من مقاصد الحج
إعداد الدكتور
عبد العزيز بن عبد الله الحُمَيدي
الأستاذ بجامعة أم القرى
كلية الدعوة وأصول الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فإن للحج مقاصد عالية وأهدافًا سامية وذلك في مجالات كثيرة منها إقامة ذكر الله جل وعلا والتذكير بالآخرة , وتقوية الإيمان بالله تعالى , وتهذيب الأخلاق , وتثبيت الأخوّة الإسلامية , وتعظيم مكة المكرمة والمشاعر المقدسة , وإنني في هذه الكلمات الموجزة أحب أن ألقي الضوء على هذه المقاصد والأهداف من باب التذكير ولفت النظر إلى الاعتبار والحرص على الاستقامة على الطريق المستقيم .
الكعبة المشرفة والحج في التاريخ القديم -
إن مما جاء في الكعبة المشرفة والحج في التاريخ القديم ما أخرجه الإمام البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : « .. ثم جاء بها – يعني هاجر – إبراهيم وبإبنها إسماعيل – وهي ترضعه – حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر ، وسقاءً فيه ماء ، ثم قفَّى إبراهيم منطلقًا فتَبعَتْه أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت : آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم ، قالت: إذَنْ لا يُضيِّعنا ثم رجعت » .
وهذا يبين لنا أن هذه الهجرة كانت بأمر الله تعالى لينشأ إسماعيل عليه السلام بمكة المكرمة وتعمرَ به، وليتم بناء الكعبة بعد ذلك ، ثم تكون عبادة الحج إليه .(1/1)
وقد نفَّذ إبراهيم عليه السلام هذا الأمر الإلهي مع مشقته على نفسه ، حيث سيضع زوجته وابنه الوحيد في فلاةٍ من الأرض ليس بها ماء ولا طعام، ولكنه أمر الله تعالى ، وإبراهيم يوقن بأن الله سبحانه لن يضيع إسماعيل وأمه وأن وراء ذلك الأمرِ حكمًا عظيمة، وقد أخرج ابن إسحاق من خبر مجاهد وغيره « أن الله لما بوأ لإبراهيم مكان البيت خرج بإسماعيل وهو طفل صغير وأمِّه ، قال: وحُملوا فيما حُدِّثت على البراق »(1) .
وقد كان إبراهيم عليه السلام قد وقع في هذه الهجرة بين أمرين ضاغطين على إرادته وسلوكه، أولهما تنفيذ أمر الله تعالى ، والآخر مواجهة مشاعر الرحمة والحنين نحو زوجته وابنه ، وما قامت به هاجر من اتباعه ومناشدته عدم تركهما وحدهما في ذلك الوادي القفر .
ولم يكن هناك أي مقارنة بين الضاغطين،لأن إبراهيم عليه السلام لم يخرج بهاجر وابنها من الشام إلا وهو يريد تنفيذ أمر الله عز وجل في كل الظروف التي ستحدث ،ومما يبين كون الأمر الثاني قد شكَّل ضغطا قويا على نفسه أنه لم يلتفت إلى هاجر وهي تناشده حتى لايكون لمنظرها ومنظر ولدها المحزن أثر على تكييف إرادته .
وفي هذا الحديث بيان لقوة توحيد هاجر رحمها الله ورسوخ يقينها ، حيث قالت لما علمت بأن تلك الهجرة من أمر الله تعالى « إذن لا يضيعنا ».
__________
(1) ... فتح الباري 6/401 .(1/2)
قال :«فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لايرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال چ ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? چ [إبراهيم : 37] ، وجعلتْ أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه وهو يتلوَّى ، فانطلقتْ كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا ، فلم تر أحدًا ، فهبطتْ من الصفا ، حتى إذا بلغتْ الوادي رفعتْ طرف درعها ثم سَعَتْ سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي(1)، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدًا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فذلك سعيُ الناس بينهما ، قال : فلما أشرفَتْ على المروة سمعَتْ صوتًا فقالت: صَهٍ – تريد نفسها، ثم تسمَّعَتْ أيضًا فقالت : قد أسمعتَ إن كان عندك غَواث، فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم فبحث بعقبه – أو قال بجناحه – حتى ظهر الماء ، فجعلت تُحوِّضه [ أي تجعله حوضا] وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف .
قال ابن عباس : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يرحم الله أم إسماعيل لو تركتْ زمزم – أو قال : لو لم تغرف من الماء– لكانت زمزم عينا معينا .
قال : فشربَتْ وأرضعَتْ ولدها، فقال لها الملَك : لاتخافوا الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ».
__________
(1) ... وإنما فعلت ذلك لأن ابنها يغيب عن ناظريها إذا هبطت في الوادي، فهي تخاف عليه من السباع .(1/3)
وهكذا تبين لنا من هذا الحديث أصل تشريع السعي بين الصفا والمروة والحكمة من ذلك ، وأن هذا النسك من باب التأسي بأم إسماعيل عليهما السلام اللَّذين ينتسب إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حيث سعَتْ بين الصفا والمروة سبع مرات ، وأسرعتْ في الوادي، فشُرع في الحج السعي بينهما سبع مرات والإسراع بين العلمين الأخضرين اللذين هما إشارة إلى الوادي في وضعه القديم.
ولقد تبين لنا في الحديث علاقة السماء بالأرض، والارتباط الوثيق بين من في السموات ومن في الأرض، وأن المؤمن التقي موصول بربه جل وعلا، وأنه سبحانه مع أوليائه المؤمنين إذا صدقوا معه بنصره وحمايته وعنايته، وقد كان إبراهيم عليه السلام موقنًا بأن الله تعالى لن يضيع تَرِكتَه التي خلَّفها وراء ظهره .
لقد كان أولياء الله عز وجل يسيرون في الأرض ويعملون بالأسباب التي شرعها سبحانه مع يقينهم بقربه منهم ولطفه بهم ، وهكذا فعلتْ أم إسماعيل حينما كررتْ صعود الصفا والمروة والسعي بينهما وكلها ثقة بأنها ووليدها موصولان بعناية الله جل وعلا، الأمرَ الذي عبَّرت عنه بقولها « إذنْ لايضيعنا » .
إن السعي بين الصفا والمروة تذكير بهذه المعاني الجليلة .. من الثقة التامة بالله عز وجل ، وتذكُّر إحاطته بخلقه وأنهم في كنَفِه جل وعلا وحياطته ، مع بذل الجهد في عمل الأسباب التي خلقها الله سبحانه وجعلها موصلة لغاياتها .
إن الحاج حينما يتذكر هذه المعاني السامية يُضفي على سعيه بين الصفا والمروة قدرًا كبيرًا من الحيوية والطمأنينة ، ويجعلُ من هذا النسك فاعلاً قويًّا في زيادة إيمانه ورسوخ يقينه .(1/4)
قال ابن عباس في سياق روايته « ثم جاء- يعني إبراهيم- بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحةٍ قريبًا من زمزم فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ، والولد بالوالد ، ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني ؟ قال: وأعينك ، قال : فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا – وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها – قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يناوله الحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يأتي بالحجارة وهما يقولان چ پ پ ?? ? ? ? ? چ [البقرة : 127] قال : فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان چ پ پ ?? ? ? ? ?چ (1).
فالله سبحانه أمر إبراهيم عليه السلام ببناء الكعبة وأرشده إلى مكانها بالتحديد .
وقوله في هذا الحديث « رفعا القواعد من البيت » قال الحافظ ابن حجر : في رواية أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن سعيد عن ابن عباس : « القواعد التي رفعها إبراهيم كانت قواعد البيت قبل ذلك » قال: وفي حديث عثمان وأبي جهم « فبلغ إبراهيم من الأساس أساس آدم ، وجعل طوله في السماء تسعة أذرع ، وعرضه في الأرض – يعني دوره – ثلاثين ذراعا » وكان ذلك بذراعهم .
قال الحافظ ابن حجر : ومن طريق عطاء قال: «قال آدم يارب إني لا أسمع أصوات الملائكة، قال: ابن لي بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحفُّ ببيتي الذي في السماء » . قال : وفي حديثه – يعني أبا جهم – أيضًا : «إن الله أوحى إلى إبراهيم أن اتْبَع السكينة، فحلَّقتْ على موضع البيت كأنها سحابة فحفرا يريدان أساس آدم الأول » .
وكان البيت قد تهدم واندثر الأساس أيام الطوفان الذي كان في عهد نوح عليه السلام (2).
__________
(1) ... صحيح البخاري ، رقم 3364 ، 3365 (6/396 – 398) .
(2) ... فتح الباري 6/406 .(1/5)
وقوله « وحتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر » قال الحافظ ابن حجر: يعني المقام، وقال: زاد في حديث عثمان « ونزل عليه الركن والمقام، فكان إبراهيم يقوم على المقام يبني عليه ويرفعه له إسماعيل ، فلما بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه، وأخذ المقام فجعله لاصقا بالبيت، فلما فرغ إبراهيم من بناء الكعبة جاء جبريل فأراه المناسك كلها، ثم قام إبراهيم على المقام فقال : يا أيها الناس أجيبوا ربكم، فوقف إبراهيم وإسماعيل تلك المواقف ، وحجَّه إسحاق وسارة من بيت المقدس ، ثم رجع إبراهيم إلى الشام فمات بالشام» قال : وروي الفاكهي بإسناد صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس قال : « قام إبراهيم على الحَجَر فقال: يا أيها الناس كتب عليهم الحج ، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فأجابه من آمن ومن سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك » (1).
وهذا هو المقصود بقول الله تعالى چ ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گچ [ الحج : 27] يعني يأتون مشاة وراكبين على الإبل التي تأتي من كل طريق بعيد .
وكان أهمَّ ما أمر الله عز وجل به إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يطهرا بيته وما حوله من جميع أنواع الشرك ، قال تعالى چ ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? چ [ الحج 26] وقال سبحانه چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ [ البقرة : 125] فأمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام أن يبني البيت على اسمه وحده من غير أي شريك ، ثم أمره وابنه إسماعيل عليهما السلام أن يطهرا البيت وما حوله من جميع الأوثان وأن يجعلاه خالصا للموحدين الذين يعبدون الله سبحانه وحده لاشريك له ، ويعمرون بيته بالطواف والعكوف والقيام بالصلاة حوله .
__________
(1) ... فتح الباري 6/406 .(1/6)
ثم دعا إبراهيم عليه السلام لأهل مكة المكرمة بالأمن والرزق الواسع كما في قول الله عز وجل چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? چ [ البقرة : 126] وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية : كان إبراهيم يحْجُرها على المؤمنين دون الناس ، فأنزل الله : ومن كفر أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين ، أخلق خلقًا لا أرزقهم ؟ أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير، ثم قرأ ابن عباس چ ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ چ (1).
ومما جاء في ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: « إن إبراهيم لما أُمر بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم ، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، قال: ثم تلَّه للجبين [ يعني تلَّ إبراهيم إسماعيل ليذبحه كما رأى في المنام ] وعلى إسماعيل قميص أبيض ، فقال: يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه ، فعالجه ليخلعه ، فنودي من خلفه چ پ پ پ ? ? ?? چ [الصافات: 104– 105] فالتفت إبراهيم فإذا هو بكبش أبيض أقرن أعين، قال ابن عباس: لقد رأيتُنا نتتبَّع هذا الضرب من الكباش، قال: ثم ذهب به جبريل إلى الجمرة القصوى، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب » (2).
فهذا الأثر فيه قصتان : الأولى قصة إبراهيم عليه السلام لما بين له جبريل عليه السلام بعض المناسك وعرض له الشيطان ، والثانية قصته لما رأى في المنام أنه يذبح ابنه فعرض له الشيطان .
__________
(1) ... تفسير ابن كثير 1/180 .
(2) ... مسند أحمد 1/297 – 298 .(1/7)
وسأبدأ بالتعليق على هذه القصة لأنها متقدمة على القصة الأولى كما سيأتي في بناء البيت وقد سبق لنا خبر إبراهيم حين وضع إسماعيل وأمه عليهم السلام قرب الكعبة وما جرى من نبع ماء زمزم ، وقد كان إبراهيم عليه السلام يزورهما بين الحين والآخر، وفي إحدى زياراته ذكر لإسماعيل عليه السلام رؤياه في المنام التي ذكرها الله سبحانه بقوله چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? چ [الصافات : 101 – 111] وهذا الغلام الحليم الذي بشر الله عز وجل به إبراهيم هو إسماعيل عليهما السلام .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام فإنه أول ولد بُشر به إبراهيم عليه السلام ، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل في نص كتابهم أن إسماعيل عليه السلام ولد ولإبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة ، وولد إسحاق [ عليه السلام ] وعمْر إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسع وتسعون سنة ، وعندهم أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده ، وفي نسخة أخرى : «بِكرَه »، فأقحموا ههنا كذبا وبهتانا إسحاق ، ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم ، وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم وإسماعيل أبو العرب ، فحسدوهم فزادوا ذلك وحرفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره ، فإن إسماعيل ذهب به وبأمه إلى مكة ، وهو تأويل وتحريف باطل ، فإنه لا يقال وحيدك إلا لمن ليس له غيره .
كذلك ذكر من الأدلة قوله تعالى چ ? ? ? ? ? ? چ[ هود: 71] فكان وجود يعقوب ابن إسحاق داخلا في البشارة ، ولايمكن أن يؤمر إبراهيم بذبح ولده إسحاق وهو صغير مع وجود هذه البشارة(1) .
__________
(1) ... تفسير ابن كثير 4/16 .(1/8)
وقوله تعالى چ ? ? ? ? چ أي كبر وصار يسعى مع أبيه ، وذلك يكون عادة بعد سن الطفولة چ? ? ? ? ? ? ? ? چ قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما « رؤيا الأنبياء في المنام وحي »(1) ولذلك اعتمد إبراهيم عليه السلام أنه مأمور بذبح ولده من الله عز وجل ، وهكذا أخبر ابنه بذلك ليكون تنفيذ الأمر أيسر عليه فيما إذا سلَّم له ابنه، وليحصل ابنه على أجر الطاعة والصبر چ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? چ وهكذا استسلم إسماعيل لأمر الله تعالى مع صغر سنه وهذا دليل على قوة إيمانه ورسوخ يقينه چ? ? چ أي استسلما لأمر الله تعالى طاعة له ورضا بقضائه وقدره چ ? ? چ أي أكبه على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يشاهد وجهه حتى لا تغلبه عاطفة الرحمة به چ پ پ پ پ ? ? ?? چأي قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح چ?? ? ? چ أي هكذا نصرف عن عبادنا الذين أحسنوا العمل بطاعة ربهم جل وعلا المكاره والشدائد ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا ، ولقد كان ذلك ابتلاءً عظيما واختبارًا كبيرا لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، ولذلك قال تعالى چ ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? چ وهو الكبش المذكور في هذا الخبر ، وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : «كبشٌ قد رعى في الجنة أربعين خريفا » (2).
وقد جاء في هذا الأثر أن الشيطان عرض لإبراهيم عليه السلام ليحول بينه وبين تنفيذ أمر الله تعالى في ذلك فرماه بسبع حصيات في مكان الجمرات في منى ، وجاء في أول الأثر أن جبريل عليه السلام ذهب بإبراهيم عليه السلام ليريه المناسك فعرض له الشيطان في مكان الجمرات فرماه بسبع حصيات ، والظاهر أن هذا بعدما كبر إسماعيل وقام بمساعدة والده في بناء البيت عليهما السلام .
__________
(1) ... تفسير ابن كثير 4/16 .
(2) ... تفسير ابن كثير 4/18 .(1/9)
وهكذا الشيطان الرجيم يحاول جاهدًا أن يصد أولياء الله تعالى عن عبادته ومعرفة مشاعره التي أمر بتعظيمها وعبادته حولها ، وهي سلسلة من المعركة القديمة بين الشيطان والإنسان ، التي بدأت بمحاولة الشيطان إغواء أبينا آدم عليه السلام ، وإذا كان الشيطان يقوم بمحاولة إغواء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن طمعه في إغواء أتباعهم من المؤمنين أولى وأحرى ، ولقد سن لنا أبونا إبراهيم عليه السلام هذه السنة الحسنة في محاربة الشيطان ورد كيده .
وما يزال الشيطان الرجيم يوقع بني آدم في مختلف الغوايات والضلالات ، فالكفار يصدهم عن الدخول في الإسلام بتضخيم الشبهات التي يثيرها شياطين الإنس ، وضعفاء الإيمان يزين لهم الشهوات والمعاصي ويُكرِّههم في الطاعات ، وأقوياء الإيمان يحاول أن يَدخل عليهم من أبوابٍ منها الإعجاب بالنفس والاعتداد بالعمل .
وهذه الجمرات الثلاث فرصة للمسلم الحاج وهو يرميها أن يتذكر عداوة الشيطان القديمة الجديدة لبني آدم وأن يكون حاضر القلب مع تعظيم الله تعالى وتحقير الشيطان .
وهذا الهدف ليس المقصود منه تذكُّر عداوة الشيطان في تلك المواقف فقط ، وإنما هي مجرد تذكير، والمطلوب من الحاج أن يستصحب تذكُّر هذه العداوة بعد ذلك، فيكون هذا التذكر عاصمًا له من وساوس الشيطان .
تعظيم مكة المكرمة والمشاعر المقدسة -
لقد حدد الله تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام الحرم الشريف حول مكة المكرمة فعظمه وقدَّسه ، وأكَّد تعظيمه أبونا إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، ثم توارث العرب بعد ذلك هذا التعظيم والتقديس ، ولما بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكَّد ذلك بما أَوحى الله تعالى إليه، ومن ذلك قوله جل وعلا چ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ ہ ہ ہ ھھ چ [ أل عمران : 96 – 97] .(1/10)
فقوله تعالى چ ? ? ? ? ? چ يعني شُرع لعموم الناس تقديسه والتوجُّه إليه حال الصلاة والطواف به والاعتكاف عنده چ ? ? چ يعني مكة وهو اسم من أسمائها ، وقد بنى الكعبة إبراهيم الخليل عليه السلام ونادى الناس إلى حجه چ ? چ لساكنيه وقاصديه ، وقد أخرج الإمام البخاري من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : « قلت : يارسول الله أيُّ مسجد وُضع في الأرض أول ؟ قال: المسجد الحرام ، قال: قلت: ثم أيٌّ ؟ قال : المسجد الأقصى، قلت : كم كان بينهما ؟ قال: أربعون سنة ، ثم أينما أدركتْكَ الصلاة بعدُ فصلِّهْ فإن الفضل فيه »(1) .
ثم قال تعالى چ ں ں چ أي لعموم الناس من عهد إبراهيم عليه السلام حيث أمر بتقديسه والحج إليه، فكان ذلك واجبا على اليهود والنصارى الذين يزعمون أنهم على دينه، ولكنهم أنكروا قدسية هذا البيت ولم يُنفِّذوا أمر إبراهيم عليه السلام بالحج إليه، وبقي الحج إليه عند العرب، وذلك مما ورثوه من دعوة إسماعيل عليه السلام ، إلى أن بعث الله عز وجل رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فدعا العالمين إلى تقديسه والحج إليه .
ثم قال تعالى چ ? ? ? چ أي دلالات ظاهرة على أن هذا البيت من بناء إبراهيم عليه السلام چ ? ?ہ چ أي الصخرة التي كان يصعد عليها حين بنى البيت حيث إن أثر قدميه في المقام ظاهرة كما قال المفسرون من التابعين، وفي ذلك يقول أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة التي دافع فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأظهر حمايته وتحدى مخالفيه :
ومَوطئُ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيًا غير ناعل(2)
__________
(1) ... صحيح البخاري ، رقم 3366 (6/407) .
(2) ... انظر سيرة ابن هشام 1/273 .(1/11)
ثم قال تعالى چ ہ ہ ہ ھھ چ أي ومن دخل الحرم بحدوده المعروفة كان آمنا على دينه ونفسه وعرضه وماله ، وهذا الأمن مترتب على اعتقاد ساكنيه والوافدين عليه بحرمته وقداسته ، ومما ينتج عن ذلك أن مكة المكرمة وسائر نواحي الحرم ليست بحاجة إلى حماية الأمن بها من قبل المسؤولين لأن الوازع الديني الذي يفرض تقديس الحرم يجب أن يكون مسيطرًا على النفوس فيمنعها من أن تستجيب لنزواتها المنحرفة .
وقد كان هذا الوازع مسيطرا على العرب في الجاهلية على الرغم من أنهم لم يكونوا على دين صحيح، وإنما توارثوا تقديس هذا الحرم الذي كان من الآثار الباقية لدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وعمَّق ذلك في نفوسهم أن هذا البيت لم تصل إليه يد جبار من الجبابرة على الإطلاق، وما حادثة أصحاب الفيل منهم ببعيد ، بينما وصلت أيدي الجبابرة إلى المسجد الثاني الذي كان مقدسا عند الأنبياء عليهم السلام وهو بيت المقدس .
ولقد كان القاتل من العرب يلجأ إلى الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يتعرض له ولايهيجه حتى يخرج من الحرم، وإذا كان هذا شأن صاحب الثأر الذي تُلزمه الأعراف الاجتماعية بأخذ الثأر فمن باب أولى أن يمتنع عن الاعتداء من كان في نفسه ميل إلى الظلم .
ولقد جاءت هذه الجملة من الآية في سياق تعداد آيات الله تعالى الدالة على وحدانيته جل وعلا، فهو سبحانه الذي غرس في قلوب العرب جميعا تقديس هذا البيت واحترام الأمن فيه، وإن جَمْعَ العرب على عقيدة واحدة مع اختلاف مشاربهم وتضخُّم العداوة فيما بينهم لايمكن أن يكون إلا من عند الله تعالى .
هذا وإن أي إخلال بالأمن داخل الحرم في مكة وما حولها يعدُّ تعطيلا لمدلول هذه الآية من قِبَل المسلمين بعدما كان مطبقا من قِبَل المشركين، وهذه منقصة كبيرة ومساءة عظيمة في سمعة المسلمين .(1/12)
ولقد امتنَّ الله تعالى على المشركين بهذه النعمة، وجعلها آية من الآيات التي يجب أن تدفعهم إلى الإيمان بهذا الدين لو كانوا يعقلون ،حيث يقول عز وجل چچ چ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ژ ژ چ [ العنكبوت :67] كما بين لهم سبحانه أنه هيأ لهم مكانًا صالحًا لقيام حياتهم الهادئة ، حيث توافر فيه أهم عناصر الحياة السعيدة، ألا وهو الأمن چ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?چ [ المائدة : 97] فالبيت الحرام مأوى مكاني يلجأ إليه الخائفون ويأمن فيه المقيمون ، والأشهر الحُرُم مأوى زماني يستروح الناس فيها حياة الأمن ويتفرغون لإصلاح شؤون حياتهم ويستطيعون القيام بالسفر البعيد الذي لم يكونوا قادرين عليه في غير الأشهر الحرم(1) .
وبهذا المأوى المكاني وذلك المأوى الزماني استطاع أهل مكة أن ينعموا بنعمة الأمن من الخوف ونعمة الحصول على لوازم الحياة المعيشية ، كما قال الله جل وعلا چ ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ[ قريش: 1 – 4] .
__________
(1) ... والأشهر الحرم أربعة كما جاء في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « السَّنَة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حُرُم: ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم، ورجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان » أخرجه الإمام البخاري ، رقم 4662 ، وقوله «ورجب مضر» قال الحافظ ابن حجر: أضافه إليهم لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه بخلاف غيرهم- فتح الباري 8/325- .(1/13)
وإننا حينما نستعرض تاريخ المسلمين نجد فرقًا شاسعا بين واقعهم ومدلول هذا الآيات ، فالمسلمون في هذا الحرم الشريف لايشعرون بالأمن الكامل على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم ، حيث أصبح الوضع يحتاج إلى حماية من قوات الأمن كأي بلد آخر ، ونجد بعض المسلمين قد هبط مستواهم في الوازع الديني فيما يتعلق بقدسية الحرم و احترام الأمن فيه عما كان عليه أهل الجاهلية ، بينما كان المفترض أن يتضاعف لدى المسلمين الشعور بقدسية الحرم واحترام الأمن فيه لما ورثوه عن أسلافهم ، ولما جاء من تعظيم الحرم والأمر باحترام الأمن فيه في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن مدلول هذه الآية يقتضي أنَّ من دخل منطقة الحرم كان في منطقة أمان لا يحتاج فيها إلى أخذ الحيطة والحذر لنفسه .
وإن من مقاصد الحج تعظيم مكة المكرمة والمشاعر المقدسة , ولقد عظَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - شأن مكة المكرمة , وبيَّن فضلها على سائر بقاع الأرض بقوله « والله إنك لخير أرض وأحب أرض الله إلى الله , ولولا أني أُخرجت منك ماخرجت» أخرجه الدارمي وابن ماجه (1).
وهذا يضفي على مكة المكرمة قداسة ترسخ حرمتها ومكانتها .
ولقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرمتها بالتفصيل يوم فتح مكة , حيث قال : « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض , فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة , وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي , ولم يحل لي إلا ساعة من نهار, فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة , لايُعضد شوكه , ولاينفر صيده , ولايَلتقط لقطته إلا من عرفها , ولايُختلى خلاه» متفق عليه(2) .
__________
(1) ... سنن الدارمي , رقم 2510(2/311) , سنن ابن ماجه , رقم 3108 (1037) .
(2) ... صحيح مسلم , رقم 1353 (ص986) , صحيح البخاري , رقم 104, (1/197) .(1/14)
فالقتال في مكة المكرمة محرم مطلقا لم يحل لأحد إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة من نهار , ليطهر مكة من الشرك والأصنام وغير ذلك من مظاهر الجاهلية , ومع ذلك فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تفادى بحكمته العالية القتال , فلم يقع إلا بصورة يسيرة بين الكفار وفرقة من جيش المسلمين .
وقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - حرمة القتال في مكة المكرمة في هذا الحديث , بل إنه في حديث آخر حرم مجرد حمل السلاح في مكة حيث يقول :« لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح » أخرجه الإمام مسلم من حديث جابر رضي الله عنه(1) .
وذلك حتى لا يستعمله حامله في ساعة غضب يحضر فيها الشيطان , وحتى لا يكون في ذلك ترويع للمسلمين الآمنين , وفي هذا دلالة على أن أي تصرف ينتج عنه ترويع المسلمين فإنه محرم, وإن كان الهدف منه لا يتضمن الاعتداء على الآمنين , فكيف إذا نتج عنه استعمال السلاح داخل الحرم ؟!
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - حرم حمل السلاح حتى للدفاع عن النفس, لأن المفترض شرعا أن يكون الناس آمنين في مكة, حيث إن الكفار ممنوعون من دخولها , فكون المسلمين لا يأمنون في مكة من اعتداء المسلمين عليهم انتكاسة كبيرة في الوعي الديني .
ولكن حينما لا يتوافر الأمن في مكة المكرمة ويصبح الناس فيها بحاجة إلى حراسة وحماية فإن الضرورة تستدعي جواز حمل السلاح لمن كلفوا بحماية الأمن فيها .
ولقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق أن حرمة الحرم لاتقتصر على أمن الناس فيه على أرواحهم , بل تتجاوز ذلك إلى الحفاظ على ممتلكاتهم , وما أودع الله تعالى فيه من حيوان أو نبات .
فالذي يسقط منه شيء بدون علمه يبقى في مكانه لايحركه أحد حتى يرجع إليه صاحبه إلا رجلا على استعداد بأن يُعرِّفه ويبحث عن صاحبه من باب فعل المعروف , حيث أنه لايملكه وإنما يبقى من حق صاحبه .
__________
(1) ... صحيح مسلم , رقم 1356 (ص989) .(1/15)
والصيد فيه آمن لايجد من يُروِّعه , فضلا عن أن يلحق به الأذى , حتى نبات الحرم الذي لم يغرسه الإنسان يبقى على حاله لايحركه أحد وإن احتاج إليه إلا ما استثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو شجر الإذخر لاحتياج الناس إليه آنذاك .
وإذا كان الحيوان في مكة المكرمة يبقى في أمن وأمان, والنبات لايَعتدي عليه أحد فكيف بحرمة المسلم داخل الحرم ؟! لاشك أنها مضاعفة وانتهاكها جريمة عظيمة .
وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يعظمون حرمة الحرم الشريف , حتى إنهم كانوا يتحرجون فيه مما لايتحرجون منه في غيره , كما رُوي عن عبد الله بن عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما أنه كان إذا قدم إلى مكة يكون له فسطاطان , أحدهما في الحل والآخر في الحرم , فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم , وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل , صيانة للحرم من قول : بلى والله وكلا والله حين عظَّم الله الذنب فيه .
ذكره الإمام القرطبي في تفسيره , وذكر نحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما(1) .
وكذلك كان بعض التابعين يعظمون الحرم , فيتحرجون من الإقامة فيه , ومما رُوي في ذلك ماذكره الشيخ أبو حفص عمر بن محمد المَلاَّء من خبر القاسم بن محمد بن أبي بكر : أن عمر بن عبد العزيز كان يقيم في عمرته يومين ويخرج في الثالث , فقال له عبد الله بن عمر ابن عيسى بن عمار : لو أقمت فاستمتعت بهذا البيت واستمتعنا معك ! فقال : ما أظن أحدا منكم أشد حبا لهذا البيت مني , ولكن والله لكأني على الرضف ( أي الحجارة المحماة) من حين أدخله إلى حين أخرج فرقا ( أي خوفا ) من أن أحدث(2) ( أي أن أقع في معصية ) .
__________
(1) ... تفسير القرطبي 12/34 .
(2) ... الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز /47 .(1/16)
فهذا تعظيم من هؤلاء الصحابة والتابعين للحرم المكي الشريف حيث احترسوا من الإقامة فيه خشية أن يكتب في صحائفهم مخالفات وهم فيه , لما يعلمون من نكارة الذنوب فيه وضخامة عقوبة مرتكبيها , على الرغم من علمهم بمضاعفة الحسنات فيه إلى مائة ألف , ولكن لشدة خشيتهم فإنهم يؤمنون بأن اجتناب السيئات مقدم على اجتلاب الحسنات .
هذا وإن من قداسة الحرم أن الإنسان يؤاخذ فيه على مجرد نية المعصية , بينما لا يؤاخذ في غيره على المعصية إلا إذا فعلها , أما في الحرم فإن الإنسان يؤاخذ على إرادة المعصية لقول الله تعالى چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ [ الحج : 25] .
ومما يدل على أن الإنسان مؤاخذ على إرادة المعصية في الحرم ماجاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظُلم وهو بعدن أبين ( يعني في اليمن ) لأذاقه الله من العذاب الأليم .
قال الحافظ بن كثير : صحيح على شرط البخاري , وروي مرفوعا ووقفه أشبه(1) .
وبهذا المعنى قال أهل العلم , وعلى ذلك تكون الآية مخصصة لعموم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل « وإذا همَّ بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه»(2), ويحتمل أن يكون المراد بالإرادة في الآية العزمَ المصمَّمَ عليه فلا يكون ذلك تخصيصا , وذلك كعزم أصحاب الفيل , وكما جاء في حديث « إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار , قالوا : يارسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه(3) ولكن المعنى الأول هو الموافق لظاهر الآية .
__________
(1) ... ... تفسير ابن كثير 3/226 .
(2) ... ... صحيح مسلم رقم 204 /128 .
(3) ... أضواء البيان 5/60 .(1/17)
وقد ورد من صور الإلحاد في الحرم احتكار الطعام فيه , فقد أخرج أبو داود من حديث يعلى بن أمية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه »(1) .
-إقامة ذكر الله عز وجل -
إن حج بيت الله الحرام عبادة عظيمة وله مقاصد جليلة , فمن أعظم هذه المقاصد إقامة ذكر الله تعالى , وإن أول أذكار الحج التلبية , حيث يقول الحاج بعد الإحرام « لبيك اللهم لبيك , لبيك لاشريك لك لبيك , إن الحمد والنعمة لك والملك , لاشريك لك » , فالحاج بهذا يلبي دعاء الله سبحانه له بالحج , رافعًا شعار التوحيد بدلاً من شعار الشرك الذي كان المشركون يُضمِّنونه تلبيتهم , حيث يقولون « لبيك لاشريك لك , إلا شريكًا هو لك , تملكه وما ملك» فيستثنون أصنامهم من نفي الشركاء عن الله تعالى .
فالحج موسم للدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة واجتناب جميع أنواع الشرك سواء في مجال العبادة أو في مجال الطاعة .
فالذي يلبي بالاستجابة لله تعالى وإعلان توحيده والبراءة من الشرك به لايليق به أن يعظم غيره سبحانه , ولا أن يلجأ إلى غيره ولا أن يستغيث بغيره .
فالتلبية توجيه لك أيها الحاج إلى إخلاص التوحيد لله عز وجل , وإنذار لك من الشرك به, إنه عهد بينك وبين الله تعالى تأخذه على نفسك , فإذا أنت وفيت به فلم تخضع لغير الله سبحانه ولم تطع غيره في معصيته فإنك تكون قد وفيت بعهدك وأديت حجًّا مقبولاً , أما إذا خضعت لغير الله عز وجل واتبعت هواك المنحرف واتبعت الجانحين عن الطريق المستقيم فإنك تكون قد خنت العهد ولم تؤد حجًّا مقبولاً .
__________
(1) ... ... سنن أبي داود , رقم 2020 (2/522) .(1/18)
وإن من أبرز مظاهر الانحراف عن التوحيد الخالص اتباعَ الهوى فيما يخالف شريعة الله تعالى فإذا اتبع الإنسان هواه ولم يخضعه لشريعة الله جل وعلا بل جعله حاكمًا على سلوكه في هذه الحياة فإنه يكون عابدًا له من دون الله تعالى , وفي ذلك يقول الله عز وجل چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ [الفرقان : 43] ويقول سبحانه چ ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ ٹ ٹ چ [الجاثية : 23] .
فبين سبحانه أن اتباع الهوى يصل إلى حد العبادة , فيتحول هوى النفس إلى وثن يعبد من دون الله تعالى , وقد تصل هذه العبادة إلى حدٍّ الشرك الأكبر , وقد تكون فيما دون ذلك فيكون من قبيل الشرك الأصغر .
وإذا اتبع الناس أهواءهم حصل الفساد الكبير في الأرض , وبرز منطق القوة والظلم, واختفى منطق الرحمة والعدل وسادت الفوضى بين الناس لانعدام الضوابط العادلة التي يخضع لها الناس, وفي بيان ذلك يقول الله تعالى چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?? چ [ المؤمنون : 71] .
وإن من أبرز أوقات الذكر والدعاء يوم عرفة , وأفضل ذلك كلمة التوحيد كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة , وأفضل ماقلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لاشريك له » (1) .
__________
(1) ... الموطأ 1/422 رقم 246 .(1/19)
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشغل وقته يوم عرفة بالذكر والدعاء , فإنه لما صلى الظهر والعصر في نمرة جمعًا وقصرًا دفع إلى عرفة فلم يزل يذكر الله تعالى ويدعوه حتى غربت الشمس , ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - « خذوا عني مناسككم» وفي عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة مع قوله هذا توجيه إلى التفرغ من بعد الظهر إلى غروب الشمس للذكر والدعاء , وإن بعض الحجاج يضيعون أكثر هذا الوقت بإعداد الطعام وتهيئة المكان والمراكب , وربما ضيعوه بقيل وقال , فيكونوا بهذا قد ضيعوا وقتًا من أغلى الأوقات وفرصة من أثمن الفرص في إجابة الدعاء , فليخفف الحجاج من الأشغال والتعلقات وليصرفوا أكثر وقتهم في الدعاء والذكر , أما مايفعله بعض الحجاج من تخصيص دقائق بعد العصر للذكر فإنه تقصير كبير في أداء العبادة التي شرعت في ذلك اليوم , وحرمان من فرصة ثمينة من مواطن الخير وتنزُّل رحمة الله تبارك وتعالى .
ومن أذكار الحج المهمة ماجاء في قول الله جل وعلا چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک چ [البقرة : 198] والمشعر الحرام هو مزدلفة كما روى أبو إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون قال: سألت عبد الله بن عمرو عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال:أين السائل عن المشعر الحرام ؟هذا المشعر الحرام(1) ،وكذالك ما أخرجه الحافظ عبد الرزاق الصنعاني من خبر سالم بن عبد الله قال : قال ابن عمر : المشعر الحرام المزدلفة كلها ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وقال : إنما سميت المزدلفة المشعر الحرام لأنها داخل الحرم(2) .
وهذا الأمر بذكر الله عز وجل في مزدلفة توجيه رباني إلى أن العبادة التي تشرع ليلة مزدلفة هي ذكر الله جل وعلا , فينبغي للحاج أن يكثر من الذكر في تلك الليلة .
__________
(1) ... أخرجه الطبري في تفسيره (2/288) والأزرقي في أخبار مكة (2/191) .
(2) ... تفسير ابن كثير 1/250 .(1/20)
وفي هذه الآية توجيه إلى تذكُّر نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم فيتذكر الحاج وهو يذكر الله سبحانه أنه تعالى هو الذي أنقذه من الضلالة وهداه إلى الإسلام الذي هو أعظم نعمة يتحلى بها المسلم .
هذا وأن ذكر الله تعالى من أهم مقاصد الحج , ومما جاء في ذلك قول الله تبارك وتعالى چ ? ? ? ? پپ چ [البقرة :203] وهي أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر كما أخرج الإمام مسلم من حديث نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله » (1)،وقوله « أيام أكل وشرب» يعني أنه لايشرع صيامهن , كما أخرج الحافظ ابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن حذافة رضي الله عنه يطوف في منى ويقول : « لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل »(2) .
وهذا الذكر الذي يشرع في هذه الأيام نوعان : ذكر مقيد بوقت معين وهو الذي يكون عقب الصلوات المكتوبة , وذكر مطلق وهو الذي يكون في سائر الأحوال, ويبدأ وقت الذكر على القول المشهور من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق , وقد ثبت أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يكبر في قبته من أيام التشريق , وجاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره « إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل» ذكر ذلك الحافظ ابن كثير (3) .
__________
(1) ... صحيح مسلم ، رقم 1141 .
(2) ... ... تفسير الطبري 2/304 ، وانظر تفسير ابن كثير 1/253 .
(3) ... تفسير ابن كثير 1/253 ، والحديث المذكور أخرجه أبو داود في سننه، رقم 1888، والترمذي في جامعه ، رقم 902، وابن خزيمة في صحيحه 4/279 .(1/21)
ومما جاء في ذلك قول الله تبارك وتعالى چ ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ چ [البقرة :200] قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديايا , ليس لهم غير ذكر فعال آبائهم , فأنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - چ ? ? ? ? ? ہ ہ چ (1) , فقد ذكر الله سبحانه الآباء في هذه الآية على سبيل التمثيل بما كان العرب يفعلونه في جاهليتهم من ذكر آبائهم في أسواقهم التجارية والأدبية, فالمعنى: إذا كان أهل الجاهلية يذكرون آباءهم بالفخر والاعتزاز فالله تعالى أولى بأن يذكره المسلمون , ودينه أولى بالإشادة والاعتزاز مما ورثه الجاهليون عن الآباء والأجداد .
وقوله تعالى چ ? ہ ہ چ « أو » هنا ليست للشك وإنما هي لتحقيق المماثلة كقوله تعالى چ? ں ں ? ?? چ [البقرة :74] وكقوله چ? ? ? ں ں ? ?? چ[النساء: 77] وكقولهچ? ? ? ? ? ? چ [الصافات: 147] وكقوله چ ? ? ? ? چ چ [النجم :9] ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وقال : فليست ههنا للشك قطعا وإنما هي لتحقيق المخبر عنه , كذلك أو أزيد منه(2) .
__________
(1) ... تفسير ابن كثير 1/252 وقوله " الديايا " أي الديات جمع دية .
(2) ... تفسير ابن كثير 1/252 .(1/22)
وبعد أن وجه الله تعالى المؤمنين إلى الإكثار من ذكره أرشدهم إلى دعائه , حيث إن من أسباب إجابة الدعاء أن يلهج الداعي بذكر الله تعالى , وذلك بعد أن عرَّض بذم الذين لايسألون إلا أمور دنياهم فقال چ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?چ [البقرة :200] فالذي يكون دعاؤه خالصا للدنيا ولايفكر بطلب نعيم الآخرة والنجاة من عذابها فليس له في سعادة الآخرة من حظ ولانصيب , أما السعيد حقا فهو الذي يجمع بين طلب حسنة الدنيا وحسنة الآخرة والوقاية من عذاب النار , وفي ذلك يقول الله تعالى چ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ [البقرة 201] فحسنة الدنيا كل ما أباحه الله تعالى من متاع الدنيا وخيراتها , وأبلغ من ذلك السعادة الروحية التي يشعر بها المؤمن في هدايته إلى الصراط المستقيم وثباته عليه وأمله الكبير في مستقبله الأخروي , وحسنة الآخرة في الأمن يوم الفزع الأكبر وتيسير الحساب والظفر برضوان الله جل وعلا والسعادة في الجنة , أما سؤال الوقاية من النار فإنه يكون بتيسير أسبابه في الدنيا من فعل الطاعات واجتناب المحرمات والشبهات .(1/23)
ولكون هذا الدعاء جامعا لخيري الدنيا والآخرة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من الدعاء به , كما أخرج الإمام أحمد من حديث عبد العزيز بن صهيب قال : سأل قتادة أنسا : أي دعوة كان أكثر مايدعوها النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : يقول : « اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار»(1) , وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عبدالسلام بن شداد قال : كنت عند أنس بن مالك فقال له ثابت : إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم فقال : « اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار » وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام قال : يا أبا حمزة إن إخوانك يريدون القيام فادع الله لهم , فقال : أتريدون أن أُشَقِّق لكم الأمور ؟ إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله(2).
وينبغي أن يُعلم بأنه لابد أن يصاحب الذكر تعظيم الله عز وجل وحضور القلب معه حال الذكر , فالمشركون يذكرون آباءهم ويفتخرون بهم بقلوبهم مع ألسنتهم وكامل حواسهم , فلا يليق بالمسلمين أن يذكروا الله عز وجل بألسنتهم فقط وقلوبهم غافلة عن إجلاله وتعظيمه .
وفي قول الله تعالى چ ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ چ [البقرة :200] يأمرنا جل وعلا بأن نكثر من محامده , وأن نشكره على نعمه العظيمة في أثناء الحج وبعد انقضائه على سبيل الاعتزاز به والتهوين من شأن كل من يُعبد من دونه , وإزالة ماوقر في بعض النفوس من تعظيم غيره .
الهدف الأعلى للمسلم -
ومن مقاصد الحج التذكير بالهدف الواحد للمسلمين وهو ابتغاء رضوان الله تعالى والسعادة الأخروية الذي هو الهدف السامي الذي يجب أن يعرفه المسلمون جميعا ويسعوا جاهدين لبلوغه ، قال الله سبحانه ممتدحا صحابة رسوله - صلى الله عليه وسلم - چ ? ? ? ? ?? چ [ الفتح : 29] ففضل الله هو الجنة، ورضوان الله أكبر من ذلك .
__________
(1) ... مسند أحمد 3/208 .
(2) ... تفسير ابن كثير 1/253 .(1/24)
ومعرفة هذا الهدف ا لسامي أمر له أهميته ، وذلك لأنه الفيصل بين المسلمين حقا والمنافقين ، فالذين يظهرون الإسلام وهم في قرارة نفوسهم لايريدون الوصول إلى هذا الهدف ليسوا مسلمين حقا ، وإنما هم منافقون .
المساواة بين المسلمين -
ومن مقاصد الحج التقريب بين فئات المجتمع المتفاوتة حيث يلبس جميع الحجاج لباسا واحدا في حال إحرامهم ، ويشتركون جميعا في أداء المناسك ، فتضيق بذلك الفجوة بين الأغنياء والفقراء ، والكبراء والضعفاء، حيث يتواضع الأغنياء والكبراء ، وترتفع معنوية الفقراء والضعفاء ، فلا يطغى غني بكثرة ماله ، ولا كبير بعلو منزلته ، ولايذل فقير لفقره ، ولا ضعيف لضآلة منزلته .
التذكير بالآخرة -
إن مناسك الحج تشتمل على مقاصد عالية , وأسرار جليلة , فإن أعمال الحج تذكِّر بالآخرة, فحينما يُعدُّ الحاج زاده وعدته للسفر فليطلب ذلك من المال الحلال , فإن الله تعالى لايقبل عبادة نشأت من مال حرام, وليكن استعداده بالزاد المادي الذي به تقوم الحياة مذكرا له بزاد الآخرة وهو التقوى .
وأول مايقوم به الحاج هو الإحرام من الميقات , وثياب الإحرام تشبه الكفن الذي يلف به الميت , فليتذكر الحاج وهو يلبس ثياب الإحرام الموت الذي سيلاقيه , وليعدَّ للأمر عدته من العمل الصالح واجتناب المعاصي .(1/25)
ثم يقوم الحاج بالتلبية , وهو حينما يقول : « لبيك اللهم لبيك » إنما هو يجيب نداء الله عز وجل الذي دعاه للحج وفرضه عليه , فليكن أول مايهتم به أن تكون استجابته مقبولة عند الله تعالى , وأن لايكون ممن تردُّ تلبيتهم , ولقد كان الصالحون من السلف يهتمون كثيرًا بإجابة التلبية, وفي ذلك يقول سفيان بن عيينة – رحمه الله – حج علي بن الحسين رضي الله عنهما فلما أحرم واستوت به راحلته أصفر لونه وانتفض ووقعت عليه الرعدة ولم يستطع أن يلبي , فقيل له : لم لاتلبي ؟ فقال : أخشى أن يقال لي : لا لبيك ولاسعديك , فلما لبى غشي عليه ووقع عن راحلته , فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه .
فإذا دخل الحاج مكة المكرمة فليتذكر أنه قد دخل في حرم مقدس آمن , ويستشعر عظمة المكان الذي دخل فيه , وليكن حرصه على تعظيم الحرم ورعاية الأمن فيه مذكرا له بضرورة توفير الأمن والحماية لنفسه من وساوس الشيطان ومراودة النفس الأمارة بالسوء .
فإذا شرع الحاج في الطواف بالبيت فليتذكر أنه قد دخل في صلاة , فالطواف صلاة إلا أنه قد أبيح الكلام فيه كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما(1) فليخشع خشوعا كاملا وليحضر قلبه مع الله عز وجل وليستشعر عظمته وهو يطوف حول بيته ويدعوه , وعلى قدر حضور القلب مع الله عز وجل وتعظيمه يكون أثر الطواف في طمأنينة القلب وسكينته وأثر ذلك في تهذيب السلوك وتقويم الأخلاق .
__________
(1) ... أخرجه الدارمي 2/44 ، وابن حبان 6/54 .(1/26)
ومما ذكر في الخشوع في الطواف وحضور القلب مع الله تعالى مارُوي عن عروة بن الزبير قال: خطبتُ إلى ابن عمر ابنته ونحن في الطواف , فسكتَ ولم يجبني بكلمة , فقلت : لو رضي لأجابني والله لا أراجعه بكلمة , فقُدِّر له أنه صدر إلى المدينة قبلي , , ثم قدمت فدخلت مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فسلمت عليه وأدَّيت من حقه ماهو أهله وأتيته فرحب بي , وقال: متى قدمت ؟ قلت: هذا حين قدومي , قال: كنتَ ذكرتَ لي سودة بنت عبد الله ونحن في الطواف نتخايل الله بين أعيننا , وكنتَ قادرًا أن تلقاني في غير ذلك الموطن , فقلت : كان أمرًا قدِّر , فقال: مارأيك اليوم ؟ قلت: أحرص ماكنت قط , فدعا ابنيه سالما وعبد الله فزوجني (1) .
فهذا تذكير بليغ من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بما يجب أن يكون عليه المسلم في أثناء أدائه للعبادة, فإن إباحة الكلام في الطواف لاتعني أن ينصرف الطائف عن موضوع الطواف ويتحدث في أمور الدنيا , وإنما يباح الكلام للحاجة الطارئة .
وليتذكر الحاج بطوافه بالبيت لقاءه بربه عز وجل في الآخرة والنظر إلى وجهه الكريم , فإن من زار بيتًا طمع في لقاء صاحبه .
والكعبة بيت الله عز وجل , فمن زار الكعبة وطاف بها مخلصا لله تعالى خاضعا له مخليا قلبه من غيره فإنه جدير بلقاء الله جل وعلا يوم القيامة وتكريمه , ولما كانت أبصار الناس كليلة عن رؤية الله عز وجل في الدنيا فإنه تعالى قد وعد أولياءه بالظفر بلذة النظر إلى وجهه الكريم يوم القيامة بعد أن يُبدَّلوا خلقا آخر , فليسعدوا برؤية بيت الله تعالى والطواف حوله رجاء أن ينالوا منتهى مناهم فيسعدوا بالنظر إلى وجه ربهم الكريم في الآخرة .
إظهار عزة الإسلام -
__________
(1) ... حلية الأولياء 1/309 .(1/27)
ومن سنن الطواف الرَّمَل , وهو أن يسرع الطائف في مشيه في الأشواط الثلاثة الأولى وذلك في طواف القدوم والعمرة , والأصل في ذلك ما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء , وذلك بعد صلح الحديبية بسنة , وكان ذلك من شروط الصلح , وقد أخرج الشيخان رحمهما الله من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب, فقال المشركون : إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحمى , ولقوا منها شدة , فجلسوا مما يلي الحِجْر , وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا ثلاثة أشواط , ويمشوا بين الركنين (يعني حيث لايراهم المشركون) ليرى المشركون جلدهم ( أي قوتهم وصبرهم ) فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم , هؤلاء أجلد من كذا وكذا .
قال ابن عباس : ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم (1). وقال محمد بن إسحاق : فكان ابن عباس يقول : كان الناس يظنون أنها ليست لهم , وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم , حتى إذا حج حجة الوداع فلزمها فمضت السنة بها (2) .
فالرمل في الطواف تذكير بذلك الموقف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يوم أن دخلوا مكة وهم في حال حرب مع الكفار , والكفار يودون أن يروا فيهم أي مظهر من مظاهر الضعف ليستعزوا عليهم وليرفعوا من شخصيات أتباعهم , ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوت عليهم هذه الفرصة حينما أمر أتباعه بالإسراع في المشي حال الطواف فانقلبت مفاهيم المشركين عن المسلمين وتحطمت آمالهم في إساءة سمعة المسلمين وإضعاف قوتهم .
__________
(1) ... صحيح مسلم , رقم 1266 (ص923) , صحيح البخاري , رقم 1602 (3/469) .
(2) ... سيرة ابن هشام 3/499 .(1/28)
هذا وإن الحاج الذي يتذكر هذا المعنى السامي وهو يرمل في طوافه ينبغي له أن يستصحب هذا الشعور بعد ذلك , فيظهر دائمًا عزة الإسلام والمسلمين , وأن لايقف موقفا يضع فيه الإسلام في موقف الضعف ولا المسلمين في موقف الذل .
وليتذكر الحاج فيما يواجهه في أدائه للمناسك من شدة وزحام ما سيلاقيه يوم المحشر من الأهوال , فليتنبه للعمل قبل حلول الأجل , وليتذكر في حرارة الشمس أيام الحج دنو الشمس من الخلائق يوم القيامة فليستعد للنجاة من حر ذلك اليوم .
تقوية الإيمان بالله عز وجل -
إن من مقاصد الحج تقوية الإيمان بالله تعالى , والعبادات كلها إذا تم أداؤها بإتقان ترفع من مستوى الإيمان , فالإيمان كالبناء , وإنما ينمو بناء الإيمان , ويتقوى بالأعمال الصالحة , كما أنه يضعف ويتهدم بالأعمال السيئة , فالله سبحانه– مثلا – سمى الصلاة إيمانا,وذلك في قوله چ ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گگ ? ? ? ? ?چ [ البقرة : 143] يعني وما صح ولا استقام في شرع الله تعالى أن يضيع ثواب صلاتكم التي كنتم تتوجهون بها نحو بيت المقدس لأنكم إنما فعلتم ذلك طاعة لأمر الله عز وجل , ومن أطاعه نال ثوابه , ومما يدل على ذلك ما أخرجه الطيالسي والنسائي من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه « أنه مات على القبلة قبل أن تُحوَّل رجال وقُتلوا فلم ندر مانقول فيهم فأنزل الله تعالى چ ک ک گ گ گگ چ صلاتكم إلى بيت المقدس» (1) .
ومن أسباب كون الحج دافعا إلى ارتفاع مستوى الإيمان أنه يشتمل على أدعية كثيرة تقترن بكل مناسك الحج , فالحاج حين يرفع يديه بحمد الله تعالى وشكره ودعائه يكون حاضر القلب معه جل وعلا مستشعرا عظمته ذاكرا علمه به ورقابته عليه , وبهذا يتقوى إيمانه ويزداد يقينه.
__________
(1) ... فتح الباري 1/96 .(1/29)
ولاينبغي للحاج أن يهمل الأدعية التي تقترن بالمناسك لأنها تصله بالله تعالى وتحوِّل المناسك من أفعال قد لاتشتمل على حضور القلب وتعظيم الله سبحانه إلى عبادات حيوية تصاحبها النية ومشاعر القلب , ولذلك فإن الذين ينيبون غيرهم في رمي الجمرات يفقدون روحانية الأدعية المصاحبة لهذا النسك , ولهذا فإن عليهم من أجل إكمال هذا النسك أن يرموا في الليل ليقوموا بأداء هذه العبادة بأنفسهم مالم يكونوا عاجزين عن ذلك .
ومن أسباب تقوية الإيمان في الحج مشاهدة جموع الحجاج في الحرم الشريف والمشاعر المقدسة , حيث ينتاب الحاج شعور قوي بعزة هذا الدين العظيم الذي يجمع ذلك العدد الكبير كل عام من غير مصلحة دنيوية , بل بتكاليف مالية وتعب في الأجسام , فيدرك الحاج أن وراء هذا الدافع لجموع هؤلاء البشر على مختلف طبقاتهم وأعمارهم مبدأ عظيما لا يستطيع البشر أن يوجدوه , ذلك لأن البشر مهما أوتوا من سلطة وقوة لا يستطيعون أن يجمعوا معشار هذا العدد إلا بترغيب دنيوي حاضر أو آمال دنيوية مستقبلية , فإذا استشعر الحاج هذا المعنى العظيم فإن إيمانه بهذا الدين يقوى ويقينه به يزداد رسوخا, وكم من أناس حجوا أو اعتمروا مع أهاليهم أو زملائهم على غير نية , فلما شاهدوا جموع الحجاج والمعتمرين اهتدوا بعد ضلالة واستقاموا بعد انحراف , أو ازدادوا تمسكا بالدين إن كانوا على هداية واستقامة .(1/30)
ومن أسباب ارتفاع الإيمان أن يؤدي المسلم أعمالا لايعرف الحكمة من شرعيتها , وإنما يطبقها طاعة لله تعالى, وإذا نظرنا إلى بعض مناسك الحج نجد أنها مما لاتدرك حكمته , وإنما هي أمور تعبدية يفعلها الحاج استجابة لأمر الله جل وعلا وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وهو يقبل الحجر الأسود : « والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولاتنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك »(1),وكون الإنسان يقوم بعبادات لا يدري ما حكمة مشروعيتها أبلغ في كمال العبودية , لأن النفوس ميالة بعض الشيء إلى ما تدرك حكمة شرعيته , أما ما لا تدركها فلا يدفعها إلى أداء العمل إلا كمال الطاعة والاستسلام لله عز وجل .
هذا وإن مما يترتب عليه قوة الإيمان الاتصاف بالتقوى وقد أمر الله تعالى بالتزود بالتقوى في الحج حيث يقول چ ٹ ? ? ? ?? ? ? ? چ [البقرة:197] والمتقون هم الذين يتقون عذاب الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه , ونظرًا لأهمية التقوى فقد تكرر ذكرها في القرآن الكريم بصيغ متعددة أكثر من مائتي مرة .
ولقد جاء عن عبد الله بن عباس في هذه الآية أنه قال : « كان أناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة , يقولون : نحج بيت الله ولايطعمنا ؟ فقال الله : تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس » ذكره الحافظ ابن كثير وقال في قوله تعالى چ ? ? ? ?? چ : لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة وهو استصحاب التقوى إليها كما قال چ چچ ? ? ? ? چ لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدا إلى اللباس المعنوي وهو الخشوع والطاعة والتقوى , وذكر أنه خير من هذا وأنفع (2) .
__________
(1) ... أخرجه الشيخان ، صحيح مسلم، رقم 1270، صحيح البخاري، رقم 1610 .
(2) ... تفسير ابن كثير 1/248 .(1/31)
والتقوى هدف مشترك بين جميع العبادات , فإن من مقاصد العبادات المهمة أن يخرج العابد منها بضمير حي وقلب يقظ مدرك للهدف السامي من عبادته وهو ابتغاء رضوان الله تعالى والسعادة الأخروية .
فمناسك الحج بما تشتمل عليه من عمل وذكر تشد الحاج إلى تذكر عظمة الله عز وجل , واستحضار رقابته على خلقه , وبالتالي فإنها تشد الحاج إلى تقوى الله جل وعلا بفعل جميع أوامره واجتناب جميع نواهيه .
وإنما يحصل الحاج على التقوى إذا أدى أنساك الحج كما شرعها الله تعالى , ولم يتهاون بشيء منها اتباعا للهوى , أو مجاملة لغيره , وأن يكون في حال أدائها خالص النية حاضر القلب مع الله عز وجل مستحضرا عظمته جل وعلا .
فالحج فرصة عظيمة للتزود بالتقوى , وإصلاح أحوال النفوس ليستمر الحاج بعد ذلك على الاستقامة والصلاح .
تهذيب الأخلاق -
إن من مقاصد الحج تهذيب الأخلاق حيث يدفع المسلم إلى التحلي بمكارم الأخلاق والابتعاد عن مساوئها, وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى چ ? ? ?? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?? چ [ البقرة :197] وأشهر الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة , وقوله تعالى چ? ? پ پ چ أي فمن أحرم فيهن بالحج,وقوله چپ ?چ الرفث هو إتيان النساء ودواعيه والكلام مع النساء في ذلك , كما روي ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيره , ويبقى ذلك محرما بين الأزواج وزوجاتهم من وقت الإحرام بالحج إلى أن يتحللوا التحلل الأخير , وذلك بعد أن يؤدوا المناسك الأربعة : رمي جمرة العقبة , والحلق أو التقصير , والطواف والسعي , وذلك كله – كما هو معلوم – بعد الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة .(1/32)
وقوله تعالى چ ? ? چ الفسوق يشمل جميع المعاصي , كما ثبت ذلك عن ابن عباس وغيره , فالله تعالى بهذا ينهى عن التلبس بأي معصية من المعاصي بعد الشروع في الحج, وذلك أن من أحرم بالحج أو العمرة فإنه قد تلبس بعبادة الله تعالى كحال من دخل في صلاة فلا يجوز له – والحال هذه – أن يقع في شيء من المعاصي وهو يؤدي تلك العبادة , والمعاصي محرمة في كل حين ولكن حرمتها تتأكد حينما يتلبس الإنسان بعبادة كما تتأكد بحرمة الزمان والمكان , وفي هذا تعويد للمسلم على اجتناب المعاصي في كل أوقاته , لأنه حينما يمنع نفسه من المعاصي في أيام الحج فإن ذلك يدفعه إلى عدم معاودة الوقوع في المعاصي بعد ذلك .
فالله سبحانه قد شرع الحج إلى بيته المحرم ليكون في ذلك تزكية للنفوس وتطهير لها من أدران المعاصي والمخالفات , وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه » أخرجه الإمام البخاري (1).
وقوله « من حج هذا البيت » يتضمن الإخلاص في الحج لقول الله تعالى چ ? ? ? ? چ وذلك بأن يكون الهدف من الحج بلوغ رضوان الله تعالى, لامراءاة الناس ولا طلب الدنيا وأن يحضر قلبه مع الله تعالى في أداء أنساك الحج , فإذا قام بأداء المناسك على وجهها التام واجتنب جميع المعاصي والمخالفات كان جديرًا بأن يحصل على هذا الوعد الكريم بتطهيره من جميع ذنوبه وتكفير سيئاته , وهذا مقصد عظيم من مقاصد الحج , يجعل قلوب المسلمين تهفو إلى هذا البلد الأمين الذي جعله الله مطهرة للقلوب من الأرجاس والذنوب .
وقوله تعالى چ ? ? ? ? چ الجدال في الحج هو السباب والمنازعة , قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما چ ? ? ? ? چ المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك , فنهى الله عن ذلك , وكذلك روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (2) .
__________
(1) ... صحيح البخاري رقم 1819(4/20) .
(2) ... تفسير ابن كثير 1/246 – 247 .(1/33)
وفي هذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ماتقدم من ذنبه » أخرجه الحافظ عبد بن حميد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (1) .
ومن هذا يتبين لنا أن أحد مقاصد الحج المهمة وهو مغفرة الذنوب مرهون بسلامة المسلم من أذية الحاج من يده أو لسانه , وأن بسط الأيدي والألسنة في أذى المسلمين وترويعهم وإشغالهم عن أداء نسكهم على الوجه الأكمل مانع من حصول الهدف السامي الذي من أجله شد الحاج رحاله وتغرب عن أهله وتكبد المتاعب , وإن الذين يجتمعون ويتحزبون لإزعاج المسلمين وإثارتهم قد أساؤوا إلى أنفسهم وإلى المسلمين وأصبحوا عونا للشيطان الذي يحرص جاهدا على أن يفسد على المسلمين حجهم , ويضيع عليهم الهدف الذي من أجله أنفقوا أموالهم وأتعبوا أجسامهم .
فعلى المسلمين أن يعوا الحكمة السامية من حجهم وأن يفهموا الوسائل التي توصلهم إلى تحقيق هذه الحكمة والوسائل التي تمنعهم من تحقيقها .
إن كثيرًا من المسلمين حين يسمعون قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه » تتوق أنفسهم إلى أن يرجعوا من حجهم مغفورا لهم مطهرين من الذنوب والآثام , ولكن بعضهم يظنون أن الحج هو مجرد أداء المناسك المفروضة والواجبة , ولايهتمون بأمر السلوك الذي يجب أن يلتزم به الحاج ويستقيم عليه , ولذلك تقع الخصومات بين بعض الحجاج وتسود الأثرة ويغلب حب الذات بدلا من الإيثار وحب الصالح العام , ولو علموا أن مغفرة الذنوب مشروطة بكف الأذى عن المسلمين بجميع أشكاله لراجعوا أنفسهم كثيرا إن كانوا صادقين في طلب المغفرة والتطهير من الذنوب .
فإذا ازدحم الطريق بالناس بحيث لايتسع إلا للقليل منهم فالإيثار يقتضي أن يقدم بعضهم بعضا, خصوصا الضعفاء منهم بمودة وانسجام , أو على الأقل أن يعطى صاحب الحق حقه فيتقدمون الأول فالأول .
__________
(1) ... المنتخب لعبد بن حميد ، رقم 1148 (2/206) .(1/34)
وإذا ازدحم الناس على الماء فالإيثار يقتضي أن يُقدَّم كبار السن الذين لايستطيعون الوقوف طويلا ومن لايريد إلا القليل من الماء للشرب أو الوضوء , أو على الأقل أن يقفوا بانتظام وتعطى الأولوية للمتقدم .
وإذا ازدحم الحجاج عند أداء المناسك فليعلم المسلم أن إنقاذ أخيه المسلم من الهلاك أفضل من أداء النسك لأن النسك يمكن تأجيله وإنقاذ مسلم أمامه يوشك على الهلاك لايمكن تأخيره, فكيف بمن يسهمون في إهلاك المسلمين ؟!
وأي نسك هذا الذي يؤدونه وهم يدفعون إخوانهم يمينا وشمالا ؟!
ومن هذا ندرك أن بعض الحجاج لايفقهون المعاني الكاملة للحج ولا مقاصده السامية , ولايفهمون أن الحج يجب أن تسوده الرحمة والمودة , وأن من كمال الحج أن توثر أخاك المسلم على نفسك بأسباب الراحة , وأن من لوازمه أن يعرف الحاج حقوق إخوانه الحجاج فلا ينتهك شيئا منها .
وفي قول الله تعالى چ ? ? ? ? چ نفى الله سبحانه وجود الجدال في الحج, والنفي أبلغ من النهي, وهو يتضمنه , فالمعنى ليس من شأن الحج أن يكون فيه جدال , ومن جادل في الحج فقد استهان بهذه العبادة العظيمة .
التعارف بين المسلمين –
إن من مقاصد الحج التعارفَ بين علماء المسلمين وقادتهم ووجهائهم ، فالعلماء قد لا يلتقي بعضهم ببعض إلا في موسم الحج ، وطلاب العلم قد لا يستطيعون مقابلة العلماء والتلقي عنهم إلا في هذا الموسم، حيث يَفِدُون إلى مكة المكرمة من عموم أقطار الأرض، ومن الصعب على طلاب العلم أن يرحلوا من أقصى الأرض إلى أقصاها للقاء العلماء ، لكن الحج يقرب ذلك البعيد ، فيجمع أهل العلم في ذلك الموسم الكريم، فيتدارسون العلم ويتذاكرون فيما بينهم .(1/35)
لقد كان الحج مدرسة علمية يكمل فيها أهل العلم ما بدؤوه ، ويحصلون فيها ما فقدوه ، ففي علم الحديث مثلا كان طلاب العلم يتعلمون الأحاديث النبوية بأسانيدها ويروونها عن العلماء الذين يتيسر لهم لقاؤهم في بلادهم ، ولكن كان لديهم طموح لتحصيل السند العالي، فإذا كان بين الراوي والنبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة رُواة فهو يطمح إلى أن يكون بينه وبينه أربعة رواة فقط، ولهذا كانوا يرحلون إلى البلاد التي قد تكون بعيدة من أجل الحصول على السند العالي ، فإذا كان موسم الحج فإنهم يرون فيه فرصة للقاء العلماء الذين يَفِدُون من أقطار الأرض، فلعلهم يجدون شيوخ شيوخهم فيروون عنهم الأحاديث، وبذلك يحذفون من أسانيدهم رجلا ويظفرون بالأسانيد العالية .
ومن ذلك في سبيل المثال أنه لما قدم معاوية بن صالح بن حُدير قاضي الأندلس إلى الحج وكان يروي صحيفة على بن أبي طلحة عن ابن عباس اجتمع على الرواية عنه أهل الحديث حتى الأكابر منهم كسفيان الثوري وعلي بن مهدي طلبًا لعلو الإسناد (1).
وكذلك الفقهاء فإن الحج فرصة مهمة لاجتماعهم وطرح قضايا الفقه التي تحتاج إلى نظر واجتهاد وتبادل الآراء فيما بينهم ، ومن المعلوم أن معرفة واقع الأمة له أثر مهم في الاجتهاد ، وذلك في المسائل التي تتعلق بحياة الناس ، وحينما يَفِدُ إلى مكة في موسم الحج الفقهاء من أقطار الأرض يكون في ذلك إثراء لفقه الواقع ، حيث يذكر فقهاء كل بلد واقع مجتمعهم في القضايا الفقهية التي يتم بحثها .
وقد تعددت المجامع الفقهية في العالم الإسلامي وفي بلاد الأقليات الإسلامية ، فمن المناسب أن يكون للفقهاء اجتماع عام يضم ممثلين عن كل المجامع ، وإن من المناسب أن يكون هذا الاجتماع في مواسم الحج .
__________
(1) ... سير أعلام النبلاء 7/161 .(1/36)
وإذا كان الحرم المكي الشريف والأماكن المقدسة في منى وعرفات هي مكان تجمُّع العلماء وطلاب العلم في العصور السابقة فإنها لاتزال كذلك ، إضافة إلى استحداث وسائط أخرى مثل إقامة المؤتمرات والملتقيات التي يُدعَى لها عدد مختار من علماء المسلمين ويتم فيها تدارس بعض قضاياهم المعاصرة .
ونظرًا لصعوبة الاتصال في العصر الحاضر لكثرة الحجاج فإنه يمكن استعمال وسائل الاتصال الحديثة الجماعية كالإذاعة والرائي ، والفردية كالهاتف ، من أجل التبليغ واللقاء الفكري .
فالحج وسيلة مهمة للتعارف بين أهل العلم معلمين ودارسين ، وهذا التعارف بين أهل العلم يُعدُّ خطوة أولى في تكوين الأخوة الإسلامية والرابطة الدينية بين المسلمين.
هذا وإن هذا الهدف من التلاقي والتعارف وتبادل الرأي ليس خاصا بعلماء الدين ،بل هو عام لكل فئات الأمة وتخصصاتهم ، فالحج فريضة على كل مسلم، ولابد لكل مسلم أن يحج ، ومن الممكن أن تنسق الجهود لتلاقي وتعارف أصحاب كل التخصصات مع من يشاركونهم في تخصصاتهم ، فقادة الأمة وزعماؤها ينبغي أن يتعارفوا من خلال موسم الحج وأن يلتقوا وأن يتبادلوا الرأي في طرح مشكلات المسلمين، وأن يتشاوروا في العلاج الأمثل لحلها ، وكذلك كل فئات المجتمع الإسلامي .
وبهذا التخطيط والتنسيق يمكن أن يكون موسم الحج منطلَقًا لمواسم أخرى تخدم الأمة الإسلامية وترفع من مستواها العلمي والإداري .
وإذا كان المفسرون قد أدخلوا منافع الدنيا في تفسير قول الله تبارك وتعالى چ ? ? ? چ [الحج:28] فإن هذه اللقاءات المذكورة تُعدُّ من منافع الآخرة فهي أولى بالذكر والاعتبار .
تثبيت الأخوة الإسلامية -(1/37)
إن من مقاصد الحج تثبيت الأخوة الإسلامية وتقويتها , فالحج هو القمة العليا لتكوين الأخوة الإسلامية التي من عواملها الأولى شرعية صلاة الجماعة , حيث يجتمع أفراد الحي الواحد خمس مرات في اليوم والليلة , فيتعارفون فيما بينهم , وتتقوى علاقاتهم , وتنمو في قلوبهم المحبة في الله والأخوة الإيمانية , ثم تتوسع دائرة هذه الأخوة في صلاة الجمعة , حيث يجتمع أبناء البلد الواحد أو بعضهم مرة كل أسبوع , ثم يجتمعون بصورة أوسع مرتين في العام في صلاة العيدين .
وفي الحج تبلغ الأخوة الإسلامية كمالها في القوة والشمول , حيث يجتمع وفود المسلمين جميعا في الأماكن المقدسة , ويشارك فيها كل مسلم مرة على الأقل في عمره .
توجيهات لما بعد الحج -
لقد أمرنا الله عز وجل بإخلاص الحج والعمرة له وحده جل وعلا فقال سبحانه چ ? ? ? ? چ فالحج والعمرة يجب أن يكونا خالصين لله تعالى وحده, بحيث تكون نية الحاج والمعتمر التقرب إليه سبحانه لا مراءاة الناس ولا طلب تحسين السمعة أمامهم.
فإذا كنت أيها الحاج ممن حاز على شرف الإخلاص وأديت الحج والعمرة لله عز وجل وحده فداوم على ماكنت عليه من هذا التجرد والإخلاص , ولاتنتكس بعد حجك بمزاولة أعمال ظاهرها الصلاح وباطنها مراءاة الناس والسباق نحو اكتساب السمعة عندهم .(1/38)
فإنك لو فعلت ذلك يكون الشرك قد تسرب إلى قلبك , فإن حقيقة التوحيد أن يمتلئ قلبك بتعظيم الله جل وعلا وإجلاله بحيث لايكون فيه متسع لاتباع هوى النفس أو أهواء البشر , فإذا تسربت القوى الخفية إلى القلب فإنها تزاحم وجود الإيمان بالله عز وجل في القلب, وبالتالي تتشكَّل التصورات الفكرية بناء على ذلك , ويتبعها السلوك العملي , فإذا كان وجود الإيمان بالله تعالى خالصًا في قلب المؤمن فإن جميع تصوراته وأنماط سلوكه تكون منسجمة مع التوحيد الخالص, وعلى هذا المستوى الإيماني كان الصحابة رضي الله عنهم, حيث كانت أعمالهم ترجمانًا لمعتقدات قلوبهم , فلما كان سلوكهم حسنًا دلَّ ذلك على صفاء تصوراتهم, وهذا بالتالي دليل على إخلاص قلوبهم وامتلائها بالإيمان بالله عز وجل , كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عمار ابن ياسر رضي الله عنه « ملئ عمار إيمانًا إلى مشاشه »(1) والمشاش أطراف العظام كالمرفقين والكتفين , وهو تعبير عن بلوغ الكمال في الإيمان .
أما إذا تسرب إلى قلب الإنسان الخضوع لهوى النفس أو أهواء البشر فيما يتعارض مع طاعة الله جل وعلا فإن تصورات القلب تكون موزعة بين محاولة إرضاء الله تعالى ومحاولة إرضاء الآخرين , وعلى قدر قوة الجذب في الطرفين تكون الهيمنة على التصورات والمشاعر وتوجيه أنماط السلوك .
__________
(1) ... سنن النسائي 8/111 , سنن ابن ماجه رقم 147 , المقدمة .(1/39)
وقد يغرر المرء بنفسه باعتقاد أنه من أهل التوحيد الخالص , بينما هو قد يطيع هوى نفسه في معصية الله تعالى , وقد يخضع لطاعة الناس في معصية الله عز وجل , فهذا يكون قد وقع في نوع من الشرك الخفي , فإن الله جل وعلا قد حكم على الذين اتبعوا أهواءهم وأطاعوا غيرهم في معصية الله سبحانه بأنهم قد اتخذوا من دونه عز وجل آلهة وأربابًا , كما في قوله تعالى چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ [الفرقان : 43] وكما في قوله جل وعلا چ ? ? ? ? ? ? ? چ [التوبة:31] وفي معنى هذه الآية أخرج الإمامان الترمذي والطبري من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه : أنه دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ هذه الآية چ ? ? ? ? ? ? ? چ فقال : إنهم لم يعبدوهم , فقال - صلى الله عليه وسلم - : «بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم» (1) .
وهذا يعني شرك الطاعة فإنه داخل في العبادة , وإذا حدثت طاعة المسلم هواه أو طاعة الآخرين في معصية الله تعالى فإن ذلك يدخل تحت دائرة الشرك الأصغر مالم يصرف للمخلوق نوعا من العبادة كالسجود والطواف والدعاء أو يتعمد تحليل ماحرم الله أو تحريم ما أحل الله كما فعل النصارى فإن ذلك يكون من الشرك الأكبر .
فالذي يؤدي الحج ثم يقع في أي نوع من أنواع الشرك فإنه لم يكتسب من حجه دروسًا في التوحيد الخالص لأنه قد وقع بعد ذلك في الشرك .
وإذا كنت أيها الحاج قد استقمت في حجك على آداب الإسلام فلم تسب المسلمين ولم تجادلهم بالباطل ولم توقع الأذى والضرر بهم فداوم على الاستقامة على هذه الأخلاق الإسلامية, فإن تلك الأخلاق العالية ليست من خصائص أيام الحج , بل هي مطلوبة منك في كل أيامك.
__________
(1) ... سنن الترمذي ، رقم 3095، تفسير الطبري (10/114) .(1/40)
وإذا كنت أيها الحاج قد عصمت نفسك عن المعاصي واستقمت على الطاعات في أيام الحج فاجعل من هذه الاستقامة درسًا نافعًا لك في سائر أيامك فإن الله عز وجل الذي خشِيتَه وراقبته واتقيته في أيام الحج عالم بك ومطلع على مكنونات ضميرك في كل أيامك وسيحاسبك على كل صغيرة وكبيرة فعلتها , فاستقم على طاعته حتى تفارق روحك جسدك .
وإن مما يطلب من المسلم أن يدوم على الأعمال الصالحة سواء في الواجبات أو النوافل, فأما الواجبات فإنه يجب عليه أن يؤديها كاملة , وأما النوافل فإنه ينبغي له أن يدوم على مايقوم به من العمل وإن قَلَّ , وأن لاينقطع عنه , وأن لايكون توجهه إلى الأعمال الصالحة في المناسبات والمواسم وقد أثنى الله عز وجل على الدائمين على الأعمال الصالحة فقال تعالى چ ڑ ک ک ک ک چ [المعارج : 23] فينبغي للمسلم أن يستديم على العمل الصالح في باب النوافل وإن كان قليلاً , فالدوام على القليل خير من الكثير مع الانقطاع كما أخرج الحافظ مسلم – رحمه الله – من حديث أم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) : « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : أدْومُه وإن قل »(1).
وأخرج الحافظ أبو عبد الله البخاري – رحمه الله – من حديث أم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة , قال : من هذه ؟ قالت فلانة – تذكر من صلاتها – قال : مه , عليكم بما تطيقون فو الله لا يمل الله حتى تملوا , وكان أحب الدين إليه مادام عليه صاحبه » (2) .
ملحق موجز
في بيان أحكام الحج وصفته
أنواع النسك
أنواع النسك في الحج ثلاثة : التمتع والقِران والإفراد .
فالتمتع أن يحرم الحاج بالعمرة في أشهر الحج – أي بعد دخول شهر شوال – ويفرغ منها ، ثم يحرم بالحج في ذلك العام .
__________
(1) ... صحيح مسلم , رقم 782/ 215 , صلاة المسافرين (ص 540) .
(2) ... صحيح البخاري , رقم 43 , الإيمان (1/101) .(1/41)
والقِران أن يقرن بين الحج والعمرة ، فيحرم بهما جميعا أو أن يحرم بالعمرة وحدها ثم يدخل عليها الحج قبل الشروع في طوافها .
والإفراد أن يحرم بالحج وحده .
وأفضلها التمتع ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه حين فرغوا من الطواف والسعي أن يُحلِّوا ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي،حيث قال حين أكمل السعي « لو استقبلت من أمري ما استدبرت ماسُقْت الهدي ولأحللت معكم »(1) .
ويجب بالتمتع أو القران تقديم الهدي ، وهو شاة أو سُبع بدنة أو سُبع بقرة ، ويذبح الهدي يوم العيد أو في الأيام الثلاثة بعده ، فإن لم يجد فيصوم ثلاثة أيام في الحج – وتكون في أيام التشريق الثلاثة التي بعد العيد – وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وذلك على غير أهل مكة لقول الله تعالىچ ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? چ [ البقرة : 196].
الإحرام بالحج والعمرة
يُحرم الحاج بالعمرة أو بالحج – إذا كان مفردًا أو قارنًا – من ميقات بلده إذا كان خارج الميقات ، وإن كان دونه أحرم من مكانه ، ويسن له أن يغتسل كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه « تجرد لإهلاله واغتسل »(2) .
وأن يُطيِّب بدنه قبل الإحرام ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تطيَّب لإحرامه ، كما قالت عائشة رضي الله عنها « كنت أُطيِّب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ،ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت » (3).
وأن يتجرد من الثياب المخيطة ويلبس إزارًا ورداءًا أبيضين ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « ليُحرمْ أحدكم في إزار ورداء ونعلين »(4) .
__________
(1) ... صحيح مسلم ، رقم (1218) .
(2) ... سنن الترمذي ، رقم 830 ، وحسنه الترمذي .
(3) ... صحيح البخاري ، رقم 1539 ، صحيح مسلم، رقم 1189.
(4) ... مسند أحمد 2/34 .(1/42)
وإن خاف أن يحبسه جابس عن إتمام حجه فيشرع له أن يقول : وإن حبسني حابس فمحلِّي حيث حبستني ، وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لضُباعة بنت الزبير – لما ذكرت له أنها تشكو من مرض - « حجي واشترطي ، وقولي : اللهم محلي حيث حبستني »(1) .
ويقول إذا نوى الإحرام بالعمرة ( لبيك عمرة ) وإذا نوى الحج مفردًا أو متمتعًا يقول ( لبيك حجا ) وإذا نوى القران يقول ( لبيك عمرة وحجا ) ويُهلُّ بالتوحيد فيقول « لبيك اللهم لبيك ، لبيك لاشريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك » (2).
الطواف في الحج والعمرة
يطوف الحاج والمعتمر بالكعبة سبعة أشواط ، ويبدأ الطواف بالحجر الأسود ، فيستلمه ويُقبِّله إن تيسر، وإلا أشار إليه ، ويقول ( بسم الله والله أكبر ، اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك،ووفاء بعهدك،واتباعًا لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -»(3).
وإذا مر بالركن اليماني استلمه بيده إن تيسر ، ويرمل في طواف العمرة وطواف القدوم في الأشواط الثلاثة الأولى ، والرَّمَل هو الإسراع في المشي مع تقارب الخُطَى ، ويضطبع في كل أشواط الطواف، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
والاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت إبطه الأيمن وطرفَيه على عاتقه الأيسر ، ويدعو بما شاء في الطواف ، ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ [ البقرة : 201] (5).
ثم يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم ، يقرأ في الأولى چ ? ? ? چ وفي الثانية چ ? ? ? ? چ (6).
السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة
__________
(1) ... صحيح مسلم ، رقم 1207 .
(2) ... صحيح مسلم ، رقم 1218 .
(3) ... أخرجه الطبراني ، وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح – المعجم الأوسط ، رقم 5486 و 5843 .
(4) ... مسند أحمد 4/223،سنن الترمذي رقم 859 ،وقال:حسن صحيح.
(5) ... مسند أحمد 3/411 ، المستدرك 1/455 ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .
(6) ... صحيح مسلم ، رقم 1218 .(1/43)
ثم يسعى الحاج والمعتمر بين الصفا والمروة سبعة أشواط ، يبدأ بالصفا ويختم بالمروة ، ويسن له إذا أقبل على الصفا أن يقرأ قول الله تعالى چ ? ? ? ژژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?? ? ? ? ? ? ? ں چ (1) [البقرة : 158 ] ، ويصعد على الصفا ويقف مستقبل القبلة رافعا يديه ويكبر الله تعالى ويحمده ويقول ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ) ، يقول ذلك ثلاث مرات يدعو بينهن بما شاء(2) ، ثم يسعى إلى المروة ، ويسن للرجل أن يسرع في مشيه بين العلمين الأخضرين(3) ، إن لم يتأذ أو يؤذ أحدا ، فهذا هو الشوط الأول ، فإذا صعد على المروة استقبل القبلة ورفع يديه وقال مثل ما قال على الصفا .
صفة الحلق والتقصير في الحج والعمرة
يُقصِّر المعتمر من شعر رأسه كله ، وتقصِّر المرأة منه قدر أنملة ، وبهذا يكون المعتمر قد أكمل عمرته ، فيباح له ماكان محرما عليه أثناء العمرة ، وفي الحج يحلق الرجل أو يقصر ، والحلق أفضل ،وتقصر المرأة من شعرها كالعمرة.
الإحرام بالحج
إذا كان يوم التروية – وهو اليوم الثامن من ذي الحجة – أحرم من يريد الحج بالحج من مكانه الذي هو نازل فيه، ويسن له أن يكون في منى هذا اليوم ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصرًا من غير جمع كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
الوقوف بعرفة
__________
(1) ... صحيح مسلم ، رقم 1218 .
(2) ... صحيح مسلم ، رقم 1218 .
(3) ... مسند أحمد 6/421 .
(4) ... صحيح مسلم ، رقم 1218 .(1/44)
فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع سار إلى عرفة ويصلي بها الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمع تقديم، ثم يتفرغ للدعاء والذكر حتى غروب الشمس ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)، فالدعاء يوم عرفة هو خير الدعاء، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»(2).
وينبغي أن يكون الحاج في هذا اليوم في غاية الخشوع والخضوع لله تعالى والتذلل بين يديه واستحضار عظمته وقربه من عباده المتقين، وأن يكثر من الدعاء والذكر، وأن يكرر الأدعية ثلاث مرات، ويدعو بجوامع الدعاء ، ويستقبل القبلة ، ويرفع يديه ، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا اليوم(3) .
__________
(1) ... صحيح مسلم ، رقم 1218 .
(2) ... أخرجه الترمذي وحسنه – سنن الترمذي ، رقم 3585 .
(3) ... صحيح مسلم ، 1218 .(1/45)
ومن الأدعية الواردة التي يمكن للحاج أن يدعو بها في ذلك اليوم أن يقول : ( اللهم لك الحمد كالذي تقول وخيرًا مما نقول ،اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، ولك رب تراثي ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر ، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجري به الرياح ، اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد ، وأسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأسألك الهدى والسداد ، وأسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ، وأسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا وأسألك من خير ما تعلم وأستغفرك لما تعلم وأنت علام الغيوب ، اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه ومالم أعلم ، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه ومالم أعلم ، اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - ، اللهم إني أسألك الجنة وما قَرَّب إليها من قول وعمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء تقضيه لي خيرًا ، اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ، والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار ، اللهم لاتدَعْ لي ذنبًا إلا غفرته ولاهمًّا إلا فرجته ولا دينًا إلا قضيته ولا حاجة فيها لك رضا إلا قضيتها ، يا أرحم الراحمين ، اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولايغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولايغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ، اللهم اغفر لي ذنوبي جميعًا واهدني(1/46)
لأحسن الأخلاق لايهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لايصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله بيديك ، والشر ليس إليك، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك ، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا ، وأسألك القصد في الفقر والغنى ، وأسألك نعيمًا لاينفد وقرة عين لاتنقطع ، وأسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ، اللهم زيِّنا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك ، حربًا لأعدائك ، نحب بحبك من أحبك ونعادي بعداوتك من عاداك أو خالفك ، اللهم اغفر لي مغفرة تُصلح بها شأني في الدارين وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ، وتب علي توبة نصوحًا لا أنكثها أبدًا ، ووفقني سبيل الاستقامة لا أزيغ عنها أبدًا ، اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة، وأغنني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك ونور قلبي وقبري وأعذني من الشر كله واجمع لي الخير كله .
اللهم إنك ترى مكاني ، وتسمع كلامي، وتعلم سري وعلانيتي ، ولايخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير ، الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، مَنْ خضعت لك رقبته ، وذلَّ لك جسده ، وفاضت لك عيناه، ورغِمَ لك أنفه ، يامن لا يشغله سمع عن سمع ، ولاتشتبه عليه الأصوات ، يامن لا تغلطه المسائل ، ولا تختلف عليه اللغات ، يا من لا يبرمه إلحاح الملحين، ولاتضجره مسألة السائلين، أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أني أسألك أن ترزقني في هذا المكان جوامع الخير كله ، وأن تصلح لي شأني كله ، وأن تصرف عني الشر كله فإنه لايفعل ذلك غيرك ولايجود به إلا أنت .(1/47)
اللهم يارفيع الدرجات ويا منزل البركات ويا فاطر الأرضين والسموات ، يامن ضجَّت إليه الأصوات بصنوف اللغات تسأله الحاجات وحاجتي أن لاتنساني في دار البلاء إذا نسيني أهل الدنيا .
إلهي إن ذنوبي وإن كانت عظامًا فإنها صغار في جنب عفوك فاغفرها لي .
إلهي دعوتك بالدعاء الذي علمتنيه فلا تحرمني الرجاء الذي عرَّفتنيه .
اللهم قد أصبحت في يوم حرام في بلد حرام، في شهر حرام ، أسألك أن لاتجعلني أشقى خلقك المذنبين عندك ولا أخْيَب الراجين لديك ولا أَحْرم الآملين لرحمتك الزائرين لبيتك ولا أخْسَر المنقلبين من بلادك .
اللهم قد كان من تقصيري ما عرفت ومن توبيقي نفسي ما قد علمت ومن مظالمي ما قد أحصيت فكم من كرب قد نجيتَ ومن عَمَى قلب قد جليتَ وهمٍّ قد فرجت ودعاء قد استجبت وشدة قد أزلت ورجاء قد أنلت، منك النعماء وحسن القضاء ومني الجفاء وطول الاستقصاء والتقصير عن أداء شكرك .
اللهم فأدعوك راغبًا ، وأنصب لك وجهي طالبًا وأضع خدي مذنبًا راهبًا ، فتقبَّل دعائي وارحم ضعفي وأصلح الفساد من أمري واقطع من الدنيا همي واجعل فيما عندك رغبتي في أن أكون من المغفور ذنبهم المحطوط خطاياهم الممحو سيئاتهم المرشود أمرهم واجعل لي منقلب من لا يعصي لك بعده أمرًا ولا يأتي بعده مأثمًا ولا يركب بعده جهلا ولا يحمل بعده وزرًا ، منقلب من عمرْتَ قلبه بذكرك ولسانه بشكرك وطهرت الأدناس من ذنوبه واستودعت الهدى قلبه وشرحت بالإسلام صدره.
اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة ، وهذا الجهد .. وعليك التكلان ) (1) .
المبيت بمزدلفة
__________
(1) ... تم اقتباس هذه الأدعية من كتاب « هداية الناسك إلى أهم المناسك» لسماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله تعالى .(1/48)
ثم بعد غروب الشمس من يوم عرفة يدفع الحاج إلى مزدلفة ، فيصلي بها المغرب والعشاء جمع تأخير مع قصر العشاء ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)، فالسنة تأخير المغرب وجمعها مع العشاء ، إلا أن يخشى خروج وقت العشاء بمنتصف الليل فإنه يجب عليه أن يصلي قبل خروج الوقت في أي مكان كان .
ويبيت بمزدلفة ويصلي فيها الفجر ، ثم يدعو إلى أن يسفر جدَّا ، ثم يدفع إلى منى قبل طلوع الشمس، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
ويجوز للضعفة من الرجال والنساء أن يدفعوا من مزدلفة في آخر الليل بعد غروب القمر (3).
وقد أفتى بعض العلماء المعاصرين بجواز الدفع من مزدلفة إلى منى بعد منتصف الليل لعموم الحجاج، وذلك لوجود الزحام الشديد والمشقة الكبيرة في الدفع بعد فجر يوم النحر، ولأن كل مجموعة من الحجاج قد ارتبط بعضها ببعض في حملة واحدة ، وفي ذلك تيسير على الحجاج، ولكن يبقى الأفضل هو أن لا يدفع من مزدلفة إلا قبل طلوع الشمس من يوم النحر .
السير إلى منى والنزول بها
فإذا وصل الحاج إلى منى قام بالأعمال التالية :
أولاً : رمي جمرة العقبة ، وهي الجمرة الكبرى التي في منتهى منى من جهة مكة ، يرميها بسبع حصيات صغار أكبر من الحمَّص قليلا ، يكبِّر مع كل حصاة، ويرمي من بطن الوادي إن تيسر(4)ويرمي بعد طلوع الشمس يوم النحر ، ويجزئ بعد نصف الليل من ليلة مزدلفة للذين دفعوا في ذلك الوقت من مزدلفة .
ثانيًا : يذبح هدْيه إن كان الهدي واجبا عليه .
ثالثًا : يحلق رأسه إن كان رجلا أو يُقصِّره ، والحلق أفضل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق رأسه ، وتُقصِّر منه المرأة قدر أنملة .
__________
(1) ... صحيح مسلم ، رقم 1218 .
(2) ... صحيح مسلم ، رقم 1218 .
(3) ... صحيح البخاري ، رقم 1679 ، صحيح مسلم ، رقم 1291 .
(4) ... صحيح مسلم ، رقم 1218 .(1/49)
... وبهذا يكون قد تحلل التحلل الأول ، فيحلُّ له كل شيء كان محرما عليه إلا النساء لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء »(1) .
... فالتحلل الأول يحصل بأداء نسكين من ثلاثة:
1 – الرمي .
2 – الحلق أو التقصير .
3 – الطواف والسعي .
رابعًا : الطواف بالبيت ، وهو طواف الإفاضة ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ حيث أفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر(2) .
ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا ، أو كان مفردًا أو قارنًا ولم يكن سعى بعد طواف القدوم ، أما إذا كان مفردًا أو قارنًا وسعى بعد طواف القدوم فإنه لايعيد السعي(3) ، فإذا فعل ذلك حلَّ من كل شيء كان محرما عليه ، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - « .. وأفاض فطاف بالبيت ، ثم حلَّ له كل شيء كان حَرُم منه »(4) .
وهذه الأنساك التي تُفعل يوم العيد هي على الترتيب المذكور ولكن لاحرج في تقديم بعضها على بعض لما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه ، فقال رجل : لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح ، قال: اذبح ولاحرج، فجاء آخر فقال : لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي ، فقال: ارم ولاحرج، فما سئل يومئذ عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر ألا قال: افعل ولاحرج »(5) .
المبيت بمنى ورمي الجمرات
__________
(1) ... مسند أحمد 6/143 ، صحيح ابن خزيمة رقم 2937 .
(2) ... صحيح مسلم رقم 1218 .
(3) ... صحيح مسلم رقم 1215 .
(4) ... صحيح البخاري ، رقم 1691 .
(5) ... صحيح البخاري ، رقم 1736 ، صحيح مسلم ، رقم 1306 .(1/50)
يمكث الحاج في منى بقية يوم العيد وأيام التشريق ولياليها ، ويلزمه المبيت بمنى ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر ، وليلة الثالث عشر إن تأخر، ويرمي الجمرات الثلاث في كل أيام التشريق كل واحدة بسبع حصيات متعاقبات ، يكبِّر مع كل حصاة ، فيرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف وهي الصغرى، ثم يتقدم فيستقبل القبلة ويدعو طويلا رافعًا يديه ، ثم يرمي الجمرة الوسطى ، ثم يتقدم فيستقبل القبلة ويدعو طويلا رافعًا يديه ، ثم يرمي جمرة العقبة فينصرف ولايقف للدعاء بعدها، هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال قال «خذوا عني مناسككم»(1) .
وابتداء الرمي بعد الزوال إلى الغروب، ولكن أفتى بعض العلماء بجواز الرمي ليلا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدد أوَّله بفعله ولم يحدد آخره ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - « لاحرج » في جواب من قاله « رميت بعدما أمسيت » والمساء يكون آخر النهار وأول الليل .
ومن لم يبتْ في منى ليلتين إن تعجل أو ثلاث ليال إن تأخر فعليه دم ، أما إن ترك المبيت ليلة فعليه إطعام مسكين وإن ترك المبيت ليلتين فعليه إطعام مسكينين، أما إن فاته المبيت بعض الليل لكونه نزل إلى مكة لقضاء حجه فلا شيء عليه .
فإذا أدركه غروب الشمس في اليوم الثاني عشر وهو في منى لزمه البيات والرمي من الغد ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال « من أدركه المساء فإنه يلزمه البقاء »(2) وذلك فيما إذا كان قد بقي باختياره ، أما إذا عزم على الرحيل وبدأ بالمسير ثم حبسه حابس فلا يلزمه البقاء .
__________
(1) ... صحيح مسلم رقم 1297 .
(2) ... سنن البيهقي 5/152، وصححه النووي – المجموع 8/283 .(1/51)
ولايجوز للحاج أن يُنيب غيره في الرمي عن نفسه إلا إذا كان عاجزا عن الرمي ، لأن الرمي عبادة ، والأصل أن الإنسان يباشر العبادة بنفسه ، وإذا توكَّل الإنسان في الرمي عن غيره فإنه يرمي عن نفسه أوَّلاً ثم يرمي عن موكله فيعيِّنه بالنية فقط أو بالنية واللفظ جميعًا.
طواف الوداع
فإذا انتهى الحاج من أعمال الحج وأراد السفر إلى بلده فعليه أن يطوف بالبيت للوداع سبعة أشواط ، لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما « أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفف عن الحائض»(1).
محظورات الإحرام
1 – إزالة الشعر من الرأس بحلق أو غيره ، لقول الله تعالىچ ? ? ? ? ? ? ? چ [البقرة: 196] وألحق جمهور العلماء به شعر بقية الجسم.
2 – إزالة الأظافر من اليدين أو الرجلين ، وقد ألحقه جمهور العلماء بالشعر لوجود التَّرفُّه في الأمرين.
3 – استعمال الطيب بعد الإحرام في البدن أو الثوب أو المأكول أو المشروب .
4 – لبس القفازين ، وهما ما يلبس على الكفَّين.
5 – مباشرة النساء لشهوة .
6 – تغطية الرأس بملاصق .
7 – لبس المخيط ، كالقميص والسراويل والخفين ، وهذان خاصان بالرجال .
8 – تغطية الوجه ، وهذا خاص بالنساء .
... وفدية هذه المحظورات الثمانية على التخيير ، فيخيَّر من وقع فيها بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة .
9 – الجماع في الفرج ، فإن كان قبل التحلل الأول ترتب عليه أربعة أمور : الأول : فساد النسك، والثاني: وجوب المُضيِّ فيه ، والثالث : وجوب قضائه في العام القادم ، والرابع : وجوب الفدية وهي بَدَنَة.
... وإن كان بعد التحلل الأول ترتب عليه ثلاثة أمور:
... الأول : فساد الإحرام ،والثاني : وجوب الخروج إلى الحِلِّ ليحرم منه ، والثالث : وجوب الفدية ، وهي شاة.
__________
(1) ... صحيح البخاري، رقم 1755 ، صحيح مسلم ، رقم 1328 .(1/52)
10 – عقد النكاح ، وليس فيه فدية ، ولكن النكاح يفسد ، سواء كان المحرم الزوج أو الزوجة أو الولي أو وكيله فيه .
11 – قتل الصيد البَرِّي في أصله وإن استوطن مكة كالحمام ، إذا كان هذا الصيد مما يؤكل لحمه، وعليه جزاؤه وهو ذبح مثله ويفرقه على فقراء الحرم أو يُقوِّم هذا المثل بطعام يفرقه على فقراء الحرم ، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوما .
حكم فاعل هذه المحظورات :
لفاعل المحظورات السابقة ثلاث حالات :
الأولى : أن يفعل المحظور بلا حاجة ولاعذر، فهذا آثم وعليه فديته .
الثاني : أن يفعله لحاجة ، فليس بآثم وعليه فديته، كما قال الله تعالىچ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ [ البقرة : 196] .
الثالث : أن يفعله وهو معذور بجهل أو نسيان أو إكراه أو نوم فلا إثم عليه ولا فدية لقول الله تعالى چ ? ? ? ? ? ? ? چ [ البقرة : 286] فقال الله : « قد فعلت »(1) ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه»(2) ، ولكن متى زال العذر فعلم بالمحظور أو ذكره أو زال إكراهه أو استيقظ من نومه وجب عليه التخلي عنه على الفور .
والحمد لله أولاً وآخرا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (3).
فهرس الموضوعات
الموضوع ... ص
المقدمة ... 5
الكعبة المشرفة والحج في التاريخ القديم ... 6
تعظيم مكة المكرمة والمشاعر المقدسة ... 26
إقامة ذكر الله عز وجل ... 42
الهدف الأعلى للمسلم ... 55
المساواة بين المسلمين ... 56
التذكير بالآخرة ... 57
إظهار عزة الإسلام ... 62
تقوية الإيمان بالله عز وجل ... 65
تهذيب الأخلاق ... 72
__________
(1) ... صحيح مسلم ، رقم 126 .
(2) ... سنن ابن ماجه ، رقم 2043 ، وصححه ابن حبان ، رقم 7219 .
(3) ... أهم مراجع هذا الملحق كتاب « الشرح الممتع على زاد المستقنع » ورسالة « صفة الحج » لسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى .(1/53)
التعارف بين المسلمين ... 80
تثبيت الأخوة الإسلامية ... 85
توجيهات لما بعد الحج ... 86
ملحق في بيان أحكام الحج وصفته ... 93
أنواع النسك ... 94
الإحرام بالحج والعمرة ... 95
الطواف في الحج والعمرة ... 97
السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ... 99
صفة الحلق والتقصير في الحج و العمرة ... 100
الإحرام بالحج ... 100
الوقوف بعرفة ... 101
المبيت بمزدلفة ... 108
السير إلى منى والنزول بها ... 110
المبيت بمنى ورمي الجمرات ... 113
طواف الوداع ... 115
محظورات الإحرام ... 115
حكم فعل هذه المحظورات ... 118(1/54)