بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى الخلق كافة، استوعبت حقائق المعاش والمعاد، وضمنت سعادة الدنيا والآخرة، واستغنى بها البشر عن كل إصلاح مقترح، أو تعاليم مفتعلة. قال تعالى : (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم). وقد تلقى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه هذه الرسالة الخاتمة ليبلغها الناس جميعا، وليقيم على أساسها دولة الحق والعدل والإحسان، ويمحو بها دعائم الباطل والظلم والطغيان. وليس الإسلام فوق مستوى العقول فتضل فى فهمه، ولا مخالفا للفطر فتحيد عنه. والإنسانية على ضوء الوحى وهداية العقول تستطيع أن تحقق مثلها العليا وتبلغ أهدافها الكبرى دون أن تتعثر أو تضل الطريق. عرف هذا رجال الدعوة الإسلامية بعد ما رأوا تصدع الحضارة الغربية وفشلها فى إيجاد حياة مستقرة ينعم الناس فى ظلها ويشعرون معها بالسعادة والرفاهية، فهبوا يطالبون ولاة الأمور وأصحاب الحل والعقد بوجوب الأخذ بتعاليم الإسلام ويذيعون فى الناس أنها وحدها هى سبيل الإنقاذ وطريق الخلاص. وفى أثناء التحمس لهذه الفكرة وخلال التكتل حولها انبعث صوت ناب منكر، يحاول التشكيك فى تعاليم الإسلام والحط من قيمتها كوسيلة عملية للإصلاح، وكمنهاج لأمة تريد أن تشق طريقها إلى المجد وتتبوأ مكانتها تحت الشمس. طلع كتاب "من هنا نبدأ " لا ليرسم الطريق الصحيح أو يضع الخطة المثلى، بل ليعطى أعداء الإسلام وخصومه سلاحا يشهرونه فى وجوه المصلحين. وكم طرب الخصوم وصفقوا لهذا الاتجاه. إنه عالم أزهرى يريد أن ينحى الإسلام عن واقع الحياة، إنه يلبس الحق بالباطل، ويصرح بأنه كتب بعض فصول الكتاب
ص _004(1/1)
ليهاجم به حملة الإسلام ودعاته من حيث الفكرة والمبدأ.. وهو بهذا يسجل على نفسه أنه خصم للإسلام والمسلمين. لم يكن بد من أن يقوم فى وجهه رجل من رجالات الإسلام وعلم من أعلامه، ليضع الأمورفى نصابها ويكشف عن زيف كتاب إمن هنا نبدأ،، ويظهر حقيقة الإسلام كما فى كتابه وعلى لسان نبيه. وها هو ذا فضيلة الشيخ محمد الغزالى يقدم كتاب " من هنا نعلم " ليدحض به الشبهات التى أثارها صاحب كتاب "من هنا نبد " ويميط اللثام عن أخطاء كبيرة وقع فيها، ويظهر الإسلام في نقائه وصفائه، علي أنه الدين القيم المنقذ للحضارة والحارس لمقوماتها النبيلة؛ (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وكم كان موفقا كل التوفيق حين كتب مبينا علاقة الدين بالدولة وأنهما وحدة لا تقبل التجزئة، وأن كل محاولة للفصل بينهما إنما هى إفساد للإسلام وعدوان عليه من حيث هو عقيدة وشريعة على السواء. وقد استوعب الدلائل الحاسمة فى هذا الموضوع فى باب "حكم إسلامى لا قومى". وإذا كان صاحب كتاب " من هنا نبدأ" قد أساء إلى الإسلام ورجالاته عندما تكلم عن "الدين والكهانة " فموه على القارئ، إذ سلك الإسلام مع غيره من الأديان الباطلة فى نظام واحد، وسوى بين بين علماء الإسلام- أخطأوا أم أصابوا- وبين كهنة (براهما) وسدنة (بوذا). فإن فضيلة الأستاذ محمد الغزالى قد فضح هذا التمويه الجرىء وأنصف الإسلام ممن تاجروا به كما أنصفه ممن تهجموا عليه. وفى باب " المرأة والمجتمع " يسرد تعاليم الإسلام التى أعطت المرأة حقها كاملا وحددت وظيفتها الصحيحة، وحمتها من التيارات العابثة ومطامع الشهوات الدنيئة، وتعقب باستنكار مسلك الشياطين المخدوعين بأوروبا ممن طوعوا للمرأة ولأنفسهم المروق من شرعة الأدب والفضيلة، والتمهيد لحياة التحلل والانطلاق الأعمى. ص _005(1/2)
وأما كلام فضيلة الأستاذ عن الإسلام والاشتراكية، فحسبنا أن نذكر أنه كان الرائد الأول للكتابة المستفيضة فى هذا الموضوع فقد أخرج للناس من قبل "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" و " الإسلام والمناهج الاشتراكية " و " الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين ". وهذه الكتب ومانشر له من بحوث متصلة بها، تعد المصادر الأولى لما ظهر بعد ذلك من كتابات فى الاشتراكية الإسلامية. * * * وهذا الكتاب ليس ردا لشبهات محدودة إنه دفاع أولا عن تعاليم الإسلام، وبيان جيد لما انطوت عليه من قيم، ثم هى بعد كشف لخبايا الهاجمين على هذا الدين، والجهات التى ينفسون عن حقدها، ويحققون مأربها.. وستظل الحاجة إلى هذا الكتاب ما بقى الغزو الثقافى ملحقا فى النيل من مقدساتنا، موعلا فى افترائه على الإسلام، وما بقى له أذناب يتحركون بحركته، ويعملون تحت رايته. وهكذا يأبى الله ألا تثار حول دينه شبهة إلا ويقيض لها من يهتك سترها ويريح غبارها (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا). نسأل الله أن يجزيه عن الإسلام خير الجزاء وأن يوفقه للعلم النافع. صالح عشماوى 8 من محرم سنة 1370 هـ 20 من أكتوبر سنة 1950 م ص _006(1/3)
مقدمة الطبعة الثانية التدين طبيعة أصيلة فى أهل هذا الوادى، عرفوا به من فجر التاريخ إلى يوم الناس هذا!. على عهد الفراعنة الأولين كانت حضارة مصر متميزة بهذا الطابع الفريد. كان المصريون يفكرون فيما بعد الموت، ويستعدون للدار الآخرة استعدادا لم يؤثر مثله عن غيرهم، ويتخذون الأهبة لثواب القبر وعقابه، ويعتبرون الحياة الدنيا جسرا لخلود طويل! ذلك.. على حين كان جيرانهم بين محبوس فى سجن الضرورات المادية الضيقة، أو مشغول بالجدل الفلسفى المتشعب. فلما ظهرت المسيحية، واعتنقها الرومان، ودخل المصريون، لم تلبث الفوارق بين الطبيعة المخلصة فى تدينها والطبيعة الجافة الملتوية أن تكشفت وبرزت. فقدم المصريون شهداء كثيرين لعقائدهم، وثبتوا أمام تجهم الرومان وعسفهم. ولا يزال المصريون الأقباط أخلص لمسيحيتهم، وأحفظ لشعائرهم من مسيحيى أوروبا. والعامي منهم يؤدى واجبات دينه كما لا يؤديها أسقف غربي!! ثم جاء الإسلام. وساح حملته فى آفاق العالم يعرضون على الناس آياته، ويلطمون الجبابرة الذين أوصدوا الأ بواب على التقاليد البالية، ثم دفعوا بالأمم وراء حوا جزها. وتفرست الأمم فى ملامح هذا الدين الجديد، ومحصت عناصره. فلما اطمأنت إليه بدأت تطرح ما ورثت وتأخذ ما عرفت. وكان المصريون فى طليعة من دخلوا فى دين الله أفواجا. لقد دخلوا فيه بإخلاصهم العريق، وإيمانهم الوثيق، وإقبالهم المعهود على الحق، واستعدادهم القديم لبذل النفس والنفيس فى سبيل ما يعتقدون. ومرت العصور بأحداثها فإذا مصر عند الظن بها، ص _007(1/4)
زلزت الأرض زلزالها تحت وطأة التتار الذين محوا معالم الحضارة فى أزهر العواصم وأنضر البقاع. واندفع السيل المجنون إلى حدود مصر يبغى القضاء على أمنع معاقل الإسلام فى الدنيا وشاء الله أن يلقى على هذه الحدود حتفه. فتلاشى وذاب. وكذلك اندفعت الصليبية الغربية فى غل دفين وتوحش مريع، اندفاع العواصف المدمرة، ورجفت شتى بلاد الإسلام من عنف الويلات التى أنزلها لها أولئك الغزاة السفهاء. وانتصبت مصر أمام هذا الروع، وظلت مائتي عام تقاوم حتى ارتد خاسئا ذليلا!. إن التدين مفتاح الشخصية المصرية! فإذا وجدت هذه النفس الطيبة متنفسها العميق فى الإسلام من حيث إنه عقيدة، وسياجها المتين فى الإسلام من حيث إنه نظام. وإذا وجد الإسلام من هذه الأمة الطيبة أفئدة تهوى إليه، وتنفذ تعاليمه وتحقق أهدافه. فانتظر نهضة ناجحة ومستقبلا مشرفا وخيرا غزيرا، لا لمصر وحدها ولا للعروبة وحدها، ولكن للعالم أجمع. * * * والمستعمرون للشرق الإسلامي يعرفون هذه الحقيقة جيدا، ولا يتوجسون شرا من شىء توجسهم من قيام حركة إسلامية تصل ما انقطع من تاريخنا، وتتصل اتصالا مباشرا بفطرتنا وميولنا، وترشحنا للقيام بواجبنا العتيد على النحو الذى أنقذنا به الحضارة الإسلامية. يوم بصقنا على الهياج التترى فأطفأنا ناره، وتصدينا للهجوم الصليبى ففككنا آصاره، وغسلنا أقذاره! ومن ثم ركز الإنجليز والفرنسيون وغيرهم- من كهنة السياسة وزبانية الاستعمار- ركزوا قواهم فى فصل الدين عن الدولة، وإبعاد الإسلام عن ميادين التشريع والتنفيذ، ودفعه إلى الوراء ليعيش- إلى حين- فى مسجد مهجور، أو لتقرأ آياته فى حفل كئيب. ولئن بذل الاستعمار الخارجى جهودا متتابعة فى هذه السبيل، فإننا لن ننسى ص _008(1/5)
جهود الاستعمار الداخلى التى تسانده من ناحية أخرى. فهى تعمل دائبة على إفساد معنى التدين، وخلق جيل يأكل بالإسلام ويعيش عليه، ويصرف عواطف الشعب المؤمن إلى مجال الخرافة والبدعة والجهل. وكما تضيع مياه النيل هباء فى أعماق البحر الأبيض لا يستفاد منها فى إخصاب ولا إثمار. تضيع مشاعر الإيمان المستكن فى قلوب العامة والخاصة، وتتبخر فى الفضاء الواسع الذى خلقه الاستعمار الداخلى، ولا يزال يحافظ عليه ليؤدى وظيفته، فى تثبيط الهمم النشطة، وتفريغ الانفعالات الحارة والميل بروحانية الأمة وتدينها الموروث، إلى الذل والاستكانة والبلادة... ومنذ ثلاثين سنة ثارت هذه الأمة ثورة عارمة على الإنجليز زحزحتهم عن أماكنهم، وخدشت كبريائهم. وكان الثوار فى العاصمة يخرجون مواكب مواكب من الجامع الأزهر. كأن روح التدين تأبى إلا الإعلان عن وجودها فهى تنبعث من قلب مسجد، واحتال الإنجليز واحتال أذنابهم معهم على اللعب بآثار الثورة العظيمة فما زالوا يتعقبون مظاهر الإسلام فى كل ميدان حتى حصرت أخيرا فى التوافه الفارغة. وبلغ من جرأة الإلحاد أن درست فى الجامعة كتب تحاول الطعن على النبى العظيم محمد، وأن حاول طالب التقدم برسالة لنيل الدكتوراه تقوم على التشكيك فى أخبار القرآن. ومضى الاستعمار فى طريقه فاصلا الدين عن الدولة، والمجتمع، والخلق، فصلا بلبل أفكار الأمة وقطع حاضرها عن ماضيها. أفتراه بعد ذلك قدم للأمة عوضا تنخدع به عما فقدت من تراثها الغالى؟ كلا. إن تعليم الطيران تمشى على الأرض أيسر من تدريب هذه الأمة على النهوض بلا دين، ولن يغنى فى ذلك عوض البتة.. وقد ألفنا كتابنا " من هنا نعلم " لتقرير هذه الحقائق المعروفة أكثر مما ألفناه للرد على كتاب "من هنا نبدأ " . ص _009(1/6)
فإن القافلة الشاردة قد بدأت سيرها الغلط من سنين عديدة. ولم تكن فى انتظار الشيخ خالد لتهيم على وجهها فى تلك المتاهة التى ينكرها الإسلام. إن روح المقاومة الدينية يتقد فى قلوب الأفراد والجماعات، وقد قررنا أن نعيش مسلمين فى ظل الكتاب والسنة- أو نموت. وإذا متنا فيجب ألا نهلك- فى هذا الكفاح- وحدنا، بل يجب أن يموت أعداء الإسلام معنا أو قبلنا. والإسلام الذى نؤمن به وندعو له هو الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وقام به أولو الأمر من بعده قياما مبرءا نزيها. وليس هو هذا المسخ المصنوع من أهواء الحكام السفلة، أو تقاليد الكهان المنافقين، فإن عدوان هؤلاء معروف من قديم على حقائق الديانات الأولى. وهل أفسد الدين إلا الملو ك وأحبار سوء ورهبانها؟ فباعوا النفوس ولم يربحو ا ولم تغل فى البيع أثمانها! فلنعلم هذا أولا، ولنلو زمام الركب التائه عن الصراط المستقيم، ثم لندفع به "فى ضمان السماء" إلى الغاية المرجوة والغد الكريم. محمد الغزالى ص _010(1/7)
مقدمة الطبعة الأولى من حق الإسلام علينا أن ندفع المطاعن التى وجهت إليه، ومن حق نهضته الأخيرة أن نزيح العوائق التى وضعت أمامها. ولقد رابتنا الحملات التى استهدف لها ديننا فى أهم تعاليمه، كما رابنا الاستغلال المنظم لشبهات المفترين وتخرصات الجاهلين. واستبان لنا أن هناك مؤامرة واسعة النطاق دبرها الغزو التبشيرى، والاستعمار الثقافى، لينال بها من مكانة الإسلام فى قلوب بنيه، وليوصد بها أبواب الأمل فى وجوه المجاهدين ضد الإلحاد والاحتلال... ونحن نعرف أن "أوروبا" فى القرون الوسطى أعلنت على الإسلام حربا ظلت دائرة الرحى مائتى عام، ارتدت بعدها الصليبية الغازية، وهى لم تشف غليلا لحقدها، ولم تطفئ نار لخصومتها الملتهبة... ثم جاء العصر الحديث والعزم القديم كامن بين الجوانح المنطوية على البغضاء والتعصب، وكانت ظروف الهجوم مواتية هذه المرة لضرب الإسلام فى صميمه وتمزيق أمته الكبرى شعوبا وقبائل، ثم توزيعها أسلابا خائرة منهوكة بين الطامعين والحاقدين. وتواصت دول " أوروبا" أن تحارب بكل أسلوب نزعات الحنين إلى الحكم الإسلامى والتشريع الإسلامى، حتى إنها لتنص فيما تبرم معنا من معاهدات على أن تكون قوانيننا السائدة امتدادا لقوا نين الغرب الفاسدة، وحذار ثم حذار أن تصلوا التشريع بمنابعه الأولى من كتاب الله وسنة رسوله! إنها الرجعية التى جئنا بلادكم لننقذكم منها! وفى سورة الكفاح وغضبة الإيمان لنصرة الله ورسوله، صدر منذ سنين كتاب ص _011(1/8)
"الإسلام وأصول الحكم " وفيه يزعم مؤلفه الشيخ على عبد الرازق أن لا صلة للدين بالدولة، فكان لهذا الكتاب- من عالم مسلم فى هذه الفترة العصيبة من تاريخ الإسلام- أسوأ الأثر! واعتبره المجاهدون فى سبيل الإسلام عملا خدم به صاحبه ـ من حيث يحتسب أو لا يحتسب ـ قضية الاستعمار الصليبى، ومن ثم سحب الأزهر منه شهادة العالمية... وفوجئنا بعدها بالشيخ عبد المتعال الصعيدى يحاول هدم الحدود الإسلامية المستقرة فى الكتاب والسنة، زاعما أن الأمر بها للندب لا للوجوب وأن الأمر لا يقتضى التكرار الدائم (!) إلى آخر هذا اللغو الفارغ المتهافت. ثم صدر أخيرا كتاب " من هنا نبدأ " للشيخ خالد محمد خالد، وهو الكتاب الذى أفردنا للرد عليه هذه الرسالة. وقد تضمن آراء جديدة، وأخرى مشابهة لما سبق أن أبداه الشيخ على عبد الرازق. وقد أحزننا أن وجدنا فيها من الشطط والخلط، ما يمرق بالناس عن الإسلام لو بدءوا الفهم والإصلاح من عندها كما يريد الأستاذ. * * * إن حرية الرأى لا تعنى حماية الخطأ وإعطاءه حق الحياة. وأقصى ما يناله الخطأ أن يعيش ريثما يعدم ويتوارى، والطريق التى نؤثرها أن نحارب الفكرة بالفكرة. ونحن الذين نعمل للإسلام لا نهاب أى هجوم عليه، لأننا موقنون أنه سوف يتكسر على حدوده. ولذلك نحن نتلقف الشبه والاعتراضات والأوهام، ونتركها تضطرب وتسعى. ثم نقذف بينها بالحق الذى أنزله الله، فيعود الأمر كما قال الشاعر: إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر. وأحب أن أذكر أنى صديق للشيخ خالد منذ سنين، ولكن ابن القيم لما رأى عوجا فى كلام شيخ الإسلام إسماعيل الهروى ـ وكان صديقا له ـ قال: شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه!!. ص _012(1/9)
ولقد تحدث الناس أن الأزهر ربما سحب شهادة العالمية من الشيخ خالد وهذا إجراء أرى أن التعليق عليه واجب. فإن الأزهر يكيل بكيلين، بل بعدة مكاييل فى هذا الموضوع، فقد أصدر قرارا ضد الشيخ على عبد الرازق ثم عاد فأبطله، واكتفى بنقل الشيخ عبد المتعال من الكليات إلى القسم العام!. وجرم الشيخ خالد هو جرم هؤلاء الأشياخ. وهناك شىء يختلج فى النفس: هل الأزهر يحاسب على الخطأ العلمى أم على الخطيئة النفسية كذلك؟ إننا نعرف أن الشيخ أحمد شاكر القاضى بالمحاكم الشرعية أصدر فتوى بأن الإخوان المسلمين كفار!! وأن من قتلهم كان أولى بالله منهم (كذا) والرجل الذى يصدر هذه الفتوى كان ينبغى أن يطرد من زمرة العلماء، ومع ذلك فلا نحسب أحدا أجرى معه تحقيقا... وهناك شيوخ كانوا يقودون حركات التعصب الإقليمى فى الأزهر ويعيدون الجاهلية الأولى بأقبح صورها، بقيت معهم شهاداتهم ما فكر أحد فى سحبها منهم. وهناك شيوخ بنيت أخلاقهم على محاربة الكفايات ، والضغينة على أولى السبق والفضل، احتلوا فى الأزهر مناصب ضخمة ونشروا فى أرجائه الفوضى العلمية، وشردوا منه أفضل علمائه! لماذا يترك هؤلاء جميعا يحملون شهاداتهم العلمية والدينية، ونفكر فى سحب العالمية من الشيخ خالد وحده؟ إننا نرجو أن يعيد الأزهر النظر فى موقفه كله بإزاء هذه المسائل وأشباها أما نحن فسنكتفى بتمحيص الحقائق فى كتابنا: "والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ". محمد الغزالى ص _013
حكم إسلامي لا قومي (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (قرآن كريم) "لتنقضن عرا الإسلام عروة عروة ، فأولها نقضا الحكم ، وآخرها الصلاة " (حديث شريف) "يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة . وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين عاما" (أثر نبوي) ص _014(1/10)
فساد قديم يحسب الكثيرون أن الإسلام- من حيث هو شريعة- عطلت أحكامه منذ قرن فقط، أى منذ أن جعلت القوانين الفرنسية أساس الحكم فى البلاد. أما قبل ذلك فقد كان الإسلام بخير فى عقيدته التى تسكن القلوب، ونظمه التى تسودالمجتمع!! وهذا غلط، فالتشريعات الجنائية والمدنية التى استقدمت ليست إلا فروعا من الدستور الذى يقوم عليه أصل الحكم، ويحدد العلائق بين الأمة وولاة أمورها، قبلما يحدد العلائق بين أفراد الشعب إذا تنازعوا أو تصالحوا. وقد كان هذا الدستور الخطير معدوما، فى الوقت الذى كانت فيه الأحكام الشرعية منفذة فى المسائل التافهة والمشاكل الصغيرة. ولعل فقدان هذا الدستور هو الذى أتاح لواحد من الحكام (المسلمين) أن يلغى بجرة قلم تشريعات القرآن والسنة ليحل مكانها قوانين الدولة الفرنسية المسيحية أو الملحدة!! وفقدان هذا الدستور هو الذى مهد الطريق لظهور طائفة من الحاكمين بأمرهم يباشرون السلطات العامة على نحو مطلق. ولا يحكمون المسلمين فحسب بل يحكمون الإسلام نفسه، ويميلون بنصوصه مع الهوى، ويتصرفون فيه بالمحو والإثبات على مايشتهون. وقد رأيت كيف عطل أحدهم القصاص والحدود وأباح الزنا والربا!! فانظر: أتجد انطلاقا فى شئون الحكم يصل بأصحابه إلى هذا الحد الشنيع من السيطرة والإرهاب تخرس معه ألسنة العلماء وتذهل فيه جماهير العامة ! مع أن الأمر يتصل بالدين وهو قوام الدنيا والآخرة..؟ إن الحكم المستبد شيء خطير جدا!. إنه سرطان الأمم الذى يلتهم كيانها، ويستهلك قواها، ويذرها قاعا صفصفا لا ترى فيه خلقا ولا شرفا. ونحن مبتلون بمعالجة المظاهر والغفلة عن العلة الدفينة. ص _015(1/11)
فالوجه الشاحب ندارى صفرته بالأصباغ، والجسم الناحل ندارى عواره بالملابس. أما الكشف عن الداء الخفى القاتل فذلك ما لا نأبه له. وكذلك سكتنا عن دستور الإسلام فى أصول الحكم فضاعت، ثم تبعتها الفروع فانماعت. وسقطت تعاليم الدين وحقوق الشعب فى براثن الحكومات المستبدة كما تسقط المدن المفتوحة تحت وطأة الجيوش المتغلبة فلا ترى إلا غصبا ونهبا.. فلما استيقظ المسلمون أخيرا، وقرروا العودة إلى الإسلام فى عقائدهم وشرائعهم، بدأوا يجرون الحقيقة من ذنبها، لا من رأسها، ويطلبون عودة الفروع قبل الأصول، وينادون بتطبيق القصاص والحدود وغيرها قبل أن يطمئنوا: هل ستظل الأوضاع السياسية التى تبيح لحاكم ما أن يطوح بالتشريع الإسلامى مرة أخرى كما حدث قبلا؟ وهل ستظل الأحوال الاجتماعية الظالمة التى تساند الأوضاع وتجعل عامة الناس يتنفسون فى أضيق من سم الخياط؟. على أن رهبة الحكومات الجائرة جعلت فريقا آخر من الناس يفكر تفكيرا مضطربا مريبا... لقد رأوا حكاما يقومون باسم الدين، ويرتكبون مظالم فادحة، فلما جبنوا عن مواجهة هؤلاء الحكام بالآثام التى يفعلونها، رأوا أن يحملوا الدين نفسه أوزار الحاكمين باسمه، ومن ثم قالوا: لا يصح للدين أن يحكم..! ولماذا؟ لأن بعض الذين لبسوا مسوح الدين فعلوا كيت وكيت. فعلى الدين أن يبوء بعارهم، ويرجع بآصارهم !!. وهذا منطق يجافى العقل والعدل ولا ينبغي الالتفات إليه..؟ وأولى من ذلك أن نكون رجالا لانخاف في الله لومة لائم، وأن نعلن سخطنا واحتقارنا لأولئك الذين ينصبون أنفسهم حكاما باسم الدين وهم لادين لهم، والذين لايهمهم من الدين إلا أن يكون دعما لإثرتهم وخادما لشهواتهم!. وأن نسقط من أعيننا كذلك كل عالم يبيع دينه بعرض الدنيا، ويمشى فى ركاب الظالمين ليتغاضى عن سيئاتهم أو يسوغ تصرفاتهم. * * * ص _016(1/12)
الحكم أداة لابد منها لكل إصلاح إن الإسلام ليس نظرية هندسية حسب المرء منها أن يفهم صحتها ويذكر أدلتها، أو فلسفة عقلية يتسلى الإنسان بمطالعتها ويدرسها إذا شاء لبعض عشاقها... بل هو منهاج استوعب مجموعة ضخمة من التعاليم الروحية والعملية وقدم للناس قواعد بينة للإصلاح العام تمس من قريب شئون الفرد والمجتمع والدولة... ومن الذى يزعم أن دعوة إصلاحية تبتعد عن ميدان الحكم وتزهد فى الإفادة منه لمبادئها ؟. إن الإسلام لو لم ينص على أنه دين يبغى السيطرة على الدولة لما كانت هناك غرابة- مع ذلك- لاتجاهه إلى الحكم ومحاولته أن يتسلم مقاليده. !! ألا ترى الثورة فى فرنسا ؟ لقد قامت باسم الحرية والإخاء والمساواة- فلم تنفذ أغراضها بالتبشير والدعاية، ولكنها أسقطت الحكومة القائمة واستولت على زمام السلطة وباشرت تنفيذ مبادئها، واعتبر اتجاهها إلى الحكم بداهة لا تتحمل جدلا. والثورة الحمراء التى اندلعت فى روسيا وقامت على مبادئ "ماركس "، لم يخامر أصحابها قط أن الحكم بالنسبة لأغراضهم نافلة، وأن أفكارهم يمكن أن تعيش بعيدا عن مراسيم السلطة، ومظاهر القوة وهيمنة الدولة.. والإسلام قد جاء بمبادئ أزكى وأنقى من المبادئ التى تمخضت عنها هاتان الثورتان. وسبل الإصلاح التى شرعها يجب أن تحفر مجاريها العميقة فى حياة الناس، وتاريخ الدنيا بالأسلوب نفسه الذى يتجه إليه دعاة الحق والخير فى كل زمان ومكان. وهو ما حدث مع الرسول العظيم صاحب هذه الشريعة، فقد بدأ هاديا ومبشرا ونذيرا، وانتهى قاضيا وحاكما، بعد ما تحولت رسالته من طور الدعوة التى تطارد وتضطهد، إلى طور الدولة التى تأخذ لربها ونفسها ما تريد... والحكومة التى أقامها الإسلام حكومة فكرة معينة، ومبادئ مبينة. وهى فى نظر نفسها وعند الناس، ممثلة هذه الفكرة وحاملة لوائها. ص _017(1/13)
وهى إذ تطلب التمكين فى الأرض والاستيلاء على الحكم، إنما تقصد إلى تحقيق مراميها: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) وكما أن دولة مثل روسيا عرفت باحتضانها للشيوعية وقيامها عليها، فالمفروض أن الدولة فى الإسلام إنما تنهض على احتضان مبادئ الإسلام والدفاع عنه والدعوة إليه بالحسنى لا بالإكراه.. والهدف الأول لوجودها تقديس عاطفة التدين، واحترام حقوق الله، وجعل كلمة الله هى العليا. وقد قام النبى صلى الله عليه وسلم بمهام رئيس الدولة على هذا الأساس الواضح. وكذلك مضى على سنته الخلفاء الراشدون من بعده، طلبوا الحكم ووصلوا إليه لا لشىء من جاه الدنيا وزينتها- فالدنيا وشهواتها كانت تحت أقدامهم ودبر آذانهم- ولكن لله ولكتابه وابتغاء وجهه. وقد أفنوا أشخاصهم وأموالهم وأولادهم حتى قامت للإسلام حكومة ترعى عقيدته وتنفذ شريعته... وسنسوق النصوص التى تستبين فيها معالم الدولة فى الإسلام حتى يتضافر العقل والنقل على توكيد هذا المعنى. وقبل سوق هذه النصوص ينبغى أن نلقى ضوءا كاشفا على الحالة العامة التى تواجهنا. * * * ص _018(1/14)
بقية من الحروب الصليبية إن حرمان الإسلام من حقه المقرر فى الحكم، واعتباره دينا معزولا عن الدولة هو جزء من العداوة التقليدية التى تكنها أوروبا للإسلام وأهله. وهى ترمى من وراء ذلك إلى القضاء على الإسلام بعد أن تفلح فى القضاء عليه نظاما مرعيا. والنزعة الصليبية هى التى أوحت بإبقاء التشريع الوضعى وإحباط كل محاولة لإحياء التشريعات السماوية التى نص القرآن على ضرورة تطبيقها. وقد يرتاب البعض فى أن أوروبا تحركها ضد الإسلام نزعات صليبية حادة وينخدع بما يقال ويشاع من أن أوروبا طلقت الأديان جملة، وأن بينها وبين المسيحية أشياء وأشياء! والحقيقة ما نقول، فملك إنجلترا يلقب رسميا بحامى المسيحية، والبند الأول فى برنامج حزب المحافظين إقامة حضارة مسيحية، والحزب الحاكم الآن فى إيطاليا وألمانيا وأسبانيا وغيرها هو الحزب الديمقراطى المسيحى، وقد صوتت الكثرة فى بليجكا للحزب الاشتراكى المسيحى. ويوجد فى دول أوروبا كافة ساسة لا يصدرون فى أعمالهم إلا عن روح مسيحية خالصة... وصحيح أن هناك نزاعا نشب منذ قرون بين الكنيسة والدولة انتهى بإقصاء الكنيسة وهزيمتها. بيد أن الكنيسة أدركت آخر الأمر أن ما حاق بها من هزائم سببه أغلاط بعض رؤسائها ومسالكهم الشاذة، فأصلحت من شأنها واتصلت بالحياة العامة مرة أخرى. وظلت ترسخ أقدامها حتى سمعنا الماريشال (اللنبى) يقول أثناء دخول القدس: "اليوم تنتهى الحروب الصليبية". وهو رجل عسكرى وليس براهب ولا قسيس. وقد بلغ من حقد أوروبا على الإسلام وأهله أن سمحت بقيام إسرائيل وأمدتها ماديا بما يعينها على القوة والعدوان. ص _019(1/15)
وهذه الدولة التى تعيش فى أحضان الغرب المسيحى تمثل اليهودية على أنها دين ودولة. وهكذا يراد بالإسلام وحده أن يحرم من أسباب السلطان وأن يعيش فلسفة روحية مجردة، فى الوقت الذى تتسلح فيه اليهودية وتتسلح فيه المسيحية وتسخران دول العالم ضدنا. أفهذا ما يريده الأستاذ خالد؟ وغيره من دعاة فصل الدين عن الدولة؟ ولاشك أن الاستعمار أفلح فى خلق جيل من المسلمين يعينون على أنفسهم ويحاولون ـ مع أعداء الإسلام ـ أن يقضوا على دينهم. ويوجد الآن للأسف الشديد جمهور من المثقفين يعتقدون أن الإسلام دين لا دولة، بل الأدهى من ذلك أن بعض العلماء قد حطب فى هذا الحبل، وما أظنهم يعنون ما يقولون! إن الدولة ليست للإسلام اليوم ـ وهذا منكر كبير وحدث خطير ـ ووقع ذلك على أنه افتيات على الدين وانتقاص من حقه ظاهر. أما محاولة تسويغ الواقع وإعطائه الصورة التى يرضاها الإسلام، فهى محاولة لاستدراج الدين إلى الرضا عن الجريمة والخنوع للضيم والاعتراف بموت نصفه ثم إبقاء النصف الآخر على أبواب الفناء. إن الحكم فى الإسلام ليس سياجا فقط لحماية حدوده من عدوان خصومه والصادين عنه، بل هو كذلك قيام على حقائقه الأولى بالتعليم والتربية والأمانة والتوجيه. وسنستعرض الآيات والسنن الدالة على ذلك ونرد على الاعتراضات والشبه التى أثارها بعض المؤلفين. * * * ص _020(1/16)
شبهات حول الحكم الدينى يقع فى الوهم أن الحكم الدينى إذا أقيم فسيكون رجاله هم أنفسهم أولئك الذين نسميهم الآن "رجال الدين " وقد تثبت فى الخيال صور لعمائم كبيرة ولحى موفورة وأردية فضفاضة. وقد تتوارد هذه الصور وملابساتها الساخرة فنظن أن الوزراء فى هذه الحكومة سيديرون عجلة الحياة إلى الوراء، وينشغلون بأمور لا تمت إلى حقائق الدنيا وشئون العمران بصلة. ومن يدرى؟ فقد يشتغلون بالوعظ ومحاربة البدع والاستعداد للحياة الآخرة، وحسبهم ذلك من الظفر بالحكم. وهذا وهم مضحك، ولعله بالنسبة إلى الإسلام خطأ شائن. فنحن لا نعرف نظاما من الكهنوت يحمل هذا الاصطلاح المريب" رجال الدين" . وقد يوجد فريق من الناس يختص بنوع من الدراسات العلمية المتعلقة بالكتاب والسنة ولكن هذا النوع من الدراسات لا يعدو أن يكون ناحية محدودة من آفاق الثقافة الإسلامية الواسعة، تلك الثقافة التى تشمل فنونا لا آخر لها من حقائق الحياتين ومن المعارف المادية وغير المادية. والعلماء بالكتاب والسنة يمثلون فريقا من المسلمين قد يكون مثل غيره أو دونه أو فوقه، ولم يكن التقدم الفقهى مرشحا للحكم فى أزهى عصور الإسلام. وقد كان "أبو هريرة " و ابن عمر" وابن مسعود" من أعرف الصحابة بالكتاب والسنة ومن أكثرهم تحديثا عن النبى عليه السلام فهل كانت منزلتهم فى بناء الدولة الإسلامية منزلة الخلفاء الأربعة أو منزلة "سعد بن أبى وقاص" أو خالد بن الوليد" أو أبى عبيدة بن الجراح "؟ الواقع أن المسلمين كافة رجال لدينهم- أو ذلك ما يجب أن يكون- والذى يخدم ص _021(1/17)
دينه فى ميدان القتال أو السياسة أو الحكم أو الصناعة أو العلم هو لا ريب رجل لدينه لا غبار عليه. وليس أحد أحق من أحد بهذا الوصف ولا كان احتكارا لطائفة دون أخرى يوما ما. والصورة الصادقة للحكومة الدينية- كما يقيمها الإسلام- صورة رجال أحرار الضمائر والعقول، يفنون أشخاصهم ومآربهم فى سبيل دينهم وأمتهم. صورة كفايات خارقة، وثروات عريضة، من بعد النظر، ودقة الفهم، وعظم الأمانة، تسعد بها المبادئ والشعوب. صورة أفراد لهم مهارة " عبد الرحمن بن عوف " فى التجارة، " وابن الوليد " فى القيادة، و " ابن الخطاب " فى الحكم، قد يولدون فى أوساط مجهولة فلا تبرزهم إلا مواهبهم وملكاتهم فى مناحى الدنيا وميادين العمل. إن الحكم الدينى ليس مجموعة من الدراويش والمتصوفة والمنتفعين فى ظل الخرافات المقدسة.. ويوم يكون كذلك فالإسلام منه برىء. * * * ص _022(1/18)
هل توجد الآن حكومات إسلامية؟ وقد يظن أن الحكم الدينى أعطانا معالم واضحة عن أهدافه وعن أساليبه فيما نرى ونسمع فى بعض الأماكن على وجه المعمورة. وعلة هذا الظن أن تلك الأقطار وحدها هى التى تقطع يد السارق، وتجلد الزانى، وتقيم حدود الله، أى أنها هى الحكومات المسلمة التى بقيت مصرة على تنفيذ هذه الأحكام فى عصر قد جحدها ونفر منها نفورا شديدا. ونحن لا نمارى فى أن الحدود من الإسلام، ولكننا نستغرب أن تحسب الإسلام كله.!! ونحن نريد أن تقام الحدود لتحفظ الحقوق، ويوطد الأمن، وتحرس الفضائل.. لا أن تقام الحدود لتقطع يد لص صغير سرق دريهمات ، ثم يدرأ الحد، بل لا يفكر فى إقامته أبدا على لص القناطير المقنطرة من خزائن الدولة، ومن موارد الشعب! وبعض الأقطار الإسلامية تعد من أفقر بلاد الله إذا نظرنا إلى معيشة سكانها.. وأخرى تعانى من تخلف شديد فى جل جوانب الحياة.. وأخرى تمتلأ بالكنّازين وأصحاب يد طولى وضمائر جانحة.. إن كثيرا من بلاد الكفر أعدل حكما، وأرقى ضميرا، وأرفع مستوى من هذه البلاد! فكيف يظن أن ما بها من فوضى وجور واعتساف صورة لحكم إسلامى ؟ وما هو إلا مجتمع تعس من السادة والعبيد؟! لقد قلنا إن التشريعات الجنائية والمالية ليست إلا فروعا من الدستور الذى يجب أن يقرر أولا وتحدد فيه حقوق الحاكم والمحكوم. فإذا فقد هذا الأصل فأى غناء للفرع بعد فقدانه؟ وبعض البلاد الإسلامية ليس فيها دستور إلا سلطان الفرد المطلق. ص _023(1/19)
وعندما يكون لسان الحال لحاكم ما هو لسان المقال الذى نطق بفرية فرعون الكبرى عندما صرخ فى أتباعه " أنا ربكم الأعلى" فكيف يقال إن هناك قانونا قائما، أو هناك حدودا محترمة!؟ لقد كان بيت المال- أيام الخلافة الراشدة- للأمة، وللحاكم منه الفتات الذى يمسك عليه حياته فقط. أما فى بعض الأقطار فبيت المال للحاكم، يأخذ منه أولا نصيب الأسد ثم يرمى بفضلاته للمصالح العامة ؟. فكيف يقال إن هذه حكومات دينية، وإن حدود الله فيها أقيمت؟ إن هذه البلاد- للأسف البالغ- بحاجة ماسة إلى ما يحفظ عليها كيانها المجرد، فإن تم لها ذلك أمكن أن ترتفع إلى المستوى الذى يرسمه لها الإسلام! وقبل أن نصل إلى هذه المرتبة لا يجوز ألبتة أن يقال. هذه حكومات طبقت الإسلام دينا ودولة. * * * ص _024(1/20)
مثار الخطأ... ولكن زميلنا الأستاذ خالدا فى كتابه "من هنا نبدأ" بدلا من أن يذكر هذه الحقيقة ويعامل على ضوئها الحكومات التى تنتسب للإسلام ولا تخضع لتوجيهه فيحملها أوزار مسلكها ويخلص الإسلام من جريرتها- حمل الدين نفسه هذه الآصار الثقال، ثم بنى على ذلك أنه مادام هناك حكام قد قاموا باسم الدين فأخطأوا ، فليقص الدين عن الحكم أبدا، وليحرم من السلطة التنفيذية!! إن هذا ظلم للإسلام وتجاهل لأهدافه، ثم هو ترك للمجرم الذى أشبع شهواته باسم الله ورسوله.. لماذا لا نقول بملء أفواهنا: إن هناك أفرادا سطوا على تاريخ الإنسانية- وكانوا على حظ كبير من الجراءة والمغامرة- فسرقوا أقطارا وأجيالا، وأسسوا بأسمائهم الشخصية دولا، و صنعوا لأنفسهم وبينهم مجدا وعملهم هذا- برغم الهالة التى أحاطت به- لا يعدو أن يكون صورة مكبرة ألف مرة أو ألف كف مرة للسارق الصغير الذى يسرق آنية من بيت أو قرشا من جيب! السارق الصغير فى أثناء عدوانه على حق الفرد وأمنه قد يقتل أو قد يجرح من يعترضه. وكذلك يفعل الذين ظهروا فى تاريخ البشرية يلبسون ثياب القادة والفاتحين والمغامرين، إنهم يدوسون حقوق الجماهير ويحطمون مقوماتها. وقد أصيبت أمم شتى فى الشرق الإسلامى المسكين بعاهات مستديمة عندما تعرضت لنزوات أولئك الأفراد الطامحين... لماذا لا نضع الجريمة وأصحابها داخل إطار أسود ثم نقول: هؤلاء لا صلة للإسلام بهم؟ بل إن الإسلام- مثل الشعوب- موتور من صنيعهم به واستغلالهم لنصوصه. أما أن نحمل الإسلام آثام هؤلاء فذلك خطأ بعيد. * * * ص _025(1/21)
الحدود وضرورة إقامتهما ويبدو أن خالدا لم تعجبه طريقة تنفيذ الحدود فى الحكومات المنعوتة بأنها إسلامية فوقع فى الخطأ السابق نفسه إذ حمل على الحدود، بدل الحملة على الملابسات والأوضاع الاقتصادية السائدة هناك. والحملة على الحدود التى شرعها الإسلام لا مساغ لها ولا أساس. والقول بأنها موقوفة التنفيذ، أو أنها للإيهام المجرد، أو أن الرسول عطلها يوم شرعت قول يجانب الصواب. إن الأوامر بإقامة الحدود صريحة فى الكتاب والسنة. وقد قام النبى عليه الصلاة والسلام بتنفيذها جميعا فى أحوال كثيرة، ورفض فيها الشفعاء من أعز أحبابه، واكتفى أحيانا بالقرائن الحاسمة، ولم ينتظر توافر الشهود، مما جعل الفقهاء يأخذون بالقرينة فى موضع الشهادة ويقيم الحد بها. وصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام راجع بعض الناس عندما اعترفوا على أنفسهم بالجريمة بيد أن لذلك تفسيره الذى يظهر سره ويكشف حكمته، وهو إن دل على شىء فعلى سمو الدين وعظمته. إن الغرض الأول من إقامة الحدود محاربة الجريمة، وتعقب الزناة والسفلة واللصوص. ولا شك أن بعض المؤمنين قد يلم بسيئة مما حرم الله فيضيق لذلك صدره وتسود الحياة فى ناظريه، ويهرع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يبغى أن يطهر نفسه بالموت أو بما يشبه الموت. فهل هؤلاء المساكين الذين زلت أقدامهم من حيث لم يحتسبوا، يصح اعتبارهم مجرمين خطرين، فنسارع إلى التنكيل بهم متى وقعوا فى أيدينا؟ إن رسول الله عليه الصلاة والسلام ليس وكيل نيابة مهمته حصار المتهم بين المواد التى تهلكه، ولكنه قبل ذلك مرب كريم ومعز رحيم وهو القائل: "أقيلوا ذوى المروءات عثراتهم، فوالله إن أحدهم ليعثر ويده بيد الرحمن ". ص _026(1/22)
فإذا جاءه شاب تكاد عينه تقطرلمعصية انزلق فيها ، وهؤلاء غالبا من ذوى العواطف المهتاجة- فمن حق المجتمع بل من حق الإنسانية كلها أن تستبقى حياة هؤلاء الأشخاص ذوى الضمائر الحساسة والمشاعر المرهقة. وهذا ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام عندما راجع المقرين بالحدود وأعطاهم فرصة الفكاك منها. وإنك إذ تتصور هذه الفتاة التى أسموها الغامدية، وقد جاءت تطلب الرجم- وهى حامل- فلما أرجئت جاءت تطلب الرجم ومعها رضيعها، فلما أرجئت جاءت تطلب الرجم ومعها وليدها يسعى، وبيده قطعة خبز، أتحسب الرسول كان يترك هذه الفتاة ليسىء بتركها إلى المجتمع؟ كلا إنها التوبة من الخطيئة تسعى على قدمين. إنها تشبه أن تكون ملكا كريما لا بغيا ملوثة، فاذا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يعامل أضرابها من الرجال والنساء معاملة خاصة، فلهذه الحكمة البالغة فقط. أما حيث يظهر المسلك المعوج ويبدو حق المجتمع فى محاربة الفسق والعدوان فقد أمر الرسول بالقتل والصلب ولم تأخذه بأحد رأفة، امتثالا لأمر الله، وقياما على تعاليم دينه. إن قصار النظر من الباحثين فى الحدود يريدون أن يفهموا من وقف التنفيذ فى بعض القضايا أن المبدأ القانونى نفسه قد انهدم، وأن قيام التشريع وضرورة الحكم به قد أصبحا موضع شك. ومن أين داخلهم هذا الفهم السخيف؟ إن القوانين الموضوعة فى هذا العصر لم تتعرض لهذا الإيهام، مع أن القضاء كثيرا ما ينظر إلى الملابسات التى تحيط بالمتهم، والظروف التى تكتنف القضية، ثم يصدر حكما مخففا أو موقوفا. وكما تتحول الجنح إلى جنايات تتحول الجنايات إلى جنح . ص _027(1/23)
فهل يقال: إن الدولة قررت إلغاء القانون، لأن الملابسات تتحكم فى أوصافه وفى إنفاذه أو إيقافه؟ أم يعتبر القانون قائما ويعتبر النظر إلى هذه الملابسات جزءا من القانون؟. إن هذا ما يقوله العقلاء. ولست أدرى كيف خبط الشيخ خالد- ومن قبله الشيخ عبد المتعال- فى هذا الموضوع فزعما أن قوانين الحدود ليست جدية (!) أليس هذا هو الهزل؟! عن عائشة:" أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التى سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟ وظنوا أنه لا يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله عليه وسلم، فكلمه أسامة رضي الله عنه.. فقال: أتشفع فى حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيه الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها! ". وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله عز وجل " . وعن الزبير أنه لقي رجلا قد أخذ سارقا يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا، حتى أبلغ به السلطان. فقال الزبير: إنما الشفاعة قبل أن يبلغ السلطان، فإذا بلغ السلطان لعن الشافع والمشفع. * * * إن الجرأة على الحدود التى شرع الله لعباده جزء من تملق المدينة العصرية وقوانينها المحدثة. و"أوروبا" لن تطرب لكلام أجمل فى أذنيها نغما من انسلاخ المسلمين عن دينهم عقيدة وشريعة. ثم إن أمر العقيدة والشريعة سواء. والعقل المدخول الذى يريد منا أن نتأول نصوص الفقه التشريعى فى الحدود ص _028(1/24)
والقصاص والمعاملات سوف يطلب منا غدا أن نتأول كذلك نصوص الإسلام الأخرى فى الصلاة والزكاة والحج. فليست هذه أولى من تلك بوقف التنفيذ! بل إذا سرنا على منطق التعطيل- كما ردده الشيخ خالد- فإن العبادات ستسبق المعاملات إلى أودية الفناء. * * * لقد تكلمت فى كتاب " الإسلام والأوضاع الاقتصادية " عن جريمتى السرقة والزنا، فلم أخدش الحدود التى قررها الدين- وحاشاى أن أفعل- ثم خضت فى ملابسات التنفيذ اليوم خوضا حرا. ولو قد سلك العلماء هذا المسلك لأنصفوا الدين وأراحوا الناس وأقروا العدل... * * * ص _029(1/25)
جزء من عمل الحكومة الدينية فالذين يفهمون أن الحدود موقوفة التنفيذ لمثل هذه الملابسات، أو لما أحيطت به من ضمانات، إنما يسيئون فهم النصوص الثابتة والآثار الواردة. وقد رأى الأستاذ خالد أن هذه الحدود- على فرض ثبوتها وبقائها- يمكن أن تضم إلى القانون المعتاد وتشرف على تنفيذها حكومة مدنية، لا صلة للدين فيها بالدولة. ونحن نقول: إن الحدود ثابتة باقية، وإنها بعض تعاليم الإسلام التى تنهض بها الحكومة المعتزة بدينها المتعصبة له. ولو أن إنجلترا أدخلت الحدود فى أحكامها ما تحولت بذلك إلى دولة إسلامية! فالدولة فى الإسلام ممثلة فكرة- كما أسلفنا القول- تعيش بها وتعيش لها، كما تمثل روسيا الشيوعية وتقيم نظامها فى الداخل وعلاقاتها فى الخارج على ضوء الإخلاص التام لفكرتها تلك...؟ من قال إن وظيفة الدولة تطبيق عدة أحكام جزئية فقط؟ إن الإسلام فى الميدان السياسى ديمقراطية حرة، وفى الميدان الاقتصادى اشتراكية معتدلة. وقواعد التربية التى يدعم بها الأخلاق ويضبط بها المجتمع كثيرة. ووظيفة الدولة أن تقيم كل شىء فى الأمة، وأن تسوق الرجال والأموال لتحقيق هذه الاتجاهات التى نصحت بها تعاليم القرآن والسنة. أما أن نتخيل صورة شاب سفيه كيزيد ، أو مجرم سفاك كالحجاج ثم نقول: هذه ثمرات الحكم الدينى فشرود عن الصواب، واتهام لا موضع له...!! ص _030(1/26)
هل نريد إيمانا أعزل أمام إلحاد مسلح؟! اتفق الباحثون من المسلمين ومن المستشرقين على أن عقيدة التوحيد أساس الإسلام، وقد كتبنا فى مقال لنا منذ عامين: أن استقرار هذه العقيدة معناه توطد حقوق الإنسان من حرية وإخاء ومساواة، إذ أن التوحيد الحق يعنى أن البشر كافة عبيد الله، فإذا تجبر أحدهم وحاول فرض نفسه على غيره، وجب قمعه ورده إلى مكانه على عجل. ولكن المتكبرين من أرباب المال والجاه لا ينزلون عن سلطانهم الموروث بسهولة، ومن ثم لا يتركون هذه العقيدة التى تزلزل أوضاعهم تنتشر فى هدوء. وليت من لم يكن بالحق مقتنعا يخلى الطريق فلا يؤذى من اقتنعا ولذلك منذ ولد الإيمان فى الأرض ولد الجهاد معه! وهو لم يشق طريقه فى الحياة إلا على ركام من أجداث الشهداء. وقد استمعنا إلى رسل الله وهم أحسن الناس بيانا، وأعفهم عرضا وأصدقهم كفاحا، يحاولون بالإقناع المجرد أن يصلوا إلى الأفئدة المغلقة، فماذا حدث لهم وبماذا أجيبوا؟ إننا نستقرىء القرون السالفة فلا نجد إلا أقواما: (جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب) و ليتهم سكتوا عن ذلك. فما هى إلا أيام حتى نستمع إلى دوى السلطة الغالبة يتكشف عن هذا الإنذار: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) ص _031(1/27)
فإن تكن الدولة للكفر تمنحه فى الحياة هذا المنطق العنيد، فمن البداهات التى يجب ألا تناقش أن تكون للإيمان هو الآخر الدولة التى يدفع بها عن نفسه فى بيئته الأولى ووطنه الذى يأرز إليه ويحتمى به، والدولة التى يساند بها أشياعه فى سائر بلاد العالم، بل التى يحارب بها الظلم حيث كان. وقد بدأ الإسلام كذلك، طردته الدولة القائمة بمكة فكان أن أسس دولته بالمدنية.. ثم استعاد ما فقده أول أمره. فلما نهضت الدولة الإسلامية الأولى على قدميها كان عملها الأول أن ساقت جيوش التحرير أفواجا لتدك الكسروية المتكبرة فى فارس والقيصرية الباغية فى الروم، ولتمنح حق الحياة الكريمة للجماهير التى ترنحت دهرا تحت وطأة هذه السلطات السفيهة. وكان من المستحيل فى ظل السطوة المقررة للملوك، الأقدمين أن تنشر دعوة أو تستنقذ أمة بالمحاجة والإقناع. وقد شعرت المسيحية فى عصور الاضطهاد الأولى أنها فى حاجة ماسة إلى سلطان يدفع عنها الأذى والعدوان، فسعت إلى الحكم- مع قلة النصوص لديها بشأنها- حتى استولت عليه . فهل الإسلام الذى تكاثرت نصوص الحكم فيه هو الذى يقال عنه: إنه دين لا دولة؟ ومتى يقال ذلك؟ فى العصر الذى تسلحت فيه مبادئ "كارل ماركس " وأصبح إنكار الألوهية عقيدة قاهرة، تهدم بها المساجد فى القوفاز ويشرد بها ثلاثون مليونا من المسلمين... وفى العصر الذى استيقظت فيه الخصومة التقليدية بين الشرق الإسلامى والغرب الصليبى، لأن هذا الغرب يأبى إلا استدلالنا واحتلال بلادنا وقص أجنحة الإسلام بإلغاء تشريعاته وهدم تقاليده، مستوحيا بذلك الكنيسة التى تعمل فيه من وراء ستار؟ ص _032(1/28)
إن الدولة فى الإسلام لم تكن فى عصر من العصور ألزم له منها الآن، لا لأنها جزء من كيانه الحى فحسب، بل لأن هذا الكيان كله مهدد بالزوال، فى عالم تدور أعاصير الفتن ولا يقوى على البقاء فيه إلا الأقوياء. إن الحكم من الناحية العلمية إن لم يكن شطر الإسلام فهو شرط بقائه، ومن الناحية الواقعية نستطيع الجزم بأن الحكومات التى لا إسلام لها ليست إلا امتدادا لشهوات الاستعلاء والشبع واحتقار الأديان جملة، وإهمال أوامراها تفصيلا.. هذا فى الشرق، أما فى الغرب فقد علمت أن المسيحية لها سيطرة غير مباشرة على تلك الحكومات. فما يقوله الأستاذ خالد من أن الدين ليس إلا علامات تنصب أول الطريق لترشد المارة إلى اتجاهاته المختلفة، وأنه- لذلك- لا علاقة له بالسلطات. هذا كلام خيالى يشبه الشعر الحالم، فالطرق مليئة بالقطاع، والدين إن لم يسر فيها قافلة منظمة مسلحة يوشك أن تتخطفه الشياطين من هنا ومن هناك. * * * ص _033(1/29)
غرائز الحكومة الدينية اختار الشيخ خالد هذا العنوان، ليسرد تحته مثالب الحكم الدينى، كما توهمها، وكأنه يصف طباع وحش مفترس الأظفار، مخضب الأنياب من دماء الضحايا! وكم يكون سرورى كبيرا لو أنه جعل العنوان: "غرائز الحكم الاستبدادى" مثلا ثم أبان بعد هذا الحكم عن الإسلام، وظلمه لدين الله ودنيا الناس جميعا.. إنه بهذا ينصف الدين من الأوغاد الذين استغلوه شر استغلال وافتاتوا به على الحق المجرد، والمنفعة المنشودة للشعوب المظلومة. ثم هو بهذا لا يقع فى تناقض مع نفسه كهذا الذى وقع فيه عندما كتب تحت العنوان "غرائز الحكومة الدينية " يقول: لا هى بعيدة عن الدين كل البعد. فالحقيقة أن الحكومة الدينية وإن ظفرت بهذه التسمية التى توهم أن لها بالدين صلة لا تستلهم مبادئها وسلوكها من كتاب الله ولا من سنة رسوله بل من نفسية الحاكمين وأطماعهم ومنافعهم الذاتية... ". فلماذا إذن تسمى حكومة دينية؟ مادام دستورها لا يمت بصلة إلى كتاب الله وسنة رسوله؟ ثم لماذا تطرح أوزارها على الدين نفسه فيحرم من الحكم عقابا له على تصرفات هى ضد طبيعته وشريعته؟ ولماذا لم يقترح الأستاذ خالد بعدما تكلم عن طبيعة الإسلام أن تلتزم الحكومة الدينية حدود هذه الطبيعة الواضحة أو تجرد من لقب لا تستحقه، وتدمغ بالصفة التى تناسبها؟ على أن الأستاذ مضى فى طريقه يحارب فى غير عدو، ويحصى عيوبا سبعة للحكومة، هى حيثيات إقصاء الدين عن السياسة، وطرده للأبد من الدواوين والمراسيم. فلما أعوزته الأمثلة التى تشهد لهذه النتيجة قال "وفى الحكومات الدينية ص _034(1/30)
الإسلامية حدثت أهوال مروعة حتى إن حاكما دينيا واحدا- وهو الحجاج- أباد البقية الكريمة من صحابة رسول الله ". ولأول مرة يقرع سمعى أن الحجاج حاكم دينى ! وما أظن الحجاج نفسه طمح إلى هذا اللقب، و ما أظن أحدا من المؤرخين أسبغ عليه هذا الوصف الغريب. لكن الأستاذ خالدا فعلها، وانتقل منها إلى أن دينا يحكم الحجاج باسمه لا يصح له أن يحكم... قال ابن أبى بردة بن أبى موسى الأشعرى لسليمان بن عبد الملك يصف الحجاج. " يا أمير المؤمنين. كان عدو الله يتزين تزين المومسة ، يصعد المنبر فيتكلم بكلام الأخيار، فإذا نزل عمل عمل الفرعنة. وأكذب فى حديثه من الدجال ". وتاريخ الحجاج مثل صارخ لفسق الحكام عن أمر الله واستهتارهم الفظيع بالدماء والحرمات. ولو لقى جزاءه فى الدنيا لكان الشنق أهون عقاب ينزل به. ومع ذلك فقد أصبحت تصرفاته فى نظر خالد تفسيرا للإسلام، وتؤخذ حجة على كتاب الله وسنة رسوله!!. ونستطيع أن نضم إلى هذا الدليل أن "نابليون بونابرت "- رضى الله عنه- اعتنق الإسلام ولبس عمامة التقى والصلاح على أيدى علماء الأزهر، ثم ارتكب بعد ذلك من الجرائم السياسية ما نعلم... مما لا يصح معه قط أن يعتبر الإسلام دينا ودولة- بعد تصرفات نابليون الشائنة- فإن طبيعة الحكام الدينيين القاسية تجرى فى دمه وتنطق بخطورة تحكيم الدين فى الشئون العامة. * * * ص _035(1/31)
شطط!! ينقد الأستاذ خالد الحكومة الدينية فيتساءل دستورها الذى تعمل له وتقوم به ماهو؟ إنها حين تسأل هذا السؤال تفر وتهرب إلى الغموض الذى لا تستطيع أن تعيش إلا فيه وتقول: هو الدين هو القرآن. لكن القرآن- كما قال على- حمال أوجه- السنة كذلك... وهذا الكلام سيئ جدا، فلو أن الطعن فى أشخاص الحكام باسم الدين ملأ صفحات الكتاب كله ما اكترثنا لذلك. ولكن الطعن نضج هنا على الدين نفسه فأصبح متهما بالغموض والإبهام. فمقابح الحكومة الدينية بعد ما كانت معللة باتباع الأهواء والشهوات، أصبحت معللة بأن القرآن غامض وأن السنة كذلك، وأن دستورا يعتمد عليهما فى سياسة الشعوب إنما يعتمد على فراغ. وهنا نختلف مع المؤلف اختلافا كبيرا، فالقرآن كتاب واضح يقول فيه منزله: (.. تلك آيات الكتاب المبين) والسنة مزيد من البيان لما أجمل القرآن ذكره من تفاصيل العبادات والحوادث. ومن أيسر الأمور أن تعرف من الكتاب والسنة طائفة ضخمة من العقائد والأحكام قررت ولم تشتجر حولها الآراء ولم تتكاثر الوجوه. ولو كانت نصوص القرآن والسنة بالمثابة التى ذكرها المؤلف لما عاش الإسلام يوما واحدا، ولما ربى رجلا واحدا. وقد استشهد الشيخ خالد على آراء كثيرة بالآيات والأحاديث، فقال: " إن إحدى خصائص الدين قبل أن تخالطه الكهانات تحرير البشر من التسلط والاستغلال " ووصل إلى هذه النتيجة السليمة من نصوص الدين نفسه التى وصفها بأنها حمالة أوجه... ص _036(1/32)
صحيح أن القرآن اعتمد فى أحكامه وتوجيهاته على التعبيرات العامة والألفاظ المرنة حتى يساير العصور كلها إلى قيام الساعة. وهذه آية من آيات إعجازه. بيد أن العموم والمرونة شىء آخر غير الغموض والإبهام!! وقد كان الخوارج على عهد "على" يكفرون المذنب ويتلقفون آيات الوعيد فيسيئون تطبيقها على الناس، و " على" وفقهاء الصحابة يدرون أتم الدراية بالملابسات إلى صحبت نزول هذه الآيات. ومن ثم وصى ابن عباس ألا يحاج هؤلاء الخوارج بالآيات المجردة بل بالنسبة الموضحة فهى أشبه بمذكرة تفسير للقانون. ولم يقل أحد من العلماء أبدا إن كلا من السنة والكتاب مشكل وحمال أوجه. * * * نعم إن "على بن أبى طالب " أوصى " ابن عباس " لما أرسله لمناظرة الخوارج ألا يحاجهم بالقرآن، لأنهم يشغبون به، ويجيئون إلى صيغ العموم فيه فيطبقونها على الكافر والمؤمن غير ناظرين إلى شروح السنة لها. فكان على يريد مواجهتهم بالنصوص الحاسمة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى يقطع جدلهم، والسنة فى نظره تفسير لا مهرب منه. فإيهام القارئ أن "عليا " يرى أن السنة هى الأخرى حمالة لوجوه، ضرب من التدليس العلمي لا يستساغ. والاعتماد على هذه الكلمة فى اتهام القرآن والسنة بالغموض لا قيمة له ألبتة، إن كان المقصود من هذا الكلام أن النصوص التى جاء بها القرآن مشتبهة الدلالة فغير صحيح. وإذا كانت بعض الآيات المتصلة بذات الله وصفاته فوق مستوى العقول، فإن آيات العقائد والأحكام والأخبار والأوصاف- وهي أكثر القرآن- محكمة. ثم هى وحدها منبع التشريع ومناط التكليف (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) ص _037(1/33)
وهذه الآيات المحكمة، منها قطعى الدلالة فى موضوعه بحيث لا يتحمل إلا معنى واحدا لا ريب فيه، وهو كثير فوق الحصر.. ومنها ما يكون مرن اللفظ بحيث يتحمل معانى عدة تستفاد بحسب قواعد اللغة وأساليبها. وفارق كبير بين المرونة والفوضى. وهناك علم أصول الفقه قد بين الأئمة فيه طرائق استدلالهم وقواعد استنباطهم على نحو بلغ الغاية من الدقة. وقد تكلم علماء الإسلام فى دلالات الكتاب والسنة وفجروا منها بحارا من الأحكام الزخّارة والصور الرائعة، هى إلى اليوم آية من آيات الله فى القوة والسمو والوضوح. فلما جاء على الإسلام عصر أصبح المتهمون فيه هم قضاة الناس وولاتهم، جاء الشيخ خالد يستدل بأقضية المتهمين وأفهامهم على غموض الكتاب والسنة. ونحن نعلم أن الناس يعيرون بتركهم للدين وخروجهم على أحكامه- كما يفعل الوعاظ.. بيد أن الشيخ خالدا يعير الإسلام بخروج البعض عليه ويريد ليحمله تبعة أعمالهم. فإذا ضل "الحجاج " فالعلة فى نظره أن التشريع غامض، لا أن " الحجاج " حاكم ساقط... وتطرد الأمثلة فى استدلالاته على هذا النحو المتداعى، حتى يخرج منها فى النهاية بأن الدين ليس أهلا لأن يحكم. ولو كان عبث الحكام بنصوص الحكم سببا لإهدار العمل بها، فلم لا يكون عبث العامة بسائر الأحكام فى العقائد والآداب سببا لإهدارها كذلك؟. وننفض أيدينا من الدين وتكاليفه جملة… أحسب أن هذه ستكون نهاية المطاف فى الحملة التى تشنها الإباحية على الإسلام . وما هدم الحكم الديني غير أول النذر . ثم إن المسألة لم تكن ولن تكون أبدا غموض حكم لله فى أمر من الأمور إنما المسألة هل تنفذ الأحكام أم لا؟. وهل تسير فى سبيلها المعدة أم تلتوى بها المآرب الدنيئة؟ هل تسمح لها بأداء رسالتها أم تفسدها بالتمحل والتأويل؟ أما ما يقوله الأستاذ خالد من أن "عليا" و "معاوية" كانا يتنازعان الاستدلال على ص _038(1/34)
وجهة نظرهما بآيات واحدة وأن أصحاب "على" وهم يحرضون على دم "معاوية" كانوا يقدمون بين أيديهم طليعة هائلة من الآيات والأحاديث هى نفسها التى كان يحرض بها أصحاب "معاوية" على دم "على" وقتاله، فهذا كلام باطل وفهم سيئ لبواعث القتال الذى نشب. ومعناه أن القرآن يصلح للاستدلال على الشىء وضده، وأن غموضه المريب جعله سلاحا ذا حدين يصيب العدو والصديق معا. ونحن نزيد الأدلة استطرادا على صحة هذا الكلام (إ): فقد زجرت رجلا ممن يجرون خلف النساء، يبغى بهن الفاحشة فقال لي مستدلا على وجهة نظره من القرآن الكريم نفسه: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده …) وحدث أن نفت حكومة مصرية بضعة آلاف من خيار المؤمنين وأفاضل المسلمين، ففتحت لهم السجون والمعتقلات واستدلت على ذلك بقوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) وعندما أعلنت الحرب العظمى سنة 1914 كتب أحد الشيوخ يغرى العرب بالعمل مع جيوش الحلفاء المحتلين ضد الترك المسلمين فقال: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وهكذا نحمل القرآن الكريم لوثات العقول والنفوس، ومطامع الكبراء والسفهاء ونلبس الحق بالباطل ونقول إن القرآن حمال أوجه. فإذا تنازع الأمين والخائن آية من كتاب الله تركنا الآية بينهما ووقفنا مكتوفى الأيدى بدل أن نصفع الدجال الوقح ونضع الحق فى نصابه. وهكذا يقف الأستاذ خالد من النزاع بين "يزيد" و" الحسين " وبين " على" و"معاوية" فيحمل القرآن التبعة لأنه مطاط، ويفر من قولة الحق فى هذه المأسى القديمة وما قد يشابههما فى هذه الأيام من أحداث. * * * ص _039(1/35)
إسرائيل وما كان على اليهود من حرج لو أنهم أسموا الدولة التى اقتطعوها من كياننا وأسسوا فيها ملكهم (الجمهورية اليهودية) أو (الاتحاد الاشتراكي اليهودى) أو غير ذلك من الأسماء التى تتفق مع الواقع لديهم. فإن النظام السياسي الذى ارتضاه القوم لأنفسهم نظام جمهورى بحت. ولم يسعد القدر هؤلاء اليهود كما أسعد جيرانهم فى الأردن والحجاز واليمن، فتحكمهم أسر رفيعة العماد راسية الأوتاد تضفى على الدولة اسمها وتنسب الحكومة إليها فيقال: الحكومة المتوكلة اليمنية، والأردنية الهاشمية، والعربية السعودية. ويقال كذلك الحكومة الوايزمانية اليهودية.. لا، إن القدر لم يسعدهم بذلك- بعد- كما أسعد جيرانهم من العرب الأشاوس. كذلك لا يكذب اليهود على الواقع لو جعلوا الاشتراكية عنوان دولتهم. فالاقتصاد يسود المستعمرات ولعله أساس النشاط الصناعى والتجارى. وليس هناك مجال لعهود الإقطاع وأشباهها عندهم، كما هو الحال عندنا فى بلاد الإسلام المنكوب. ومع ذلك فقد زهد اليهود فى هذه الشارات البراقة، والعناوين التى يمكن التوسل بها إلى كسب قريب فى محافل العالم السياسية. أجل لقد رفضوا هذه الأسماء وعادوا القهقرى إلى التاريخ القديم، يتشبثون فى ترابه، وينقبون فى آثاره، وطووا عشرات القرون، ثم ظهروا بعد ميلاد عيسى بألفى عام، ظهروا على الناس باسم "إسرائيل "، رمز تمسكهم بدينهم وتشبثهم بذكرياتهم واحترامهم لمقدساتهم. واليهود الذين فعلوا ذلك هم أساطين المال والعلم، ودهاقين السياسة والاقتصاد.. وفيهم من اشترك فى تفجير الذرة، ومن ساهم فى كثير من المخترعات. ومع ذلك فما شعروا بخجل فى الانتماء لدينهم، أو فكروا فى التخلص من آصاره. ص _0 ص(1/36)
ذلك يحدث بين اليهود، فى الوقت الذى تجد فيه مأفونا كل بضاعته من العلم قشور قرأها، أو لغة أجنبية أجادها، أو تقاليد أفرنجية عرفها، أو ملابس أوروبية ارتداها، ثم هو يتحدث عن الدين فيلوى لسانه بكلمات الرجعية والجمود. فإذا تكون جيل من هؤلاء الحمقى يقف من الإسلام هذا الموقف الزرى فأى بلاء يصيب الإسلام منه؟ أليس من العجائب التى تلدها الليالى السود أن الذين برزوا فى العلم المادى يؤمنون بأديانهم الباطلة. وأن الذين طالعوا أنباء مقتضبة عن هذا العلم يريدون أن يكفروا بالدين الحق أى بالإسلام الحنيف؟. * * * ص _041(1/37)
بدعة فصل الدين عن الدولة إن تجريد الدين من سلطانه وحرمانه من حقه فى السيادة والحكم بدأ أول الأمر مع المسيحية، وتاريخ العصور الوسطى يسجل صراعا بين السلطتين الدينية والزمنية، ليس هنا موضع تفصيله. والضرورات العملية جعلت المسيحية دينا ودولة. وإن كانت نصوصها العلمية لا تذكر ذلك فى جلاء وصراحة. ونحن نعذر رؤساء الدين المسيحى فى سعيهم للحكم، لأننا نعرف أن الحكم فى أيدى أعداء المسيحية- قديما- عرض المسيحيين الأقدمين لفتن هائلة. ولقد كادت الوثنية الحاكمة تقضى على الإنجيل وأتباعه، فمن حق هؤلاء أن يستخلصوا الحكم من أعدائهم وأن يستأثروا به فى أيديهم. ومن ثم أصبح الباباوات حكاما بعد مراحل شتى من الاستيلاء على السلطة التنفيذية. غير أن الباباوات أساءوا أبلغ إساءة إلى العلم والخلق والحضارة، فكانت الثورة ضدهم عنيفة شاملة، ولم تستطع أوروبا أن تسير فى موكب العمران والتقدم حتى تخلت تماما عن كل إثارة لنفوذ رجال الدين. وفى هذا العصر نلاحظ أن الكنيسة أصلحت شأنها، وهذبت مسلكها، واسترجعت أغلب ما فقدت من نفوذ، وأصبح رجالها ملوكا غير متوجين. وأصابع الكنيسة تعمل عملها فى توجيه السياسات الداخلية والخارجية للكتلة الغربية التى تتزعمها أمريكا وإنجلترا. والذى يسمع تصريحات مستر "تشرشل" ومستر "ترومان" فى هذه الأيام يظنها قد كتبت لتكون عظة الأحد فى كنائس نيويورك ولندن. لقد كان الأمر منذ قرن عداء بين الدين المسيحى والدولة. وهو فى هذا القرن ود مكين وتحالف ظاهر!. والمغفلون من ساسة مصر الذين يرون أن الدولة يجب أن تبتعد عن الدين لا يزالون يقرءون كتب القرن السابق من تاريخ أوروبا. ص _042(1/38)
ولعلهم لم يشعروا بعد بأن السادة الذين يقلدونهم قد غيروا آراءهم فيتغيروا كذلك معهم. ولقد روى البخارى ومسلم: أن نفرا من الإنس كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم النفر من الجن واستمسك الآخرون بعبادتهم، فنزل قول الله تعالى : (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه …) ولنفرض أن أوروبا أصرت على فصل الدين عن الدولة لأن تعاليم المسيحية لا تأبى ذلك، فمن الذي قال إن المسيحية فى ذلك كالإسلام! وأن القرآن كالإنجيل؟! إن مقارنة النصوص والدلائل هى الفيصل الحاكم على طبيعة كلتا الديانتين وهى ميسورة لكل ذى تفكير... وثم حقيقة تاريخية أخرى تفرق بين الحكم الدينى فى الإسلام، وبين الحكم الدينى فى المسيحية... فليست لحاكم ما فى الإسلام قداسة ولا صفة إلهية خاصة. فالخلفاء الذين أخطأوا فى أحكامهم وجدوا من الرعية من يقوم باسم الله ورسوله وبدافع من الإسلام وحده، لينقد تصرفاتهم ويكشف أخطاءهم وخطيئاتهم. فإذا أسقطهم أقام حكما دينيا آخر، هو فى رأيه أقرب إلى الحق. وأعان على ذلك أن كل شخص فى الإسلام رجل للدين، وليس الدين احتكارا على طائفة دون أخرى. أما المسيحية فعلى العكس، تجد للدين رجالا موقوفين عليه، لهم مراسيم وحقوق خاصة والدين ألصق بهم من غيرهم. والحكومات التى أقامها هؤلاء الرجال كانت تتمتع بلون فريد من القداسة والترفع. وكانت الشعوب تنظر إلى أعمالهم كأنها اتجاهات الدين نفسه، وكأن صلة الشعوب بالدين لا تتم إلا عن طريق هؤلاء الرجال!. فلما ضاق الناس ذرعا بتصرفات آباء الكنيسة انفجروا ضد الدين ورجاله جميعا، فهوى بهم وهووا به ! شتان بين الإسلام والمسيحية فى هذا المضمار من ناحية البحث العلمى والواقع التاريخى على السواء . ص _043(1/39)
الحكم الإسلامى بين اليهودية والنصرانية عندما أذكر الإسلام والأديان السابقة أذكر قول النبى صلى الله عليه وسلم فى حق عيسى: " أنا أولى الناس بعيسى بن مريم فى الدنيا والآخرة، ليس بينى وبينه نبى، والأنبياء إخوة أبناء علات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد " . وإذا كان هذا الإحساس الصادق هو ما يكنه نبينا لنبى المسيحية، فاستمع كذلك لما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم فى حق موسى. قال ابن عباس: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء. قال: ما هذا؟ قالوا يوم صالح! نجى الله فيه موسى وبنى إسرائيل من عدوهم. فصامه! فقال صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بموسى منكم!. ثم صامه وأمر بصيامه " . ذلكم موقف رسول الإسلام من مؤسسى الدينين العظيمين قبله. وإنما أخذ الإسلام على كل من اليهود والنصارى أنهم ينتمون إلى الدين ادعاء ولا يصنعون له شيئا. وقد جاء فى القران الكريم: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم) فإن الانتساب المجرد إلى دين ما، لا يكفى، ولو أخلص أهل الكتاب فى إيمانهم لأدى بهم ذلك إلى احترام القرآن ورسوله، ولكنهم لم يحترموا كتبهم احتراما عمليا، فلم يحترموا ما بعدها طبعا. ولقد ظهر منذ ربع قرن "الإخوان المسلمون " يدعون إلى تطبيق التشريعات السماوية، سنا بسن وعينا بعين، وحسب الناس أن ذلك رجوع إلى القرآن وتعصب له وحده. ولو كان أهل الكتاب من اليهود والنصارى صادقين فى تدينهم لنادوا بذلك أيضا، فهذه الأحكام جاءت بها التوراة وصدقها الإنجيل قبل نزول القرآن بقرون. ص _044(1/40)
وكذلك تحريم الربا والزنا وغيرهما. ولكن الحقيقة أن العاطفة الدينية الخالصة النزيهة لا وجود لها اليوم إلا بين أتباع محمد وتحت راية القرآن. والحكم الإسلامى وحده هو الذى ينتظر منه أن يحارب الإلحاد بحرارة وينصف موسى وعيسى من أتباعهما والمدجلين باسمهما. وإنى لأذكر أن الأستاذ "وهيب دوس " المحامى كتب فى مجلة " الشئون الاجتماعية" مقالا بعنوان "الطفولة المشردة " جاء فيه: " أليست حضارة العلم تقوم الآن على تعاليم موسى وعيسى ومحمد؟ هل كان أحد هؤلاء الثلاثة شيئا يذكر عندما كان فى مرحلة الطفولة؟ ألم يكن أولهم لقيطا على الوصف الذى ورد فى التوارة؟. ألم يكن ثانيهم فى حكم اللقيط ينتسب إلى نجار؟!. فما كاد هذا المقال ينشر حتى ثارت ثائرة الجامع الأزهر فكتب محتجا على وزارة الشئون كيف تبيح نشر مثل هذا؟ وكيف يعبر عن سيدنا عيسى أو موسى بأنه لقيط؟. وكيف يقال عن ابن البتول إنه ينتسب إلى نجار؟!. والكاتب كما رأيت من أعيان المسيحيين فى مصر. والمدافع عن المسيح هو الأزهر مدرسة القرآن والسنة. إن حاجة العالم إلى حكم إسلامى تقوم فيه الموازين القسط ويقوم على حراسة الوحى أمر لا يسوغ التشكك فيه من أحد العقلاء. * * * ص _045(1/41)
سلطة روحية وزمنية لكى نعرف حاجة الإسلام إلى الدولة وأن الحكم ضرورة لامحيص عنها فى وصول الدين إلى أهدافه المرسومة ننقل هذه النبذة من كتابنا "الإسلام والمناهج الاشتراكية" بعنوان عمل الدولة: " فى الإسلام عبادات شخصية يؤديها الأفراد أداء مباشرا كالصلاة والصيام وما يقرب منهما، وفيه كذلك عبادات اجتماعية يؤديها الإفراد بوساطة الدولة كالجهاد والقصاص وإيتاء الزكاة وما شابه ذلك... والأصل فى هذا الضرب من العبادات... أنه لحفظ كيان الجماعة الإسلامية وتأمين سلامتها فى الداخل والخارج، ولنتريث قليلا فى فهم الطريق التى تؤدى بها هذه العبادات... أمر الإسلام بالجهاد فى سبيل الله فهل من المستطاع أن يذهب كل فرد على حده لقتال الأعداء؟ هل يقال إن الأمة نزلت عند حكم الله إذا أرسلت أبناءها فرادى قياما بواجب الكفاح المنشود؟ لا، بل هناك تجنيد عام وقوى متساندة وقيادة منظمة، ووسائل عرفتها الأمم بالبداهة فكونت الجيوش ورسمت الخطط، وعلى الفرد أن يسلم نفسه فى سن معينة للدولة وهى تصنع به ما تشاء وتكلفه بما ترى وبذلك يكون قد أدى ركن الجهاد. ولو أدى هذا الواجب الاجتماعي بأسلوب فردى لفشلت الدولة فى الدفاع عن نفسها، بل لفشل الفرد فى العودة بنفسه سالما. كذلك تكاليف الخدمة الاجتماعية التى تفرض على المرء أنواعا من الزكاة والصد قات والضرائب.. الخ". إن الإسلام عقيدة وأنظمة وأعمال. ووظيفة الدولة محددة فى القرآن والسنة تحديدا لا يحتمل لبسا. ويوم يفقد الإسلام سيطرته على الحكم فستبقى الكثرة الساحقة من تعاليمه حبرا على ورق لأن تنفيذها عن طريق الفرد مستحيل، وليست العبادات الاجتماعية هى التى ستشل وتذوى فقط، بل العبادات الشخصية المحض من صلوات واستغفارات وصيام وحج وغير ذلك، إنها عندما تحرم كنف الدولة تنكمش وتموت! فكيف إذا تجهمت لها الدولة ونبذت ذويها وحرمتهم رعايتها... ص _046(1/42)
إن وظيفة الحكم فى الإسلام ليست إدارية فقط ولا قضائية فقط، بل هى إدارية قضائية عبادية، تضم النواحى جميعا فى عروة لا تنفصم. فالخليفة فى نظر الإسلام إمام للصلوات كما هو فيصل فى الخصومات. وإذا كانت تقاليد القضاء الآن تجعل القاضى يصدر الأحكام بصفته نائبا عن رئيس الدولة فإن الإمام فى مسجده كان ينبغى أن يؤم الناس بوصفه كذلك نائبا عن رئيس الدولة!. والنصوص الفقهية الباقية الآن فى أيدينا تكشف عن ازدواج السلطتين الروحية والزمنية فى شخصية الحاكم، فهو القائد الأعلى وهو القاضى الأعلى وهو الإمام الأعلى... ولولا غلبة الاستعمار الثقافى وسيطرة الدول المسيحية على الشرق الإسلامى ما انفصلت ناحية العبادات عن أختيها، ولما عرا الناحيتين الأخيرتين من المسخ والتشويه ما تم على حساب التشريع الإسلامى للأسف الشديد. إن هذا الكلام واضح. فقول الشيخ خالد" إن الهداية إلى الفضيلة عن طريق الترويض هى رسالة الدين ". أى أنه لا ضرورة لقيام دولة! يكفى أن يتطوع بعض الناس بهذه الهداية لو شاءوا. ثم قوله " ألم تأت يوما إلى طريق ممتد فرأيت مع بدايته علامات ترشدك إلى متجهه ؟ وهل هو ممهد للسير أم به ما لا يمكن من عبوره؟ إن تعاليم الدين كذلك ". أى أنها كالعلامات الحمر والخضر التى تنظم المرور فى الطريق، فليس من شأن الدين إلا مجرد الإرشاد الآلى وليس له اتصال بالحكم... هذا الكلام بالنسبة إلى الإسلام تخليط وشرود. فللدولة فى الإسلام وظيفة تستنفد الليل والنهار قبلما تنتهى من أعبائها، ووظيفة السهر فى الداخل والخارج على حراسة العقيدة، والإعلان عنها، والتبشير بها، وتحقيق أنظمتها وإنفاذ أحكامها، والإشراف العام على شئون أتباعها، وتكوين الأجيال الجديدة من بنيها وبناتها، وتسخير الأعمال المدنية لخدمتها... أما أن الدين كعلامات المرور فلا حاجة به إلى الحكم، فكلام يفنده الواقع، فلو أن علامات المرور لم تساندها قوة تنفيذية لما أبه لها(1/43)
الكثيرون. ومن ثم وقف الجندى- وهو شارة الحكم- إلى جوارها . ص _047
ومن ثم وضعت اللوائح والقوانين وأقيمت محاكم المرور لتتبع المخالفات المتوقعة من الطائشين والمتهورين. * * * على أن هذا الكلام كله ينطوى على مغالطة مستهجنة. فمن الذى يزعم أن الترويض والإقناع محور الإصلاح فى الحياة العامة. وأن تأسيس الأخلاق وحمايتها ومجانبة الرذائل ومطاردتها لا تعتد إلا على هذا الأسلوب النظرى المدرسى الناعم الرقيق؟ وأى مجتمع فى الأولين والآخرين قام على هذا الأساس؟ وأين إذا مكان الحكومات، ووازع السلطات، ورهبة القانون، ورجال الأمن، وغير ذلك مما يعتبر ألزم اللوازم فى طبائع العمران البشرى..؟؟ إن قوانين الأخلاق لم تستغن يوما ما عن قوانين الجنح والجنايات. وإن العظات والنصائح لم تعن إغلاق السجون وتعطيل المحاكم. وقديما قال عثمان رضى الله عنه "إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن ". فلماذا يقال لدين: إما أن ترشد فقط وإما أن نتهمك بأنك تخرج على طبيعتك وتلجأ إلى الإكراه وتطلب الحكم لذلك؟. ولا يقال مثل هذا الكلام لغيره من المبادئ الأخرى؟ لقد قامت باسم الحرية حكومات لم تترك إحداها الناس يفعلون ما يروق لهم، فلماذا نترك حكومات الحرية تقيد وتحدد؟ ويحظر على حكومات الدين أن تستعين بالسلطة المخولة لها على قمع المجرمين ومحو ما تراه مثار فساد فى المجتمع؟ هل إذا أصدرت الحكومة الدينية أمرا بمحاربة العرى على الشاطئ، ومنع السابحين والسابحات من الاختلاط فيه، واتخذت الوسائل العملية لذلك تكون قد خرجت على طبيعة الدين؟. يقول الشيخ خالد: "أما حين تتحول هذه الوسائل إلى سوط الحكومة الدينية وسيفها فإن الفضيلة تصاب حينئذ بجزع أليم.. ". جزع أليم؟؟ إن هذا منطق لا ينتهى به ألبتة تفكير سليم. ص _048(1/44)
هذه مغالطات كما يتحول الخلق النفسى إلى سلوك عملى، وكما تتحول الأفكار النظرية إلى حقائق ملموسة، وكما تتحول المناهج المسطورة فى الكتب إلى وقائع منقوشة فى صفحات الحياة المتحركة، يتحول الدين إلى دولة. مسألة نحسبها من البداهة بحيث يعتبر السؤال عنها عبثا. ومن ثم فنحن نعتبر من المغالطات المكشوفة تساؤل الأستاذ خالد فى كتابه "ما حاجة الدين إلى أن يكون دولة؟ هل الدين أدنى مرتبة من الدولة حتى يتحول إليها ويندمج فيها؟ ". هذا تساؤل عجيب! من قال: إن تحول الفكرة إلى عمل يسئ إلى الفكرة؟ إن الفكرة لا ينال منها إلا أن تظل أمدا طويلا حلما يتردد فى نفوس المصلحين. أما أن تواتيها أسباب التنفيذ فتعرض نفسها نظاما حيا ودولة نافعة ناهضة فأى عيب فى ذلك؟! هذه مغالطة لا ريب فيها. ومن التساؤل المنطوى على هذه المغالطات قوله "كيف يمكن للدين أن يكون دولة وهو عبارة عن حقائق خالدة لا تتغير، بينما الدولة نظم تخضع لعوامل الترقى المستمر والتبدل الدائم؟ ". ألأن الدين حقائق خالدة ينبغي أن تعطل أحكامه فى حياة متجددة؟!. إن الصدق والشرف والوفاء وسائر الفضائل يجب إقصاؤها إذن عن الحكم، لأنها أخلاق ثابتة الحقيقة ونظام الدولة متغير أبدا..! وبهذا المنطق نقصى الدولة عن الأخلاق كما أقصيناها عن الدين. صحيح أن الحياة الإنسانية كلها، لا نظم الدولة وحدها، قد مشت فيها سنة النشوء والارتقاء، بيد أن هناك أصولا لا إنسانية عريقة بدأت من الأزل إلى الأبد تقرر صلة الإنسان بالإنسان، وترسم الأهداف العليا للبشر رسما لا يتأثر بما يعرو صور الحياة من تجدد وتطور... ص _049(1/45)
وهذه الأصول المقررة موضع الاحترام والاستقرار فى كل مكان. أإذا ترك الناس ركوب الحمير إلى الطيارات جاء من يطلب تغيير الدساتير العتيدة فى الأدب والخلق والدين، بحجة التطور..؟! ما علاقة أشكال الحكم المتطورة بالروح التى يجب أن يصدر عنها الحاكم وهو يقوم على شئون الناس..؟! وليس أدهى من هذا الكلام فى فصل الدين عن الدولة إلا قول الأستاذ خالد بعدئذ: "إن الدولة عرضة للنقد والتجريح، وعرضة للسقوط والهزائم والاستعمار، فكيف نعرض الدين لهذه المهانة؟ ". أى أن تكاليف الحياة ثقيلة ومحرجاتها جمة، فخير لمن نحنو عليه أن نحكم عليه بالموت حتى لا يواجه هذه الآلام التى لا تخلو منها الحياة. فلنبعد الدين إذن عن الدولة حتى لا تهب عليه تلك الزعازع!. إن الحكومة عرضة للنقد والتجريح، فهل كونها دينية يجعل التهجم عليها تهجما على الدين نفسه؟ من قال ذلك؟! ومن الذى يزعم أن تصرفات الحكام الدينيين جزء من دين الله يعتبر نقده أو رده امتهانا للدين وكفرانا به؟ والدولة عرضة للانتصار والانحدار، فإذا تأسست على الدين فأى ضير علي الدين أن يكون فى حال النصر زماما يمنع المنتصر من الطغيان، وفى حال الهزيمة حافزا يغرى بالمقاومة ويدفع الشعوب إلى رد العدوان؟! ولنفرض أن حكومة دينية محضا سقطت أمام أعدائها، فهل ينقلب الحق باطلا لأنه انخذل فى معركة؟! أى عار على الدين إذا لحقته الهزيمة على يد الدولة التى تنافح عنه؟ وقديما هزم الدين وقتل فى هزيمته صديقون وأنبياء (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ..) لاشك أن محاولة فصل الدين عن الدولة بهذه المغالطات اللفظية أمر لا طائل تحته . ص _050(1/46)
الحكومة الدينية والمعارضة يزعم الشيخ خالد أن الحكم الدينى يقوم على الاستبداد الأعمى ويعد " الغرور المقدس من شر غرائز الحكومة الدينية، وهى لهذا لا تقبل النصيحة ولا التوجيه فضلا عن المعارضة والنقد، فحرية النقد وحرية المعارضة وحرية الفكر كل هذه المقدسات عملة زائفة فى نظرها لا تسمح بتداولها بين الناس أبدا وإن الحديث الذى قتل به الحسين لا يزال فى انتظارك إذا حاولت أن تنقد الحاكم الدينى أو تخطئه ". ونحن نتساءل: أصحيح أن الحكم الإسلامى يقوم فى هذا الجو الخانق النكد؟! إننا إذا رجعنا إلى تعاليم الإسلام وجدناه يخلق أمام كل حكومة معارضة جريئة يقظة، تتعقب كل خطأ بالنقد، وتزن كل فعل يصدر عن الحاكم بميزان لا يجور ولا يحيف. فإذا فرط جيل من المسلمين فى هذا الواجب، واجب توجيه الحاكم وإرشاده أو تأديبه و إصلاحه فقد خرج على تعاليم الإسلام. وانظر إلى قول النبى عليه الصلاة والسلام : "إذا رأيتم أمتى تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منها ! ". ومجاهدة الحكومات الظالمة إلى الرمق الأخير هو فى نظر الإسلام أعلى مراتب الشهادة فى سبيل الله: "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ". فليس الإسلام هو الذى يخلق رعية جاهلة مستكينة تعجز عن تأديب حكامها بله أن تستنيم على ضيمهم وتخضع لهم. فإن يكن ذلك موقف الإسلام فى تأليب الأمم على الحكام المستبدين فللإسلام كذلك تعاليم محددة تكشف عن موقف الحكومة من الشعب وتضعه فى إطار من العدالة والرحمة والانتصاح لا يسمح بالافتيات والاستبداد. ص _051(1/47)
ولشرح هذا المعنى موضع آخر. على أن الأمم قد تبتلى برجال مجرمين يلونون أمورها ويقتلون بنيها. الأمم كلها من مسلمين ونصارى، ممن لهم كتاب، وممن لا كتاب لهم، من العرب والعجم، من الماضى والحاضر. فبالله لماذا يحمل الإسلام ويحمل الحكم الإسلامى وحده أوزار هؤلاء الحكام المجرمين.؟! لقد قال النبىعليه الصلاة والسلام: "هلكة أمتى على يد أغيلمة من قريش"فهل تصرفات أولئك الأغيلمة هى التى يستقى منها الطعن على قواعد الحكم الدينى كما يفعل صاحبنا الأستاذ خالد؟!. على أن الإسلام الذى اعتبر من شعائره العظمى نقد كل خطأ، وحرب كل منكر، سواء صدر من حاكم أم من سوقة، احتاط ضد الثورات الطائشة خشية عواقبها الوخيمة. وهنا يجب أن نذكر أن حرية النقد شىء، وحرية الثورة المسلحة شئ آخر. وكلمة الخروج على الحاكم كانت قديما تعنى شهر السلاح فى وجهه. ولا أظن أحدا ينتظر من الإسلام أن يبيح هذا الحق لمن يشاء متى يشاء. وكل ما ذكره الإسلام فى إطفاء بذور الحرب الأهلية قول الرسول: "ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان " . وهذا حديث لا غبار عليه . وأرقى الأمم الدستورية تعمل بوحيه فى أيام حربها وسلامها، فإن حق الثورة المسلحة ليس كلا مباحا يرعاه كل غضبان . أما اعتبار المعارضة المشروعة خروجا على الدين وحكومته يقتل من أجلها المعارض استدلالا من الحديث السابق فهو مالا موضع له فى أدمغة العلماء. إن السفلة من الحكام قتلوا كثيرا من الناس جريا على طبائع الاستبداد لا اتباعا لأحكام الله، فلا ينبغى الاعتذار للمجرمين بأنهم تأولوا آيات الكتاب وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام فهم لا يعرفون لله حقا ولا لرسوله حرمة، وقبيح بنا هذا الانتحال . ص _052(1/48)
بين الحكم الدينى والحكم القومى وهذا سؤال لابد من إيراده حينما نقرر علاقة الدين بالدولة، هل يستطيع الإسلام أن يعيش فى ظلال حكم قومى؟ والجواب يؤخذ من تعاليم الإسلام نفسه... عرفنا مثلا أن الإسلام من الناحية الاقتصادية يحرم الربا والاحتكار، ومن الناحية السياسية يحرم الأثرة والاستبداد، ومن الناحية النفسية يحرم الإلحاد والفساد، ويوجب مثلا أن يكون رجاله- ولاة ورعية- مقيمين للصلاة وقافين عند حدود الله. فإذا كانت أداة الحكم منفذة لهذه الأمور كلها فإن الإسلام يعيش فى كنف هذا الحكم ويطمئن إليه ولا يكترث بهذا العنوان الذى اتسم به، عنوان الحكم القومى أو غيره من الألقاب والنعوت. والمهم أن للإسلام تشريعات وأهدافا يريد أن يصل إليها حتما. وعلى الحكومة قسط ضخم من هذه التكاليف يجب أن تقوم به.. أما إذا كان هذا الحكم القومى المنشود لا يبالى باتجاهات الإسلام الاقتصادية ولا السياسية، ولا يكترث لتعاليمه الخلقية والاجتماعية، ولا يلتفت لتشريعاته المدنية ولا الجنائية، فهذا حكم مبتوت الصلة بالدين. ومطالبة الإسلام أن يعيش هادئا فى كنفه يشبه مطالبة المستعمرات أن تحيا ذليلة تحت سيطرة الدول التى اغتالت حقوقها وسرقت مرافقها.. ويستحيل أن يكلف مسلم باحترام هذا النوع من الحكم، بل واجبات المسلم تجاه دينه تفرض عليه الجهاد الدائم حتى يمحو هذه المساخر المستولية على السلطة، ويقيم حكما ينفذ وصايا الإسلام ويحقق غاياته. هذا، ومن المفيد أن نذكر أن الدستور المصرى القائم يعين إعانة تامة على تكوين حكومة إسلامية رشيدة، وأن الإلحاد لا الإيمان هو الذى يتهم هنا بقلب نظام الحكم. وأن الاستقرار الدستورى من عوامل النجاح لبلوغ الأغراض الدينية السابقة. ص _053(1/49)
هل يذهب الإسلام ضحية هذه الافتراءات؟ مع وضوح منهج الإسلام فى كتاب الله وسنة رسوله، ومع أن شعاعه ظل يتألق فى ظلمات هذه الدنيا قرونا طويلة، ومع أن تاريخ الإسلام أزهى وأنضر من تاريخ الأديان الأخرى، بل أزهى وأنضر من تاريخ الحضارة العالمية المعاصرة على ما فى تاريخ كل دين وكل حضارة من صعود وهبوط وحرارة وبرود ، مع هذا كله، فإن الأستاذ خالدا ألقى نظرة على بعض المآسى التى ارتكبها أفراد معينون، وحاول أن يتخذ منها قانونا عاما يطبقه على دين الله، وآفة الشيخ خالد أنه: 1- يقيس تاريخ المسجد على تاريخ الكنيسة!، ومؤرخو العالم جميعا رفضوا هذا القياس، ولم يجرؤ أحد من المستشرقين والمبشرين على التسوية بين كهنة المسيحية فى موقفهم من العلم والحضارة وبين موقف المسلمين فى هذه الناحية. وليس يغض من جلال هذه الحقيقة أن الشيخ خالدا اكتشف أن شيخا من شيوخ العرب فى أعماق الصحراء أمر بشطب علم الجغرافيا وتدريس التوحيد بدله كما يقول!! أو أن عربيا كره سماع الراديو أو استعمال التليفون فإن تاريخ العالم لا يقوم على استقصاء نوادر المغفلين، وحوادث الجاهلين. وليست هذه هى العقبات التى توضع فى طريق الإسلام. 2- ويخلط الأستاذ بين مطالب الدين الصحيح وآثار التدين الفاسد، فإذا قامت جماعة باسم الدين تطلب حبس المرأة فى البيت ومنعها من التعليم والتربية صاح ألم أقل لكم إن الدين لا يجوز له أن يحكم أو يسود؟! وبهذه الطريقة فى الاستدلال تلفف أفعال الحكام السفهاء وصاغ منها براهينه على ضرورة فصل الدين عن الدولة!. والغريب عنده أن الإسلام يحمل أوزار المدجلين باسمه ويبوء بإثمها. أما ما فعلته إنجلترا بفلسطين وإيطاليا بطرابلس وفرنسا بسورية ولبنان وروسيا بالمسلمين وألمانيا باليهود وأمريكا بالزنوج، فهذه كلها أمور لا تشين الحضارة الحديثة ولا تشوه وجهها الصبوح، فأى منطق هذا؟! ص _054(1/50)
إنه سرد حكايات يعرفها الناس عن الإرهاب الذى يسود جزيرة العرب، زاعما أنه أعطانا بهذا صورة الحكومة الدينية سنة 1950، فلما أحس بأن هذا قسمة مشتركة بين الحكومات التى ذكرها، وبين بعض الحكومات القومية المتمدينة، وأن مصدره فى كلتا الحالتين لا يمكن أن يكون الدين. قال: " بيد أن الحكومة القومية التى تتبع سبل البغى لا يمكن أن تبقى طويلا ". لماذا؟ يقول: لأن من ورائها رأيا عاما قادرا على أن يزلزلها ولو بعد حين. أما الحكومة الدينية ـ فى منطق الشيخ خالد ـ فالأمر كله لها لا معقب لحكمها ولا معارض لمشيئتها. وبهذا الاستدلال.. نصف نوعا من الحكم بأنه دينى- رغم أنه مبتوت الصلة بالدين- ثم نصف الدين بأنه سوف يرضى أبدا بهذا النوع من الحكم مهما زور عليه. ويستخلص من كلتا المقدمتين أن الدين لهذه الأسباب لا يجوز له أن يحكم. تلك هى الحيثيات الهزيلة التى يفصل الدين بها عن الدولة. نتركها تحت تصرف القراء، وسنزيدها بيانا عندما نتكلم عن مخازى الحكم القومى فى الديمقراطيات الحديثة!!! * * * ص _055(1/51)
أعودة إلى الجاهلية الأولى؟ عندما ضعفت الدولة الإسلامية فى العصور الأخيرة وفسد الحكم فى ظل خلافة مريضة جاهلة ، وشعوب وانية منكوبة، وامتدت مخالب أوروبا الصليبية إلى جسم الوطن الإسلامى الكبير تنهش وتلتهم، قامت دعوات شتى تنزع إلى إصلاح ما فسد وإقامة ما تصدع، وتحاول استنقاذ المسلمين مما حاق بهم من مصائب فادحة فى الداخل والخارج. ومن أعاظم الرجال الذين تفانوا فى سبيل إقامة حكم إسلامى نظيف يعتمد على أمة فيها أخلاق القرآن ومناهجه، واتجاهاته، جمال الدين الأفغانى ، ومحمد عبده، وأحمد عرابى ، وحسن البنا ، وعبد الرحمن الكواكبى، وغير هؤلاء ممن نظروا إلى المسلمين على أنهم أمة واحدة، وإلى أسقامهم الموروثة على أنها علة مشتركة، وعالجوها بروح يستهدف كتاب الله وسنة رسوله مباشرة. ويبدو أن الأحوال التى واجهها أولئك الزعماء كانت أعتى عليهم مما يقدرون، أو على الأصح مما تقدر عليه الأمة المهيضة التى يجاهدون من أجلها، ومن ثم فلم يستطيعوا تحقيق ما يبتغون! بينما خلا الجو لنوع آخر من الزعماء المدنيين جعلوا أوروبا قبلتهم وظنوا أن تقليدهم فى كل شىء هو طريق النهوض بشعوبهم المستضعفة، فمثلوا من حيث يعرفون أو لا يعرفون قصة الحمار حامل الإسفنج مع زميله حامل الملح، لما اعترضهما مجرى ماء. وكانت النزعة القومية الخالصة أهم ما نقلناه عن الغرب وجعلناه حجر البناء فى إقامة الدولة الحديثة. وإنك لترى وتسمع زعماء تركيا و إيران ومصر والعراق والحجاز وطرابلس و... و... يخبطون فى هذه الضلالة العمياء، فإذا كل دويلة مسلمة يضنيها السعى وراء استقلالها الخاص أو حماية حدودها الضيقة، ثم لا تظفر من ذلك بشىء طائل؟ ولم نستفد من بركات النزعة القومية إلا خسران الوحدة الإسلامية وتمكين ص _056(1/52)
الاستعمار الصليبى، ثم الصهيونى أخيرا من أكل حقوقنا ودوس حرماتنا. وهل صحيح أن هذه خسارتنا فقط؟ كلا. فالحقيقة أن كل تزكية للنزعة القومية، والعصيبة الجنسية، والوثنية الوطنية. إنما تتم على حساب فقد العقيدة نفسها، لا على حساب فقد الحكم الإسلامى وحده. وأن إحياء هذه النعرات الخبيثة مؤامرة على قتل دين الله، وإعادة الجاهلية الأولى بكل أوزارها وظلماتها0 وأن ما فعل " مصطفى كمال " فى تركيا، وتابعه عليه زعماء مصر وغيرها من بلاد العروبة والإسلام، كان تخبطا لم يصب حقا ولم يحقق نفعا. وأن تأييد الأستاذ خالد لقومية الحكم دون إسلامية الحكم كان منه خطأ كبيرا. * * * ص _057(1/53)
طبيعة الإسلام إن الإسلام مبادئ عامة لا تفرق بين جنس وجنس ولون ولون ووطن ووطن، هو هداية من الله رب الناس ملك الناس إله الناس إلى الخلق أجمعين. هو نظام يقوم على أن الله وحده هو صاحب الجلالة والكرامة فى مملكة لا فرق بين عربى وعجمى، يحكم فيها بأمره، وينفذ فيها شرعه، ويتساوى فيها عباده، وتخلو أركانها من الطواغيت والجبابرة، ومن فلسفة القوة ومنطق التكبر وقسوة العدوان والادعاء!. أنترك هذا الدين العظيم والحكم به إلى تخريف الأفاكين وحضارة المشعوذين من أكله الحقوق والشعوب؟! كيف نترك الحكم الإسلامى إلى الحكم القومى ؟! فننسى رسالتنا ونضيع سعادتنا ونسفه أنفسنا ونجهل مع الجاهلين!. إن الفرق بين صاحب التفكير القومى والتفكير الدينى كالفرق بين خفير فى عزبة أحد الباشوات، وبين عضو مشغول بالسياسة الدولية فى مجلس الأمن! شتان بين العقلين والهدفين والميدانين!. ومن ثم كان الارتكاس فى هذه الحمأة عمى وردة. قال النبى عليه الصلاة والسلام: "من قاتل تحت راية عمية يدعو لعصبية، أو ينصر عصبية فقتلته جاهلية". * * * لقد تمخض هذا العصر عن مبادئ عامة بدأت تطغى بقوتها على العنصريات الخاصة. انظر إلى الشيوعية وكيف تنتشر فى العالم. وكيف ينسى معتنقوها قضايا وطنهم ويشغلون أنفسهم بقضايا مذهبهم الثائر.. لقد اعتبروا قرابة الفكرة قبل قرابة الوطن. ص _058(1/54)
والشيوعيون الآن فى أمريكا وإنجلترا ضد حكومات بلادهم فى صراعها السياسي مع روسيا، فإذا كان هذا مبلغ سيطرة الفلسفات الأرضية على أهلها، فكيف يطلب من الإسلام أن يكون له منزلة ثانوية عند أهله؟!. بل كيف يطلب منه أن يذوب أمام القوميات والأجناس؟! يجب أن نعلم أن الإسلام قرابة قبل قرابة الدم، ورابطة قبل الوطن وفكرة موجهة، وعقيدة دافعة، وعاطفة مهيمنة، قبل أية فكرة أو عقيدة أو عاطفة يهتز بها ضمير إنسان. وأن القرآن إذا جاء بحكم فلا راد له. وأن السنة إذا أوحت بعمل فلا كلام بعدها . وأنه تحت راية القرآن والسنة يصطف البشر كافة من زنوج وسكسون ومن هنود ولاتين ومن عرب وعجم وأفريقيين وأمريكيين، لا يفضل أحدهم أخاه بشئ ألبتة، ألا أن يكون بتقوى الله . * * * ص _059(1/55)
خسائر المسلمين من آثار النزعات القومية بدأت فى تركيا حركة رجعية بالية لإحياء الجنسية الطورانية انتهت بمحو الخلافة الإسلامية وفصل الدين عن الدولة. فماذا أفاد الأتراك من ذلك؟! لقد كانوا باسم الإسلام وفى ظله يخيفون جارتهم روسيا وظلوا عدة قرون يديرون رحى الحرب فى أرض روسيا نفسها! أما اليوم فتركيا دويلة تتسول سلاحها من أمريكا وتعيش ذنبا للديمقراطية المفككة، وتقبع مرعوبة فى أقل من10% من حدودها الأولى.. فماذا أفادها كفرها؟!! وكان العرب باسم الإسلام يعيشون فى بلادهم كراما، فلما هاجت العصبية للعروبة فى دمائهم وحاربوا الأتراك مع إنجلترا لكى يقيموا ملكا عربيا خالصا، ماذا أفادوا؟!. أصبحوا بين لاجئين، وبين عبيد للإنجليز أو لليهود!. والعجيب أن المرض الذى ساقهم إلى موارد التلف لا تزال له جراثيم تعمل عملها فى أفكارهم وتصرفاتهم. ولقد راقبنا الجدل العقيم الذى دار بين مصر من ناحية والعراق والأردن من ناحية أخرى بشأن مسألة فلسطين، فراعتنا أعراض الداء الوبيل فيما جرى بين الألسنة من كلام وخصام. كتب الشيخ " سيد رجب " محرر مجلة " نور الإسلام "- لسان الأزهر فى الوعظ والإرشاد- يقول: "طلعت علينا صحيفة" المصرى" بحديث لجلالة الملك عبد الله يشكك به الناس فى عروبة مصر، وتصف المصريين بأنهم شعب إفريقى لا أصالة له فى العرب ولا تجمعه بهم صلة رحم ولا نسب. ومن ثم فلا حق له فى الانتماء إليهم، فضلا عن تولى قيادتهم ". وأخذ الشيخ الفاضل فى تكذيب هذا الزعم قائلا: ص _060(1/56)
" إن لمصر من الأصول الأصلية فى العروبة ما لم يشاركها فيه إقليم من سائر الأقاليم العربية. فلقد كانت السيدة هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم سيدة مصرية وبها ثبتت خؤولة مصر لجميع العرب فوق عمومتها بعد ذلك بالعرب الفاتحين. فما من عربى فى الدنيا من أبناء إسماعيل إلا من مصر أمه وفيها خاله وعمه. وزادت مصر بعد هذا شرفا على شرف بأن كان فيها خؤولة إبراهيم بن رسول الله، وأن أمه هى "السيدة مارية" القبطية، فأى قطر من أقطار العروبة أعرق فى حسبها ونسبها، وأجمع لجديدها وقديمها، وأنجب لخالها وعمها مثل مصر؟ على أننا- مع هذا كله- لا نقصد إلى قصر العروبة على من له فيها أب وأم أو خال وعم، كيف !: والاستعراب أصل أصيل فى العروبة، بل هو أصلها الراسخ المكين. فإن إسماعيل بن إبراهيم هو نفسه كان عبرانيا كأبيه: وإنما استعرب بأصهاره الوافدين عليه من اليمن، ثم أصبح المستعربون أفضل وأشرف من العرب العاربة ". ومضى الشيخ سيد رجب بهذه الأدلة يفند كلام الملك عبد الله ويلقى عليه التراب! ونحن نتساءل فيم هذا الجدل كله؟ وما يضرنا أو يفيدنا من هذا النسب؟ وما ينقصنا أو يزيدنا من أفريقيا أو آسيا! وما فضل عبد شمس على توت عنخ أو تحتمس على عنترة؟!! ولماذا لا يقال فى إيجاز: إن الزنجى المسلم خير من الهاشمي المنافق؟! وإن قضية فلسطين من شأن الإسلام والمسلمين قبل أن تكون من شأن العرب والمستعربين . وإن صاحب الرسالة العظمى قال: " لينتهين أقوام من الفخر بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم ليكونن أهون على الله من الجعلان الذى يدهده الخرء بأنفه. إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية- كبر- الجاهلية إنما هو مؤمن تقى أو فاجر شقى: الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب " . ص _061(1/57)
دستور أصلى وقوانين فرعية عندما ينفذ الحكم الإسلامى ستظهر فى معالمه الأولى الأمور الآتية حقائق لا تقبل جدلا: * ليس للوجود إلا سيد واحد تلتقى عند ذاته العظمى معانى التقديس والجلال الرغبة والرهبة، هو الله الواحد القهار. * الناس جميعا أمة واحدة تذوب فيها العناصر والمعادن والأجناس والأوطان لا تفاضل بينهم إلا بالحق والعمل. * المشرع الفرد هو الله وحده، ليس لبشر أن يدين بشرا أو يشرع له. * وأبناء آدم سواء فى خضوعهم لقوانين الله لا يستثنى منهم كائن مهما علا شأنه. والوحى الإلهى دعامة العدالة فى شئون الدولة والمجتمع، فحيث لا يوجد الحق لا يكون هناك وحى ولا شرع، بل دجل وتزوير.. (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) توجد فى الإسلام تشريعات فرعية كثيرة ليس أحدها أحق بالتنفيذ من الآخر، وهى كلها مظاهر لتطلع الإسلام إلى الحكم وهيمنته على الدولة. وهناك ما يزيد على ألف نص من آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام تتصل بأغراض شتى: منها ما يتصل بالشئون الشخصية كالزواج والطلاق والحضانة والميراث. ومنهما ما يتصل بالشئون التجارية كالبيع والإجارة والشركة والمضاربة. ومنها ما يتصل بالشئون الجنائية كالقصاص والديات والجرائم الخلقية والاجتماعية من زنا أو سرقة أو ما شابه ذلك. ومنها ما يتصل بالنواحى الاقتصادية العامة كالربا والاحتكار. ص _062(1/58)
ومنها ما يتصل بالمنازعات السياسية كالثورات والحروب والمعاهدات والخلافات العامة. على أن دائرة المعاملات مرنة، وقد أعطتنا الشريعة نصوصا محددة وقواعد مطلقة. ومن البداهة أن إحصاء ذلك يتطلب منا أن نعرض نصف الإسلام فليرجع من شاء إلى أمهات الكتب فى الأصول والفقه، يتعرف منها آفاق القانون الإسلامى الرحبة، ، منادحه الواسعة. إنما أردنا أن نضع أيدى المنكرين على ما يدحض شبههم ويدعها هباء، وكما قلنا ليست هذه التشريعات إلا حركات تدل على ما فى الجسم من حياة وما ينضح به من قوة. أما الروح الأصيل الصارخ بطبيعة الحكم فى الإسلام ومعنى الدولية فيه، فإنه ينبع من أساس العقيدة نفسها. فتوحيد الله محور لسياسة عالمية واجتماعية تقوم على الحق والتآخي والعدالة ولا تستغنى عنها الحياة أبدا. * * * ص _063(1/59)
مكابرة التجنى على الحقائق الواضحة بجهلها أو جحدها يكلف الناس شططا ويوقعهم فى أغلاط أو مغالطات تحاكى عبث الأطفال. هب أن رجلا كون فكرة عن "تشرشل " داهية إنجلترا المعروف أنه أديب وخطيب، وأن حياته تقوم على الكتابة والخطابة فحسب، وأنه لا يعرف عن السياسية شيئا ولم يعمل فى ميادينها يوما! فإذا قلت له: إن هذا الرجل ولد وشاخ فى السياسة وإنه خاض حربين هائلتين وضرب دول العالم بعضها ببعض وكان لتدبيره وتفكيره أثر عميق فى تاريخ بلاده فكيف يوصف بأنه غير سياسي؟! قال لك: ولو!.. إن الظروف هى التى اضطرته إلى ذلك! وشن الحروب، وعقد المعاهدات، وتشريع القوانين، وتولى القضاء، وغير ذلك من الأعمال، قد يتولاه الرجل ولا يسمى سياسيا... ! أمثل هذا الكلام يساق بين الناس على أنه استدلال وتدقيق أم على أنه لغو وهزل؟!. بيد أن صديقنا خالد يريد أن يوهم قراءه بذلك، وبأن هناك "تحديدا صريحا لوظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام ومهمة الدين- النبوة لا الملك والهداية لا الحكم.. وصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام فاوض، وعقد المعاهدات، وقاد الجيوش، ومارس كثيرا من مظاهر السلطة التى يمارسها الحكام- هكذا يقول خالد-، وأقام بعض خلفائه من بعده حكومات واسعة النفوذ عظيمة السلطان، ولكن هذا كله لا يعنى أن هناك طرازا خاصا من الحكومات يعتبره الدين بعض أركانه.. ". إذا لماذا تولى الرسول شئون السلطات المختلفة وشرع أحكاما معينة وقام بتنفيذها أو أرسل من يقوم بذلك؟!. يقول الشيخ خالد! إنها الضرورات الاجتماعية التى ألجأته إلى ذلك ليحقق المنفعة والسعادة لمجتمعه الجديد!. ص _064(1/60)
فهل صحيح أن الرسول دفعته الضرورات المؤقتة إلى الحكم؟ وأنه لولا هذه الضرورات الملجئة ما شرع، ولا قضى ولا حارب، ولا عاهد! هذا كلام ينطوى على تخليط وغلط فاحش. فالله سبحانه وتعالى- لا الضرورات المزعومة- هو الذى حدد لنبيه مهمته ورجعل الحكم جزءا منها فى قوله: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) وقد ندد الله بقوم من أهل الكتاب أعرضوا عن حكم القرآن لما دعوا إليه ودعوة الناس إلى الاحتكام لرسول الله عليه الصلاة والسلام وما جاء به يرفع معني الضرورة بداهة، قال الله تعالي: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون * ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) ويقول فى سورة أخرى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) فهل هذه لهجة دين يعتبر الحكم نافلة، وينظر إلى القضاء فى الخصومات على أنه ضرورة؟ وماذا يقول صديقنا فى نفي الإيمان بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام عمن لا يخضع لأحكام الشريعة فى مثل قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) الحق أن الله شرع فى كتابه، وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالتنفيذ، ووصى الناس بقبول الأحكام المنزلة من حد أو قصاص أو تأديب، واعتبر تعطيل هذه الأحكام المقررة كفرا أو ظلما أو فسوقا حسب الملابسات التى تقترن بالتعطيل. وما من نظام فى الدنيا يهدم حكما من أحكام الله إلا باء بواحد من هذه الأوصاف أو بها جميعا . ص _065(1/61)
ومادامت هذه منزلة الأحكام المقررة فهى جزء من الدين، وليست جزءا من الدنيا يندرج فى حديث " أنتم أعلم بشئون دنياكم " الذى أورده الأستاذ خالد فى غير مورد!. إن هذا الحديث يقول للمسلمين: إن أساليب الزراعة والصناعة والتجارة ليست مما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام لتفقيه الناس فيه.. وسبب الحديث كما رواه مسلم عن رافع بن خديج قال: "قدم رسول الله عليه الصلاة والسلام المدينة وهم يؤبرون النخل- تأبير النخل تلقيحه- فقال ما تصنعون؟ قالوا: شيئا كنا نصنعه... قال: لعلكم لو لم تصنعوه كان خيرا! فتركوه فنفضت- تساقط ثمرها- فذكر له ذلك. فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيى فإنما أنا بشر. فأى صلة بين الحديث- وهذه قصته- وبين شئون القضاء ونصوص الأحكام التى لم ينزل بها الوحى على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فحسب، بل نزل بها- من قبله- على أنبياء كثيرين وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإقامتها نزولا على حكم التوراة والإنجيل والقرآن؟ هذا خلط لا معنى له!!. * * * ص _066(1/62)
مؤسس دولة لنترك هذه الصفحة من شئون الدولة الداخلية ووظيفة الرسالة فيها. ولننظر إلى سياسة الدولة الخارجية وموقف الرسول عليه الصلاة والسلام منها، لنجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد وضع الأساس لإقامة حكم إسلامى واسع النطاق، بدأت دائرته تنداح، وتتسع حدودها، وتمتد أقطارها حتى شملت- أو كادت- المعمور من الدنيا. قد بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام بإعداد الوسائل الحربية والنفسية وتهيئة المقدمات السياسية لهذا العمل الضخم، فراسل ملوك العالم على عهده وطالبهم بالانضواء تحت علم الدين الجديد. وكان هؤلاء الملوك يمثلون أسرا استعلت على الشعوب واستهلكت قواها ومواهبها. فلم تكن هذه الرسالة النبوية إلا صيحة النذير والتحذير تسبق ما بعدها من حروب التحرير والإنقاذ. وهكذا ربى رسول الله عليه الصلاة والسلام العرب ليربى بهم العالم، وهدم فيهم الجاهلية ليهدم بهم الفرعونية والكسروية والقيصرية. وأنقذهم من أصنامهم الحجرية ليحطم بهم أصنام المجد الكاذب وليعطى الأمم المنهوكة فرصة الحياة الحرة فى ظل إله واحد وإخوة عامة. وكان التعليم الإلهى المحض هو الذى حدد لرسول الله عليه الصلاة والسلام هذا الهدف كما روى الإمام مسلم: "... إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان وإن الله تعالى أمرنى أن أحرق قريشا. فقلت: رب إذا يثلغوا رأسى فيدعوه خبزة. فقال: " استخرجهم كما أخرجوك واغزهم نغز بك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك...!. ص _067(1/63)
والواقع أن هذه الحروب كانت تمشيا مع دستور الإسلام وطبيعته، فهو لا يقابل العدوان بالاحتجاج الصامت!، ولا يترك الشعوب تررخ تحت وطأة جلاديها ثم يذرف الدموع لها. ولو قد فعل الإسلام ذلك ما استحق أن يكون دينا! ولما استحق رسوله أن يكون سيد الزعماء. وإنما الذى حدث أن النبى العظيم بدأ على عجل يؤسس الدولة التى تحتضن الحق وتنافح عنه وترغم الطواغيت على الفرار أمامه. فما كاد يجمع الناس صفوفا فى المسجد حتى ساقهم صفوفا فى الميدان، ثم ألقى بذور الأمل فى نفوس أصحابه فأفهمهم أن هذه الدولة الفتية لن تلبث طويلا حتى تستولى على مقاليد الأرض وترث فارس والروم. وفى حديث مسلم " إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لى منها... " . وكذلك قال النبى عليه الصلاة والسلام إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذى نفسى بيده لتنققن كنوزهما فى سبيل الله " . وبهذه العقيدة وهذا اليقين سارت الجيوش الإسلامية. وكان العمل الأود للخليفة الأول إنفاذ جيش أسامة ليقاتل الروم ثم تتابعت موجات الغزو واشتعلت جبهات القتال وانهزمت الأورستقراطية الوثنية وتأسس الملك الإسلامى، لا ليلبس محمد تاجه، ولا ليستمتع خلفاؤه بأبهته، فإن الدولة التى يقيمها الإسلام لا مكان فيها لقياصرة أو أباطرة، إنما الحاكم فيها إمام، عمله فى ديوانه كعمل إمام المسجد فى محرابه! واجب يؤدى لله، لا ينطوى على ترفع أو كبرياء. ص _068(1/64)
فارق بين حكمين يقول الأستاذ خالد: " إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن حريصا على أن يمثل شخصية الحاكم لأن مقام الرسالة أرفع مقام ". وهذا كلام مدخول ، فأما أن النبى عليه الصلاة والسلام قد حكم فعلا فهذا ما لم يختلف فيه مؤرخو المشرق والمغرب، وهو ما اعترف به الأستاذ خالد ونسبه إلى الضرورة (!). وأما أنه حرص علي ذلك فهذا ما لم يكن منه بد تنفيذا لأمر الله الذى يقول له (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون). وأما أن الحكم لا يليق بمقام النبوة وقيام الرسول عليه الصلاة والسلام بأعمال الحكام مما يمس منزلته فهذا أمر يرجع إلى تصورنا للحكم وأسلوب الوصول إليه وطريقة التصرف فيه. فالرسول عليه الصلاة والسلام بل من دون الرسول من عباد الله الصالحين منزهون من السعى إلى الحكم يوم يكون الحكم سلما للمنافع الحرام، وذريعة للعلو فى الأرض والفساد. ويظهر أن الأستاذ خالدا لا يعرف الحكم إلا من طراز "باشوات " الشرق، الذين يتولون الحكم مهزولين ثم يخرجون منه منتفخين. لكن الدنيا قديما وحديثا عرفت وتعرف أن هناك رجالا من أصحاب المثل يتولون الحكم فيفنون فيه من دوام الخدمة للأمم التى وثقت فيهم، ويكون هذا الحكم نوعا من التضحية وضربا من الجهاد. ولقد تولى يوسف الصديق إدارة المال والتموين، بل طلب ذلك بنفسه، فهل تحسبه سعى إلى الحكم ليكون صاحب المعالى يوسف بن يعقوب؟؟! وتولى خالد بن الوليد قيادة الجيش بل أشار على من منعه بذلك فهل صنع ذلك ليكون الفريق خالد باشا صاحب الأوسمة والشارات؟!. ص _069(1/65)
والواقع أن يوسف عليه السلام طلب المجال الذى يحسن خدمة الناس فيه، وأن خالدا طلب العمل الذى يقرب النصر به. وأن كليهما عبد الله أولا وآخرا يطلب رضوانه حاكما أو محكوما!!. والحكم باب إلى التمكين فى الأرض يفرح به أصحاب الدعوات لمبادئهم لا لأنفسهم، وقد حرص الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا المعنى وحده. وكذلك فعل الراشدون من خلفائه. وكذلك يفعل أصحاب المبادئ فى كل زمان ومكان. أما طلاب الحكم للهوى والأثرة فليسوا من دين الله فى شىء ولعنة الله عليهم إلى يوم يبعثون!. * * * ص _070(1/66)
الحكم السماوى بين أمتين من قديم أحل اليهود الربا وأكلوا الرشا، ولما انتشر الزنا بين ملوكهم وكبرائهم عطلوا الحدود التى كتب الله عليهم، فهدموا نصوصا وأولوا أخرى ونكثوا فيما أخذ الله عليهم من عهود. فقال الله- عز وجل- معلنا سخطه عليهم : (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به). وظل هؤلاء اليهود يهملون أحكام الله ويجيئون بأحكام مخففة من عند أنفسهم حتى انهدم من بنائهم السياسى ركن الدولة الدينية، وجاء النبى عليه الصلاة والسلام وأحكام التوراة ملغاة. وحدث أن يهوديا زنى- وهو متزوج- فأراد اليهود أن يؤذوه بعقوبة خفيفة ويتركوه، فناقشهم الرسول عليه الصلاة والسلام فى ذلك حتى اعترفوا بأن حكم التوراة الرجم!. فقال النبى عليه الصلاة والسلام: اللهم إني أول من أحيى أمرك إذا أماتوه. ثم أمر به فرجم.. بيد أن اليهود مضوا فى هدم أحكام الله، فهدم الله ملكهم وشتت شملهم، ومكن أيدى المؤمنين من نواصيهم. * * * وقد استخلف الله هذه الأمة فى الأرض لينظر ماذا تعمل؟ وأعطاها القرآن أساسا لدين ودولة، تجاورت فيه التشريعات الخاصة بالعقيدة والخاصة بالمجتمع والخاصة بالسياسة. وفي صفحات متتابعة من سورة واحدة تسمع قول الله عر وجل: (كتب عليكم الصيام) و (كتب عليكم القتال) فبأى منطق تأتى هذه الأمة فترمى ببعض هذه المكتوبات فى البحر (!) كالقصاص والقتال وتحتفل رسميا بالبعض الآخر كالصيام؟!. إن اليهود لما صنعوا ذلك سألهم القرآن الكريم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا) ص _071(1/67)
أجل، إن الأمم أصحاب الرسالات إذا عبثت بما ائتمنت عليه كتبت عليها عقوبة خاصة. وقد خوفنا النبى عليه الصلاة والسلام من عواقب التفريط فى مظاهر الإسلام التشريعية "... لم تظهر الفاحشة فى قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع التى لم تكن فى أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله وإلا سلط عليهم عدوهم من غيرهم فأخذ بعض ما كان فى أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم " . ولماذا نحسب أنفسنا أعز على الله من الأمم التى طمس وجهها لما تلاعبت بدينها؟! بل لماذا لا نقول إن الاستعمار الذى أسقط الدولة الإسلامية، علته الأصلية، أن هذه الدولة كانت جسدا لا روح فيه، بل كانت جسدا مشوها منقوصا، هان على أهله الذين لم يقيموا حكما، ولم ينفذوا حدا ولم يحترموا شرعة!!. فكيف نبقى الناس على دولة، أبناؤها أول من أعمل المعاول فى نقضها!. إننا نترك للأستاذ الشيخ سيد رجب أن يبسط الحديث فى المقارنة بين الأمتين اليهودية والإسلامية وبين النبوتين الكريمتين فيهما، مقتطعين هذا الحديث الرائع من مقال له فى "الإسراء" قال: " ولهذا: كانت نصيحة موسى لمحمد- عليهما السلام- وتوصيته إياه، وهو بذاته ما يحصل بين قائدين إذا تنحى أحدهما عن القيادة لزميله، فإنه يوصيه وبنصحه، وببصره بما أفاد من تجارب، ولاقى من خطوب، حتى يأخذ لها أهبتها، ويستعد بعدتها . بل لهذا أنت تقرأ فواتح سورة " الإسراء" فلا تفرغ من الآية الأولى بمفردها، حتى تقع فى قصة موسى والتوراة وبنى إسرائيل.. وأية قصة؟! فإن قصص بنى إسرائيل متشعب مختلف لانهاية لصنوفه وألوانه، ولكنك هنا تقرأ قصة يطالعك مغزاها من خلالها، وتنطق بذاتها عن المراد من اختيارها هى قصة " الدين والملك " وكيف أن الله أعطاهما بنى(1/68)
إسرائيل متلازمين (كما أعطاهما هذه الأمة متلازمين) فهناك دين وملك على أساس التوراة، وهنا دين وملك على أساس القرآن، وسنة الله فيما منح من دين وملك- هى أنه إذا حفظتهما الأمة حفظا لها، وإذا حادت ص _072
عن الطريق زال دينها ودنياها معا، ولهذه العبرة بما سبق والتبصرة لما يأتى جاءت الآيات بسنتها القاهرة وحكمتها البالغة، فاستمع الآن للقرآن؛ وتبصر ما يقول: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير). ثم ماذا؟.. ثم كانت النفس متوهمة أنه سيفصل هذه الآيات تفصيلا، أويلم بها على أى حال، فيذكر كثيرا أو قليلا مما رآه النبى عليه الصلاة والسلام فى رحلته، وقد رأى العجائب فى هذه الآيات كما روته الأخبار. ولكن لا! فإن الشأن فى الحقيقة أعظم من هذا القصص!. إنه الدين كله، وملك الإسلام أبد الدهر، من محمد إلى القيامة. لهذا أجمل القرآن تلك الآيات- على عظمتها- إجمالا، وخلص سريعا إلى المقصود الأهم: وهو رسم الطريق، وتوضيح الخطة، والتحذير من مخالفتها، وبيان العاقبة وتحديد العقوبة... وهذا كله ينطوى تحت هذه الآيات - التى نتلوها عليك- بمنطوقها تارة وبمفهومها أخرى. (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا * ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا * وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا * إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا * إن هذا القرآن يهدي للتي هي(1/69)
أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا * وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما) أسمعت؟!!. ثم أفهمت؟!.. إياك أعنى، واسمعى يا جارة " . إن القصة تقص عن بنى إسرائيل، ولكنها تستهدفنا، وتعنينا، وتوجه إلينا وهى تقصد إلى أن تقول: إنكم خلفتم بنى إسرائيل فى الدين والملك. وقد كان القوم على ص _073
دين فضَّلهم الله به على العالمين، وكانوا على ملك بلغ من شأنه فى عهد سليمان ابن داود- عليهما السلام- أنه لا ينبغى لأحد من بعده ثم إن الله شد ملكهم، وبقى محافظا على عهده معهم ورعايته ما حفظوا هم عهده ووفوا بميثاقه، واستقاموا على طريقه، فلما بدا لهم أن يضلوا السبيل، ويخالفوا عن أمره، ويخونوا أمانته بنبذ الدين، وإهمال الشريعة، واتباع الشهوات، والإفساد فى الأرض، رفع الله عنهم حمايته، وسلبهم عنايته، ووكلهم إلى أنفسهم الطاغية، فداستهم الأمم، وقهرتهم الدول، وبعث الله عليهم- المرة بعد المرة- عبادا له أولى بأس شديد، من البابليين، والمصريين، والفرس والروم، فلم يزالوا بهم حتى أتوا على بنيانهم من القواعد، فقوضوا دولتهم، ونكسوا علمهم، ومزقوهم كل ممزق وشردوهم فى الأرض كل مشرد. فحاذروا أن تحذوا حذوهم، فتستنوا فى الأمر سنتهم، أو تسيروا بسيرتهم فإنكم إن فعلتم جرت عليكم سنة الله بما جرت عليهم، وإنها لسنة ماضية بحقها، قاهرة بعدلها، لا تحابى خليلا، ولا تظلم فتيلا، ولا يجد لها أحد من دون الله تبديلا ولا تحويلا. هذا هو مغزى القصة التى افتتحت بها سورة " الإسراء " فإذا فقهت ما أقلناه لك: من أن صحيح الحكمة فى الإسراء والمعراج، إنما هو الاحتفال بختم النبوة والرسالة فى الأرض، وتولية خاتم الرسل والأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم إمامة الدين وسلطانه تحت راية القرآن، وجمع التراث الدينى كله إلى هذه الحوزة وتحت هذه الراية إلى يوم القيامة، وإعلان ذلك فى الأرض والسماء على الملأ من الملائكة(1/70)
والرسل والأنبياء- إذا فهمت هذا كله- عرفت لماذا انتحت بك سورة الإسراء هذا المنحى، وحدثتك فواتحها هذا الحديث. بهذا الشأن الجليل الخطير تحدثنا فواتح سورة الإسراء، وهناك شأن آخر جليل خطير ينادى به الموقف من أوله إلى آخره، وهو أن الأمر قد انتقل عن بنى إسرائيل، ولن يعود إليهم أبد الدهر. ومهما أقاموا أو أقيم لهم من دولة، فإنها لن تكون إلا دولة الشيطان، أو " المسيخ الدجال". لا أقول هذا تعصبا، ولكنه حقيقة ماثلة . ص _074(1/71)
فإن لواء الدين- بكتابه وشريعته وسلطانه- إنما يعقد لأولى العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام. وقد اختتمت النبوة والرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبقى القرآن بهديه وشريعته مهيمنا على الدين كله إلى يوم القيامة، أمرا لزاما، وكلمة من الله ماضية، ووعدا مفعولا وإذا أنكر هذا منكر، أو شك فيه مستريب، فليعلم أنه لم يسبق لكتاب ولا لرسول أن أعلن ختم النبوة والرسالة قبل القرآن ومحمد عليه الصلاة والسلام، بل كان كل نبى أو رسول يبشر بمن يأتى من بعده، جاء القرآن فأعلنها حقيقة باهرة ثابتة، تزول السموات والأرض ولا تزول (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) وهاهو ذا قد مضى بعد محمد عليه الصلاة والسلام ما يقرب من أربعة عشر قرنا لم يأت الناس فيها نبى ولا رسول، فى حين أن أطول فترة كانت بين رسولين هى الفترة التى كانت بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهى لم تزد عن نحو ستمائة سنة! فهلا تبين الشاكون- بعد هذه القرون الطويلة- صدق هذه الحقيقة التى أعلنها الله ونادى بها محمد وسجلها القرآن؟! ألا فليعلموا- إذن- أنه ستمر القرون تلو القرون- إلى أن تقوم الساعة- فلا تزيد هذه الحقيقة الهائلة إلا رسوخا ووضوحا. (... ولكن رسول الله وخاتم النبيين) وبقاء الأمر إلى الإسلام والقرآن أبد الدهر، لا يعنى أن المنتسبين إليهما يستحوذون على هذا الأمر، ويقومون به فى الناس، بمجرد هذا الانتساب والادعاء، وإن فرطوا فى الإسلام وشريعته، واستهانوا بالقرآن وهدايته! تلك أمانى السفهاء وأحلام الجاهلين ... وفيم إذن قص الله علينا القصص، وضرب لنا الأمثال، وحذرنا مصارع السابقين؟! أليس لنتجنب هذا المصير الذى أدانا إليه تفريطنا فى تجنب الله واستهانتنا بأمره ص _075(1/72)
وهديه؟ حتى داسنا الدول كما داستهم، واستعبدتنا كما استعبدتهم، بل لقد تداعت علينا الأمم بأكثر مما تداعت عليهم (لولا حفظ الله الإسلام البُقيا عليه) فرأينا أكبر وأقوى أمتين فى الأرض تختصمان ألد الخصومة، ويختلفان أشد المخالفة فى كل شئ، فلا يصطلحان ولا يتفقان إلا على شىء واحد هو تمكين الأعداء منا، وإعانتهم علينا فى السر والعلن وإذلالنا فى بلادنا. وهذه هى العقوبة الأزلية لمن آتاهم الله الدين والملك، فلم يحفظوا عهده، ولم يؤدوا أمانته، ولم يشكروا له كرامته ونعمته. ألا وإنه لا نجاة لنا من هذه المحن، ولا مخرج لنا من مضايقنا إلا بما شرعه الله لذلك من وسائل وأسباب، قضى فى كتبه، وعلى لسان رسله، أن يكون أولها- بل رأسها- التوبة والرجوع إليه جل شأنه، وليست التوبة ما تهرف به ألسنتنا! بل هى أن نقلع عن جميع ذنوبنا وآثامنا، مستغفرين الله منها، ومصممين العزم على السير قدما فى سبيل الصلاح والإصلاح، وإعداد الأمة بأقوى ما نستطيع روحيا وماديا، مقبلين فى صدق وإخلاص على ما آتانا الله من كتاب وحكمة، فنحل حلاله ، ونحرم حرامه ، ونهتدى بهديه ، ونعمل بشريعته، ثم لننتظر بعد ذلك المعونة والتأييد من الله، بل إن تأييده ومعونته مودعان فى كتابه وشريعته لو كنتم تعلمون. هذا هو المخرج، وهذه هى الطريقة... ألا هل بلغت اللهم فاشهد. (ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا) * * * ص _076
تاريخ وتاريخ " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون !! " ص _077(1/73)
بعض الناس لا تملكهم حمى التشاؤم إلا عند الحديث عن الحكم الدينى! سرعان ما يقولون لك: إن الحكم الدينى الحق خيال، والسعى وراءه حلم أصحاب المثل!! واستقراء حوادث التاريخ يدل على أن الخلفاء الذين حكموا باسم الله لم يعمروا طويلا، ثم جاء من بعدهم من افتات على الحقوق والحريات واستكبر هو وأولاده على الناس باسم الدين. ويستطرد هذا الفريق المتشائم يقول لك: إنك لن تجد كثيرا مثل أبى بكر وعمر. أما النظم الديمقراطية الحديثة فقد رسمت حقوق الإنسان فى تفصيل دقيق يقطع الطريق على الطغاة والجبابرة، ولأن ندعو إليها فى صراحة أفضل من أن نعلق القلوب بالنظريات الدينية التى لم يدعمها- للأسف- تطبيق واضح.. هذا مجمل رأى الطاعنين على الدعوات الإسلامية والمعوقين لنشاطها فى مصر وغير مصر. وفى هذا الكلام مغالطة، والذين يرددونه يريدون أن يحملوا الدين وحده أخطاء الطبيعة البشرية من بدء الخليقة!! وإذا كان تاريخ الإنسان كما قالت الملائكة متسائلة عن سر استخلافه " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" فليس على حساب الدعوة إلى الله تسرد مثالب المستبدين والمنافقين. والواقع أن المقارنة لكيما تصح يجب أن تكون بين الدين على أنه نظريات مكتوبة فى صحائفه المقدسة، وبين المبادئ الأخرى على أنها نظريات اقترحها المصلحون وبشر بها الفلاسفة. أو بين الدين كما نفذ تعاليمه ممثلوه وحملته، وبين الديمقراطية والشيوعية مثلا كما طبقها القادة والساسة القائمون على مناهجهما. هذه هى الأطراف التى يجوز التفاضل فيها. أما المقارنة بين الحكام الدينيين بأشخاصهم وسيرهم، وبين تعاليم الثورة الفرنسية، ومواثيق مجلس الأمن، وهيئة الأمم، فهذه مقارنة غير مقبولة. إما أن نقارن بين رجال ورجال أو بين مبادئ ومبادئ. والحق أن الذين طبقوا الديمقراطية مثلا كانوا أسفل مسلكا وأسوأ أثرا من عشرات الرجال إلى الدين يوم حكموا باسمه أحكاما جائزة . ص _078(1/74)
ولنلق نظرة فاحصة على النظام الديمقراطى من خلال تطبيقه فى بلادنا على أيدى سدنته من أهل أوروبا الوافدين علينا أو المستعمرين لنا. إن الجيل الذى كونته فرنسا بعد ثورتها، والذى ترعرع فى أرضها وهو يسمع كلمات الإخاء والحرية والمساواة... هذا الجيل الذى دمر السدود والقيود وسوى بالتراب ما شاء الملوك من معاقل الظلم.. هذا الجيل جاء إلى الشرق ليصنع بأهله المساكين ما صنعه بفرنسا ملوكها الفاسقون أقسى وأنكى. ومآسي الاستعمار الفرنسى ومخازيه تاركة فى نفوسنا- نحن المسلمين- إحناً لا تنتهى آخر الدهر... وكذلك الإنكليز والطليان... وأخيرا الأمريكان... هاك وصفا من أروع ما كتب الأدباء فى تصوير خفايا النفس والتوائها وراء أغراضها للكاتب الإنجليزي "شو" وهو يتحدث عن: الديمقراطية الإنجليزية من هو الإنجليزي؟ إنه عندما يطمع فى شئ لا يعترف- حتى لنفسه- بأنه يطمع فيه، بل يظل صامتا صابرا إلى أن تلمع فى عقله- بوسيلة لا يعرف كنهها أحد- عقيدة قوية بأن واجبه، والمثل العليا يقتضيان أن يغزو الدولة التى تحوز هذا الشيء الذى يطمع فيه.. وعندئذ لا يقف شيء فى سبيله!!. إنه أرستقراطي ، يفعل ما يحلو له، ويستولى على كل ما يشتهيه، وهو فى الوقت نفسه كأحد أفراد الطبقة الوسطى، وأصحاب الدكاكين، يتابع غايته بالهمة والمثابرة، ويؤيد همته بعقيدة دينية راسخة، وشعور عميق بالمسؤولية . وهو لا يعدم مطلقا وسيلة يتمسك بها بمظاهر المثل العليا، فهو يغزو نصف العالم ويستعمره، ويدعى فى الوقت نفسه أنه النصير الأكبر للحرية والاستقلال، وعندما يريد سوقا جديدة لبضاعة "مانشستر" الفاسدة، يرسل مبشرا ليبشر مواطنى هذه السوق بدين عيسى، وعندما يقتل المواطنون المبشر- وهم غالبا يقتلونه- يمتشق الحسام دفاعا عن المسيحية، يحارب فى سبيلها، ويغزو باسمها ثم يأخذ السوق مكافأة له من السماء. ومن أجل الدفاع عن شواطئ جزيرته، يضع إنجيلا على ظهر سفينته، ويرفع علما ص _079(1/75)
يتوسطه على أعلى سارية، ثم يبحر إلى أقاصى الأرض مغرقا، حارقا، مدمرا كل من ينازعه سلطان البحار! وهو يتبجح بأن العبد يصبح حرا فى اللحظة التى تطأ فيها قدماه أرضا بريطانية فى الوقت الذى يبيع فيه أبناء فقرائه، وهم فى سن السادسة ليعملوا فى مصانعه تحت السياط، ست عشرة ساعة فى اليوم. وهو قد قام بثورتين باسم حقوق الشعب، ثم أعلن الحرب على الثورة الفرنسية باسم المحافظة على النظام العالمى والقانونى . ليس هناك شىء يزيد فى حسنه أو فى قبحه عن الحد الذى يقدم عليه الإنجليزى، و لكنك لن تجد إنجليزيا واحدا يرتكب خطأ عن عمد، فهو يعمل كل شىء عن مبدأ،. يحاربك عن مبدأ وطنى، ويسرقك عن مبدأ تجارى، ويستعبدك عن مبدأ استعمارى، و يهددك عن مبدأ النخوة.. وهو يؤيد ملكه عن مبدأ الولاء، وبقطع رأس ملكه عن مبدأ جمهورى!! إن كلمة السر عنده هى دائما: " الواجب "!!! ستعلم أن حملة الإسلام الأولين إلى أقطار العالم كانوا ملائكة ا! وأن الحكم الإسلامى- على ما لصق به من أهواء النفوس- كان خيرا وبركة على الإنسانية جمعاء... وسيزداد يقينك فى هذه الحقيقة عندما تقرأ السيرة القذرة لحملة الحضارة الأوروبية إلى المعروف والمجهول من قارات الدنيا الخمس. وسترى أن الحكم القومي يمثل لونا من الأنانية الخبيثة لا نظير لها، وأن غرائز هذا الحكم الإلحادى ملأت الأرض فسادا، وأشعلت فيها نيران العداوة والبغضاء... وأن العصابة التى تعمل لسلخ مصر عن الإسلام ليسوا إلا قطيعا خرب الذمة من عبدة أوروبا المفتونين بثرواتها وسقوطها. فلنتابع سرد الشواهد على نبل الحضارة التى تريد تبغيضنا فى الإسلام ، والتى تنشر الكتب لتحقير حكمه وتلويث تاريخه، ولننظر . ص _080(1/76)
كيف مدن الإنجليز الهند قُدر المبلغ الذى قبضته إنجلترا من الهند من ربع قرن بعشرة مليارات من الجنيهات، وذلك عدا رواتب موظفى إنجلترا فيها، وقد حددت مدة إقامة الموظف الإنجليزى فى الهند بخمس سنوات. لعدها كافية لإثرائه!! ويمكن اجتلاء حال الهند من عبارة الكاتب الإنجليزى مستر "هندمان " الآتية: "إن من الأمور المخيفة حقا أن تكره الولايات الشمالية الشرقية فى الهند على إصدار حبوبها إلى إنجلترا مع موت 300,000 شخص جوعا من أبنائها فى بضعة أشهر. ثم ذكر ذلك المؤلف الإنجليزي أنه مات سنة 1877 فى مقاطعة مدراس وحدها 935.000 حسبما جاء فى التقارير الرسمية ولم يحدث إلا ما يزيد الحالة سوءا لما ينجم عن ضرورة دفع الضرائب الباهظة من إضعاف خصب الأرض. والمسوغ الوحيد الذى قيل عن الجزية السنوية التى تدفعها الهند إلى إنجلترا ومقدارها 500 مليون جنيه هو قول مجلة الأسبوعين. (إنها ثمن تمتع الهند بحكومة منظمة محبة للسلام)... وتسخر الهند من هذا الوصف وهى تشاهد كل عام موت هنود بفعل الجوع يزيد عددهم كثيرا عن عدد الذين يقتلون فى أشد الحروب هولا وسفكا للدماء". وكيف مدنوا الصين؟! قال " غوستاف لوبون ": لا يخلو من سبب ما يعزوه الشرقيون إلينا من قلة الشرف وانحطاط الأخلاق. وستكون قصة علاقات " أوروبا" المتمدنة بالصين فى القرن التاسع عشر من أسوأ صفحات تاريخ الحضارة، وقد يدعى حفدتنا إلى التكفير عن سيئات تلك العلاقات فى أحد الأيام بثمن غال. ترى كيف يفكر أبناء المستقبل فى حرب الأفيون الدامية ؟! التى أكره الإنكليز ص _081(1/77)
فيها بلاد الصين بقوة المدافع على إدخال ذلك السم القاتل وحمل الشعب على تعاطيه بعد ما أصدرت الحكومة أمرها بتحريمه؟. حقا إن فائدة انجلترا من تجارة الأفيون مائة وخمسون مليونا من الجنيهات فى السنة. ولكن عدد الوفيات السنوية فى بلاد الصين من جراء استعمال الأفيون ستمائة ألف شخص كما جاء فى إحصاء الدكتور"كريستليب " . أليس من الحق أن يكون جواب الصينيين كما روى ذلك الدكتور عندما يحاول مبشرو الإنكليز تنصيرهم ( ياللسخرية تسموننا للقضاء علينا ثم تأتون لتعليمنا الفضيلة؟ "!! ويظهر أن الصينى غير محق فى ذلك. ألم يعلم أن الإنكليزى يتصف بأخلاق موروثة تأمره بالإنفاق على المبشرين ليعدوه للحياة الآخرة التى يسوقه إليها بسرعة ذلك الأفيون الإنجليزى؟!. ص _082(1/78)
حرب إبادة... وسياسة الأوروبيين القائلة: إنه لا يجوز أن يمشى على الأرض فريق من الهمج أدت إلى إبادة أجيال من البشر.. فإن المهاجرين الأوربيين طاردوا سكان أمريكا الأصليين كما يطارد الصيادون الأرانب. وقد أوشك أصحاب الجلود الحمر على الانقراض نتيجة الاستيلاء على أراضى الصيد منهم، وحصرهم فى مناطق جديبة إذا حاولوا الخروج منها- بفعل الجوع- جدلوا كما يجدل البط. وقد أبيد همج أستراليا. كما لم يبق من أهل تسمانيا الأصليين أحد. يقول الأستاذ عادل زعيتر: "والأسلوب الدقيق الذى كان يسير عليه ربابنة السفن الإنكليزية لجمع ما يحتاجون إليه من العمال فى جزر الملايو هو أن يجتذبوا بشتى الحيل أناسا من أهل البلاد ثم يضربوا رقابهم. ويأخذون من رؤساء القبائل المعادية عددا من العمال فى مقابل كل رأس من أولئك على أساس إعادتهم بعد زمن وجيز، ثم لا يعيدون لهؤلاء حريتهم أبدا. قال العالم الطبيعى "كاترفاج " إنه لا يجوز للعرق الأبيض الأوروبى أن يلوم أكثر الشعوب توحشا من انتهاك حياة الإنسان. فليراجع ذلك العرق تاريخه، وليتذكر الحروب والوقائع التى كتبها بحروف من دم، وليتذكر ماذا صنع بإخوانه المتأخرين عنه وماذا أسفرت عنه خطواته من الدمار!! وليتذكر اصطياده للإنسان كما يصطاد الوحوش الضارية. وليتذكر استئصاله أمما بأسرها ليفسح لمستعمريه المجال... وليعترف بأن حياة الإنسان- إذا كانت مقدسة- فإنه لم يرو أن شعبا انتهك حرمتها بفظاعة مثله ". والدول الديمقراطية فى سياساتها العالمية مجتمعة هزأت بكافة ما تواضعت عليه الدنيا من مبادئ العدالة والشرف... ص _083(1/79)
وحركاتها اللطيفة أو العنيفة ناضحة بما يكمن فيها من شهوات ومأرب. ولم يحدث فى تاريخ المؤسسات التى كونتها هذه الأمم الديمقراطية أن أصدرت قرارا يوصف فى بواعثه وأهدافه بأنه نزيه، خصوصا إذا اتصل هذا القرار بالإسلام وأهله... وكما سخرت هذه الدول فى محافلها الكبرى المروءات والفضائل، سخرت- فى علاقاتها الفردية بالأمم المستضعفة- من كل حق مقرر وحرية منشودة. وهذه فرنسا- مصدر الدساتير المثالية- نسمع ونرى من تصرفاتها مع مسلمى شمال أفريقيا الدواهى الخزية. وقد استعرض الأستاذ سيد قطب بعضا من هذه الوقائع نسوقها أمثلة صارخة لفوضى. * * * الديمقراطية الفرنسية قال: إن المأساة التى تمثلها الوحشية الفرنسية اليوم فى مراكش ليست هى الأولى. فلقد مثلتها مرات ومرات فى مراكش، وفى تونس، وفى الجزائر، وفى لبنان، وفى سورية، وفى الهند الصينية، وفى القاهرة قديما... وفى كل مكان على ظهر هذه الأرض دنسته أقدام فرنسا... إن فرنسا لهى التى أطلقت على القاهرة مدافعها من قلعة الجبل، وداست سنابك خيلها أرض الأزهر الطاهرة عام 1798. وإن فرنسا لهى التى ضربت دمشق بالمدافع عام 1925 وعام 1941. وإن فرنسا لهى التى مثلت من قبل فى مراكش عام 1944 ما تمثله اليوم وأخزى. وأخيرا فإن فرنسا التى مثلت فى الجزائر عام 1945 ما لم يمثله المغول والتتار فى القرون الأولى. لقد دمرت فرنسا فى مايو سنة 1945 إحدى وأربعين قرية فى الجزائر، على من فيها من الأطفال والنساء، والشيوخ والشباب.. ولست أنا الذى أقول هذا، ولكنها المضبطة الرسمية لمجلس النواب الفرنسي ذاته ص _084(1/80)
هى التى تقوله ، فقد سجل العدد رقم 57 الصادر فى يوم الخميس الموافق 12 يوليو سنة 1945 ما يأتى : " إن الحاكم العام فى الجزائر قد أجابنا عن سؤال وجهناه إليه فى الاجتماع المشترك للجان تنسيق الأعمال للشئون الإسلامية الداخلية ... أجابنا بأن إحدى وأربعين قرية دكت بالطائرات وبالوحدات البحرية ، فلم يبق منها ديار ولا حيوان " . وكتبت صحيفة كومبا الفرنسية عن مذبحة مايو هذه تقول : " لقد وزع السلاح على جميع الأوروبيين وخاصة الخفيف منه ، إلى حد أن النساء كن مسلحات . ففى إحدى المدن بينما طفل عربى لا يتجاوز العاشرة ، يقطف زهوراً بالحديقة العمومية ، إذا بيوزباشى يطلق عليه عياراً نارياً ، فيرديه صريعاً " . قال مندوب جريدة ليبرتى ، أى الحرية ! بعد المذبحة ما يأتى : " إننا الآن بهليوبوليس ـ قرب مدينة قالمة ـ ولقد مضى على الجثث الملقاة على قارعة الطريق أكثر من خمسة أيام ، دون أن يهتم أولوا الأمر بدفنها وذلك تفنناً فى إلقاء الرعب فى قلوب الوطنيين ، الذين لم يزدهم هذا العمل إلا كراهية لنا وبغضاً". كأنما كان حضرته ينتظر أن يسبح الوطنيون بحمدهم ويقبلوا أياديهم شكراً .. ثم مضى يقول: " ولقد رأينا فى أحد المناظر رضيعاً ملوثاً بالدماء ، يبحث عن ثدى أمه المقطوعة الرأس ، دون أن يهتدى المسكين إلى الثدى ، ودون أن تستجيب الفريسة لصراخ ابنها .. " هذا ما يقوله أبناء فرنسا أنفسهم عن وحشية فرنسا .. فما الذى يقوله يا ترى فى مصر والعالم العربى ، عبيد فرنسا . إنهم لا يقولون شيئاً ، بل يختبئون فى جحورهم كالفيران الهزيلة ، لا أقول حياء وخجلا ، بل خشية وذعراً أن يواجهوا ضمير هذه الأمة الثائر . ص _085(1/81)
عمى التعصب وجاء فى الجزء السادس من السنة الثلاثين من مجلة الهلال تحت عنوان "لماذا دخلت تركيا الحرب؟ " ما يلى: كتب الدكتور " غوستاف لوبون "ينعى على تركيا دخولها الحرب إلى جانب ألمانيا سنة 1914، ويقول: انها لم تستفد من هذا القتال إلا خسارة بلاد العرب وأرمينيا وأرض الجزيرة وسوريا... ووقوعها فى أزمة مالية شديدة فكتب إليه (ع سنى) السكرتير العام لولاية بيروت رسالة مستفيضة شرح فيها الأسباب التى جعلت الأتراك ينحازون إلى ألمانيا. وأبان أن الحلفاء "إنجلترا وفرنسا وروسيا" حين ذاك، كانوا تارة باسم الروح الصليبية وتارة باسم المسألة الشرقية يريدون تمزيق الدولة العثمانية والاستيلاء على ما يمكن اقتطاعه منها، حتى تقصى أجنحة الإسلام، وتموت الدولة التى ظهرت فى العالم بأنها ممثلته الكبرى!! فكان لزاما على الأتراك أن ينضموا إلى الألمان فى حرب هى بالنسبة لهم حرب حياة أو ممات... وقد رد الدكتور غوستاف لوبون على هذا الخطاب بالرسالة الآتية نذكر نصها: باريس 3 / 4 / 1921 سيدى: أراكم فيما كتبتم على تمام الإصابة، وسأسعى فى نشره بإحدى الجرائد الفرنسية اليومية، لكنى لست واثقا من أن أوفق... لأن العقيدة الكاثوليكية المتوارثة فينا تجعلنا من ألد الأعداء للمسلمين. وقد كتبت فيما مضى مجلدا ضخما باسم حضارة العرب، وذلك لأثبت فيه أن العرب هم الذين مدنوا أوروبا.. لهذا واقبلوا تحياتي. باريس 28 شارع فينون الدكتور غوستاف لوبون ص _086(1/82)
هذا الفيلسوف لا يسعه إلا أن يعترف بالأسباب الدفينة التى تجعل من الاستعمار الفرنسى نكبة فظيعة حيث حل . وليست الديانة المسيحية الأصلية هى التى توحى بإيقاع العذاب على الناس وفتنتهم عن عقائدهم بهذا الأسلوب الدنىء ولكنها بربرية قبائل اللاتين وجهالة طوائف المبشرين المتأكلين باسم عيسى . وعيسى ـ عليه السلام ـ منهم برىء . والديمقراطية الأمريكية كان المسلمون يحسبون الولايات المتحدة أرض المثل العليا ، ويتخيلون أن هذا العالم الجديد سوف يحتضن الإنسانية المجردة ، ويعلى قدر الفطرة ، ويتنزه عما وقع الأولون فيه من أخطاء . أى أنهم يرتقبون مع العمران الجديد لهذه البلاد صفحة جديدة من تاريخ الحياة خالية من سخائم الماضى القريب والبعيد . وبلغ من سذاجة المسلمين فى هذا التصور ـ وهى سذاجة تستحق العقاب ـ أنهم لما فشلوا فى ضمان استقلال سوريا عقب الحرب العالمية الأولى اقترحوا أن تكون سوريا تحت وصاية أمريكا لا فرنسا !! ظانين أن فرنسا أسيرة حقد صليبى لا تخمد جذوته أبداً ، أما الأمريكان فهم أرقى من ذلك ضمائر ! إنهم متحررون بلا ريب من آثام هذا الغل القديم .. وعفا الله عن آبائنا هذا الظن الحسن إنهم كالأطفال الذين لا يرون فى معاملة ما مكراً ولا ختلا . وما دروا أن أمريكا هى الأخت الكبرى لفرنسا وإنجلترا ، وأنها قد تختلف عنهم فى الوسائل ولكنها لا تختلف فى نية أو غاية . إن الولايات المتحدة أمة تكونت من هجرات معروفة الأصل والمعدن . إنها ألوف كثيفة من الرجال والنساء الذين قدموا من إنجلترا وألمانيا وفرنسا وغيرهما ابتغاء الرزق فى هذه الأراضى البكر .. ص _087(1/83)
وقد جمعت هذه الأخلاط وحدة المصلحة المشتركة، وسرعان ما غنيت بهم هذه البلاد، ودرت عليهم خيرها الغزير، وما كادت أقدامهم ترسخ حتى استحيوا فيها عقائدهم وتقاليدهم الأولى، وليس فى هذا عجب!. ولو أنهم لما بنوا عشرات الألوف من الكنائس اكتفوا بعبادة الله وشكره على النحو الذى يدركون ما استغربنا هذا السلوك. ولكن القوم اجتروا ماضى أوروبا كله، ورغبوا أن يعيشوا بوحيه وهديه، بل لقد رأوا أن يكملوا من الناحية الدينية ما تعجز أوروبا عن إتمامه لقصور مواردها وكثرة مشكلاتها. ومن هنا انطلق المرسلون الأمريكيون من القساوسة والمبشرين والمستشرقين إلى آفاق الأرض يحاولون نشر المسيحية ورفع لوائها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا... وكان ضغطهم على المسلمين فى المجال الثقافى شديدا جدا، وجامعاتهم ومدارسهم فى الشرق الأوسط تكيد للإسلام كيدا، وتبيت لأمته الشر الكثير. ونحن فى هذا المجال الثقافى لا نلقى اللوم على أحد غيرنا، فإن تقصيرنا الشنيع سر هذه البلوى. وإذا كان الأتقياء من أهل أمريكا يرصدون جوانب ضخمة من ثرواتهم لنشر المسيحية بين أبناء الأم الأخرى، فليس فى ذلك ما نحاربهم عليه. والرد الطبيعى أن يلقى المسلمون هذا الهجوم العلمى بهجوم مماثل، وهم رابحو المعركة حتما إذا تحركوا. أما أن يناموا ويسخطوا، فلن يحترم لهم أحد سخطا...!! لكن البلاء الذى نجابهه بحزم ونستثير الهمم لرده بقوة وصلابة ما انتهى إليه الأمر في هذه البلاد البعيدة من رغبة أكيدة فى القضاء على العرب واسترخاص دمائهم واستنكار وجودهم. وهى رغبة مجرمة مهد لها الغباء الكنسى وأمدها بثارات تاريخية عفنة. ونحن جازمون بأن سياسة قتل العرب فى بلادهم وإحلال اليهود محلهم سياسة تستقى من روافد صليبيه قديمة لا عقل لها ولا قلب . ص _088(1/84)
ومن حقنا أن نخاصم بكل ما أوتينا من قوة هذا الاتجاه الكفور والحقود. إن الولايات المتحدة أول دولة فى الأرض اعترفت بإسرائيل... وهى أول دولة تبعث لها بالعون المادى سيلا دافقا لا انتهاء له. وهى صاحبة كلمة "خلقت إسرائيل لتبقى ". وهى أولا وآخرا لا تعرف للعرب حقا، ولا ترضى لهم وجودا.! وهى الوارثة الآن لمشاعر الكراهية ضد الإسلام ونبيه وحضارته.! وكثير من المسلمين يرى أن عداوة أمريكا للإسلام لا تقل عن عداوتها للشيوعية إن لم تزد. والديمقراطية التى تسود الولايات المتحدة اليوم مشوبة بسيئات غليظة. وكم للفضيلة والعدالة من مصارع في ديمقراطية الأمريكان، خصوصا إذا اتصل الأمر بالملونين أو المسلمين!!. إن عمى التعصب يستولى عليهم فلا يدرون كيف يتصرفون؟!. فى هذه البلاد تداس تحت الأقدام كل شارة للعروبة الحرة، وترسم صورة المستقبل على أساس انطلاق اليهود فى مناطق الشرق الأوسط بعد إخلائه من أهله بأية وسيلة. وأهله هم أولئك العرب المسلمون المساكين. إن الأمريكان يضيقون بهم فى ميدان السياسة الخارجية كما يضيقون بالزنوج فى أرجاء الولايات المتحدة نفسها.. فلا غرو إذا علت صيحات شتى لاستنكار هذه السياسية، وإذا أحس قومنا الخطر على كيانهم من بقائهم... لا مفر من الاعتراف بأن خديعتنا كانت كبيرة فى الحضارة الأمريكية، فقد حسبنا الإنسانية الراقية قد وجدت مستقرها هناك فى أرض لم تزل بكرا وفى شعب لا تفتنه المطامع! وزاد من تصديقنا لهذا الوهم موقف الرئيس (ولسن) عقب الحرب العظمى سنة 1919، فقد أبى الرجل أن يشارك دول أوروبا عملها الشائن فى الشرق، وتقدم بمبادئ نبيلة لتنظيم العالم على ضوئها . ص _089(1/85)
ثم جنح الأمريكان إلى العزلة لما رأوا انصراف الدول المستعمرة عن طريقتهم الفاضلة. ويبدو أن عوامل الإغراء ووساوس الإثم قد تغلبت على القوم فى الأيام الأخيرة فقرروا أن يمشوا فى ركاب اللصوصية الدولية، بل أن يكونوا طليعتها المغامرة، وبدأ القناع ينحسر عن سياسة أمريكا فى داخل حدودها وخارجها فإذا نحن أمام مأساة ليس ضحيتها الأولى الحقوق والمصالح المشروعة بل الأخلاق والمثل العليا، وكل ما كانت الإنسانية تقدسه قديما من شرف وفضيلة. يقوم النشاط العام هناك على المنفعة المجردة ـ ودعك من كذب الإعلانات وتزويق الدعايات ـ وعلم الأخلاق جزء من فن التجارة ومقاييسه الأولى تعتمد على الربح والخسارة.. والأخوة كذبة كبرى، فحرب الأجناس والألوان تدور رحاها علنا فى أرجاء الولايات المتحدة، ومن أيسر الأمور أن يتحول رجال الشارع هناك إلى قتلة يلتفون حول زنجى تعس ليلتذوا من مشهد مصرعه وهو يشنق فوق شجرة جميز لأيسر التهم وأتفهها. ودفة السياسة العليا فى أيدى اليهود، ومن ثم تحولت المحافل الدولية إلى أسواق مساومة، وعقد صفقات، وحبك مؤامرات. مما جعل الدول الصغرى تيأس أبلغ اليأس من احترام الحق فى هذه المؤسسات الدولية! وإننا بعد ما شاهدنا الاتجاه الاستعمارى الجشع لهؤلاء الأمريكان نحسب أن (ولسن) كان يعبر عن آرائه الشخصية وآماله الطيبة. أما الأمة التى يرأسها فهى دون ذلك المستوى بمراحل بعيدة. وإننا لنحذر أن يسود العالم أساليب الحياة الأمريكية. إذ معنى هذه السيادة أن أحابيل الاسترقاق السياسى والاجتماعى ستزداد التفافا حول أقدامنا وأعناقنا، مع أننا أفلحنا فى تمزيق الكثير منها بعد جهاد مرير. وإن فريقا كبيرا من الرجال الذين فجعتهم الولايات المتحدة ليتفقون معنا فى هذا التوجس والحذر. مما دفع محرر "المصرى" أن يندد بأحوال أمريكا الداخلية والخارجية فى مقال قال فيه تحت عنوان : ص _090(1/86)
ديمقراطية ترومان إذا كان الرئيس " ترومان " يظن أنه يفرض على العالم نوع (الديمقراطية) الذى تمارسه أمريكا، فقد خاب فأله خيبة عظيمة، فما كل العالم على استعداد لأن يقبل دكتاتورية ذليلة فى قناع من المظاهر السطحية يسمى (الديمقراطية)..! ماذا يريد ترومان؟؟ وعم يبحث؟! أيريد أن تحرم شعوب العالم ثلاثين فى المائة من بنيها حق الانتخاب، كما تفعل أمريكا حتى يرضى عنها سادة "وول ستريت "؟. أتريد أن تضطهد الشعوب والحكومات الملايين من بنيها، وتضعهم فى سجن عام، أبوابه هى حدود الدولة حتى يرضى عنهم "الكونجرس "؟! أيريد أن يطرد الملايين من مقاه وفنادق ومطاعم بعينها حتى لا يدنسوا الملايين الأخرى من أفراد الشعب، لكى تكون هذه الشحوب، ديمقراطية؟! أيريد أن تقفل أمامهم أبواب الجامعات، فإذا فتحت لهم بقوة القانون، وضعوا لهم أقفاصا من حديد يدرسون فيها المحاضرات حتى تتحقق ديمقراطيتهم المزعومة؟! أيريد الرئيس أن تشنق الأقليات فى بلدان العالم الأخرى على غصون الأشجار، فى وضح النهار وغسق الليل، دون رقيب أو حسيب، ودون عقاب من القانون. كما يفعل زبانيته المتعصبون بالزنوج؟! ماذا يريد ترومان؟!.. وعم يبحث؟! أيريد أن يصبح العالم بأسره عبيدا للدولار، وأن يؤلمه للناس جميعا فمالهم من رب سواه، حين تمتلىء جيوبه وجيوب معاونيه فوق امتلائها بالذهب؟ لأن أنفاسهم تضيق إن قل امتلاء هذه الجيوب؟ أيريد من جديد أن يزج بالعالم فى أتون حرب أخرى، تأتى على ما خلفته سابقتها من مدنية وحضارة؟! أما لمادية الرئيس من حدود؟! ألا يفهم فخامته إلا لغة الذرة والقنبلة الهيدروجينية، ألا يشم إلا رائحة الدماء والبارود؟!. أيريد الرئيس ترومان أن يظل العالم فى الخديعة الكبرى التى يدفعه إليها، فيصبح ص _091(1/87)
شيوعيا كل مالا ترضى عنه أمريكا، ويصبح بالتالى عدو الديمقراطية والحضارة والمدنية وتراث العالم؟؟! أيريد أن يقبل العالم استعمار أمريكا الاقتصادى والعسكر، ودكتاتوريتها التى لا تقل ظلما واستبدادا عن دكتاتورية سلفيه" هتلر " و" موسلينى " وإلا فالعالم شيوعى لابد من سحقه؟! أيريد أن يفرض على الدولة العربية دولة لقيطة ، وأن يفرض مرة ثانية نوع علاقة هذه الدول بها، وأن يحددها ويرسم خطوطها وأن يوقظ وزراء هذه الدول من نومهم لينذرهم بأن يتبعوا أوامره ونواهيه، وإلا حظر عليهم السلاح، وأمر تابعته بريطانيا أن تفعل مثله؟! إن الرئيس ترومان يبحث عن كل هذا وعن غيره، وهو يريد أن يجلس فى بيته الذى أحال بياضه إلى قتام، والذى استطاع أن يدمر بين جدرانه كل المثل العليا النبيلة التى وضعها سلفه العظيم الرئيس روزفلت! يريد أن يجلس فى بيته هذا، فيأمر أقاصى الأرض وأدانيها فتطيع!. ماذا يريد ترومان، وعم يبحث؟! إنه يريد ذلك، ولكن ليعلم أنه كير مدرك ما يريده، وأن فانه قد خاب خيبة عظيمة، على الأقل فى الركن الذى تعيش فيه مصر وشقيقاتها العربيات. * * * ولئن كمنا نتطلع الآن فنأسى لأن عميدة الدولة الموسومة بأنها (ديمقراطية) ترتكب هذه المنكرات الغليظة، إن ذكريات الماضى البعيدة تهيج فى نفوسنا، وتعيد لنا صورا مشرفة للعصر الذهبى الذى لم ير العالم له مثيلا، عصر الدولة التى أقامها إمام البشرية الكبير محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وسلامه ومحا فيها الفروق بين الأجناس والألوان. فقال عن رجل فارسى (سلمان منا آل البيت ..). وجعل داعية الصلاة بلالا الحبشى يعلو الكعبة ليؤذن فوقها. وكان فيها عبادة بن الصامت الأسود رئيس المفاوضين العرب لدى الفرس، وكان أئمة الفقه فى أمصارها من الأعاجم. ص _092(1/88)
الدولة التى أمر كتابها بالوفاء العام للعهود التى تعقد بين طرفين مختلفين دينا ودما، فلما قال اليهود ( ليس علينا فى الأميين سبيل) أى لا حرج في الافتيات على الأجناس المغايرة (كذا) قال القرآن الكريم تعليقا على هذا الزعم: (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون * بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) وذهب الإسلام فى احترامه للعهود إلى حد التجاهل لآصرة الدين المشترك إن وقفت دون الوفاء الواجب (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق…). والمستنصرون هنا قوم مسلمون والميثاق مع قوم غير مسلمين ! فانظر كيف تقوم الدولة على المثالية المطلقة فى منطق الإسلام، وكيف تقوم على الانتهازية المطلقة فى منطق الديمقراطية الحديثة... إن العالم الحديث بحاجة إلى أن تقوم فيه أمة عريقة فى تدينها، سامية فى تفكيرها، مطهرة فى منازعها، تستخدم قوتها فى إحقاق الحق وإبطال الباطل. والكلمة الآن لحملة القرآن. لأمة محمد عليه الصلاة والسلام. لوراث الفضائل السياسية والاجتماعية بين الأجادب والقفار. * * * إن الذين ينعون على الحكم الديني ويوجسون خيفة من عودته- كما يقولون- ويحملون على ممثليه علميا وسياسيا يجب أن يقسموا تشاؤمهم بالعدل بين أنواع الحكم التى وضعت أولا على أساس سليم، ثم شرد بها الهوى عن الصراط المستقيم. ونحن لا نتحامل على نظام بعينه، ولا نبرئ الطبيعة البشرية مما وقعت فيه من نزوات وشهوات. بل نقول: إن ما اكتنف " الديمقراطية" من مفاسد على أيدى أصحابه لا يسوغ العودة إلى حكم الفرد، والاتجاه المقبول أن نطالب بتصحيح الأخطاء التى اعترتها. وما أصاب الحكم الدينى من مفاسد على أيدى بعض الطغاة والظلمة لا يبيح لنا ص _093(1/89)
أن نجنح إلى الإلحاد، أو نؤكد فصم الدين عن الدولة، أو نضع أمانة الحكم بين قوم ليس لهم دين. والحق أنه بعد حساب الأرباح والخسائر الناتجة عن تحكيم الدين وأخطاء الناس فى تطبيقه.. نجد أن أعظم فائدة عادت على البشر وصانت تراثهم ووجهت حضارتهم إلى الخير كانت باسم الدين مهما لابسه من خلط. إن خروج الإسلام من جزيرة العرب حرر مصر والشام وفارس، وملأ بقاعا رحيبة من الأرض بالسماحة والخير. ذلك كله برغم أخطاء حكامه!. أما خروج الحرية من فرنسا مثلا فإنه جعل الأرض التى تقع- لسوء الحظ- فى أيدى الفرنسيين مستعمرات عبيد!!. وكم هلكت شعوب فى أفريقيا وآسيا وهى تحاول استنقاذ حرياتها من ممثلى الحرية الفرنسيين!! إن الدين- من حيث هو مثل أعلى- يجب أن يبقى واضح المعالم فإذا قصرنا عن بلوغه وقفنا دونه ونحن عارفون بقصورنا... أما إلغاء الدين فمعناه تحطيم منارات الكمال وتعميم الظلام فى كل مكان. ثم إن محاولة وضع الدين فى الكفة المرجوحة باختلاق مقارنة بين تصرفات سلاطين الترك أو طواغيت العرب، وبين المبادئ المثالية التى ظهرت أخيرا ولم تعد أن تكون حبرا على ورق... إن هذه المحاولة مغالطة لا تنطلى على العقلاء والمنصفين... * * * ص _094
الإسلام بين من جاهدوا له وخادعوا به "عن مالك بن أنس قال لي أستاذي ربيعة : يا مالك من السفلة ؟ قلت : مَنْ أكل بِدِيِنِه . فقال : مَنْ سِفْلة السِّفلة ؟ قلتً : من أصلح دنيا غيره بفساد دينه فصدقني " * * * "لأن آكل الدنيا بالطبل والمزمار أحب إلي من آكلها بدين ". (الفضيل بن عباس) ص _095(1/90)
إخلاص حرص الأنبياء جميعا- وهم يبلغون عن الله رسالاته- أن يؤكدوا للناس حقيقة معينة، وهى أنهم لا يطلبون لأنفسهم شيئا، ولا يلتمسون على عملهم أجرا، وأنهم- على العكس- يعطون ولا يأخذون، ويضحون ولا ينتفعون، وأنهم أصحاب مثل عالية، يقدمون أشخاصهم وأهليهم فدى لها، وليسوا طلاب جاه لأ نفسهم أو للأسر التى ينتمون إليها. وقد قص الله سبحانه وتعالى علينا سيرهم الجليلة كابرا بعد كابر، فسمعنا إلى نوح يقول للناس: (فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) وتكررت هذه المقالة بألفاظها ومعانيها ودواعيها على ألسنة هود مع عاد، وصالح مع ثمود، ولوط مع قومه، وشعيب مع مدين، وموسى مع الفراعنة. وجرت كذلك مرارا على لسان النبى عليه الصلاة والسلام (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد). والقصد القريب من ترديد هذا المعنى هو تحرير الدعوة إلى الله من أهواء الدنيا ودسائس الطمع، وتوصيل الحق إلى الناس منزها عن كل غرض صغير ومأرب حقير، ثم طمأنة الجماهير التى تستمع لصوت النبوة على ما بأيديهم من خيرات وأموال. فليست الدعوة إلى الله حرفة لاقتناصها، وليس دين الله وسيلة للاستيلاء عليها..! والذين ورثوا النبوة فى الحكم أو فى الوعظ جعلوا هذه الحقيقة نصب أعينهم، فلم يدر بخواطرهم أن الدين مصيدة للكسب العاجل أو ذريعة للسمنة والتبطل!! ص _096(1/91)
وقد يكون بيت مال المسلمين قديما قد أجرى رواتب للخلفاء والقضاة والمدرسين. فهذا ومثله يشبه بدل التفرغ فى زماننا، حتى تجد منا صب الدولة للرجال الذين يقومون على مصالح الناس قياما خالصا. ودنيا الناس، من الناحية الدينية البحت، لن تضار من توظيف رجال يحسنون الإشراف عليها لقاء ما يسد الخلة ويقوم بالأود، ماداموا يتقون الله فيما يأخذون وفيما يفعلون.!! والذين يعملون لله ينظرون إلى رواتبهم هذه النظرة، مثلما فعل الخلفاء الراشدون، فهى ما كانت ولن تكون ثمن عبادة ولا أجر رسالة! وحقيق بالدعاة والمجاهدين أن يمحضوا لله عملهم. وألا يطلبوا به عرضا من الدنيا، وألا يخافوا فيه سطوة حاكم أو لومة لائم. وأن يرفضوا الراحة فى ظل النعم المتاحة.. وأن يرفضوا أيادى قوم قد يخاصمونهم فى الله يوما.. وأن يخجلوا من الشبع بين الجياع. وأن يحذروا أشد الحذر أن يكونوا حاشية لأصحاب السلطة، فإن انزلقوا إلى هذا الموضع فقد انزلقوا إلى مقابرهم. وليكن وجه الله الكريم فى كل عمل، أول الرحلة ونهاية المطاف.. * * * ص _097(1/92)
الجبهة الإسلامية فى مصر وأحوالها على ضوء هذه الفضائل كان الإسلام يرقب من أبنائه عامة، ومن علمائه خاصة أن يفهموا دعوته وأن يقدموا نصرته، غير أن خيبة الأمل جاءت فوق الظنون!. فقد جاء القرن الرابع عشر للهجرة وللنحوس فى مطالعه سواد يغشى الآفاق ويغطى أفئدة المؤمنين بالكآبة! وتتابعت الهزائم وتلاحقت النكبات على هذا الدين العزيز بشكل يثير الحفائظ!!. كفرت دولة الخلافة وأعلنت بعدها عن الأديان جملة. والخلافة التى طردها الأتراك كانت متاعا سرقه السلاطين ولم تكن أمانة فى أعناق الرجال الذين يخدمون دين الله! إن هذا المصير الزرى يعتبر طعنة فى صميم الإسلام سجلت عليه هزيمة بشعة. ثم أطبقت ظلمات الاستعمار الغربى على أنحاء الوطن الإسلامى الكبير فمزقته شر ممزق، والاستعمار الغربى مزيج من إلحاد وقح وصليبية خبيثة.. وأعقب هذا الانهزام السياسى للإسلام انهزام تشريعي واجتماعى وثقافى جعل تعاليم الإسلام الباقية أشبه بالخرائب المندثرة لدار نسفتها القنابل أو أكلها البلى ولم يبق إلا أن تأتى "مصلحة التنظيم " أو "إدارة البلدية " لتمحو آثارها وتلحقها بالأرض الفضاء!! ألا تصدق أن النظم المدنية الحديثة تطمع فى ذلك؟! بلى، إنها تعد العدة لتضرب ضربتها الأخيرة ثم تطوى آخر ما بقى للإسلام من أعلام. وهنا نسأل. ماذا فعل الأزهر؟! وماذا فعلت الجماعات الإسلامية الكثيرة التى جعلت عنوانها خدمة الإسلام؟! والجواب أن هذه الجبهة الإسلامية من هواة ومحترفين. من جنود رسميين ومن متطوعين شعبيين. لم تبذل إلى الآن جهدا مذكورا..! ص _098(1/93)
وقد مضت الجاهلية تغمر الأسواق والميادين بأفكارها وفلسفاتها دون أية مقاومة بل إن قصة الشيخ " خالد " وكتابه " من هنا نبدأ " ليست لا مأساة لرجل من علماء الأزهر ومن أعضاء الجماعات الإسلامية رزق فضل حياة فى عقله وضميره فكانت ثورته الجامحة على الدراسات الميتة والأعمال البليدة والكهانات الفارغة سببا فى شططه الذى نبهنا إليه. والعلة الأولى فى شرود هذا الكتاب عن النهج الحق هو انهيار هذه الجبهة التى تزعم العمل للإسلام وهى تغرى الناس بالكفر. ونحن إذ ننقد ما كتبه الأستاذ خالد عن " الدين والكهانة " مضطرون تعقب طائفة من التصرفات التى سببت فى اعتقادنا كتابة هذا الباب، ومخطئين الأستاذ خالدا نفسه فبما ربطه به من نتائج... لا حاجة إلى هذه النقول كما تستقدم الحكومة بعض الخبراء الأجانب لحل مشاكل لا تستعصى على النظر القريب، والجهد اليسيرـ لو صدقت النيات ـ استقدم الأستاذ خالد طائفة من الخبراء الأجانب للاسترشاد بآرائهم فى موضوعات طال البحث فيها، وسجل الأسلاف كما سجل الكتاب والسنة من قبل حكمهم عليها. والكلام فى "الكهانة والدين " لا يتجاوز هذه الحدود. فقد حمل الأستاذ خالد حملة شعواء على المتحرين بالدين، الذين يأكلون باسمه ويسيئون إليه أبلغ إساءة، والذين يظهرون للناس فى لبوسه وهم متجردون من فضائله وآدابه...! ونحن نؤيد الأستاذ فى هذه الحملة: ونعتقد أنه لو جاز لعلماء الإسلام ورجالاته أن يخلدوا للراحة والدعة فى عصر ما، فإن هذا العصر بما وفد به على الإسلام من مآس وهزائم يجعل السكوت منكرا والهدوء حراما ومطلب الجاه والترف جريمة.. حرام على الراح بعدك أوأرى دما بدم، يجرى على الأرض مائره! فلا ملك الباقى تراث الذى مضى ولا حملت ذاك الدعاء منابره! ص _099(1/94)
فكيف بمن يطلب التقدم فى أمم منكوبة، ويسعى إلى دعم أثرته فى شعوب مأكولة؟!،.. هذا هو الضلال المبين!! سمى الأستاذ خالد هؤلاء كهانا ثم راح ينقل عن "معالم التاريخ الإنسانية" للكاتب الإنجليزى "ويلز" أوصاف هذه الكهانة وأساليبها النابية فى المكر والاحتيال. ولا حاجة بنا كما قلنا لهذا النقل، ففى مصادر الشريعة وأقوال الأئمة تفصيل أوسع وإصابة أحكم... ولنذكر السنة الأولى لهؤلاء الكهان، إنهم كما يقول خالد يدعون (الناس إلى القناعة المقدسة. بيد أن الكهنة أنفسهم كد أعداء القناعة، وأسبق العالمين إلى اقتناص الغنائم والبحث عن المال والجاه). إنهم يملأون بطونهم بالمطاعم ويقولون للناس "جوعوا تصحوا" ويشيدون القصور ويشترون الأطيان ثم يحدثون الناس عن "الفقر المحبوب "!. لاشك أن النقمة على هؤلاء واجبة فهل تظن أمرهم خفى على حراس الإسلام من قديم؟! إن مواجهتهم بالنقد والتجريح لا يكاد يخلو منها عصر. يا واعظ الناس قد أصبحت متهما إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها تعيب دنيا وناسا راغبين لها وأنت أكثر منهم رغبة فيها!! وكان يحيى بن معاذ الرازى يقول لعلماء الدنيا: " بيوتكم كسروية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية فأين الشريعة المحمدية "؟!. وأين ما نقله خالد عن " ويلز " فى هذا المعنى من قول النبى عليه الصلاة والسلام: سيكون فى آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل. وقلوبهم قلوب الذئاب يقول الله تعالى: " أبى تغترون، أم على تجترئون؟!، فبى حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران " ولسنا بصدد استقصاء النصوص فى هذه الموضوع، فإن هذا يخرج بنا عن غرضنا ولكنا نلفت النظر إلى أن الإسلام فى هذا العصر بحاجة إلى رجال يدفعون عنة ويبذلون له ويقدمون أنفسهم وأموالهم فى سبيله.. ص _100(1/95)
وإنى أشهد مع الشيخ خالد أن الرجال الذين يمثلون الجيش المدافع عن الإسلام فى جبهته المترامية لا يشرفون دينهم ولا يشرفون أنفسهم!!، وهذا أهون ما يقال فى وصفهم، إذ كيف تستقيم عبادة الله وعبادة المال؟!. وكيف تستقيم سنة الجهاد مع شدة الحرص على تمتيع النفس والأولاد؟! ولكن العقول التى التوت فيها حقائق الدنيا والآخرة اجتمعت فيها هذه الأضداد، ومن ثم رأينا رؤساء " للجمعيات " الدينية وشيوخا فى الأزهر الشريف يسمنون والإسلام مهول، ويستريحون وشعوبه عانية !. وقد اتخذ هؤلاء الناس طرقا للفرار من تكاليف الإسلام الصحيحة أدق وأخفى من الطرق التى يسلكها مهربو المخدرات خوفا من رجال الأمن!. فهذه جمعية تكتفى بالعبادات الشخصية، فإذا حاولت إقحامها فى الفروض الاجتماعية والقضايا العامة قال لك رجالها: نحن لا نشتغل بالسياسة!!. وكان من أثر هذا الفهم أن فلسطين سقطت فى أيدى اليهود، دون أن يبذل لها هؤلاء الصوامون القوامون جهدا ألبتة!!. وهذه جمعية تحارب عبادة القبور وتقليد المذاهب. وتتشبع بمذهب نبذ البدع.. وعشق السلفية فإذا سألتهم عن الرأى فى عبادة الأحياء والخضوع لطواغيت الحكم.. سكتوا.!! مع أن حكومة هذه البلاد تعلن مناهضتها للفساد. وقطاع الطريق ثم تتولى هى الأخذ دونهم، كما تقاتل الشركات الكبرى المحلات الصغيرة لتحتكر السوق وحدها!!. وكم من مجاوز ومباذل فعلوها، سكت عنها دعاة التوحيد! سكوت المقابر. وهذه جمعية اتخذت لها عنوانا من النشاط الاجتماعى البراق، وهدمت العبادات الشخصية أو غضت من قيمتها مع أن هذه العبادات أعمدة الإسلام وضوابط الأخلاق، وحوافظ العقيدة . ص _101(1/96)
وهذه وهذه... كم يطول بنا السرد والتعليق على مناهج هذه المؤسسات وعلى إثراء أصحابها وتوطيد مكانتهم فى المجتمع على حساب الدين. أما شيوخ الأزهر فترى كثيرا منهم لم يترك منصبه حتى أثرى منه ثراء واسعا، وكان منهم من يفخر بأنه امتداد لمحمد عبده- ومحمد عبده كما تعلم امتداد لجمال الدين - ولكن هيهات..!. أما جمال الدين فقد ظل يصارع الطواغيت حتى صرعوه! وأشبه الناس به فى رؤساء الجماعات الإسلامية الشهيد حسن البنا. إن بين القاعدين شبها مشتركا بين الاطمئنان إلى الدنيا والأمن والنفس والنفيس، وبين المجاهدين شبها مشتركا فيما يقع عليهم من ترويع وما يصيب الهم من ذعر. وقديما قال الشاعر عقب موقعة كربلاء. بنات يزيد فى القصور مصونة وبنت رسول الله فى الفلوات! أن المصلح لا يتملق المجتمع، ولا يترضى الناس، ولا يكترث للأوضاع العتيدة، فإن وظيفته تقوم على المحو والإثبات فيما يرى ويسمع حسبما تملى به قواعد الشرع. وإن المصلح لا يحرص على المال، ولا يجرى وراءه، ولا يغريه بريقه فهو قد يكلف- لو ورث مال قارون- أن ينفقه لإنجاح دعوته، وإبلاغ رسالته. وأى رجل يعمل للإسلام وهو خارج على هذين المبدأين فهو فاشل البتة. ولذلك يقول الرسول العظيم: " ما ذئبان جائعان أرسلا فى غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف فى دينه " ، يعنى بالشرف حب الوجاهة والظهور. ونحن نقول لمن يعملون على إنهاض الإسلام من عثرته: إن الرسول قد رسم لنا طريق الجهاد، وإن شارات الكهانة- كما يقول الأستاذ خالد- أبعد ما تكون عن هذا النهج النظيف. ص _102(1/97)
علماء الدين ورجال الحكم عندما يكون الحكم إسلاميا لحما ودما وتكون السلطة القائمة أداة لتقرير الحق وتحقيق الخير، وعندما ينظر الشعب إلى رجاله على أنهم منه وإليه، شرفهم بثقته ومنحهم حبه، وقاموا فيه خداما لمصلحته، وحراسا لشريعته، عندئذ لا يتصور فى الصلة بين الحاكم والمحكوم إلا الإخلاص العميق والتأييد المكين. وارتفاع العلاقات بين الحكومة والشعب إلى هذه الدرجة من السمو قد يستغرب فى العالم الشرقى اليوم حيث يعيش كبراؤه وراء حصون وأبراج..! فإذا علمت أن الأمراء- فى إنجلترا مثلا- يقفون فى الصفوف أمام محلات التموين لا تحرسهم إلا قلوب الرعية! أدركت طرفا من الصلة التى ينشدها الإسلام بين الحكومة والأمة، تلك الصلة التى تقررت أيام الخلافة الراشدة الأولى قبلما يتحول الأمر إلى ملك عضوض. كأنما كان الحاكم والدا وأفراد الشعب أبناؤه. وفى آداب هذه الصلة الموثقة يقول النبى صلى الله عليه وسلم: " إن من إجلال الله إكرام ذى الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالى فيه ولا الجافى عنه، وإكرام ذى السلطان المقسط " . وقال: " ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق: ذو الشيبة فى الإسلام، وذو العلم، إمام مقسط " . فانظر أين يضع الإسلام الحاكم العادل وكيف يجعل محبته وموالاته من الدين، بل لقد اعتبر المشى إليه لتكريمه عبادة، وسلكه بين أفضل القربات إلى الله. فعن معاذ بن جبل: " عهد إلينا رسول الله فى خمس. من فعل واحدة منهن كان ضامنا على الله تعالى: من عاد مريضا، أو خرج من جنازة، أو خرج غازيا ص _103(1/98)
فى سبيل الله، أو دخل على إمام يريد بذلك تعزيزه وتوقيره، أو قعد فى بيته فسلم وسلم الناس منه " . فلنطو هذه الصفحة من تاريخ الحكم فى الإسلام وآدابه! ولننظر مرغمين إلى الناحية المقابلة عندما يكون الحكم سيئا، والولاة قاسطين لا مقسطين. * * * إن العلماء- قبل جمهور المسلمين- يجب أن يكونوا صوت المعارضة الداوى وسوط الإنذار الكاوى، ولسان النقد الذى يكشف الريبة ويفضح الخطيئة والذى لا يجعل لحاكم كرامة إن جافى الحق وافتات على الأمة وتلاعب بالإسلام، فإذا فرط العلماء فى ذلك فليسوا من الله فى شىء..! قال سعيد بن المسيب " إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحذروا منه فإنه لص "!. وتأمل ما قاله الإمام أبو حامد الغزالى مرشدا العالم المسلم إلى الموقف الذى يلتزمه بإزاء الحكام المجرمين. ".. ومنها أن يكون مستقصيا عن السلاطين فلا يدخل عليهم ألبتة ما دام يجد إلى الفرار عنهم سبيلا، بل ينبغى أن يحترز عن مخالطتهم فإن جاءوا إليه فإن الدنيا حلوة خضرة وزمامها بأيدى السلاطين، والخالط لهم لايخلو عن تكلف فى طلب مرضاتهم واستمالة قلوبهم مع أنهم ظلمة!. ويجب على كل متدين الإنكار عليهم وتضييق صدورهم وتقبيح فعلهم ثم إن الداخل على هؤلاء الملوك إما أن يلتفت إلى تجملهم فيزدرى نعمة الله عليه! أو يسكت عن الإنكار عليهم فيكون مداهنا لهم! أو يتكلف فى أسلوبه كلاما لمرضاتهم وتحسين حالهم، وذلك هو البهت الصريح، أو يطمع فى أن ينال من دنياهم. وذلك هو السحت!. ص _104(1/99)
وعلى الجملة فمخالطتهم مفتاح للشرور، وعلماء الآخرة طريقهم الاحتياط وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم "من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن " . وقال: "سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ومن رضى وتابع أبعده الله تعالى " . وقال مكحول الدمشقى: "من تعلم القرآن، وتفقه فى الدين، ثم صحب السلطان تملقا إليه وطعما فيما لديه خاض فى بحر من نار جهنم بعدد خطاه". وسئل سعد بن أبى وقاص- وقد تأخرت به سنه حتى رأى ملك معاوية- فقال له بنوه: "يأتى الملوك من ليس مثلك فى الصحبة والإسلام فهلا ذهبت؟ فقال لهم: يا بنى آتى جيفة قد أحاط بها قوم؟! والله ما حييت لا أشاركهم فيها. قالوا يا أبانا إذن نهلك هزالا! قال. يابنى لأن أموت مؤمنا مهزولا أحب إلي من أن أموت منافقا سمينا "!. * * * ومسحة الصدق تتألق على هذا الكلام الخاص النزيه. وهو علاج لا ريب فيه لأولئك الوصوليين الذين يتأكلون بالدين ويبيعون للشيطان ضمائرهم، ثم إن كلام "ويلز" إلى جانبه لا يساوى شيئا. وقد يكون هذا الأديب الإنجليزي راسخ القدم فى طائفة من الفنون والأبحاث، لكن كلامه فى المشاكل الإسلامية بالنسبة إلى كلام الغزالى يشبه كلام الرجل العادى بالنسبة إلى الأخصائى العريق. وإليك ما نقله عنه خالد نكتفى بمقتطفات منه حتى لا يطول اقتباس ما لا جدوى ".. كان الكهنة يلقنون الناس أن الأرض التى يزرعونها ويدأبون فيها ليست ص _105(1/100)
لهم. وإنما هى للآلهة التى فى المعابد وقد يهبها الآلهة للحكام، ويهبها الحكام لمن يشاءون من خدمهم وموظفيهم... " ثم قال "ويلز ".. وفى مصر كانت المعابد أو فرعون "الرب " أو النبلاء يتلقون إيجار الأرض. وانحط الرجل العادى إلى حال تقليدية مزمنة من التبعية والخضوع، وكان الفاتحون حريصين أن يضعوا أيديهم فى أيدى كهنة الشعوب والمدائن التى يبتغون طاعتها، حتى لا يكون لسواد الناس من الأمر ولا من الحياة ولا من الأرض شىء ثم ماذا؟ ينتقل الشيخ خالد بعد سرد هذه النصوص التاريخية الرائعة ! إلى وصف حال المسلمين حكاما وعلماء ليعالج بهذا الدواء السكسونى ظلم الولاة وسكوت المسئولين من المرشدين والدعاة فيقول: "هذه تعاليم الكهانة منذ آلاف السنين فهل تغيرت الآن ولو قليلا؟. إن رجل الشارع الكادح الدءوب لا يزال فريسة هذه الكهانة التى تدعو إلى الرضا والتسليم، ويتفاوت تأثيرها حسب تفاوت الوعى بين ضحاياها، ففى اليمن مثلا ترى الكهانة صورة طبق الأصل لتلك التى حدثنا عنها " ويلز ". ولقد حدثنى صحافى زار اليمن إبان حوادثها الأخيرة بأن أكثر ما راعه هو نسبة كل شيء لملك اليمن (الإمام) فيشير الرجل إلى بعيره قائلا: هذا بعير الإمام!! وإلى حماره قائلا: هذا حمار الإمام، وبئر الإمام، وأرض الإمام، وغنم الإمام... الخ وهكذا تعمل الكهانة على إذابة شخصية الأمة وتهوى بها إلى درك سحيق من الذل والخضوع كيما تسلس قيادها وتسير من ورائها مرتلة: يا عمرو أنت إمامنا وخليفة النفر الأوائل تلك هى شرعتها قبل 3000 سنة من الميلاد، وهى مدفوعة اليوم وكل يوم لالتزام هذا المنهج. والكهنة المعاصرون قادرون بعد أن يقرأوا ما كتبه "ويلز" أن يضعوا أيديهم على الحوافز الشريرة التى تدفعهم لاقتراف الآثام " ونحن نعرف معرفة اليقين أن فى الشرق الإسلامى حكومات سفيهة باغية!. وكذلك نعرف أن هناك فريقا من العلماء باع دينه بدنياه، ومشى فى ركابهم يأكل من موائدهم ويحيا(1/101)
فى ظلالهم ! . ص _106
يبد أن تطبيق آراء "ويلز" على هذه الحالة قياس مع فوارق بعيدة. واستيراد الأحكام التى تكشف المحن وتمحق الضلالة وتشفى العلة فى متناول اليد. والأمر لا يحتاج إلى تاريخ وفلسفة وخرافة. فإن المبادئ الأولى فى الإسلام فيها غناء، غير أن العبرة بتطبيق الأحكام لا بتصورها المجرد. إن اليمن التى استشهد بحالتها خالد قامت فيها ثورة، قال مشعلوها عنها إنها تحطيم للمظالم وتحقيق للعدالة ومحو لاستبداد الفرد بالأمة وإثبات لحق الجماهير فى أن تحيا كما خلقها الله طليقة لا رقيقا. وقتل فى هذه الثورة إمام اليمن الذى يعتبر هناك ملك الآبار والأغنام وكل ما خلق الله. ولم يكن الثوار يعرفون عن "ويلز" هذا شيئا. بل كانوا يستظهرون بالإسلام فى ثورتهم . ولو نجح ثوار اليمن كما نجح ثوار فرنسا فى القرن الماضى لكان لهم ولليمن شأن آخر. والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهى ولأم المخطىء الهبل الكهانة والإسلام إذا كان الشيخ خالد يريد- بإطلاق اسم الكهان على العلماء المفرطين فى دينهم- أن يشفى غليلا فلا عليه أن ينعتهم بما شاء. ومن دعا الناس إلى ذمّه ذموه بالحق وبالباطل لكن الخطأ الكبير أنه توسع فى مدلول هذه الكهانة حتى جعل الإسلام كالمسيحية وحتى جعل المسجد كالكنيسة!. ومضى فى خطته حتى جعل تاريخ الدينين واحدا، ثم تورط فيما اقترح من إصلاحات- بناء على ذلك- فخرج عن طبيعة المسلم الذى يعرف فضل دينه وغناه بمواد البناء وأسباب البقاء- وبلغ به الشرود فى تلك المتاهة التى سلكها أن جاء من عند نفسه ببرنامج لإصلاح المسجد والكنيسة معا!!. ص _107(1/102)
وسنتحدث عن هذه السقطة الجسيمة عند انتهاء الكلام إليها. والذى نلفت إليه الأنظار الآن أن الكهانة صفة رسمية فى أديان أخرى كالبوذية والبرهمية، ولقب لا غبار عليه بالنسبة إلى رجال الدين المسيحى الذى تقوم تقاليده للآن على جعل رجال الكهنوت همزة الوصل بين الناس والمعبد، وعلى تكليفهم بأداء طقوس معينة فى الأفراح والأحزان، والأمور العامة والخاصة. أما الإسلام فبريء من كل دلالة دانية أو قاصية لهذا الاسم. وإطلاقه على أى طائفة من المسلمين لا يعدو أن يكون اتهاما فى يقينها وصلاحها، وتشبيها لمسلكها بمسلك أصحاب الملل الفاسدة والنحل الشاردة. ورمى بعض العلماء به- كما فعل خالد- قد ينظر إليه على أنه تجوز فى التعبير، وإيغال فى الإهانة. أما أن يصل الأمر إلى اعتبار ذلك حقيقة علمية نتصيد لها الشواهد والدلائل فهذا لا معنى له، ومالا يقبل من أحد قط. ولقد شعرت بغضاضة شديدة، ودهشة عميقة عندما تكلم الأستاذ خالد عن الكهانة والعقل! فأراد أن يوهمنا بأن هناك كهانة شرقية إسلامية قد أعلنت الحرب على العقل البشرى، والتقدم العلمى!. وأنها أطفأت الأنوار على الإنسانية الساعية للحضارة والنهوض. وأنها أخفقت فى محاولتها الباطلة " كما- والكلام للأستاذ خالد- قد حاولت أخت لها من قبل؛ وهى الكهانة الغربية، محاولتها الخاسرة وأبطرها الظفر الذى أحرزته أول الكفاح واستمرأت لحوم العباقرة حتى دفعت الثمن أخيرا من حياتها وسار موكب العقل فى زحفه الميمون وسيظل يسير ". يا للدواهى ! أين هذه الكهانة الشرقية الإسلامية ذات البطش الرهيب بالعلم وعباقرته؟ !! . ص _108(1/103)
كهانة إسلامية هى أخت للكهانة المسيحية؟!. لاشك أن هذا التعبير يصلح عنوانا لقصة خيالية غير مضحكة وغير مسلية للأسف. إن الأيادى البيض التى أسلفها الإسلام وعلماؤه لحضارة العالم لايستطيع مؤمن ولا ملحد إنكارها. وإن القول بكهانة إسلامية خاصمت العقل البشرى ساعة من نهار، بله عصرا من الزمن قول باطل ممجوج!. وليس يصلح لتسويغ هذا الكلام أن الأستاذ خالد سمع من تلميذ له أن خطيبا بمسجد فى إحدى حارات القاهرة قال للمصلين يوم الجمعة- والعهدة على الأستاذ خالد وتلميذه:- "لعلكم تقرأون فى الصحف الكافرة أن العلماء سيتصلون بالقمر، وأن المريخ كوكب عامر بالناس. هذا كفر، فالقمر ليس غير كوكب منير والشمس كذلك، والأرض تدور" . أفمثل هذا الهذيان الفارغ يسوغ لمؤلف أن يذكره، وأن يستنتج منه هذه النتائج الغريبة؟!. وهل يصح للأستاذ أن يكتب تحت عنوان: "الكهانة تتوسل بالمسجد والمنبر لتقويض المجتمع " (إن الكهانة تحارب العقل لأنه يرى الناس عوراتها ويبدى لهم سوءاتها، ويعمل جادا لفض سوقها.. إلخ). لقد اشتغلت أنا بنفسي بالمسجد إماما ومفتشا نحو عشرة أعوام وأعلم أن الشيخ خالد اشتغل واعظا بالجمعية الشرعية عدد سنين فما شعرنا للكهانة الشرقية المزعومة بسياسة جامدة تقيدنا. بل على العكس لا يوجد فى الدولة رجال مطلقو السراح فى أسلوب الدعوة والإرشاد كالعلماء . ص _109(1/104)
وإنما يتفاوتون بمواهبهم ودراستهم ومدى حرارتهم وإخلاصهم. ثم لنفرض جدلا أن هناك كثيرين من أمثال خطيب القمر والمريخ الذى ذكره لنا خالد! بل لنفرض أن خطباء مصر أجهل من خطباء نجد واليمن!. بل لنفرض أن رجال الجمعية الشرعية- حيث كان يعمل الشيخ خالد- شنقوا سرا أحد علماء الذزة المصريين!. فهل هذه الوقائع المتخيلة تبيح لنا القول بأن هناك كهانة إسلامية تعد أختا للكهانة المسيحية؟!. هذه الكهانة التى ظلت عصورا متطاولة تنشر الذعر والإرهاب فى ميدان الفكر، وتنشب أظافرها المتوحشة فى أعناق العلماء والمخترعين، وتسن التشريعات وتقيم المحاكم التى تجعل من الجهل قوة مهيبة، ومن العقل جريمة منكرة محذورة ؟ شتان شتان لا يختلف فى هذا اثنان...!! * * * ص _110(1/105)
السقطة الكبيرة لقائل من الناس أن يذكرنا بأن صاحب (من هنا نبدأ) أراد أن يجسم عورات الملتصقين بالإسلام، والإسلام منهم برئ. وأن الفصل الذى عقده للدين والكهانة يدور على محاربة الجهل والخداع والاستغلال، وهذا ما يتفق مع روح الإسلام ونصوصه. ونحن نقول: إننا نحارب التدين الباطل بالتدين الصحيح، ونحارب الكهانة المنافقة بالإسلام الحق، ونختبر كل ما يجد فى الدنيا من أسماء وحقائق بما لدينا من كتاب وسنة، فما وافق مواريثنا المقدسة من كتاب الله وسنة رسوله قبلناه، وما جافاه نبذناه ولا كرامة!. والأستاذ حارب الكهانة- التى افترضها فى الإسلام المعاصر- بكهانة أخرى جاء بها من عند نفسه. ذلك أن تشبعه بالروح القومية خيل إليه أن اليهودية والمسيحية والإسلام أديان متساوية، وأنها قد تصاب بمرض واحد فيوصف لها دواء واحد!!. والفكرة الوطنية فى العصر الحديث تقوم على جعل الأديان- سماويها ووثنيها- تحت وصياتها المشتركة. ومن ثم نسمع رئيس حزب مصرى يقول لأتباعه: اذهب إلى المسجد يوم الجمعة إن كنت مسلما، وإلى الكنيسة يوم الأحد إن كنت مسيحيا، وإلى المعبد يوم السبت إن كنت يهوديا!. والمقصود توجيه الأديان كلها- إلى ما فيه نفع الوطن- وتسخيرها على حد سواء فى تدعيم الناحية الروحية، أو توطيد الأمن العام. أما أن ينظر مثلا إلى الإسلام على أنه دين ذو رسالة عامة تسيطر على الأوطان والأجناس، فهذا امتداد خطر يعالج بالبتر كما يعالج نمو السرطان!. والشيخ خالد يميل إلى هذا الاتجاه. بل إنه يعتنق العصبية القومية المطلقة فى الحكم وغيره، ولا يفاوت بين دين ودين. ص _111(1/106)
ولو أنه حارب الكهانة لوجه الله ونصرة الإسلام لما وجدنا بكلامه بأسا، ولتأولنا مبالغاته وافتراضاته على مابها من هزل. ولكنك تسمع إليه يقول: "أتراني نسيت الكنيسة؟. لا!. وكل هذه المقترحات التى أدعو إلى تنقيذها بالنسبة إلى المسجد لابد أن تنتظم الكنيسة أيضا فيؤلف من رجالها الراشدين (كذا) من يشرفون على توجيه رسالتها توجيها يخلق الشعب الذى يحيا بالدين ولا يموت. ولكى تثمر هذه الخطة ثمرتها فلابد من الدعاية الواسعة النطاق عن طريق الإذاعة والمسرح الشعبى (!) وإقامة مسابقات أدبية ذات جوائز مغرية للمؤلفين الذين يصوغون تعاليم الدين صياغة تنزع بالناس إلى تمجيد الدين والحياة.. ". أى دين هذا الذى يراد حمل الناس على تمجيده؟!! إنه ليس المذكور فى قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون) إنه أعم من ذلك وأوسع دائرة، فهل يشمل ما تواضع الناس على تسميته دينا فحسب؟! ومن ثم جعل الأستاذ خالد من حقه أن يرسم برنامجا لإصلاح الكنيسة والمسجد معا عن طريق الإذاعة والمسرح مالك وللكنيسة يا أستاذ خالد؟! إن كنت تريد إصلاحها فهل ستأتي بمؤذن يصرخ فوق سقفها بتوحيد الله؟! وإن كنت تبغي مصالحتها فلم ترسم للقوم ولم تقترح عليهم؟ وإن كنت تريد إصلاح المجتمع الإسلامى فهل يلتمس الإصلاح إلا من الرجوع بالمسلمين إلى المنابع المنقاة من فيوض الوحى الإلهى؟.. أى إلى الكتاب الكريم والسنة المطهرة، وإعلان حرب عشواء على المدجلين. والمخرفين ممن ضلوا هذا المنهج القويم. أما أن نلتمس خيرا للشرق الإسلامى المتعب من الجاهلية الحديثة التى خرجت علينا فى ظل النزعة القومية المجردة فأمل فى سراب. وهذه النزعة ليست إلا حركة التفاف يقوم بها الإلحاد، ليجتث بها جذور الإسلام من هذه البلاد. ص _112(1/107)
كلمة صريحة إننا نحب وطننا، فتلك غريزة الحيوان قبل الإنسان. ولكننا لا نبيع ديننا بملك المشرق والمغرب. وديننا هذا الذى نفتديه بكل ما نحب. له سياسة تشريعية معينة، وسياسة. اقتصادية معينة، وسياسة عالمية معينة. وله فى البيت والأسرة والشارع سياسة اجتماعية معينة. ومن السفالة أن يطالبنا مخلوق بتعطيل هذه التعليمات جميعا باسم القومية أو الشيوعية أو الديمقراطية أو أى اسم آخر لا نعرفه، لأن معنى ذلك أنه يطالبنا بالارتداد والكفر. "والإسلامية" التى نؤمن بها ونعمل لها ترفع شأن الوطن، وتضمن لكل فرد يعيش تحت سمائه حياة زاخرة بالبر والعدالة والمساواة، وإن اختلفت الملل وتباينت النحل. ثم إن حالة الشرق الآن وحاجة العرب بالذات أكثر تطلبا لإقامة النهضة على أساس إسلامي وصريح، وبخاصة بعد الكوراث المتلاحقة التى أصابت البلاد والعباد فى كل ميدان. وما دام الإسلام يعطى أبناء الديانات الأخرى ما لأبنائه من حقوق، ويفرض عليهم ما على أبنائه من واجبات، ولا يتعرض لعقائدهم التى آثروها برد ولا نقد، فإن ما يسمى "مشكلة الأقليات " ليس إلا مكرا استعماريا خبيثا يراد به الكيد للمسلمين خاصة، وتسويغ الجور عليهم واحتلال بلادهم !!. وهذا يجعلنا نضاعف اليقظة والجهاد حتى نصل إلى نصر حاسم للإسلام وأنظمته وأهد ا فه. إن الاتجاه القومى الحديث منذ نشأته فى أوروبا، ومنذ اعتبر أساسا للتنظيم الدولى ، لم يكن ينظر للأديان عموما إلا على أنها ضرورات يحسن التمشى معها إلى ص _113(1/108)
حد غير بعيد وعند نقل هذا الاتجاه إلى الشرق الإسلامى شابته عناصر كثيرة من الإلحاد السافر والتقليد الأعمى. وكان المسلمون على حال من الضعف والرخاوة جعل مقاومتهم لهذا الانقلاب فاترة كليلة الجهد. وقد يكون غيرنا رحب به وهش له، لا لشىء إلا لأن هذا الاتجاه يمكن استغلاله استغلالا واسع النطاق فى هدم شرائع الإسلام وتعليمه! وذاك ما حدث فعلا. فإن الإسلام من حيث هو جنسية عامة بين أتباعه فى قارات الأرض الخمس قد ضعف كثيرا على حين قويت القوميات الخاصة!. ثم إن الإسلام ضعف كذلك بوصفه قوة خلقية عاصمة من الدنايا والرذائل ولم يوجد شىء يغني غناءه فى رفع مستوى المسلمين الأدبي!.. هذا إلى أن الاستعمار الغربى حرص أشد الحرص على تحطيم الإسلام كعقيدة دينية ذات طابع عسكرى يتنادى المسلمون بها لرد العدوان ودفع الطغيان. كما أن أوروبا حرضت الأقليات على أن تطالب بحق الشريك المساوى فى العدد كأنهم النصف. أى أن الشخص الواحد يطلب لنفسه مثل أنصبة تسعة عشر شخصا. ولن تعدم الدولة المحتلة للبلاد الإسلامية أن تجد من يقوم بهذا التحدى المعيب! والعهد قريب بما كان يكتبه ولا يزال يكتبه "سلامه موسى" فى جريدة مصر الطائفية المعروفة من مقالات لا يستفيد منها إلا الإنكليز!. ونحن- إن نعجب- فلخفاء هذه الحقائق المريرة عن الأستاذ خالد، وانزلاقه إلى مجاراة هذا التيار الذى يحاول منذ قرن أن يجرف الإسلام. * * * ص _114(1/109)
موقف علماء الأزهر من هذه النزعة يحزننا أن نقول: إن الأزهر لم يبدأ حربه ضد هذه الحركة إلا مؤخرا، بعدما شعر رجاله بالأخطار الهائلة التى تهدد الإسلام فى صميمه. ونخشى أن يكونوا جاءوا بعد قيام القطار. لقد تركوا الشيطان يلقى غراسه فى الأرض ويتعهد نماءها فلما بدأت الثمار السامة تغص بها الحلوق وتتقزز منها النفوس تعالت صرخات الألم. وإليك مقتطفات من كتاب أرسلوه إلى رئيس الحكومة يبثونه شكواهم. "وان الناظر فى حال أمتنا العزيزة وما آل إليه أمر الدين والخلق فيها ليهوله ما يرى ويأخذه كثير من الحزن على حاضرها الذى صارت إليه، ويخالجه كثير من الإشفاق على مستقبلها الذى هى مقبلة عليه. فقد استهان الناس بأوامر الدين ونواهيه ، وجنحوا إلى ما يخالف تقاليد الإسلام، ودخل على كثير منهم ما لم يكن يعهد من أخلاق الإباحة والتحلل جريا وراء المدنية الزائفة، واغترارا ببريقها الخادع، وكثرت عوامل الإفساد والإغراء فى البلاد، ولاسيما أمام ناشئتها وفتيانها المرجوين للنهوض بها والأخذ بيدها فى حاضرها ومستقبلها فمن حفلات ماجنة خليعة يختلط فيها النساء بالرجال على صورة متهتكة جريئة تشرب فيها الخمر، ويرتكب فيها ما ينافى المروءة والخلق الكريم، إلى أندية يباح فيها القمار، ويكسب على موائدها الذهب وتبتز فيها الأموال، وتزلزل بسببها البيوت والكرامات ، إلى ملاعب للسباق والمراهنات تنطوى على ألوان من الفساد دى إضاعة المال، إلى مسابقات للجمال إنما هى معارض للفسوق والإثم يرتكب فيها ما يندى له جبين الدين والخلق والمروءة، ويباح فيها من المحرمات أكبرها وأخطرها، إلى شواطئ فى الصيف يخلع فيها العذار ويطغى فيها الأشرار، إلى أخبار ذلك كله تذكر وتنشر وتوصف وتصور وتستثار بها كوامن من الشهوات والغرائز فى غير تورع ولا حياء إلى كثير من ألوان المنكرات وفنون الموبقات. ص _115(1/110)
كل هذا يحدث فى البلاد، ويعمل عمله المتواصل فى أخلاقنا وتقاليدنا حتى اشتد الخطب، وجل الأمر، وأصبح فى حاجة إلى علاج سريع. لقد أورثتنا المدنية الأوروبية وما وفد علينا من وافدات الرذيلة والإباحية وما غزينا به فى أخلاقنا وتقاليدنا الكريمة- أورثنا كل ذلك- عرفا فاسد، وذوقا مريضا ومجتمعا صار ينظر إلى هذه المفاسد نظرته إلى شىء مألوف فلا يكاد ينكرها فضلا عن أن يغيرها بل أصبح يراها- إلا قليلا ممن عصم الله- آية من آيات التقدم وعلامة على النهوض والرقى، ورضيت بها القوانين، بل حمتها ونظمتها، وجبت من كسبها الحرام الضرائب والرسوم كما تجيبها من الأعمال المشروعة والمكاسب الشريفة. ألا وان أكبر الفساد بعد الوقوع فى الفساد أن يرى الغى فيه رشادا والضلال هدى، فإنه حينئذ دليل على تأصل جراثيمه وتمكنها من القلوب، وصيرورة الأمة إلى الزمان الذى يرى فيه المعروف منكر والمنكر معروفا والقبيح حسنا والحسن قبيحا. وان لنا فى بعض الأمم الحاضرة لعبرة إذ أفسدها الترف وفت فى عضدها الانحلال فسقطت يوم الجهاد أمام أعدائها ولم تطق صبرا على ما أصابها من بأسهم وقوة شكيمتهم، وقد نادى بذلك قادتها وولاة أمرها، ولكن بعد فوات الأوان، وتلاوموا عليه ولكن بعد أن فاتتهم الفرصة فأصبحوا على ما فعلوا نادمين ". * * * وسوف تسأل: ماذا حدث بعد هذه الشكاية ؟ ، والجواب العاجل لم يحدث شئ، ولن يحدث شئ !. لقد قوبل مبلغوها بانحناءة تنطوى على التوقير والإجلال حتى إذا أداروا أكتافهم وتواروا عن الأنظار ألقيت- بقلة اكتراث- فى أقرب درج ولا نقول أكثر من ذلك. إنك تطلب من سدنة الأوثان أن يكسروها فوق رءوسهم أنقاضا. وكل ما شكا منه السادة من كبار العلماء لا يزال باقيا، بل إنه يزيد.! * * * ص _116(1/111)
التحرر من الخوف والطمع والاتجاه إلى الشعب والطريقة المثلى للإصلاح ليست هذا الوعظ المكتوب أو المخطوب فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يلجأ إلى الوعظ إلا لماما، وبقدر ما يعينه على وظيفته الأولى- وهى التربية وإعداد النفوس بالعمل الرتيب، والخلق القويم، والأسوة الحسنة- ومن ثم كان يتخول أصحابه بالنصيحة مخافة السآمة عليهم. وانظروا قول ابن عباس لعكرمة "حدث الناس مرة فى الجمعة، فإن أبيت فمرتين، دهان كثرت فثلاث، ولا تمل الناس هذا القرآن! ولا ألفينك تأتى القوم وهم فى الحديث من حديثهم فتقص عليهم- قصص الدين- فتقطع عليهم حديثهم فتملهم ولكن أنصت فإن أمروك فحدثهم وهم يشتهونه ". ولذلك نؤكد هنا أن محاولة العلماء خدمة الدين عن طريق الكلام الكثير خطة تسئ إلى الدين ويسيئون بها إلى أنفسهم. والواجب أن يعنوا بالتنظيمات الشعبية، وتأليف الجماعات التى تتعارف على العبادة، وتتعاون على الخير، وتتواصى بالحق، وتتربص للعدو، وتستعد للجهاد. وهذا المسلك يتقاضى العلماء أن يحددوا مسلكهم من الحكومة وأن يهاجموها إذا تهجمت على الدين. وبالحرى أن يبصروا الأمة بحقيقتها إذا كانت المبادئ التى قامت عليها منافية للدين نفسه. إن فساد الحكم فى الشرق داء قديم، وعبء العلماء فى محاربته ثقيل. فإذا فسد الحكام فعلى العلماء ألا يكتفوا بالإنكار القلبى..! وإلا صاروا وعامة الناس سواء. وخانوا الأمانة التى حملوها، وخاسوا بالميثاق الذى عقدوه. ص _117(1/112)
والحديث المشهور "صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء" . أما الذين يتملقون الظلمة ويترضونهم ابتغاء سلطة زائلة، أو منصب تافه أو متاع قليل، فأولئك ليسوا بعلماء. بل هم شرار الخلق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه " . وقال: "يكون آخر الزمان عباد جهال وعلماء فساق " . وقال " من طلب الدنيا بعمل الآخرة طمس وجهه، ومحق ذكره، وأثبت اسمه فى النار" . وقد نكب الإسلام بعدد كبير من هؤلاء، وإنها لفتنة لا ندرى بم ينتهى أمر الناس معها. أسمعت إلى نبى ذهب- قبل أن يدعو الناس إلى التوحيد- إلى مقر الأصنام ليقدم لها الولاء ويستأذنها فى الدعوة إلى الله؟ ! إن ذاك مثل الذين يريدون خدمة الإسلام فيفكرون قبل كل شئ فى أقرب الطرق إلى قلب الحاكم لترضيه وتوقيره...!! تحرروا أيها الناس من الطمع فى المناصب، والخوف من الحكام!، وإلا فلن تبلغوا رسالة الله. * * * ص _118
بين الهلال والصليب "ستفتحون مصر - وهي أرض يسمى فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا ، فإن لهم ذمة ورحما". "حديث شريف " ص _119(1/113)
لعلك تلحظ فى يسر- وأنت تطالع القرآن الكريم- أن تعاليم الأديان واحدة، وأن كلمة "الإسلام " ربما كانت جديدة على أسماع الناس فى العهد الأول للبعثة العامة، ولكن القرآن أكد أن هذه الكلمة قديمة قدم النبوة، وأن المرسلين السابقين من لدن الحق- تبارك وتعالى- كانوا يؤدون الرسالة نفسها التى قام محمد بأعبائها، بل كانوا يؤدونها تحت العنوان نفسه " الإسلام " الحنيف!. والفروق الطفيفة فى التشريعات الفرعية لا تخدش هذا الأصل العتيد. ثم إن حقائق العلم الواحد قد يدرسها للطلاب عدد من المدرسين المتفاوتى الكفاية والمقدرة فتخرج من فم أحدهم أوضح وأبلغ من الآخر. ولذلك اختلفت درجات الأنبياء وإن اتفقت تعاليمهم. (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس). وربما كان السر فى عظمة محمد وامتيازه على غيره من الدعاة إلى الله، أن أحدا من المرسلين الأولين لم يبلغ مبلغه فى تمهيد طريق الحق، وربط الناس به على ضوء من العقل الحر والعاطفة الحارة. ومن أرسل بصره فى مجالى سيرته الزاكية لمح عملاقا فارعا يطمس آثار الجاهلية فى جلادة وحزم، ويفتح الآفاق على حضارة جديدة أعلت قدر الإنسان ووثقت صلته بالله الواحد الديان. وليس هنا موضع الكلام عن صاحب الرسالة العظمى، بيد أننا نذكر من قرآنه ما يشرح لنا معالم الوحدة التى تجعل الأنبياء صفا واحدا يسعى إلى غاية مشتركة، فنوح يقول : (إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) إلى أن يقول (وأمرت أن أكون من المسلمين) وفى إبراهيم يقول : (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين). ! ص _120(1/114)
وفى يعقوب- الملقب بإسرائيل، والذى تحاول الصهيونية الحديثة أن تنتسب له- يقول: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) وفى موسى حين يعلم قومه مقاومة الظلم ومصايرة الأحداث السود (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) وفى سليمان حين يدعو ملكة سبأ لعبادة الله ونبذ عبادة الكواكب. (قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين)، وقول ملكة سبأ بعد ذلك (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين). ويوسف لما شرفه الله بالنبوة والملك وساق إليه مجد الدنيا والآخرة. يقول : (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ). وفى عيسى الذى أحسن عبادة ربه وبذل جهده كله ليقود الناس إلى الله ويطهر نفوسهم من أدران الهوى والشرك، فإذا السفهاء يتنكرون له ويحاولون الاعتداء عليه (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون). والآيات التى تشير إلى وحدة الأديان فى الموضوع والعنوان كثيرة (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك). وتبعا لهذا كانت عواطف المسلمين تتجه إلى اليهود والنصارى على أن الكل إخوة، بل كان إحساس المسلمين بأواصر القربى بينهم وبين أهل الكتب الأولى إحساسا ظاهرا صادقا. ويبدو هذا بالنسبة إلى النصارى فى حادثتين نقصهما عليك. لما اشتد ضغط الوثنية المخرفة على المسلمين فى مكة أشار النبى صلى الله عليه وسلم ص _121(1/115)
على أصحابه المضطهدين أن يلجأوا إلى الحبشة. ورأى فى جوار ملكها المسيحى عاصما من الفتنة وأمانا. وقد حاولت قريش أن توغر نصارى الحبشة على المسلمين الفارين بدينهم إليها. وتوسلت إلى ذلك بأن المسلمين لا يرون فى عيسى وأمه معنى الألوهية الذى يلحظه الأحباش فيهما، ولكن النجاشى استمع إلى حديث القرآن عن مريم وميلاد عيسى، وخلب لبه فيض التمجيد والكرامة الذى يغمر به الإسلام قصة الميلاد. ثم أبى أن يقصى المسلمين عن جواره. وفى الوقت الذى كانت أفئدة المشركين تهوى فيه إلى مجوس فارس، كان المسلمون يعطفون على نصارى الروم ويتمنون لهم الخير، وقد حزنوا أشد الحزن لما هزم الفارسيون الجيوش المسيحية. بل كان حزنهم مثار شماتة من جانب العرب المشركين حتى طمأنهم النبى صلوات الله وسلامه إلى أن المجوسية ستنكسر، وأن المسيحية ستنتصر (الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) وكما أمل المسلمون فى مطالع تاريخهم أن يلقوا الخير عند النصارى تطلعوا إليه عند اليهود. فما كادوا يهاجرون إلى المدينة حتى سارعوا إلى عقد حلف معهم يقوم على تأمين الحقوق ودفع العدوان. بل إن عواطف المحبة وسلامة الصدر جعلت المسلمين يتوقعون من اليهود أن ينصروا دعوة التوحيد أو على الأقل يخلوا بينها وبين الوثنية فلا يتدخلون فى الصراع الذى نشب بينهما على الحياة والموت... لا يتدخلون إلى جانب عبدة الأصنام. انتظر أهل القرآن أن يسمعوا من أهل التوراة شهادة حسنة تقر الحق فى مجتمع طال عليه الأمد وهو لا يعرف ربه إلا أحجارا منحوتة (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب). ص _122(1/116)
ولكن الذى عنده علم الكتاب ضن بالكلمة المطلوبة: بل شهد أن الوثنية أفضل من دين محمد!!! الواقع أن المسلمين- كأصحاب المثل دائما- تطغى عليهم طيبة القلب وصفاء الطوية فينشدون السلامة ويحسنون الظن ثم يفجؤهم ما ليس فى الحسبان فيعلمون أنهم مهما أحبوا مكروهون. ومن ثم يقول الله لهم " ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم، وتؤمنون بالكتاب كله. وإذا لقوكم قالوا آمنا، ! إذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ". ومع ذلك التاريخ السابق.. فإننا نحب أن نمد أيدينا وأن نفتح آذاننا وقلوبنا إلى كل دعوة تؤاخى بين الأديان وتقرب بينها وتنتزع من قلوب أتباعها أسباب الشقاق. إننا نقبل مرحبين على كل وحدة توجه قوى المتدينين إلى البناء لا الهدم وتذكرهم بنسبهم السماوى الكريم، وتصرفهم إلى تكريس الجهود لمحاربة الإلحاد والفساد، وابتكارهم أفضل الوسائل لرد البشر إلى دائرة الوحى بعد ما كادوا يفلتون منها إلى الأبد. وهذه الوحدة المنشودة ليست مركبا كيماويا تذوب فيه العناصر المكونة له وتفنى خصائصها! فهذا مستحيل. ونحن لا نقبله ولا نفكر فيه!. بل ستبقى الأديان كما هى ، وسنستفيد الكثير من هذا التعاون. وفى حدوده الواسعة نحب أن نقرر ما يلى: أن ما يقدسه أتباع دين ما، لا يكره عليه أتباع دين آخر. فاليهود لا يرغمون على الإيمان بعيسى ، والنصارى لا يرغمون على الإيمان بمحمد. ومهما اعتبر المعتنقون لدين أن ما لديهم حق وأن ما لدى غيرهم باطل، فلا مجال لإقحام هذا فى ميدان الحياة العامة، واستغلاله فى إيقاع المظالم والاضطهادات... والأديان- من مصادرها الثابتة- تحترم هذه القاعدة كل الاحترام ومن الإنصاف- كذلك- ألا نكلف أتباع دين ما بأن ينزلوا عن تعليم من تعاليم كتابهم، أو وصية من وصايا نبيهم ليكون هذا التنازل عربون المودة لغيرهم، وإلا كان هذا التكليف معناه تغليب دين، ونصر أمة على أمة!.. ومحور التفاهم يدور على الاحترام المتبادل لا الاستهانة(1/117)
والهضم!! ص _123
فإذا اختلطت مذاهب شتى فى وطن واحد فإن تنسيق مصالحها كلها ليس بالأمر العسير. وضمان المصلحة المعقولة لأشياع كل نزعة دينية لا يهدم- بداهة- حق الكثرة فى إعلان سيادتها وتنفيذ برنامجها... وقواعد الديمقراطية الحديثة تقوم على هذا الأساس. ألا ترى حزب العمال فى إنجلترا يزيد خمسة أصوات فقط على حزب المحافظين، ومع هذه الأغلبية الضئيلة فقد انفرد بالحكم، وفرض نظمه الاشتراكية على البلاد جمعاء!. فإذا كانت مصر تضم كثرة مسلمة تبلغ أكثر من 90% فمن حق مسلميها يقينا فى نطاق من أسلفناه من قواعد أن يجعلوا الدولة فى مصر إسلامية لحما ودما. وإنه لمما يساعد على ذلك أن الإسلام كما رأيت يرى نفسه صدى الكتب الأولى، وامتدادا صحيحا مشرقا لتعاليم موسى وعيسى عليهما السلام. * * * هذه أسس نضعها لإقامة تعاون مشترك بين أهل الأديان السماوية ونحب أن نقول فى صراحة إن هناك أسسا أخرى لجمع المنتسبين إلى الأديان فى صعيد واحد وهذه الأسس معروفة بل مطبقة فعلا فى أكثر من قطر من أقطار العالم الرحب وهى تجمع بين اليهودى والنصرانى والمسلم على أنهم جميعا أخوة سواء... ولكن بعد أن تسلخهم جميعا من عقائدهم وتستوثق من نبذهم لرسالاتهم وشرائعهم. وأحرى بنا أن نسمى هذه "بالوحدة اللادينية"!. إن هناك يهودا لا يعرفون موسى ولا التوراة! هل قرأت الدعوة التى وجهها " آينشتين " إلى أخطر المؤتمرات العلمية يطالبها أن تحارب فكرة الألوهية وتنقى الأذهان من هذه الخرافة؟! ويعتبر النجاح- فى محاربة الله؟- أكبر كسب تحرزه الإنسانية (!). هل هذا يهودى ؟ وهل يسمع لمثله رأى فى التعاون بين أهل الدين؟! ص _124(1/118)
ثم ننزل من قمة العلم الطبيعى حيث يوجد هذا العالم الملحد ونهبط إلى السفح فنرى "محمد التابعى" المسلم- كما يقال- و "سلامة موسى" المسيحى- كما يقال فإذا كلا الشخصين يدعو بقوة وحماسة إلى إقرار البغاء وإباحة الزنا!! ولا عجب فلا هذا ولا ذاك يؤمن بالله أو يصدق باليوم الأخر!. وليكن هذان الشخصان من رجال الصحافة أو السياسة. ولكن كلامهما فى شئون الأديان لا يسمع إلا يوم يسمع رأى الشيطان فى شئون الوحى! ومع ذلك فالوقاحة تجعل " سلامة موسى " يكون عصابة من الشطار أو الغصار لترسم خطوط التعاون بين المسلمين والأقباط فى مصر! * * * إننا نستريح من صميم قلوبنا إلى قيام اتحاد بين الصليب والهلال، بيد أننا نريده تعاونا بين المؤمنين بعيسى ومحمد لا بين الكافرين بالمسيحية والإسلام جميعا. والذين يخوضون فى العلاقات بين عنصر الأمة المصرية- كما يصفونها- صنف من الناس لا نطمئن إلى تقواه، ولا إلى ابتغائه وجه الله! ومن فترة طويلة وعصابة "سلامة موسى" تعكر المياه لتصيد فيها وقد استهدفت لإثارة الضغائن بين المسلمين والأقباط. ا- هدم الإسلام بإعلان حرب متواصلة على شريعته، ومحاولة إرغام المسلمين على تركها ونسيان أحكامها. 2- هدم المسلمين أنفسهم بإغراء القلة القبطية أن تحكمهم وتستأثر دونهم بالنصيب الأكبر من المناصب والوظائف العامة. وسنسوق فى المقالات المقبلة الشواهد على هذه النيات الخبيثة من كلام العصابة التى يتزعمها حضرة سلامة موسى أفندى المسيحى ظاهرا، وذو الباطن الذى فضحته الأيام !! * * * ص _125(1/119)
إنها مؤامرة على الأديان كلها وإن كانت فى ظاهر الأمر حملة ضد الإسلام وحده، وردا لشعائره وشرائعه، وغضا من مكانته وجدواه على الناس والحياة. وعصابة "سلامة" فى كيدها لدين الله تتبع المبدأ المشهور فى الدعايات المهرجة الباطلة، مبدأ "اكذب ثم اكذب فسيقع فى أذهان الناس من هذا الكذب المتلاحق شىء ما". وقد دار محور كذبها فى الأيام الأخيرة على أن المسلمين أعداء للأقليات التى تعيش بينهم (!) وأن الكثرة المسلمة فى مصر تكن السوء لغيرها (كذا)!!. إن أربعة عشر قرنا مضت على ظهور الإسلام وعلى دخوله هذه البلاد لتحشد الأحياء والأموات صفوفا صفوفا تصفع هؤلاء الدجالين وترد فى حلوقهم... فإن الأقليات الدينية لم تسم سوء العذاب إلا فى "أوروبا" المتعصبة المتوحشة. لقد عاش اليهود بيننا قرونا متطاولة فما وقع عليهم ضيم، ولا غصب منهم درهم، ولا استبيحت لهم حرمة! فى الوقت الذى كان اليهود فى أوروبا يذبحون فيه ويحرقون. وكانت الحكومات من روسيا فى الشرق إلى إسبانيا فى الغرب ينصبون المشانق والمحارق لتزهق أرواحهم بالآلاف لأنهم "قلة مسكينة" إ! وما كانت حركة "هتلر" الأخيرة فى إفناء اليهود إلا صورة لما تواطأ الأوربيون على اقترافه من آثار غليظة ضد أعدائهم فى الدين!! ولم تبرأ من هذا الوباء وحده إلا بلاد الإسلام.. بل إن المسيحيين فى أوروبا قد انقسموا فرقا تتعبد بتعذيب خصومها فى الرأى. والمذابح البشعة التى لوثت تاريخ أوروبا السياسي لا يمكن نكرانها والوقائع التى فتكت فيها الكثرة الكاثوليك بالقلة البروتستانت أو بالعكس مسطورة بالدم فى صحائف لا يمحوها الزمن. ولم يكن هنا أسعد على وجه الأرض من النصارى الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين. وإلى اليوم. نستطيع أن نملأ أفواهنا فخرا بأن سماحتنا وترفعنا فوق الريب التى يحاول أن يرجف بها أولئك الخراصون من عصابة " سلامة ". ص _126(1/120)
وأننا لن نفقد من أخلاقنا الأصيلة ذرة مهما وجدنا من جحود وكنود!! نعم مهما وجدنا من جحود وكنود! فقد أكرمنا آلاف اليهود، فخانونا ونسوا أننا أمناهم يوم كان العالم أجمع يتقرب إلى الله بقتلهم، نسوا ذلك كله، وانضموا إلى الجبهة الاستعمارية فى الغرب ضدنا. وجزونا جزاء سنمار.. !! وها هى ذى عصابة مأفونة من الملحدين المبغضين لله ورسله كافة يحاولون إثارة فتنة عمياء بترويج أكذوبة فارغة، لم تعرف فى ماضينا ولم تعرف فى حاضرنا ولن تؤثر عنا فى غدنا. لا لأننا نهاب أحدا من الناس.. بل لأننا مسلمون. والإسلام يعلمنا أن ننصف الناس، ولو من أنفسنا. والدوافع إلى هذه الأكذوبة أنهم يريدون إقامة حكم لا ديني فى مصر التى يسكنها 22 مليون مسلم. فإذا قامت جماعة من المسلمين تريد أن ترجع الناس إلى أحكام السماء وتنادى بضرورة احترام القوانين والتقاليد التى شرع الله... صرخت هذه العصابة: أغيثونا، نحن فى خطر!! وقد نقل كتاب- طائش نشرته هذه العصابة- نقل كلاما لإسماعيل صدقى باشا بصورة الاتجاه الإلحادي فى حكم هذه البلاد. قال الباشا- الذى لا دين له- " يجب أن نباعد بين سياستنا وبين الاتجاه الدينى. لقد بدأت تصطبغ بصيغة دينية. وهذه نعرة قديمة انتهت منذ مئات السنين. ولم تعد السياسة العربية ولا الإسلامية تلائم العصر الحاضر بل إن سياستنا قامت فى الماضى على غير هذا الأساس. فمحمد على الكبير- ذلك الرجل البارع- كان يتطلع إلى الغرب وكانت إصلاحاته غربية ومن بعده إسماعيل. وكذلك كان الملك فؤاد. بل إن سعد زغلول خريج الأزهر لم تكن سياسته عربية ولا إسلامية، بل كانت مصرية خالصة تتجه نحو " أوروبا" فلماذا نتجه اليوم هذا الاتجاه- الإسلامى- وأى مصلحة لنافيه؟؟ ". ص _127(1/121)
يقول الدكتور "زغيب "- وهو من أعضاء العصابة- هل بعد هذا كلام واضح صريح من رجل كان فريدا فى ذكائه، وحيدا فى تفكيره، ممتازا فى بعد نظره ورجاحة عقله..؟ هذا الكلام هو قرة عين سلامة وعصابته. وكل معول ينقض بنيان الإسلام فهو فى نظره مسلك ينطوى على الفهم والحصافة ويدل على التقدم والارتقاء. فإذا قال أحد: إن لله وحيا ينبغى أن يطاع، انبعث صوت هذا الغر يطلب النجدة من أوروبا وأمريكا قائلا: الأقلية فى خطر!!! وقد علمت أن تحدث هذا الشخص عن الأقباط خدعة تستر وراءها أخبث النوايا نحو التوراة والإنجيل والقرآن. وفى كتاب آخر نشرته هذه العصابة جاءت هذه العبارة " إننا عانينا مذبحة فلسطين- ولم نزل- تحت تأثير فكرى عنصرى ، واستجابة لإثارة طائفية، ومن العبث أن نخفى ذلك أو نتجاهله ". ومعنى هذا الكلام أن فلسطين كان يجب أن تترك لليهود، وأن الحمية الدينية التى دفعت المسلمين لنجدة إخوانهم هى نزعة طائفية بغيضة يجب البعد عنها، كما يجب البعد عن كل دوافع المروءة والشرف فى إغاثة المظلوم واعانة الضعيف... إ! هذا هو الهدف الذى يروج له الأوغاد فى بلادنا، والذى يعتبرون الوقوف له تعصبا تستصرخ من أجله أوروبا وأمريكا! لكى تحمي الأقليات!. وقد مضى الكاتب فى حقده المشبوب على الروح الإسلامى الذى استيقظ فجأة فى دماء الشباب المتطوع لمقاتلة اليهود فى فلسطين. ولم يجد ما ينتقصه به إلا أن يولول كالمرأة الفزعة فيقول " قد رأينا كيف كان يوم الصهيونية أغبر علينا، راحت فلسطين- أى ضاعت!- ودخلنا الحرب زاعمين أننا سنمنع دولة اليهود فمنعنا دولة العرب ". ثم يوجه الحديث للدعاة المسلمين "أفتريدون يوما آخر للنصرانية- نعم هم يريدون؟ "، هكذا يتساءل الكاتب القذر ثم يجيب!! ص _128(1/122)
ما هذا اللغو الذى تمضغه العصابة الماجنة؟. إن المسلمين والمسيحيين هرعوا جميعا لمقاتلة اليهود المعتدين. وقتال هؤلاء اليهود لو لم يوجبه داعى الدين لأوجبته مصالح الدنيا. فما هو الغرض من الكلام عن النصرانية فى هذا المجال؟! الغرض واضح، إن عصابة سلامة- كما قلت فى صدر هذا الحديث- فى سبيل محاربتها للإسلام تريد أن تستثير الأقباط. وأن توهمهم بأن كل يقظة إسلامية تعنى العدوان عليهم !! ولا شك أن جمهور الأقباط يعرف أن هذا التوهم لا مكان له ألبته، وأن الحكم الإسلامى طيلة القرون الأولى كان أنظف كثيرا جدا من أنواع الحكم التى هيمنت على "أوروبا" فى العصور الوسطى وأذاقت شتى الأقليات الغصص والويلات. ثم إن المتدينين من المسلمين والنصارى لن يقبلوا قيام حكم إلحادي كهذا الذى تدعو إليه عصابة (سلامة موسى) وتصدر الصحف والرسائل تمهيدا له. إنها تدعوا علنا إلى إقامة حكم لا دينى فى مصر. وتطلب من جمهور المسلمين أن يهملوا تعاليم دينهم فى هذا الشأن، وأن يتنازلوا عن حقهم من حيث إنهم كثرة كبرى. وفى هذا يقول سلامة موسى: " أعتقد أنه يجب فصل الدين عن الدولة، وأنه ليس من حق المدارس الحكومية أن تعلم دينا معينا. ومهمة المدارس هى إيصال المعارف إلى رءوس التلاميذ، وليس الدين معارف! إنما هو تربية العواطف، وهى تربية يجب أن تترك للأبوين ". وينكشف الغطاء عن مقاصد هذه العصابة جملة فى محاولتها قطع الأواصر بين مسلمى مصر ومسلمى العالم ومطالبة جمهور المسلمين فى مصر أن يذكروا شيئا واحدا وينسوا ما عداه. وهو أنهم مصريون فحسب!!. ويعلق عضو من أعضاء هذه العصابة على مولد الحزب الوطنى القديم فيقول: "إنه أول حركة خرجت بالقومية المصرية إلى معناها الواضح المحدود ووضعت أسس القومية المصرية وخلصتها من ميوعة الدولة العلية والاندماج فى الكل الإسلامى. إنها أول ثورة فى الشرق لم تقم على أساس دينى... " ص _129(1/123)
ويقول: " إننا نسجل بكل فخار هذه المادة الرائعة من برنامج الحزب الوطنى فقد جاء فيها: الحزب الوطنى حزب سياسى لا دينى فإنه مؤلف من رجال مختلفى العقيدة والمذاهب... ". أما أننا مصريون فنحن لا ننكر وطننا ولا نجحد حقه... وأما أن شرط المصرية الصحيحة الانسلاخ من الإسلام والتنكر لفرائضه ومعالمه فهذا ما نستغرب الدعوة إليه!! لماذا لا يخلص المسلمون فى مصر لدينهم. ويبقى الأقباط كذلك مستمسكين بأناجيلهم وكنائسهم؟!. وقد كانوا كذلك دهرا طويلا من غير نكير هل الإلحاد شرط الوطنية؟! والكفر بالله دليل المصرية الصحيحة؟ ما هذه السفالة التى تنحدر إليها الأجيال الجديدة؟! أى غضاضة- يا قوم- فى أن تكون الوحدة الوطنية بين متدينين لا ملحدين؟!. وبأى وجه صفيق يطلب منا أن نذهل عن إخواننا فى العقيدة ونتركهم وشأنهم فى دنيا مليئة باللصوص والظلمة؟! ولماذا نتهم بالتعصب إذا أصخنا لشكايتهم ، فإذا تحركت عواطفنا لنصرتهم صاحت هذه العصابة المجنونة عصابة سلامة (أدركونا. نحن فى خطر. الرجعية عادت إلى مصر )! ثم يقال للمسلمين- أجل للمسلمين وحدهم- لا أديان فى الوطنية ولا وطنية فى الأديان !! وفى الوقت الذى تقام فيه الحواجز الكثيفة بين أتباع محمد وبين قرآنهم وشريعتهم، ويفرض عليهم بالعنف أن يهجروا الإسلام.. وفى هذا الوقت نفسه يشتد التبشير المسيحى وترصد له الألوف المؤلفة وتسانده الدول المحتلة بأساطيلها وجيوشها، ويقول الدكتور زغيب ميخائيل مفتخرا بأمريكا "والشعب الأمريكى- رغما عما يذاع عنه- شعب متدين قبل كل شىء محب للحرية يكره الاستعباد ويثور للظلم.. إلخ ". ص _130(1/124)
والدكتور زغيب هذا قبطى صعيدى. ومع ذلك فهو يعتز بهذه الروح المسيحية الأمريكية وينوه بها. ثم يوجه الكلام إلى المسلمين فى مصر- لكى يتركوا الإسلام- فيقول: " إننا نريد أن نتشبه بتركيا الناهضة. تركيا التى أوجدها كمال أتاتورك وليست تركيا القديمة، التى عممت الظلام، وأفسدت الأمم، وخربت العمران أكثر من أربعمائة سنة". وماذا يطلب الدكتور؟ هو نفس طلب سلامة موسى وسائر أعضاء العصابة الماجنة التى تريد القضاء على الدين والمتدينين فيقول: " فصل الدين عن الدولة هو الدعوة العصرية إلى الديمقراطية. ولذلك رأينا هتلر وموسولينى يردان الدين إلى الدولة ثم رأينا "بيتان" أيام الاحتلال الألمانى- لفرنسا- يفعل ذلك. و مازلنا نرى الدولتين الفاشيتين الباقيتين- أسبانيا والبرتغال- تجعلان الدين أصلا من أصول العدل... ". وأى عار فى ذلك؟! إننا نحن المسلمين فى مصر يسرنا جدا أن تكون فرنسا مسيحية لا داعرة. وأن يكون الدين أساس حضارتها، لا الفساد والتحلل، ويهمنا أن يكون الدين كذلك فى مصر. فإذا كانت الكثرة فى مصر مسلمة قام الحكم على أساس إسلامى. وإذا كانت الكثرة فى أمريكا مسيحية لا يهودية قام الحكم على أساس مسيحى. وستبقى للأقليات حرمتها الدينية مصونة مرعية. أما تعميم حكم الإلحاد فلا... إننا الآن نسمع أقبح الشتائم موجهة إلى الإسلام، ولكننا نكظم غيظنا. وسنمضى فى سبيلنا الصحيحة لا نلوى على شىء. وسنرى أن لعصابة سلامة موسى غرضا آخر من وراء هدم الحكم الإسلامى نعرض له فيما بعد. *** ص _131(1/125)
الجبهة الشيوعية تقصى الدين تمام الإقصاء عن ميدان الحياة العامة، والجبهة الاستعمارية ترى ضرورة فصل الدين عن الدولة- إذا كان هذا الدين هو الإسلام- لأن فصله عن الدولة طريق إلى انحلال عراه وانطماس معالمه خصوصا إذا كانت شعوبه عانية فى إسار الاحتلال الأجنبى. أما إذا كان الدين هو اليهودية مثلا فلا بأس أن تتصل الدولة بالدين وأن تجمع رعاياها على أساسه من أنحاء الأرض . خصوصا إذا كان هذا الحكم اليهودى يغتصب الرقعة التى تعيش عليها من أوطان المسلمين المحروبين !!. أما إذا كان الدين هو المسيحية فسواء اتصل بالدولة أو انفصل عنها، فيجب أن يأخذ امتداده الكامل من ناحية الشكل فى أوطانه نفسها ومن ناحية الشكل والموضوع حين ينطلق دعاته فى بلاد الإسلام يبنون الكنائس ويقيمون المدارس لخدمة الحضارة الغربية والاستعمار الجشع!. وهكذا نحمل وحدنا الغرم فى هذه المسألة ولا كلام ولا ملام. والعصابة التى تكيد للأديان فى مصر يهمها أن تهدم الإسلام قبل كل شئ، فإذا كان هذا الإسلام لا يوصل إليه إلا بالتظاهر بهدم المسيحية كذلك، فلا بأس أن نظهر بهدم الاثنين معا على طريقة القائل: اقتلونى ومالكا واقتلوا مالكا معى ! إلا أن بعض رؤساء الكنيسة قرروا أن يجاروا العصابة الملحدة فى أعمالها ضد الإسلام وضرورة فصله عن الدولة رسميا!. ثم يعملون من جانبهم على أن تكون الدولة عمليا فى أيدى كثرة ساحقة ماحقة من رجال الأقلية الدينية، يستولون في صمت على الوظائف، وتصبح أمعاء الدولة فى أيديهم من غير ضجة. وقد مهد الإنكليز- عليهم لعنة الله- لهذه السلطة المتاحة لهم من أول يوم الاحتلال الغادر، فبدأوا تنفيذ هذه السياسة الجائرة وما هى إلا أعوام حتى كانت نسبة الموظفين الأقباط نحو 60% فى الأعمال المعتادة، ونحو 90% فى المناصب الكبرى وكانت 100% فى مهن معينة كالصيرفة مثلا. ص _132(1/126)
هذه السياسة التى سنذكر من كتب العصابة أسانيد صارخة بها، ونحيبا طويلا لعدم بقائها، ليست وقفا على الروح الإنجليزية فى مصر على عهد الاحتلال بل لقد رأيت فى فلسطين لما وقعت فى براثن هيئة الأمم المتحدة، وبدأت الهيئة الموقرة تعول أهلها- وقد أصبحوا لاجئين- رأيت جزءا ضخما من الميزانية المرصدة للاجئين ينفق على جمهور ضخم من الموظفين الذين روعى فى اختيارهم أن يكونوا من العرب المسيحين. فإذا وظف مسلم، ففى عمل تافه، وعلى شرطية أن يكون متحللا لا خلق له ولا إيمان إ!. إنها نزعة صليبية واضحة وحقد على الإسلام دفين. وانتظار مسلك آخر من أوروبا أو أمريكا غير هذا المسلك يعتبر ضربا من الغفلة. ولكن العجيب أن تململنا من هذه السياسة يعتبر تعصبا أثيما. أى أنه يجب أن نذبح ونحن سكوت، حتى يرضى سلامة موسى وأشياعه من رجال الإلحاد أو الراضون بعدوانة علينا من رجال الكهنوت!! وإذا حدث أن ارتفعت نسبة الموظفين المسلمين قليلا دوى الصراخ فى الجو عن سيادة الرجعية وفساد الزمان. وطلب البحث عن أثر الجامدين المسلمين فى هذا الانقلاب!. وهدد القمص سرجيوس بأنه سيهاجر إلى الحبشة!. لماذا بالله؟! أيجب أن تبقى الكثرة ذليلة فى كنف السياسة التى رسمها الإنجليز؟! أيجب أن يعيشوا إلى الأبد مغفلين؟!! يقول الدكتور زغيب" منذ ربع قرن كان نحو النصف من موظفى مصلحة البريد ومصلحة السكة الحديد أقباطا- بل أكثر من النصف والمهم أن المصلحتين كانتا مضرب المثل فى حسن النظام والدقة فى العمل والأمانة فى الخدمة- طبعا لأن الكثرة أقباط. .. ". ص _133(1/127)
ثم ماذا؟ نقل عشرات المدرسين إلى مصلحة البريد- كما يقول زغيب- وانخفضت نسبة الموظفين الأقباط عن النصف. وهنا حدثت الطامة، يقول الدكتور زغيب " فماذا صارت إليه الحال بعد هذا التغيير العنصرى؟ أصبحت المصلحتان البريد والسكة الحديد مضرب المثل فى الفوضى والإهمال وكثرت الشكاوى منهما.. إلخ ". والسبب طبعا أن المسلمين أقل ذكاء ونشاطا عن غيرهم!! وزغيب لا يخجل من إتهام المسلمين بالغباوة والبلادة دائما فهو يغضب لأن وزير العدل صرح " أن بعض الصحف انتقدت الحركة القضائية لأن الأقباط مغبونون فيها- كما يزعم سلامة موسى- وإنى أصرح بأن نصيبهم فيها أحسن حالا منه فى الحركات الماضية وذلك بالنسبة لعددهم ". فالتفسير الوحيد لهذا التصريح أن النوابغ من الأقباط ظلموا وأن الكسالى من المسلمين قدموا. لأنه ليس فى المسلمين عدد من الحقوقيين الأكفاء لملء حركة الترقيات. ولن تكون الحركة معقولة إلا إذا رمى بالمسلمين فى الطريق وشحنت وزارة العدل بغيرهم. وإذا كانت نسبة الصيارفة 00 ا% من الأقباط فأصبح النصف تقريبا من المسلمين. فهذه جريمة نكراء يدل وقوعها على تعصب أعمى من المسلمين ! وكذلك إذا انخفضت نسبة الأقباط فى كلية الطب مدرسين وطلابا إلى ص % بعد ما كانت 70% فالويل للمسلمين، إنهم انصاعوا لصوت الرجعية البغيض!! أو كما يقول الدكتور زغيب "ما صيحة المرضى المتألمين والاستغاثات اليومية من المحرومين إلا نتيجة هذه السياسة المجرمة فى حق الوطن وحق الإنسانية ". أسمعت هذا الصراخ المفتعل؟!! أعرفت بواعثه؟!!. إما أن يقصى الإسلام عن الدولة قانونا. وتمكن القلة المسيحية حكم الكثرة المسلمة!. ص _134(1/128)
وإما أن تسمع أقذع من هذا التحدى وأوقح من هذا الهجوم!. فإذا حاولت الدفاع قيل لك أسكت حتى لا يتهم المسلمون بالتعصب!!. وهكذا " يرضى القتيل وليس يرضى القاتل "!. * * * عندما طرق الإسلام أبواب مصر قبله فريق منا- وله الحق فى قبوله- ورفضه- آخر وله الحق فى رفضه. ورأى كلا الفريقين فى الآخر من ناحية إصابته للحق وتوفيقه لمرضاة الله ليست له نتائج عملية عاجلة فى هذه الدنيا. وإنما نعرف حقيقته فى الدار الآخرة. (الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) أما من ناحية النظام الحيوى وعلاج المشاكل القريبة فلسنا عشاق خصومة لمن يؤثر احترامنا وترك حريتنا لنا؟ (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). وقد أجمع فقهاء الإسلام على أن قاعدة المعاملة بين المسلمين. ومسالميهم من اليهود والنصارى تقوم على مبدأ " لهم ما لنا وعليهم ما علينا ". وإذا كان هذا المبدأ قد طبق أحسن تطبيق فى أقطار الإسلام. فهو فى مصر قد طبق عل نحو ممتاز بالنسبة للأقباط. وقد رضينا نحن فى تطبيقه أن يكون لهم أكثر مما لنا وعليهم أقل مما علينا.! وهذا الرضا عن سماحة مطبوعة لا متكلفة. فإذا جاء بعض الناس- ممن لا دين لهم ولا خلق- يحسبنا مغفلين لأننا طيبون! ويريد أن يجعل الكثرة المسلمة محكومة بقلة ناعمة حاكمة. فهذا بداهة يجعلنا نترك منزلة الفضل إلى منزل العدل، ونأخذ حقنا كاملا ونعطى سوانا حقه فحسب..!! ص _135(1/129)
خذ هذا المثل لما يحدث فى نظام الدولة، ثم قس عليه وانظر بعدئذ. هل أخطأ المسلمون أم أخطأ غيرهم؟. فى سنة 1924 كان الوفد المصرى الممثل الفذ للشعب وكان بين أعضائه الكبار وموجهى سياسته الوطنية البحتة نفر من إخواننا الأقباط. وتقدم الوفد بقائمة ترشيحاته لمجلس النواب. وكانت ترشيحات الوفد بمثابة تعيين حاسم. فإذا النتيجة الرائعة للانتخابات العادلة أن أصبح للأقباط 150 نائبا من عدد أعضاء المجلس وهم 214 فقط، أى أن 3/4 المجلس هم من الأقلية التى تبلغ 5% من تعداد الشعب كله. وقد ارتاع العقلاء لهذه النية المغشوشة نية هيمنة الصليب على الهلال باسم اتحاد الصليب مع الهلال. فبدأوا بأدب ورقة يعيدون التوازن. ولكن هذا المسلك اللطيف لم يعجب طلاب الفتنة وأعداء الحق، فهاجوا وماجوا. وانطلق أفراد العصابة المشهورة يسبون الإسلام، ويلعنون مصر، ويستصرخون العالم. ويقولون فى قحة: لقد عادت إلى المسلمين رجعيتهم البالية! لماذا؟ لأ نهم ينشدون المساواة والعدالة والكرامة!!! يا قمص سرجيوس: شيئا من الإنصاف. يا أستاذ سلامة: شيئا من الأدب. يا دكتور زغيب: شيئا من الحياء.. أو.. لا.. فاكشفوا عن الخبوء من أغراضكم وقولوا فى وضوح: إننا نحب أن نبيع هذا الوطن للشيطان، ولا نسمع فيه آية للقرآن. وتمثلوا: إن شئتم بقول شاعر الجاهلية، وهو تصوير حق لمعاملتكم لنا: بغاة ظالمين وما ظلمنا ولكنا سنبدأ ظالمينا !! وأدهشنى ما يزعمه الأفاكون من أن فى مصر حجرا على بناء الكنائس. والغريب أن الدكتور زغيب الذى يستغيث من هذا الحجر رجل من بلدة أبى قرقاص. وقد كان من المصادفات الحسنة أنى عملت فى مركز أبى قرقاص هذا واعظا نحو العام. وإنى لأستغرب كيف يقول هذا الكلام مع أن أبا قرقاص تضم 70% من سكانها ص _136(1/130)
مسلمين و 30% أقباطا. ومع ذلك فيها. مسجدان وخمس كنائس فقط! وبها كذلك إرسالية تبشيرية من فرنسا. فهل هذه النسبة الصارخة دليل الحجر على إنشاء الكنائس أم دليل السرف فى إقامتها؟!. إنها ضجة مفتعلة لغرض خسيس. وإني أترك الأمر لضمائر المنصفين من الأقباط كى يفحصوا بألسنتهم عن قيمة هذا الإسفاف الذى يؤذى مشاعر كل مؤمن مستقيم، ويسرني أن أنقل كلمة تنطوى على استهجان لهذا المسلك النابي من مواطن مسيحى كريم ردا على هذا الافتراء الأثيم. قال الدكتور حنا حنا: نشرت لى مجلة الوطنية منذ أمد بعيد مقالا أثبت فيه بالدليل القاطع المحسوس أن الأقباط أسعد أقلية فى العالم، ولا عبرة بما يهاتر به المهاترون من أن الأقباط هم أصحاب البلاد الأصليون منذ ألف وخمسمائة سنة! فقد كان الزنوج أصحاب البلاد فى أمريكا. والسنة القبطية التى أطلق عليها اسم "سنة الشهداء" دليل قاطع على أن الأقباط حينما كانوا أصحاب البلاد كانوا يعذبون، بل يذبحون ذبح الشاة. وليراجع التاريخ من يشاء. وكان من فضل الله عليهم ونعمته أن فتح العرب بلادهم فأحسنوا معاملتهم وأكرموهم، بل أغدقوا النعم على المخلصين منهم، ووهبوا المجتهدين المال والعقار، حتى أصبح الكثير منهم أصحاب إقطاعيات فى طول البلاد وعرضها. وما زال القبط للآن أكثر ثروة وغنى نسبيا من مواطنيهم. وهذا أيضا دليل قاطع على تسامح الأغلبية وكرمها، فالشعب المظلوم- كما نشاهد وكما يقره التاريخ- لا يتمكن من الثراء وجمع المال. إن ما يشتكى الأقباط منه فى هذه الآونة، وما يردده هذا الشاب فى صحيفته صباح مساء، حتى جعل أشد الأقباط قومية وحماسة يملون قراءة ما يكتب!. والله يعلم أنه لا يقصد سوى أن يصبح بطلا!، وما هكذا يصبح الرجال أبطالا. أقول: إن يشكو منه الأقباط يتخلص فى : ص _137(1/131)
ا- عدم المساواة فى الوظائف. 2- الشروط المقيدة لبناء الكنائس. 3- التعليم الدينى فى مدارس الحكومة. وبعد أن أبان الدكتور عن فراغ هذا الدعاوى- وقد رأى القارىء أنها باطلة كل البطلان، بل رأى أن المسلمين هم الأحق بالشكوى من الحيف الواقع بهم- بعد ما أبان الدكتور المنصف وجه الحق فى الموضوع بطريقته قال لهذا المتهجم على المسلمين بالكذب: أيها الشاب... إن البطولة التى تطمح إليها لا تأتى عن هذا الطريق الوعر. والمسيحية التى تتظاهر بخدمتها لا تصرح لك بالشتم والسب والهجوم على الضيوف الكرماء وفى قلب الكنسية. وفى يوم عيد السلام والمحبة والإخاء. أما أن يطلق لقلمك العنان، لتقدمك النيابة للمحاكمة فتسجن شهرا أو بعض الشهر ثم تخرج من السجن بطلا، فهذا نسيج من الخيال، وحلم من الأحلام لن يتحقق. ولن تكون بطلا..... ص _138
المرأة والمجتمع خير نساء ركبت الإبل صالح نساء قريش... أحناه على طفل في صغره ... وأرعاه على زوج في ذات يده ... "حديث شريف " * * * " لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال ، والمتشبهين من الرجال بالنساء " "حديث شريف" ص _139(1/132)
المرأة والمجتمع دفاع: كتب الأستاذ خالد عن المرأة مقالا حار الأسلوب، شديد الحماسة، ردد فيه الآمال التى تجيش بصدور طائفة من السيدات اللاتى يقدن الحركة النسوية عندنا. وأعلن بقوة: ا- أنه مغتبط لحصول الفتاة على حقوقها الثقافية كاملة وتمكنها من دخول الجامعات العليا، وانتظامها مع الفتيان فى سلك دراسة واحدة. 2- أنه يطلب لها المزيد من العلم، ويشجع إرسال بعثات إلى الخارج من النساء يتلقين ما يعز مناله فى مصر من المعارف والفنون. 3- أنه يستنكر حرمان المرأة من حقوقها السياسية، ويرى ضرورة السماح لها بأن تكون عضوا فى البرلمان نائبة أو شيخة وقاضية فى المحاكم ووزيرة ومديرة وجندية وضابطة. هذه خلاصة الفصل الذى كتبه الأستاذ. وقبل أن نبسط وجهة نظر الدين فيه، نحب أن نقول: إن المؤلف حشا كلامه بعبارات نابية لم يكن هناك ما يدعو إليها. فهو يقول لما أسماه الطابور الرجعى " إذا لا تقولوا: إذا كانت أموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها". فهذه الجملة التى ينهى الأستاذ خالد عن النطق بها جزء من حديث معروف للنبى صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كانت أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها " . والحديث يشير إلى النظام الاستبدادى الذى تطغى فيه شخصية الفرد على شخصية الأمة- وهو ما يقابل نظام الشورى- كثيرا ما تلعب النساء دورا خفيا فى إدارة أموره مما يجعل مصلحة الجماهير موضع عبث وطيش كما هو مشاهد. ص _1 ص(1/133)
ونحن- وإن كنا من أنصار دعم المجتمع بالمرأة المثقفة- لا نرى أن تكون مقاليد الحكم بيدها.. فهذا خروج بالأشياء عن طبيعتها. والدول التى أعلنت المساواة التامة بين الرجل والمرأة فى كل شىء. لم يصل شأن المرأة فيها إلى هذا الحد. ونظرة إلى حكام روسيا- وهى التى تدين بهذا الاتجاه- تبرز هذه الحقيقة، فلن توجد " ستالينة " كستالين ، ولا " مولوتوفة " كمولوتوف ولا.. ولا. ء ولا يزال الرجال- ولن يزالوا- حمالى الأعباء الثقال، وموجهى التاريخ وحدهم إلى مستقبله المرسوم. وانظر إلى مجلس الأمن وهيئة الأمم وعشرات الحكومات ومئات الوزراء وآلاف المديرين وجماهير العلماء والأدباء والمخترعين، إن مجال المرأة ضيق جدا فى هذا الميدان. وقد يكون واسعا جدا فى الصف الذى يليه مباشرة وليس هذا مما يعيب المرأة ويخدش مكانتها. غير أن صاحب "من هنا نبدأ" اندفع فى حماسته يقول عن المرأة " إن أفق الكثرة الغالبة منا نحن الرجال أضيق من أن يتسع لقضيتها ". ويقول عن معارضيها " إن أسئلتهم تدل على أن أصحابها من السذاجة بحيث لا ينبغى أن تكون معارضتهم واستنكارهم عائقين عن تحقيق هذا الهدف المفعم بالاحتمالات الحسنة " أى جعلها نائبة ووزيرة. ومن المساواة عنده بين الرجل والمرأة أن يكون للمرأة حق ضرب الزوج وتأديبه كما أن له حق ضرب الزوجة وتأديبها.!! وبعد أن وصف خصومه بالرجعية والجمود قال. " إن المرأة لم تباشر عملا إلا أتت فيه بما يشبه المعجزات، وكفاحهن أيام الأوبئة لا يزال يتألق أمام أعيننا ".! وهذه المبالغات من الكاتب تجعل الكلام لغوا. أي معجزات؟ لوددت أن يكون كلامك حقا! وإذن لولينا النساء أمورنا واسترحنا. ويحتج صاحبنا خالد على عدم إرسال الفتيات فى بعثات تعليمية إلى الخارج ص _141(1/134)
ويقول: " قام وزير خطير ففكر وقدر ثم نظر ثم عبس وبسر. ثم أصدر أمره بحرمان الفتاة المصرية من السفر فى بعثات علمية للخارج. مع أن هناك من المعارف ما لا يمكن الظفر به فى بلادنا وجامعاتنا. ومع أننا لا نملك منع فتاة من الطموح العلمى إلا إذا جاز لنا حرمان الفتى من هذا الطموح ". ومسألة سفر المرأة- وحدها- إلى الخارج لها فى الإسلام حكم يعرفه علماء المسلمين جميعا فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم لها " . وقال كذلك " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم! فقال رجل: إن امرأتى خرجت حاجة، وإنى اكتتبت فى غزوة كذا وكذا؟ قال؟ فانطلق فحج مع امرأتك ". وهذا الحكم واجب التطبيق إلى قيام الساعة ، فكيف ساغ لخالد وهو من علماء الأزهر أن يتجاهله، وأن يطلب تسفير المرأة وحدها إلى " أوروبا" أو "أمريكا" حيث يعتبر العرض أرخص ما يملك المرء من متاع؟؟. ومعروف، أن عضوة فى بعثة بالخارج تزوجت رجلا أجنبيا!، وأن نسوة كثيرات من بيوت كبيرة لما خلا لهن الجو كان نبذ الدين- وراء رجل معجب- أيسر شئ عليهن! وكم من فضائح حملها هذا الدين المظلوم من المنتسبين والمنتسبات إليه، منشؤها التمرد على آدابه. ويقول الشيخ: نريد أن تكون عندنا "مدام كورى" أخرى. ونقول: وهل هذه هى الطريقة الفذة للحصول على مثل هذه المدام ؟! لقد كان لمدام كورى "مسيو كورى" وكان تعاون الزوجين على خدمة العلم معروفا مشروعا. أما ما تقترحه أنت للمرأة فطريق معوج لم نستفد منه لا علما ولا فضيلة! إنما كسبنا منه الجهل والارتداد. ص _142(1/135)
النهضة النسائية بين تقاليد الشرق والغرب ربما يتوهم البعض من هذا النقاش أننا أعداء المرأة نريد شل نشاطها وتعطيل مواهبها وقتل إنسانيتها. والواقع أننا نعرف أكثر من غيرنا الوظيفة التى تقوم المرأة بها فى المجتمع، وحاجة هذه الوظيفة إلى قسط كبير جدا من الإعداد والعناية. ونعلم أن المرأة إحدى جناحى المجتمع يستحيل أن يسمو إذا بترت أو شلت. بيد أننا ننظر فنجد الكلام فى قضية المرأة يتذبذب كبندول الساعة إلى أقصى اليمين وإلى أقصى اليسار، ولا يستقر مطلقا عند الحد الوسط الذى يطلبه الإسلام. قوم يجنحون بالمرأة إلى تقاليد الشرق، وقوم يجنحون بها إلى تقاليد الغرب.. هنا الانحسار والضيق ! وهناك الانطلاق والمروق! وقد يذهب هؤلاء وأولئك إلى الإسلام يتصيدون منه الشواهد لأهوائهم، والإسلام بعيد عن إرضاء أيهم جاء إليه. فإن تعاليم الوحى شىء وتقاليد أوروبا أو أفريقيا شئ آخر... والتقاليد الشرقية التى يحرص بعض الناس على إحيائها تعتمد على: 1- انتقاص مكانة الأنثى- لصفتها الجسدية- فالرجل مطقا أفضل من المرأة. 2- حصر وظيفة المرأة فى المتعة المادية والاستيلاد الحيوانى، وإبعادها عاطفيا وعقليا عن كل ما يجاوز حدود هذه الوظيفة التافهة!. 3- النظر إلى المكانة الشخصية، والقيمة الخلقية من خلال عرض المرأة وحدها، فقد يعلم أن ابنه زنى فيتركه بلا نكير!. فإذا علم أن بنته زنت قتلها فى الحال !. وقد يضحك لفساد ابنه، ولكن يسود وجهه لفساد ابنته!. هذه التقاليد القائمة على ظلم المرأة تنشا عنها تقاليد ثانوية أخرى تخضع لها المرأة من المهد إلى اللحد، وتصيبها بهزال شديد فى جسمها وعقلها ودنياها ودينها... ص _143(1/136)
ولا يزال كثيرون من الناس يستمسكون بها بل الداهية أن عوام المسلمين وطائفة من المتدينن الجهلة تحسب هذه التقاليد الضالة هى تعاليم الإسلام!. وأغلب ظنى أن الجمعيات النسائية التى تنفر من الإسلام إنما تنفر منه لأنه فى نظرها الخاط لتلك التقاليد القاتلة. ومن ثم ارتمت فى أحضان الغرب تنشد عنده الحياة والأمل!. وتقاليد الغرب الحديثة تعتمد على: ا- التسوية المطلقة بين الرجل والمرأة فى المكانة المادية والأدبية. 2- إقامة المجتمع على الاختلاط التام وترك المرأة تتقلب فيه كما تشاء!. 3- النظر إلى الناحية الجنسية على ضوء الاستقلال الشخصى والتصرف الطبيعى.! ولهذه التقاليد الغربية عشاق يدعون إليها وقد بدأ مجتمعنا ينساق نحوها، أو قل ينحدر إليها، بل إن الأستاذ خالدا نفسه يريد أن يلهب النهضة النسائية حتى تسامى زميلتها فى الغرب وتستوى معها على الركب. وغلبة التقاليد الغربية على بلادنا ترجع إلى: ا- فساد التقاليد الشرقية السائدة. 2- سطوة الاستعمار الغربى المسلح بالعلم والقوة والتقدم. 3- اكتفاء علماء الأزهر وأعضاء الجماعات الإسلامية بالاستنكار السلبى والصياح المجرد ضد الفساد والعرى والتحلل، وعدم القيام بأى عمل إيجابى لحل مشكلة المرأة على أساس إسلامى صحيح. وأشدهم حماسا يكتب مقالا أو يلقى خطبة ثم يذهب إلى بيته فتستقبله فيه تقاليد الغرب المنتصرة وكأنها تخرج لسانها لوقاره المكذوب!. لم يبني أحدهم معهدا نموذجيا لتعليم المرأة. ولم يصنع "فستانا " محتشما ولم يتقدم بشئ يشغل به وقت المرأة فى جدها أو لهوها، ولم نر أحدهم يرسم للمرأة المسلمة برنامجا خاصا تخدم به بيتها ووطنها ا. إنه صياح الاحتجاج فقط!. وقد يبلغ الأمر بصرعى الغرائز المهتاجة وعباد التقاليد الجائرة أن يقولوا لك: احبس المرأة فى البيت ثم انفض يدك منها. ص _144(1/137)
ولو كانت عواقب هذا السفة تلزم أصحابها فحسب لتركناهم وسفههم. أما وهم يصيحون باسم الإسلام فلابد من بيان الحقيقة وإنصاف الإسلام من تقاليد الشرق والغرب على سواء. * * * إن قضية المرأة ليست قضية جنس يسكن المريخ!. إنها قضية أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا، فنحن مدفوعون إلى بحثها وفى جوانحها عواطف التوقير والحب والحنان. وهى قضية نصف الأمة، النصف الذى لو حكم بإعدامه ماديا وأدبيا مات النصف الأخر حتما، فنحن نحفظ ديننا ودنيانا كليهما عندما نحفظ على المرأة وضعها الصحيح فى المجتمع. وهى قضية الإسلام الذى كذبوا عليه يوم أوهموا الناس أنه يمحق إنسانية المرأة ويخدش اعتبارها!، ويمنع تعليمها، ويعدها للفراش فقط!. ليس صحيحا أن الإسلام يعد المرأة "لأنها أنثى" دون الرجل "لأنه ذكر" فرب امرأة أفضل من رجل، لأنها أرقى منه عقلا وأسمى خلقا وأنقى ضميرا. ما قيمة اللحى والشوارب فى وزن النفوس وعظمتها؟ إن مريم ابنة عمران، وعائشة بنت أبى بكر أفضل من رجال كثيرين!. إن الله سبحانه سوى بين الرجال والنساء فى ميادين التقوى والاستقامة : (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) نعم.. بعضكم من بعض، إن الرجل ينسل البنين والبنات فتتوزع صفاته الجسدية، وميزاته الأدبية على أولاده كلهم، لا يضع أدناها فى جنس وأعلاها فى جنس، ثم ينطلقون جميعا فى رحاب الحياة، يبتلون بتكاليف المعاش والمعاد، فيكون أولاهم بالله أتقاهم له، ذكرا كان أو أنثى، وهو الأفضل فى نفسه وعند ربه ولا يغض من هذا الفضل أن الله جعل للأسرة نظاما خاصا، واعتبر الرجل سيد البيت، فإن الترتيب الحيوى له شأن آخر، والرجل فى الأسرة يحمل الجانب الأشق من أعبائها، ولابد فى كل شركة من رئيس مسئول له فضل توجيه وتنفيذ، حتى لو كانت الشركة بين رجلين فإنها تفشل إذا لم يتقرر القياد لأحدهما من أول الأمر. ص _145(1/138)
ولهذه الاعتبارات وغيرها يعتبر الرجل قواما على المرأة مع تساويهما ابتداء فى الحقوق والواجبات. وذلك قوله تعالى : (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة)، !هذه الدرجة ترتيب مادى بحت فى الدنيا، وإلآ فنوح علية السلام أفضل من امرأته وامرأة فرعون أفضل منه، إن قيادة الأسرة شىء- والرجل صاحبها، وله فى هذا الميدان أفضليته- أما حقيقة الفضل النفسانى والامتياز عند الله فمردهما إلى حسن الإيمان والعمل. ولا يعرف أى الزوجين أرفع درجة وأعلى مكانا!. فما يتوهمه البعض من هوان منزلة المرأة- لا لشىء إلا لأنها امرأة- سخف لا يقره الإسلام قط. ومن المقرر أن هناك اختلافا بين التكوين البدنى والعقلى للرجل والمرأة. فالرجل تغلب عليه قوة التفكير وشدة المراس وثبات العزيمة. أما المرأة فتغلب عليها سعة العاطفة، ويقظة المشاعر الوجدانية والانفعالات القلبية.. والرجل أصلب من المرأة عودا وأقوى بنية. بل ولقد لوحظ أن أجساد الرجال أدنى إلى الجمال وأقرب إلى الاكتمال من أجساد النساء!. وليس ذلك فقط بالنسبة إلى الذكور والأناث فى النوع الإنسانى بل ذلك مطرد فى شتى أنواع الحيوان. فالأسد أقوى وأجمل من اللبؤة، والديك أملح من الدجاجة، والكبش أنضر من النعجة، والحمار أفرس من الأتان... إلخ. وهذا التمييز مقصود فى سنن التكوين حتى لا تشعر الأنثى بغضاضة من الائتلاف مع قرين يفوقها فى ناحية ما. مع أن هذا الائتلاف ضرورة لبقاء الحياة. ونسارع إلى استدراك لابد منه.. فليست كل امرأة من ناحية هذا التكوين الطبيعى أدنى من كل رجل... فقد تكون المرأة فى مستوى عقلى، أو فى طاقة بدنية أعلى من رجال كثيرين. وأقل من رجال كثيرين كذلك. ص _146(1/139)
وأنثى الأسد أرفع درجة من ذكران الخيل والبغال والحمير.!! والبشر فى مواهبهم فصائل وسلالات تتسع الفروق بين أفرادها مراحل شاسعة، ولكن الأنثى التى تعلو على طوائف من الرجال فى ذكائها أو قوتها "يغلب " أن تكون فى هذه النواحى أدنى من آبائها أو إخوتها أو أبنائها، فتسرى عليها القاعدة التى تجعل الذكورة متميزة على الأنوثة جثمانيا ونفسانيا. أما ما ورد فى السنة من أن النساء ناقصات عقل ودين فقد فسرته السنة نفسها بما لا يعد تحقيرا للمرأة أو إسقاطا لمنزلتها، فإن المرأة تسقط عنها الصلاة أياما فى كل شهر، ولا تصوم هذه الأيام نفسها من رمضان- إذا غشيها الحيض- فهذا النقصان فى عبادتها الذى لا يعترى الرجال هو المقصود بنقص الدين. كذلك تعدل شهادة المرأتين شهادة الرجل الفذ لأن النسيان أسرع إليها منه، فجانبها العاطفى يستبد بها أكثر مما يؤثر فى الرجال. ونسيان المرأة الكثير سبب مشاكل متجددة فى حياة الأسرة، فهى إذا أصابتها من زوجها إساءة نسيت حسناته الماضية جملة وجحدت ما كان!!. فكان من حق الشرع أن يحتاط فى الشهادة بانثتين (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى). وذاك ما عبر بنقصان العقل!! لقد أخذت المرأة فى هذه الأعصار حريات بعيدة المدى ووجدت من يقول لها: أنت أذكى من الرجل وأقوى إن لم تكونى مثله ذكاء وقوة!!. بيد أن الواقع معنا فيما ذكرنا من أحكام. ولا حيلة فى تغيير الواقع. على أن الإسلام ينظر إلى المرأة.، فإن كانت أما فالجنة تحت قدميها.. وإن كانت طفلة فتربيتها وقاية من النار!. وإن كانت زوجة فكرامة الرجل وخيره فى رعايتها ومحبتها. فهل فى وصايا الإسلام التى وكدت هذه المعانى ما يعتبر خدشا لمكانة المرأة فى المجتمع؟!. كلا، فلا ينبغي أن تتطاول فوقها، ولا أن تنزل دونها. * * * ص _147(1/140)
وظيفة المرأة الاجتماعية أحب أن أرجىء مؤقتا الخوض فى هذا الكلام المملول عن الحجاب والاختلاط وما إليهما: ولألفت النظر إلى أركان الدين نفسها، فإن النساء مكلفات بها كالرجال. وما من شىء يقوم به الإسلام وتعتز به أمته كلف به مسلم إلا كلفت المسلمة بمثله، غير أمور محصورات استثنيت النساء منها، ولا تهدم أصل المساواة فى التكاليف الشرعية ألبتة. لكن تقاليد الشرق التى حصرت وظيفة المرأة فى المتاع الحيوانى قلما تهتم بهذه التكاليف. فحبس المرأة فى البيت لا ترى أحدا ولا يراها أحد فريضة! أما الصلاة مثلا فلا بأس من تركها! وتسعون فى المائة من النساء المحجبات لا يقمن الصلاة!، وغير الصلاة من تعاليم الإسلام الأخرى لا يعرف اسمه فضلا عن مفهومه ومدلوله!. فلما خرجت المرأة من البيت قسرا تكاتف أهل الدين على إدخالها فيه لتستأنف حياتها الأولى نفسها. فلما فشلوا تعالى صراخهم بلعنتها ولعنة من أخرجها!. والحقيقة أن دعاة السفور يقودونها إلى جاهلية حديثة. ودعاة الحجاب يردونها إلى جاهلية قديمة والنزاع بين فريقين أحدهما جاهل بالإسلام والآخر جاحد له!. وانتصار أحدهما لا يفيد الإسلام بل يضيره. ص _148(1/141)
تحسسوا الإيمان أولا عندما تزوجت فتيات- مسلمات بالوراثة- فتيانا أقباطا، أو أمريكانا مسيحيين حدثت ضجة كبيرة لهذا التصرف الشاذ. واعتبرناه نحن المؤمنين خروجا على الإسلام وارتدادا عن الملة. ووصلت صيحات المستنكرات إلى آذان أولئك النسوة غريبة نابية، أجل غريبة نابية لأنهن للأسف كن منطقيات مع أنفسهن. فهن لا يعرفن عن الإسلام شيئا، وليس فى قلوبهن إيمان به، أو إجلال له، وبنت هذا شأنها مع الدين لا تبالى من تختار بعلا. فإذا حدث أن اختارته مسلما فمحض الصدفة!!. أما أمر الدين فليس يعنيها أولا.. ولا أخرا. ما أشبه دين أولئك النسوة، بما أسماه "ابن عربى" دين الحب وقال فى وصفه. لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبى إذا لم يكن دينى إلى دينه داني! فقد صار قلبى قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان، وكعبة طائف وألواح توراة، ومصحف قرآن!! أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب دينى وإيمانى.! والمؤسف أن هذا الدين الجديد الذى زينه الشيطان "لابن عربى" لم يصبح دين أولئك النساء فقط، بل دين كثير من القادة والزعماء. على اختلاف الدوافع والمأرب. وهذه الحال لا تعالج إلا بإعادة الإيمان أولا إلى تلك القلوب الخربة. فيا من يعنيهم أمر النساء! املأوا أفئدتهن بالعقيدة الصحيحة، ثم اعرضوا بعد ذلك ما تطلبون. وتجد الرجل الغيور (!) يلفتك إلى امرأة دهنت خدودها بالأصباغ ومشت فى الطريق خليعة متبرجة. ص _149(1/142)
أنا شخصيا ممن يتقززون من هذه المناظر، ويخيل إلي أن صاحبتها مومياء مطلية بأصباغ الموت، وأن أظافرها المحمرة بالدهان القانى إن هى إلا مخالب حيوان شرس. ولكن الذى أدركه من أمر هذه المرأة أنكى من ذلك.. إن الإسلام يكلفها بالصلاة من غبش الفجر إلى العتمة.. ومعنى ذلك فى حياة المرأة المسلمة أن تغسل وجهها ويديها الصباح والظهيرة والأصيل بضع عشرة مرة كل يوم!. أترى امرأة هذا برنامج الإسلام الذى رسمه لها تترك التدلك بالطهور من ماء السماء، إلى شئ آخر.؟! ولكن المغفلين من المتدينين ينقلون المعركة من هذا المجال الأساسى إلى مجال آخر هو هل يجور للمرأة التزين أولا؟!. * * * ص _150(1/143)
المرأة والمسجد إن الإسلام وصل ما بين حياة المرأة وحق المسجد بأواصر متينة. وهذا الحكم من أحكام الإسلام يضيق به أصحاب الأمزجة المتشائمة والغيرة المفتعلة. حدث هذا قديما ويحدث اليوم. حدث الرواة عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم : إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها. فقال بلال (وهو ابن لعبد الله) والله لنمنعهن.. فأقبل عليه أبوه عبد الله فسبه سبا ما سمعت مثله قط! وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وتقول: والله لنمنعهن . وقيل إن عبد الله هجر ابنه هذا إلى الممات غضبا منه أن رد حكما لرسول الله صلى الله عليه وسلم!. وكان النساء قديما يشاركن الرجال فى أبواب المساجد حتى أبدى الرسول صلى الله عليه وسلم رغبته فى تخصيص باب لدخولهن. فعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو تركنا هذا الباب للنساء. قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات " . وكان النبى صلى الله عليه وسلم يسوى الصفوف فى المسجد ويرغب الرجال فى الصفوف المقدمة والنساء فى الصفوف المؤخرة، ويزجر أن يتأخر الرجل وتتقدم المرأة، فيكون من تقاربهما فى المكان ما يعكر صفاء العبادة.. "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها " . ص _151(1/144)
وكان النساء يخرجن قبل غيرهن من المسجد حتى لا يزحمهن فى الطريق أحد، وكن مأمورات فى أثناء الصلاة بتأخير الاقتداء قليلا عن الرجال. فعن أسماء بنت أبى بكر: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: (من كانت منكن تؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رءوسهم "- كراهة أن يرين عورات الرجال-. هذا ولما كان الإسلام يرى أن عمل المرأة فى بيتها كبير المؤونة وطبيعة حياتها ورسالتها وارتباطها بأولادها وما قد ينشأ عن تكرار خروجها للصلوات خمس مرات فى اليوم. كل ذلك قدرة الإسلام فلم يؤكد سنة الجماعة فى حقها كالرجال، بل جعل صلاتها فى بيتها أفضل لها مع الاحتفاظ بحقها فى التردد كلما شاءت ذلك بين الحين والحين. وكان النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلين الجمعة ويسمعن خطبتها. فعن أم هشام بنت حارثة قالت: " ما أخذت (ق. والقرآن المجيد)- أى ما حفظت السورة- إلا من لسان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ بها على المنبر فى كل جمعة. وذلك لكثرة ترددها على المسجد فى صلاة الجمعة. وفى صلاة العيدين كان النبى صلى الله عليه وسلم يأمر بحضور النساء مع جماعة المسلمين ليشتركن فى الصلاة وسماع الخطبة. فمن أم عطية: أمرنا بأن نخرج العواتق ذوات الخدور. فإن كانت المرأة معذورة- حائضا- اعتزلت المصلى وسمعت الخطابة. وقد حدث أن النبى صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة والخطبة ذهب إلى صفوف النساء فوعظهن وذكرهن بالله وأمرهن بالصدقة، وكان بلال يجمع ما يتبرعن به. قال عطاء لجابر بن عبد الله- راوى هذا العمل عن النبى صلى الله عليه وسلم- أترى حقا على الإمام ذلك؟. قال: إنه لحق عليهم وما لهم لا يفعلونه! بل لقد أمر النبى أن تستعير المرأة ثوبا تخرج به- إذا لم تكن تملك ثوبا- حتى لا تنقطع صلة المرأة بالمجتمع المسلم فى أحفل أيامه، وفى مجمع من أخل مجامعه. ص _152(1/145)
وقد عنون البخارى لهذا الموضوع بقوله: إذا لم يكن لها جلباب فى العيد. عن حفصة بنت سيرين كنا نمنع جوارينا أن يخرجن يوم العيد فجاءت امرأة فنزلت قصر بنى خلف فأتيتها فحدثتني أن زوج أختها غزا مع النبى اثنتى عشرة غزوة فكانت أختها معها فى ست غزوات! قالت: فكنا نقوم على المرضى ونداوى الجرحى. فقالت: يا رسول الله. هل على إحدانا من بأس إذا لم يكن لها جلباب ألا تخرج- إلى العيد فقال " لتلبسها صاحبتها من جلبابها فليشهدن الخير ودعوة المؤمنين ". قالت حفصة: فلما قدمت أم عطية أتيتها فسألتها. قلت: أسمعت فى كذا وكذا؟ قالت: نعم بأبى ؟ قال النبى: ليخرج العواتق وذوات الخدور وليعتزل الحيض المصلى وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين . ولما كان التكبير من شعائر العيد فقد كانت أصوات الرجال ترتفع بالتكبير ثم يجاوبها تكبير السيدات وظل الأمر كذلك حتى خلافة عمر بن عبد العزيز. ولا شك أن خروج النساء كان يحرج بعض ذوى الغيرة، وقد حاول عمر بن الخطاب الاعتراض عليه فلمح سودة أم المؤمنين سائرة فصاح بها: قد عرفناك يا سودة. فشكت ذلك سودة إلى رسول الله: فقال الرسول: " إن الله قد أذن لكن أن تخرجن فى حوائجكن " . أما ما روى عن عائشة: "لو علم النبى ما أحدث النساء بعده لما أذن لهن فى الخروج " فهذا كلام لا يلتفت إليه. والسيدة عائشة على جلالة قدرها ليست مصدر التشريع فى الإسلام فمرد ذلك إلى الله ورسوله. والمعروف أن للسيدة عائشة اجتهادات سياسية وآراء علمية لم يوافقها عليها جمهور الأمة. ثم إن الله عز وجل لما شرع لعباده كان أعرف بأعمالهم وأحوالهم فى كل زمان ومكان. فلا يترك حكمه لقول بشر مهما كان. ص _153(1/146)
بحث فقهى جاءنى هذا السؤال: قرأت فى مجلة تصدرها جماعة دينية أن وجه المرأة عورة، وأن كشفه حرام، والرضا بذلك فسوق. فهل إذا خرجت إحدانا إلى المسجد للصلاة أو لسماع درس، وهى كاملة الثياب مغطاة البدن، ما عدا الوجه، ومضت إلى غايتها محتشمة فى غير تبرج يعتبر ذلك حراما وفسوقا، ويعد سفورا محرما؟ "سيدة مسلمة " * * * روى الشافعى عن أبى يوسف قال:" أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون فى الفتيا أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، إلا ما كان فى كتاب الله تعالى بينا بلا تفسير. ونقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية: " إن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا". ومن ثم فالجرأة على رمى الناس بالمعصية لأمور، تختلف فيها الأنظار شيمة من لا قدم لهم فى الفقه. ومن هذا القبيل تحريم كشف الوجه- على المرأة- واعتبار ذلك فسوقا!. إن هذا جهل. فإن كشف الوجه فى حدود الملابسات التى ذكرتها السيدة المسلمة فى سؤالها لم ير فيه حرجا ولا منه بأسا الكثرة الساحقة من فقهاء الإسلام، بل لم يزعم أحد أن هناك نصا بالتحريم، قال ابن حزم:، وأما المرأة فإن الله تعالى يقول : (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) وهذا نص على ستر العورة والعنق والصدر وفيه نص على إباحة كشف الوجه ولا يمكن غير ذلك أصلا. ص _154(1/147)
وقوله تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن)، نص على أن الرجلين والساقين مما يخفى ولا يحل إبداؤه. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بسنده عن ابن عباس يذكر (أنه شهد العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه عليه السلام خطب بعد أن صلى، ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن أن يتصدقن، فرأيتهن. يهوين بأيديهن يقذفنه فى ثوب بلال- أى المال- " . فهذا ابن عباس بحضرة رسول الله رأى أيديهن، فصح أن اليد من المرأة والوجه ليسا عورة وما عداهما ففرض عليها ستره. وعن سليمان بن يسار أن ابن عباس أخبره أن امرأة من خثعم استفتت رسول الله فى حجة الوداع والفضل بن العباس رديف رسول الله. ثم ذكر الحديث وفيه:" فأخذ الفضل يلتفت إليها وكانت امرأة حسناء، وأخذ رسول الله يحول وجه الفضل من الشق الآخر ". فلو كان الوجه عورة يلزم سترها لما أقرها عليه السلام على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تسبل عليه من فوق. ولو كان وجهها مغطى ما عرف ابن عباس أحسناء هى أم شوهاء فصح ما قلناه والحمد لله كثيرا !. هذا كلام ابن حزم وهو رأى الأحناف والمالكية وغيرهم. وروى أحمد بن حنبل عن عائشة أن وفد الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله فى يوم عيد قالت: "فاطلعت من فوق عاتقه فطأطأ لى منكبيه: فجعلت أنظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت ثم انصرفت " . وبهذا الحديث وأمثاله مما حفلت به كتب السنة احتج من رأى جواز نظر النساء إلى ما ليس عورة من الرجال- مع الغض والأدب-. وذهب النووى وهو من فقهاء الشافعية المتشددين، إلى أنه لا يجوز أن يرى رجل امرأة ما، ولا أن ترى امرأة رجلا ما، وأول حديث عائشة بأنها كانت صغيرة السن ص _155(1/148)
لما تبلغ بعد !. ولكن الحافظ ابن حجر تعقب النووى، فذكرأن قدوم وفد الحبشة كان سنة 7 للهجرة بعد بناء الرسول بها بأمد طويل. فكيف يقال إنها صغيرة السن مع أن عمرها نحو ستة عشر عاما ؟!. وقد زعم كاتب معاصر أن وفد الحبشة كانوا غلمانا (!) وهذا كلام لا يلتفت إليه! وحجة النووى ما روى عن أم سلمة وميمونة أن رسول الله أمرهما بالاحتجاب عن عبد الله بن أم مكتوم فقالا له. أليس أعمى لا يبصرنا؟ قال: أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه ؟؟ وهذا الحديث قد أجيب عنه بوجوه منها: أن فى سنده ضعفا وربما أسيغ ولكن درجته- لأنه من رواية أصحاب السنن- لا تجعله فى صف الأحاديث التى تفيد جواز الرؤية. وهى بأسانيد من رواية البخارى ومسلم فتقبل دونه. وقد اتفق المحدثون على صحة حديث فاطمة بنت قيس، التى أمرها الرسول بأن تقضى عدتها فى بيت ابن أم مكتوم وقال لها: إنه رجل أعمى! تضعين ثيابك عنده! وهو حديث أقوى بمراحل من حديث أم سلمة وميمونة السابق. وقال ابن حجر فى فتح البارى: إن الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم لعله لكون الأعمى مظنة أن ينكشف منه شىء ولا يشعر به ! وقد أجمع أبو داود بين ما روى فى الصحيح وغيره.. فجعل حديث أم سلمة مختصا بأزواج النبى صلى الله عليه وسلم وحديث فاطمة بنت قيس وما فى معناه لجميع النساء. قال الحافظ فى التلخيص: قلت وهذا جمع حسن، وبه جمع الحافظ المنذرى فى حواشيه، واستحسنه شيخنا. والواقع أن تخصيص الحجاب المطلق بنساء الرسول كما فعل أبو داود تصرف حسن فى الآثار الواردة: وهو أقرب إلى قوله تعالى لهن : (لستن كأحد من النساء إن اتقيتن) " وإلى أن الرأى منعقد على عدم منع النساء من الصلاة فى المساجد. ص _156(1/149)
قال ابن حزم:، ولا يحل لولى المرأة ولا لسيد الأمة منعها من حضور الصلاة فى جماعة فى المسجد إذا عرف أنهن يردن الصلاة. ولا يحل لهن أن يخرجن متطيبات ولا فى ثياب حسان، فإن فعلت فليمنعها، وصلاتهن فى الجماعة أفضل من صلاتهن منفردات ". كذلك يقول ابن حزم وهو يخالف بذلك من يرى أن صلاتهن فى بيوتهن أفضل. وبعد أن ساق دلائل كثيرة على هذا الحكم قال: " لو كانت صلاتهن فى بيوتهن أفضل، لما تركهن رسول الله يتعنين بتعب لا يجدى عليهن زيادة فضل، أو يحطهن من الفضل، وهذا ليس نصحا وهو القائل: " الدين النصيحة". ولو كان ذلك لما افترض ألا يمنعن ولما أمرهن بالخروج تفلات- غير متزينات- "أقل هذا أن يكون أمر ندب وحض ". ثم قال ابن حزم مفندا رأى من يقول بأن صلاتهن فى بيتهن أفضل: " وشغب من خالف ذلك بما روى عن أم حميد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لها: إن صلاتك فى بيتك أفضل من صلاتك معى. قال: هذا حديث عن مجهول لا يدرى من هو؟ ولا يجوز أن نترك رواية الثقات المتواترة لرواية مجهول!!. وعلى فرض صحة الآثار بأن صلاة البيت أفضل فهى معارضة لأمره عليه السلام بخروجهن حتى ذوات الخدور والحيض إلى مشاهدة صلاة العيد، أمر من لا جلباب لها أن تستعير من غيرها جلبابا لذلك. وقد اتفق جميع أهل الأرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنع النساء قط الصلاة معه فى مسجده إلى أن مات، ولا الخلفاء الراشدون بعده، فصح أنه عمل غير منسوخ! وعن الزهرى أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل كانت تحت عمر بن الخطاب. وكانت تشهد الصلاة فى المسجد. وكان عمر يقول لها: والله إنك لتعلمين أنى ما أحب هذا: فقالت والله لا أنتهى حتى تنهاني. قال عمر: فإنى لا أنهاك. فلقد طعن عمر يوم طعن وإنها لفى المسجد. ص _157(1/150)
ومن طريق عبد الرازق أن على بن أبى طالب كان يأمر الناس بالقيام لرمضان فيجعل للرجال إماما وللنساء إماما... ". انتهى كلام ابن حزم ملخصا عن المحلى، وهذا المذهب خلاف ما يراه الأحناف والمالكية إذ صلاة البيت عندهم أفضل لهن. وهذا خلاف على يسير. والذى نحرص على تبيانه أنه لابد للنساء- إذا خرجن- من ثياب سابغة وافرة لا تصف ولا تشف، وأن انكشاف وجوههن لا إثم فيه ما دامت خالية من الأصباغ والعطور، وأن فقهاء المسلمين لم يقولوا بأن الوجه عورة حتى من أفتى منهم بضرب النقاب. وإنما جنح إلى ذلك سدا للذريعة وخوفا من الفتنة. ونحن حريصون على إبعاد الفتن عن طريق الناس بأصح الأساليب وأنجحها لا بالإحراج والتضييق. وقد رأينا مجتمعات محجبة يسودها الانحلال والفوضى!، ورأينا قرى تعج بالفلاحات السافرات لا ريبة فيها. على أن حديث أسماء بنت أبى بكر: " إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يحل أن يرى منها إلا الوجه والكفان، حديث صريح الدلالة، وهو من الناحية الفنية يساوى حديث الحجاب إذ كلاهما من رواية أصحاب السنن، ولكن حديث أسماء موافق للآية، ولروايات البخارى ومسلم بعكس حديث التحجب. وقد شرح حديث أسماء كاتب معاصر فزعم أنه خاص بالبيت، وهذا خلط فالمرأة فى بيتها تكشف ما تشاء من بدنها غير الوجه وهذا مالا خلاف عليه !. ونحن ننصح أعضاء الجماعات الإسلامية أن يتعلموا الإسلام قبل أن يدعوا إليه فإن الإخلاص مع الجهل قد ينتهى بشر المآسي. *** ص _158(1/151)
المرأة والآداب العامة لعل أول ما يثب إلى الذهن بعدما فهمنا أن الإسلام لا يحكم على المرأة بالسجن المؤبد. هو: كيف تخرج المرأة وماذا يكون لباسها الذى يراها الناس به؟ وهل فساد المجتمع اليوم يبقى هذا الحق أم يقف تنفيذه؟ وسنبسط الإجابة فى هذا الموضوع متوخين التمشى مع النصوص المجردة. إن جماع الشهوات بلغ فى العصور الحديثة أقصى حده. وقد طوعت الشهوات المتبعة للناس أن ينتهكوا كل مستور، وأن يرتكبوا كل محظور، وأصبحت أفواه السكك وأسافلها معارض للأعراض المرتخصة والعورات المتكشفة. وما أحسب المرأة كانت ترتدى فى قعر بيتها قديما- حيث لا يراها أحد- هذه الثياب الفاضحة التى ما لبست إلا لتفتن النظارة وتثير الأهواء، وتحرك القلوب. إن ملابس الفضيلة معروفة تهدى إليها الفطرة، ويعرف الناس سمت مرتديتها وحالتها ومنزلتها. وقد رفض الإسلام تعرية الأذرع والسيقان والصدر كما رفض ترقيق الثياب بحيث تصف ما تحتها. دخلت أسماء بنت أبي بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها- مستنكرا- وقال: " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها شىء إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه ". وقد نص القرآن على وجوب تغطية الرأس والصدر وستر الزينة الداخلية وإرخاء الجلاليب حتى تصل إلى الأرض- كما فى بعض الآثار-. والواقع أن ملابس الراهبات المسيحيات أدنى ما تكون إلى آداب الإسلام . وكذا ملابس بعض الريفيات من سكان المنوفية والشرقية وغيرها . * * * ص _159(1/152)
وللمرأة ـ ما دامت بريئة الغرض ـ أن تنظر إلى الناس فى حدود الفضيلة فقد كان ذلك معهودا فى الصدر الأول وكان النبى صلى الله عليه وسلم يري زوجته عائشة رجال الحبشة وهم يقومون باستعراض عسكرى فى المسجد. على أن الرجال والنساء جميعا مكلفون بغض البصر وكسر النظر وملازمة الجد، وتزكية القلب، والبعد عن دواعى الفتنة. والنساء خاصة مكلفات بالبعد عن ليونة القول وطراوة الحديث : (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض)، وبيت المرأة حصنها الذى لا يجوز أن يقتحمه أحد عليها، ولا يصح بتاتا أن تخلو بأجنبى فيه أو فى غيره. "حقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن فى بيوتكم لمن تكرهون"... " ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذى محرم " . وقد كره النبى صلي الله عليه وسلم لبعض نسائه أن يرين ابن أم مكتوم وهو فى بيته، لأنه كان مكفوفا لا يحسن تعهد ثيابه، فربما انكشف من بدنه شىء وإلا فإن عائشة ـ كما أسلفنا ـ كانت ترى لاعبى الحبشة فى المسجد من بيتها. ولا ينبغى للمرأة إذا خرجت أن تتبجح فى الطريق أو تحدث مظاهر حولها!! عن أبي أسيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء فى الطريق: " استأخرن فليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق " فكانت المرأة تلتصق بالجدار ـ مخافة أن تزاحم أحدا ـ حتى إن ثوبها ليعلق بالجدار من لصوقها به!. * * * وخروج النساء للمسجد، أو للمدرسة، أو لأى غرض مشروع، ما دام فى أزياء العفة السابغة الوافرة ليس موضع خلاف بين الفقهاء المعتبرين. ولا يوجد نص صريح فى تغطية الوجه، بل المروى يفيد الكشف. كما ذكرنا وقد توسع بعض الفقهاء فأفتى بستره منعا للفتنة. ونحن لا نرى هذا النقاب وسيلة اتقائها مهما تعلق به المتزمتون بل إن المسلمين لجأوا إليه ص _160(1/153)
فى عصور العجز . وتدريب الرجال والنساء على الفضائل يحتاج إلى تربية على نطاق أتم وأشمل، إلى تقاليد تعتمد على النصوص البينة أكثر من اعتمادها على المتشابه والمختلف فيه. الإسلام يقرن جريمة الزنا بالشرك ويعدها من أغلظ الآثام ويغلق الأبواب المفضية إليها بعنف. وكما ينظف المجتمع من مظاهر الوثنية ينظفه من مظاهر الخلاعة فهو يحمى تقاليد الشرف كما يحمى عقيدة التوحيد. على عكس حضارة الغرب فإن بناءها قائم على الكفر والفسوق وقد سلطت اللذة البهيمية تشرح بدن المرأة تشريحا منكرا وتفتن فى الإغراء بها وسلخها من ثيابها وآدابها. وحشرت المرأة فى أعمال مختلفة لتيسر السطو عليها، واعتبرت المخادنة تصرفا عاديا والمراقصة فعلا مشروعا وارتماء المرأة فى أحضان أجنبى عنها شيئا لا غبار عليه بل إنها تلام إن نكصت عنه. والإسلام يرى هذه الحيوانية الجائحة أخت الشرك بالله ويعلن عليها حربا لا هوادة فيها، ويجب أن نقتل بذورها فى مجتمعنا بكل ما نملك من قوة وأن نسعى لإقامة تعاليم الإسلام بدلها. * * * والمسلم فى هذه الأيام مطالب بمزيد من التصون والحذر. وقد أوردنا نصوصا كثيرة توضح ناحية من علاقة المرأة بالمجتمع. لكن أحكام هذه العلاقة جزء من أحكام الشريعة العامة، وهى معطلة فى البلاد ومن الصعب تنفيذ بعض الدين فى غيبة الجزء الأكبر الذى يحميه. إن عيون الشبان المتسكعين تمتد جائعة ولا تجد من يقمعها " وإن ألسنة السفهاء تطول كثيرا ولا تجد من يردعها!!. والكبراء الذين يحتكم الشعب إليهم هم من عبيد أوروبا صنعتهم بيدها أقبح صناعة، ثم رمتنا بهم ليفسدوا علينا ديننا ودنيانا. وخروج المرأة- على النحو الذى أباح الإسلام- يتطلب حراسة ومشقة إلا أن يتغير الوضع كله وتعود لأحكام الدين مكانتها فينفى المخنثون ويجلد المتطاولون ويحتقر الهمازون واللمازون. ص _161(1/154)
المرأة والقضاء طلب فريق من النسوة أن يتولين مناصب القضاء وأن يستمتعن بالحقوق المخولة للرجال فى شغل هذه الوظائف وغيرها من الأعمال العامة. وأقحم الإسلام فى المناقشات التى دارت حول هذه الركبة النسوية، فمن قائل بأن الإسلام يبيح للمرأة هذا الحق، ومن قائل بأن الإسلام يرفضه رفضا حاسما..! ونحن نضحك من إقحام المرأة فى هذه الموضوعات لا لأنها خارجة عن دائرة اختصاصه. بل لأن الإسلام أفتى بتحريم الربا والزنى، ومع ذلك تجوهلت فتواه! وحث على الصلوات والفضائل. فجاء قوم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات يسألونه عن حكمه فى أمور أخرى ! كأنهم حريصون على أداء رسالته وإنفاذ شريعته.. أما موقف الإسلام من تولى المرأة القضاء ومن توليها المناصب العامة فمعروف : ا- إن الإسلام فى القضايا المدنية اعتبر شهادة المرأة نصف شهادة رجل ورفض قبول شهادتها منفردة ورفض قبول شهادتها فى قضايا الحدود وأشباهها مطلقا فكيف يقبل قضاؤها فيما ترفض فيه شهادتها. 2- والقضاء منصب له جلاله، وللقاضى على الناس ولاية عامة وسلطان واسع، فإذا كان الإسلام يجعل الرجل قواما على المرأة فى البيت- وهو المجتمع الصغير- فكيف يجعل للمرأة قوامة على الرجال فى المجتمع الكبير؟ 3- لاشك أن للمرأة حقها كاملا غير منقوص فى تدبير شأنها وإنفاق ما لها واختيار رجلها. وحريتها فى أحوالها الخاصة كحرية الرجل، بيد أن القضايا المتصلة بكيان الأم ومصالح الجماهير لها وضع آخر ينزل استعداد المرأة دونه. ص _162(1/155)
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. لما بلغه أن الفرس ملكوا عليهم امرأة: " لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة " . - ستظل المرأة هى اليد اليسرى للإنسانية، وسيظل عملها فى البيت أكثر من عملها فى الشارع. وسيظل الرجال حمالى الأعباء الثقال فى الشئون الخاصة والعامة لأن طاقة كل من الجنسين هكذا...! ولأمر ما لم يرسل الله نبية من النساء، ولم يحك التاريخ إلا شواذ من الجنس الناعم قمن بأعمال ضخمة على حين شحنت صفحاته بأسماء الرجال. وإذا كانت المرأة لم تختر رسولا فقد استطاعت أن تكون زوجة عظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تعينه إعانة رائعة على تبليغ الوحى وجهود الناس. فلماذا لا تكرس المرأة جهودها وتسخر مواهبها لتجعل من نفسها ظهير الرجل وعونه، وأن تقف فى الصف الثانى بدلا من مزاحمة الرجال فى الصف الأول؟! * * * إننا نأسف إذا كانت المرأة ستفهم من هذا الكلام أنها فى نظر الإسلام مهانة، أو أنها محرومة عنده من وضع تستحقه... هذا غلط! فالنساء شقائق الرجال، ولهن من الحرمة والمكانة والحقوق الفطرية ما يكفل لهن السعادة وا لاستقرار. وتكليف الإسلام أن يغينهن قاضيات أو وزيرات ظلم لطبيعة وافتيات على المصلحة!. وقد قرأنا لأستاذة محامية جربت الأعمال العامة، وأدركت ما سوف تعانيه لو أسندت لها أعمال النيابة والقضاء فكتبت تنصح بنات جنسها معلنة لهم هذا الرأى الحكيم. قالت الأستاذة "عزيزة عباس عصفور" المحامية. ص _163(1/156)
" لو كانت الخطوة التى خطاها معالى وزير العدل بتعيين الحقوقيات فى نيابات الأحداث كسبا للمرأة، لكنت أول من تدعو الله أن يبارك للمرأة فيها. أما واننى ممن خرجتهن كلية الحقوق فى الأفواج الأولى، وزاولت المحاماة أكثر من عشر سنين، ونجحت فيها نجاحا أحمد الله عليه، وبلوت فيها حلاوتها ومرارتها معا. فإننى أعلن فى صراحة أن النيابة والمحاماة تتنافيان مع طبيعة المرأة وتتعارضان مع مصلحتها. وأعلن إشفاقى على البقية من فتياتنا المثقفات اللاتى مازلن بخير، أن تجربن هذه التجربة المريرة المضنية. وأهيب بهن أن ينجون بأنفسهن من عاقبة لا يدركن مرارتها إلا بعد أن يقعن فيها، ويهدمن بأيديهن صرح سعادتهن! لقد تحطمت أعصابنا- نحن المحاميات- من إرهاق المهنة وعنتها، ومن محاربتنا للطبيعة، وتنكبنا طريق الواقع!. فما ظننا بالنائبات! إن المحامية تتحكم فى وقتها وظروفها. وتسيطر بحرية تامة على عملها، فهى حرة أن تقبل من القضايا ما تشاء، وترفض ما تشاء! أما النائبة فلا إرادة لها ولا سلطان فى اختيار الزمان والمكان والعمل !. بالله ماذا تكون العاقبة إذا خضعت النائبة لطبيعتها واستجابت لحقها فى الحياة، فتزوجت ورزقت أطفالا، واقتلعتها من بينهم طبيعة التحقيقات والانتقالات والمعاينات، وتركت زوجها قعيد الدار يربى الأولاد وبرضع الصغار؟! وهى فى الخارج تدور فى كل مكان، كأنها رجل الشارع الذى يهجر بيته آناء الليل وأطراف النهار؟ ترى هل ظنت زميلاتنا الحقوقيات الكريمات أن العمل فى نيابة الأحداث تدليل ومداعبة"طبطبة"؟ إنها ككل النيابات تحقق من الجرائم التى تقع بين الأحداث الخطير مع الهين ومنها ما يمس العرض، ومنها ما يتنافى مع الأدب، وهنا لابد للنائبة من التحرج حياء وخفيا، والإحجام عن استجواب وسؤال الشهود من الرجال أمام كتبة التحقيق وأمام رجال الأمن والمحامين الذين يحضرون التحقيق. ص _164(1/157)
وسلامة التحقيقات لا تعرف الخفر ولا الحياء!. ترى أتتولى التحقيق من وراء الستار، أم تعتذر عنه، وتنيب" النائبة" نائبا عنها يتولاه، أم تتغافل عن الأسئلة المحرجة، فيكون العجز: والنقص، وضياع العدالة؟! أم تراها تخرج عن طبيعتها فتلقى نقاب الحياء والأدب والأخلاق عن وجهها ولسانها وكرامتها وسمعتها جميعا!! إننا- نحن المحاميات لا نقبل مثل هذه القضايا، ونأبى المرافعة فيها هربا من الحرج، وصونا لطبيعتنا الخفرة. وماذا تصنع النائبة إذا عينت فى بلاد نائبة عن أهلها وليس بها للسكنى غير استراحات الموظفين، هل تبيت ليلتها مع زملائها من الرجال، أم تطالب بالبقاء فى المدن العامرة فتنعدم المساواة التى تنشدها المرأة؟!. إن الدين والأخلاق والعرف الحميد تحتم أن تعيش المرأة بعيدة عن مواطن الفتنة والإغراء والزلل، واختلاطها على هذه الصورة يعرضها لخطر محقق وحذر مؤكد، ويضع سيرتها فى ألسن الناس تلوكها بالمذمة والمسبة والعار! إن المحاميات منا لم يسلمن من الطعن، حتى من زملائهن المحامين أنفسهم فالناجحة استغلت أنوثتها، ونعومتها، والخصم الذى يوكل محامية يفاخر خصمه بأنه لكى يذله جابهه فى المعركة بامرأة لا برجل!. وأريد أن أسأل: كم عدد الحقوقيات اللائى تخرجن؟! وكم منهن اشتغلت بالمحاماة؟! ومن منهن أثبتت وجودها محامية ناجحة؟! فقمنا نسن تشريع جديدا من أجلهن!، لينزلن إلى الحياة الصاخبة الثائرة التى يحياها زملاؤنا وكلاء النيابة ومعالى الوزير يعلم مدى ما يلاقونه من إرهاق وعنت، فقد كان محاميا يرى متاعبهم بعينه ويلمسها بيده! وهو يعلم أنها عاطفة مندفعة بغير عقل تلك التى حدت بالزميلات إلى المطالبة بوظائف النيابات، التى ستودى بمستقبل الحقوقيات كأمهات وزوجات وربات بيوت وآنسات محصنات، لا نريد لهن غير ذلك ولا تريد منهن الطبيعة نفسها أن يكن نائبات ولا سفيرات ! ص _165(1/158)
إن رسالة المرأة فى الحياة لها جلالها و قدسيتها، التى لا تعادلها حقوق تمنحها ولا امتيازات تعطاها ، وإن كثرت! إن رسالتها أن تكون زوجة صالحة، وأما رؤوما يتريى فى أحضانها وبين ذراعيها مستقبل الوطن العزيز! ولقروبة ساذجة فى حجرها طفل أفضل للأمة وأنفع للبلاد من ألف نائبة وألف محامية. إن أثر المرأة فى الحياة لو هى استقرت فى بيتها، واستوت على عرشها، أبلغ وأعظم من أثر الرجل! نفسه. لأنها هى التى تقدم للإنسانية إنسانها الحى تقده من كيانها: دما وعظاما ولحما... هذا العالم الإنساني ثمرة من ثمارها، وحياته من حياتها! وأنتن أيتها الزميلات النائبات، همست إليكن: " أن إعجاب الرجل بقدرة المرأة الماهنة لن يعادل حبه وتقديسه للزوجة الكاملة لأنها هى الكائن العظيم الذى يستروح فى ظلاله النعيم. وغرض الطبيعة منكن، وحكمة الله فيكن، أن تكن أمهات، لا نائبات، ولا محاميات! ". وصدق جون سيمون فى قوله: " إن الحياة هينة، وطيبة، إذا علم كل من الرجل والمرأة المحل الذى خصصه الله لكل منهما". ص _166(1/159)
المرأة والعلم القصد الأول من التثقيف الصحيح هو تفتيق الذهن وتنمية المواهب وتصحيح فكرة الإنسان عن الكون والحياة وتعهد سلوكه بما يلائم الحق والواجب.. والمرأة والرجل سواء فى ضرورة الحصول على أقساط كبيرة من هذه الثقافات النافعة، فإن الأمية العقلية والاجتماعية والسياسية خطر كبير على كيان أى من الجنسين. والعلم ليس زينة قد يعطل الإنسان عنها فلا يضيره شىء! كلا فإن التجرد من العلوم والمعارف مزلقة إلى الدرك الأسفل لا نرضاها لأحد بله أن نلزمه بها. ولذلك نحن نفتح آفاق التعليم أمام المرأة ونغريها بالمزيد لو حاولت الاكتفاء. مثلها فى ذلك مثل الرجل. والملاحظ الآن أن مستوى المرأة الأدبى والعلمى أقل من مستوى الرجل، وفى كثير من البلاد الشرقية يحرصون على تجهيل المرأة وإسقاط كيانها الروحى والعقلى وهذا أمر منكر. فإن الذى يلحظ المجتمع الإسلامى الأول لا يرى فارقا بين فقه الرجل وفقه المرأة فى الدين، ولا تفاوتا بين إدراكهما للأمور العامة، وهذا ناشئ عن أصل المساواة فى التكاليف الشرعية بين الجنسين. أما اليوم فقد كان الشبان يطلبون لفلسطين، فتتساءل الأم أو الأخت أو الزوجة ما فلسطين هذه! وأين تقع من. دنيا الناس وما صلتنا بها!! يحدث هذا من نسائنا فى الوقت الذى يواجه رجالنا فى الميدان فتيات "إسرائيل " وهن يقاتلن كأشجع الأبطال!!. إن المرأة الجاهلة أعجز من أن تدرى شيئا عن القضايا العامة أو الخاصة. بل هى أعجز من أن تشرف إشرافا منتجا على تربية أولادها، وكذلك الرجل الجاهل طبعا. ص _167(1/160)
والتعليم فى أوسع دائرة ممكنة هو علاج هذا التأخر والانحطاط. * * * مما يدعو إلى الغرابة أن نخصص مدارس ابتدائية وثانوية للبنات ثم نخلط بين الجنسين فى التعليم العالى !! لماذا لا نخصص كليات أو جامعات بأسرها للفتيات؟ فنستجيب لمنطق الفضيلة وا لد ين. أما أمر البرامج فلنخضعه للمصلحة العامة كما نخضعه لملكات الأفراد واستعدادهم الخاص. فما يصلح له الرجال وحدهم لا معنى لإقحام النساء فيه!. وليس السبب فى ذلك الافتيات على حق المرأة فى العلم. فإننا نرفض قبول كثير من الطلاب فى الكليات الحربية والعسكرية مثلا لعدم توافر شروط معينة فيهم. فإذا ردت النساء عن بعض الكليات فلأن استعدادهن لا يؤهلهن لها فحسب. ثم إننا لا نريد ألبتة أن نعلم المرأة لنشغلها كاتبة فى مصلحة أو رئيسة لقسم أو وزيرة فى حكومة. إننا نريد لها العلم لذاته أو لا. ثم نريد لها بعد أن تخدم فى الميدان الرحيب الهائل الذى تأخر الشرق قرونا إلى الوراء بسبب قلة العاملين به وهو ميدان التربية والتعليم، ميدان الأسرة المتداعية والروابط المنهارة !. وقد تكون للمرأة أعمال أخرى رسمية وشعبية تخدم بها دينها وتنفع بها قومها وتساهم بها مع الرجال فى أداء الرسالة العظيمة التى كلفوا بها.. لا عليها أن تلتفت لذلك إذا شاءت والإسلام ظهير الصالحات المصلحات فى كل عصر ومصر. ص _168(1/161)
وكل ما نريد التنبيه إلى جلاله وخطره أن وظيفة المرأة فى بناء الأسرة وبالتالى فى بناء الأمة تحتاج إلى جهد يتصل فيه عمل الليل والنهار. والمؤلفات العلمية فى ذلك تستغرق فى دراستها سنين فكيف بتطبيقها؟؟! قال الرصافى يوصى الأمة بضرورة تربية النساء: ولم أر للخلائق من محل يهذبها كحضن الأمهات فحضن الأم مدرسة تسامت بتربية البنين أو البنات وأخلاق الوليد نفاس حسنا بأخلاق النساء الوالدات وليس ربيب عالية المزايا كمثل ربيب سافلة الصفات.. وليس النبت ينبت فى جنان كمثل النبت ينبت فى الفلاة * * * ثم هو يناجى أم المؤمنين ويبثها حزنه لجهل المؤمنات من بعدها، فيقول: أم المؤمنين إليك نشكو مصيبتنا بجهل المؤمنات.. فتلك مصيبة يا أم منها نكاد نغص بالماء الفرات * * * نرى جهل الفتاة عفافا كأن الجهل حصن للفتاة ونلزمهن قعر البيت قهرا ونحسبهن فيه من الهنات لئن وأدوا البنات فقد قبرنا جميع نسائنا قبل الممات... * * * ص _169(1/162)
نهضتنا النسائية بعيدة عن الإسلام لو أن المرأة فى مصر عندما أرادت دعم مكانها فى المجتمع وكرامتها فى البيت ورسالتها الجليلة فى الحياة، اتجهت إلى الإسلام تتعرف منه ما لها وما عليها لوجدت فى تعاليمه ما يشبع كل رغبة نبيلة ويحقق كل أمنية معقولة. ولجادلت دون حقوقها المشروعة كل مكابر. ولأحبطت- باسم الإسلام- أية محاولة لتحقير شأنها وتهوين أمرها وقصر وجودها على المتعة والاستيلاد فحسب. لكن المرأة فى مصر ولت وجهها شطر الغرب الآثم الذى ملأت الدنيا أرجاسه ولوثت الحياة أنفاسه!! وغرها ما منح المرأة هناك من حقوق ظاهرها إنصاف للمرأة ومساواة بين الجنسين، وباطنها إتلاف للمرأة من حيث هى عضو نافع فى مجتمع نظيف، واستدراج لها باسم المساواة لتكلف ما لا تحسن وما ينبغى أن تشغل نفسها به. وإذا المرأة المصرية تستحمق. وتضع برنامج نهضتها فتكتب فى أول سطوره منع تعدد الزوجات. وتقييد الطلاق!! ما هذا؟؟! إنه ليست هناك مشاكل خطيرة أو تافهة تعانيها الأمة عندنا من إباحة التعدد أو الطلاق. ولو عدت الأزمات التى هزت كيان المجتمع عندنا، ما فكر عاقل فى عد الطلاق أو التعدد منها، ولو فى آخر القائمة! ومصر من هذه الناحية- وحدها- أحسن حالا من أوروبا وأمريكا. إذن فما القصد من الكلام فى هذا الموضوع؟ القصد تجريح الإسلام بالباطل، والافتراء عليه متابعة للتقليد الأعمى، تقليد الحضارة الغربية التى تعمل الصليبية المحتلة من ورائها لمحاربة الإسلام والمسلمين. إن المصلحة المجردة قبل الشريعة المنزلة تبيح التعدد وتجيز الطلاق ص _170(1/163)
وإلى المرأة فى مصر نسوق هذا الاقتراح الإنجليزي لتعرف خطل موقفها من تعاليم الإسلام، ومقدار بعده عن النفع والصواب. نشرت مجلة روزا اليوسف فى العدد 1191 ما يلى تحت عنوان: "نائبة فى مجلس العموم تشكو من قيود الطلاق ". فى الوقت الذى تحتج فيه المرأة المصرية على سهولة الطلاق التى تكفلها قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية، تحتج المرأة الإنجليزية على أبدية الزواج وتحريم الطلاق!. وقد تقدمت النائبة الإنجليزية "مسز هوايت " إلى مجلس العموم البريطانى أخيرا بمشروع قانون يقضى بإقرار الطلاق بين كل زوجين يطول جد الانفصال بينهما إلى سبعة أعوام. وتقول "المسز هوايت " إنها ترمى من وراء هذا المشروع إلى حماية البقية الباقية من أخلاق المجتمع البريطانى. وإلى الإبقاء على كيان الأسرة البريطانية التى تهددها بالزوال قوانين الطلاق الحالية. والمعروف أن تقييد حرية الطلاق فى بريطانيا قد أصاب المجتمع الإنجليزى- وخاصة هذا الجيل- بموجة جارفة من الانحلال والتفكك. حتى أصبح المتشائمون يؤكدون أنه لم يعد فى إنجلترا كلها ما يمكن أن يسمى "أسرة" فى هذه الأيام. وأنه لن يكون فيها على الإطلاق أسرة فى المستقبل. لأن "أبدية الزواج " واستحالة الطلاق قد أصبحا مصدرا يغرق المجتمع كل يوم بأمواج الخطايا إ!. خطايا الأزواج الهاربين من القيد، والزوجات الباحثات عن الحرية، وأبناء السفاح الذين يعولون أنفسهم بالجريمة. على أن أخطر ما فى الأمر كله، هو أن هذه الظواهر جميعا تتضاعف كل يوم فى سرعة مخيفة، ولا يبدو عليها إطلاقا ما يشير إلى أنها قد تميل إلى التوقف فى يوم من الأيام!. بينما تقف الحكومة البريطانية عاجزة لا تدرى ماذا تفعل؟!. ص _171(1/164)
فهى تعلم مثلا أن عدد الأطفال الذين ولدوا سفاحا فى إنجلترا قد بلغ عددهم 37 ألفا سنة 1950 وحدها! وأن عدد الأزواج الذين يعيشون بعيدا عن زوجاتهم- بلا طلاق- قد بلغ ربع المليون! ولكنها تعلم فى الوقت نفسه أن المشكلة لا ينفرد بتعقيدها عامل واحد حتى تستطيع بجرة قلم أن تقضى عليه. بل هناك مئات من العوامل النفسية، والاقتصادية، والدينية، تشترك كلها فى إضافة عقد جديدة إلى العقد القديمة، ثم إلى تثبيت العقد القديمة نفسها. وقد هاجم كبير من الباحثين الاجتماعيين فى السنوات الأخيرة جمود القوانين البريطانية ورجعيتها. وأيدوا فى حماس كبير أن يكون مجرد "عدم الاستلطاف" سببا قويا لإقرار الطلاق!. وأكدوا أن الأضرار التى تعود على المجتمع من جراء ازدياد عدد المطلقين والمطلقات، أقل كثيرا من تلك التى تعود عليه من جراء الإسراف فى تزويده بأزواج صوريين، وزوجات صوريات ، وأطفال بلا أسرة. وقد استندت "مسز هوايت " إلى آراء هؤلاء الباحثين فى دفاعها عن مشروع القانون الذى قدمته إلى المجلس. وينتظر أن تثير المناقشة حوله ضجة شديدة فى جميع الصحف والدوائر الاجتماعية فى إنجلترا ". والآن... فما رأى زعيمات النهضة النسائية؟. * * * ص _172
الإسلام والاشتراكية "إن الأشعريين إذا أرملوا فى الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد... ثم اقتسموا بينهم... بإناء واحد... بالسوية فهم مني وأنا منهم ".... "حديث شريف " * * * أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في حق الحياة سواء (شوقى) ص _173(1/165)
اشتراكية الصد قات يقول الأستاذ خالد: " الصدقة فى نظر الكهانة نظام اقتصادى واف ووسيلة ناجحة لمحاربة الفقر و إسعاد الشعوب. و إنك لتسمع وترى الدعوة إلى الصدقة والإحسان حتى لتكاد تشك هل أنت فى مجتمع أم فى ملجأ. وانى لأصفق بكلتا يدى لهذا الكشف الرائع الذى كشفه (ويلز) فى طبيعة الكهانة حين قال:.....". ... ولماذا نجرى مع الأستاذ خالد فى نقل الكلام عن (ويلز"؟!. لا ضرورة لذلك. ولننقل بدلا عنه كلاما فى علاقة الصدقة بالاشتراكية كما يقررها الإسلام، وخطأ فريق من الناس- أو من الكهان- فى فهم هذه العلاقة ننقله عن كتابنا: " الإسلام والأوضاع الاقتصادية ". كثير من العلماء إذا ذكر عناية الإسلام بالفقراء وحدبه على الطبقات البائسة، لم يجد ما يستشهد به على ذلك إلا الزكاة. تلك الصدقة التى فرضها الله فى أموال الأغنياء حقا معلوما يتسع لحاجات المنكوبين ويفرج به ضيق المكروبين. وهذا تفكير محدود واستدلال ناقص، ذلك أن الزكاة لا تعدو أن تكون ضريبة إحسان. ومصارف الزكاة التى بينها الشارع تشير إلى هذا. ومكان الإحسان المالى فى بناء أى مجتمع ليس مكان القواعد والأوتاد، ومن العبث أن تربط حياة قسم كبير من الأمة بالفضلات التى تلقى إليه من القسم الآخر!، والشخص الذى يستطيع العمل من كد يده وعرق جبينه لا يجوز أن نفرض عليه الاعتماد فى حياته كلها أو جلها على الزكاة. وإلا فقد انقلبت الزكاة تشريع إفساد لا تشريع إصلاح.. تشريعا يعين على البطالة ويدفع إليها. ما دامت الفريضة لابد من إخراجها وما دام المحتاجون لابد أن يأخذوا أنصبتهم منها. وتلك كلها نتائج لا يقصد إليها الدين ولا يمهد لها. ص _174(1/166)
وقد قال الرسول صلوات الله عليه: " لا تحل الصدقة بغنى، ولا لذى مرة سوى "- قوى سليم -. فالرجال الأصحاء لابد أن تهيأ لهم وسائل العمل، والربح الوافر الذى يكسبونه من الأعمال هو الدعامة الاقتصادية الأولى فى بناء كل مجتمع صحيح بحيث يكون موضع الزكاة معها ثانويا يظهر مع طوارئ الضعف والعجز والتعطل والقعود. وهذا موضع الزكاة الواجب ومصرفها المعقول. ثم إن توفير أسباب العمل أمر تلزم به الحكومة ويفرض عليها، ويباح لها أن تتخذ من الوسائل الاقتصادية ما تراه كفيلا بتحقيق هذه الغاية العظيمة، بل يتحتم عليها أن تتخذ هذه الوسائل وأن تبتكر من المشاريع العمرانية والتحويرات المالية ما يقطع دابر التعطل ويسوق أفراد الشعب قاطبة إلى ميادين العمل والإنتاج، وليس فى دين الله، ولا فى تعاليم الحياة ما يحول دون هذا، بل على العكس، هناك من التوجيهات الدينية الخاصة والعامة ما يؤكد هذا المسلك ويحمده، فإن الإسلام مثلا يفرض التجنيد المالى إلى جانب التجنيد العسكرى، ويحتم تعبئة النفوس والأموال لخدمة الحق والفضيلة والإيمان، وتجنيد النفوس وتجنيد الأموال ليس عملا عسكريا بحتا، ومن الخطأ فهم ذلك فى عصر تطورت فيه الحروب حتى أصبحت علما وإنتاجا يستنفذ طاقة الأمم حتى لا يبقى لها قطرة، فتجنيد النفيس والأموال هو عمل زراعى وصناعى وتجارى، هو تسخير للقوى المنتجة وجعلها تروسا قوية فى الآلة الدائبة التى ينبغى أن تدور فى أوقات الحرب والسلم معا للإعداد والاستعداد. ومثل هذه الحالة لا يبقى معها عاطل، ولا يعيش فيها متشرد، والمساهمون فى حركتها النشيطة هم جميعا جنود مجاهدون يعرفون رسالة الحياة جيدا، ويقومون بأعبائها على خير وجه، وإلى بعض هذا يشير الحديث الشريف: "إن الله يثيب فى السهم الواحد ثلاثة نفر: الذى صنعه والذى ناوله والذى رمى به " . وعلى ضوء هذه الحقائق تعرف القصد من قول القرآن الكريم: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن(1/167)
لهم الجنة) فتستطيع كل حكومة عاقلة معقولة أن ص _175
تسن من القوانين، وأن تضع من النظم ماترى أن فيه الوفاء بحاجة الأمة على اختلاف طبقاتها، وفاء لا يبقى معه عاطل ولا محروم " . هذه الحقائق التى بسطنا فيها وجهة نظر الإسلام يعرفها صديقنا خالد، وكان حسبه أن يلتزمها عندما تكلم عن "اشتراكية الصدقات " لكنه لبس الحق بالباطل لبسا سيئا. والذى يقرأ كلامه فى الموضوع يخرج منه: ا- بأن الصدقة حرام على الرسول وأسرته فهى كذلك حرام على أمته. 2- أن الإسلام يكاد يكون مخطئا- فى نظره- لأنه فرض الزكاة! غير أنه معذور- أى الإسلام- لأن لهذا الفرض مسوغات كانت موجودة قديما. * * * فى النقطة الأولى يقول الشيخ خالد، لقد رأى رسول الله حفيده الحسن يمد يده نحو تمرة من تمر الصدقة ويدفعها فى فمه فانتزعها منه وهو يقول له كخ كخ، إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد إنها أوساخ الناس. فهل كان آل محمد طبقة أرستقراطية خاصة تأنف الهوان وتستنكف عنه ثم تبيحه لبقية الناس؟! كلا إنما هو مثل رائع يضربه محمد لهذا المجتمع الذى هو أسرته، للمجتمع الكبير الذى هو أمته ". لقد علمت فيما قلنا فى موضع الزكاة فى إصلاح المجتمع. والذين يأخذون من أموال الزكاة عن استحقاق لا يأكلون ميتة ولا يرتكبون جرما ولا يقترفون عارا. وقد أحل للناس أن يأكلوا من الصدقات عندما ينالونها- عن حق- بينما حرم ذلك تحريما قاطعا على النبى وأسرته، فلا يجوز بأية حال أن يأخذوا منها شعرة. وهذه خاصة بالأسرة النبوية لها دواعيها وحكمتها، وليس الأمر متصلا بأرستقراطية مزعومة لهذه الأسرة، فإن وضع الرسول من حيث هو داعية إلى الله هو الذى أوجب هذا التحريم. إن الله عز وجل يريد أن يجعل الدعوة إليه مبرأة من كل غرض. ص _176(1/168)
وقد سبق أن واجه الأنبياء جميعا الأمم! التى أرسلوا إليها بهذه الكلمة التى تنص على مبدأ التجرد والإخلاص، والتى تنفى ظنون الانتفاع والاستغلال. بدأ بها نوح مع قومه : (إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) ثم تتابعت- من بعد- على ألسنة المرسلين قاطبة. ا- فإذا كانت الزكاة ركنا فى الإسلام كالتوحيد والصلاة، ركنا يقاتل الرسول دونه، فكيف تكون الحال إذا كان له ولأسرته حق الأخذ منها؟! أليس فى هذا ما يثير الريب ويطلق الألسنة المفترية، لا على النبى فقط، بل على الدين نفسه؟!. ثم كيف يستقيم هذا الأخذ مع كثرة إدلإل القرآن بنزاهة الرسول أبعده عن كل ما يرزأ الناس فى أموالهم؟!: (أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ) (أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين) (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد) 2- ثم إن الرسول إمام للناس، موقفهم منه موقف الأتباع من الزعيم أو التلامذة مع الأستاذ، أو الجنود مع القائد، أو الأولاد مع الوالد. بل إن مكانته المعنوية ووظيفته الأدبية، وهو رجل منسوب إلى الله موصول بالوحى ، أسمى من أولئك جميعا. فكيف يتصور فى حقه أن يمد يده لتكون السفلى، فيأخذ صدقة من يد هى العليا حتما ما دامت يد المعطى؟!. أو كيف يسمح لهذه الصدقات أن تصل إلى بيته عن طريق أفراد أسرته؟! 3- هب أن دولة اعتمدت فى ميزانيتها مبلغا لإعانة الضعفاء والعاجزين فهل يرضى رئيس الدولة أن يفرض له مرتب من هذا الاعتماد؟!. وهل يتهم بأرستقراطية إذا جعل مخصصاته من باب آخر؟! ص _177(1/169)
إن رفض الرسول أن يكون له أو لأسرته شىء من مال الزكاة واضح الحكمة، وما يحرم بالنسبة له ليس عجيبا أن يباح بالنسبة إلى آخرين ولا يعتبر إهانة لهم. 4- ولقد حرم على البيت النبوى ما أبيح للآخرين من التوسع فى المباحات والتشبع من الطيبات. ومعروف أن نساءه لما طلبن مزيدا من متاع الدنيا خيرهن بين البقاء معه على شظف العيش أو الانطلاق إلى أهلهن . وهذه من خصائص النبى صلى الله عليه وسلم. 5- ومن خصائص الرسالة كذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم ليس له ميراث ؛ بل كل ما تركه صدقة. وليس الأمر كذلك بالنسبة لجمهور الأمة فتحريم أكل الصدقة خاصة للنبى صلى الله عليه وسلم وحكم ينفرد به ولا يجوز القول بعمومه بين المسلمين. ولا يفهم من هذا بداهة أننا نفتى بأكلها للأغنياء والقادرين. * * * أما الزكاة ففريضة كريمة، وهى قبل أن تكون ضريبة على الجيوب فإنها طهارة للقلوب وتزكية للطباع وتأسيس للسماحة وتحصين للمجتمع. وقد ذكرها القرآن بآثارها المعنوية قبل أن يذكرها بنتائجها المادية: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) والزكاة بداهة ليست ذريعة التسول والتعطل ولكنها الضمان الإلهى للطفولة والشيخوخة والعجز، والعون الطيب للمرهقين والمنكوبين والغارمين. ص _178(1/170)
والزكاة- فى عصرنا هذا- لم تعن بها حكومة من الحكومات الإسلامية ولم تحصر منابعها ولا مصارفها، وهى تظهر كتصرف فردى محدود عند أفراد من الأتقياء. ولا يوجد للآن ميل شعبى أو حكومى للقيام على هذه الفريضة الجليلة، لتؤدى رسالتها فى دائرتها. ولا عجب فالدنيا لا تعرف فوضى اقتصادية كالتى تعرف فى بلاد الإسلام. وقد أبنت فيما صدر من كتبى أن الزكاة لا تطهر أموال الكثرة الساحقة من كبرائنا، لأن أصولها جمعت من حرام. فالحملة على الزكاة ناشئة أولا عن الجهل بحقيقتها وعن المواطن التى تنفق فيها والأصول التى تؤخذ عنها. وهى ثانيا حملة على نظام غير موجود للأسف الشديد. ومن ثم فنحم نخشى أن تكون هذه الحملة موجهة لمشروعية الزكاة نفسها فى الإسلام والأمر فى هذه الحالة خطير، فالزكاة ليست نافلة تافهة، وشأنها لو نفذت ليست بالشأن الهزيل. ويقول صديقنا الشيخ سيد رجب فى الكلام عن الزكاة وخطرها: إن المحبة والتراحم والمواساة والعطف، لمن أعظم الحقائق التى أقام الله عليها خلقه وأحكم بها أمره فهو سبحانه الرحمن الرحيم، ومن هذا المصدر الأسمى فاضت الرحمة على الخلق أجمعين، حتى تألف الجماد، وتعاطف الحيوان، وتراحم الإنسان، وتجاذبت الأفلاك، وأمسك الله السموات والأرض أن تزولا. ومن هذا كان الدين فى دعوته إلى البر والإحسان- كما هو فى سائر نواحيه- قائما على أساس الفطرة نفسها، داعيا إلى حق لو لم توجبه الشرائع لأوجبته الطباع، ولو لم ينزل به قرآن من السماء لتنزلت به حقائق الأشياء. وليست الزكاة إلا كلمة الله فى تنظيم هذا البر والإحسان والمواساة. لذلك كانت فريضة من فرائض الدين فى كل ملة، وشرعة من شرائع الاجتماع فى كل أمة، وركنا من أركان الإسلام التى ينهض عليها بناؤه، وتتم بها كلمته وتزكو عليها أمته. ومن حق المشرع الإسلامى- وهذه مكانة الزكاة فى الإسلام- أن يحرص عليها، ص _179(1/171)
ويشدد فى أمره، ويضعها حيث وضعها الله فى مقدم الفرائض والواجبات، ويرتب عليها من النتائج ما هى جديرة بمآثره وآثاره فى الأنفس والآفاق. وإن فى ذكر التطهير والتزكية والتسكين مقرونة بتشريع الزكاة ما يسمح لكل ناظر فى كتاب الله أو مستمع لهديه أن يدرك كنهه ويعلم حقيقته فإنها ألفاظ ومعان لا تذكر فى كل حكمة من حكم التشريع، ولا يقصد إليها عند كل فريضة من فرائض الدين! بل هى لم تأت مجتمعة فى هذا النسق البديع إلا لأغراض جلية. وغايات بعيدة وحقائق عظمى لا يقوم لها من فرائض الإسلام غير الزكاة، فإنها طهرة لنفوس من الشح والبخل، وطهرة للمجتمع من الحاجة والعوز، وتزكية للأمة- فى دينها ودنياها- بإبعادها عما يقضى إليه ذلك كله، من الميول الخطرة، والمبادئ الهدامة والثورات الجائحة، التى لم يكن لها سبب فى التاريخ أظهر من تمايز الطبقات- تمايزا غير معقول- بالغنى والفقر، والكثرة والقلة والجاه والذلة. وإن من الأحداث العالمية التى يفق بها الناس، وتموج بهم موجا فى هذه الأيام، وتقف بعضهم بإزاء بعض كتلا وأحزابا، وتقسم الأرض إلى قسمين، شرقى وغربى و "بلشفى وديمقراطى" وما كان غير ذلك من مذاهب وآراء. قامت كلها على أساس الغنى والفقر، والثروة والعدم، والمنافسة فى الدنيا، ومدافعة الاستئثار بها، إن فى ذلك لأية على صدق القرآن فى كلمته للرسول- عليه الصلاة والسلام- (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) وعلى صدق الرسول فى كلمته إلينا: " اتقوا الظلم فإن الظلم- الظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " . وفى الحديث "ثلاث مهلكات، شح مطاع ، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه... ". ص _180(1/172)
الخبز هو السلام ذلك عنوان الفصل الذى عقده الأستاذ خالد لنقد أحوالنا الاقتصادية المعوجة والكشف عن العلل الخبيثة التى أدت إليها وقد امتلأ هذا الفصل الجيد بمعان حية وعواطف حارة وشواهد صادقة ويعتبر- والحق يقال- من خير ما كتب فى هذا الموضوع . وهو كذلك أحسن أبواب الكتاب وأقلها خطأ. ووددت لو أنه تخير له عنوانا أقل إغراقا فى المادية وأدنى اعترافا بالقيم الروحية من هذا العنوان الجاف- الخبز هو السلام- وقد يكون له العذر فى هذا الجنوح المادى فإنى أحمل " الرأسمالية الشرقية" وحدها أوزار ما تقترف من مظالم. وأوزار ما تثيره فى النفوس من تطرف. لقد وقر فى نفوس الناس أجمعين أن هذه الرأسمالية تقوم على سرقة الجهود والأموال والفرص. ثم على إنفاق ما تسرقه فى إشباع الشهوات ونشر الفوضى الخلقية والاجتماعية والسياسية. وقد ألجأتنا تصرفات هذه الرأسمالية الملعونة إلى طول الكلام عن الإصلاح المادى وتوفير الضرورات التى لابد منها للإنسان. وكان الإكثار من هذا الكلام على حساب النواحى المعنوية. وعلى حساب الجانب الإلهى والنصيب الأخروى الذى لا يجوز لنا أن ننساه. ولكن ما العمل؟! وهذه الرأسمالية تغتال دنيا الناس وتحتال على دينهم ولا تبقى منهم إلا حطاما لا يصلح لشىء... إنني وأنا أحد دعاة الإسلام مضطر أحيانا إلى التحدث فى أمور أرضية بحتة مدة طويلة لأنه لا يمكن أن أنقل إلى الملأ الأعلى رجالا- نسوا كل شىء تماما- من طول ما استخدموا فى الأرض، واسترقوا لأصحابها، واستهلكوا فى إراحة نفر فاسق مفسد من شياطين الإنس. ص _181(1/173)
الإصلاح المادي بين نهجين وللخلوص من هذا الحيف والظلام توجد طريقتان لا مناص من اختيار إحداهما ، إما اشتراكية مجردة لا تعترف بالدين أصلا كما فى روسيا أو قد تعترف به فى حدود ضيقة جدا كما فى بعض البلدان الأوروبية الأخرى. وإما الاشتراكية الإسلامية التى تعتمد اعتمادا مباشرا على هاتين المادتين من دستور الإسلام: 1- إله واحد فقط. 2- أخوة عامة بين الناس. فلا مكان فى هذا الدستور لأرباب متفرقين من ذوى الجاه والسلطان، ولا لأسر مقدسة تنتحل شعارات المجد الزائف والعظمة الكاذبة. والأفراد على اختلاف لغاتهم وأوطانهم وألوانهم سواسية. لا يجوز أن يفضل واحد على آخر، ولا أن تتاح فرصة لامرئ دون أخيه، ولا أن يعمل هذا ويتعطل ذلك، ولا أن يحرم ذلك ويعطى هذا. . ولا... ولا... مما تزخر به المجتمعات فى بلادنا وغير بلادنا من مظاهر الفسوق والعصيان لأوامر الله الواحد القهار. هذان هما المنهجان. ونحن لا نقبل- للخروج من المأزق الذى وقعنا فيه- اشتراكية مجردة لا تعترف بالدين، ولا اشتراكية محايدة يستوى لديها الشرك والتوحيد. لأننا واجدون فى الإسلام ما نبتغيه من صيانة لأصل الإيمان، ومن إقامة لدعائم العدالة والمساواة بين الناس، ومن العناصر الكاملة لبناء اشتراكية معتدلة نظيفة. ولأننا- إذا أفسد علينا بعض السفلة من الحكام والأغنياء دنيانا- لا نريد أن نضيع ص _182(1/174)
ديننا بشراء هذا الإصلاح المزعوم عن أى اشتراكية أخرى بل علينا أن نجاهد لكسب حقوقنا باسم الإسلام وسنصل إليها حتما بتوفيق الله. * * * ونحن ننقل هنا فقرات من مقدمة كتاب (الإسلام المفترى عليه: بين الشيوعيين والرأسماليين) يزيد هذا المعنى وضوحا: إن الإسلام عقيدة ونظام: والنظام فى ديننا يتبع العقيدة ويقوم على خدمتها. أو هو امتداد مطلق لآثارها وفضائلها فهو تابع لها أبدا. وقد يأخذ أشكالا مختلفة على مر الأزمنة. بيد أن ذلك يشبه اختلاف الوسائل مع اتحاد الغاية... وقد يظن السطحيون أن وجود مبادئ معينة فى النظام الإسلامى قد تميل به نحو اليمين أو اليسار، وذلك خطأ. فإن مبدأ الملكية مثلا قد يشترك فى الاعتراف به النظام الإسلامى والنظام الرأسمالى. وتحريم الفائدة الربوية قد يشترك فيه النظام الشيوعى والنظام الإسلامى، وليس معنى هذا أو ذاك أن الإسلام رأسمالى أو شيوعى. كلا.. إنه منهج مستقل يستقى من طبيعته ثم يمضى فى مجراه المرسوم لنفع الناس وحماية مثلهم العليا. والحالة الاجتماعية التى نعيش فيها تفرض علينا أن نذكر عن الإسلام هذه الحقائق التالية: ا- أنه لا يعترف بملك من حرام ولا بكسب من سحت. 2- أنه لا يجيز معاوضة الجهد الشاق بأجر بخس ولا مكافأة العمل التافه بأجر كبير. 3- أنه لا يبيح التعطل والتسول والفوضى ويعتبر الحكومة مسئولة عن بقاء هذه الآفات. * * * "والاشتراكية الإسلامية تعتمد المبادئ الرفيعة أولا ثم تقيم الأشكال المادية ص _183(1/175)
المناسبة لها تستعين على ذلك بقوة القانون. فالأخوة العامة مبدأ، والدولة مسئولة عن تنفيذه وعن هدم أى وضع مادى ينافيه والترف مرض اجتماعى. والدولة ملزمة بسن أى تشريع مادى يمنعه. والفضائل الإنسانية ضرورة لابد منها. والدولة مسئولة عن القوالب المادية التى تصوغها لحفظها، وقد يتقاضاها فلك أن تقق على النحو الذى تسير عليه روسيا أو أمريكا، ولكن هذه القوانين لن تكون روسية ولا أمريكية مادام الغرض منها والدافع إليها إسلاميا مجردا... ". * * * هذا هو رأينا فى التشريعات الفرعية. فالعبرة بالدستور الأصيل الذى يرعاها والروح الذى يصاحبها، ولو أن إنجلترا رأت لأسباب وطنية أن تدخل إصلاحا على قانونها الجنائى بقطع يد السارق وبجلد الزاني فإنها لا تنقلب إسلامية بإجراء هذا التعديل فى تشريعها ما دامت المسيحية دينها الرسمى!. بل قد يقال إن هذا تعديل تدعو إليه المسيحية إ! ونحن نستطيع بلا مراء أن نبقى مسلمين أوفياء لإسلامنا مهما شرعنا لأحوالنا الاقتصادية ما قد يشابه فى ظاهره نظام الشرق أو الغرب. * * * ص _184(1/176)
أنصار الاشتراكية الإسلامية منذ تعقدت المشاكل الاقتصادية واتصلت حلولها بالمصالح المباشرة للدول والشعوب، فكر رجال الإسلام فى أمرها تفكيرا ينطوى على الإخلاص للدين والتيقظ للواقع. ومما له دلالة رائعة أن نتائج التفكير الإسلامى كانت متشابهة رغم تقطع الصلات بين الرجال الذين عالجوا قضية الاقتصاد العام وحكم الإسلام فيها. فمنذ شهر جاءتنى عدة رسائل علمية للأستاذ المودودى رئيس الجماعة الإسلامية بباكستان. وقد قرأتها مثنى وثلاث فما كان أشد دهشتى للتقارب العجيب بل التوافق الحرفى بين أسلوب إخواننا فى الهند وما انتهوا وانتهينا إليه من مقترحات وحلول. وهكذا تمت الموافقات بين ثمار بحثنا هنا وبين ما استقر عليه جهاد إخواننا فى الشام؟ فقد استطاعوا إدخال مبادئ. هامة للإصلاح الاقتصادي فى صلب دستورهم الجديد خاصة بتوزيع الأراضى والملكية الزراعية أصبحت الأرض به لمن يفلحها لا لمن يملكها. وصار من حق الدولة هنالك أن ترفع يد المالك المهمل عما لديه من أرض لا يعمل فيها. وقد وصفت "الأهرام " هذا الدستور بأنه وثيقة تقدمية. ونحن نصفه بأنه كسب محدود للجبهة الاشتراكية الإسلامية. بلى إنه محدود ؛ لأن دائرة الإصلاح الإسلامى أوسع مدى مما يظنه الكثيرون. وقد بسطنا فلسفة الاشتراكية الإسلامية وذكرنا أطرافا من برنامجها الضخم فى عدة كتب صدرت ونشرت فصولا منذ سنين "الإسلام والأوضاع الاقتصادية "، "الإسلام والمناهج الاشتراكية "، " الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين" وقد أصدر الأستاذ سيد قطب كتابا غزير المادة جيد البحث فى الموضوع نفسه " العدالة الاجتماعية فى الإسلام ". وقد تلاقت أفكار المؤلفين جميعا عند نقط ثابتة هدتهم إليها فطرة الإسلام ووحدة السبيل، واستهدفوا فيها وصف الدواء الناجع من الإسلام نفسه لما يعانيه المسلمون فى أقطارهم المريضة من نوائب وأزمات، دون التطفل بأمتهم على موائد الشرق أو الغرب!!. ص _185(1/177)
وحوش لا حكام إن تعاليم الأخوة والتراحم التى ملأت كتاب الله وسنة نبيه كافحت أقصى كفاح ضد لون من الحكم ساد بلاد الإسلام قرونا طويلة لو بليت به بقاع أخرى من الدنيا لما بقيت فيها مظاهر للحياة ولا معالم للعمران. كانت الحكومات حربا على الشعوب. وكانت كلمة الوالى لا تعنى غير الغصب أو السرقة أو الظلم الفادح فى أحلك صوره. وكانت تعاليم الإسلام لا تستطيع إلا أن تقوم بالخدمة التى يؤديها رجال الهلال الأحمر عندما تهيج الزلازل أو تثور الحروب. قد تطلب المريض أو تواسى الجريح أو تمسك الرمق على جائع أو تهيىء المأوى لطريد أو غير ذلك من المساعدات المتقطعة. أما الحرب التى أعلنها هؤلاء الحكام على الشعوب فقد ظلت مشتعلة الأوار، بللا تزال نارها تبرق- إلى اليوم- فى أقطار إسلامية منكوبة. إنها حرب على الإسلام وعلى أمته. وقد مر بك كيف أنه من هؤلاء الملوك من ألغى الحدود والقصاص بجرة قلم، كأنما يقول لله: أنت تشرع فى السماء وأنا أعطل فى الأرض.! ومن هؤلاء الملوك من اعتبر نفسه مالكا لرقبة الأرض التى يعيش الناس عليها ويعملون فيها، بل إن تاريخنا المؤسف حافل بالكثير من هؤلاء الملوك الذين سرقوا الأرض من أصحابها وأعطوها أذنابهم من المداحين والخدامين! فكأن الواحد منهم ليشارك رب العزة فى أسمائه الحسنى فينعت نفسه أنه مالك الملك... والبشر بعد ذلك هم عبيده الأذلون !. فترة قاتمة مرت بالإنسانية فى شتى الأعصار والأمصار جعلت الأرض غابة كبارها أسود وذئاب وصغارها غنم و أرانب، ولا مكان فيها لدين أو شرف أو خلق. ولست أعجب لشىء عجبى من أن يحدث ذلك فى بلاد الإسلام، وأن يبقى ص _186(1/178)
مقترفوه أحياء لحظة من الزمان، وأن تمتد ظلال هذه الفوضى وتنتشر مع أنها تقلصت فى سائر الأقطار. والعقبات التى تعترض الاشتراكية الإسلامية ليست إلا بقايا هذا التكبر الباطل وهذا السكوت الزرى. والمسلمون لا يزالون بشر ما ابتعدوا عن هدى دينهم فى البديهيات التى لو تحققت لمحت ما تخلف فى ديارهم دون سائر بقاع الدينا من فوضى التملك والتعطل ووحشية الأ ثرة والاستبداد. قال الرصافى يصف هؤلاء الأمراء من آل السلطنة : تركو السعى والتكسب فى الدنيا وعاشوا على الرعية عاله يتجلى النعيم فيها فتبكى أعين السعى من نعيم البطاله يأكلون اللباب من كد قوم أعوزتهم سخينة من نخاله فكأن الأنام يشقون كدا كى تنال النعيم تلك السلاله وكأن الإله قد خلق الناس لمحيا آل السلاطين اله..! نعموا فى غضارة الملك عيشا وحملنا من دونهم أثقاله فإذا صاول العدو خرجنا دونهم للورى نرد صياله وإذا هم جروا الجرائر يوما فعلينا تكون فيها الحماله وإذا ما استهل فيهم وليد فعلينا رضاعه والكفاله قد رضينا بذاك! لولا عتوا أظهروه لنا على كل حاله ما بهم ما يميزهم عن بنى السوقة إلا رسوخهم فى الجهاله..! هم من الناس حيث لو غربل الناس لكانوا نفاية أو حثاله ... تلك والله حالة يقشعر الحق منها وتشمئز العداله هى منهم دناءة وشنار وهى منا حماقة وضلاله ليس هذا فى مذهب الاشتراكية إلا من الأمور المحالة وهو فى الملة الحنيفة البيضاء كفر بربنا ذى الجلاله ص _187(1/179)
إن الحاكم فى الإسلام أب رحيم قبل أن يكون ذا سلطان مكين. وناحية الرحمة فى نفسه أسبق من ناحية الصرامة والشدة. والأسوة فى هذا من الرسول العظيم إذ يقول: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: " النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزوجه أمهاتهم... " إلخ. فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينا أو ضياعا يتامى- فعلىَّ وإلىَّ ". وروى عباد بن شرحبيل عن نفسه قال: أصابتني سنة- جدب- فدخلت حائطا- بستانا- من حيطان المدينة ففركت سنبلا فأكلت وحملت فى ثوبى... فجاءنى صاحبه فضربنى وأخذنى وأتى بى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم فذكر ذلك له . فقال له الرسول: " ما علمته إذ كان جاهلا ولا أطعمته إذ كان سابغا ". ثم أمره فرد على ثوبى وأعطانى وسقا أو نصف وسق من طعام " الوسق ستون صاعا". * * * هذا إلى أن الحاكم ما كان فى نظر الإسلام غير رجل مستأجر لعمل إن أحسن فيه أخذ راتبه وإلا طرد منه. فمن انقلاب الأوضاع أن يتحول الحاكم مالكا والأمة نفسها هى التى تؤجر أو ترد. وتصحيح هذا الوضع من أول مبادئ الاشتراكية الإسلامية. وهنا استطراد دفعتنا إليه المناسبة، أما أصول هذه الاشتراكية ففى مظانها التى حدثنا القارئ. عنها قبلا. ص _188(1/180)
أين هى؟ وقد يتساءل المرء أليس لهذه الاشتراكية الإسلامية صور حية وتطبيقات واضحة فى حاصر العالم الإسلامى حتى يمكن الاستدلال بآثارها على توجيهات الدين بصددها. والجواب المحزن: لا يوجد شىء من ذلك. فإن مبادئ الإسلام منهارة فى بلاده منذ أمد بعيد. وليس هذا الانهيار فى مسائل قد يصح أن تكون موضع بحث وخلاف. كما تقترحه الاشتراكية الآن مثلا من تأميم المرافق العامة وتقييد الملكيات الخاصة. كلا فالانهيار يتصل بصميم المبادىء الخلقية فى الدين نفسه. فإن سرقة الأرض المزروعة على نطاق واسمع، واعتبار منابع البترول ملكا لفرد متسلط، واحتكار التجارات الهامة بواسطة عصابات معينة، وتعريض الجماهير الغفيرة للعرى والجوع فى ربوع تفيض بالذهب وتتدفق بالخير.. وغير ذلك من ظواهر الانحطاط والتلصص لا يعتبر خروجا على مبادئ الاشتراكية الإسلامية فقط، بل يعتبر خروجا على قواعد الإنسانية. فليدس خلاف الشعوب مع هؤلاء الحكام على أمور غامضة من النوع الذى قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " . أجل.. ليس الحلاف على هذه الأمور المشتبهات. إنما النزاع، أبجل الحلال ويحرم الحرام أم لا؟. أتصادر المضبوطات المسروقة أم لا؟!. أينزل الحكام إلى مراتب البشر أم يبقون فى مصاف الآلهة؟!!. وسيبقى العارم الإسلامى أضحوكة اليهود والمجوس حتى تعرف هذه الأجوبة: ص _189(1/181)
أى إيذاء لله ورسوله أنكى من هذا الإيذاء؟! وأى صد عن الحق أخس من هذا الذى يصنعه الأوغاد من كبرائنا بهذا الدين؟! أن تقدمه للإنسانية المحرومة أيد ملوثة على أنه طعام مسموم يتجرعه الإنسان ولا يكاد يسيغه ؟ . إن فكرة الناس عن الإسلام وأمة الإسلام لا تشرف أبدا. وأرض الإسلام فى المصور الجغرافى للعالم هى أرض الضياع والهوان!. والصورة المستقرة فى أوهام الأجانب عن سكان هذه الأرض أنهم قطعان من التعساء يمشون فى ركاب نفر من الكبراء. أهذا مبلغ ما فعله بأنفسهم أهل الديانة القائمة على التوحيد والعدالة (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون). وننظر إلى جانب آخر من العالم تقوم الحياة فيه على إنكار ما وراء المادة والبعد عن الدين جملة فماذا نجد؟! نشرت جريدة المصرى حديثا لأنيس عازر بك وزيرنا المفوض فى روسيا ذكر فيه ما يلى ننقله بنصه: " إن الغلاء فى روسيا شنيع بالنسبة إلى الأجانب، ولكن الأسعار فيها متناسبة مع الأجور. ". وأوضح سعادته ذلك فقال: " إن العامل أو العاملة يأخذ أجرأ بحد أدنى مقداره 500 روبل فى المدن، 300 روبل فى القرى ، وأنه يدفع أجر سكن زهيد ويأكل هو وأسرته بمتوسط 600 روبل فى الشهر. فإذا افترضنا أسرة من ثلاثة أشخاص يعملون- وليس هناك من لا يعمل فى سن العمل- فإنهم يحصلون على دخل نحو 1200 روبل يستطيعون أن يسكنوا ويلبسوا ويأكلوا منه. ". وسأله مندوب جريدة المصرى أن يحدثه عن أهم ما استلفت أنظاره هناك؟. فقال: " العناية بالطفل، إنها فائقة الحدود، والأم تمنح إجازة أربعة أشهر قبل ص _190(1/182)
وبعد الوضع بمرتب كامل. والملاعب العامة تملأ كل مكان. وأدوية الأطفال تصرف مجانا. والتعليم إجبارى سبع سنوات! ". وسألنا سعادته عن الحالة الصحية هناك؟ فقال: " طيبة، والمستوى الطبى العلمى عال جدا ". وبعد كلام عن مكانة الفن فى روسيا لا نهتم بنقله. قال سعادته: " إن مما لفت نظره هناك بشدة انعدام الهموم، فليس بين الناس هناك من يفكر كثيرا فى متاعب أسرته ". ثم قال: " ونظام الأسرة هناك محكم جدا. وقد كفل القانون حماية الزوجة تماما ". * * * قرأت هذا الحديث ثم هجس فى نفسى أن الشيطان عقد مع قرنائه من البشر تحالفا أن يسقطوا مكانة الدين بأنجع الأساليب وذلك بتقديم الإلحاد على أنه منفعة اجتماعية، وربط الإيمان بعجلة الجوع والعرى والتشرد والمسكنة ثم تقديمه للناس. والحق أن هذا الذى يقدم ليس إيمانا. والذين يقدمونه ليسوا رجال دين. والذين يحرسونه ليسوا رجال حكومات. والله ورسوله برىء من هذا الإفك وأولئك الدجالين. والإسلام- كما قلنا- توحيد الله وعدالة بين الناس، وعلى المنصفين من أبناء القرآن الكريم أن يذودوا عن دينهم، وأن يطهروا ربوع الشرق- عن عجل- من الأصنام التى نصبت فى أقطاره تحتكر الخير وتستبعد الشعوب وتطفىء منار الإسلام! * * * ص _191(1/183)
تكثير النسل لا تحديده إننا نؤيد الأستاذ خالدا فى حملاته العنيفة على الفساد الاقتصادى الذى خرب بلادنا وهد قوانا وأسقط اعتبارنا. ونؤيده فى أكثر المقترحات التى تقدم بها لتعمير ما خرب وتكريم من ذلوا. مع أن خالدا من دعاة- الاشتراكية المجردة- ونحن من دعاة الاشتراكية الإسلامية، إلا أن مسلكه فى نظرنا أشرف من بعض الرجال المحسوبين على الدين، والذين لم نقرأ لهم أى كلمة يعطفون بها على بائس أو يحاربون بها صاحب عدوان. إلا أننا نرفض رفضا حاسما مقترحه العجيب فى تحديد النسل!! وربطه هذا المقترح بالإصلاح الاقتصادى ومعالم الاشتراكية. ولنسا نزعم أن تحديد النسل حرام. فقد كتب الإمام أبو حامد فى الإحياء وصدرت الفتوى من المسئولين الرسميين عنها بإباحة التحديد إذا اقتضته ضرورات محترمة. وإنما الذى ننكره أن هناك ضرورات عامة تجعلنا ندعو الأمة إلى الاقتصاد فى الأولاد! فالحقيقة أن الفقر فى مصر مرده سوء توزيع الثروة وسوء استغلالها لا قلة الإنتاج ثم إن ما يمكن إنتاجه أضعاف ما نحصل عليه فعلا. ولو أن كل يد تستطيع العمل وجد لها المجال الذى تكدح فيه، ولو أن الثروة الوطنية بعد ذلك وزعت على العاملين لا على القاعدين لما كان فى مصر بائس ولا محروم. إن مصر تتسع لأربعين مليونا ولا يضج فرد فيها بشكوى لو أن الحكومات فى مصر فكرت فى استغلال الصحراء بالزراعة والتعدين، وفكرت فى استغلال بحارها الواسعة، وفكرت فى استغلال موقعها العالمى الفريد، وفكرت فى استغلال نيلها الذى يفيض بالخير الدافق كل عام. إن أسباب الفقر فى مصر مصطنعة!. ص _192(1/184)
والتفكير السديد أن نعمل على إزالتها لا أن نمنع التوالد خوفا من مواجهتها. والمعروف أن تكثير النسل محمود فى العالمين الشيوعى والرأسمالى. فى روسيا وأمريكا. فما الذى يجعلنا نجنح إلى هذه الخطة المؤدية إلى تضاؤلنا وانكماشنا؟!! أما الإسلام فراغب فى زيادة النسل وساع إليه بشتى الوسائل " تناكحوا تناسلوا تكثروا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة " . وقد أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتزوج النساء ابتغاء الولد. وجعل إخصاب المرأة أرجح ميزاتها وأفضل حسناتها بل علامة يمنها وبركتها "سوداء ولود خير من حسناء عقيم " . * * * والترويج لهذا الاقتراح يحجب عن أمتنا خطأ نفسيا واجتماعيا ينبغى أن نصارحها فالحق أن الأمة الإسلامية كسول متلاف مغبونة فى وقتها مهضومة فى مالها وخيراتها. ومع أن الرقعة التى تسكنها فى العالم حافلة بأسباب الثراء والقوة إلا أن الكسل والقعود والتواكل عطل غرائز النشاط وملكات الابتكار فيها، وقذف بها فى مؤخرة القافلة السائرة. ولقد رأيت بقاعا كثيرة مشحونة بالكنوز التى تفيد منها التجارة والصناعة والزراعة يقطنها أقوام من الهمل السفهاء يعيشون على الخطف أو التسول أو التهريب أو الأشغال التافهة. ورأيت أفرادا من الأجانب يغدون إلى هذه البقاع الغفل فإذا هى تتحول فى أيديهم منابع زرق وفير، وكسب غزير، فتأكد لدى أن الفقر فقر خلق ومواهب، وأن الشرق الإسلامى يضيق بنصف بنيه- لو أصابت سكانه جائحة- مادامت أخلاقهم ومسالكهم على ما هى عليه من بلادة وخمول . ص _193(1/185)
وصدق القائل: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق والإسلام لا صلة له ألبتة بهذه الحال. فإن القوم لم تشغلهم أعمال الآخرة عن مطالب الدنيا. ولم يقطعوا الليل فى التهجد والنهار فى التسبيح حتى نقول: صرفتهم أعمال عن أعمال ورأوا فى ذكر الله غناء عن حاجات النفس وضرورات الدنيا!! لا والله؟ فقد قمت بتشريح أحوالهم الفكرية والمعنوية فكدت أجزم بفراغ أفئدتهم من عقيدة التوحيد مثل فراغ أيديهم من وسائل العيش !! وخرجت من المقارنة بين نفسية كثير من المسلمين وكثير من الكافرين بالنسب الآتية أضعها تحت أنظار القراء وأطالبهم أن يتأكدوا من صدقها بتجاربهم الخاصة. عند المسلمين عند غير المسلمين 1% من الوقت تدين. 85 % فراغ وغفلة. 14 % أعمال دنيوية. 0.5 % من الوقت تدين . 80% للأعمال الدنيوية. 19.5 % للفراغ والغفلة. ولنترك وصف التدين بالفساد و الصحة عند الفريقين. ثم لنوازن بين النتائج المرتقبة بل الواقعة لكلتا الحياتين. إن تحديد النسل أو إطلاقه لا يصنع مع هذه الحقائق شيئا، فإذا ارتفع المستوى الروحى والعقلى فإن الدعوة إلى تحديد النسل تصبح لا موضع لها. هناك من يخوض فى الدعوة إلى تحديد النسل من وجهة نظر أساسها فى نظرنا اليأس من وجود أجيال لها عزم وخلق. إنه يرى الرقعة الخصبة فى القطر المصرى ضيقة، ويرى توسيعها مستحيلا، ويرى الوليد القادم شخصا مستهلكا لا منتجا، شخصا له فم، يطلب الطعام وليست له يد تطلب العمل، ولو أنها طلبته ما وجدته. ص _194(1/186)
وهو لذلك يدعو بحرارة إلى الاقتصاد فى النسل حتى لا تتعرض البلاد لمجاعة، أو على الأقل لمستوى أدنى من العيش الكفاف. وتفكير هؤلاء واضح، ولو أن الإنجليز اعتنقوا هذا التفكير لكان عددهم خمسة ملايين فقط فإن جزيرتهم لا تدر رزقا إلا لعشر سكانها. ولكن القوم تناسلوا ونشطوا وعاشوا وملئوا بقاع الأرض حركة ودأبا. ونريد أن نسأل: هل تملكنا القنوط من خلق أجيال كادحة جريئة مغامرة، لا أقول تعمر الأراضى البعيدة عنها بالهجرة بل تعمر أرضها هى بالإيمان والاقتدار؟!. إن كان ذلك حقا، فنحن نوصى بمنع، وإخصاء الجماهير البليدة التى لا تقدر على الحياة. لأنها ليست للحياة أهلا!. ويؤسفنى أن أصرح بأن نصف ثرثرة المثقفين فى شئون الإصلاح لو اتجهت إلى البناء على أساس إسلامى لأغنت أمتنا من فقر، وطمأنتها من قلق. ولكن هؤلاء المثقفين أضلتهم عن الطريق تعاليم أجنبية غرسها المستعمرون غرسا ليقضوا على مستقبل أمتنا. بعد أن زلزلوا حاضرها وجحدوا ماضيها. لقد كنت أرى حملة الإجازات العليا يتراخون فى العمل بالواحات، أو على شواطىء البحر الأحمر، وتركوا هذه البقاع الغنية لشركات أوروبية تربح منها القناطير المقنطرة، وجلسوا هم مع بعض الصحافيين فى القاهرة يتكلمون فى تحديد النسل، لأنه لا عمل، ولا طاقة ". * * * وسأكون أصرح فى كشف النقاب عن هذه المهزلة. إن تقليل النسل بيننا سياسة مرسومة بمهارة وحقد.. فإن المستعمرين هالهم أن هذه الأمة تتكاثر مغالبة عوامل الفناء المسلطة عليها!. وهذه الكثرة مع بواكير اليقظة السارية فى أوصالها مصدر خطر على هذا الاستعمار الصليبى. ص _195(1/187)
ولذلك أوعزوا إلى كل وسائل الإعلام الخاضعة لهم أن تحارب هذه النزعة بين المسلمين وحدهم. ومن العجائب المضحكة أن الخواجة سلامة موسى، كان جهير الدعوة إلى تقليل النسل لينخدع به المسلمون من قراء الصحف. ومات حضرته عن ثمانية أولاد!! إن إحصاء السكان فى أنحاء العالم والمشرف عليه هو الاستعمار، يتعمد تقليل عدد المسلمين فى أقطار أفريقيا وآسيا، ويشيع أن عددهم نحو ثلاثمائة مليون. مع أن عدد المسلمين ستمائة مليون. والجهد الاستعمارى الخبيث يتجه إلى جعل المسلمين قلة بالفعل عن طريق تحريضهم على تقليل النسل.. ومن هنا قلنا: إن تحديد النسل لآحاد الناس وفق ضرورات مشروعة لا حظر عليه. أما رسم سياسة لتقليل المسلمين، فهو للأسف هدف صليبى لكسر شوكة الأمة، وجعلها بالنسبة للشيوعيين والنصارى نزرا يسيرا يمكن الخلاص منه والتغلب عليه... والمحزن أن ذلك أصبح غاية مقررة لبعض الحكومات التى تقوم فى بلاد إسلامية . * * * محمد الغزالى(1/188)