منازل العباد
بين
القوة العلمية والقوة العملية
تأليف
أبي عاصم
هشام بن عبد القادر بن محمد آل عقدة
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فيقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: "فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله"(1).
بين القوة العلمية والقوة العملية
وقوع التناقض بين القوة العلمية والقوة العملية:
فإن مما يحزّ في القلب ويؤلمه أشد الألم أن يجد العبد نفسه مبصرًا للطريق ولكنه يضعف عن السير فيه... أو يجد نفسه عالمًا بما ينبغي أن يقوم به من عمل ولكنه لا يجد في نفسه همة للفعل والأداء... أو يجد نفسه عالمًا بصفات المؤمنين وأحوال قلوبهم من الطمأنينة والرضى والصبر والثبات وغير ذلك ولكنه لا يجد قلبه كذلك في المواقف التي يحتاج فيها لتلك المعاني... أو يجد نفسه قادرًا على ذكر ما ينبغي للمسلم من الخلق ومن قول كلمة الحق ولو على نفسه، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بحقوق الأخوة، ومن النشاط في الدعوة وغير ذلك ثم لا يجد في نفسه قوة في القيام بشيء من ذلك.
وفي المقابل، ومما يزيد العبد العالم بكل ذلك حسرة وألمًا، أن يجد كثيرًا ممن لا يعلمون مثل علمه ولا يقولون مثل قوله، وليس لديهم فصاحة كفصاحته، يجدهم أقوى منه قلبًا وأكثر منه عملاً وأشد منه خشية لله وحماسة للدين وغيرةً عليه...
القوة العلمية وحدها ليست كافية للسير في الطريق:
__________
(1) …طريق الهجرتين ص172.(1/1)
وتفسير ذلك أن القوة العلمية ليست كل شيء... وليست وحدها كافية للسير في الطريق... وهذا ما أشار إليه العلامة ابن القيم رحمه الله في درة من نفيس كلامه إذ يقول: "قاعدة: السائر إلى الله والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية وقوة عملية..
فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك فيقصدها سائرًا فيها ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل.
وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية؛ فإن السير هو عمل المسافر، وكذلك السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها وأبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقي عليه الشطر الآخر وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافرًا في الطريق قاطعًا منازلها منزلة بعد منزلة..."(1).
أقسام العباد بالنسبة للقوتين: العلمية والعملية:
فإذا علمنا أنه بالقوة العلمية والقوة العملية يتمكن العبد من السير إلى ربه فينبغي أن نعلم أن هاتين القوتين تتفاوتان في العبد... وقد يغلب على عبد القوة العلمية فيعلم الطريق وربما يُبصِّر به غيره... ويعلم الداء والدواء ولكن تضعف عنده القوة العملية، فهو يصف الطريق ولا يسير فيه ويعلم الداء وهو مصاب به، ويصف الدواء ولا يتناوله.
__________
(1) …طريق الهجرتين ص171، ببعض الاختصار.(1/2)
وقد يغلب على عبد القوة العملية الإرادية... فمع كونه أقل علمًا من سابقه، ولا يجيد توصيف الأمور، ولا يجيد الكلام ولا الجدال، إلا أنه أسلم قلبًا وأقوى عزيمة من الأول، وأزهد في الدنيا وأشجع في المواقف وأصبر في المصائب، ويسير إلى ربه سيرًا حثيثًا، وهذا إذا كان عنده الحد الأدنى من القوة العلمية التي تصح بها عبادته وعقيدته فهو أسعد حالاً ومآلاً من سابقه، أما إذا اضمحلت فيه القوة العلمية حتى صار يعبد الله على جهل ويدعو إليه على جهل فهذا يخشى عليه من التخليط والتخبط عند ورود الشبهات.
ومن ثم فإننا نجد ابن القيم رحمه الله يقسم الناس من حيث هاتين القوتين إلى أربعة أقسام: قسم تغلب عليه القوة العلمية، وثَانٍ تغلب عليه القوة العملية، وثالث له القوتان معًا، ورابع ضعفت فيه القوتان.(1/3)
فيقول رحمه الله: "من الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل(1)، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم(2)، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله...
ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والجد والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم.
ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته.
__________
(1) …وهذا يذكرني بحال من يتحدث عن موقف المسلم عند الغضب أو في الفتن فإذا كانت فتنة وقع فيها ولم يعمل بما يقول، أو بحال المرء حين يكون عالمًا بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا ما كان موطن الأمر والنهي لم تنشط نفسه لذلك، وإذا بمن هو أقل منه علمًا يتولى ذلك وينشط له، وقُلْ مثل ذلك فيمن يَعْلَمُ ما ينبغي فعله بالميت ساعة الاحتضار وفي تغسيله وتكفينه ودفنه، فإذا حضر ميتًا صار كمن لا علم له بذلك، فهو فقيه ما لم يحضر العمل!!
(2) …وهي كلمة مخيفة، ولفتة عظيمة تجعل كل مشتغل بالعلم يخشى على نفسه من ذلك الضعف وتلك الآفة.(1/4)
فإذا كان السير ضعيفًا، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا فإنه جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء"(1).
لمن أسوق كلام ابن القيم؟
وقد قصدت سوق كلام ابن القيم رحمه الله في تفاوت العباد في القوة العلمية والقوة العملية إلى طائفة الملتزمين بالدين في مجتمعنا أو المنسوبين إلى العلم أو الفكر أو الدعوة؛ أولئك الذين نحسن فيهم الظن ويُرجى منهم الخير، ومع ذلك فقد يقع فيهم قدر من الخلل في هاتين القوتين دون أن يصل الأمر إلى التناقض المطلق بين القوة العلمية والقوة العملية أو تنعدم إحداهما بالكلية، فهذه الدرجة الشنيعة يشبه أصحابها المنافقين الذين ظاهرهم في واد وحقيقتهم في واد آخر، أو المغضوب عليهم الذين علموا الحق وعملوا بغيره أو الضالين الذين عبدوا الله على جهل، وهذا كله له تعلق بمسألة التفاوت بين القوة العلمية والقوة العملية وأثره على واقع العبد ومصيره، وكذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3].
فهاتان الآيتان لهما أيضًا تعلق بموضوعنا، فالذي يقول ما لا يفعل أنواع كثيرة منها: من يعمل عملاً معاكسًا لقوله، ومنها المتشبع بما لم يعط، ومن يوهم الآخرين بأنه في وضع معين من العمل أو الاستعداد للبذل والتضحية فإذا احتيج منه إلى ذلك لم يكن فعله كقوله، ومنها أن يقول قولاً أو يَعِدَ وعدًا ولا يفي به، وقد قيل إن الآيتين نزلتا في هذا وأن الذم الوارد فيهما يشبه الذم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "آية المنافق ثلاث" فذكر منها: "وإذا وعد أخلف"(2).
__________
(1) …طريق الهجرتين ص172، 173، ببعض الاختصار.
(2) …رواه البخاري، ومسلم، جامع الأصول (11/569).(1/5)
وذهب الجمهور إلى أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم فلما فُرِضَ نكل عنه بعضهم؛ فهي نحو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 77، 78].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ناس من المؤمنين قبل أن يُفْرَضَ عليهم الجهاد يقولون: لَوَددْنَا أن الله عز وجل دَلَّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}، وهذا اختيار ابن جرير، وقد قيل إنها نزلت في قوم يقولون: قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا، ولم يكونوا فعلوا ذلك(1).
وعلى كل حال فالمقصود أني لا أوجه هذا الموضوع ولا أقصد به قومًا يكذبون فيقولون شيئًا يخبرون به عن أنفسهم لم يفعلوه، ولا أقصد رجلاً يقول الباطل، ولكن أكتب هذا الكلام لرجل إن لم يقل الحق لم يقل الباطل، فالكلام إذن لقوم ليس عندهم نفاق أو كذب أو انتهاك للحرمات بينما هم أصحاب ألسنة عليمة فصيحة، فهؤلاء أمرهم في غاية الشناعة، والكلام فيهم معلوم مكرور.
__________
(1) …انظر: تفسير ابن كثير، سورة الصف.(1/6)
ولكني أعالج ظاهرة لا تبدو فيها هذه الشناعة، أو ذلك التناقض الصارخ بين العلم والعمل، وإنما يكون فيها الجانب العملي ضعيفًا إزاء الجانب العلمي دون أن يكون الشخص فاعلاً للشرور أو منهمكًا في المعاصي والآثام. وهذا سبب غموض المشكلة وإهمالها، وهو أن الشخص مع وجود خلل ما في شخصيته وتفكيره وتأثيره لا يشعر بذلك؛ لأنه ليس ثمة انحراف ظاهر في سلوكه أو عبادته، وإنما النقص في عدم مواكبة أحواله القلبية وجهوده العملية لقوته العلمية، فالقوة العلمية جيدة لكن القلب قاس والعبادة سريعة خفيفة، والورع معدوم، والغيرة على الدين ضعيفة، والبذل والتضحية والتنازل عن بعض الحقوق أو المصالح الشخصية من أجل الدعوة لا موضع لها في الواقع، والحياة للدعوة مفقودة، والحرص على هداية الآخرين غير موجود، والزهد في الدنيا لا مكان له، فصار الحال كما يصوره الشاعر:
وكلهم في لهيب القول عنترة
………وكلهم في لهيب الفعل كالوتد
فمثل هذه الشخصيات التي نمت نظريًا أو علميًا أو فكريًا ولم تنم علميًا وروحيًا ودعويًا فتنة للمتعلمين والمتربين، ولهذه الشخصيات تأثيرها السلبي على المسيرة التربوية، حيث يصبح مألوفًا أن نقرأ ونتعلم ثم نتكلم أو نكتب حتى يشار إلينا بالبنان، ولا يهم بعد ذلك أن تكون أرواحنا وقلوبنا وأعمالنا وبذلنا على نفس الدرجة التي يوحي بها كلامنا أو شهرتنا.. وبالإضافة إلى ذلك فهذه الشخصيات لا تؤثر مواعظها في القلوب كما قال مالك بن دينار رحمه الله: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زَلَّتْ موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا. وعن عبد الله بن المبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق.
مفاضلة بين نموذجين:(1/7)
إذا كان لابد أن نفاضل بين هؤلاء وهؤلاء؛ يعني إذا كان من الصعب أن يسود النموذج المثالي الذي تتكافأ فيه القوتان العلمية والعملية وأردنا أن نفاضل بين هؤلاء الذين غلبت عليهم القوة العلمية مع ضعفهم وانهيارهم عمليًا، وبين قوم أقل منهم علمًا وفكرًا ـ ولا نقول جهالاً أو مبتدعين ـ ولكن أقوى تأثيرًا في الآخرين وأعظم في تقديم النموذج الملتزم العالم العابد الزاهد المتحمس للدين... فلا شك أن النوع الأخير أو النموذج الأخير ـ وهو أقل في قوته العلمية ـ خير من النموذج الأول صاحب القوة العلمية مع ضعف وخور وكسل وبرود في النواحي العملية؛ إذ النموذج الأول فتنة ومدعاة للفتور، والنموذج الثاني قدوة ومدعاة للعمل والإخلاص، وأصلح قلبًا وأقرب إلى النجاة في الآخرة حيث صلح قلبه وعمله، والنوع الأول جعل جل همه صلاح الكلام والفكرة، وبكلامه صار عظيمًا في عين نفسه وفي أعين الناس ولكن الله يعلم ما في قلبه وعمله من الضعف، ولذلك تظهر في الآخر مفاجآت... حيث توزع المقاعد في الجنة بمقاييس غير تلك التي توزع على أساسها المقاعد والدرجات في الدنيا، فنرفع فلانًا إلى هذه المكانة أو تلك ونغفل عن فلان ونتجاهله أو لا نفطن له، ويوم القيامة تظهر الحقائق، فهو حقًا "يوم التغابن" ... فكم من مشهور مرفوع في الدنيا قد يكون رَفَعَهُ حُسْنُ كلامه وكَثْرَةُ علومه ورَوْعَةُ أفكاره ولكنه يوم القيامة ليس له قدر يُذْكَر عند الله عز وجل:{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]، وكم من مغمور في الدنيا لا يشار إليه بالبنان ولا يُتحدث عن عمله ولا يجيد الكلام ولا الجدل ولا التحذلق وهو يوم القيامة من الملوك العظام في الجنة! نعم والله... {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3]. فربما خفضت من لم يتوقع البشر المحجوبون انخفاضهم، ورفعت من لا يُتوَقْع ارتفاعُهم. فممن يقع لهم التغابن والخفض والرفع يوم القيامة أصحاب القوة(1/8)
العلمية والقوة العملية، وذلك أن المتميزون علميًا وفكريًا في الدنيا، إلا من رحم الله، يحسبون أنفسهم هم القوم وإن قصروا في العمل، بل ويعظمهم المتميزون قلبيًا وعمليًا لسلامة قلوبهم وهم لا يدرون أنهم أحسن حالاً ومآلاً عند الله جل وعلا.. فهذا عدله سبحانه أن يرفع أصحاب القلوب السليمة والبذل الكثير، وإن لم يكونوا علماء أو مفكرين، على أصحاب الكلام والعلم والفكر الذين لم تنتفع قلوبهم بكلامهم، ولم يدل سلوكهم على علمهم، ولم يدل بذلهم وعطاؤهم على فكرهم.
عدم ركون الصالحين من العلماء إلى قوتهم العلمية:
ولهذا كان من مضى من صالحي العلماء يخافون على أنفسهم من الضعف العملي، ولا يركنون لشهرتهم العلمية، بل يكرهون أشد الكراهية أن يتضخموا علميًا أو يشتهروا أو يعظمهم الناس، وليس في قلوهم ما يكافئ ذلك. ولهذا جعلوا نظرهم إلى حقيقة الأمر عند الله عز وجل، وكان أهم شيء عندهم صحة قلوبهم وتقربهم إلى ربهم، وكانوا يجدون لذتهم في أن يُعَامَلُوا كعامة الخلق دون مزيد تعظيم أو تضخيم... فهذا ابن المبارك العالم المشهور زوحم يومًا مع تلميذ له عند الماء وقد أراد أن يشرب ولم يكن أهل ذلك المكان يعرفونه، فلما زحموه ولم يوسعوا له أشفق عليه تلميذه وشق ذلك عليه، فالتفت إليه ابن المبارك قائلاً: ما العيش إلا هكذا... حيث لم تُعْرَفْ ولم تُعَظَّم.
وكان من مضى من صالحي العلماء لا يسمحون لعلومهم أن تشغلهم عن قلوبهم وعبادتهم وبذلهم وعطائهم، فقدوتهم في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لم يقف عند تلقي العلم من جبريل عليه السلام بل شمر عن ساعده في تعليمه الخلق، ومع ذلك لم يشغله هذا وذاك عن قيام الليل حتى تفطرت قدماه... والذي يتأمل سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن القيم رحمهما الله يجد قوة عملية عظيمة في أحوال قلوبهم وفي عبادتهم وفي دعوتهم وفي جهادهم، ولم يقصروا في ذلك اعتمادًا على ما تميزوا به من قوة علمية.(1/9)
الأنبياء يقصدون إلى علاج الأمراض، والفلاسفة يستغرقهم ذكر أسبابها ووصف أعراضها:
وهذا فرع من كمال قوة الأنبياء العملية ومن اهتدى بهديهم من العلماء الصالحين؛ فقد كانوا في مواجهة الانحرافات يقومون بجهود عملية لعلاجها ولا يقفون عند وصفها وتحليلها وبيان أسبابها، هذا أحد الفروق التي ذكرها العلماء بين علم الأنبياء وأتباعهم وبين علم الفلاسفة وأتباعهم؛ فالنبي ينشغل بالعلاج من أقرب طريق وأسهله، والفيلسوف إنما يهمه الاستغراق في أسباب العلل وأعراضها ويصف ذلك ويحلله، ولكنه يُعْرِضُ عن العلاج وإن تطرق إليه فبكلمات عامة لا تحدث تأثيرًا عمليًا، أو يصف علاجًا على غير طريق الكمال والصلاح.
ومما يتعلق بالجوانب العملية من تطبيقات أن من مضى من العلماء كانوا يستبيحون التفريع في المسائل الفقهية التي يُتَوَقَّعُ الاحتياج إليها نظرًا لتعلقها بالعمل ولا يستبيحون الخوض فيما خفي من المسائل الاعتقادية لعدم احتياجها للعمل، كما أنهم أيضًا كرهوا التفريعات حتى في المسائل الفقهية التي لا يُتَوَقَّعُ حصولها أو السؤال عنها، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كثرة السؤال(1) عمومًا، توجيهًا منه للأمة إلى الانشغال بما علمته، وأن يكون عملها أكثر من كلامها وسؤالها، وهذا كله يبني في الأمة القوة العملية.
أيهما أسعد حالاً؟
__________
(1) …كما في حديث الصحيحين "إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال" جامع الأصول (11/722) وفيهما أيضًا: "ذروني ما تركتكم"، "وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم" جامع الأصول (3/3).(1/10)
ولك ـ أخي القارئ ـ أن تتأمل وتتساءل وتتفكر: أيهما أسعد حالاً عند الله.. رجل أوتي من العلم ما يتمكن به من حشد النصوص الدالة على فضل قيام الليل وذكر الأسباب الميسرة له وما له من الآثار والفوائد ثم هو لا يقوم الليل، وآخر لا يعلم من ذلك إلا أن قيام الليل مستحب وقد داوم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاجتهد ليله بين يدي ربه قانتًا ساجدًا وقائمًا وباكيًا يَحْذَرُ الآخرة ويرجو رحمة ربه.
فالمرء لا يكون قائمًا الليل بمجرد العلم بقيام الليل وفضله وأحكامه وفوائده، أو بمجرد الحديث عن ذلك، ولا يكون ورعًا بمجرد علمه بالورع، ولا يكون غاضًا لبصره حافظًا لفرجه بمجرد حديثه في ذلك وأمره الناس به، ولا يكون مخلصًا بمجرد علمه بمعنى الإخلاص ومعنى الرياء أو بمجرد حديثه في ذلك، كما لا يكون العبد داعية بمجرد كلامه عن الدعوة وعلمه بوسائلها وآدابها، ولا يكون مربيًا بمجرد علمه بمعنى التربية وطرقها، ولا يكون قائمًا بحقوق الأخوة بمجرد ذكره لها وتعليمها الناس، بل قد يكون غيره أقوم منه بتلك الحقوق وأصدق في المحبة، ولا يكون العبد قوي الإيمان بمجرد علمه بعقيدة أهل السنة في الإيمان والإحاطة بكافة التفاصيل والمسائل المتعلقة بذلك أو بعلمه بعوامل تقوية الإيمان وعوامل ضعفه، ومظاهر قوة الإيمان ومظاهر ضعفه. فقد يعلم الرجل كل هذا بل ويتحدث عنه ويصنف فيه ومع ذلك يكون ضعيف الإيمان، في الوقت الذي يكون غيره ممن لم يُحِطْ بجميع ذلك ولا يجيد الحديث فيه أقوى إيمانًا ويقينًا، فأيهما أسعد حالاً؟!(1/11)
وقد نجد شيخًا يُعَلِّم الناس أن يثقوا بالله ويتيقنوا أن رزقهم على الله وأنه لا أحد يستطيع منع رزق الله عنهم، وأن الإنفاق في سبيل الله لا ينقص الرزق وأنه ما نقصت صدقة من مال ويحذرهم من البخل والشح وهكذا، فإذا ما قدر عليه رزقه في يوم من الأيام أو طلبت منه نفقة في سبيل الله كان أشد جزعًا من الجهال، بل ربما كان في العوام ممن هم أفقر منه مَنْ هو أهنأ بالاً منه وأوثق بالله وأسرع إلى الإنفاق في سبيل الله، فمن أسعد حالاً عند الله عز وجل؟ صاحب القوة العلمية الذي لم يثق برزق ربه وبَخِلَ بماله على دين الله، أم العامي صاحب القوة العملية الواثق برزق الله المنفق في سبيل الله؟ من أسعد حالاً ومآلاً: رجل يتكلم كلام الشجعان أو الصابرين، ويعلم ما هي الشجاعة أو ما هو الصبر، وما معناه في اللغة والاصطلاح، وما الفرق بين الصبر والرضا... إلى آخره، فإذا ما جد الأمر كان أجبن الخلق، ولا صبر ولا رضا، وآخر شجاع في مواطن الخوف، صبور في النوازل، راضٍ في البلاء، وإذا سألته ما تعريف الصبر لم يجب؟(1/12)
أيهما أعظم أثرًا في الناس وأعظم مكانةً في الآخرة، رجل يتحدث عن الإيثار أو عن الزهد ويعرف ذلك في اللغة والاصطلاح، ويعرف الكثير من أخبار الزهاد وقصصهم وفضل الزهد وأخبار أهل الإيثار وفضلهم، ثم هو في واقع حياته الشخصية يموت على الدينار والدرهم ويسيء إلى نفسه ودعوته بسبب حرصه الشديد على الدنيا أو على راحة نفسه ومصلحتها الشخصية، وهو وإن كان يحدث الناس عن الإيثار بلسانه فإنه يعلمهم بعمله وسلوكه الأنانية والامتناع عن الإيثار، ويعلمهم التنافس على الدنيا وحظوظها ولو على حساب الدعوة والتربية.. فهل هذا أحسن أثرًا في الدنيا وأعظم مكانة في الآخرة أم رجل لا يعلم علمه ولا يجيد أن يقول مثل قوله ولكنه بحاله وواقعه نموذج في الزهد في الدنيا وعدم الحرص عليها، ونموذج في الإنفاق في سبيل الله وفي إيثار إخوانه على نفسه... هل يستويان؟ رحم الله من قال: أخشى أن يكون حظي من علمي لساني.
وأيهما أسعد حالاً عند الله: رجل عالم بمعنى الشكر في اللغة والاصطلاح، والفرق بينه وبين الحمد، وكيف يكون الشكر في السراء والضراء إلى غير ذلك، وهو في حياته لا يشعر بنعمة الله عليه ولا يقدرها ولا يحسن شكرها، فهل تراه أسعد حالاً عند ربه من ذلك الرجل البسيط المغمور مقطوع اليدين والرجلين وهو يلهج بحمد ربه ويشكره فيُسأل عن ذلك فيقول: أحمد الله أن رزقني لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وبدنًا على البلاء صابرًا.
وآخر تجده يحدث الناس عن الثقة بنصر الله ويحذرهم من اليأس ويذكر لهم البشارات بانتصار أهل الحق ثم إذا به أول من ينقطع في الطريق ويحطمه اليأس.. فهل يستوي وآخر لو قيل له ما البشارات التي تدل على أن النصر حاصل للدعاة لم يستطع ذكرها ولكنه قمة في الصلابة والعزة والتفاؤل وعدم اليأس.(1/13)
وكذلك والله لا يستويان: رجل يتحدث عن أمراض الأمة وما أصابها وأسباب ضعفها وكيفية إحيائها وأسباب زوال الأمم وأسرار نهضتها، ويظل يولد الأفكار تلو الأفكار ثم هو في حياته لا يهمه أكثر من طعام طيب وفراش لين وزوجة حسناء ومركب هنيء... فلا والله لا يستوي وأشعث أغبر في سبيل الله لا يحسن مثل هذا الكلام ولا يجيد توليد مثل هذه الأفكار ولا يعرف المصطلحات التي يستحدثها المفكرون في كل يوم، ولكنه يعرف كيف يبذل نفسه لله دون أن يطلب لنفسه حظًا من الدنيا، ويقدم بواقعه النموذج العملي الذي يحرك الأمة حقًا ويبعث فيها الروح ويبث فيها العزيمة والتضحية... فالأول يقف عند الحديث عن المرض، والآخر يمارس العلاج، ولذا فالأول أقرب إلى أتباع الفلاسفة ومنهجهم، والآخر أقرب إلى أتباع الأنبياء ومنهجهم، فالفيلسوف ـ كما سبق ـ يقف عند أسباب العلل وأعراضها، ويبدئ ويعيد في تحليلها وآثارها ويُعرِض عن العلاج، ولو وصفه لم يكن على طريق الكمال والصلاح، ولو وصفه بكلام صحيح لكان مختصرًا جدًا، ويميل للعموم الذي لا يؤثر ولا يفيد عمليًا، ولا يمارس بنفسه شيئًا من ذلك العلاج في الواقع، ولهذا تبقى أمراض الأمة كما هي... وهذه قضية خطيرة، وهي أن كثيرًا من المصلحين للأسف يغفلون عن أهمية القوة العملية في إصلاح الأمة.. وهي مسألة تحتاج لشيء من التفصيل.
غفلة كثير من المصلحين عن أهمية القوة العملية في إصلاح الأمة:(1/14)
إن كثيرًا من المصلحين للأسف يغفلون عن أهمية القوة العملية في إصلاح الأمة، فيطول عكوفهم على توليد الأفكار وتكديسها ثم الإلقاء بها إلى الأمة لينصلح حالها دون أن يفكروا في المعبر الذي تتحول عن طريقه هذه الأفكار إلى واقع، أو العامل الحافظ الذي يتم به التفاعل بين الأمة وهذه الأفكار لتنتج الأمة الجديدة المطلوبة، وهذا العامل الحافز هو القوة العملية التي لا قيمة للفكرة بدونها.. وتلك القوة العملية ينبغي أن تراها الأمة في مفكريها وقادتها.
فدعوة الإسلام في تاريخها المشرف لم تعرف وظيفة العالم أو المفكر الذي لا علاقة له بمتاعب العمل والبذل والعطاء... فالذي يحرك الأمة في الحقيقة هو القوة العملية في الشخص المصاحبة لفكرته، ومهما كانت الفكرة قوية وعظيمة فإنها لا تحرك الأمة إلا بالقوة العملية أو النموذج العملي الذي يقدمه حاملها أو إذا تلقفها آخر ذو قوة عملية، ولذا لا تعجب إذا وجدت بعض المفكرين الذين قنعوا بتدوين أفكارهم فحسب من أضعف الناس أثرًا في الأمة وأعجزهم عن تحريكها، وكذا بعض المتعمقين في التخصصات العلمية الذين لا يساندهم واقع عملي من الالتزام والدعوة والبذل والعطاء هم ضعفاء التأثير في الأمة ومع هذا لا يؤمن على هؤلاء وأولئك الإعجاب بأنفسهم والاستعلاء على الآخرين.(1/15)
وأحيانًا يكون من لطف الله بالشباب أنهم لا يعرفون الواقع العملي لكثير من المفكرين أو العلماء المتخصصين أو غيرهم ممن يحتلون في نظر الناس مكانة عالية، فيتصورونهم في القمة من القوة العملية، في قلوبهم وفي سلوكهم وفي عبادتهم وفي بذلهم للدعوة والحماسة، فيكون هذا التخيل أو التصور سببًا للانتفاع ببعض أفكارهم أو علومهم والتحرك بها، ولذا كان بعض السلف من طلبة العلم إذا ذهب للأخذ عن شيخ يدعو ربه أن يحجب عنه عيوب شيخه، وإلا فلو نزل أولئك بأنفسهم بين الشباب مع ضعفهم في الجانب العملي لتغير الأمر ولأحبط هؤلاء الشباب، وذلك ـ كما قلنا ـ لأن القوة العملية المصاحبة للفكرة هي التي تحرك الأمة، ربما أكثر من الفكرة ذاتها.
ثم إننا نجد هؤلاء العاكفين على التفكير للأمة ـ دون أن يكون لهم واقع عملي مشرق ـ كلما طرحوا أفكارهم التي تعبوا في الوصول إليها فاكتشفوا أنها لم تحدث جديدًا في الأمة ظنوا أن العيب راجع إلى قلة ما طرحوه من الأفكار ومن ثم فلابد من إضافة أفكار أخرى إليها لتكميلها أو التعديل فيها، فإذا هم يطرحون أفكارًا جديدة، وهكذا وقد يستمر بهم هذا الحال إلى أن تنقضي أعمارهم ما داموا غافلين أو معرضين عما تحتاجه الأمة لتتحرك وترشد وتستقيم ألا وهو القوة العملية، أعني حين يتحول المفكر إلى قائد عابد زاهد مضحٍ يتحرك بين الناس مستفرغًا قواه في دعوتهم، ومؤثرًا فيهم بقوته العملية واستقامة قلبه وعمله.. حيث يصبح المفكر من أشجع الناس فيتقى به البأس حتى ما يكون أحد أقرب للعدو منه كما كان حاله - صلى الله عليه وسلم -... نعم حين يغذي أفكاره بدمه وعرقه لا بدماء غيره أو عرق غيره.
التاريخ يشهد:(1/16)
وإذا استقرأنا التاريخ فإننا نجد أن الدعاة الذين أثروا في الأمة وحركوها لم يكونوا من طبقة المفكرين العاكفين على الفكر مع ضعف قوتهم العملية، وإنما كانوا أصحاب قوة عملية، فبأفكار قليلة واضحة تساندها قوة عملية عظيمة أقاموا حركات ضخمة مؤثرة.
فهذا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، لم يوصف بأنه من المفكرين أو العلماء المتخصصين البارزين في علم معين، وحين تتأمل كلامه تجد وضوحًا وسهولة مع قوة وروح، ويأتي بآيات وأحاديث وكلمات لسلفنا الصالح مع بعض كلام له يسير يربط به ربطًا واضحًا في غير تكلف بين تلك النصوص وما يريد، بهذا أقام حركة وأثر في الأمة، ليس في الجزيرة العربية وحدها ولكن في معظم أرجاء العالم الإسلامي، وذلك لأنه ساند كلامه اليسير وأفكاره السهلة الواضحة بقوته العملية؛ قوة في القلب، وقوة في العبادة، وقوة في السلوك، وقوة في البذل والعطاء والتحمل.
وكذا أثّر من بعده الإمام حسن البنا رحمه الله، ولم يكن هو الآخر من طبقة المفكرين أو الفلاسفة أو العلماء المتخصصين البارزين، ولكنه داعية رباني ذو قوة عملية مع فكرة واضحة وسهلة.
هذه أمثلة، وعلى منوالها يستطيع المتأمل البصير أن يستقرئ الواقع والتاريخ فيجد أن كل من أقاموا حركات قوية مؤثرة صامدة والتفت حولهم الشعوب والجماهير لم يكونوا من طبقة المفكرين القابعين في مكاتبهم يستحدثون المصطلحات ويتكلفون التعبيرات التي يعقدون بها لغة الدعاة حتى أن من لا يحسن مصطلحاتهم تجد نفسه كالعامي لا يدري ماذا يقولون، ولا ما ذا يقصدون.(1/17)
وقد يظن من لا علم له أن سيد قطب رحمه الله من تلك الطبقة، والأمر في الحقيقة ليس ذلك، والذي يعلم لغة المفكرين ولغة سيد يعرف جيدًا الفرق بين اللغتين، فلغة سيد مع تميزها بالحس الأدبي والأسلوب الراقي إلا أنها تنطوي على أفكار واضحة مباشرة تكاد تكون هي المعاني الظاهرة للآيات والتطبيق المباشر لها، وهذه الأفكار معروضة بأسلوب واضح مباشر بعيد عن تعقيد المصطلحات، على خلاف ما تنطوي عليه لغة المفكرين مِنْ محاولة الوصول إلى المقصود مِنْ طرق بعيدة وأحيانًا معقدة مع تكلف في الأساليب واستحداث المصطلحات.
ومع هذا نقول، وهب أن سيدًا كان من المفكرين ولكنه ساند فكرته بربانية وقوة عملية جعلت لكلامه تلك المصداقية أو ذلك الأثر في الأمة.
ليس العيب في الاشتغال بالعلم أو الفكر:
فليس العيب في التفكير أو التعميق في العلوم، وإنما العيب في المفكرين والعلماء المتخصصين الذين اكتفوا أو استغنوا بالتعمق في التفكير أو العلوم عن القوة العملية وعن الربانية التي ينبغي أن يتحلى بها العالم والمفكر حتى يغدو مؤثرًا في واقعه وفي أمته بروح قوية وعبادة حسنة وسلوك قويم وزهد وتواضع وتضحية وبذل وعطاء.
نعم يكون العيب في المفكرين أو العلماء المتخصصين ـ وليس في العلم سواء كان علمًا شرعيًا أو فكرًا أو غير ذلك ـ حين يهملون تلك الجوانب العملية، ويغترون بما قطعوه من المراحل في علومهم وأفكارهم فيظنوا أنهم بذلك قد صاروا عباد الله المختارين، وقد سبقوا غيرهم سبقًا بعيدًا، فلا يضرهم بعد اليوم تقصير في عبادة أو سلوك أو عمل.
لا خير في نمو نظري يتخلف عنه النمو العملي:(1/18)
وهؤلاء البارزون في علمهم وفكرهم مع ضعف قلوبهم وعبادتهم وسلوكهم وقلة أو عدم بذلهم وتضحيتهم لا يمكن أن تنمو في ظلهم دعوة قوية تغير الأمة، بل هم بهذه التركيبة الخطيرة يقتلون فيمن حولهم كثيرًا من المعاني السامية الجميلة، مثل صفاء القلوب وقوتها، وصدق المحبة والأخوة، وحسن العبادة والإقبال عليها، والاستقامة والورع، والبذل والعطاء والتضحية والحياة للدعوة... نعم يقتلون كل هذه المعاني حين يراهم مَنْ حولهم يزهدون فيها وهم البارزون المشار إلى علومهم وأفكارهم، فأي فتنة أشد من هذا؟! حتى صرنا والله لا ندري أيهما خير المعلم أم المتعلم، والمربي أم المرَبَّى! وستظل أحوالنا متردية ما دمنا نظن أن المشكلة تكمن في قلة الأفكار ونغفل عن الداء العظيم الذي هو الضعف العملي المخيم علينا.
ولا خير في أي نمو نظري ـ علمي أو فكري ـ يتخلف عنه النمو العملي، وهذا ما أردت التحذير منه؛ أن نتضخم علميًا أو فكريًا على حساب قلوبنا وعبادتنا وسلوكنا وبذلنا وعطائنا في الواقع العملي لهذه الدعوة ولنصرة الدين، فيحدث الخلل وتكون الفتنة، كما أردت التحذير من أن يصبح مألوفًا عندنا أن نعلم الحق أو الواجب ولا نسعى للقيام به، ونرى الطريق ولا نسير فيها، ونعلم المزالق ولا نتوقاها، فيصدق علينا مِنْ ثَمَّ كلام ابن القيم رحمه الله: (فمن الناس مَنْ يكون له مِن القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله).(1/19)
ولهذا فهنا كلمة نقولها لعموم الأمة: لا تظنوا حين تجدوننا قد أحسنا الحديث أننا ـ بالضرورة ـ قد أحسنا العمل والعبادة والسلوك أو أننا حقًا نتحمل ونضحي، أو أننا نحسن الثبات في الفتن والبلاء، أو أننا مؤهلون لقيادة الأمة، كلا فلا تلازم بين القوتين، نعم؛ ينبغي أن تعلموا ذلك لتكونوا أبعد عن الأوهام وأبعد عن الصدمات، فالعالم أو المفكر بشر من البشر فيه من الضعف ما فيهم ويعتريه ما يعتريهم، فلا تظنوا كل من حسن علمه ومنطقه يستطيع أن يصنع شيئًا على أرض الواقع، والموفق من وفقه الله.
وقفة أخيرة:
إن تلك المعاني العظيمة التي فجرها كلام الحافظ ابن القيم رحمه الله ينبغي كتطبيق عملي لها أن يراجع كل منا نفسه ـ خاصة من تميز في علمه أو فكره ـ مراجعة قوية صريحة، كيف هو في قوته العملية؟ أين قلبه؟ أين عبادته؟ أين سلوكه واستقامة لسانه وجوارحه؟ أين ورعه؟ أين بذله وعطاؤه وتضحيته من أجل هذه الدعوة؟ وليجعل كلٌّ منَّا هَمَّ الليل والنهار بالنسبة له أن ينهض بقوته العملية لتوافق ما يَعْلَمُهُ وما يفكر فيه وما يدعو إليه، فإن أبينا ذلك وقعد بنا الضعف، وعجزت عن ذلك نفوسنا المكبلة بقيود الدنيا وشهواتها، وقلوبنا الضعيفة المشتتة في أوديتها فلا ينبغي أن نستعلي على غيرنا أو نتمسح بالدعوة أو نظن أنفسنا أننا أصحاب إرادة قوية أو منهج جاد للتغيير، ويظل الناس في انتظار الخير مِنْ قِبَلِنَا فلا يجدونه، بل الأولى أن نكون صرحاء مع أنفسنا ومع الناس، ونفسح الطريق لأصحاب قلوب جديدة قوية حية، وأصحاب صدق وبذل وتضحية وعطاء، أصحاب قوة عملية فعالة، ليتقدموا إلى الراية ويسيروا بالقافلة ونكون تبعًا لهم، فربما كانوا خيرًا منا {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].(1/20)
وفي الختام نسأل الله جل وعلا أن يقيلنا من عثرتنا، وأن يبدل ضعفنا قوة، وأن يجعل أعمالنا موافقة لأقوالنا، وأن يجعل سريرتنا كعلانيتنا... وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- - -
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
المقدمة
بين القوة العلمية والقوة العملية
وقوع التناقض بين القوة العلمية والقوة العملية
القوة العلمية وحدها ليست كافية للسير في الطريق
أقسام العباد بالنسبة للقوتين: العلمية والعملية:
لمن أسوق كلام ابن القيم؟
مفاضلة بين نموذجين
الأنبياء يقصدون إلى علاج الأمراض، والفلاسفة يستغرقهم ذكر أسبابها ووصف أعراضها
أيهما أسعد حالاً
غفلة كثير من المصلحين عن أهمية القوة العملية في إصلاح الأمة
التاريخ يشهد
ليس العيب في الاشتغال بالعلم أو الفكر
لا خير في نمو نظري يتخلف عنه النمو العملي
وقفة أخيرة
الفهرس ... 5
7
7
8
9
13
19
23
25
31
35
37
38
41
45
- - -(1/21)