحدا إذا أخلص واجتهد فعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ». (2)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 235)(18219) 18406- حسن
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (3576 ) وسنن ابن ماجه- المكنز - (2402 ) وسنن الترمذى- المكنز - (1376) والسنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 118) (20863) صحيح(1/69)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ، فَأَصَابَ ، كَانَ لَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ، فَأَخْطَأَ ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ." (1)
وهذا بخلاف المخطئ عن عمد وتقصير فلا يستويان فالأول يعلَّمُ ويناصح بخلاف الثاني فإنه يوعظُ ويُنكر عليه.
ويجب أن يكون الاجتهاد الذي يُعذر به صاحبه اجتهاداً سائغا من شخص مؤهَّلٍ بخلاف من يفتي بغير علم، أولا يُراعي الأحوال ،ولذلك اشتد إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على المخطئين في قصة صاحب الشجّة فقد روى أبو داود في سننه عَنْ جَابِرٍ قَالَ : خَرَجْنَا فِى سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِى رَأْسِهِ ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ : هَلْ تَجِدُونَ لِى رُخْصَةً فِى التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ :« قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ ، أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا ، إِنَّمَا شِفَاءُ الْعَىِّ السُّؤَالُ ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ » (2) ..
وعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ وَاحِدٌ فِى الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِى النَّارِ فَأَمَّا الَّذِى فِى الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِى الْحُكْمِ فَهُوَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِى النَّارِ » (3) .
فلم يعتبر هذا الثالث معذورا.
ومن الأمور التي تضبطُ درجة إنكار الخطأ مراعاة البيئة التي حصل فيها الخطأ مثل انتشار السنَّة أو البدعة وكذلك مدى استشراء المنكر أو وجود من يفتي بجوازه من الجهلة أو المتساهلين ممن يراهم الناس شيئا.
================
- إرادة المخطئ للخير لا تمنع من الإنكار عليه
__________
(1) - الفوائد لتمام 414 - (2 / 326) (1535) والمجالسة وجواهر العلم - (8 / 187) (3492 ) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (1 / 228) (1117) وسنن أبي داود - المكنز - (336) حسن
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (3575 ) صحيح(1/70)
عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ ، قَالَ : كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَبْلَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ ، فَإِذَا خَرَجَ مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ ، فَقَالَ : أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَانِ بَعْدُ ؟ قُلْنَا : لاَ ، فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَانِ ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ ، وَلَمْ أَرَ ، وَالْحَمْدُ ِللهِ ، إِلاَّ خَيْرًا ، قَالَ : فَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ : إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ , قَالَ : رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا ، يَنْتَظِرُونَ الصَّلاَةَ ، فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ ، وَفِي أَيْدِيهِمْ حَصًى , فَيَقُولُ : كَبِّرُوا مِئَةً ، فَيُكَبِّرُونَ مِئَةً ، فَيَقُولُ : هَلِّلُوا مِئَةً , فَيُهَلِّلُونَ مِئَةً ، وَيَقُولُ : سَبِّحُوا مِئَةً , فَيُسَبِّحُونَ مِئَةً ، قَالَ : فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ ؟ قَالَ : مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئًا ، انْتِظَارَ رَأْيِكَ ، أَوِ انْتِظَارَ أَمْرِكَ ، قَالَ : أَفَلاَ أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ ، وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لاَ يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ ، ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ ، حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ : مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قَالُوا : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَانِ ، حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ ، وَالتَّهْلِيلَ ، وَالتَّسْبِيحَ ، قَالَ : فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ ، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لاَ يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيءٌ ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، مَا أَسْرَعَ هَلَكَتِكُمْ ، هَؤُلاَءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَافِرُونَ ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ ، وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ ، إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ ؟! أَوْ مُفْتَتِحُوا بَابَ ضَلاَلَةٍ ؟ قَالُوا : وَاللهِ ، يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَانِ مَا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ ، قَالَ : وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ ، إِنَّ رَسُولَ - صلى الله عليه وسلم - حدَّثنا ؛أَنَّ قَوْمًا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ ، لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ.وَايْمُ اللهِ ، مَا أَدْرِى لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ ، ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ.فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ : رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ ، يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ." (1)
================
- العدلُ وعدم المحاباة في التنبيه على الأخطاء
العدل في اللغة : ضد الجور ، وما قام في النفوس أنه مستقيم (2) ، وهو عبارة عن الأمر
__________
(1) - المسند الجامع - (12 / 369) (9433) وسنن الدارمى- المكنز - (210) حسن
(2) - القاموس المحيط ص 1331 . مادة عَدَلَ .(1/71)
المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط (1) .
وعبَّر بعضهم بالعدل عن الاعتدال حيث قال ابن تيمية رحمه الله : « والعدل هو الاعتدال ، والاعتدال هو صلاح القلب ، كما أن الظلم فساده ، ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالماً لنفسه ، والظلم خلاف العدل ، فلم يعدل على نفسه بل ظلمها فصلاح القلب في العدل وفساده في الظلم» (2) .
والعدل على أربعة أقسام - كما أجاب سعيد بن جبير رحمه الله - عبدالملك بن مروان عندما سأله عن العدل فأجابه :
« إن العدل على أربعة أنحاء :
العدل في الحكم قال الله تعالى { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (42) سورة المائدة
والعدل في القول ، قال تعالى { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } (152) سورة الأنعام
والعدل : في الفدية ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (95) سورة المائدة
والعدل في الإشراك ، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} (1) سورة الأنعام، أي يشركون» (3) .
والآيات والأحاديث الواردة في ذكر العدل ، والحث عليه ، والتحذير من الظلم ، كثيرة جداً ، ومن ذلك أن القرآن أمر بالعدل وحضَّ عليه ، فقال سبحانه وتعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا
__________
(1) - انظر : التعريفات ص 191 .
(2) - مجموع الفتاوى 10 / 98 .
(3) - وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم / الجليّل 1/ 18 .(1/72)
يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (58) سورة النساء) .
وقال سبحانه وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة.
وقال سبحانه كذلك : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (90) سورة النحل.
ففي هذه الآيات ، وغيرها يحضُّ سبحانه وتعالى على العدل ، ويأمر به جميع الناس سواءً الحكام ، أو المحكومين ، وذلك لما يترتب على العدل من صلاح الدنيا ، والدين للفرد ، والجماعة (1) . والمراد بالقسط في بعض الآيات العدل (2) .
أما الأحاديث فهي كذلك كثيرة ، ومتنوعة في هذا الأمر الهام ، وهو العدل ، فعَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ - رضى الله عنهما - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ أَعْطَانِى أَبِى عَطِيَّةً ، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنِّى أَعْطَيْتُ ابْنِى مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً ، فَأَمَرَتْنِى أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا » . قَالَ لاَ . قَالَ « فَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ » . قَالَ فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ . (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ ، يَعْدِلُ بَيْنَ الاِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ ، فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ » . (4)
__________
(1) - انظر : أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة ، الحداد 3 / 1248 .
(2) - انظر : تفسير ابن كثير . 2 / 29 وما بعدها .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2587 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2989)(1/73)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِى حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا » (1) .
والعدل قامت عليه السموات والأرض ، ولا أدلَّ على ذلك من قضية عبدالله بن رواحة لما بعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل خيبر يخرصُ عليهم ثمارهم ، وزرعهم ، فأرادوا أن يعطوه رشوة ليرفق بهم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ وَعَدَ الْيَهُودَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ نِصْفَ الثَّمَرِ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا ، ثُمَّ أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ يَخْرُصُهَا ثُمَّ يُخْبِرُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهَا أَوْ يَتْرُكُوهَا ، وَإِنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَاشْتَكَوْا إِلَيْهِ عَلَى خَرَصِهِ ، فَدَعَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ، فَذَكَرَ لَهُ مَا ذَكَرُوا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هُوَ مَا عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ شَاءُوا أَخَذُوهَا وَإِنْ تَرَكُوهَا أَخَذْنَاهَا ، فَرَضِيَتِ الْيَهُودُ ، وَقَالُوا : بِهَذَا قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ ... (2)
ولم يمنع كون أسامة بن زيد حبّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن حبه أن يشتدّ عليه في الإنكار حينما حاول أن يشفع في حدّ من حدود الله فقد ورد عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِى سَرَقَتْ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَأُتِىَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ». فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الْعَشِىُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاخْتَطَبَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنِّى وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ». ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِى سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يَدُهَا. قَالَ يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ وَتَزَوَّجَتْ وَكَانَتْ تَأْتِينِى بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ." (3)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4825 )
(2) - كشف الأستار - (2 / 94) (1286) صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4506 )(1/74)
وفي رواية للنسائي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ اسْتَعَارَتِ امْرَأَةٌ عَلَى أَلْسِنَةِ أُنَاسٍ يُعْرَفُونَ - وَهِىَ لاَ تُعْرَفُ - حُلِيًّا فَبَاعَتْهُ وَأَخَذَتْ ثَمَنَهُ فَأُتِىَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَعَى أَهْلُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُكَلِّمُهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَتَشْفَعُ إِلَىَّ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ». فَقَالَ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ.ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشِيَّتَ ئِذٍ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ فِيهِمْ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ». ثُمَّ قَطَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ." (1) .
ومثله الحادثة التالية في الحرب، قَالَ أَبُو ظَبْيَانَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ - رضى الله عنهما - يُحَدِّثُ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ - قَالَ - فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ - قَالَ - وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ - قَالَ - فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ - قَالَ - فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِىُّ ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ - قَالَ - فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فَقَالَ لِى « يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا . قَالَ « أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » . قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَىَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ." (2)
وموقفه عليه الصلاة والسلام من أسامة رضي الله عنه دالُّ على عدله وأنَّ الشرع عنده فوق محبة الأشخاص والإنسان قد يسامحُ من يريد في الخطأ على شخصه ولكن لا يملكُ أن يُسامح أو يُحابي من يخطئ على الشرع.
وبعضُ الناس إذا أخطأ قريبه أو صاحبه لم يكن إنكاره عليه مثل إنكاره على من لا يعرفه وربما ظهر تحيز وتمييز غير شرعي في المعاملة بسبب ذلك، بل ربما تغاضى عن خطأ صاحبه وشددّ في خطأ غيره .
__________
(1) - سنن النسائي- المكنز - (4915 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6872 )(1/75)
وعينُ الرضا عن كلّ عيب كليلةٌ*** ولكنّ عين السُّخط تُبْدي المساويا
وهذا ينعكسُ على تفسير الأفعال أيضا فقد يصدر الفعل من شخص محبوب فيُحملُ على محمل ويصدر مثله من شخص آخر فيُحمل على محمل آخر.
وكلُّ ما سبق مقيدٌ بما إذا استوت الأحوال وإلا فقد يكون هناك تفاوت في الاعتبارات كما سيأتي ذكره.
===============
- الحذرٌ من إصلاح خطأٍ يؤدي إلى خطأ أكبرَ
من المعلوم أن من قواعد الشريعة تحمّل أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما فقد يسكتُ الداعي عن خطأ لئلا يؤدي الأمر إلى وقوع خطأ أعظم.
لقد سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المنافقين ولم يقتلهم مع ثبوت كفرهم وصبرَ على أذاهم لئلا يقول الناس:محمدٌ يقتل أصحابه خصوصا مع خفاء أمرهم، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ : يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ قَالَ : فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاكَ ، فَقَالَ : مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ : دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبَيِّ ابْنُ سَلُولٍ : قَدْ فَعَلُوهَا ، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ، فَقَالَ عُمَرُ : دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ ، فَقَالَ : دَعْهُ ، لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" (1)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3518 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6748) وصحيح ابن حبان - (13 / 330) (5990)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ يُرِيدُ أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي هَذَا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : فَإِنَّهَا ذَمِيمَةٌ ، وَمَا يُشْبِهُهَا.
وقال النووي : " قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( دَعْهُ لَا يَتَحَدَّث النَّاس أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُل أَصْحَابه ) فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْحِلْم ، وَفِيهِ تَرْك بَعْض الْأُمُور الْمُخْتَارَة ، وَالصَّبْر عَلَى بَعْض الْمَفَاسِد خَوْفًا مِنْ أَنْ تَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ ، وَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَتَأَلَّف النَّاس ، وَيَصْبِر عَلَى جَفَاء الْأَعْرَاب وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيْرهمْ لِتَقْوَى شَوْكَة الْمُسْلِمِينَ ، وَتَتِمّ دَعْوَة الْإِسْلَام ، وَيَتَمَكَّن الْإِيمَان مِنْ قُلُوب الْمُؤَلَّفَة ، وَيَرْغَب غَيْرهمْ فِي الْإِسْلَام ، وَكَانَ يُعْطِيهِمْ الْأَمْوَال الْجَزِيلَة لِذَلِكَ ، وَلَمْ يَقْتُل الْمُنَافِقِينَ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَلِإِظْهَارِهِمْ الْإِسْلَام ، وَقَدْ أُمِرَ بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ ، وَاَللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِر ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْدُودِينَ فِي أَصْحَابه - صلى الله عليه وسلم - ، وَيُجَاهِدُونَ مَعَهُ إِمَّا حَمِيَّة ، وَإِمَّا لِطَلَبِ دُنْيَا ، أَوْ عَصَبِيَّة لِمَنْ مَعَهُ مِنْ عَشَائِرهمْ . قَالَ الْقَاضِي : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ بَقِيَ حُكْم الْإِغْضَاء عَنْهُمْ ، وَتَرْك قِتَالهمْ ، أَوْ نُسِخَ ذَلِكَ عِنْد ظُهُور الْإِسْلَام ، وَنُزُول قَوْله تَعَالَى : { جَاهِدْ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ } وَأَنَّهَا نَاسِخَة لِمَا قَبْلهَا : وَقِيلَ : قَوْل ثَالِث أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ الْعَفْو عَنْهُمْ مَا لَمْ يُظْهِرُوا نِفَاقهمْ ، فَإِذَا أَظْهَرُوهُ قُتِلُوا ."شرح النووي على مسلم - (8 / 392)(1/76)
ولم يهدم النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة ليبنيها على قواعد إبراهيم الخليل من أجل أن قريشا كانوا حديثي عهد بجاهلية وخشي عليه الصلاة والسلام أن لا تحتمل ذلك عقولهم وتَرَك البنيان على ما فيه من النقص والباب على ارتفاعه وإغلاقه عن العامة مع أن في ذلك نوعا من الظلم، فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنهم - زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا « أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ . قَالَ « لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ » . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ - رضى الله عنه - لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها - سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ ، إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ ." (1)
وقبل ذلك نهى الله تعالى عن سبّ آلهة المشركين مع أنه طاعة وقربة إذا كان ذلك يؤدي إلى سب الله عز وجل وهو أعظم منكر، قال تعالى : {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (108) سورة الأنعام .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله :
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1583) وصحيح مسلم- المكنز - (3306)
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِقَوَاعِد مِنْ الْأَحْكَام مِنْهَا : إِذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِح أَوْ تَعَارَضَتْ مَصْلَحَة وَمَفْسَدَة وَتَعَذَّرَ الْجَمْع بَيْن فِعْل الْمَصْلَحَة وَتَرْك الْمَفْسَدَة بُدِئَ بِالْأَهَمِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْكَعْبَة وَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِد إِبْرَاهِيم - صلى الله عليه وسلم - مَصْلَحَة ، وَلَكِنْ تُعَارِضهُ مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ ، وَهِيَ خَوْف فِتْنَة بَعْض مَنْ أَسْلَمَ قَرِيبًا ، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ فَضْل الْكَعْبَة ، فَيَرَوْنَ تَغْيِيرهَا عَظِيمًا ، فَتَرَكَهَا - صلى الله عليه وسلم - .
وَمِنْهَا فِكْر وَلِي الْأَمْر فِي مَصَالِح رَعِيَّته ، وَاجْتِنَابه مَا يَخَاف مِنْهُ تَوَلُّد ضَرَر عَلَيْهِمْ فِي دِينَ أَوْ دُنْيَا إِلَّا الْأُمُور الشَّرْعِيَّة كَأَخْذِ الزَّكَاة وَإِقَامَة الْحُدُود وَنَحْو ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : تَأَلُّف قُلُوب الرَّعِيَّة وَحُسْن حِيَاطَتهمْ وَأَلَّا يَنْفِرُوا وَلَا يَتَعَرَّض لِمَا يَخَاف تَنْفِيرهمْ بِسَبَبِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَرْك أَمْر شَرْعِيّ كَمَا سَبَقَ "شرح النووي على مسلم - (4 / 487)(1/77)
" فَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ ؛ الْأُولَى : أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ ، الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ ، الثَّالِثَةُ : أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ ، الرَّابِعَةُ : أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ ؛ فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ ، وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ ؛ فَإِذَا رَأَيْت أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْفُسُوقِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ كَانَ إنْكَارُك عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَمِ الْفِقْهِ وَالْبَصِيرَةِ إلَّا إذَا نَقَلْتَهُمْ مِنْهُ إلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَرَمْيِ النُّشَّاب وَسِبَاقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِذَا رَأَيْت الْفُسَّاقَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى لَهْوٍ وَلَعِبٍ أَوْ سَمَاعِ مُكَاء وَتَصْدِيَةٍ فَإِنْ نَقَلْتَهُمْ عَنْهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُرَادُ ، وَإِلَّا كَانَ تَرْكُهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ أَنْ تُفْرِغَهُمْ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ مَا هُمْ فِيهِ شَاغِلًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، وَكَمَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُشْتَغِلًا بِكُتُبِ الْمُجُونِ وَنَحْوِهَا وَخِفْت مِنْ نَقْلِهِ عَنْهَا انْتِقَالَهُ إلَى كُتُبِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالسِّحْرِ فَدَعْهُ وَكُتُبَهُ الْأُولَى ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ ؛ وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ يَقُولُ : مَرَرْتُ أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي ، فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ ، وَقُلْت لَهُ : إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ فَدَعْهُمْ . " (1)
ومنها النَّهْيُ عَنْ قَطْعِ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ،فعَنْ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لاَ تُقْطَعُ الأَيْدِى فِى الْغَزْوِ » (2) .
وَقَدْ نَهَى عَنْ إقَامَتِهِ فِي الْغَزْوِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ مِنْ تَعْطِيلِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ مِنْ لُحُوقِ صَاحِبِهِ بِالْمُشْرِكِينَ حَمِيَّةً وَغَضَبًا كَمَا قَالَهُ عُمَرُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَحُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُمْ ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُقَامُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ : وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وذكر ابن القيم أمثلة عديدة وقال عقبها : " وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُخَالِفُ نَصًّا وَلَا قِيَاسًا وَلَا
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (3 / 3)
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (1521 ) صحيح لغيره(1/78)
قَاعِدَةً مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَلَا إجْمَاعًا ، بَلْ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ كَانَ أَصْوَبَ .قَالَ الشَّيْخُ ( ابن قدامة ) فِي الْمُغْنِي : وَهَذَا اتِّفَاقٌ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ .
قُلْت : وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ تَأْخِيرُ الْحَدِّ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ إمَّا مِنْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ أَوْ مِنْ خَوْفِ ارْتِدَادِهِ وَلُحُوقِهِ بِالْكُفَّارِ ، وَتَأْخِيرُ الْحَدِّ لِعَارِضٍ أَمْرٌ وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ ،كَمَا يُؤَخَّرُ عَنِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَعَنْ وَقْتِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَرَضِ ؛ فَهَذَا تَأْخِيرٌ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْدُودِ ؛ فَتَأْخِيرُهُ لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى . " (1)
ولذا فقد يسكتُ الداعيةُ عن منكر أو يؤجِّلُ الإنكار أو يغيّر الوسيلة إذا رأى في ذلك تلافياً لخطأ أو منكرٍ أكبر ولا يُعتبر ذلك تقصيرا ولا تخاذلا مادام صادقَ النية لا يخافُ في الله لومة لائم وكان الذي منعه مصلحة الدِّين لا الخور والجبن.
ومما يُلاحظ أن من الأسباب المؤدية إلى الوقوع في خطأ أكبر عند إنكار خطأ ما ؛ هو الحماسُ غير المنضبط بالحكمة .
=================
- إدراكُ الطبيعة التي نشأ عنها الخطأ
هناك بعضُ الأخطاء التي لا يمكن إزالتها بالكلية لأمر يتعلق بأصل الخِلْقة ولكن يمكن تقليلها والتخفيف منها؛لأن التقويم النهائي يؤدي إلى كارثة كما هو الشأن في المرأة ؛ فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلاَقُهَا » (2) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَىْءٍ فِى الضِّلَعِ أَعْلاَهُ ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ » (3) .
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (3 / 151)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (3719 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3331 )(1/79)
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله (بالنساء خيرا) كأن فيه رمزا إلى التقويم برفق بحيث لا يُبالغ فيه فيكسر ولا يتركه فيستمرُّ على عوجه.. فيؤخذ منه أن لا يتركها على الاعوجاج إذا تعدّت ما طُبعت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتها، أو ترك الواجب. وإنما المرادُ أن يتركها على اعوجاجها في الأمور المباحة. وفي الحديث المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب. وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن، والصبر على عوجهن، وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتمّ إلا بالصبر عليها. " (1)
================
- التفريقُ بين الخطأ في حقِّ الشرع والخطأ في حقِّ الشخص
فإذا كان الدِّينُ أغلى عندنا من ذواتنا وجب علينا أن ننتصرَ له ونحامي عنه ونغضب له أكثر مما نغضبُ لأنفسنا وننتصر لها. وإنَّ مِن ضعف الحمية الدينية أن ترى الشخص يغضب لنفسه إذا سبّه أحدٌ ولا يغضب لدين الله إذا اعتدى على جنابه أحدٌ أو تراه يدافعُ باستحياء وضعف.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسامحُ من أخطأ عليه كثيرا وخصوصا جُفاة الأعراب تأليفا لقلوبهم فقد جاء في صحيح البخاري رحمه الله تعالى فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيُّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيُّ فَجَبَذَهُ حَتَّى رَأَيْتُ صَفْحَهُ أَوْ صَفْحَةَ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ فَضَحِكَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ." (2)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ ، وَأَعْرَابِيٌّ يَسْأَلُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَعْضِ حُجَرِهِ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً ، حَتَّى انْشَقَّ الْبُرْدُ ،
__________
(1) - فتح الباري 11/163 وفتح الباري لابن حجر - (14 / 476) موقع الإسلام ودليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - (ج 2 / ص 385) و شرح ابن بطال - (13 / 292)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5809 ) والفوائد لتمام 414 - (2 / 253) (1403) - جبذ : جذب(1/80)
وَحَتَّى تَغَيَّبَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ مِنْ تَغْيِيرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِشَيْءٍ فَأُعْطِيَهُ." (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَمَنْ يَعْدِلْ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ ؟ قَدْ خَبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ " قَالَ عُمَرُ : " ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ " قَالَ : " دَعْهُ ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ،.. " (2)
وعَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلاَّمٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلاَّمٍ : إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا أَرَادَ هُدَى زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ ، قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ : إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ عَلاَمَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلاَّ وَقَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ ، إِلاَّ اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْبُرْهُمَا مِنْهُ : يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ ، وَلاَ يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلاَّ حِلْمًا ، فَكُنْتُ أَتَلَطَّفُ لَهُ لأَنْ أُخَالِطَهُ فَأَعْرِفَ حِلْمَهُ وَجَهْلَهُ. قَالَ : فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْحُجُرَاتِ ، وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ كَالْبَدَوِيِّ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، قَرْيَةُ بَنِي فُلاَنٍ قَدْ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الإِسْلاَمِ ، وَكُنْتُ أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ أَسْلَمُوا أَتَاهُمُ الرِّزْقُ رَغَدًا ، وَقَدْ أَصَابَهُمْ شِدَّةٌ وَقَحْطٌ مِنَ الْغَيْثِ ، وَأَنَا أَخْشَى ، يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الإِسْلاَمِ طَمَعًا كَمَا دَخَلُوا فِيهِ طَمَعًا ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُغِيثُهُمْ بِهِ فَعَلْتَ. قَالَ : فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى رَجُلٍ جَانِبَهُ ، أُرَاهُ عُمَرُ ، فَقَالَ : مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ : فَدَنَوْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ : يَا مُحَمَّدُ ، هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنِي تَمْرًا مَعْلُومًا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلاَنٍ إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا ؟ فَقَالَ : لاَ يَا يَهُودِيُّ ، وَلَكِنْ أَبِيعُكَ تَمْرًا مَعْلُومًا إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا ، وَلاَ أُسَمِّي حَائِطَ بَنِي فُلاَنٍ ، قُلْتُ : نَعَمْ ، فَبَايَعَنِي - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَطْلَقْتُ هِمْيَانِي ، فَأَعْطَيْتُهُ ثَمَانِينَ مِثْقَالاً مِنْ ذَهَبٍ فِي تَمْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ :
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 542)(13194) 13226- صحيح
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (7331 ) صحيح(1/81)
فَأَعْطَاهَا الرَّجُلَ وَقَالَ : اعْجَلْ عَلَيْهِمْ وأَغِثْهُمْ بِهَا. قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ : فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَحَلِّ الأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَعُثْمَانُ وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ دَنَا مِنْ جِدَارٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ ، فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ ، ثُمَّ قُلْتُ : أَلاَ تَقْضِينِي يَا مُحَمَّدُ حَقِّي ؟ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكُمْ بَنِي عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بِمَطْلٍ ، وَلَقَدْ كَانَ لِي بِمُخَالَطَتِكُمْ عِلْمٌ ، قَالَ : وَنَظَرْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَيْنَاهُ تَدُورَانِ فِي وَجْهِهِ كَالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ ، ثُمَّ رَمَانِي بِبَصَرِهِ وَقَالَ : أَيْ عَدُوَّ اللهِ ، أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَسْمَعُ ، وَتَفْعَلُ بِهِ مَا أَرَى ؟ فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ ، لَوْلاَ مَا أُحَاذِرُ فَوْتَهُ لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي هَذَا عُنُقَكَ ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وَتُؤَدَةٍ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّا كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْكَ يَا عُمَرُ ، أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الأَدَاءِ ، وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التِّبَاعَةِ ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فَاقْضِهِ حَقَّهُ ، وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ غَيْرِهِ مَكَانَ مَا رُعْتَهُ. قَالَ زَيْدٌ : فَذَهَبَ بِي عُمَرُ فَقَضَانِي حَقِّي ، وَزَادَنِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، فَقُلْتُ : مَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ ؟ قَالَ : أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَزِيدَكَ مَكَانَ مَا رُعْتُكَ ، فَقُلْتُ : أَتَعْرِفُنِي يَا عُمَرُ ؟ قَالَ : لاَ ، فَمَنْ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : أَنَا زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ ، قَالَ : الْحَبْرُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، الْحَبْرُ ، قَالَ : فَمَا دَعَاكَ أَنْ تَقُولَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا قُلْتَ ، وَتَفْعَلُ بِهِ مَا فَعَلْتَ ؟ فَقُلْتُ : يَا عُمَرُ كُلُّ عَلاَمَاتِ النُّبُوَّةِ قَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلاَّ اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْتَبِرْهُمَا مِنْهُ : يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ ، وَلاَ يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلاَّ حِلْمًا ، فَقَدِ اخْتَبَرْتُهُمَا ، فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - نَبِيًّا ، وَأُشْهِدُكَ أَنَّ شَطْرَ مَالِي فَإِنِّي أَكْثَرُهَا مَالاً صَدَقَةٌ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ عُمَرُ : أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ ، فَإِنَّكَ لاَ تَسَعُهُمْ كُلَّهُمْ ، قُلْتُ : أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ. فَرَجَعَ عُمَرُ وَزَيْدٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ زَيْدٌ : أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم - ، فَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ ، وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَشَاهِدَ كَثِيرَةً ، ثُمَّ تُوُفِّيَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ." (1)(1/82)
وأما إذا كان الخطأ على الدِّين فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغضب لله تعالى، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلاَ امْرَأَةً وَلاَ خَادِمًا إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَىْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَىْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ." (1)
================
وهناك أمورٌ أخرى تحتاج إلى مراعاة في باب التعامل مع الأخطاء مثل:
- التفريق بين الخطأ الكبير والخطأ الصغير وقد فرقت الشريعة بين الكبائر والصغائر
- التفريق بين المخطئ صاحب السوابق في عمل الخير والماضي الحسن ـ الذي يتلاشى خطؤه أو يكاد في بحر حسناته ـ وبين العاصي المسرف على نفسه
فعن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ رَافِعٍ , وَهُوَ كَاتِبُ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ , يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ قَالَ: " انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ , فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا " فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ , فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ , فَقُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ , فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ , فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ , فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا , فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ , إِلَى نَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا هَذَا يَا حَاطِبُ ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ , لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ , إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ , وَكَانَ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ قَرَابَتَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لِي قَرَابَةٌ أَحْمِي بِهَا أَهْلِي , فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي وَأَهْلِي , وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ , مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا أَرْضَى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ هَذَا قَدْ صَدَقَكُمْ " , فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللهِ , دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ: " إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا , وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " وَأُنْزِلَ فِيهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6195 )(1/83)
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} (1) سورة الممتحنة . (1)
وكذلك فإنَّ صاحب السوابق الحسنة يُحتمل منه ما لا يُحتمل من غيره ومما وقع للصديق في ذلك القصة التالية: فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حُجَّاجًا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَزَلْنَا فَجَلَسَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها - إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِى وَكَانَتْ زِمَالَةُ أَبِى بَكْرٍ وَزِمَالَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاحِدَةً مَعَ غُلاَمٍ لأَبِى بَكْرٍ فَجَلَسَ أَبُو بَكْرٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهِ فَطَلَعَ وَلَيْسَ مَعَهُ بَعِيرُهُ قَالَ أَيْنَ بَعِيرُكَ قَالَ أَضْلَلْتُهُ الْبَارِحَةَ.قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعِيرٌ وَاحِدٌ تُضِلُّهُ قَالَ فَطَفِقَ يَضْرِبُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَبَسَّمُ وَيَقُولُ « انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ ». قَالَ ابْنُ أَبِى رِزْمَةَ فَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَنْ يَقُولَ « انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ ». وَيَتَبَسَّمُ." (2)
================
- التفريقُ بين مَن وقع منه الخطأ مرارا وبين مَن وقع فيه لأول مرة
كما في السرقة مثلاً فأول مرة تقطع يده اليمنى من الرسغ ، وفي المرة الثانية يشدد عليه أكثر وهكذا ،ويمكن العفو في الأول ما لم يكن في حدٍّ لا يقبل العفو .
===============
__________
(1) - شعب الإيمان - (12 / 6) (8926) وصحيح البخارى- المكنز - (3007 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6557)
قال القرطبي : " وَقَدْ ظَهَرَ لِي أَنَّ هَذَا الْخِطَاب خِطَاب إِكْرَام وَتَشْرِيف ، تَضَمَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ حَصَلَتْ لَهُمْ حَالَة غُفِرَتْ بِهَا ذُنُوبهمْ السَّالِفَة ، وَتَأَهَّلُوا أَنْ يُغْفَر لَهُمْ مَا يُسْتَأْنَف مِنْ الذُّنُوب اللَّاحِقَة ، وَلَا يَلْزَم مِنْ وُجُود الصَّلَاحِيَّة لِلشَّيْءِ وُقُوعه . وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّه صِدْق رَسُوله فِي كُلّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عَلَى أَعْمَال أَهْل الْجَنَّة إِلَى أَنْ فَارَقُوا الدُّنْيَا ، وَلَوْ قُدِّرَ صُدُور شَيْء مِنْ أَحَدهمْ لَبَادَرَ إِلَى التَّوْبَة وَلَازَمَ الطَّرِيق الْمُثْلَى . وَيَعْلَم ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالهمْ بِالْقَطْعِ مَنْ اِطَّلَعَ عَلَى سِيَرهمْ " فتح الباري لابن حجر - (13 / 492)
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (1820 ) صحيح -الزمالة : المركوب(1/84)
- التفريقُ بين من يتوالى منه حدوث الخطأ وبين من يقعُ فيه على فترات متباعدة 0
فالأول فيه نوع من العمد ، والثاني فيه نوع من النسيان والسهو ، وشتان بينهما .
==============
- التفريقُ بين المجاهر بالخطأ والمستترِ به.
فالمستتر بالمعصية أمرنا بالستر عليه ، فَعنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » (1) .
وعَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ، أَنَّ هَزَّالًا: " كَانَ اسْتَرْجَمَ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَتْ لَهُمْ جَارِيَةٌ تَرْعَى لَهُمْ، وَأَنَّ مَاعِزًا وَقَعَ عَلَيْهَا، فَأَخَذَهُ هَزَّالٌ , فَجَذَّعَهُ , وَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَأَخْبِرْهُ , فَعَسَى أَنْ يَنْزِلَ قُرْآنٌ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا هَزَّالُ، لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ " (2)
================
- مراعاةُ مَن دينُه رقيقٌ ويحتاجُ إلى تأليف قلب فلا يُغلَّظ عليه.
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ ، قَالَ : كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ حَدِيثِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، قَالُوا : بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ بَنِيَ الْمُصْطَلِقِ يَجْمَعُونَ لَهُ ، وَقَائِدُهُمُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ أَبُو جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، خَرَجَ إِلَيْهِمْ حَتَّى لَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِمْ يُقَالَ لَهُ الْمُرَيْسِيعُ مِنْ نَاحِيَةِ قُدَيْدٍ إِلَى السَّاحِلِ ، فَتَزَاحَفَ النَّاسُ فَاقْتَتَلُوا ، فَهَزَمَ اللَّهُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ ، وَنَفَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، فَأَفَاءَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أُصِيبَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كَلْبِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ ، يُقَالُ لَهُ هِشَامُ بْنُ صُبَابَةَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2442 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6743 )
(2) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (5 / 2765) (6573 ) صحيح(1/85)
أَصَابَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنَ الْعَدُوِّ ، فَقَتَلَهُ خَطَأً ، فَبَيْنَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَرَدَتْ وَارِدَةُ النَّاسِ وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ يُقَالَ لَهُ جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ ، يَقُودُ لَهُ فَرَسَهُ ، فَازْدَحَمَ جَهْجَاهٌ وَسِنَانٌ الْجُهَنِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا ، فَصَرَخَ الْجُهَنِيُّ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ . وَصَرَخَ جَهْجَاهُ : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنُ سَلُولَ ، وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ ، غُلَامٌ حَدِيثُ السِّنِّ ، فَقَالَ : قَدْ فَعَلُوهَا ؟ قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا ، وَاللَّهِ مَا أَعُدُّنَا وَجَلَابِيبَ قُرَيْشٍ هَذِهِ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ : سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ . أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ؛ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ قَوْمِهِ ، فَقَالَ : هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوَّلُوا إِلَى غَيْرِ بِلَادِكُمْ ؛ فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوِهِ ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْ بِهِ عَبَّادَ بْنَ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ فَلْيَقْتُلْهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إِذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ، لَا ، وَلَكِنْ أَذِّنْ بِالرَّحِيلِ " وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْتَحِلُ فِيهَا ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ ، وَقَدْ مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَدْ بَلَغَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قُلْتُ مَا قَالَ ، وَلَا تَكَلَّمْتُ بِهِ ؛ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا ، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ أَوْهَمَ فِي حَدِيثِهِ ، وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ الرَّجُلُ ، حَدَبًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ، وَدَفْعًا عَنْهُ ؛ فَلَمَّا اسْتَقَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسَارَ ، لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، فَحَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ؛ ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِيهَا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " أَوْ مَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ ؟ " قَالَ : فَأَيُّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ " . قَالَ : وَمَا قَالَ ؟ قَالَ : " زَعَمَ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ " . قَالَ أُسَيْدٌ : فَأَنْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْرِجُهُ إِنْ شِئْتَ ، هُوَ وَاللَّهِ الذَّلِيلُ وَأَنْتَ الْعَزِيزُ؛ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْفُقْ بِهِ(1/86)
،فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِكَ وَإِنَّ قَوْمَهَ لَيَنْظِمُونُ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتَوِّجُوهُ،فَإِنَّهُ لَيَرَى أَنَّكَ قَدِ اسْتَلَبْتَهُ مَلَكًا .." (1)
================
- اعتبارُ حال المخطئ من جهة المكانة والسلطانِ
فعَنْ مُعَاوِيَةَ بن أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ عِنْدَ خُطْبَتِهِ: إِنَّمَا الْمَالُ مَالُنَا، وَالْفَيْءُ فَيْئُنَا، فَمَنْ شَاءَ أَعْطَيْنَاهُ وَمَنْ شِئْنَا مَنَعْنَاهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا كَانَ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا كَانَ الْجُمُعَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِمَّنْ حَضَرَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: كَلا، إِنَّمَا الْمَالُ مَالُنَا وَالْفَيْءُ فَيْئُنَا، فَمَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَاكَمْنَاهُ إِلَى اللَّهِ بِأَسْيَافِنَا، فَنَزَلَ مُعَاوِيَةُ فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَأَدْخَلَهُ، فَقَالَ الْقَوْمُ: هَلَكَ الرَّجُلُ، ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ فَوَجَدُوا الرَّجُلَ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِلنَّاسِ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ أَحْيَانِي أَحْيَاهُ اللَّهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ:"سَيَكُونُ أَئِمَّةٌ مِنْ بَعْدِي يَقُولُونُ وَلا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، يَتَقَاحَمُونَ فِي النَّارِ كَمَا تَتَقَاحَمُ الْقِرَدَةُ"، وَإِنِّي تَكَلَّمْتُ أَوَّلَ جُمُعَةٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلِيَّ أَحَدٌ، فَخَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَكَلَّمْتُ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلِيَّ أَحَدٌ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنِّي مِنَ الْقَوْمِ، ثُمَّ تَكَلَّمْتُ فِي الْجُمُعَةِ الثَّالِثَةِ فَقَامَ هَذَا الرَّجُلُ فَرَدَّ عَلِيَّ، فَأَحْيَانِي أَحْيَاهُ اللَّهُ ." (2)
وهذه الاعتبارات التي مضى ذكرها لا تتعارض مع العدل المشار إليه آنفا
===============
- الإنكارُ على المخطئ الصغير بما يتناسب مع سِنّه
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ ، فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْفَارِسِيَّةِ « كَخٍ كَخٍ ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ » (3) .
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ ( 31648 ) صحيح مرسل
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (14 / 322) (16292 ) حسن
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3072 )(1/87)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ الْحَسَنَ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كِخْ كِخْ أَلْقِهَا أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ » (1) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِتَمْرٍ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ ، فَأَمَرَ فِيهِ بِأَمْرٍ ، فَحَمَلَ الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ عَلَى عَاتِقِهِ ، فَجَعَلَ لُعَابُهُ يَسِيلُ عَلَيْهِ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ يَلُوكُ تَمْرَةً ، فَحَرَّكَ خَدَّهُ ، وَقَالَ : أَلْقِهَا يَا بُنَيَّ ، أَلْقِهَا يَا بُنَيَّ ، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ لاَ يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ." (2)
وعن مُحَمَّدَ بْنِ زِيَادٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقْسِمُ تَمْرًا مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي حِجْرِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ حَمَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عَاتِقِهِ ، فَسَالَ لُعَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ ، فَإِذَا تَمْرَةٌ فِي فِيهِ ، فَأَدْخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ لآلِ مُحَمَّدٍ." (3)
وعَنْ زَيْنَبَ بنتِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَأَخَذَ حِفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهِي، وَقَالَ:وَرَاءَكَ أَيْ لَكَاعِ." (4)
وبهذا يتبين أن صِغَر الصغير لا يمنع من تصحيح خطئه بل ذلك من إحسان تربيته وهذا مما ينطبع في ذاكرته ويكون ذخيرة لمستقبله، فالحديث الأول فيه تعليم الطفل الورع والثاني فيه تعليمُه الأدب في الاستئذان وعدم الاطّلاع على العورات.
ومن الشواهد الرائعة في هذا أيضا قصة الغلام الصغير عمر بن أبي سلمة فقد روى البخاري عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَِجْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا غُلاَمُ ، سَمِّ اللهَ ، وَكُلْ بيَمِينِكَ ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ.فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ " (5)
__________
(1) - مسند أحمد - المكنز - {2/410} (9546) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 467)(9267) 9256- صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 137) (7758) 7744- صحيح
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (18 / 19) (20173 ) حسن -اللكاع : الصغيرة في العلم والعقل
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (5376 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5388 )
تطيش في الصحفة : الطيش : الخفة ، أراد أن يده تمتد إلى جوانب الصحفة ، والصحفة كالقصعة والصحن مما يكون فيه الطعام.-طعمتي : الطعمة بكسر الطاء : الحالة. جامع الأصول في أحاديث الرسول - (7 / 389)(1/88)
نلحظُ في هذه القصة أن توجيهات النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك الغلام الذي أخطأ في تجوال يده في الطعام كانت قصيرة ومختصرة وواضحة يسهل حفظها وفهمها،ولقد أثّرت في نفس الغلام طيلة عمره فقال: فما زالت تلك طعمتي بعدُ.
==============
- الحذرُ عند الإنكار على النساء الأجنبيات:
حتى لا يُفهم الإنكار فهماً خاطئا، وحتى تؤمن الفتنةُ فلا يُتساهلُ في كلام الشاب مع الفتاة الشابة بحجة بيان الخطأ أو الإنكار والتعليم، وكم جرَّ هذا من مصائب، وينبغي أن يتاحَ في هذا المجال دورٌ كبيرٌ لأهل الحِسبة ومن يقومُ معهم بالإنكار من كبار السِّنِّ. وعلى الآمر الناهي أن يعمل بما غلب على ظنِّه في جدوى الإنكار، فإنْ غلب على ظنه النفع تكلم وإلا أحجمَ عن الكلام مع سفيهات ربما رمينه ببهتانٍ وهنَّ مصرّاتٌ على الباطل. ويبقى حالُ المجتمع ومكانةُ الآمر الناهي لها دورٌ أساسيٌ في نجاح عملية الإنكار أو التبليغ وإقامةِ الحجَّة وفيما يلي قصّة:
عَنْ مَوْلَى أَبِى رُهْمٍ - وَاسْمُهُ عُبَيْدٌ - أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَقِىَ امْرَأَةً مُتَطَيِّبَةً تُرِيدُ الْمَسْجِدَ فَقَالَ يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ أَيْنَ تُرِيدِينَ قَالَتِ الْمَسْجِدَ قَالَ وَلَهُ تَطَيَّبْتِ قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ لَمْ تُقْبَلْ لَهَا صَلاَةٌ حَتَّى تَغْتَسِلَ ». (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : مَرَّتْ بِأَبِي هُرَيْرَةَ امْرَأَةٌ وَرِيحُهَا تَعْصِفُ ، فَقَالَ لَهَا : إِلَى أَيْنَ تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ ؟ قَالَتْ : إِلَى الْمَسْجِدِ قَالَ : تَطَيَّبْتِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : فَارْجِعِي فَاغْتَسِلِي ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " لَا يُقْبَلُ اللَّهُ مِنَ امْرَأَةٍ صَلَاةً خَرَجَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ وَرِيحُهَا تَعْصِفُ حَتَّى تَرْجِعَ فَتَغْتَسِلَ " (2)
================
__________
(1) - سنن ابن ماجه- المكنز - (4137 ) صحيح
( يا أمة الجبار ) ناداها بهذا الاسم تخويفا . ( وله تطيبت ) أي للمسجد . ( حتى تغتسل ) أي تبالغ في إزالة الطيب .
(2) - صَحِيحُ ابْنِ خُزَيْمَةَ (1590 ) صحيح(1/89)
- عدم الانشغال بتصحيح آثار الخطأ وترك معالجة أصل الخطأ وسببه.
فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَثَارَ إِلَيْهِ أُنَاسٌ لِيَقَعُوا بِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : دَعُوهُ وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ ، أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَاعِدًا فِي الْمَسْجِدِ ، إِذْ دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ ، فَقَعَدَ يَبُولُ ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَهْ مَهْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تُزْرِمُوهُ ، ثُمَّ دَعَاهُ ، فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنَ الْقَذَرِ وَالْخَلاَءِ ، وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّمَا هِيَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ ذِكْرِ اللهِ ، ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ." (1)
=================
- عدمُ تضخيم الخطأ والمبالغة في تصويره
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ ، فَأَتَاهُ ، فقَالَ : إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَ : لاَ فَقَتَلَهُ وَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ ، فقَالَ : أَنَّهُ قَتَلَ مِئَةً ، فَهَلْ لَهُ تَوْبَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، مَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ ؟ ائْتِ أَرْضَ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنَّ بِهَا نَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ الطَّرِيقَ ، أَتَاهُ الْمَوْتُ ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ ، وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ ، فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ : جَاءَنَا تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلاَ ، وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ : إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ ، فَأَتَاهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ ، فقَالَ : قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ : أَيُّهُمَا كَانَ أَقْرَبَ ، فَهِيَ لَهُ ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ ، فَقَبَضَتْهُ بِهَا مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ." (2) ،فهذه الفتوى من الراهب الجاهل بالأحكام الشرعية أدت إلى قتله عندما يأَّس الرجل من رحمة الله .
================
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (4 / 245) (1400-1401) صحيح - تزرموه : تقطعوا عليه بوله
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 376) (611) وصحيح مسلم- المكنز - (7184 )(1/90)
- تركُ التكلف والاعتساف في إثبات الخطأ وتجنّب الإصرار على انتزاع الاعتراف من المخطئ بخطئه.
ولا هذا لا يفيد في تغيير الخطأ ، بل يجعلُ المخطئ يصرُّ على خطئه ، وأخذ الاعتراف منه عنوة دون ظهور علامات قوية جدا في تلبسه بالخطأ لا يجوز شرعاً .
فإن كانت ظاهرة بادية أخذ منه ، فعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ ، قَالَ : أَتَى رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : هَلْ لَكَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ ، وَلِحْيَتِهِ تَقْطُرُ خَمْرًا ؟ فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَهَانَا عَنِ التَّجَسُّسِ ، إِنْ يَظْهَرْ لَنَا نَأْخُذْهُ " (1)
وعن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ ، وَهُوَ كَاتَبُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَالزُّبَيْرَ ، وَطَلْحَةَ ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ ، فَقَالَ : انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ ، فَخُذُوهُ مِنْهَا ، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا ، حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ ، فَقُلْنَا لَهَا : أَخْرِجِي الْكِتَابَ ، فَقَالَتْ : مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ ، فَقُلْنَا : آللَّهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا فِيهِ : مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا حَاطِبُ مَا هَذَا ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينِ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ ، يَحْمُونَ قَرَابَتَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ ، وَلَمْ يَكُنْ لِي قَرَابَةٌ أَحْمِي بِهَا أَهْلِي ، فَأَحْبَبْتُ إِنْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي وَأَهْلِي ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي ، وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ هَذَا قَدْ صَدَقَكُمْ ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ، فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ، وَأَنْزَلَ فِيهِ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ
__________
(1) - المستدرك للحاكم (8135) صحيح(1/91)
خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} (1) سورة الممتحنة. " (1)
==================
- إعطاءُ الوقت الكافي لتصحيح الخطأ
خصوصا لمن درج عليه واعتاده زماناً طويلاً من عمره هذا مع المتابعة والاستمرار في التنبيهِ والتصحيحِ.
فعَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ : أَنَّ صَبِيغاً الْعِرَاقِىَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ فِى أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ ، فَبَعَثَ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِالْكِتَابِ فَقَرَأَهُ فَقَالَ : أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالَ : فِى الرَّحْلِ. قَالَ عُمَرُ : أَبْصِرْ أَيَكُونُ ذَهَبَ فَتُصِيبَكَ مِنِّى بِهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ. فَأَتَاهُ بِهِ فَقَالَ عُمَرُ : تَسْأَلُ مُحْدَثَةً. فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى رَطَائِبَ مِنْ جَرِيدٍ فَضَرَبَهُ بِهَا حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ دَبِرَةً ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ ، ثُمَّ عَادَ لَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ ، فَدَعَا بِهِ لِيَعُودَ لَهُ ، قَالَ فَقَالَ صَبِيغٌ : إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِى فَاقْتُلْنِى قَتْلاً جَمِيلاً ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِى فَقَدْ وَاللَّهِ بَرَأْتُ. فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ : أَنْ لاَ يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ : أَنْ قَدْ حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ. فَكَتَبَ عُمَرُ أَنِ ائْذَنْ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ." (2)
==============
- تجنبُ إشعار المخطئ بأنه خصمٌ ومراعاةُ أنَّ كسب الأشخاص أهمُّ من كسب المواقفِ
فعَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ ، وَكَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا ، قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يُفْتِي النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ ، بِرَأْيِهِ فِي الَّذِي يُجَامِعُ وَلاَ يُنْزِلُ ، فَقَالَ : أَعْجِلْ بِهِ ، فَأُتِيَ بِهِ ، فَقَالَ : يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ ، أَوَ قَدْ بَلَغْتَ أَنْ تُفْتِيَ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِرَأْيِكَ ؟ قَالَ : مَا فَعَلْتُ ، وَلَكِنْ حَدَّثَنِي عُمُومَتِي عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : أَيُّ عُمُومَتِكَ ؟ قَالَ : أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَبُو أَيُّوبَ ، وَرِفَاعَةُ بْنُ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (14 / 424) (6499) صحيح
(2) - سنن الدارمى- المكنز - (150) صحيح لغيره(1/92)
رَافِعٍ ، فَالْتَفَتُّ إِلَى مَا يَقُولُ هَذَا الْفَتَى ، فَقُلْتُ : كُنَّا نَفْعَلُهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : فَسَأَلْتُمْ عَنْهُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ : كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِهِ.
قَالَ : فَجَمَعَ النَّاسَ ، وَأَصْفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْمَاءِ ، إِلاَّ رَجُلَيْنِ : عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ، قَالاَ : إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ قَالَ : فَقَالَ عَلِيٌّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهَذَا أَزْوَاجُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَرْسَلَ إِلَى حَفْصَةَ ، فَقَالَتْ : لاَ عِلْمَ لِي ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ ، فَقَالَتْ : إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ ، وَجَبَ الْغُسْلُ قَالَ : فَتَحَطَّمَ عُمَرُ ، يَعْنِي : تَغَيَّظَ ، ثُمَّ قَالَ : لاَ يَبْلُغُنِي أَنَّ أَحَدًا فَعَلَهُ ، وَلاَ يَغْتَسِلُ ، إِلاَّ أَنْهَكْتُهُ عُقُوبَةً." (1)
وبعد هذه المقدمة آن الأوان للشروع في عرض بعض ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلكه من الوسائل والأساليب في التعامل مع أخطاء الناس كما جاء ذلك في السنّة الصحيحة التي نقلها أهل العلم.
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 81)(21096) 21413- صحيح(1/93)
الباب الثالث
الأساليبُ النبويةُ في التعامل مع أخطاء الناس
(1) المسارعةُ إلى تصحيح الخطأ وعدم إهماله
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه ويصحِّح لهم أخطاءهم ، ويأمرهم بذلك ، بل ويلزمهم بتدارك الخطأ فوراً ، وبتصحيحه ، ليَتمّ لهم بذلك فعل ما أُمروا به على الوجه المطلوب .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما يأمرهم بتدارك ما وقعوا فيه من أخطاء وتصحيحها مباشرة ؛ و يُعلمهم ويُعلم من بعدهم أن هناك من الأخطاء ما لا يُحتمل السكوت عنها ، أو تأخير تصحيحها لبعض الوقت ، إما لفواتها ، أو أن البعض قد لا يقوم بتصحيحها إذا تأخر البيان عنها .
ولقد تعددت الصور من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاعل الخطأ بتدارك خطئه ، وتصحيحه مباشرة .
فعن وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِى سَلَمَةَ يَقُولُ كُنْتُ غُلاَمًا فِى حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ يَدِى تَطِيشُ فِى الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ » . فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِى بَعْدُ (1) .
وكذلك قصة الذي تنخم تلقاء القبلة (2) وغيرهما من الأحاديث التي سارع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمره لمرتكب الخطأ ، بتداركه ، وتصحيحه مباشرة . وليُعلم أن من فوائد تدارك الخطأ وتصحيحه مباشرة أن المخطئ يتلقى هذا الأمر بالاهتمام البالغ حيث أنه ما صدر الأمر بتدارك الخطأ إلا وفيه بيان أهمية ما أُمر به ، وما نُهى عنه .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبادر إلى ذلك لاسيما وأنه لا يجوز في حقّه تأخير البيان عن وقت الحاجة ،وأنه مكلّف بأن يبين للناس الحقّ ويدلَّهم على الخير ويحذرهم من الشر ومسارعته - صلى الله عليه وسلم - إلى تصحيح أخطاء الناس واضحة في مناسبات كثيرة
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5376 )
(2) - تقدم تخريجه(1/94)
ويمكن تجلية هذا الموضوع بما يلي من الأمثلة :
فعَنْ جَابِرٍ أَخْبَرَنِى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ ». فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى. (1)
ففي هذا الحديث ، صدر الأمر منه - صلى الله عليه وسلم - هذا الرجل - لما رآه أخطا بترك موضع ظُفُر على قدمه لم يغسله - بتدارك خطئه هذا ، وتصحيحه مباشرة لأنه يترتب عليه صحة صلاته من بطلانها .
قال النووي رحمه الله : « في هذا الحديث أن من ترك جزءاً يسيراً مما يجب تطهيره لا تصح طهارته » (2) ، وإذا لم تصح طهارته فلا تصح صلاته .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - بأمره هذا يدلنا على أن الأمر بتدارك الخطأ ، وتصحيحه مباشرة هو من وسائل ، وأساليب التصحيح التي استخدمها - صلى الله عليه وسلم - في تصحيحه للأخطاء .
وقد نفع هذا الأسلوب في التصحيح في تنبيه ذلك الرجل ، بل وقيامه مباشرة بتصحيح خطئه ، حيث رجع فأحسن وضوئه ، ثم صلى بعد ما تخلى عن ذلك الخطأ الذي بسببه قد لا تقبل صلاته .
وكقصة المسيء صلاته ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَدَّ وَقَالَ « ارْجِعْ فَصَلِّ ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » . فَرَجَعَ يُصَلِّى كَمَا صَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » ثَلاَثًا . فَقَالَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِى . فَقَالَ « إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِى صَلاَتِكَ كُلِّهَا » (3) .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (599 )
(2) - شرح صحيح مسلم للنووي 1 / 480 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (757 ) وصحيح مسلم- المكنز - (911)(1/95)
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَمِّهِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ إلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " وَعَلَيْكَ، فَارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " . فَفَعَلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا , فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ فِي آخِرِ ذَلِكَ: فَأَرِنِي وَعَلِّمْنِي، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُصِيبُ وَأُخْطِئُ . فَقَالَ لَهُ: " أَجَلْ " . قَالَ لَهُ: " إِذَا قُمْتَ مِنْ صَلَاتِكَ . . . " . ثُمَّ عَلَّمَهُ مَا عَلَّمَهُ مِمَّا يَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ , ثُمَّ قَالَ لَهُ: " فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ، وَمَا انْتَقَصَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِكَ " (1)
وعَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِى عَلِىُّ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَلاَّدِ بْنِ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِىُّ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى عَنْ عَمٍّ لَهُ بَدْرِىٍّ قَالَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا فِى الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمُقُهُ فِى صَلاَتِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ ثُمَّ قَالَ لَهُ « ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ». فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ ثُمَّ قَالَ « ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ». حَتَّى كَانَ عِنْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فَقَالَ وَالَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَهِدْتُ وَحَرَصْتُ فَأَرِنِى وَعَلِّمْنِى. قَالَ « إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُصَلِّىَ فَتَوَضَّأْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَاعِدًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ فَإِذَا أَتْمَمْتَ صَلاَتَكَ عَلَى هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ وَمَا انْتَقَصْتَ مِنْ هَذَا فَإِنَّمَا تَنْتَقِصُهُ مِنْ صَلاَتِكَ ». (2)
فهذا الرجل - وهو خلّاد بن رافع - دخل المسجد وأخذ يصلي ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يرمقه في صلاته (3) ، فلما أتمَّ صلاته جاء فسلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فردَّ عليه السلام ؛ ثم قال له : ارجع فصلّ فإنك لم تصلِّ ، فأمره بإعادة الصلاة مرة ثانية وثالثة .
ويترجَّح أنه قال له ذلك بعد الثالثة ، وذلك لعدم وقوع الشك فيها ، ولكونه - صلى الله عليه وسلم - كان من
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (6 / 19) (2243 ) صحيح
(2) - سنن النسائي- المكنز - (1322 ) صحيح
(3) - انظر : فتح الباري 2 / 324 .(1/96)
عادته استعمال الثلاث في تعليمه غالباً (1) .
والشاهد في هذا الموضوع هو أنه - صلى الله عليه وسلم - لما رآه أخطأ في صلاته أمره بتدارك الخطأ ، وتصحيحه مباشرة ، ولذلك امتثل هذا الرجل للأمر ، فرجع فصلىَّ ، ولكنه لم يحسن صلاته مرة أخرى حتى علَّمه - صلى الله عليه وسلم - الكيفية الصحيحة بطلب منه ، وكان تعليمه - صلى الله عليه وسلم - هذا الرجل بكل رفق وتأنٍّ وسعة صدر من غير انفعال ، ولا غضب « وكل هذا تربية منه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه رضي الله عنهم ، على التريث والتّؤدة عند تصحيح الخطأ ، والتّحقيق منه ، والتّأكد من انتفاء الموانع من غفلة ؛ أو نسيان ، ثم سعة الصدر ، والتحمل مع الشفقة ، والرحمة عند تعليم الجاهل » (2) .
وهذا يجعل الدعاة إلى الله - ومن أراد تصحيح الأخطاء - التَّأسي بهذا الخلق الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وانتهاج أساليبه في تصحيح الأخطاء .
وقصة المخزومية (3) وابن اللتبية ، فعَنِ الزُّهْرِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِىُّ قَالَ اسْتَعْمَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً مِنْ بَنِى أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لِى . فَقَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ - قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ « مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ ، فَيَأْتِى يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِى . فَهَلاَّ جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَأْتِى بِشَىْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ » . ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَىْ إِبْطَيْهِ « أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ » ثَلاَثًا (4) .
وقصة أسامة (5) ،والثلاثة الذين أرادوا التشديد والتبتل ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ أَتَزَوَّجُ
__________
(1) - انظر : فتح الباري 2 / 325 . وتربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ص 392 .
(2) - تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : خالد عبد الله القرشي ص 394 .
(3) - مرت سابقا في المقدمة
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (7174 )
الخوار : صوت البقرة -الرغاء : صوت الإبل -العفرة : بياض مشوب بالسمرة -تيعر : تصيح وتصوت صوتا شديدا
(5) - في قتل الكافر الذي قال لا إله إلا الله .. وقد مرت سابقا(1/97)
، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ آكُلُ اللَّحْمَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا ، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي." (1)
وغيرها وستأتي هذه القصص في ثنايا هذا البحث إن شاء الله.
وعدم المبادرة إلى تصحيح الأخطاء قد يفوّت المصلحة ويضيّعُ الفائدة وربما تذهبُ الفرصة وتضيعُ المناسبة ويبرد الحدث ويضعف التأثير.
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 191) (14) صحيح - وهو في الصحيحين بنحوه(1/98)
(2) معالجةُ الخطأ ببيان الحكم
فعَنْ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« لاَ تَكْشِفْ فَخِذَكَ ، وَلاَ تَنْظُرْ إِلَى فَخِذِ حَىٍّ وَلاَ مَيِّتٍ ». وفي رواية قَالَ : دَخَلَ عَلِىُّ رَسُولُ اللَّهُ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا كَاشِفٌ عَنْ فَخِذِى فَقَالَ :« يَا عَلِىُّ غَطِّ فَخِذَكَ فَإِنَّهَا مِنَ الْعَوْرَةِ ». (1)
وعَنْ جَرْهَدٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِهِ وَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ فَخِذِهِ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « غَطِّ فَخِذَكَ فَإِنَّهَا مِنَ الْعَوْرَةِ ». (2)
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (2 / 228) (3357) حسن
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (3028 ) حسن(1/99)
(3) ردُّ المخطئين إلى الشرع وتذكيرهم بالمبدأ الذي خالفوه
في غمرة الخطأ وملابسات الحادث يغيب المبدأ الشرعي عن الأذهان ويضيع في المعمعة فيكون في إعادة إعلان المبدأ والجهر بالقاعدة الشرعية ردٌّ لمن أخطأ وإيقاظٌ من الغفلة التي حصلت، وإذا تأملنا الحادثة الخطيرة التي وقعت بين المهاجرين والأنصار بسبب نار الفتنة التي أوقدها المنافقون لوجدنا مثالا نبويا على ذلك فقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن جَابِر رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قال: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِىُّ غَضَبًا شَدِيدًا ، حَتَّى تَدَاعَوْا ، وَقَالَ الأَنْصَارِىُّ يَا لَلأَنْصَارِ . وَقَالَ الْمُهَاجِرِىُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ . فَخَرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ » . ثُمَّ قَالَ « مَا شَأْنُهُمْ » . فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِىِّ الأَنْصَارِىَّ قَالَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ » . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا ، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ . فَقَالَ عُمَرُ أَلاَ نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْخَبِيثَ لِعَبْدِ اللَّهِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ » (1)
وفي رواية مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ اقْتَتَلَ غُلاَمَانِ غُلاَمٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَغُلاَمٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَنَادَى الْمُهَاجِرُ أَوِ الْمُهَاجِرُونَ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. وَنَادَى الأَنْصَارِىُّ يَا لَلأَنْصَارِ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَا هَذَا دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ». قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ أَنَّ غُلاَمَيْنِ اقْتَتَلاَ فَكَسَعَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ قَالَ « فَلاَ بَأْسَ وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ » (2) .
وعَنْ قَتَادَةَ، وَعَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، قَالَا: كَانَ بَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ شَيْءٌ، فَقَالَ سَعْدٌ وَهُمْ فِي مَجْلِسٍ: انْتَسِبْ يَا فُلَانُ، فَانْتَسَبَ، ثُمَّ قَالَ لِلْآخَرِ: انْتَسِبْ، ثُمَّ قَالَ لِلْآخَرِ حَتَّى بَلَغَ سَلْمَانَ، فَقَالَ: انْتَسِبْ يَا سَلْمَانُ، قَالَ: " مَا أَعْرِفُ لِي أَبًا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3518 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6747 ) -كسع : ضرب دبره بيده(1/100)
فِي الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ سَلْمَانَ ابْنُ الْإِسْلَامِ، فَنَمَى ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِسَعْدٍ وَلَقِيَهُ: " انْتَسِبْ يَا سَعْدُ "، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَكَأَنَّهُ عَرَفَ، فَأَبَى أَنْ يَدَعَهُ حَتَّى انْتَسَبَ، ثُمَّ قَالَ لِلْآخَرِ حَتَّى بَلَغَ سَلْمَانَ، فَقَالَ: انْتَسِبْ يَا سَلْمَانُ، فَقَالَ: أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ بِالْإِسْلَامِ، فَأَنَا سَلْمَانُ ابْنُ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ عُمَرُ: " قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ الْخَطَّابَ كَانَ أَعَزَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّ عُمَرَ ابْنُ الْإِسْلَامِ أَخٌ لِسَلْمَانَ ابْنِ الْإِسْلَامِ، أَمَا وَاللهِ، لَوْلَا لَعَاقَبْتُكَ عُقُوبَةً يَسْمَعُ بِهَا أَهْلُ الْأَمْصَارِ ، أَوَ مَا عَلِمْتَ ؟ أَوَ مَا سَمِعْتَ أَنَّ رَجُلًا انْتَمَى إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ، وَانْتَمَى رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ فِي الْإِسْلَامِ وَتَرَكَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَكَانَ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ " (1)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - شعب الإيمان - (7 / 128) (4768 ) صحيح مرسل(1/101)
(4) تصحيحُ التصور الذي حصل الخطأ نتيجةً لاختلاله
عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ ،أنه سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، يَقُولُ : جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ، وَقَالَ الآخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ ، وَقَالَ الآخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ : أَنْتُمُ الَّذِي قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي." (1)
ورواه مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ أَتَزَوَّجُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ آكُلُ اللَّحْمَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا ، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. (2)
ونلاحظ هنا ما يلي:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاهم فوعظهم في أنفسهم فيما بينه وبينهم ولما أراد أن يعلّم الناس عموما أبهمهم ولم يفضحهم وإنما قال ما بال أقوام.. وهذا رفقا بهم وسترا عليهم مع تحصيل المصلحة في الإخبار العام.
- في الحديث تتبّع أحوال الأكابر للتأسي بأفعالهم والسير على منوالهم وأنّ التنقيب عن ذلك من كمال العقل والسعي في تربية النفس.
- وفيه أن الأمور المفيدة والمشروعة إذا تعذّرت معرفتها من جهة الرجال جاز استكشافها من جهة النساء
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 20) (317) وصحيح البخارى- المكنز - (5063)
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 191) (14) وصحيح مسلم- المكنز - (3469 )(1/102)
- وأنه لا بأس بحديث المرء عن عمله إذا أَمِن الرياء وكان في الإخبار منفعة للآخرين.
- وفيه أنّ الأخذ بالتشديد في العبادة يؤدي إلى إملال النفس القاطع لها عن أصل العبادة وخير الأمور أوساطها. (1)
- أن الأخطاء عموما تنشأُ من خلل في التصورات فإذا صلح التصور قلّت الأخطاءُ كثيرا ،وواضح من الحديث أن السبب الذي دفع أولئك الصحابة إلى تلك الصور من التبتّل والرهبانية والتشديد هو ظنّهم أن لا بدَّ من الزيادة على عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - رجاء النجاة حيث أنه أُخبر من ربه بالمغفرة بخلافهم فصحح لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تصورهم المجانب للصواب وأخبرهم بأنه مع كونه مغفورا له فإنه أخشى الناس وأتقاهم لله وأمرهم بأن يلزموا سنَّته وطريقته في العبادة.
وقريب من هذا ما حصل لأحد الصحابة وهو كهمس الهلالي رضي الله عنه الذي روى قصته فعَنْ أَبِي السَّلِيلِ ، قَالَ : حَدَّثَتْنِي مُجِيبَةُ عَجُوزٌ مِنْ بِاهِلَةَ ، عَنْ أَبِيهَا ، أَوْ عَنْ عَمِّهَا ، قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَاجَةٍ مَرَّةً ، فَقَالَ : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَوَ مَا تَعْرِفُنِي ؟ قَالَ : وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا الْبَاهِلِيُّ الَّذِي أَتَيْتُكَ عَامَ أَوَّلٍ ، قَالَ : فَإِنَّكَ أَتَيْتَنِي وَجِسْمُكَ وَلَوْنُكَ وَهَيْئَتُكَ حَسَنَةٌ ، فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى ؟ فَقَالَ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَفْطَرْتُ بَعْدَكَ إِلاَّ لَيْلاً ، قَالَ : مَنْ أَمَرَكَ أَنْ تُعَذِّبَ نَفْسَكَ ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ رَمَضَانَ ، قُلْتُ : إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَزِيدَنِي ، قَالَ : فَصُمْ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ ، قُلْتُ : إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَزِيدَنِي ، قَالَ : فَيَوْمَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ ، قُلْتُ : إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَزِيدَنِي ، قَالَ : وَمَا تَبْغِي عَنْ شَهْرِ الصَّبْرِ ، وَيَوْمَيْنِ فِي الشَّهْرِ ، قَالَ : قُلْتُ : إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَزِيدَنِي ، قَالَ : فَثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ ، قَالَ : وَأَلْحَمَ عِنْدَ الثَّالِثَةِ ، فَمَا كَادَ قُلْتُ : إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَزِيدَنِي ، قَالَ : فَمِنَ الْحُرُمِ ، وَأَفْطِرْ." (2)
ومثله ما حدث بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما ، فعَنْ أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ: آخَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ سَلْمَانَ ، وَأَبِى الدَّرْدَاءِ ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ
__________
(1) - انظر الفتح 9/104
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 798)(20323) 20589- حسن(1/103)
مُتَبَذِّلَةً . فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِى الدُّنْيَا . فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا . فَقَالَ كُلْ . قَالَ فَإِنِّى صَائِمٌ . قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ . قَالَ فَأَكَلَ . فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ . قَالَ نَمْ . فَنَامَ ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ . فَقَالَ نَمْ . فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمِ الآنَ . فَصَلَّيَا ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَأَعْطِ كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ . فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « صَدَقَ سَلْمَانُ » (1)
ومثلها قصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ : أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ، قَالَ يَعْنِي نَفْسَهُ : لَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلَأَصُومَنَّ النَّهَارَ مَا عِشْتُ ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : قَدْ قُلْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ، صُمْ وَأَفْطِرْ ، وَنَمْ وَقُمْ ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ ، قَالَ : قُلْتُ : إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ ، قَالَ : قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ ، قَالَ : فَقُلْتُ : فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ عَبْدُ اللهِ : وَلَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاَثَةَ الأَيَّامِ الَّتِي ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي." (2)
وعن سَعِيدَ بْنِ مِينَاءٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ ، فَلاَ تَفْعَلْ ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، صُمْ وَأَفْطِرْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، صَوْمُ الدَّهْرِ ، قَالَ :
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1968 ) 50/3 -المتبذلة : التاركة للزينة والهيئة الحسنة
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 64)(352) وصحيح مسلم- المكنز - (2786)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يُرِيدُ بِهِ لَكَ لأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - عَلِمَ ضَعْفَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَمَّا وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَاتِ.(1/104)
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً ، قَالَ : صُمْ صَوْمَ دَاوُدَ ، صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا ، قَالَ : وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ أَخَذْتُ الرُّخْصَةَ." (1)
ومن الخلل في التصورات ما يكون متعلقا بموازين تقويم الأشخاص والنظرة إليهم ،وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على تصحيح ذلك وبيانه ففي صحيح البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ أَنَّهُ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ « مَا رَأْيُكَ فِى هَذَا » . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ . قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا رَأْيُكَ فِى هَذَا » . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، هَذَا حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا » (2) .
وفي رواية ابن ماجة عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ قَالَ مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا تَقُولُونَ فِى هَذَا الرَّجُلِ قَالُوا رَأْيَكَ فِى. هَذَا نَقُولُ هَذَا مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُخَطَّبَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. فَسَكَتَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا تَقُولُونَ فِى هَذَا ». قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ لَمْ يُنْكَحْ وَإِنْ شَفَعَ لاَ يُشَفَّعْ وَإِنْ قَالَ لاَ يُسْمَعْ لِقَوْلِهِ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لَهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا » (3) .
ومثله تصحيح مفهوم المفلس ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ ، وَلاَ مَتَاعَ لَهُ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ ، فَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيَقْعُدُ ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (8 / 400) (3638) وصحيح مسلم- المكنز - (2800)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - 119/8 (6447 )
(3) - سنن ابن ماجه- المكنز - (4259 ) صحيح(1/105)
حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ." (1)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 359) (7359) وشعب الإيمان - (1 / 522) (338 ) صحيح وهو في صحيح مسلم بنحوه(1/106)
(5) معالجةُ الخطأ بالموعظة وتكرار التخويف
عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ ، أَنَّهُ حَدَّثَ ، أَنَّ جُنْدَُبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيَّ بَعَثَ إِلَى عَسْعَسِ بْنِ سَلاَمَةَ ، زَمَنَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، فَقَالَ : اجْمَعْ لِي نَفَرًا مِنْ إِخْوَانِكَ حَتَّى أُحَدِّثَهُمْ ، فَبَعَثَ رَسُولاً إِلَيْهِمْ ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَ جُنْدَُبٌ وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ أَصْفَرُ ، فَقَالَ : تَحَدَّثُوا بِمَا كُنْتُمْ تَحَدَّثُونَ بِهِ ، حَتَّى دَارَ الْحَدِيثُ ، فَلَمَّا دَارَ الْحَدِيثُ إِلَيْهِ حَسَرَ الْبُرْنُسَ عَنْ رَأْسِهِ ، فَقَالَ : إِنِّي أَتَيْتُكُمْ وَلاَ أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ ؛إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بَعْثًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَإِنَّهُمُ الْتَقَوْا ، فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ ، وَإِنَّ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ ، قَالَ : وَكُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَقَتَلَهُ ، فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ ، حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ كَيْفَ صَنَعَ ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : لِمَ قَتَلْتَهُ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهَ ، أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَقَتَلَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا ، وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا ، وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَقَتَلْتَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِـ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، اسْتَغْفِرْ لِي . قَالَ : وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِـ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : فَجَعَلَ لاَ يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ : كَيْفَ تَصْنَعُ بِـ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ " (1)
وفي رواية : بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَرِيَّةٍ ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً ، فَقَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَطَعَنْتُهُ ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَقَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ ؟! قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ ، قَالَ : أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ ؟ فَمَازَالَ يُكَرِّرُهَا
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (289 )
البرنس : كل ثوب رأسه منه ملتصق به من أدراعه -حسر : كشف
وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ جُنْدُب بْن عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ جَمْع النَّفَر وَوَعْظهمْ فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ وَالرَّجُل الْعَظِيمِ الْمُطَاعِ وَذِي الشُّهْرَةِ أَنْ يُسَكِّن النَّاسَ عِنْدَ الْفِتَنِ وَيَعِظَهُمْ وَيُوَضِّح لَهُمْ الدَّلَائِل .شرح النووي على مسلم - (1 / 205)(1/107)
عَلَيَّ ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ.قَالَ : فَقَالَ سَعْدٌ : وَأَنَا وَاللهِ ، لاَ أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ ، يَعْنِي أُسَامَةَ ، قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (193) سورة البقرة ، فَقَالَ سَعْدٌ : قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ." (1)
وفي رواية أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا غَشَيْنَاهُ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِىُّ وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ. قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِى « يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا. قَالَ فَقَالَ « أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ». قَالَ فَمَازَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَىَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. (2)
ومما يدخلُ في مواجهة الخطأ بالموعظة: التذكير بقدرة الله وهذا مثال:
و عن أَبُي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قال: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِى بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِى « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ». فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ - قَالَ - فَلَمَّا دَنَا مِنِّى إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا هُوَ يَقُولُ « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ». قَالَ فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِى فَقَالَ « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلاَمِ ». قَالَ فَقُلْتُ لاَ أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا. (3)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (287)
أَمَّا ( سَعْد ) فَهُوَ اِبْن أَبِي وَقَّاص رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَأَمَّا ( ذُو الْبُطَيْن ) فَهُوَ بِضَمِّ الْبَاء تَصْغِير بَطْن . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه : قِيلَ لِأُسَامَة ذُو الْبُطَيْن لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ بَطْن عَظِيم . شرح النووي على مسلم - (1 / 203)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (288 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4396)(1/108)
وفي رواية عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ غُلاَمَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ - قَالَ - فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ فَقَالَ أَعُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ. فَتَرَكَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَاللَّهِ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ ». قَالَ فَأَعْتَقَهُ. (1)
وعَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ قَالَ كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِى فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِى صَوْتًا « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ ». فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. فَقَالَ « أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ ». (2)
وعَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ قَالَ كُنْتُ أَضْرِبُ مَمْلُوكًا لِى فَسَمِعْتُ قَائِلاً مِنْ خَلْفِى يَقُولُ « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ». فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ ». قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ فَمَا ضَرَبْتُ مَمْلُوكًا لِى بَعْدَ ذَلِكَ. (3)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4399 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (4398)
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2074 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.(1/109)
(6) إظهارُ الرحمة بالمخطئ
قال في مفردات ألفاظ القرآن : «والرَّحمة : رقَّة تقتضي الإحسان إلى المرحوم ، وقد تستعمل تارة في الرِّقة المجردة ، وتارة في الإحسان المجرّد عن الرّقة ، نحو رحم الله فلاناً » (1) ...
وعلى هذا فالرَّحمة من أخلاق الإسلام التي أمر الله بها ، بل إنه سبحانه قد اتصف بها فهو الرَّحمن الرَّحيم ؛ قال سبحانه : {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (54) سورة الأنعام، وقال أيضاً : {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (156) سورة الأعراف.
وقد وردت الرحمة ومعانيها كثيراً في القرآن الكريم وكذلك في السنة المطهّرة ومن ذلك :
فعَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَمِّى لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ « أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَالْمُقَفِّى وَالْحَاشِرُ وَنَبِىُّ التَّوْبَةِ وَنَبِىُّ الرَّحْمَةِ » (2) .
وعَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا . فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا . فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ « مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ » (3) .
والرحمة أمر فطري في البشر ؛ بل وحتى في البهائم ، وهي من الأخلاق المأمور بها المؤكَّد عليها ، حتى لقد رحم - صلى الله عليه وسلم - الجمادات ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ - أَوْ رَجُلٌ - يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا قَالَ « إِنْ شِئْتُمْ » . فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا ، فَلَمَّا
__________
(1) - مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 347 مادة ( رَحِمَ ) .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6254 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5997 )(1/110)
كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى الْمِنْبَرِ ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِىِّ ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَضَمَّهُ إِلَيْهِ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِىِّ ، الَّذِى يُسَكَّنُ ، قَالَ « كَانَتْ تَبْكِى عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا » . (1) .
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ لِى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ » . فَقُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ ، لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ، صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ » . قُلْتُ فَإِنِّى أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ « فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ، وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى » (2) .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أشفق على عبد الله بن عمرو ، ورحمه ، وأرشده إلى الصواب ، من هذا الفعل ، وفيه تصحيح للخطأ الذي وقع فيه هذا الصحابي الجليل ، قال النووي رحمه الله : « وحاصل الحديث بيان رفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمَّته ، وشفقته عليهم ، وإرشادهم إلى مصالحهم، وحثهم على ما يطيقون الدوام عليه» (3) .
فالداعية المخلص هو الذي تدفعه الشفقة ، والرحمة على المدعوين ، والخوف عليهم ، من عاقبة ذلك الخطأ إلى ملاحظتهم ، وتصحيح أخطائهم، وهذا ما فَعَلَه إمام الدعاة ، وقدوة المربيين محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وما ذلك إلا كما قال عنه سبحانه وتعالى واصفاً عبده ونبيه : {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (61) سورة التوبة، وقال كذلك واصفاً خلقه العظيم ، وخصوصاً الرحمة {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة
وقد احتلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخلق - الرحمة - المكانة العظيمة في قلوب أصحابه ، حتى فَدَوَهُ بالأموال والآباء والبنين ، بل تعدَّى ذلك الفداء ، حتى فدوه بأنفسهم رضوان الله
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3584 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1979 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2793) - نفهت : كلَّت وتعبت -هجمت : ضعف بصرها
(3) - شرح صحيح مسلم للنووي : 3 / 225 و فتح الباري : 4 / 265 .(1/111)
عليهم ، وما ذلك إلا لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان رحيماً شفيقاً بهم ولم يكن فاحشاً ، ولا متفحشاً ، ولا صخّاباً ، ولا عنيفاً ، قال سبحانه وتعالى عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران.
وهذا يكون في حال من يستحقُّ ممن عَظُم ندمه واشتدَّ أسفه وظهرت توبته مثلما يقع أحيانا من بعض المستفتين كما في مثل هذه القصة:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى قَدْ ظَاهَرْتُ مِنْ زَوْجَتِى فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ. فَقَالَ « وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ ». قَالَ رَأَيْتُ خُلْخَالَهَا فِى ضَوْءِ الْقَمَرِ. قَالَ « فَلاَ تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ ». (1)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ . قَالَ « مَا لَكَ » . قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِى وَأَنَا صَائِمٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا » . قَالَ لاَ . قَالَ « فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ » . قَالَ لاَ . فَقَالَ « فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا » . قَالَ لاَ . قَالَ فَمَكَثَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ - وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ - قَالَ « أَيْنَ السَّائِلُ » . فَقَالَ أَنَا . قَالَ « خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ » . فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِى ، فَضَحِكَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ « أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ » (2) .
إن هذا المستفتي المخطئ لم يكن هازلا ولا مستخفًّا بالأمر بل إن تأنيبه نفسه وشعوره بخطئه واضح من قوله: هلكت، ولذلك استحقَّ الرحمة ورواية أحمد رحمه الله فيها مزيد من التوضيح لحال الرجل عند مجيئه مستفتيا: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا ، جَاءَ يَلْطِمُ
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (1239 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ.
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1936 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2651 ) -العرق : مكتل يسع ثلاثين صاعا(1/112)
وَجْهَهُ وَيَنْتِفُ شَعَرَهُ ، وَيَقُولُ : مَا أُرَانِي إِلاَّ قَدْ هَلَكْتُ . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَمَا أَهْلَكَكَ ؟ قَالَ : أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ . قَالَ : أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً ؟ قَالَ : لاَ . قَالَ : أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟ قَالَ : لاَ . قَالَ : أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؟ قَالَ : لاَ ، وَذَكَرَ الْحَاجَةَ ، قَالَ : فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِزِنْبِيلٍ ، وَهُوَ الْمِكْتَلُ ، فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا أَحْسَبُهُ تَمْرًا ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَيْنَ الرَّجُلُ ؟ قَالَ : أَطْعِمْ هَذَا قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَحَدٌ أَحْوَجُ مِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ . قَالَ : فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ، قَالَ : أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَضْرِبُ صَدْرَهُ وَيَقُولُ : هَلَكَ الأَبْعَدُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَاذَا ؟ قَالَ : وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي الْيَوْمَ ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ ، فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكَ رَقَبَةٌ تُعْتِقُهَا ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ مِنْ صَدَقَةِ مَالِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيْنَ السَّائِلُ ؟ قَالُوا : انْصَرَفَ ، قَالَ : عَلَيَّ بِهِ فَجَاءَ الرَّجُلُ ، فَقَالَ : خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهَا كَفَّارَةً لِمَا صَنَعْتَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى أَحْوَجَ مِنِّي وَأَهْلِ بَيْتِي ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَحْوَجُ مِنِّي ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ، ثُمَّ قَالَ : خُذْهُ فَكُلْهُ وَأَطْعِمْ أَهْلَ بَيْتِكَ ، وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ. " (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ دَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ « مَا هَذَا الْحَبْلُ » . قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ ، حُلُّوهُ ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ » (3) .
ففي هذا الحديث رحمته عليه الصلاة والسلام بهذه « المرأة وبأمته كذلك حيث لم يكلفهم ما يجهدهم ، ويشقّ عليهم » (4)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 756)(10688) 10699- صحيح
(2) - مسند الشاميين 360 - (3 / 322)(2403) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1150 ) -فترت : ضعفت وكسلت
(4) - بتصرف من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - : الحداد : 72 / 620 .
================(1/113)
(7) عدمُ التسرع في التخطئة
وقد حدثت لعمر رضي الله عنه قصة رواها بنفسه فعَنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَانْتَظَرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَمَّا سَلَّمَ أَتَيْتُهُ وَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ بِهَا ؟ فَقَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ فَوَاللهِ إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لهُوَ أَقْرَأَنِي هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ بِهَا، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَقُودُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، وَإِنَّكَ أَقْرَأْتَنِي سُورَةَ الْفُرْقَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا هِشَامُ اقْرَأْ " فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " هَكَذَا أُنْزِلَتْ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اقْرَأْ عُمَرُ " فَقَرَأْتُهَا الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " هَكَذَا أُنْزِلَتْ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (1)
وعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِىِّ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : مَرَرْتُ بِهِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَمَعْتُ قِرَاءَتَهِ ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكِدْتُ أَنْ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاَةِ ، فَانْتَظَرْتُ حَتَّى سَلَّمَ ، فَلَمَّا سَلَّمَ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ : مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى أَسْمَعُكَ تَقْرَؤُهَا؟ قَالَ : أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ قُلْتُ لَهُ : كَذَبْتَ وَاللَّهِ ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَهُوَ أَقْرَأَنِى هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى تَقْرَؤُهَا ، فَانْطَلَقْتُ أَقُودُهُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا ، وَأَنْتَ أَقْرَأْتَنِى سُورَةَ الْفُرْقَانِ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - شعب الإيمان - (3 / 532) (2071 ) وصحيح البخارى- المكنز - (5041 ) -أساور : أواثب وأقاتل -لبب : جمع ثيابه عند صدره ثم جره(1/114)
- :« أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ ». فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« هَكَذَا أُنْزِلَتْ ». ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« اقْرَأْ يَا عُمَرُ ». فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِى أَقْرَأَنِى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« هَكَذَا أُنْزِلَتْ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ » (1) .
ومن الفوائد التربوية في هذه القصة ما يلي:
ـ أَمْر كل واحد منهما أن يقرأ أمام الآخر مع تصويبه أبلغ في تقرير صوابهما وعدم خطأ أيّ منهما.
ـ أمْر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بإطلاق هشام بقوله: (أرسله يا عمر) فيه تهيئة الخصمين للاستماع وهما في حال الهدوء وفيه إشارة إلى استعجال عمر رضي الله عنه.
ـ على طالب العلم أن لا يستعجل بتخطئة من حكى قولا يخالف ما يعرفه إلا بعد التثبت فربما يكون ذلك القول قولا معتبرا من أقوال أهل العلم.
ومما يتعلقُ بهذا الموضوع أيضا: عدم التسرع في العقوبة وفي القصة التالية شاهد:
عَنْ عَبَّادِ بْنِ شَرَاحِيلَ قَالَ قَدِمْتُ مَعَ عُمُومَتِى الْمَدِينَةَ فَدَخَلْتُ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهَا فَفَرَكْتُ مِنْ سُنْبُلِهِ فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَأَخَذَ كِسَائِى وَضَرَبَنِى فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْتَعْدِى عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَجَاءُوا بِهِ فَقَالَ « مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ». فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ دَخَلَ حَائِطِى فَأَخَذَ مِنْ سُنْبُلِهِ فَفَرَكَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا عَلَّمْتَهُ إِذْ كَانَ جَاهِلاً وَلاَ أَطْعَمْتَهُ إِذْ كَانَ جَائِعًا ارْدُدْ عَلَيْهِ كِسَاءَهُ ». وَأَمَرَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَسْقٍ أَوْ نِصْفِ وَسْقٍ. (2)
يُستفادُ من هذه القصّة أنّ معرفة ظروف المخطئ أو المتعدي يوجّه إلى الطريقة السليمة في التعامل معه.
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (2 / 383) (4156) وصحيح البخارى- المكنز - ( 6936)
(2) - سنن النسائي- المكنز - (5426 ) صحيح -الحائط : البستان(1/115)
وكذلك يُلاحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُعاقب صاحب البستان لأنه صاحب حقّ وإنما خطّأه في أسلوبه ونبهه بأنّ تصرّفه مع من يجهل لم يكن بالتصرّف السليم في مثل ذلك الموقف ثمّ أرشده إلى التصرّف الصحيح وأمره بردّ ما أخذه من ثياب الجائع.
- - - - - - - - - - - - -(1/116)
(8) الهدوء في التعامل مع المخطئ
وخصوصا عندما يؤدي القيام عليه والاشتداد في نهيه إلى توسيع نطاق المفسدة ،ويمكن أن نتبين ذلك من خلال مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لخطأ الأعرابي الذي بال في المسجد كما جاء عن إِسْحَاقَ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ حَدَّثَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - وَهُوَ عَمُّ إِسْحَاقَ - قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَهْ مَهْ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَىْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِىَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ». أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .قَالَ فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ." (1)
لقد كانت القاعدة التي اتبعها النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة الخطأ: التيسير وعدم التعسير، فقد جاء في رواية البخاري عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِى الْمَسْجِدِ ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِيَقَعُوا بِهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « دَعُوهُ ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ - أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ - فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ » (2) .
لقد تحمّس الصحابة رضوان الله عليهم لإنكار المنكر حرصا على طهارة مسجدهم وروايات الحديث تدلُّ على ذلك ومنها: ـ " فصاح به الناس " - " فثار إليه الناس "
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (687)
لا تزرموه : بتقديم الزاي المعجمة على الراء ،أي : لا تقطعوا بوله : يقال : زرم الدمع : إذا انقطع. -فسنه عليه : سننت الماء على الثوب وعلى الأرض ونحو ذلك : إذا صببته عليه، وقد جاء في كتاب مسلم «فشنه»» بالشين المعجمة ،أي : فرقه عليه من جميع جهاته ، ورشه عليه ، ومنه : شننت الغارة : إذا فرقتها من جميع الجهات والنواحي. -فأهريق : يقال : هراق الماء يهريقه : إذا صبه ، و أصله : أراقه ، فقلبت الهمزة هاء ، ويقال أيضا : أهرقه يهرقه ، وأهراق ، ويهريق بفتح الهاء. -بذنوب : الذنوب : الدلو العظيمة ، وكذلك السجل ، قال : ولا يسمى بذلك إلا إذا كان فيها ماء.جامع الأصول في أحاديث الرسول - (7 / 85)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6128 )(1/117)
- " فزجره الناس " - فأسرع إليه الناس " وفي رواية " فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مه مه " (1)
ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر في عواقب الأمور وأن الأمر يدور بين احتمالين إما أن يُمنع الرجل وإما أن يُترك. وأنه لو مُنع فإما أن ينقطع البول فعلا فيحصل على الرجل ضرر من احتباس بوله وإما أن لا ينقطع ويتحرك خوفا منهم فيزداد انتشار النجاسة في المسجد أو على جسد الرجل وثيابه فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بثاقب نظره أن ترك الرجل يبول هو أدنى المفسدتين وأهون الشرين خصوصا وأن الرجل قد شرع في المفسدة والنجاسة يمكن تداركها بالتطهير ولذلك قال لأصحابه: دعوه لا تُزرموه أي لا تحبسوه. فأمرهم بالكفّ لأجل المصلحة الراجحة وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما
وقد جاء في رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - سأل الرجل عن سبب فعله، فقد روى الطبراني في الكبير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْرَابِيٌّ فَبَايَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَامَ فَفَحَّجَ، ثُمَّ بَالَ فَهَمَّ النَّاسُ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :لا تَقْطَعُوا عَلَى الرَّجُلِ بَوْلَهُ، ثُمَّ قَالَ:أَلَسْتَ بِمُسْلِمٍ؟قَالَ: بَلَى، قَالَ:مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ بُلْتَ فِي مَسْجِدِنَا؟قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا ظَنَنْتُهُ إِلا صَعِيدًا مِنَ الصُّعُدَاتِ، فَبُلْتُ فِيهِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِذُنُوبٍ منْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَى بَوْلِهِ ." (2)
إن هذا الأسلوب الحكيم في المعالجة قد أحدث أثرا بالغا في نفس ذلك الأعرابي يتضح من عبارته كما جاء في رواية ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْجِدَ ، وَهُوَ جَالِسٌ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِمُحَمَّدٍ وَلاَ تَغْفِرْ لأَحَدٍ مَعَنَا. ، قَالَ : فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ ، قَالَ : لَقَدِ احْتَظَرْتَ وَاسِعًا. ثُمَّ وَلَّى الأَعْرَابِيُّ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ، فَحَّجَ لِيَبُولَ ، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ بَعْدَ أَنْ فَقِهَ فِي الإِسْلاَمِ : فَقَامَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمْ يُؤَنِّبْنِي ، وَلَمْ يَسُبَّنِي ، وَقَالَ : إِنَّمَا بُنِيَ هَذَا الْمَسْجِدُ لِذِكْرِ اللهِ وَالصَّلاَةِ ، وَإِنَّهُ لاَ يُبَالُ فِيهِ ، ثُمَّ دَعَا بِسَجْلٍ مِنْ مَاءٍ فَأَفْرَغَهُ عَلَيْهِ." (3)
__________
(1) - المسند الجامع - (1 / 447) (295)
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (9 / 420) (11387 ) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (3 / 266) (985) وسنن ابن ماجه- المكنز - (572) صحيح
احتظر : احتمى -فشج : فرج بين رجليه ليبول(1/118)
وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى فوائد في شرح حديث الأعرابي منها:
* - الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادا ولاسيما إن كان ممن يُحتاج إلى استئلافه.
* - وفيه رأفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحسن خلقه.
* - وفيه أن الاحتراز من النجاسة كان مقررا في نفوس الصحابة ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته - صلى الله عليه وسلم - قبل استئذانه ولما تقرر عندهم أيضا من طلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
* - وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمرهم عند فراغه بصبّ الماء. (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 325)(1/119)
(9) بيانُ خطورة الخطأ
خطورة الخطأ على الفرد .
وهذا ظاهرٌ في قصة الرجل الذي احتلم ، وقد شجّه حجر في رأسه ، أو أصابه جرح ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَجُلاً أَجْنَبَ فِي شِتَاءٍ ، فَسَأَلَ ، فَأُمِرَ بِالْغُسْلِ فَمَاتَ ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : مَا لَهُمْ قَتَلُوهُ ؟ قَتَلَهُمُ اللَّهُ - ثَلاَثًا - قَدْ جَعَلَ اللَّهُ الصَّعِيدَ - أَوِ التَّيَمُّمَ - طَهُورًا. (1)
ففي هذا الحديث ظهر خطورة هذا الخطأ وهو الفتوى بغير علم فكانت خطورةً فادحةً بحيث ذهبت بنفس مؤمنة ، ولذا جاء الوعيد عليها بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : قتلوه قتلهم الله .. .
وقد قيل « العلم سؤال وجواب ، وحسن السؤال نصف العلم ، فالداعية بالسؤال ، يحصِّل العلم ، ويسلم من الجهل والزلل» (2) ، وهذا الحديث كذلك يجمع بين مضرة الخطأ وخطورته .
خطورة الخطأ على الجماعة :
فعَنْ أَنَسٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ « إِنِّى خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ الْتَمِسُوهَا فِى السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ » (3)
ففي هذا الحديث بيان أن خطورة الخطأ تصيب الجماعة ، إذ إن سبب التلاحي والخصومة بين رجلين - وهو خطأ - سبب رفع العلم بليلة القدر، في أي ليلة هي !
قال القاضي عياض : « فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة ، وأنها سبب في العقوبة المعنوية ، وهي الحرمان ، وفيه : أن المكان الذي يحضره الشيطان ترفع منه البركة
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (4 / 141) (1314) صحيح -العى : الجهل
(2) - فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري : خالد عبد الرحمن القريشي : 1 / 288 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (49 ) -تلاحى : تنازع وتخاصم(1/120)
والخير » (1) .
فعُلم بذلك أن هذا الخطأ - تلاحي الرجلين- سبّب العقوبة ، وهذا هو الخطر ، وكانت هذه العقوبة - رفع العلم بليلة القدر - قد أصابت عموم الأمة وهذا كله بسبب الخطأ ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد علّم أمته أن الخطأ له مضرة ، وخطر سواء ما كان على الفرد أو ما يتعداه إلى الجماعة ، في زمن واحد ، أو حتى أزمان متطاولة .
وبهذا « يظهر لنا بوضوح خطر الخصومة والتلاحي بين المسلمين ، فكيف بين الدعاة إلى الله ، لذا كان واجباً على الدعاة إلى الله البعد عن هذا الأمر والتحذير منه » (2) .
وعن زيد بن أسلم: أن رجلا من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك: ما لقُرَّائنا هؤلاء أرغبُنا بطونًا وأكذبُنا ألسنةً، وأجبُننا عند اللقاء ! فقال له عوف: كذبت، ولكنك منافق! لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! فذهب عوف إلى رسول الله ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه = قال زيد قال عبد الله بن عمر: فنظرت إليه متعلقًا بحَقَب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبُهُ الحجارة، يقول:(إنما كنا نخوض ونلعب) ! فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم - :(أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن)؟ ما يزيده." (3)
وعن محمد بن كعب وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قُرَّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونًا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء ! فرُفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إنما كنا نخوض ونلعب ! فقال:(أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون)، إلى قوله:(مجرمين)، وإن رجليه لتنسفان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو متعلق بنِسْعَةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ." (4)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن كَعْبِ بن مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَأَمَرَ بِالْغَزْوِ إِلَى تَبُوكٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، غَيْرَ أَنَّ نَفْسِي تَتَوقُ إِلَى الظِّلِّ وَالرُّطَبِ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ شَابٌّ قَوِيٌّ وَنَفْسِي تَقُولُ لِي، وَعِنْدِي بَعِيرَانِ: انِ سَوْفَ تَعْتَذِرُ
__________
(1) - فتح الباري : 1 / 139 .
(2) - فقه الدعوة في صحيح البخاري : خالد عبد الرحمن القريشي 1 / 301 . ...
(3) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (14 / 333) (16911) صحيح لغيره
(4) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (14 / 335) (16916) صحيح لغيره(1/121)
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَنَفْسِي تَقُولُ لِي: تَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَنَا كَذَلِكَ وَأَصْبَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غَادِيًا، وَخَرَجْتُ إِلَى السُّوقِ أُرِيدُ أَنْ أَتَجَهَّزَ، وَكَأَنَّمَا أُمْسِكَ بِيَدِيَّ، وَسَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَدْرَ فَرْسَخَيْنِ وَقَفَ، فَإِذَا هُوَ بِرَاكِبٍ يَلْحَقُ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ"، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي خَيْثَمَةَ، قَالَ: وَفِي الْمَدِينَةِ سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَا، وَهِلالُ بن أُمَيَّةَ، وَمَرَارَةُ، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَبَا خَيْثَمَةَ،"مَا فَعَلَ كَعْبُ بن مَالِكٍ؟"، قَالَ: تَرَكْتُهُ يَمْشِي فِي أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ مُعَاذٌ: هُوَ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: وَنَزَلَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَانِبِنَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ إِنَّهُمْ أَرْغَبُنَا بُطُونًا، وَأَخْشَانَا عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَأَضْعَفُنَا قُلُوبًا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، عَمَّارَ بن يَاسِرٍ، فَقَالَ:"اذْهَبْ إِلَى هَؤُلاءِ الرَّهْطِ، فَقُلْ لَهُمْ مَا نَقِسْتُمْ؟، فَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ، لَيَقُولُنَّ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ"، فَقَالَ لَهُمْ: احْتَرَقْتُمْ أَحْرَقَكُمُ اللَّهُ، وَنَزَلَتْ "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُونَ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ"[التوبة آية 65] ، قَالَ: وَجَاءَ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ، فَتَعَلَّقَ بِرِجْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا مَالَيْتُهُمْ، وَلَكِنِّي قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَهُمْ، فَسَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعَلَ يَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ وَيَسِيرُ مَعَهُ حَتَّى سَالَ مِنْ عَقِبَيْهِ الدَّمُ..." (1)
ورواه ابن جرير عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغبَ بطونًا، ولا أكذبَ ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس: كذبتَ، ولكنك منافق ! لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقًا بحَقَب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَنْكُبه الحجارة، وهو يقول: "يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب!"، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) [التوبة : 65 - 66]) (2) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 432) (15522) صحيح
(2) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (14 / 333) (16912) صحيح(1/122)
(10) بيانُ مضرة الخطأ
إن من الأخطاء ما يُحدث مضرةً لصاحبه ولغيره من الناس ، وبعضها يشكل خطراً على صاحبه ، وقد تتعدى خطورته إلى الناس ، كل ذلك يجعلنا نقف مع الأخطاء وقفةً جادةً ، ونراها بعين البصيرة ، لنحذَر ونحذِّر منها ، ولأن عاقبة الخطأ ، قد لا تكون على المخطئ نفسه بل قد تتعدى إلى آخرين (1) .
لذا كان لزاماً إظهار هذه الأضرار ، وهذه الأخطار الكامنة في هذه الأخطاء ، للابتعاد عنها وتحاشيها ، اقتداءً بسيد ولد آدم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يبيِّن ما في هذه الأخطاء من أضرار على الفرد والجماعة ، وما يكمن فيها من أخطار قد تتعدى إلى الجماعة المسلمة بأكملها .
وهذا الهدي - بيان مضرة الخطأ وخطورته - منه - صلى الله عليه وسلم - يدلّنا على الاقتداء بسنته في إيضاح هذا الأمر وتجليته ، وأن نسير على ما سار عليه المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - في إيضاحه لصحابته الكرام رضوان الله عليهم .
وقد ورد عنه - عليه الصلاة والسلام - بيان الخطأ ومضرّته في أحاديث كثيرة ، كما ورد عنه بيان خطورة الخطأ في غيرها من المواضع ، وقد جَمَعتُ بعضُ الأحاديث في بيان مضرة الخطأ وخطورته كما سيأتي .
بيان مضرة الخطأ على الفرد :
فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ - أَوْ لاَ يَخْشَى أَحَدُكُمْ - إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ » (2) .
وفي رواية وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا يَأْمَنُ الَّذِى يَرْفَعُ رَأْسَهُ فِى
__________
(1) - بتصرف من الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس للمنجد ص 49 .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (691 )(1/123)
صَلاَتِهِ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ صُورَتَهُ فِى صُورَةِ حِمَارٍ » (1) .،
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا غَيْرَ أَنَّ فِى حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ « أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَجْهَ حِمَارٍ ». (2) ...
قال النووي رحمه الله : « وهذا كله لغلظ تحريم ذلك » (3) .
وهذا الخطأ ظهرت مضرّته بصاحبه ، إذ استحق عليه تغير صورته ، أو وجهه إلى صورة الحمار ، ووجه الحمار ، وهذا مما لاشك فيه أنه أكبر زاجر ومانع من هذا الخطأ الشنيع .
فانظر كيف أضرَّ هذا الخطأ بصاحبه كل هذا الضرر ، ولكن من كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - بأمته ، وبيانه لهم الأحكام وما يترتب عليهما من الثواب ، والعقاب (4) ، حيث بينَّ لهم ، وحدثهم بهذا الأمر .
بيان مضرة الخطأ على الجماعة :
عن سَالِمَ بْنَ أَبِى الْجَعْدِ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ » (5) ..
وقَالَ سِمَاكٌ : سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ ، وَهُوَ يَخْطُبُ وَيَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي الصَّفَّ حَتَّى يَدَعَهُ مِثْلَ الْقِدْحِ أَوِ الرُّمْحِ ، فَرَأَى صَدْرَ رَجُلٍ نَاتِئًا مِنَ الصَّفِّ فَقَالَ : عِبَادَ اللهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ." (6)
وفي صحيح مسلم عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّى صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّى بِهَا الْقِدَاحَ حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ ثُمَّ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (992 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (993 )
(3) - شرح صحيح مسلم للنووي : 2 / 103 .
(4) - انظر : فتح الباري 2 / 216 .
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (717 )
(6) - صحيح ابن حبان - (5 / 549) (2175) صحيح(1/124)
خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ فَرَأَى رَجُلاً بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ فَقَالَ « عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ » (1) .
و عن قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « رَاصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّى لأَرَى الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ ». (2)
وَفي رواية أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ : رَاصُّوا صُفُوفَكُمْ ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا ، وَحَاذُوا بَيْنَ الأَعْنَاقِ ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، إِنِّي لأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهُ الْحَذَفُ." (3)
ففي هذا الحديث بيان لمضرة الخطأ على الجماعة بأكملها ، حيث يعمّ الجميع اختلاف الوجوه ، بسبب هذا الخطأ وهو عدم تسوية الصفوف .
والوعيد على ذلك من جنس جنايتهم ، وهي المخالفة ، وعلى هذا فالتسوية واجبة والتفريط فيها حرام ، كما ذكر ذلك ابن حجر رحمه الله (4) .
والمراد بالمخالفة هنا : « قيل : هو على حقيقته ، والمراد تسوية الوجه بتحويل خلقه عن وضعه بجعله موضع القفا .
وقال القرطبي : معناه تفترقون ، فيأخذ كل واحد وجهاً غير الذي أخذ صاحبه . ويحتمل أن يراد بالمخالفة في الجزاء ، فيجازى المسوي بخير ، ومن لا يسوي بشر » (5) .
قال النووي رحمه الله : « والأظهر والله أعلم ، أن معناه : يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب . كما يقال : تغيّر وجه فلان عليّ ، أي ظهر لي من وجهه كراهة لي ، وتغيّر قلبه عليّ ، لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم ، واختلاف الظواهر
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (1007 ) -القداح : جمع القدح وهو خشب السهام حين تنحت وتبرى وتسوى
(2) - سنن النسائي- المكنز - (823 ) صحيح -الحذف : الغنم الصغار السود
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 722)(14017) 14062- صحيح
(4) - انظر : فتح الباري : 2 / 242 .
(5) -المصدر السابق .(1/125)
سبب لاختلاف البواطن » (1) .
وعن أَبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِي قَالَ: قَالَ : كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلاً تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ ، قَالَ : فَلَمْ يَنْزِلُوا بَعْدُ مَنْزِلاً إِلاَّ انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ. (2)
وفي رواية قَالَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ : كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْزِلاً فَعَسْكَرَ ، تَفَرَّقُوا عَنْهُ فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ ، فَقَامَ فِيهِمْ فَقَالَ : إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ ، إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ قَالَ : فَكَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا نَزَلُوا ، انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، حَتَّى إِنَّكَ لَتَقُولُ : لَوْ بَسَطْتُ عَلَيْهِمْ كِسَاءً لَعَمَّهُمْ ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ." (3)
ويُلاحظ رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، وفيه حرص القائد على مصلحة جنوده.
وأن تفرّق الجيش إذا نزل فيه تخويف الشيطان للمسلمين وإغراء للعدو بهم (4) والتفرق يمنع بعض الجيش من معونة بعض (5)
ويُلاحظُ امتثال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لتوجيهه فيما استقبلوا من أمرهم.
فتبيينُ مفاسد الخطأ وما يترتب عليه من العواقب أمرٌ مهم في الإقناع للمخطئ، وقد تكون عاقبة الخطأ على المخطئ نفسه وقد تتعدى إلى آخرين فمن الأول عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً لَعَنَ الرِّيحَ - وفي رواية : إِنَّ رَجُلاً نَازَعَتْهُ الرِّيحُ رِدَاءَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَعَنَهَا - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« لاَ تَلْعَنْهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ ». (6)
__________
(1) - شرح صحيح مسلم للنووي 2 / 118 .
(2) - صحيح ابن حبان - (6 / 408) (2690) وسنن أبي داود - المكنز - (2630 ) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 87)(17736) 17888- صحيح
(4) - انظر عون المعبود 7/292
(5) - انظر دليل الفالحين 6/130
(6) - سنن أبي داود - المكنز - (4910) صحيح(1/126)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَلْعَنِ الرِّيحَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ ، وَإِنَّ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ " (1) .
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (2106 ) وشعب الإيمان - (7 / 190) (4864 ) صحيح(1/127)
(11) تعليمُ المخطئ عمليًّا
في كثير من الأحيان يكون التعليم العملي أقوى وأشد أثرا من التعليم النظري،وقد فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَ لَهُ بِوَضُوءٍ فَقَالَ :« تَوَضَّأْ يَا أَبَا جُبَيْرٍ ». فَبَدَأَ أَبُو جُبَيْرٍ بِفِيهِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« لاَ تَبْدَأْ بِفِيكَ يَا أَبَا جُبَيْرٍ ، فَإِنَّ الْكَافِرَ يَبْدَأُ بِفِيهِ ». ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَضُوءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلاَثًا ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا وَغَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاَثًا وَالْيُسْرَى ثَلاَثًا ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ. (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ أَبَا جُبَيْرٍ الْكِنْدِيَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَضُوءٍ ، وَقَالَ : تَوَضَّأْ يَا أَبَا جُبَيْرٍ ، فَبَدَأَ بِفِيهِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَبْدَأْ بِفِيكَ ، فَإِنَّ الْكَافِرَ يَبْدَأُ بِفِيهِ ، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَضُوءٍ ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاَثًا ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاَثًا ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ." (2)
والملاحظ هنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عمد إلى تنفير ذلك الصحابي من فعله المجانب للصواب عندما أخبره أن الكافر يبدأ بفيه، ولعل المعنى أن الكافر لا يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء أفادنيه العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز عندما سألته عن شرح الحديث وهذا من عدم المحافظة على النظافة والله أعلم.
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (1 / 46) (214) والكنى والأسماء للدولابي - (135) حسن
(2) - صحيح ابن حبان - (3 / 369) (1089) حسن(1/128)
(12) تقديمُ البديل الصحيح
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى الصَّلاَةِ قُلْنَا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَقُولُوا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ . فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ ، وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ فِى السَّمَاءِ أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو » (1) .
ومن هذا الباب أيضا ما روي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِى الْقِبْلَةِ ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِىَ فِى وَجْهِهِ ، فَقَامَ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ :« إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِى صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ ، أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلاَ يَبْصُقَنَّ أَحَدُكُمْ فِى قِبْلَتِهِ ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ ». ثُمَّ أَخَذَ بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ :« أَوْ يَفْعَلْ كَذَا ». رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ (2)
وفي رواية عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« لاَ يَتْفِلَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ رِجْلِهِ ». رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ (3)
ومثال آخر: عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مِنْ أَيْنَ هَذَا » . قَالَ بِلاَلٌ كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِىٌّ ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ ، لِنُطْعِمَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ « أَوَّهْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا ، لاَ تَفْعَلْ ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِىَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ » (4)
وفي رواية عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ، حَدَّثَهُمْ ، أَنَّ غُلاَمًا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ بِتَمْرٍ رَيَّانَ ، وَكَانَ تَمْرُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْلاً فِيهِ يُبْسٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّى لَكَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (835 )
(2) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (2 / 292) (3738) وصحيح البخارى- المكنز - (405)
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (2 / 292) (3740) وصحيح البخارى- المكنز - (412)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2312 )- البرنى : نوع جيد من التمر وهو من المعرب(1/129)
هَذَا التَّمْرُ ؟ فَقَالَ : هَذَا صَاعٌ اشْتَرَيْنَاهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ تَمْرِنَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَفْعَلْ ، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَصْلُحُ ، وَلَكِنْ بِعْ تَمْرَكَ ، وَاشْتَرِ مِنْ أَيِّ تَمْرٍ شِئْتَ." (1) .
والذي نجدهُ في واقع بعض الدعاة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر قصورا في دعوتهم عند إنكار بعض أخطاء الناس، وذلك بالاكتفاء بالتخطئة وإعلان الحرمة دون تقديم البديل أو بيان ما هو الواجب فعله إذا حصل الخطأ، ومعلومٌ من طريقة الشريعة أنها تقدّم البدائل عوضا عن أي منفعة محرمة، فلما حرّمت الزنا شرعت النكاح ولما حرّمت الربا أباحت البيع ولما حرّمت الخنزير والميتة وكلّ ذي ناب ومخلب أباحت الذبائح من بهيمة الأنعام وغيرها وهكذا. ثمّ لو وقع الشخص في أمر محرّم فقد أوجدت له الشريعةُ المخرجَ بالتوبة والكفارة كما هو مبيّن في نصوص الكفارات. فينبغي على الدعاة أن يحذوا حذو الشريعة في تقديم البدائل وإيجاد المخارج الشرعية. من الأمثلة لتقديم البديل ذكر الحديث الصحيح الذي يُغني عن الحديث الضعيف إنْ وجد.
ومما تجدر الإشارة إليه أن مسألة تقديم البديل هي بحسب الإمكان والقدرة فقد يكون الأمر أحيانا خطأ يجب الامتناع عنه ولا يوجد في الواقع بديل مناسب إما لفساد الحال وبعد الناس عن شريعة الله أو أن الآمر الناهي لا يستحضر شيئا أو ليس لديه إلمام بالبدائل الموجودة في الواقع فهو سينكر ويُغيّر الخطأ ولو لم يوجد لديه بديل يقوله ويوجّه إليه وهذا يقع كثيرا في بعض التعاملات المالية وأنظمة الاستثمار التي نشأت في مجتمعات الكفار ونُقلت بما هي عليه من المخالفات الشرعية إلى مجتمعات المسلمين، وفي المسلمين من القصور والضعف ما يحول دون إيجاد البديل الشرعي وتعميمه. ولكن يبقى الحال أن ذلك قصور ونقص وأن المنهج الإلهي فيه البدائلُ والمخارجٌ التي ترفع الحرج والعنت عن المسلمين علِمها من علمها وجهلِها من جهلها.
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 169)(11640) 11663- صحيح(1/130)
(13) الإرشادُ إلى ما يمنع من وقوع الخطأ
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ ، وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَزَّارِ مِنَ الْجُحْفَةِ ، اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَكَانَ رَجُلاً أَبْيَضَ ، حَسَنَ الْجِسْمِ ، وَالْجِلْدِ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ ، فَقَالَ : مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ ، وَلاَ جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ فَلُبِطَ بِسَهْلٌ ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ ؟ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، وَمَا يُفِيقُ ، قَالَ : هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالُوا : نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامِرًا ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ : عَلاَمَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ ؟ هَلاَّ إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ ؟ ثُمَّ قَالَ لَهُ : اغْتَسِلْ لَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ، وَيَدَيْهِ ، وَمِرْفَقَيْهِ ، وَرُكْبَتَيْهِ ، وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ ، وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ، ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ ، يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ ، وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ ، يُكْفِئُ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ ، فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ." (1)
وفي رواية وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ أَبَا أُمَامَةَ ، يَقُولُ : اغْتَسَلَ أَبِي سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ بِالْخَرَّارِ ، فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ يَنْظُرُ ، قَالَ : وَكَانَ سَهْلٌ رَجُلاً أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِلْدِ ، قَالَ : فَقَالَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ : مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ ، وَلاَ جِلْدَ عَذْرَاءَ فَوعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ ، فَاشْتَدَّ وَعَكُهُ ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ أَنَّ سَهْلاً وُعِكَ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ رَائِحٍ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَخْبَرَهُ سَهْلٌ الَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَلاَمَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ ؟ أَلاَ بَرَّكْتَ إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ ، تَوَضَّأْ لَهُ ، فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ." (2) .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 486)(15980) 16076- صحيح
المخبأة : المكنونة التى لا تراها العيون -لبط : صرع وسقط على الأرض
(2) - موطأ مالك- المكنز - (1714) وصحيح ابن حبان - (13 / 469) (6105) صحيح(1/131)
والْمَقْصُودُ بِالتَّبْرِيكِ هُنَا الدُّعَاءُ مِنَ الْعَائِنِ لِلْمَعِينِ بِالْبَرَكَةِ عِنْدَ نَظَرِهِ إِلَيْهِ فَذَلِكَ - بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ - يَحُول دُونَ إِحْدَاثِ أَيِّ ضَرَرٍ بِالْمَعِينِ وَيُبْطِل كُل أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْعَيْنِ (1)
وقد تضمنت هذه القصة:
ـ تغيظ المربي على من تسبب في إيذاء أخيه المسلم
ـ بيان مضرة الخطأ وأنه ربما يؤدي إلى القتل
ـ الإرشاد إلى ما يمنع من وقوع الضرر وإيذاء المسلم
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (31 / 121)(1/132)
(14) عدمُ مواجهة بعض المخطئين بالخطأ والاكتفاء بالبيان العام
وكذلك يسمى التَّلميح . والتَّعريض في اللغة : خلاف التَّصريح : يقال : عرَّضتُ لفلان ، وبفلانٍ إذا قلت قولاً وأنت تعنيه ، ومنه المعاريض في الكلام وهي التورية بالشيء عن الشيء (1) .
وبعضهم يسمِّي البيان العام بالحوار التَّعريضي (2) . وقد ورد التَّعريض في كثير من آيات القرآن ومن ذلك ما ورد في سورة التوبة حيث قال الله تعالى {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (61) سورة التوبة، وقال سبحانه كذلك {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (75) سورة التوبة، وقال سبحانه {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } (49) سورة التوبة.
إلى غير ذلك من الآيات التي عرَّض فيها بالمنافقين ، واكتفى بالبيان العام لأخطاء أولئك القوم ، وترك ذكر أسمائهم ، قال السّعدي رحمه الله : « كانت هذه السورة الكريمة تسمى الفاضحة لأنها بيّنت أسرار المنافقين ، وهتكت أستارهم ، فما زال الله يقول : ومنهم ومنهم ، ويذكر أوصافهم ، إلا أنه لم يعيّن أشخاصهم ؛ لفائدتين :
إحداهما : أن الله ستِّير يحب الستر على عباده .
والثانية : أن الذمَّ على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين الذين توجّه إليهم الخطاب ، وغيرهم إلى يوم القيامة ، فكان ذكر الوصف أعم وأنسب ، حتى خافوا غاية الخوف » (3) .
وقال العلامة محمد المناوي- رحمه الله - عن عدم ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسماء المنافقين مع معرفته لهم : « لأن عدم التعيين أوقع في النصيحة ، وأجلب للدعوة إلى الإيمان ، وأبعد
__________
(1) - الصِّحاح للجوهري مادة (عرض) ،3/1087 ، وانظر كذلك : القاموس المحيط مادة (عَرَّض) ص 834 .
(2) - النحلاوي في التربية بالحوار ص 120.
(3) - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، السعدي ص 342 .(1/133)
عن النّفور والمخاصمة ، ويحتمل كونه عاماً لينزجر الكل عن هذه الخصال على آكد وجه » (1) .
أما ما ورد في السنّة من التّعريض ، والاكتفاء بالبيان العام ، فكثير ، وخصوصاً ما كان في بيان تصحيح الأخطاء ، وهذا التّعريض أو البيان العام ما هو إلا نتيجة الخلق العظيم الذي اتّصف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك استفادته - صلى الله عليه وسلم - من منهج القرآن - كما مرّ آنفاً - وقد استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأسلوب - التّعريض والبيان العام - « لتوجيه الصحابة ، والأمة من بعدهم إلى تجنب بعض الأعمال المكروهة التي تؤدي إلى إيذاء المجتمع ، أو إلى فساد العبادة » (2) ، أو إلى غيرها من الآداب التي ينبغي التحلي بها ، ومن ذلك ما يلي :
التحذير من مخالفة أمره ونهيه ،فعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ : لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ. (3)
وعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ : جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ : إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَدْتُهَا لَهُمْ ، وَيَكُونُ لِي وَلاَؤُكِ ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا ، فَقَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا ، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ ، فَقَالَتْ : إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَبَوْا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ ، فَسَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسَأَلَهَا ، فَأَخْبَرْتُهُ عَائِشَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ ، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّاسِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَا بَعْدُ ، مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مِائَةُ شَرْطٍ ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ ، وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ." (4)
__________
(1) - فيض القدير : محمد المناوي 1 / 464 .
(2) - التربية بالحوار : النحلاوي ص 123 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (750 ) وصحيح ابن حبان - (6 / 61) (2284)
(4) - صحيح ابن حبان - (10 / 166) (4325) وصحيح البخارى- المكنز - (2168 )
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ : اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ لَفْظَةُ أَمْرٍ مُرَادُهَا نَفْيُ جَوَازِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَوْ فَعَلَتْهُ لاَ الأَمْرُ بِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي عَقِبِ هَذَا الْقَوْلِ قَامَ خَطِيبًا لِلنَّاسِ ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ لاَ لِمَنِ اشْتَرَطَ لَهُ ، وَنَظِيرُ هَذِهِ اللفظةِ فِي السُّنَنِ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ النَّحْلِ : أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي أَرَادَ بِهِ الإِعْلاَمَ أَنَّكَ لَوْ فَعَلْتَ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يُجَزْ لأَنَّهُ جَوْرٌ ، وَلَوْ جَازَ شَهَادَةٌ غَيْرَهُ لَجَازَتْ شَهَادَتَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ جَوْرًا.(1/134)
وعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى فِى رَمَضَانَ فَجِئْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ وَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَامَ أَيْضًا حَتَّى كُنَّا رَهْطًا فَلَمَّا حَسَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّا خَلْفَهُ جَعَلَ يَتَجَوَّزُ فِى الصَّلاَةِ ثُمَّ دَخَلَ رَحْلَهُ فَصَلَّى صَلاَةً لاَ يُصَلِّيهَا عِنْدَنَا. قَالَ قُلْنَا لَهُ حِينَ أَصْبَحْنَا أَفَطِنْتَ لَنَا اللَّيْلَةَ قَالَ فَقَالَ « نَعَمْ ذَاكَ الَّذِى حَمَلَنِى عَلَى الَّذِى صَنَعْتُ ». قَالَ فَأَخَذَ يُوَاصِلُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَذَاكَ فِى آخِرِ الشَّهْرِ فَأَخَذَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُوَاصِلُونَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا بَالُ رِجَالٍ يُواصِلُونَ إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِثْلِى أَمَا وَاللَّهِ لَوْ تَمَادَّ لِىَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ » (1) .
ففي هذه الأحاديث استعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - التّعريض ، ولم يصرِّح باسم المخطئ ولكنه اكتفى بالبيان العام للنهي عن ذلك ، وهذا من كمال خلقه عليه الصلاة والسلام ومن أساليبه في الدعوة وتصحيح الخطأ .
قال الكرماني رحمه الله : « وكانت هذه عادته حيث ما كان يخصِّصُ العتاب والتّأنيب لمن يستحقه ، حتى لا يحصل له الخجل ، ونحوه على رؤوس الأشهاد» (2) .
التحذير من مخالفة هديه وسنته ،فعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَتْ عَائِشَةُ صَنَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ « مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّىْءِ أَصْنَعُهُ ، فَوَاللَّهِ إِنِّى لأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً » (3) .
وعن حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ أَحَدُهُمْ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (2625 )
(2) - فقه الدعوة في صحيح البخاري : خالد عبد الرحمن القريشي 1 / 498 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6101 )
فتنزه : التنزه : التباعد عن الشيء ، أي: أنهم تركوه ولم يعملوا به ، ولا اقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه.(1/135)
أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى » (1) .
قال ابن حجر رحمه الله : « أما المعاتبة فقد حصلت منه لهم بلا ريب ، وإنما لم يميّز الذي صدر منه ذلك ستراً عليه ، فحصل منه الرِّفق من هذه الحيثية لا بترك العتاب أصلاً » (2) .
التحذير من الأذى وخصوصاً في بيوت الله ،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ « مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِى وَجْهِهِ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا ». وَوَصَفَ الْقَاسِمُ فَتَفَلَ فِى ثَوْبِهِ ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. (3)
وعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ صَلَّى صَلاَةَ الصُّبْحِ فَقَرَأَ الرُّومَ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ « مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُصَلُّونَ مَعَنَا لاَ يُحْسِنُونَ الطُّهُورَ فَإِنَّمَا يَلْبِسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ أُولَئِكَ » (4) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5063 )
(2) - فتح الباري : 10 / 530 .
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (1256 ) -يتنخع : يتنخم
(4) - سنن النسائي- المكنز - (955 ) والمسند الجامع - (18 / 1065) (15499) صحيح
وقد تناقض الألباني رحمه الله تناقضاً عجيباً في حكمه على هذا الحديث ،حيث ضعفه في ضعيف النسائي ،وقد بين في المشكاة (1 / 97) علة ضعفه عنده فقال : (ورجاله ثقات إلا أن عبد الملك بن عمير كان تغير حفظه بل قال فيه ابن معين : مخلط . وقال ابن حجر وربما دلس) . فجعل علة الحديث هنا : عبد الملك بن عمير !!
قلت : ما هكذا تورد الإبل يا سعد ،ففي التقريب قال عنه الحافظ ابن حجر : ثقة فصيح عالم تغير حفظه وربما دلس "
قلت : أما التدليس فقد صرح بالتحديث عن شيخه ،عند أحمد وغيره ، وأما التغير فقد رواه عنه سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج إماما الجرح والتعديل وغيرهما .
وقال في تمام المنة : " وشبيب هذا هو ابن نعيم ويقال : ابن أبي روح وكنيته أبو روح الحمصي ذكره ابن حبان في " الثقات " وقال ابن القطان : لا تعرف عدالته .
وفيه علة أخرى فأنظر " المشكاة " ( 295 ) ومن ذلك تعلم أن من حسن سنده قديما وحديثا فما أحسن مع مخالفة متنه لظاهر قوله تعالى : ( ومن أساء فعليها ) "
قلت : ففي تقريب التهذيب : رتبته عند ابن حجر : ثقة ، وقد روى عنه جابر بن غانم السلفى وحريز بن عثمان الرحبي وسنان بن قيس الشامي ( د ) وعبد الملك بن عمير ( س ) .
وكل مشايخ حريز ثقات كما نص الأئمة ، وهؤلاء أربعة ثقات ، فلا يعول على كلام ابن القطان في هذا فالصواب أنه ثقة .
ثم عاد الشيخ ناصر رحمه الله فقال في (صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ص (110 تعليق رقم 6) فقال ما نصه :((رواه) النسائي وأحمد والبزار بسند جيد . هذا هو الذي استقرَّ الرأيُ عليه أخيرا خلافاً لما كنت ذكرته في (تمام المنة) (ص 185) وغيره فليعلم ) !!!!(1/136)
وعَنْ رَجُلٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَقَرَأَ بِالرُّومِ، فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: " مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُصَلُّونَ وَلَا يُحْسِنُونَ الطُّهُورَ، مَنْ صَلَّى مَعَنَا فَلْيُحْسِنِ الطُّهُورَ، فَإِنَّمَا يُلَبِّسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ أُولَئِكَ " (1)
وعَنْ أَبِي رَوْحٍ الْكَلاَعِيِّ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةً ، فَقَرَأَ فِيهَا سُورَةَ الرُّومِ ، فَلَبَسَ بَعْضُهَا ، قَالَ : إِنَّمَا لَبَسَ عَلَيْنَا الشَّيْطَانُ ، الْقِرَاءَةَ مِنْ أَجْلِ أَقْوَامٍ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ ، فَإِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَأَحْسِنُوا الْوُضُوءَ. (2)
ففي هذه الأحاديث لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمن فعل هذا ، ولم يذكره بالاسم ، بل ورّى وعرّض بلفظ ما بال ، أحدكم .. فأنكر هذا الفعل القبيح دون أن يسأل عن فاعله (3) . وفي هذا من الخلق العظيم منه - صلى الله عليه وسلم - في معاملة صاحب الخطأ وعدم ذكر اسمه ، وليتنبّه غيره إذا فعل مثل فعله .
تحذير العمَّال والولاة من الوقوع في الخطأ ، مثل الرشوة ، وأخذ الهدية فعَنِ الزُّهْرِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِىُّ قَالَ اسْتَعْمَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً مِنْ بَنِى أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لِى . فَقَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ - قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ « مَا بَالُ
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (6 / 3138) (7227 ) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 451)(15872) 15967- صحيح ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب - ( 222 )
(3) - انظر : التربية بالحوار : النحلاوي ص 124 .(1/137)
الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ ، فَيَأْتِى يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِى . فَهَلاَّ جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَأْتِى بِشَىْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ » . ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَىْ إِبْطَيْهِ « أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ » ثَلاَثًا (1) .
ففي هذا الحديث « أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعنِّف ويوبِّخ كل من سوَّلت له نفسه أن يُقبل على مثل هذا العمل المحرّم ، هكذا بدون أن يتعرّض لشخص ابن اللّتبية، فلم يسمه باسمه ، ولم يشهِّر به ، محافظة على إحساسه ومراعاة لشعوره ، مما يؤذيه نفسياً أو يحطَّ من قدره ، أو تلحق به إهانة قد لا تمَّحي ، وهذا كله من جمِّ أدبه - صلى الله عليه وسلم - ، وحسن معاملته لأصحابه » (2) ، وعنايته بتصحيح الأخطاء بهذا الأسلوب الرائع - وهو أسلوب التعريض والبيان العام -
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي خلقاً عظيماً حتى في تصحيحه للخطأ البيّن فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ بِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يكَادُ يُواجِهُ أَحَدًا بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ لِلْقَوْمِ : " لَوْ قُلْتُمْ لَهُ يَدَعُ هَذِهِ الصُّفْرَةَ " (3) .
هكذا كان خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدق الله {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم
والأمثلة كثيرة ويجمعها عدم فضح صاحب الخطأ. وأسلوب التعريض بالمخطئ وعدم مواجهته له فوائد منها:
1ـ تجنّب ردّ الفعل السلبي للمخطئ وإبعاده عن تزيين الشيطان له بالانتقام الشخصي والانتصار للنفس
2ـ أنه أكثر قبولا وتأثيرا في النفس
3ـ أنه أستر للمخطئ بين الناس
4ـ ازدياد منزلة المربي وزيادة المحبة للناصح
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7174 )
الخوار : صوت البقرة -الرغاء : صوت الإبل -العفرة : بياض مشوب بالسمرة -تيعر : تصيح وتصوت صوتا شديدا
(2) - تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : خالد بن عبد الله القرشي ص 514 .
(3) - الشَّمَائِلُ الْمُحَمَّدِيَّةُ لِلتِّرْمِذِيِّ(341 ) صحيح(1/138)
وينبغي الانتباه إلى أنّ أسلوب التعريض هذا لإيصال الحكم إلى المخطئ دون فضحه وإحراجه إنما يكون إذا كان أمر المخطئ مستورا لا يعرفه أكثر الناس أما إذا كان أكثر الحاضرين يعرفونه وهو يعلم بذلك فإن الأسلوب حينئذ قد يكون أسلوب تقريع وتوبيخ وفضح بالغ السوء والمضايقة للمخطئ بل إنه ربما يتمنى لو أنه ووجه بخطئه ولم يُستعمل معه ذلك الأسلوب. ومن الأمور المؤثرة فرْقا: من هو الذي يوجّه الكلام ؟ وبحضرة من يكون الكلام ؟ وهل كان بأسلوب الإثارة والاستفزاز أم بأسلوب النصح والإشفاق ؟
فالأسلوبُ غير المباشر أسلوبُ تربوي نافع للمخطئ ولغيره إذا استُعمل بحكمة.
- - - - - - - - - - - - -(1/139)
(15) إثارةُ العامة على المخطئ
وهذا يكون في أحوال معينة وينبغي أن يوزن وزنا دقيقا حتى لا تكون له مضاعفات سلبية وفيما يلي مثال نبوي لهذه الوسيلة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَشْكُو جَارَهُ ، فَقَالَ : " اذْهَبْ فَاصْبِرْ " فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، فَقَالَ : " اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ " فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ : فَعَلَ اللَّهُ بِهِ ، وَفَعَلَ ، وَفَعَلَ ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ : ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ ". (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَشَكَا إِلَيْهِ جَارًا لَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَ مَرَّاتٍ : اصْبِرْ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ فِي الرَّابِعَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ : اطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ ، قَالَ : فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ : مَا لَكَ ؟ قَالَ : آذَاهُ جَارُهُ ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ : لَعَنَهُ اللَّهُ ، فَجَاءَ جَارُهُ ، فَقَالَ : تَرُدُّ مَتَاعَكَ وَلا أُوذِيكَ أَبَدًا" (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ لِي جَارًا يُؤْذِينِي ، فَقَالَ : " انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ " ، فَانْطَلَقَ فَأَخْرِجَ مَتَاعَهُ ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ ، فَقَالُوا : مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ : لِي جَارٌ يُؤْذِينِي ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : " انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ " ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ : اللَّهُمَّ الْعَنْهُ ، اللَّهُمَّ أَخْزِهِ . فَبَلَغَهُ ، فَأَتَاهُ فَقَالَ : ارْجِعْ إِلَى مَنْزِلِكَ ، فَوَاللَّهِ لَا أُؤْذِيكَ " (3)
ويقابلُ هذا الأسلوب أسلوب آخر يُستخدم في أحوال أخرى ومع أشخاص آخرين في حماية المخطئ من إيذاء العامة ويبينه الفقرة التالية:
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (5155 ) حسن
(2) - مسند أبي يعلى الموصلي(6630) حسن
(3) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (124 ) حسن(1/140)
(16) تجنبُ إعانة الشيطان على المخطئ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَلْعَنْهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ أُتِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسَكْرَانَ ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ مَالَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ » (2) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أُتِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ قَالَ « اضْرِبُوهُ » . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ أَخْزَاكَ اللَّهُ . قَالَ « لاَ تَقُولُوا هَكَذَا لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ » (3) .
وفي رواية قَالَ فِيهِ بَعْدَ الضَّرْبِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ « بَكِّتُوهُ ». فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ مَا خَشِيتَ اللَّهَ وَمَا اسْتَحَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ أَرْسَلُوهُ وَقَالَ فِى آخِرِهِ « وَلَكِنْ قُولُوا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ». وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ الْكَلِمَةَ وَنَحْوَهَا. (4)
__________
(1) - شعب الإيمان - (2 / 48) (498 ) وصحيح البخارى- المكنز - (6780 )
انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (3 / 4750) -رقم الفتوى 18120 يراعى في هجر شارب الخمر هذه الأمور
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6781 )
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الضَّرْبَ فِي الْحُدُودِ يَكُونُ بِالسَّوْطِ إِلاَّ حَدَّ الشُّرْبِ ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُضْرَبُ بِالسَّوْطِ ، كَمَا يُضْرَبُ أَيْضًا بِالنِّعَال وَالأَْيْدِي وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ ،
وأَمَّا الضَّرْبُ لِلتَّعْزِيرِ ، أَوِ التَّأْدِيبِ فَيَكُونُ بِالسَّوْطِ وَالْيَدِ.. الموسوعة الفقهية الكويتية - (28 / 176)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6777 )
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (4480 ) صحيح - بكت : وبخ(1/141)
وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اضْرِبُوهُ . قَالَ : فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ ، وَمِنَّا الضَّارِبُ بِنَعْلِهِ ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : أَخْزَاكَ اللَّهُ . قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَقُولُوا هَكَذَا ، لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ ، وَلَكِنْ قُولُوا : رَحِمَكَ اللَّهُ." (1)
ويستفادُ من مجموع هذه الروايات أنّ المسلم وإن وقع في معصية فإنه يبقى معه أصلُ الإسلام وأصلُ المحبة لله ورسوله، فلا يجوز أن يُنفى عنه ذلك ولا أن يُدعى عليه بما يعينُ عليه الشيطان بل يُدعى له بالهداية والمغفرة والرحمة.
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 185)(7985) 7973- صحيح(1/142)
(17) الأمر بُالكفِّ عن الخطأ
سلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في تصحيحه للأخطاء ، أساليب شتَّى - سبق بعضها ، والبعض الآخر سيأتي لاحقاً - لكن منهج الأمر كان من أوسعها استخداماً ، حيث أنه - صلى الله عليه وسلم - ، هو المبلّغ عن الله تبارك وتعالى ، وطاعته واجبة كما في قوله سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء
ومخالفته محرمة ، وترك أمره معصية ، وقد بيّن سبحانه وتعالى ذلك فقال : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب.
ولذا فقد استجاب الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - لهذه الأوامر ، وتقبّلوها بانشراح الصدور ، وفعل المأمور ، فكانوا بذلك خير أمة أخرجت للناس ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في تربيته لأصحابه يستخدم هذا الأسلوب - أسلوب الأمر - كثيراً في توجيه الصحابة وغيرهم .
ولأن هناك فئة من الناس لا تستوعب التوجيه ، والتصحيح إلا بالأمر المباشر ، ولذا فعلى الدعاة ، ومن أرادا تصحيح الأخطاء انتهاج هذا المنهاج أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته ، وتصحيحه للأخطاء
ومن الأوامر التي كان يأمر بها - صلى الله عليه وسلم - - المخطئ أمره بالكفِّ عن الخطأ ، وترك الفعل . أو الكفِّ عن القول الخاطئ والانتهاء عنه ، لما يراه - صلى الله عليه وسلم - أنه خطأ ، ولذلك كثرت أوامره - صلى الله عليه وسلم - بالكف عن الخطأ - في أحاديث كثيرة - سواءً ما كان يَخُصَّ بها الفرد الواحد ، أو ما يخصُّ بها الجماعة .
الأمر بالكف عن الخطأ للفرد
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ ، قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا إِلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَجَاءَ رَجُلٌ(1/143)
يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ (1) .
وهذا الأمر منه - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل لمّا رآه قد آذى الناس بتخطي رقابهم ؛ وقد ورد عن بعض العلماء أنه يكره له - الإنسان - التخطِّي ، إلا أن يكون إماماً ، ولا يجد طريقاً فلا بأس بالتخطِّي ، وكذلك من لم يجد إلا فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي ، فلا بأس بذلك (2) .
والصحيح أن تخطي رقاب الناس حرام في الخطبة وغيرها ، لهذا الحديث كما نقله النووي عن ابن المنذر ، وتعليل ذلك أن الأذى يَحرُم (3) .
وكذا قاله الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - حيث قال : «ولا سيما - التخطيّ - إذا كان ذلك أثناء الخطبة ، لأن فيه أذية للناس ، وإشغالاً لهم عن استماع الخطبة ، إشغال لمن باشر تخطي رقبته ، وإشغالٌ لمن يراه ويشاهده ، فتكون المضرة به واسعة » (4) .وفي هذا الحديث يتجلّى الأمرُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل بالكفِّ عن هذا الخطأ وهو التخطيِّ لما فيه من الإيذاء والإشغال ، فكان بهذا الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - تصحيحاً لفعل هذا الرجل .وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ مَرَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِامْرَأَةٍ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ « اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى » . قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّى ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِى ، وَلَمْ تَعْرِفْهُ . فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - . فَأَتَتْ بَابَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ . فَقَالَ « إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى » (5) .
ففي هذا الحديث أمرٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفِّ عن هذا الخطأ ، وهو البكاء الشديد ، أو النياحة ، كما قال القرطبي : « الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نَوْحٍ أو غيره ،
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (7 / 30)(2790) صحيح
(2) - ابن قدامه من الحنابلة في ( الكافي في فقه الإمام أحمد ) ت : محمد فارس ومسعد السعدني ط . دار الكتب العلمية بيروت 1 / 334 ، وانظر : حاشية الروض المربع لابن قاسم 2 / 480 .
(3) - انظر المجموع شرح المهذب للنووي 4 / 421 .
(4) - الشرح الممتع على زاد المستقنع : 5 / 125 .
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (1283)(1/144)
ولهذا أمرها بالتقوى » (1) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : « ويؤيّده - أي كلام القرطبي - أنه في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور فسمع منها ما يكره فوقف عليها » (2) .
وقال النووي رحمه الله في شرح الحديث :« فيه الأمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر مع كل أحد » (3) .
إذن قد صدر الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه المرأة بترك هذا الخطأ والتقوى والصبر على ما أصابها ، وكل ذلك بحكمة ، ورفق ، وتواضع منه - صلى الله عليه وسلم - .
قال الحافظ بن حجر رحمه الله : « وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم ما كان فيه - صلى الله عليه وسلم - من التواضع ، والرفق بالجاهل ، ومسامحة المصاب ، وقبول اعتذاره ، وملازمة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وأن من أُمر بمعروف ينبغي له أن يقبل ، ولو لم يعرف الآمر ، وفيه أن الجزع من المنهيات لأمره لها بالتقوى مقروناً بالصبر » (4) .
الأمر بالكفّ عن الخطأ للجماعة :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّى مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ « مَا شَأْنُكُمْ » . قَالُوا اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاَةِ . قَالَ « فَلاَ تَفْعَلُوا ، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا » (5) .
وهذا الحديث في شأن إدراك الصلاة مع الإمام ، وخشية فواتها وأن الإنسان مأمور بالإتيان إليها بالسكينة ، والوقار ، ومنهي عن العجلة والإسراع، ولذلك فقد صحَّح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الخطأ الذي وقع فيه أولئك الجماعة من المصلين ، وهو الاستعجال ، والإسراع ، وأرشدهم إلى الصواب ، وهو المشي بتأنٍّ ، وسكينة ، ووقار ، حتى لو فات المصلي بعض
__________
(1) - فتح الباري : 3 / 178 .
(2) - المصدر السابق .
(3) - شرح صحيح مسلم النووي : 2 / 526 .
(4) - فتح الباري : 3 / 179 .
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (635 )(1/145)
الصلاة . وقد فصَّل مسألة فوات الركعة وعلة النهي عن الاستعجال ، والإسراع ، الإمام الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1) .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَا لِى أَرَاكُمْ رَافِعِى أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ اسْكُنُوا فِى الصَّلاَةِ ». قَالَ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا حَلَقًا فَقَالَ « مَا لِى أَرَاكُمْ عِزِينَ ». قَالَ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ « أَلاَ تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ». فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالَ « يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِى الصَّفِّ » (2) .
وهذا الحديث في شأن رفع الأيدي عند السلام ، بالإشارة إلى السلام من الجانبين - كما قاله النووي رحمه الله - (3) ، وهذا الأمر منهي عنه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما رآهم على هذه الحال الخاطئة ، أمرهم بتصحيح ذلك ، ونهاهم عن الاستمرار فيه بقوله عليه الصلاة والسلام : اسكنوا . قال النووي رحمه الله : « وفيه الأمر بالسكون في الصلاة والخشوع فيها والإقبال عليها » (4) .
ومعنى عزين ، أي : متفرقين جماعة ، جماعة ونهاهم عن هذه الحال أيضاً (5) .
ومن الأهمية بمكان إيقاف المخطئ عن الاستمرار في الخطأ حتى لا يزداد سوءا وحتى يحصل القيام بإنكار المنكر ولا يتأخر، فعَنْ عُمَرَ قَالَ: لَا وَأَبِي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ " (6)
__________
(1) - انظر فتح الباري : 2 / 138 .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (996 )
الحلق : جمع حلقة -الشمس : جمع شموس وهى النَّفور التى لا تستقر ولا تسكن لشغبها وحدتها -العزين : جمع عزة وهى الحلقة المجتمعة من الناس
(3) - انظر شرح صحيح مسلم للنووي 2 / 114 .
(4) - المصدر السابق 2 / 115 .
(5) - المصدر السابق نفس الصفحة .
(6) - شرح مشكل الآثار - (2 / 297) (826 ) ومسند أحمد - المكنز - (336) صحيح
قال الطحاوي : " فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَاللهُ أَعْلَمُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الشِّرْكَ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، حَتَّى يَكُونَ بِهِ صَاحِبُهُ خَارِجًا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ أُرِيدَ أَنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْلَفَ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى , وَكَانَ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ جَعَلَ مَنْ حَلَفَ بِهِ كَمَا اللهِ تَعَالَى مَحْلُوفًا بِهِ , وَكَانَ بِذَلِكَ قَدْ جَعَلَ مَنْ حَلَفَ بِهِ أَوْ مَا حَلَفَ بِهِ شَرِيكًا فِيمَا يَحْلِفُ بِهِ، وَذَلِكَ عَظِيمٌ فَجُعِلَ مُشْرِكًا بِذَلِكَ شِرْكًا غَيْرَ الشِّرْكِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ كَافِرًا بِاللهِ تَعَالَى خَارِجًا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا قَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي الطِّيَرَةِ "(1/146)
"مه " كلمة زجر وإنكار بمعنى: اكفف
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ ، قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا إِلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ." (1)
وعَنْ أَبِى الزَّاهِرِيَّةِ قَالَ كُنَّا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ صَاحِبِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ » (2) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِى الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ » (3) .
ففي هذه الأحاديث الطلب المباشر من المخطئ بالكفّ والامتناع عن فعله.
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (1120) وصحيح ابن حبان - (7 / 30) (2790) صحيح
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (1120 ) صحيح
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2666 ) حسن - تجشأ : خرج من فمه ريح مع صوت من الشبع(1/147)
(18) إرشادُ المخطئ إلى تصحيح خطئه
وقد كان ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدة أساليب منها:
- محاولة لفت نظر المخطئ إلى خطئه ليقوم بتصحيحه بنفسه
ومن الأمثلة على ذلك ما روي عَنْ مَوْلًى لأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : فَدَخَلُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَى رَجُلاً جَالِسًا وَسَطَ الْمَسْجِدِ ، مُشَبِّكًا بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، يُحَدِّثُ نَفْسَهُ ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمْ يَفْطِنْ ، قَالَ : فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ : إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ ، فَلاَ يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنَ الشَّيْطَانِ ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَزَالُ فِي صَلاَةٍ ، مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ." رواه أحمد في مسنده (1)
وعَنْ مَوْلًى لأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : بَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ مُحْتَبِيًا مُشَبِّكٌ أَصَابِعَهُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمْ يَفْطِنِ الرَّجُلُ لإِشَارَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ : إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلاَ يُشَبِّكَنَّ ، فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَزَالُ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ. (2)
ـ طلب إعادة الفعل على الوجه الصحيح إذا كان ذلك ممكنا
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فِى نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » . فَرَجَعَ فَصَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ . فَقَالَ « وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ فَارْجِعْ فَصَلِّ ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » . فَقَالَ فِى الثَّانِيَةِ أَوْ فِى الَّتِى بَعْدَهَا عَلِّمْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ « إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِىَ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 138) (11512) 11532-حسن
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 110) (11385) 11405- حسن(1/148)
قَائِمًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِى صَلاَتِكَ كُلِّهَا » (1) .
ومن الملاحظ:
* أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينتبه لأفعال الناس من حوله كي يعلمهم وقد وقع في رواية النسائي عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ آلِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمٍّ لَهُ بَدْرِيٍّ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمُقُهُ وَنَحْنُ لَا نَشْعُرُ، فَلَمَّا فَرَغَ سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ: " ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ جَهِدْتَ فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: " إِذَا قُمْتَ تُرِيدُ الصَّلَاةَ فَتَوَضَّأْ فَأَحْسِنِ وُضُوءَك، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ، ثُمَّ ارْكَعْ، فَاطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ فَاطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى تَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِكَ " (2)
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلاَدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَمِّهِ ، وَكَانَ بَدْرِيًّا ، قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلاَةً خَفِيفَةً لاَ يُتِمُّ رُكُوعًا ، وَلاَ سُجُودًا ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمُقُهُ وَنَحْنُ لاَ نَشْعُرُ ، قَالَ : فَصَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ : أَعِدْ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ ، قَالَ : فَفَعَلَ ذَلِكَ ، ثَلاَثًا ، كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ : أَعِدْ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، عَلِّمْنِي ، فَقَدْ وَاللَّهِ اجْتَهَدْتُ ، فَقَالَ : إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلاَةِ فَاسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ ، ثُمَّ كَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ ، ثُمَّ ارْكَعْ ، حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا ، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ ساجداً ، ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ قُمْ ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُك ، وَمَا نَقَصْتَ مِنْ ذَلِكَ ، نَقَصْتَ مِنْ صَلاَتِك." (3)
فمن صفة المربي أن يكون يقظا لأفعال من معه
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6251 )
(2) - شعب الإيمان - (4 / 491) (2862 ) وسنن النسائي- المكنز - (1321 ) حسن
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (1 / 287) (2975) حسن(1/149)
* إن من الحكمة في التعليم طلب إعادة الفعل من المخطئ لعله ينتبه إلى خطئه فيصححه بنفسه خصوصا إذا كان الخطأ ظاهرا لا ينبغي أن يحدث منه وربما يكون ناسيا فيتذكر.
* إن المخطئ إذا لم ينتبه إلى خطئه وجب البيان والتفصيل .
* إن إعطاء المعلومة للشخص إذا اهتم بمعرفتها وسأل عنها وتعلقت بها نفسه أوقع أثرا في حسّه وأحفظ في ذهنه من إعطائه إياها ابتداء دون سؤال ولا تشوّف.
إن وسائل التعليم كثيرة يختار منها المربي ما يُناسب الحال والظرف.
ومن أمثلة طلب إعادة الفعل الخاطئ على الوجه الصحيح أيضا ما رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عَنْ جَابِرٍ أَخْبَرَنِى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ ». فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى. (1)
ومثال ثالث فيما رواه الترمذي رحمه الله تعالى في سننه عن كَلَدَةَ بْنَ حَنْبَلٍ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ فِي الْفَتْحِ بِلَبَنٍ وَجَدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْوَادِي قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ، وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " ارْجِعْ فَقُلِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ بَعْدَمَا أَسْلِمْ ؟ ". (2)
ـ طلب تدارك ما أمكن لتصحيح الخطأ ،فقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ » . فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ امْرَأَتِى خَرَجَتْ حَاجَّةً وَاكْتُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا . قَالَ « ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ » (3) .
ـ إصلاح آثار الخطأ ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا أُبَايِعُكَ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيْهِمَا فَتُضْحِكَهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا " (4) .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (599 )
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2928 ) وشعب الإيمان - (11 / 213)(8428) صحيح
الضغابيس : صغار القثاء واحدها ضغبوس -اللبأ : أول ما يحلب من اللبن عند الولادة
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5233 )
(4) - شرح مشكل الآثار - (5 / 367) (2124 ) وسنن النسائي- المكنز - (4180) صحيح(1/150)
ـ الكفارة عن الخطأ
إذا كانت بعض الأخطاء لا يمكن استدراكها فإن الشريعة قد جعلت أبوابا أُخر لمحو أثرها ومن ذلك الكفارات وهي كثيرة ككفارة اليمين في قوله تعالى : {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (89) سورة المائدة ، والظهار في قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (3) سورة المجادلة، وقتل الخطأ في قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (92) سورة النساء ، والوطء في نهار رمضان، فعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَذَكَرَ أَنَّهُ احْتَرَقَ ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ ، فَذَكَرَ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِكْتَلٍ يُدْعَى الْعَرَقُ فِيهِ تَمْرٌ ، فَقَالَ : أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ ، فَقَامَ الرَّجُلُ ، فَقَالَ : تَصَدَّقْ بِهَذَا." (1) وغيرها.
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (8 / 297) (3528) وصحيح البخارى- المكنز - (1935) والمسند الجامع - (19 / 1064) (16580)(1/151)
(19) إنكارُ موضع الخطأ وقبول بقية الصواب
إن إنكار الخطأ وقبول بقية الصواب كان من المنهاج النبوي في تصحيح الأخطاء ، فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سواءً في العبادات أو غيرها - أنّه أنكر موضع الخطأ ، وشدّد عليه وصحَّحه ، وقبل بقية الصواب ، ووافق صاحبه عليه ، وشجَّعه ، وأمضاه .
فيكون من الحكمة الاقتصار في الإنكار على موضع الخطأ وعدم تعميم التخطئة لتشمل سائر الكلام أو الفعل، يدلّ على ذلك ما أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ قالت: جَاءَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ حِينَ بُنِىَ عَلَىَّ ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِى كَمَجْلِسِكَ مِنِّى ، فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِى يَوْمَ بَدْرٍ ، إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ وَفِينَا نَبِىٌّ يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ . فَقَالَ « دَعِى هَذِهِ ، وَقُولِى بِالَّذِى كُنْتِ تَقُولِينَ » (1) .
وعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ عَلَىَّ غَدَاةَ بُنِىَ بِى فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِى كَمَجْلِسِكَ مِنِّى وَجُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِدُفُوفِهِنَّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِى يَوْمَ بَدْرٍ إِلَى أَنْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ وَفِينَا نَبِىٌّ يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « اسْكُتِى عَنْ هَذِهِ وَقُولِى الَّذِى كُنْتِ تَقُولِينَ قَبْلَهَا » (2) .
وفي رواية ابن ماجة عَنْ أَبِى الْحُسَيْنِ - اسْمُهُ خَالِدٌ الْمَدَنِىُّ - قَالَ كُنَّا بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَالْجَوَارِى يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَتَغَنَّيْنَ فَدَخَلْنَا عَلَى الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهَا. فَقَالَتْ دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَبِيحَةَ عُرْسِى وَعِنْدِى جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ وَتَنْدُبَانِ آبَائِى الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَتَقُولاَنِ فِيمَا تَقُولاَنِ وَفِينَا نَبِىٌّ يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ. فَقَالَ « أَمَّا هَذَا فَلاَ تَقُولُوهُ مَا يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ ». (3) .
فهذا الحديث يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر موضع الخطأ وهو قول الجارية : وفينا نبي
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5147 )
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (1113 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(3) - سنن ابن ماجه- المكنز - (1972) صحيح(1/152)
يعلم ما في غدِ ، وعلّل ذلك - صلى الله عليه وسلم - - كما جاء عند ابن ماجه - بقوله : ما يعلم ما في غدٍ إلا الله وأشار عليهما بترك قولها السابق ثم ، قَبِلَ الباقي - صلى الله عليه وسلم - وهو المدح غير المبالغ فيه، وغير المذموم ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - كما عند الترمذي : « اسْكُتِى عَنْ هَذِهِ وَقُولِى الَّذِى كُنْتِ تَقُولِينَ قَبْلَهَا » (1) .
وهذا النهي هو ما يتعلق بمدحه - صلى الله عليه وسلم - المدح المتجاوز فيه ، والمنهي عنه ، وهو الإطراء الذي ورد عنه النهي عنه صريحاً : « لاَ تُطْرُونِى كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ » (2) .
وكذلك ورد مثل هذا في قوله - صلى الله عليه وسلم - لوفد بني عامر فعَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ قَالَ أَبِى انْطَلَقْتُ فِى وَفْدِ بَنِى عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَا أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ « السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى » (3) . قُلْنَا وَأَفْضَلُنَا فَضْلاً وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً. فَقَالَ « قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ وَلاَ يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ » (4) .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هاهنا أنكر عليهم قولهم : أنت سيدنا ، وعلّل ذلك بأن السيد هو الله تبارك وتعالى ، ثم سكت عن باقي المدح إعلاماً منه - صلى الله عليه وسلم - أنه صواب ، ولا شيء فيه لكنهم ينبغي
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (1113 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3445 ) -تطرونى : تمدحونى
(3) - قلت : قاله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التواضع ، وإلا فهو سيد ولد آدم بلا نزاع ،فعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ ، وَمُشَفَّعٍ ، بِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ ، تَحْتِي آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ.صحيح ابن حبان - (14 / 398)(6478) صحيح
وعَنِ الأَوْزَاعِىِّ حَدَّثَنِى أَبُو عَمَّارٍ حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنِى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ».صحيح مسلم- المكنز - (6079 )
قَالَ الْعُلَمَاء : وَقَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم ) لَمْ يَقُلْهُ فَخْرًا ، بَلْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْفَخْر فِي غَيْر مُسْلِم فِي الْحَدِيث الْمَشْهُور ( أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم وَلَا فَخْرَ ) وَإِنَّمَا قَالَهُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا اِمْتِثَال قَوْله تَعَالَى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ } وَالثَّانِي أَنَّهُ مِنْ الْبَيَان الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغه إِلَى أُمَّته لِيَعْرِفُوهُ ، وَيَعْتَقِدُوهُ ، وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ ، وَيُوَقِّرُوهُ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا تَقْتَضِي مَرْتَبَتُهُ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّه تَعَالَى . وَهَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِتَفْضِيلِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ ؛ لِأَنَّ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْآدَمِيِّينَ أَفْضَل مِنْ الْمَلَائِكَة ، وَهُوَ - صلى الله عليه وسلم - أَفْضَل الْآدَمِيِّينَ وَغَيْرهمْ "شرح النووي على مسلم - (7 / 473)
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (4808 ) صحيح(1/153)
لهم أن لا ينساقوا وراء الشيطان في كثرة المدح .
وهذا الموضوع - إنكار الخطأ وقبول بقية الصواب - يدلّ على منهج النقد أيما دلالة حيث إن من تعاريف النقد اللغوية : أنه تمييز الدراهم عن غيرها ، والنقر بالإصبع في الجوز (1) .
فكأن إنكار موضع الخطأ وقبول بقية الصواب كتمييز الدراهم بعضها من بعض لمعرفة الجيد منها والرديء ، وكذلك النقر للجوز لمعرفة الصحيح منه، وغير الصحيح ، ولذلك فقد استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المنهج حتى في العبادات ، فقد أقرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الناس على بعض الأمور مع الإنكار عليهم في أمور ، فدلّ ذلك على أن هذا المنهج هو من مناهج تصحيح الأخطاء ، التي ينبغي لمن أراد التصحيح أن يعتني به ، إذ ليس في كل أقوال وأفعال الناس خطأ عام ، فهناك من الناس من يقول كلاماً ، أو يفعل فعلاً ، وليس بالضرورة أن كل كلامه خطأ ، ولا كل فعاله خطأ ، وإنما الذي يحتاج إليه أن يُعَدَّل له خطؤه ويصحّح له ، ويبقي الصواب .
ولا شك أن مثل هذا التصرف يشعر المخطئ بإنصاف ، وعدل القائم بالإنكار والتصحيح ، ويجعل تنبيهه أقرب للقبول في النفس ، بخلاف بعض المنكرين الذين قد يغضب أحدهم من الخطأ ، غضباً يجعله يتعدى في الإنكار يصل به إلى تخطئة ورفض سائر الكلام ، بما اشتمل عليه من حق ، وباطل ، مما يسبب عدم قبول كلامه ، وعدم انقياد المخطئ للتصحيح (2) .
أما الشاهد في موضوعنا ، وهو إنكار موضع الخطأ وقبول بقية الصواب في أحاديث العبادة فمن ذلك ما يلي :
قَالَ يَعْلَى لِعُمَرَ - رضى الله عنه - : أَرِنِى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ قَالَ فَبَيْنَمَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْجِعْرَانَةِ ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِى
__________
(1) - القاموس المحيط مادة ( نقد ) ص 412 .
(2) - انظر : الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس : المنجد ص 66 .(1/154)
رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ، وَهْوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ فَسَكَتَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - سَاعَةً فَجَاءَهُ الْوَحْىُ ، فَأَشَارَ عُمَرُ - رضى الله عنه - إِلَى يَعْلَى ، فَجَاءَ يَعْلَى ، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُحْمَرُّ الْوَجْهِ ، وَهُوَ يَغِطُّ ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ فَقَالَ « أَيْنَ الَّذِى سَأَلَ عَنِ الْعُمْرَةِ » فَأُتِىَ بِرَجُلٍ فَقَالَ « اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِى بِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجَّتِكَ » (1) .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - صحَّح الخطأ عند ذلك الرجل لما جعل في ثوبه الطيب بغسله ، ثم أمره بنزع الجبَّة ، ثم أقرّه على سائر عمله ، وأمره أن يصنع في عمرته كما يصنع في حجه .
واستُدلَّ بهذا الحديث ، كذلك على أن من أصابه طيب في إحرامه ناسياً ، أو جاهلاً ، ثم علم فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه .وهذا الحديث ظاهر في أن السائل كان عالماً بصفة الحج دون العمرة، فلهذا قال له - صلى الله عليه وسلم - واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك (2) .
وفي هذا الحديث إشارة كذلك إلى هذا المنهج ، وهو منهج النقد بإنكار محل الخطأ وتصحيحه ، وهو غسل الثوب من أثر الطِّيب ، ونزع الجبّة ، ثم قبول باقي الأعمال كما هي صحيحة ، حيث لم يُؤمر الرجل بالإعادة لما تقدم من أعماله في العمرة ، كالتلبية ، وانعقاد الإحرام ، وغير ذلك .
ولأنه لم تلزمه الفدية ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بها ، وقيل : لأنه أتى بهذه الأمور قبل نزول الحكم ، ثم نزل الحكم بعدها (3) .
وعَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالَ حَدَّثَنِى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ قَالَ « مَا بَالُ هَذَا » . قَالُوا نَذَرَ أَنْ يَمْشِىَ . قَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِىٌّ » . وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ (4) .
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ نَذَرَتْ أُخْتِى أَنْ تَمْشِىَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ ، وَأَمَرَتْنِى أَنْ أَسْتَفْتِىَ لَهَا النَّبِىَّ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1536 ) -المتضمخ : المدهن
(2) - انظر شرح صحيح مسلم للنووي 3 / 256 وكذلك فتح الباري : 3 / 462 .
(3) - انظر فتح الباري : 4 / 75 .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (1865 ) -يهادى : يمشى معتمدا عليهما(1/155)
- صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَفْتَيْتُهُ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ « لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ » . قَالَ وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لاَ يُفَارِقُ عُقْبَةَ (1) .
ففي هذين الحديثين بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - موضع الخطأ وأنكره ، فحديث الرجل الذي نذر أن يمشي إلى الكعبة كان موضع الخطأ هو المشي لأن الرجل لا يطيق هذا المشي لكبر سنِّه ، بل وصحّح له النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الخطأ ، بحيث أمره بالرّكوب، وسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الباقي ، وهو النذر ، بل أجازه، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء بنذره بالمشي إلى الكعبة لأمرين :
1- « لأن الحج راكباً أفضل من الحج ماشياً ، فنذرُ المشي يقتضي التزام ترك الأفضل ، فلا يجب الوفاء به .
2- لكونه عجز عن الوفاء بنذره » (2) .
أما حديث عقبة في إخباره عن أخته ، فإنكار موضع الخطأ بيِّن ، حيث أنَّ نَذرها المشي إلى بيت الله الحرام مع عجزها عن ذلك ، خطأ فصحَّح - صلى الله عليه وسلم - هذا الخطأ بقوله : لتمش ولتركب ، ومعناه كما قال النووي : « تمشي في وقت قدرتها على المشي ، وتركب إذا عجزت عن المشي ، أو لحقتها مشقة ظاهرة ، فتركب ، وعليها دم » (3)
ووجه كونها عليها دم ، لما وقع في رواية أخرى للحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : إِنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ ، وَشَكَا إِلَيْهِ ضَعْفَهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ نَذْرِ أُخْتِكَ ، فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً. (4)
أما النّذر بحدِّ ذاته فصحيح ، ولذا سكت عن بيانه - صلى الله عليه وسلم - وإنكاره ، بل أقرهم عليه وأمرهم بالوفاء به .
ومثل ما سبق : ما ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1866 )
(2) - فتح الباري : 4 / 95 .
(3) - شرح صحيح مسلم للنووي : 4 / 268 .
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 634)2134- صحيح(1/156)
فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ وَلاَ يَسْتَظِلَّ وَلاَ يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ » (1) .
فأنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - موضع الخطأ ، وهو القيام وعدم الاستظلال ، والصمت ، وصحّحه له ، بحيث أمره بالكلام ، والاستظلال ، والقعود ، وقَبِلَ منه الباقي وهو الصوم لأنه صحيح وهو من نذر الطاعة ، ولا يشق ذلك - الصوم - على الرجل .
وعلَّق ابن حجر رحمه الله على هذا الحديث بقوله : « وفيه - الحديث - أن كل شيء يتأذى به الإنسان ، ولو مآلاً مما لم يرد بمشروعيته كتاب ، أو سنة ، كالمشي حافياً ، والجلوس في الشمس ، ليس هو من طاعة الله فلا ينعقد به النذر ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أَبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره ، وهو محمول على أنه عَلِمَ أنه لا يشق عليه ، وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل» (2) .
وعَنْ الأَسْوَدِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ أَتَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْغَائِطَ ، فَأَمَرَنِى أَنْ آتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ ، وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ « هَذَا رِكْسٌ » (3) .
فهذا الحديث يدلّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر الخطأ . بل وبادر إلى ردِّه ، وذلك لما ردَّ الروثه - التي نهى أن يُستنجى بها -،وقال : هذا ركس إنكاراً عليه فعله هذا .أي : « فكأنه قال : هذا ردٌّ عليك » (4) .
والركس هو : الرجيع وهو ردٌّ من حالة الطعام إلى حالة الروث (5) .
وبهذا يتبيّن أهمية منهج : إنكار الخطأ وقبول الصواب ، كما سنَّ هذا المصطفى عليه الصلاة والسلام .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6704 )
(2) - فتح الباري : 11/ 598 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (156 )
(4) - فتح الباري : 1 / 310 .
(5) - انظر : المصدر السابق .(1/157)
وهذا المعنى هو الذي لفت إليه ابن عمر رضي الله عنهما، فعَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلاً عَطَسَ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ." (1)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (2957 ) والمستدرك للحاكم(7691) حسن(1/158)
(20) إعادةُ الحقِّ إلى صاحبه وحفظ مكانة المخطئ
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلاً مِنَ الْعَدُوِّ فَأَرَادَ سَلَبَهُ فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لِخَالِدٍ « مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ ». قَالَ اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « ادْفَعْهُ إِلَيْهِ ». فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتُغْضِبَ فَقَالَ « لاَ تُعْطِهِ يَا خَالِدُ لاَ تُعْطِهِ يَا خَالِدُ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِى أُمَرَائِى إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِىَ إِبِلاً أَوْ غَنَمًا فَرَعَاهَا ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ وَتَرَكَتْ كَدَرَهُ فَصَفْوُهُ لَكُمْ وَكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ ». (1)
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ : غَزَوْنَا غَزْوَةً إِلَى طَرَفِ الشَّامِ ، فَأُمِّرَ عَلَيْنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، قَالَ : فَانْضَمَّ إِلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَمْدَادِ حِمْيَرَ ، فَأَوَى إِلَى رَحْلِنَا لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ إِلاَّ سَيْفٌ ، لَيْسَ مَعَهُ سِلاَحٌ غَيْرَهُ ، فَنَحَرَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَزُورًا ، فَلَمْ يَزَلْ يَحْتَالُ حَتَّى أَخَذَ مِنْ جِلْدِهِ كَهَيْئَةِ الْمِجَنِّ حَتَّى بَسَطَهُ عَلَى الأَرْضِ ، ثُمَّ وَقَدَ عَلَيْهِ ، حَتَّى جَفَّ ، فَجَعَلَ لَهُ مُمْسِكًا كَهَيْئَةِ التُّرْسِ ، فَقُضِيَ أَنْ لَقِينَا عَدُوَّنَا فِيهِمْ أَخْلاَطٌ مِنَ الرُّومِ وَالْعَرَبِ مِنْ قُضَاعَةَ ، فَقَاتَلُونَا قِتَالاً شَدِيدًا ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ وَسَرْجٍ مُذَهَّبٍ ، وَمِنْطَقَةٍ مُلَطَّخَةٍ ذَهَبًا ، وَسَيْفٌ مِثْلُ ذَلِكَ ، فَجَعَلَ يَحْمِلُ عَلَى الْقَوْمِ ، وَيُغْرِي بِهِمْ ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الْمَدَدِيُّ يَحْتَالُ لِذَلِكَ الرُّومِيِّ حَتَّى مَرَّ بِهِ فَاسْتَقْفَاهُ ، فَضَرَبَ عُرْقُوبَ فَرَسِهِ بِالسَّيْفِ فَوَقَعَ ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ ضَرْبًا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ ،فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ الْفَتْحَ ، أَقْبَلَ يَسْأَلُ لِلسَّلَبِ ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّاسُ بِأَنَّهُ قَاتِلُهُ ، فَأَعْطَاهُ خَالِدٌ بَعْضَ سَلَبِهِ ، وَأَمْسَكَ سَائِرَهُ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى رَحْلِ عَوْفٍ ذَكَرَهُ ، فَقَالَ لَهُ عَوْفٌ : ارْجِعْ إِلَيْهِ فَلْيُعْطِكَ مَا بَقِيَ ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ ، فَأَبَى عَلَيْهِ ، فَمَشَى عَوْفٌ حَتَّى أَتَى خَالِدًا ، فَقَالَ : أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ سَلَبَ قَتِيلِهِ ؟ قَالَ خَالِدٌ :
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4669 )(1/159)
اسْتَكْثَرْتُهُ لَهُ ، قَالَ عَوْفٌ : لَئِنْ رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَذْكُرَنَّ ذَلِكَ لَهُ ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعَثَهُ عَوْفٌ ، فَاسْتَعْدَى إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَدَعَا خَالِدًا وَعَوْفٌ قَاعِدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا يَمْنَعُكَ يَا خَالِدُ أَنْ تَدْفَعَ إِلَى هَذَا سَلَبَ قَتِيلِهِ ؟ قَالَ : اسْتَكْثَرْتُهُ لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ : ادْفَعْهُ إِلَيْهِ . قَالَ : فَمَرَّ بِعَوْفٍ ، فَجَرَّ عَوْفٌ بِرِدَائِهِ ، فَقَالَ : أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتُغْضِبَ ، فَقَالَ : لاَ تُعْطِهِ يَا خَالِدُ ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو أُمَرَائِي ؟ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى إِبِلاً ، وَغَنَمًا فَرَعَاهَا ، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا ، فَشَرَعَتْ فِيهِ ، فَشَرِبَتْ صَفْوَةَ الْمَاءِ ، وَتَرَكَتْ كَدَرَهُ ، فَصَفْوُهُ أَمْرُهُمْ لَكُمْ وَكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ." (1)
ونلاحظ أن خالدا لما أخطأ في اجتهاده بمنع القاتل من السلب الكثير أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضع الأمر في نصابه بإعادة الحق إلى صاحبه ولكنه عليه الصلاة والسلام غضب لما سمع عوفا رضي الله عنه يعرّض بخالد ويتهكم عليه بقوله: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان عوف قد جرّ برداء خالد لمّا مرّ بجانبه فقال - صلى الله عليه وسلم - : لا تُعطه يا خالد وهذا من باب ردّ الاعتبار إلى الأمير والقائد لأن في حفظ مكانته بين الناس مصلحة ظاهرة.
وقد يرد هنا الإشكال الآتي: إذا كان القاتل قد استحق السلب فكيف يمنعه إياه ؟ أجاب النووي رحمه الله عن ذلك بوجهين:
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 944)(23987) 24487- صحيح
أوى وآوى : ضم وانضم ، وجمع ، حمى ، ورجع ، ورَدَّ ، ولجأ ، واعتصم ، ووَارَى ، وأسكن ، ويستخدم كل من الفعلين لازما ومتعديا ويعطي كل منهما معنى الآخر - الرحال : المنازل سواء كانت من حجر أو خشب أو شعر أو صوف أو وبر أو غير ذلك - النحر : الذبح - الجَزُور : البَعِير ذكرا كان أو أنثى، إلا أنَّ اللَّفْظة مُؤنثة، تقول الجَزُورُ، وَإن أردْت ذكَرا، والجمْع جُزُرٌ وجَزَائر - الهيئة : صُورَةُ الشَّيء وشَكْلُه وحَالَتُه - المجن : التُّرس - الترس : الدرع الذي يحمي المقاتل ويتقي به ضربات العدو - أشقر : الشقرة في الخيل هي الحُمْرة الخالصة -السرج : ما يوضع على ظهر الدابة للركوب -أغرى بهم : حث الجنود على الهجوم عليهم - المددي : رجل من المدد القادم لدعم الجيش في المعركة -استقفاه : أتاه من قبل قفاه -العرقوب : مجمع مفصل الساق والقدم - السلب : ما يأْخُذُه أَحدُ القِرْنَيْن في الحربِ من قِرْنِه، مما يكونُ عليه ومعه من ثِيابٍ وسلاحٍ ودابَّةٍ، وهو فَعَلٌ بمعنى مفعولٍ أَي مَسْلُوب - الرحل : المنزل سواء كان من حجر أو خشب أو شعر أو صوف أو وبر أو غير ذلك - أبى : رفض وامتنع -استعدى : استعان وطلب النصرة -الرداء : ما يوضع على أعالي البدن من الثياب - الإبل : الجمال والنوق ليس له مفرد من لفظه(1/160)
أحدهما: لعله أعطاه بعد ذلك للقاتل وإنما أخّره تعزيرا له ولعوف بن مالك لكونهما أطلقا ألسنتهما في خالد رضي الله عنه وانتهكا حرمة الوالي ومن ولاّه.
الوجه الثاني: لعله استطاب قلب صاحبه فتركه صاحبه باختياره وجعله للمسلمين، وكان المقصود بذلك استطابة قلب خالد رضي الله عنه للمصلحة في إكرام الأمراء. (1)
ومن شواهد مسألة إعادة الاعتبار لمن أُخطِئ عليه ما جاء عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ : أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلاَمَ ، فَلَمَّا جَاوَزَهُمْ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ : وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا فِي اللهِ ، فَقَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ : بِئْسَ وَاللَّهِ مَا قُلْتَ ، أَمَا وَاللَّهِ لَنُنَبِّئَنَّهُ ، قُمْ يَا فُلاَنُ ، رَجُلاً مِنْهُمْ ، فَأَخْبِرْهُ ، قَالَ : فَأَدْرَكَهُ رَسُولُهُمْ ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَرَرْتُ بِمَجْلِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ فُلاَنٌ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا السَّلاَمَ ، فَلَمَّا جَاوَزْتُهُمْ أَدْرَكَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فُلاَنًا قَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا الرَّجُلَ فِي اللهِ ، فَادْعُهُ فَسَلْهُ عَلاَمَ يُبْغِضُنِي ؟ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ ، فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ وَقَالَ : قَدْ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَلِمَ تُبْغِضُهُ ؟ قَالَ : أَنَا جَارُهُ وَأَنَا بِهِ خَابِرٌ ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّي صَلاَةً قَطُّ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، قَالَ الرَّجُلُ : سَلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ : هَلْ رَآنِي قَطُّ أَخَّرْتُهَا عَنْ وَقْتِهَا ، أَوْ أَسَأْتُ الْوُضُوءَ لَهَا ، أَوْ أَسَأْتُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِيهَا ؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : لاَ ، ثُمَّ قَالَ : وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يَصُومُ قَطُّ إِلاَّ هَذَا الشَّهْرَ الَّذِي يَصُومُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ رَآنِي قَطُّ أَفْطَرْتُ فِيهِ ، أَوِ انْتَقَصْتُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا ؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : لاَ ، ثُمَّ قَالَ : وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُعْطِي سَائِلاً قَطُّ ، وَلاَ رَأَيْتُهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فِي شَيْءٍ مِنْ سَبِيلِ اللهِ بِخَيْرٍ ، إِلاَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، قَالَ : فَسَلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ كَتَمْتُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا قَطُّ ، أَوْ مَاكَسْتُ فِيهَا طَالِبَهَا ؟ قَالَ : فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لاَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قُمْ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ خَيْرٌ مِنْكَ. (2) .
__________
(1) - الفتح الرباني 14/84
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 856)(23803) 24213- صحيح وصحح إسناده العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين ( 3 / 145 - بهامش الإحياء ) .(1/161)
ومن الأمور المهمة حفظُ مكانة المخطئ بعد توبته ورجوعه لكي يثبت على الاستقامة ويمارس حياة عادية بين الناس ،وقد جاء في قصة المرأة المخزومية التي قُطعت يدها فعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِى سَرَقَتْ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَأُتِىَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ». فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الْعَشِىُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاخْتَطَبَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنِّى وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ». ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِى سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يَدُهَا. قَالَ يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ وَتَزَوَّجَتْ وَكَانَتْ تَأْتِينِى بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . (1)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4506 )(1/162)
(21) توجيهُ الكلام إلى طرفي النزاع في الخطأ المشترك
في كثير من الأحيان يكون الخطأ مشتركا ويكون المخطئ مخطَأً عليه في الوقت نفسه ولكن نسبة الخطأ ربما تتفاوت بين الطرفين فينبغي توجيه الكلام والنصح إلى طرفي الخطأ وفيما يلي مثال:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن أَبِي أَوْفَى، قَالَ: شَكَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:"يَا خَالِدُ، لا تُؤْذِ رَجُلا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا لَمْ تُدْرِكْ عَمَلَهُ، فَقَالَ: يَقَعُونَ فِيَّ فَأَرُدُّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: لا تُؤْذُوا خَالِدًا، فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ صَبَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ" (1)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (20 / 76) (1382 ) حسن(1/163)
(22) مطالبةُ المخطئ بالتحلل ممن أخطأ عليه
عَنْ أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : كَانَتِ الْعَرَب تَخْدُم بَعْضهَا بَعْضًا فِي الْأَسْفَار وَكَانَ مَعَ أَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا رَجُل يَخْدُمهُمَا فَنَامَا فَاسْتَيْقَظَا وَلَمْ يُهَيِّئ لَهُمَا طَعَامًا، فَقَالَا : إِنَّ هَذَا لَنَئُوم فَأَيْقَظَاهُ ،فَقَالَا لَهُ : اِئْتِ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْ لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا يُقْرِئَانِك السَّلَام وَيَسْتَأْدِمَانِك ،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّهُمَا قَدْ اِئْتَدَمَا" فَجَاءَا فَقَالَا يَا رَسُول اللَّه : بِأَيِّ شَيْء اِئْتَدَمْنَا ؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :" بِلَحْمِ أَخِيكُمَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرَى لَحْمه بَيْن ثَنَايَاكُمَا " فَقَالَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: اِسْتَغْفِرْ لَنَا يَا رَسُول اللَّه فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :" مُرَاهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمَا" (1)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَتِ الْعَرَبُ يَخْدُمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْأَسْفَارِ ، وَكَانَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ رَجُلٌ يَخْدُمُهُمَا ، فَنَامَ ، وَاسْتَيْقَظَا وَلَمْ يُهَيِّئْ طَعَامًا ، فَقَالَا : إِنَّ هَذَا لَنَئُومٌ بَيْنَكُمْ . فَأَيْقَظَاهُ فَقَالَا : ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْ لَهُ : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ يُقْرِآنِكَ السَّلَامَ ، وَهُمَا يَسْتَأْدِمَانِكَ . فَأَتَاهُ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " أَخْبِرْهُمَا أَنَّهُمَا قَدِ ائْتَدَمَا " . فَفَزِعَا ، فَجَاءَا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بَعَثْنَا نَسْتَأْدِمُكَ ، فَقُلْتَ : ائْتَدَمَا ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ ائْتَدَمْنَا ؟ فَقَالَ : " بِأَكْلِكُمَا لَحْمَ أَخِيكُمَا ، إِنِّي لَأَرَى لَحْمَهُ بَيْنَ ثَنَايَاكُمْ " . فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَاسْتَغْفِرْ لَنَا . قَالَ : " هُوَ ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمَا " (2)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - الأحاديث المختارة للضياء - (2 / 376) (1697) وتفسير ابن كثير - دار طيبة - (7 / 384) إسناده صحيح
(2) - مَسَاوِئُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (180 ) والأحاديث المختارة للضياء - (2 / 376) (1697) صحيح - يستأدمانك (أي يطلبان الإدام للطعام)(1/164)
(23) تذكيرُ المخطئ بفضل من أخطأ عليه ليندمَ ويعتذر َ
وقد فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما حصل بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فعن أبي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيُّ : سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ ، يَقُولُ : كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ ، عُمَرَ ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا ، وَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ ، وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : وَنَحْنُ عِنْدَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : أَمَا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ قَالَ : وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ ، وَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْخَبَرَ ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ ، يَقُولُ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لأَنَا كُنْتُ أَظْلَمُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي ؟ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي ؟ إِنِّي قُلْتُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ، فَقُلْتُمْ : كَذَبْتَ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْتَ " (1)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ ، فَسَلَّمَ ، وَقَالَ : إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ، ثُمَّ نَدِمْتُ ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي ، فَأَبَى عَلَيَّ ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ ، فَقَالَ : يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ، ثَلاَثًا ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ ، فَسَأَلَ ، أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ ؟ فَقَالُوا : لاَ ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسَلَّمَ ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَمَعَّرُ ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَاللهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ ، مَرَّتَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ ، فَقُلْتُمْ : كَذَبْتَ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقَ ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي ، مَرَّتَيْنِ ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. (2)
__________
(1) - الفوائد لتمام 414 - (1 / 265) (452) وصحيح البخارى- المكنز - (4640)
(2) - المسند الجامع - (14 / 730) (11068) وصحيح البخارى- المكنز - (3661 )
غامر : أي : خاصم، وقد جاء في تفسيره في متن الحديث كذلك ، والمغامرة : المقابلة، ورجل مغامر : يقتحم المهالِكَ، ولا يبالي الموتَ. -التمعُّر : تغيُّر اللون من الغضب.(1/165)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، قَالَ : إِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتَيْهِ , فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ , فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ وَقَدَّمْتُ , فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي , فَأَبَى عَلَيَّ , وَتَحَرَّزَ مِنِّي بِدَارِهِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ , ثَلاَثًا , ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ , فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا وَاللَّهِ كُنْتُ أَظْلِمُ مَرَّتَيْنِ , فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ , فَقُلْتُمْ : كَذَبْتَ , وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْتَ , وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ , فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي ؟ فَمَا آذَوْنِي بَعْدَهَا. " (1)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ ، حَتَّى بَدَا عَنْ رُكْبَتِهِ ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ " . فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عُمَرَ شَيْءٌ ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ، ثُمَّ إِنِّي نَدِمْتُ عَلَى مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ ، سَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي ، فَأَبَى عَلَيَّ ، فَتَتَبَّعْتُهُ التَّتَبُّعَ كُلَّهُ حَتَّى تَحَزَّرَ بِذَلِكَ مِنِّي ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ حِينَ سَأَلَهُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ ، فَأَبَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ ، حَتَّى أَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ ، فَسَأَلَ : هَاهُنَا أَبُو بَكْرٍ ؟ قَالُوا : لَا . فَعَلِمَ أَنَّهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَأَقْبَلَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى سَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَجَعَلَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَغَيَّرُ ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عُمَرَ مَا يَكْرَهُ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَا وَاللَّهِ كُنْتُ أَظْلَمَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ ، فَقُلْتُمْ : كَذَبْتَ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْتَ . وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي ؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي ؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي " ؟ ثَلَاثًا " فَمَا أَدْرِي بَعْدَهَا . تَفَرَّدَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ ، لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهَا أَحَدٌ " (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (2 / 208) (1199) صحيح
(2) - شَرْحُ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِابْنِ شَاهِينَ (104 ) صحيح(1/166)
(24) التدخلُ لتسكين الثائرة ونزع فتيل الفتنة بين المخطئين
وقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في عدد من المواضع ولما أوشك أن يقع بين المسلمين اقتتال تدخّل عليه الصلاة والسلام كما جاء في حادثة الإفك فعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا ، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ ، قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ ، وَأَثْبَتُ لَهُ اقْتِصَاصًا ، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا ، فَخَرَجَ سَهْمِي ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ ، وَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي ، وَأَنْزِلَ فِيهِ ، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ قَفَلَ ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ ، فَآذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ ، فَقُمْتُ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْرِي ، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جِزْعِ أَظْفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي ، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ ، فَأَقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ بِي ، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي ، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ ، وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَثْقُلْنَ ، وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ ، وَإِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ ، فَاحْتَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا ، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ ، فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ ، فَأَقَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي ، فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي ، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ ، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي ، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي وَاللَّهِ مَا تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ ، وَلاَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ ، فَوَطِئَ يَدَهَا ، فَرَكِبْتُهَا ، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَ الإِفْكِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ ، فَقَدِمْنَا(1/167)
الْمَدِينَةَ ، فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ وَيُرِيبُنِي فِي وَجَعِي إِنِّي لاَ أَرَى مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ إِنَّمَا يَدْخُلُ ، فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ : كَيْفَ تِيكُمْ ، وَلاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نَقَهْتُ ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ ، وَكَانَ مُتَبَرَّزَنَا لاَ نُخْرُجُ إِلاَّ لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا ، وَأَمَرُنَا أَمَرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي الْبَرِيَّةِ أَوْ فِي التَّبَرُّزِ ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ نَمْشِي ، فَعَثَرَتْ فِي مِرْطِهَا ، فَقَالَتْ : تَعِسَ مِسْطَحٌ ، فَقُلْتُ لَهَا : بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْرًا ، فَقَالَتْ : يَا هَنَتَاهُ ، أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا ، فَأَخْبَرَتْنِي بِمَا يَقُولُ أَهْلُ الإِفْكِ ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضٍ ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : كَيْفَ تِيكُمْ ، فَقُلْتُ : ائْذَنْ لِي آتَى أَبَوَيَّ ، قَالَتْ : وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا ، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَتَيْتُ أَبَوَيَّ ، فَقُلْتُ لِأُمِّي مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ ، فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّةُ ، هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلاَّ أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا ، فَقُلْتُ : سُبْحَانَ اللهِ لَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ، وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ ، فَأَمَّا أُسَامَةُ ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوُدِّ لَهُمْ ، فَقَالَ : أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، وَلاَ نَعْلَمُ وَاللَّهِ إِلاَّ خَيْرًا ، وَأَمَّا عَلِيٌّ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِيرَةَ ، فَقَالَ : يَا بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا مَا يَرِيبُكِ ؟ فَقَالَتْ : لاَ ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنِ الْعَجِينِ ، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ يَوْمِهِ ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ ، فَقَالَ : مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِي ، وَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَأَنَا وَاللَّهِ أَعْذِرُكَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا ، فَفَعَلْنَا فِيهِ(1/168)
أَمْرَكَ ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحًا ، وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ ، فَقَالَ : كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ لاَ تَقْتُلُهُ ، وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، فَقَالَ : كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ ، فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَجَعَلَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا ، وَمَكَثْتُ يَوْمِي لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ، وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، فَأَصْبَحَ عِنْدِي أَبَوَايَ وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتِي وَيَوْمِي حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي ، قَالَتْ : فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي إِذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجَلَسَ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ لِي مَا قِيلَ قَبْلَهَا ، وَقَدْ مَكَثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ ، قَالَتْ : فَتَشَهَّدَ ، ثُمَّ قَالَ : يَا عَائِشَةُ أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ بِقَطْرَةٍ ، وَقُلْتُ لأَبِي : أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ لِأُمِّي : أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا قَالَ ، قَالَتْ : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَتْ : وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ ، فَقُلْتُ : إِي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا تَحَدَّثَ النَّاسُ ، وَوَقَرَ فِي أَنْفُسِكُمْ ، وَصَدَّقْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي بَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ ، وَإِنِ اعْتَرَفَتْ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي ، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ : {فَصَبَرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِيَ اللَّهُ ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يَنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ وَلَأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي أَمْرِي ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّوْمِ رُؤْيَا تُبَرِّئُنِي ، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ فِي مَجْلِسِهِ ، وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنَ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَنْحَدِرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ يَضْحَكُ ، فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ : يَا عَائِشَةُ ، احْمَدِي اللَّهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ ، فَقَالَتْ لِي(1/169)
أُمِّي : قَوْمِي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ : لاَ وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عَصَبَةٌ مِنْكُمْ} ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ : وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَمَا قَالَ لِعَائِشَةَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إِلَى قَوْلِهِ : {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي ، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ بِالَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصْرِي ، وَكَانَتْ تُسَامِينِي ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ." (1)
وقد ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم وتأخّر من أجل ذلك عن بداية صلاة الجماعة كما في الصحيحين وفي رواية النسائي: عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قال: وَقَعَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ كَلَامٌ حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ ، فَذَهَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ ، فَأَذَّنَ بِلَالٌ ، وَانْتُظِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاحْتُبِسَ ، فَأَقَامَ الصَّلَاةَ ، وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَلَمَّا رَآهُ النَّاسُ صَفَّحُوا ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَمَّا سَمِعَ تَصْفِيحَهُمُ الْتَفَتَ ، فَإِذَا هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرَادَ أَنْ يَتَأَخَّرَ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنِ اثْبُتْ ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَعْنِي يَدَيْهِ - ثُمَّ نَكَصَ الْقَهْقَرَى ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَاةَ ، قَالَ : " مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ ؟ " قَالَ : مَا كَانَ اللَّهُ لِيَرَى ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : " مَا لَكُمْ إِذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلَاتِكُمْ صَفَّحْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَقُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ " (2)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 13) (7099) وصحيح البخارى- المكنز - (2661)
البرحاء : الشدة -الجزع : خرز فيه بياض وسواد -الجمان : اللؤلؤ الصغار وقيل حب يتخذ من الفضة أمثال اللؤلؤ -الداجن : ما يألف البيت من الحيوان -يرقأ : ينقطع -رام : فارق -المُعرس : المستريح -أغمص : أعيب به -المرط : الكساء من صوف وغيره
(2) - سنن النسائي- المكنز - (5430 ) صحيح -صفح : صفق(1/170)
وفي رواية عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - آتٍ فَقَالَ : إِنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَدْ اقْتَتَلُوا وَتَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ ، وَحَانَتِ الصَّلاَةُ ، فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالَ : أَتُصَلِّي فَأُقِيمَ الصَّلاَةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ ، وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ ، وَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ جَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حَيْثُ ذَهَبَ ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُ الصُّفُوفَ حَتَّى بَلَغَ الصَّفَّ الأَوَّلَ ، ثُمَّ وَقَفَ وَجَعَلَ النَّاسُ يُصَفِّقُونَ لِيُؤْذِنُوا أَبَا بَكْرٍ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي الصَّلاَةِ ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْتَفَتَ ، فَإِذَا هُوَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَلْفَهُ مَعَ النَّاسِ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ اثْبُتْ فَرَفَعَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ يَدْعُو ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ الْقَهْقَرَى حَتَّى جَاءَ الصَّفَّ ، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا بَالُكُمْ وَنَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلاَتِكُمْ فَجَعَلْتُمْ تُصَفِّقُونَ ؟ إِذَا نَابَ أَحَدَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحِ فَإِنَّمَا التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ . ثُمَّ قَالَ لأَبِي بَكْرٍ : لِمَ رَفَعْتَ يَدَيْكَ ؟ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : رَفَعْتُ يَدَيَّ ؛ لأَنِّي حَمِدْتُ عَلَى مَا رَأَيْتُ مِنْكَ ، وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَؤُمَّ رَسُولَ اللَّهِ." (1)
ومثله إصلاحه للفتنة التي أثارها عبد الله بن أبي بن أبي سلول المنافق ، فعَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَخْبَرَهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الحَارِثِ بْنِ الخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ ، قَالَ : حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ، فَإِذَا فِي المَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنَ المُسْلِمِينَ وَالمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَاليَهُودِ وَالمُسْلِمِينَ ، وَفِي المَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتِ المَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ ، خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ، ثُمَّ قَالَ : لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا ، فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ : أَيُّهَا المَرْءُ إِنَّهُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ ، إِنْ كَانَ حَقًّا فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا ، ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا ،
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 594)(22863) 23251- صحيح(1/171)
فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ ، فَاسْتَبَّ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَاليَهُودُ ، حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ ، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا ، ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ ؟ - يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ - قَالَ : كَذَا وَكَذَا " ، قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ عَنْهُ ، فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ ، لَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ البُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالعِصَابَةِ ، فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِكَ ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ ، فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ المُشْرِكِينَ ، وَأَهْلِ الكِتَابِ ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا الآيَةَ ، وَقَالَ اللَّهُ : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ إِلَى آخِرِ الآيَةِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَأَوَّلُ العَفْوَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ ، حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَدْرًا ، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ ، قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ : هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ ، فَبَايَعُوا الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَمُوا " (1)
وفي الحديث بيان ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه من الصفح والحلم والصبر على الأذى في الله والدعاء إلى الله وتأليف القلوب على ذلك، وفيه أن ركوب الحمار لا نقص فيه على الكبار. وفيه ما كان الصحابة عليه من تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأدب منه والمحبة الشديدة، وأن الذي يشير على الكبير بشيء يورده بصورة العرض عليه لا الجزم. وفيه جواز المبالغة في المدح لأن الصحابي أطلق أن ريح الحمار أطيب من ريح عبد الله بن أبي وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. (2)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4566 ) و صحيح مسلم- المكنز - (4760)
شرق : غص به ولم يسيغه والمراد أنه حسد النبى -الصناديد : جمع صنديد وهو كل عظيم شريف رئيس متغلب -العجاجة : ما ارتفع من غبار حوافرها
(2) - فتح الباري لابن حجر - (5 / 299)(1/172)
(25) إظهارُ الغضب من الخطأ
إذا رآه أو سمع به وخصوصا عندما يكون الخطأ متعلقا بالاعتقاد ومن ذلك الخوض في القدر والتنازع في القرآن: ففي سنن ابن ماجة عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِى الْقَدَرِ فَكَأَنَّمَا يُفْقَأُ فِى وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ فَقَالَ « بِهَذَا أُمِرْتُمْ أَوْ لِهَذَا خُلِقْتُمْ تَضْرِبُونَ الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ.بِهَذَا هَلَكَتِ الأُمَمُ قَبْلَكُمْ ». قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو مَا غبَطْتُ نَفْسِى بِمَجْلِسٍ تَخَلَّفْتُ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا غَبَطْتُ نَفْسِى بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَتَخَلُّفِى عَنْهُ." (1)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ نَفَرًا كَانُوا جُلُوسًا بِبَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا ؟ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَخَرَجَ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ ، فَقَالَ : بِهَذَا أُمِرْتُمْ ؟ أَوْ بِهَذَا بُعِثْتُمْ ؟ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ؟ إِنَّمَا ضَلَّتِ الأُمَمُ قَبْلَكُمْ فِي مِثْلِ هَذَا ، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِمَّا هَاهُنَا فِي شَيْءٍ ، انْظُرُوا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ ، فَاعْمَلُوا بِهِ ، وَالَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ ، فَانْتَهُوا. (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَلَى الصَّحَابَةِ وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقَدَرِ ، هَذَا يَنْزِعُ آيَةً وَهَذَا يَنْزِعُ آيَةً فَكَأَنَّمَا فَقِيَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ : " بِهَذَا أُمِرْتُمْ - أَوْ - بِهَذَا وُكِّلْتُمْ "" أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ، انْظُرُوا إِلَى مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَاتَّبِعُوهُ وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ " (3)
ومما حصل من غضبه - صلى الله عليه وسلم - إنكارا في مسألة من الأساسات ما حصل في قصة عمر رضي الله عنه في قضية مصدر التلقي فقد روى أحمد رحمه الله تعالى في مسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ ، فَقَرَأَهُ
__________
(1) - سنن ابن ماجه- المكنز - (90 ) صحيح - غبطت : استحسنت فعل نفسى
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 666)6845- صحيح
(3) - شَرْحُ أُصُولِ الاعْتِقَادِ (888 ) صحيح(1/173)
عَلَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَغَضِبَ وَقَالَ : أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً ، لاَ تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا ، مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي." (1)
وعَنْ جَابِرٍ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِنُسْخَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ نُسْخَةٌ مِنَ التَّوْرَاةِ.فَسَكَتَ فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَغَيَّرُ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ ، أَمَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَمِنْ غَضَبِ رَسُولِهِ ، رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِى لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِى لاَتَّبَعَنِى ». (2)
وعَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ الْكُتُبِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أَصَبْتُ كِتَابًا حَسَنًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ : فَغَضِبَ وَقَالَ : " أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً ، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُحُدِّثُونَكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتَصَدَّقُوا بِهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي " (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ ، وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ أَحْدَثُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِرَبِّهِ ، تَقْرَءُونَهُ غَضًّا لَمْ يُشَبْ ؟ أَلَمْ يُخْبِرْكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ قَدْ غَيَّرُوا كِتَابَ اللَّهِ وَبَدَّلُوهُ وَكَتَبُوا الْكُتُبَ بِأَيْدِيهِمْ ، وَقَالُوا هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ؟ أَلَا يَنْهَاكُمُ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَكُمْ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ " (4)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 243)(15156) 15223- حسن - متهوكون أي: متحيرون
(2) - سنن الدارمى- المكنز - (443) حسن
(3) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ (950 ) حسن
(4) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ (949 ) صحيح(1/174)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَعَهُ جَوَامِعُ مِنَ التَّوْرَاةِ فَقَالَ: مَرَرْتُ عَلَى أَخٍ لِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَفَلَا أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ: أَمَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالَ عُمَرُ: رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، فَذَهَبَ مَا كَانَ بِوَجْهِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى أَصْبَحَ فِيكُمْ، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ ، أَنْتُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ " (1)
وعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، رِضْوَانُ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُحَدِّثُونَنَا بِأَحَادِيثَ قَدْ أَخَذَتْ بِقُلُوبِنَا وَقَدْ هَمَمْنَا أَنَّ نَكْتُبُهَا . فَقَالَ : " يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، أَمُتَهَوِّكُنَّ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً ، وَلَكِنِّي أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ، وَاخْتُصِرَ لِيَ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا " (2)
ونلاحظ في شواهد هذه القصة الدور المساند للمربي من قِبَل الحاضرين مع ملاحظة تغيّر وجه المربي واتخاذ الموقف بناء على ذلك، ولا شك أنّ اجتماع هذه الأمور يُحدث في نفس الموعوظ الأثر البالغ فإن العملية مرّت بالمراحل التالية:
أولا: الانفعال الذي حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتغير وجهه غضبا قبل أن يتكلم
ثانيا: ملاحظة الصديق وعبد الله بن زيد لذلك وتنبيه عمر عليه
ثالثا: تنبه عمر لخطئه ومبادرته إلى تصحيح ذلك والاعتذار عما فعل مستعيذا بالله من غضب الله وغضب رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومعلنا للأصل الأصيل من الرضى بالله ورسوله ودينه
رابعا: انفراج أسارير النبي - صلى الله عليه وسلم - من رجوع عمر وإدراكه لخطئه
خامسا: التعقيب النبوي الكريم في تثبيت الأصل والتأكيد عليه من وجوب اتباع شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من مصادر التلقي الأخرى.
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (3 / 1600) (4030 ) وفَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الضُّرَيْسِ(88 ) فيه ضعف
(2) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الضُّرَيْسِ( 87 ) فيه انقطاع(1/175)
ومما حصل من غضبه - صلى الله عليه وسلم - لرؤية منكر ما ورد في صحيح البخاري رحمه الله عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِى الْقِبْلَةِ ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِىَ فِى وَجْهِهِ ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ « إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِى صَلاَتِهِ ، فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ - أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ - فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ ، أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ » . ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ ، فَقَالَ « أَوْ يَفْعَلْ هَكَذَا » (1) .
ومما حصل من غضبه - صلى الله عليه وسلم - عند سماعه لخطأ أدّى إلى مفسدة فغَنْ أَبِى مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنِّى لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا قَالَ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ قَالَ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ » (2) .
وعَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّى وَاللَّهِ لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا . قَالَ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ، ثُمَّ قَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ » (3) .
ومن هذا الباب أيضا إظهار المفتي للغضب عند تكلّف المستفتي وتعنّته فعن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَالَ « عَرِّفْهَا سَنَةً ، ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا ، وَإِلاَّ فَاسْتَنْفِقْهَا » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ « لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ » . قَالَ ضَالَّةُ الإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ « مَا لَكَ وَلَهَا ، مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا ، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ » (4) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (405 ) - نخامة : النخامة : بزقة تخرج من أصل الحلق من مخرج الخاء.
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6110 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (7159)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2427 )
الحذاء : أراد أنها تقوى على المشى -العفاص : الوعاء الذى تكون فيه النفقة -تمعر : تغير
استنفقها : اجعلها فى نفقتك -الوكاء : الخيط الذى تشد به الصرة والكيس وغيرهما(1/176)
إنَّ انفعال المربي المتوازن مع الخطأ عند حدوثه أو رؤيته أو سماعه بحيث يُرى ذلك في وجهه ويُعرف في صوته وأسلوبه هو علامة حياة في القلب ضدّ المنكر وعدم السكوت عليه حتى يقع في قلوب الحاضرين الرهبة من ذلك الخطأ، ويعمل الكلام وقت الانفعال في النفوس عمله المؤثر هذا بخلاف كتم الأمر أو تأخيره فربما يبرد أو يزول أثر التعليق.
وقد يكون من الحكمة تأخير التعليق على الحادثة المنكرة أو الكلام الخطير الخاطئ إلى حين جمع الناس أو اجتماعهم لأجل أهمية الأمر أو لعدم وجود العدد الكافي الذي يتعظ وينقل، ولا مانع من تعليقين خاص مباشر وعام مؤخر فعَنْ أَبِى حُمَيْدٍ السَّاعِدِىِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَ عَامِلاً فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكُمْ ، وَهَذَا أُهْدِىَ لِى . فَقَالَ لَهُ « أَفَلاَ قَعَدْتَ فِى بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لاَ » . ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ « أَمَّا بَعْدُ ، فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ ، فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ ، وَهَذَا أُهْدِىَ لِى . أَفَلاَ قَعَدَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ ، فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا ، إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ ، وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ ، فَقَدْ بَلَّغْتُ » . فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ . قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ وَقَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مَعِى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلُوهُ . (1)
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - 162/8(6636)
الخوار : صوت البقرة -الرغاء : صوت الإبل -العفرة : بياض مشوب بالسمرة -تيعر : تصيح وتصوت صوتا شديدا(1/177)
(26) التولي عن المخطئ وترك جداله لعله يراجعُ الصواب
عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى عَلِىُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِىٍّ - رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُمْ « أَلاَ تُصَلُّونَ » . فَقَالَ عَلِىٌّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا ، ثُمَّ سَمِعَهُ وَهْوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهْوَ يَقُولُ {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (54) سورة الكهف (1) .
ويؤخذ منه أن عليا ترك فعل الأولى، وإن كان ما احتج به متجها، ومن ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية ولم يلزمه مع ذلك بالقيام إلى الصلاة، ولو كان امتثل وقام لكان أولى، ويؤخذ منه الإشارة إلى مراتب الجدال فإذا كان فيما لا بد له منه تعين نصر الحق بالحق، فإن جاوز الذي ينكر عليه المأمور نسب إلى التقصير، وإن كان في مباح اكتفى فيه بمجرد الأمر والإشارة إلى ترك الأولى، وفيه أن الإنسان طبع على الدفاع عن نفسه بالقول والفعل، وأنه ينبغي له أن يجاهد نفسه أن يقبل النصيحة ولو كانت في غير واجب. وأن لا يدفع إلا بطريق معتدلة من غير إفراط ولا تفريط، ونقل ابن بطال عن المهلب ما ملخصه: أن عليا لم يكن له أن يدفع ما دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه من الصلاة بقوله ذلك، بل كان عليه الاعتصام بقوله، فلا حجة لأحد في ترك المأمور انتهى، ومن أين له أن عليا لم يمتثل ما دعاه إليه فليس في القصة تصريح بذلك، وإنما أجاب على بما ذكر اعتذارا عن تركه القيام بغلبة النوم، ولا يمتنع أنه صلى عقب هذه المراجعة إذ ليس في الخبر ما ينفيه. وقال الكرماني حرضهم النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبار الكسب والقدرة الكاسبة، وأجاب علي باعتبار القضاء والقدر، قال: وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - فخذه تعجبا من سرعة جواب علي، ويحتمل أن يكون تسليما لما قال: وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة، في هذا الحديث من الفوائد مشروعية التذكير للغافل خصوصا القريب والصاحب، لأن الغفلة من طبع البشر فينبغي للمرء أن يتفقد
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7347 )(1/178)
نفسه ومن يحبه بتذكير الخير والعون عليه، وفيه أن الاعتراض بأثر الحكمة لا يناسبه الجواب. بأثر القدرة، وأن للعالم إذا تكلم بمقتضى الحكمة في أمر غير واجب، أن يكتفي من الذي كلمه في احتجاجه بالقدرة، يؤخذ الأول من ضربه - صلى الله عليه وسلم - على فخذه، والثاني من عدم إنكاره بالقول صريحا.قال: وإنما لم يشافهه بقوله {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} لعلمه أن عليا لا يجهل أن الجواب بالقدرة ليس من الحكمة، بل يحتمل أن لهما عذرا يمنعهما من الصلاة فاستحيا على من ذكره، فأراد دفع الخجل عن نفسه وعن أهله فاحتج بالقدرة، ويؤيده رجوعه - صلى الله عليه وسلم - عنهم مسرعا، قال: ويحتمل أن يكون علي أراد بما قال استدعاء جواب يزداد به فائدة، وفيه جواز محادثة الشخص نفسه فيما يتعلق بغيره، وجواز ضربه بعض أعضائه عند التعجب وكذا الأسف، ويستفاد من القصة أن من شأن العبودية أن لا يطلب لها مع مقتضى الشرع معذرة إلا الاعتراف بالتقصير والأخذ في الاستغفار، وفيه فضيلة ظاهرة لعلي من جهة عظم تواضعه لكونه روى هذا الحديث مع ما يشعر به عند من لا يعرف مقداره أنه يوجب غاية العتاب، فلم يلتفت لذلك بل حدث به لما فيه من الفوائد الدينية انتهى ملخصا (1)
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (13 / 314)(1/179)
(27) عتابُ المخطئ
كما فعل النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مع حاطب رضي الله عنه حينما علم أنه أرسل إلى كفار قريش يخبرهم بنية المسلمين في التوجّه إلى مكة لفتحها فإنه قال له: « مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ » . قَالَ مَا بِى إِلاَّ أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَا غَيَّرْتُ وَلاَ بَدَّلْتُ ، أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى ، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلاَّ وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ . قَالَ « صَدَقَ فَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا » . قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، فَدَعْنِى فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ . قَالَ فَقَالَ « يَا عُمَرُ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ » . قَالَ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ (1) .
وفي هذه القصة عدد من الفوائد التربوية العظيمة:
1ـ معاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابي المخطئ خطأ بالغا بقوله له: ما حملك على ما صنعت.
2ـ الاستعلام عن السبب الذي دفع بالمخطئ إلى الخطأ وهذا لاشك سيؤثر في الموقف الذي سيُتّخذ منه.
3 ـ أن أصحاب الفضل والسابقة ليسوا معصومين من الذنب الكبير.
4 ـ أنّ على المربي أن يكون واسع الصدر في تحمّل أخطاء أصحابه ليدوموا معه على المنهج السويّ فالغرض إصلاحهم لا إبعادهم.
5 ـ أن على المربي أن يقدّر لحظة الضعف البشري التي قد تمرّ ببعض من معه وأن لا يُؤخذ بسقطة قوية وخطأ فظيع قد يقع من بعض القُدامى.
6ـ المدافعة عمن يستحق الدفاع عنه من المخطئين
7ـ أن المخطئ إذا كانت له حسنات عظيمة سابقة فلا بدّ أن تؤخذ بالاعتبار عند تقويم خطئه واتخاذ موقف منه.
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6259 ) 72/8(1/180)
(28) لومُ المخطئ
الخطأ الواضح لا يُمكن السكوت عليه ولا بد من توجيه لوم وتأنيب إلى المخطئ بادئ ذي بدئ ليحسَّ بخطئه ،فعَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ : كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ المَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الخُمُسِ ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِيَ ، فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ ، وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي ، فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعًا مِنَ الأَقْتَابِ ، وَالغَرَائِرِ ، وَالحِبَالِ ، وَشَارِفَايَ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ ، رَجَعْتُ حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ ، فَإِذَا شَارِفَايَ قَدْ اجْتُبَّ أَسْنِمَتُهُمَا ، وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا ، فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ المَنْظَرَ مِنْهُمَا ، فَقُلْتُ : مَنْ فَعَلَ هَذَا ؟ فَقَالُوا : فَعَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ وَهُوَ فِي هَذَا البَيْتِ فِي شَرْبٍ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي وَجْهِي الَّذِي لَقِيتُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا لَكَ ؟ " ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ قَطُّ ، عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ ، فَأَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا ، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا ، وَهَا هُوَ ذَا فِي بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ ، فَدَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرِدَائِهِ ، فَارْتَدَى ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ البَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ ، فَاسْتَأْذَنَ ، فَأَذِنُوا لَهُمْ ، فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ ، " فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ " ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ ، مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ ، فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ ، فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِهِ ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ ، فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ ، فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ : هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي ؟ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ ، فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عَقِبَيْهِ القَهْقَرَى ، وَخَرَجْنَا مَعَهُ" (1)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3091 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5244)
بَقر : شقَّ -اجتب : اقتطع -الشارف : الناقة المسنة -الغرائر : جمع غرارة وهى وعاء من الخيش ونحوه يوضع فيه القمح وغيره -الأقتاب : جمع قتب وهو رحل صغير على قدر السنام كالسَّرج للخيل والبردعة للحمار(1/181)
وفي رواية عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَنَّهُ قَالَ : أَصَبْتُ شَارِفًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ ، قَالَ : " وَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَارِفًا أُخْرَى " ، فَأَنَخْتُهُمَا يَوْمًا عِنْدَ بَابِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرًا لِأَبِيعَهُ ، وَمَعِي صَائِغٌ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ ، فَأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى وَلِيمَةِ فَاطِمَةَ ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ يَشْرَبُ فِي ذَلِكَ البَيْتِ مَعَهُ قَيْنَةٌ ، فَقَالَتْ :
أَلاَ يَا حَمْزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ
فَثَارَ إِلَيْهِمَا حَمْزَةُ بِالسَّيْفِ فَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا ، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا ، - قُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ وَمِنَ السَّنَامِ ؟ قَالَ : قَدْ جَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا ، فَذَهَبَ بِهَا ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : - قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَنَظَرْتُ إِلَى مَنْظَرٍ أَفْظَعَنِي ، فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، فَأَخْبَرْتُهُ الخَبَرَ ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ زَيْدٌ ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ ، فَدَخَلَ عَلَى حَمْزَةَ ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ ، فَرَفَعَ حَمْزَةُ بَصَرَهُ ، وَقَالَ : هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِآبَائِي ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَهْقِرُ حَتَّى خَرَجَ عَنْهُمْ ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الخَمْرِ " (1)
قال أبو داود: سمعت أحمد بن صالح يقول: في هذا الحديث أربع وعشرون سنة. قلت: وفيه أن الغانم يعطى من الغنيمة من جهتين: من الأربعة أخماس بحق الغنيمة، ومن الخمس إذا كان ممن له فيه حق. وأن لمالك الناقة الانتفاع بها في الحمل عليها. وفيه الإناخة على باب الغير إذا عرف رضاه بذلك وعدم تضرره به. وأن البكاء الذي يجلبه الحزن غير مذموم. وأن المرء قد لا يملك دمعه إذا غلب عليه الغيظ. وفيه ما ركب في الإنسان من الأسف على فوت ما فيه نفعه وما يحتاج إليه. وأن استعداء المظلوم على من ظلمه وإخباره بما ظلم به خارج عن الغيبة والنميمة. وفيه قبول خبر الواحد. وجواز الاجتماع في الشرب المباح. وجواز تناول ما يوضع بين أيدي القوم. وجواز الغناء بالمباح من القول. وإنشاد الشعر والاستماع من الأمة. والتخير فيما يأكله. وأكل الكبد وإن كانت دما. وفيه أن السكر كان مباحا في صدر الإسلام، وهو رد على من زعم أن السكر لم يبح
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2375) وصحيح مسلم- المكنز - (5242 )(1/182)
قط. ويمكن حمل ذلك على السكر الذي معه التمييز من أصله. وفيه مشروعية وليمة العرس.ومشروعية الصياغة والتكسب بها. وجواز جمع الإذخر وغيره من المباحات والتكسب بذلك. وفيه الاستعانة في كل صناعة بالعارف بها. قال المهلب: وفيه أن العادة جرت بأن جناية ذوي الرحم مغتفرة. قلت: وفيه نظر لأن ابن أبي شيبة روى عن أبي بكر بن عياش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغرم حمزة ثمن الناقتين. وفيه علة تحريم الخمر. وفيه أن للإمام أن يمضي إلى بيت من بلغه أنهم على منكر ليغيره. وقال غيره: فيه حلُّ تذكية الغاصب، لأن الظاهر أنه ما بقر خواصرهما وجب أسنمتهما إلا بعد التذكية المعتبرة. وفيه سنة الاستئذان في الدخول، وأن الإذن للرئيس يشمل أتباعه، لأن زيد بن حارثة وعليا دخلا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كان استأذن فأذنوا له. وأن السكران يلام إذا كان يعقل اللوم. وأن للكبير في بيته أن يلقي رداءه تخفيفا. وأنه إذا أراد لقاء أتباعه يكون على أكمل هيئة لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يخرج إلى حمزة أخذ رداءه. وأن الصاحي لا ينبغي له أن يخاطب السكران. وأن الذاهب من بين يدي زائل العقل لا يوليه ظهره كما تقدم. وفيه إشارة إلى عظم قدر عبد المطلب. وجواز المبالغة في المدح لقول حمزة هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ ومراده كالعبيد، ونكتة التشبيه أنهم كانوا عنده في الخضوع له وجواز تصرفه في مالهم في حكم العبيد. وفيه أن الكلام يختلف باختلاف القائلين. قلت: وفي كثير من هذه الانتزاعات نظر. والله أعلم. (1)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (6 / 201)(1/183)
(29) الإعراضُ عن المخطئ
عن حُمَيْدَ قَالَ : أَتَانِيُ أَبُو الْعَالِيَةِ أَنَا وَصَاحِبًا لِي قَالَ : فَقَالَ لَنَا : هَلُمَّا فَأَنْتُمَا أَشَبُّ مِنِّي سِنًّا ، وَأَوْعَى لِلْحَدِيثِ مِنِّي قَالَ : فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى بِشْرِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ : فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ تُحَدِّثُ هَذَيْنِ حَدِيثَكَ قَالَ : حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : أَبُو النَّضْرِ اللَّيْثِيُّ قَالَ بَهْزٌ ، وَكَانَ مِنْ رَهْطِهِ ، قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً قَالَ : فَأَغَارَتْ عَلَى قَوْمٍ قَالَ : فَشَذَّ مِنَ الْقَوْمِ رَجُلٌ قَالَ : فَأَتْبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ السَّرِيَّةِ شَاهِرًا سَيْفَهُ قَالَ : فَقَالَ الشَّاذُّ مِنَ الْقَوْمِ : إِنِّي مُسْلِمٌ . قَالَ : فَلَمْ يَنْظُرْ فِيمَا قَالَ . فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ . قَالَ : فَنَمَى الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : فَقَالَ فِيهِ قَوْلاً شَدِيدًا ، فَبَلَغَ الْقَاتِلَ قَالَ : فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ إِذْ قَالَ الْقَاتِلُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَاللَّهِ مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلاَّ تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ . قَالَ : فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، وَعَمَّنْ قِبَلَهُ مِنَ النَّاسِ ، وَأَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ أَيْضًا : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلاَّ تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَعَمَّنْ قِبَلَهُ مِنَ النَّاسِ وَأَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَصْبِرْ فَقَالَ الثَّالِثَةَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَاللَّهِ مَا قَالَ إِلاَّ تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ : فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، تُعْرَفُ الْمَسَاءَةُ فِي وَجْهِهِ ، قَالَ لَهُ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبَى عَلَى لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. (1)
وعَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ أَنَّ أَبَا النَّجِيبِ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ مِنْ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ « إِنَّكَ جِئْتَنِى وَفِى يَدِكَ جَمْرَةٌ مِنْ نَارٍ » (2) .
وعَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ ، أَنَّ أَبَا النَّجِيبِ ، مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ، حَدَّثَهُ : أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ مِنْ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ خَاتَمُ ذَهَبٍ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَحَدَّثَهَا ، فَقَالَتْ : إِنَّ لَكَ لَشَأْنًا ، فَارْجِعْ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ ، فَأَلْقَى خَاتَمَهُ وَجُبَّةً
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 482)(22490) 22857- صحيح
(2) - سنن النسائي- المكنز - (5205 ) صحيح(1/184)
كَانَتْ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ أُذِنَ لَهُ ، وَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ أَعْرَضْتَ عَنِّي قَبْلُ حِينَ جِئْتُكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّكَ جِئْتَنِي وَفِي يَدِكَ جَمْرَةٌ مِنْ نَارٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ جِئْتُ إِذًا بِجَمْرٍ كَثِيرٍ ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ بِحُلِيٍّ مِنَ الْبَحْرَيْنِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ مَا جِئْتَ بِهِ غَيْرُ مُغْنٍ عَنَّا شَيْئًا ، إِلاَّ مَا أَغْنَتْ حِجَارَةُ الْحَرَّةِ ، وَلَكِنَّهُ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فَقَالَ الرَّجُلُ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ اعْذُرْنِي فِي أَصْحَابِكَ ، لاَ يَظُنُّونَ أَنَّكَ سَخِطْتَ عَلَيَّ بِشَيْءٍ ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَعَذَرَهُ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ لِخَاتَمِهِ الذَّهَبِ . (1) .
وفي رواية عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَأَلْقَاهُ وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ ، فَقَالَ : هَذَا شَرٌّ ، هَذَا حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ ، فَأَلْقَاهُ ، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ ، فَسَكَتَ عَنْهُ. (2) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 41)(11109) 11125- صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 598)6518- حسن - الورق : الفضة(1/185)
(30) هجرُ المخطئ
وأسلوب الهجر أسلوب تأثير بيِّن ، وواضح في نفس المخطئ ، وخصوصاً إذا أحدث المخطئ خطأً عظيماً ، وارتكب ذنباً جسيماً ، وذلك لِمَا للهجر من أثر على نفسه ، حيث يسبب له هذا الهجر ابتعاداً عن الناس ، فلا يجالسونه ، ولا يبتاعون منه ولا يشترون ، بل وقد يحذِّرون منه ، فتزداد عزلته عنهم ، ولذا فلا بد من هذا الهجر ، لأن من الناس من لا ينفع معه إلا هذا الأسلوب ، وبالتالي فلا يُصار إليه إلا بعد أن يظهر خطؤه ، وتبين له زلته ، ويوعظ بالموعظة الحسنة، فإذا لم يُجْدِ ذلك، ووجد المصحِّح أن الهجر هو علاجه فيُصار إليه.
والْهَجْرُ الشَّرْعِيُّ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى التَّرْكِ لِلْمُنْكَرَاتِ . وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا .
فَالْأَوَّلُ : هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (68) سورة الأنعام . وقَوْله تَعَالَى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (140) سورة النساء . فَهَذَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ الْمُنْكَرَاتِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِثْلَ قَوْمٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ يَجْلِسُ عِنْدَهُمْ . وَقَوْمٌ دُعُوا إلَى وَلِيمَةٍ فِيهَا خَمْرٌ وَزَمْرٌ لَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُمْ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . بِخِلَافِ مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُمْ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَوْ حَضَرَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : حَاضِرُ الْمُنْكَرِ كَفَاعِلِهِ (1)
والأصل في الهجر أنه لا يجوز ولا يُصار إليه ، فعَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِى يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ » (2) . .
« قال العلماء : في هذا الحديث . تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال ، وإباحتها في الثلاث الأُول بنصّ الحديث ، والثاني بمفهومه .
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (28 / 203)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6077 )(1/186)
قالوا : وإنما عُفي عنها في الثلاثة لأن الآدمي مجبول على الغضب، وسوء الخلق ونحو ذلك ، فعُفي عن الهجر في الثلاثة ليذهب ذلك العارض » (1) .
وكذلك من عدم جواز الهجر ، وخصوصاً هجر المسلم لأخيه المسلم ، أن ذلك الهجر قد يكون فيه حظ للإنسان من هوى نفسه . وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه (2) .
وقد ورد كذلك النهي عن هذا النوع من الهجر ، وبيان أنه يحرمُ الإنسان من الخير وزيادة الدرجات ومغفرة السيئات ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ». (3)
وهذا كله في الهجر لحقّ نفسه ، ولذا ينبغي أن يفرّق بين هذا ، وبين الهجر لحقّ الله ، فالأول منهي عنه والثاني مأمور به .
ولا شك أن الهجر لحقّ الله من العقوبات الشرعية فهو من جنس الجهاد في سبيل (4) .
ولذا فقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتجلى ذلك في قصة الثلاثة الذين تخلفوا في المدينة حتى أنزل الله تبارك وتعالى توبتهم.
وفعله كذلك الصحابة رضي الله عنهم ، فقد ورد عن عائشة أنها هجرت عبد الله بن الزبير رضي الله عنه (5) ، وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يضحك في جنازة ، فقال : أتضحك مع الجنازة ؟ لا أكلَّمُك أبداً (6) .
وغير ذلك مما ورد عن أن الصحابة فعلوا هذا الأمر - الهجر - وعدّوه من أبواب التّأديب ، وخصوصاً إذا عُرف أنه أنسب للإنسان في حاله ، وأصلح له لرجوعه إلى الحق
__________
(1) - شرح صحيح مسلم للنووي : 6 / 90 .
(2) - انظر مجموع الفتاوى 28 / 207 .
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6709) -أنظروا : أخروا وأمهلوا
(4) - انظر : مجموع الفتاوى : 28 / 208 .
(5) - أخرجه البخاري كتاب الأدب ، باب الهجرة ... حديث رقم ( 6073 ) .
(6) - الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 230 .(1/187)
والصواب ، ولهذا يجب على من أراد تصحيح الأخطاء أن يفعل هذا - الهجر - مع البعض إذا علم أن في ذلك مصلحة لهم ، وسبب في تصحيح خطئهم.
أمَّا ما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اتخاذه أسلوب الهجر لأجل تصحيح الأخطاء ، فذلك جليُّ واضح ، كما في قصة الثلاثة الذين تخلّفوا ، فعَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا ، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةَ تَبُوكَ إِلاَّ بَدْرٍ ، وَلَمْ يُعَاتِبِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ ، إِنَّمَا خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ الْعِيرَ ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ مُغِيثِينَ لِعِيرِهِمْ ، فَالْتَقَوْا عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ ، وَلَعَمْرِي إِنَّ أَشْرَفَ مَشَاهِدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّاسِ لَبَدْرٌ ، وَمَا أُحِبُّ أَنِّي كُنْتُ شَهِدْتُهَا مَكَانَ بَيْعَتِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ ، وَلَمْ أَتَخَلَّفْ بَعْدُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا ، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ ، وَهِيَ آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا ، آذَنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ بِالرَّحِيلِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ ،وَذَلِكَ حِينَ طَابَ الظِّلاَلُ وَطَابَتِ الثِّمَارُ ، وَكَانَ قَلَّمَا أَرَادَ غَزْوَةً إِلاَّ وَرَّى غَيْرَهَا ، وَكَانَ يَقُولُ : الْحَرْبُ خُدْعَةٌ ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنْ يَتَأَهَّبَ النَّاسُ أُهْبَتَهُ ، وَأَنَا أَيْسَرُ مَا كُنْتُ ، قَدْ جَمَعْتُ رَاحِلَتَيْنِ لِي ، فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غَادِيًا بِالْغَدَاةِ ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، فَأَصْبَحَ غَادِيًا ، فَقُلْتُ : أَنْطَلِقُ إِلَى السُّوقِ وَأَشْتَرِي جِهَازِي ، ثُمَّ أَلْحَقُ بِهَا ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى السُّوقِ مِنَ الْغَدِ ، فَعَسُرَ عَلَيَّ بَعْضُ شَأْنِي فَرَجَعْتُ ، فَقُلْتُ : أَرْجِعُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَلْحَقُ بِهِمْ ، فَعَسُرَ عَلَيَّ بَعْضُ شَأْنِي أَيْضًا ، فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى لَبَّسَ بِيَ الذَّنْبُ ، وَتَخَلَّفْتُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ وَأَطْرَافِ الْمَدِينَةِ فَيُحْزِنُنِي أَنْ لاَ أَرَى أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ ، وَكَانَ لَيْسَ أَحَدٌ تَخَلَّفَ إِلاَّ أَرَى ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ ، وَكَانَ النَّاسُ كَثِيرًا لاَ يَجْمَعُهُمْ دِيوَانٌ ، وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً ،وَلَمْ يَذْكُرْنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ ، فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ ، قَالَ : مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي : خَلَّفَهُ يَا رَسُولَ اللهِ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : بِئْسَ مَا قُلْتَ ، وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللهِ مَا نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا ، قَالَ : فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذَا رَجُلٌ يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ(1/188)
- صلى الله عليه وسلم - : كُنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ ، فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَزْوَةَ تَبُوكَ ، وَقَفَلَ وَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ جَعَلْتُ أَتَذَكَّرُ مَاذَا أَخْرُجُ بِهِ مِنْ سَخَطِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، حَتَّى إِذَا قِيلَ : النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُصَبِّحُكُمْ بِالْغَدَاةِ ، رَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لاَ أَنْجُو إِلاَّ بِالصِّدْقِ ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ضَحًى ، فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَعَلَ ذَلِكَ ، دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ جَلَسَ فَجَعَلَ يَأْتِيهِ مَنْ تَخَلَّفَ ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ ، فَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَقْبَلُ عَلاَنِيَتَهُمْ ، وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ ، فَلَمَّا رَآنِي تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ، فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرًا ، قُلْتُ : بَلَى يَا نَبِيَّ اللهِ ، فَقَالَ : مَا خَلَّفَكَ عَنِّي ؟ فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لَوْ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرِكَ جَلَسْتُ لَخَرَجْتُ مِنْ سَخَطِهِ عَلَيَّ بِعُذْرٍ ، وَلَقَدْ أُوتِيتُ جَدَلاً وَلَكِنِّي قَدْ عَلِمْتُ يَا نَبِيَّ اللهِ أَنِّي إِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ بِقَوْلٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ وَهُوَ حَقٌّ ، فَإِنِّي أَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللهِ ، وَإِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ بِحَدِيثٍ تَرْضَى عَنِّي فِيهِ وَهُوَ كَذِبٌ أَوْشَكَ أَنْ يُطْلِعَكَ اللَّهُ عَلَيَّ ، وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَيْسَرَ ، وَلاَ أَخَفَّ حَاذًا مِنِّي ، حَيْثُ تَخَلَّفْتُ عَلَيْكَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَكُمُ الْحَدِيثَ ، قُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ.
فَقُمْتُ فَثَارَ عَلَى أَثَرِي نَاسٌ مِنْ قَوْمِي يُؤَنِّبُونَنِي ، فَقَالُوا : وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَطُّ قَبْلَ هَذَا ، فَهَلاَّ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعُذْرٍ يَرْضَاهُ عَنْكَ فِيهِ ، وَكَانَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَيَأْتِي مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ ، وَلَمْ تَقِفْ مَوْقِفًا لاَ نَدْرِي مَاذَا يُقْضَى لَكَ فِيهِ ، فَلَمْ يَزَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى هَمَمْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي ، فَقُلْتُ هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ غَيْرِي ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَهُ هِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، فَذَكَرُوا رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ شَهِدَا بَدْرًا لِيَ فِيهِمَا أُسْوَةٌ ، فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لاَ أَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي هَذَا أَبَدًا ، وَلاَ أُكَذِّبُ نَفْسِي.
وَنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ ، فَجَعَلْتُ أَخْرُجُ إِلَى السُّوقِ وَلاَ يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ ، وَتَنَكَّرَ لَنَا النَّاسُ ، حَتَّى مَا هُمْ بِالَّذِينَ نَعْرِفُ ، وَتَنَكَّرَ لَنَا الْحِيطَانُ حَتَّى مَا هِيَ بِالْحِيطَانِ الَّتِي نَعْرِفُ ، وَتَنَكَّرَتْ لَنَا الأَرْضُ حَتَّى مَا هِيَ بِالأَرْضِ الَّتِي نَعْرِفُ ، وَكُنْتُ أَقْوَى أَصْحَابِي ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ فَآتِي الْمَسْجِدَ ، وَآتِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأُسَلِّمُ(1/189)
عَلَيْهِ ، وَأَقُولُ : هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِالسَّلاَمِ ، فَإِذَا قُمْتُ أُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي ، نَظَرَ إِلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمُؤَخَّرِ عَيْنَيْهِ ، وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ أَعْرَضَ عَنِّي ، وَاشْتَكَى صَاحِبَايَ فَجَعَلاَ يَبْكِيَانِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، وَلاَ يُطْلِعَانِ رُؤُوسَهُمَا ،قَالَ : فَبَيْنَا أَنَا أَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ إِذَا رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ قَدْ جَاءَ بِطَعَامٍ لَهُ يَبِيعُهُ ، يَقُولُ : مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ ، فَأَتَانِي بِصَحِيفَةٍ مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ ، فَإِذَا فِيهَا : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَأَقْصَاكَ وَلَسْتَ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ ، فَقُلْتُ : هَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلاَءِ ، فَسَجَرْتُ لَهَا التَّنُّورَ ، فَأَحْرَقْتُهَا فِيهِ.
فَلَمَّا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً إِذَا رَسُولٌ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَتَانِي ، فَقَالَ : اعْتَزَلِ امْرَأَتَكَ ، فَقُلْتُ : أُطَلِّقُهَا ، قَالَ : لاَ ، وَلَكِنْ لاَ تَقْرَبْهَا ، فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ ، فَقَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَعِيفٌ ، فَهَلْ تَأْذَنْ لِي أَنْ أَخْدُمَهُ ، قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبَنَّكِ ، قَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ لِشَيْءٍ ، مَا زَالَ مُتَّكِئًا يَبْكِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُذْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ.
قَالَ كَعْبٌ : فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ الْبَلاَءُ ، اقْتَحَمْتُ عَلَى أَبِي قَتَادَةَ حَائِطَهُ ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ ، فَقُلْتُ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَسَكَتَ ، فَقُلْتُ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَسَكَتَ ، فَقُلْتُ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَتَعْلَمُ أَنِّي أُحَبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَقَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَلَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ بَكَيْتُ ، ثُمَّ اقْتَحَمْتُ الْحَائِطَ خَارِجًا ، حَتَّى إِذَا مَضَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كَلاَمِنَا ، صَلَّيْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا صَلاَةَ الْفَجْرِ ، وَأَنَا فِي الْمَنْزِلَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ ، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْنَا الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْنَا أَنْفُسُنَا ، إِذْ سَمِعْتُ نِدَاءً مِنْ ذِرْوَةِ سَلْعٍ أَنْ أَبْشِرْ يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا ، وَعَرَفْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَاءَنَا بِالْفَرَجِ ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ يَرْكُضُ عَلَى فَرَسٍ يُبَشِّرُنِي ، فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ فَرَسِهِ ، فَأَعْطَيْتُهُ ثَوْبِي بِشَارَةً ، وَلَبِسَتْ ثَوْبَيْنِ آخَرِينَ.
وَكَانَتْ تَوْبَتُنَا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُلُثَ اللَّيْلِ ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : يَا نَبِيَّ اللهِ أَلاَ نُبَشِّرُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ ، فَقَالَ : إِذًا يَحْطِمُكُمُ النَّاسُ وَيَمْنَعُونَكُمُ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ.(1/190)
قَالَ : وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي شَأْنِي ، تُخْبِرُنِي بِأَمْرِي ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَهُوَ يَسْتَنِيرُ كَاسْتِنَارِ الْقَمَرِ ، وَكَانَ إِذَا سُرَّ بِالأَمْرِ اسْتَنَارَ ، فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ : يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ ، أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ ، قَالَ : فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَمِنْ عِنْدِ اللهِ أُمْ مِنْ عِنْدِكَ ؟ قَالَ : بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، ثُمَّ تَلاَ عَلَيْهِمْ {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة] ، حَتَّى بَلَغَ {هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة] ، قَالَ : وَفِينَا نَزَلَتِ {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة] ، قَالَ : فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنِّي لاَ أُحَدِّثُ إِلاَّ صِدْقًا ، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً إِلَى اللهِ ، وَإِلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ، قَالَ : فَقُلْتُ : فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ ، قَالَ : فَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ بَعْدَ الإِسْلاَمِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ صَدَقْتُهُ أَنَا وَصَاحِبَايَ ، أَنْ لاَ نَكُونَ كَذَبْنَا فَهَلَكْنَا كَمَا هَلَكُوا ، وَمَا تَعَمَّدْتُ لِكَذْبَةٍ بَعْدُ ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِيَ اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ." (1)
وقد أثّر فيهم هذا الهجر حتى دعاهم إلى التوبة النصوح ثم علم الله منهم ذلك فتاب عليهم.
وفي قصة كعب من الفوائد جواز طلب أموال الكفار من ذوي الحرب، وجواز الغزو في الشهر الحرام، والتصريح بجهة الغزو إذا لم تقتض المصلحة ستره، وأن الإمام إذا استنفر الجيش عموما لزمهم النفير ولحق اللوم بكل فرد فرد أن لو تخلف. وفيها أن العاجز عن الخروج بنفسه أو بماله لا لوم عليه، واستخلاف من يقوم مقام الإمام على أهله والضعفة، وفيها ترك قتل المنافقين، ويستنبط منه ترك قتل الزنديق إذا أظهر التوبة. وأجاب من أجازه بأن الترك كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمصلحة التأليف على الإسلام. وفيها عظم أمر المعصية، وقد نبه الحسن البصري على ذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم عنه قال: يا سبحان الله ما
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (8 / 156) (3370) وصحيح البخارى- المكنز - (4418) وصحيح مسلم- المكنز - (7192 )
بثى : حزنى الشديد -التنور : الفرن -سجر : أحرق -أصعر : أميل -العطف : الجانب -المغموص : المتهم بالنفاق -المفاز : الصحراء البعيدة عن العمار والماء تفاؤلا من الفوز بالنجاة منها -استلبث : أبطأ(1/191)
أكل هؤلاء الثلاثة مالا حراما ولا سفكوا دما حراما ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟ وفيها أن القوي في الدين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ الضعيف في الدين، وجواز إخبار المرء عن تقصيره وتفريطه وعن سبب ذلك وما آل إليه أمره تحذيرا ونصيحة لغيره، وجواز مدح المرء بما فيه من الخير إذا أمن الفتنة، وتسلية نفسه بما لم يحصل له بما وقع لنظيره، وفضل أهل بدر والعقبة، والحلف للتأكيد من غير استحلاف، والتورية عن المقصد، ورد الغيبة، وجواز ترك وطء الزوجة مدة.
وفيه أن المرء إذا لاحت له فرصة في الطاعة فحقه أن يبادر إليها ولا يسوِّف بها لئلا يحرمها كما قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} ومثله قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ونسأل الله تعالى أن يلهمنا المبادرة إلى طاعته، وأن لا يسلبنا ما خولنا من نعمته. وفيها جواز تمني ما فات من الخير، وأن الإمام لا يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور بل يذكره ليراجع التوبة. وجواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن عن حمية لله ورسوله. وفيها جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد وهم الطاعن أو غلطه. وفيها أن المستحب للقادم أن يكون على وضوء، وأن يبدأ بالمسجد قبل بيته فيصلي ثم يجلس لمن يسلم عليه، ومشروعية السلام على القادم وتلقيه، والحكم بالظاهر، وقبول المعاذير واستحباب بكاء العاصي أسفا على ما فاته من الخير. وفيها إجراء الأحكام على الظاهر ووكول السرائر إلى الله تعالى ،وفيها ترك السلام على من أذنب، وجواز هجره أكثر من ثلاث. وأما النهي عن الهجر فوق الثلاث فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيا، وأن التبسم قد يكون عن غضب كما يكون عن تعجب ولا يختص بالسرور. ومعاتبة الكبير أصحابه ومن يعز عليه دون غيره. وفيها فائدة الصدق وشؤم عاقبة الكذب. وفيها العمل بمفهوم اللقب إذا حفته قرينة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما حدثه كعب "أما هذا فقد صدق" فإنه يشعر بأن من سواه كذب، لكن ليس على عمومه في حق كل أحد سواه، لأن مرارة وهلالا أيضا قد صدقا، فيختص الكذب بمن حلف واعتذر، لا بمن اعترف، ولهذا عاقب(1/192)
من صدق بالتأديب الذي ظهرت فائدته عن قرب، وأخَّر من كذب للعقاب الطويل، وفي الحديث الصحيح "إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له عقوبته في الدنيا، وإذا أراد به شرا أمسك عنه عقوبته فيرد القيامة بذنوبه" قيل وإنما غلظ في حق هؤلاء الثلاثة لأنهم تركوا الواجب عليهم من غير عذر، ويدل عليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} وقول الأنصار:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
وفيها تبريد حرِّ المصيبة بالتأسي بالنظير، وفيها عِظمُ مقدار الصدق في القول والفعل، وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به، وأن من عوقب بالهجر يعذر في التخلف عن صلاة الجماعة لأن مرارة وهلالا لم يخرجا من بيوتهما تلك المدة. وفيها سقوط ردِّ السلام على المهجور عمن سلم عليه إذ لو كان واجبا لم يقل كعب: هل حرك شفتيه بردِّ السلام. وفيها جواز دخول المرء دار جاره وصديقه بغير إذنه ومن غير الباب إذا علم رضاه. وفيها أن قول المرء: "الله ورسوله أعلم" ليس بخطاب ولا كلام ولا يحنث به من حلف أن لا يكلم الآخر إذا لم ينو به مكالمته وإنما قال أبو قتادة ذلك لما ألح عليه كعب، وإلا فقد تقدم أن رسول ملك غسان لما سأل عن كعب جعل الناس يشيرون له إلى كعب ولا يتكلمون بقولهم مثلا هذا كعب مبالغة في هجره والإعراض عنه، وفيها أن مسارقة النظر في الصلاة لا تقدح في صحتها، وإيثار طاعة الرسول على مودة القريب، وخدمة المرأة زوجها، والاحتياط لمجانبة ما يخشى الوقوع فيه، وجواز تحريق ما فيه اسم الله للمصلحة. وفيها مشروعية سجود الشكر والاستباق إلى البشارة بالخير وإعطاء البشير أنفس ما يحضر الذي يأتيه بالبشارة، وتهنئة من تجددت له نعمة، والقيام إليه إذا أقبل، واجتماع الناس عند الإمام في الأمور المهمة، وسروره بما يسرُّ أتباعه، ومشروعية العارية، ومصافحة القادم والقيام له، والتزام المداومة على الخير الذي ينتفع به، واستحباب الصدقة عند التوبة، وأن من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه." (1)
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (8 / 123)(1/193)
ومما يدلّ على اعتماده - صلى الله عليه وسلم - هذا الأسلوب أيضا ما رواه الترمذي عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: " مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْكَذِبِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْذَبُ عِنْدَهُ الْكَذْبَةُ، فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً " (1)
وفي رواية عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، أَوْ غَيْرِهِ : أَنَّ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْكَذِبِ ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكَذِبَةَ ، فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً." (2)
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْكَذِبِ ، وَمَا اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَبْخَلُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنْ أَحْدَثَ تَوْبَةً " (3)
وعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ , أَنَّ عَائِشَةَ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْكَذِبِ , وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكِذْبَةَ , فَمَا تَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً ." (4)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : " مَا كَانَ مِنْ خُلُقٍ أَشَدَّ عِنْدَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْكَذِبِ ، وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَطَّلِعُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْكَذِبِ ، فَمَا يَنْحَلُّ مِنْ صَدْرِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ لِلَّهِ مِنْهَا تَوْبَةً " (5)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : " مَا كَانَ مِنْ خُلُقٍ أَبْغَضَ عِنْدَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْكَذِبِ ، وَمَا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ مِنْ أَحَدٍ فَيَخْرُجَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَحْدَثَ تَوْبَةً " (6)
__________
(1) - شعب الإيمان - (6 / 457) (4475 ) وسنن الترمذى- المكنز - (2101) و صحيح ابن حبان - (13 / 45)(5736) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 280)(25183) 25698- صحيح
(3) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ(772 ) صحيح
(4) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ (19135 ) صحيح
(5) - الصَّمْتُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (477 ) صحيح
(6) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (135 ) صحيح(1/194)
وعَنْ عَائِشَةَ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : مَا كَانَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْكَذِبِ , وَمَا جَرَّبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَحَدٍ كَذِبًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ مَا كَانَ , حَتَّى يَعْرِفَ مِنْهُ تَوْبَةً " (1) .
ويتضح من الروايات السابقة أن الإعراض عن المخطئ حتى يعود عن خطئه أسلوبٌ تربوي مفيد، ولكن لكي يكون نافعا لابد أن يكون الهاجر والمُعْرضُ له مكانة في نفس المهجور ،وإلا فلن يكون لهذا الفعل أثر إيجابي عليه بل ربما يشعر أنه قد استراح.
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَزَّأَهُمْ أَثْلاَثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَالَ لَهُ قَوْلاً شَدِيدًا. (2)
ففي هذا الحديث همَّ عليه الصلاة والسلام بترك الصلاة على هذا الرجل جزاءً له على حيفه في وصيته ، وترك الصلاة عليه يعدُّ هجراً له على فعله .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ أُتِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. (3) .
وفي هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الصلاة على هذا الرجل « زجراً للناس عن مثل فعله » (4) .
وفي هذا عقوبة رادعة وتعزير صارم لمن فعل هذا الفعل ، ولأن العقوبة نوع من أنواع الهجر (5) .
والأحاديث في هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحب المعصية كثيرة وكلها تدلُّ على أن الهجر من أنواع التّصحيح ، بل ويجعل صاحبه ينقاد للحق ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ لَمْ يُؤْذَنْ لأَحَدٍ مِنْهُمْ - قَالَ - فَأُذِنَ لأَبِى بَكْرٍ فَدَخَلَ ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَوَجَدَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا حَوْلَهُ
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ (19136 ) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (4425 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (2309 )-المشاقص : جمع مشقص وهو نصل السهم إذا كان طويلا عريضا
(4) - المصدر السابق .
(5) - انظر مجموع الفتاوى 28 / 210 .(1/195)
نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا - قَالَ - فَقَالَ لأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِى النَّفَقَةَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا.فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ « هُنَّ حَوْلِى كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِى النَّفَقَةَ ». فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا فَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا كِلاَهُمَا يَقُولُ تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. فَقُلْنَ وَاللَّهِ لاَ نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْدَهُ ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) [الأحزاب : 28 - 30] } ، قَالَ فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ فَقَالَ « يَا عَائِشَةُ إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لاَ تَعْجَلِى فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِى أَبَوَيْكِ ». قَالَتْ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَلاَ عَلَيْهَا الآيَةَ قَالَتْ أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَشِيرُ أَبَوَىَّ بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ وَأَسْأَلُكَ أَنْ لاَ تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِى قُلْتُ.قَالَ « لاَ تَسْأَلُنِى امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلاَّ أَخْبَرْتُهَا إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِى مُعَنِّتًا وَلاَ مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِى مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا ». (1)
وهذا وغيره يبين على أن الهجر سلاح ماضٍ في إصلاح صاحب الخطأ ، وتبديل حاله ، ولذلك فمن أراد التصحيح فإن الهجر من أساليب التصحيح التي استخدمها عليه الصلاة السلام .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (3763 )
وجأت : طعنت -الواجم : من اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام(1/196)
(31) الدعاءُ على المخطئ المعاند
والدعاء هو : « الرغبة إلى الله فيما عنده من الخير والابتهال إليه بالسؤال» (1) ، و« طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره أو دفعه » (2) .
والدعاء شأنه عظيم ، ونفعه عميم ، ولذلك فهو يعدُّ من « أعظم مقامات العبودية لله سبحانه ، لما فيه من إظهار العبودية ، والذلّة ، والانكسار ، والرجوع إليه سبحانه بالكلّية » (3) ، وقد جاء في الحديث فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ " ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر (4)
وذلك مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر
ورغَّب سبحانه وتعالى العباد في هذه العبادة الجليلة - الدعاء - ووعدهم الإجابة عليها ، فقال سبحانه : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (186) سورة البقرة
وإذا سألك -أيها النبي- عبادي عني فقل لهم: إني قريب منهم، أُجيب دعوة الداعي إذا دعاني، فليطيعوني فيما أمرتهم به ونهيتهم عنه، وليؤمنوا بي، لعلهم يهتدون إلى مصالح دينهم ودنياهم. وفي هذه الآية إخبار منه سبحانه عن قربه من عباده، القرب اللائق بجلاله. (5)
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - ذو شأن كبير في تحقيق هذه العبادة الجليلة حيث كان - صلى الله عليه وسلم - « لا يخلو حال
__________
(1) - انظر : أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة الحداد : 1/ 363 .
(2) - انظر : الدعاء مفهومه وأحكامه : محمد الحمد ص 10 .
(3) - بتصرف من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - : 1 / 364 .
(4) - شعب الإيمان - (2 / 362) (1070 ) صحيح
(5) - التفسير الميسر - (1 / 200)(1/197)
من أحواله الشريفة من دعاء خاص ، ناهيك عن الأدعية العامة في سائر الأزمان ، والأحوال ، والمناسبات » (1) .
فنجده في الصلوات له أدعية وأذكار في جميع أركانها ، وواجباتها ، بل وسننها ، ومستحباتها ، وكذلك في الزكاة ، والصيام ، والحج ، وسائر العبادات .
فهو - صلى الله عليه وسلم - لا يفتأ يذكر ربه ، ويبتهل إليه ، ويناجيه في سائر أحواله ، وقد علَّم أمته - عليه الصلاة والسلام - أهمية هذا الدعاء فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ. (2)
وغير ذلك من الأحاديث المبيّنة فضل الدعاء وأهميته ، وحاجة العبد إليه ، حتى في تصحيح خطأ المخطئ ، إذ أن البعض من مرتكبي الأخطاء لا يناسب في حقهم ورجوعهم إلى الصواب إلا خوفهم من دعوةٍ يلهج بها لسان الداعية والمصحّح معبِّراً من خلالها عن غضبه ، واستيائه من فعل هذا المخطئ ، طالباً منه تصحيح خطئه والعودة إلى جادة الصواب ، منتهياً عن هذا الخطأ .
وقد انتهج النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا النَّهج ، بل وسنّه للدعاة والمصححِّين ، فقد ورد عنه في اتخاذه هذا الأسلوب - الدعاء على المخطئ - جملة من الأقوال والأحاديث الدّالة على استخدام هذا المنهج ، وأنه وسيلة فاعلة في تصحيح الأخطاء ، بل وردهِّ المخطئين إلى الصواب ومن تلك الأحاديث ما يلي :
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ « ارْكَبْهَا » . فَقَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ . فَقَالَ « ارْكَبْهَا » . قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ . قَالَ « ارْكَبْهَا ، وَيْلَكَ » . فِى الثَّالِثَةِ أَوْ فِى الثَّانِيَةِ . (3)
ففي هذا الحديث ظن هذا الرجل أن البُدن المهداة في الحج لا يجوز ركوبها على عادة
__________
(1) أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة : 1 / 386 .
(2) - صحيح ابن حبان - (3 / 151) (870) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1689 )(1/198)
الجاهلية في السائبة (1) ، فلذلك لم يركبها، مع ما فيه من الجهد، والسفر ، والمشقّة ، فلذلك أرشده - عليه الصلاة والسلام - إلى ركوبها ، وفي هذا دليل على ركوب البدنة المهداة (2) ، ولما لم يمتثل هذا الرجل لهذا الأمر الصادر منه عليه الصلاة والسلام ، ولم يكن عدم امتثاله عن مكابرة ، أو عناد ، بل عن شبهة ، وهي كما قال ابن حجر رحمه الله : « يحتمل أن يكون ظن أنه يلزمه غُرم بركوبها ، أو إثم ، أو أن الإذن الصادر له بركوبها ، إنما هو للشفقة عليه فتوقّف » (3) ، عندئذٍ أغلظ له النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل زجره بكلمة توحي بالدعاء عليه ، « ولو لا أنه - صلى الله عليه وسلم - اشترط على ربه ما اشترط لهلك ذلك الرجل لا محالة » (4) . وهذه الكلمة : هي قوله له : ويلك وفي رواية ويحك .
قال القرطبي رحمه الله : « قالها له تأديباً لأجل مراجعته له ، مع عدم خفاء الحال عليه » (5) .
وهذه الكلمة أصلها من الويل ، وتقال لمن وقع في الهلكة ، والمعنى أن هذا الرجل قد أشرف على الهلكة بسبب عدم امتثال أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالركوب : « فعلى هذا هي إخبار ، وقيل : هي كلمة تدعم العرب بها كلامها ولا تقصد معناها كقوله لا أمّ لك» (6) ، و«لا أب له، وتربت يداه، وقاتله الله ما أشجعه» (7) .
وقد قال الهروي رحمه الله : « ويل : يقال لمن وقع في الهلكة يستحقها ، وويحٌ : لمن وقع في هلكة لا يستحقها » (8) .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث قد استخدم هذه الكلمة ويل أو ويح في مقام الدعاء على ذلك الرجل ، وفي نفس الوقت تصحيح لخطئه . ولذلك لما زُجر الرجل بهذا الدعاء ، تعلمّ التصحيح ، وانقاد إلى الصواب ، فركب هذه البدنة امتثالاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورجوعاً
__________
(1) انظر : فتح الباري 3 / 629 .
(2) انظر : شرح صحيح مسلم للنووي 3 / 442 .
(3) فتح الباري : 3 / 629 .
(4) المصدر السابق .
(5) المصدر السابق .
(6) المصدر السابق .
(7) شرح صحيح مسلم للنووي 3 / 443 .
(8) فتح الباري : 3 / 629 .(1/199)
إلى الصواب .
ويشتدّ استعمال الدعاء ، وإرادة معناه الحقيقي ، من نزول العقاب على المخالفين ، والمعاندين ، وذلك عند ما لا ينقاد المخطئ إلى تصحيح الخطأ وفعل الصواب ، بل يصرُّ على خطئه ، ويكون ذلك الخطأ عظيماً من كفرٍ ، وحربٍ لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام .
َقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ . يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيَقُولُ « اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِى رَبِيعَةَ ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ » . وَأَهْلُ الْمَشْرِقِ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُضَرَ مُخَالِفُونَ لَهُ (1) .
فهذا الحديث يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخدم أسلوب الدعاء على الكفار المعاندين والذين حاربوا الله ورسوله ، فاستخدم الدعاء عليهم في القنوت في الصلاة مما يدل على أهمية هذا الأسلوب - الدعاء - في تصحيح الخطأ وخصوصاً إذا كان عظيماً ، مثل فعل هؤلاء الذين دعا عليهم بعمومهم ، أو الذين دعا عليهم بأشخاصهم فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدٌ ح قَالَ وَحَدَّثَنِى أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّى عِنْدَ الْبَيْتِ ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَيُّكُمْ يَجِىءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِى فُلاَنٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ ، فَنَظَرَ حَتَّى إِذَا سَجَدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَأَنَا أَنْظُرُ ، لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا ، لَوْ كَانَ لِى مَنْعَةٌ . قَالَ فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ ، فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ » . ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (804 )(1/200)
عَلَيْهِمْ - قَالَ وَكَانُوا يُرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِى ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ - ثُمَّ سَمَّى « اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِى جَهْلٍ ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ » . وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْهُ قَالَ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَرْعَى فِى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ (1)
ففي هذا الحديث مع الذي قبله يظهر أن أسلوب الرِّفق واللِّين لا ينفع مع مثل هؤلاء القبائل ، ولا هؤلاء الكفار ، ولذلك يُعدل إلى استخدام الشدّة ، والقسوة ، وذلك لمَّا ظهر من أولئك - القبائل والأفراد - من العناد والاستهزاء والأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
« وهم في هذا الحديث بلغوا درجة عظيمة من الاستهزاء والسخرية برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأذية له » (3) .
يقول ابن حجر رحمه الله : « وإنما استحقوا الدعاء حينئذً لِماَ أقدموا عليه من الاستخفاف به - صلى الله عليه وسلم - حال عبادة ربه .. وفيه جواز الدعاء على الظالم » (4) .
إذن فالدعاء على المخطئ - وخصوصاً المعاند والكافر - هو من منهج تصحيح الأخطاء الذي اتبّعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنّه لأمته عامة ، وللدعاة ومصحِّحي الأخطاء خاصة ، صلوات الله وسلامه عليه .
وعَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ حَدَّثَنِى إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِمَالِهِ فَقَالَ « كُلْ بِيَمِينِكَ ». قَالَ لاَ أَسْتَطِيعُ قَالَ « لاَ اسْتَطَعْتَ ». مَا مَنَعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ. قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ. (5)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (240 )
السلى : الغشاء الذى يكون فيه جنين البهيمة -المنعة : القوة تمنع من يريدهم بسوء
(2) - انظر : من صفات الداعية اللِّين والرِّفق . أ. د . فضل إلهي ص 39 .
(3) - فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري : خالد عبد الرحمن القريشي 2 / 862 .
(4) - فتح الباري : 1 / 420 .
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (5387 )(1/201)
وعن سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ ، قَالَ : أَبْصَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً يُقَالُ لَهُ : بُسْرُ بْنُ رَاعِي الْعِيرِ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ ، فَقَالَ : كُلْ بِيَمِينِكَ. قَالَ : لاَ أَسْتَطِيعُ. قَالَ : لاَ اسْتَطَعْتَ. قَالَ : فَمَا نَالَتْ يَدُهُ إِلَى فِيهِ بَعْدُ."
وفي رواية عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَأْكُلُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِمَالِهِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : كُلْ بِيَمِينِكَ. قَالَ : لاَ أَسْتَطِيعُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ : لاَ اسْتَطَعْتَ ، فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ." (1)
وفي رواية لأحمد: عن إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ ابْنِ الأَكْوَعِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لِرَجُلٍ ، يُقَالُ لَهُ : بُسْرُ ابْنُ رَاعِي الْعَيْرِ أَبْصَرَهُ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ فَقَالَ : كُلْ بِيَمِينِكَ ، فَقَالَ : لاَ أَسْتَطِيعُ ، فَقَالَ : لاَ اسْتَطَعْتَ ، قَالَ : فَمَا وَصَلَتْ يَمِينُهُ إِلَى فَمِهِ بَعْدُ. (2)
قال النووي رحمه الله تعالى: "وفي هذا الحديث جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر ،وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حال حتى في حال الأكل." (3)
فهذا الرجل استحق هذه العقوبة بسبب كبره ، وعناده ، وجاءت هذه العقوبة - شلل يده - بعد أن دعا عليه الرسول عليه الصلاة والسلام بسبب خطئه وتكبره .
ونلاحظ هنا أن الدعاء عليه لم يكن بما يُعين عليه الشيطان ولكن كان بما يُشبه التعزير.
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (14 / 442)(6512و6513) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 640)(16499) 16613- صحيح
(3) - شرح صحيح مسلم 13/192(1/202)
(32) الإعراضُ عن بعض الخطأ اكتفاء بما جرت الإشارة إليه منه تكرّما مع المخطئ
قال تعالى : {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } (3) سورة التحريم ، أي وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى زَوْجِهِ حَفْصَةَ حَدِيثاً فَقَالَ لَهَا : إِنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ العَسَلَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ زَيْنَبَ ، وَقَالَ لَنْ أَعُودَ إِلَى شُرْبِهِ وَقَدْ حَلَفْتُ ، فَلاَ تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَداً . فَلَمَّا أَخْبَرَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ بِالحَدِيثِ الذِي اسْتَكْتَمَهَا النَّبِيُّ عَلَيهِ . وَأَطْلَعَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَا فَعَلَتْهُ حَفْصَةُ مِنْ إِفْشَائِهَا مَا اسْتَكْتَمَهَا النَّبِيُّ عَليْهِ أَخْبَرَ حَفْصَةَ بِبَعْضِ الحَدِيثِ الذِي أَفْشَتْهُ ( وَهُوَ كُنْتُ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ ) ، وَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ بَعْضِ الحَدِيثِ الذِي أَفْشَتْهُ ( وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَدْ حَلَفْتُ فَلاَ تُخْبِرِي أَحَداً ) ، فَلَمْ يُخْبِرْهَا بِهِ تَكَرُّماً مِنْهُ لِكَيْلا يَزِيدَ فِي خَجَلِهَا مِنْهُ .فَلَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ حَفصَةَ بِمَا دَارَ بَيْنَهَا وَبَينَ عَائِشَةَ قَالَتْ مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ وَهِيَ تَظُنُّ أَنَّ عَائِشَةَ قَدْ فَضَحَتْهَا وَنَقَلَتِ الحَدِيثَ إِلَى الرَّسُولِ . فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ : أَخْبَرَنِي بِهِ رَبِّي العِلِيمُ بِالسِّرِّ وَالنَّجْوَى ، وَالخَبِيرُ بِكُلِّ مَا فِي الوُجُودِ (1) .
قال القاسمي رحمه الله في محاسن التأويل: في " الإكليل " : في الآية أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق ، وأنه يلزمه كتمانه . وفيها حسن المعاشرة مع الزوجات ، والتلطف في العتب ، والإعراض عن استقصاء الذنب." (2)
وَقَالَ جَدُّ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ أَمِّرُوا أَعْقَلَكُمْ ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْقَوْمِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا كَانَ آفَةً لِمَنْ دُونَهُ . جُودُوا لِقَوْمِكُمْ وَإِيَّاكُمْ وَالْبُخْلَ فَإِنَّ الْبُخْلَ دَاءٌ . وَنِعْمَ الدَّوَاءُ السَّخَاءُ . وَالتَّغَافُلُ مِنْ فِعْلِ الْكِرَامِ . وَالصَّمْتُ جِمَاعُ الْحِكَمِ . وَالصِّدْقُ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ عَجْزًا . وَاسْتَعِينُوا عَلَى مَنْ لَا يُقْدَرُ لَهُ بِالْخُضُوعِ . وَإِيَّاكُمْ وَالْمَنَّ فَإِنَّهُ مَذْهَبَةُ الصَّنِيعَةِ ، مَنْبَتَةُ الضَّغِينَةِ " (3)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5110)
(2) - محاسن التأويل 16/222
(3) - أَمْثَالُ الْحَدِيثِ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (338)(1/203)
(33) إعانةُ المسلم على تصحيح خطئه
عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ . قَالَ « مَا لَكَ » . قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِى وَأَنَا صَائِمٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا » . قَالَ لاَ . قَالَ « فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ » . قَالَ لاَ . فَقَالَ « فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا » . قَالَ لاَ . قَالَ فَمَكَثَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ - وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ - قَالَ « أَيْنَ السَّائِلُ » . فَقَالَ أَنَا . قَالَ « خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ » . فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِى ، فَضَحِكَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ « أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ » . (1)
وفي رواية عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَبَّادَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، حَدَّثَهُ أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ فَارِعِ أُجُمِ حَسَّانَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : احْتَرَقْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ : وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ ، قَالَتْ : وَذَاكَ فِي رَمَضَانَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اجْلِسْ . فَجَلَسَ فِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ ، فَأَتَى رَجُلٌ بِحِمَارٍ عَلَيْهِ غِرَارَةٌ فِيهَا تَمْرٌ ، قَالَ : هَذِهِ صَدَقَتِي يَا رَسُولَ اللهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ آنِفًا ؟ فَقَالَ : هَا هُوَ ذَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ . قَالَ : خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ قَالَ : وَأَيْنَ الصَّدَقَةُ يَا رَسُولَ اللهِ إِلاَّ عَلَيَّ وَلِي ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ أَنَا وَعِيَالِي شَيْئًا . قَالَ : فَخُذْهَا فَأَخَذَهَا." (2) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1936 )
لابتيها : اللابة : الأرض ذات الحجارة السود الكثيرة ، وهي الحرة ، ولابتا المدينة : حرتاها من جانبيها. -بمكتل : المكتل : إناء شبه الزنبيل ، يسع خمسة عشر صاعا. -بعرق : العرق بفتح الراء : خوص منسوج مضفور يعمل منه الزنبيل ، فسمي الزنبيل عرقا ، لأنه يعمل منه.
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 546)(26359) 26891- صحيح(1/204)
وفي الحديث من الفوائد السؤال عن حكم ما يفعله المرء مخالفا للشرع، والتحدث بذلك لمصلحة معرفة الحكم، واستعمال الكناية فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه لقوله واقعت أو أصبت. وفيه الرفق بالمتعلم والتلطف في التعليم والتألف على الدين، والندم على المعصية، واستشعار الخوف. وفيه الجلوس في المسجد لغير الصلاة من المصالح الدينية كنشر العلم، وفيه جواز الضحك عند وجود سببه، وإخبار الرجل بما يقع منه مع أهله للحاجة. وفيه الحلف لتأكيد الكلام، وقبول قول المكلف مما لا يطلع عليه إلا من قبله لقوله في جواب قوله أفقر منا أطعمه أهلك ويحتمل أن يكون هناك قرينة لصدقه. وفيه التعاون على العبادة والسعي في إخلاص المسلم وإعطاء الواحد فوق حاجته الراهنة، وإعطاء الكفارة أهل بيت واحد، وأن المضطر إلى ما بيده لا يجب عليه أن يعطيه أو بعضه لمضطر آخر." (1)
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (4 / 172)(1/205)
(34) ملاقاةُ المخطئ ومجالسته لأجل مناقشته
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ ، فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا ، فَتَقُولُ : نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا ، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : " القَنِي بِهِ " ، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ ، فَقَالَ : " كَيْفَ تَصُومُ ؟ " قَالَ : كُلَّ يَوْمٍ ، قَالَ : " وَكَيْفَ تَخْتِمُ ؟ " ، قَالَ : كُلَّ لَيْلَةٍ ، قَالَ : " صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةً ، وَاقْرَإِ القُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ " ، قَالَ : قُلْتُ : أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : " صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الجُمُعَةِ " ، قُلْتُ : أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : " أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا " قَالَ : قُلْتُ : أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : " صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً " " فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَذَاكَ أَنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ ، فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ السُّبْعَ مِنَ القُرْآنِ بِالنَّهَارِ ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ مِنَ النَّهَارِ ، لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّى أَفْطَرَ أَيَّامًا وَأَحْصَى ، وَصَامَ مِثْلَهُنَّ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا ، فَارَقَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ " (1)
وفي رواية عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : زَوَّجَنِي أَبِي امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيَّ جَعَلْتُ لاَ أَنْحَاشُ لَهَا ، مِمَّا بِي مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ ، مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ ، فَجَاءَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى كَنَّتِهِ ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ لَهَا : كَيْفَ وَجَدْتِ بَعْلَكِ ؟ قَالَتْ : خَيْرَ الرِّجَالِ ، أَوْ كَخَيْرِ الْبُعُولَةِ ، مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا ، وَلَمْ يَعْرِفْ لَنَا فِرَاشًا ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ ، فَعَذَمَنِي ، وَعَضَّنِي بِلِسَانِهِ ، فَقَالَ : أَنْكَحْتُكَ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ ذَاتَ حَسَبٍ ، فَعَضَلْتَهَا ، وَفَعَلْتَ ، وَفَعَلْتَ ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَشَكَانِي ، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَيْتُهُ ، فَقَالَ لِي : أَتَصُومُ النَّهَارَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : وَتَقُومُ اللَّيْلَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَنَامُ ، وَأَمَسُّ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ، قالَ : اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ ، قُلْتُ : إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : فَاقْرَأْهُ فِي
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5052 )
الكَنف : الثوب الذى يستر والمقصود به الجماع -الكنة : زوجة ابنه(1/206)
كُلِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، قُلْتُ : إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ أَحَدُهُمَا ، إِمَّا حُصَيْنٌ وَإِمَّا مُغِيرَةُ ، قَالَ : فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ ثَلاَثٍ ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ : صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، قُلْتُ : إِنِّي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُنِي حَتَّى قَالَ : صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الصِّيَامِ ، وَهُوَ صِيَامُ أَخِي دَاوُدَ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ حُصَيْنٌ فِي حَدِيثِهِ : ثُمَّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : فَإِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّةً ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً ، فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ ، وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ ، فَقَدِ اهْتَدَى ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ.قَالَ مُجَاهِدٌ : فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو ، حَيْثُ ضَعُفَ وَكَبِرَ ، يَصُومُ الأَيَّامَ كَذَلِكَ ، يَصِلُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ ، لِيَتَقَوَّى بِذَلِكَ ، ثُمَّ يُفْطِرُ بِعَدِّ تِلْكَ الأَيَّامِ ، قَالَ : وَكَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ حِزْبِهِ كَذَلِكَ ، يَزِيدُ أَحْيَانًا ، وَيَنْقُصُ أَحْيَانًا ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوفِي الْعَدَدَ ، إِمَّا فِي سَبْعٍ ، وَإِمَّا فِي ثَلاَثٍ ، قَالَ : ثُمَّ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ : لأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ ، أَوْ عَدَلَ ، لَكِنِّي فَارَقْتُهُ عَلَى أَمْرٍ أَكْرَهُ أَنْ أُخَالِفَهُ إِلَى غَيْرِهِ." (1)
ومن فوائد القصة:
- معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب المشكلة وهو الانهماك في العبادة بحيث لم يبق وقت لأداء حقّ الزوجة فوقع التقصير
- إنّ مبدأ أعط كلّ ذي حقّ حقّه يطبّق في حقّ كلّ من كان منشغلا ومنهمكا بأمور من الطاعات كطالب العلم الذي يلقي دروسا كثيرة والداعية المنغمس في شئون دعوته بحيث يؤدي ذلك إلى شكاية الزوجة وتضررها ،وهذا ينشأ عن عدم الموازنة في القيام بالطاعات المختلفة وتوزيع الوقت على أصحاب الحقوق، فلا بأس أن يخفف هذا من دروسه شيئا ما وهذا من انشغالاته بحيث يتوفّر الوقت الكافي للاهتمام بالبيت والزوجة والأولاد وإعطائهم حقوقهم في الإصلاح والمعاشرة والتربية.
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 587)6477- صحيح
قال ابن الأثير عذموه أي أخذوه بألسنتهم، وأصل العذم العضّ.. ومنه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص " فأقبل عليّ أبي فعذمني وعضني بلسانه " النهاية 3/200
فَعَضَلْتَهَا :أي أهملتها فلم تعاملها معاملة الزوجة(1/207)
(35) مصارحةُ المخطئ بحاله وخطئه
عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ رَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْدًا وَعَلَى غُلاَمِهِ بُرْدًا فَقُلْتُ لَوْ أَخَذْتَ هَذَا فَلَبِسْتَهُ كَانَتْ حُلَّةً ، وَأَعْطَيْتَهُ ثَوْبًا آخَرَ . فَقَالَ كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلاَمٌ ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً ، فَنِلْتُ مِنْهَا فَذَكَرَنِى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِى « أَسَابَبْتَ فُلاَنًا » . قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ » . قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ » . قُلْتُ عَلَى حِينِ سَاعَتِى هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ قَالَ « نَعَمْ ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ، وَلاَ يُكَلِّفُهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ ، فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ » (1) .
وعَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ مَرَرْنَا بِأَبِى ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ مِثْلُهُ فَقُلْنَا يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً. فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِى كَلاَمٌ وَكَانَتْ أَمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَشَكَانِى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَقِيتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمُّهُ. قَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ ». (2)
ويؤخذ منه المبالغة في ذم السب واللعن لما فيه من احتقار المسلم، وقد جاء الشرع بالتسوية بين المسلمين في معظم الأحكام، وأن التفاضل الحقيقي بينهم إنما هو بالتقوى،
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6050 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (4403 )
خولكم : الخول : حشم الرجل وأتباعه ، واحدهم : خائل ، وقد يكون الخول واحدا ، وهو اسم يقع على العبد والأمة ، قال الفراء : هو جمع خائل ، وهو الراعي ، وقال غيره : هو مأخوذ من التخويل وهو التمليك. -حلة الحلة : ثوبان من جنس واحد يلبسان معا. -يلائمكم : لاءمت بين القوم: إذا أصلحت بينهم وجمعت متفرقهم ويقولون : هذا لا يلائمني ، أي : لا يوافقني.(1/208)
فلا يفيد الشريف النسب نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى، وينتفع الوضيع النسب بالتقوى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) .
وهذه المصارحة والمفاتحة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر رضي الله عنه كانت لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بقبول الصحابي لذلك، فالصراحةُ وسيلة مفيدة تختصر الوقت وتوفّر الجهد وتبيّن المقصود بأيسر طريق ولكنها تكون فيما يُناسب من الأحوال والأشخاص.
وروى الطبراني عَنْ إِسْمَاعِيلَ بن أَبِي خَالِدٍ، أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ الأَوْدِيُّ، قَالَ: كُنْتُ فِي دَارِ مَعْقِلِ بن يَسَارٍ بِالْبَصْرَةِ، فَحَدَّثَتْنِي ابْنَتُهُ أن أَبَاهَا لَمَّا ثَقُلَ بَلَغَ ذَلِكَ زِيَادًا، فَجَاءَ حَتَّى اسْتَأْذَنَ عَلَى الْبَابِ، وَجَلَسْتُ عِنْدَ أَبِي فَدَخَلَ زِيَادٌ فَعَرَفَ فِي وَجْهِ أَبِي الْمَوْتَ، فَقَالَ: يَا مَعْقِلُ، أَلا تُزَوِّدُنَا مِنْكَ؟ فَقَدْ كَانَ اللَّهُ يَنْفَعُنَا بِأَشْيَاءَ نَسْمَعُهَا مِنْكَ، فَقَالَ لَهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"مَا مِنْ وَالِي أُمَّةٍ كَثُرَتْ أَوْ قَلَّتْ لَمْ يَعْدِلْ فِيهِمْ إِلا أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ"، فَنَكَّسَ رَأْسَهُ سَاعَةً، ثُمَّ أَطْرَقَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْقِلُ، أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ أُمْ مِنْ وَرَاءَ؟ فَقَالَ: بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وفي رواية عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ الْبَصْرَةَ فَنَزَلَتُ دَارَ مَعْقِلِ بن يَسَارٍ، فَحَدَّثَتْنِي ابْنَتُهُ هِنْدٌ، قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ أَبِي بَلَغَ ذَلِكَ زِيَادَ بن أَبِي سُفْيَانَ، فَجَاءَ يَعُودُهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ يَنْفَعُنَا بِحَدِيثِكَ، فَحَدِّثْنَا شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"مَا مِنْ وَالٍ اسْتُعْمِلَ عَلَى أُمَّةٍ مِنْ أُمَّتِي قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ فَلَمْ يَعْدِلْ فِيهِمْ إِلا أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ". (2)
وقد يعدلُ الداعية عن مصارحة المخطئ إذا كان في ذلك حصولُ مفسدة أكبر أو تفويتُ مصلحة أعلى ،كأن يكون المخطئ صاحب جاه أو منصب لا يتقبّل ذلك أو أن يكون في المصارحة إحراج بالغ للمخطئ أو يكون ذا حساسية زائدة تجعله ذا ردّ فعل سلبي، ولاشكّ أن المصارحة مكروهة للمخطئ وثقيلة على نفسه لما فيها من المواجهة والإحراج والظهور بمظهر الناقص في مقابل ظهور الناقد في موضع المستعلي والأستاذ. وكذلك فإنه
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (10 / 468)
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 154) (16908 -16910 ) صحيح لغيره(1/209)
يجب التنبه إلى أن أسلوب " اللفّ والدوران " قد يكون له سلبيات مضاعفة تفوق المصارحة أحيانا وذلك لما قد يشعر به المخطئ من الاستغفال والتلاعب ويتضايق من الإشارات الخفيّة لشعوره بأنها غمز وإيذاء مبطّن ،ثمّ إن التوجيه قد لا يصلُ أصلا لخفاء المقصود وبعده عن ذهن المخطئ فيمضي في خطئه قُدُما. وعموماً فإن الأشخاص يتفاوتون في التقبّل والأسلوب الأمثل المناسب لكل منهم، ولكن يبقى أن حسن الخلق في العرض والتوجيه له الأثر الأكبر في نجاح المهمّة.
عن عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَبُو طَالُوتَ ، قَالَ : شَهِدْتُ أَبَا بَرْزَةَ دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ ، فَحَدَّثَنِي فُلَانٌ - سَمَّاهُ مُسْلِمٌ وَكَانَ فِي السِّمَاطِ - فَلَمَّا رَآهُ عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ : إِنَّ مُحَمَّدِيَّكُمْ هَذَا الدَّحْدَاحُ ، فَفَهِمَهَا الشَّيْخُ ، فَقَالَ : مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنِّي أَبْقَى فِي قَوْمٍ يُعَيِّرُونِي بِصُحْبَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ : إِنَّ صُحْبَةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَكَ زَيْنٌ غَيْرُ شَيْنٍ ، قَالَ : إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِأَسْأَلَكَ عَنِ الْحَوْضِ ، سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ فِيهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ : نَعَمْ " لَا مَرَّةً ، وَلَا ثِنْتَيْنِ ، وَلَا ثَلَاثًا ، وَلَا أَرْبَعًا ، وَلَا خَمْسًا ، فَمَنْ كَذَّبَ بِهِ فَلَا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْهُ ، ثُمَّ خَرَجَ مُغْضَبًا " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ ، قَالَ : شَكَّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فِي الْحَوْضِ ، وَكَانَتْ فِيهِ حَرُورِيَّةٌ ، فَقَالَ : أَرَأَيْتُمُ الْحَوْضَ الَّذِي يُذْكَرُ ، مَا أُرَاهُ شَيْئًا ، قَالَ : فَقَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ صَحَابَتِهِ : فَإِنَّ عِنْدَكَ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ ، فَأَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَوْضِ ، فَحَدَّثَهُ ثُمَّ قَالَ : أَرْسِلْ إِلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ فَأَتَاهُ وَعَلَيْهِ ثَوْبَا حِبَرٍ ، قَدِ ائْتَزَرَ بِوَاحِدٍ ، وَارْتَدَى بِالْآخَرِ ، قَالَ : وَكَانَ رَجُلًا لَحِيمًا إِلَى الْقِصَرِ ، فَلَمَّا رَآهُ عُبَيْدُ اللَّهِ ضَحِكَ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ مُحَمَّدِيَّكُمْ هَذَا لَدَحْدَاحٌ ، قَالَ : فَفَهِمَهَا الشَّيْخُ ، فَقَالَ : وَاعَجَبَاهُ ، أَلَا أُرَانِي فِي قَوْمِي يَعُدُّونَ صَحَابَةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - عَارًا ، قَالَ : فَقَالَ لَهُ جُلَسَاءُ عُبَيْدِ اللَّهِ : إِنَّمَا أَرْسَلَ إِلَيْكَ الْأَمِيرُ لِيَسْأَلَكَ عَنِ الْحَوْضِ ، هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ شَيْئًا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُهُ ، فَمَنْ كَذَبَ بِهِ فَلَا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْهُ ، قَالَ : ثُمَّ نَفَضَ رِدَاءَهُ وَانْصَرَفَ غَضْبَانَ ، قَالَ : فَأَرْسَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى
__________
(1) - سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ سنن أبي داود - المكنز - (4751) صحيح(1/210)
زَيْدِ بْنِ الْأَرْقَمِ فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَوْضِ ، فَحَدَّثَهُ حَدِيثًا مُوَنَّقًا أَعْجَبَهُ ، فَقَالَ : إِنَّمَا سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ حَدَّثَنِيهِ أَخِي ، قَالَ : فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي حَدِيثِ أَخِيكَ ، فَقَالَ أَبُو سَبْرَةَ ، رَجُلٌ مِنْ صَحَابَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ : فَإِنَّ أَبَاكَ حِينَ انْطَلَقَ وَافِدًا إِلَى مُعَاوِيَةَ انْطَلَقْتُ مَعَهُ ، فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَحَدَّثَنِي مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ حَدِيثًا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَمْلَاهُ عَلَيَّ وَكَتَبْتُهُ ، قَالَ : فَإِنِّي أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا أَعْرَقْتَ هَذَا الْبِرْذَوْنَ حَتَّى تَأْتِيَنِي بِالْكِتَابِ ، قَالَ : فَرَكِبْتُ الْبِرْذَوْنَ فَرَكَضْتُهُ حَتَّى عَرِقَ ، فَأَتَيْتُهُ بِالْكِتَابِ ، فَإِذَا فِيهِ هَذَا مَا حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالتَّفَحُّشُ ، وَسُوءُ الْجِوَارِ ، وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ ، وَحَتَّى يُخَوَّنَ الْأَمِينُ ، وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ أَسْلَمَ الْمُسْلِمِينَ ، لَمَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَإِنَّ أَفْضَلَ الْهِجْرَةِ لَمَنْ هَجَرَ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْقِطْعَةِ مِنَ الذَّهَبِ نَفَخَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا فَلَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تَنْقُصْ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ النَّخْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا ، وَوَقَعَتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وَلَمْ تَفْسُدْ ، أَلَا وَإِنَّ لِي حَوْضًا مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْهِ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ - أَوْ قَالَ : صَنْعَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ - ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْأَبَارِيقِ مَثَلَ الْكَوَاكِبِ ، هُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا " قَالَ أَبُو سَبْرَةَ : فَأَخَذَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْكِتَابَ ، فَجَزِعْتُ عَلَيْهِ ، فَلَقِيَ يَحْيَى بْنَ يَعْمُرَ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَنَا أَحْفَظُ لَهُ مِنِّي لِسُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَحَدَّثَنِي بِهِ كَمَا كَانَ فِي الْكِتَابِ سَوَاءُ " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، قَالَ : ذُكِرَ لِي أَنَّ أَبَا سَبْرَةَ بْنَ سَلَمَةَ الْهُذَلِيَّ ، سَمِعَ ابْنَ زِيَادٍ ، يَسْأَلُ عَنِ الْحَوْضِ حَوْضِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : مَا أُرَاهُ حَقًّا بَعْدَمَا سَأَلَ أَبَا بَرْزَةَ الأَسْلَمِيَّ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَعَائِذَ بْنَ عَمْرٍو ، فَقَالَ : مَا أُصَدِّقُ هَؤُلاءِ ، فَقَالَ أَبُو سَبْرَةَ : أَلا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ شِفَاءٍ ؟ بَعَثَنِي أَبُوكَ بِمَالٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فَحَدَّثَنِي بِفِيهِ وَكَتَبْتُهُ بِقَلَمِي مَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ أَزِدْ حَرْفًا وَلَمْ أَنْقُصْ ، حَدَّثَنِي أَنَّ
__________
(1) - جَامِعُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ >> بَابُ الْحَوْضِ >>( 1474 ) صحيح(1/211)
رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَاحِشَ وَلا الْمُتَفَحِّشَ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالتَّفَحُّشُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَسُوءُ الْمُجَاوَرَةِ ، وَيُخَوَّنُ الأَمِينُ وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا وَوَقَعَتْ طَيِّبًا ، فَلَمْ تَفْسُدْ وَلَمْ تُكْسَرْ ، وَمَثَلُ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْقِطْعَةِ الْجَيِّدَةِ مِنَ الذَّهَبِ نُفِخَ عَلَيْهَا فَخَرَجَتْ طَيِّبَةً وَوُزِنَتْ فَلَمْ تَنْقُصْ ، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : مَوْعِدُكُمْ حَوْضِي عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ ، وَذَلِكَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، فِيهِ أَمْثَالُ الْكَوَاكِبِ أَبَارِيقُ ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الْفِضَّةِ مَنْ وَرَدَهُ ، وَشَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا ، فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ : مَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ بِحَدِيثٍ مِثْلِ هَذَا ، أَشْهَدُ أَنَّ الْحَوْضَ حَقٌّ وَاجِبٌ ، وَأَخَذَ الصَّحِيفَةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا أَبُو سَبْرَةَ " (1)
قلت : فيه أن الحاكم مهما كان ظالماً إذا وعظه من هو أهل لذلك ، واستطاع الدخول إلى نفسه ، فإنه يرجع عن خطئه ، ويعود للصواب .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - المستدرك للحاكم (253) وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ(1/212)
(36) إقناعُ المخطئ
إنَّ السعي لمناقشة المخطئ بغية إقناعه يؤدي إلى إزالة الحاجز الضبابي الذي يعتري بصيرته فيعود إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ومن أمثلة ما ورد في السنّة بشأن هذا فعن سُلَيْمَ بْنِ عَامِرٍ الْخَبَائِرِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ ، يَقُولُ : أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غُلاَمٌ شَابٌّ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الزِّنَا , فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ , وَقَالُوا : مَهْ , فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ذَرُوهُ , ادْنُ , فَدَنَا حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ : أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ ؟ قَالَ : لاَ , قَالَ : فَكَذَلِكَ النَّاسُ لاَ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ , أَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ ؟ قَالَ : لاَ قَالَ : وَكَذَلِكَ النَّاسُ لاَ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ , أَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ ؟ قَالَ : لاَ , قَالَ : فَكَذَلِكَ النَّاسُ لاَ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ , أَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ قَالَ : لاَ , قَالَ : فَكَذَلِكَ النَّاسُ لاَ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ , أَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ قَالَ : لاَ , قَالَ : وَكَذَلِكَ النَّاسُ لاَ يُحِبُّونَهُ لِخَالاَتِهِمْ , فَاكْرَهْ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ , وَأَحِبَّ لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبِي , فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ أَغْفِرْ ذَنْبَهُ , وَطَهِّرْ قَلْبَهُ , وَحَصِّنْ فَرْجَهُ , قَالَ : فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ. " (1)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَجُلا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِي الزِّنَا، فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"أَقِرُّوهُ"، فَدَنَا حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟"قَالَ: لا، قَالَ:"وَكَذَلِكَ النَّاسُ لا يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ"، قَالَ:"أَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟"قَالَ: لا، قَالَ:"وَكَذَلِكَ النَّاسُ لا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ"، قَالَ:"أَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟"قَالَ: لا، قَالَ:"وَكَذَلِكَ النَّاسُ لا يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ"، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ كَفِّرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهْ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ". (2)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (2 / 139) (1066) والمعجم الكبير للطبراني - (7 / 177) (7577 ) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 201) (7660 ) صحيح لغيره(1/213)
(37) إفهامُ المخطئ بأنّ عذره الزائف غير مقبول
يحاول بعض المخطئين تقديم مبررات مختلقة وغير مقبولة وخصوصا إذا انكشف أمرهم بغتة على حين غَرة منهم بل قد يبدو على بعضهم التلعثم وهم ينطقون بالعذر الزائف وخصوصا الذين لا يُحسنون الكذب لنقاء في سرائرهم. فكيف يتصرّف المربي يا تُرى إذا صادف مثل هذا الموقف من أحد المخطئين ؟
إن القصة التالية تبيّن موقفا رائعا ودقيقا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مع أحد أصحابه ويظهر من خلال القصة المتابعة المستمرّة من المربي للمخطئ إلى حين تخلّيه عن موقفه الخاطئ:
عن زَيْدَ بن أَسْلَمَ، أَنَّ خَوَّاتَ بن جُبَيْرٍ ، قَالَ : نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ الظَّهْرَانِ ، قَالَ : فَخَرَجْتُ مِنْ خِبَائِي فَإِذَا أَنَا بنسْوَةٍ يَتَحَدَّثْنَ ، فَأَعْجَبْنَنِي ، فَرَجَعْتُ فَاسْتَخْرَجْتُ عَيْبَتِي ، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا حُلَّةً فَلَبِسْتُهَا وَجِئْتُ فَجَلَسْتُ مَعَهُنَّ ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قُبَّتِهِ ، فَقَالَ : أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا يُجْلِسُكَ مَعَهُنَّ ؟ , فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هِبْتُهُ واخْتَلَطْتُ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جَمَلٌ لِي شَرَدَ ، فَأَنَا أَبْتَغِي لَهُ قَيْدًا فَمَضَى وَاتَّبَعْتُهُ ، فَأَلْقَى إِلَيَّ رِدَاءَهُ وَدَخَلَ الأَرَاكَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ مَتْنِهِ فِي خَضِرَةِ الأَرَاكِ ، فَقَضَى حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأَ ، فَأَقْبَلَ وَالْمَاءُ يَسِيلُ مِنْ لِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ ، أَوْ قَالَ : يَقْطُرُ مِنْ لِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ ، فَقَالَ : أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ جَمَلِكَ ؟ ,ثُمَّ ارْتَحَلْنَا فَجَعَلَ لا يَلْحَقُنِي فِي الْمَسِيرِ ، إِلا قَالَ : السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ ذَلِكَ الْجَمَلِ ؟ , فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ تَعَجَّلْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ ، واجْتَنَبْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُجَالَسَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ تَحَيَّنْتُ سَاعَةَ خَلْوَةِ الْمَسْجِدِ ، فَأَتَيْتُ الْمَسْجِدَ فَقُمْتُ أُصَلِّي ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَعْضِ حِجْرِهِ فَجْأَةً فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وطَوَّلْتُ رَجَاءَ أَنْ يَذْهَبَ ويَدَعُنِي ، فَقَالَ : طَوِّلْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا شِئْتَ أَنْ تُطَوِّلَ فَلَسْتُ قَائِمًا حَتَّى تَنْصَرِفَ ، , فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : وَاللَّهِ لأَعْتَذِرَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ولأُبْرِئْنَ صَدْرَهُ ، فَلَمَّا قَالَ : السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ(1/214)
ذَلِكَ الْجَمَلِ ؟ , فَقُلْتُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا شَرَدَ ذَلِكَ الْجَمَلُ مُنْذُ أَسْلَمَ ، فَقَالَ : رَحِمَكَ اللَّهُ ثَلاثًا ، ثُمَّ لَمْ يُعِدْ لِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ .". (1)
إنه درس رائع في التربية والخطة الحكيمة المؤدية إلى النتيجة المطلوبة، ويمكن أن يؤخذ من القصة أيضا الفوائد التالية:
- المربي صاحب الهيبة يستحي منه من لابس المعصية إذا مرّ به
- إن نظرات وسؤالات المربي ـ على وجازتها وقصرها ـ لها دلالاتها الكبيرة وأثرها في النفوس
- عدم مناقشة العذر الملفّق لحظة سماعه ـ مع وضوح الثغرة فيه ـ والإعراض عن صاحبه يكفي في إشعار المخطئ بعدم قبوله مما يدفعه للتوبة والاعتذار، وهذا يُؤخذ من قوله " فمضى".
- المربي الجيد هو الذي يجعل المخطئ يشعر بالاستحياء منه الموجب للتواري عنه، والحاجة إليه الموجبة للإتيان إليه. ثم يتغلب الثاني على الأول.
- إن تغيير الموقف من المخطئ ينبني ـ في مثل هذه الحالة ـ على إظهار اعترافه ورجوعه عما حصل منه.
إن موقع المربي والقدوة في نفس أصحابه كبير وعظيم ولومه لبعضهم أو تخطئته تقع بموقع وقد يلاحظ المربي مصلحة أشخاص آخرين في إنكاره على أحد أصحابه من أجل المنفعة العامة، ولكن هذا لا يعني ترك الأثر السلبي الخاص باقيا بل يُمكن تداركه ومحو أثره بطرق منها المعاتبة من قِبَل التابع ولو بطريق واسطة كما فعل المغيرة بتوسيط عمر رضي الله عنهما ، فعَنِ الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَكَلَ طَعَامًا، فَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَقَامَ وَقَدْ كَانَ تَوَضَّأَ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَتَيْتُهُ بِمَاءٍ يَتَوَضَّأُ فَانْتَهَرَنِي , فَسَاءَنِي ذَلِكَ وَاللَّهِ، فَشَكَوْتُ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , إِنَّ الْمُغِيرَةَ بن شُعْبَةَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِ انْتِهَارُكَ إِيَّاهُ وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ فِي
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (4 / 274) (4038) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم - (2 / 977) (2513 ) وفيه انقطاع(1/215)
نَفْسِكَ عَلَيْهِ شَيْءٌ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :لَيْسَ فِي نَفْسِي عَلَيْهِ شَيْءٌ إِلا خَيْرٌ , وَلَكِنَّهُ أَتَانِي بِمَاءٍ لأَتَوَضَّأَ , وَإِنَّمَا أَكَلْتُ طَعَامًا , وَلَوْ فَعَلْتُ فَعَلَ النَّاسُ بَعْدِي " (1)
وفي المقابل إيضاح الموقف والتأكيد على مكانة التابع وحسن الظنّ به من قِبَل القدوة والمربي .
والقصة التالية تبين ذلك ، فعَنْ عَلِىِّ بْنِ الْحُسَيْنِ - رضى الله عنهما - أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ . وفي رواية عَنْ عَلِىِّ بْنِ الْحُسَيْنِ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْمَسْجِدِ ، وَعِنْدَهُ أَزْوَاجُهُ ، فَرُحْنَ ، فَقَالَ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىٍّ « لاَ تَعْجَلِى حَتَّى أَنْصَرِفَ مَعَكِ » . وَكَانَ بَيْتُهَا فِى دَارِ أُسَامَةَ ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهَا ، فَلَقِيَهُ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَنَظَرَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ أَجَازَا وَقَالَ لَهُمَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « تَعَالَيَا ، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ » . قَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يُلْقِىَ فِى أَنْفُسِكُمَا شَيْئًا » (2) .
وعَنْ صَفِيَّةَ ابْنَةِ حُيَىٍّ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَكِفًا ، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ ، فَانْقَلَبْتُ فَقَامَ مَعِى لِيَقْلِبَنِى . وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِى دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَسْرَعَا ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ » . فَقَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا سُوءًا - أَوْ قَالَ - شَيْئًا » (3) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ ، فَمَرَّ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا فُلاَنُ هَذِهِ امْرَأَتِي ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَنْ كُنْتُ أَظُنُّ بِهِ فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ بِكَ . قَالَ : إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ." (4)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 352) (17384 ) حسن
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2038 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3281 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5808 ) -يقلب : يردها إلى منزلها
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 403)(12592) 12620- صحيح(1/216)
وفِيهِ فَوَائِد مِنْهَا بَيَان كَمَالِ شَفَقَته - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أُمَّته ، وَمُرَاعَاته لِمَصَالِحِهِمْ ، وَصِيَانَة قُلُوبهمْ وَجَوَارِحهمْ ، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا فَخَافَ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَلَقِي الشَّيْطَان فِي قُلُوبهمَا فَيَهْلِكَا ، فَإِنَّ ظَنَّ السُّوء بِالْأَنْبِيَاءِ كُفْر بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْكَبَائِر غَيْر جَائِزَة عَلَيْهِمْ . وَفِيهِ أَنَّ مَنْ ظَنَّ شَيْئًا مِنْ نَحْو هَذَا بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَفَرَ ، وَفِيهِ جَوَاز زِيَارَة الْمَرْأَة لِزَوْجِهَا الْمُعْتَكِف فِي لَيْل أَوْ نَهَار ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرّ اِعْتِكَافه ، لَكِنْ يُكْرَه الْإِكْثَار مِنْ مُجَالَسَتهَا وَالِاسْتِلْذَاذ بِحَدِيثِهَا لِئَلَّا يَكُون ذَرِيعَة إِلَى الْوِقَاع أَوْ إِلَى الْقُبْلَة أَوْ نَحْوهَا مِمَّا يُفْسِد الِاعْتِكَاف وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب التَّحَرُّز مِنْ التَّعَرُّض لِسُوءِ ظَنّ النَّاس فِي الْإِنْسَان ، وَطَلَب السَّلَامَة وَالِاعْتِذَار بِالْأَعْذَارِ الصَّحِيحَة ، وَأَنَّهُ مَتَى فَعَلَ مَا قَدْ يُنْكَر ظَاهِره مِمَّا هُوَ حَقّ ، وَقَدْ يَخْفَى ، أَنْ يُبَيِّن حَاله لِيَدْفَع ظَنَّ السُّوء . وَفِيهِ الِاسْتِعْدَاد لِلتَّحَفُّظِ مِنْ مَكَايِد الشَّيْطَان فَإِنَّهُ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَان مَجْرَى الدَّم ، فَيَتَأَهَّب الْإِنْسَان لِلِاحْتِرَازِ مِنْ وَسَاوِسه وَشَرّه وَاللَّه أَعْلَم . (1)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (7 / 311)(1/217)
(38) مراعاةُ ما هو مركوز في الطبيعة والجبلّة البشرية
ومن ذلك غيرة النساء وخصوصا بين الضرائر فإن بعضهن قد تخطئ خطأ لو أخطأه إنسان في الأحوال العادية لكان التعامل معه بطريقة مختلفة تماما. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يراعي مسألة الغيرة بين نسائه وما ينتج عنها من أخطاء مراعاة خاصة يظهر منها الصبر والحلم مع العدل والإنصاف ومن أمثلة ذلك:
عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ ، فَضَرَبَتِ الَّتِى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ ، فَجَمَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِلَقَ الصَّحْفَةِ ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِى كَانَ فِى الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ « غَارَتْ أُمُّكُمْ » ، ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِىَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا ، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِى كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا ، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِى بَيْتِ الَّتِى كَسَرَتْ ." (1)
وفي رواية عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، أَنَّهَا تَعْنِي أَتَتْ بِطَعَامٍ فِي صَحْفَةٍ لَهَا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ ، فَجَاءَتْ عَائِشَةُ مُؤْتَزِرَةً بِكِسَاءٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ ، فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَةَ ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ فِلْقَتَيِ الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ : " كُلُوا غَارَتْ أُمُّكُمْ " مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَحْفَةَ عَائِشَةَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، وَأَعْطَى صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ لِعَائِشَةَ " (2)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : أَهْدَى بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِ قَصْعَةً فِيهَا ثَرِيدٌ وَهُوَ فِى بَيْتِ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ ، فَضَرَبَتِ الْقَصْعَةَ فَانْكَسَرَتْ ، فَجَعَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَأْخُذُ الثَّرِيدَ فَيَرُدُّهُ فِى
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5225 ) - بصحفة : الصحفة كالقصعة.
(2) - عشرة النساء للنسائي بتحقيقي (-16-7672 ) و نص برقم(3973) وابن أبي شيبة برقم(36282) والدارمي برقم(2653)وأبويعلى برقم(3250و3746) وهو صحيح
قَوْله ( وَمَعَهَا فِهْرٌ ) فِي الْقَامُوس الْفِهْر بِالْكَسْرِ حَجَر قَدْر مَا يُدَقُّ بِهِ الْجَوْز أَوْ مَا يُمْلَأُ الْكَفّ وَيُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ أَفَهَار وَفُهُور .(1/218)
الصَّحْفَةِ وَهُوَ يَقُولُ :« كُلُوا ، غَارَتْ أُمُّكُمْ ». ثُمَّ انْتَظَرَ حَتَّى جَاءَتْ بِقَصْعَةٍ صَحِيحَةٍ فَأَخَذَهَا ، فَأَعْطَاهَا صَاحِبَةَ الْقَصْعَةِ الْمَكْسُورَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : نَقُولُ بِهَذَا." (1)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ ، هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِى ، لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِى فِى خَلاَئِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ (2) .
وعَنْ عَائِشَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تُكْثِرُ ذِكْرَ خَدِيجَةَ وَقَدْ أَخْلَفَ اللَّهُ لَكَ مِنْ خَدِيجَةَ عَجُوزٌ حَمْرَاءُ الشِّدْقَيْنِ قَدْ هَلَكَتْ فِي دَهْرٍ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَضَبًا مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ:إِنَّ اللَّهَ رَزَقَهَا مِنِّي مَا لَمْ يَرْزُقْ أَحَدًا مِنْكُنَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْفُ عَنِّي عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، وَاللَّهِ لا تَسْمَعُنِي أَذْكُرُ خَدِيجَةَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ ). (3)
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا ، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ ، قَالَتْ : فَغِرْتُ يَوْمًا ، فَقُلْتُ : مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا ، قَالَ : مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا ، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ." (4)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ : أَلَا أُحَدِّثَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَنِّي ؟ قُلْنَا : بَلَى قَالَتْ : " لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ ، وَوُضِعَ رِدَاءَهُ ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ ، وَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّي قَدْ رَقَدْتُ ، ثُمَّ انْتَعَلَ رُوَيْدًا ، وَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا ، ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ رُوَيْدًا ، فَخَرَجَ وَأَجَافَهُ رُوَيْدًا ، وَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي ، وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي ، وَانْطَلَقْتُ فِي أَثَرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَطَالَ الْقِيَامَ ، ثُمَّ انْحَرَفَ وَانْحَرَفْتُ ،
__________
(1) - سنن الدارمى- المكنز - (2653) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3816) وصحيح مسلم- المكنز - (6430 )
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (16 / 317) (18548 ) حسن
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 204)(24864) 25376- حسن(1/219)
فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ ، وَأَحْضَرَ وَأَحْضَرْتُ ، وَسَبَقْتُهُ ، فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ ، فَدَخَلَ " فَقَالَ : " مَا لَكِ يَا عَائِشُ رَابِيَةً ؟ " قَالَ سُلَيْمَانُ : حَسِبْتُهُ قَالَ : " حَشْيَا " قُلْتُ : لَا شَيْءَ قَالَ : " لَتُخْبِرِنِّي ، أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ قَالَ : " أَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي " قُلْتُ : نَعَمْ قَالَتْ : " فَلَهَدَنِي لَهْدَةً فِي صَدْرِي أَوْجَعَنِي " قَالَ : أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ قَالَتْ : " مَهْمَا يَكْتُمُ النَّاسُ فَقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ " قَالَ : " نَعَمْ ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ ، وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ فَنَادَانِي ، وَأَخْفَى مِنْكِ وَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَأَسْتَغْفِرَ لَهُمْ " (1)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " فَقَدْتَهُ مِنَ اللَّيْلِ ، فَتَبِعْتُهُ فَإِذَا هُوَ بِالْبَقِيعِ " قَالَ : " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ ، وَإِنَّا لَاحِقُونَ ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ " قَالَتْ : ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ : " وَيْحَهَا ، لَوْ تَسْتَطِيعُ مَا فَعَلَتْ " (2)
و عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَهِيَ غَضْبَى ، ثُمَّ قَالَتْ : لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " حَسْبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ذُرَيْعَتَيْهَا ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " دُونَكِ فَانْتَصِرِي فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا ، حَتَّى رَأَيْتُهَا قَدْ يَبِسَتْ رِيقُهَا فِي فِيهَا ، مَا تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ " (3)
__________
(1) - عشرة النساء للنسائي بتحقيقي (24-7679 ) ونص برقم(3980) وعبد الرزاق برقم(6713) والدعا طب برقم(1148) ومسلم برقم (2301)
(2) - أخرجه أحمد برقم (25159و25209و25542) والفوائد الشهير برقم(964) والمسند الجامع برقم (16393) وابن ماجة برقم (1613) والدعاطب ( 1235 - 1245 ) من طرق عنها وعن أبي هريرة وبريدة حديث حسن صحيح
(3) - عشرة النساء بتحقيقي (28-7682) واعتلال القلوب برقم(608) وابن ماجة برقم(2057) وأحمد برقم(25357) صحيح لغيره
وفي حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 4 / ص 228) 1971 - قَوْله ( مَا عَلِمْت ) أَيْ بِقِيَامِ الْأَزْوَاج الطَّاهِرَات عَلَيَّ فِي تَخْصِيص النَّاس بِالْهَدَايَا يَوْم عَائِشَة وَقَدْ جَاءَتْ فَاطِمَة قَبْل ذَلِكَ وَكَأَنَّهَا مَا صَرَّحَتْ بِتَمَامِ الْحَقِيقَة وَعِنْد مَجِيء زَيْنَب ظَهَرَ لَهَا تَمَام الْحَقِيقَة
قَوْله ( أَحْسَبُك ) الْهَمْزَة لِلِاسْتِفْهَامِ أَيْ أَيَكْفِيك فِعْل عَائِشَة حِين تَقْلِب لَك الذِّرَاعَيْنِ أَيْ كَأَنَّك لِشِدَّةِ حُبّك لَهَا لَا تَنْظُر إِلَى أَمْر آخَر ( إِذَا قَلَبَتْ ) هِيَ لَك الذِّرَاعَيْنِ ( بُنَيَّةُ أَبِي بَكْر ) تَصْغِير بِنْت وَهُوَ فَاعِل قَلَبَتْ
( ذُرَيْعَتَيْهَا ) الذُّرَيْعَة بِضَمِّ ذَال مُعْجَمَة وَتَشْدِيد يَاء تَصْغِير الذِّرَاع وَلُحُوق الْهَاء فِيهَا لِكَوْنِهَا مُؤَنَّثَة ثُمَّ تَثْنِيَة وَأُضِيف كَذَا فِي الْمَجْمَع وَالنِّهَايَة وَفِي بَعْض الْأُصُول بِلَا هَاء التَّأْنِيث عَلَى الْأَصْل
قَوْله ( دُونَك ) أَيْ خُذِيهَا ( فَانْتَصِرِي ) كَأَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَاز وَدَفْع الْخِصَام فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ مَحْمُود حَيْثُ يُرْجَى بِهِ دَفْع الْخِصَام وَإِلَّا فَالْعَفْو أَحْسَن ( حَتَّى رَأَيْتهَا ) أَيْ مِمَّا ذَكَرْت لَهَا مِنْ الْكَلَام الشَّدِيد(1/220)
وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : زَارَتْنَا سَوْدَةُ يَوْمًا فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنِي وَبَيْنَهَا إِحْدَى رِجْلَيْهِ فِي حِجْرِي ، وَالْأُخْرَى فِي حِجْرِهَا ، فَعَمِلْتُ لَهَا حَرِيرَةً ، أَوْ قَالَ : " خَزِيرَةً " فَقُلْتُ : كُلِي ، فَأَبَتْ فَقُلْتُ : " لَتَأْكُلِي ، أَوْ لَأُلَطِّخَنَّ وَجْهَكِ ، فَأَبَتْ ، فَأَخَذْتُ مِنَ الْقَصْعَةِ شَيْئًا فَلَطَّخْتُ بِهِ وَجْهَهَا ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رِجْلَهُ مِنْ حِجْرِهَا تَسْتَقِيدُ مِنِّي ، فَأَخَذَتْ مِنَ الْقَصْعَةِ شَيْئًا فَلَطَّخَتْ بِهِ وَجْهِي ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَضْحَكُ ، فَإِذَا عُمَرُ يَقُولُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قُومَا فَاغْسِلَا وُجُوهَكُمَا ، فَلَا أَحْسِبُ عُمَرَ إِلَّا دَاخِلًا " (1)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : " أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي فَأَذِنَ لَهَا " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ وَأَنَا سَاكِتَةٌ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَيْ بُنَيَّةُ أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ " قَالَتْ : بَلَى قَالَ : " فَأَحِبِّي هَذِهِ فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ : وَالَّذِي قَالَ لَهَا فَقُلْنَ لَهَا : مَا نَرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُولِي لَهُ : " إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ " فَقَالَتْ فَاطِمَةُ : " لَا وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا " قَالَتْ عَائِشَةُ : " فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً
__________
(1) - عشرة النساء (30-7684-) والمسند الجامع برقم(6713) والمجمع برقم( 6783) وفضائل الصحابة برقم(483) وهو حديث حسن(1/221)
قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ ، وَأَتْقَى لِلَّهِ ، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا ، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً ، وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ ، وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا تُسْرِعُ فِيهَا الْفَيْئَةَ " فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ " إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ ، وَوَقَعَتْ بِي ، فَاسْتَطَالَتْ ، وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَرْقُبُ طَرَفَهُ ، هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ ، حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا حَتَّى أَنْحَيْتُ عَلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ " (1)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى عَائِشَةِ وَحَفْصَةَ فَخَرَجَتَا مَعَهُ جَمِيعًا ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ وَيَتَحَدَّثُ مَعَهَا ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ : أَلَا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي ، وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ فَتَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ ؟ قَالَتْ : " بَلَى ، فَرَكِبَتْ عَائِشَةُ عَلَى بَعِيرِ حَفْصَةَ ، وَرَكِبَتْ حَفْصَةُ عَلَى بَعِيرِ عَائِشَةَ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ ، وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ سَارَ مَعَهَا حَتَّى نَزَلُوا ، وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ فَغَارَتْ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ جَعَلَتْ تَجْعَلُ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الْإِذْخِرِ " وَتَقُولُ : " يَا رَبِّ سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي عَنْ رَسُولِكَ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا " (2)
__________
(1) - عشرة النساء (6- 7661) وأخرجه مسلم برقم(6443) ونص برقم(3961) وأحمد برقم(25312)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 190) 4472 - قَوْلهَا : ( يَسْأَلْنَك الْعَدْل فِي اِبْنَة أَبِي قُحَافَة ) مَعْنَاهُ يَسْأَلْنَك التَّسْوِيَة بَيْنَهُنَّ فِي مَحَبَّةِ الْقَلْبِ ، وَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَبِيت وَنَحْوه ، وَأَمَّا مَحَبَّةُ الْقَلْبِ فَكَانَ يُحِبُّ عَائِشَة أَكْثَر مِنْهُنَّ . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُنَّ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْعَدْلِ فِي الْأَفْعَال . وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء فِي أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ كَانَ يَلْزَمُهُ الْقَسْمُ بَيْنهنَّ فِي الدَّوَام ، وَالْمُسَاوَاة فِي ذَلِكَ كَمَا يَلْزَمُ غَيْره أَمْ لَا يَلْزَمُهُ ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ إِيثَارٍ وَحِرْمَانٍ ؟ فَالْمُرَاد بِالْحَدِيثِ طَلَبُ الْمُسَاوَاة فِي مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لَا الْعَدْلِ فِي الْأَفْعَالِ ، فَإِنَّهُ كَانَ حَاصِلًا قَطْعًا ، وَلِهَذَا كَانَ يُطَافُ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضِهِ عَلَيْهِنَّ ، حَتَّى ضَعُفَ ، فَاسْتَأْذَنَهُنَّ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ ، فَأَذِنَّ لَهُ .
(2) - عشرة النساء للنسائي محققا (43-7698) وأخرجه مسلم برقم(6450) والبخاري برقم(5211)
قَوْلهَا : ( جَعَلْت رِجْلهَا بَيْن الْإِذْخِر وَتَقُول إِلَى آخِره ) هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ وَقَالَتْهُ حَمَلَهَا عَلَيْهِ فَرْط الْغَيْرَة عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ أَمْر الْغَيْرَة مَعْفُوّ عَنْهُ .شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 195) 4477(1/222)
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَىَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَهِىَ غَضْبَى. ثُمَّ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَسْبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ بُنَيَّةُ أَبِى بَكْرٍ ذُرَيْعَتَيْهَا. ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَىَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا حَتَّى قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « دُونَكِ فَانْتَصِرِى ». فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا وَقَدْ يَبِسَ رِيقُهَا فِى فِيهَا مَا تَرُدُّ عَلَىَّ شَيْئًا فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ. (1)
وغيرة المرأة أمر مركوز فيها يحملها على أمور شديدة ويحول بينها وبين التبصّر بعواقب الأمور حتى قيل: إن المرأة إذا غارت لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه.
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن ابن ماجه- المكنز - (2057 ) صحيح
[ ش ( ما علمت ) أي بقيام الأزواج الطاهرات علي في تخصيص الناس بالهدايا يوم عائشة . وقد جاءت فاطمة قبل ذلك . وكأنها ما صرحت بتمام الحقيقة . وعند مجئ زينب ظهر لها تمام الحقيقة . ( أحسبك ) الهمزة للاستفام . أي أيكفيك فعل عائشة حين تقلب لك الذراعين . أي كأنك لشدة حبك لها لا تنظر إلى أمر آخر . ( ذريعتها ) الذريعة تضغير الذراع . ولحوق الهاء فيها لكونها مؤنثة . ثم ثنتها مصغرة . وأرادت ساعديها اه . نهاية ( دزنك ) أي خذيها ] .(1/223)
(39) الرفق في تصحيح الأخطاء :
الرفق في الاصطلاح : فهو كما قال ابن حجر رحمه الله : « الرِّفق بكسر الراء ، وسكون الفاء بعدها قاف ، هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل وهو ضد العنف » (1) .
أما الأحاديث بشأن الرِّفق فهي كثيرة ، سواءً ما كان منها بالقول أو ما كان بالفعل الصادر من المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك :
أن الله اتّصف بالرِّفق ، وأنه سبحانه يحبُّه ،فعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ ». (2)
قال النووي بعد أن سرد أحاديث في الرّفق : « وفي هذه الأحاديث فضل الرِّفق والحثّ على التخلّق ، وذم العنف ، والرِّفق سبب كل خير ، ومعنى يعطي على الرفق : أي : يثيب عليه مالا يثيب على غيره » (3) .
والرِّفق سبب الخير ، والحرمان من الرِّفق حرمان من الخير ، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلاَلٍ قَالَ سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ حُرِمَ الرِّفْقَ حُرِمَ الْخَيْرَ أَوْ مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ ». (4)
والرفق لا يدخل في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه ، فعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ». (5)
وأما الأحاديث الدالة على موضوعنا ، وهو تصحيح الأخطاء بمنهج الخلق العظيم عنه - صلى الله عليه وسلم - ،
__________
(1) - فتح الباري : 10 / 464 .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6766 )
(3) - شرح صحيح مسلم للنووي 6 / 112 .
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (6765 )
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (6767 )(1/224)
ومن هذا المنهج الرِّفق ، فهي كثيرة كذلك ، فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُونَ السَّامُ عَلَيْكَ . فَفَطِنَتْ عَائِشَةُ إِلَى قَوْلِهِمْ فَقَالَتْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَهْلاً يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ » . فَقَالَتْ يَا نَبِىَّ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ قَالَ « أَوَلَمْ تَسْمَعِى أَنِّى أَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ وَعَلَيْكُمْ » (1) .
ففي هذا الحديث أن هؤلاء الرَّهط من اليهود دعوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقولهم: السَّام عليكم : أي الموت العاجل ، ففهمت ذلك عائشة فردَّت عليهم وزادت اللعنة لهم، « فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتعوَّدَ لسانها الفحش ، أو أنكر عليها الإفراط في السبّ » (2) وذلك غاية الرِّفق منه - صلى الله عليه وسلم - ، حتى مع مخالفيه ، ومن يَدعون عليه بالموت العاجل ؛ فهو «لم يقابل قولهم القبيح ومقصدهم الفاسد بالعنف» (3) .
رفقه عليه الصلاة والسلام أثناء التّصحيح ، والتعليم بالمصَحَّح له ، والمتعلم كما فعل مع عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه ، فعن وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِى سَلَمَةَ يَقُولُ كُنْتُ غُلاَمًا فِى حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ يَدِى تَطِيشُ فِى الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ » . فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِى بَعْدُ (4) .
ففي هذا الحديث الحرص من النبي - صلى الله عليه وسلم - على تصحيح خطأ هذا الصبي اليتيم وتوجيهه إلى آداب الطعام ، وجاء كل ذلك برفق ولين حيث خاطبه عليه الصلاة والسلام بقوله : يا غلام بما يناسب سنه، وبما لا يوحى بالعنف والشِّدة . ولذا عَقَل هذا الغلام هذا التوجيه، فقال : فما زالت تلك طُعْمَتِي بعد - أي أنه فهم هذا التوجيه أحسن الفهم - ولزم ذلك وصار عادة له (5) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6395 )
(2) - فتح الباري : 11 / 46 .
(3) - فقه الدعوة في صحيح البخاري : القحطاني 1 / 512 .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (5376 )
(5) - النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - معلماً : أ . د فضل إلهي ص 196 .(1/225)
فانظر - يا رعاك الله - ما أرفق النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعليم اليتيم الذي كان في بيته وتحت نظره (1) .
حديث المسيء صلاته ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فِى نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » . فَرَجَعَ فَصَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ . فَقَالَ « وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ فَارْجِعْ فَصَلِّ ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » . فَقَالَ فِى الثَّانِيَةِ أَوْ فِى الَّتِى بَعْدَهَا عَلِّمْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ « إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِىَ قَائِمًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِى صَلاَتِكَ كُلِّهَا » (2) .
قال ابن حجر رحمه الله : « وفيه - الحديث - حسن التعليم بغير تعنيف ... وفيه : حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - ولطف معاشرته» (3) .
فهذا الحديث يؤكد بيان حرصه - صلى الله عليه وسلم - ، وشفقته ، وسعة صدره ، على تعليم أصحابه ما ينفعهم ، وتفهيمهم ما لم يفهموه (4) . ومن ذلك تصحيح هذا الخطأ من هذا الرجل بكل رفق ولين ، « وهذا يدل على حسن خلقه ولطف معاشرته» (5) ، وأيضاً فلقد كان هذا التصحيح من النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل ، فيه تعليم للصحابة رضي الله عنهم ، وقدوة لهم ليفعلوا مع مثل هذا الخطأ ما فعله عليه الصلاة والسلام .
وهناك قصة معاوية بن الحكم السلمي المتقدمة حيث عامله عليه الصلاة والسلام بكل رفق وسعة صدر ورحمة.
__________
(1) - المصدر السابق .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6251 ) وصحيح مسلم- المكنز - (911 )
(3) - فتح الباري : 2 / 327 .
(4) - تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : خالد عبد الله القرشي ص 391 .
(5) - المرجع السابق .(1/226)
وقصة الأعرابي الذي بال في المسجد ، وأغلب من شرح هذا الحديث أورد فيه الرفق وحسن تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - معه ، وتصحيحه لخطئه .
ومما سبق يتَّضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رفيقاً بأصحابه ، واسع الصدر أثناء تصحيح الأخطاء العادية منهم ، فهو عليه الصلاة والسلام قد أرشدهم إلى الأخطاء ، وصحَّحها لهم ، وعلّمهم كيفية الفعل الصحيح بدل الخطأ الذي ارتكبوه ، وذلك بالرِّفق ، واللِّين في القول ، والفعل ، ولذلك أثَّر عليهم هذا التعامل ، بأن بدرت منهم أقوال عبَّروا فيها عن تقديرهم للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، وحبهم له ، ورغبتهم في السّير على ما وجههم له عليه الصلاة والسلام .
- - - - - - - - - - - - -(1/227)
(40) الحكمة
والعمدة في موضوع الحكمة والموعظة الحسنة ، هو قول الباري عز وجل: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل
ادْعُ يَا مُحَمَّدُ قَوْمَكَ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقِ اللهِ ، طَرِيقِ الحَقِّ الذِي شَرَعَهُ اللهُ لِلنَّاسِ ، وَاسْتَعْمِلْ فِي دَعْوَتِكَ مَعْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الوَسِيلَةَ النَاجِعَةَ مَعَهُ ، وَالطَّرِيقَةَ المُنَاسِبَةَ ، وَجَادِلْ أَهْلَ الكِتَابِ بِالحُجَّةِ وَالقَوْلِ اللَّيِّنِ ، وَالعِبَارَةِ الحَسَنَةِ التِي لاَ تَشُوبُهَا قَسْوَةٌ وَلاَ عُنْفٌ ، لِيَسْتَمِرَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمُ الحِوَارُ وَالجَدَلُ وَالنِّقَاشُ ، فَتَسْتَطِيعَ إِقْنَاعَهُمْ بِصِحَّةِ دَعْوَتِكَ ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِكَ ، وَاتَرْكُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرَهُمْ للهِ ، فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ مَنْ ضَلَّ فَلاَ يُفِيدُ مَعَهُ جَدَلٌ وَلاَ دَعْوَةٌ ، وَهُوَ الذِي يَعْلَمُ مَنْ صَفَتْ نَفُسُهُ ، وَسَلِمَ تَفْكِيرُهُ ، فَاهْتَدَى وَآمَنَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ . (1)
فالدعوة بالحكمة ، والكلام بالموعظة الحسنة مع المخاطَب ، والنظر في أحوال الناس لتوصيل الدعوة ، وإزالة ما يعلق بهم من أخطاء ، وتصحيحها ، هو المنهج الأمثل ، والأسلوب الأحسن لاستجابة ذلك المخاطَب ، ولاستمالة قلبه ، وللتأثير عليه : « والطريقة التي يخاطبهم بها ، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها ، فلا تستبدَّ به الحماسة ، والاندفاع والغيرة ، فيتجاوز الحكمة في هذا كله ، وفي سواه ، وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق ، وتتعمَّق المشاعر بلطف ، لا بالزَّجر في غير موجب ، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل ، أو حسن نيّة ، فإن الرِّفق في الموعظة ، كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة ، ويؤلف القلوب النافرة ، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ » (2) .
والحِكمة لغة : « بالكسر : العدل ، والعلم ، والحلم ، والنبوة ، والقرآن والإنجيل . وأحكمه : أتقنه » (3) .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2026)
(2) - في ظلال القرآن: سيد قطب 4 / 2202 ، وانظر كذلك : تربية المراهق في رحاب الإسلام/ محمد الناصر وخولة درويش ، ص204 .
(3) - القاموس المحيط مادة ( حكم ) ص 1415 .(1/228)
وقيل : الحكمة : إصابة الحق بالعلم والعقل (1) .
أما الحكمة في الاصطلاح فقيل فيها : علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في الوجود بقدر الطاقة البشرية (2) ، وقيل: هي وضع الشيء في موضعه (3) .
وقد قيل فيها أقوال كثيرة ، ورجَّح صاحب كتاب : الحكمة في الدعوة إلى الله (4) أن التعريف الشامل لها هو : « الإصابة في الأقوال والأفعال ، ووضع كل شيء في موضعه » ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان من أحكم الخلق ، يضع الشيء في موضعه ، ولذا تآلفت عليه القلوب ، وتواطأت الأفئدة على محبته ، وتواترت الأقوال في مدحه - عليه الصلاة والسلام - ، ومن تتبع سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأقواله، وأفعاله ، وجد أنه كان ملازماً للحكمة في جميع أموره وتصرفاته ، كيف لا وقد أفرغت الحكمة في صدره - عليه الصلاة والسلام - فعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كَانَ أَبُو ذَرٍّ - رضى الله عنه - يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فُرِجَ سَقْفِى وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَفَرَجَ صَدْرِى ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأَفْرَغَهَا فِى صَدْرِى ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا . قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا افْتَحْ . قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ » (5) .
وقد أوتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الحكمة خيراً كثيراً كما قال سبحانه وتعالى {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (269) سورة البقرة
اللهُ يُؤتِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ المَعْرِفَةَ بِالعِلْمِ النَّافِعِ وَ الفِقْهِ وَالقُرْآنِ ( الحِكْمَةَ ) ، وَمَنْ يُؤْتِهِ اللهُ الحِكْمَةَ فَقَدْ آتَاهُ خَيْراً كَثِيراً فِي دِينِهِ وَدُنْياهُ ، وَمَا يَنْتَفِعُ بِالذِّكْرِ وَالمَوْعِظَةِ إلاَّ مَنْ لَهُمْ
__________
(1) انظر : المفردات للراغب الاصفهاني ، ص 249 مادة ( حكم ) .
(2) - التعريفات للجرجاني ص 123 .
(3) - المصدر السابق .
(4) - سعيد بن علي القحطاني - الحكمة في الدعوة إلى الله ص 27 .
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (1636 ) وصحيح مسلم- المكنز - (433)(1/229)
عُقُولٌ سَلِيمَةٌ يَعُونَ بَهَا مَعْنَى الكَلامِ . (1)
وللحكمة أركان ثلاثة وهي : العلم . 2- الحلم . 3- الأناة (2) .
وكلها قد وردت بها الأحاديث والمواقف منه عليه الصلاة والسلام ، والتي دلَّت على بالغ حكمته ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ ، وَجَعَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِى الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا ، لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ « نَعَمْ » . وَذَلِكَ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ . (3)
والحكمة - والله أعلم - في هذا الحديث هي تغطية النبي - صلى الله عليه وسلم - لوجه الفضل. وفي رواية عند ابن حجر : لوى عنقه ، وفي رواية كذلك : صرف وجه الفضل إلى الشق الآخر .. وقد جاء معلّلاً . كما عند ابن حجر - قوله عليه الصلاة والسلام : رأيت غلاماً حدثاً - وفي رواية شاباً وشابة وجاريةٌ حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان ، وفي الرواية الأخرى فلم آمن عليهما الشيطان .. (4) .
فهذا التصرف « تصرفٌ حكيمٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حيث لم يزد على وضع يده أمام وجه الفضل ، مع أنه نظر إلى النساء وهو في عبادة ، ورديف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن هذا الأسلوب النبوي كان كافياً لإصلاح الخطأ من الفضل ابن عباس رضي الله عنهما » (5)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ « وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ » . مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا (6) .
ولعل الحكمة في هذا الحديث هي عدم تسمية المخطئ بعينه ، إذ ليس الجميع كلهم قد
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 276)
(2) - انظر الحكمة في الدعوة إلى الله ص 43 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1513 )
(4) - فتح الباري : 4 / 80 .81 .
(5) - المنهاج النبوي في دعوة الشباب ص 337 .
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (60 ) -أرهق : أخر(1/230)
نسوا مسح أعقابهم - بالتأكيد - « فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث كان يرى الذين أخطأوا في وضوئهم ، وقصَّروا، وعند إنكاره عليهم ، لم يقل لهم يا فلان ، ويا فلان ، بل قال : ويل للأعقاب من النار (1) ، وستر على المخطئ ، منهم فدلّ ذلك على حكمته عليه الصلاة والسلام ، وبعْد نظره في هذه المسألة وغيرها بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - .
كذلك حكمته عليه الصلاة والسلام مع معاوية بن الحكم السلمي الذي شمّت العاطس وهو في الصلاة، فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِىِّ قَالَ بَيْنَا أَنَا أُصَلِّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِى الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَىَّ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِى لَكِنِّى سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبِأَبِى هُوَ وَأُمِّى مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِى وَلاَ ضَرَبَنِى وَلاَ شَتَمَنِى قَالَ « إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَىْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ » (2) .
وهذا الموقف من أعظم الحكم البارزة السامية التي أوتيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ظهر أثر ذلك في نفس ومشاعر هذا الرجل، لأن النفوس مجبولة : على حب من أحسن إليها ، ولهذا قال معاوية بن الحكم رضي الله عنه : ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه (3) .
وصدق القائل :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبدَ الإحسانُ إنسانا
وحكمته عليه الصلاة والسلام مع الأعرابي الذي بال في المسجد فعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى صَلاَةٍ وَقُمْنَا مَعَهُ ، فَقَالَ أَعْرَابِىٌّ وَهْوَ فِى الصَّلاَةِ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِى وَمُحَمَّدًا ، وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا . فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلأَعْرَابِىِّ « لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا » . يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ (4) .
حيث تعامل معه النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل حكمة ، وحلم ، ورفق ، مع أنه أتى بأمر عظيم - وهو
__________
(1) - فقه الدعوة في صحيح البخاري : خالد عبد الرحمن القريشي : 1 / 360 .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (1227 )
(3) - انظر الحكمة في الدعوة إلى الله : القحطاني ص 191 .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6010 ) -حجر : ضيق(1/231)
البول في المسجد - استحق عليه الهمَّ بالضّرب، والأذى من الصحابة الكرام، ومع ذلك تؤثِّر فيه هذه الحكمة النبوية ، فيرفع عقيرته بقوله : اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً ، إنها أعظم حكمة تصدر من أعظم الخلق - صلى الله عليه وسلم - .
- - - - - - - - - - - - -(1/232)
(41) الموعظة الحسنة
الموعظة في اللغة: كما جاء في القاموس المحيط : «وعظه ، يعظه، وعظاً ، وعظةً وموعظةً : ذَكّره ما يليّن قلبه من الثواب والعقاب فاتّعظ» (1) .
والموعظة في الاصطلاح هي : التذكير بالخير ، والحق على الوجه الذي يرق له القلب ، ويبعث على العمل (2) .
والموعظة الحسنة قيل هي التي يستحسنها السامع ، وتكون في نفسها حسنة ، باعتبار انتفاع السامع بها (3) .
وقيل : هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب (4) . وأسلوب الوعظ هو من أنفع الأساليب التي يستخدمها المرء في التأثير على الغير .
ولأسلوب الوعظ أو الموعظة الحسنة صفات منها :
النصح ومنه قوله سبحانه على لسان نوح : {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (34) سورة هود.
وَأَيُّ شَيءٍ يُفِيدُكُمْ نُصْحِي وَإِبْلاَغِي إِيَّاكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي إِنْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُضِلَّكُمْ وَيَغْوِيكُمْ؟ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَالِكُ أَزِمَّةِ الأُمُورِ ، المُتَصَرِّفُ المُطْلَقُ ، العَادِلُ الذِي لا يَجُورُ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ النَّاسُ ، يَوْمَ الحِسَابِ ، لِيَجْزِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ أَنَّ النُّصْحَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُهُ المُسْتَعِدُّ لِلرَّشَادِ ، وَيَرْفُضُهُ مَنْ غَلَبَ عَلَيهِ الغَيُّ وَالفَسَادُ (5) .
ومنها التذكير ، وأعظمه التذكير بيوم الحساب كما قال سبحانه وتعالى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا
__________
(1) - القاموس المحيط مادة ( وعَظَه ) ص 903 .
(2) - أصول التربية الإسلامية وأساليبها : النحلاوي ص 252 .
(3) - فتح القدير : 3 / 230 .
(4) - تيسير الكريم الرحمن ص 452 .
(5) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1508)(1/233)
الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (2) سورة الطلاق .
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى الرِّجَالَ المُؤْمِنينَ إذَا طَلَّقَ أحَدُهُمُ زَوْجَتَهُ طَلاَقاً ، لَهُ عَليها رَجْعَةٌ فِيه ، أنْ يُحْسِنَ فِي أمْرِها إذا قَارَبَتْ عِدَّتُهَا عَلَى الانْقِضَاءِ ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إلاَّ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ مُراجَعَتِها ، فَإمَّا أنْ يُمْسِكَها بِمَعْرُوفٍ ( أيْ يُراجِعُها وَيُعيدُهَا إلى عِصْمَتِهِ ) ، فَيُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا ، وَهُوَ يَنْوِي مُعَاشَرَتَها بِالمَعْرُوفِ ، أوْ يُسَرِّحَهَا وَيَتْرُكَها تَنْقَضِي عِدَّتُها وَيُخْرِجَها مِنْ مَنْزِلِهِ بِالتِي هِيَ أحْسَنُ ، بِدُونِ خِصَامٍ وَلا شِقَاقٍ . وَيُكَرِّرُ للهُ أمْرَهُ للرِّجَالِ بِأنْ لا يُمْسِكُوا زَوْجَاتِهِمْ للاضْرَارِ وَالاعْتِدَاءِ . ( أيْ أنْ لا يُرَاجِعُوهُنَّ وَهُمْ يُرِيدُونَ مضَارًّتَهُنَّ وَإيذاءَهَُّ بِالحَبْسِ وَتَطْويلِ مُدَّةِ العِدَّةِ لِيُلْجِئُوهُنَّ إلى الافْتِدَاءِ ) . وَحَذَّرَ اللهُ مَنْ يُخَالِفُ أمْرَه بِأنَّه يَكُونُ قَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ . وَنَهَى اللهُ المُؤْمِنينَ عَنِ التَّلاعُبِ فِي الطَّلاقِ والتَّسَلِّي فِيه ، وَعَدَّ ذَلِكَ مِنْ قَبيلِ اتِّخَاذِ آياتِ اللهِ هُزْواً وسُخْرِيَةً . وَقَالَ تَعَالَى : اذْكُرُوا يَا أيُّها المُؤْمِنُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيكُمْ في إرْسَالِ الرَّسُولِ إليكُمْ بِالهُدَي وَالبَيِّنَاتِ وَمَا أنْزَلَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ ( أي القُرآنِ وَالسُّنَّةِ ) ، وَاللهُ يَعِظُكُمْ بِهِ فَيَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ وَيَتَوعَّدُكُمْ عَلَى ارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ ، فَاتَّقُوا اللهَ في جَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ وَأَحْوَالِكُمْ . (1)
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعظ أصحابه بالمواعظ الحسان، ويتخوّلهم بالموعظة ، ويشدُّ أفئدتهم للانتباه له ، وذلك امتثالاً لتوجيه الله له بذلك ، حيث قال سبحانه : {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} (63) سورة النساء،
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ هُمُ المُنَافِقٌُونَ ، وَاللهُ وَحْدَهُ يَعْلَمُ مَبْلَغَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الكُفْرِ وَالحِقْدِ وَالكَيْدِ ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ ، فَإنَّهُ لاَ تَخْفَى عَلَيهِ مِنْهُمْ خَافِيةٌ . ثُمَّ يَدْعُو اللهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - إلى مُعَامَلَتِهِمْ :
- أَوْلاً : بِالإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَعَدَمِ الإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ بِالبَشَاشَةِ وَالتَّكْرِيمِ ، وَهَذَا النَّوعُ مِنَ المُعَامُلَةِ يُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمُ الهَوَاجِسَ وَالشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 238)(1/234)
- ثُمَّ بِالنُّصْحِ وَالتَّذْكِيرِ بِالخَيْرِ ، عَلَى وَجْهٍ تَرِقُّ لَهُ قُلُوبُهُمْ ، وَيَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّأمُّلِ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ العِظَاتِ .
- ثُمَّ بِالقَوْلِ البَلِيغِ ، الذِي يُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِهِمْ ، كَالتَّوَعُّدِ بِالقّتْلِ ، وَالاسْتِئْصَالِ إنْ ظَهَرَ مِنْهُمْ نِفَاقٌ ، وَأنْ يُخْبِرَهُمْ أنَّ اللهَ عَالِمٌ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ . (1)
فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا التوجيه يعظ أصحابه ، فعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ، قَالَ : صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الصُّبْحِ , ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الأَعْيُنُ , وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ , فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدَّعٍ فَأَوْصِنَا قَالَ : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا , وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ , وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ , وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ " (2)
« فانظر كيف فعلت موعظة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قلوب سامعيه ، حيث وجلت من موعظته قلوبهم ، ودمعت لها أعينهم ، وذلك لأنه وعظهم موعظة بليغة جعلت قلوبهم تتأثر ذلك التأثر ...» (3) .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوّل أصحابه بالموعظة كراهة السآمة فعَنْ شَقِيقٍ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ بَابِ عَبْدِ اللَّهِ نَنْتَظِرُهُ فَمَرَّ بِنَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِىُّ فَقُلْنَا أَعْلِمْهُ بِمَكَانِنَا . فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ إِنِّى أُخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ فَمَا يَمْنَعُنِى أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ إِلاَّ كَرَاهِيَةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِى الأَيَّامِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. (4)
قال ابن حجر تعليقاً على الحديث : « وفيه رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ، وحسن التوصل إلى تعليمهم وتفهيمهم ؛ ليأخذوا عن نشاط لا عن ضجر ، ولا ملل ويُتقدى به في ذلك ،
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 556)
(2) - مسند الشاميين 360 - (1 / 254) (437) صحيح
(3) - أخلاق النبي في القرآن والسنة 3 / 1090 .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6411 ) وصحيح مسلم- المكنز - (7305) -يتخول : يتعاهد -السآمة : الملل والضجر(1/235)
فإن التعليم بالتدريج أخفُّ مؤنة ، وأدعى إلى الثبات من أخذه بالكدِّ والمغالبة » (1) .
وقال العلامة الطيبي: «المعنى أنه كان يتفقدنا بالموعظة في مظان القبول، ولا يكثر علينا لئلا نسأم » (2) .
وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعظ أصحابه، ويوجز في الموعظة ويتخولهم بها، ومن تلك المواعظ ما استخدمه عليه الصلاة والسلام في تصحيح الأخطاء ، وقد كان هذا المنهج - منهج تصحيح الخطأ بالموعظة - من المناهج التي أثّرت في الصحابة رضوان الله عليهم ، ووقرت في نفوسهم ، وبالتالي انقادوا لها ومن هذه المواقف ما يلي :
فعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِىَّ بَعَثَ إِلَى عَسْعَسِ بْنِ سَلاَمَةَ زَمَنَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ اجْمَعْ لِى نَفَرًا مِنْ إِخْوَانِكَ حَتَّى أُحَدِّثَهُمْ.فَبَعَثَ رَسُولاً إِلَيْهِمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَ جُنْدَبٌ وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ أَصْفَرُ فَقَالَ تَحَدَّثُوا بِمَا كُنْتُمْ تَحَدَّثُونَ بِهِ. حَتَّى دَارَ الْحَدِيثُ فَلَمَّا دَارَ الْحَدِيثُ إِلَيْهِ حَسَرَ الْبُرْنُسَ عَنْ رَأْسِهِ فَقَالَ إِنِّى أَتَيْتُكُمْ وَلاَ أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بَعْثًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّهُمُ الْتَقَوْا فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ وَإِنَّ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ قَالَ وَكُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَتَلَهُ فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ كَيْفَ صَنَعَ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ « لِمَ قَتَلْتَهُ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهَ أَوْجَعَ فِى الْمُسْلِمِينَ وَقَتَلَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا - وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا - وَإِنِّى حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَقَتَلْتَهُ ». قَالَ نَعَمْ.قَالَ « فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ « وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». قَالَ فَجَعَلَ لاَ يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ « كَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». (3) .
__________
(1) - فتح الباري : 11 / 232 .
(2) - النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - معلماً ص 224 .
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (289) -البرنس : كل ثوب رأسه منه ملتصق به من أدراعه -حسر : كشف(1/236)
علَّق ابن حجر رحمه الله على هذا الحديث بقوله :« قال ابن التِّين : في هذا اللوم ، تعليم وإبلاغ في الموعظة ، حتى لا يقوم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد» (1) .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - زجر أسامة ، وكرر عليه الإنكار لفداحة ما صنع، بل وزاده - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة ، حيث وعظه وذكّره باليوم الآخر ، وأن ذلك اليوم تبلى فيه السرائر ، ولا يخفى على الله فيه خافية ، فوعى أسامة هذا الدّرس الكبير ، حتى تمنّى أنه لم يسلم إلا ذلك اليوم مخافة وقوعه في العذاب الشديد يوم القيامة .
قال ابن بطّال: « كانت هذه القصة سبب حَلِفِ أسامة أن لا يقاتل مسلماً بعد ذلك ، ومن ثم تخلف عن عليٍّ في الجمل وصِفِّين » (2) .
قصة أبي مسعود البدري رضي الله عنه حينما ضرب غلامه فعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِىُّ كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِى بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِى « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ». فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ - قَالَ - فَلَمَّا دَنَا مِنِّى إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا هُوَ يَقُولُ « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ». قَالَ فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِى فَقَالَ « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلاَمِ ». قَالَ فَقُلْتُ لاَ أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا. (3)
ففي هذا الحديث وعظُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي مسعود، وتذكيره بالله تبارك وتعالى، قال النووي رحمه الله : « فيه الحث على الرِّفق بالمملوك ، والوعظ ، والتنبيه على استعمال العفو ، وكظم الغيظ ، والحكم كما يحكم الله على عباده » (4) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعظه، وأبلغ في الموعظة بالتذكير بالله سبحانه وبقدرته على العبد .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فتح الباري : 12 / 203 .
(2) - فتح الباري : 12 / 204 .
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4396 )
(4) - شرح صحيح مسلم للنووي 4 / 290 .(1/237)
( 42) الحوار والإقناع :
والحوار والإقناع من أساليب ووسائل تصحيح الأخطاء ، وهما دالَّان على الاتصاف بالخلق الحسن لأنهما لا يصدران إلا من إنسان قد اتّصف بهذه الأخلاق الفاضلة ؛ لأن الناس تختلف عقولهم ، ومداركهم من حيث الفهم وسرعة الاستجابة «ويختلف الناس أيضاً من حيث الانقياد والتسليم لشرع الله. أمره ونهيه » (1) ، لذا كان لزاماً على المصحِّح للأخطاء اتخاذ أسلوب الحوار والإقناع ليتمكن من عقول المدعوين لإفهامهم بما يجب أن ينقادوا له من شرع الله وحكمه.
والإقناع هو الإرضاء للشخص عن طريق الحوار ، والنقاش لقول و« أقنعه ، أرضاه ، وقنّعه تقنيعاً : رضّاه » (2) .
« والإقناع الفكري من أول الطرائق التي سلكها القرآن ، وسلكها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معظم الحقائق التي اشتمل عليها الإسلام، ومنها موضوعات الأخلاق » (3) ؛ ومن الأمثلة التي سلكها القرآن في هذا الأمر - الإقناع - قول الله تبارك وتعالى :{ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) } [المؤمنون : 84 - 89]
كانَ مُشْرِكُوا العَرَبِ مُضِطَرِبِي العَقِيدَة ، لا يُنكِرُون وُجُودَ اللهِ ، ولا يُنْكِرُون أنَّه مَالِكُ السَّمَاواتِ والأرْضِ ومُدَبِّرُهما ، ولكِنَّهم كانوا مَعَ ذلك يُشْرِكُونَ مَعَهُ في العِبَادَةِ آلِهَةً أُخْرَة ، ويَقُولُونَ : إِنَّهم إنَّما يَعْبُدونَ هذهِ الآلِهَة ليُقَرِّبُوهم إلى اللهِ زُلْفَى . ويَجْعَلُون المَلائِكَةَ بَنَاتِ اللهِ ، وهُنا يَأخُذُ اللهُ سُبْحَانَه بالمُسَلِّماتِ التِي يُقِرُّونَ بِها ، فَيَقُولُ لِنَبيِّه الكَرِيمِ :
__________
(1) - المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - : ص 94 .
(2) - القاموس المحيط مادة ( قَنَع ) ص 978 .
(3) - الأخلاق الإسلامية وأسسها الميداني : 1 / 205 .(1/238)
اسْأَلْهُم لِمَنِ الأًَرْضُ ومَنْ فيها إِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟
إنَّهُمْ سَيَقُولُون إنَّ مَالِكَها ، وخَالِقَها ، ومُدَبِّرَها هو اللهُ تَعالى ، ولكِنَّهم مَعَ ذلِكَ لا يَذْكُرُونَ هذهِ الحَقِيقَةَ حينما يَتَوَجَّهُونَ بالعِبَادَةِ لِغَيْرِهِ .
وقُلْ لَهُم : مَنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ السَّبْعَ ومَنْ فِيهِنَّ ، ومَنْ هو رَبُّ العَرْشِ العَظِيم؟ وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ : العَرْشُ لا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ أَحَدٌ إلاَّ اللهُ تَعالى .
إنَّهُم سَيقُولُون : إِنَّ كُلَّ شيء في الوُجُودِ هو للهِ ، وهو رَبُّهُ ، ولَيْسَ لَهُم جَوابٌ غير هذا . فَقُلْ لَهُم : إذا كُنْتُم تَعْتَرِفُون بأنَّه رَبُّ السَّمَواتِ ، وَربُّ العَرْشِ العَظِيم ، أَفَلا تَخَافُون عِقَابَه ، وتَحْذَرُونَ عَذَابَه في عِبَادَتِكُم مَعَهُ غَيْرَه ، وإشْرَكِكُم بِه ، وإنْكَاركُم قُدْرَتَه على إِعَادَةِ خَلْقِكُمْ ونَشْرِكُم ، وحِسَابِكُم ، في الآخِرَةِ؟
قُلْ لَهْم : مَنْ يَمْلكُ كُلَّ شَيْءٍ في الوُجُودِ ومَنْ هو المُسَيْطِرُ المُسْتَعْلي عَلًيْهِ ، ومَنْ الذي يَسْتَطِيعُ بِقُوَّتِه ، وسُلْطَانِه أنْ يَبْسُطَ حِمَايَتَهُ ( يُجِيرُ ) على مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِه ، فلا يَصِلُ إليهِ أَحَدٌ بِسُوءٍ ، ولا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ خَلَقِهِ أنْ يُجِيرَ عَلَيْه ، وأَنْ يَمْنَعَ أَمْرَ اللهِ مِنْ أَنْ يَصِلَ إِلى مَنْ يَشَاءُ اللهُ وصولَ أمْرِهِ إِليهِ ، فإنْ كَانَ لَكُمْ عِلْمٌ بِذَلِكَ فَأَجْيبُونِي؟
فَسَيَعْتَرِفُونَ أنَّ السَّيِّدَ العَظِيمَ ، الذي يُجِيرُ ولاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُجِيرَ عَلَيْهِ ، هو اللهُ وَحْدَه ، لا شَرِيكَ لَهُ في ذَلِكَ ، فَقُلْ لَهُمْ : كَيْفَ تَذَهَبُ عُقُولُكُم ، وتُخَدَعُون وتُصْرِفُونَ عَنِ الحَقِّ إلى البَاطلِ ، فَتَعْبُدُونَ تَذْهَبُ اللهِ غَيْرَهُ ، مَعَ اعْتِرَافِكُم أنَّه لا رَبَّ سِواهُ فَتَكُونُون كَمَنْ سُحِرَتْ عُقُولُهم وَغَابَتْ عَنْ رُشْدِها . (1)
ففي هذه الآيات يبيِّن سبحانه وتعالى ما كان عليه المشركون ، ثم « يأخذهم بمسلمَّاتهم التي يقرِّون بها ، ليصحِّح ذلك الاضطراب في العقيدة ، ويردّهم إلى التوحيد الخالص الذي تقود إليه مسلَّماتهم ، لو كانوا يستقيمون على الفطرة ، ولا ينحرفون » (2) وهذا نوع من طرق الإقناع ، ويسمى كذلك بتقرير المخاطب بأصول وقواعد ، ثم البناء عليها بعد إقرار المخاطب بها (3) .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2637)
(2) - في ظلال القرآن - سيد قطب : 4 / 2478 .
(3) - بتصرف من : فقه الأخلاق والمعاملات : مصطفى العدوي 2 / 33 .(1/239)
وقد سلك هذه الطريقة النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في تصحيحه للأخطاء ، فكانت هذه الطريقة - وهي من طرق ومنهج الخلق العظيم - من أبلغ الطرق التي أثَّرت في الصحابة ، فصححوا أخطاءهم ، وانقادوا لأمر الله ، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن الأمثلة على ذلك ما يلي :
فعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ نَاسٌ مِنَ الأَنْصَارِ حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ ، فَطَفِقَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِى رِجَالاً الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ فَقَالُوا يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِى قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا ، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ .قَالَ أَنَسٌ فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَقَالَتِهِمْ ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِى عَنْكُمْ » . فَقَالَ فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا ، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِى قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا ، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَإِنِّى أُعْطِى رِجَالاً حَدِيثِى عَهْدٍ بِكُفْرٍ ، أَتَأَلَّفُهُمْ ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى رِحَالِكُمْ ، فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا . فَقَالَ لَهُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « سَتَجِدُونَ أُثْرَةً شَدِيدَةً ، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنِّى عَلَى الْحَوْضِ » . قَالَ أَنَسٌ فَلَمْ يَصْبِرُوا . (1)
وفي هذا الحديث يتبين بجلاء أهمية الحوار ، والإقناع في تغيير سلوك الآخرين إلى الصواب ، حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعامل مع هذه الفئة المؤمنة - التي قالت ما قالت - بكل هدوء حتى أقنعهم ، فأثَّر هذا الأسلوب فيهم حتى أنهم بكوا من تأثّرهم ، وأعلنوها بقولهم : رضينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسماً وحظّاً ، «وفي هذا الأسلوب تبرز قوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحوار ، وإثارة العواطف ، والتّأنيب والاسترضاء » (2) .
وهذا الكلام من النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار رضي الله عنهم فيه من اللِّين والرِّفق بهم والخلق العظيم ما فيه ، ولذا رضَّاهم ، وأقنعهم حتى اقتنعوا ورضوا .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4331 )
(2) - منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع الناشئة ص 42 .(1/240)
قال الإمام الكرماني رحمه الله : « إنما أراد به - صلى الله عليه وسلم - تألّف الأنصار ، واستطابة نفوسهم ، والثناء عليهم في دينهم ، ومذهبهم ، حتى رضي أن يكون واحداً منهم ، لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها » (1) .
وهذا الأمر يؤكِّد للدعاة أن يتحلّوا بهذه الصفة العظيمة ، وأهمية ذلك في حياة الدعاة .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ « نَعَمْ . حُجِّى عَنْهَا ، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ » (2) .
وورد ذلك في شأن الصيام بأحاديثَ أُخَر :
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ « أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّى ذَلِكِ عَنْهَا ». قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ « فَصُومِى عَنْ أُمِّكِ ». (3)
ففي هذا الحديث صَحَّحَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قد يقع فيه الإنسان، ويخطئُ فيه ، وهو عدم القضاء عن نذر الميت . وقد قال النووي رحمه الله أنه : « يستحب لوليه أن يصوم عنه ويصح صومه عنه، ويبرأ به الميت » (4) فالتصحيح جاء بالحوار والإقناع ، حيث « استخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسلوب المحاورة مع هذه المرأة ليضمن وصول المعلومة إلى ذهنها ، وكان بإمكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يجيب بكلمة نعم ، وينتهي الأمر ، ولكنه أراد - صلى الله عليه وسلم - من هذه السائلة الاستجابة المبنية على الفهم والإقناع التام » (5) وبهذا يُعلم أن هذا الأسلوب من أنفع الأساليب للتصحيح ، حيث يتضمّن الخلق العظيم الذي استخدمه - صلى الله عليه وسلم - في تصحيحه للأخطاء .
__________
(1) - شرح الكرماني على صحيح البخاري ، نقلاً عن فقه الدعوة في صحيح البخاري للقحطاني 2/956 . وانظر : من أساليب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التربية : نجيب العامر ص 162 .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1852 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (2752)
(4) - شرح صحيح مسلم للنووي 3 / 214 .
(5) - منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع الناشئة ص 43 .(1/241)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِى يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهَا « أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا ». قَالَتْ لاَ. قَالَ « أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ». قَالَ فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَتْ هُمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ. (1)
ففي هذا الحديث صحَّح النبي - صلى الله عليه وسلم - خطأ المرأة - المتمثل بعدم إخراج زكاة الحلي - ، عن طريق الحوار والإقناع ، والموعظة الحسنة ، وذلك عبر تذكيرها بالعاقبة ، وهي النار يوم القيامة ، وقد أثّر هذا الأسلوب - الإقناع - في المرأة - أو المرأتين - حيث ألقت هذا الحلي ؛ وقالت هما لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فتبيّن بهذا الأسلوب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - « كان يستعمل مع المخطئ الحوار العقلي حتى يقتنع بخطئه ، فيوجهه إلى الصواب » (2) .
و« بهذا المنهج استطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يربِّي جيلاً صالحاً ، مترجماً لإيمانه عاملاً بعلمه » (3) ، فبلغ هذا الجيل ما بلغ في الإيمان ، والعمل الصالح بتوفيق الله ثم بأسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم ، وطرق تصحيحه لأخطائهم (4) .
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (1565 ) حسن -المسكة : السوار
(2) - المنهاج النبوي في دعوة الشباب ص 301 .
(3) - المرجع السابق .
(4) - راجع كتاب : الرسول يسأل والصحابي يجيب : سلمان الدحدوح ص 36 ، وكتاب الجوانب الإعلامية في خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدكتور : سعيد بن علي ثابت - الفصل الثالث : أصول الإقناع في خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ص 126 .(1/242)
(43) المدح والثناء
والمدح والثناء هما بمعنىً واحد ، ويفيدان وصف الآخر بصفات حسنة ، فمدحه مدحاً ومِدحَة ، أحسن الثناء عليه (1) ، والثَّنّاء بالفتح : وصفٌ بمدحِ (2) .
وقيل : هو وصف المحاسن بكلام جميل (3) .
والمدح منه ما هو مباح ، ومنه ما هو محظور ، فالمباح هو الذي يكون عن صدقٍ ، وتوسطٍ ، واعتدالٍ ، وعدم مبالغةٍ في الحدِّ ، كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مُدِحَ وهو عليه الصلاة السلام _ أهل ٌ لكل مدح وثناءٍ جميل ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - منع من المبالغة في المدح ، ولو كان خاصٌ به ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ - رضى الله عنه - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لاَ تُطْرُونِى كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ » (4) .
قال ابن حجر « والإطراء المدح بالباطل ، تقول : أطريتُ فلاناً: مدحته فأفرطت في مدحه » (5) .
كذلك من صفات المدح المباح والجائز ، أن يأمن المادح من افتتان الممدوح بالمدح ، وألا يحدث هذا المدح في نفس الممدوح كبراً أو استعلاءً أو زهواً فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ، قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ » . مِرَارًا ثُمَّ قَالَ - « مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلاَنًا ، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ ، وَلاَ أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا ، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ » . (6) .
__________
(1) - انظر : القاموس المحيط مادة ( مَدَح ) ص 308 .
(2) - المصدر السابق ص 1637 .
(3) - انظر : معجم مقاييس اللغة : مادة ( مَدَحَ ) 5 / 308 .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (3445 ) -تطرونى : تمدحونى
(5) - فتح الباري : 6 / 565 .
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (2662 )(1/243)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَفْضَلُ مِنْهُ فِى كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ». مِرَارًا يَقُولُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلاَنًا إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَلاَ أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا ». (1)
وعَنْ مِحْجَنٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ رَجَاءٌ : أَقْبَلْتُ مَعَ مِحْجَنٍ ذَاتَ يَوْمٍ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَسْجِدِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، فَإِذَا بُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ جَالِسٌ ، قَالَ : وَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ : سُكْبَةُ ، يُطِيلُ الصَّلَاةَ ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ، وَعَلَيْهِ بُرْدَةٌ ، وَكَانَ بُرَيْدَةُ صَاحِبَ مُزَاحَاتٍ ، فَقَالَ : يَا مِحْجَنُ أَتُصَلِّي كَمَا يُصَلِّي سُكْبَةُ ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِحْجَنٌ ، وَرَجَعَ ، قَالَ : قَالَ مِحْجَنٌ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بِيَدِي ، فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي حَتَّى صَعِدْنَا أُحُدًا ، فَأَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ : " وَيْلُ أُمِّهَا مِنْ قَرْيَةٍ ، يَتْرُكُهَا أَهْلُهَا كَأَعْمَرَ مَا تَكُونُ ، يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ ، فَيَجِدُ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا مَلَكًا ، فَلَا يَدْخُلُهَا " ثُمَّ انْحَدَرَ حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي الْمَسْجِدِ ، رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يُصَلِّي ، وَيَسْجُدُ ، وَيَرْكَعُ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ هَذَا ؟ " فَأَخَذْتُ أُطْرِيهِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا فُلَانٌ ، وَهَذَا . فَقَالَ " أَمْسِكْ ، لَا تُسْمِعْهُ فَتُهْلِكَهُ " قَالَ : فَانْطَلَقَ يَمْشِي ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ حُجَرِهِ ، لَكِنَّهُ نَفَضَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ : " إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ " ثَلَاثًا " (2)
وفي رواية عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ، وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ، فَقَالَ: " لَقَدْ أَهْلَكْتُمْ - أَوْ قَطَعْتُمْ - ظَهَرَ الرَّجُلِ " (3)
فقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا لهذا المبالغ في المدح المخطئ فيه عاقبة خطئه وذلك أن الزيادة في الإطراء تُدخِلُ في قلب الممدوح الغرور فيتيه بنفسه كبرا أو إعجابا ،وربما يفترُ عن العمل متواكلا على الشهرة الآتية من المدح أو يقع في الرياء لما يحسّه من لذة المدح فيكون في
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7694 )
(2) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ ( 350 -352) حسن
(3) - شعب الإيمان - (6 / 499) (4526 ) وصحيح البخارى- المكنز - (2663 ) -يطرى : يبالغ فى المدح(1/244)
ذلك هلاكه وهو ما عبّر عنه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أهلكتم " أو " قطعتم عنق الرجل " أو " ظهر الرجل ".
ففي هذا الحديث التوجيه إلى المادح ألاّ يمدح صاحبه في وجهه ، وأن يقيّد مدحه بقوله : أحسبه كذلك وحسيبه الله ولا أزكي على الله أحداً وذلك تأدّباً مع الله تبارك وتعالى في ردِّ السرائر إليه ؛ لأنه سبحانه {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (19) سورة غافر.
وعلَّق ابن حجر رحمه الله على الحديث بقوله : « قال ابن بطَّال : حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه ، لم يأمن على الممدوح العُجبَ لظنه أنه بتلك المنزلة ، فربما ضيّع العمل ، والازدياد من الخير ، اتكالاً على ما وصف به ... فإنه لا يأمن أنه يُحدث فيه المدحُ كبراً ، أو إعجاباً ، أو يكله على ما شهره به المادح فيفتر عن العمل » (1) .
ثم إن المادح قد يجازف في المدح ويقول ما لا يتحققه ويجزم بما لا يستطيع الاطلاع عليه وقد يكذب وقد يرائي الممدوح بمدحه فتكون الطامة لاسيما إن كان الممدوح ظالما أو فاسقا (2)
والمدحُ ليس منهيا عنه بإطلاق وقد مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - أشخاصا وهم حضور وقد جاء في عنوان الباب في صحيح مسلم إيضاح مهم: باب النَّهْىِ عَنِ الْمَدْحِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِفْرَاطٌ وَخِيفَ مِنْهُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمَمْدُوحِ. (15) كتاب الزهد والرقائق
والذي يعدُّ نفسه مقصّرا لا يضره المدح وإذا مُدح لم يغترّ لأنه يعرف حقيقة نفسه ،فعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يُمْدَحُ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: " التَّوْبَةُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: اللهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَاجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ " (3) .
أما المدح المحظور ، أو المذموم فهو ما انعدم فيه الصدق ، أو صَاحَبَه النفاق ، أو جعل الممدوح متكبراً ، أو ظالماً ، أو مرائياً أو غير ذلك من صفات المعجبين بأنفسهم . فعَنْ
__________
(1) - فتح الباري : 10 / 493 .
(2) - فتح الباري لابن حجر - (10 / 476)
(3) - شعب الإيمان - (6 / 504) (4534) وفتح الباري لابن حجر - (10 / 478)(1/245)
أَبِى مَعْمَرٍ قَالَ قَامَ رَجُلٌ يُثْنِى عَلَى أَمِيرٍ مِنَ الأُمَرَاءِ فَجَعَلَ الْمِقْدَادُ يَحْثِى عَلَيْهِ التُّرَابَ وَقَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَحْثِىَ فِى وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ. (1) .
قال النووي رحمه الله : « هذا الحديث قد حمله على ظاهره المقداد الذي هو راويه ، ووافقه طائفة ، وكانوا يحثون التراب في وجهه حقيقة . وقال آخرون : معناه خيِّبوهم ، فلا تعطوهم شيئاً لمدحهم ، وقيل : إذا مدحتم فاذكروا أنكم من تراب فتواضعوا ، ولا تعجبوا ، وهذا ضعيف » (2) .
وللمدح المذموم والمحظور آفات كثيرة ، ذكر بعضها الغزالي رحمه الله فقال : « في المدح المذموم ستُّ آفات أربع على المادح وهي :
1- قد يفرط فيه فيذكره بما ليس فيه فيكون كاذباً .
2- وقد يُظهر له من الحب ما لا يعتقده فيكون منافقاً .
3- وقد يقول له ما لا يتحققه ولا سبيل إلى الاطلاع عليه فيكون مجازفاً .
4- وقد يُفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق فيكون مناصراً لظالم .
وآفتان على الممدوح :
قد يحدث فيه كبراً وإعجاباً وهما مهلكان . قد يفرح فيفسد عمله ، أو يغترَّ» (3) .
وهذا بالنسبة لمن مدح بما ليس فيه ، أما من مُدحَ بما فيه فلا يدخل في النهي فقد مُدح النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشِّعر والخطب ، والمخاطبة (4) ، ومن ذلك مدحه - صلى الله عليه وسلم - من قِبَل كعب بن زهير ، في قصيدته المشهورة البردة ، فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِى سَلْمَى الْمُزَنِىُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : خَرَجَ كَعْبٌ وَبُجَيْرٌ ابْنَا زُهَيْرٍ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِى إِسْلاَمِ بُجَيْرٍ وَمَا كَانَ مِنْ شِعْرِ كَعْبٍ فِيهِ ثُمَّ قُدُومِ كَعْبٍ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِسْلاَمِهِ وَإِنْشَادِهِ قَصِيدَتَهُ الَّتِى أَوَّلُهَا :
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِى الْيَوْمَ مَتْبُولُ مُتَيَّمٌ عِنْدَهَا لَمْ يُفْدَ مَغْلُولُ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7697 )
(2) - شرح صحيح مسلم للنووي 6 / 418 .
(3) - انظر : دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعراب ص 246 .
(4) - انظر فتح الباري : 10 / 493 .(1/246)
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ ظَعَنُوا إِلاَّ أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِى ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ كَأَنَّهَا مُنْهَلٌ بِالْكَأْسِ مَعْلُولُ
وَذَكَرَ الْقَصِيدَةَ بِطُولِهَا وَهِىَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ بَيْتًا وَفِيهَا :
أُنْبِئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِى وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ
مَهْلاً رَسُولَ الَّذِى أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْفُرْقَانِ فِيهِ مَوَاعِظُ وَتَفْصِيلُ
لاَ تَأْخُذَنَّ بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ أُجْرِمْ وَلَوْ كَثُرَتْ عَنِّى الأَقَاوِيلُ
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ وَصَارِمٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ
فِى فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا.
زَالُوا فَمَا زَالَ الْكَأْسُ وَلا كُشُفٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلا مَيْلٌ مَعَازِيلُ
شُمُّ الْعَرَانِينِ إِبْطَالٌ لُبُوسُهُمُ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حِلَقٌ كَأَنَّهَا حِلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ
يَمْشُونَ مَشْيَ الْجَمَالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمُ ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ
لاَ يَفْرَحُونَ إِذَا زَالَتْ رِمَاحُهُمُ قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعَا إِذَا نِيلُوا
مَا يَقَعُ الطَّعْنُ إِلاَّ فِي نُحُورِهُمُ وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ (1)
وقد مَدحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نفراً من أصحابه : كما مدح أبا بكر رضي الله عنه ، فعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ ذَكَرَ فِى الإِزَارِ مَا ذَكَرَ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ إِزَارِى يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ . قَالَ « إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ » (2) . .
قال ابن حجر : « إنك لست منهم وهذا من جملة المدح ، لكنه لما كان صدقاً محضاً ، وكان الممدوح يؤمن معه الإعجاب والكبر ، مُدح به ، لا يدخل ذلك في المنع » (3) .
إذن فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد استعمل المدح لأناس أمن من جانبهم الغرور ، والكبر ، والإعجاب ، فأبو بكر رضي الله عنه ما كان ليدخُلَه شيء من ذلك . والمدح والثناء كذلك من الأساليب التي استخدمها النبي - صلى الله عليه وسلم - في تصحيحه للأخطاء وتجلّى في هذا الأسلوب - المدحُ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 243) (21672) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم - (1 / 425) (1248) والسنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 243) (21672) حسن لغيره
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6062 )
(3) - فتح الباري 10 / 494 .(1/247)
- منهج الخلق العظيم الذي اتّصف به عليه الصلاة والسلام وإليك بعض الأمثلة :
فعَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنه - قَالَ كَانَ الرَّجُلُ فِى حَيَاةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكُنْتُ غُلاَمًا شَابًّا ، وَكُنْتُ أَنَامُ فِى الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَيْتُ فِى النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِى فَذَهَبَا بِى إِلَى النَّارِ فَإِذَا هِىَ مَطْوِيَّةٌ كَطَىِّ الْبِئْرِ ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ - قَالَ - فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِى لَمْ تُرَعْ . فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ ، لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ » . فَكَانَ بَعْدُ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً . (1)
ففي هذا الحديث مَدحٌ من سيد ولد آدم عليه - صلى الله عليه وسلم - لرجل من أصحابه وهو ابن عمر ، فكانت ثمرة هذا المدح عظيمة للممدوح ، حيث أخذ على نفسه عهداً بقيام الليل حتى أنه كان لا ينام إلا قليلاً (2) .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما مدح عبد الله بن عمر بهذا المدح والثناء الجميل « نبّهه إلى أمرٍ غفل عنه ، وبأسلوبٍ رائعٍ محبّبٍ إلى النفس: لو كان يصلي من الليل ، وهكذا المدح والثناء في مكانه المناسب ، وزمنه المناسب ، وباعتدالٍ من غير مراءٍ ، ولا تبجيلٍ ، يؤتي ثماره في كل حين » (3) .
وعَنْ أَبِى بَكْرَةَ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ رَاكِعٌ ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُدْ » (4) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1121و1122 ) -ترع : تخف
(2) - انظر فتح الباري 12 / 421 ، ودعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعراب ص 244 .
(3) - منهج التربية النبوية للطفل ، لمحمد نور سويد ص 349 .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (783 )
فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي بَكْرَةَ : زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُدْ ، فَإِنْ عَادَ رَجُلٌ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَكَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ النَّهْيِ كَانَ مَأْثُومًا فِي ارْتِكَابِهِ الْمَنْهِيَّ ، وَصَلاَتُهُ جَائِزَةٌ ؛ وَلأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَبَاحَ هَذَا الْقَدْرَ لأَبِي بَكْرَةَ مُسْتثْنًى مِنْ جُمْلَةِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ فِي خَبَرِ وَابِصَةَ كَالْمُزَابَنَةِ وَالْعَرِيَّةِ وَلَوْ لَمْ تَجُزِ الصَّلاَةُ بِهَذَا الْوَصْفِ لأَبِي بَكْرَةَ لَأَمَرَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ ، وَقَوْلُهُ : وَلاَ تَعُدْ أَرَادَ بِهِ لاَ تَعُدُ فِي إِبْطَاءِ الْمَجِيءِ إِلَى الصَّلاَةِ لاَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنْ لاَ تَعُودَ بَعْدَ تَكْبِيرِكَ فِي اللُّحُوقِ بِالصَّفِّ. صحيح ابن حبان - (5 / 571)(1/248)
قال ابن المنيِّر : «صوّبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فعل أبي بكرة من الجهة العامة ، وهي الحرص على إدراك فضلية الجماعة ، وخطَّأهَ من الجهة الخاصة » (1) .
وقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا عَبْدَ اللَّهِ ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ » (2) .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على عبد الله بن عمرو بن العاص بقيام الليل ، وأكّد عليه ذلك ، وألاَّ يكون مثل البعض الذين كانوا يقومون الليل فتركوه . قال النووي رحمه الله : « وفي هذا الحديث ، وكلام ابن عمرو أنه ينبغي الدوام على ما صار عادة من الخير ، ولا يفرّط فيه» (3) .
وفي الحديث كذلك مناداة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله باسمه ، ومعلوم أن المناداة بالاسم المحبّب إلى الإنسان تحمل معاني الثناء عليه ، وتؤثر عليه أيما تأثير!
قال الإمام ابن أبي جمرة: « والحكمة في ذلك - النداء بالاسم - تظهر من وجهين :
الأول : أن نداءه باسمه أجمع لخاطره ، فيكون ذلك سبباً لتحصيل جميع ما يلقى إليه .
الثاني : إن في ندائه باسمه إدخال سرورٍ عليه ، لأن النداء أبداً إذا وقع من الفاضل إلى المفضول يحصل له به ابتهاج وسرور ، فكيف وهو نداء سيد الأولين والآخرين » (4) - - صلى الله عليه وسلم - .
وعَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِى الْغَزْوِ ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِى إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ ، فَهُمْ مِنِّى وَأَنَا مِنْهُمْ » . (5)
وَقَالَ النَّوَوِيّ : مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَة فِي اِتِّحَادِ طَرِيقِهِمَا وَاتِّفَاقهمَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَفِي
__________
(1) - فتح الباري 2 / 313 .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1152 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2790)
(3) - شرح صحيح مسلم للنووي 3 / 229 .
(4) - فقه الدعوة في صحيح البخاري : خالد عبد الرحمن القريشي : 1 / 527 .
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (2486 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6564 ) -أرمل : فنى زادهم.(1/249)
الْحَدِيث فَضِيلَة عَظِيمَة لِلْأَشْعَرِيِّينَ قَبِيلَة أَبِي مُوسَى ، وَتَحْدِيث الرَّجُلِ بِمَنَاقِبِهِ وَجَوَاز هِبَة الْمَجْهُول ، وَفَضِيلَة الْإِيثَارِ وَالْمُوَاسَاةِ ، وَاسْتِحْبَاب خَلْطَ الزَّاد فِي السَّفَرِ وَفِي الْإِقَامَةِ أَيْضًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (7 / 425) وشرح النووي على مسلم - (8 / 270)(1/250)
(44) بيان عِظَمُ الخطأ
وقد كان من منهج النقد الذي اتَّبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في تصحيحه للأخطاء ، بيان عِظَم الخطأ ، وأن هناك من الأخطاء ما تكون عظيمة وكبيرة الحجم ، وبما يعقبها من نتائج تعظم بعظم الأخطاء المرتكبة ، لذا ، فمن الواجب على من أراد تصحيح الأخطاء ، أن ينظر إلى هذه الأخطاء ، فما كان منها عظيماً ، وخطره على الفرد والجماعة جسيماً ، بيّنه بياناً خاصاً ، وشدَّد على مرتكبه ، وَذَكَّرَهُ بعاقبة خطئه ، وأوعده ما أُعدَّ له ، ولأمثاله على ارتكاب عظيم جرمه ، وجسيم غرمه .
والاقتداء في ذلك بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حيث شدّد على بعض الأخطاء ، وبيّن عِظَمَها وحذر منها ، بل وهدَّد مرتكبها ، وأوعده ، واتخذ منه مواقف الحزم والشدة والغضب ، وكان - صلى الله عليه وسلم - - في كل ذلك - يبيَّن الحق ويأمر به ، ويحذر من نقيضه ويرهِّب منه ، وقد تعددت المواقف والأحاديث في ذلك ، ومن ذلك ما يلي :
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَدَ نَاسًا فِى بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فَقَالَ « لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلاً يُصَلِّى بِالنَّاسِ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْهَا فَآمُرَ بِهِمْ فَيُحَرِّقُوا عَلَيْهِمْ بِحُزَمِ الْحَطَبِ بُيُوتَهُمْ وَلَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا لَشَهِدَهَا ». يَعْنِى صَلاَةَ الْعِشَاءِ. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ." (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلاً يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، ثُمَّ آتِيَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (1513 )
(2) - صحيح ابن حبان - (5 / 451) (2096) صحيح(1/251)
أَقْوَامًا يَخَلَّفُونَ عَنْهَا فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ يَعْنِي الصَّلاَتَيْنِ الْعِشَاءَ وَالْغَدَاةَ." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ أَثْقَلَ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَصَلاَةُ الْفَجْرِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حِزَمُ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ." (2)
في هذا الحديث بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - فضل صلاة الجماعة ، والحث على حضورها ، وهمَّ بعقوبة تاركها ، بل وعظَّم من هذا الخطأ - وهو ترك حضور الجماعة - بالبداءة بالقسم ، وذلك في قوله عليه - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده
قال الحافظ بن حجر رحمه الله : « وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شكَّ فيه ، تنبيهاً على عظِم شَأنه » (3) .
وهؤلاء القوم الذين استحقوا هذا التهديد والوعيد والزجر إنما استحقّوه لفعلهم هذا الخطأ الكبير ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - « تقدم منه زجرهم عند التخلّف بالقول : حتى استحقّوا التهديد بالفعل » (4) ، بل ليس تهديداً بسيطاً ، وإنما هو إحراق بالنار ، وذلك لشناعة جرمهم ولعِظَم خطئهم .
وقد استدل بهذه الأحاديث من قال بوجوب الجماعة ، والجمهور على أنها سنة مؤكدة ، وقولهم هو الراجح فيما أرى . (5)
قصة قتل أسامة بن زيد رضي الله عنهما رجلاً ، وتشديد النبي - صلى الله عليه وسلم - في العتاب قَالَ أَبُو ظَبْيَانَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ - رضى الله عنهما - يُحَدِّثُ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ - قَالَ - فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ - قَالَ - وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ - قَالَ - فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (5 / 454) (2097) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (5 / 455) (2098) صحيح
(3) - فتح الباري : 2 / 152 .
(4) - المصدر السابق .
(5) - انظر التفاصيل في الموسوعة الفقهية الكويتية - (15 / 281) والموسوعة الفقهية الكويتية - (27 / 165)(1/252)
قَالَ - فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِىُّ ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ - قَالَ - فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فَقَالَ لِى « يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا . قَالَ « أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » . قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَىَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ." (1)
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِىَّ بَعَثَ إِلَى عَسْعَسِ بْنِ سَلاَمَةَ زَمَنَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ اجْمَعْ لِى نَفَرًا مِنْ إِخْوَانِكَ حَتَّى أُحَدِّثَهُمْ.فَبَعَثَ رَسُولاً إِلَيْهِمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَ جُنْدَبٌ وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ أَصْفَرُ فَقَالَ تَحَدَّثُوا بِمَا كُنْتُمْ تَحَدَّثُونَ بِهِ. حَتَّى دَارَ الْحَدِيثُ فَلَمَّا دَارَ الْحَدِيثُ إِلَيْهِ حَسَرَ الْبُرْنُسَ عَنْ رَأْسِهِ فَقَالَ إِنِّى أَتَيْتُكُمْ وَلاَ أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بَعْثًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّهُمُ الْتَقَوْا فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ وَإِنَّ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ قَالَ وَكُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَتَلَهُ فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ كَيْفَ صَنَعَ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ « لِمَ قَتَلْتَهُ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهَ أَوْجَعَ فِى الْمُسْلِمِينَ وَقَتَلَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا - وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا - وَإِنِّى حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَقَتَلْتَهُ ». قَالَ نَعَمْ.قَالَ « فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ « وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». قَالَ فَجَعَلَ لاَ يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ « كَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » (2) .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عظَّم هذا الخطأ الذي ارتكبه حِبُّه وابن حبِّه وهو أسامة بن زيد رضي الله عنهما ، ولم يمنع كون زيد حِبَّه وابن حِبِّه ، ومكانته عنده من أن يغضب عليه ، ويشدَّد عليه في تبيين هذا الخطأ - وهو قتل الرجل الذي قال : لا إله إلا الله - .
« فأخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكرر عليه الإنكار حتى أدرك أسامة فداحة غلطته، وخطر زلته
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6872 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (289 ) -البرنس : كل ثوب رأسه منه ملتصق به من أدراعه -حسر : كشف(1/253)
، وخشي من عاقبة ذلك » (1) ؛ وحتى تمنى أنه أسلم يوم ذاك ، كل هذا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أشعره بعظم الخطأ الذي ارتكبه ، وفداحة الجرم الذي أقدم عليه .
حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعُهُ قَالَ « ائْتُونِى بِكِتَابٍ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ » . قَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ . قَالَ « قُومُوا عَنِّى ، وَلاَ يَنْبَغِى عِنْدِى التَّنَازُعُ » . فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ كِتَابِهِ . (2) .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن لأصحابه ، وهو في مرض موته أنه لا ينبغي التنازع عنده ، لأن ذلك إشعار بينه - صلى الله عليه وسلم - لصحابته بالمبادرة إلى امتثال أمره (3) .
وهذا الاختلاف والتنازع خطأ عظيم بيّنه - صلى الله عليه وسلم - لهم بفعله ، وقوله حيث أمرهم بالقيام ، ولم يكتب لهم الكتاب ، ودلَّ ذلك على أن الاختلاف قد يكون سبباً في حرمان الخير (4) .
لذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الرّزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين كتابه ، فدلّ ذلك على عِظَم خطأ التنازع والخصومة ، مما حَرَم الأمة بأكملها من وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المكتوبة .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - بتصرف يسير من المنهاج النبوي في دعوة الشباب ص 221 .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (114)
الرزية : المصيبة -اللغط : الأصوات المختلفة التى لا تفهم -التنازع : الاختلاف
(3) - انظر : فتح الباري : 1 / 252 .
(4) - المصدر السابق : 1 / 253 .(1/254)
(45) النهي عن الخطأ والتعليل لذلك
من أساليب تصحيح الأخطاء منهج النهي عن الخطأ ، والتعليل لذلك النهي، وهو أوقع في نفس المخطئ، وأكبر دافع له لتصحيح خطئه والانتهاء عنه ، ولقد استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأسلوب مع بعض أصحابه ، وجاء هذا النهي مقروناً بالتعليل مما أعطى المخطئ عُمقاً أكثر لاستيعاب هذا التصحيح .
فالمخطئ عندما يسمع من المصحِّح النهي عن الخطأ ، ثم يُعقّب المصحِّح النهي بالتعليل له ، فإنه ولا شك أنه سيكون أكثر انقياداً للمصّحح ، وأسرع في تصحيح الخطأ الذي وقع فيه ، وقد ورد في السنة المطهرة - على صاحبها أفضل الصلاة والسلام - كثيراً من هذا النوع ، مما يوحي إلى الدعاة ومصحِّحي الأخطاء السير على هذا المنهج ، والتنويع في أساليبهم بحسب الأشخاص والأحوال ليكون التّصحيح في وقته أكثر نفعاً .
وهناك الكثير من الأمثلة في النهي عن الخطأ والتعليل لذلك ، وخصوصاً ما يختص بالعبادة ومنها :
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِى سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ « إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ ». فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ « لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ ». ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِى سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِى الْمَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ فِى عَقِبِهِ فِى الْغَابِرِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَافْسَحْ لَهُ فِى قَبْرِهِ. وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ ». (1)
ففي هذا الحديث - وهو الشاهد - أنه لما ضجَّ ناس من أهله ، وكان هذا الفعل خطأ - ولعله من النّياحة المحرمة ، أو أنهم دعوا على أنفسهم - فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الخطأ ثم أعقبه بهذا التعليل ، وهو أن الملائكة تؤمّن على ما يقولونه ، ومما لاشك فيه أن هذا النهي المقرون بالتعليل أوقع أثراً في نفوسهم وأسرع ، لاستجابتهم ، وتصحيحهم لهذا الخطأ .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (2169 ) -الغابر : الباقى(1/255)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَطْلُبُ الْمَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيَّ ، وَكَانَ النَّاضِحُ يَعْتَقِبُهُ مِنَّا الْخَمْسَةُ ، وَالسِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ ، فَدَنَا عُقْبَةُ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ ، فَأَنَاخَهُ فَرَكِبَهُ ، ثُمَّ بَعَثَهُ ، فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ ، فَقَالَ : شَأْ لَعَنَكَ اللَّهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ هَذَا اللاَّعِنُ بَعِيرَهُ ؟ قَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : انْزِلْ عَنْهُ ، فَلاَ تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ ، لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ السَّاعَةِ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ. (1)
فهذا الحديث مثل السابق يبيّن أن النهي أُتبع بتعليلٍ ، وهو موافقة ساعة الإجابة ، ولذلك ينبغي الحذرُ من الدعاء على النفس ، أو المال ، أو الأهل ،أو الأولاد ، لئلا يوافق ذلك ساعة إجابة ، فيُستجاب للداعي ، أو أن الملائكة تؤمنّ على دعائه ، فيستجاب له بسبب ذلك .
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا صَلَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الأَحْمَرِ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ وَجَدْتَ إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ ». (2) .
ففي هذا الحديث النهي عن نشد الضَّالة في المسجد (3) ، وعُللِّ هذا النهي بكون المساجد لم تُبنى لهذا الأمر - نشد الضالة - إنما بُنيت لغير ذلك ، من ذكر الله، والصلاة ، وعموم العبادة ، من العلم ، والمذاكرة ، في الخير ، ونحوها (4) .
وقوله : لا وجدت أمرٌ للسامع أن يقول ذلك لمن ينشد الضالةَّ ، عقوبة له على مخالفته وعصيانه (5) ، والنهي قد لحقه هذا التعليل ، فدلَّ ذلك على ما قدمناه في المبحث من أن
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (13 / 52) (5742) وصحيح مسلم- المكنز - (7705 )
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمْرُ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - بِتَسْيِيبِ الرَّاحِلَةِ الَّتِي لُعِنَتْ أَمْرٌ أُضْمِرَ فِيهِ سَبَبُهُ ، وَهُوَ حَقِيقَةُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ لِلاَّعِنِ ، فَمَتَى عُلِمَ اسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ مِنْ لاَعِنٍ مَا رَاحِلَةً لَهُ ، أَمَرْنَاهُ بِتَسْيِيبِهَا ، وَلاَ سَبِيلَ إِلَى عِلْمِ هَذَا لاِنْقِطَاعِ الْوَحْيِ ، فَلاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْفِعْلِ لأَحَدٍ أَبَدًا.
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (1291 )
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : أَضْمَرَ فِيهِ : لاَ وَجَدْتَ ، إِنْ عُدْتَ لِهَذَا الْفِعْلِ بَعْدَ نَهْيِي إِيَّاكَ عَنْهُ.صحيح ابن حبان - (4 / 530)
(3) - شرح صحيح مسلم للنووي 2 / 215 .
(4) - المصدر السابق .
(5) - المصدر السابق .(1/256)
هذا من أساليب الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي استخدمها في تصحيحه للأخطاء .
وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ - رضى الله عنهما - تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ ، فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « كِخٍ كِخٍ - لِيَطْرَحَهَا ثُمَّ قَالَ - أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ » (1) .
ففي هذا الحديث نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي رضي الله عنهما عن أكل تمر الصدقة بقوله : كخْ ، كخْ ، وهذه الكلمة يُزجر بها الصبيان عن المستقذرات ، فيقال له : كخْ أي اتركه وارم به (2) ، وقيل : إنها عربية ، وقيل : أعجمية ، وزعم الداوُدي أنها معرّبة بمعنى بئسَ ، وقد أوردها البخاري في صحيحه في « باب من تكلم بالفارسية » (3) .
وهذا النهي أعقبة بالتعليل ، وهو أن آل محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تحل لهم الصدقة . قال ابن حجر رحمه الله : « وأوردها بلفظ الاستفهام ، لاحتمال أن يكون النهي خاصاً، بمعنى لا يحل له تناول الصدقة » (4) .
وهذا النهي بصيغة الاستفهام قيل : أنه أبلغ في الزجر من قوله لا تفعل (5) .
وعَنِ الزُّهْرِىِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ قَالَ اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالاَ وَاللَّهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلاَمَيْنِ - قَالاَ لِى وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَلَّمَاهُ فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَأَدَّيَا مَا يُؤَدِّى النَّاسُ وَأَصَابَا مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ - قَالَ - فَبَيْنَمَا هُمَا فِى ذَلِكَ جَاءَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ لاَ تَفْعَلاَ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ. فَانْتَحَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلاَّ نَفَاسَةً مِنْكَ عَلَيْنَا فَوَاللَّهِ لَقَدْ نِلْتَ صِهْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَا نَفِسْنَاهُ عَلَيْكَ. قَالَ عَلِىٌّ أَرْسِلُوهُمَا. فَانْطَلَقَا وَاضْطَجَعَ عَلِىٌّ - قَالَ - فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1491 )
(2) - انظر شرح صحيح مسلم للنووي رحمه الله 3 / 143 ، وفتح الباري : 3 / 415 .
(3) - انظر المصادر السابقة .
(4) - فتح الباري : 3 / 411 .
(5) - انظر : المصدر السابق .(1/257)
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ سَبَقْنَاهُ إِلَى الْحُجْرَةِ فَقُمْنَا عِنْدَهَا حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِآذَانِنَا. ثُمَّ قَالَ « أَخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ » ثُمَّ دَخَلَ وَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ - قَالَ - فَتَوَاكَلْنَا الْكَلاَمَ ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ النَّاسِ وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ فَجِئْنَا لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَنُؤَدِّىَ إِلَيْكَ كَمَا يُؤَدِّى النَّاسُ وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ - قَالَ - فَسَكَتَ طَوِيلاً حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ - قَالَ - وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ تُلْمِعُ عَلَيْنَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ أَنْ لاَ تُكَلِّمَاهُ - قَالَ - ثُمَّ قَالَ « إِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَنْبَغِى لآلِ مُحَمَّدٍ. إِنَّمَا هِىَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ادْعُوَا لِى مَحْمِيَةَ - وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ - وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ». قَالَ فَجَاءَاهُ فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ « أَنْكِحْ هَذَا الْغُلاَمَ ابْنَتَكَ ». لِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ فَأَنْكَحَهُ وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ « أَنْكِحْ هَذَا الْغُلاَمَ ابْنَتَكَ ». لِى فَأَنْكَحَنِى وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ « أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنَ الْخُمُسِ كَذَا وَكَذَا ». قَالَ الزُّهْرِىُّ وَلَمْ يُسَمِّهِ لِى. (1)
فدل ذلك على أن النهي إذا اتُبع بتعليلٍ ، أنه من مناهج تصحيح الأخطاء، حيث أنه في الحديث الأول أتى بطريقة الزجر كخْ ، كخْ ، « ثم ما لبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن علَّل لهذا الطفل سبب عدم الأكل ، وعدم حله له ، لتكون له قاعدة فكرية عامة في حياته كلها... وليكون وقعها على نفسه أقوى تأثيراً » (2) .
وهذا يدلُّ على أن الصبيان يُنكر عليهم على حسب عقولهم (3) أما الحديث الثاني فجاء التعليل فيه شيء من التغيّر ، وهو قوله : أوساخ الناس وبذلك يُعلم أهمية التَّأسِّي بهذه المناهج في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وتصحيح الخطأ .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (2530 ) -تُصرر : ما تكتم وتضمر من الكلام
(2) - منهج التربية النبوية للطفل - محمد نور سويد ص 363 .
(3) - انظر : فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري القحطاني 2 / 826 .(1/258)
(46) النهي عن الخطأ والتنفير منه
والنهي عن الخطأ إذا جاء مقروناً بالتنفير عنه - أو بذكر بعض الصفات التي ينفر منها الإنسان - فإنه مما لاشك فيه أنه يكون أكثر ابتعاداً عن هذا الخطأ لوجود ما ينفره منه ، ولهذا جاء في السنَّة كثير من الأمثلة التي تحوي تنفيراً للسامع من هذه الصفات ، أو الأخطاء ، أو الأحوال ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا ، أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ ، حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ » (2) .
ففي هذين الحديثين ذَكَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الصفات ، والعلامات للمنافقين تنفيراً ، وتحذيراً ، من الوقوع فيها ، قال الإمام الخطابي رحمه الله : « وهذا القول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على سبيل الإنذار للمرء المسلم ، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال ، شفقاً أن تفضي به إلى النفاق » (3)
وعن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ » (4) .
حيث أنه في هذا الحديث يظهر أسلوب التنفير ، والترهيب من فعل هذه الأمور، وهي السباب، والقتال للمسلم، وهذا من باب المبالغة في التحذير لزجر السامع عن الإقدام على هذه الأفعال (5) .
وإذا عُلم هذا، فإنه قد ورد في السنة المطهرة ذكرُ بعض الصفات المستقبحة ، والتي ينفر منها الإنسان ، كبعض أسماء الحيوانات وصفاتها التي أتت على سبيل الزجر والتنفير ، وقد
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (33 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2459)
(3) - انظر : فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري خالد عبد الرحمن القريشي 1 / 240 .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (48 )
(5) - انظر فقه الدعوة خالد عبد الرحمن القريشي 1 / 298 .(1/259)
ورد ذلك أيضاً في القرآن مثل قوله سبحانه : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (176) سورة الأعراف.
وقوله تعالى :{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5) سورة الجمعة، وغير ذلك من الآيات، والمهم من هذا أنَّ ذكرَ بعض الصفات التي يَنفرُ منها الإنسان - على سبيل النهي والزجر - تكون أكثر أثراً على المخطئ لتصحيح خطئه ، والابتعاد عما يسبب هذا الخطأ .
والأمثلة - كما ذكرت آنفاً - في هذا الموضوع كثيرة ، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق - كما قيل في الأمثال - ليتبيّن هذا الأمر ، ومن هذه الأمثلة ما يلي :
عَنْ عَلِىٍّ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يَا عَلِىُّ لاَ تُقْعِ إِقْعَاءَ الْكَلْبِ » (1) .
وهذا الحديث في مسألة الجلوس بين السجدتين ، ويسمَّى الافتراش ، والإقعاء كما قال أبو عبيدة وغيره : « أن يلَزٍق الرّجلُ إليتيه بالأرض ، وينصب ساقية ، ويضع يديه بالأرض ، كما يُقعي الكلب » (2) .
وهذه الصفة منهي عنها إذا كانت كصفة الكلب . وتسمى كذلك : عُقبَة الشيطان ، كما ورد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَفْتِحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلِكَنْ بَيْنَ ذَلِكَ وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِىَ قَائِمًا وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِىَ جَالِسًا وَكَانَ يَقُولُ فِى كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ
__________
(1) - سنن ابن ماجه- المكنز - (945) - حسن
تقعى : تلصق أليتيك بالأرض وتنصب ساقيك وفخذيك وتضع يديك على الأرض
(2) - صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد ناصر الدين الألباني ص 157، وانظر تحقيق عبد الباقي لسنن ابن ماجه 1 / 350 .(1/260)
الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلاَةَ بِالتَّسْلِيمِ. (1)
وإنما قلتُ عن هذه الصفة أنها منهي عنها إذا كانت كصفة جلوس الكلاب، لأن هناك صفة للجلوس بين السجدتين ورد أنها من السنة فعن أبي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا يَقُولُ قُلْنَا لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِى الإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فَقَالَ هِىَ السُّنَّةُ. فَقُلْنَا لَهُ إِنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَلْ هِىَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ - صلى الله عليه وسلم - . (2)
حيث أن الإقعاء نوعان كما ورد عن النووي حيث قال : « والصواب الذي لا معدل عنه أن الإقعاء نوعان:
أحدهما : أن يلصق إليتيه بالأرض ، وينصب ساقيه ، ويضع يديه على الأرض كإقعاء الكلب ، هكذا فسَّره أبو عبيدة ، وهذا النوع هو المكروه الذي ورد فيه النهي.
الثاني : أن يجعل إليتيه على عقبيه بين السجدتين ، وهذا مراد ابن عباس بقوله : سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - » (3) .
ودلَّ هذا الحديث كذلك على النهي ، ثم أعقبه بصفة مذمومة لحيوان مستقذر ، وهو الكلب وإقعاؤه ، وبالتالي يكون السامع أشدُّ نفوراً من هذه الصفة وموصوفها ، ولذا فعلى من يقوم بالتصحيح مراعاة هذا الأسلوب - أسلوب النهي والتنفير - ليكون وقعُ ذلك على المخطئ كبيراً والانتهاء منه سريعاً (4) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « اعْتَدِلُوا فِى السُّجُودِ ، وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ » (5) .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (1138 ) -يشخص : يرفع -يصوب : ينكس ويخفض
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (1226 )
الإقعاء : أن يلصق الرجل أليتيه بالأرض وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض
(3) - شرح صحيح مسلم للنووي 2 / 189 . وانظر : صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للألباني ص 152 . وإرواء الغليل 2 / 22 والشرح الممتع 3 / 317 .
(4) - انظر المنهاج النبوي في دعوة الشباب ص 294 .
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (822 ) وصحيح مسلم- المكنز - (1130 )(1/261)
ففي هذا الحديث ورد النهي عن هذه الصفة ، والنهي هنا للتنزيه كما قال النووي رحمه الله (1) .
وقيل : بل للكراهية ، لأن الإنسان لا ينبغي له أن يتشبه بالحيوان ، لأن الله لم يذكر تشبيه الإنسان بالحيوان ، إلا في مقام الذمّ ، وعلى ذلك يقال : إذا كان التشبيه بالحيوان في غير الصلاة مذموماً ففي الصلاة من باب أولى (2) .
قال ابن دقيق العيد رحمه الله : « وقد ذُكر الحكمُ هنا مقروناً بعلّته ، فإن التّشبّه بالأشياء الخسيسة يناسب تركه في الصلاة » (3) .
وقال ابن حجر رحمه الله : « الهيئة المنهي عنها أيضاً ، مُشعرة بالتهاون وقلة الاعتناء بالصلاة » (4) .
وورد عند مسلم رحمه الله من حديث عائشة رضي الله عنها : وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ (5)
فدلَّ ذلك كله على النهي عن هذه الصفة ، واقترن النهي بتنفير المصلي عنها لأنها تشبه هيئات بعض الحيوانات المستقذرة . وهذا دليل على أن النهي إذا قُرن بتنفيرٍ فإنه من أساليب تصحيح الأخطاء ، والتي وردت بها السنة النبوية المطهَّرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ ». (6)
وهذا الحديث قد اختلف العلماء في توجيهه ، أو بالأصح مسألة تقديم الركبتين أو اليدين
__________
(1) شرح صحيح مسلم 2 / 156 .
(2) - انظر : الشرح الممتع : 3 / 319 .
(3) - فتح الباري : 2 / 352 .
(4) - المصدر السابق .
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (1138 )
(6) - سنن أبي داود - المكنز - (840 ) صحيح(1/262)
، وانقسم العلماء إلى قسمين حيال المسألة :
فقسم قال : بتقديم الركبتين على اليدين ، ومن هؤلاء القسم ابن القيم رحمه الله ، حيث أورد ذلك في زاد المعاد ، وذكر عشرة أوجه لتقديم حديث وائل ابن حجر وهو « أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا سَجَدَ بَدَأَ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ " (1) وانتصر لهذا القول انتصاراً كبيراً (2) ، وتابعه عليه ابن عثيمين رحمه الله (3) .
والقسم الثاني : ذكروا أن حديث وائل بن حجر من الأحاديث الضعيفة ، ولا يرقى إلى حديث أبي هريرة الصَّحيح ، ثم إنهم قالوا : إن البعير يقدم ركبتيه اللتين في يديه كما هو مُشاهد، وانتصر لهذا القول الألباني رحمه الله، وغيره (4) ، وهو الأقرب .
وأما الشاهد في موضوعنا ، فهو أن النهي اقترن بذكر صفة مستقذرة لهذا الحيوان الذي ليس له عقل ، ولا تمييز ، فكان السامع أشدَّ نفوراً من هذه الصفة ، ومن المَّتصف بها ، وهو هذا الحيوان ، وأكثرُ بعداً عن الإتيان بها ، وأقرب إلى الانتهاء منها .
قال الألباني رحمه الله : « فالنهي عن بروك كبروكه ، يقتضي أن لا يخرَّ على ركبتيه ، وأن يتلقى الأرض بكفيه، وذلك ما صرح به الحديث الصحيح» (5) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُتَخَصِّرًا. (6)
ففي هذا الحديث النهي عن الاختصار في الصلاة ، والاختصار هو كما قال النووي رحمه الله : « فالصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون من أهل اللغة والغريب والمحدِّثين ... هو الذي يصلِّي ويده على خاصرته» (7) ، مع أنه قد قيل غير ذلك ، لكن الصحيح ما أثبته
__________
(1) - شرح معاني الآثار - (1 / 255) (1516 ) وفيه عبد الله بن سعيد بن أبى سعيد : كيسان المقبرى وهو متروك
(2) - انظر : زاد المعاد 1 / 222 .
(3) - انظر : الشرح الممتع 3 / 154 .
(4) - انظر : صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 140 وإرواء الغليل 2 / 79 .
(5) - ارواء الغليل 2 / 79 .
(6) - مصنف ابن أبي شيبة - (2 / 48)(4635) صحيح
(7) - شرح صحيح مسلم 2 / 202 .(1/263)
النووي رحمه الله (1) .
وقد جاء في النهي عن هذه الصفة التّنفير منها ، ولأنها صفةٌ لليهود ، كما ورد ذلك عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها كَانَتْ تَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ { الْمُصَلِّى } يَدَهُ فِى خَاصِرَتِهِ وَتَقُولُ إِنَّ الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ (2) .
إذن النّهي مقرونٌ بصفة قومٍ مغضوب عليهم ، فأوجد عند السامع ، أو الفاعل - المخطئ - نفوراً من هؤلاء القوم - اليهود - ، ومما اتّصفوا به من وضع أيديهم على خواصرهم .
وحتى على القول بأن هذه الصفة ليست لليهود ، فهي صفة مذمومة منهي عنها ، وقد أورد الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في حكمة النهي عن ذلك - ستة أمور وهي :
1- قيل إن إبليس أُهبط متخصِّراً .
2- أن اليهود تُكثر من فعل هذا - كما سبق - فنُهي عنه، كراهة التشبه بهم.
3- أن التخصر راحة أهل النار .
4- أنها صفة الراجز حين يُنشد .
5- أنه فعل المتكبّرين .
6- أنه فعل أهل المصائب .
قال ابن حجر : «وقول عائشة أعلى ما ورد في ذلك ، ولا منافاة بين الجميع» (3) .
وعلى هذا فيجب على الدعاة التنويع في أساليب تصحيح الأخطاء ، ومنها هذا الأسلوب - النهي والتنفير عن الخطأ - ليكون أوقع عند المصَحَّحِ له ، وذلك أسوةً برسول الهدى عليه الصلاة والسلام
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - انظر : المصدر السابق .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3458 ) 207/4
(3) - فتح الباري : 3 / 107 .(1/264)
(47) تصحيح الخطأ عملياً
إن من الوسائل المهمة لتصحيح الأخطاء ، التصحيح عملياً ، أو ما يسمى بفعل الصواب أمام المخطئ .
وقد قيل عن ذلك أن : « الفعل أبلغ من القول » (1) .
ومن المعلوم أن المخطئ إذا شاهد تصحيح الخطأ ، أو فعل الصواب ، يُفعل أمامه ، فإنه أبلغ في الوصول إلى فهمه ، وأوعى لقلبه ، من مجرد القول فقط ، وكما ورد عند النووي وابن حجر رحمهما الله : « أن البيان بالفعل أبلغ في الإيضاح ، وأوقع في نفس السامع من القول وحده» (2) .
وإذا رافق هذا الفعل إيرادُ مثالٍ عليه ، كان ذلك أبلغ ، وأوضح في نفس المتلقِّي ، والسامع ، وقد ورد عن الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله - قوله : « إن التعليم بالفعل ، والمثال أبلغ من القول وحده » (3) .
ولقد تجلى إيراد ذلك - التصحيح عمليّاً - في كثير من الأحاديث النبوية ، والتي جاءت لتبيِّن أهمية هذه الوسيلة بين وسائل التصحيح المتعددة ، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - عرف أن صنفاً من الناس لا يمكن أن يصحِّح خطأه ، ويعترف بتقصيره ، وينتهي عن فعله الخاطئ ، إلا إذا فُعل الصواب أمامه.
ومن الأمور التي ورد فيها التعليم بالفعل أمام المتعلم أمور العبادة ، وهي أولى ما يتعلمه الإنسان ليُصلِح ما بينه وبين ربه ، ثم إذا صَلُح هذا الأمر ذهب إلى إصلاح ما بينه وبين الخلق ، وأبلغ مثال على التعليم بالفعل هي الصلاة ، فعَنْ أَبِى قِلاَبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ أَتَيْنَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - انظر : النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - معلماً . أ. د . فضل إلهي ص 100 .
(2) - المصدر السابق نفس الصفحة .
(3) - المصدر السابق نفس الصفحة .(1/265)
- رَحِيمًا رَفِيقًا ، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدِ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ « ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ - وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لاَ أَحْفَظُهَا - وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِى أُصَلِّى ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ » (1) ..
فهذا أمر منه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه للنظر في كيفية فعل الصلاة من معلِّم الناس الخير - صلى الله عليه وسلم - ، لأجل استيعاب ذلك ، ثم نقلِه إلى مَن بعَدهم ، وهكذا بقية العبادات ، ومن ذلك المناسك ، فعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمِى عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ « لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّى لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِى هَذِهِ » (2)
ومثلها كذلك صلاة الخوف ، وغيرها من إرشادات المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأمته ، وأمره إياهم بالاستفادة من التطبيق العملي ، وخصوصاً ما يتعلق بالعبادات .
أما تصحيح الأخطاء فقد ورد كذلك في مواقف كثيرة في السنة النبوية المباركة ، علّم فيها النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أصحابه كيفية تصحيح الخطأ ، وذلك عَبر فعل الصواب ، وترك الخطأ ، ومجانبته ، ليتمّ بذلك تبليغ هذا الدين ، ووصول رسالة الله إلى الناس أجمعين .
والأمثلة كثيرة في هذا الباب ، لكن سأقتصر على البعض منها لتوصيل هذا المفهوم ، ولإتمام الفائدة بهذا الأمر ، و منها :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِى يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ « يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِى يَدِهِ ». فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ. قَالَ لاَ وَاللَّهِ لاَ آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - 163/1(631 )
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي لَفْظَةُ أَمْرٍ تَشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَلاَتِهِ ، فَمَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الأَشْيَاءِ خَصَّهُ الإِجْمَاعُ أَوِ الْخَبَرُ بِالنَّفْلِ ، فَهُوَ لاَ حَرَجَ عَلَى تَارِكِهِ فِي صَلاَتِهِ ، وَمَا لَمْ يَخُصَّهُ الإِجْمَاعُ أَوِ الْخَبَرُ بِالنَّفْلِ فَهُوَ أَمْرٌ حَتْمٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ كَافَّةً ، لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِحَالٍ.صحيح ابن حبان - (4 / 541) (1658)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (3197 )(1/266)
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وهذا من أوضح الأدلة على التصحيح العملي ، حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى هذا الرجل قد ارتكب خطأً بِاستعمال خاتم الذهب المنهي عنه للرجال ، بادر عليه الصلاة والسلام بتصحيح هذا الخطأ على الفور ، وقام بنزعه ، وهذا هو التصحيح بالفعل ، ثم أتبعه بالقول حيث قال : يعمد أحدكم .. .
وهذا النهي عن لبُس خاتم الذهب إنما هو نهي التحريم ، بدلالة هذا الفعل، وهذا القول ، كما أجمع عليه المسلمون : حيث تم الإجماع على تحريم الذهب على الرجال وإباحته للنساء ، إلا ما ورد عن ابن حزم- رحمه الله - أنه أباحه ، وعن البعض أنه كره ذلك فقط (2) .
وقد امتثل الصّحابي الجليل - المنزوع خاتمه - لهذا النهي ، وبالغ في امتثال أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، واجتنب هذا الأمر ؛ حتى أنه رفض أخذه والانتفاع به ، وتورَّع عن ذلك ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينهه عن التصرف فيه بكل وجه ، وإنما نهاه عن لُبسه ، وبقي ما سواه من تصرفه على الإباحة (3) .
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِى الْقِبْلَةِ ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِىَ فِى وَجْهِهِ ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ « إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِى صَلاَتِهِ ، فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ - أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ - فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ ، أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ » . ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ ، فَقَالَ « أَوْ يَفْعَلْ هَكَذَا » (4) .
ففي هذا الحديث فوائد جمّة تبين أن التَّصحيح العملي أوقع في نفس السامع ، ومن ذلك أن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - لما رأى هذه النخامة في المسجد قام بنفسه - صلى الله عليه وسلم - فحكَّها ، وهذا فيه الأمر بإزالة المنكر ، ومباشرة إزالته بيده ، ثم لم يكتفِ بهذا ؛ بل قام بالفعل أمامهم ثانية
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5593 )
(2) - انظر : شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 254 .
(3) - انظر : المصدر السابق .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (405 )(1/267)
ليرشدهم، ويصحِّحَ لهم ما وقعوا فيه من أخطاء ، فأخذ بطرف ردائه فبصق فيه ، ثم ردّ بعضه على بعض ثم قال : أو يفعل هكذا ، قال ابن حجر رحمه الله : قوله : ثم أخذ بطرف ردائه ... إلخ فيه البيان بالفعل ليكون أوقع في نفس السامع» (1) .
وقد ورد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ فِي مَسْجِدِهِ ، وَهُوَ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُشْتَمِلاً بِهِ ، فَتَخَطَّيْتُ الْقَوْمَ حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ، فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، تُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، وَهَذَا رِدَاؤُكَ إِلَى جَنْبِكَ ؟ فَقَالَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي : أَرَدْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ أَحْمَقُ مِثْلُكَ فَيَرَانِي كَيْفَ أَصْنَعُ ، فَيَصْنَعُ بِمِثْلِهِ ، أَتَانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَسْجِدِنَا هَذَا ، وَفِي يَدِهِ عُرْجُونُ ابْنِ طَابٍ ، فَرَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا فَحَكَّهَا بِالْعُرْجُونِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ ؟ قَالَ : فَخَشَعْنَا ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ ؟ فَقُلْنَا : لاَ أَيُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ ، فَلاَ يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى ، فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ فَلْيَقُلْ بِثَوْبِهِ هَكَذَا - وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ - أَرُونِي عَبِيرًا ، فَقَامَ فَتًى مِنَ الْحَيِّ يَشْتَدُّ إِلَى أَهْلِهِ ، فَجَاءَ بِخَلُوقٍ فِي رَاحَتَيْهِ ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ الْعُرْجُونِ ، وَلَطَخَ بِهِ عَلَى أَثَرِ النُّخَامَةِ قَالَ جَابِرٌ : فَمِنْ هُنَاكَ جَعَلْتُمُ الْخَلُوقَ فِي مَسَاجِدِكُمْ." (2) .
فيا لله ما أشدَّ تواضعه - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيمه لبيوت الله !!.
وهذه المسألة - البزاق في المسجد - ورد فيها هذا النّهي الشديد ، والذي قد يصل إلى التّحريم ، وبعضهم قال بكراهية ذلك ، وعلى أنه خطيئة كما ورد عند البخاري وغيره ، على أن البزاق في المسجد خطيئة ، وكفارة هذا الفعل
-البزاق البصاق في المسجد - دفنها ، وهذا هو الصواب كما قال ذلك النووي رحمه الله (3) .
__________
(1) - فتح الباري 10 / 606 .
(2) - صحيح ابن حبان - (6 / 42) (2265) صحيح
(3) - انظر : شرح صحيح مسلم للنووي 2 / 205 .(1/268)
وفي هذا الحديث من الفوائد كذلك ما ذكره صاحب كتاب الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم (1) ، حيث ذكر خمس عشرة فائدة ، كان قد أورد ابن حجر رحمه الله بعضها في تعليقه على هذا الحديث ، وغيره من الأحاديث في هذا الباب ، ومن ذلك قوله - ابن حجر - : « وفي الأحاديث المذكورة من الفوائد - غير ما تقدم - :
الندب إلى إزالة ما يستقذر ، أو يتنزه عنه المسجد .
وتفقد الإمام أحوال المساجد وتعظيمها وصيانتها .
وأن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة ، ولا تفسد صلاته بذلك.
وأن النفخ والتنحنح في الصلاة جائز .
وأن البصاق طاهر ، وكذا النخامة والمخاط خلافاً لقول البعض .
وأن التحسين والتقبيح إنما هو من الشرع ، فإن جهة اليمين مفضَّلة على اليسار .
والحث على الاستكثار من الحسنات ، وإن كان صاحبها ملياً لكونه - صلى الله عليه وسلم - باشر الحكَّ بنفسه ، وهو دالّ على عِظَم تواضعه - صلى الله عليه وسلم - ، زاده الله تشريفاً وتعظيماً - صلى الله عليه وسلم - » (2) .
ومما وردّ - في الكتاب السالف الذكر - من الفوائد :
أن البيان بالفعل أوقع في نفس السامع وأوضح دلالة على ما يراد تعليمه .
وفيه إزالة المنكر باليد لمن قدر عليه .
وفيه احترام جهة القبلة وتعظيمها .
وفيه مشروعية تطييب المسجد (3) .
وهذا الحديث فيه دلالةٌ لنا على أن التصحيح العملي للأخطاء من الأهمية بمكان في نفس المخطئ .
__________
(1) عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله .
(2) - انظر : : فتح الباري 1/ 612.
(3) - انظر : : الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم - عبد الفتاح أبو غدة ص 70 .(1/269)
وعَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّى وَهْوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلأَبِى الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا ، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا (1) .
والشاهد في موضوعنا - تصحيح الخطأ عملياً - من هذا الحديث ، حيث أن العرب لما كانت تكره البنات وتحتقرهنّ ، وتتأذّى بوجودهنّ ، حتى وصل الحال ببعض أحياءٍ من العرب إلى وأد البنات ودفنهنَّ ، وهنَّ أحياء ، وما ذلك إلا مخافةَ العار - كما زعموا - ، فلما جاء الإسلام ، رفع من شأنهن ، وأعلى من مكانتهنَّ في قلوب الرجال ، وأبطل هذه العادات السيئة في معاملة البنات ، بل أوضح رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - عملياً أن ذلك - فعل العرب في الجاهلية - خطأ ، يجب أن يصحَّح في النفوس ، فقام - صلى الله عليه وسلم - بعملٍ مثل هذا ، وهو حمل هذه البنت الصغيرة على عاتقه الشريف في عمود هذا الدين، وهي الصلاة ، ليعلِّم الناس جميعاً أن ما كانت العرب تفعله ، فإنه فعل خاطئ ، وأن الصواب هو ما فعله الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وفي هذا الصدد « يقول العلامة الفاكهاني رحمه الله : وكأن السرَّ في حمله أُمامة في الصلاة ، دفعاً لما كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهنَّ ، فخالفهم في ذلك - صلى الله عليه وسلم - حتى في الصلاة ، للمبالغة في ردعهم ، والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول » (2) .
فانظر - رعاك الله - كيف صحح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الخطأ - عند العرب ، والجاهلية - بفعله ؟ ، وانظر كذلك شفقته على الأطفال ، ورحمته بهم ، وحنوه عليهم وإكرامه لهم جبراً لهم ولوالديهم !! (3) .
وعَنْ شَقِيقٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَجْنَبَ ، فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا ، أَمَا كَانَ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّى فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الآيَةِ فِى سُورَةِ الْمَائِدَةِ ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ) فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ رُخِّصَ لَهُمْ فِى
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (516 )
(2) - فتح الباري 1 / 705 .
(3) - انظر :المصدر السابق 1 / 705 ، 10 / 443 ، والنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - معلماً ص 102 ، ومبدأ الرفق ص 125 .(1/270)
هَذَا لأَوْشَكُوا إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمُ الْمَاءُ أَنْ يَتَيَمَّمُوا الصَّعِيدَ . قُلْتُ وَإِنَّمَا كَرِهْتُمْ هَذَا لِذَا قَالَ نَعَمْ . فَقَالَ أَبُو مُوسَى أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ ، فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ ، فَتَمَرَّغْتُ فِى الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا » . فَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ نَفَضَهَا ، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَفَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ وَزَادَ يَعْلَى عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِى مُوسَى فَقَالَ أَبُو مُوسَى أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَنِى أَنَا وَأَنْتَ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ بِالصَّعِيدِ ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ « إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا » . وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ وَاحِدَةً أطرافه (1)
ففي هذا الحديث صحَّح النبي - صلى الله عليه وسلم - الخطأ الَّذي صدر من عمار بن ياسر رضي الله عنهما حينما تمعّك - أي تقلّب وتمرّغ - (2) ، في التراب وعمل هذا العمل ، اجتهاداً منه رضي الله عنه ، ولذا لم يعنِّفه - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يلمه على ذلك ؛ بل صحَّح خطأه بالتطبيق العملي حينما قال: إنما يكفيك هكذا وضرب بيديه الأرض ونفخ فيهما .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : «في قوله : ونفخ فيهما : وفي رواية : ثم أدناهما من فيه وهي كناية عن النّفخ .. إلى أن قال : وسياق هؤلاء يدل على أنّ التعليم وقع بالفعل » (3) .
إذن فليحرص الذين يريدون تصحيح الأخطاء ، من الدعاة وطلبة العلم على اقتفاء هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - في استغلال هذه الوسيلة - التصحيح العملي - لتصحيح ما قد يقع فيه الناس من أخطاء ، وتجاوزات ، لأن الخير كل الخير فيما كان عليه رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - ، ولما لهذه الوسيلة من أثر في التّصحيح وتصويب الأعمال لدى فئات من الناس .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (347 ) -تمعكت : تقلبت فى التراب
(2) - فتح الباري 1 / 529 .
(3) - المصدر السابق .(1/271)
(48) تصحيح الخطأ باليد
إن من أهم وسائل تصحيح الأخطاء التصحيح باليد ، بل هو أعلاها . إذ إن من الأخطاء ما يكون منكراً ، وإذا كان كذلك ، فإن التّغيير ، باليد هو أقوى مراتب التغيير ، وأعلاها ، فعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الأَحْمَسِيِّ ، قَالَ : أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلاَةِ يَوْمَ الْعِيدِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : الصَّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ ، فَقَالَ : تُرِكَ مَا هُنَاكَ أَبَا فُلاَنٍ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَاكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ.". (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : أَخْرَجَ مَرْوَانُ الْمِنْبَرَ فِي يَوْمِ عِيدٍ ، وَبَدَأَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلاَةِ ، فَقَامَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا مَرْوَانُ ، خَالَفْتَ السُّنَّةَ ، أَخْرَجْتَ الْمِنْبَرَ فِي يَوْمِ عِيدٍ ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ ، وَبَدَأْتَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلاَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ يُبْدَأُ بِهَا ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ. زَادَ إِسْحَاقُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنَّ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ. (2)
وقد تكلّم العلماء على هذا الحديث ببيان درجات التغيير الواردة فيه ، وأسهبوا كثيراً في ذلك ، ومن ذلك ما نقله النووي رحمه الله عن القاضي عياض رحمه الله قوله : « هذا الحديث أصل في صفة التغيير ، فحق المغيِّر أن يغيّره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان ، أو فعلاً ؛ فيكسر آلات الباطل ، ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله ... فإن غلب على ظنّه أن تغييره بيده يسبب منكراً أشدَّ منه ، من قتله ، أو قتل غيره بسبب كفِّ يده ، واقتصر على القول باللسان ، والوعظ ، والتخويف ، فإن خاف أن يسبب قوله مثل
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (186 ) و صحيح ابن حبان - (1 / 541) (306)
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 542) (307) صحيح(1/272)
ذلك، غيَّر بقلبه وكان في سعة » (1) .
وقال أحمد رحمه الله : « هو باليد مع القدرة ، وباللّسان عند عدم المكنة وبالقلب عند خوف الفتنة » (2) .
وهذه الحال - التّصحيح باليد - هو ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، ويحثّ عليه صحابته ، كما ورد عنه أنه لم يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه، فعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِى بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلاَّ نَقَضَهُ (3) .
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا كَانَتِ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ ، فَهَتَكَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ ، فَكَانَتَا فِى الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا . (4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - قَالَ دَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِى يَدِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ { جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (81) سورة الإسراء (5) .
وهكذا كان عليه الصلاة والسلام يصحِّح الأخطاء بيده ، سواءً التي يكتنفها المنكر ، أو التي تُفعل عن غير قصدٍ ، وعمدٍ ، ولا يجرى عليها أحكام المنكر ، ومن هذا النوع ما يلي :
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَضَعَ يَدَهُ وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَامًا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِى الطَّعَامِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهَا ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لاَ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَجَاءَ بِهَذَا الأَعْرَابِىِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ
__________
(1) - شرح صحيح مسلم للنووي : 1 / 219 .
(2) - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . خالد السبت ص 361 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5952 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2479)
السهوة : تشبه الرف أو الخزانة الصغيرة يوضع فيها الشىء -النمرقة : الوسادة
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (2478 )(1/273)
فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّ يَدَهُ فِى يَدِى مَعَ يَدِهَا ». (1)
فهذا الحديث يبيّن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استخدم يده لتصحيح الخطأ الذي وقع فيه كلٌ من الجارية والأعرابي .
وعَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: جَاءَتْ بِنْتُ هُبَيْرَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي يَدِهَا فَتَخٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ خَوَاتِيمُ ضِخَامٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَضْرِبُ يَدَهَا، فَأَتَتْ فَاطِمَةُ ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَشَكَتْ إِلَيْهَا مَا صَنَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ثَوْبَانُ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فَاطِمَةَ وَأَنَا مَعَهُ، وَقَدْ أَخَذَتْ مِنْ عُنُقِهَا سِلْسِلَةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَتْ: هَذِهِ أَهْدَاهَا إِلَيَّ أَبُو حَسَنٍ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالسِّلْسِلَةُ فِي يَدِهَا، فَقَالَ: " يَا فَاطِمَةُ، أَيَسُرُّكِ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: فَاطِمَةُ ابْنَةُ مُحَمَّدٍ، وَفِي يَدِكِ سِلْسِلَةٌ مِنْ نَارٍ " ثُمَّ خَرَجَ، وَلَمْ يَقْعُدْ، فَعَمَدَتْ فَاطِمَةُ إِلَى السِّلْسِلَةِ، فَاشْتَرَتْ بِهَا غُلَامًا، فَأَعْتَقَتْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّى فَاطِمَةَ مِنَ النَّارِ " (2)
ففي هذا الحديث استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في الضرب لما رأى ما يكرهه من ذلك الحُلّي على تلك المرأة .
أما الشاهد في موضوعنا فهو استخدام اليد في تصحيح الخطأ ، أما في مجالات العبادات ، فمن تلك الأمثلة ما يلي :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قُمْتُ لَيْلَةً أُصَلِّى عَنْ يَسَارِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5378 )
(2) - شرح مشكل الآثار - (12 / 302) (4812) حسن صحيح
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي تَحْرِيمِ لُبْسِ الذَّهَبِ عَلَى النِّسَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَسَخَهُ مَا ذَكَرْنَا مِمَّا نَسَخَ حَدِيثَ عَائِشَةَ الَّذِي رُوِّينَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ قلت : وهوعَنْ عَائِشَةَ: " أَنَّهَا كَانَتْ تُحَلِّي بَنَاتَ أُخْتِهَا الذَّهَبَ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَكْرَهُ ذَلِكَ وَتُنْكِرُهُ فَكَانَ فِي إِبَاحَةِ عَائِشَةَ تَحَلِّي بَنَاتِ أُخْتِهَا الذَّهَبَ بَعْدَ سَمَاعِهَا مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ وُقُوفِهَا عَلَى حِلِّ ذَلِكَ لَهُنَّ وَلِأَمْثَالِهِنَّ بَعْدَ حُرْمَتِهِ كَانَ عَلَيْهِنَّ وَعَلَى أَمْثَالِهِنَّ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ نَسْخُ مَا كَانَتْ عَلِمَتْهُ مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا كَانَ مَنَعَ مِنْهُ "(1/274)
بِيَدِى أَوْ بِعَضُدِى حَتَّى أَقَامَنِى عَنْ يَمِينِهِ ، وَقَالَ بِيَدِهِ مِنْ وَرَائِى . (1)
وعَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهِىَ خَالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِى عَرْضِ الْوِسَادَةِ ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَهْلُهُ فِى طُولِهَا ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّى . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ، ثُمَّ ذَهَبْتُ ، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِى ، وَأَخَذَ بِأُذُنِى الْيُمْنَى ، يَفْتِلُهَا ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَوْتَرَ ، ثُمَّ اضْطَجَعَ ، حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ ، فَقَامَ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ (2) .
ففي هذا الحديث بيان كيفية تصحيح الخطأ الذي وقع فيه ابن عباس رضي الله عنهما وهو الوقوف عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فصحّح النبي - صلى الله عليه وسلم - له هذا الخطأ ، وكانت وسيلة هذا التصحيح هي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - الشريفة ، حيث أداره ، وجعله على يمينه، وقد تعددت الروايات حول ذلك، ومعنى وقال بيده أي تناول (3) .
قال ابن حجر رحمه الله : « أخذ بأذنه أولاً : لإدارته من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن ، وذلك من مصلحة الصلاة ، ثم أخذ بها أيضاً لتأنيسه لكون ذلك ليلاً » (4) .
وقال ابن بطّال : « استنبط البخاري منه أنه لما جاز للمصليِّ أن يستعين بيده في صلاته فيما يختص بغيره ، كانت استعانته في أمر نفسه ليتقوى بذلك على صلاته وينشط لها إذا احتاج إليه أولى » (5) .
وقد قررَّ هذا المعنى النووي رحمه الله في تعليقه على الحديث، حيث قال: «في قوله :
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (728 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (183) -الشن : القربة البالية -يفتل : يدلك
(3) - فتح الباري 2 / 250 .
(4) - فتح الباري : 3 / 87 .
(5) - المصدر السابق .(1/275)
وأخذ بأذني اليمنى يفتلها قيل : إنما فتلها تنبيهاً له من النعاس ، وقيل لينتبه لهيئة الصلاة ، وموقف المأموم وغير ذلك » (1) .
إذن - فالشاهد هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخدم يده لتصحيح الخطأ وإزالته وبذلك يعتبر هذا الفعل حكماً من أحكام الصلاة ، وعاه ابن عباس رضي الله عنهما ، ووعاه مَن بعده ، ونُقل إلينا ليكون هذا التصحيح نبراساً يهتدي به من يريد تصحيح الأخطاء .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ وَهْوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِى أَنْفِهِ ، فَقَطَعَهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ " (2)
ففي هذا الحديث بيان واضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صحَّح هذا الخطأ - وهو قيادة الرجل من أنفه - باليد ، حيث قطعه عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة ، إيذاناً أن من وسائل التصحيح ، وسيلة استخدام اليد في تصحيح الخطأ .
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : غَدَاةَ الْعَقَبَةِ ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ هَاتِ الْقُطْ لِي فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ ، وَهِيَ حَصَى الْخَذْفِ ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ ، قَالَ : نَعَمْ ، بِأَمْثَالِ هَؤُلاَءِ ، بِأَمْثَالِ هَؤُلاَءِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ. (3)
ففي هذا الحديث نجد « أنه - صلى الله عليه وسلم - بيّن قدر الحصى بإراءتها للصحابة في يده الشريفة ، وهذا بلا شك أوضح في البيان ، وأوقع في النفس » (4) .
وقد تمّ هذا التّصحيح بفعل هذه اليد الشريفة . زاد الله صاحبها - صلى الله عليه وسلم - شرفاً وتعظيماً ، والأمثلة كثيرة لمن أراد استقصاءها ، ولكن يكفي ما سبق للدّلالة على هذا الموضوع ، وهو التّصحيح باليد ، مع أن المبحث السابق قد دلَّ عليه كذلك، لكن - أردت هاهنا - زيادة الدِّلالة ، وبيان أن التصحيح باليد له مكان كبير في التصحيح العملي ، وقد مرَّ فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الفضل بن عباس في حجة الوداع، عندما أتت المرأة المستفتية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي : 2 / 283 . .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6703 )
(3) - صحيح ابن حبان - (9 / 183) (3871) صحيح
(4) - النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - معلماً . أ. د . فضل إلهي ص 104 .(1/276)
تسأله ، فصوّب الفضلُ إليها النظر ، فردّه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجهة الأخرى بيده الشريفة (1) ، وليُعلم أن التصحيح باليد لا يقتضي الشدّة والغلظة - وإن وردت أحياناً - بل قد يكون ذلك برفق ولين كما ورد من الفعل مع الفضل بن عباس رضي الله عنهما .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - تقدم تخريجه(1/277)
(49) تصحيح الخطأ وتقديم البديل المناسب
إن الخطأ عندما يستفحل وقوعه ، ويتغلغل في نفس صاحبه ، ويشغل حيّزاً كبيراً من جوانحه وقلبه ، ولاسيما إنْ صَاحَبَ وقوعُ ذلك - الخطأ - اعتيادٌ عليه، وإلفة له ، وطول مواقعة معه ، فإنه يصعُب على بعض النفوس التخلي عنه بسهولة ، والتخلّص منه بلحظة .. بل قد يشعر صاحبه في بعض الأحيان أنه أصبح جزءاً لا يتجزّأ من ورد حياته اليومية ، فهو لا يتصوّر أن يعيش بدونه، ولا أن يصبح أو يمسي وهو ليس قريناً له ، وبالتالي فإن من أراد تصحيح الأخطاء يحسُن به وهو يُعلِّم الناس ، بخطر الخطأ ، وينهاهم عن ارتكاب الأخطاء أن يُوجِدَ لهم البديل المناسب - ما استطاع إلى ذلك - ليحلّ محلَّ الخطأ الذي اعتادوه ، والمنكر الذي مارسوه ، عند ذلك تكون حاله أدعى للقبول ومقاله أدنى إلى الأفهام والعقول .
إذا عُرِفَ ذلك تبيّن بجلاء أهمية إيجاد البديل المناسب محل الخطأ الذاهب، لأن الناس بحاجة إلى مثل ذلك .
وأيضاً فإن المتأمّل لنصوص الكتاب والسنة يجد هذا الأمر واضحاً جلياً ، وخصوصاً ما كان في مقام التشريع ، وفيما يتعلق بمحو عادات الجاهلية من أفعال وأقوال ، فحينما حرَّم الإسلام أعياد الجاهلية ،وأفعال المشركين فيها ،أبدلهم الله عز وجل بعيدين عظيمين وهما عيدا الفطر والأضحى ،بل وأحلَّ لهم الله تبارك وتعالى بعض اللّهو ،واللّعب المباح فيهما .
ومن أمثلة ذلك أن الله تبارك وتعالى لما نهى المؤمنين عن أن يقولوا بقول الجاهلية :
فقد كَانَ الأنْصَارُ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَمَا يَتْلُو عَلَيهِمِ الوَحْيَ : رَاعِنَا ( أيْ تَمَهَّلْ عَلَينا في التّلاوَةِ حَتّى نَعِيَ مَا تَقْرَؤُهُ عَلَينا ) . وَكَانَ اليَهُودُ يَسْتَعْمِلُونَ هذا التَّعْبيرَ في مَخَاطَبتِهِمْ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِأَنَّهُمْ يَريدُونَ أنْ يَقُولُوا لَهُ : ( ارْعِنَا سَمْعَكَ ) .
وَلكِنَّهُمْ كَانُوا يُمِيلُونَ الكَلِمَاتِ بَعْضَ الشَّيءِ ، وَيُورُونَ بِهَا عَنِ الرُّعُونَةِ . ( وَرَاعِينُو فِي العِبْرِيَّةِ مَعْنَاهَا شِرِّيرٌ ) . فَنَبَّهَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ وَالمُؤمِنينَ إلى ذَلِكَ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اسْتِعْمَالِ(1/278)
هذِِهِ الكَلِمَةِ في مُخَاطَبَةِ الرَّسُولِ . وَأمَرَهُمْ بِأنْ يَسْتَعْمِلُوا بَدَلاً مِنْ كَلِمَةِ ( رَاعِنَا ) ، كَلِمَةَ ( انْظُرْنا ) .
وَيَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى اليَهُودَ الكَافِرينَ بِالعَذَابِ الأليمِ الذِي أعَدَّهُ لَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، وِسُوءِ أدَبِهِمْ بِحَقِّ الرَّسُولِ الكَرِيمِ . فقال سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (104) سورة البقرة (1) .
ومما يدخل تحته أيضاً قول الله تعالى مخبراً عن قول لوط عليه الصلاة والسلام لقومه : { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) }[الشعراء : 165 ، 166]
أتنكحون الذكور مِن بني آدم، وتتركون ما خلق الله لاستمتاعكم وتناسلكم مِن أزواجكم؟ بل أنتم قوم - بهذه المعصية- متجاوزون ما أباحه الله لكم من الحلال إلى الحرام. (2)
أما السنَّة النبوية المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، فما ورد من ذلك يصعب حصره ، ويعجز الإنسان عن عدّه ، ومن ذلك :
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا » . قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَفْعَلْ ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا » (3) .
ففي هذا الحديث منع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الصورة من صور البيع، وأوجد البديل، وهو البيع بالدراهم ثم الشّراء بهذه الدراهم تمراً من ذلك النوع .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 111)
(2) - التفسير الميسر - (6 / 427)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2201 و 2202 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4165 )
الجمع : التمر المجمع من أنواع متفرقة -الجنيب : أجود أنواع التمر(1/279)
وقد تعلّم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الأمر - تصحيح الخطأ وإيجاد البديل - من نبيهم عليه الصلاة والسلام ، فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى الْحَسَنِ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبَّاسٍ إِنِّى إِنْسَانٌ ، إِنَّمَا مَعِيشَتِى مِنْ صَنْعَةِ يَدِى ، وَإِنِّى أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ أُحَدِّثُكَ إِلاَّ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ سَمِعْتُهُ يَقُولُ « مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ ، حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا » . فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ . فَقَالَ وَيْحَكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ ، فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ ، كُلِّ شَىْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ (1) .
ففي هذا الأثر عن ابن عباس إشارة للرجل أن يكفّ عن المحرم ، وهو تصوير ذوات الأرواح ، وإيجاد البديل المناسب وهو تصوير ما لا روح فيه .
وعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ ، أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، قَالَ لَهُ : يَا أَبَةِ ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَمْضِيَ لِمَا تُرِيدُ مِنَ الْعَدْلِ فَوَاللَّهِ مَا كُنْتُ أُبَالِي وَلَوْ غَلَتْ بِي وَبِكَ الْقُدُورُ فِي ذَلِكَ قَالَ : " يَا بُنَيَّ إِنَّمَا أَنَا أُرَوِّضُ النَّاسَ رِيَاضَةَ الصَّعْبِ إِنَّى لَا أُرِيدُ أَنْ أُحْيِيَ الْأَمْرَ مِنَ الْعَدْلِ فَأُوَخِّرَهُ حَتَّى أَخْرُجَ مَعَهُ طَمَعًا مِنْ طَمَعِ الدُّنْيَا فَيَنْفِرُوا مِنْ هَذِهِ وَيَسْكُنُوا لِهَذِهِ " (2)
وعَنْ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِكْرِمَةَ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : " مَا طَاوَعَنِي النَّاسُ عَلَى مَا أَرَدْتُ مِنَ الْحَقِّ حَتَّى بَسَطْتُ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا " (3)
وخلاصة القول في ذلك أن من أراد تصحيح الأخطاء ، فيجمُل به إيراد بديل عن ذلك ، لأن النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء ، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير ، لاشتماله على أنواع من المشروع ، وفيه أيضًا شر ، من بدعة وغيرها ، فيكون ذلك العمل خيرًا بالنسبة إلى [ما اشتمل عليه من أنواع المشروع وشرًا بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من] الإعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين ، وهذا قد ابتلى به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة ، فعليك هنا بأدبين :
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2225 )
(2) - الزُهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (1748) حسن
(3) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (7463 )(1/280)
أحدهما : أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنًا وظاهرًا ، في خاصتك وخاصة من يطيعك . وأعرف المعروف وأنكر المنكر
الثاني : أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه ، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه ، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه ، ولكن إذا كان في البدعة من الخير ، فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان ، إذ النفوس لا تترك شيئًا إلا بشيء ، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرًا إلا إلى مثله أو إلى خير منه ، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروهًا ، فالتاركون أيضًا للسنن مذمومون ، فإن منها ما يكون واجبًا على الإطلاق ، ومنها ما يكون واجبًا على التقييد ، كما أن الصلاة النافلة لا تجب . ولكن من أراد أن يصليها يجب عليه أن يأتي بأركانها ، وكما يجب على من أتى الذنوب من الكفارات والقضاء والتوبة والحسنات الماحية ، وما يجب على من كان إماما ، أو قاضيا ، أو مفتيا ، أو واليا من الحقوق ، وما يجب على طالبي العلم ، أو نوافل العبادة من الحقوق .
ومنها : ما يكره المداومة على تركه كراهة شديدة .
ومنها : ما يكره تركه أو يجب فعله على الأئمة دون غيرهم وعامتها يجب تعليمها والحض عليها والدعاء إليها .
وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك ، أو الأمر به . ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة . بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه ، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه كما يؤمر بعبادة الله سبحانه ، وينهى عن عبادة ما سواه ، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله ، والنفوس خلقت لتعمل ، لا لتترك ، وإنما الترك مقصود لغيره ، فإن لم يشتغل بعمل صالح ، وإلا لم يترك العلم السيئ ، أو الناقص ، لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل(1/281)
الصالح ، نهيت عنه حفظًا للعمل الصالح ." (1) .
ولقد زخرت السنة المباركة ، وخصوصاً في أبواب العبادات بكثير من الأمثلة على هذا الموضوع المهم ومنها :
عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا » . قَالَ أَبُو أَيُّوبَ فَقَدِمْنَا الشَّأْمَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ ، فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى . (2)
ففي هذا الحديث : تصحيح ما قد يقع فيه الصحابة من الخطأ وهو استقبال، أو استدبار القبلة عند قضاء الحاجة ، وينبغي الانتهاء عن ذلك في حال حصوله ، وفي ذلك إكرام للقبلة عن المواجهة بالنجاسة (3) .
ومع هذا التصحيح لما قد يقع الإنسان فيه من خطأ ، أوْجَدَ عليه الصلاة والسلام البديل
__________
(1) - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم - (2 / 86)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (394 )
(3) - انظر : فتح الباري : 1 / 297 .
ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ ، وَتَتَحَقَّقُ حُرْمَةُ الاِسْتِقْبَال وَالاِسْتِدْبَارِ هَذِهِ بِشَرْطَيْنِ :1 - أَنْ يَكُونَ فِي الصَّحْرَاءِ .2 - أَنْ يَكُونَ بِلاَ حَائِلٍ .وَأَمَّا فِي الْبُنْيَانِ ، أَوْ إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُهُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ :أَحَدُهُمَا : لاَ يَجُوزُ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصَّحِيحِ وَالثَّوْرِيِّ ، لِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ فِي النَّهْيِ .وَالثَّانِي : يَجُوزُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا فِي الْبُنْيَانِ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْعَبَّاسِ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَبِهِ قَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذُكِرَ لَهُ أَنْ قَوْمًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا بِفُرُوجِهِمُ الْقِبْلَةَ ، فَقَال : أُرَاهُمْ قَدْ فَعَلُوهَا ؟ اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَتِي الْقِبْلَةَ . قَال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : أَحْسَنُ مَا رَوَى الرُّخْصَةَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا ، وَعَنْ مَرْوَانَ الأَْصْفَرِ قَال : رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُول إِلَيْهَا ، فَقُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا ؟ قَال : بَلَى ، إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُكَ فَلاَ بَأْسَ ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِنَهْيِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الأَْحَادِيثِ ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (34 / 5) و ابن عابدين 1 / 288 ط . دار إحياء التراث العربي ، وتقريرات الرافعي على حاشية ابن عابدين 1 / 43 ط . دار إحياء التراث العربي ، وحاشية الدسوقي 1 / 108 ط . دار الفكر ، وبداية المجتهد 1 / 144 ، وحاشية الجمل 1 / 83 ، 84 ، 85 ط . مطبعة مصطفى محمد ، والمغني لابن قدامة 1 / 162 ط . مطبعة الرياض الحديثة ، ونيل المآرب 1 / 53 .(1/282)
المناسب عن النَّهي الذي نهاهم عنه ، ألا وهو التوجّه نحو المشرق أو المغرب ، حال قضاء الحاجة ، لمن كان في المدينة أو المدن التي تماثلها اتجاهاً نحو القبلة استقبالاً ، أو استدباراً ، كما هو الحال في الشام . والنبي - صلى الله عليه وسلم - عند نهيه لم يغفل ذكر البديل المناسب ، وهذا من الحكمة في دعوة المدعوين .
قال ابن عثيمين - رحمه الله - وهو مما يستفاد في هذا الحديث -:
« حكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه إذا ذَكَر باباً ممنوعاً أرشد إلى الباب المفتوح ، نأخذه من قوله : ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا، وهذا دأب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر ما يُمنع ذكر ما لا يُمنع ، لئلا يسدَّ الباب أمام الناس ، وهذا من حُسن التعليم ، ومن الدعوة إلى الله بالحكمة ، لأن بعض الناس يقول : هذا حرام ، والناس في حاجة إلى أن يسلكوا هذا الطريق ، أو بدلاً عنه ، فإذا قال : هذا حرام فلا بد أن يذكر لهم طريقاً مباحاً يمشون عليه » (1) .
إذن فالقضية واضحة . وهي أن ذكر البديل يُعتبر حكمة ، يجب على الداعية ، والمصحِّح أن يتّصف بها ليكون أقرب إلى نفوس الناس وعقولهم وتطبيقاتهم .
وعَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قُلْنَا السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ . فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِى السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ » (2) .
ففي هذا الحديث تمّ تصحيح الخطأ ، وهو قولهم : السلام على الله ، السلام على فلان وفلان . بتعليل أن الله هو السلام - كما ورد في الحديث - .
قال البيضاوي- رحمه الله- : « إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر التسليم على الله ، وبيّن أن ذلك عكس
__________
(1) فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ص 335 .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (831 )(1/283)
ما يجب أن يقال ، فإن كل سلام ، ورحمةٍ له ، ومنه ، وهو مالكها ومعطيها » (1) .
إذن ما قاله الصحابة كان خطأً ، ويجب تصحيحه لذا لم يسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الخطأ بل نبَّه عليه ، وأتى بالتعليل لذلك ، ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بكل ذلك - فهو ذو حكمة في الدعوة - بل أوجد لهم البديل عن خطئهم ذلك بأن علَّمهم الصحيح من القول ، وهو أن يقولوا : « التحيات لله والصلوات والطيبات ... الخ » ثم عللَّ ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِى السَّمَاءِ وَالأَرْضِ.
وهذا يدلّنا على جانب « من جوانب حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تصحيح الأخطاء .. على خلاف ما يسلكه بعض الدعاة من أسلوب التيئيس ، بمعنى حشد أذهان الناس بذكر الأخطاء والعتاب عليها ، دون التعليل ، وإيجاد البديل ، مما يجعل الدعوة عقيمة ، مقتصرة على الندم والتحسّر ، دون السعي لإصلاح الحال بمعرفة البديل » (2) .
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ ، وَحَانَتِ الصَّلاَةُ ، فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاسُ فِي الصَّلاَةِ ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ ، فَصَفَّقَ النَّاسُ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ ، فَرَأَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنِ اثْبُتْ مَكَانَكَ ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ ، وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَلْبَثَ إِذْ أَمَرْتُكَ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا كَانَ لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ ؟ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ ، فَإِنَّهُ إِنْ سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ. (3)
__________
(1) - فتح الباري : 2 / 364 .
(2) - المنهاج النبوي في دعوة الشباب ص 220 .
(3) - صحيح ابن حبان - (6 / 35) (2260) وصحيح البخارى- المكنز - (684 )(1/284)
وعَنْ أَبِي حَازِمٍ ، سَمِعَهُ مِنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : وَقَعَ بَيْنَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ كَلامٌ ، حَتَّى تَنَاوَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأُخْبِرَ ، فَأَتَاهُمْ ، فَأَذَّنَ بِلالٌ بِالصَّلاةِ ، فَاحْتَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا أَنِ احْتَبَسَ أَقَامَ الصَّلاةَ ، وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَجِيئِهِ ذَلِكَ فَتَخَلَّلَ النَّاسَ ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الصَّفِّ الَّذِي يَلِي أَبَا بَكْرٍ ، فَصَفَّقَ النَّاسُ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلاةِ ، فَلَمَّا سَمِعَ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنِ اثْبُتْ ، قَالَ : مَا كَانَ اللَّهُ لِيَرَى ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَالَ لِلنَّاسِ : مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلاتِكُمْ صَفَّقْتُمْ ؟ إِنَّمَا هُوَ لِلنِّسَاءِ ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ فَلْيَقُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ" (1)
في هذا الحديث تصحيح خطأ وقع فيه أولئك المصلّون ، وهو التصفيق ، فلذلك أنكر عليه الصلاة والسلام عليهم هذا الفعل .
وقيل : بل « ظاهره أن الإنكار إنما حصل عليهم لكثرته لا لمطلقه » (2) ، ثم أوجد لهم البديل - صلى الله عليه وسلم - بأن أرشدهم إلى التسبيح ، وعللّ النهي بأن التصفيق ، أو التصفيح إنما هو للنساء لأنهن مأمورات بخفض أصواتهنَّ في الصلاة مطلقاً لما يخشى من الافتتان » (3) .
قال القرطبي - رحمه الله- : « القول بمشروعية التصفيق للنساء هو الصحيح خبراً ، ونظراً » (4)
إذن الواجب على الرجال إذا نابهم شيء في صلاتهم أن يسبِّحوا ، ويتركوا التصفيق لأنه من شان النساء ، وعلى ذلك فهذا البديل - التسبيح - هو المناسب في حق الرجال ، وفي هذا دلالة على أهمية وجود البديل عند إرادة تصحيح خطأٍ من الأخطاء ، وذلك لما سبق من هذه الأدلة من السنة النبوية ولغيرها ، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى
__________
(1) - مسند أبي يعلى الموصلي(7516) صحيح
(2) - فتح الباري : 2 / 198 .
(3) - المصدر السابق : 3 / 93 .
(4) - المصدر السابق نفس الصفحة .(1/285)
امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ » (1) .
ففيه - أي الحديث - « نجد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عن الخطأ فقط بل نهى عنه وبيّن الطريق الصحيح ، نهى عن الهجرة بقصد الدنيا ، وهذا خطأ وبيَّن الصحيح ، وهي الهجرة بقصد الآخرة .. ولأن الداعية عندما يذكر العوض ، أو البديل أو الصحيح عند النهي ، أو التحذير من الخطأ ، يساعد على ترك الخطأ واجتنابه ، فبعمله هذا يسدُّ باب المحظور ويفتح باب المباح » (2) .
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1 )
(2) - فقه الدعوة في صحيح البخاري : خالد عبد الرحمن القريشي 1 / 55 .(1/286)
(50) التصحيح بالغضب على الفرد المخطئ والجماعة
إن الغضب على المخطئ يعدُّ نوعاً من أنواع تصحيح الخطأ ، إذ أن هناك صنفاً من الناس من مرتكبي الأخطاء لا يرتدعون عن أخطائهم إلا بالمواجهة بالغضب ، والشدة التي تبيّن لهم أنهم قد جانبوا الصواب ، ووقعوا في الأخطاء ، وبالتالي ينقادون للتصحيح ، وقد جاءت نصوص كثيرة في السنة النبوية تبّين أهمية هذا الجانب - الغضب على المخطئ - سواءً ما كان يختصّ بالفرد أم الجماعة ، والغضب لتصحيح الخطأ هو من الغضب المحمود والممدوح ، إذ أن الدافع له هو إرادة التصحيح ، إذ الأخطاء منها ما يكون انتهاكاً لمحارم الله ، فكان بذلك - الغضب - وسيلة المرء لتعظيم حرمات الله تبارك وتعالى ، وفي ذلك يقول سبحانه : {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ..} (30) سورة الحج
وهذا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقابل به المخطئين ، ويصحِّح به الأخطاء ، فعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ضَرَبَ خَادِمًا قَطُّ ، وَلاَ ضَرَبَ امْرَأَةً لَهُ قَطُّ ، وَلاَ ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ ، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلاَ نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ ، فَيَنْتَقِمُهُ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ ، انْتَقَمَ لَهُ ، وَلاَ عَرَضَ لَهُ أَمْرَانِ ، إِلاَّ أَخَذَ بِالَّذِي هُوَ أَيْسَرُ ، حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا ، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ." (1)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِى وَجْهِهِ (2) .
ومعنى ذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ما يكرهُه من الأخطاء فإنه يتغّير وجهه ، ويغضب من ذلك - صلى الله عليه وسلم - ، وما ذلك إلا أن ما يراه خطأ يجب تصحيحه .
وقد كثُرت الأدلة في هذا الموضوع مما يوحي بأن الغضب في سبيل الله ممدوح غير مذموم ، ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يغضب لله حتى من أهله ، ولا أدلَّ على ذلك من قصة النمرقة التي كانت
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 240) (488) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6102 )(1/287)
فيها تصاوير عَنْ أَبِى طَلْحَةَ الأَنْصَارِىِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ تَمَاثِيلُ ». قَالَ : فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا : إِنَّ هَذَا يُخْبِرُنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ تَمَاثِيلُ ». فَهَلْ سَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ ذَلِكَ قَالَتْ : لاَ وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكُمْ مَا رَأَيْتُهُ فَعَلَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ فِى غَزَاتِهِ فَأَخَذْتُ نَمَطًا فَسَتَرْتُهُ عَلَى الْبَابِ فَلَمَّا قَدِمَ فَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْتُ الْكَرَاهِيَةَ فِى وَجْهِهِ فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ أَوْ قَطَعَهُ وَقَالَ :« إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ ». قَالَتْ : فَقَطَعْنَا مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ وَحَشَوْتُهُمَا لِيفًا فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَىَّ." (1)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - غضب لله من هذا المحرم وهو التصاوير . بل إنه هَتكَه بيده الشريفة - صلى الله عليه وسلم - وأزاله.
هذا وقد غضب عليه الصلاة والسلام في تصحيحه للأخطاء - من الفرد والجماعة ، وما كان ذلك - الغضب - إلا انتصاراً لدين الله وخشيته من انتهاك محارم الله تبارك وتعالى.
التصحيح بالغضب على الفرد المخطئ :
عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّى مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ ، فَكَأَنَّ مُعَاذًا تَنَاوَلَ مِنْهُ ، فَبَلَغَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « فَتَّانٌ فَتَّانٌ فَتَّانٌ » ثَلاَثَ مِرَارٍ أَوْ قَالَ « فَاتِنًا فَاتِنًا فَاتِنٌ » وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ (2) .
فكأنَّ معاذاً تناول منه ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : فتّانٌ ، فتَّانٌ - ثلاث مرات - أو قال : فاتناً ، فاتناً ، فاتناً ، وأمره بسورتين من أوسط المفصّل .
وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىَّ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ ، فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّى ، فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ ، فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوِ النِّسَاءِ ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ ، وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ ، فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (7 / 271) (14980) وصحيح مسلم- المكنز - (5641و5642)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (701 )(1/288)
يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ - أَوْ فَاتِنٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ - فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، فَإِنَّهُ يُصَلِّى وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ » (1) .
فدلَّ هذا الحديث على الإنكار على معاذ رضي الله عنه بسبب التأخير ، وفي هذا الإنكار نوع شدة ، وغضب مما فعل .
ومعنى الفتنة هنا ، كما قال ابن حجر رحمه الله : « أن التطويل يكون سبباً لخروجهم من الصلاة ، وقيل فتَّان : أي معذِّب لأنه عذَّبهم بالتطويل» (2) .
قال النووي رحمه الله : « فَفِيهِ الْإِنْكَار عَلَى مَنْ اِرْتَكَبَ مَا يُنْهَى عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا غَيْر مُحَرَّم . وَفِيهِ جَوَاز الِاكْتِفَاء فِي التَّعْزِير بِالْكَلَامِ . وَفِيهِ الْأَمْر بِتَخْفِيفِ الصَّلَاة وَالتَّعْزِير عَلَى إِطَالَتهَا إِذَا لَمْ يَرْضَ الْمَأْمُومُونَ . » (3) .
وغضبه - صلى الله عليه وسلم - على معاذ بسبب التطويل لم يكن غضباً شديداً ، كغضبه على الرجل الآخر - الذي سيأتي حديثه بعد قليل - بل كان للتعليم حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره التطويل في الصلاة ، والمشقّة على المأمومين ، كما جاء عنه الحديث بذلك ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ » (4) .
وهكذا فالغضب من أجل المشقة على المصلّين ، أما حديث معاذ فقد عاتبه، وغضب عليه ، لكن لم يصل الأمر إلى الشدة كما فعل مع غيره .
وعَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّى وَاللَّهِ لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا . قَالَ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ، ثُمَّ قَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ مِنْكُمْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (705 ) وصحيح مسلم- المكنز - (1068)
(2) - فتح الباري : 2 / 229 .
(3) - شرح صحيح مسلم 2 / 137 .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (703 )(1/289)
مُنَفِّرِينَ ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ » (1) .
هذا الحديث في قصة أبيّ بن كعب رضي الله عنه حيث كان يصلي بأهل قباء فاستفتح سورة طويلة . فدخل معه غلامٌ من الأنصار في الصلاة ، فلما سمعه استفتحها ، انفتل من صلاته ، فغضب أبيّ فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكوا الغلام ، وأتى الغلام يشكوا أبياً ، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى عُرف الغضب في وجهه ثم قال: إن منكم منفرين ... (2) .
إذن القصة الأولى ، وهي قصة معاذ تختلف عن القصة الثانية وهي قصة أُبيّ ابن كعب رضي الله عن الجميع .
ووجه الاختلاف هو كما قال ابن حجر رحمه الله : « وأما قصة معاذ فمغايرة لحديث الباب قصة أُبيّ لأن قصة معاذ كانت في العشاء ، وكان الإمام فيها معاذاً ، وكانت في مسجد بني سلمة .
وهذه قصة أبيّ كانت في الصبّح ، وكانت في مسجد قباء . ووهم من فسَّر الإمام المبهم هنا بمعاذ ، بل المراد به أبيّ بن كعب ، كما أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن» (3) .
وقال - رحمه الله - : « ويحتمل أن تكون قصة أبيّ هذه بعد قصة معاذ ، فلهذا أتى بصيغة الجمع ، وفي قصة معاذ واجهه وحده بالخطاب [ أما في قصة أبىّ فقال : إن منكم منفرين ]، وكذا ذكر في هذا الغضب ، ولم يذكره صريحاً في قصة معاذ » (4)
وبهذا التوجيه لكلا القصتين تبيّن اختلافهما، وورود كل واحدة في زمنٍ معين.
وفي هذا الحديث الغضب الشديد لما ينكر من أمور الدين والغضب في الموعظة (5) وأن ذلك - الغضب - من منهج التصحيح للخطأ ، وقد تعددت الأقوال في سبب غضبه - صلى الله عليه وسلم - على هذا الرجل فقيل : إن سببه «إما لمخالفة الموعظة ، أو التقصير في تعلم ما ينبغي تعلمه
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7159 )
(2) - انظر فتح الباري : 2/ 232 .
(3) - المصدر السابق نفس الصفحة .
(4) - فتح الباري : 2 / 233 . وما بين القوسين الكبيرين [ ] من كلام الباحث .
(5) - انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 2 / 138 .(1/290)
لإرادة الاهتمام بما يلقيه لأصحابه ليكونوا من سماعه على بال ، ولئلا يعود من فعل ذلك إلى مثله » (1) .
وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ « اعْرِفْ وِكَاءَهَا - أَوْ قَالَ وِعَاءَهَا - وَعِفَاصَهَا ، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ، ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا ، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ » . قَالَ فَضَالَّةُ الإِبِلِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ - أَوْ قَالَ احْمَرَّ وَجْهُهُ - فَقَالَ « وَمَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا ، تَرِدُ الْمَاءَ ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا » . قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ « لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ » (2) .
ففي هذا الحديث ، غَضِبَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على هذا السائل ، حتى بدت معالم الغضب على وجهه الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وفي سبب غضبه عليه الصلاة والسلام قولان .
1- إما لأنه نهى قبل ذلك عن التقاطها .
2- وإما لأن السائل قَصّر في فهمه ، فقاس ما يتعيّن التقاطه على ما لا يتعيّن» (3) .
وغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع ، إنما هو غضب فيما يتعلق بحق الله وحرماته ، ولأجل هذا عقد البخاري رحمه الله باباً في كتاب الأدب حيث قال: « باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى » .
وقد علّق ابن حجر رحمه الله على هذا التبويب من البخاري رحمه الله بقوله: « كأنه يشير - البخاري - إلى أن الحديث الوارد في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصبر على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه ، وأما إذا كان لله تعالى فإنه يتمثّل فيه أمر الله من الشدّة ، وذَكَر فيه خمسة أحاديث تقدمت كلها ، وفي كلَّ منها ذكر غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسباب مختلفة ، مرجعها إلى أن ذلك كله كان في أمر الله ، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد في الزّجر عنها » (4)
__________
(1) - انظر : فتح الباري : 2 / 233 .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (91 )
الحذاء : أراد أنها تقوى على المشى -العفاص : الوعاء الذى تكون فيه النفقة -الوكاء : الخيط الذى تشد به الصرة والكيس وغيرهما
(3) - انظر : فتح الباري : 1 / 225 .
(4) - فتح الباري : 10 / 534 .(1/291)
والخلاصة من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غَضِبَ على هذا الرجل ، وأمثاله ، وأعلمهم بغضبه هذا أن ما ارتكبوه من أخطاء يجب عليهم أن يصحِّحوه ، ولذا كان الغضب على المخطئ من مناهج التصحيح ، وقد ورد في غضبه - - صلى الله عليه وسلم - - على الأفراد لغرض التصحيح ،فعَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهِىَ تَسْمَعُ : إِنِّى أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ فَأَغْتَسِلُ ، ثُمَّ أَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ». فَقَالَ الرَّجُلُ : إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِى ». (1)
وغير ذلك من أحاديث تصحيح أخطاء الفرد بالغضب على المخطئ .
التصحيح بالغضب على الجماعة المخطئة :
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رضى الله عنه - قَالَ احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً أَوْ حَصِيرًا ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى فِيهَا ، فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ ، ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُمْ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَبًا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلاَةِ فِى بُيُوتِكُمْ ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلاَةِ الْمَرْءِ فِى بَيْتِهِ ، إِلاَّ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ » (2) .
ففي هذا الحديث غضبه - صلى الله عليه وسلم - على الجماعة بسبب خطئهم ، وقد عُلّل سبب الخطأ بما يلي :
1- كونهم اجتمعوا بغير أمره ، وبالغوا في حصب الباب .
2- لكونه تأخر إشفاقاً عليهم لئلا تفرض عليهم، وهم يظنون غير ذلك (3) .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد غضب عليهم في هذا الصنيع وغيره ، ولذلك لمَّا عرفوا غضبه كانوا يصحِّحون الأخطاء التي يرتكبونها ، لعلمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غضب إلا لإرادة تصحيح
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (4 / 213) (8246) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6113 ) -حصب : رمى بالحصى
(3) - انظر : فتح الباري : 10 / 534 .(1/292)
الخطأ ، ولذا لم ينقل بعد هذه الحادثة أنهم فعلوا هذا الخطأ بعد ما عرفوا غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مثل هذا الفعل .
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ قَالُوا إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ . فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِى وَجْهِهِ ثُمَّ يَقُولُ « إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا » (1) .
فهذا الحديث يبيّن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغضب على الجماعة بسبب خطئهم في القول ، حيث ظنوا بقولهم أن الدرجات العالية توجب التقصير ، فيقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لسنا كهيئتك ، فيغضب - عليه الصلاة والسلام - من جهة أن حصول الدرجات لا يوجب التقصير في العمل ، بل يوجب الازدياد شكراً للمنعم الوهاب فعَنْ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ إِنْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَيَقُومُ لِيُصَلِّىَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ ، فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ « أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا » (2) .
وقال ابن حجر رحمه الله في فوائد الحديث : « مشروعية الغضب عند مخالفة الأمر الشرعي ، والإنكار على الحاذق المتأهِّل لفهم المعنى إذا قصر في الفهم ، تحريضاً له على التيقّظ » (3) .
وعَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ سُئِلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا ، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ « سَلُونِى عَمَّا شِئْتُمْ » . قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِى قَالَ « أَبُوكَ حُذَافَةُ » . فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ » . فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِى وَجْهِهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . (4)
والسائل الأول هو عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه ، كما جاء ذلك في بعض الروايات .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (20 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1130 )
(3) - المصدر السابق .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (92 )(1/293)
فهذا الحديث - كذلك - بيّن الغضب على الجماعة إذا أخطأوا ، والغرض منه التصحيح للفعل الخاطئ . وهذا الحديث ، والقصة التي فيه عن أولئك الذين ألحُّوا بالسؤال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي سبب نزول قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (101) سورة المائدة، كما قال ذلك ابن حجر رحمه الله (1) .
« ومجرد غضبه - صلى الله عليه وسلم - من الشيء دالٌّ على تحريمه أو كراهيته » (2) ، ولذلك غضب على هؤلاء القوم واشتد غضبه حتى قال عليه الصلاة والسلام: سلوني.. .قال النووي رحمه الله : « قال القاضي : سلوني إنما كان غضباً ... وكان اختياره - صلى الله عليه وسلم - ترك تلك المسائل ، لكن وافقهم في جوابها ، لأنه لا يمكن ردُّ السؤال ، ولِمَا رآه من حرصهم عليها » (3) .
وكان مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم - من هذا الغضب هو إرجاعهم إلى صوابهم ، وتركهم لخطئهم في كثرة الأسئلة ، وقد وفَّق الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لفهم مراده - صلى الله عليه وسلم - فبادر من فوره - لمّا علم غضبه - وبرك على ركبتيه وقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - نبياً .وفي رواية : إنا نتوب إلى الله عز وجل ، وفِعلُ عمر هذا دالٌ على أدبه وإكرامه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشفقة على المسلمين لئلا يؤذوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهلكوا » (4) .
ولذا أرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الكلام فسكن غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله : سلوني « وفي هذا دلالة على مراقبة الصحابة أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وشدة إشفاقهم إذا غضب، خشية أن يكون لأمر يعمّ ، فيعمهم » (5) ، فيسارعون إلى تصحيح الأخطاء وما ذلك إلا بسبب فهمهم لغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه يريد منهم التّصحيح .
وهذه الأمثلة وغيرها تدلُّ على أن الخطأ إذا صدر من الجماعة ، فمن مناهج تصحيح الخطأ ، الغضب عليهم ليراجعوا تلك الأخطاء ويصحِّحوها قدر الإمكان
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فتح الباري : 13 / 284 .
(2) - المصدر السابق : 1 / 226 .
(3) - شرح صحيح مسلم : 5 / 500 .
(4) - المصدر السابق .
(5) - فتح الباري : 13 / 284 .(1/294)
(51) التوبيخ
والتوبيخ : مأخوذ من وبّخه توبيخاً ، أي لامه ، وعذله ، وأنّبَهُ ، وهدّدَه (1) .
إذن فهو اللوم والعتاب على شيء بدر من المخطئ استحقَّ عليه ذلك .
والتوبيخ يعتبر من مناهج التصحيح ، وجنس من أجناس التعزير، حيث أن التعزير أجناس « فمنه ما يكون بالتوبيخ ، والزجر بالكلام » (2) .
وقد يتعدى التعزير إلى الحبس ، والضّرب ، وغير ذلك مما يراه إمام المسلمين ، أو من يتولى شؤونهم كالقاضي ، والحاكم ، وغيرهم . والقائم بالتوبيخ لا يَعدل إليه ، إلا إذا لم ينفع مع المخطئ اللِّين والرِّفقُ ، ولم تنفع معه الموعظة الحسنة ولم يُجْدِ معه الهجر ولا الدعاء عندئذ يُصار إلى التّوبيخ ، ثم الضّرب ، وكذلك ينبغي للمصّحِّح أن لا يسترسل في التعنيف والتوبيخ ، فيطلق لسانه بما لا يحتاج إليه (3) من بذيء الكلام وقبيحه .
بل عليه الاقتصار على أقل الألفاظ إذا أدَّى ذلك الغرض المطلوب ، وهو إعلام المخطئ بخطئه ، وتركه ذلك الخطأ ، ورجوعه إلى الصواب ، وقد استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المنهج - وهو التّوبيخ - في عدة مواطن ، بيّن من خلالها أهمية استخدامه ، وأنّ هناك من الناس من لا ينفع معه إلا أن يوبّخ على فعله ، فيرتدع ، وينقاد إلى جادة الصواب ، ومن الأمثلة على استعمال التوبيخ في مجال تصحيح الأخطاء ما يلي:
فعَنِ الْمَعْرُورِ قَالَ لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً ، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ ، فَقَالَ لِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ، فَإِنْ
__________
(1) - انظر القاموس المحيط مادة ( وبّخه ) ص 335 .
(2) - الحكمة في الدعوة إلى الله : القحطاني ص 558 .
(3) - انظر : الترهيب في الدعوة : د. رقية نياز ص 86 .(1/295)
كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ » (1) .
وقد رواه البخاري في كتاب الإيمان ، وبذا يدخل في موضوعنا ، وهو تصحيح الأخطاء في العبادات ، إذ أن من بقي فيه خصلة من خصال الجاهلية سوى الشرك لا يخرج عن الإيمان بها ، سواء كانت من الصغائر أم الكبائر ، كما قاله ابن حجر رحمه الله (2) .
وفي هذا الحديث يتّضح لنا كيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبّخه على فعله ذلك ، وهو تعيير المملوك بأمه ، « وهذا التعيير من أخلاق الجاهلية .. وينبغي للمسلم أن لا يكون فيه شيء من أخلاقهم ، ففيه النهي عن التعيير وتنقيص الآباء والأمهات ، وأنه من أخلاق الجاهلية » (3) .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمه أن ذلك لا يجوز له ، وقد جاء هذا الإعلام على شكل تعنيف وتوبيخ ، مع أن منزلة أبي ذرّ رضي الله عنه ، ومكانته من النبي - صلى الله عليه وسلم - معلومة ، وهو في الذروة العالية من الإيمان ، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - « إنما وبخّه بذلك تحذيراً له عن معاودة مثل ذلك ، لأنه وإن كان معذوراً بوجه من وجوه العذر ، لكن وقوع ذلك من مثله يُستعظم أكثر ممن هو دونه» (4) .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما عنَّفه ووبَّخه ، لم يسترسل في تعنيفه وتوبيخه بشيء من فضول الكلام وقبيحه ، وهذا من كمال أدبه - صلى الله عليه وسلم - ، وحسن أخلاقه ، وحكمته حيث يضع الأمور في مواضعها ، ويختار لكل شخص ما يناسبه (5) .
ولقد ظهر أثر هذا التّصحيح على أبي ذرٍّ رضي الله عنه ، حيث فهم منه أنه يراد منه الرجوع إلى الصواب ، ولذلك لما رآه المعرور بن سويد - راوي الحديث - كان في قمَّة تصحيح خطئه ذلك ، حيث ألبس مملوكه مثل لباسه ، وعامله معاملة حسنه ، وما ذلك إلا انقياداً للتصحيح ، وانتهاءً عما نهى عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (30 )
(2) - فتح الباري : 10 / 107 .
(3) - شرح صحيح مسلم للنووي : 4 / 291 .
(4) - فتح الباري : ( 1 / 107 )
(5) - انظر الترهيب في الدعوة ص 87 ، وتربية الأولاد في الإسلام : 2 / 723 .(1/296)
وعن عَمْرَو بْنِ دِينَارٍ ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيَؤُمُّهُمْ ، قَالَ : فَأَخَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى مَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ لَيَؤُمَّنَا ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ تَنَحَّى فَصَلَّى وَحْدَهُ ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَقُلْنَا لَهُ : مَا لَكَ يَا فُلاَنُ ، أَنَافَقْتَ ؟ قَالَ : مَا نَافَقْتُ ، وَلَآتِيَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَأُخْبِرَنَّهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا ، وَإِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ الْبَارِحَةَ فَصَلَّى مَعَكَ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ لَيَؤُمَّنَا ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ تَنَحَّيْتُ فَصَلَّيْتُ وَحْدِي ، أَيْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنَّمَا نَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ ، وَإِنَّمَا نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ اقْرَأْ بِسُورَةِ كَذَا وَسُورَةِ كَذَا قَالَ عَمْرٌو : وَأَمَرَهُ بِسُوَرٍ قِصَارٍ لاَ أَحْفَظُهَا ، قَالَ سُفْيَانُ : فَقُلْنَا لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ : إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ قَالَ لَهُمْ : إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ : اقْرَأْ بِالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، قَالَ عَمْرٌو نَحْوَ هَذَا. (1)
حيث كرر عليه القول - صلى الله عليه وسلم - بالكلام أفتان ، فتان ، فتان... وما ذلك إلا لوماً له ، وتوبيخاً مما فعل مع الناس في الصلاة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عزَّره بهذا التّوبيخ بحسبه ، وبما يناسبه ، وكان هذا التعزير باللّوم وهو العقاب ، والتوبيخ ، كما قال النووي رحمه الله.
وهكذا نجد أن التّوبيخ ، واللّوم ، والعتاب على المخطئ الذي ارتكب الخطأ هو من مناهج التصحيح التي سنّها عليه الصلاة والسلام .
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (6 / 160) (2400) وصحيح البخارى- المكنز - (705 ) وصحيح مسلم- المكنز - (1068)(1/297)
(52) الضرب :
والضّرب من تصحيح الأخطاء ، ويأتي في المرحلة الأخيرة من مراحل اتخاذ المواقف مع المخطئ ، وذلك بعد استنفاد المراحل الأربع وهي :
الغضب .الهجر .الدعاء .التوبيخ .
فإذا لم تُجْدِ تلك العقوبات ، صار المصحِّح إلى الضّرب ، وهذا الترتيب يفيد بأن المصحِّح لا يجوز له أن يلجأ إلى أشدّ هذه العقوبات وهي الضّرب ، إذا كان بإمكانه تصحيح الخطأ بما هو أخفُّ منه، وليكون كذلك - الضّرب - من أقسى العقوبات التي سيستحقها المخطئ على خطئه (1) .
والضّرب منهجٌ ربانيٌّ ورد في القرآن على سبيل التّأديب الرادع للزوجة، التي يخاف زوجها من نشوزها ، حيث قال سبحانه : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء.
وقد ذكر سبحانه وتعالى كذلك الضّرب في الحدود ، فقال عن الزانية والزاني : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) سورة النور
ووجه هذا أن الجلد هو من أنواع الضّرب ، والضّرب من أنواع العقاب .
ولابد أن يكون الضّرب في حدود تصحيح الخطأ ، ولا يتعداه إلى الانتقام، والزّيادة على الحد ،لأن ذلك قد يكون مضرّاً بالمخطئ ، ولا يؤدّي الغرض منه ، ولذلك فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضرب أبداً انتقاما لنفسه ، أو أخذاً لحقه ، وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي بهذه العقوبة الرادعة - الضّرب - عندما تنتهك محارم الله عز وجل .
__________
(1) انظر تربية الأولاد في الإسلام 2 / 725 .(1/298)
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلاَ امْرَأَةً وَلاَ خَادِمًا إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَىْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَىْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (1) .
وكذلك عندما يُعصى عليه الصلاة والسلام في أمرٍ من أموره الخاصة ،لا يتخذ أسلوب الضّرب تصحيحاً لذلك الخطأ وإنما يبدأ باللّين ، والرِّفق والموعظة الحسنة ، قَالَ أَنَسٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا فَأَرْسَلَنِى يَوْمًا لِحَاجَةٍ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَذْهَبُ. وَفِى نَفْسِى أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِى بِهِ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِى السُّوقِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَبَضَ بِقَفَاىَ مِنْ وَرَائِى - قَالَ - فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ « يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ ». قَالَ قُلْتُ نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ أَنَسٌ وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَىْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا أَوْ لِشَىْءٍ تَرَكْتُهُ هَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا. (2)
وفي رواية قَالَ أَنَسٌ - رضى الله عنه - : خَدَمْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنِينَ ، فَمَا قَالَ لِى أُفٍّ . وَلاَ لِمَ صَنَعْتَ وَلاَ أَلاَّ صَنَعْتَ (3) .
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِىِّ قَالَ بَيْنَا أَنَا أُصَلِّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِى الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَىَّ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِى لَكِنِّى سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبِأَبِى هُوَ وَأُمِّى مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِى وَلاَ ضَرَبَنِى وَلاَ شَتَمَنِى قَالَ « إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَىْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ » (4) .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضربه بيده قط ، ولكنه كان يحضّ على الضّرب ، وخصوصاً في أداء
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6195)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6155 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6038 )
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (1227 )(1/299)
الفرائض ، والمواظبة عليها فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ ». (1)
لكن يجب أن يكون الضّرب هنا ضرباً غير مبرح ، وإنما للتأديب ، والزجر عن التهاون فيها ، وقد قال بعض العلماء : « إنما أُمر بالضّرب لعشرٍ ، لأنه حدٌ يتحمل فيه الضّرب غالباً ، والمراد بالضّرب ضرباً غير مبرح ، وأن يتقي الوجه في الضّرب » (2) .
وقد تحدّث المربُّون وأصحاب كتب التربية عن هذه العقوبة ، وهي الضّرب ، وعلى أهميتها لكن شرطوا لذلك شروطاً اعتبروها مهمة لمن أراد أن يؤدّب بهذه الوسيلة ، ومن هذه الشروط :
1. ألا يلجأ المؤدِّب إلى الضّرب إلا بعد استنفاد جميع وسائل التأديب .
2. أن يكون هذا الضّرب مفرقاً في أنحاء الجسد ، لا مجموعاً في مكان واحد في الجسد خشية إيذاء المضروب .
3. أن يتجنّب الضّرب في الأماكن الحساسة من الجسد ، أو المهلكة كالوجه ، والرأس وغيرها .
4. أن يتجنّب الغضب في حال الضّرب ، لئلا يتجاوز التّأديب ، فيكون الضرر أكبر وأقوى .
5. أن يكون الضّرب في المراتب الأولى للأخطاء غير مؤلمٍ ، وأن يقتصر على التّخويف ما أمكن فإذا كرر الخطأ فيزداد الضّرب .
6. أن يقوم المؤدّب والمصحِّح بالضّرب بنفسه ، وألا يترك هذا الأمر لأحدٍ حتى لا تتأجج نار الحقد في نفس المضروب على الآخر .
7. ألا تزيد عدد الضّربات فوق عشرة أسواط أو عشر ضربات - في غير الحد - ،
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (495 ) حسن
(2) - انظر : المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - ص 63 .(1/300)
فعَنْ أَبِى بُرْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلاَّ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ». (1) .
وهذه الشروط وغيرها تبيّن أن الضّرب لا يتجاوز حدّه ، حيث أن الغرض منه هو التّصحيح ، أما ما ورد في السنة المطهرة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استخدم الضّرب لتصحيح الخطأ فهو محمول على ضرب التنبيه والإيناس لأصحابه الكرام رضي الله عنهم .
وقد تقدم في أول المبحث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضرب بيده قط ، فهذا في أمر الانتقام للنفس
وتصحيح الأخطاء بالضّرب يشمل النّوعين معاً ، ضرب الإيلام ، وضرب التّنبيه ، لأن الغرض من ذلك - بلا شك - هو إرجاع المخطئ للصواب وتصحيح خطئه .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد ورد عنه استخدام الضّرب بيده لتنبيه أصحابه . فورد أنه ضرب لأجل لفت الانتباه ، وورد كذلك أنه ضَرب على فخذه تعجباً ، وأسفاً مما فعله الطرف الآخر ، وبالمثال يتضح المقال ، ومن الأمثلة ما يلي :
فعَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ أَبَاهُ دَفَعَهُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْدُمُهُ. قَالَ فَمَرَّ بِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ صَلَّيْتُ فَضَرَبَنِى بِرِجْلِهِ وَقَالَ « أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ». قُلْتُ بَلَى. قَالَ « لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ » (2) .
ففي هذا الحديث نجد « أنه - صلى الله عليه وسلم - ضرب برجله الشريفة قيساً رضي الله عنه عند التعليم ، ولم يكن ذلك إلا للتّنبيه . قال العلامة المباركفوري في شرح الحديث : فضربني برجله أي للتّنبيه » (3) .
وقد جاء التصحيح على صورة التنبيه للفت النظر إلى أفضلية هذا القول - لا حول ولا
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (4493 ) صحيح
وانظر الموضوع في : تربية الأولاد في الإسلام 2 / 727 ، ومنهج التربية النبوية للطفل ص 366 ، وأساليب التربية الإسلامية في تربية الطفل ص 65 . والمهذب المستفاد لتربية الأولاد ص 348، والمعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - ص 62 ، وتربية الأولاد بين الإفراط والتفريط ص 276 .
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (3930 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
(3) - النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - معلماً ص 66 .(1/301)
قوة إلا بالله - ، خشية عدم إدراك هذه الأفضلية، وخصوصاً بعد الصلاة ، والمفهوم من الحديث أن قيساً لم يكن يذكر هذا الذكر بعد صلاته .
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : أَتَانِي نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَنَا نَائِمٌ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ، فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ ، وَقَالَ : أَلاَ أَرَاكَ نَائِمًا فِيهِ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ، غَلَبَتْنِي عَيْنِي ، قَالَ : فَكَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْهُ ؟ قُلْتُ : مَا أَصْنَعُ يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَضْرِبُ بِسَيْفِي ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَقْرَبُ رُشْدًا ؟ تَسْمَعُ وَتُطِيعُ ، وَتَنْسَاقُ لَهُمْ حَيْثُ سَاقُوكَ." (1)
وخلاصة الكلام أنه قد ثبت ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه سواءً باليد أم بالرِّجل، ولم يكن ذلك للإيلام والعقاب والإهانة ، بل كان للتنبيه والمؤانسة ، وتعليم الخير (2) ، وهذا من أبواب التّصحيح ولا شك .
وعَنْ أَبِى الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ قَالَ أَخَّرَ ابْنُ زِيَادٍ الصَّلاَةَ فَجَاءَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ فَأَلْقَيْتُ لَهُ كُرْسِيًّا فَجَلَسَ عَلَيْهِ فَذَكَرْتُ لَهُ صَنِيعَ ابْنِ زِيَادٍ فَعَضَّ عَلَى شَفَتِهِ وَضَرَبَ فَخِذِى وَقَالَ إِنِّى سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ كَمَا سَأَلْتَنِى فَضَرَبَ فَخِذِى كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ وَقَالَ إِنِّى سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا سَأَلْتَنِى فَضَرَبَ فَخِذِى كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ وَقَالَ « صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ مَعَهُمْ فَصَلِّ وَلاَ تَقُلْ إِنِّى قَدْ صَلَّيْتُ فَلاَ أُصَلِّى ». (3)
فهذا الحديث يدلُّ على أن هناك من الناس من يرتكب الأخطاء في أمور مهمة كأمر الصلاة ، حيث يؤخرونها عن وقتها ، ولذلك فمن رأى مثل هذا الخطأ الجسيم فعليه بالصلاة لوقتها المختار ثم إن أدركته الصلاة مع مثل هؤلاء المخطئين فليصلِّ معهم ، وهذا الحديث فيه حثٌّ على الصلاة في أول الوقت وأن هذا هو الأفضل ؛ وقد جاء الإخبار عن أولئك الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها المختار بشدّ الانتباه ، ولفت الأنظار إلى خطئهم الجسيم ، وأداة هذا التنبيه هي الضّرب على الفخذ .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (15 / 53) (6668) حسن
(2) - بتصرف من المصدر السابق ص 67 .
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (1501 )(1/302)
وفي رواية الحديث ما يفيد إقتداء الرواة بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعمل هذا الفعل، وهو الضّرب لشد الانتباه أكثر . وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِى أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلاَةَ فَصَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ صَلَّيْتَ لِوَقْتِهَا كَانَتْ لَكَ نَافِلَةً وَإِلاَّ كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ صَلاَتَكَ » (1) .
وهذا كما قال النووي رحمه الله : «فيه دليل من دلائل النبوة وقد وقع هذا في زمن بني أمية» (2) .
إذن فالحديث يوضح أن هناك خطأ من الأخطاء الكبيرة سيرتكب بعد عهده - صلى الله عليه وسلم - ، ولا بد من التّنبيه عليه وتصحيحه ، وقد جاء ذلك بمنهج الضّرب ، لكنه كان ضرب تنبيه - كما تقدم - ، وجمع الذهن على ما يقال (3) .
أما ما ورد من التنبيه على الخطأ وتصحيحه بضرب الإنسان نَفَسه ضرب تعجبٍ وتأسّفٍ ، فيظهر جلياً في قصة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع علي بن أبي طالب وزوجه فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهما - فعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عَلِىُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِىٍّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِىِّ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - لَيْلَةً فَقَالَ « أَلاَ تُصَلِّيَانِ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا . فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا . ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهْوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهْوَ يَقُولُ « ( وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلاً ) (4) » .
ففي هذا الحديث ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتى علياً وفاطمة ليلاً لتنبيههما على فضل قيام الليل ، احتج عليٌّ رضي الله عنه بأن أنفسهما بيد الله ، ولو شاء الله لبعثهما واستيقظا ، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فخذه الشريفة وتلا الآية ، وفي ضربه عليه الصلاة والسلام فخذ نفسه دلالةً على كُره ذلك الاحتجاج لأنه أراد - عليه الصلاة والسلام - منه - أي علي - أن
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (1498 )
(2) - شرح صحيح مسلم للنووي : 2 / 283 .
(3) - انظر المصدر السابق ص 284 .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (1127)(1/303)
ينسب التقصير إلى نفسه ، وهذا قد ذكره ابن التّين رحمه الله (1) .
وزاد النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك بتلاوته الآية المذكورة ، واختار النووي رحمه الله أن ضربه عليه الصلاة والسلام فخذه ، إنما كان تعجباً من سرعة جواب عليّ رضي الله عنه ، ولم يوافقه عليه الصلاة والسلام على الاعتذار ، ولهذا ضرب فخذه (2) .
وقال ابن حجر رحمه الله : « وفيه - الحديث - جواز ضرب الفخذ عند التأسف » (3)
وعلى العموم فما قاله الأئمة رحمهم الله من الأقوال المتقدمة لا يتنافى أنه عليه الصلاة والسلام قد تأسّف على قول ، واعتذار علي ، حيث كره ذلك منه، ولم يوافقه عليه ، لأنه أراد منه النهوض إلى هذا الفضل العظيم - وهو قيام الليل - وبالتّالي يكون هذا الضّرب تنبيها ً له على مجانبته الصواب بالاحتجاج بتلك الحجة ، وعليه فهذا أمر يحتاج إلى تصحيح، وبالتالي كانت أداة التصحيح هي الضّرب على الفخذ تنبيهاً على ذلك الفعل . والله أعلم بالصواب .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فتح الباري : 3 / 15 .
(2) - شرح صحيح مسلم للنووي : 2 / 397 .
(3) - فتح الباري : 3 / 15 .(1/304)
(53)الأسلوب غير المباشر في الحث على من قصَّر ببعض الواجبات
عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ فَأَثْنَى عَلَى طَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ، ثُمَّ قَالَ : " مَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يُفَقِّهُونَ جِيرَانَهُمْ ، وَلَا يُعَلِّمُونَهُمْ ، وَلَا يَعِظُونَهُمْ ، وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ ، وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ . وَمَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ جِيرَانِهِمْ ، وَلَا يَتَفَقَّهُونَ ، وَلَا يَتَّعِظُونَ . وَاللَّهُ لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ ، وَيُفَقِّهُونَهُمْ وَيَعِظُونَهُمْ ، وَيَأْمُرُونَهُمْ ، وَيَنْهَوْنَهُمْ ، وَلْيَتَعَلَّمَنَّ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ ، وَيَتَفَقَّهُونَ ، وَيَتَفَطَّنُونَ ، أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ " ، ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ قَوْمٌ : مَنْ تَرَوْنَهُ عَنَى بِهَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : الْأَشْعَرِيِّينَ ، هُمْ قَوْمٌ فُقَهَاءُ ، وَلَهُمْ جِيرَانٌ جُفَاةٌ مِنْ أَهْلِ الْمِيَاهِ وَالْأَعْرَابِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيِّينَ ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ذَكَرْتَ قَوْمًا بِخَيْرٍ ، وَذَكَرْتَنَا بِشَرٍّ ، فَمَا بَالُنَا ؟ فَقَالَ : " لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ ، وَلَيُفَقِّهَنَّهُمْ ، وَلَيُفَطِّنَنَّهُمْ ، وَلَيَأْمُرَنَّهُمْ ، وَلَيَنْهَوْنَهُمْ ، وَلَيَتَعَلَّمْنَ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ ، وَيَتَفَطَّنُونَ ، وَيَتَفَقَّهُونَ ، أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا " ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنُفَطِّنُ غَيْرَنَا ؟ فَأَعَادَ قَوْلَهُ عَلَيْهِمْ ، وَأَعَادُوا قَوْلَهُمْ : أَنُفَطِّنُ غَيْرَنَا ؟ فَقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا ، فَقَالُوا : أَمْهِلْنَا سَنَةً ، فَأَمْهَلَهُمْ سَنَةً لِيُفَقِّهُونَهُمْ ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ ، وَيُفَطِّنُونَهُمْ ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الْآيَةَ ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ ) الْآيَةَ . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (1)
فقد فهم الأشعريون ذلك ، فبادروا لتعليم جيرانهم ، وهذا الأسلوب من أنجع الأساليب التربوية ، فقد جاءوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مسرعين ، واستفسروا عن الأمر وكان جواب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - :" لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ ..." فبادروا مباشرة لتنفيذ الأمر النبوي ، وهكذا فليكن الدعاة والمربون والمصلحون .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مجمع الزوائد - ( 748 ) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم - (1 / 366) (1118 ) وَفِيهِ بُكَيْرُ بْنُ مَعْرُوفٍ ، قَالَ الْبُخَارِيُّ : ارْمِ بِهِ . وَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ، وَضَعَّفَهُ فِي أُخْرَى . وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ .(1/305)
الخلاصة في هذا الموضوع
وبعد هذه الجولة في رياض السنّة العطرة والاطّلاع على شيء من الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس يحسن قبل مغادرة الموضوع التذكير بالنقاط التالية:
1. - تصحيح الأخطاء واجب ومهم وهو من النصيحة في الدين ومن النهي عن المنكر ولكنه ليس كل الواجب فإن الدَّين ليس نهيا عن المنكر فحسب وإنما هو أمر بالمعروف أيضا.
2. - ليست التربية هي تصحيح الأخطاء فقط وإنما هي تلقين وتعليم وعرض لمبادئ الدين وأحكام الشريعة أيضا واستعمال الوسائل المختلفة لتأسيس التصورات وتثبيتها في النفوس من التربية بالقدوة والموعظة والقصة والحدث وغيرها، ومن هنا يتبين قصور بعض الآباء والأمهات والمدرسين والمربين بتوجيه جلّ اهتمامهم إلى معالجة الأخطاء ومتابعة الانحرافات دون ترجيح الاهتمام بتعليم المبادئ والأسس والمبادرة بالتحصين الذي يمنع وقوع الانحرافات والأخطاء ويبادرها فبل حدوثها أو يقلّل منها.
3. أن المنهاج النبوي في تصحيح الأخطاء هو الطريق الواضح السهل الذي سلكه النبي - صلى الله عليه وسلم - في تصحيح الأخطاء .
4. - يتضح مما سبق ذكره من المواقف والأحداث تنوع الأساليب النبوية في التعامل مع الأخطاء وأن ذلك قد اختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ومن كان لديه فقه وأراد الاقتداء قاس النظير على النظير والشبيه على الشبيه فيما يمرّ به من مواقف وأحداث ليتوصّل إلى الأسلوب المناسب للحالة المعيّنة.
5. أن العمل بالمنهاج النبوي، وخصوصاً ما كان في تصحيح الأخطاء يعتبر ضرورة في حياة الفرد والجماعة لاستقامة أمر دنياهم ، وأخراهم ، وذلك لعدة أمور منها : -
? أن تطبيق هذا المنهاج في الحياة ليس فيه صعوبة ، بل هو سهل التناول والتطبيق لأنه مستمدّ من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بخلاف بقية المناهج الأرضية .
? أن تطبيق المنهاج النبوي - وخصوصاً في تصحيح الأخطاء - هو من النصيحة في(1/306)
الدين التي أمر بأدائها لجميع المسلمين .
6. أن تصحيح الأخطاء منهج رباني ، ورد في القرآن الكريم ، وقد استمدّت منه السنة النبوية هذا المنهج .
7. أن هناك أسباب كثيرة تكمن وراء ارتكاب الأخطاء ، ومن أهم تلك الأسباب ما يلي : * الجهل . * الكبر . * العجلة والتسرع .* الحسد . * الهوى . * الغضب .
ولذلك يجب تجنّب تلك الأسباب لتلافي حدوث الأخطاء .
8. أن من أراد تصحيح الأخطاء فلا بد له من مراعاة اعتبارات حال التصحيح ، التي من أهمها ما يلي :
? الإخلاص : فيجب أن يكون الحامل له على التصحيح هو الإخلاص .
? أن الخطأ من طبيعة البشر : ولذلك فيجب مراعاة ذلك وأن يكون التصحيح بقدر هذا الخطأ ، ومن الأخطاء ما يكون مناسباً لها - في مجال التصحيح - العفو عنها
? العدل : فلا يجور بحجّة التّصحيح ، ولا يحابي قريباً ، ويعاقب بعيداً في مجال التصحيح ، إذِ العدل من أوجب الواجبات .
? تصحيح الأهم فالأهم : كما كان عليه الصلاة والسلام يفعل ، فيبدأ بكبار الأخطاء ، وأخطرها ، ثم ما يليها .
9. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من خلقه العظيم الهدوء ، وترك الاستعجال ، ولذلك فقد صحَّح بعض الأخطاء بهذا المنهج .
10. أن الرِّفق والرّحمة من أهم خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - وتدل دلالة كبيرة على خُلُقه العظيم ، ولذلك فقد ورد التصحيح للأخطاء بهذا الخلق العظيم
11. أن الحكمة والموعظة الحسنة من أهم صفات الداعية الناجح ، والمصحِّح للأخطاء ، ولذلك فقد وردفي السنة التّصحيح للأخطاء بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، وما على من أراد ذلك - تصحيح الخطأ - إلا الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في استخدام هذا الأسلوب .
12. الحوار ، والإقناع من أهم أساليب تصحيح الأخطاء ، وهو دالٌّ على الاتصاف بالخلق الحسن ، ولذلك فقد ورد في السنة التصحيح للأخطاء بهذا الأسلوب
13.(1/307)
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سار على منهج القرآن في أسلوب التعريض ، والبيان العام ، حيث ورد عنه – في كثير من الأقوال - استخدام هذا الأسلوب الهام في تصحيح الأخطاء ، وبالتالي أثَّر على المخطئين مما دعاهم إلى تصحيح أخطائهم .
14. أن المدح والثناء من أساليب تصحيح الأخطاء ، ولما لذلك من أثر على الممدوح ، وخصوصاً في تصحيح الخطأ ، وقد استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر - المدح والثناء – في تصحيح الخطأ ، مما دلَّ على عظيم خلقه - صلى الله عليه وسلم - وكمال آدابه .
15. أنه لابد من بيان مضرة الخطأ ، وخطورته للمخطئ ، لأجل أن يرتدع عن خطئه ، وبالتّالي فهو من منهج النقد لأجل التصحيح .
16. قد ينفع في التّصحيح أن يبيّن المصحِّح للمخطئ عظيم خطئه ، وكبير جرمه ، لينقاد الأخير للتصحيح ، ويقلع عن الخطأ ، وهذا من منهج النقد المتّبع في التصحيح
17. ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيال بعض الأعمال أنه أنكر الخطأ ، وقبل الصواب منها ، وبهذا يكون إنكار الخطأ ، وقبول بقية الصواب من منهج النقد في تصحيح الأخطاء .
18. أن منهج الأمر والنهي من أوسع مناهج تصحيح الأخطاء التي استخدمها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسنَّها لأمته من بعده .
19. وردت السنَّة بالأمر بالكف عن الخطأ للفرد ، والجماعة .
20. هناك أخطاء يجب تداركها ، وتصحيحها مباشرة ، ولذلك ورد في السنة الأمر بذلك ، لما في ذلك من انقياد للتصحيح من قبل المخطئ .
21. أن النهي عن الخطأ إذا اقترن بالتعليل لذلك النهي ، فهو أوقع أثراً في نفس المخطئ ، مما يدعوه إلى تصحيح ذلك الخطأ .
22. أن النهي عن الخطأ إذا جاء مقروناً بالتنفير عنه ، أو بذكر بعض صفاته السيئة التي ينفر منها الطّبع السليم ، فإن ذلك يبعد المخطئ عن الخطأ،وهذا ما وردت به السنة المباركة حيث نفَّرت عن الخطأ ونهت عنه .
23. وجدتُ في السنة النبوية المباركة أن التصحيح العملي للأخطاء هو من أهم وسائل التصحيح ، ولذلك استخدمه - صلى الله عليه وسلم - في إيضاح هذا الدين وتبليغه ، وخصوصا ما كان(1/308)
في أمر العبادة ، مثل الأمر بالصلاة ، وفعلها أمام الناس للإقتداء بذلك .
24. أن من أهم وسائل التصحيح - كذلك - التصحيح باستخدام اليد ، وما الأمر بإنكار المنكر ، والابتداء فيه باليد ، إلا خير شاهد على ذلك .
25. أن الدعية والمصحِّح للأخطاء يَحْسُن به عند تصحيح الخطأ ، أن يقدّم البديل المناسب ،أسوة برسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - في تقديم البديل المناسب عند تصحيح الأخطاء .
26. أن الغضب على المخطئ من مناهج تصحيح الخطأ ، وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والواجب الإقتداء به لمن أراد تصحيح الأخطاء ، وألا يجعل الغضب لأجل الانتقام لنفسه ، أو تحقيق مآرب نفسه،وإنما يغضب لأجل الله، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يغضب إذا انتهكت محارم الله عز وجل .
27. أن الهجر من وسائل تصحيح الأخطاء ، وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وله تأثير واضح بَيِّن على المخطئ ، ومتى عَلِمَ بذلك ، المصحِّح فيصار إليه ، كما صار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك .
28. الدعاء له شأن عظيم ، وقد عُدَّ من أفضل العبادات ، ولذلك فقد اهتمَّ به عليه الصلاة والسلام ، حيث كان له في كل شأن من شئونه ، دعوات يبتهل بها إلى الله سبحانه وتعالى ، وفي مجال التصحيح كان له دور كبير حيث دعا - صلى الله عليه وسلم - على المخطئ ، وخصوصاً المعاند ، فقد وردعنه أنه دعا على صناديد قريش، وكلما كان المخطئ مرتكباً لخطأٍ كبير ، استحق من الدعاء عليه ما يردعه عن خطئه .
29. ومن مناهج التّصحيح التّوبيخ ، فيصار إليه متى عُلِمَ أن المخطئ يستحقه ، إذِ التوبيخ نوع من أنواع العقاب ،فلا يصار إليه إلا بعد استفراغ الوسع في غيره مما تقدم .
30. من آخر وسائل التصحيح الضّرب ،وهو منهج رباني ، وسنة نبوية ، ولا يصار إليه إلا بعد استنفاد الوسائل المهمة في ذلك مثل : الغضب ، والهجر والدعاء، والتوبيخ , وله شروط ، يجب أن تؤخذ في الاعتبار لعل من أهمها :
? أن يتجنب الضرب في الأماكن المهلكة ، كالوجه والرأس .
? أن يتجنب الضرب حال الغضب .
?(1/309)
أن لا يجلد المضروب فوق عشر جلدات .
31. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضرب شيئاً بيده قط ، لا امرأة ولا خادماً
32. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كونه لم يضرب قط ، إلا أنه أمر بالضرب ، فدلَّ ذلك على أنه من مناهج التصحيح .
33. لقد كان لمناهج التصحيح التي استخدمها النبي - صلى الله عليه وسلم - في تصحيح الأخطاء من الأثر على نوعين من الناس :
? على المخطئ ، حيث بيَّنت الدراسة ، أن كثيراً من المخطئين تراجعوا عن أخطائهم ، وصحَّحوها ، بل وحَسُنَتْ أحوالهم بعد التصحيح ، فنالوا بذلك رضا الله تبارك وتعالى .
? أثَّر هذا المنهاج كذلك على الصحابة الكرام ، حيث إنهم اقتفوا خطى النبي - صلى الله عليه وسلم - في تصحيح الأخطاء ، وتحقيق هذه المناهج ، وتطبيقها على غيرهم من المخطئين ، حتى ولو كانوا من أقرب الناس إليهم كما ورد ذلك في شأن الهجر ، وغيره من المناهج . (1)
وصلى الله على النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - انظر كتاب هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في معاجلة الأخطاء(1/310)
أهم المصادر
1. أيسر التفاسير لأسعد حومد
2. التفسير الميسر
3. تفسير ابن كثير - دار طيبة
4. تفسير السعدي
5. تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة
6. تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع
7. فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع
8. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم
9. أخبار مكة للأزرقي
10. اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
11. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
12. الترغيب والترهيب للمنري
13. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
14. السنن الكبرى للبيهقي- المكنز
15. الشمائل المحمدية للترمذي
16. الفوائد لتمام 414
17. المجالسة وجواهر العلم (333)
18. المستدرك للحاكم مشكلا
19. المسند الجامع
20. المعجم الأوسط للطبراني
21. المعجم الصغير للطبراني
22. المعجم الكبير للطبراني
23. بيان مشكل الآثار ـ الطحاوى
24. تهذيب الآثار للطبري
25. جامع الأصول في أحاديث الرسول
26. دلائل النبوة للبيهقي
27.(1/311)
سنن أبي داود - المكنز
28. سنن ابن ماجه- المكنز
29. سنن الترمذى- المكنز
30. سنن الدارقطنى- المكنز
31. سنن الدارمى- المكنز
32. سنن النسائي- المكنز
33. شرح معاني الآثار (321)
34. شعب الإيمان (458)
35. صحيح ابن حبان
36. صحيح ابن خزيمة
37. صحيح البخارى- المكنز
38. صحيح مسلم- المكنز
39. غاية المقصد فى زوائد المسند 1
40. غاية المقصد فى زوائد المسند 2
41. كشف الأستار
42. مجمع الزوائد
43. مسند أبي عوانة مشكلا
44. مسند أبي يعلى الموصلي
45. مسند أحمد (عالم الكتب)
46. مسند أحمد - المكنز
47. مسند البزار كاملا
48. مسند الحميدي - المكنز
49. مسند الطيالسي
50. مصنف ابن أبي شيبة
51. معرفة الصحابة لأبي نعيم (430)
52. موسوعة السنة النبوية
53. موطأ مالك- المكنز
54. إبراز الحكم من حديث رفع القلم
55.(1/312)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم
56. تحفة الأحوذي
57. جامع العلوم والحكم محقق
58. حاشية السندي على ابن ماجه
59. حاشية السندي على النسائي
60. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين
61. شرح ابن بطال
62. شرح النووي على مسلم
63. شرح رياض الصالحين لابن عثيمين
64. عمدة القاري شرح صحيح البخاري
65. فتح الباري لابن حجر
66. فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين
67. فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري
68. فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2
69. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
70. معالم السنن للخطابي
71. أبحاث هيئة كبار العلماء
72. الفتاوى الكبري لابن تيمية
73. الفقه الإسلامي وأدلته
74. الموسوعة الفقهية الكويتية
75. فتاوى الإسلام سؤال وجواب
76. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
77. فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
78. فتاوى يسألونك لعفانة1-12
79. مجموع الفتاوى لابن تيمية
80. التعريفات – الجرجاني
81. القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين
82. هداية الحيارى لابن القيم ت : لجنة من العلماء ط. دار زيدون بيروت. ص 35 .
83.(1/313)
الاعتصام للشاطبي
84. لسان العرب
85. الأخلاق الإسلامية وأسسها – الميداني
86. مفرادات ألفاظ القرآن للراغب
87. الروح لابن القيم
88. القاموس المحيط
89. جامع العلوم والحكم
90. هداية الحيارى لابن القيم
91. الإتباع أنواعه وآثاره في بيان القرآن
92. بهجة المجالس لا بن عبد البر
93. أسباب التخلص من الهوى – من كلام ابن القيم – انتقاء القسم العلمي بدار الوطن
94. ذم الهوى لابن الجوزي صححه أحمد عبد السلام ط . دار الكتب العلمية .
95. صيد الخاطر لابن الجوزي
96. الهوى وأثره في الخلاف
97. الآداب الشرعية لابن مفلح
98. الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ
99. لْأَرْبَعُونَ لِلْفَسَوِيِّ
100. السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ
101. بدائع التفسير لا بن القيم
102. في موارد الظمآن لدروس الزمان عبد العزيز السلمان
103. تربية الأولاد في الإسلام – عبد الله ناصح علوان
104. تربية الأولاد بين الإفراط والتفريط صالح العثيم
105. الحكمة في الدعوة إلى الله القحطاني
106. دعوة الخلق للرجوع إلى الحق / الوائلي
107. إعلام الموقعين عن رب العالمين
108. آداب المتعلمين . د : أحمد الباتلي
109. من أدب المحدثين في التربية والتعليم أ.د.أحمد محمد نور سيف
110. منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم / الصويان
111.(1/314)
يتيمة الدهر للثعالبي
112. دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للأعراب
113. مسافر في طريق الدعوة نقلاَ عن : المداراة التربوية والخطأ من سنة البشر د . أحمد محمد العليمي .
114. تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه /خالد عبد الله القرشي
115. منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني / د . منى داوود
116. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( أصوله وضوابطه وآدابه ) خالد السبت
117. فقه إنكار المنكر ، بدرية البشر
118. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله وسنة رسوله / أ . د . سليمان الحقيل
119. من أخلاق الداعية . سلمان بن فهد العودة
120. إِكْرَامُ الضَّيْفِ لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ
121. الْإِبَانَةُ الْكُبْرَى لِابْنِ بَطَّةَ
122. الشَّرِيعَةُ لِلْآجُرِّيِّ
123. سُنَنُ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ
124. وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم / الجليّل
125. الشَّمَائِلُ الْمُحَمَّدِيَّةُ لِلتِّرْمِذِيّ
126. الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ
127. الكافي في فقه الإمام أحمد ت : محمد فارس ومسعد السعدني ط . دار الكتب العلمية بيروت
128. حاشية الروض المربع لابن قاسم
129. المجموع شرح المهذب للنووي
130. الشرح الممتع على زاد المستقنع
131. الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس : المنجد
132. الفتح الرباني للساعاتي
133. تخريج أحاديث إحياء علوم الدين - بهامش الإحياء للعراقي
134. الأحاديث المختارة للضياء
135. مَسَاوِئُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ
136.(1/315)
شَرْحُ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِابْنِ شَاهِينَ
137. جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ
138. فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الضُّرَيْسِ
139. الآداب الشرعية لابن مفلح
140. الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ
141. الصَّمْتُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا
142. مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا
143. الدعاء مفهومه وأحكامه : محمد الحمد
144. من صفات الداعية اللِّين والرِّفق . أ. د . فضل إلهي
145. فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري : خالد عبد الرحمن القريشي
146. أَمْثَالُ الْحَدِيثِ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ
147. جَامِعُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ
148. عشرة النساء للنسائي بتحقيقي
149. الفوائد الشهير
150. الدعاء للطبراني
151. اعتلال القلوب
152. فضائل الصحابة للإمام أحمد
153. تربية المراهق في رحاب الإسلام/ محمد الناصر وخولة درويش
154. المنهاج النبوي في دعوة الشباب
155. أصول التربية الإسلامية وأساليبها : النحلاوي
156. النبي الكريم صلى الله عليه وسلم معلماً
157. فقه الأخلاق والمعاملات : مصطفى العدوي
158. منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الناشئة
159. المنهاج النبوي في دعوة الشباب
160. منهج التربية النبوية للطفل ، لمحمد نور سويد
161. صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد ناصر الدين الألباني
162. إرواء الغليل
163. الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم وأساليبه في التعليم - عبد الفتاح أبو غدة
164.(1/316)
حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ لأبي نعيم
165. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام
166. الترهيب في الدعوة : د. رقية نياز
167. أساليب التربية الإسلامية في تربية الطفل
168. المهذب المستفاد لتربية الأولاد
169. تربية الأولاد بين الإفراط والتفريط
170. هدي النبي صلى الله عليه وسلم في معاجلة الأخطاء
171. المكتبة الشاملة 3
172. برنامج قالون(1/317)
الفهرس العام
الباب الأول ... 5
أهم الأسباب في حدوث الأخطاء ... 5
المبحث الأول ... 5
الجهل ... 5
المبحث الثاني ... 9
الكبر ... 9
المبحث الثالث ... 13
العجلة والتسرع ... 13
المبحث الرابع ... 17
الحسد ... 17
المبحث الخامس ... 22
الهوى ... 22
المبحث السادس ... 36
الغضب ... 36
الباب الثاني ... 48
أهم الاعتبارات في تصحيح الأخطاء ... 48
- الإخلاص لله سبحانه وتعالى ... 48
- الخطأُ من طبيعة البشر ... 52
- أن تكون التخطئة مبنيةً على الدليل الشرعي مقترنة بالبينة وليست صادرة عن جهل أو أمر مزاجيٍّ ... 56
- التصحيح للأهم فالأهم ... 56
- اعتبارُ موقع الشخص الذي يقوم بتصحيح الخطأ ... 63
- التفريقُ بين المخطئ الجاهل والمخطئ عن علم ... 67
- التفريق بين الخطأ الناتج عن اجتهاد صاحبه وبين خطأ العمد والغفلة والتقصير : ... 69
- إرادة المخطئ للخير لا تمنع من الإنكار عليه ... 70(1/318)
- العدلُ وعدم المحاباة في التنبيه على الأخطاء ... 71
- الحذرٌ من إصلاح خطأٍ يؤدي إلى خطأ أكبرَ ... 76
- إدراكُ الطبيعة التي نشأ عنها الخطأ ... 79
- التفريقُ بين الخطأ في حقِّ الشرع والخطأ في حقِّ الشخص ... 80
- التفريق بين الخطأ الكبير والخطأ الصغير وقد فرقت الشريعة بين الكبائر والصغائر ... 83
- التفريق بين المخطئ صاحب السوابق في عمل الخير والماضي الحسن ـ الذي يتلاشى خطؤه أو يكاد في بحر حسناته ـ وبين العاصي المسرف على نفسه ... 83
- التفريقُ بين مَن وقع منه الخطأ مرارا وبين مَن وقع فيه لأول مرة ... 84
- التفريقُ بين من يتوالى منه حدوث الخطأ وبين من يقعُ فيه على فترات متباعدة 0 ... 85
- التفريقُ بين المجاهر بالخطأ والمستترِ به. ... 85
- مراعاةُ مَن دينُه رقيقٌ ويحتاجُ إلى تأليف قلب فلا يُغلَّظ عليه. ... 85
- اعتبارُ حال المخطئ من جهة المكانة والسلطانِ ... 87
- الإنكارُ على المخطئ الصغير بما يتناسب مع سِنّه ... 87
- الحذرُ عند الإنكار على النساء الأجنبيات: ... 89
- عدم الانشغال بتصحيح آثار الخطأ وترك معالجة أصل الخطأ وسببه. ... 90
- عدمُ تضخيم الخطأ والمبالغة في تصويره ... 90
- تركُ التكلف والاعتساف في إثبات الخطأ وتجنّب الإصرار على انتزاع الاعتراف من المخطئ بخطئه. ... 91
- إعطاءُ الوقت الكافي لتصحيح الخطأ ... 92
- تجنبُ إشعار المخطئ بأنه خصمٌ ومراعاةُ أنَّ كسب الأشخاص أهمُّ من كسب المواقفِ ... 92
الباب الثالث ... 94
الأساليبُ النبويةُ في التعامل مع أخطاء الناس ... 94
(1) المسارعةُ إلى تصحيح الخطأ وعدم إهماله ... 94
(2) معالجةُ الخطأ ببيان الحكم ... 99
(3) ردُّ المخطئين إلى الشرع وتذكيرهم بالمبدأ الذي خالفوه ... 100
(4) تصحيحُ التصور الذي حصل الخطأ نتيجةً لاختلاله ... 102
(5) معالجةُ الخطأ بالموعظة وتكرار التخويف ... 107(1/319)
(6) إظهارُ الرحمة بالمخطئ ... 110
(7) عدمُ التسرع في التخطئة ... 114
(8) الهدوء في التعامل مع المخطئ ... 117
(9) بيانُ خطورة الخطأ ... 120
(10) بيانُ مضرة الخطأ ... 123
(11) تعليمُ المخطئ عمليًّا ... 128
(12) تقديمُ البديل الصحيح ... 129
(13) الإرشادُ إلى ما يمنع من وقوع الخطأ ... 131
(14) عدمُ مواجهة بعض المخطئين بالخطأ والاكتفاء بالبيان العام ... 133
(15) إثارةُ العامة على المخطئ ... 140
(16) تجنبُ إعانة الشيطان على المخطئ ... 141
(17) الأمر بُالكفِّ عن الخطأ ... 143
(18) إرشادُ المخطئ إلى تصحيح خطئه ... 148
(19) إنكارُ موضع الخطأ وقبول بقية الصواب ... 152
(20) إعادةُ الحقِّ إلى صاحبه وحفظ مكانة المخطئ ... 159
(21) توجيهُ الكلام إلى طرفي النزاع في الخطأ المشترك ... 163
(22) مطالبةُ المخطئ بالتحلل ممن أخطأ عليه ... 164
(23) تذكيرُ المخطئ بفضل من أخطأ عليه ليندمَ ويعتذر َ ... 165
(24) التدخلُ لتسكين الثائرة ونزع فتيل الفتنة بين المخطئين ... 167
(25) إظهارُ الغضب من الخطأ ... 173
(26) التولي عن المخطئ وترك جداله لعله يراجعُ الصواب ... 178
(27) عتابُ المخطئ ... 180
(28) لومُ المخطئ ... 181
(29) الإعراضُ عن المخطئ ... 184
(30) هجرُ المخطئ ... 186
(31) الدعاءُ على المخطئ المعاند ... 197
(32) الإعراضُ عن بعض الخطأ اكتفاء بما جرت الإشارة إليه منه تكرّما مع المخطئ ... 203(1/320)
(33) إعانةُ المسلم على تصحيح خطئه ... 204
(34) ملاقاةُ المخطئ ومجالسته لأجل مناقشته ... 206
(35) مصارحةُ المخطئ بحاله وخطئه ... 208
(36) إقناعُ المخطئ ... 213
(37) إفهامُ المخطئ بأنّ عذره الزائف غير مقبول ... 214
(38) مراعاةُ ما هو مركوز في الطبيعة والجبلّة البشرية ... 218
(39) الرفق في تصحيح الأخطاء : ... 224
(40) الحكمة ... 228
(41) الموعظة الحسنة ... 233
( 42) الحوار والإقناع : ... 238
(43) المدح والثناء ... 243
(44) بيان عِظَمُ الخطأ ... 251
(45) النهي عن الخطأ والتعليل لذلك ... 255
(46) النهي عن الخطأ والتنفير منه ... 259
(47) تصحيح الخطأ عملياً ... 265
(48) تصحيح الخطأ باليد ... 272
(49) تصحيح الخطأ وتقديم البديل المناسب ... 278
(50) التصحيح بالغضب على الفرد المخطئ والجماعة ... 287
(51) التوبيخ ... 295
(52) الضرب : ... 298
(53)الأسلوب غير المباشر في الحث على من قصَّر ببعض الواجبات ... 305
الخلاصة في هذا الموضوع ... 306(1/321)