سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (15)
منظومةٌ في وجوب التمسك
بالكتاب والسنة
نظمها وعلق عليها:
محمود مصطفى رشيد اليوسفي
قام بنشره
أبو مهند النجدي
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
منظومة في وجوب التمسك
بالكتاب والسنة
بسم الإله خالق الأكوان
الحمد لله الكريم الهادي
وأفضل الصلاة والسلام
وآله وصحبه الكرام
وبعد فالإسلام والإيمان
فديننا إذاً هو الإسلام
دستوره الحديث والقرآن
فالدين: قال الله والرسول
فلا تقدم أي قول كانا
علمنا الأئمة الأخيار
بأن من قدم قول الناس
فما له في الدين من نصيب
الشافعي: إذا يصح الخبر
فن يكن ما قلته بعكسه
بمثل هذا القول قد قال الأولى
فأحمد كذا أبو حنيفة
فكلهم قد أجمعوا إجماعاً
لله والرسول أينما ظهر
(فلا تَقَدَّموا) جاء بها القرآن
كذا ? وَمَا كَانَ ? لنا إيذان
إذا قضى الله أو الرسول
كذا ? فَلا وَرَبِّكَ ? البرهان
إذا اختلفنا في قضاء كان ما
دون انزعاج أو توان أو حرج
وهكذا ? فَلْيَحْذَرِ الْذِينَ ... ?
بأن من يخالف الرسولا
مصيره الفتنة والهوان
(عليكم بسنتي ) دليل
فإن تمسكنا بما فينا ترك
فإنه سفينة النجاة ... والأرض والسماء والأزمان
من أرسل النبي بالرشاد
على النبي أفضل الأنام
من زينوا الأخلاق بالإسلام
من ربنا إلى الورى أركان
شعاره التوحيد والسلام
منهاجه الأعمال والإيمان
وهو الذي من حقه القبول
وتهمل الحديث والقرآنا
وأرشدتنا السادة الأبرار
على حديث المصطفى النبراس
وهو من الإسلام كالغريب
فمذهبي في حكمه منحصر
فاضرب به الجدار لا تعبأ به
وصرحوا للناس أجمعونا
ومالك أقوالهم شريفه
وأوجبوا على الورى اتباعاً
نص كتاب أو حديث أو أثر
نذارة من ربنا الرحمن
بأننا واجبنا الإذعان
أمراً فإن ديننا القبول
بأن فرض المسلم الإذعان
قضى به الرسول حكماً لازماً
مما قضاه بعد الحق انبلج
تبين للعاملين الدين
ويرفض الإذعان والقبولا
وحقه الخيبة والخسران
مقولة قد قالها الرسول(1/1)
فزنا.. ومن لم يلقه بالاً هلك
فيها فقط بشائر الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
والأرض والسماء والأزمان
من أرسل النبي بالرشاد
على النبي أفضل الأنام
من زينوا الأخلاق بالإسلام
من ربنا إلى الورى أركان ... 1- بسم الإله خالق الأكوان
2- الحمد لله الكريم الهادي
3- وأفضل الصلاة والسلام
4- وآله وصحبه الكرام
5- وبعد: فالإسلام والإيمان
اعلم هدانا الله وإياك إلى الصراط المستقيم بأن لكل من الإسلام والإيمان أركاناً. بتطبيقها يكون المرء مسلماً مؤمناً. وقد بينها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه سيدنا عمر بن الخاب رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، قال : صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال: صدقت..) الحديث (1).
فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أركان الإسلام خمسة، هن:
1- شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
2- إقامة الصلوات الخمس التي فرضها الله سبحانه وتعالى على المسلمين كل يوم وليلة.
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه (1/157) والترمذي (2738) وأبو داود (4695) والنسائي (8/97).(1/2)
3- إيتاء الزكاة التي بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - نصابها والأصناف التي تجب فيها الزكاة، ومقدار ما يؤخذ من الأموال، بأحاديث صحيحة مما لم يدع فيها مجالاً للاستفهام.
4- صوم شهر رمضان.
5- حج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
كما بين عليه الصلاة والسلام بأن أركان الإيمان ستة بالتصديق بها يكون المرء مؤمناً:
1- الإيمان بالله، بأنه هو المستحق وحده للعبادة بأنواعها، من الدعاء والاستعانة فيما لا يقدر عليه إلا الله، والاستغاثة والنذر، والحلف، وكل ما هو من خصائص الألوهية والربوبية.
2- الإيمان بالملائكة، بأنهم عباد مكرمون لا يعصون فيما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
3- الإيمان بالكتب السماوية التي أتت بالتوحيد الخالص، آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، موجهة إلى الخير، محذرة من الشر.
4- الإيمان بالرسل جميعاً، بأنهم رجال مرسلون من قبل الله، وقد أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويبلغوا ذلك إلى أقوامهم الذين أرسلوا إليهم.
5- الإيمان باليوم الآخر – يوم القيامة - ، بأنه يوم يحاسب المرء فيه على ما قدمت يداه في الدنيا من أعمال وأقوال، إن خيراً فخير وإن شراً فشرن إلا أن يتغمده الله برحمته وعفوه فإنه لا راد لفضله يفعل ما يشاء.
6- الإيمان بالقدر خيره وشره، بأن الله خالق جميع أفعال العباد، ولكنهم المباشرون لتلك الأعمال، فأثابتهم وعقابهم إنما تكون حسب مباشرتهم لتلك الأعمال بعد أن هداهم الله النجدين وبين لهم الطريقين، فمن اختار برضا نفسه طريق الخير وفقه الله لذلك ومن اختار غير مجبر طريق الشر وفق إلى ذلك قال تعالى: ? فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ? (الليل: 5-10).
الإسلام ديننا(1/3)
قال تعالى: ? وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? (الأنعام:155) وقال تعالى: ? اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ? (الأعراف:3).
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (( ففرض الله على الناس اتباع وحيه، وسنن رسوله فقال في كتابه: ? لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ? (آل عمران:164)، وقال: ? هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ? (الجمعة:2)، وقال: ? وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ? (البقرة: من الآية231) مع آي سواها. ذكر فيهن الكتاب والحكمة، قال: (( فذكر الله الكتاب وهو القرآن وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال والله أعلم، لأن القرآن ذكر، واتبعته الحكمة. فلم يجز – والله أعلم – أن يقال الحكمة ها هنا إلا سنة رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وإن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره – فلا يجوز أن يقال القول: فرض. إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به، وسنة رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد. دليل على خاصة وعامة، ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله)) (1)
__________
(1) " رسالة الشافعي" بتحقيق أبي الأشبال أحمد محمد شاكر رحمه الله (1/21).(1/4)
. ثم قال الشافعي رحمه الله: (( باب فرض الله طاعة رسول الله مقرونة بطاعة الله ومذكورة وحدها (1) قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ... ? (النساء: من الآية59) الآية، وقال: ? مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ? (النساء:80) ، فأعلمهم أن طاعتهم رسوله طاعته.
وقال تعالى: ? وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ? (الحشر: من الآية7)، تدل هذه الآيات وغيرها مما ورد في القرآن الكريم على اتباع أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولزوم طاعته، فلا يسع أحداً رد أمره لفرض الله طاعة نبيه)) انتهى.
وقولي: (( منهاجه الأعمال والإيمان)) أعني أن أحدهما لا يغني عن الآخر.
قال تعالى: ? وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ? (العصر:1-4)، وقال تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ? (البينة:7)، وقال تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ? (الكهف:107)، وقال تعالى: ? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ? (النور: من الآية55).
__________
(1) المصدر السابق (ص79) و " مفتاح الجنة" للإمام السيوطي (ص 4-5).(1/5)
قال الشافعي رحمه الله: (( فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، قال الله تبارك وتعالى: ? كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ? (ابراهيم: من الآية1)، وقال تعالى: ? وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? (النحل: من الآية44)، وقال جل ذكره: ? وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ? (النحل: من الآية89)، وقال تعالى:? وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ? (الشورى:52) "(1).
وقال الشافعي رحمه الله في بيان فرض الله في كتابه إتباع سنة نبيه: (( وضع الله رسوله من دينه وفرضه وكتابه، الموضع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علماً لدينه، بما افترض من طاعته، وحرم من معصيته، وأبان من فضيلته بما قرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به، فقال تبارك وتعالى: ? فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ? (النساء: من الآية171)، وقال:? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ? (النور: من الآية62).
__________
(1) " رسالة الشافعي" (1/20).(1/6)
فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله، فلو آمن عبد به ولم يؤمن برسوله لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبداً، حتى يؤمن برسوله معه (1).
وقد استنكر أئمة هذا الدين على التقليد الأعمى الذي يضر بصاحبه ولا ينفعه قال ابن القيم رحمه الله: " وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة، قال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري" (2) ذكره البيقهي.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فقد ضيق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس أن يردوا أمره بفرض الله عليهم اتباع أمره" (3).
__________
(1) " رسالة الشافعي" (1/73 - 75).
(2) " رسالة الشافعي" (2/301).
(3) " الرسالة" (1/226).(1/7)
وقال رحمه الله تعالى: (( وهكذا يجب على من سمع شيئاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ثبت له عنه شيء، أن يقول منه بما سمع حتى يعلم غيره (1). فلا عذر في خلاف حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمقلد ولا لغيره )) قاله أحمد محمد شاكر، وقال رحمه الله تعالى: (( وإذا ثبت عن رسول الله الشيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره بل الفرض الذي على الناس اتباعه، ولم يجعل الله لأحد مع أمراً يخالف أمره)) (2)، وقال رحمه الله: (( وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم)) (3)، فقال أحمد محمد شاكر تعليقاً على كلام الشافعي رحمه الله: (( الشافعي لا يرضى لأهل العلم أن يكونوا مقلدين، وكان رضي الله عنه حرباً على التقليد، وداعياً إلى الاجتهاد، والأخذ بالأدلة الصحيحة، ومن هذا قال تلميذه أبو إبراهيم المزني المتوفى سنة 264هـ في أول مختصره الذي أخذه من فقه الشافعي : (( اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، ومن معنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه)).
__________
(1) "الرسالة " (1/238).
(2) " الرسالة " (1/230).
(3) " الرسالة " (1/42).(1/8)
وقال الشافعي في صدد وجوب العمل بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم جواز تقديم أي قول عليه: (( أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي، قال: حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي: (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح: ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القول) قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري وصاح علي صياحاً كثيراً ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: تأخذ به؟ نعم، آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه. إن الله اختار محمداً من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار له، وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت حتى تمنيت أن يسكت)) (1) واستدل الشافعي رحمه الله بحديث، فقال خصمه، كرهه ابن مسعود، فقلنا، وفي أحد مع النبي حجة؟ قال: لا، إن ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). وقال الربيع: قال الشافعي: (( ما كان الكتاب والسنة موجودين، فالعذر على من سمعهما مقطوع إلا باتباعهما، فإذا لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - )) (3) وقال الشافعي رحمه الله تعالى: (( فيما وصفت من هذا وأشباهه كما وصفت، يعلم أن الحديث إذا رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك ثبوته، وأن لا نعول على حديث ليثبت إن وافقه بعض أصحاب رسول الله، ولا يرد لأن بعض أصحاب رسول الله عمل عملاً يخالفه، لأن أصحاب رسول الله والمسلمين كلهم بحاجة إلى أمر رسول الله، وعليهم اتباعه، لا أن شيئاً من أقاويلهم تبع ما روى عنه ووافقه يزيد قوله شدة، ولا شيئاً خالفه من أقاويلهم يوهن ما روى عنه الثقة لأن قوله المفروض اتباعه
__________
(1) " الرسالة " (2/450).
(2) " الرسالة " (2/544).
(3) "تحكيم الناظر فيما جرى من الاختلاف بين أمة أبي القاسم" (ص89).(1/9)
عليهم وعلى الناس وليس هكذا قول بشر غير رسول الله )) (1).
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: (( لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتسليم لحكمه بأن الله عز وجل لم يجعل لمن بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن ما سواهما تبع لهما وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحداً لا يختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله تعالى )) (2).
الشافعي: إذا يصح الخبر
فإن يكن ما قلته بعكس
بمثل هذا القول قد قال الأولى
فأحمد كذا أبو حنيفة
فكلهم قد أجمعوا إجماعاً
لله والرسول إينما ظهر ... فمذهبي في حكمه منحصر
فاضرب به الجدار لا تعبأ به
وصرحوا للناس أجمعونا
ومالك أقوالهم شريفه
وأوجبوا على الورى اتباعا
نص كتاب أو حديث أو أثر
يسرني أيها القارئ المسلم أن أقدم إليك نبذة من كلام الأئمة الأعلام رحمهم الله في صدد وجوب تقديم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - على كل قول خالفه، إذا ثبت لدينا صحة الحديث فأقول وبالله التوفيق:
أ- الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله :
قد روى عنه أصحابه رحمه الله عبارات شتى تدل على وجوب الأخذ بالحديث الصحيح وترك الأقوال المخالفة له:
1- فقد أخرج البيهقي عن ابن المبارك قال: سمعت أبا حنيفة يقول: " إذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين، وإذا جاء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم " (3).
__________
(1) كتاب " اختلاف الحديث" على هامش الأم للإمام الشافعي رحمه الله (7/138).
(2) كتاب " الأم" للإمام الشافعي رحمه الله (7/250).
(3) " مفتاح الجنة" للسيوطي (27).(1/10)
2- " إذا صح الحديث فهو مذهبي" (1).
3- " لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه " وفي رواية: " حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي " زاد في رواية: " فإننا بشر، نقول القول اليوم، ونرجع عنه غداً" وفي أخرى: " ويحك يا يعقوب – هو أبو يوسف تلميذه – لا تكتب كل ما تسمع فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غداً، وأرى الرأي غداً وأتركه بعد غد" (2).
ب - الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى:
1- أخرج السيوطي بسنده عن ابن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس نتذاكر السنة، فقال مالك، " السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق"(3).
2- " إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه" (4).
3- " ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله، ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - "(5).
جـ - الإمام الشافعي رحمه الله:
__________
(1) ذكره ابن عابدين في " الحاشية" (1/63) وفي رسالة " رسم المفتي" (1/4) من مجموعة رسائل ابن عابدين والشيخ صالح الغلاني في " إيقاظ الهمم" (ص62) وغيرهم " صفة صلاة النبي " للشيخ الألباني رحمه الله " (ص22).
(2) ذكره ابن عبد البر في " الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء" (ص 145) وابن القيم في " أعلام الموقعين" (2/309) وابن عابدين في حاشيته على البحر الرائق (6/293) وغيرهم، " صفة الصلاة" (ص 22) رواه ابن عبد البر في " الجامع" (2/91)، وابن حزم في " أصول الأحكام " (6/145 – 179)، " صفة الصلاة" (ص22).
(3) " مفتاح الجنة" للسيوطي (ص46).
(4) ذكره ابن عبد البر في " الجامع" (2/32) والفلاحي (ص 72) " صفة الصلاة " للألباني رحمه الله (ص 22)، وابن القيم في " أعلام الموقعين" (1/87).
(5) رواه عبد البر في " الجامع " (2/91)، وابن حزم في " أصول الأحكام" (6/145 – 179) صفة الصلاة (ص22).(1/11)
ما أكثر ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله في الدفاع عن السنة المطهرة، فمما يروي عنه رحمه الله:
1- أخرج أبو نعيم في الحلية بسنده عن الحميدي قال " كنت بمصر، فحدث محمد بن إدريس الشافعي بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له رجل: يا أبا عبد الله أتأخذ بهذا؟ فقال: أرأيتني خرجت من كنيسة؟ ترى علي زناراً حتى لا أقول به؟ " (1).
2- وأخرج أبو نعيم عن الربيع بن سليمان – وهو الذي روى الرسالة عن الشافعي – قال: سأل رجل الشافعي عن حديث، فقال: هو صحيح، فقال الرجل: فما تقول؟ فارتعد الشافعي، وانتفض وقال: " أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلت بغيره"(2).
3- وأخرج عن الربي أيضاً قال: ذكر الشافعي حديثاً، فقال له رجل: أتأخذ بالحديث؟ فقال: " اشهدوا أني إذا صح عندي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم آخذ به، فإن عقلي قد ذهب"(3).
4- وأخرج عن الوليد بن أبي الجارود قال الشافعي: " إذا صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلت قولاً، فأنا راجع عن قولي، وقائل بذلك"(4).
5- وأخرج عن الزعفراني قال: قال الشافعي: " إذا وجدتم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة فاتبعوها ولا تلفتوا إلى قول أحد" (5).
6- أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل له أن يدعها لقول أحد (6).
__________
(1) "مفتاح الجنة" للسيوطي (46)، " أعلام الموقعين" (2/363).
(2) " أعلام الموقعين" (2/364).
(3) " أعلام الموقعين" (2/363).
(4) " أعلام الموقعين" (2/363).
(5) ذكره الهروي في " ذم الكلام" (3/147) والنووي في " المجموع" (1/63) وابن القيم (2/361)، صفة صلاة النبي (ص26).
(6) ابن القيم (2/361)، والفلاني (ص68)، صفة صلاة النبي (ص26).(1/12)
7- أنتم أعلم بالحديث والرجال مني – والخطاب للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله – فإذا كان الحديث صحيح فأعلموني به أي شيء يكون، كوفياً أو بصرياً، أو شامياً، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً (1).
د- الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى:
1- أخرج اللالكائي بسنده عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: " السنة عندنا آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن" (2).
2- " لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا" (3).
3- " من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال "(4).
4- " رأى الأوزاعي ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة، كله رأي، وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار"(5).
5- " من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة "(6).
هذه كانت بعض أقوال الأئمة الكرام في وجوب التمسك بما يصدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وترك كل ما يخالفه.
عن أبي وائلة أنه قال: لما قدم سهل بن حنيف من صفين، أتيناه نستخبره، فقال:
" اتهموا الرأي، فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره لرددته والله ورسوله أعلم"(7).
سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أوجه
قال البيهقي في باب بيان وجوه السنة: قسم الشافعي رحمه الله سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاثة أوجه:
أحدها: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فسنة رسول الله صلى الله عيه وسلم بمثل نص الكتاب.
__________
(1) ابن القيم في "أعلام الموقعين" (2/325).
(2) " مفتاح الجنة" للسيوطي (39).
(3) ذكره الفلاني (ص113) وابن القيم في " أعلام الموقعين" (2/302).
(4) " أعلام الموقعين" (2/302).
(5) ابن عبد البر في " الجامع" (2/149)، صفة الصلاة (328).
(6) ابن الجوزي (ص182)، صفة الصلاة، (ص29).
(7) أخرجه البخاري (4189) في المغازي والإمام مسلم (12/140) في صلح الحديبية.(1/13)
والثاني: ما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها، عاماً أو خاصاً وكيف أراد أن يأتي به العباد.
والثالث: ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال: جعله الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب، ومنهم من قال: لم يسن سنة قط، إلا ولهذا أصل في الكتاب كما كانت سنته، كتبيين عدد الصلاة عملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن في البيوع وغيرها من الشرائع، لأن الله تعالى ذكره، قال: ? لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ? (النساء: من الآية29)، وقال ? وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ? (البقرة: من الآية275)، فما أحل وحرم فإنما بين فيه عند الله، كما بين في الصلاة، ومنهم من قال: بل جائته به رسالة الله فأثبتت سنته بفرض الله تعالى،، ومنهم من قال ألقي في روعه كل ما سن، وسنته الحكمة التي ألقيت في روعه عن الله تعالى. انتهى (1).
كما قال الشافعي رحمه الله: " وليس تعدو السنن كلها واحداً من هذه المعاني التي وصفت باختلاف ما حكيت عنه من أهل العلم، وكل ما سن فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته وفي العنود عن اتباعه معصيته التي لم يعذر بها خلقاً، ولم يجعل له من اتباعه سنن نبيه مخرجاً " (2).
وقال رحمه الله: " ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحداً أخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قبل خبره، وانتهى إليه وأثبت ذلك سنة " (3).
__________
(1) " مفتاح الجنة" للسيوطي (ص8-9).
(2) " مفتاح الجنة" للسيوطي (ص10).
(3) " مفتاح الجنة " للسيوطي (ص 20 – 21).(1/14)
ثم أخرج البيهقي عن سالم بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب نهى عن الطيب قبل زيارة البيت وبعد الجمرة، قال سالم: فقالت عائشة: " طيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي لإحرامه قبل أن يحرم، ولحلة قبل أن يطوف بالبيت، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق" قال الشافعي: فترك سالم قول جده عمر في إمامته وعمل بخبر عائشة، وأعلم من حدثه أنه سنة، وأن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق، وذلك الذي يجب عليه.
قال الشافعي: وصنع ذلك الذين بعد التابعين، والذين لقيناهم كلهم يثبت الأخبار ويجعلها سنة، يحمد من تبعها، ويعادي من خالفها، فم فارق هذا المذهب كان عندنا مفارق سبيل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل العلم بعدهم، إلى اليوم، وكان من أهل الجهالة.انتهى (1). وهذا معنى قولي في الأرجوزة: " فما له في الدين من نصيب" وإلا كيف يعتبر نفسه مسلماً من يتبع غير سبيل المؤمنين، وقد قال تعالى: ? وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ? (النساء:115).
وللسلف الصالح في ذلك أقوال كثيرة لكها تؤكد بأن المسلم الصادق إيمانه، إذا وصله حديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجب عليه أن يقف عنده ولا يخالفه. فقد صرح الإمام مالك رحمه الله: بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله من دون إبراهيم النخعي (2).
__________
(1) " مفتاح الجنة" (20- 21).
(2) أعلام الموقعين (2/302).(1/15)
وأخرج البخاري عن مروان بن الحكم قال: " شهدت علياً وعثمان بين مكة والمدينة وعثمان ينهي عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى ذلك علي أهلّ بهما جميعاً فقال: لبيك حجاً وعمرة معاً، فقال عثمان: تراني أنهى الناس عن شيء وأنت تفعله؟ فقال: ما كنت لأدع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد من الناس" (1).
وأخرج الترمذي (824) عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله حدثه أنه سمع رجلاً من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج: فقال عبد الله بن عمر: " أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ أأمر أبي نتبع، أم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لقد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
القول الأول إشارة إلى قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? (الحجرات:1).
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رصي الله عنهما: ? لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ? لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وقال العوفي عنه: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه، وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه.
__________
(1) أخرجه البخاري (1563- 1569)، فتح الباري (3/493).
(2) حسنه الترمذي (3/185) وقال في حاشية جامع الأصول (3/116) وإسناده صحيح.(1/16)
وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم، قال ابن كثير: أي لا تسرعوا في الأشياء بين يديه أي قبله، بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه إلى اليمن: ( بم تحكم؟) قال بكتاب الله تعالى، قال - صلى الله عليه وسلم - ( فإن لم تجد؟) قال : بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - صلى الله عليه وسلم - : ( فإن لم تجد؟) قال رضي الله عنه اجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: ( الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله" (1).
والبيت الثاني إشارة إلى قوله تعالى: ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ? (الأحزاب: من الآية36)، قال ابن جريج: أخبرني عامر بن مصعب عن طاوس قال: أنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر فنهاه، وقرأ ابن عباس رضي الله عنه: ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ? فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ها هنا ولا رأي ولا قول كما قال تبارك وتعالى: ? فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ? (النساء:65)،
__________
(1) " تفسير ابن كثير" (4/205) وحديث معاذ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة.(1/17)
وفي الحديث: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) (1).
لهذا شدد في خلاف ذلك فقال: ? وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ? (الأحزاب: من الآية36)، كقوله تعالى: ? فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? (النور: من الآية63).
قال ابن القيم رحمه الله: " فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره - صلى الله عليه وسلم - بل ذا أمر فأمره حتم، وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره، وكان ذلك الغير من أهل العلم".
__________
(1) قال الإمام النووي بعد ذكره هذا الحديث: " حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح" وقال الحافظ ابن رجب في " جامع العلوم والحكم" (ص 364 – 365) ما ملخصه: قال الحافظ أبو موسى المدني: هذا الحديث مختلف فيه على نعيم بن حماد، وقيل فيه: حدثنا بعض مشيختنا مثل هشام وغيره، قلت: تصحيح هذا الحديث بعيد جداً من وجوه:
منها: أنه حديث ينفرد به نعيم بن حماد المروزي وهو لما كثر عثور أئمة الحديث على مناكيره حكموا عليه بالضعف، قال أبو داود: عن نعيم نحو عشرين حديثاً عن النبي صص ليس لها أصل. وقال النسائي: ضعيف، قال أبو زرعة الدمشقي: يصل أحاديث يوقفها الناس، ونسبه آخرون إلى أنه كان يضع الحديث.
ومنها: أنه قد اختلف على نعيم في إسناده، فروى عنه عن الثقفي عن هشام، وروى عنه عن الثقفي: حدثنا بعض مشيختنا حدثنا هشام أو غيره.
ومنها : أن في إسناده عقبة بن أوس السدوسي البصري ويقال فيه: يعقوب بن أوس أيضاً قال ابن عبد البر هو مجهول، وقال الفلاني في تاريخه: يزعمون أنه لم يسمع من عبد الله بن عمر، وإنما يقول: قال عبد الله بن عمر، فعلى هذا تكون روايته عن عبد الله بن عمر منقطعة والله أعلم.(1/18)
فبهذه الشروط يكون قول الغير سائغ الاتباع، لا واجب الاتباع، فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصياً لله ورسوله.
فأين هذا مما يوجب على جميع المكلفين اتباعه، ويحرم عليهم مخالفته، ويوجب عليهم ترك كل قول لقوله؟ فلا حكم لأحد معه، ولا قول لأحد معه، ولك ما سواه فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغاً محضاً ومخبراً لا منشئاً ومؤسساً.
فمن أنشأ أقوالاً وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة، قبلت حينئذ، وإن خالفته وجب ردها وإطراحها، فإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفة، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه، وأما أنه يجب ويتعين فكلا، ولما" (1).
وقال ابن القيم في أعلام الموقعين (2/308): " نقول لمن يفتي أو يحكم بقول من يقلده: هل تقول: إن هذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله، وأنزل به كتابه، وشرعه لعباده ولا دين له سواه؟ أو تقول: إن دين الله الذي شرعه لعباده خلافه؟ أو تقول: لا أدري؟ لا سبيل لك إلى الأول قطعاً فإن دين الله الذي لا دين سواه لا تسوغ مخالفته، والثاني لا تدعيه، فليس لك ملجأ إلا الثالث".
فيا الله العجب كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق، وتحلل وتحرم بأمور أحسن أحوالها وأفضلها (لا أدري)
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
22- كذا ? فلا وربك ? كان ما
23- إذا اختلفنا في قضاء كان ما
24- دون انزعاج أو توان أو حرج ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم(2).
بأن فرض المسلم الإذعان
قضى به الرسول حكماً لازماً
مما قضاه بعد الحج انبلج
__________
(1) " زاد المعاد" (1/38).
(2) " أعلام الموقعين" (2/308).(1/19)
قال الحافظ: ابن رجب رحمه الله تعالى: " فالواجب على من بلغه أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ، ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة، وربما غلظوا في الرد، لا بغضاً له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق، فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره، وإن كان مغفوراً له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخلافه "(1).
قال الشيخ الألباني رحمه الله: " قلت: كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر، وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة، بل إن الشافعي رحمه الله أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ بها، أو أخذ بخلافها، ولذلك لما جمع المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث الصحيح فيها انفراداً واجتماعاً في مجلد ضخم قال في أوله:
" إن نسبة هذه المسائل إلى الأمة المجتهدين حرام، وأنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها لئلا يعزوها إليهم فكذبوا عليهم"(2).
__________
(1) نقله في التعليق على " إيقاظ الهمم" (ص92) " صفة صلاة النبي " (ص30).
(2) الفلاني (ص99)، " صفة صلاة النبي " (ص30).(1/20)
وقولي: " كذا ? فَلا وَرَبِّكَ ? إشارة إلى قوله تعالى: ? فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ? (النساء:65)، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية (1/520) : " يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له، باطناً وظاهراً، ولهذا قال: " ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد في الحديث: ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) (1).
فقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة قال: خاصم الزبير رجلاً في شراج الحرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك) فقال الأنصاري يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك فاستوعى النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري. وكان أشار عليهما - صلى الله عليه وسلم - بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: ? فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ? الآية. انتهى.
فيجب على المسلم أن يقف حيث أوقفه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن يعلم أن الدين هو ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) تقدم تخريجه في (ص13).(1/21)
قال الشافعي رحمه الله: يجب على كل من سمع شيئاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ثبت له عنه، أن يقول فيه بما سمع حتى يعلم غيره، أي فلا يجب عليه البحث عن مخصص غيره، وعلى هذا جرى الصحابة ومن بعدهم، والكلام في الظهور والاحتمال لا يعارضه، والعمل تابع للعلم، أي يجب العمل به، ومن العجب أن ابن سريج كيف خالف؟ وابن الحاجب كيف ادعى نقل الإجماع على منع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص؟ (1). قال ابن القيم رحمه الله:" كان السلف الطيب يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأي أو قياس أو استحسن أو قول أحد من الناس كائناً من كان، ويهجرون فاعل ذلك وينكرون على من يضرب له الأمثال، ولا يسوغون غير الانقياد له والتلقي بالسمع والطاعة، ولا يخطر في قلوبهم التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قول فلان، بل كانوا عاملين بقوله: ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ? (الأحزاب: من الآية36) وبقوله تعالى: ? فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ? (النساء:65)، وبقوله تعالى: ? اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ? (الأعراف:3) وأمثالها.
__________
(1) " المصقول في علم الأصول" لمحمد جلبي زادة (ص 56).(1/22)
فدفعنا إلى زمان، إذا قيل لأحدهم: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال كذا وكذا، يقول: من قال هذا؟ ويجعل هذا دفعاً في صدر الحديث، أو يجعل جهله بالقائل حجة له في مخالفة الحديث وترك العمل به، ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل، وأنه لا يحل له دفع سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا الجهل وأقبح من ذلك عذره في جهله، إذ يعتقد أن الاجماع منعقد على مخالفة تلك السنة، وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين، إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذا الإجماع وهو جهله وعدم علمه بمن قال بالحديث فعاد الأمر إلى تقديم جهله على السنة والله المستعان.
ولا يعرف إمام من أئمة المسلمين البتة قال: لا نعمل بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نعرف من عمل به، فن جهل من بله الحديث من عمل به لم يحل له أن يعمل به كما يقول هذا القائل" (1).
فسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليست في الفعل فحسب بل هي في الترك أيضاً كما هي في الفعل.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " قف حيث وقف القوم، وقل كما قالوا واسكت كما سكتوا، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى وبالفضل لو كانوا فيها أحرى، أي فلإن كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتموهم إليه، ولإن قلتم: حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، وأنهم لهم السابقون ولقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم مجسر، ولقد قصر عنهم قوم فجفوا وطمح آخرون عنهم فغلوا، فإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم" (2).
__________
(1) " أعلام الموقعين" (3/464 – 465).
(2) " أعلام الموقعين" (401 – 402).(1/23)
قال في كتاب الإبداع في مضار الابتداع: (ص25-26): " وأما ما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تكون بالفعل تكون بالترك، فكلما كلفنا الله تعالى باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله الذي يتقرب به إذا لم يكن من باب الخصوصيات، كذلك طالبنا باتباعه في تركه فيكون الترك سنة.
وكما لا نتقرب إلى الله بترك ما فعل، لا نتقرب إليه بفعل ما ترك، فلا فرق بين الفاعل لما ترك، والتارك لما فعل، لا يقال: كيف ذلك وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أموراً فعلها الخلفاء بعده. وهم أعلم الناس بالدين وأحرصهم على الاتباع؟ فلو كان الترك سنة كما تقول لما فعلت الخلفاء أموراً تركها النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ لأن الكلام مفروض في ترك شيء لم يكن في زمنه - صلى الله عليه وسلم - مانع منه، وتوفرت الدواعي على فعله، كتركه الآذان للعيدين والغسل لكل صلاة، وصلاة ليلة النصف من شعبان، والأذان للتراويح، والقراءة على الموتى، فهذه أمور تركت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - السنين الطوال مع عدم المانع من فعله، ووجود مقتضيها لأنها عبادات والمقتضي لها موجود وهو التقرب إلى الله تعالى والوقت وقت تشيع وبيان للأحكام. فلو كانت ديناً وعبادة يتقرب بها إلى الله تعالى ما تركها السنين الطوال مع أمره بالتبليغ وعصمته من الكتمان، فتركه - صلى الله عليه وسلم - لها ومواظبته على الترك مع عدم المانع ووجود المقتضي ومع أن الوقت وقت تشريع دليل على أن المشروع فيها هو الترك. وأن العمل خلاف المشروع فلا يتقرب به لأن القرب لابد أن تكون مشروعة.(1/24)
وأما ما فعله الخلفاء ولم يكن موجوداً قبل فهو لا يخرج عن أمور، إما أنه لم يوجد لها المقتضي في عهد الرسول بل في عهد الخلفاء كجمع المصحف، أو كان المقتضي موجوداً في عهد الرسول ، ولكن كان هناك مانع كصلاة التراويح في جماعة، فإن المانع من إقامتها جماعة والمواظبة عليها خوف الفريضة، فلما زال المانع بانتهاء زمن الوحي صح الرجوع فيها إلى ما رسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال حياته، وبهذا الأصل يسهل التوفيق بين الأدلة المتعارضة"(1).
وقال العلامة القسطلاني الشافعي في المواهب ما نصه: " وتركه - صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة، فليس لنا أن نسوي بين فعله وتركه، فنأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتى به الموضع الذي فعله " انتهى (2).
وقال ملا أحمد رومي الحنفي صاحب " مجالس الأبرار" ما ملخصه : " .. لأن عدم وقوع الفعل في الصدر الأول إما:
1- لعدم الحاجة إليه.
2- أو لوجود مانع.
3- أو لعدم تنبه.
4- أو التكاسل.
5- أو الكراهة وعدم مشروعية.
والأولان منتفيان في العبادات الدينية المحضة لأن الحاجة إلى التقرب إلى الله تعالى لا تنقطع، وبعد ظهور الإسلام لم يكن منها مانع، ولا يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عدم التنبه والتكاسل فذاك أسوأ الظن المؤدي إلى الكفر، فلم يبقى إلا كونها سيئة غير مشروعة، وكذلك يقال لكل من أتى في العبادات البدنية المحضة بصفة لم تكن في زمن الصحابة فمن أحدث شيئاً يتقرب به إلى الله تعالى من قول أو فعل فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، فعلم أن كل بدعة في العبادات البدنية المحضة لا تكون إلا سيئة" (3).
__________
(1) " الإبداع في مضار الابتداع" للشيخ علي محفوظ (ص 25-26).
(2) المصدر السابق (ص29).
(3) " الإبداع في مضار الابتداع" (ص 30-31).(1/25)
إشارة إلى قوله تعالى ? فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? (النور: من الآية63).
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ? فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ? : أي عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله واعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً ? أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ٌ ? أي في قلوبهم من كفر ونفاق أو بدعة ? أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس ونحو ذلك" (1).
قال الإمام مالك رحمه الله عند موته: " وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطاً على أنه لا صبر لي على السياط" (2). فتدبر كلامه وهو مجتهد غير مقلد رحمه الله.
وقال أيضاً رحمه الله: " من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً لم يبلغ الرسالة أو خان الرسالة". اقرأوا قول الله: ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ? (المائدة: من الآية3) قال: فما لم يكن يومها ديناً لا يكون اليوم ديناً، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" (3).
__________
(1) " تفسير ابن كثير" (3/307).
(2) " إرشاد الفحول" للشوكاني (ص 349).
(3) " فتاوى الألباني الجزء الثاني" (ص 347).(1/26)
إشارة إلى حديث العرباض بن سارية الذي أتى فيه: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" (1).
__________
(1) أخرجه أحمد في " المسند" (4/126/127) وأبو داود (4607) والترمذي (2678).(1/27)