الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد :
فإنه من الملاحظ في زماننا هذا تغليب الرجاء على الخوف مما أدّى إلى إدلال وانبساط ظاهر من كثرة ذكر الحور العين ونحو ذلك من المخلوقات التي هي في ذاتها مخلوقات ، ولم تكن هذه حال الصحابة والسلف بل كانوا يُغلّبون الخوف إلا عند الموت فيُحسنون ظنونهم بالله عز وجل .
والربُّ سبحانه وإن كان عَظّم الجنة المخلوقة فإن التعلق بها وأن تكون هي مبلغ العلم نقص كبير إذْ إنَّ حقيقة التألّه وهو التعبد إنما المراد منه تعلق القلب محبة وخوفاً ورجاء بذات المألوه المعبود سبحانه ليس بمخلوقات دونه ، وهذا هو معنى كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) لأن المألوه هو الذي يأْلَهه القلب محبةً وشوقاً وخوفاً ورجاءً .
يُوضح ذلك أن الرب سبحانه تعبّد عباده بهذه الكلمة وليس من شرطها أن يسكنهم جنة مخلوقة إذا هم أطاعوه حيث قال سبحانه وتعالى في الأثر : ( لوْ لَمْ أخلُق جَنَّةً ولا ناراً ألَمْ أكُنْ أهْلاً أنْ أُعْبَد ) (1) .
فهذا يبين حقيقة معنى ( لا إله إلا الله ) بحيث أنْ تتخيّل أنْ ليس عند معبودك حُوُرٌ وقصورٌ ومآكل ومشارب وما إلى ذلك مما في ( الجنة المخلوقة ) فكيف تكون محبتك له سبحانه ؟! .
إن الذي خلق الله له عباده هو أن تُفضي محبة قلوبهم وشوقهم إليه لذاته بالقصد الأول ، وإنما يعرف ذلك مَنْ عَرَفَ معنى كلمة التوحيد وما يتصف به الإله الحق سبحانه من صفات الجمال والجلال والكمال ، فتأمل الآن ما ورَد في الحديث الصحيح أن رسول الله ( قال عن رؤية أهل الجنة لربهم تعالى : ( فَمَا أُعطُوا شَيئاً أحَبّ إليهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ ) (2) .(1/1)
ومعلوم أن المراد هنا هم أهل الجنة ، والمعنى ظاهر واضح في أنه سبحانه لم يُعطهم في الجنة المشتملة على الحور العين والنعيم المقيم شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه ، وحَسْبك أن تتفكر فيما جاء عنه ( أنه قال عن ربه تعالى : ( حجابه النور لوْ كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) (3) ؛ والسُّبُحَاتُ بضمِّ السين والباء ورفع التاء في آخره وهي جمع سُبحة ، وقال جميع الشارحين للحديث من اللغويين والمحدثين : سُبُحَاتُ وجهه الكريم هي نوره وجلاله وجماله وبهاؤه (1) .
ثم اعلم أنه لو اجتمع جمال الحور العين كلهنّ في واحدة فما قَدْره عند جمال المعبود الحق سبحانه ، ولذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - :
وهُوَ الجميلُ علَى الحقيقةِ كيفَ لاَ ! مِنْ بعضِ آثارِ الجميلِ فربُّهَا فجَمَالهُ بالذاتِ والأوصَافِ والْ
وَجَمَالُ سَائِرِ هَذِهِ الأكوَانِ أولَى وأجدَرُ عِندَ ذِي العِرْفَانِ ـأفعَالِ والأسمَاءِ بالبُرْهَانِ (2) .
أما السُّبُحَات فقد قال ابن القيم - رحمه الله – فيها : ( فإذا كانت سبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيء من خلقه ، ولو كشف حجاب النور عن تلك السبحات لأحرق العالم العلوي والسفلي فما الظن بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجلاله وجماله ) (3) ، فالرب سبحانه قد احتجب عن مخلوقاته بحجاب من نور مخلوق ، جعله سبحانه يحجب نور وجهه الكريم وجلاله وجماله عن وصوله إلى المخلوقات حيث لا تحتمله ؛ ولذلك يُعطِي الله المؤمنين في الجنة قوةً شديدة في أبصارهم ليطيقوا رؤيته التي هي أعلى نعيمهم كما قال تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ? إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( (1) وحُقّ لها أن تُنَضَّر بهذا القُرْب والنَّظَر .(1/2)
قال عثمان بن سعيد الدارمي - رحمه الله - في قوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( (2) قال : " معناه هو أحسن الأشياء وأجملها " ، وقالت الجهمية : " معناه ليس هناك شيء " !! (3) ، والمراد أن انتهاء المعرفة ومبلغ العلم إذا كان يُصيِّر العبادة لمجرد المعاوضة بأشياء مخلوقة مهما بلغتْ فهذا قصور وجهل بالمعبود سبحانه وما يستحقه لذاته ، وهذا حاصل لكثير من المسلمين حيث قصُرتْ معرفتهم لمعبودهم .
وهو سبحانه فطر قلوب عباده على محبته لذاته والإنابة إليه لذاته لا لشيء آخر ، وهذا واللهِ من أعظم ما أُكرم به هذا المخلوق ، فلقد رفعه الله مقاماً ينقطع الوصف دونه ، ولوْ جعل غايته ومنتهى طلبه وإرادته مجرد مخلوقات مهما كُمُلتْ وحسُنَتْ ودامتْ لَمَا صار له هذا الشأن العظيم ، وإنما يحصل هذا لمن تمت عليه النعمة وسبقت له السعادة ، قال ابن القيم – رحمه الله - : ( الشوق إلى مجرد الأكل والشرب والحور العين في الجنة ناقص جداً بالنسبة إلى شوق المحبين لله تعالى ، بل لا نسبة له إليه البتة ) انتهى (4) .
يريد بنقصه قِصَر التعلُّق بذلك لعَدَم تمكُّن محبة المعبود سبحانه في القلب ، والعبد لم يُخلق لهذا بل خُلق لتتعلق محبته خالصة لخالقه عزَّ وجلّ .(1/3)
أمَّا الأكل والشرب والحور والقصور في الجنة فهي نُزُلٌ - أي ضيافة لأولياء الله (1) - ، ولأن الربَّ سبحانه كريم وذو فضل عظيم ، ولأن المخلوق قد رُكِّبتْ فيه الشهوة للنساء والأكل والشرب ولأن قَوَام جسمه بذلك ، فهذه شهوات ولذات كما في الدنيا ، وغاية ما هناك أنها أرفع وأكمل وأجمل وأدْوم ولكن ليست هي في نفسها وذاتها غاية بحيث يقتصر الطلب والإرادة والهمّة عليها ، فهذا ناقص جداً - كما ذكر ابن القيم - ، ولذلك فإنَّ الملائكة عليهم السلام لا يأكلون ولا يشربون وليست لهم شهوة إلى النساء ومع هذا فهم في نعيم لا يبلغه وصْفنا من قربهم لربهم وحبهم له وشوْقهم إليه.
وقال ابن القيم - رحمه الله - في وصف العارف بربه : ( أنه لا يقطعه عن طلب مَن نسبة هذا النعيم الدائم - يعني الحور العين ومآكل الجنة ومشاربها ومساكنها - إلى نعيم معرفته ومحبته والأنس به والفرح بقربه كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة ) انتهى(2) ؛ فتأمل هذا وكيف وصف - رحمه الله - نعيم الجنة المخلوق بالنسبة إلى نعيم معرفة المعبود ومحبته سبحانه كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة المخلوق مع أن الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الجنة عظيم جداً ، فـ ( موضع سوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها ) كما قال رسول الله ( (1) ، وقال ابن القيم - رحمه الله - يصف الأنس بالإله الحق سبحانه : ( والأنس به سبحانه أعلى من الأنس بما يرجوه العابد من نعيم الجنة ) (2) .
وقال في قوله تعالى : ( وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ( (3) : ( فيسيرٌ من رضوانه ولا يقال له " يسير " أكبر من الجنان وما فيها ! ) انتهى ؛ فتأمل قوله : ( أكبر من الجنان وما فيها ) ! .
وقال عثمان بن سعيد الدارمي - رحمه الله - : ( فأما في الآخرة فما أكبر نعيم أهل الجنة إلا النظر إلى وجهه ، والخيبة لمن حُرِمه ! ) (4) .(1/4)
ثم ذكر أن الله تعالى ( احتجب من خلقه لِيَبْلُوَ بذلك إيمانهم أيّهم يؤمن به ويعرفه بالغيب ولم يره ، وإنما يجزي العباد على إيمانهم بالغيب ، لأن الله عز وجل لو تبدّى لخلقه وتجلى لهم في الدنيا لم يكن لإيمان الغيب هناك معنى ، كما أنه لم يكفر به عندها كافر ، ولا عصاه عاص ، ولكن احتجب عنهم في الدنيا ودعاهم إلى الإيمان به بالغيب وإلى معرفته والإقرار بربوبيته ، ليؤمن به من سبقت له منه السعادة ،ويحق القول على الكافرين ، ولوْ قد تجلى لهم لآمن به مَن في الأرض جميعاً بغير رسل ولا كتب ولا دعاة ولم يعصوه طرفة عين ، فإذا كان يوم القيامة تجلى لمن آمن به وصدق رسله وكتبه ، وآمن برؤيته ، وأقرّ بصفاته التي وصف بها نفسه حتى يروْه عياناً، مثوبة منه لهم وإكراماً ليزدادوا بالنظر إلى مَن عبدوه بالغيب نعيماً، وبرؤيته فرحاً واغتباطاً ولم يُحْرَموا رؤيته في الدنيا والآخرة جميعاً، وحُجب عنه الكفار يومئذ إذْ حُرموا رؤيته كما حرموها في الدنيا ليزدادوا حسرة وثبوراً ) انتهى (1) .
وعن عُبَيْدِ بنِ عُمَير أنه قال في قوله تعالى في قصة داود : ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( (2) ، قال : ( يُدْنيه حتى يَمسَّ بعضه ) (3) ؛ وقال شيخ الإسلام - رحمه الله - بعد أن ذكره : ( فلا جَرَمَ جاءت الأحاديث بثبوت الْمُمَاسَّة كما دل على ذلك القرآن وقاله أئمة السلف ، وهو نظير الرؤية ، وهو متعلق بمسألة العرش وخلقِ آدم بيده (1) ، وغير ذلك من مسائل الصفات ) انتهى(2) ؛ أمَّا الجهمية فإنهم لا يطيقون هذا لنفيهم صفات الربِّ - سبحانه - وتعطيله ، وأما السُّني ففي ذلك حياة قلبه ونعيم رُوحه .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور العرش من نور وجهه ) انتهى (3) ، فإذا علمت أن العرش أكبر من السموات والأرض وأن نوره من نور وجه ربك صارت لك معرفة خاصة به سبحانه .(1/5)
وقد روى الشافعي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي ( قال عن تكليم الله لأهل الجنة : ( ثم يتبسم الله إليهم ، فيقول : سلوا ؟! ؛ فيقولون : ربنا نسألك رضوانك ) (4) .
وليُعلم أنه ليس المقصود أن المسلم لا يسأل الله الجنة أو التزهيد بها ، وإنما المقصود بيان حقيقة العبودية والتفريق بين المعبود والمخلوق .
وأما قوله ( : ( حولها ندندن ) - يعني الجنة - (1) فهو ( يقصد اسم الجنة الشامل الذي أعلاه وأعظمه محبة الله وقربه ، ولك أن تتفكر في كون ربه اتخذه خليلا فهل يُزاحم هذه الخلّة مخلوق من الحور أو غيرها ؟! .
وقد أخبر النبي ( أنه حُبِّب إليه من الدنيا النساءَ والطيبَ وجُعلت قرةُ عينهِ في الصلاة (2) ، وذلك لأن الصلاة مناجاة لربه ففيها تتغذى روحه الطاهرة بزيادة محبته لمعبوده ، وهذا لا يُقارب ما حُبِّبَ إليه في الدنيا من النساء والطيب ،كما أن حبه للحور العين لا يقارب حبه لربه لذاته سبحانه ، فتأمل هذا يُطْلعك على بعض أسرار العبادة ؛ وكما أنه ( في الدنيا يحب زوجاته خاصة عائشة ويحب أصحابه إلا أن هذه المحبة لا تُزاحم ولا تقارب محبته لربه عز وجل ، وقِسْ على هذا شأنه ( في الجنة مع الفارق بين الدنيا والآخرة .
وقد جاء في الصحيحين : ( أن الله خلق آدم على صورته) الحديث (3) ، وفي الحديث الصحيح : ( إن الله خلق آدم على صورة الرحمن ) (4) ، وفي السِّفْر الأول من التوراة : ( سنخلق بَشَراً على صُورَتنا يُشْبِهها ) .
قال شيخ الإسلام بعد سياقه هذه الأحاديث والأثر : ( وأما المثبتة فعندهم قدْر الله تعالى أعظم ، وحَدّه لا يعلمه إلا هو ، وكرسيه قد وسِع السماوات والأرض ، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى وقد قال تعالى : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( (1) .(1/6)
وقد تواترت النصوص عن النبي ( من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس أن الله يقبض السموات والأرض بيديه (2) . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : " ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهما وما فيهما في يد الرحمن إلا كخردلةٍ في يد أحدكم " رواه ابن جرير في تفسيره بإسناد حسن (3) ) .
ثم قال شيخ الإسلام بعد ذكر أحاديث الصورة : ( وإذا كان الأمر كذلك كان أكبر وأعظم من أن يقدر بهذا القدْر - يعني بقدر آدم ، فإثبات صورة الرحمن وأن الله خلق آدم على صورته سبحانه لا يقتضي ذلك - فإنها تقتضي نوعاً من المشابهة فقط ، لا تقتضي تماثلاً لا في حقيقة ولا قدْر ) .
وقال - رحمه الله - : ( بل من المعلوم أن الشيئين المخلوقين قد يكون أحدهما على صورة الآخر مع التفاوت العظيم في جنس ذواتهما وقَدْر ذواتهما ، وقد تظهر السموات والقمر في صورة ماء أو مرآة في غاية الصِّغَرِ ويُقال : هذه صورتها ، مع العلم بأن حقيقة السموات والأرض أعظم من ذلك بِما لا نسبة لأحدهما إلى الآخر ) انتهى (1) .
قال ابن القيم - رحمه الله - : ( اعلم أن القلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رئاسة أو صورة وتعلق بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العُدّة والتأهب للقدوم على الله عز وجل فذلك أول فُتُوحِه وتباشير فجره .
فعند ذلك يتحرك قلبه لمعرفة ما يرضى به ربه منه فيفعله ويتقرب به إليه ، وما يسخطه منه فيجتنبه ، وهذا عنوان صدق إرادته ، فإن كل من أيْقن بلقاء الله وأنه سائله عن كلمتين يُسأل عنهما الأولون والآخرون : " ماذا كُنتُم تعبدُون ؟ " و : " ماذا أجبتمُ المرسلين ؟ " لابد أن يتنبه لطلب معرفة معبوده والطريق الموصلة إليه .(1/7)
فإذا تمكّن في ذلك فُتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة والأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات ، فلا شيء أشوق إليه من ذلك فإنها تجمع عليه قُوَى قلبه وإرادته ، وتسدّ عليه الأبواب التي تُفرق هَمَّه وتشتّت قلبه ، فيأنس بها ويستوحش من الخلق (1).
ثم يُفتح له باب حلاوة العبادة بحيث لايكاد يشبع منها ، ويجد فيها اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب ونيْل الشهوات ) انتهى .
فأين المعرضون عن حبيبهم المخدوعون بلذات تحجبهم عن اللذة والنعيم الذي خلقوا له ، لقد وُصِفَتْ هذه اللذات والشهوات بمشناق من عسل ، وهذا يبين سوء عاقبتها وإن كانت حلوة المذاق وقت مباشرتها .
ثم قال - رحمه الله - : ( بحيث أنه إذا دخل في الصلاة وَدَّ أن لا يخرج منها ، ثم يُفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه وإذا سمعه هدأ قلبه به كما يهدأ الصبي إذا أُعطي ما هو شديد المحبة له .
ثم يُفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به وجلاله وكمال نعوته وصفاته وحكمته ومعاني خطابه ، بحيث يستغرق قلبه في ذلك حتى يغيب فيه ويُحسّ بقلبه وقد دخل في عالَمٍ آخر غير ما الناس فيه .
ثم يُفتح له باب الحياء من الله ، وهو أول شواهد المعرفة ، وهو نور يقع في القلب ، يُريه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه عز وجل فيستحيي منه في خلواته وجلواته ، ويُرزق عند ذلك دوام المراقبة للرقيب ، ودوام التطلع إلى حضرة العلي الأعلى كأنه يراه ويشاهده فوق سمواته مستوياً على عرشه ناظراً إلى خلقه سامعاً لأصواتهم مشاهداً لبواطنهم .
فإذا استولى عليه هذا المشهد غطى عليه كثيراً من الهموم بالدنيا وما فيها ، فهو في وجود والناس في وجود آخر .. هو في وجود بين يدي ربه ووليه .. ناظراً إليه بقلبه والناس في حجابِ عالَم الشهادة في الدنيا ) .(1/8)
ثم قال – رحمه الله - : ( ثم يُفتح له باب الشعور بمشهد القيومية ، فيرى سائر التقلبات الكونية وتصاريف الوجود بيده سبحانه ) .. وذكر كلاماً ، ثم قال : ( فإن استمر على حاله واقفاً بباب مولاه لا يتلفت عنه يميناً ولا شمالاً ولا يُجيب غير من يدعوه إليه ويعلم أن الأمر وراء ذلك وأنه لَم يصل بَعْدُ ،ومتى توهّم أنه قد وصل انقطع عنه المزيد ..- ثم قال رحمه الله - : رُجي أن يُفتح له فتحٌ آخر هو فوق ما كان فيه ! ) .
ثم قال : ( ويبقى له وجود قلبي روْحاني مَلَكي فيبقى قلبه سابحاً في بحر من أنوار آثار الجلال ، فتنبع الأنوار من باطنه كما ينبع الماء من العين ، حتى يجد الملكوت الأعلى كأنه في باطنه وقلبه ويجد قلبه عالياً على ذلك كله ، صاعداً إلى من ليس فوقه شيء ) انتهى .
هل تعلم أنه بهذا السِّفْر المبارك لا يُعَرِّج على الحور العين ، بل تمرّ رُوحُه مجتازةً قصورَ الجنةِ وما فيها ، صاعدةً إلى مَن ليس كمثله شيء سبحانه وبحمده لأنه بذاته هو مراد المؤمن وغاية مطلبه ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ( (1) ، فما بعده غاية تُطلب لذاتها ولا قبله أيضاً ، وهذا يحصل والعارف حيٌّ في الدنيا حيث هو لُباب التعبد ، وهو سفر الآخرة الذي يُقطع بالقلوب كما أن سفر الدنيا يُقطع بالأقدام - كما ذكر العلماء - .
ثم قال - رحمه الله - : ( ثم يُرقّيه الله سبحانه فيُشهده أنوار الإكرام بعد ما شهد أنوار الجلال ، فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال ، وفي هذا المشهد يذوق المحبة الخاصة الملهبة للأرواح والقلوب ، فيبقى القلب مأسوراً في يد حبيبه ووليه ممتحناً بحبه .(1/9)
وإن شئت أن تفهم ذلك تقريباً فانظر إليك وإلى غيرك وقد امْتُحِنْتَ بصورة بديعة الجمال ظاهراً وباطناً فملكَتْ عليك قلبك وفكرك وليلك ونهارك فيحصل لك نار من المحبة ، فتضرم في أحشائك يَعِزُّ معها الاصطبار ، و ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ( (2) ؛ فيَالَهُ من قلب ممتحن مغمور مستغرق بما ظهر له من أشعة أنوار الجمال الأحدي ، والناس مفتونون ممتحنون بما يفنى من المال والصور والرياسة ، معذبون بذلك قبل حصوله وحال حصوله وبعد حصوله ! .
وأعلاهم مرتبة : مَن يكون مفتوناً بالحور العين أو عاملاً على تمتعه في الجنة بالأكل والشرب واللباس والنكاح ) انتهى .
تأمل قوله : ( وأعلاهم مرتبة مَن يكون مفتوناً بالحور العين ) ومتى نصل نحن إلى هذه المرتبة العالية بالنسبة للتعلقات والفتن الدنيوية التي ذكرها وهي المال والصور والرياسة .
إن التعلق والافتتان بالحور العين والتمتع بالجنة المخلوقة بالنسبة لِلمُوثَق بالسفليات درجة رفيعة ، وإذا كانت الفتنة بالحور العين قاطعة عن المراد في لغة العارفين فكيف تكون حالنا ؟! .
ثم قال - رحمه الله - : ( وهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على أهل المقامات ، ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق لِعلوِّ درجته وقرب منزلته من حبيبه ومعيته معه ، فإن المرء مع من أحب (1) ، ولكل عمل جزاء وجزاء المحبةِ المحبةُ والوصول والاصطناع والقرب ، فهذا هو الذي يصلح وكفى بذلك شرفاً وفخراً في عاجل الدنيا ، فما ظنك بمقاماتهم العالية عند مليك مقتدر ؟! ) .(1/10)
لقد جاء في حديث سؤال موسى - عليه الصلاة والسلام - ربه تعالى عن أدنى وأعلى أهل الجنة منزلة ، فلما بين له ربه تعالى أدنى أهل الجنة منزلة ، سأل ربه تعالى قائلاً : ( ربِّ فأعلاهم منزلة ؟! ، قال : أولئك الذين أردتّ ، غرستُ كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم ترَ عينٌ ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر ! ، قال : ومصداقه في كتاب الله عز وجل ( فَلاَ تَعْلمُ نَفْسٌ مَا أخْفِيَ لهَمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ ( (1) ) (2) .
وهل تليق هذه المنزلة العظيمة إلاَّ لمن قدّمَ حُبَّ الله تعالى والشوق إليه على حبِّ ماسواه ! ، مع العلم أنَّ مَن ينال مِن اللهِ تعالى تلك المنزلة من المحبين والعارفين فقد نال بلا شك أعلى النعيم المخلوق من الحور والقصور وغيرها زيادة على مايحضون به من القرب من ربهم تعالى وعظيم التنعم برؤيته ! .
ثم قال ابن القيم - رحمه الله – عن المحبين لله : ( فكيف إذا رأيتهم في موقف القيامة وقد أسمعهم المنادي :" لينطلق كلُّ قوم مع ما كانوا يعبدون " ، فيبقون في مكانهم ينتظرون معبودهم وحبيبهم الذي هو أحب شيء إليهم حتى يأتيهم فينظرون إليه ويتجلى لهم ضاحكاً (3) ) انتهى (4) .
تأمل قوله ( ينتظرون معبودهم وحبيبهم الذي هو أحب شيء إليهم ) وهذا في القيامة ، فالقوم متعلقة قلوبهم بمعبودهم الحق سبحانه بالقصد الأول ليس ليكون واسطة ووسيلة لمحبوبهم من الحور العين وغير ذلك من النُّزُل والضيافة بل مرادهم ربهم لذاته إذْ محبته في قلوبهم لا تُدانيها ولا تُقاربها محبة .
أما محبة الله سبحانه ليكون وسيلة للأغراض فهذا عندهم مدخول مشُوب ، ولذلك فهم يُجَرّدون المحبة وإن كانوا يريدون من ربهم خير الدنيا والآخرة ، فليس مرادنا هنا الشَّطَح ، وتأمل قوله تعالى عن أوليائه : ( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( (1) ، فهذه إرادة خالصة لا لغرض آخر ؛ وهذا هو الإخلاص وهو التوحيد .(1/11)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - : ( فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة ) (2) .
وقال – أيضاً - : ( إن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى ) (3) .
ثم قال ابن القيم - رحمه الله - : ( والمقصود أن هذا العبد لا يزال الله يُرقيه طبقاً بعد طبق ومنزلاً بعد منزل إلى أن يُوصله إليه ويُمكِّن له بين يديه أوْ يموت في الطريق فيقع أجره على الله ؛ فالسعيد كل السعيد والموفَّق كُلّ الموَفَّق مَن لَمْ يَلْتَفِت عَن ربِّه تبارك وتعالى يميناً ولا شمالاً ولا اتخذ سواه ربًّا ولا وكيلاً ولا حبيباً ولا مدبِّراً ولا حَكَماً ولا ناصِراً ولا رازقاً ) انتهى (1) .
لتعْلَم أنّ كلام ابن القيم وشيخه وعلماء السلف الربّانيين بيانٌ وتفسير لنصوص الكتاب والسنة ، وقد أثمر لهم صدقهم وإخلاصهم هذه الثمار الطيبة ، وليست محبة الله عز وجل مجرد مقام في طريق السالك بل هذا أصل الأصول وهو حقيقة العبودية وهو معنى كلمة التوحيد ، وتأمل قوله ( : ( فَمَا أُعطُوا شَيئاً أحَبّ إليهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ ) (2) فهذا بعد دخولهم الجنة ومباشرة نعيمها .
وفي الحديث الآخر قال رسول الله ( : ( بينا أهل الجنة في نعيمهم إذْ سطع لهمْ نورٌ فرفعوا رؤوسهم ،فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، قال : وذلك قول الله تعالى : ( سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ( (3) ، قال : فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نورُه وبركته عليهم في ديارهم ) (4) .
وإذا كان الأنس به سبحانه في الدنيا - كما يقول ابن القيم (1) - أعلى من الأنس بما يرجوه العابد من نعيم الجنة فالأمر إذاً عظيم ، والاقتصار على التعلق بالحور العين قصورٌ ونقص ! .(1/12)
ثم قال ابن القيم - رحمه الله - : ( وإرادة السِّوَى(2) توقف السالك وتنكس الطالب وتحجب الواصل ، فإياك وإرادة السوى وإن علا ! ، " تأمل قوله : وإن علا " فإنك تُحجب عن الله بقدْر إرادتك لغيره ، قال تعالى عن عباده المقربين : ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً ( (3) ) انتهى (4).
وليس المراد أن المؤمن لا يريد من الله ، أو يَحتقر مَا عظَّمَه الله من نعيم الجنة كالْحُور والمآكل والمساكن وغيرها ، وإنما المقصود معرفة حقيقة العبودية وألاّ يحتجب العبدُ عن إرادة رَبِّه لذاته ولو لم يكن هناك جنةً ولا ناراً (5).
ولو لم يوجب محبة الله عز وجل إلا أنه خالق العبد ومالكه وسيّده ، كيف ما يتصف به سبحانه من صفات الجمال والكمال والقلوب مفطورة على حب الصُّوَر الجميلة لكن المؤمن مُتعَبَّد بغَضِّ بَصَره لئلاّ تَنْتَقِش هذه الصُّوَرُ في قلبه ، فيعكف عليها محبةً تصرف قلبه عما خُلق له العبدُ من النظَر في الآخرة إلى خالق الجمال سبحانه ، وهو أوْلى به .
وهنا أنقل كلاماً كتبته قديماً في كتاب ( معرفة الكبير المتعال بالعظمة والجلال والجمال ) ، وهو :
( وإنما سأل موسى الرؤية لِشَوْق ألْهَبَ قلبه بعد سماع كلام ربه وحُقّ لَه .
ولوْلا مَدَدُ الله للأنبياء بالصبر المناسب مع مقاماتهم ومعرفتهم بربهم لما صبروا اشتياقاً إليه ومحبة لكمال معرفتهم به سبحانه ولكماله وجلاله وجماله .
وإذا كان يحصل مِن محبةِ مخلوقٍ لمخلوقٍ مِن انجذابِ الروح إليه والصبابة والشوق ما يكون عجباً مثل العشق - مع أنه في الحقيقة مرض في القلب صارف له عما فُطر عليه من محبة معبوده الحق - فكيف بمحبة مَن لوْلا تعلق المحبة به لما خُلقت المحبة أصلاً ، فهي إنما وُجدت لهذا الغرض .(1/13)
من هذا يتبين أن كل محبة لسواه فهي صرف حقه لغيره ، وهي ألَمٌ في القلب يُعَذّب به لانصرافه وانحرافه عن فطرته التي فُطر عليها من محبة إلهه الحق إلا ما كان من الحب فيه ، فهذا داخل في محبته غير مُعارض كمحبة أنبيائه وأوليائه وما يُحب بشرط عدم الغلو في ذلك بألا يُرفع أحد إلى درجة محبته أو يُماثَل فيها ) انتهى (1) .
قال شيخ الإسلام : ( ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء كما في الحديث : " إن أهلَ الجنةِ يُلهمُون التسْبيحَ كَمَا يُلهَمُونَ النَّفَس " (2) وهو يبين غاية تنعمهم بذكر الله ومحبته ) انتهى (3) .
فهذا نعيم لا يشغلهم عنه ولا يلهيهم ما بين أيديهم من النعيم المخلوق لأن لذّته أعظم مما هم فيه .
ولتمام الفائدة تعلم أن ربهم فوقهم حتى وهم في الجنة فعرشه سبحانه سقف الفردوس كما أن السماء الدنيا سقف الأرض قال تعالى : ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً ( (4) .
يبين هذا ما جاء في الحديث المتقدم عن النبيِّ ( أنه قال : ( بينا أهل الجنة في نعيمهم إذْ سطع لهمْ نورٌ فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، قال : وذلك قول الله تعالى : ( سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ( (5) قال : فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم ) (1).
قال ابن القيم بعد أن ذكر الحديث : ( فهذا نور مشاهد قد سطَع حتى حرّكهم واسْتفزهم إلى رفع رؤوسهم إلى فوق ) انتهى (2) .
وليس المراد الاقتصار على معرفة جمال المعبود - سبحانه وبحمده - والذي من أسمائه ( الجميل ) بل وتعظيمه وإجلاله سبحانه على مقتضى اسمه ( الجليل ) .(1/14)
قال ابن القيم - رحمه الله - في محبة العبد لربه وأنه لابد فيها من الإجلال والتعظيم ، قال : ( ولا ريب أن الحب والأنس المجرَّد عن التعظيم والإجلال يَبْسط النفس ويحملها على بعض الدعاوي والرّعونات والأماني الباطلة وإساءة الأدب والجناية على حق المحبة .
فإذا قارن المحبة مهابة المحبوب وإجلاله وتعظيمه وشهود عِزّ جلاله وعظيم سلطانه انكسرت نفسه له وذلّتْ لعظمته واسْتكانت لعزته وتصاغرت لجلاله ، وصَفَتْ مِن رُعُونات النفْسِ وحماقاتها ودعاويها الباطلة وأمانيها الكاذبة .
ولهذا في الحديث يقول الله عز وجل : ( أين المتحابون بجلالي ؟! ، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ) (1) ؛ فقال : ( أين المتحابون بجلالي ) فهو حُب بجلاله وتعظيمه ومهابته ليس حباً لمجرد جماله فإنه سبحانه الجليل الجميل .
والحب الناشئ عن شهود هذين الوصفين هو الحب النافع الموجب لكونهم في ظل عرشه يوم القيامة .
فشهود الجلال وحده يوجب خوفاً وخشيةً وانكساراً ، وشهودُ الجمالِ وحده يوجب حباً بانبساط وإدلال ورعونة .
وشهود الوصفين مما يوجب حباً مقروناً بتعظيم وإجلال ومهابة ، وهذا هو غاية كمال العبد ، والله أعلم ) انتهى (2) .
وينبغي أن يُعلم أن شدة التعلق بالثواب المخلوق في الجنة من الحور وغيرها إذا كان معه محبة لله ضعيفة فإنه يُخشى أن يكون - كما قال ابن القيم - رحمه الله – : ( أنه إذا نال ذلك الحظ من محبوبه فَتَرَتْ محبته وسكن قلبه وترحّل قاطن المحبة من قلبه كما قيل "من وَدّكَ لأمرٍ ولّى عِندَ انقضائه " ، فهذه محبة مشوبة بالعِلل ، بل المحبة الخالصة أن يحب المحبوبَ لكماله وأنه أهل أن يُحب لذاته وصفاته ) انتهى (1) .(1/15)
وقال - رحمه الله - : ( فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه ، ومَن عَبَدَ غيره وأحبه وإن حصل له نوع من اللذة والمودّة والسكون إليه والفرح والسرور بوجوده ففساده به ومضرته وعَطَبُه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشّهي الذي هو عذْبٌ في مَبْدَئِه عذابٌ في نهايته كما قال القائل :
مَآرِبُ كانت في الشبابِ لأهْلِهَا
عِذاباً فَصَارتْ فِي الْمَشِيبِ عَذابَا (2)
إذاً فلاَبدَّ من معرفة المعبود الحق سبحانه الموجبة للشعور به مع العمل الخالص لأن المحبة تابعة للشعور .
ولذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - : ( فإن أوصاف المدعوّ إليه ونعوت كماله وحقائق أسمائه هي الجاذبة للقلوب إلى محبته وطلب الوصول إليه ، لأن القلوب إنما تحب مَن تعرفه وتخافه وترجوه وتشتاق إليه وتلتذّ بقربه وتطمئن إلى ذكره بحسب معرفتها بصفاته ) انتهى(3).
وقد تكلم ابن القيم في تجريد المحبة لله عز وجل وتصفية القصد وتهذيبه وتجريده فقال - رحمه الله – عن ذلك : ( يكون قصده وعبوديته محبة لله بلا عِلّة ، وأن لا يحب الله لِما يعطيه ويحميه منه فتكون محبته لله محبة الوسائل ، ومحبته بالقصد الأول لِما يناله من الثواب المخلوق فهو المحبوب له بالذات ، بحيث إذا حصل له محبوبه تَسَلَّى به عن محبة من أعطاه إياه ، فإن من أحبك لأمرٍ والاك عند حصوله ومَلَّكَ عند انقضائه ، والمحب الصادق يخاف أن تكون محبته لِغرضٍ من الأغراض ، فتنقضي محبته عند انقضاء ذلك الغرض .
وإنما مراده أن محبته تدوم لا تنقضي أبداً ، وأن لا يجعل محبوبه وسيلة له إلى غيره ، بل يجعل ما سواه وسيلة له إلى محبوبه .
وهذا القدْر هو الذي حام عليه القوم وداروا حوله وتكلموا فيه وشمّروا إليه ) انتهى (1) .
أنظر قوله - رحمه الله - : ( وأن لا يجعل محبوبه وسيلة له إلى غيره ) فهذا حقاً مخيف ! .(1/16)
وقال - رحمه الله - في هذا المعنى أيضاً : لِـ ( تكُن إجابتك لِداعي الحق خالصة ، إجابة محبة ورغبة ، وطلب للمحبوب ذاته ، غير مشوبة بطلب غيره من الحظوظ والأعواض ، فإنه متى حصل لك حصل لك كل عوض وكل حظّ به وكل قسم ، كما في الأثر الإلهي : " ابن آدم .. اطلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فُتّك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء " (1) ) انتهى .
تأمل كيف أن هذا الأثر يطابق ما في الحديث المتقدم " فَمَا أُعطُوا شَيئاً أحَبّ إليهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ " (2) .
ثم قال : ( فمن أعرض عن طلب ما سوى الله ولم يَشب طلبه له بعوَض ، بل كان حباً له وإرادة خالصة لوجهه فهو في الحقيقة الذي يفوز بالأعواض والأقسام والحظوظ كلها ، فإنه لَمّا لم يجعلها غاية طلبه تَوَفرتْ عليه في حصولها وهو محمود مشكور مقرّب ، ولوْ كانت مطلوبهُ لنقصتْ عليه بحسب اشتغاله بطلبها وإرادتها عن طلب الرب تعالى لذاته وإرادته .
فهذا قلبه ممتلئ بها والحاصل له منها نزرٌ يسير ، والعارف ليس قلبه متعلقاً بها وقد حصلت له كلها ، فالزهد فيها لا يُفيتكها بل هو عين حصولها ، والزهد في الله هو الذي يُفيتكه ويُفيتك الحظوظ ) انتهى (3) .(1/17)
وهنا يضرب أهلُ العلمِ مثالاً (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى( (4) ، وذلك بما رُوي عما فعلته جارية من جواري هارون الرشيد ؛ فقد كان من عادته أن يُتحف جواريه في الأعياد بهدايا من الجواهر ونحوها ، فكان يأمر بوضع تلك الهدايا في مجلس من مجالسه ، ويقول لجواريه : " من أرادت من ذلك شيئاً وأعجبها فلتضع يدها عليه " – أي بحيث يكون لها - ، فوضعت كل جارية يدها على ما أحبت من تلك التُّحَف إلا واحدة منهن فإنها وضعت يدها على رأس هارون ! ، فسألها عما أرادت بهذا الفعل ؟! ، فقالت : " أنت طلبت من كل واحدة منا أن تضع يدها على ما تحب وأنا لاشيء يعدل حبي لأمير المؤمنين ! " ، فأعجبه ذلك منها وصارت أحظى جواريه عنده ! ، فتأمل ذلك ، وهكذا نحن عند الله ! .
ويضرب ابن القيم – رحمه الله – مثلاً آخراً فيقول : ( وإذا كان لك أربعة عبيد ؛ أحدهم : يريدك ولا يريد منك بل إرادته مقصورة عليك وعلى مرضاتك .
والثاني : يريد منك ولا يريدك بل إرادته مقصورة على حظوظه منك .
والثالث : يريدك ويريد منك .
والرابع : لا يريدك ولا يريد منك بل هو متعلق القلب ببعض عبيدك فلَهُ يريد ، ومنه يريد ، فإن آثر العبيد عندك وأحبهم إليك وأقربهم منك منزلة والمخصوص من إكرامك وعطائك بما لا يناله العبيد الثلاثة هو الأول ، هكذا نحن عند الله ! ) انتهى (1) .
فالخوف علينا أن نكون من جنس العبد الثاني ، وياليتنا نسير بدرب العبد الثالث !، أما العبد الأول فلغته لا نعرفها فلا نخوض بالكلام في إرادته وطلبه ، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه ! .
وحيث إن عمل العبد على حسب شاهده فسوف أكتب هنا شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة مما يُبين ويُوضح معنى ما سبق إن شاء الله :(1/18)
الشاهد الأول : قال ابن القيم - رحمه الله - : ( فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها وقلّة وفائها وكثرة جفائها وخِسَّة شركائها وسرعة انقضائها ، ويرى أهلها وعشاقها صرعى حولها قد بَدّعَتْ بهم وعذبتهم بأنواع العذاب وأذاقتهم أمَرَّ الشراب ، أضحكتهم قليلاً وأبكتهم طويلاً ، سقتْهم كؤوس سمّها بعد كؤوس خمرها فسكروا بحبها وماتوا بهجرها .
الشاهد الثاني : فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحَّل قلبه عنها وسافر في طلب الدار الآخرة وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من الدار الآخرة ودوامها وأنها هي الحيوان حقاً ، فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها ، بل هي دار القرار ومحطّ الرحال ومنتهى السير ، وأن الدنيا بالنسبة إليها كما قال النبي ( : ( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بِمَ ترجع ) (1) .
وقال بعض التابعين : " ما الدنيا في الآخرة إلا أقلّ من ذرة واحدة في جبال الدنيا " .
الشاهد الثالث : ثم يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها واضطرامها وبُعْد قعرها وشدة حرها وعظيم عذاب أهلها ، فيشاهدهم وقد سِيقوا إليها سود الوجوه زرق العيون ، والسلاسل والأغلال في أعناقهم .(1/19)
فلما انتهوا إليها فُتِّحت في وجوههم أبوابها ، فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع وقد تقطعت قلوبهم حسرة وأسفاً ( وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً( (2) فيراهم شاهد الإيمان وهم إليها يُدفعون ، وأتى النداء من قِبَل رب العالمين (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ( (3) ثم قيل لهم : ( هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ? أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ? اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( (4) فيراهم شاهد الإيمان وهم في الحميم على وجوههم يسحبون ، وفي النار كالحطب يسجَرون ( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( (1) فبئس اللِّحَاف وبئس الفِرَاش ، إنِ استغاثوا من شِدة العطش ( يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ( (2) فإذا شربوا قطّع أمعاءهم في أجوافهم وصهر ما في بطونهم ، شرابهم الحميم وطعامهم الزقوم ( كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ? وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ( (3) .
فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات ولَبِسَ ثياب الخوف والحذر ، وأخصب قلبه من مطر أجفانه وهانَ عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه .
وعلى حسب قوة هذا الشاهد يكون بعده من المعاصي والمخالفات ، فيذيب هذا الشاهد من قلبه الفضلات والمواد المهلكة وينضجها ثم يخرجها ، فيجد القلب لذّة العافية وسرورها .(1/20)
الشاهد الرابع : فيقوم به بعد ذلك شاهد من الجنة وما أعَدّ الله لأهلها فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فضلاً عما وصفه الله لعباده على لسان رسوله من النعيم المفصل الكفيل بأنواع اللذة من المطاعم والمشارب والملابس والصور والبهجة والسرور .
فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله النعيم المقيم الدائم بحذافيره فيها تربتها المسك وحصباؤها الدّر وبناؤها لَبِن الذهب والفضة وقصب اللؤلؤ وشرابها أحلى من العسل وأطيب رائحة من المسك وأبرد من الكافور وألّذ من الزنجبيل ، ونساؤها لوْ برز وجه إحداهن في هذه الدنيا لغلب على ضوء الشمس ، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق ، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور ، وفاكهتهم دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، وفرش مرفوعة ، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون وشرابهم عليه خمرة لا فيها غوْل ولا هم عنها ينزفون وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون ، وشاهدهم حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ، فهم على الأرائك متكئون ، وفي تلك الرياض يُحبرون ، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون .
الشاهد الخامس : فإذا انضم إلى هذا الشاهد شاهد يوم المزيد والنظر إلى وجه الرب جل جلاله وسماع كلامه منه بلا واسطة ، كما قال النبي ( : ( بينا أهل الجنة في نعيمهم إذْ سطع لهمْ نورٌ فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، قال : وذلك قول الله تعالى : ( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ( (1) ، قال : فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نورُه وبركته عليهم في ديارهم ) (2) ، فإذا انضم هذا الشاهد إلى الشواهد التي قبله فهناك يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابِّها فلا يلتفت في طريقه يميناً ولا شمالاً ) انتهى .(1/21)
قد يظن القارئ أن هذا منتهى المسير ، والحقيقة أننا إن انتهينا إلى هذا انتهينا إلى غاية جليلة عظيمة ، فهذا المقام بالنسبة لعلمنا وزماننا وأحوالنا مَنْ يناله ؟! ، وإنما لم ينته المسير بَعْد ، وما يأتي وهو الشاهد السادس هو الذي عليه مدار معاني هذا الكتاب لبيان خطأ التعلق الشديد بالحور العين وخشية الانقطاع أو ضعف التعلق بالمعبود الحق سبحانه ، وإن كانت هذه المقامات لا تليق بنا ولا بزماننا وإنما نرجو رحمة الله وأن يتوب علينا وينجينا من النار ، ونريد هنا بيان إخلاص التوحيد وتجريد المحبة وتصحيح العبودية ، والتوفيق بيد الله ، وَفضْلُه عظيمٌ يؤتيهِ مَنْ يَشاء ، وقبل أن أنقل هنا الشاهد السادس من شواهد السائر إلى ربه عز وجل أسأل الله أن يغفر لي ولجميع المسلمين ، ولا مانع وإن كنا لسنا بأهل أن يتجاوز كلامنا وصْف جهنم فهو نقل عن السلف والعلم شيء والحال شيء آخر ، فلا يُحمّل الكاتب مالا يحتمل ، وكما يقال :
فالخوف أوْلى بالمسي
والْحُبُّ يَجْمُلُ بالتُّقا
ءِ إذا تَألَّهَ والحَزَنْ
ءِ وبالنَّقَاءِ مِنَ الدّرَنْ
الشاهد السادس : ثم قال ابن القيم - قدس الله روحه - : ( هذا وفوق ذلك شاهد آخر تضمحل فيه هذه الشواهد ، ويغيب به العبد عنها كلها ، وهو شاهد جلال الرب تعالى وجماله وكماله وعزّه وسلطانه وقيوميته وعلوّه فوق عرشه ، وتكلمه بكتبه وكلمات تكوينه وخطابه لملائكته وأنبيائه .
فإذا شاهده شاهد بقلبه قيّوماً قاهراً فوق عباده مستوياً على عرشه منفرداً بتدبير مملكته ، آمرًا ناهياً مرسلاً رسله ومنزلاً كتبه ، يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل ويحب ويكره ، ويرحم إذا اسْتُرحم ويغفر إذا استُغفر ، ويعطي إذا سُئل ، ويجيب إذا دُعي ويُقيل إذا اسْتقيل ، أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء وأعز من كل شيء وأقدر من كل شيء وأعلم من كل شيء وأحكم من كل شيء ) .(1/22)
ثم قال : ( ولوْ قُدِّر جمال الخلق كلهم على واحد منهم ثم كانوا كلهم بذلك الجمال ، ثم نُسِب إلى جمال الرب تعالى لكان دون سراج ضعيف بالنسبة إلى عين الشمس ) .
ثم قال : ( فالسموات السبع في كَفِّه كخردلة في كف العبد ، ولوْ أن الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم قاموا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله عز وجل ، لوْ كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سُبُحَاتُه ما انتهى إليه بصره من خلقه (1).
فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد اضمحلت فيه الشواهد المتقدمة من غير أن تُعدم .
بل تصير الغلبة والقهر لهذا الشاهد ، وتندرج فيه الشواهد كلها ! .
وَمَنْ هذا شاهده فله سلوك وسيْر خاص ليس لغيره ممن هو عن هذا في غفلة أوْ معرفة مجملة .
فصاحب هذا الشاهد سائر إلى الله في يقظته ومنامه وحركته وسكونه وفطره وصيامه ، له شأن وللناس شأن ، هو في واد والناس في واد ..
خَلِيلَيَّ لاَ وَاللهِ مَا أنا مِنكمَا
إذا عَلَمٌ مِن آلِ لَيْلَى بَدَا لِيَا (2)
قال الحسن البصري - رحمه الله - : ( لوْ عَلِمَ العابدون أنهم لا يروْن ربهم يوم القيامة لذابتْ أنفسُهم ! ) (3) ؛ وقال : ( إن أحبّاء الله هم الذين ظفروا بطيب الحياة ، وذاقوا لذة نعيمها بما وصلوا إليه من مناجاة حبيبهم وما وجدوا من حلاوة حبه في قلوبهم ، ولاسيما إذا خطر على بال أحدهم ذكر تكليمه وكشْف ستورِ الحُجُب عنه في المقام الأمين والسرور الدائم ، وأراهم جلاله وأسمعهم لذيذ كلامه ، وَرَدّ عليهم جواب ما ناجَوْه به أيام حياتهم إذْ قلوبهم به مشغوفة ، وإذْ مودّتهم إليه معطوفة ، وإذْ هم له مؤثرون ، وإليه منقطعون .
فليبشر المصفّون له وُدّهُمْ بالمنظر العجيب بالحبيب ، فواللهِ ما أراه يحلّ لعاقل ولا يجمل به أن يسْتَوْعبه حب أحد سوى حب الله عز وجل ) انتهى (1) .
قال أبو تراب النخشبي :
لا تُخدعَنّ ! ، فللمُحِبِّ دَلاَئلُ
منها تنعّمُهُ بِمُرّ بَلاَئِهِ
فالمنعُ منه عَطِيَّة مَقبُولةٌ(1/23)
وَمِن الدلائلِ أن يُرى مِنْ عَزْمِهِ
وَمِن الدلائلِ أن يُرى متبسِّماً
وَمِن الدلائلِ أن يُرى مُتفهِّماً وَمِن الدلائل أن يُرى متقشِّفاً
ولَديْه مِنْ تُحفِ الحبيبِ وسائلُ
وسرُوره في كُلِّ مَا هُوَ فاعِلُ
والفقرُ إكرامٌ وبِرٌّ عاجلُ
طَوْع الحبيبِ وإنْ ألَحَّ العاذِلُ
والقلبُ فيهِ مَنَ الحبيبِ بَلاَبلُ
لِكلام من يُحظى لديْه السَّائلُ
متحفِّظاً في كُلِّ مَا هُوَ قائِلُ (2)
ومن أسمائه سبحانه ( الودود ) ، قال ابن عباس – رضي الله عنهما - : ( الودود ) الحبيب (1).
وقال ابن القيم - رحمه الله - : ( الودّ أصفى الحب وألطفه ) (2) ، وقد قال تعالى عن أوليائه : ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( (3) وقال سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( (4) .
إن كثيراً من الناس لا يعرف من العبادة إلا الأعمال الظاهرة ، أما حال القلب وعمله وحبه وشوْقه وتعلّقه فقد لا يبالي أن ينصرف لأي وِجْهةٍ ويسلك أيّ سبيل لِقصور فهمه ونقص علمه ، ولذلك فإن فَهْم معنى التعبّد والعبادة يبين الأمر على جليَّته .
قال ابن القيم - رحمه الله - : ( وأما التعبد فهو غاية الحب وغاية الذّل ، يُقال : عَبَّدَه الحب - أي ذلّله - ، وطريق مُعَبّدٌ بالأقدام - أي مُذلّل - وكذلك المحب قد ذلّله الحب وَوَطَّأه ، ولا تصلح هذه المرتبة لأحد غير الله عز وجل .
ولا يغفر الله سبحانه لمن أشرك به في عبادته ويغفر ما دون ذلك لمن شاء ، فمحبة العبودية هي أشرف أنواع المحبة ، وهي خالص حق الله على عباده ) انتهى (1) .
ومن أعظم القواطع عن محبة الله وعبوديته العشق الذي قال فيه ابن القيم : ( إنه شرك في المحبة وفراغ عن الله ، وتمليك للقلب والروح والحب لغيره ) .(1/24)
وقال – رحمه الله - : ( فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد ، بل هو خمر الروح الذي يُسكرها ويصدها عن ذكر الله وحبه ، والتلذذ بمناجاته ، والأنس به ؛ ويُوجب عبودية القلب لغيره ، فإن قلب العاشق متعبّد لمعشوقه ، بل العشق لُبّ العبودية ، فإنها كمال الذل والحب والخضوع والتعظيم ) انتهى (2) .
ولاشك أن التعلق بالدنيا والسُّفْلِيَّات وشِدَّة الرغبة فيها يُوثِق القلب ويقيّد الروح أنْ تصعد لمرادها الحق ، فَتَجُول في العالَم السُّفلي المظلم الموحِش فلا تجد سوى الظلمة والوحشة ، وتكون بذلك مُعذّبة بحسب قوة ذلك التعلق وضعفه .
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - : ( وكلما كان قلبه في محبة الله وذكره وطاعته كان معلقاً بالمحل الأعلى ، فلا يزال في عُلوِّ مادام كذلك ، فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل فلا يزال في هبوط مادام كذلك ) انتهى (1) .
وعن عطاء بن يسار ، قال : قال موسى ( : ( ياربّ مَن أهْلُكَ الذين هم أهْلُكَ الذين تظلهم في ظِلِّ عَرْشِك ؟! ، فذكر صفاتهم ومنها : " ويَكْلَفُون (2) بُحُبِّي كما يكْلَف الصبيُّ بحب الناس ، ويغضبون لمحارمي إذا استُحِلّت كما يغضب النِّمْرُ إذا حَرِب (3) " ) انتهى (4) .
لقد كان سلف هذه الأمة يتنافسون في هذا لكمال علمهم ومعرفتهم بمعبودهم الحق سبحانه ، ومن هنا صاروا أولياء لله ، ولذلك استحقوا أن يقول فيهم سبحانه كما في الحديث القدسي : ( من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) (5) ، وفي رواية أخرى قال رسول الله ( : قال الله تعالى : ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) الحديث (6).(1/25)
وكما في كلام الله تعالى لموسى عليه السلام : ( واعلم أنه من أهان لي ولياً أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة ) وهذا يوافق ما عندنا في الحديث المتقدم ، وقد ذَكره الإمام أحمد من رواية وهب بن منبه في كلام الله لموسى في الطور لما أراد سبحانه إرساله إلى فرعون ؛ وسوف أنقل هنا بعضه لما فيه من العِبر والآيات ،ولِما فيه مما يُصدِّق ما عندنا ، ولمناسبته لِحالنا وما يجري في زماننا .
قال سبحانه في كلامه لموسى في الطور : ( إني قد أقمتك اليوم مقاماً لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك ، أدْنيْتك وقربتك حتى سمعت كلامي ، وكنت بأقرب الأمكنة مني ، فانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي ، وإن معك يدي ونصري ،وإني قد ألْبستك جُنَّة من سلطاني تستكمل بها القوة في أمري ، فأنت جند عظيم من جنودي ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي ، بَطِر نعمتي وأمِنَ مكري ، وغرّته الدنيا عني حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وعُبِدَ من دوني ، وزعم أنه لا يعرفني ، وإني أُقسم بعزتي لوْلا العذر والحجة اللذان بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار ، فإن أمرت السماء حصبته ، وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت الجبال دَمّرته ، وإن أمرت البحار غرّقته ، ولكنه هان عليّ وسقط من عيني ووسعه حلمي ، واستغنيت بما عندي وحُقّ لي .. إني أنا الغني لا غني غيري ، فبلّغه رسالاتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاص اسمي ، وذكّره بأيامي ، وحذّره نقمتي وبأسي ، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي ، وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يَروعَنَّك ما ألْبسته من لباس الدنيا فإن ناصيته بيدي ، ليس يطرف ولا ينطق ولا يتنفس إلا بإذني .(1/26)
قل له : أجب ربك فإنه واسع المغفرة ، وأنه قد أمهلك أربعمائة سنة وفي كلها أنت مبارز لمحاربته ، تَشبَّه وتَمَثَّل به وتصد عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء ويُنبت لك الأرض ، لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تُغلَب ، ولوْ شاء أن يُعجل ذلك لك أوْ يسلبكه فعل ، ولكنه ذو أناةٍ وحِلْمٍ عظيم .
وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما محتسبان لجهاده فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قِبَلَ له بها لفعلت ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة ولا قليل مني تغلب الفئة الكثيرة بإذني ، ولا يعجبكما زينته ولا ما مُتِّع به ولا تمدان إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين وإني لوْ شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أُوتيتما فعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزْويه عنكما ، وكذلك أفعل بأوليائي ، وقديماً ما خِرْتُ لهم (1) في ذلك فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبلَه عن مراتع الهلكة ، وإني لأجنبهم سلْوتها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك العرّة (2) ؛ وما ذلك لِهَوَانِهم عَلَيّ ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفوراً ، لم تكْلمْه الدنيا ، ولم يُطْغِه الهوى .
واعلم أنه لم يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ من الزهد في الدنيا فإنها زينة المتقين ، عليهم منها لِباس يُعرفون به من السكينة والخشوع ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود (1) ، أولئك أوليائي حقاً ، فإذا لَقيتَهم فاخفض لهم جناحك ، وذلّل لهم قلبك ولسانك .(1/27)
واعلم أن من أهان لي وَلياً أو أخافَه فقد بارزني بالمحاربة ، وبدأني ، وعَرَّض بنفسه ودعاني إليها ، فأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي .. أيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ؟! .. أوَ يظُن الذي يُغازيني أن يُعجزني ؟! .. أوَ يظُن الذي يبارزني أن يسبقني أوْ يفوتني ؟! ؛ وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة ، لا أكِلُ نصرتهم إلى غيري ... ) إلى آخره (2) .
والشاهد هنا عناية الله بأوليائه ، وما بلغوا ذلك إلا بتجريد محبتهم لمعبودهم سبحانه ، فهم كما قال ابن القيم – رحمه الله - : ( فالنفوس العليّة الزكيّة تعبده لأنه أهل أن يُعبد ويُجَلّ ويُحَبّ ويُعظّم ، فهو لذاته مستحق للعبادة ، ولا يكون العبد كأجير السوء إن أُعطي أُجرةً عَمِل ، وإن لم يُعط لم يعمل ، فهذا عبد الأجرة لا عبد المحبة والإرادة ! ) انتهى (1) .
وذكر - رحمه الله - محبة خواص أولياء الله ، وأنهم يريدون قربه ، ووصولهم إليه ، واشتغالهم به عما سواه والتنعم بحبه ، ولذّة الشوق إلى لقائه .
وذكر أن هذا هو مطلوبهم الأعظم وأنه إذا انضاف إلى هذا المطلب الأعظم المقصود بالقصد الأول طلبهم لِثوابه المخلوق المنفصل فلا عِلّة في هذه العبودية .
وعلماء السلف - رحمهم الله - يُبيّنون التوحيد ليتجرّد ويتصفى من العِلل والشوائب .
ولذلك يقول ابن القيم - رحمه الله - : ( والعارفون عملهم على المنزلة والدرجة ، والعمال عملهم على الثواب والأجرة ، وشتّان ما بينهما ) (1) .
وليس المراد مما تقدم عَيْب سؤال الله الجنة ، وإنما العَيْب أن يكون مبلغ العلم ومنتهى الإرادةِ والطلبِ هو الجنة المخلوقة ، والغيْبَة عن حقيقة التعَبُّدِ والتألّه ، فالشأن كلّ الشأن في العلم بالله تعالى ومعرفته وحُبه .
والنبي ( قال : ( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهَارُ الجنة ) (1) .(1/28)
ولذلك قال ابن القيم في هذا الحديث : ( ومعلوم أن هذا مسْكن خاصة الخاصة وسادات العارفين ، فسؤالهم إياه ليس عِلّةً ولا قدحاً فيه ) (2) .
وقال - رحمه الله - عن الجنة : )( وقد حَضّ النبي ( عليها أصحابه وأمته فَوصفها وجلاّها لهم ليخطبوها وقال : " ألا مشمرٌ للجنة ! ، فإنَّ الجنةَ لا خطر لها ، هي وربِّ الكعبةِ نور يتلألأ ، وريحانه تهتز ، وقصْر مَشِيد ، ونهر مُطَّرِد ، وفاكهة كثيرة نَضِيجَة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحُلَل كثيرة في مقامٍ أبداً ، في حَبْرة ونضْرَة ، في دُورٍ عاليةٍ سليمةٍ بَهيةٍ " ، فقال الصحابة : نحن المشمرون لها . فقال ( : " قولوا : إن شاء الله " (3) ) .
إذاً ليس المراد الشَّطَح ، وإنما المراد بيان حقيقة التوحيد والعبودية والفرقان بين المخلوق مهما يكن حتى الحور العين وبين الخالق سبحانه المعبود الحق .
وحتى لا يكون التعبُّد فقط لإحسان الله إلى عبده سواء في الدنيا أو الآخرة بل يكون لِذات المعبود سبحانه .
ولذلك يقول ابن القيم - رحمه الله - : ( المحبة المقصورة على إحسان الربِّ على عبده هي محبة العوام لأن مَنْشأها من الأفعال لا من الصفات والجَمال ، ولوْ قُطِع الإحسان عن هذه القلوب لتَغيّرتْ وذهبت محبتها أو ضعفت فإن باعِثها إنما هو الإحسان ، ومَن وَدَّكَ لأمرٍ ولىّ عند انقضائه ، فهو برؤية الإحسان مشغول ، وبتوالي النعم عليه محمول ) انتهى (1) .
إن من الواجب علينا أن نتفقد أحوالَنا بِعِلْم لأن الفرق كبير بين فهمنا وفهوم سلف هذه الأمة .
ولتعلم حقيقة كلام ابن القيم الأخير في ذَمّ المحبة المقصورة على الإحسان فقد قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : ( من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قلَّ علمه وحضر عذابه ) (2).(1/29)
وقال ابن أبي الحواري - رحمه الله تعالى - : سُئل أبو سليمان الداراني - رحمه الله - وأنا حاضِر : ما أقرب ما يُتقرب به إلى الله عز وجل ؟! ، فبكى رحمه الله ! ، ثم قال : ( مثلي يُسأل عن هذا ؟! ، أقرب ما يُتقرب به إليه أن يطّلع على قلبك وأنت لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو ) (1) .
وقال يحيى بن معاذ - رحمه الله - : ( النُّسُك هو العناية بالسرائر وإخراج ما سِوى الله من القلب ) (2) .
وقال سهل بن عبد الله التستري - رحمه الله - : ( ما من ساعة إلاَّ واللهُ سبحانه يطّلع فيها على قلوبِ العبادِ فأيُّ قلبٍ رأى فيه غَيره سلّط عليه إبليس ! ) انتهى (3) .
والكلام في هذا الكتاب مداره على المعرفة بالله وبحقه وألا يتداخل حقه سبحانه بحق المخلوق ، ولذلك قال ابن القيم في قول أبي فراس الحمداني في شِعْره :
فليتكَ تحلُو والحياةُ مَرِيرةٌ
وليتَ الذي بيني وبينكَ عامرٌ
إذا صَحَّ منكَ الودُّ فالكلُّ هَيِّنٌ
وليتكَ ترضَى والأنامُ غِضَابُ
وبيني وبينَ العالمينَ خَرَابُ
وكُلُّ الذي فوقَ الترابِ ترابُ (4)
قال – رحمه الله – عن هذه الأبيات : ( أساء كل الإساءة في قوله إذْ يقوله لمخلوق لا يملك له ولا لنفسه نفعاً ولا ضراً ) .. أيْ أن هذا لا يصلح إلا للهِ عز وجل .
وقد ذكر أهلُ العلمِ أنَّ مِنْ علامات العارفِ باللهِ أنه مستأنس بربه ، مُسْتَوْحش ممن يقطعه عنه .
وأن المعرفة بالله تعالى على ثلاثة أركان : الهيْبة ، والحياء ، والأُنس .
وقالوا : ( لكل شيء عقوبة وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله ) .
وقال يحيى بن معاذ – رحمه الله - : ( يخرج العارف من الدنيا ولم يقضِ وطَره من شيئين : بكاءٍ على نفسه ، وثناءٍ على ربه ) .(1/30)
قال ابن القيم : ( وهذا من أحسن الكلام ، فإنه يدل على معرفته بنفسه وعيوبه وآفاته ، وعلى معرفته بربه وكماله وجلاله ، فهو شديد الإزراء على نفسه لهج الثناء على ربه ، ومَن عرف الله تعالى صفا له العيش ، فطابت له الحياة ، وهابَه كلُّ شيء ، وذهب عنه خوف المخلوقين ، وأنِسَ بالله ؛ ومَن عرف الله قرّتْ عينه بالله ، وقرّت عينه بالموت ، وقرّت به كل عين ، ومَن لم يعرف الله تقطع قلبه على الدنيا حسرات ؛ ومَن عرف الله لم يبق له رغبة فيما سواه ؛ ومَن ادّعى معرفة الله وهو راغب في غيره كذَّبَتْ رغبتُه معرفتَه ، ومَن عرف الله أحبّه على قدر معرفته به وخافه ورجاه وتوكل عليه وأناب إليه ولَهج بذكره واشتاق إلى لقائه واستحيا منه وأجَلّه وعظّمه على قدر معرفته به ؛ والمعرفة حياة القلب مع الله .
ومجالسة العارف تدعوك من سِتٍّ إلى سِتٍّ : من الشك إلى اليقين ، ومن الرياء إلى الإخلاص ، ومن الغفلة إلى الذكر ، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة ، ومن الكِبر إلى التواضع ، ومن سوء الطويّة إلى النصيحة ) (1) .
وقال بعض السلف : ( مَن رَكَنَ إلى الدنيا أحرقته بنارها فصار رماداً تذروه الرياح ، ومن ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها فصار سبيكة ذهب يُنتفع به ، ومن ركن إلى الله أحرقه نور التوحيد فصار جوْهراً لا قيمة له ! (2) )(3)؛ فانظر كيف فَرَّقتْ المعرفة بالله بين الركون إليه والركون إلى الآخرة .(1/31)
قال أبو زيد البحراني – رحمه الله - : دخلت على عابد بالبحرين فإذا هو مكبوب على وجهه ويقول : ( وعزتك يا حبيبي لقد أذاب قلبي الشوقُ إلى النظرِ إلى وجهك الكريم ) ، قال : فأبكاني واللهِ ، فلم يلبث بعد ذلك إلا أياماً حتى مات - رحمه الله تعالى - ؛ فرأتْ امرأةٌ من أهله كأنها دخلت الجنة وقد زُخرفتْ ، فقالت : لِمن زُخرفت الجنة ؟! ؛ فقالوا : لولي من أولياء الرحمن قد مات البارحة ؛ فقالت : فخرج وعلى يده كوب ياقوت ، فلما رأيته بُهِتُّ – أيْ دُهِشْت - ! ، فقال : ( لن تراعي ! ، إنما هي الجنة للمليك يُتحف بها من أحبَّ من عباده ) ، قالت : قلت بأبي أنتَ ! .. بِمَ نِلْتَ هذه المنزلة من الله ؟! ، قال : ( بمحبته وإيثار محابِّه عز َّوَجل ) .
قال أبو سليمان الداراني : ( لوْ لم يكن لأهل المعرفة إلا هذه الآية الواحدة لاكْتفوا بها : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ? إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( (1) ) (2) .
وقال أحمد بن أبي الحواري : سمعت أبا سليمان الداراني يقول : أي شيء أراد أهل المعرفة ؟! ، واللهِ ما أرادوا إلا ما سأل موسى عليه السلام ) (3) ؛ يريد قوله : ( قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ( (4) .
وكان سعيد بن علقمة من نُسَّاكِ النخع وكانت أمه طائية ؛ قالت : كان بيننا وبين داود الطائي جدار قصير ، فكنت أسمع حنينه عامّة الليل لا يهدأ ، قالت : ولربما سمعته في جوف الليل يقول : ( اللهم همّك عطّل عليَّ الهموم وحال بيني وبين السُّهاد ، وشوقي إلى النظر إليك منع مني اللذات والشهوات فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب ) ، قالت : ( ولربما ترنّم في السحر بشيء من القرآن فأرى أن جميع نعيم الدنيا جُمع في ترنّمه تلك الساعة ) (5) .(1/32)
وقال عبد العزيز بن محمد : رأيت فيما يرى النائم كأنّ قائلاً يقول : مَنْ يحضر مَنْ يحضر ؟! ؛ فأتيته ، فقال لي : ما تريد ؟! ، فقلت : سمعتك تقول : مَنْ يحضر مَنْ يحضر ؟! ، فأتيتك أسألك عن معنى كلامك ، فقال لي : أما ترى القائم الذي يخطب الناس ويخبرهم عن أعلى مراتب الأولياء ، فأدْرِكْ فلعلك تلحقه وتسمع كلامه قبل انصرافه ، قال : فأتيته فإذا الناس حوْله وهو يقول :
ما نالَ عَبْدٌ مِنَ الرحمنِ منْزِلَةً أعلَى مِنَ الشوقِ إنَّ الشوقَ محمودُ !
قال : ثم سَلّم ونزل ؛ فقلت لرجل إلى جنبي : مَنْ هذا ؟! ؛ فقال : أمَا تعرفه ؟! ؛ فقلت : لا ؛ فقال : هذا داود الطائي ؛ فعجبت في منامي منه ؛ فقال : أتعجب مما رأيت ! ، واللهِ لَلَّذي لداود عند اللهِ أعظمُ من هذا وأكثر ! (1) .
ورأى إبراهيم بن أدهم في المنام كأنّ جبريل - عليه السلام - قد نزل إلى الأرض ، فقال له إبراهيم : لِمَ نزلت إلى الأرض ، قال : لأكتب المحبين . قال : مثل مَن ؟! قال : مثل مالك بن دينار وثابت البناني وأيوب السخّتياني ، وعَدَّ جماعات . قال إبراهيم : أنا منهم ؟! قال : لا ؛ فقلت : فإذا كتبتهم فاكتب تحتهم : محبٌ للمحبين . قال : فنزل الوحي : أكتبه أولهم ! (2) .
وقبل سنتين ونصف تقريباً حدثني أحد الإخوان في الله أن صاحباً له كان ممن مَنَّ الله عليه بمعرفته والشوق إليه والإقبال عليه ، وكان كلما جلس في مجلس وسمع البعض يتكلمون فيه عن الحور العين والشوق إليهن قال لهم متعجباً : أفلا أدلكم على ما هو أعظم من الحور العين ؟! ، فيسألونه بتعجب عن ذلك وقد كانوا غافلين عنه ! . فيقول لهم : إن رؤية الله تعالى والشوق إليه أعظم نعيماً من الحور العين والشوق إليهن ! .(1/33)
وفي حدود عام 1423هـ توفي ذلك الرجل الصالح ، فرآه أحدُ أصحابه في المنام بعد أيام من وفاته فسأله : أين أنت الآن ؟ ، فقال : أنا في الجنة بحمد الله ؛ فقال له الرائي : هل تصف لنا الجنة وحورها الحسان ؟ . فقال له : ويحك ! ، أفَلاَ تسألني عن رؤية الله تعالى ! ، ثم قال : ( والله لقد أعطاني الله أن أرى وجهه الكريم متى ما أردتُّ ! ) انتهى .
فتأمل ذلك ! ، ولا عجب فقد جاء في حديث صهيب الرومي - رضي الله عنه – الذي تقدم ذكره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في رؤية أهل الجنة لربهم - سبحانه وبحمده - : ( فَمَا أُعطُوا شَيئاً أحَبّ إليهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ ) (1) ، وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - : ( الشوق إلى مجرد الأكل والشرب والحور العين في الجنة ناقص جداً بالنسبة إلى شوق المحبين لله تعالى ، بل لا نسبة له إليه البتة ! ) انتهى (2) .
وقال الإمام ابن الأثير - رحمه الله - : ( رؤية الله هي الغاية القصوى في نعيم الآخرة ، والدرجة العليا من عطايا الله الفاخرة ، بلغنا الله منه ما نرجو ) انتهى (1) .
ولذلك فإن الملائكة - عليهم السلام - لا يأكلون ولا يشربون وليست لهم شهوة إلى النساء ، ومع هذا فهم في نعيم لا يبلغه وصفنا من قربهم لربهم وحبهم له وشوقهم إليه ! .
وبهذه المناسبة فقد أورد الإمام ابن رجب - رحمه الله – أبياتاً رقيقة في محبة الله تعالى لأحد العارفين ، يقول فيها (2) :
هَنِيئاً لِمَنْ أضْحَى وَأنتَ حَبِيبُهُ وَطُوبَى لِصَبٍّ أنتَ سَاكِن سِرِّهِ وَمَا ضَرَّ صَباً أن يَبِيتَ وَمَا لَهُ وَمَنْ تكُ رَاضٍ عَنْهُ في طَيِّ غَيْبهِ فَيَا عِلَّةً في الصَّدْرِ أنتَ شِفَاؤهَا عُبَيْدُكَ فِي بَابِ الرَّجَا مُتَعَلِّقٌ .(1/34)
وَلَوْ أنَّ لَوْعات الغرَامِ تُذِيبُهُ وَلَوْ بَانَ عنهُ إلفُهُ وَحَبِيبُهُ نصِيبٌ مِنَ الدُّنيَا وأنتَ نَصِيبُهُ فمَا ضرَّهُ في الناسِ مَن يَستغيبُهُ وَيَا مَرَضاً فِي القلْبِ أنتَ طَبيبُهُ إذا لَمْ تُجِبْهُ أنتَ مَنْ ذا يُجيبُهُ!. .
وعن أبي سليمان الداراني - رحمه الله - قال : حدثني سعيد الأفريقي ، قال : ( كنت ببيت المقدس مع أصحاب لي في المسجد ، فإذا أنا بجارية عليها درع شعر وخمار من صوف ، فإذا هي تقول : إلهي وسيدي ما أضْيق الطريق على مَن لَمْ تكن دليله وأوْحش خلْوة من لم تكن أنيسه ! . فقلت : يا جارية ما قطع الخلق عن الله عز وجل ؟! ، فقالت : حبُّ الدنيا إلاّ أن للهِ عز وجل عباداً أسقاهم من حُبِّه شربةً فَوَلَهَتْ قلوبهم فلم يُحبوا مع الله غيره ) انتهى (1) .
وقال ابن القيم - رحمه الله - : ( وهل تعلّقت المحبة بموجود مُحْدَث إلا لِكمال في وجوده بالنسبة إلى غيره ؟! ، وهل ذلك الكمال إلا من آثار صُنع الله الذي أتقن كل شيء ؟! ، وهل الكمال كله إلا له ؟! .
فكل مَن أحبّ شيئاً لِكمالِ ما يدعوه إلى محبته فهو دليل وعبرة على محبة الله وأنه أوْلى بكمال الحب من كل شيء .
ولكن إذا كانت النفوس صغاراً كانت محبوباتها على قدرها ! ، وأما النفوس الكبار الشريفة فإنها تبذل حبها لأجَلّ الأشياء وأشرفها ) (2).
إذاً لابد من العلم بصفات المعبود الحق سبحانه لأن المحبة تابعة للشعور ، ولذلك فإن المنكِر لوجوده سبحانه لا يُشعر به ، أما المسلم فيُشعر بوجوده بقدر علمه به سبحانه ، والتفاوت بين المسلمين في ذلك كبير ، والعمل الصالح المقبول يُقوّي الشعور جداً .
قال ذو النون المصري : ( بينما أنا أسير على ساحل البحر إذْ بَصرتُ بجارية عليها أطمار شعر ، وإذا هي ذابلة ناحلة ، فدنوت منها لأسمع ما تقول وإذا هي متصلة الأحزان بالأشجان ، وعصفت الرياح وأنا واقف عندها فاضطربت الأمواج ، فصرختْ ثم سقطتْ على الأرض .(1/35)
فلما أفاقت نَحَبَتْ ، ثم قالت : يا سيدي بِكَ تفرّد المتفردون في الخلوات ، ولعظمتك سَبّحتْ الحيتان في البحار الزاخرات ، ولجلال قُدْسِك اصطفقت الأمواج المتلاطمات .. أنتَ الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار ، والفَلَك الدّوْار ، والبحر الزَّخّار ، والقمر النوّار ..
يا مُؤنِسُ الأبْرَارِ فِي خَلَوَاتِهَا
يا خَيْر مَنْ حَطّتْ بِهِ النُّزَّالُ !
ثم شهقت شهقة فإذا هي قد فارقت الدنيا ! .
فبقيت أتعجب مما رأيت منها ، فإذا بِنِسْوةٍ قد أقبلنَ عليهنَّ مدارع الشعر فاحتملنها فغيّبْنَهَا عني ، فغسّلنها ثم أقبلن بها في أكفانها ، فقلن لي : تقدم فصلِّ عليها ، فتقدمت فصليت عليها ، ثم احتملنها ومضيْن ) انتهى (1) ؛ والمراد هو الكلام على المعرفة بالله سبحانه وأنها هي التي تُوجب مع التوفيق صفاء المعاملة .
قال ابن القيم - رحمه الله - : ( هذا الصِّدِّيق يمسك بلسانه ويقول : هذا أوردني الموارد ! ، وعمر يناشد حذيفة : هل أنا منهم ؟! ، والمخلِّط على بساط الأمن ! .
يا من يستعظم أحوال القوم تنقل في المراقي تصل ، مَن جمع بين العلم بالسنة ومتابعتها أَنْتَجَا لَهُ المعاني البديعة ، فهي تنادي على رؤوس الأشهاد : وُلدتُ من نكاح لا من سفاح ! ، ومَن قرَن بين البدعة والهوى أنْتجا له ضروب الهذيان ، فهي تنادي على رؤوس الأشهاد : أيها الفَطِن لا تغتر ! .
تقف في صلاتك بجسدك وقد وجّهت وجهك إلى القبلة ووجهت قلبك إلى قِطْرٍ آخر ! ، ويْحك ما تصلح هذه الصلاة مهر الجنة فكيف تصلح ثمناً للمحبة ؟! ، إما أن تصلي صلاةً تليق بمعبودك وإما أن تتخذ معبوداً يليق بصلاتك .
استغث بمقلب القلوب يُعينك ، فإن تأخرت الإجابة فابْعث رائد الانكسار خلفها تجده عند المنكسرة قلوبهم ! .
اللطف مع الضعف أكثر ، فتضاعف ما أمكنك .
لا تنس العناية بالسحرة جاءوا يحاربونه ويحاربون رسله وخُلَعُ الصُّلح قد فُصِّلت وتيجان الرضى قد وُضعِت .(1/36)
لَمَّا غَلَبَت عليهم المحبةُ صُلبوا في جذوع النخل ، واعجباً لِعَزَماتٍ ما ثناها ( لأَُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ ( (1) سَجَدوا له سجدةً واحدةً فمَا رفعوا رؤوسهم حتى رأوا منازلهم من الجنة ! ، فغلبهم الوجْدُ وتمكن منهم الشوق فقالوا : ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( (2) :
تَمُرُّ الصَّبا صُبحاً بساكن ذي الغضا قريبةُ عَهْدٍ بالحبيب وإنما
ويُصدَع قلبي أن يَهب هبوبُها
هوى كلّ نفْس أينَ حَلّ حبيبُها
ضيف المحبة مالَه قِرى إلا المُهج ، إذا رأيت محباً ولم تَدْرِ لمن حُبه ، ضع يدك على نبْضه وسَمِّ له من تُطبِّه به فإن النبض ينزعج عند ذكره .. ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ( (3) .
إحذر معاشرة البطَّالين فإن الطبعَ لِصّ .. لا تُصادقَنَّ فاسقاً ولا تَثِق إليه فإن مَن خان أوَّلَ مُنعمٍ عليه لا يفي لك .
ويحك لا تحقر نفْسَك فالتائبُ حبيبٌ والمنكسر صحيحٌ ، إقرارك بالإفلاس عين الغنى ، تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة ، اعترافك بالخطأ نفس الإصابة .
عُرضت سلعةُ العبوديةِ في سوقِ البيع فَبَذَلت الملائكةُ نَقْد : ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ( (1) فقال آدم : ما عندي إلا فلوس الإفلاس نقشها : ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ( (2) .
فقيل : هذا الذي ينفق على خزانة الخاص ، أنِين المذنبين أحب إلينا من زَجَل المسبحين ! .
لو أبصرت طلائعَ الصِّدِّيقين في أوائل الركب أو سمعت استغاثة المحبين في وسط الركب أو شاهدت ساقة المستغفرين في آخر الركب لعلمت أنك قد انقطعت تحت شجرة أم غيلان ، واحَسْرتا لمنقطع دون الركب يعد المنازل ..
أعُدُّ الليالِي لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ
وَقَدْ يَجْمَعُ الله ُالشَّتِيتِيْنِ بَعْدَمَا
وَقَدْ عِشْتُ دَهْراً لا أَعَدُّ اللَّياليا
يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أن لاَ تلاَقيا(1/37)
إلى متى الرَّوَاح في الهوى والتغليس ؟! ، وحتى متى السعي في صحبة إبليس ؟! ، وكم بَهْرَجَة في العمل وتدليس ؟! .
أين أقرانك ! ، هل تسمع لهم من حسيس ، أمَا علمت أنهم اشتد ندمُهم وحسرتُهم على إيثار الخسيس ! ، تالله لقد وَدّوا لو كانوا طلقوا الدنيا قبل المسيس ..
عينُ المنبِّه تُغضي غير مُطْرقةٍ
جَهْلاً تمكَّنَ منهُ حِينَ مَوْلدهُ
وطرْف مطلوبها مُذْ كَانَ وَسْنانُ
فالنطقُ صاحَ ولبُّ المرءِ سكرانُ
لوْ سُقي الحنظل بماء السُّكَّرِ لم يخرج إلا مُرّا .
شجر الأثل والصفصاف والحَوْر ونحوها ولوْ دام الماء في عروقها لا تثمر أبداً .. سحاب الهوى قد طبّق بَيْداء الأكوان وأمطر مشارق الأرض ومغاربها ولكن قيعان قلبك لا تمسك ماءاً ولا تنبت كلأً ، ومع هذا فلا تيأس .
يا من هبّت على قلبه جنوبُ المجانبة فتكاثفت عليه غيوم الغفلة فأظلم أُفُقُ المعرفة : لا تيأس ! ، فالشمس تحت الغيم ، لوْ تصاعد منك نَفَسُ أسَفٍ استحالت شمالاً فتقطع السحاب فبانت الشمس تحته .
رَميْتَ صخرة الهوى على ينبوع الفطنة فاحتبس الماءُ فإن لم تُطق رَفْعَها فانِقب حولها لعل ينابيع الماء تتفجر .
عشاق الدنيا بين مقتول ومأسور .. ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ( (1) .
يا طالبي العلم ! .. قد كتبتم ودرستم فَلَوْ طَلَبَكُم العلمُ في بيت العمل فُلِّسْتُم ، وإن ناقشكم الإخلاص أفْلسْتم ! .
شجرة الإخلاص أصلها ثابت لا يضرها زعازع .. ( أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( ؟! (1) .
عمل المرائي بَصَلَة كلها قشور ! ، المرائي يحشو جراب الزُّوَادة رملاً يُثقله في الطريق وما ينفعه ! ، ريح الرياء جيفة تجافاها مَشَامُّ القلوب ) انتهى (2) .(1/38)
وقال - رحمه الله - كلاماً يُفسِّر المعاني المرادة بهذا الكتاب . قال : ( إذا كانت مشاهدة مخلوق يوم ( اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ( (3) استغرقت إحساس الناظرات فقطّعن أيديهن وما شعرن ، فكيف بالحال يوم المزيد !) انتهى (4).
يوضح هذا قول عبد الرحمن بن أبي ليلى - رحمه الله - الآتي : (كأن ذا لم يكن شيئاً فيما رأوه ) .
وارجع في التأمل في حديث صهيب - رضي الله عنه - : ( فَمَا أُعطُوا شَيئاً أحَبّ إليهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ ) (5) .
قيل لعبد الرحمن بن أبي ليلى : أرأيت قوله : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ( (1) قال : إن أهل الجنة إذا أُعطوا فيها ما أُعطوا من الكرامة والنعيم نودوا : يا أهل الجنة إن الله وعدكم الزيادة ! ، فيتجلى لهم .
قال ابن أبي ليلى – رحمه الله - : فما ظنك حين ثقلت موازينهم وحين صارت الصحف في أيمانهم ، وحين جاوزوا جسر جهنم وأُدخلوا الجنة وأُعطوا ما فيها ما أُعطوا من الكرامة والنعيم كأن ذا لم يكن شيئاً فيما رأوه ) انتهى (2) .
وقد قال ضيغم الحلاَّب عن محبة الله تعالى ورؤيته عزَّ وجل : ( إن حُبَّه شغل قلوب مريديه عن التلذذ بمحبة غيره ، فليس لهم في الدنيا مع حُبهِ لذة ، ولا يأملون في الآخرة من كرامته الثواب أكثر عندهم من النظر إلى وجهه الكريم ) انتهى (3) .
وقال ذو النون المصري : ( قرأت في التوراة أن الأبرار الذين يؤمنون ، والذين في سبيل خالقهم يمشون ، وعلى طاعته يقبضون .. أولئك إلى وجه الجبار ينظرون ، فغاية أمل الآمِلِ المحبِّ الصادقِ النظر إلى وجه الله الكريم فلا ينعمهم في مجلسهم بشيء أكبر عندهم من النظر إلى وجهه ) انتهى (4) .
وأنشدَ يحي بن معاذ وغَيرُه :(1/39)
كُلُّ مَحْبوبٍ سِوَى اللهِ سَرَفْ كُلُّ مَحْبُوبٍ فَمِنْهُ خَلَفٌ إنَّ ذَا الْحُبِّ الَّذِي يُعْنَى بِهِ لاَ ولاَ الفِرْدوسِ لايألفُهَا إنَّ لِلْحُبِّ دَلاَلاَتٌ إذا هَمُّهُ فِي اللهِ لاَ في غَيْرِهِ دائمُ التِّذكارِ مِنْ حُبِّ الذي فإذا أمْعَنَ فِي الْحُبِّ لَهَى بَاشَرَ الْمِحْرَابَ يَشكُوُ بثَّهُ قائِماً قُدَّامَهُ مُنْتِصِباً رَاكِعاً طَوْراً ، وطَوْراً سَاجِداً
وهُمُومٌ وغمُومٌ وأسَفْ ما خَلاَ الرَّحمنِ مَا مِنْهُ خَلَفْ لاَ بِدَارٍ ذاتِ لَهْوٍ وتَرَفْ لاَ ولاَ الحوْرَاءِ مِنْ فَوْقِ غُرَفْ ! ظَهَرَتْ مِنْ صَاحِبِ الْحُبِّ عُرِفْ ذاهبُ الفِكْرِ وباللهِ كَلِفْ حُبُّهُ غَايَةُ غايَاتِ الشَّرَفْ وَعَلاَهُ الشَّوْقُ مِمَّا قَد كَشَفْ وأمَامَ اللهِ مَوْلاَهُ وَقَفْ لَهِجاً يَتلُو بآيَاتِ الصُّحُفْ باكِياً والدَّمْعُ للهِ يَكِفْ (1)
وقال بعضهم عن العارفين بالله وما أثمر لهم حبُّهُم لَربهم عزَّ وَجل :
قُلُوبُ العارفينَ لَهَا عيُونٌ وَألْسِنَةٌ بأسْرارٍ تُنَاجِي وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بغيْرِ رِيشٍ عِبَادٌ أَخْلَصُوا للهِ حَتَّى
تَرَى ما لا يَرَاهُ النَّاظِرُونَا (2) تَغِيبُ عَنِ الكِرامِ الكاتبينا إلَى مَلكُوتِ رَبِّ العَالمينَا دَنوْا مِنْهُ فَصَارُوا وَاصِلِينَا
وقال أبو الوفاء القزويني وغيره في وصف العارفين بالله تعالى المحبين له :
تشَاغلَ قَوْمٌ بِدنياهُمُ فَألزَمَهُمْ بَابَ مَرْضَاتِهِ فَمَا يَعْرفُونَ سِوَى حُبِّهِ يَصُفُّونَ بالليلِ أَقْدَامَهُمْ فَطَوْراً يُنَاجُونهُ سُجَّداً إِذَا فَكَّرُوا فِي الَّذِي أَسْلَفُوا وَإِنْ يَسْكُنِ الْخَوْفُ لاَذُوا بِهِ وأضحَوْا صِيَاماً عَلَى جَهْدِهِمْ هُمُ القومُ أَعطَوْا مَلِيكَ الْمُلُ هُمُ الْمُجْتَبَوْنَ بنياتهمْ وأَسْكَنَهُمْ فِي فَرَادِيسِهِ فَنَالُوا المُرَادَ بِرُؤيَتِهِ(1/40)
وَقَوْمٌ تَخَلَّوْا لِمَوْلاَهُمُ وَعَنْ سَائِرِ الْخَلْقِ أَغْنَاهُمُ وَطَاعَتِهِ طُولَ مَحْيَاهُمُ وَعَيْنُ المُهَيْمِنِ تَرْعَاهُمُ وَيَبْكُونَ طَوْراً خَطَايَاهُمُ أَذَابَ القُلُوبَ وَأَبكَاهُمُ وَبَاحُوا إِلَيْهِ بِشَكْوَاهُمُ تَبَارَكَ مَنْ هُوَ قَوَّاهُمُ ـوكِ صِدْقَ القُلُوبِ فَوَالاَهُمُ أرادوا رِضَاهُ فأعْطَاهُمُ وَأَعلاَ المنازِلِ بَوَّاهُمُ فَطُوبَى لَهُمْ ثُمَّ طُوبَاهُمُ(1)
وقال أبو عبدالله الحكيم الترمذي : ( فأما أهلُ المعرفةِ وهم المقرَّبون فغمومهم من البقاء في الدنيا ، فإنّ الدنيا "سِجْن" المقربين ينتظرون متى الراحة منها ، وهو قول رسول الله ( : " الدنيا سجن المؤمن " (2) ، وأما أحزانهم فمن ظمأ الشوق إلى الله عزَّ وجل ، فهذان الصنفان لم ينفكوا من الغموم والأحزان ، وسائرهم مخلِّطون بطَّالون لِعُمُرِهم غافلون .. عن الآخرة سكارى حيارى .. سكارى عن وعده ووعيده .. حيارى في سيرهم إليه وركض الليل والنهار بهم إلى الله تعالى ، فهُمُ الذين يفزعون من غموم الدنيا ورين الذنوب المعذبة لقلوبهم في ظلمات سجون المعاصي إلى المرجاح تلهياً وتلعباً ، يتفرَّجون ويتنشطون ويتلبسون ويلتمسون النزهة ونسِيمَها ولا يعلمون أن النزهة في نزاهة القلوب وتطهيرها من آفاتِ النفْسِ وخدعِها ورينِ الذنوب حتى يجدوا نسيمَ الملكوتِ وروْحَ قُربِ الله تعالى على قلوبهم في عاجل دنياهم .. روي عن رسول الله ( أنه قال : ( الإيمان حلوٌ نزه فنزهوا ) (1) ، فإذا التمس العبدُ هذه النزهة فهو نور على نور ، والقلب مشحونٌ بالنور ، والصدر مشرق بالنور ، يعلم من ربه ويعلم ما مَنَّ به عليه ربُّه وهو عنه غَنِىٌّ ولكنه رحِمَه فمَنَّ عليه مما يرى عنده ، فأيُّ فرَحٍ يتسع مع هذا الفرح في قلب ! ، وكيف يبقى في قلب فيه هذا الفرح بالله متسعٌ للفرح بالدنيا وأحوالها ! ، فالقلوب التي تعتوِرُها غمُومُ الآخرةِ هي نورانية تنفرج بتلك(1/41)
الأنوار التي يطالع بها الآخرة وعظيم الرجاء من عند الماجد الكريم ، وأما القلوبُ التي تعتوِرُها ظُلماتُ المعاصي فهي قلوبٌ مُعذَّبةٌ ونفوسٌ لَقِسة (2) ، وجوارح كَسِلة ، يريدون أن يسترْوِحُوا إلى مثل هذه الأشياء من الملاهي ويتنفَّسُوا في فسيح النُّزُهات وقد أخذت غموم النفْسِ بأنفاسهم وجَرَّعَتْهُم الغيْظَ في أنهم لا يصِلُون إلى مُناهم على الصفاء ! ) (1) ؛ فتأمل ذلك ، وكيف هو الفرق كبيرٌ جداً بين نعيم المحبين لله تعالى وبين لذاتِ أهل الشهوات المسمومة ! .
هذا ، وقد قال ابن القيم في أمر الرحمن خليله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل - عليهما السلام - : ( مَنْصِبُ الخُلَّةِ منصبٌ لا يقبل المزاحمة بغير المحبوب ، وأخذ الولد شُعْبة من شِعاب القلب ، غار الحبيب على خليله أن يسكن غيره في شُعْبةٍ من شعاب قلبه فأمره بذبحه ، فلما أسلم للامتثال خرجت تلك المزاحمة وخلصت المحبة لأهلها ، فجاءته البشرى : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( (2) .. ليس المراد أن يُعَذِّب ولكن يبتلي لِيُهَذِّب ، ليس العجب من أمر الخليل بذبح الولد إنما العجب من مباشرة الذبح بيده ! ؛ ولَوْلا الاستغراق في حُبِّ الآمِرِ لَمَا هانَ مثل هذا المأمور ، فلذلك جُعلت آثارُها مثابة للقلوب تحنّ إليها أعظم من حنين الطيور إلى أوْكارها ) (3) .
وقال - رحمه الله - في هذه الآثار التي جعلها الله مثابة للقلوب : ( وهذا يدُلُّك على الاعتناء منه سبحانه بهذا البيت العظيم ، والتنويه بذكره ، والتعظيم لشأنه ، والرفعة من قدره ، ولَوْ لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نَفْسه بقوله : ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ( (1) لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفاً .(1/42)
وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه وسَلَبَتْ نفوسهم حباً له وشوقاً إلى رؤيته ، فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطراً أبداً ،كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حباً وإليه اشتياقاً ، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يُسْليهم كما قيل :
أطوفُ بهِ والنفسُ بَعْدُ مَشُوقةٌ
وألثمُ منهُ الركنَ أطلبُ بَردَ مَا
فوَ اللهِ مَا أزدادُ إلاَّ صَبَابة
فيا جنة المأوى ويا غاية المنى
أبَتْ غلبَاتُ الشوقِ إلا تقرباً
وما كان صَدّي عنك صَدُّ مَلالةٍ
دعوتُ اصطباري عنك بعدك والبكا
وقد زعموا أن المحبَّ إذا نأى
ولوْ كان هذا الزعمُ حقاً لكانَ ذا
بلى إنَّهُ يَبْلَى التصبُّرُ والهوَى
وهذا محبٌّ قادَهُ الشوقُ والهوَى
أتاكَ على بُعْدِ المَزارِ ولَوْ وَنَتْ
إليهِ ، وهلْ بعدَ الطَّوافِ تَدَاني
بقلبيَ مِنْ شوقٍ ومِن هَيَمَاني
ولا القلبُ إلا كثرةُ الخفقانِ
ويا منيتي مِنْ دونِ كلِّ أمانِ
إليكَ فمالي بالبِعادِ يَدانِ
ولي شاهدٌ مِنْ مُقلتي ولساني
فَلَبّى البكا والصبرُ عنكَ عصاني
سيَبْلَى هواهُ بَعدَ طُولِ زمَانِ
دواءُ الهوى في الناسِ كُلّ أوانِ
علَى حالهِ لم يُبْلِهِ الملَوَانِ (2)
بغيرِ زِمامٍ قائدٍ وَعِنَانِ
مطيَّتُه جاءتْ بهِ القَدَمَانِ
واعلم أن مدار معرفة الله سبحانه على ما وصف به نفسه سبحانه ووصفه به رسوله ( ، ولذلك يقول العلماء عنه عزّ وَجلّ : ( كلّ ما خطر ببالك فهو على خلاف ذلك ) ، وهم يريدون بذلك أن الكُنْهَ والكيْفَ لله تعالى لا يدركه البشر في الدنيا لعدم المثيل والنظير .(1/43)
ولذلك يقول عمرو بن عثمان المكي - رحمه الله - : ( واعلم رحمك الله أن كل ما تَوَهّمَه قلبُك أوْ رسخ في مجاري فكرتك أوْ خطر في معارضات قلبك من حُسْن أوْ بَهاء أو إشراق أو ضياء أو جمال ، أو شبحٍ ماثِل أو شخصٍ متمثّل فالله بخلاف ذلك كله ، بل هو تعالى أعظم وأجلَّ وأكمل ؛ ألم تسمع إلى قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ( (1) وقوله عز وجل : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ( (2) أي لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل ، وقِفْ عند خبره مسلِّماً مستسلماً ، مذعناً مصدقاً بلا مباحثة التنقير ، ولا مفاتشة التفكير جَلّ الله وعلا الذي ليس له نظير ولا يبلغ كنه معرفته خالص التفكير ، ولا تحويه صفة التقدير ، السموات مطويات بيمينه ، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ، أقام لِقلوب الموقنين حداً يمسكه التسليم عن التيه في بحور الغيوب المضروبة دون ذي الجلال والكبرياء فشكر لهم تسليمهم واعترافهم بالجهل بما لا علم لهم به وسَمّى ذلك منهم رسوخاً وربانية وإيماناً فقال تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا( (1) وما أخبر عن ملائكته إذْ قالوا : ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( (2) عجزت الملائكة المقربون أن تحدّ أحسن الخالقين ، أو تُكيِّف صفة رب العالمين ، فهم خشوع خضوع خنوع ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ( (3) ) انتهى(4) .
ولتمام الفائدة وما نحن بصدده من معرفة الرب عز وجل فإننا نذكر هنا إشارة إلى رؤيته سبحانه في المنام من كلام شيخ الإسلام – رحمه الله - .(1/44)
قال : ( كذلك فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه ، فهذا حق في الرؤيا ، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلا ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه ، فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك وإلا كان بالعكس .
قال بعض المشايخ : إذا رأى العبد ربه في صورة كانت تلك الصورة حجاباً بينه وبين الله .
وما زال الصالحون وغيرهم يرون ربهم في المنام ويخاطبهم ، وما أظنّ عاقلاً يُنكر ذلك ، فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه إذِ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره ، وهذه مسألة معروفة ، وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين ) (1) .
وقال : ( والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام ) (2) .
وقال : ( ليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى ، وإنما ذلك بحسب حال الرائي وصحة إيمانه وفساده واستقامة حاله وانحرافه وقول من يقول ما خطر بالبال أو دار في الخيال فالله بخلافه ، ونحو ذلك إذا حُمِل على مثل هذا كان محملاً صحيحاً ، فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك ، فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك بل نفس الجن والملائكة لا يتصورها الإنسان ويتخيلها على حقيقتها ، بل هي على خلاف ما يتخيله ويتصوره في منامه ويقظته وإن كان ما رآه مناسباً مشابهاً لها ، فالله تعالى أجل وأعظم ) انتهى (3) .
هذا ، وليس من التكرار ذكر العشق وأنه من أعظم ما يقطع عن الله لكثرة البلوى به في هذا الزمان ولِتَوفر أسبابه ، فتأمل الآن ما قاله ابن القيم وانظر الواقعَ المخيف .(1/45)
قال - رحمه الله - : ( قال بعض العلماء : ليس شيء من المحبوبات يسْتوعب محبة القلب إلا محبة الله أوْ محبة بشر مثلك ؛ أما محبة الله فهي التي خُلق لها العباد ، وبها غاية سعادتهم وكمال نعيمهم ؛ وأما البشر المماثل من ذكر أو أنثى فإن فيه من المشاكلة والمناسبة بين العاشق وبينه ماليس مثله بينه وبين جنس آخر من المخلوقات ، ولهذا لا يُعرف في محبة شيء من المحبوبات المخالفة للمحب في الجنس ما يُزيل العقل ويُفسد الإدراك ويُوجب انقطاع الإرادة لغير ذلك المحبوب ، وإنما يُعرف ذلك في محبته لجنسه ) انتهى (1) .
يريد ابن القيم - رحمه الله - أنه وإن كان حب المال والرياسة ونحو ذلك من المحابِّ التي يُبتلى بها أربابُ القلوبِ الفارغةِ من محبة الله عظيماً في القلوب يصرفها عن المحبة التي خلقت لها إلاّ أن محبة البشر المماثل تستحوذ على القلب وتسْتوعب محبته كلها كما قال - رحمه الله - أن قلب العاشق ليس فيه موضع لغير معشوقه كما قيل :
ما في الفؤاد لغير حبك موْضعٌ كلا ولا أحَدٌ سواك يَحُلّهُ
ثم قال بعد الكلام السابق : ( فتستوعب قلبه ، وتسلب لُبَّه ، ويصير لمعشوقه سامعاً مطيعاً كما قيل :
إنَّ هواكَ الذي بقلبي صَيَّرني سامِعاً مُطيعاً
ويقوى هذا السمع والطاعة عند كثير من العشاق حتى يبذل نفْسَه ويُسْلِمها للتلف في طاعة معشوقة ،كما يبذل المجاهد نفسه لربه حتى يُقتل في سبيله .
وإذا كان النبي ( قد قال : " مُدْمن الخمر كعابد وثن " (1) ، ومَرّ عليُّ ابن أبي طالب - رضي الله عنه - بقومٍ يلعبون بالشطرنج فقال : " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " .
فما الظن بالعاشق المتيّم الفاني في معشوقه ؟! ) انتهى (2) .(1/46)
وقال – رحمه الله - : ( والفتنة بعشق الصُّوَر تنافي أن يكون دين العبد كله لله بل ينقص من كوْن دينه لله بحسب ما حصل له من فتنة العشق ، وربما أخرجتْ صاحبه من أن يبقى معه شيء من الدين لله) انتهى(3) ، وقال أيضاً : ( وكذلك فتنة العشق من أعظم الفتن ) .
وقال بعضُ أهلِ العلم : ( وكم أكبَّت فتنة العشق رؤوساً على مناخرها في الجحيم ، وأسلمتهم إلى مقاساةِ العذاب الأليم ، وجَرَّعَتْهُم بين أطباق النار كؤوس الحميم ؛ وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين ؛ وكم أزالت من نعمة وأحلت من نقمة ؛ وكم أنزلت مِن مَعقِلِ مَن عِزُّهُ عزيزاً فإذا هو من الأذلين ، ووضعَت مِنْ شريفٍ رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل السافلين ؛ وكم كشفت من عورة ، وأحدثت من روعة ، وأعقبت من ألم ، وأحلت من ندم ؛ وكم أضرمت من نار حسراتٍ أحرقت فيها الأكباد وأذهبت قدراً كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد ؛ وكم جَلَبت من جَهْد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء ، فَقَلَّ أن يفارقها زوال نعمة أو فُجَاءة نقمة أو تحويل عافية أو طروق بلية أو حدوث رزية ، فلو سألت النِّعَمَ : ما الذي أزالكِ ؟! ، والنِّقَمَ : ما الذي أدالكِ ؟! ، والهمومَ والأحزانَ : ما الذي جلبكِ ؟! ، والعافيةَ : ما الذي أبعدكِ وجنبكِ ؟! ، والسترَ : ما الذي كشفكَ ؟! ، والوجهَ : ما الذي أذهبَ نُوركَ وكسَفَكَ ؟! والحياةَ : ما الذي كدَّركِ ؟! ، وشمسَ الإيمانِ : ما الذي كوَّرَكِ ؟! ، وَعِزَّةَ النفْسِ : ما الذي أذلكِ وبالهوانِ بعْد الإكرامِ بدَّلكِ ؟! .. لأجابتك بلسان الحال اعتباراً إن لم تجب بالمقال حواراً : هذهِ واللهِ بعضُ جناياتِ العشقِ على أصحابه لو كانوا يعقلون .. ( فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( (1) ! .. ويكفي من مضرة العشق ما اشتهر من مصارع العشاق ، وذلك موجود في كلِّ(1/47)
زمان ) انتهى (2) .
وكلام ابن القيم وأهل العلم في ذلك واضح في أن المراد من العبودية لله عز وجل تفريغ القلب من المحبوبِ المزاحمِ الدخيلِ الطارئ ليبقى القلبُ على الفطرةِ وهي محبة الله بلا مُشارك والتي غذاؤها واستنارتها بالشِّرْعة .
قال فتح بن شَخرف : دخلت على ذي النون عند موته فقلت له : كيف تجدك ؟! ، فقال :
أموتُ وما ماتتْ إليكَ صبابتي
مُنايَ المُنى كلّ المنى أنتَ لي مُنى
وأنت مَدى سُؤْلي وغايةُ رغبتي
ولا رَوِيَتْ مِن صدقِ حُبِّكَ أوْطاري
وأنت الغِنى كلّ الغِنى عندَ إقتاري
ومَوِْضعُ آمالي ومكنون إضْماري (1)
قال أبو الأشهب السائح : بينا أنا في الطواف إذا بجويْرية قد تعلقتْ بأستار الكعبة وهي تقول : ( يا وَحْشتي بعد الأُنس ، ويا ذُلِّي بعد العزّ ، ويا فقري بعد الغِنى ) ، فقلت لها : مالكِ ؟! ، أذَهبَ لكِ مال أو أُصِبْتِ بمصيبة ؟! ، قالت : ( لا ، ولكن كان لي قلب فَفَقدته ) . قلت : هذه مصيبتكِ ؟! ، قالت : ( وأيّ مصيبة أعظم من فقْد القلوب وانقطاعها عن المحبوب ؟! ) ، فقلت لها : إن حُسْنَ صوتكِ قد عَطّل على مَن سمع الكلام الطواف ! . فقالت : ( يا شيخ ! ، البيت بيتُك أم بيتُه ؟! ) قلت : بل بيتُه . فقالت : ( فالحرم حَرَمُك أم حرَمُه ؟! ) قلت : بل حَرَمُه . فقالت : ( فَدَعْنا نتدلّل عليه على قدْر ما اسْتَزارنا إليه ) ؛ ثم قالت : ( بحبكَ لي إلاّ ردَدْتَ عليَّ قلبي ) ؛ قال : فقلت : مِن أين تعلمين أنه يحبك ؟! ، فقالت : ( جَيَّش من أجْلي الجيوش ، وأنفق الأموال ، وأخرجني من دار الشرك وأدخلني في التوحيد ، وعَرَّفني نفْسَه بعد جهلي إياه ، فهل هذا إلاّ لِعِناية ! ) ، قلت : كيف حبك له ؟! ، قالت : ( أعظم شيء وأجَلّه ) (1).
قال الإمام الجنيد - رحمه الله - : ( حججت على الوحدة فجاوَرْتُ بِمَكة ، فكنتُ إذا جَنَّ الليل دخلت الطواف ، فإذا أنا بجارية تطوف وتقول :
أبى الحبّ أن يخفى وكم قد كتمتُه(1/48)
إذا اشتدّ شوقي هام قلبي بذكْرهِ
فأصبح عندي قد أناخَ وطنَّبا (2)
وإنْ رُمْتُ قرباً من حبيبي تقرّبا
قال : فقلت لها : يا جارية أما تتقين الله تعالى ؟! ، في مثل هذا المكان تتكلمين بمثل هذا الكلام ؟! ، فالتفتتْ إليّ وقالت : يا جنيد ! :
لَوْلاَ التُّقى لَمْ تَرَني
إنَّ التُّقَى شَرّدَني
أفِرُّ مِنْ وَجْدي بِهِ
أهْجُرُ طِيبَ الوَسَنِ
كَمَا ترَى عَنْ وَطَنِي
فَحُبُّهُ هَيَّمَنِي
ثم قالت : يا جنيد ! ، تطوف بالبيت أم برب البيت ؟! ، فقلت : أطوف بالبيت ؛ فرفعتْ رأسها إلى السماء وقالت : سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك ، خلْقٌ كالأحجار يطوفون بالأحجار ! . ثم أنشأتْ تقول :
يطوفونَ بالأحجارِ يَبْغونَ قُرْبةً
وتاهوا فلمْ يدْروا مِنَ التِّيهِ مَنْ هُمُ
فلَوْ أخلصوا في الوُدِّ غابَتْ صِفاتهم
إليكَ وهُمْ أقسى قلوباً مِنَ الصَّخْرِ
وخلُّوا محلّ القُربِ في باطنِ الفكْرِ
وقامتْ صِفاتُ الوُدِّ للحقِّ بالذِّكرِ
قال الجنيد : فغُشي عليّ من قولها ! ، فلما أفقتُ لم أرَها ) انتهى (1) .
وقال سَري السقطي - رحمه الله - : ( بَدَوْتُ (2) يوماً من الأيام وأنا حَدَث ، فطاب وقتي وجُنّ علي الليل وأنا بفناء جبل لا أنيس به ، فناداني منادٍ من جوف الجبل : لا تدور القلوب في الغيوب حتى تذوب النفوس من مخافة فَوْت المحبوب ! ؛ قال : فتعجبت ، وقلت : جِنى يناديني أم إنسي ؟! ؛ قال : بل جني مؤمن بالله عز وجل ومعي إخواني ؛ قال : قلت : فهل عندهم ما عندك ؟! ، قال : نعم وزيادة ؛ قال : فناداني الثاني منهم : لا تذهب من البدن الفتْرة إلا بدوَام الغُربة ؛ قال : فقلت في نفسي : ما أبْلَغَ كلامهم ؛ فناداني الثالث منهم : مَن أنِسَ به في الظلام لا يبقى له اهْتمام ؛ قال : فصعقت ! ، فما أفقتُ إلاّ برائحة الطيب وإذا نرْجسة على صدري ، فشممتها فأفقت ، فقلتُ : وصية يرحمكم الله جميعاً ؟! .(1/49)
فقالوا جميعاً : " أبى الله أن تحيا به إلاّ قلوب المتقين ، فمن طَمِعَ في غير ذلك فقد طمع في غير مطمع ، ومَن تبع طبيباً مريضاً دامتْ عِلّته " وَوَدّعوني ومَضوْا ، وقد أتى عليّ حِينٌ ولا أزال أرى بركة كلامهم موجودة في خاطري ) انتهى (1) ، ويا لها من موعظة ! ، فالتقوى وصية الله لعباده وهي وصية الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لأممهم ، وبها يَنال العبد رفيع الأحوال ، ويبلغ غاية الآمال .
وحيث إنه قد تبَيَّن موضوعُ هذا الكتاب فالسؤال الوارد الآن هو : هل من تحقيق المعرفة بالله جل جلاله والصدق والإخلاص في إرادة وجهه الكريم والقرب منه ومحبته والشوق إليه أن يكون الغالب على فِكْرِ العبد إذا تفكَّر والسابقُ إلى قلبه في الإرادة والطلب نساءُ الجنةِ من الحوُرِ ، وكذلك ما فيها من المآكل والمشارب والمساكن والقصور ؟! .
لقد ظَهَرَ لكَ أن هذا عند العارفين بمعبودهم الحقِّ قُصُور ! ، وإننا لو أنصفنا لعرفنا ، فهل نَظَرْنا وتَدَبَّرْنا وتَفَكَّرْنا إذا حصَلَ عندما نَمُرّ بآيةٍ من آيات صفاتِ الإله - جلّ جلاله - أو حديثٍ ممَّا يفتح بابَ معرفته ومحبته سبحانه يكون كنظرنا وتدبرنا وتفكرنا إذا حصل عندما نَمُرّ بآيةٍ أو حديثٍ فيه وصف الحور والمآكل والمشارب والقصور ؟! .
هذا ميزانٌ يَصْدُقُكَ في التفكُّرِ المقيَّد وكذلك التفكُّر الْمُطْلَق ! .(1/50)
ولا شك أن من الجفاء مع الله تبارك وتعالى إشغال النفْس بغيره من حُبٍّ له وشوقٍ إليه كعدم الوقوف عند ما يَرِد من الآياتِ والأحاديثِ من صفاته وأسمائه الحسنى وتدبر ذلك وتأمله مما يفتح باب معرفته وحُبّه عز وجل ، وقد عاتب الله تعالى مَنْ هَذِه حَالُه حيث جاء في الأثر أنه تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : ( قل لشُبَّان بني إسرائيل : لِمَ تشغلون نفوسكم بغيري ؟! ، ماهذا الَجَفَاء (1) ؟! .. ولو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم ومحبتي لترك معاصيهم لماتوا شوقاً إليَّ وانقطعت أوصالهم من محبتي ! .. هذه إرادتي للمدبرين عني فكيف إرادتي للمقبلين عليَّ ! ) (2) ، فتأمل ! .
وقد تكلم ابن القيم – رحمه الله – في كتابه النَّفِيس ( مدارج السالكين ) عن منزلة الإخلاص بكلام عظيم القدْر ، واتصاله وثيق في موضوع هذا الكتاب ؛ ومن كلامه – رحمه الله – قوله : ( يَعْرِض للعامل في عمله ثلاث آفات : رؤيته وملاحظته ، وطلب العِوَض – أي الأجْر - عليه ، ورضاه به وسكونه إليه ) (3) ، ثم ذكر علاج هذه الأمراض وكيف يتخلص منها العبد ليخلص عمله لربه ؛ ونحن وإن كان لنا من هذه الآفات النصيب الأوفر لقلة العلم بالله وعبوديته في زماننا وقواطع الذنوب لكن المراد هنا الآفة الثانية لاتصال معناها مباشرة بموضوع الكتاب ، فقد قال - رحمه الله - في علاج هذه الآفة : ( والذي يُخلِّصُه من طلب العِوَض على العمل عِلْمُه بأنه عبدٌ مَحْض ، والعبد لا يستحق على خدمته لسيِّدِهِ عِوَضاً ولا أُجْرة إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته ، فَمَا يناله مِن سيِّدهِ من الأجر والثواب تفضُّل منه وإحسان إليه وإنعام عليه لا معاوَضة ، إذِ الأُجْرَة إنما يستحقها الْحُرُّ أو عبدُ الغير ، فأمَّا عبد ربِّهِ فَلاَ ) انتهى (1) .
لقد كان اهتمامُ السَّلَف في معرفة معبودهم سبحانه وتصحيح عبوديته أكبر هَمِّهم وأعظم شُغلهم ، ومن هنا ارتفعت مقاماتهم وصَلُحَت أعمالهم .(1/51)
ولذلك يقول ابن القيم : ( فمِنْ أنفع ما للقلب النظر في حقِّ الله على العبد ، فإن ذلك يورثه مَقْتَ نفْسِه والإزراء عليها ويُخَلِّصه من العُجْب ورؤية العمل ، ويفتح له باب الخضوع والذُّلّ والانكسار بين يدي ربه واليأس من نفسه ، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته ) (2) .
ثم قال – رحمه الله - : ( فهذا مَحَل نظَر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم ، وهذا الذي أيأسهم من أنفُسِهِم وعلَّقَ رجاءهم كلَّه بعفوِ الله ورحمته ، وإذا تأملتَ حالَ أكثرِ الناس وجدتهم بضد ذلك ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حقِّ الله عليهم ! ) انتهى (3).
وهنا قِف - وفقك الله - ، وتأمل حالَنا مع اللهِ عزَّ وَجَلّ إذا زَعَمْنا أننا صلُحنا واستقمنا وكأنَّ لنا على اللهِ حقًّا نستوجبه بأعمالنا لعدم عِلْمِنا بحقيقة العبودية وما يستحقه المعبود سبحانه (1) .
ثم قال ابن القيم بعد الكلام السابق : ( ومن ها هُنا انقطعوا عن الله وحُجِبَت قلوبهم عن معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره ، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه ! ، فمحاسبة النفْس هي نظر العبد في حق الله عليه أولاً ثم نظرُه هل قام به كما ينبغي ثانياً .
وأفضل الفِكْرِ الفِكْرُ في ذلك ، فإنه يُسيِّرُ القلبَ إلى اللهِ ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعاً منكسراً كسْراً فيه جبره ، ومفتقراً فقراً فيه غناه ، وذليلاً ذُلاًّ فيه عِزُّه ، ولو عَمِلَ مِن الأعمال ما عساه أن يعمل فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البِرِّ أفضل من الذي أتى ! ) انتهى (2) .(1/52)
ثم ذكَر ابن القيم – رحمه الله - ما جاء في الأثر عند الإمام أحمد عن أبي الجلَد أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى – عليه السلام - : ( إذا ذكَرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك وكُن عند ذكري خاشعاً مطمئناً ، وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك ، وإذا قمتَ بين يدي فَقُم مقام العبد الحقير الذليل ، وذُمّ نفْسَك فهي أولى بالذم ، وناجني حين تناجيني بقلبٍ وَجِلٍ ولسانٍ صادق ! ) انتهى (1) .
فتأمل هذا والذي قبله ، وما أنفعه لك مع توفيق الله تعالى .
وإذا كان موسى – عليه الصلاة والسلام – يُؤَدَّب بهذا وهو الكليم الكريم فذلك لأنّ لمعرفةِ الله وعبوديته سبحانه شأنٌ كبيرٌ وعظيمٌ يطَّلِع عليه مَن كان ذلك أكبر همومه وأعظم شؤونه ، أما مَن تَدَيُّنُه على مقتضى المربأ والمنشأ والعادة فهذا لَوْنٌ آخر ! .
وبالجملة فإن مقصود الكتاب ومداره هو أن يحقق العبدُ عبوديته لإلهه الحق سبحانه ، والتي أصلها المحبة ، وذلك بمعرفته والشوق إليه وتعلق القلب والروح به دون أن يغلب على قلبه الشوق والتعلق بمخلوق لم يُخلق ولم تُودَع المحبة في قلبه من أجله ولو كان الحور العين فضلاً عن محبوبات العالَم السفلي من الصُّوَرِ والمال والرياسة ، مع أن هذا لا يعني التقليل من شأن الحور العين ، وإنما المراد هو المعرفة وإنزال كل شيء منزلته لتجريد المحبة عمَّا يشوب أو يغلب .
والله الموفق ، وله الحمد في الأولى والآخرة ، ونسأله برحمته كما مَنَّ بمعرفة ذلك مقالاً أن يَمُنَّ به حالاً ، فالشأن ليس بمجرد الوصف وإنما الشأن كل الشأن فيما يصل إلى القلوب من هذا النعيم والجنة العاجلة التي قال فيها شيخ الإسلام - رحمه الله - : ( في الدنيا جنة مَن لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة ) (1) ، وهي جَنَّة معرفته سبحانه ، ومحبته ، والشوق إليه .(1/53)
وإن مما ينبغي لنا أن نخافه أن يكون حِجَابُ الغَيرة قد حال بيننا وبين ما وصل إليه العارفون ، وأناخ بفنائه المحبون ، وأجاب حاديه المخلصون ، الذين بانَ لنا من مكنون ضمائرهم وصادق سرائرهم ما لا نشُمُّ له رائحة ! .
وتأمل ما قاله السري السقطي في معنى قوله تعالى ( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً ( (1) ، قال - رحمه الله - : ( أتدرون ما هذا الحجاب ؟! ، حجاب الغيرة ! ، ولا أحد أغير من الله ، إن الله تعالى لم يجعل الكفارَ أهلاً لفهم كلامه ولا أهلاً لمعرفته وتوحيده ومحبته ، فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجاباً مستوراً عنِ العيونِ غيرةً عليه أن يناله من ليس أهلاً له ) انتهى (2) .
ومع هذا فلا نيأس من روْح الله ، ولنتذكر ما تقدم من قول ابن القيم - رحمه الله - : ( يامن هبَّتْ على قلبه جنوبُ المجانبه ، فتكاثفت عليه غيوم الغفلة فأظلم أُفُقُ المعرفة : لا تيأس ! ، فالشمس تحت الغيم ، لوْ تصاعد منك نَفَسُ أسَفٍ استحالت شمالاً فتقطع السحابُ فبانت الشمس تحته ! ) (3) .
ثم لنتأمل وصية إبراهيم بن أدهم لأخٍ له في الله حيث قال له : ( إنْ كنتَ تحبّ أن تكون للهِ وليًّا وهو لك محبٌّ فدعِ الدنيا والآخرة ولا ترغبنّ فيهما ، وفرِّغ نفسَك منهما ، وأقبل بوجهك على اللهِ يقبل الله بوجههِ عليك ويَلْطَف بك ، فإنه بلغني أن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا - عليهما السلام - :
يا يحيى .. إني قضيتُ على نفسي أن لا يحبني عبدٌ من عبادي أعلم ذلك منه إلا كنتُ سمعه الذي يسمعُ به وبصره الذي يُبصر به ولسانه الذي يتكلم به وقلبه الذي يفهم به ، فإذا كان ذلك كذلك بغضتُ إليه الاشتغال بغيري ، وأدمتُ فكرته ، وأسهرتُ ليله ، وأظمأت نهاره ..(1/54)
يا يحيى .. أنا جليسُ قلبه وغايةُ أمنيته وأمله ، أهَبُ له كُلَّ يومٍ وساعةٍ فيتقرب مني وأتقرب منه .. أسمع كلامه وأجيبُ تضرعه ، فوعزتي وجلالي لأبعثنَّه مبعثاً يغبطه به النبيُّون والمرسلون (1) ، ثم آمُر مُنادياً يُنادي : هذا فلانٌ بن فلانٍ وليُّ اللهِ وصفيُّه وخيرتُه من خلقه .. دعاه إلى زيارته ليشفي صدرهُ من النظر إلى وجهه الكريم ، فإذا جاءني رفعتُ الحجابَ فيما بيني وبينه فنظرَ إليَّ كيف شاء ، وأقولُ : أبشرْ ! ، فوعزتي وجلالي لأشفينَّ صدرك من النظر إليَّ ولأجدِّدَنَّ كرامتك في كل يومٍ وليلةٍ وساعة ؛ فإذا توجهتِ الوفودُ إليه - جلَّ جلالُه - أقبلَ عليهم فقال : أيها المتوجهون إليَّ ما ضركم ما فاتكم من الدنيا إذا كنتُ لكم حظاً ، وما ضركم من عاداكم إذا كنتُ لكم سِلْماً ) انتهى (2) .
ومِمَّا ينبغي تأمله جيِّداً لشدَّةِ الحاجة إليه في وقتنا قولُ مؤمني الجن المتقدِّم ( في ص : 76 ) : ( ومَن تبع طبيباً مريضاً دامتْ عِلّتُه ! ) ، وَوَاضح أن مرادهم طبيبَ القلوب المبيِّن أمراضها الدالّ على شفائها ، فمَنْ طلب هذا العلم الرباني العظيم الدال على معرفة ربِّ العالمين فإنه يجده في كتب سلفنا الصالح مثل ابن القيم وشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله - .
* تنبيه :(1/55)
عَلِمتُ أخيراً وفي هذا الشهر الكريم رمضان المبارك الذي عظَّمه الله ورسوله ( أن قوماً خَذَلهم الله وأهانهم ( وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ( (1) ، والذي قال الحسن البصري - رحمه الله - في أمثالهم : ( هانوا على الله فعصوْه ، ولوْ عَزُّوا عليه لعَصَمَهُم ) (2) ؛ عَلِمتُ أنهم اتخذوا موضوع ( الحور العين ) للسُّخرية والتندُّر ، وذلك بمسلسل خبيث يعرضونه على الناس ليستهينوا بما عظَّم الله من أزواج أنبيائه وأوليائه والشهداء في سبيله في الدار الآخرة (3) ، وهذا واللهِ مُنذِرٌ بعقوباتِ قد تُعجَّل إلا بدَفْعٍ من الحليم سبحانه الذي يُمهِل ولا يُهمل ، وقد قيل : ( أمهل الله العُصَاة حتى ظنَّ المغرورون بالله أن إمهال الله إهمال ! ) ؛ وما أكثر المغرورين بالله لا كثَّرهم الله ! .
ويا عَجباً :
أَيَهْزَأُ بِالْحُورِ الْحِسَانِ مُسَلْسَلُ بِشَهْرٍ بِهِ الشَّيْطَانُ دَوْماً مُسَلْسَلُ !
غير أنه لا عجبْ إذا عَلِمْنا أننا في زمانٍ لم يسبق له في الفرعنة والشَّيْطنة مثيلاً حتى أصبح مِن الإنس مَن يَفُوقون شياطين الجنِّ في إغواء الناس وإشاعة المنكرات والدعوة للكُفر والفساد ! ، حتى في هذا الشهر المبارك الذي قال فيه رسول الله ( : ( إذا دخل رمضان فُتِحَت أبوابُ الجنةِ ، وغُلِّقَت أبوابُ جهنَّم ، وسُلْسِلت الشياطين ) (1) ، فَبَدَلاً من أن يكون شهراً يتخذ فيه المسلمُ فرصةَ تقييدِ شياطينِ الجنِّ ليتزوّد فيه من الطاعات يأبَى شياطينُ الإنسِ إلا أنْ يَنُوبُون عن إخوانهم من شياطين الجنِّ حتى جعلوا من هذا الشهر المبارك مَوسماً للتنافس في ترويج فسادهم وإفسادهم والعياذ بالله .
وقد ذكَر العلماءُ أنّ الحدَّ من شرِّ الشياطين في رمضان إنما هو للمؤمنين وليس للفجَرة ، وإنما الفَجَرة يزداد فُجُورُهم في رمضان ! .(1/56)
وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - أن الشياطين إنما تتمكَّن من بني آدم بسبب الشهوات ، فإذا كفُّوا عن الشهوات صُفِّدت الشياطين (2) .
واليوم يتوفّر في رمضان ويكثر إلى حدِّ الإسراف من الشهوات ما لا يكون في غيره من الأوقات ، فهل تُصفّد الشياطين عن كلِّ أحد تصفيداً يُضعِف تمكُّنهم ! .
وقال شيخ الإسلام - أيضاً - عن الشياطين : ( كما أنَّ كيدهم في شهر رمضان ضعيف إذْ كانوا فيه يُسَلْسلون ولكن لَم يبطُل فعلُهم بالكُلِّية بل ضعُف ، فشرُّهم فيه على أهل الصَّوم قليل بخلاف أهل الشراب وأهل الظلمات فإن الشياطين هنالك مجالهم ) انتهى (1) .
إن الملاحظ في عصرنا هذا أن لرمضان عند كثير من الخلْق أهمية بالغة لشَغْله بفنون الباطل حتى اتُّخِذَ موسماً لذلك ، فيتحصَّل فيه ما لا يتحصل في غيره ! (2).
ثم إنَّ مَن يقرأ هذا الكتاب يعلم أنه يُعالِج أمراً كبيراً يُشْعِر مِن نفْسِه أنه واقع فيه أو مُقاربه ، وهو قوة الطلب والإرادة للخيْراتِ الحِسان ، ثم إنه إذا تفكَّر في السبب الذي دعاه لذلك عَلِمَ أنه تعظيم الله ورسوله ( لَهُنَّ بوصفهن بما لا مزيد عليه من الجمال والكمال والْحُسْن والإحسان حتى احتاج إلى مَن يُنبِّهه إلى الفرقان بين محبة الرحمن وبين محبة هذه الْخَيْرات الحِسان ؛ قال تعالى : ( وَحُورٌ عِينٌ ? كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ( (3) ، وقال سبحانه : ( كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ( (4) ، وأخبر رسول الله ( عن حُور الجنان بقوله : ( ولو أن امرأة من نِساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لَمَلأت ما بينهما ريحاً ، ولأَضاءت ما بينهما ، ولَنَصِيفها - يعني الخِمَار - خيرٌ من الدنيا وما فيها ) (5) ، وغير ذلك من الوصف البليغ أيضاً .(1/57)
فالخلاصة والنتيجة أن مَن هذا بعض شأنهن كيف يُشوَّهن ويُزدَريْن بأن يجعل من اسمهِنَّ الكريم اسماً لمسلسل في جهازٍ مُحرَّمٍ مليء بالمحرَّمات ، وأين مالك بن دينار اليوم ليرى العار والشنار حيث وصَف نساء الجنة بما يليق ووصَف نساء الدنيا بالتحقيق ! .
وإليك قصة مالك مع ملك من ملوك البصرة وجاريته لتعتَبر في وضْع الشيء مواضعها وتعظيم السَّلَف لِمَا عظَّم الله تعالى ، فقد رُوِي عن مالك بن دينار - رحمه الله - أنه كان يوماً ماشياً في أزقة البصرة ، فإذا هو بجارية من جواري الملوك راكبة ومعها الخدم ، فلما رآها مالك نادى : أيتها الجارية أيبيعك مولاك ؟! ، قالت : كيف قلت يا شيخ ؟! ، قال : أيبيعك مولاك ؟! ، قالت : ولو باعني كان مثلك يشتريني ! ، قال : نعم ، وخيراً منك ، فَضَحِكت وأمَرَت أن يُحمل إلى دارها ، فَحُمِل ، فَدَخلت إلى مولاها فأخبرته ، فضحك وأمَرَ أن يَدخل إليه ، فَدَخل ، فأُلقيت له الهيبة في قلب السيد ، فقال : ما حاجتك ؟! ، قال : بعني جاريتك ؛ قال : أو تطيق أداء ثمنها ؟! ، قال : فثمنها عندي نواتان مَسُوِّسَتان ، فضحكوا ، وقالوا : كيف كان ثمنها عندك هذا ؟! ، قال : لكثرة عيوبها ، قالوا : وما عيوبها ؟! ، قال : إن لَمْ تتعطَّر زَفِرَتْ ، وإن لَم تَسْتك بَخِرَت ، وإن لَم تَمْتشط وتدَّهِن قَمِلَت وشَعِثت ، وإن تُعَمَّر عن قليل هَرِمت ، ذاتِ حيض وبوْل وأقذار جَمَّة ، ولعلها لا تودّك إلا لنفْسها ، ولا تحبك إلا لشغَفِها بك ، لا تفي بعهدك ولا تَصْدُق في وُدِّك ، ولا يخلف عليها أحدٌ من بعدك إلا رأته مثلك ، وأنا آخذ بدون ما سَأَلْتَ في جاريتك مِنَ الثمن جاريةً خُلِقَتْ من سُلاَلَةِ الكافُور ، لوْ مُزِجَ بِرِيقِها أجاجٌ لطابَ ) ، ثم قال : ( ولو بدا مِعْصَمُها للشمس لأظلَمَت دونه ، ولو بَدَا في الليل لَسَطَع نورُه ، ولو واجهت الآفاق بِحُلِيها وحُلَلِها لتزخرَفَت ، نَشَأَتْ بين رياض المسكِ(1/58)
والزَّعْفَرَانِ ، وقُصرت في أكنانِ النعيم ، وغُذِّيَتْ بماء التسنيم ، فلا تُخْلِف عهدها ، ولا يتبدل وُدّها ، فأيهما أحقُّ بِرِفْعَة الثَّمن ؟! ، قال : التي وَصَفْت ؛ قال : فإنها الموجودة الثمن القريبة الْمَخْطَب .
قال : فما ثَمَنها - رحمك الله - ؟! ؛ فذَكر له مالِك - رحمه الله – عبادة ربه وبعضاً من خِصال الخير يفعلها ، وقال : ( وترفع هِمَّتك عن دار الغفلة ، فتعيش في الدنيا بعزِّ القنوع ، وتأتي غداً إلى موقف الكرامة آمناً ، وتنْزل غداً في الجنة مخلداً ) ، فقال الرجل : يا جارية .. أسمعت ما قال شيخنا هذا ؟! ، قالت : نعم ، قال : أفَصَدَق أم كَذَب ؟! ، قالت : بل صدق وبَرَّ ونَصَح ، قال : " فأنتِ إذاً حُرَّة لوجه الله " .
ثم تصدَّق بما تصدّق به من مالِه وقصَد لُزوم العبادة بعد اللَّهْو والغفلة حيث أثَّرَت به موعظةُ مالِك رحمه الله .
ثم قالت الجارية : " لا عيش لي بعدك مولاي ! " ، فودَّعهما مالك ودعا لهما ، فتعبَّدا جميعاً حتى جاء الموت فنقلهما على حال العبادة - رحمة الله عليهما - ) انتهى (1) .
وهكذا وضَع مالِك الأمورَ موْضِعها ، ومَع أنَّ هذا الوضْع شَرْعيٌّ طبيعيٌّ فهو عقليٌّ أيضاً ، وهذا تلازُم لا ينفك منه ولا جزءٌ يسير من أجزاء الدِّين المتصل بأمور الدنيا ، وإنما الشأن في التَّفَكُّر السليم ولزوم الصراط المستقيم ، فكما ظهَر لك مِن وصْف مالك - رحمه الله - لنساء الدنيا ونساء الجنة فَمَا عليك إلا أن تسْحبَ ذَيْلَ هذا المقياس على الدنيا وما فيها والجنة وما فيها ليتجلَّى لك الفرقُ والفرقانُ ، وتنقشع عن قلبك زخارفُ الخيَال وأمانيّ الشيطان .
وهذا كله في مجال المواد المخلوقة في العالَم السُّفلي والعالَم العلوي ؛ أمَّا إن سَمَت رُوحُك فوق ذلك كله فقد عرَفت معنى قول ابن القيم - رحمه الله - في صفات الملِك - جل جلاله - :(1/59)
وهُوَ الجميلُ علَى الحقيقةِ كيفَ لاَ ! مِنْ بعضِ آثارِ الجميلِ فربُّهَا
وَجَمَالُ سَائِرِ هَذِهِ الأكوَانِ أولى وأجدَرُ عِندَ ذِي العِرْفَانِ (1) .
وعَرفت معنى البيت الثالث من الأبيات التالية المأخوذة من ميميته - رحمه الله - في وصف ( الحور العين ) :
تَقَسَّمَ مِنها الْحُسْنُ في جَمْعِ وَاحِدٍ لَهَا فِرَقٌ شَتَّى مِنَ الْحُسْنِ أَجْمَعَتْ تُذَكِّرُ بالرَّحْمَنِ مَنْ كَانَ نَاظِراً
فَيَا عَجَباً مِنْ وَاحِدٍ يَتَقَسَّمُ ! بِجُمْلَتِهَا أَنَّ السُّلُوَّ مُحَرَّمُ فَيَنْطِقُ بِالتَّسْبِيحِ لاَ يَتَلَعْثَمُ (1) .
ونسأل الله أن يجعل كيدَ من يَهزؤون بثوابه وعقابه في نحورهم ، وأن يرينا بهم عجائب قدرته ويكفينا والمسلمين شرورهم .
كما نسأله تعالى بما سأله عبدُه ورسولُه ( أن يرزقنا لذةَ النظرِ إلى وجهه الكريم والشوق إلى لقائه في غير ضراء مضره ولا فتنة مضلة ، وأن يزينا بزينة الإيمان ويجعلنا هداةً مهتدين (1) .. والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليماً كثيراً .
بريدة - ربيع الأول ، رمضان / 1426هـ
... ... الْمَوضوعات
الصفحة
مقدمة .. خطأ تغليب الرجاء على الخوف إلا عند الموت .
3
التعلق بالجنة دون التعلق بخالقها - سبحانه وبحمده - نقصٌ كبير .
3
أثر ( لو لم أخلق جنةً ولا ناراً ألم أكن أهلاً أنْ أعبَد ! ) .
3 - 4
حديث ( رؤية الله تعالى أعلى نعيم أهل الجنة ) .
4
حديث السُّبحات الذي يدل على عظمة الله وعظمة جماله ونوره .
4
ما هي سُبحات وجه الله تبارك وتعالى ؟ .
4 - 5
أبيات قيمة حول اسم الله تعالى ( الجميل ) ، وأنه أجمل شيء على الإطلاق .
5
تكريم الله للإنسان يقتضي أن يكون مقبلاً على ربه متعلقاً به .
6
قول عثمان الدارمي في معنى قوله تعالى : ( ليْسَ كمِثلِهِ شَيء ) .
6
الشوق للحور العين ناقص جداً بالنسبة لشوق المحبين لله تعالى .
6(1/60)
الأكل والشرب والحور في الجنة ضيافة لأولياء الله ، ومحبته ورؤيته هي الغاية .
7
ليس للملائكة شهوة للنساء ومع ذلك فهم في نعيم عظيم لقربهم من الله وحبهم له .
7
الأنس بالله سبحانه أعلى من الأنس بما يرجوه العابد من نعيم الجنة المخلوق .
8
يسيرٌ من رضوان الله أكبر من الجنان وما فيها ! .
8
الحكمة من احتجاب الله تعالى عن خلقه في الدنيا .
8 - 9
معنى قوله تعالى في قصة داود : ( وإنّ لهُ عندنَا لزلفَى وحسْنَ مآب ) .
9
ليس عند الله ليل ولا نهار ونور العرش من نور وجهه ، وثمرة العلم بذلك .
10
مقصود الكتاب التفريق بين المعبود والمخلوق وليس التزهيد بالجنة وما فيها .
10
المقصود بقوله – عليه الصلاة والسلام - عن الجنة ( حولها ندندن ) .
11
لماذا جُعِلت قرة عينه – عليه الصلاة والسلام – في الصلاة ؟! .
11
هل تحبيب الله لنبيه النساءَ في الدنيا تُزاحم وتُقارب محبته لربه تعالى ؟! .
11
معنى أحاديث خلق الله تعالى آدم على صورته .
11 - 13
ذكر ما يحصل للقلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بها .
13 - 14
باب الأنس بالخلوة والوحدة .
13 - 14
باب حلاوة العبادة التي تفوق حلاوة الشهوات بأضعافٍ مضاعفة ! .
14
باب شهود عظمة الله تعالى .
14
باب الحياء من الله تعالى – وهو أول شواهد المعرفة - .
15
ذكر ثمرات الحياء من الله سبحانه .
15
باب الشعور بمشهد القيومية .
15
... ... الْمَوضوعات
الصفحة
الوجود القلبي الروحاني الملَكي ، وثمراته .
15
مشهد أنوار الجلال .
15
روح العارف الصادق تجتاز قصور الجنة وحورها طالبة معبودها تعالى .
16
سفر الآخرة يُقطع بالقلوب كما يُقطع سفرُ الدنيا بالأقدام .
16
مشهد أنوار الإكرام وأشعة أنوار الجمال الأحدي المُلهب للقلوب والأرواح .
16
علوّ درجة المحب لربه المتعلق به في الجنة ، و ( المرء مع من أحب ) ! .
17
ما هي حال أعلى أهل الجنة منزلة ؟ ، ولمن تليق هذه المنزلة العظيمة ؟! .
17 - 18(1/61)
أعلى نعيم الجنة المخلوق من حور وقصور وغيرها هو لمُخلِص المحبة لله .
18
أين يكون المحبون لربهم المتعلقون به يوم القيامة ؟! .
18 - 19
ماهي حقيقة التوحيد والإخلاص ؟! .
19
مَن هو السعيد كل السعيد والموفق كل الموفق ؟ .
19 - 20
ماهو الشيء الذي أثمر لابن القيم وشيخِهِ العلمَ بالله والعمل بذلك ؟ .
20
مراد الكتاب هو حب الله وإرادته لذاته وليس تحقير نعيم الجنة كالحور وغيرها .
21
التحذير من إرادة السِّوَى ! .
21
الحكمة من غض البصر عن مشاهدة الصوَر الجميلة .
21 - 22
لماذا سأل موسى رؤية ربه بعدما سمع كلامه في الطور ؟! .
22
كيف يصبر الأنبياء في الدنيا عن لقاء الله ورؤيته وهم أعلم الخلق به ؟ .
22
إلهامُ اللهِ تعالى أهلَ الجنةِ التسبيحَ كما يُلهمون النفَس ، وما يُبَيِّنُه .
23
حديث ( بينا أهل الجنة في نعيمهم ... ) ، وبيان أن الله تعالى فوقهم .
23 - 24
خطأ الاقتصار على معرفة جمال الله تعالى والتعلق بذلك دون إجلاله وتعظيمه .
24 - 25
حديث ( أين المتحابون بجلالي ؟! ) يبين خطأ التعلق بجمال الله دون إجلاله .
25
فائدة الجمع بين شهود وصفي الجمال والجلال لرب العالمين .
25
ما يُخشى حصوله لشديد التعلق بالثواب المخلوق إذا كانت محبته لله ضعيفة .
25 - 26
ما هي المحبة الخالصة لله تعالى ؟ .
26
ذكر ما يجنيه على نفْسه من يعبد غير الله ويحبه ولو كان يتنعم بذلك .
26
معنى تجريد المحبة لله تعالى وتصفية القصد وتهذيبه وتجريده .
27
التحذير من جعل حب الله تعالى وسيلة إلى غيره من المحبوبات ! .
27
من كانت محبته خالصة لله تعالى فاز بأعلى النعيم المخلوق من حور وغيرها .
27 - 28
أثر( ابن آدم ! : اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء ... ) .
28
مثال بديع : ( الجارية التي نالت مكانة خاصة وكبيرة لدى هارون الرشيد ) .
28 - 29
مثال بديع آخر : ( أربعة عبيد .. وهكذا نحن عند الله ) .
29 - 30
شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة :(1/62)
30 - 36
الشاهد الأول : شاهد الدنيا وحقارتها .
30
الشاهد الثاني : شاهد الدار الآخرة ودوامها .
30 - 31
الشاهد الثالث : شاهد النار وعذابها .
31 - 32
... ... الْمَوضوعات
الصفحة
الشاهد الرابع : شاهد الجنة ونعيمها .
32 - 33
الشاهد الخامس : شاهد يوم المزيد .
33 - 34
تعليق على الشواهد السابقة وتمهيد للشاهد الأعظم - وهو الشاهد السادس - .
34 - 35
الشاهد السادس : شاهد جلال الرب تعالى وجماله وكماله ، وهو أعظم الشواهد .
35 - 36
عظمة جمال الله تعالى وجلاله .
36
عظمة مكانة وأحوال صاحب ( الشاهد السادس ) .
36
كلام جليل القدر للحسن البصري حول رؤية الله وموقف العارفين من ذلك .
36 - 37
قصيدة قيِّمة لأبي تراب النخشبي حول دلائل محبة الله تعالى .
37
من أسماء الله تعالى : ( الودود ) ، وما قاله ابن عباس في معناه .
38
ما هو معنى الوُد ؟ .
38
ما هو معنى التعبد والعبادة ؟ .
38
ما هو العشق الذي هو من أعظم القواطع عن محبة الله وعبوديته ؟ .
39
خطورة التعلق بالدنيا والسفليات وما ينتج عنه .
39
من صفاتِ أهل الله الذين يظلهم في ظل عرشه .
40
ولاية الله تُنال بالعلم به ، وبالعمل الصالح الخالص له .
40
مِن أحاديث الوعيد على مَن أهانَ أو عادى أولياءَ الله .
40
مما كلم به الله تعالى موسى في الطور مما يوافق ما عندنا ولمناسبته لحالنا .
41 - 43
لماذا أمهل الله فرعون ؟! .
41
عفوُ الله ومغفرته أسرع من غضبه وعقوبته .
41
سعة حلم الله على فرعون الذي أمهله أربعمائة عام وهو يدعي الألوهية ! .
42
هكذا يفعل الله بأوليائه في الدنيا ، ليستكمِلوا كرامتهم عنده تعالى يوم القيامة ! .
42
أبلغ زينة يتزين بها العباد لله عز وجل ! .
43
( حاشية ) : ما هي السيماء المذكورة في قوله تعالى : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ) .
43
ما هي محبة خواص الله ؟ ، وهل هناك علة وعيب في طلبهم للثواب المخلوق ؟ .
44 - 45
ما هي محبة العوام ؟! .
46(1/63)
قولُ أبي سليمان الداراني في أقرب ما يُتقرب به إلى الله تعالى .
46 - 47
قولُ يحي بن معاذ في حقيقة النسك .
47
قولُ سهل التستري فيما يفعله الله بالقلب الذي يرى فيه غيره .
47
قولُ ابن القيم في أبيات مشهورة لأبي فراس الحمداني ، وأنها لا تليق إلا لله .
47 - 48
من علامات العارف بالله تعالى .
48
أركان المعرفة بالله تعالى .
48
شيئان يخرج العارف بالله من الدنيا ولم يقض منهما وطره وحاجته ! .
48
ماذا يحصل للعبد إذا عرف الله تعالى وعبَده بإخلاص ؟ .
48
مجالسة العارف بالله تعالى تدعو من ست إلى ست ! .
49
كلامٌ مهم في ثمرة من يركن إلى الدنيا ومن يركن إلى الآخرة ومن يركن إلى الله .
49
... ... الْمَوضوعات
الصفحة
قصة عابد عارف بالله في البحرين ، ورؤيا عجيبة فيه .
49 - 50
قولُ أبي سليمان الداراني عن قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ... ) .
50
قولُ أبي سليمان الداراني عما يريده العارفون بالله تعالى .
50
جملة من دعاءِ العارف بالله / داود الطائي وهو قائم بين يدي الله آخر الليل .
50
رؤيا عظيمة رُؤيتَ في داود الطائي .
51
رؤيا عظيمة لإبراهيم بن أدهم في نفسه وفي بعض العارفين المحبين لربهم .
51
قصة عجيبة لبعض إخواننا في الله من المعاصرين ، ورؤيا عظيمة فيه .
52
قول الإمام ابن الأثير في رؤية الله تعالى ، وأنها أعظم نعيم الآخرة على الإطلاق .
53
أبيات رقيقة لبعض العارفين في محبة الله تعالى .
53
قصة جارية في بيت المقدس تناجي ربها عن معرفة به وحُبٍّ له .
53 - 55
كلمات بليغة للإمام ابن القيم تشتمل على وصايا مهمة لطلاب العلم بالله .
56 - 60
قولُ ابن أبي ليلى في قوله تعالى : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) .
60 - 61
قولُ ضيغم الحلاب عن محبة الله تعالى ورؤيته .
61
قولُ ذي النون المصري عما قرأه في التوراة بأن رؤية الله أكبر نعيم الآخرة .
61
قصيدة رقيقة في محبة الله تعالى .
62(1/64)
أبيات رقيقة في وصف العارفين بالله عز وجل .
62
( حاشية ) : قولٌ جليل القدر لخالد بن معدان بأنَّ لكل إنسانٍ أربعُ أعيُن ! .
62
قصيدة بديعة في وصف العارفين بالله تعالى المحبين له سبحانه .
63
كلامُ الحكيم الترمذي عن الفرقان بين نعيم أهل المعرفة بالله وأهل الشهوات .
63 - 65
قولُ ابن القيم في منصب الخُلة الذي ناله إبراهيم الخليل - عليه السلام - .
65
من أسباب اعتناء الله تعالى ببيته العظيم ( المسجد الحرام ) .
65 - 66
قصيدة بديعة في مدح بيت الله الحرام .
66
مدارُ معرفة الله تعالى .
67
قولُ عمرو المكي في معنى : ( كل ما خطَرَ الله ُببالك فهو خلاف ذلك ) .
67 - 68
إشارة مهمة حول رؤية الله تعالى في المنام .
68 - 69
خطورة العشق ومحبة البشر المماثل .
69 - 70
خطورة فتنة عشق الصوَر .
71
من النتائج الخطيرة للعشق القاطع عن محبة الله تعالى والشوق إليه .
71 - 72
المراد من العبودية لله عز وجل .
73
قصة عجيبة لجارية عارفة بالله تعالى .
73 - 74
قصة عجيبة لجارية أخرى عارفة بالله تعالى .
74 - 75
قصة لسري السقطي مع مجموعة من مؤمني الجن .
75 - 76
أهمية تدبُّر ما يَرد في القرآن والسنة ممَّا يفتح باب معرفته وحُبِّه تعالى .
76
أثر ( لِمَ تشغلون نفوسكم بغيري ؟! .. ما هذا الجفاء ؟! .. ) .
77
ثلاث آفات تعرض للعامل في عمله ، مع علاج آفة ( طلب العِوض ) .
77 - 78
مِنْ أنفع ما للقلب : النظر في حقِّ الله على العباد .
78
أفضلُ الفِكْر ! .
79
... ... الْمَوضوعات
الصفحة
كيف يؤدِّب الله كليمَه موسى في مناجاته له ؟! ( أثرٌ عظيم ) .
79 - 80
الخاتمة.. وتحتوي على المقصود بالكتاب ومعناه .
81 - 89
ما هو ( حجاب الغيرة ) ؟! .
82
لا يأس من روْح الله ، ومن أراد معرفة الله بصدق يسَّرَ الله أمره .
82
وصية جليلة القدر لإبراهيم بن أدهم .
82
بعض ما أوحى به الله تعالى إلى " يَحيَ" في كرامته لمحبيه سبحانه يوم القيامة .
82(1/65)
وصية بالاعتناء بكتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم – رحمهما الله - .
83
تنبيه حول تسمي أحد المسلسلات الخبيثة باسم ( الحور العين ) .
84 - 89
( حاشية ) : ذِكر آية وأحاديث صحيحة بأن ( الحور العين ) زوجات أهل الجنة .
84
ذِكر تنافس المفسدين في ترويج فسادهم وإفسادهم في شهر رمضان المبارك ! .
85
هل الحدّ من شر الشياطين في ' رمضان 'لكل الناس أم للمؤمنين فقط ؟! .
85 - 86
ذكر ما يعالجه هذا الكتاب وسبب ذلك .
86
ذكر بعض ما وصفه القرآن والسنة للخيرات الحسان ( الحور العين ) .
86
قصة لمالك بن دينار مع ملِكٍ للبصرة وكلام نفيس له عن نساء الجنة ونساء الآخرة.
87
أبيات في أن ما أعطاه للحور من الجمال يُذكر بربها وعظمته وعظمة جماله .
89
( حاشية ) : ذِكر دعوات عظيمة كان رسول الله ( يدعو بها .
90
الفهرس التفصيلي لمحتويات الكتاب .
91 - 95
((1/66)