الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة
مناهج الحرية
في الحضارة الإسلامية
الحرية الدينية
إعداد
الأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور الحسني
رئيس المجمع العلمي العالي للدراسات والأبحاث
وعضو مجمع الفقه الإسلامي بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
... ... إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنَا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنَا ، مَنْ يهدِ اللهِ فلا مُضِلَّ لهُ ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلَه إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريْكَ لهُ ، وأشْهَدُ أنَّ سيدَنَا محمَّداً عبدُه ُورسولُهُ ، اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آ له وأصحابه والتابعين لهم بإحسان .
طالعة البحث
لما انبثق فجر الإسلام في صحراء العرب ، وامتد إلى آخر العالم المعروف يومئذٍ تحدث عن الحرية بقوة وأولاها اهتماماً كبيراً ، سواءٌ أكان ذلك في نصوصه التشريعية أم بالرأي ، وكتب علماء الإسلام بذلك كتابات متميزة ، حتى جاء الإمام أبو حامد الغزالي فأرسى قواعد الفقه المقاصدي ، وجاء من بعده الأئمة ؛ الشاطبي والقرافي ، وختم عصر هؤلاء العمالقة بابن رشد (1) الذي لم يكتب أحد مثله في هذا الموضوع، وكانت قضية الحرية لديهم محور كتاباتهم ، وختم هذا الفكر المقاصدي بالعَّلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله الذي تحدث في كتاباته القيمة عن الحرية في الإسلام ومناهجها، وكل من جاء بعده حذا حذوه وانتهج نهجه في الأعم الأغلب.
__________
(1) ... تميّز المعلم الثاني ابن رشد عمن سبقه بأنه جمع بين الحكمة والشريعة في مقولاته المتميزة فكل من جاء بعده من فلاسفة الغرب أخذ منه وتلمذ عليه أ.هـ .(1/1)
تكاد تكون مناهج الحرية في الفكر الإسلامي القضية الأولى اليوم في ميدان البحث العلمي في علم الاجتماع وعلم السكان وما شابهها في العلوم الإنسانية ، ذلك لأنه يتفرع عنها كثير من القضايا المعاصرة ذات الأهمية في البحث العلمي الحديث والمعاصر ، فلا نستطيع التعرف على الاستبداد وفلسفته ومدارسه المختلفة وعهوده حتى نتعرف على الحرية الدينية وحرية التعبير عن الرأي ومناهج هذه الحرية في الحضارة الإسلامية .
الحرية في الإسلام أصل قامت عليه هذه الحضارات الباذخة ، ولا زال كلام أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ماثلاً في أذهان الناس إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة ؛ يوم قال لسيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو يدافع عن ولده الذي ضرب القبطي بغير حق ؛ ( أَجِلْها على صلعة عمرو ؛ ويحك يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟! ) اهـ .(1/2)
وتأسيساً على هذا ؛ يُخطئ كثير من الناس يوم يزعمون عن قصد أو غير قصد أن مؤسسي الحرية في العالم هم الأوربيون ولاسيما فرنسة التي تمردت على الملكية والكنيسة معاً وأقامت دولة علمانية بحتة ، ووضعت في نظرهم أساس الحكم المدني وأرست دعائم الديمقراطية عندهم ، واتبعتها سائر الشعوب ، أخطؤوا كثيراً يوم أداروا ظهورهم للإسلام ولما فيه من مَهْيع ثرٍّ للحريات ، وتنكروا لهذا النظام الإلهي ونسبوا الفضل إلى الثورة الفرنسية وما تلاها من أحداث في الوقت الذي أفاد صانعوا الثورة الفرنسية وآباؤها ورجال الفكر الحر في أوربا بعامة وفي فرنسة بخاصة من نظم الحرية في الإسلام ، كما أفادت تلك الشعوب آنذاك من الثورة الفرنسية فيما بعد في احترام الحرية ، والواقع أن عقلاء الغرب وفلاسفة أوربا لم يقوموا بما قاموا به إلا بعد اطلاعهم المعمق ودراساتهم الواسعة المستفيضة للحضارة العربية الإسلامية ولمكانة الحرية فيها ، واستقوا أصول الحريات وانتهجوا في تلمذة واضحة منهم على علمائها وكبار المفكرين الأقدمين لديها ،وجلُّ ما جاء به القوم إنما هو وليد الحضارة العربية الإسلامية وأحد ثمراتها ولكن مع العقوق منهم، ذلكم لأنهم مَرَدوا على العقوق في الأعم الأغلب فضاعت لديهم الحقوق ، والنادر لا حكم له .
واليوم نلمس آثاراً طيبة لنهضة مرجوة ويقظة جديدة للعقل العربي حيث بدأ هذا العقل يتفاعل مع الأحداث ، وينشد الخلاص ، وبيده كنوز آبائه لا تحتاج إلا إلى التعرف عليها والعناية بها ، وتبني مقولاتها بعد صياغتها صياغة حديثة ضمن مقولات جديدة في شكلها أصلية في مضمّنها .(1/3)
هذه كلها مفاتح النصر في معركتنا القادمة مع الغزاة المحتلين المجرمين ، فإذا لم نتعرف على ذواتنا ولا على مدنيتنا وحضارتنا ، وإذا لم نفهم أسباب النصر في جولاتنا الأولى القادمة مع أعداء أمتنا فكيف نضمن التفوق والنصر في معركة المصير ؛ هذه المقولات تَفَهَّمها إخوتنا وأشقاؤنا الأتراك المسلمون ، وأتقنوا دراستها وتبنوا مقولاتها وفلسفتها ، وخرجوا على العالم بصياغة جديدة وبفكر متطور ، فكتب الله لهم النصر المؤزر ، وملكوا ناصية العز والتقدم والرخاء الحضاري ، وتخلصوا من الظلم الاجتماعي إلى غير رجعة ؛ كل ذلك تم بأحدث الأساليب المتمدنة الراقية ذات المنهج الحضاري الرفيع .
أفلا يجدر بنا - ونحن الأساتيذ في بناء الحضارة العالمية - ألا يجدر بنا أن نقود المرحلة القادمة بقوة لنخلِّص العالم من ويلات الحروب إلى السلم العالمي ؟!
اللهم غَفْراً ؛ فلقد اشتط بي القول ، وما كنت أود أن أصل إلى ما وصلت إليه ، ولكن مناهج الحرية حديث ذو شجون ، ولاسيما في الإسلام .
لهذا وأمثاله أحببت أن أُدْليَ بدلوي في هذا الموضوع الذي شغل بال المفكرين في المرحلة المعاصرة ، وأن أوجد صيغةً جديدة لهذه القضية الاجتماعية والفلسفية ، لأقدم هذا الجهد المتواضع لبني قومي عَلَّهم يستفيقون من سباتهم ، وينهدون إلى الأخذ بأسباب القوة الكامنة في الفقه الحضاري في الإسلام ؛ تكون الربانية المنهج الروحي الأول في هذه النهضة المرجوة إن شاء الله ، وحينئذٍ نظفر برضوان الله أولاً ، وبالنصر ثانياً ، وبريادة العالم والأمم ثالثاً ، وتلك والله هي الَصفقة الرابحة ، يوم يورثنا الله الأرض لأننا من عباده الصالحين .
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (1) }
صدق الله العظيم
وكتب
محمد عبد اللطيف صالح الفرفور الحسني
خطة البحث
? المدخل إلى البحث :
__________
(1) ... الأنبياء : 105 .(1/4)
? من معالم الحرية في الإسلام
? الباب الأول :الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية
? الفصل الأول : من هدي الكتاب والسنة
o المطلب الأول : الآيات القرآنية الكريمة
o المطلب الثاني : الأحاديث الشريفة
o المطلب الثالث : كِتَابُهُ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمُوَادَعَةُ يَهُودَ ( الدستور )
? الفصل الثاني : الاعتراف بالغير والحوار معه
? الفصل الثالث : أبعاد الحرية
o المبحث الأول : بين يدي الحرية الدينية
o المبحث الثاني : الحرية والبعد الديني
? الباب الثاني : العهود والمواثيق الدَولية والإسلامية والعربية
? المبحث الأول : إعلان منظمة مؤتمر العالم الإسلامي
? المبحث الثاني : مختارات من صكوك دولية تتناول الحق في حرية الدين أو المعتقد
o المطلب الأول : الأمم المتحدة
o المطلب الثاني : إعلان الدول الأوربية
o المطلب الثالث : منظمة الدول الأمريكية
o المطلب الرابع : الاتحاد الإفريقي
o المطلب الخامس : جامعة الدول العربية
o المطلب السادس : منظمة المؤتمر الإسلامي
o المطلب السابع : منظمات أخرى
o المبحث الثالث : الأصول الإسلامية لمبادئ حقوق الإنسان
? الباب الثالث : الحرية في الفكر الإنساني والحل هو الإسلام
? خاتمة البحث
المصادر
المدخل إلى البحث
من معالم الحرية في الإسلام
أولاً : حرية الإنسان الشخصية في الإسلام :
الإنسان في الإسلام هو الثروة البشرية متعددة الطاقات ، متنوعة الأنشطة ، التي يجب أن ترتفع عن مستوى السلعة التافهة التي تباع وتشرى ، والإنسان هو المخلوق الأسمى المهيّأ للخلافة عن الله في أرضه وعلى مخلوقاته وتسخيرها له لخير الإنسانية وسعادة الإنسان .(1/5)
ولهذا يجب أن يتحرر من قيوده ، ويجب أن تتحرر إرادته ، ويجب أن يتحرر جسده حتى يتمكن من استكشاف أسرار الطبيعة واستخراج خيراتها والانتفاع بمواردها ، فسلك لتحقيق هذه الغايات وبلوغ تلك الأهداف طريق التطور الهادئ الفاعل لا طريق الطفرة الهادمة قصداً إلى إبطال الرق وتحرير الرقيق.
فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشتري العبيد ليعتقهم ، وكان يساعد العبيد المملوكين لغيرهم على شراء أنفسهم، وكان يرغِّب المسلمين بالعتق ويذكر لهم عظيم ثوابه ، حيث كان يقول : (( أيما رجل أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار )) (1) ).
ثانياً : حرية المعتقد في الإسلام :
حرية المعتقد صانها الإسلام ، إلا ما كان منافياً لكرامة الإنسان وقوة العقل . ومن أجل ذلك أتاح للنصارى واليهود أن يعيشوا في ظله قال الله تعالى : { لا إكراه في الدين } (2) ).
هذه الحقيقة الناصعة التي بعث بها سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ودعا على أساسها أهل الكتاب إلى الإسلام فإن قبلوه دخلوا في الإسلام، وإن رفضوه لم يكرههم على شيء . ففي ( سيرة ابن هشام ) : ( هذا كِتَابُهُ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمُوَادَعَةُ يَهُودَ ؛ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ، (( وَادَعَ فِيهِ يَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ وَأَقَرّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَشَرَطَ لَهُمْ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ )) ) (3) .
__________
(1) ... متفق عليه.
(2) ... البقرة : 256.
(3) ... ر: سيرة ابن هشام ج1 / ص 442 وما بعدها .(1/6)
وإنما ألزمهم بأن يعطوا الجزية وهي تقابل حماية المسلمين لهم ودفاعهم عنهم ، ونهى المسلمين عن انتقاص الذميين بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( أَلا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة )) (1) ).
وليس أدل على بعد الإسلام عن التعصب وإعطائه الحرية من قول المستشرق آدم ميتز: ( لقد قلد ديوان جيش المسلمين لرجل نصراني مرتين في أثناء القرن الثالث ) ، فهو العصر الذهبي في الحضارة في عصور الإسلام .
غير أن موقف المسلمين يختلف بالنسبة لمن ناوأوا الإسلام واءتمروا عليه وحاربوه في خيبر، وتكتلوا ضد دعوته،فكان من الطبيعي أن يقف المسلمون منهم موقفاً معادياً رداً على موقفهم قال الله تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (2) } ) .
ولعل من أبرز الأمثلة على تسامح الإسلام الديني ذلك السلوك العملي الذي سلكه خلفاؤه الراشدون ، وقصة سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عند فتح بيت المقدس ولما دخل القدس وزار كنيسة القيامة وقد حان وقت الصلاة لم يؤد الفريضة فيها ، ولما سئل عن ذلك ؟!
أجاب : إنه خشي إن فعل أن يأتي يوم يطالب فيه المسلمون بالمكان الذي صلى فيه عمر ويجعلونه مسجداً .
الباب الأول
الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية
الفصل الأول
من هدي الكتاب والسنة
المطلب الأول
الآيات القرآنية الكريمة
__________
(1) ... ر: سنن أبي داود / في تعشير أهل الذمة .
(2) - المائدة : 82 .(1/7)
?? { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (1) } ).
? { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ (2) } ).
?? { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (3) } ).
?? { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً (4) } ).
?? { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (5) } ).
المطلب الثاني
الأحاديث الشريفة
? عَن أَبِي سيدنا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : (( لاَ تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم )) (6) ) .
? وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ : (( لَهُمْ مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَعَبِيدِهِمْ ، وَدِيَارِهِمْ ، وَأَرْضِهِمْ وَمَاشِيَتِهِمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيهِ إِلاَّ الصَّدَقَةُ )) (7) .
? وعن سيدنا عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من قتل معاهداًً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً )) (8) .
__________
(1) ... البقرة : 256 .
(2) ... آل عمران : 64 .
(3) ... سبأ :24 .
(4) ... المائدة : 48 .
(5) ... يونس : 99 .
(6) ... ر : صحيح البخاري .
(7) ... ر : السنن الصغرى/ للبيهقي/ باب شهادة أهل الذمة .
(8) ... أخرجه البخاري .(1/8)
? وَعن صَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ آبَائِهِمْ دنْيَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( أَلا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) (1) ).
المطلب الثالث
كِتَابُهُ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمُوَادَعَةُ يَهُودَ ( الدستور )
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ ، وَادَعَ فِيهِ يَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ وَأَقَرّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَشَرَطَ لَهُمْ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ : (( بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النّاسِ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى .
وَإِنّ ذِمّةَ اللّهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ دُونَ النّاسِ وَإِنّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ وَإِنّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ لا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ .
__________
(1) ... ر : سنن أبي داود / في تعشير أهل الذمة .(1/9)
وَإِنّهُ لا يَحِلّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرّ بِمَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَآمَنَ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا وَلا يُؤْوِيهِ وَأَنّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللّهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَلا يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ وَإِنّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لا يُوتِغُ إلا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف .
وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ؛ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ؛ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ؛ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف ٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ، إلا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لا يُوتِغُ إلا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ جَفْنَةَ بَطْنٌ مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ لِبَنِي الشّطِيبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ .(1/10)
وَإِنّ الْبِرّ دُونَ الإِثْمِ وَإِنّ مَوَالِيَ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّهُ لا يَخْرَجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلا بِإِذْنِ مُحَمّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنّهُ لا يُنْحَجَزُ عَلَى ثَأْرٍ جُرْحٌ وَإِنّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ فَتَكَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إلا مِنْ ظَلَمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَبَرّ هَذَا .
وَإِنّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَالنّصِيحَةَ وَالْبِرّ دُونَ الإِثْمِ وَإِنّهُ لَمْ يَأْثَمْ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ وَإِنّ النّصْرَ لِلْمَظْلُومِ وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ وَإِنّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَإِنّ الْجَارَ كَالنّفْسِ غَيْرَ مُضَارّ وَلا آثِمٌ وَإِنّهُ لا تُجَارُ حُرْمَةٌ إلا بِإِذْنِ أَهْلِهَا، وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ ) اهـ . سيرة ابن هشام (1/442 )
الفصل الثاني
الاعتراف بالغير والحوار معه
أجمع العلماء قاطبةً وعلى رأسهم فقهاء الشريعة الإسلامية على أنه يجب أن نعترف بالآخرين وأن لا نلغي الغير وهذا من مضمّن كتاب ربنا، قال تعالى : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ]سبأ : 24[ .(1/11)
بيننا وبين الغير الحوار ، الحوار العلمي الهادئ المتزن القائم على المسلمات العقلية وقواعد المنطق المتفق عليها بين العقلاء فإن اقتنع الآخرون فحيّهلاً ، وإن لم يقتنعوا فلا مانع أن يكونوا مشاركين لنا بأوطاننا ومشاركين لنا في بلادنا ما لم يخامروا علينا أو يعلنوا الحرب ، حينئذٍ يكونون قد خانونا والخائن معروفة عقوبته ، وطالما إخواننا أهل الكتاب يحبون هذه الأرض ويحبون العروبة ، ويعتزون بالإسلام هم في جوارهم لنا في حسن معاملة وفي جوار طيّب يجب علينا أن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا كما نص عليه الدين الحنيف وشرحته المذاهب الفقهية المعتبرة (1) .
وإنني لأنبّه إخواني رجال الصحوة الإسلامية وأؤكد عليهم أن يحترموا الغير وأن يعترفوا به ، وأن يفتحوا معه الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة ، وعن هذا الطريق دخل كثير من أهل الكتاب في الإسلام في الماضي والحاضر ، وسيدخلون في المستقبل بالحجة القاطعة وبالقدوة الصالحة ، وإذا لم يدخلوا فما نحن بمكرهي غيرنا على ديننا { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } ]يونس : 99[ .
فيجب احترام الغير واحترام رأيه كما لديه ويجب احترام حرية المعتقد كما يجب احترام حرية الرأي وحرية الإيمان واحترام الإنسان في ذاته ؛ وهذا ما جاء به سيدنا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - باحترام الإنسانية فقد جاء في الحديث النبوي الشريف : (( الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله )) (2) .
الفصل الثالث
__________
(1) ... ينظر في ذلك ( الشروط العمرية وشرحها ) لابن القيم المستلة من كتابه ( أحكام أهل الذمة ) والذي صدر بدراسة وتحقيق الدكتور صبحي الصالح وطبع في مطبعة جامعة دمشق سنة 1960م.
(2) ... أخرجه الشهاب القضاعي في ( مسنده ) ، والطبراني في ( المعجم الكبير ) ، والديلمي في ( الفردوس في مأثور الخطاب ) ، والهيثمي في ( بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث ) والبيهقي في ( شعب الإيمان ) .(1/12)
أبعاد الحرية الدينية
المبحث الأول
بين يدي الحرية الدينية
لا ريب أن الركن الاعتقادي والخُلقيَّ في الإسلام هما من الثوابت قطعاً ولا يحتملان تغييراً ولا تبديلاً بحال من الأحوال .
... أمَّا الأحكام التكليفية في التشريع الإسلامي فصنفان ؛
1) أحكام أساسية وهي تلك الأحكام التي جاءت الشريعة الإسلامية لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية ، فهذه لا تتبدل بتبدل الزمان ، بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة الإسلامية لإصلاح الأزمان والأجيال ، فهذه هي ثوابت الشريعة .
2) وأحكام اجتهادية من قياسية ومصلحية قررها الاجتهاد بناءً على القياس أو على دواعي المصلحة ، وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن هذه الأحكام هي التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس ، كما تتبدل أيضاً وسائل تحقيق الثوابت في الشريعة وأساليب تطبيقها باختلاف الأزمنة والواقعات .
قلت : وهذا هو الأساس المتين والركن الركين لوحدة الأمة في وسطيتها ألا وهو القيام على الثوابت في التصور والسلوك ، والعمل في المتغيرات ضمن ضوابط الشريعة ومقاصدها .(1/13)
هذا ؛ وإني لأستغرب كثيراً من أولئك المفكرين الذين ينشدون الوحدة ويتغنون بوحدة العرب والمسلمين ، ولكن لا يسلكون لها مسلكها ولا يبحثون عن أسبابها !! كأن الوحدة مجرد نزهة أو حلم أو أمنية من أماني النفس وأحلامها ، أو قصة طريفة أو أنشودة جميلة ، والواقع عكس ذلك ، إن الوحدة ثمرة كفاح طويل للأمة العربية الإسلامية ، بل هي حصاد طيب لزرع طيب تعب به أصحابه فأسهروا لياليهم ، وكدوا نفوسهم وقرحوا جفونهم ، وكذلك الوحدة لا تُنال إلا بعد توحيد المدارس الفكرية العقدية المعاصرة في مذهب فكري واحد ، هو المذهب الفكري الإسلامي العربي الحضاري ، حيث تذوب خصائص المدارس كلها في هذه البوتقة لتصبح مذهباً لا مدرسة وفرق كبير بين المدرسة والمذهب ، فالمدرسة درجة على طريق المذهب ، فرب مدارس شتى اتحدت في مذهب واحد فصار له خصائص خاصة به دون غيره ، وأبرزها الحرية والوحدة والتأملية .
... إني لأَصبو إلى يوم تقوم فيه للأمة الإسلامية شوكةٌ يهابها العدو ، ويحسب حسابها الصديق ، وذلك لن يتحقق إلا إذا كنا أمة واحدةً كما أراده الله لنا ، آلامنا وآمالنا مشتركة يَكون فيها الدين فوق المذهب ، والأمة سَداها ولحمتها هذا الدين الحق ، بمذاهبها كلها .
... فكل قضية لا تقوم على الحق فهي قائمةٌ على الباطل ، والباطل زَبَدٌ زائل ، قال الله تعالى : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ] } سورة الرعد:17[ ، وهكذا حرَّر الإسلام النفس الإنسانية من الباطل وما يتْبَعُه من الخرافة والخرافيين ، حيث جاء الإسلام حَرْباً على الخرافة ، داعيةً للعلم وإلى الحقيقة المجردة حصْراً .(1/14)
حرر الإسلامُ الفكر الإنساني من التبعية ومن الاستغلال ، وأطلقه من كُبُوْلِه في شتَّى مناحي الحياة الإنسانية حُراً طليقاً فعّالاً ، فالتفكير في الإسلام عبادة ، وإني لأَرَى أنَّ كلَّ تنويرٍ أو إصلاحٍ حضاريّ يجب بَعْد أن يقوم أوَّلاً على الدين الصحيح ، وأن ينطلق من الفكر الصحيح على يد المفكرين من ذوي الفهم والإدراك ، فهم حُكَماء الأمة وأئمة الفكر فيها ، وهم المؤتمنون على ماضي الأمة ، وحاضرها ومُستقبلِها ، وأجيالها وحضارتِها ، بَلْهَ على وُجُودِها ، وكلُّ نهضةٍ إصلاحية لا تقوم ولا تنطلق من الفكر العلمي الصحيح لا وُجُودَ لها ، ولئن وُجدت فلا بقاءَ لها .
وحسبنا أن الله تعالى مِنْ أسمائه العدلُ ، وأن عَوالمَِ السماوات والأرض قامت بالعدل ، فالعدل قوامُ الحياة الإنسانية الراشدة ، وهو قِوامُ الاجتماع والمُلك ، قال الله تعالى: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (1) .
ومِثْلُ ذلك جاء في الحديث المتفق عليه : (( كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته )) (2) .
ولا والله لا يتحقق الإحسانُ حتى يقوم العدلُ ، ولا قيمة لأيِّ وجهٍ من وجوه الخير والمعروف إذا قام على أساس من البغي والعدوان .
والسَّلامُ نادى به الإسلامُ ، وحثّ عليه ، وجَعَله من رموز الإسلام الكبرى ، فالله تعالى اسمه السلامُ ، والسلامُ تحيةُ المسلمين فيما بينهم ، وهو تحيةُ أهل الجنة في الجنة ، وتحيةُ الملائكة لهم (3) .
__________
(1) ... النحل : 90 .
(2) ... متفق عليه .
(3) ... ر : حديث (( السلام تحية أهل الجنة )) أخرجه الإمام أحمد في ( مسنده ) .(1/15)
السلامُ جَوْهر الإسلام ، ولُبُّ الحضارةِ العربيةِ الإسلامية الباذخة ، ولا والله لمْ يَعْرِفْ دينٌ من الأديان السماوية ولا الوضعية السَّلامَ كما عَرَفَه الإسلامُ ، ولا عَرَف التاريخُ أَرْحَمَ من العرب المسلمين ، ولا أكثر مُسَالَمةً وحباً للشعوب والأمم مِثْلَهُمْ ، قال الله تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ]الأنفال :61 [ .
فالسلامُ هو غايةُ هذا الدين الحقِّ ، بل أَحَدُ أركانِه الكبرى ، وخَصِيصَةٌ من خصائصها التي بها عُرِفَ ، وهو دون غيره حَقَّقَها على أرض الواقع في ماضيه المُشْرِق ، وسَيُحقِّقُها - إن شاء الله - في قادمات الأيام يومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله .
وهذا - أيْ السلامُ - هو البُعْدُ الإنسانيُّ في ديننا الإسلامي الحنيفِ ، نَادَى به في نصوصه ، وعمل به أنصارُه وأتباعُه ؛ منذ فجر الإسلام إلى عصرنا هذا ، ولا والله ما نادى الإسلامُ ولم ينادِ يوماً بإرهابٍ للناسِ وترويعٍ لهم ، ولا كان العربُ المسلمون في ماضيهم وحاضرهم ومُسْتَقْبَلِهِم يوماً مُرَوِّعين، بل كانوا رحمةً للناس ، وبركةً على الدنيا، وحَسْبُكُمْ أن الرسول الأعظم محمداً - صلى الله عليه وسلم - قال فيه الله - عز وجل - : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ]الأنبياء :107[ .
ولقد قال الشاعر الإسلامي - العلاّمةُ الوالد رحمه الله تعالى - مُنْشِداً من شعره:
لا أبتغي غارةً شَعْواءَ طاميةً ... يُذكي تأجُّجَها سيفٌ وعَسَّالُ
بلْ أبتغي عَلَمَ الإخلاصِ مُنْتَشِراً ... تَعْنُو لِهَيْبَتِه شِيبٌ وأطفالُ(1/16)
يقول الله تبارك وتعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ] الحجرات : 13 [ .
هذا هو معيار التفاضل عند الله تبارك وتعالى ، فالناس كلهم سواسية كأسنان المشط أمام رب العالمين ، لا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى ، وبقدر ما يُقدِّم للبشرية من جهدٍ وعطاء يكون عند الله عظيماً ، والحديث الشريف في خطبة الوداع واضح في هذا المعنى ، يقول سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - : (( يا أيها الناس ؛ إن الله قد أذهب عنكم عبِّيَّة الجاهلية وتعاظُمها بآبائها، فالناس رجلان ؛ برٌّ تقيٌّ كريمٌ على الله ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على الله ، والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب )) (1) .
المبحث الثاني
الحرية والبعد الديني
إن مفهوم الحرية من المنظور الإسلامي لا يتحقق إلا من خلال الحقوق والواجبات باعتبارهما وجهين لعملة واحدة كما أسلفنا القول في مفهوم الحرية .
لأن الحقوق من دون أن تُقيد بالواجبات تجعل الفرد غير مرتبط بالآخرين يعرف حقوقه ولا يعرف حقوق الآخرين و يصبح مقصراً في أداء واجباته.
... و حرص الإسلام على تطبيق الحرية ضمن هذه الحدود في مختلف شؤون الحياة.
إن إنسانية الإنسان هي رهن حريته إذ لا يمكن أن تتحقق إنسانيته بدون حريته يمارس حياته آمنا.
الحرية في الإسلام لا تعني التخلي عن المبادئ والانفلات من الآداب وارتكاب المنكرات واستباحة محارم الله ، إذ الحرية التي تبيح هذه المحظورات هي ليست بحرية بل هي تصور خاطئ للحرية ، وقد صحح الإسلام هذا التصور الخاطئ وقرر حرية الناس على أساس كل حق يقابله واجب .
الباب الثاني
العهود والمواثيق
__________
(1) ... ر : سنن الإمام أبي داود / ج 5 ص389 ، كتاب تفسير القرآن الكريم ، باب ومن الحجرات ، عن سيدنا عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - .(1/17)
الدَولية والإسلامية والعربية
المبحث الأول
إعلان منظمة مؤتمر العالم الإسلامي
إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام
تم إجازته من قبل مجلس وزراء خارجية منظمة مؤتمر العالم الإسلامي ، القاهرة ، 5 أغسطس 1990
الديباجة
تأكيداً للدور الحضاري والتاريخي للأمة الإسلامية التي جعلها الله خير أمة أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة ربطت الدنيا بالآخرة وجمعت بين العلم والإيمان، وما يرجى أن تقوم به هذه الأمة اليوم لهداية البشرية الحائرة بين التيارات والمذاهب المتناقضة وتقديم الحلول لمشكلات الحضارة المادية المزمنة .
ومساهمة في الجهود البشرية المتعلقة بحقوق الإنسان التي تهدف إلى حمايته من الاستغلال والاضطهاد وتهدف إلى تأكيد حريته وحقوقه في الحياة الكريمة التي تتفق مع الشريعة الإسلامية .
وثقة منها بأن البشرية التي بلغت في مدارج العلم المادي شأناً بعيداً ، لا تزال وستبقى في حاجة ماسة إلى سند إيماني لحضارتها وإلى وازع ذاتي يحرس حقوقها .
وإيماناً بأن الحقوق الأساسية والحريات العامة في الإسلام جزء من دين المسلمين لا يملك أحد بشكل مبدئي تعطيلها كلياً أو جزئياً، أو خرقها أو تجاهلها في أحكام إلهية تكليفية أنزل الله بها كتبه، وبعث بها خاتم رسله وتمم بها ما جاءت به الرسالات السماوية وأصبحت رعايتها عبادة، وإهمالها أو العدوان عليها منكراً في الدين وكل إنسان مسؤول عنها بمفرده، والأمة مسؤولة عنها بالتضامن، وأن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي تأسيسا على ذلك تعلن ما يلي :
المادة 1(1/18)
أ البشر جميعاً أسرة واحدة جمعت بينهم العبودية لله والنبوة لآدم وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المعتقد الديني أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي أو غير ذلك من الاعتبارات. وأن العقيدة الصحيحة هي الضمان لنمو هذه الكرامة على طريق تكامل الإنسان.
ب أن الخلق كلهم عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله وأنه لا فضل لأحد منهم على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح.
المادة 2
أ الحياة هبة الله وهي مكفولة لكل إنسان، وعلى الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء عليه، ولا يجوز إزهاق روح دون مقتض شرعي .
ب يحرم اللجوء إلى وسائل تفضي إلى إفناء الينبوع البشري .
ت المحافظة على استمرار الحياة البشرية إلى ما شاء الله واجب شرعي .
ث سلامة جسد الإنسان مصونة، ولا يجوز الاعتداء عليها، كما لا يجوز المساس بها بغير مسوغ شرعي، وتكفل الدولة حماية ذلك .
المادة 3
أ في حالة استخدام القوة أو المنازعات المسلحة، لا يجوز قتل من لا مشاركة لهم في القتال كالشيخ والمرأة والطفل، وللجريح والمريض الحق في أن يداوى وللأسير أن يطعم ويؤوى ويكسى، ويحرم التمثيل بالقتلى، ويجب تبادل الأسرى وتلاقي اجتماع الأسر التي فرقتها ظروف القتال .
ب لا يجوز قطع الشجر أو إتلاف الزرع والضرع أو تخريب المباني والمنشآت المدنية للعدو بقصف أو نسف أو غير ذلك .
المادة 4
... ... لكل إنسان حرمته والحفاظ على سمعته في حياته وبعد موته وعلى الدول والمجتمع حماية جثمانه ومدفنه .
المادة 5
أ الأسرة هي الأساس في بناء المجتمع، والزواج أساس تكوينها وللرجال والنساء الحق في الزواج ولا تحول دون تمتعهم بهذا الحق قيود منشؤها العرق أو اللون أو الجنسية .
ب على المجتمع والدولة إزالة العوائق أمام الزواج وتيسير سبله وحماية الأسرة ورعايتها .
المادة 6(1/19)
أ المرأة مساوية للرجل في الكرامة الإنسانية، ولها من الحق مثل ما عليها من الواجبات ولها شخصيتها المدنية وذمتها المالية المستقلة وحق الاحتفاظ باسمها ونسبها .
ب على الرجل عبء الإنفاق على الأسرة ومسئولية رعايتها .
المادة 7
أ لكل طفل عند ولادته حق على الأبوين والمجتمع والدولة في الحضانة والتربية والرعاية المادية والصحية والأدبية كما تجب حماية الجنين والأم وإعطاؤهما عناية خاصة .
ب للآباء ومن يحكمهم، الحق في اختيار نوع التربية التي يريدون لأولادهم مع وجوب مراعاة مصلحتهم ومستقبلهم في ضوء القيم الأخلاقية والأحكام الشرعية .
ت للأبوين على الأبناء حقوقهما، وللأقارب حق على ذويهم وفقاً لأحكام الشريعة .
المادة 8
لكل إنسان التمتع بأهليته الشرعية من حيث الإلزام والالتزام وإذا فقدت أهليته أو انتقصت قام وليه – مقامه .
المادة 9
أ طلب العلم فريضة والتعليم واجب على المجتمع والدولة وعليها تأمين سبله ووسائله وضمان تنوعه بما يحقق مصلحة المجتمع ويتيح للإنسان معرفة دين الإسلام وحقائق الكون وتسخيرها لخير البشرية .
ب من حق كل إنسان على مؤسسات التربية والتوجيه المختلفة من الأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام وغيرها أن تعمل على تربية الإنسان دينياً ودنيوياً تربية متكاملة متوازنة تنمي شخصيته وتعزز إيمانه بالله واحترامه للحقوق والواجبات وحمايتها .
المادة 10
الإسلام هو دين الفطرة، ولا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه على الإنسان أو استغلال فقره أو جهله على تغيير دينه إلى دين آخر أو إلى الإلحاد .
المادة 11
أ يولد الإنسان حراً وليس لأحد أن يستعبده أو يذله أو يقهره أو يستغله ولا عبودية لغير الله تعالى .(1/20)
ب الاستعمار بشتى أنواعه وباعتباره من أسوأ أنواع الاستعباد محَّرم تحريماً مؤكداًًً وللشعوب التي تعانيه الحق الكامل للتحرر منه وفي تقرير المصير ، وعلي جميع الدول والشعوب واجب النصرة لها في كفاحها لتصفية كل أشكال الاستعمار أو الاحتلال ، ولجميع الشعوب الحق في الاحتفاظ بشخصيتها المستقلة والسيطرة على ثرواتها ومواردها الطبيعية .
ت للأبوين على الأبناء حقوقهما وللأقارب حق علي ذويهم وفقا لأحكام الشريعة .
المادة 12
لكل إنسان الحق في إطار الشريعة في حرية التنقل، واختيار محل إقامته داخل بلاده أو خارجها وله إذا اضطهد حق اللجوء إلى بلد آخر وعلى البلد الذي لجأ إليه أن يجيره حتى يبلغه مأمنه ما لم يكن سبب اللجوء اقتراف جريمة في نظر الشرع .
المادة 13
العمل حق تكفله الدولة والمجتمع لكل قادر عليه، وللإنسان حرية اختيار العمل اللائق به مما تتحقق به مصلحته ومصلحة المجتمع، وللعامل حقه في الأمن والسلامة وفي كافة الضمانات الاجتماعية الأخرى . ولا يجوز تكليفه بما لا يطيقه ، أو إكراهه ، أو استغلاله ، أو الإضرار به ، وله - دون تمييز بين الذكر والأنثى- أن يتقاضى أجراً عادلاً مقابل عمله دون تأخير وله الإجارات والعلاوات والفروقات التي يستحقها ، وهو مطالب بالإخلاص والإتقان ، وإذا اختلف العمال وأصحاب العمل فعلى الدولة أن تتدخل لفض النزاع ورفع الظلم وإقرار الحق والإلزام بالعدل دون تحيز .
المادة 14
للإنسان الحق في الكسب المشروع، دون احتكار أو غش أو إضرار بالنفس أو بالغير ، والربا ممنوع مؤكداً .
المادة 15
أ لكل إنسان الحق في التملك بالطرق الشرعية ، والتمتع بحقوق الملكية بما لا يضر به أو بغيره من الأفراد أو المجتمع ، ولا يجوز نزع الملكية إلا لضرورات المنفعة العامة ومقابل تعويض فوري وعادل .
ب تحرم مصادرة الأموال وحجزها إلا بمقتضى شرعي .
المادة 16(1/21)
لكل إنسان الحق في الانتفاع بثمرات إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني أو التقني . وله الحق في حماية مصالحه الأدبية والمالية العائدة له على أن يكون هذا الإنتاج غير مناف لأحكام الشريعة .
المادة 17
أ لكل إنسان الحق في أن يعيش بيئة نظيفة من المفاسد والأوبئة الأخلاقية تمكنه من بناء ذاته معنوياًً ، وعلى المجتمع والدولة أن يوفّّّّّّّّّّّرا له هذا الحق .
ب لكل إنسان على مجتمعه ودولته حق الرعاية الصحية والاجتماعية بتهيئة جميع المرافق العامة التي تحتاج إليها في حدود الإمكانات المتاحة .
ت تكفل الدولة لكل إنسان حقه في عيش كريم يحقق له تمام كفايته وكفاية من يعوله ويشمل ذلك المأكل والملبس والمسكن والتعليم والعلاج وسائر الحاجات الأساسية .
المادة 18
أ لكل إنسان الحق في أن يعيش آمناً على نفسه ودينه وأهله وعرضه وماله .
ب للإنسان الحق في الاستقلال بشؤون حياته الخاصة في مسكنه وأسرته وماله واتصالاته، ولا يجوز التجسس أو الرقابة عليه أو الإساءة إلى سمعته وتجنب حمايته من كل تدخل تعسفي .
ت للمسكن حرمته في كل الأحوال ولا يجوز دخوله بغير إذن أهله أو بصورة غير مشروعة ، ولا يجوز هدمه أو مصادرته أو تشريد أهله منه .
المادة 19
أ الناس سواسية أمام الشرع، يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم .
ب حق اللجوء إلى القضاء مكفول للجميع .
ت المسؤولية في أساسها شخصية .
ث لا جريمة ولا عقوبة إلا بموجب أحكام الشريعة .
ج المتهم بريء حتى تثبت إدانته بمحاكمة عادلة تؤمن له فيها كل الضمانات الكفيلة بالدفاع عنه .
المادة 20(1/22)
لا يجوز القبض على إنسان أو تقييد حريته أو نفيه أو عقابه بغير موجب شرعي . ولا يجوز تعريضه للتعذيب البدني أو النفسي أو لأي من أنواع المعاملات المذلة أو القاسية أو المنافية للكرامة الإنسانية ، كما لا يجوز إخضاع أي فرد للتجارب الطبية أو العلمية إلا برضاه وبشرط عدم تعرض صحته وحياته للخطر ، كما لا يجوز سن القوانين الاستثنائية التي تخول ذلك للسلطات التنفيذية .
المادة 21
أخذ الإنسان رهينة محرم بأي شكل من الأشكال ولأي هدف من الأهداف .
المادة 22
أ لكل إنسان الحق في التعبير بحرية عن رأيه بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية .
ب لكل إنسان الحق في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقاً لضوابط الشريعة الإسلامية .
ت الإعلام ضرورة حيوية للمجتمع ، ويحرم استغلاله وسوء استعماله والتعرض للمقدسات وكرامة الأنبياء فيه ، وممارسة كل ما من شأنه الإخلال بالقيم أو إصابة المجتمع بالتفكك أو الانحلال أو الضرر أو زعزعة الاعتقاد .
ث لا يجوز إثارة الكراهية القومية والمذهبية وكل ما يؤدي إلى التحريض على التمييز العنصري بكافة أشكاله .
المادة 23
أ الولاية أمانة يحرم الاستبداد فيها وسوء استغلالها تحريماً مؤكداً ضماناً للحقوق الأساسية للإنسان .
ب لكل إنسان حق الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، كما أن له الحق في تقلد الوظائف العامة وفقاً لأحكام الشريعة .
المادة 24
كل الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية .
المادة 25
... ... الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة .
المبحث الثاني
مختارات من صكوك دولية
تتناول الحق في حرية الدين أو المعتقد
المطلب الأول
الأمم المتحدة
ميثاق الأمم المتحدة 1945(1/23)
المواد 1 و 13 و 55: تتضمن الإشارة إلى احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء" .
الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين 1951
المادة 4: تشير إلى التزام الدول الأطراف بأن توفر للاجئ داخل أراضيها معاملة توفر على الأقل ذات الرعاية الممنوحة لمواطنيها على صعيد حرية ممارسة شعائرهم الدينية وحرية توفير التربية الدينية لأولادهم .
الاتفاقية المتعلقة بوضع الأشخاص عديمي الجنسية 1954
المادتان 3 و 4: تتضمن نفس الأحكام المتعلقة بحرية الدين أو العقيدة الواردة في ميثاق الأمم المتحدة والاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين .
الاتفاقية المتعلقة بمنع التمييز في مجال التعليم 1960
المواد 1 و 2 و 5: تشير إلى أن إقامة وإدارة مؤسسات تربوية أو تعليمية ذات أعراض دينية لا يعد تمييزاً، فيما لو كانت تلك المؤسسات متفقة مع رغبات الآباء أو الأوصياء، وعلى أن تكون تلك المؤسسات متفقة مع المتطلبات التعليمية التي حددتها الجهات المختصة، والتي يجب أن تكون موجهة لتحقيق النماء الكامل للشخصية الإنسانية وزيادة احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية .
الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري 1965
المادة 5: تتناول تعهد الدول الأطراف في الاتفاقية بحظر التمييز والوفاء بعدد من الالتزامات وكفالة عدد من الحقوق من بينها الحق في حرية الفكر والعقيدة والدين .
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966
المادتان 18 و 26: تعد المادة 18 من العهد وثيقة الصلة بموضوع هذا الدليل، ووفقاً للعهد فإن للجميع الحق في التعليم الموجه لتحقيق التنمية الكاملة للشخصية الإنسانية واحترام حقوق الإنسان عن طريق تشجيع التفاهم، والسماحة، والصداقة بين الدول والجماعات العرقية والدينية .(1/24)
العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966
المادة 13: وفقاً لنص هذه المادة يجب أن تكون التربية الدينية والخلقية للأطفال ملائمة لرغبة الآباء والأوصياء وتتضمن هذه المادة عبارة "الإنماء الكامل للشخصية الإنسانية والحس بكرامتها وإلى توطيد احترام حقوق الإنسان" والتي يرد نصها أيضاً في عدد من الصكوك الدولية الأخرى .
اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1979
المادة 16: تتناول هذه المادة حقوق المرأة في إطار العلاقات داخل العائلة .
... هذا ؛ وقد قدمت بعض الدول الإسلامية تحفظات على الأحكام الواردة فيها لتعارضها مع قوانينها الوطنية أو مع رؤيتها لأحكام الشريعة الإسلامية .
وقد قامت اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة والتي تشرف على تنفيذ هذه الاتفاقية بالتعليق على التحفظات المتعلقة بالمادة 16 من الاتفاقية، وعرضت لبعض النقاط فيما يخص التعارض بين الالتزام بالاتفاقية والممارسات التقليدية سواء كانت دينية أو ثقافية .
وطالبت اللجنة الدول بأن تقطع دابر ممارسات يرجعها البعض إلى نصوص دينية كالإجبار على الزواج ، وقتل الشرف، وختان الإناث .
إعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التعصب أو التمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد 1981
... ... المادتان 1 و 8: يمثل هذا الإعلان الموضوع الرئيسي للدليل الذي بين أيدينا.
... ... راجع ما ورد سابقاً بهذا الخصوص للوقوف على الأحكام الموضوعية المتضمنة في الإعلان .
اتفاقية حقوق الطفل 1989(1/25)
المادة 14: تقر هذه المادة بحق الطفل في حرية الفكر والوجدان والدين . وتتميز هذه المادة عن المادة 5 من إعلان 1981 في أنها تحترم حقوق والتزامات الآباء والأوصياء ، ولكنها تؤكد على إعطاء توجيهات للطفل تلائم قدرته على النماء ، كما تنادى الدول بأن تحد من الممارسات الدينية أو المعتقدية التي قد تضر الطفل ، وذلك على نحو مماثل لما ورد في المادة 18 فقرة 3 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية . ووفقاً للاتفاقية فإن الطفل هو من لم يتجاوز الثامنة عشر .
التعليق العام رقم 22 للجنة المعنية بحقوق الإنسان بشأن المادة 18 1993
تلقي الفقرتان 1 و 11 من التعليق العام رقم 22 للجنة المعنية بحقوق الإنسان الضوء على أحكام المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية . ويسعى هذا التعليق شأنه في ذلك شأن كافة التعليقات العامة التي تصدرها الهيئات الإشرافية على معاهدات حقوق الإنسان إلى مساعدة المعنيين والدول الأطراف على إعمال الأحكام الواردة في المعاهدة ذات الصلة .
مشروع الإعلان الخاص بحقوق السكان الأصليين 1994
المادتان 12 و 13: يركزان على حق السكان الأصليين في أن ترد إليهم ممتلكاتهم الدينية والروحانية التي أخذت منهم عنوة، وحقهم في إظهار وممارسة وتطوير وتعليم تقاليدهم الروحانية والدينية، وضمان حفظ واحترام أماكنهم المقدسة ومقابرهم .
المطلب الثاني
إعلان الدول الأوربية
وجاء في إعلان ( روما ) حول حقوق الإنسان في الإسلام الصادر عن الندوة العالمية حول حقوق الإنسانية في الإسلام ( روما، 21 ذو الحجة 1420هـ الموافق 27 فبراير 2000م ) .
جاء في مبادئ هذا الإعلان ما يلي :
المبدأ الأول : أهمية ربط حقوق الإنسان بمرجعية تراعي المعتقدات والقيم الدينية التي أوصى بها الله سبحانه وتعالى على لسان أنبيائه ورسله .(1/26)
المبدأ الثاني : ضرورة ربط الحقوق بالواجبات من خلال مفهوم يرتكز على قاعدة التوازن بين وظائف الإنسان واحتياجاته في بناء الأسرة والمجتمع وعمارة الأرض ، على نحو لا يتعارض مع إرادة الله تعالى .
الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية 1950
المادة 9: تتضمن أحكاماً مناظرة لتلك التي وردت في المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان . هذا كما اعتمدت دول مجلس أوروبا أيضاً بروتوكول بشأن احترام حقوق الآباء في تربية أولادهم وفقاً لمعتقداتهم الدينية والفلسفية .
الدول المشاركة في مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا 1989
المبادئ 16 و 17: واعتمدت الوثيقة الختامية من قبل 35 دولة من الدول الأعضاء. تتمثل أحكام المادتان 16 و 17 منها أحكام المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وإعلان 1981. ينادي هذان المبدآن بالتحاور والاستشارة بين منظمة الأمن والتعاون في أوروبا والمؤسسات الدينية .
المطلب الثالث
منظمة الدول الأمريكية
الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان وواجباته 1969
المادة 12: تكرر هذه المادة ما ورد في المادة 18 في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .
المطلب الرابع
الاتحاد الإفريقي
الاتحاد الإفريقي منظمة الوحدة الإفريقية سابقاً الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب 1981
المادة 8: وفقاً لهذه المادة يجب أن "تضمن حرية الوجدان والممارسة الحرة للدين . لا يجوز أن يخضع أحد لإجراءات تحد من ممارسة هذه الحقوق، ويخضع ذلك للقانون والنظام".
المطلب الخامس
جامعة الدول العربية
الميثاق العربي لحقوق الإنسان 1994
... ... تعنى المادتان 26 ، 27 بحرية الدين والمعتقد .
المطلب السادس
منظمة المؤتمر الإسلامي
إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام 1981
تتناول المادتان 12 و 13 من الإعلان الحق في الحرية الدينية في الحدود التي تسمح بها الشريعة الإسلامية .
المطلب السابع
منظمات أخرى(1/27)
منظمة العمل الدولية
أنشأت منظمة العمل الدولية عام 1919. وتعد حالياً إحدى الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة وتعنى بنشر العدل الاجتماعي وحقوق الإنسان وبشكل خاص الحقوق المتصلة بالعمل المعترف بها دولياً . وتحتوي بعض الاتفاقيات التي اعتمدتها المنظمة على بعض النصوص الخاصة بحرية الدين أو المعتقد .
المبحث الثالث
الأصول الإسلامية
لمبادئ حقوق الإنسان
إن فكرة حقوق الإنسان في صيغتها الراهنة، ومن خلال الأسس التي قامت عليها الدعوُة إلى حقوق الإنسان ، يثبت لنا أن أغلب المواثيق والإعلانات والعهود الخاصة بحقوق الإنسان والتي تكاد تصل إلى مائة إعلان واتفاق وعهد دولي أخذت مبادئها الكلية ومنطلقاتها الأساس عن الأصول الإسلامية ، فلقد استفاد الغرب من عطاء الحضارة العربية الإسلامية عبر الأندلس وصقلية وإِبّان الحروب التي يسميها الغرب بالحروب الصليبية ، وكان من نتيجة ذلك، ظهور البوادر الأولى لحركات الإصلاح التي لم تكن بعيدًة عن التأثر ، بالفكر الإسلامي في نزوعه نحو التحرّر والانعتاق من العبودية لغير اللَّه ، وفي رفعه من مقام العقل، وفي احترامه لكرامة الإنسان ؛ لا يتردد الباحثون المنصفون ، في الإقرار بأن إعلان حقوق الإنسان والمواطن في القرن الثامن عشر الصادر عن الثورة الفرنسية، استند في بعض مبادئه ومنطلقاته ، إلى المصادر الإسلامية ، وبأن قانون نابليون ، تأثَّر في قواعده العامة ومبادئه بالفقه الإسلامي العظيم ولاسيما بالفقه المالكي كونه ملاصق للاستعمار الفرنسي في بلاد المغرب الإسلامي .
تكاد تكون المادة الأولى في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ترجمةً لقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ) .(1/28)
إن الإسلام كان الأسبق في إعلان حقوق الإنسان بمفاهيمها الواسعة، بضماناتها الكاملة الملزمة، قبل خمسة عشر قرنًا. وفضلا ًعن ذلك ، فقد كفل الإسلام للإنسان حماية شخصيته مادةً وروحاً ، صريحاً على التضامن الاجتماعي والسمو الخلقي ، كما أن الإسلام في كفالته لحقوق الإنسان، قد وَازَنَ بين مصلحة الفرد في صيانة حقوقه الأساس، وبين مصلحة الجماعة في التجريم والعقاب .
وأكثر المواد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، فهي تتطابق في جوهرها وعمقها وأصلها المبدئي، مع تعاليم الدين الحنيف ، على اعتبار أن الإسلام حرَّر الإنسان من العبودية ، وأخرجه من الظلمات إلى النور ، وكفل له الحريات العامة ، في إطار الضوابط الشرعية ، ووفق المنهج الرباني الهادي إلى الحياة الإنسانية الكريمة .
الباب الثالث
الحرية في الفكر الإنساني
والحل هو الإسلام
مشكلة حرية الإنسان ، من المشكلات التي عالجها علماء الفلسفة والأخلاق ، قديماً وحديثاً . ولا ريب أن من أبرز العوامل التي أضفت الأهمية على هذه المسألة ، شدة صلتها بحياة الإنسان .
كما أن مسألة الحرية هذه بقيت على الرغم من شدة اهتمام الفلاسفة بها وكثرة معالجتهم لها أكبر معضلة تأبت على كل الحلول والاقتراحات التي تطارحها الفلاسفة ، في مختلف عصورهم ، وعلى تنوع مذاهبهم واتجاهاتهم !.
لقد بقيت آراؤهم واقتراحاتهم معزولة ومحصورة على صعيد الأقوال وفي بطون الكتب ، وظل واقع المجتمعات الإنسانية بعيداً عنها ، حيث سارت الحرية الإنسانية متلونة ومتأثرة بأسباب وعوامل كانت في كثير من الأحيان عوامل عشوائية كيفية خلال قرون متطاولة امتدت إلى هذا العصر .
... وإذا تبين لنا أن كل ما خلَّفه الجهد الفلسفي ؛ قديماً وحديثاً ؛ من مذاهب وآراء عن حرية الإنسان ليس إلا تعبيراً واضحاً عن المشكلة التي استعصت على الحل .(1/29)
يجدر بنا عندئذٍ أن نصغي إلى الحل الذي تقدم إلينا به الإسلام ويعتقده المسلم الذي وعى إسلامه في سلوكه وممارسته العملية للحياة .
... تكمن المشكلة في كون جميع الفلاسفة قد اتفقوا على أن الرغبة في ( اللاقيد) حيال اختيارات الإنسان بصدد سلوكه الظاهر ونشاطاته الفكرية والباطنية ، شعور أصيل في كيانه ومطلب أساس في حياته ، فإنهم رأوا أن هذا الشعور يصطدم بعدة حقائق ثابتة لا مفرّ من الاعتراف بها ولا جدوى من إنكارها ، ثم إنهم لم يهتدوا إلى سبيل سليم لإقامة توازن متكافئ بين هذا الشعور الأصيل وتلك الحقائق .
فهو يصطدم بالضرورة أو الحتمية سواء ما كان منها داخلياً يشعر به الإنسان في أعماق كيانه ، وما كان منها خارجياً يتمثل في قوانين الطبيعة وأحكامها الثابتة الصارمة ، وهو يتصادم ثانياً مع القيم على اختلاف الناس في فهم جوهرها وموازينها ، وهو يتصادم ثالثاً مع أنظمة الحكم وسياسة الدولة ، أيَّاً كان شكل هذا الحكم ، وأيَّاً كان المذهب السياسي المتبع ، إذ هي لا يمكن أن تنهض إلا على نوع من الضبط والتقييد .
فهذه المقابلات المتعارضة ، هي لبُّ المشكلة التي وقف عندها الفلاسفة قديماً وحديثاً. ثم لم يجدوا سبيلاً إلى حلها أو اجتيازها ؛ وما تدور بحوثهم ومسائلهم عند الحديث عن الحرية إلا على محور هذه المشكلة ، وما تفرّقوا أوزاعاً وتشتتوا بين الفرضيات والآراء المتنافرة في شأنها إلا أملاً في العثور على حل يكمن هنا أو هناك .
... ولقد انتهى بعضهم من ملاحقة هذه التصورات والتأمل إلى الاقتناع بأن الحرية وهم باطل وسراب لا وجود له ؟!!
غير أن المشكلة الحقيقية التي تنعكس على الواقع : الواقع الفردي والاجتماعي ، هي مشكلة البحث في جواب علمي سليم عن السؤال التالي : كيف أُوفق بين حريتي الذاتية من جهة، وكل من الضرورات القائمة والقيم المرعية والانضباط بأنظمة الدولة ومقتضيات القانون من جهة أخرى .(1/30)
إن الإنسان يتمتع بحرية نسبية محدودة ، ثم إن هذه النسبية تتسع وتضيق حسب الأحوال والظروف ، وعندئذٍ يصبح التوفيق بين الحرية والضرورة سارياً على كل الناس في جميع أحوالهم وتقلباتهم .
وللنفس دائماً منطقها الذي تنقاد وتثور بموجبه ، كما أن للعقل منطقه الذي يتجه ويسير عليه ، فلا جرم كان من المتوقع أن يهيج بكثير من الناس هائج النفس والهوى ، عندما يرون أن حريتهم غدت ضحية لضرورات المذاهب المتطاحنة والقيم المتصارعة . .
لقد علمنا أن جميع الاتجاهات والمذاهب الفلسفية القديمة والحديثة ، لم تهتد إلى سبيل سائغ لتقويم حقيقة معنى الحرية لدى الإنسان وتنسيق ما بينها وبين ضرورات الكون والمجتمع ، بل لم تزد على أن أرهقت الناس بأفكارها المتصارعة تحت وطأة مشكلات مستعصية مغلقة لا سبيل للتخلص منها .
وهنا يأتي دور الإسلام الذي جاء لينجد الإنسان بحل تلك المعضلات التي لم يستطع أن يستقل بحلها والقضاء عليها.
الحل الذي يعرضه الإسلام لهذه المشكلة يكمن في اليقين الراسخ بأن الإسلام من عند الله عز وجل.
يبدأ الإسلام بحل هذه المعضلة من نقطة أساسية مهمة، هي تعريفه الإنسان على ذاته تعريفاً دقيقاً ، ولأهمية هذه النقطة نجد آيات من القرآن الكريم تتضمن تعريف الإنسان على ذاته من حيث المبدأ والمنتهى ، ومن حيث القدرات التي يتمتع بها ، ومن حيث الروح التي تسري في كيانه ومآلها بعد مماته .(1/31)
والقرآن الكريم يرشدنا إلى أن معرفة الإنسان ذاته معرفة دقيقة، هي المنطلق إلى سائر العلوم والمعارف المختلفة، فإذا أصغينا إلى كتاب الله تعالى علمنا أن الإنسان مخلوق من نوع فريد، أبدعه الله عز وجل، وأنه مهما اتجه وتقلّب يدور في قبضته وتحت سلطانه، وهو يحتاج في كل لحظة إلى عناية الله به ورعايته له. فوجوده يتحدد في كل لحظة بخلق جديد، وأن كل ما يتمتع به من ملكات وصفات أمانة استودعت عنده إلى حين ، وهو منفعل بهذه الصفات وليس فاعلاً لها ، فهو قوي ولكنه لا يدري كيف انسكبت القوة في كيانه ، ولا يدري أي سبيل لاستبقائها عندما تبدأ بالتراجع والذبول .
وهو عاقل يفكّر لكنه لم يغرس هذا العقل في رأسه بجهده أو مشيئته، ولا يملك أن يبقيه إلى أرذل العمر , وهو ينطق ولكنه لا يعلم كيف تكلم ، وينام دون أن يدري كيف نام ويستيقظ ولا يعلم كيف تمت عملية الاستيقاظ ، ويرحل من هذه الحياة دون أن يملك حيال ذلك أي تصرف أو إرادة نافذة ، وهذا معنى قولنا : ( الإنسان منفعل بصفات إنسانيته وليس فاعلاً لها ) .
والسمة الجامعة لكل هذه الظواهر في شخص الإنسان، هي أنه عبد، عبد لمن هو مستقر في قبضته، ولمن يتولى تدبير أمره على النحو الذي يشاء ابتداء ودواماً وانتهاء ، فصفة العبودية إذن للإنسان لا تكون حقيقة إلا بالنسبة لله عز وجل وهذا هو قرار الله تعالى في بيانه المعجز : { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً{93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً{94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } (1) .
وعلى هذا، فالإنسان لا يتمتع بأية حرية داخلية متعلقة بجوهر الإنسان ، إذ كيف يكون حرّاً وهو عبد..؟ كيف يكون حراً وهو لا يملك من أمر نفسه شيئاً.
__________
(1) ... مريم : 93-94-95.(1/32)
وإذا تأملنا جيداً أدركنا أنه لا ثمن لهذا التحرر إلا الإذعان الصحيح لتلك العبودية ، وقد أبرز القرآن هذا التلازم ببيان صريح، وذلك في قوله عز وجل : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ } (1) .
ومن آثار هذا التلازم ؛ أن تنطوي وتزول مشكلة النقاش والجدل الدائبين حول المذاهب والضرورات التي يتطارحها الناس ليقيد بعضهم بعضاً بها ، وذلك نظراً لتساويهم جميعاً في الفكر والنظر ، واقتناعهم جميعاً بأن ما يخطه لهم سيدهم ومالكهم من المناهج والسبل هو المذهب السديد الذي لا مناص من اتباعه والحق الذي لا مرية فيه.
إن بوسع كل من يتأمل شرائع الإسلام وقيمه الأخلاقية أن يرى كيف أنها فُصِّلت على قدر ما تتطلبه الفطرة الإنسانية السليمة، لإصلاح حال كل من الفرد والمجتمع وإسعادهما، و أنها تنسق بدقة متناهية بين مصلحتي الفرد والمجتمع دون أن يقع أي إجحاف لأحد الطرفين.
ومن أبرز ما تمتاز به شرائعه القانونية وقيمه الأخلاقية ؛ أنها تدور على محور المصالح الإنسانية في كلا شطري حياة الإنسان: معاشه القصير في الدنيا، ومعاده الطويل في الآخرة.
وأما القيم الأخلاقية فتمتاز بأن أحكامها ثابتة مبرمة، لا مجال فيها لأي تبديل أو تحويل، ولا تتأثر بتطور أو اختلاف العادات ، وحيثما يسود الإسلام عن دراية ووعي ، تستقر القيم الأخلاقية على أساس ثابت لا اضطراب فيه مهما اختلفت الأعراف والأعراق وتباعدت الأقطار أو تبدلت الأزمان.
وأما الشرائع القانونية فتدور بكل جزئياتها المتنوعة على محور المصلحة الإنسانية المنظور إليها من خلال ارتباط المعاش الدنيوي اليوم بالمعاد الأخروي غداً ، وإنما المقوم لهذه المصلحة هو الله عز وجل.
__________
(1) ... آل عمران : 64.(1/33)
وهذه الشريعة هي التي تكفل التحرر الحقيقي الأصيل في المجتمع الإنساني ، فالناس في ظل هذا الشرع متساوون في الحقوق والواجبات ، لا يعترف لأي طبقة منهم بأي نوع من أنواع الامتيازات المعروفة في النظم والشرائع الوضعية، ولا يملك أي فرد أو طبقة منهم سلطة تقنين ولا تشريع، وإنما هي سلطة حراسة وتنفيذ فقط.
فالاختيار الذي يمارسه أحدنا لا يتحقق إلا من تلاقي طرفين : أحدهما مستقر في أغوار مشاعرنا ، وثانيهما مرتبط بقوانين الكون وأنظمته ، وليست الحرية في حقيقتها وواقعها – مهما اختلفت الأقاويل حولها – أكثر من أن يمتلك الإنسان فرصة التنسيق بين هذين الطرفين بقرارات من انبعاثه الداخلي الذي يسمى بالرغبة أو الإرادة.
وواضح أن الطرف المرتبط بقوانين الكون هو القطب الثابت، على حين لا يشكّل الطرف الآخر إلا الاتجاه المتحرّك نحوه من خلال سبل شتى .
إذن، فلا مناص من أن نبحث عن حريتنا، وأن نتعرف على حجمها الحقيقي، ضمن نطاق هذا القانون المهيمن . . بل أقول بتعبير أوضح، لا مناص من أن نحصن حريتنا بممارسة عبوديتنا الحقيقة لله عزّ وجل إن أردنا لأنفسنا الحرية حقاً . وهيهات أن يذوق طعم الحرية الصافية من تاه عن سيده ومولاه، ثم هام على وجهه في صحراء التأله والبغي والعدوان ، أو وقع في أسر التبعية وذل الاستعباد. وهيهات أن يعرف الإذلال والاستعباد (1) .
خاتمة البحث
__________
(1) ... أبحاث في القمة / للأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بتصرف ؛ وانظر ( خصائص الفكر الإسلامي ) للمؤلف في مواضع متعددة .(1/34)
أضع القلم عن هذا الذي كتبت في هذا الموضوع الشائك ، لا أدَّعي فيه أني وفّيت الأمر حقه ، لا بل هو جُهُدُ مُقِلٍّ، فما كان صواباً فمن الله وله المنة والفضل ، وما كان سوى ذلك فمني وأستغفر الله وأستعينه ، ولا أقول إنه حكم الله في هذه القضية بل هو مجرد اجتهاد فما كان صواباً فلي فيه أجران وما كان خطأً فحسبي ذلك الأجر الواحد ، ولعلي سلطت الأضواء على موضوع جسيم كهذا يحتاج إلى عشرات الأبحاث ، والذي يهمني من هذا كله أن موضوع الحرية لم يبق بغير ضوابط ، بل أصبح مضبوطاً معروف الأبعاد ، سواء أكان ذلك في الحرية بشكل عام أم في الحرية المنبثقة من الإسلام .
وكان للحرية وحقوق الإنسان بما في ذلك القرارات الدولية مَهْيَع واسع لعلّه كان بيت القصيد في هذا البحث كلّه ، وختم البحث بالباب الثالث وهو ( الحرية في الفكر الإنساني والحل هو الإسلام ) .
فلعل الباحثين يولون هذا الأمر حقه من الدراسات الرصينة فهو موضوع الساعة ، والعالم كله من شرقيه إلى غربيه ، من شماليه إلى جنوبيه يتطلع إلى الإسلام المنقذ لهذه البشرية الغارقة في الحروب وويلاتها إلى واحة السلام العالمي في ظلال هذا الدين القيم { َ ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ{4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } (1) .
المصادر
الأصبحي ... مالك بن أنس ... الموطأ
البخاري ... أبو عبد الله محمد بن إسماعيل ... الجامع الصحيح
البيهقي ... السنن الصغرى
شعب الإيمان
البوطي ... د محمد سعيد ... سلسلة أبحاث في القمة
التركي ... عبد الله بن عبد المحسن ... حقوق الإنسان في الإسلام
الترمذي ... أبو عيسى محمد بن سورة ... الجامع الصحيح
التويجري ... عبد العزيز بن عثمان ... حقوق الإنسان في التعاليم الإسلامية
أبو داود ... سليمان بن الأشعث السجستاني ... السنن
الشيباني ... أحمد ابن حنبل ... المسند
الصالح ... العلامة الدكتور صبحي ... الشروط العمرية
الطبراني ... المعجم الكبير
__________
(1) الروم : 4-5 .(1/35)
الغزالي ... أبو حامد محمد بن محمد ... فيصل التفرقة
تهافت الفلاسفة
الفرفور ... محمد عبد اللطيف صالح ... خصائص الفكر الإسلامي
القشيري ... أبو الحسين مسلم بن الحجاج ... الجامع الصحيح
القضاعي ... شهاب الدين ... مسند الشهاب
ابن القيم ... أحكام أهل الذمة
ابن ماجه ... القزويني ... السنن
ابن هشام ... الكلبي ... سيرة ابن هشام(1/36)